ج4ص341
التفسير الأوّل وقوله أو مقدمين إلى الثاني. قوله : ) ذهاباً إلى المعنى كأنه قال الخ ( لما كان الفعل المجهول مسندا إلى الجار والمجرور ، ومثله يلزم تذكيره ولا يجوز تأنيثه إذا كان المجرور مؤنثا تقول سير على الدابة لا سيرت عليها ، أشكلت هذه القراءة فقال ابن جني وحكاه الزمخشري وتبعه المصنف رحمه الله إنه ميل مع المعنى ورعاية له فلذا أنث لتاً نيث المجرور إذ معنى تعف عن طائفة ترحم طائفة ، وهو من غرائب العربية ، ولو قيل إنه للمشاكلة لم يبعد وقد غفل عنه في المطول ، وقيل إن نائب الفاعل ضمير الذنوب ، والتقدير إن تعف هي أي الذنوب. قوله : ( أي متشابهة في النفاق الخ ) أي طائفة متشابهة في النفاق كتشابه أبعاض الشيء الواحد والمراد اتحاده في الحقيقة والصورة كالماء والتراب فمن اتصالية وكذا في الوجه الآخر ، وإذا كان تكذيباً لقولهم المذكور فهو إبطال لمدعاهم وما بعده من تغاير صفاتهم ، وصفات المؤمنين كالدليل عليه والآية على هذا التوجيه متصلة بقوله يحلفون بالله إنهم لمنكم ، وعلى الأوّل بجميع ما ذكر من قبائحهم ، وقبض اليد كناية عن الشح والبخل كما أن بسطها كناية عن الجود لأنّ من يعطي يمذ يده بخلاف من يمنع. قوله : ( اغفلوا ذكر الله وتركوا طاعته ( يعني بمعنى أنهم لا يذكرونه ، ولا يطيعونه لأنّ الذكر له مستلزم لإطاعته فجعل النسيان مجازاً عن الترك ، وهو كناية عن ترك الطاعة ، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم ، وقيل إنه كناية عن الترك في حق البشر لإمكان الحقيقة ، قال النحرير جعل النسيان مجازاً لاستحالة حقيقته على دلّه تعالى ، وامتناع المؤاخذة على نسيان
البشر ، وحمل الفاسقون على الكاملين كأنهم الجنس كله ليصح الحصر المستفاد من الفصل ، وتعريف الخبر وإلا فكم فاسق سواهم ، وضمنه معنى البعد والخروج فلذا عداه بعن. قوله. ( وعد الله المنافقين ) الوعد هنا تهكم وعطص الكفار عطف عامّ على خاص أو متغايرين بحسب الظاهر. قوله : ( مقدّرين الخلود ) قيل الوجه الإفراد لأنهم لم يقدروه وإنما قدره الله لهم أو أد يقال مقدري الخلود بصيغة المفعول ، والإضافة إلى الخلود ولعله جمعه للتعظيم ، وقيا! المعنى يعذبهم الله بنار جهنم خالدين فلا حاجة إلى التقدير ، وقيل إنه تكلف وتقدير التقدير فيه غير شائع ، وقيل إنّ مقدريه اسم مفعول ، والخلود مرفوع بدل اشتمال من الضمير فيه ، والألف واللام رابطة بدلاً عن الضمير كقوله : { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ سورة النازعات ، الآية : 141 ( قلت ) هذا كله تكلف وقد قدره الزمخشري هكذا ، ولا شك أن المراد دخولهم وتعذيبهم بها وهم في تلك الحال لما يلوج لهم يقدرون الخلود في أنفسهم ، ولما كان الخلود دوام المكث ، وأوّله داخل فيه جاز أن يجعلوا حينئذ خالدين لتلبسهم بالخلود باعتبار ابتدائه في الجملة فهذا غفلة عن مراده ومغزاه. قوله : ) هي حسبهم عقاباً وجزاء الخ ) أي فيها ما يكفي من ذلك ، وقوله وفيه دليل أي ما يدل على ذلك ، وليس من الاستدلال ووجه الدلالة يعلم من السياق لاً نه إدا قيل للمعذب كفى هذا دلّ على أنه بلغ غاية النكاية ، ولذا قيل معنى قوله هي حسبهم إنه لر اكتفى به كان حسبهم فلا ينافي الزيادة عليه ، وإن كان من نوعه وتفسير الإقامة بعدم الانقطاع إشارة إلى أنه مجاز فيه إذ الإقامة من صفات العقلاء ، أو هو مجاز عقلي كعيشة راضية. قوله. ) والمراد به ما وعدوه الخ ا لما كان معنى العذاب المقيم ، والخلود واحدا أشار إلى أنه لا تكرار فيه لأنّ ذاك وعد وهذا بيان لوقوع ما وعدوا به مع أنه لا مانع من التأكيد ، أو هذا نوع آخر غير عذاب النار في الآخرة فإن قلت قوله هي حسبهم يمنع من ضم شيء آخر إليه ، قلت : المراد هي حسبهم في تعذيبهم بالنار فلا ينافي تهذيبهم بنوع آخر وضمه إليه أو ذاك عذاب الآخره وهذا عذاب مما قاسوه مت التعب والخوف من الفضيحة والقتل ونحوه. قوله : ) أنتم مثل الذين أو فعلتم الخ ) أي الكاف في محل رفع خبر مبتدأ هو أنتم ، أو في محل نصب أي فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم فالكاف اسم هنا وجعله الزمخشري مثل قول النمر بن تولب كاليوم مطلولآ ولا طلبا أي لم أر والكلام على هذا يحتاج إلى بسط ليس هذا محله. قوله : ) بيان لتشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم الخ ) إشارة إلى أن هذه الجملة إلى قوله بخلافهم تفسير للتشببه ،
وبيان لوجه الشبه ، وأنها لا محل لها من الإعراب ، وقد صرح بأنه مأخوذ من مجموع ذلك بقوله تمهيداً لذم المخاطبين(4/341)
ج4ص342
بمشابهتهم فلا وجه لما قيل كان عليه أن يؤخره إلى قوله ذئم الخ ، وإنما ذكر كونهم أشذ وأقوى ليعلم إنهم أصابهم ما أصابهم مع ذلك فأنتم أولى وأحق به ، والخلاق النصيب المقدر من الخلق بمعنى التقدير ، وهو أصل معناه لغة ، والملاذ بالتشديد اللذات جمع لذة على غير قياس كالمحاسن. قوله : ) ذمّ الأوّلين الخ ( إشارة إلى ما في الكشاف من أنّ هنا تشبيهين ، أحدهما مجرى على ظاهره ، وهو خضتم كالذي خاضوا وثانيهما فيه أطناب لأن أصله فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم فأقي فائدة في زيادة قوله فاستمتعوا بخلاقهم ، وأجاب عنه بأنّ الزيادة للتوطئة ، والتمهيد للتمثيل لمزيد تقبيح الاستمتاع بشهوات الدنيا ولذاتها وتثبيته في قلب السامع إجمالاً وتفصيلاً فإمّا أن يقدر مثله في الثاني لعطفه عليه أو لا يقدر إشارة إلى الاغتناء بالأوّل ، والمخدج بمعنى الناقص وقوله التهائهم هو افتعال من اللهو. قوله : ( دخلتم في الباطل الخ ( الخوض الثروع في دخول الماء ويستعار لمباشرة الأمور وأكثر ما يستعمل في الذمّ في القرآن فلذا خصه بالباطل ، وقوله : ( كالذين خاضوا ) يعني أنه جمع وأصله الذين فحذفت نونه تخفيفاً كما في قوله :
وان الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أمّ خالد
وبحتمل أن يريد أنه مفرد واقع موقع الجمع والعائد إلى الموصول محذوف أي خاضوه وأصله خاضوا فيه فحذف تدريجاً لأنّ العائد المجرور لا يحذف إلا بشروط كجرّ الموصول بمثله ، أو الذي صفة لمفرد اللفظ مجموع المعنى كالفريق والفوج ، أو هو صفة مصدر أي كالخوض الذي خاضوه والضمير للمصدر ، ورجح بعدم التكلف فيه ، وقال الفراء : إن الذي تكون مصدرية وخرج هذا عليه. قوله : ( لم يستحقوا الخ ) الحبط السقوط والبطلان والاضمحلال وكونها حابطة في الآخرة ظاهر ، وفي الدنيا لما لهم من الذل والهوان وغير ذلك ، وقوله خسروا الدنيا والآخرة تفسير له بما يتوجه به الحصر ويتضح. قوله : ( وعاد وثمود الخ ) غير الأسلوب لأنهم لم يستهزؤوا بنبيهم ، وقيل لأنّ كثيراً منهم آمنوا ونمروذ بالذال
المعجمة ، وقوله وأهلك أصحابه لم يبين هلاكهم لأنه كان بإبادتهم بعد هلاك ملكهم لا بسبب سماوقي كغيرهم. قوله : ( أهلكوا بالنار يوم الظلة ( هي غمامة أطبقت عليهم قيل الذين أهلكوا بالنار يوم الظلة هم أصحاب الأيكة من قوم شعيب عليه الصلاة والسلام ، وأما أهل مدين فأهلكوا بالصيحة والرجفة وأجيب بأنه على قول قتادة وأما على قول ابن عباس رضي الله عنهما وغيره فأهل مدين أهلكوا بالنار يوم الظلة ، ورجفت بهم الأرض وتفصيله في تفسير البغوي في سورة الأعراف ، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى مبنيّ عليه. قوله : ) والمؤتفكات الخ ( معطوف على أهل مدين وأصل معنى الائتفاك الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفل بالخسف ، وهو قد وقع في قريات قوم لوط عليه الصلاة والسلام فإن كانت مرادة به فهي على حقيقتها وإن كان المراد مطلق قرى المكذبين ، وهي لم تخسف بأجمعها فيكون المراد به مجازاً انقلاب حالها من الخير تشبيها له بالخسف على طريق الاستعارة كقول ابن الرومي :
وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة أعاليها بل أن تسود الأراذل
وقريات بالتصغير جمع قرية لأنّ جمع المكبر قرى. قوله : ) يعئي الكل ) أي جميع ما ذكر
لا المؤتفكات فقط كما قيل لأنّ جمع الرسل على تفسيرها الأوّل يحتاج إلى التأويل برسل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والدعاة لهم وإن صح على الثاني بغير تتأويل. قوله : ) أي لم يك وفي نسخة لم يكن من عادته الخ ) قيل إنه من الإيجاز بالحذف ، وأصله فكذبوهم فأهلكهم فما كان الخ وهو ردّ على قول الزمخشرقي في قوله فما صح منه أن يظلمهم ، وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح وهو مبنيّ على مذهبه ، وقوله : ( من عادته ( أخذه من المضارع المفيد للاستمرار ، ولو حمل على استمرار النفي كان أبلغ كما مرّ في قوله لا يستأذنك يعني أنه لا يصدر ذلك ، وتسميته ظلما لمشابهته له لو كان أو لأنه يسمى ظلما بالنسبة إلى العباد الفاعلين له فلو وقع منه لم يكن ظلما على مذهبنا ، وقوله عرّضوها بمعنى جعلوها عرضة ومستحقة له. قوله : ) في مقابلة قوله المنافقون الخ ) وبعضهم(4/342)
ج4ص343
أولياء بعض يقابله قوله بعضهم من بعض ، وغير فيه الأسلوب إشارة إلى تناصرهم وتعاضدهم بخلاف أولئك ومقابلة الأمر بالمعروف ظاهرة ، وقوله ويؤتون الزكوة في مقابلة قبض أيديهم وسخطهم ويطيعون الله في مقابلة نسوا الله على ما مز من تفسيره ، وأولئك سيرحمهم الله في مقابلة فنسيهم المفسر بعدم لطفه ورحمته أو في مقابلة
أولئك هم الفاسقون لأنه بمعنى المتقين المرحومين ، والوعد في مقابلة الوعيد على تفصيله أيضاً. قوله : ( في سائر الأمور ( سائر إن كان بمعنى الباقي عما قبله من الزكاة واخواتها فظاهر !ان كان بمعنى الجميع كما هو مستعمل بمعناه على كلام فيه لغة فصلناه في شرح درة الغوّاص فهو تعميم بعد التخصيص. قوله : ( لا محالة ) فإن السين مؤكدة للوقوع ، وفي المغني زعم الزمخشرفي إنها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واتع لا محالة ، ولم أر من فهم وجه ذلك ووجهه أنها تفيد الوعد بحصول الفعل فدخولها على ما يفيد الوعد ، والوعيد مقتض لتوكيده وتثبيت معناه ، وليس كما قال والذي غزه قول الزمخشري إنها تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد بل المراد كما صرّح به شراحه ، ووقع في مفصلات النحو وهو مصرّج به في الكتاب ، وشروحه أيضا أن السين في الإثجات في مقابلة لكن في النفي فتكون بهذا الاعتبار تأكيداً لما دخلت عليه ، ولا يختص بالوعد والوعيد ، ولا ينافي دلالتها على التنفيس وان كانت قد تجرد عنه كما قد يقصد بها مجرّد التنفيس فإنه أمر مأخوذ من المقام والاستعمال ، وأعلم أن ابن حجر قال في التحفة ما زعمه الزمخشرفي من أنّ السين تفيد القطع بمدخولها رذ بأنّ القطع إنما فهم من المقام لا من الوضع ، وهو توطئة لمذهبه الفاسد في تحتم الجزاء ومن غفل عن هذه الدسيسة وجهه ، وقال شيخنا ابن قاسم هذا لا وجه له لأنه أمر نقلي لا يدفعه ما ذكر ونسبة الغفلة للأئمة إنما أوجبها حب الاعتراض. قوله : ( غالب على كل شيء ) الكلية مت صيغة المبالغة ، وبيان للمراد في الواقع فاللام في الأشياء للاستغراق. قوله : ( تستطيبها ( فكونها طيبة إما في نفسها لأنّ الطيب ما تتلذذ به الحواس ، وهي مما يلتذ به النظر أو ما فيها من العيش والنعيم طيب فالإسناد مجازي ، وقوله : ( وفي الحديث ) وقع بمعناه مرويا من طرق والطيب يكون بمعنى الحلال والطاهر وليس بمراد هنا. قوله : ( 1 تامة وخلود الخ ) أصل معنى العدن في اللغة الاستقرار والثبات فلذا استعمل في الإقامة يقال عدن بمكان كذا ومنه عدن اليمن ، والمعدن والإقامة صادقة على الخلود فلذا فسره به لأنه فرده الكامل المناسب لمقام المدح فلا يقال لا يوافق ما ذكر في كتب اللغة وفي الكشات عدن علم بدليل قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ } [ سورة مربم ، الآية : 61 ] وقال المصنف رحمه الله في تفسيرها وعدن علم لأنه المضاف إليه في العلم أو علم للعدن بمعنى الإقامة كبرة فلذلك صح وصف ما أضيف إليه بقوله التي الخ ، وسيأتي تحقيقه هناك فقوله إقامة إمّ بيان لمعناه اللغوي أو العلمي ، وقوله في
الحديث المذكور وهو مرويّ عن أبي الدرداء ) 1 ( في البزار والدارقطني وابن جرير ( دار الله ( يقتضي العلمية للمكان الذي فيه منازل ، واضافته إلى الله للتشريف أو الله معطيها لا دخل لأحد فيها ( وطوبى ) شجرة في الجنة وبمعنى الطيب ويستعمل للمدح في طوبى له وهو المراد ، والحديث يقتضي تخصيصها بالأصناف الثلاثة ، وقد قيل : إنه يخالف ظاهر القرآن من أنها لجميع المؤمنين والمؤمنات وتخصيصه بهؤلاء ، قد قيل إنه مبنيّ على التوزيع الآتي وعلى خلافه يحتاج إلى التجوّز ونحوه وسيأتي بيانه ، وفي الكشاف إنه قيل إنها مدينة في الجنة ، وقيل نهر جناته على حافاته. توله : ) ومرجع العطف الخ ( أي في قوله ومساكن طيبة في جنات عدن إما أن يتغايرا بالذات فيكونوا وعدوا بشيئين ، وهما الجنات بمعنى البساتين ومساكن في الجنة فلكل أحد جنة ومسكن أو الجنات المقصود بها غير عدن ، وهي لعامة المؤمنين وعدن للنبيين عليهم الصلاة والسلام والشهداء والصديقين ، وإما أن يتحدا ذاتأ ويتغايرا صفة فينزل التغاير الثاني منزلة الأوّل ويعطف عليه فكل منهما عامّ ، ولكن الأوّل باعتبار اشتمالها على الأنهار والبساتين والثاني باعتبار الدور والمنازل ، وقوله في جوار العليين أي سكان الجنان من الملائكة والملأ الأعلى كما هو أحد معانيه. قوله : ( ثم وعدهم بما هو كبر الخ ( الوعد مفهوم من المقام ، وسياق الكلام(4/343)
ج4ص344
لا من المنطوق.
قوله : ( لأنه المبدأ لكل سعادة الخ ) أي روحانية أو جسمانية إذ لولا رضاه عنهم لما خلقهم سعداء مستحقين لذلك ، ونيل الوصول أي للسعادة أخذها وألاتصاف بها بالفعل وقال : رضوان من الله دون رضوان الله قصداً إلى إفادة أنّ قدراً يسيرا منه خير من ذلك ، وأحل بمعنى
أوجب من حل به كذا إذا نزل ، والرضوان لما فيه من المبالغة لم يستعمل في القرآن إلا في رضا اللّه. قوله : ( أي الرضوان ) فهو فوز عظيم يستحقر عنده نعيم الدنيا فلا ينافي قوله تعالى. { أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ سورة التربة ، الآية : 89 ، كما قيل ، ولذا قيل كان المناسب أن يفسر العظيم بما يستحقر عنده نعيم الجنة ، أو الجنة وما فيها ، وكأنه فسره بتفسير شامل للوجهين لأنّ ما استحقر عنده الجنة تستحقر عنده الدنيا بالطريق الأولى. قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } ظاهر الآية يقتضي مقاتلة المنافقين ، وهم غير مظهرين للكفر ، ونحن مأمورون بالظاهر فلذا فسر الآية السلف بما يدفع ذلك بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى سواء كان بالقتال أو بغيره ، وهو إن كان حقيقة فظاهر ، والا حمل على عموم المجاز فجهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين لإلزامهم بالحجج وازالة الشبه ، ونحوه أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم ما يقتضي ذلك ، فقد روي عن الحسن أن المراد بجهاد المنافقين إقامة الحدود عليهم ، واستشكل بأنّ إقامتها واجبة على غيرهم أيضاً فلا تختص بهم وأشار في الإحكام إلى دفعه بأنها في زمنه ىجي! أكثر ما صدرت عنهم ، وأما القول بأن المنافق عنده بمعنى الفاسق فركيك ، ولما لم يره المصنف رحمه الله تفسيراً مستقلا جعله ضميمة ، فلا يقال الأولى عطفه بأو. فوله : ) في ذلك ) الإشارة إلى الجهاد بقسميه وتحابهم من المحاباة والميل وهو مجزوم بحذف آخره ، وقوله مصيرهم هو المخصوص بالذمّ. قوله : ( روي أنه صلى الله عليه وسلم الخ ( ( 1 ( أخرجه البيهقي في الدلائل عن عروة بن الزبير ، والجلاس بضم الجيم والسين المهملة وتخفيف اللام بوزن غراب رجل من الصحابة كان منافقاً وقد حسن إسلامه بعد ذلك ، كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى. قوله : ( فحلف باللّه ما قاله ) وتفصيله في الكشاف لكن إسناد الحلف في الآية للجميع مع صدوره عن الجلاس وحده لأنهم رضوا به واتفقوا عليه فهو من إسناد الفعل إلى سببه أو جعل الكل لرضاهم به كأنهم فعلوه كما تقدم إذ لولا رضاهم ما باشره ، ولا حاجة إلى عموم المجاز لأنّ الجمع بين الحقيقة والمجاز جاثز في المجاز العقلي ، وليى محلا للخلاف ، وكذا الكلام في هموا بما لم ينالوا أو لا حاجة إليه لأنهم جماعة من المنافقين ولا يناسب حمله على جماعة جلاس إلا أن
يراد همهم بقتل عامر ، وهو الذي بلغ مقالة جلاس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقال له أنت شرّ من الحمار كما في الكشاف. قوله : ( وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام ) أوّله بالإظهار فيهما لأن كفرهم الباطن كان ثابتا قبله واسلامهم الحقيقيّ لا وجود له ، والفتك القتل والضرب على غرة غفلة ، والعقبة ما ارتفع من الجبل وتسنمها العلو عليها كما يعلى سنام الإبل ، والخطام كالزمام لفظا ومعنى ، وإنما أخذ بزمامها لكونه محل مخاطرة لصعوبته ، ووقع الإخفاف صوت مشيها وقعقعة السلام صوت حركته ، وقوله إليكم اسم فعل بمعنى تنحوا وابعدوا وكرره للتأكيد ، وقوله أو اخراجه بالجرّ عطفا على فتك الرسول ، وقوله أو بأن يتوّجوا عبد الله أي يجعلوه رئيسا وحاكما عليهم ، وكان مترشحاً لذلك قبل قدوم النبيّ لمجوو المدينة ، وهو الحامل له على نفاقه لحسده للنبيّ ع!و ، وهو معطوف على من فتك بحسب المعنى لأنه بمعنى يفتكوا بالرسول أو العطف على الجار والمجرور فتأمل ، وعن السدي أنهم قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبيّ تاج الرياسة ، وجعلناه رئيسا وحكما بيننا ، وان لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبيّ لعنه الله : { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } يعني بالأعز نفسه الذليل عند الله فسمعه ابن أرقم فبلغه النبي لمج! فأنكره ، وحلف فنزلت الآية وسياتي تفصيله في سورة المنافقين. قوله : ) أنّ خمسة عشر منهم الخ ) أخرجه أحمد من حديث أبي الطفيل. قوله : ( وما أنكروا أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم الخ ) النقمة كما قال الراغب : بمعنى الإنكار باللسان والعقوبة فإن أريد الأوّل فظاهر ، وإن أريد الثاني(4/344)
ج4ص345
فهو مجاز عن وجدان ما يورث النقمة أي يقتضيها والى ذلك أشار المصنف ، وقدّم الأوّل لاستغنائه عن التأويل ، وتريب منه تأويله بالإرادة ومحاويج جمع محتاج على غير قياس ، والضنك ضيق في المعيشة وقلة الرزق ، والعيش ما يتعيش به كالمأكل وغيره ، وقدمهم بفتح القاف وكسر الدال المخففة على الحذف والإيصال أي قدم عليهم أو استولى عليهم كقوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } وأثروا استغنوا من الثراء وهو الغنى والدية عشرة آلاف فزيادة ألفين على عادتهم في الزيادة تكرما وكانوا يسمونها شنقاً بفتح الشين المعجمة ، ونون وقاف ، وهو ما زاد على الدية والمولى بمعنى القريب أو المعتق
الذي له إرثه وقيل ضمير أغناهم الله للمسلمين أي ما غاظهم إلا إغناء الله للمؤمنين. قوله : ) والاستثناء مفرغ الخ ) يعني إنّ المعنى ما كرهوا وعابوا شيئأ إلا إغناء الله إياهم فهو مفعول به ، أو مفعول له والمفعول محذوف أي ما نقموا الإيمان لأجل شيء إلا لأجل إغناء الله ، وهو على حذ قولهم ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك وقوله :
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إذ غضبوا
وهو متصل على ادعاء دخوله إذ ألاستثناء المفرغ لا يكون منقطعاً ، كما مرّ وفيه تهكم وتأكيد الشيء بخلافه. فوله : ( هو الذي حمل الجلاس الخ ( ضمير هو لما يفهم من الكلام ، أي نزول هذا حمله على التوبة بعدما كان يخاف من عدم قبولها فكانت سببا لحسن إسلامه لطفا من الله به ، وحمله على كذا أي كان سبباً له والحامل على الشيء سببه ، وهو من المجاز المشهور وجعل الضمير للتوب بمعنى التوبة لتذكير الضمير وان كان تأنيث المصادر قد يغتفر ، وقوله بالإصرار على النفاق يعني المراد بإعراضهم وتوليهم عن إخلاص الإيمان ، والدوام عليه كما في يا أيها الذين آمنوا آمنوا وقد مز تحقيقه ، وقوله بالقتل والنار لف ونثر مرتب ، والمراد بالقتل أنهم يقتلون إن أظهروا الكفر لأنّ الإصرار مظنة الإظهار فلا ينافي ما مرّ من أنهم لا يقتلون ، وإن جهادهم بمعنى إلزام الحجة ، وقيل عذاب النار هنا متاعب النفاق أو عذاب القبر أو ما يشاهدونه عند الموت فلا إشكال. قوله تعالى : { وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ }
بن حاطب ويقال ابن أبي حاطب الأنصاري الذي ذكره ابن إسحاق فيمن بنى مسجد الضرار وليس هو ابن عمرو الأنصاري البدري لأنه استشهد بأحد ولأنه مجقيد قال : " لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية " ) 1 ( ومن كان بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقا في قلبه فينزل فيه ما نزل فهو غيره كما قال ابن حجر في الإصابة : وإن كان البدري هو المشهور بهذا الاسم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، وقوله : ( لا تطيقه ) بتقدير مضاف أي لا تطيق شكره والشكر أداء حقوقه وهذا من معجزاته إذ كان كما قال : وقوله : ( كل ذي حق حقه ( أي أو في صرف حقوق الله منه إن رزقني ، وقوله : ( فتمت ( أي زادت ، والدود بدالين مهملتين معروف وهو إذا حصل في شيء يتضاعف بسرعة وقوله : يا ويح ثعلبة ويح كلمة ترحم لما ناله من فتنة الدنيا ، والمنادى محذوف أي يا ناس أو يا زائدة للتنبيه أو المنادى ويح كقوله يا حسرتي كأنه نادى ترحمه عليه ليحضر ، وقوله لا يسعه واد أي واد واحد بل أودية ومصدقين بتخفيف الصاد المفتوحة وتشديد الدال المهملة المكسورة ، وهم الذين يأخذون الصدقات ، وقوله : ( فاستقبلهما ( وفي نسخة استقبلهم ، وباء بصدقاتهم للتعدية أو المصاحبة وكتاب الفرائض أي ما فرض من الزكاة ، ومجيء ثعلبة وحثوه التراب ليس للتوبة من نفاقه بل للعار من عدم(4/345)
ج4ص346
قبول زكاته مع المسلمين ، وقوله أخت الجزية أي مشابهة لها. قوله : ) إن الله منعني أن أقبل منك الخ ) الظاهر أنه يوحى له بأنه منافق والصدقة لا تؤخذ منهم ، وان لم يقتلوا لعدم الإظهار ،
وقوله هذا عملك أي جزاء عملك وما قلته ، وقيل المراد بعمله طلبه زيادة رزقه ، وهذا إشارة إلى المنع أي هو عاقبة عملك لقوله أمرتك فلم تطعني فإنه أمره بالاقتصار على مقدار يؤذي شكره ، وقيل المراد بالعمل عدم إعطائه للمصدقين ، ويؤيده أنه وقع في نسخة فلم تعطني بتقديم العين ، وقوله فجعل التراب هكذا هو في نسختي بتقديم التراب أي جعل يحثو التراب أو هو من الاشتغال ، وقوله منعوا حق الله منه أي من فضله فمن تبعيضية أو من الله فهو صلة المنع وفسر البخل به لأنّ البخل في الشرع منع ما يجب عليه. قوله : ( عن طاعة الله ( أي في إعطاء الصدقة وضمير عنها لمطلق الطاعة ، وهو المناسب للمقام إذ المعنى أن عادتهم الإعراض عن الطاعات فلا ينكر منهم هذا ، ولو كان المعنى معرضون عن ذلك لكان تقييد للشيء بنفسه والجملة مستأنفة أو حالية ، والاستمرار المقتضى تقدّمه لا ينافي الحالية كما قيل. قوله : ( أي فجعل الله عاقبة فعلهم ( إشارة إلى أن في الكلام مضافا مقدرا أي أعقب فعلهم ، وقوله وسوء اعتقاد عطف تفسير للنفاق وأن المراد سوء العقيدة ، والكفر المضمر لأنه الذي في قلوبهم لا إظهار الإسلام واضمار الكفر الذي هو تمام معناه. قوله : ( ويجوز أن يكون الضمير للبخل ( أي المستتر في أعقب الذي كان في الوجه الأوّل لثه قال النحرير : والظاهر أن الضمير لته لأنه الملائم لسوق النظم سابقاً ولاحقا لئن آتانا ويوم يلقونه ، ولأن قوله تعالى : { بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } يأبى كون الضمير للبخل إذ ليس لقولنا أعقبهم البخل نفاقا بسبب إخلاف! الوعد كبير معنى ، وإنما اختاره الزمخشري لنزغة اعتزالية من أنه تعالى لا!حي بالنفاق ، ولا يخلقه على قاعدة التحسين والتقبيح وما بعده يأباه ولا يتصوّر أن يعلل النفاق بالبخل ، أوّلاً ثم يعلله بأمرين غيره بغير عطف ألا ترى إنك لو قلت حملني على إكرام زيد علمه لأجل أنه شجاع جواد كان خلفا حتى تقول حملني على إكرام زيد علمه وشجاعته وجوده كما أفاده بعض المحققين ، وقال الإمام : ولأن غاية البخل ترك بعض الواجبات ، وهو لا يوجب حصول النفاق الذي هو كفر وجهل في القلب كما في حق كثير من الفساق ، ومعنى أعقاب النفاق جعلهم منافقين يقال أعقبت فلانا ندامة أي صيرت عاقبة أمره ذلك ، وكون هذا البخل بخصوصه يعقب النفاق ، والكفر لما فيه من عدم إطاعة الله ورسوله ، وخلف وعده كما قيل لا يقتضي أرجحيته بل صحته ، وهي لا تنكر. قوله : ( متمكناً في قلوبهم الخ ( بيان للمعنى وليس توجيها لفي ولا لكلمة إلى لأنه لو قيل استقز في قلوبهم ، أو كائنا في قلوبهم إلى يويم يلقونه لم يكن عليه غبار كما توهم. قوله : ( يلقون الله بالموث الخ ( لف ونشر مرتب يريد أن الضمير في يلقونه إما للّه ، والمراد باليوم وقت الموت أو للبخل والمراد يوم القياصة ، والمضاف
محذوف وهو الجزاء قيل ولا حاجة إلى أن يراد حينئذ يوم القيامة وكأنه جنح إلى أنّ جزاء أمثال البخل لا يرى إلا في يوم القيامة ، وهو ظاهر والمنع عليه غير مسموع ، وقوله : ) يلقون عمله ( أي عمل البخل والمراد جزاؤه ، وكان الظاهر عملهم. قوله : ( ببب إخلافهم ) يعني أنّ ما مصدرية ، وجعل خلف الوعد متضمنا للكذب بناء على أنه ليس بخبر حتى يكون تخلفه كذبا بل إنشاء لكنه متضمن للخبر فإذا تخلف كان قبيحا من وجهين الخلف والكذب الضمني ، وقوله أو المقال بالجرّ معطوف على الضمير المجرور في قوله كاذبين فيه من غير إعادة الجارّ يعني الكذب إما الكذب في الوعد ، أو في المقال مطلقاً فيكون عطفه على خلف الوعد أظهر. قوله : ( وقرىء بالتاء على الالتفات ) قيل ياً باه قوله : ( يعلم سرّهم ونجواهم ( وجعله التفاتا آخر تكلف فالظاهر أنّ الخطاب للمؤمنين ، وقوله ما أسروه الخ على أن الضمير للمنافقين ، وقوله أو العزم على أنه لمن عاهد على اللف ، والنشر وكذا قوله وما يتناجون الخ ، وقوله فلا يخفى إشارة إلى أنه علة لما قبله وسيق لظهور تعليله له. قوله : ( ذمّ مرفوع أو منصوب الخ ( أي خبر مبتدأ هم الذين أو مفعول أعني أو أذم الذين أو مجرور بدل من ضمير سرّهم وجوّز أيضا أن يكون مبتدأ خبره سخر الله منهم ، وقيل : فيسخرون وعلى ما اختاره المصنف(4/346)
ج4ص347
المراد بالذين يلمزون المنافقون مطلقا لا من قبله حتى يقال يتوقف صحته على أنّ اللأمزين هم الحالفون ودونه خرط القتاد كما قيل وضم ميم يلمزون لغة كما مرّ ، والمتطوّعين المعطين تطوّعا. قوله : ( روي أئه صلى الله عليه وسلم الخ ( ) 1 ( أخرجه أحمد عن عبد الرحمن وابن جرير وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله : ) حث على الصدقة ( أي رغبهم وحضهم عليها في خطبة خطبها قبل خروجه إلى غزوة تبوك ، ومصالحة إحدى امرأتيه على ما ذكر هي رواية الطبراني والبغوي في المعالم ، فله
امرأتان فقط ، والذي في الكشاف أنه صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً ، وعزاه الطيبي للاستيعاب فيكون له أربع زوجات وبين الروايتين بون بعيد ، والوسق بفتح فسكون ستون صاعا والصاع ثمانية أرطال وهو كيل معروف وهذه القصة رواها ابن جرير عن ابن إسحاق. قوله : ( وجاء أبو عقيل الخ ) ) 1 ( رواه البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه والطبراني وابن مردوية عن أبي عقيل والكل سبب للنزول والجرير حبل تجز به الإبل والمعنى أنه استقى بحبل للناس وأخذ ذلك أجرة عليه ، ومفعول أجرّ محذوف أي الدلو ، وقيل : هو بالجرير والباء زائدة ، وقوله وان كان الله الخ أن هذه مخففة من الثقيلة واللام الداخلة على ما بعدها هي الفارقة بينها وبين النافية ، وقوله أن يذكر بنفسه أي أن يذكر الرسول بنفسه ، وليست الباء زائدة في المفعول كما قيل. قوله : ( 1 لا طاتتهم الخ ) قرأ الجمهور جهدهم بضم الجيم ، وقرأ ابن هرمز وجماعة بالفتح فقيل هما لغتان بمعنى واحد ، وقيل : المفتوج بمعنى المشقة والمضموم بمعنى الطاقة قاله القثبيّ ، وقيل : المضموم شيء قليل يعاش به والمفتوج العمل والمصنف اختار أنهما بمعنى ، وهو طاقتهم وما تبلغه قوّتهم والهزء والسخرية بمعنى. قوله : ) جارّاهم على سخريتهم كقوله الله يستهز!ء بهم ) في الكشاف سخر الله منهم كقوله : { اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ سورة البقرة ، الآية : 5 ا ] في إنه خبر غير دعاء ألا ترى إلى قوله ولهم عذاب أليم ، يعني إنه خبر بمعنى جازاهم الله على سخريتهم ، وعبر به للمشاكلة وليست إنشائية للدعاء عليهم بأن يصيروا ضحكة لأنّ قوله ولهم عذاب أليم جملة خبرية معطوفة عليها فلو كان دعاء لزم عطف الخبرية على الإنشائية ، وإنما اختلفا فعلية واسمية لأنّ السخرية في الدنيا وهي
متجدّدة والعذاب الأليم في الآخرة وهو ثابت دائم. قوله : ( يريد به التساوي بين الأمرين الخ ) يعني هذه الجملة الطلبية خبرية والمراد التسوية بين الاستغفار وعدمه كقوله : { أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } [ سورة التوبة ، الآبة : 53 ] وقوله : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } [ سورة البقرة ، الآية : 6 ] والمقصود الأخبار بعدم الفائدة في ذلك وأنهم لا يغفر لهم أصلا ، وقيل الظاهر أن المراد بمثله التخيير ، وهو المروي عنه صلى الله عليه وسلم لما قالي عمر كيف تستغفر لعدوّ الله وقد نهاك الله عنه فقال : ما نهاني ، ولكن خيرني فكأنه قال : إن شئت فاستغفر وان شئت فلا تستغفر ، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وان استغفر كثيراً. قيل وليس كما قال لقول النسفي رحمه الله : يبعد أن يفهم منه التخيير ويمنعه عمر رضي الله عنه ، وقيل : إنه ناظر إلى ظاهر اللفظ فإنه يدل على الجواز في الجملة ، وفي لفظ الترخيص! إشعار بأنهء! كان عالما بحرمة الاستغفار للكافر إلا أنه رخص له في ذلك ليظهر عدمه غاية الظهور مع أن الكلام لا يخلو عن إش!كال ، وقيل : لما سوّى الله بين الاستغفار وعدمه ، ورتب عليه عدم القبول ولم ينه عنه فهم أنه مخير ومرخص فيه ، وهذا مراده صلى الله عليه وسلم لا أنه فهم التخيير من أو حتى ينافي التسوية بينهما المرتب عليها عدم المغفرة ، وذلك تطييباً لخاطرهم وأنه لم يأل جهداً في الرأفة بهم ، هذا على تقدير أن يكون مراد عمر رضي الله عنه بالنهي ما وقع في هذه الآية لا في قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ سورة التوبة! الآية : 113 ] لعدم مطابقته ل لجواب حينئذ ، ثم استشكل استغفاره ع!ه لابن أبيّ لعنه الله مع تقدم نزول تلك الآية ، وتفصى عنه با! النهي ليس للتحريم بل لبيان عدم الفائدة ، وهذا كلام واه لأن منعه من الاستغفار للكفار لا يقتضي المنع من الاستغفار لمن ظاهر حاله الإسلام ، فالتحقيق أنّ المراد التسوية في عدم الفاندة ، وهي لا تنافي التخيير فان ثبت فهو بطريق الاقتضاء لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما فلا بد من أحدهما فقد يكون في الإثبات كقوله تعالى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } أسورة البقرة ، الآية : 6 ] لأنه مأمور بالتبليغ ، وقد يكون في النفي كما هنا(4/347)
ج4ص348
وفي قوله : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ } [ سورة المنافقون ، الآية : 6 ] الآية فهو محتاج إلى البيان ، ولذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إنه رخص لي " ) 1 ( ولعله رخص له في ابن أبيّ لحكمة ، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول ، وأما كلام النسفي رحمه الله فلا وجه له مع ما رواه البخارقي ومسلم وابن ماجه والنسائيّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مج!ه قال لعمر رضي الله عنه : " إنما خيرتي الله فقال : استغفر لهم أو لا تستنفر لهم " ( 2 ( فتأمل. قوله : ) كما نصر عليه بقوله الخ ) هذا وان كان لم يذكر فيه العدم بل
الشق الآخر لكنه يعلم من عدم المغفرة مع الاستغفار عدمها بدونه بالطريق الأولى فلذا جعله مساويا لمعنى التسوية. قوله : ( روي أنّ عبد الله بن عبد الله الخ ) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم بمعناه عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وكذا رواه ابن ماجه والنسائيّ كما مرّ وهذا هو الصحيح المشهور في سبب النزول ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى : { سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } سأله اللامزون الاستغفار لهم فنهاه الله عنه ، وقيل إنه استغفر لهم فنهى عنه فتشتد مناسبتها لما قبلها ومنه علم اختلاف الرواية في وقوع الاستغفار وعدمه واختار الإمام عدمه ، وقال : إنه لا يجوز الاستغفار للكافر فكيف يصدر عنه صلى الله عليه وسلم وردّ بأنه يجوز لأحيائهم بمعنى طلب سببه ، وهو توفيقهم للإيمان وإيمانهم ، واما أنّ النهي ليس لمعنى ذاتيّ حتى يفيد تحريمه فيجوز لتطييب خاطر أو لحمل الأحياء منهم على الإيمان ونحوه ، ففيه نظر وكذا قوله إنّ الاستغفار للمصرّ لا بنفعه لأنه لا قطع بعدم نفعه إلا أن يوحى إليه أنه لا يؤمن كأبي لهب ، واما أنّ استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين إغراء لهم على النفاق فضعيف جدا ، وكذا قوله إذا لم يستجب الله دعاءه كان نقصاً في منصب النبوّة ممنوع لأنه قد لا يجاب دعاؤه لحكمة كما أشار إليه المصنف رحمه ألله بقوله وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منا ، وكذا قوله إنه لا فرق في ذلك بين القليل والكثير ، وبالجملة فهذه معارضات لا وجه لها مع مقابلة النص فتدبر. قوله : ( فنزلت سواء عليهم استنفرت لهم الخ ) أورد عليه أنّ سورة براءة آخر ما نزل فكيف تكون هذه الآية نازلة بعدها ، وهي من سورة أخرى فإن أجيب بأنه باعتبار أكثرها وصدرها فلا مانع من تأخر نزول بعض الآيات عنها منع بأنّ هذه الآية من سورة المنافقين ، وصدرها يقتضي أنها نزلت في غير هذه القصة لأنّ أوّلها : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ( 5 ) سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ } [ سورة المنافقون ، الآية : 5 ] لهم الخ وكونها نزلت مرّتين لا يقال بالرأي فالحق أنّ هذا مشكل فتدبر. قوله : ( وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين الخ ) خالف الزمخشرفي في قوله إنه صلى الله عليه وسلم لم يخف عليه ذلك ، وهو أفصح الناس وأعرفهم باللسان ولكنه خيل بما قال : إظهارا لغاية رأفته ورحمته على من بعث إليه كقول إبراهيم عليه. الصلاة والسلام : " ومن عصاتي فإنك غفوو رحيم " يعني أنه أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير فجوّز الإجابة بالزيادة قصدا إلى إظهار الرأفة والرحمة كما جعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم جزاء من عصاني أي لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام قوله : ( فإنك غفور رحيم ( دون أن يقول شديد العقاب فخيل أنه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم وحثاً على الاتباع لما قيل إنه بعدما فهم منه التكثير فذكره للتمويه ،
والتخييل لا يليق بمقامه وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي فصاحته ، ومعرفته باللسان فإنه لا خطأ فيه ، ولا بعد إذ هو الأصل ورجحه عنده شغفه بهدايتهم ورأفته بهم واستعطاف من عداهم فلا بعد فيه كما توهم. قوله : ( فبين له أن المراد به التكثير الخ ( واستعمال العدد للتكثير كثير ، وهو لا يختص بالسبعين لكنه غالب فيها وهو كناية أو مجاز في لازم معناه. قوله : ( لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد ) فكأنه العدد وبيانه أنّ الستة عند الحساب عدد تامّ ، والعدد التاتم عندهم ما ساوى مجموع كسوره المنطقة وما عداه زائد أو ناقص وكسوره سدس ، وهو واحد وثلث وهو اثنان ونصف وهو ثلاثة ومجموعها ستة فإذا زيد عليها واحد كانت أتمّ في الكمال ، ولذا قال ابن عيسى الربعي السبعة أكمل الاعداد لأنّ الستة أوّل عدد تامّ ، وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ ليس بعد التمام سوى الكمال ، ولذا سمي الأسد سبعا لكمال قوّته ، والسبعون غاية الغاية(4/348)
ج4ص349
إذ الآحاد غايتها العشرات ، وقال المصنف رحمه الله في شرح المصابيح السبعة تستعمل في الكثرة يقال سبع الله أجرك أي كثره ، وذلك أن السبعة عدد كامل جامع لأنواع العدد كله إذ الأعداد إمّا زوج أو فرد ، واما زوج زوج وأما زوج فرد ، فالزوج هو الاثنان والفرد هو الثلاثة وزوج الزوج هو الأربعة ، وزوج الفرد هو الستة والواحد ليس من الأعداد عندهم لكنه منشأ العدد فالسبعة ستة وواحد فهي مشتملة على جملة أنواع العدد ومنشئها فلهذا استعمل في التكثير اهـ ، وقيل إنها جامعة للعدد لأنه ينقسم إلى فرد وزوج وكل منهما إما أوّل ، وأما مركب فالفرد الأوّل الثلاثة والمركب الخمسة والزوج الأوّل اثنان ، والمركب أربعة وينقسم إلى منطق كأربعة وأصم كستة والسبعة تشمل جميعها فإذا أريد المبالغة جعلت آحادها عشرات ثم عشراتها مئات ، وهذه مناسبات ليس البحث فيها من دأب التحصيل.
قوله : ( إشارة إلى أنّ اليأص الخ ) اليأس ضد الرجاء ، والإياس جعله ذا يأس فكان الظاهر الإياس ، وقوله لعدم قابليتهم لخلقهم كفاراً والكفر صارف عن المغفرة لأنه يغفر ما عداه ، وان كان ذلك ممكنا بالذات كما يشعر به تعبيره بالصمارف ، وفسر الفسق بشذة الكفر ، وعتوّه ليكون ذكره مع الكفر منتظما. قوله : ) وهو كالدليل على الحكم السابق الخ ) أي سببية كفرهم لعدم المغفرة لأن المراد به كفر طبعوا عليه ، وهو مرض خلقي لا يقبل العلاج ، ولا يفيد فيه الإرشاد فالمراد بالهداية الدلالة الموصلة لا الدلالة على ما يوصل لأنها واقعة فمن قال الدليل هو الآية
السابقة لا هذه فقد وهم. قوله : ( والتنبيه على عذر الرسول صلى الله عليه وسلم في استغفاره ) وهو مجرور عطف على الدليل وجوّز رفعه بالعطف على محل الجارّ والمجرور ، وقد قيل : إنه لا عذر عن الاستغفار الثاني بعد نزول الآية إلا أن يقال بتراخي نزول قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } الخ عن قوله استغفر لهم ، وقيل هذا العذر إنما يصح لو كان استغفاره للحيّ كما مرّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وفيه نظر ، وقوله بعد العلم بموتهم كفارأ أو إعلامه ذلك بالوحي. قوله : ( بقعودهم عن النزو خلفه الخ ) يعني مقعد مصدر ميمي بمعنى القعود ، وخلاف ظرف بمعنى خلف ، وبعد كما استعملته العرب بهذا المعنى ، وتيل مقعد اسم مكان والمراد به المدينة ، وقال المخلفون : ولم يقل المتخلفون لأنه كف منع بعضهم من الخروج فغلب على غيرهم أو المراد من خلفهم كسلهم أو نفاقهم ، أو لأنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم في التخلف ، أو لأنّ الشيطان أغراهم بذلك وحملهم عليه كما في الكشاف ، واستعمال خلاف بمعنى خلف لأن جهة الخلف خلاف الإمام. قوله : ( ويجوز أن يكون بمعنى المخالفة ( فهو مصدر خالف كالقتال فيصح أن يكون حالاً بمعنى مخالفين لرسول الله جمز أو مفعولاً لأجله أي لأجل مخالفته لأن قصدهم ذلك لنفاقهم ، ولا حاجة إلى أن يقال قصدهم الاستراحة ، ولكن لما آل أمرهم إلى ذلك جعل علة فهي لام العاقبة ، وهو علة إما للفرج أو للقعود. قوله : ) إيثارا للدعة والخفض ( الدعة الراحة ، والتنعم بالمآكل والمشارب والخفض بمعناه وكرهوا مقابل فرج مقابلة معنوية لأنّ الفرج بما يحب ، وقوله عليها أي الدعة والمهج جمع مهجة وهي هنا بمعنى الأنفس ، وإن كان أصل معناه الروج أو القلب أو دمه ووجه التعريض ظاهر ، لأن المراد كرهوه لا كالمؤمنين الذين أحبوه والتثبيط التعويق كما مرّ ، وقوله : وقد آثرتموها الخ فسر به ليرتبط بما قبله. قوله : ) أن مابهم إليها الخ ( تقدير لمفعول يفقهون أي لو كانوا يعلمون أن مرجعهم النار ، أو لو كانوا يعلمون شدة عذابها لما آثروا راحة زمن قليل على عذاب الأبد وأجهل الناس من صان نفسه عن أمر يسير يوقعه في ورطة عظيمة ، وقوله كيف هي تقدير آخر لمفعول يفقهون ، أي لو يعلمون أحوالها
وأهوالها ، وثوله ما اختاروها إشارة إلى جواب لولا المقدر. قوله : ( أخبار عما يؤول إليه حالهم في الدنيا الخ ) في البحر الظاهر أنّ قوله فليضحكوا قليلاً إشارة إلى مدة عمر الدنيا ، وليبكوا كثيرا إشارة إلى مذة الخلود في النار فجاء بلفظ الأمر ، ومعناه الخبر فقليلاً على معناه حينئذ ، اهـ ولا حاجة إلى حمله على العدم كما ذكره المصنف رحمه الله ، وقال ابن عطية إنّ المعنى لما هم عليه من الخطر مع الله وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا ، وبكاؤهم من أجل ذلك كثيراً ، وهذا يقتضي أن يكون البكاء والضحك في الدنيا كما في(4/349)
ج4ص350
حديث : " لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا وضحكتم قليلاً " ) 1 ( وقيل المراد بضحكهم فرحهم بمقعدهم ، وفليلاً وكثيرا منصوب على المصدريه أي ضحكاً وبكاء قليلاً وكثيراً أو الظرفية ، أي زمانا قليلآ وكثيراً وجزاء مفعول له ليبكوا وهو مصدر من المبنيّ للمفعول. قوله : ( للدلالة على أنه حتم واجب ا لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل وأكثر فاستعمل في لازم معناه ، ولأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر ، فإن قلت الوجوب لا يقتضي الوجود ، وقد قالوا إنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة لاقتضائه تحقق المأمور به فالخبر آكد وقد مز مثله فما باله عكس هنا ، قلت لا منافاة بينهما كما قيل لأن لكل مقام مقالأ ، وال!نكت لا تتزاحم فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشذة امتثاله كأنه وقع منه ذلك وتحقق قبل الأمر كان أبلغ وإذا عبر عن الخبر بالأمر كأنه لإفادة لزومه ، ووجوبه فكأنه مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى وأما كون الأمر هنا تكويني فركيك جذآ ولا يمنع منه كونه مستقبلاً كما قيل ، اً لا ترى قوله إذا أراد شيئآ أن يقول له كن فيكون فتدبر. قوله : ) والمراد من القلة العدم ( تقدم أنه لا حاجة إليه وأما ما قيل إنه اعتبرهما في الآخرة ، ولا سرور فيها فلا دلالة في كلامه عليه ، وان كان هو صحيحأ في نفسه. قوله : ) رذك إلى المدينة ( إشارة إلى أن رجع يكون متعذيا بمعنى رذ كما هنا ، ومصدره الرجع وقد يكون لازماً ومصدره الرجوع ، وأوثر استعمال المتعذي ، وإن كان اللزوم أكثر إشارة إلى أن ذلك السفر لما فيه من الخطر يحتاج لتأييد الهيئ ، ولذا أوثرت كلمة إن على إذا ، وقوله : أو من بقي منهم لأن منهم من مات فضمير منهم على الأوّل للمتخلفين ، وعلى الثاني للمنافقين ، وقوله : ) فكان المتخلفون ( لأحسن للفاء هنا لأنه ليس من مواقعها وما وقع في نسخة
موافقيهم بدل منافقيهم من غلط الناسخ ، وما قيل إن المراد بمن بقي من بقي على نفاقه ، ولم يتب مما لا وجه له وذكر لذكر طائفة نكتة أخرى ، وهي أن من المنافقين من تخلف لعذر صحيح ، وهو بعيد فلذا تركه المصنف رحمه الله تعالى. قوله تعالى : { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا } الآية ذكر القتال لأنه المقصود من الخروج فلو اقتصر على أحدهما كفى إسقاطا لهم عن مقام الصحبة ، ومقام الجهاد أو عن ديوان الغزاة وديوان المجاهدين ، وإظهار الكراهة صحبتهم ، وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند ، أو ذكر الثاني للتأكيد لأنه أصرح في المراد ، والأوّل لمطابقته لسؤاله كقوله :
أقول له ارحل لا تقيمت عندنا
فهو أدذ على الكراهة لهم ، وقوله : للمبالغة تقدم تقريره ودفع ما يرد عليه ، وقوله تعليل
له أي لنهيهم يعني أنه جملة مستأنفة في جواب سؤال مقدر ، وقوله على تخلفهم أي من غير عذر صحيح منهم واللياقة مصدر لاق بمعنى تعلق ، وهو مجاز عن المناسبة. قوله : ( وأوّل مرّة هي الخرجة الخ ) إشارة إلى أنها منصوبة على المصدرية والمعنى أوّل مرّة من الخروج ، وقيل : إنها جمنصوبة على الظرفية الزمانية واستبعده أبو حيان رحمه الله وفي الكشاف إنه لم يقل أوّل المرّات لأن أكثر في المضاف عدم المطابقة ، وتفصيله في شرح السعد. قوله : ( المتخلفين الخ ) مع الخالفين متعلق باقعدوا أو بمحذوف على أنه حال والخالف المتخلف بعد القوم وقيل إنه من خلف بمعنى فسد ومنه خلوف فم الصائم لتغير رائحته ، والمراد النساء والصبيان والرجال العاجزون وجمع هكذا تغليبا ، وقرأ عكرمة الخلفين بوزن حذرين وجعلوه مقصوراً من الخالفين إذ لم يثبت استعماله كذلك على أنه صفة مشبهة كذا قيل ، وفيه نظر. قوله : ) روي أن ابن أبن الخ ) ) 1 ( أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ، والباسه العباس رضي الله عنه قميصه حين أسر ببدر أخرجه البخاري عن جابر ) 2 ( رضي الله عنهما ، وقوله : ( الذي يلي جسده ) تفسير للشعار بالكسر لأنّ معناه ما يلي الجسد من الثياب
" .
لمماسته الشعر ، وقوله : ( وذهب ليصلي عليه فنزلت ) وقيل إن عمر رضي الله عنه حال بينه وبينه ، وهي إحدى موافقاته للوحي ، وقيل : إنّ جبريل عليه الصلاة(4/350)
ج4ص351
والسلام أمسك ثوبه وهذا كله على أنه لم يصل عليه والرواية فيه مختلفة ، وقوله : ( الضنة ) بالكسر أي البخل والمنع بعدما سأله وإلباسه العباس رضي الله عنه سببه أنه كان رضي الله عنه طويلاً جسيماً فلم يحضر ثوب بقدر قامته غير ثوب ابن أبن ، وقيل : إنه ظن أنه حسن إسلامه ، فلذا كفنه وأراد الصلاة عليه ، ثم أخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بأنه مات على كفره. قوله : ( والمراد من الصلاة الدعاء الخ ) يعني أن المراد بالصلاة عليه صلاة الميت المعروفة ، وإنما منع منها عليه لأنّ صلاة الميت دعاء ، واستغفار واستشفاع له ، وقد منع من الدعاء لميتهم فيما تقدم في هذه السووة ، وفي قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ سورة التوبة ، الآية : 113 ] ولم يرد أنّ الصلاة هنا بمعناها اللغوي وهو الدعاء كما توهم. قوله : ( ولذلك رتب الخ ) أي علله بموته على الكفر لأنه حينئذ لا يجوز الاستغفار له فلا يجوز أن يصلى عليه. قوله : ( مات أبدا يعني الموت على الكفر الخ ( جعل أبداً ظرفا متعلقا بقوله مات ، والذي ذكره غيره أنه متعلق بالنهي ، وهو الظاهر وما ارتكبه المصنف رحمه الله أمر لا داعي إليه سوى أنه رآه وجهاً صحيحاً ونظرا خفياً فعدل إليه اعتمادا على أنّ الآخر طريقة مسلوكة ، واضحة لا حاجة لذكرها ، وأما من حاول توجيهه بأنه حمل الموت الأبدي على الموت على الكفر لأنّ المسلم يبعث ويحيا والكافر وإن بعث لكنه للتعذيب فكأنه لم يحيى ، فهو كناية عن الموت على الكفر فلذا جعل أبدا منصوبا بمات دون لا تصل لأنه لو جعل منصوبا به لزم أن لا تجوز الصلاة على من تاب منهم ، ومات على الإيمان مع أنه لا حاجة للنهي عن الصلاة عليهم إلى قيد التأبيد ، فقد أخطأ ولم يشعر بأنّ منهم حالاً من الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفاً بصفتهم ، وهي النفاق كقولهم أنت مني يعني على طريقتي ، وصفتي كما صرحوا به مع أنّ ما ذكره كيف يتوهم مع قوله : { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } ومات ماض باعتباو سبب النزول وزمان النهي ، ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت ، وقيل إنه بمعنى المستقبل وعبر به لتحققه وقوله لم يحى مضارع من الحياة ضد الموت. قوله : ( ولا تقف عند قبوه الخ ) القبر مكان وضع الميت وبكون بمعنى الدفن وقد جوّز هنا هذا أيضا ، وقوله تعليل للنهي جملة
مستأنفة لذلك ، وقوله أو لتأبيد الموت بناء على تفسيره وقد عرفت ما فيه. قوله : ( تكرير للتثيد والأمر حقيق به الخ ) حيث مرّت في هذه السورة مع تغاير في بعض ألفاظها ، وقوله : ) والآمر حقيق به ) أي بالتأكيد بالتكرير لعموم البلوى بمحبتها والإعجاب بها ، وقوله طامحة بمعنى مرتفعة وملتفتة إليها ، والمراد تعلق المحبة بها ، وقوله مغتبطة أي حريصة وأصل الغبطة طلب مثل ما لغيرك بدون تمني زواله وقد تقدم قوله فلا تعجبك بلفظه لكنه بعيد. قوله : ( ويجوز أن تكون هذه في فريق غير الأوّل ) قال الفارسيّ : ليست للتأكيد لأنّ تيك في قوم وهذه في آخرين وقد تغاير نطقهما فهنا ولا بالواو ولمناسبة عطف نهي على نهي قبله في قوله : ) ولا تصل ) الخ فناسب الواو ، وهناك بالفاء لمناسبة التعقيب لقوله قبله : { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ سورة التوبة ، الآية : 54 ] أي للإنفاق فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد فنهى عن الإعجاب المتعقب له ، وهنا وأولادهم دون لا لأنه نهى عن الإعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادة لا لأنه نهى عن كل واحد واحد فدل مجموع الآيتين على النهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين ، وهنا أن يعذبهم وهناك ليعذبهم بلام التعليل وحذف المفعول أي إنما يريد اختبارهم بالأموال والأولاد وهنا المراد التعذيب فقد اختلف متعلق الإرادة فيهما ظاهراً ، وهناك في الحياة الدنيا وهنا في الدنيا تنبيها على أن حياتهم كلا حياة فيها ، وناسب ذكرها بعد الموت فكأنهم أموات أبداً ، ومنه تعلم أنه يصح في التأبيد معنى آخر. قوله : ( ويجوز أن يراد بها بعضها ) بطريق التجوّز بإطلاق الجزء على الكل لا بطريق الاشتراك كإطلاق القرآن على ما يشمل الكل والبعض كما يوهمه كلام الكشاف ، وان قيل إنّ هذا مراده أيضا ، والمراد بالسورة سورة معينة وهي براءة أو كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد وهذا أولى وأفيد لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مرّ ، وقد قيل إن إذا تفيد التكرار بقرينة المقام لا بالوضع وفيه كلام مبسوط في محله. قوله : ) بأن آمنوا بالله ويجورّ أن تكون أن مفسرة ( يعني أن مصدرية وقبلها حرف جرّ مقدر ، ويجوز أن تكون مفسرة لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه ، قيل والمصدرية تناسب إرادة السورة بتمامها والتفسيرية تناسب بعضها ففيه لف ونشر والخطاب للمنافقين ، وأما التعميم أو إرادة المؤمنين بمعنى دوموا عليه فلا يناسب المقام ويحتاج فيه ارتباط الشرط ، والجزاء إلى تكلف ما لا حاجة إليه ، وفي توله استأذنك التفات ، وقال النحرير :(4/351)
ج4ص352
القرآن والكتاب كما وضعا للكل وضعا للمفهوم الكلي الصادق على الكل والبعض ، وأما السورة فليست إلا اسماً للمجموع فإطلاقها على البعض مجاز محض. قوله : ( ذوو الفضل والسعة ) خصهم لأنهم المذمومون ، وهم من له قدرة مالية ويعلم منه البينة أيضا بالقياس فهو
الملوم لا غيره كما يدل عليه قوله عقبه الذين قعدوا لعذر وهو شامل للرجال والنساء ففيه تغليب ، وخص النساء بعده للذم. قوله : ( جمع خالفة ( بمعنى المرأة لتخلفها عن أعمال الرجال ، والمراد ذمّهم والحاقهم بالنساء كما قال :
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
والخالفة تكون بمعنى من لا خير فيه ، والتاء فيه للنقل للاسمية فإن أريد هنا فالمقصود
من لا فائدة فيه للجهاد وجمع على فواعل على الوجهين أما الأوّل فظاهر ، وأما الثاني فلتأنيث لفظه لأن فاعلا لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور إلا شذوذاً كنواكس ، وقوله : ( ما في الجهاد ) مأخوذ من المقام وقوله : { لَكِنِ الرَّسُولُ } استدراك لما فهم من الكلام ، وقوله : ( إن تخلف ) الخ فهو كقوله : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 189 وقوله فقد جاهد تقدير دليل الجواب أي فلا ضحير لأنه قد جاهد الخ. قوله : ( منافع الدارلن الخ ( مأخوذ من عموم اللفظ واطلاقه ، وقوله وقيل الحور معطوف على منافع الدارين لا على الجنة ، وقوله لقوله تعالى : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ } [ سورة الرحمن ، الآية : 70 ] فإنها بمعنى الحور فيحمل هذا عليه أيضاً ، وقوله : ) وهي جمع خيرة ) أي بسكون الياء مخفف خيرة المشذد تأنيث خير ، وهو الفاضل من كل شيء المستحسن منه ، وقوله : ) بيان لما لهم من الخيرات الأخروية ) قيل فلو خص ما قبله بمنافع الدنيا بدليل المقابلة لم يبعد. قوله : ( أسداً وغطفان ( هما قبيلتان من العرب معروفتان ، والجهد المشقة التي تلحقهم بمفارقة الأهل والمعذرون فيه قراءتان مشهورتان التشديد والتخفيف ، والمشددة لها تفسيران :
أحدهما : من عذر بمعنى قصر وتكلف العذر فعذره باطل كاذب.
والثاني : من اعتذر وهو محتمل لأن يكون عذره باطلا وحقا ، وأما التخفيف فهي من
أعذر إذا كان له عذر وهم صادقون على هذا ، وإليه يثير قوله موهما الخ لأنه من التكلف ، وقوله : ( مهد العذر ) أي بينه محتمل للوجهين كما عرفت ووجه الإدغام ظاهر وكسر العين لاك فاء الساكنين بأن تحذف حركة التاء للإدغام فيلتقي ساكنان ، وتحرك العين بالكسر وضم العين لاتباع الميم وهو ثقيل لم يقرأ به ، وقوله : ( إذا اجتهد في العذر ( إشارة لصدقه. قوله : ( وقرئ المعذرون بتشديد العبن والذال الخ ) فهو من تعذر كادّثر من تدثر والتفعيل بمعنى الافتعال فيحتمل الصدق والكذب أيضاً وهذه القراءة نسبت لمسلمة ، وليست من السبعة كما توهم ، ولذا قال أبو حيان رحمه الله هذه القراءة إما غلط من القارئ أو عليه لأنّ التاء لا يجوز إدغامها في العين لتضادّهما وأما تنزيل التضاد منزلة التناسب فلم يقله أحد من النحاة ولا القراء ، فالاشتغال بمثله عبث ، وقول المصنف رحمه الله كالزمخشري إنها لحن أي لعدم ثبوتها فلا يقال إنها قراءة فكيف تكون لحناً. قوله : ( وقد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع ( أي بالباطل واظهار ما ليس واقعاً بتكلف صنعه ، وقد علمت سبب الاختلاف ، وأما تعين الصحة لأنّ قراءة التخفيف تعينه والتشديد تحتمله فتحمل عليها لئلا يكون بين القراءتين تناف فدفع بأنّ المعتذرين كانوا صنفين محقا ومبطلاً فلا تعارض بينهما كما قيل وقوله : ( فيكون الخ ) تفريع على الصحة بأن الذين كذبوا منافقون كاذبون ، والمعتذرون مؤمنون لهم عذر في التخلف وكذبهم بادعاء الإيمان ، وعلى الأوّل كذبهم بالاعتذار والتصنع والقعود على الوجهين مختلف. قوله : ( من الإعراب أو من المعذرين الخ ) أي من الإعراب مطلقاً فالذين كفروا منهم منافقوهم أو أعم ، وقوله من اعتذر لكسله توجيه لمن التبعيضية ولا ينافي استحقاق من تخلف لكسل العذاب لعدم قولنا بالمفهوم ، والمصنف رحمه الله قائل به فلذا فسر العذاب بمجموع القتل والنار لأنّ الأوّل منتف في المؤمن المتخلف للكسل ، وقيل المراد بالذين كفروا منهم المصرّون على الكفر. قوله : ( كالهرمي والزمني ) جمع هرم ، وهو الضعيف من كبر السن ، وزمن وهو المقعد وفيه لف ونشر ، وأشار إلى(4/352)
ج4ص353
شمول المرض لما لا يزول كالعمى والعرج ، وان الضعف شامل للخلقي والعرضي وجهينة وما بعده أسماء قبائل ، والحرج أصل معناه الضيق ، ثم استعمل للذنب وهو المراد. قوله : ( بالإيمان والطاعة في السر والعلانية الخ ) معنى نصح لله
ورسوله مستعار للإيمان والطاعة ظاهراً وباطنا كما يفعله الموالي بضم الميم كالمصافي لفظاً ومعنى ، وفي قوله كما إشارة إلى أنه استعارة أو المراد بالنصح لله ورسوله بذل الجهد لنفع الإسلام والمسلمين فإذا تخلفوا تعهدوا أمورهم وأهلهم ، وأوصلوا لهم خبر من غاب عنهم لا كالمنافقين الذين تخلفوا وأشاعوا الأراجيف لأنّ هذه الأمور إعانة على الجهاد ، وقوله يعود على الإسلام فيه لقولاً وفعلاً أي له عائدة ونفع للإسلام وأهله. قوله : ( أي ليس عليهم جناح الخ ) من مزيدة وليس على محسن سبيل كلام جار مجرى المثل ، وهو إما عام ويدخل فيه من ذكر أو مخصوص بهؤلاء فالإحسان النصح لله والرسول ، والإثم المنفي إثم التخلف ، فيكون تأكيداً لما قبله بعينه على أبلغ وجه وألطف سبك ، وهو من بليغ الكلام لأنّ معناه لا سبيل لعاتب عليه أي لا يمرّ به العاتب ويجوز في أرضه فما أبعد العتاب عنه فتفطن للبلاغة القرآنية كماقيل :
سقيا لأيامنا التي سلفت إذلايمرّالعذول في بلدي
وكلام المصنف يحتمل أن يكون قوله ليس عليهم جناح إعادة لمعنى ليس عليهم حرج ، وقوله ولا إلى معاتبتهم سبيل بيان لهذا وإشارة إلى ترتبه عليه أي لا حرج عليهم فهم لا يعاتبون ، ووضع المحسنين موضع الضمير بناء على الوجه الثاني ، والتخصيص في قوله لهم إشارة إلى أنّ كل أحد عاجز محتاج للمغفرة والرحمة إذ الإنسان لا يخلو من تفريط ما فلا يقال إنه نفى عنهم الإثم أوّلاً فما الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب ، فإن أريد ما تقدم من ذنوبهم دخلوا بذلك الاعتبار في المسيء ، وقوله فكيف للمحسن في نسخة للمحسنين بصيغة الجمع. توله : ( عطف على الضعفاء الخ ) هو على الثاني من عطف الخاص على العامّ اعتناء بهم وجعلهم كأنهم لتميزهم جنس آخر وعلى الأوّل فإن أريد بالذين لا يجدون الخ الفقير المعدم للزاد ، والمركب وغيره وهؤلاء واجدون لما عدا المركب تغايرا ، وهو ظاهر كلام المصنف والنظم وان أريد بمن لا يجد النفقة من عدم شيئا لا يطيق السفر لفقده كان هذا من عطف الخاص على العام أيضا والأوّل أولى. قوله : ( البكاؤون ) ( 1 ( جمع بكاء بصيغة المبالغة ، وهم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم لم يكن لهم قدرة على ما يركبون للغزو مع النبيّ صلى الله عليه وسلم
طلبوا منه ذلك ، فلما أجابهم بكوا وحزنوا حزناً شديدا فاشتهروا بهذا وتفصيلهم في سيرة ابن هشام رحمه الله ، وعلبة بن زيد بضم العين المهملة وسكون اللام وفتح الباء الموحدة كذا ضبطوه ، وهو صحابي مشهور رضي الله عنه وفي أسمائهم وعددهم اختلاف والمعروف أنهم طلبوا ما يركبون وهو معنى قوله فأحملنا فقوله الخفاف جمع خف ، وهو في الجمل كالقدم في الإنسان ويطلق عليه نفسه كما يقال ماله خف ولا حافر والمرقوعة التي يشد على خفها جلد إذا أضر بها المشي ، والنعال جمع نعل والخصف خياطة النعل ، وهذا تجوّز عن ذي الخف والحافر فكأنهم قالوا احملنا على كل شيء مما تيسر أو المراد احملنا ولو على نعالنا وأخفافنا مبالغة في المناعة ، ومحبة للذهاب معه. قوله : ( هم بنو مقرّن ) بكسر الراء المهملة المشذدة كمحدّث ، وهم سبعة أخوة كلهم صحبوا النبيّ ع!ي! قال القرطبي رحمه الله : وليس في الصحابة سبعة أخوة غيرهم ، وهذا القول عليه أكثر المفسرين وخص المصنف رحمه الله منهم ثلاثة بالمجيء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو قول مجاهد وأبو موسى هو الأشعري رضي الله عنه وأصحابه من أهل اليمن. قوله : ( حال من الكاف في أتوك بإضمار قد ) فيه وجوه من الأعراب منها أنه على حذف حرف العطف أي وتلت أو فقلت ، وقيل قلت : هو الجواب وتولوا مستأنف جواب سؤال مقدر وهو أحسن مما اختاره المصنف رحمه الله وأما العكس بأن يكون تولوا جوابا وهذه مستأنفة في جواب سؤال مقدّر كما في الكشاف فبعيد والمصنف رحمه الله اختار أنّ الأولى حاًل والجواب ما بعده ، وزمان الإتيان يعتبر واسعا كيومه وشهره(4/353)
ج4ص354
فيكون مع التولي في زمان واحد أو يكفي تسببه له ، وإن اختلف زمانهما كما ذكره الرضي في قولك إذا جئتني اليوم أكرمتك غداً أي كان مجيئك سببا لإكرامك غدا.
قوله : ( أي دمعها فإن من للبيان الخ ) أي يفيض دمعها فهو إشارة إلى أنه تمييز محوّل عن الفاعل ، وقال أبو حيان : لا يجوز كون محل من الدمع نصبا على التمييز لأنّ التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن وأيضا فإنها معرفة ولا يجيز كونها تمييزا إلا الكوفيون ، وقيل : إنه قفي إجازة الكوفيين وأمّا الأوّل فمنقوض بقولهم عز من قائل ونحوه وهذا وارد بحسب الظاهر وإن كان ما ذكره أبو حيان صرّج به غيره من النحاة فقالوا : لا يجوز جره إلا في باب نعم وحبذا ، ومن على كلامه بيانية لا تجريدية ، وقيل أصل الكلام أعينهم يفيض دمعها ، ثم أعينهم تفيض دمعاً وهو أبلغ الإسناد الفعل إلى غير الفاعل وجعله تمييزاً سلوكا لطريق التبيين بعد الإبهام
ولأنّ العبن نفسها جعلت كأنها دمع فائض ، ثم أعينهم تفيض من الدمع أبلغ من أعينهم تفيض دمعا بواسطة من التجريدية فإنه جعل أعينهم فائضة ، ثم جرد الأعين الفائضة من الدمع باعتبار الفيض ، وقد تابعه غيره على هذا ورد بأن من هنا للبيان لما أبهم مما قد يبين بمجزد التمييز لأنّ معنى تفيض العين يفيض شيء من أشياء العين كما أنّ معنى قولك طاب زيد طاب شيء من أشياء زيد ، والتمييز رفع إبهام ذلك الشيء فكذا من الدمع كما تبين كاف الخطاب في نحو قول المتنبي :
فديناك من ربع وان زدتنا كربا
وإذا كان من الدمع قائما مقام دمعاً كان في محل النصب على التمييز ، وأما حديث التجريد فلم يصدر عمن له معرفة بأساليب الكلام ، ومرّ في المائدة أنّ الفيض انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفلها يعني أن الفيض مجاز عن الامتلاء بعلاقة السببية ، فإن الثاني سبب للأوّل فالمجاز في المسند ، والدمع هو ذلك الماء المخصوص أو الفيض على حقيقته ، والتجوّز في إسناده إلى العين للمبالغة كجري النهر إذ الدمع مصدر دمعت العين دمعا ومن للأجل ، والسببية وتحقيقه مرّ في المائدة. قوله : ( حزناً نصب على العلة الخ ( إن قيل فاعل الفيض مغاير لفاعل الحزن فكيف سبب قيل إن الحزن والسرور يسند إلى العين أيضا يقال سخنت وقرّت عينه ، وأيضاً إنه نظر إلى المعنى إذ محصله تولوا وهم يبكون. قوله : ( أو الحال ( بمعنى حزينة والفعل المدلول عليه يحزنون حزنا ، وقوله : ( ولئلا ) بتقدير الجارّ قبله وتعلقه بحزنا إن لم يكن مصدر فعل مقدر لأنّ المصدر المؤكد لا يعمل ، وقد جوّز تعلقه به أيضا فيكون على جميع التقادير وتعلقه بتفيض قيل إنه على الأخيرين لأنه لا يكون لفعل واحد مفعولان لأجله وإبداله خلاف الظاهر ، ثم إن هذا بحسب الظاهر يؤيد كونه مندرجا تحت قوله : { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } ومغزاهم أي محل غزوهم أو مقصدهم وسبيلهم ، وقوله إنما السبيل بالمعاتبة لم يفسرد بالإثم كما مرّ ولو ضمه إليه كان أحسن ، وقيل قيده به ليصح الحصر ، ولذا قيل إنها للمبالغة وفيه نظر. قوله : ( واجدون للأهبة ( أي عدّة السفر ولوازمه وقيده به لخروج البكائين لأنهم أغنياء لكن لا أهبة لهم كما مرّ ، وقوله : ( استئناف ( أي جواب سؤال تقديره لم استأذنوا أو لم استحقوا للمعاتبة ،
ووخامة العاقبة سوءها وأصل الوخامة كثرة المرض ، وقوله لا يعلمون مغبته بفتح الغين المعجمة العاقبة كالغب أيضا أي عاقبة رضاهم بالقعود ، وقوله لأنه الضمير للشأن وأعلم إنّ قولهم لا سبيل عليه ، معناه لا حرج ولا عتاب وإنه بمعنى لا عاتب يمرّ عليه فضلا عن العتاب وإذا تعدّى!الى كقوله :
ألاليت شعري هل إلى أئم سالم سبيل فأنا الصبرعنها فلا صبر
فبمعنى الوصول كما قال :
هل من سبيل إلى خمرفأشربها أم من سبيل إلى نصربن حجاج
ونحوه فتنبه لمواطن استعماله فإنه من مهمات الفصاحة. قوله : ( لآنه لن نؤمن الخ ) يعني
قوله لن نؤمن لكم استئناف لبيان موجب لا تعتذروا ، وكذا قوله قد نبأنا الله استئناف آخر لبيان موجب لن نؤمن لكم كأنه قيل لا تعتذروا فقيل لم لا نعتذر فقيل لأنا لن نؤمن لكم أي نصدقكم في عذركم فقيل(4/354)
ج4ص355
لِمَ لَمْ تؤمنوا لنا فقيل لأنّ الله قد نبأ بما في ضمائركم من الشرّ ، وتعدبه نؤمن باللام مرّ بيانها. قوله : ( أعلمنا بالوحي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بعض أخباركم الخ ( نبأ يتعدى إلى مفعولين ، ويتعدى إلى ثلاثة كاعلم في المعنى والعمل ، وقد ذهب هنا إلى كل منهما طائفة والمصنف رحمه الله اختار أنها متعدية إلى اثنين الأوّل الضمير والثاني من إخباركم أما لأنه صفة المفعول الثاني ، والتقدير جملة من أخباركم أو هو من أخباركم لأنه بمعنى بعض أخباركم ، وليست من زائدة على مذهب الأخفش ، وليس نبأ متعديا لثلاثة ومن إخباركم ساد مسد مفعوليه لأنه بمعنى أنكم كذا وكذا كما قيل لبعده ، ولا الثالث محذوف لمنعه عندهم أو ضعفه ، ولذا قيل لو قال عرفنا كان أظهر. قوله : ( أتنيبون عن الكفر الخ ) يشير إلى أنّ رأي علمية وأنه ذكر أحد مفعوليه وتقدير الثاني أتنيبون عن الكفر أي ترجعون من الإنابة أم تثبتون عليه ، والمعنى سيعلم الله عملكم من الإنابة عن الكفر أو الثبات عليه علما يتعلق به الجزاء ولش! من التعليق ، وبين قوله أتنيبون بنون وباء موحدة وتثبتون بمثلثة وموحدة ومثناة تجنيس خطي ، وقوله : ( فكأنه استتابة وإمهال للتوبة ) لأنّ السين للتنفيس ففيه إشارة لما ذكر وقوله فوضع الوصف الخ يعني وضع عالم الغيب والشهادة موضع ضميره عر وجل ليدل على التهديد ، والوعيد وانه تعالى مطلع على سرّهم وعلنهم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم فيجازيهم على حسب ذلك. قوله : ( بالتوييخ والعقاب عليه ) يعني إعلامهم به وذكره لهم للتوبيخ أو المراد أن
الوقوع في جزائه كأنه إعلام لهم بما فعلوا وقوله فلا تعاتبوهم منصوب معطوف على تعرضوا ، وليس بنهي يعني المراد من حلفهم أن تعرضحوا عن معاتبتهم على ما فرط منهم ، وقوله : ) ولا توبخوهم ( نهي لهم عن لومهم وتقريعهم لعدم نفعه ولذا علله بقوله إنهم رجس يعني إنهم يتركون ويجتنب عنهم كما تجتنب النجاسة ، وهم طلبوا إعراضى صفح فأعطوا إعراض مقت ، وأمّا إنّ الإعراض في قوله لتعرضوا بتقدير للحذر عن أن تعرضوا على أنه إعراض مقت أيضاً فتكلف ، والتأنيث اللوم وأنبه بمعنى لامه ، وقوله بالحمل على الإنابة أي التوبة إشارة إلى معنى آخر في إطلاقه على اللوم ، وهو أنه حامل على التوبة وبين بعدم نفعه أنه بيان لسبب الإعراض! وترك المعاتبة. قوله : ( من تمام التعليل ) فالعلة نجاسة جبلتهم التي لا يمكن تطهيرها لكونهم من أهل النار في التقدير :
فاللوم يغريهم ولا يجديهم والكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
فاتركوا ما لا يفيد ، ولذا لم يعطف قوله من أهل النار في التفسير ، وقوله لا ينفع فيهم التوبيخ في الدنيا والآخرة يقتضي أنهم لا يوبخون مطلقا بل إن التوبيخ ووقوعه في الآخرة ليس لنفعهم بل لتعذيبهم وتحقيرهم فلا يرد أنه ينافي ما سبق في قوله : { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بالتوبيخ فالأولى ترك ذكر الآخرة إذ ليس الكلام في التوبيخ الأخروي ، وان أجيب عنه بأن في الدنيا ليس متعلقا بقوله بالتوبيخ بل بقوله لا ينفع فتدبر. قوله : ( أو تعليل ثان والمعنى الخ ) فعلل ترك التوبيخ بعلتين إحداهما أنه لا فائدة فيه فلا ينبغي الاشتغال به ، وبأنه إن كان لتنكيلهم فيكفي ما لهم في الآخرة نكالاً ، وقوله كفتهم عتابا على حد قولهم عتابك السيف ووعظك الصفع ، وقوله فلا تتكلفوا عتابهم إشارة إلى كونه علة مستقلة ، وجزاء مصدر لفعل تقديره يجزون ذلك ، وقيل لمضمون ما قبله فإنه في معناه فهو مفعول مطلق أو مفعول له أو حال من الخبر عند من جوزه. قوله : ( فإن رضاكم لا يستلزم رضا الله الخ ) يعني أنه نهى للمسلمين عن أن يرضوا عنهم مع أنّ الله لا يرضى عنهم فكان إرادتهم مخالفة لإرادة اللّه ، وذلك غير جائز قيل فقوله ورضاكم وحدكم لا ينفعهم ليس على ما ينبغي لأنّ رضاكم وحدكم لا يجوز فليس لعدم النفع معنى ، وأجيب عنه بأنّ المراد إن رضاكم وحدكم على تقدير تحققه لا ينفعهم فلا مؤاخذة عليه ومراده بيان ارتباط الجزاء بالشرط لأنّ عدم رضا الله عنهم ثابت قبل ذلك أي أن
ترضوا عنهم لا ينتج رضاكم لهم شيئا. قوله : ( وإن امكنهم أن يلبسوا الخ ) أي إن لبسوا عليكم حتى أرضوكم فهم لا يلبسون على الله حتى يرضى عنهم فلا يهتك أستارهم ، ويهينهم فالمقصود على الأوّل إثبات الرضا لهم ونفيه عن اللّه ، وعلى الثاني إثبات مسببه ونفيه فيكون قوله ترضوا كناية عن تلبيسهم على المؤمنين بالإيمان الكاذبة. قوله : ( والمقصود(4/355)
ج4ص356
من الآية الخ ) أي على الوجهين ، وقوله بعد الأمر بالإعراض لا ينافي ما مرّ من قوله ولا توبخوهم كما توهم. قوله : ( أهل البدو الخ ) العرب هذا الجيل المعروف مطلقا والإعراب سكان البادية منهم فهو أعم وفيل العرب سكان المدن والقرى ، والأعراب سكان البادية من العرب أو مواليهم فهما متباينان ويفرق بين جمعه وواحده بالياء فيهما ، والنسبة إلى البدو بدوي بالتحريك والحضر بفتحتين خلاف البادية ، وقوله لتوحشهم أي لبعدهم عن الناس وانفرادهم في البوادي ، وقساوتهم أي قساوة قلوبهم لعدم استماع الذكر والمواعظ ، وقوله : ( بأن لا يعلموا ( إشارة إلى تقدير الجار الذي يتعدى به أجدر وأعلم ونحوه. قوله : ) فرائضها وسننها ( أدخل السنن في حدود الله تغليبا لأنّ الحدود تخص! الفرائض أو الأوامر والنواهي لقوله تلك حدود الله فلا تعتدوها وتلك حدود الله فلا تقربوها ، وتيل المراد بها هنا بقرينة المقام وعيده على مخالفة الرسولءلج!ه في الجهاد ، وقيل مقادير التكاليف ، وأهل الوبر البادية لأنّ بيوتهم من وبر وشعر وأهل المدر وهو الطين الحاضرة لأنهم أهل البناء ، وقوله : ( يعدّ ( بفتح المثناة التحتية وكسر العين المهملة وتشديد الدال المهملة تفسير ليتخذه مغرماً أي يعده ويصيره ، وفسر النفقة بالصرف في سبيل الله والصدقة بقرينة المقام ، والمغرم الخسران بإعطاء ما لا يلزمه من الغرام وهو الهلاك ، وقيل أصل معناه الملازمة وقوله : ( لا يحتسبه قربة ( أي لا يتقرب به لله وأجره ولا يرجو عليه ثوابا لعدم إيمانه باللّه واليوم الآخر ، وقوله رياء أو تقية أي خوفا وفي نسخة وتقية. قوله : ( دوائر الزمان ونوبه الخ ( تفسير للدوائر لأنها جمع دائرة وهي النكبة والمصيبة التي تحيط بالمرء ونوب جمع نوبة وهو كالنائبة ما ينوب الإنسان من المصائب أيضا فتربص الدوائر انتظار
المصائب لينقلب بها أمر المسلمين ويتبذل فيخلصوا مما عذوه مغرماً. قوله : ( اعتراض بالدعاء عليهم ) وهو من الاعتراض بين كلامين كما فصل في محله ، وقوله : ( بنحو ما يتربصونه ( عدل عن قول الكشات بنحو ما دعوا به لأن ما صدر منهم ليس دعاء وان وجهه شراحه بما هو خلاف الظاهر كقول النحرير تربصهم يتضمن دعاءهم عليهم وهو غريب منه فالجملة على هذا إنشائية دعائية ، وعلى الوجه الأخير خدرية والدائرة اسم للنائبة وهي بحسب الأصل مصدر كالعافية والكاذبة ، أو اسم فاعل بمعنى عقبة دائرة والعقبة أصلها اعتقاب الراكبين وتناوبهما ، ويقال للدهر عقب ونوب ودول أي مرة لهم ومرة عليهم. قوله : ( والسوء بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة الخ ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا السوء وكذا الثانية في الفتح بالضم والباقون بالفتح ، وأمّا الأولى في الفتح وهي ظن السوء فاتفق السبعة على فتحها ، قال الفراء المفتوج مصدر والمضموم اسم ، وقال أبو البقاء : إنه الضرر وهو مصدر في الحقيقة كالمفتوج ، وقال مكي المفتوح معناه الفساد والمضموم معناه الهزيمة والضرر وظاهره إنهما اسمان ، وقوله : ( كقولك رجل صدق ) يعني إنه وصف بالمصدر مبالغة وأضيف الموصوف إلى صفته كقوله : { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ } اسررة مريم ، الآية : 28 ] وقد حكي فيه الضم فيقال رجل سوء ، وقوله : ( وفي الفتح بضم السين ( قد علمت أنه ليس على إطلاقه ، وبين الفتح والضم شبه طباق. قوله : ( سبب قربات ( القربة بالضم ما يتقرب به إلى الله ونفس التقزب فعلى الثاني يكون معنى اتخاذها تقرّبا اتخاذها سببا له على التجوّز في النسبة أو التقدير ، وعند الله إعرابه ما ذكر وجوز تعلقه بقربآت أي مقرّباً عند الله ، وقوله : ( وسبب صلواته !ك!ر ) إشارة إلى عطفه على تربات وقد جوز عطفه على ما ينفق أن يتخذ ما ينفق وصلوات الرسول عقي! قربات. قوله : ( لأئه صلى الله عليه وسلم !ن ددعوا للمتصدقين ) أي الذين يعطون الصدقة ، وأما الذي ياً خذها فمصذق من التفعيل وحمل الصلاة على معناها اللغوي ، وهو الدعاء مطلقا ليشمل دعاء الناس واستغفارهم ودعاء النبيّ ش!ر لبعضهم بلفظ الصلاة ، وهو من خصائصه ع!ي! لأنه حقه فله أن يجعله لغيره إذ الصلاة مخصوصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أنّ عز وجل مخصوص بالله ، وان كان يقال عزيز وجليل لغيره تعالى ، واختلف في الصلاة على غير الأنبياء والملائكة استقلالأ هل هو حرام أو
مكروه أو خلاف الأدب على أقوال المشهور منها الكراهة. قوله : ( كما قال صلى الله عليه وسلم اللهتم صل على * أبي أوفى(4/356)
ج4ص357
الخ ) ( 1 ( أخرجه أصحاب السنة غير الترمذي ، وأوفى بفتح الهمزة والفاء والقصر اسم عقبة الأسلمي من أصحاب بيعة الرضوان روى له البخاري وهو آخر من بقي من الصحابة رضوان الله عليهم بالكوفة سنة سبع وثمانين. قوله : ) شهادة من الله الخ ) معتقدهم مصدر ميمي بمعنى اعتقادهم ، وحرف التنبيه ألا وتوله والضمير لنفقتهم المعلومة من السياق أو لما التي هي بمعناها فهو راجع له باعتبار معناها فلذا أنث أو لمراعاة الخبر. قوله : ( والسين لتحقيقه ) أي . لتحقيق الوعد ، وتقدم أنّ السين في مثله تفيد التحقيق والتأكيد لأنها في الإثبات في مقابلة لن في النفي فتفيد ذلك بقرينة تقابلهما في الاستعمال ، وهذا هو المنقول عنهم ، وفي الانتصاف النكتة في إشعارها بالتحقيق أنّ معنى الكلام معها أفعل ، كذا وان أبطأ الأمر أي لا بد من ذلك ، وفيه تأمّل والإحاطة من في لأنّ الظرف يحيط بمظروفه. قوله : ( لتقريره الخ ) يعني أنّ معناه أنه غفور رحيم ، وهذا مقتضى فضله وكرمه فيكون مقرّرا لدخولهم في رحمته ، وكالدليل عليه أو أنه متضمن لمعناه فهو مؤكد له. قوله : ( قبل الأولى ) أي ومن الإعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً والثانية قوله : ( ومن الاعراب من يؤمن بالثه ( الخ ، وذو اليجادين لقب عبد الله بن نهم بضم النون المزني لقب به لأنه لما سار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قطعت أمه بجادالها وهو بكسر الباء الموحدة وبالجيم والدال المهملة كساء نصفين فاتزر بنصفه وارتدى بالآخر ومات في عصر النبيئ ع!ز ودفنه ع!يرو بنفسه وقال : " اللهم إتي أمسيت راضياً عنه فارض! عته " فقال عبد الفه بن مسعود رضي الله عته ليتني كنت صاحب الحفيرة ( 2 ( وفي الآية أقوال أخر. قوله : ( هم الذين صلوا إلى القبلتين الخ ) في السابقون وجوه من الاعراب أظهرها أنه مبتدأ لا معطوف على من يؤمن وخبره رضي الله عنهم الخ لا الأوّلون ولا من المهاجرين ، وهل المراد بهم جميع المهاجرين والأنصار
ومن بيانية لتقدمهم على من عداهم أو بعضهم ومن تبعيضية قولان اختار المصنف رحمه الله الثاني واختلف في تعيينهم على ما ذكره المصنف رحمه الله ، فإن قلت لا وجه لتخصيص المهاجرين بالصلاة إلى القبلتين وشهود بدر لمساواة الأنصار لهم في ذلك قلت المراد تعيين سبقهم لصحبته ومهاجرتهم له صلى الله عليه وسلم على من عداهم من ذلك القبيل ، فمن لحق--النبيئ !تهخت بالمدينة ، وهاجر قبل تحويل القبلة وقبل بدر كانت هجرته سابقة على هجرة غيره ، ومن شهد العقبتين أو أجاب دعوة مصعب رضي الله عنه كان أسبق وأرسخ قدما من غيره من الأنصار رضي الله عنهم فلا تضر تلك المشاركة وتقديم المهاجرين لفضلهم على الأنصار كما ذكر في قصة السقيفة ، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه لأنه أوّل من هاجر معه صلى الله عليه وسلم ، وقيل إنه سكت عن اشتراك الأنصار في القبلتين وشهود بدر لظهور أمره ولا وجه له فالصواب ما قدمناه. قوله : ( أهل بيعة العقبة الأولى ( كانت في سنة إحدى عشرة من البعثة والثانية في سنة اثنتي عشرة وفي عدد من بايع بها وذكره بسط في السير ، وأما حديث مصعب رضي الله عنه فهو أنّ أهل البيعة الثانية لما انصرفوا بعث معهم رسول اللهءلمجييه مصعب بن عمير رضي الله عنه ابن هاشم بن عبد المناف إلى المدينة يقرئهم القرآن ، ويفقههم في الدين فأسلم منهم خلق كثير ، وهو أوّل من جمع بالمدينة أي صلى الجمعة ، وقوله : ( وقرئ بالرفع الخ ( فيكون جميع الأنصار محكوما عليهم بالرضا بخلاف بزاءة الجر وفيه تأمّل. قوله : ( اللاحقون بالسابقين من القبيلتين الخ ) من القبيلتين متعلق باللاحقين والسابقين على التنازع ، أو باللاحقين فقط لأنّ تقييد السابقين به علم مما مرّ فالاتباع بالهجرة والنصرة ، وعلى الوجه الثانى بالإيمان والطاعة لشموله لجميع المؤمنين ، وقال بعض السلف : إنه تعالى أوجب لمتقدميئ الصحابة رضي الله عنهم الجنة مطلقا وشرط لمتبعيهم شرطا وهو الأعملى الصالحة ، وقوله بقبول طاعتهم بيان لمعنى رضا الله وهو ظاهر ، وأما رضا العبد عن ربه فمجاز عن كونه مستغرقا في نعمه ذاكراً لها ، وقوله : ) في سائر المواضع ( في الدر المصون وأكثر ما جاء في القرآن موافق لقراءة ابن كثير وقوله : ( حول بلدتكم ( تفسير للمعنى المراد أو تقدير للمضاف. قوله : ( عطف
على ممن حولكم ) فيكون كالمعطوف عليه خبراً عن قوله منافقون كأنه(4/357)
ج4ص358
قيل المنافقون من قوم حولكم ومن اهل المدينة وهو من عطف المفردات ، ويكون قوله مردوا الخ جملة مستأنفة أو صفة لقوله منافقون لسكن فيه الفصل ب ق الصفة وموصوفها ولذا عد بعيدأ أو الكلام تم عند قوله منافقون من أهل المدينة خبر مقد! والمبتدأ بعده محذوف تامت صفته مقامه وحذف الموصوف ، واقامة صفته مقامه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه مقيس شائع نحو منا ظعن ، ومنا أقام كما تقرّر في النحو وقد مرّ تحقيقه ، والتقدير ومن أهل المدينة قوم ماردون على النفاق ، وما قيل جرت العادة بتقدير الموصوف في الثاني فعلاً كان أو ظرفا دون التقدير في الأوّل ليكون باقياً على أصله من التقديم لا يخفى ما فيه من القصور وقد سبق رده فتذكر. قوله : ( ونظيره في حذف الموصوف الخ ) هو نظير له في مطلق حذف الموصوف بالجملة لا في خصوصه لأن حذت الموصوف بعد مجرور بمن ، وهو بعضه مقيس وبدونه كما في البيت ضرورة ، أو نادر فلا يرد عليه الاعتراض بأنه ليس مما نحن فيه. قوله : ) أنا ابن جلا الخ ( هو بيت هكذا :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
وهو من قصيدة لسحيم بن وثيل الرياحي وفيه للنحاة تأويلات فقيل إن الفعل والضمير المستتر فيه صار علما فحكي كما تحكى الجمل ، وقيل إنه فعل فقط سمي به ولم يصرف وقيل جلا مصدر مقصور معناه انحسار الشعر عن الرأس أي أنا ابن ذي جلا أي انحسار شعر رأسه لكثرة وضع البيضة عليه ، أو جعل نفس الانجلاء مبالغة وعلى هذه الأقوال لا شاهد فيه ، والمشهور أنه فعل ماض بمعنى بين وأظهر غير منقول إلى العلمية والمعنى أنا ابن رجل كشف الأمور الشدائد وأوضحها بمباشرته لها ، وطلاع الثنايا جمع ثنية وهي العقبة كناية عن ارتكاب عظائم الأمور كما يقال طلاع أنجد جمع نجد وقوله متى أضع العمامة يعرفوني أي لانحسار شعر رأسي ، أو أنه يريد كثرة مباشرة الحرب فلا يراه الناس إلا بغير عمامة ولا يعرفونه إلا بزقي المحارب ، أو متى حاربت عرفت بشجاعتي واقدامي على الحرب ، وقوله : ) كلام مبتدأ ) أي مستأنف استئنافا نحويا أو بيانياً كأنه قال : ما دأبهم ووصفهم فقيل مردوا الخء قوله : ( تمرئهم وتمهرهم في النفاق ( يشير إلى أن أصل معنى التمرّد التمرن أي الاعتياد والتدزب في الأمر حتى يصير ماهراً فيه لاتخاذه صنعة ودينا له ، ولذا خفي نفاقهم عليه لمجب! مع كمال فطنته وفراسته ،
وقال الراكب : إنه من قولهم شجرة مرداء أي لا ورق عليها أي إنهم خلوا. من الخير ، وروى أهل الجنة جرد مرد ، وهو محمول على ظاهره أو المراد أنهم خالصون من الشوائب والقبائح وصرج ممرّد أي مملس كما قال :
في منزل شيدبنيانه يزل عنه ظفر الطائر
قوله : ( لا تعرفهم بأعيانهم الخ ) وان عرفهم إجمالاً قيل والظاهر المناسب لا تعرف نفاقهم والتنوّق كالتأنق التصنع ، والتكلف بإظهار النيقة وهي الحذق وما يعجب الناظر ، وفي المثل خرقاء ذات نيقة ، والتحامي الاجتناب والتلبيس عليه بالاعتذار والحلف. قوله : ( بالفضيحة والقتل الخ ) اختلف في المرتين على أقوال ذكر المصنف رحمه الله منها ثلاثة ، وقيل المراد التكثير كقوله : { ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ سورة الملك ، الآية : 4 ] لقوله : { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ } [ سورة التوبة ، الآية : 1126 وقال الآمدي الأوّل عذاب الدنيا مطلقاً والثاني عذاب الآخرة والقتل إئا فرضيّ إذا أظهروا النفاق أو المراد خوفه وتوقعه ، ونهكه المرض بمعنى أضناه وأثقله فالمراد به ظاهره لأنّ المرض كفارة للمؤمن وعقوبة عاجلة لغيره ، أو المرض المعنوي وهو ما في قلوبهم. قوله : ( وآخرون اعترفوا الخ ( معطوف على منافقون أي وممن حولكم آخرون أو من أهل المدينة آخرون ويجوز أن يكون مبتدأ واعترفوا صفته وخبره خلطوا كذا قال المعرب وغيره وقيل عليه أنه يقتضي إن اعترافهم مفروغ منه والمقصود بالإفادة غيره ، وليس كذلك إذ هو المقصود بالإفادة فآخرون مبتدأ وهو الخبر وسوغ الابتدا أنه صفة موصوف مقدر وفيه نظر لأنّ اعترافهم شاهد بربطهم أنفسهم فالمقصود بيان أنهم ممن تاب الله عليه فلا وجه لما ذكر. قوله : ( وهم طائفة من المتخلفين الخ ) اختلف في عددهم هل هم خمسة أو ثلاثة أو عشرة ، وهلى هم منافقون أو لا لكنهم اتفقوا على أن أبا لبابة رضي الله(4/358)
ج4ص359
عنه منهم وأنه ممن أوثق نفسه ، وسواري جمع سارية وهي العمود ، وقوله : ( على عادته ) هي أنه إذا قدم صلى الله عليه وسلم من سفر دخل المسجد وصلى ركعتين قبل دخول منزله ، وحديث السواري أخرجه ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس ) 1 ( رضي الله عنهما وهذه صلاة الفتح وهي سنة.
قوله : ( والواو إما بمعنى الباء الخ ) الشاة الواحدة من الغنم ذكراً أو أنثى ضأناً أو معزاً وتطلق على الظباء ، وجمعها شاء بالمد والهمزة آخره وهمزة بدل من الهاء بدليل جمعه على شياه وليس هذا محل بيانه وكونه الواو بمعنى الباء نقلوه عن سيبويه رحمه الله ، وقالوا إنه استعارة لأنّ الباء للإلصاق والواو للجمع وهما من واد واحد ، وقال ابن الحاجب رحمه الله : أصله شاة بدرهم أي كل شاة بدرهم وهو بدل من الشاء أي مع درهم ، ثم كثر فأبدلوا من باء المصاحبة واواً فوجب نصبه واعرابه بإعراب ما قبله كقولهم كل رجل وضيعته ، وهو تكلف ولذا قالوا إنه تفسير معنى لا إعراب. قوله : ) أو للدلالة على أنّ كل واحد منهما مخلوط بالآخر ) في الكشاف كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر كقولك خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه ، وفيه ما ليس في قولك خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به ، وإذا قلته بالواو وجعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت خلطت الماء باللبن واللبن بالماء ، وفي الانتصاف التحقيق في هذا أنك إذا قلت خلطت الماء باللبن فالمصرّح به الكلام أنّ الماء مخلوط ، واللبن مخلوط به ، والمدلول عليه لزوما لا صريحاً كون الماء مخلوطا به واللبن مخلوطاً ، وإذا قلت خلطت الماء واللبن فالمصرّج به جعل كل واحد منهم مخلوطأ ، وأما ما خلط به كل واحد منهما فغير مصرّج به بل من اللازم أنّ كل واحد منهما له مخلوط به محتمل أن يكون قرينه أو غيره ، فقول الزمخشرقي : إنّ قولك خلطت الماء واللبن يفيد ما يفيده مع الباء وزيادة ليس كذلك فالظاهر أنّ العدول في الآية عن الباء لتضمين الخلط معنى العمل كأنه قيل عملوا صالحا وآخر سيئا ، تال النحرير رحمه الله : يريد أن الواو كالصريح في خلط كل بالآخر بمنزلة ما إذا قلت خلطت الماء باللبن ، وخلطت اللبن بالماء بخلاف الباء فإنّ مدلولها لفظاً ليس إلا خلط الماء مثلا باللبن ، وأما خلط اللبن بالماء فلو ثبت لم يثبت إلا بطريق الالتزام ودلالة العقل ، وتقرير صاحب المفتاح قريب من هذا حيث جعل التقدير خلطوا عملاً صالحا بسيء وآخر سيئأ بصالح إلا أنه جعل الصالح والسيىء في أحد الخلطين غيرهما في الآخر حيث قال بأن أطاعوه وأحبطوا. الطاعة بكبيرة وأخرى عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة فالمخلوط على هذا ما يقابل المخلوط سواء كان هو المذكور بعد الواو وبالعكس أو لا بخلاف تقدير المصنف رحمه الله فإنه ذلك المذكور البتة حتى لا يجوز عنده خلطت الماء واللبن بمعنى خلطت الماء
بغيره سواء كان اللبن أو غيره ، وخلطت اللبن بغيره سواء كان الماء أو غيره ويجوز عند السكاكي ، وقال غيره إنّ هذا نوع من البديع يسمى الاحتباك وهو مشهور ( وفيه بحث ) لأنّ اختلاط أحدهما بالآخر مستلزم لاختلاط الآخر به ، وأمّا خلط أحدهما بالآخر فلا يستلزم خلط الآخر به لأن خلط الماء باللبن مثلاً معناه أن يقصد الماء أوّلاً ويجعل مخلوطا باللبن ، وهو لا يستلزم أن يقصد اللبن أولاً بل ينافيه فخلط العمل الصالح بال!يىء معناه أنهم أتوا أوّلاً بالصالح ، ثم استعقبوه سيئا وخلط السيىء بالصالح معناه أنهم أتوا أوّلاً بالسيىء ، ثم أردفوه بالصالح فأحدهما لا يستلزم الآخر كما قال : وهو يرجح ما ذهب إليه السكاكي لكن ما ذكره من الإحباط مبنيّ على مذهب المعتزلة فتدبر. قوله : ( أن يقبل توبتهم الخ ) التوبة إذا أسندت إلى العبد معناها ظاهر ، وإذا أسندت إلى الله فمعناها قبولها لأنّ أصل معناها العود فالعبد يعود إلى الطاعة والله يعود بإحسانه وتفضله عليه. قوله : ( وهي مدلول عليها بقوله اعترفوا بذنوبهم ) لما كانت التوبة من الله بمعنى قبول التوبة تقتضي صدور التوبة عنهم جعل الاعتراف دالاً عليها لأنه توبة إذا اقترن بالندم والعزم على عدم العود وكذا لو قدر فتابوا عسى الله أن يتوب عليهم وقوله : ( روي الخ ) أخرجه ابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما ) 1 ( ، وقوله : ( فتمدّق بها ) أي ضعها مع الصدقات فيما تريد. قوله تعالى : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } الخ جوّزوا في ضمير تطهرهم أن يكون خطابا للنبيّ صلى الله(4/359)
ج4ص360
عليه وسلم وأن يكون للغيب وضحمير المؤنث للصدقة ، فعلى الأوّل الجملة في محل نصب على الحال من فاعل خذ ، ويجوز كونه صفة صدقة بتقدير بها لدلالة ما بعده عليه ، وأما تزكيهم فالتاء للخطاب لا غير لقوله بها إذ جعله للصدقة ركيك لا يليق أن يحمل عنيه وتفصيله في كتب الإعراب. قوله : ( أو حب المال المؤدّي بهم إلى مثله ) أي مثل ما صدر عنهم من التخلف ، وليس كناية من التخلف كقولهم مثلك لا يبخل إذ لا حاجة إليه وتطهير الذنوب تكفيرها ، وتطهير حب المال إخراجه من قلوبهم ، ولذا ورد أنّ الصدقة أوساخ الناس ، ولم يحل له ىلمجي! واختلف في المأمور به في الآية فقيل الزكاة ، ومن تبعيضية وكانوا أرادوا التصدق بجميع مالهم فأمره الله بأخذ بعضها لتوبتهم لأنّ الزكاة لم تقبل من بعض المنافقين فترتبط بما قبلها ، وان أريد الزكاة فهو عام ، وإن خص سببه وقيل : ليست هذه الصدقة المفروضة بل هم لما تابوا أبذلوا جميع مالهم كفارة للذنب
الصادر منهم فأمره الله بأخذ بعضها ، وهو الثلث وهذا مروي عن الحسن ، وهو المختار عندهم ، وقوله تنمي من الإنماء وهو الزيادة ، وقوله : ( ترفعهم الخ ( فيه إشارة إلى أنهم كانوا منافقين وفيه خلاف تقدّم. قوله : ( واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم الخ ) يعني أنّ الصلاة هنا بمعنى الدعاء ، وعدى بعلى لما فيه من معنى العطف لأنه من الصلوين وألا فالدعاء لا يتعدى بعلى إلا للمضرة ، وهو غير مراد هنا ، وتفسيره بصلاة الميت بعيد هنا وان روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولذا استدل به على استحباب الدعاء لمن يتصدق. قوله : ( تسكن إليها نفوسهم الخ ( السكن السكون ، وما يسكن إليه من الأهل والوطن فإن كان المراد الأوّل فجعلها نفس السكن ، والاطمئنان مبالغة ، وهو الظاهر وان كان الثاني فهو مجاز بتشبيه دعائه في الالتجاء إليه بالسكن ، ووجه جمع صلاة لأنها اسم جنس والتوحيد لذلك أو لأنها مصدر في الأصل. قوله : ( الضمير أما للمتوب عليهم الخ ) يعني إذا قصد هؤلاء ، وقد مرّ ما يشير إلى قبول توبتهم فذكره هنا تمكيناً لذلك في قلوبهم ، فالاستفهام للاستبطاء لتوبتهم ، وان كان لغيرهم من المنافقين فهو توبيخ وتقريع لهم على عدم التوبة وترغيب فيها ، وازالة لما يظنون من عدم قبولها ، وقرىء بالتاء وهو على الأوّل التفات ، وعلى الثاني بتقدير قل ويجوز أن يكون الضمير للمنافقين والتائبين معاً للتمكين والتخصيص.
تنبيه : قال النووي في شرح مسلم قال الفقهاء : الدعاء لدافع الزكاة سنة لا واجب خلافاً لبعض الشافعية عملاً بظاهر الآية واستحب الشافعيّ رحمه الله أن يقول في دعائه آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهور وبارك لك فيما أبقيت والصحيح أنه لا يستحب انتهى. قوله : ) وهو يقبل التوية ( الضمير إما للتأكيد أوله مع التخصيص بمعنى أنّ الله يقبل التوبة لا غيره بمعنى أنه يفعل ذلك ألبتة لما سبق من أنّ ضمير الفصل يفيد ذلك والخبر المضارع من مواقعه ، وقيل التخصيص بالنسبة إلى الرسول لمجبب! بمعنى أنه يقبل التوبة لا رسوله ع!ب! لأنّ كثرة رجوعهم إليه مظنة لتوهم ذلك وقوله : ( إذا صحت ) بيان لنفس الأمر لأنّ غيرها لا يقبل بل لا يسمى توبة ، وتعديته القبول بعن لتضمنه معنى التجاوز والعفو عن ذنوبهم التي تابوا عنها وليس المعنى أنّ التوبة إذا قبلت فكأنها تجاوزت عته كما توهم ، وقيل عن هنا بمعنى من. قوله : ( بقبلها قبول من يأخذ الخ ( يعني أنّ الأخذ هنا استعارة للقبول والإثابة لا كناية كما قيل لأنّ الكريم والكبير
إذا قبل شيئا عوض عنه إذ الأخذ هو الرسول صلى الله عليه وسلم لا الله تعالى وقد يجعل الإسناد إلى الله مجازا مرسلاَ ، وقيل في نسبة الأخذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله خذ ثم إلى ذاته تعالى إشارة إلى أنّ أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قائم مقام أخذ الله تعظيماً لشأن نبيه صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ سورة الفتح ، الآية : 0 ا ] فهو على حقيقته ولا يخفى ما فيه من البعد في إدعاء الحقيقة وان كان ما فهمه معنى حسنا. قوله : ( وإن من شأنه قبول توبة التائبين الخ ) هو مأخوذ من صيغة المبالغة التي تفيد تكرّر ذلك منه وأنه شأن من شؤونه وعادة من عوائده أي إنه يقبل ذلك كما علمتم أنه شأنه وعادته ، ولولا الحمل على هذا لكان لغوا وقد تكلف من قال إنه جعل الواو في قوله وانّ الله ابتدائية والمقصود التعليل ، وقيل الواو للعطف على مقدر كأنه قيل إنّ الله هو البر الرحيم فيكون تعليلاً(4/360)
ج4ص361
لكناية القبول عن إعطاء الثواب وحذف أداة التعليلى لأنه قياسيّ ، وتقديمه على ما ذكر في تعليل قبوله للتقريب بين التعليل والمعلل مهما أمكن وقيل عليه إنه لا حاجة إلى الاعتذار عن حذف أداة التعليل لإمكان تقديرها في المعطوف عليه المقدر وكل ذلك من ضيق العطن. قوله : ( فإنه لا يخفى عليه الخ ) يعني المراد بالرؤية الاطلاع عليه ، وعلمه علما جليا مكشوفا له وعلمه كناية عن مجازاته ، وأما جعل الرؤية حقيقية وأنه يرى المعاني فلا حاجة إليه لتكلفه ، وإن كان بالنسبة إليه غير بعيد وقوله فإنه تعالى لا يخفى من الإخفاء أي لا يخفى ذلك عنهم بل يعلمهم به كما تبين لهم من تفضيح بعض وتصديق آخرين ، وفي هذه الآية وعد ووعيد ، ولذلك قيل إنها أجمع آية في بابها ، وقوله بالمجازاة إشارة إلى أن الأنباء مجاز عن المجازاة أو كناية. قوله تعالى : ( وسترذون إلى عالم الغيب والشهادة ) قال بعض المفسرين : الغيب ما يسرونه من الأعمال والشهادة يظهرونه كقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ سررة البقرة ، الآية : 77 ] فالتقديم لتحقيق أنّ نسبة علمه المحيط بالسر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده لا لإيهام أنّ علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يعلنون كيف لا وعلمه سبحانه بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى ، وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة ، ورده بعض فضلاء العصر فقال : لا يخفى عليك انّ هذا قول يكون علمه تعالى حضوريا لا انطباعيا وحصوليأ وقد زيفوه وأبطلوه لشمول علمه تعالى للممتنعات ، والمعدومات الممكنة والعلم الحضوري يختص بالموجودات العينية لأنه حصول المعلوم بصورته العينية عند العالم فكيف لا يختلف الحال فيه بين الأمور البارزة والكامنة مع أن الكامنة تشمل المعدومات ممكنة كانت أو ممتنعة ولا يتصوّر فيها التحقق في نفسها حتى تكون علما له تعالى ، وتحقيق علمه الواجب بالأشياء من المباحث المشكلة والمسائل المعضلة ، ولو أمسك هذا القائل عن
أمثال هذه المطالب لكان خيراً له إذ بالتفوه بأمثال هذه المزيفات ، تبين أنه لم يحم حول ما تقرّر عندهم من التحقيقات ، وقد حققناه في بعض تعليقاتنا بما لا مزيد عليه انتهى ، وهذا ذهول عن مراده والذي أوهمه ما أوهمه قعاقع ألفاظه وتطويله بلا طائل كما هو عادته في التشبه بالحرائر. قوله : ( وآخرون من المتخلفين الخ ) اختلف في المراد بآخرين هنا فقيل هم هلال بن أمية وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهو المروي في الصحيحين ، والمنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وكبار الصحابة رضي الله عنهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق ولا شك وارتياب كما في السير وإنما كان لأمر مع الهم باللحاق بهم فلم يتيسر ذلك فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان ما مرّ من المعذرين قال : هؤلاء لا عذر لنا إلا الخطيئة ، ولم يعتذروا له صلى الله عليه وسلم فأمر المسلمين باجتنابهم فاجتنبوهم واعتزلوا نساءهم فنزلت يعني آية العفو عنهم وتعذيبهم إلى الله ، وإنما اشتذ الغضب عليه مع إخلاصهم والجهاد فرض! كفاية لما نقل عن ابن بطال في الروض الأنف وارتضاه أنه كان على الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه ألا ترى قول راجزهم في الخندق :
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وهؤلاء من أجلهم فكان تخلف هؤلاء كبيرة فإذا عرفت أن هؤلاء من كبار الصحابة رضوان الله عليهم وأنهم من المخلصين كما صرّحوا به فقول المصنف رحمه الله إن أصروا على النفاق لا ينبغي أن يصدر مثله عن مثله ومن قال : إنّ هذه الآية في المنافقين كما هو قول للحسن وغيره لم يفسره بهؤلاء ، وما قيل إنّ كلامه محمول على ما يشبه النفاق فهو بعيد ودعوى بلا دليل. قوله : ( مرجون بالواو الخ ) قرىء في السبعة مرجؤون بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة وقرىء مرجون بدون همزة كما قرىء ترجى من تشاء بهما ، وهما لغتان يقال أرجأته وأرجيته كأعطيته ، ويحتمل أن تكون الياء بدلاً من الهمزة كقولهم قرأت وقربت وتوضأت وتوضيت وهو في كلامهم كثير وعلى كونه لغة أصلية فهو يائيّ ، وقيل إنه واوي. قوله : ( والترديد للعباد وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادة الله تعالى ) يعني إما كأو لوقوع أحد الأمرين(4/361)
ج4ص362
والله تعالى علم بما يصير إليه أمرهم والتردد منه تعالى محال فهو للعباد إذ خوطبوا بما يعلمون والمعنى ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء والخوف ، والمراد تفويض ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته إذ لا يجب عليه تعذيب العاصي ، ولا مغفرة التائب ولذا قيل إنها هنا للتنويع أي أمرهم دائر بين هذين الأمرين وهو أولى مما ذكره المصنف رحمه الله وقوله : ( والمراد الغ ( مر
ما له وعليه. قوله : ( عطف على وآخرون الخ ) قيل إنه على الوجه الثاني من إعرابه فهو مبتدأ خبره من أهل المدينة ، وإذا كان مبتدأ فخبره محذوف ونصبه على الاختصاص أي القطع وهو منصوب بمقدر كأذم واعني ، وليس هذا الاختصاص الذي اصطلح عليه النحاة ، وقطع المعطوف فيه تفصيل سبق في سورة البقرة ، وعلى قراءة ترك الواو ويحتمل ما مرّ من الوجوه وأن يكون بدلاً من آخرون على أحد التفسيرين ، وفيه وجوه أخر مفصلة في إعراب السمين وغيره. قوله : ( ضرارا ) مفعول له وكذا ما بعده ، وتيل مصدر في موضع الحال أو مفعولاً ثانيا لاتخذوا ، وقوله مضارّة أي بتفريق الجماعة وأشار إلى أنه مصدر من المفاعلة. قوله : ( روي إلخ ( قال العراقي رحمه اللّه : هكذا ذكره الثعلبي بدون سند وروى بعضه ابن مردوية وابن جرير ، وقباء بضم القاف والمد محل بقرب المدينة ويجوز فيه الصرف وعدمه ، وقوله : ) فحسدتهم إخوانهم ) سماهم إخوانا لأنهم أبناء أخوين وأبو عامر الراهب هو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم ا!فاسق من أهل المدينة تر!ب في الجاهلية فلما قدم النبيّ ع!ر إلى المدينة قال لى ما هذا الذي جئت به قال : " الحنيفية البيضاء دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام " قال أبو عامر فأنا عليها فقال له : إنك لست عليها ، قال : بلى ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية " فقال : أبو عامر أمات الله الكاذب منا فريدأ وحيدا فأفن النبيئ مجش!ه فمات أبو عمار كذلك بقنسرين ) 1 ( ، وقوله : ) إذا قدم من الشأم ( أي لأنه هرب ليأتي بجنود قيصر لحرب النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يأتي ، وقوله لذي الحاجة أي من شغلته حاجته عن المضي للجماعة حتى ضاق الوقت ، والعلة يعني المرض! ، والمطيرة بفتح الميم ذات المطر ، وقوله : ( فأخذ ثوبه ) اختصار لما في الكشاف من أنه كان قبل ذهابه لمجر لتبوك فقال : " إئي على جناح سفر وحال شغل فإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه " فلما أتى لمجتن من تبوك أتوه وسألوه ذلك فدعا ع!ي!
بقميصه وهم بذلك فنزل عليه الوحي ) 1 ( بما ذكر ، وقوه : ( والوحشئ ) كذا في النسخ والصواب وحشيّ بدون أل ، وقوله : ) واتخذ مكانه الخ ( أي جعل محلا لالقاء الكناسة به. قوله : ( وتقوية للكفر الذي يضمرونه الخ ) قيل الكفر يصلح أن يكون علة فما الحاجة إلى تقدير التقوية فيه وكأنه إنما تدره لأنّ اتخاذه ليس كفراً بل مقوّلة لما اشتمل عليه ، وقنسرين بكسر القاف وتشديد النون مكسورة ومفتوحة بلدة بالشأم ، وقيل من بلاد الروم لأنها كانت إذ ذاك في أيديهم. قوله : ( ومن قبل متعلق بحارب أو باتخذوا الخ ) تصوير للمعنى وبيان للمضاف المقدر على هذا الوجه ، وهو قبل أن ينافقوا أي ظهروا والنفاق وعلى الوجه الآخر تقديره من قبل الاتخاذ ، وقوله لما روي تأييد للثاني وقوله على جناج سفر أي آخذين في السفر شارعين فيه استعارة من جناح الطائر ، وقفل بمعنى رجع ومنه الفاعلة تفاؤلاً وكزر مبنيئ للمجهول أي كرّر عليه السؤال في ذلك. قوله : ( ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى الخ ( فإن نافية والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة الخصلة فهو مفعول به وعلى تقدير الإرادة فهو مصدر قائم مقامه منصوب على المصدرية أي إلا الارادة الحسنى ، والمراد بالإرادة المراد فلذا وصفها بالحسنى وفسرها بنحو الصلاة ، وهكذا وقع في الكشاف وقد حرفه بعضهم فظن أن العبارة إلا لارادة الحسنى بلام الجرّ التعليلية وقال : إنه وجه متكلف ، وقوله في حلفهم أي ما حلفوا عليه ، وقوله : ( للصلاة ( بيان للمعنى المراد ، ويحتمل أن يكون القيام مجازاً عن الصلاة كما في قولهم فلأن يقوم الليل ، وفي الحديث من قام رمضان إيمانا واحتساباً. قوله : ( يعني مسجد قباء أسسه الخ ( اختلف
السلف في المراد بالمسجد في هذه الآية فرجح المصنف رحمه الله كونه مسجد قباء لظاهر قوله تعالى من أول يوم إذ لا يراد أوّل الأيام(4/362)
ج4ص363
مطلقا بل أوّل أيام الهجرة ، ودخول المدينة المنوّرة لأنه بنى قبل مسجد المدينة وقوله : ( وفيه رجال يحبون أن يتطهروا ) ولأنه أوفق بالمقام لأنه بقباء كمسجد الضرار ، والقول الثاني إن المراد به مسجدهءشر بالمدينة لما روي فيه من الأحاديث الصحيحة ، وحديث أبي سعيد ( 1 ( رضي الله عنه الذي ذكره المصنف رحمه الله مخرّج في مسلم ، وقد جمع الشريف السهروردي رحمه الله بين الأحاديث ، وقال : كل منهما مراد لأنّ كلا منهما أسس على التقوى من أوّل يوم تأسيسه ، والسرّ في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك مما في إلحديث دفع ما يوهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء والتنويه بمزية هذا عن ذلك ، وهو غريب هنا وقد سبقه إليه السهيلي في الروض الأنف ، واللام في قوله لمسجد لام ابتداء أو قسم وعلى قيل إنها بمعنى مع والأبلغ إبقاؤها على ظاهرها وجعل التقوى أساسا له. قوله : ( من أوّل يوم من أيام وجوده ) أي هو أوّل يوم من أيام وجود بنائه وتأسيسه ، وإنما قيد به لظهور أنه لم يؤسس على التقوى من أوّل يوم من مطلق الأيام ، والمعنى أنّ تأسيسه على التقوى كان مبتدأ من أوّل يوم من أيام وجوده لا حدثا بعده ، قال السهيلي : نور الله مرقده في الآية من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله عنه حين شاورهم في التاريخ فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام ، والحين الذي أمن فيه النبيّ ع!ي! وبنيت المساجد وعبد الله كما يحب فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أن ذلك اليوم هو أوّل أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن فإن كان الصحابة رضوان الله عليهم أخذوه من هذه الآية فهو الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله ، وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات ، وإن كان ذلك على رأي واجتهاد فقد علمه الله ، وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أؤل يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ معلوم ، وليس ههنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال فتديره ففيه معتبر لمن اذكر ، وعلم لمن رأى بعين فؤإد واستبصر. قوله : ) ومن يعم الزمان والمكان ( هذا مذهب الكوفيين وأنها للابتداء مطلقاً ولهم أدلة من القرآن كهذه الآية ، وقوله لته الأمر من قبل ومن بعد ومن كلام العرب كما فصل في النحو منع البصريون دخولها على الزمان ، وخصوه بمذ ومنذ
وتأوّلوا الآية بأنها على حذف مضاف أي من تأسيس أوّل يوم وقدروا مثله فيما ورد من كلامهم ، وقال أبو البقاء : أنه ضعيف لأنّ التأسيس المقدر ليس بمكان حتى يكون لابتداء الغاية وسبقه إليه الزجاج ( قلت ) إنما فروا من كونها لابتداء الغاية في الزمان وليس في كلامهم ما يدل على أنها لا تكون لابتداء الغاية إلا في المكان ، وقال ابن عطية : يحسن عندي أن يستغني عن التقدير وأن من جرّب أوّل لأنه بمعنى البداءة كأنه قال : من مبتدأ الأيام وفيه نظر ، وقيل إنّ من هنا تحتملى الظرفية أي في أوّل يوم فلا يكون فيها شاهد لهم وسبقه إليه بعض المحققين حيث قال لا أرى في الآية ونظائرها معنى الابتداء إذ المقصود من الابتداء أن يكون الفعل شيئا ممتداً كالسير والمشي ومجرور من منه الابتدائية نحو سرت من البصرة أو يكون أصلا لشيء ممتد نحو خرجت من الدار إذ الخروج ليس ممتد أو ليس التأسيس ممتدا ، ولا أصلاً لممتدّ بل هما حدثان واقعان فيما بعد من وهذا معنى في ومن في الظروف كثيراً ما يقع بمعنى في وللنظر في هذا كله مجال. قوله : ( لمن إلى آخر البيت ) وهو :
لمن الدياربقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر
وهو مطلع قصيد لزهير بن أبي سلمى يمدح بها هرم بن سنان وبعده :
لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوا في المورق القطر
فغدا بمندفع النجائب من صفوا أولات الضال والسدر
دع ذا وعد القول في هرم خيرالبداة وسيد الحضر الخ
والقنة بضم القاف وتشديد النون أعلى الجبل والحجر بكسر الحاء وسكون الجيم والراء المهملة بلاد ثمود(4/363)
ج4ص364
وبفتح الحاء محل باليمامة ، وقد ضبط بهما هنا وصوّب ابن السيد الثاني رواية وقال : الأوّل غلط وقيل إن هذا البيت ليس لزهير وإنه مصنوع أدخل في شعره ، وليس منه وهو الذي ارتضاه الفضل وله قصة مذكورة في مجال! النحاة ، وأقوين بمعنى خربن وخلون من السكان وحجج جمع حجة بكسر الحاء فيهما وقوله لمن الديار من فيه استفهامية على عادة الشعراء في ابتداء قصائدهم بمثله كأنه يستفهم عنها لأنه لم يعرفها لتغيرها وخرابها ، ومن السهو الغريب هنا ما قاله الفاضل المحشي من أنّ الشاهد في أوّل البيت إذ من الأولى لابتداء المكان والثانية بقسميها لابتداء الزمان والبصريون يقدرونه من مر حجج ومن مر دهر ، وقيل من فيه زائدة على مذهب الأخفش وقيل : إنها للتعليل أي لأجل مرور حجج ودهر.
قوله : ) أولى بأن تصلي فيه ( جعل أحق أفعل تفضيل ، والمفضل عليه كل مسجد أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير فلا يرد أنه لا أولوية فيه أو هو على زعمهم ، وقيل هو
بمعنى حقيق ، وفسر تقوم بمعنى تصلي وفسر الطهارة بالبراءة من العيوب مجازاً أو بالطهارة الشرعية من الجنابة ، ولو فسر بالطهارة من النجس كما في الاستنجاء أو بما يشملهما لكان ظاهراً أيضاً ، وقوله : ( يدنيهأ من جنابه تعالى إدناء المحب الخ ) إشارة إلى أنه مجاز عن قربهم من الله وقربهم بمعنى كرامتهم وكثرة ثوابهم إذ المحبة الحقيقية لا يوصف بها ألله تعالى ، ويحتمل أنه من المشاكلة وقيل تطهرهم بحمى كانت مكفرة لذنوبهم ، وقوله : ( لما نزلت الخ ) أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس ( 1 ( رضي الله عنهما وابن مردوبه وسكوتهم حياء من النبي ىلجرو وقوله : ( وأنا معهم ) بضمير المتكلم أو بكسر الهمزة وضمير الجمع ، والمراد بالرخاء سعة الرزق وعدم الشذة ورث الكعبة قسم ، وقوله : ( إنّ الله عز وبئ قد أثنى عليكم ا لا يقتضي تعين المسجد لأنهم كانوا يصلون في مسجده أيضا. قوله : ( نتبع النائط الأحجار الخ ) استدلّ به في الهداية على أفضلية الماء على الحجر قال شيخنا رحمه الله وأورد عليه شيثان ضعف الحديث وعدم مطابقته للمدلول لأنه يقتضي استحباب الجمع ، قيل : والمطابق له حديث ابن ماجه ، وفيه قالوأ " نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء " ( 2 ( والحاصل انّ الجمع أفضل ، ثم الماء ، ثم غيره وفي الجمع توفير الماء للوضوء ، ولغيره لا سيما في محل الحاجة. قوله : ( بنيان دينه ) هو من قبيل لجين الماء أو هو مكنية وتخييلية ، وهذا يناسب تفسيره الأوّل للطهارة وهو الأرجح لأنه المقتضي لمحبة الله كما قيل ولأنهم ذكروا في مقابلة أصحاب الضرار
فاللائق وصفهم بضدّ ما وصفوا به ، والتأسيس وضع الأساس وهو أصل البناء وأوّله وبه أحكامه ولهذا استعمل بمعنى الأحكام إلا أنه إذا تعدى بعلى تعين الأوّل كما قيل فهو المراد هنا ففي الآية شبه التقوى والرضوان تشبيها مكنيا مضمرا في النفس بما يعتمد عليه أصل البناء وأسس بنيانه تخييل فهو مستعمل في معناه الحقيقي أو هو مجاز بناء على جوازه فتاسيس البنيان بمعنى أحكام أمور دينه أو تمثيل لحال من أخلص لله ، وعمل الأعمال الصالحة بحال من بنى بناء محكماً مؤسسا يستوطنه ، ويتحصن به أو البنيان استعارة أصلية والتأسيس ترشيح أو تبعية والمصنف رحمه الله تعالى بنى كلامه على الأوّل. قوله : ( على قاعدة محكمة الخ ) يعني أنه استعارة مكنية شبهت التقوى بقواعد البناء تشبيها مضمرا في النفس دل عليه بما هو من روادفه ولوازمه وهو التأسيس والبنيان ، والمرضاة بمعنى الرضا وأوّلها بطلبه لأنّ رضا الله ليس من أعمال العبد التي ابتنى عليها أحكام أمره ، والذي هو من عمله طلب ذلك فهو إن كان إشارة إلى تقدير مضاف لا ينافي قوله بعيدة تأسيس ذاك على أمر يحفظه عن النار ويوصله إلى رضوان الله فإنه ظاهر في أنه مجاز بإطلاق السبب على المسبب لأنه إشارة إلى توجيه آخر فيه وان كان بيانا لأنّ رضوان الله مجاز عن طلب الرضا بالطاعة لأنه سببه فظاهر. قوله تعالى : { عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } الخ ) شفا البئر والنهر طرفه ويضرب به المثل في القرب كقوله تعالى : { وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } [ سورة آل عمران ، الآية : 103 ] وأشفى على الهلاك صار على شفاه ومنه شفاء المريض لأنه صار على شفا البرء والسلامة والجرف بضمتين وبسكون الراء البئر التي لم تطور وقيل هو الهوّة وما يجرفه السيل من الأودية لجرت الماء له أي أكله وإذهابه وهار نعت جرف وفيه أقوال ، فقيل إنه مقلوب وأصله هاور أو هائر فوزنه فالع ، وقيل(4/364)
ج4ص365
إنه حذفت عينه اعتباطا فوزنه فال ، والاعراب على رائه كباب ، وقيل إنه لا قلب فيه ولا حذف ووزنه في الأصل فعل بكسر العين ككتف ، وهو هور أو هير ومعناه ساقط أو مشرف على السقوط ، وهو ظاهر قول المصنف رحمه الله فأدى به الخ والخور بالخاء المعجمة والراء المهملة الضعف والتراخي ، والاستمساك الثبات واشداد بعضه ببعض كانه يمسكه وفاعل انهار إمّا ضمير البنيان وضمير به للمؤسس أي سقط بنيان الباني بما عليه أو للشفا وضمير به للبنيان ، وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله. قوله : ( على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها ) إشارة إلى أنه كان الظاهر في التقابل أن يقال أم من أسس بنيانه على ضلال وباطل وسخط من الله إذ المعنى أفمن أسس بنيان دينه على الحق خير أم من أسسه على الباطل ، ولذا قال في الكشاف والمعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة قوية ، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها ، وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات ، والاستمساك وضع شفا الجرف في مقابلة
التقوى لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى ، يعني أنه شبه الباطل بشفا جرف هار في قلة الثبات فاستعير للباطل بقرينة مقابلته للتقوى ، والتقوى حق ومنافي الحق هو الباطل ، وقوله فانهار ترشيح وباؤه إمّا للتعدية أو للمصاحبة فشفا جرف هار استعارة تصريحية تحقيقية ، والتقابل باعتبار المعنى المجازي المراد منها وقوله على قاعدة الخ إشارة إلى وجه الشبه تصريحية تحقيقية ، والتقابل باعتبار المعنى المجازي المراد منها وقوله على قاعدة الخ إشارة إلى وجه الشبه وما به التقابل الضمني ، فإن قلت لماذا عاير بينهما حيث أتى بالأوّل على طريق الكناية والتخييل ، وبالثاني على طريق الاستعارة والتمثيل ، قلت للتفنن في الطريق رعاية لحق البلاغة وعدولاً عن الظاهر مبالغة في الطرفين إذ جعل حال أولئك مبنياً على تقوى ورضوان هو أعظم من كل ثواب وحال هؤلاء على فساد أشرف بهم على أشذ نكال ، وعذاب ولو أتى به على مقتضى الظاهر لم يفده مع ما فيه من التهويل كما سيشير إليه المصنف رحمه الله تعالى. قوله : ( وإنما وضع شفا الجرف وهو ما جرفه الوادي الهائر ) فيه تسمح أي ما جرفه أي أزاله سيل الوادي الهائر وقيل ، أراد بالوادي ما يجري فيه والهائر بمعنى الهادم وضمير هو للجرف ، وقوله في مقابلته إشارة إلى ما ذكرنا. قوله : ( ثمثيلاَ لما بنوا عليه أمر دينهم الخ ( يعني أنه استعارة لمعنى به يقع التقابل كما أوضحناه ويجوز أن يكون مراده أنه استعارة تمثيلية قيل ، وفرّع على المستعار له الرضوان تجريداً ، وعلى المستعار الانهيار ترشيحاً وفيه نظر وقوله تأسيس ذاك ، وتأسيس هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل والمفعول ، وقوله : ( يحفظه من النار ( إشارة إلى التقوى لأنّ أصل معناها الوقاية والحفظ ، وقوله : ( التي الجنة أدناها ) إشارة إلى قوله ( ورضوان من الله كبر ) كما مرّ ، وقوله : ( على صدد الودوع ) إشارة إلى ما مرّ من دلالة الشفاء على القرب ، ولفظ الوقوع هنا في محزه وموقعه. قوله : ( أسس على البناء للمفعول ( أي في الموضعين وأس بالضم وأساس بالفتح مفردان مضافان ، وهو أصل البناء وكذا أس بالفتح وأسس بفتحات مصدر أو مقصور أساس وبهما قرئ أيضاً في الثواذ ، وقوله : ( وثلائتها جمع أس الخ ) فيه تسمح لأنّ أساس بالكسر جمع أس وأس!ر جمع أساس وآساس بالمد جمع أسس كما في الصحاح ، والبنيان مصدر كالغفران ، وقيل اسم جن! جمعي واحده بنيانة كقوله : كبنيانة العادي موضع رجلها
ومن قال إنه جمع أراد هذا كما في الدر المصون. قوله : ( وتقوى بالتنوين الخ ( أي وقرئ
تقوى وألفه للإلحاق كأرطى الحق بجعفر ، ولو كانت ألف تأنيث لم يجز تنوينه وهو تخريج ابن جني والذي قرأها عيسى بن عمر ، وتترى بتاءين بمعنى متتابعة وتاؤه مبدلة من واو ويجوز تنوينه على أنّ ألفه للإلحاق وتركه على أنها للتأنيث ، وقوله : ) جرف ( بالتخفيف أي بضم الجيم وتسكين الراء. قوله : ( وليس بجمع ولذلك الخ ( رذ على من قال : إنه جمع واحده بنيانة كما مرّ ، وقد سمعت تأويله واستدل على أنه مفرد بثلاثة أوجه ، وفيه نظر لأنّ الجمع قد تلحقه التاء كأساكفة وغيره مع أنه مراد القائل أنه اسم كأ! جمعي إلا أن يقال مراده أنّ فعلان في الجمع لا تلحقه التاء ، وكذا الأخبار بريبة لا دليل فيه لأنه يقال الحيطان منهدمة ، والجبال راسية وجوز على المصدرية أن يكون الذي مفعوله ، وهو لا يرد نقضا على دليل الوصفية كما قيل لإثباته المدعي ومراده(4/365)
ج4ص366
أنه لو كان جمعا لوصف باللاتي ونحوه لا بالذين لاختصاصه بالعقلا ، وأما احتمال تقدير المضاف وجعله صفة له وكذا الخبر فخلاف الظاهر ، ويكفي مثله في أدلة النحاة وفي المثل أضعف من حجة نحوي. قوله : ( شكاً ونفاقا الخ ( أصل معنى الريب الشك وقد فسر به هنا ، والمراد شكهم في بنوته ع!يرو الذي أضمروه وهو عين النفاق فلذا عطفه عليه للتفسير ، ولما كان الحامل على البناء هو النفاق زادهم ذلك بهدمه نفاقا لشدة غيظهم قال الإمام رحمه الله : لما صار بناء ذلك البنيان سببا لحصول الريبة في قلوبهم جعل نفس ذلك البنيان ريبة ، وفيه وجوه أحدها أنّ المنافقين عظم فرحهم ببنيانه فلما أمر بتخريبه ثقل عليهم وازداد غيظهم وارتيابهم في نبوّته لمجيرو ، وثانيها أنه لما أمر بتخريبه خافوا فارتابوا هل يتركون على حالهم أو يقتلون ، وثالثها أنهم اعتقدوا أنهم احسنوا بنيانه فلما هدم بقوا مرتابين في سبب تخريبه والصحيح هو الأوّل ورجح الطيبي الثاني بأنه أوفق للغة وريبتهم بالبناء كأنه سبب لهدمه فليس في الكلام مضاف مقدر والوسم السمة والعلامة وأصل معناه الكي. قوله : ) بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك الخ ( أي لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت إلا وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلا حال تقطيعها وهو كناية عن تمكن الريبة في قلوبهم التي هي محل الإدراك ، وإضمار الشك بحيث لا يزول منها ما داموا أحياء إلا إذا قطعت ومزقت فحينئذ تخرج الريبد منها وتزول
والمبالغة في الريبة واضحة ، وهذا على التصوير والفرض فلا تقطيع فيه ، وعلى الوجه الذي بعد. فالتقطيع والتمزيق بالموت وتفريق أجزاء البدن فهو حقيقي ، ويفيد لزوم الريبة ما دإموا أحياء ، وعلى الثالث المراد إلا أن يتوبوا ويندموا ندامة عظيمة تفتت قلوبهم وأكبادهم فتقطيع القلب مجاز أو كناية عن شدة الأسف ، والفرق بين الوجوه ظاهر لكنه قيل إياك أن تتوهم أنّ مراده بالأوّل ما في الكشاف من أنه تصوير لحال زوال الريبة عنها إذ ليى في كلامه ما يدل عليه ، وكأنه لم يرض! به لأن احتمال الحقيقة في الوجه الثاني يمنع الحمل على التمثيل لأن المجاز مشروط بالقرينة وقد دفع بأن جعل الكلام محتملاً للحقيقة ، والمجاز في كلامهم كثير ومبناه على أن القرينة لا يجب أن تكون قطعية بل قد تكون احتمالية فإن اعتبرت جعل مجازآ
- والا جعل حقيقة وكناية ومن لا يسلمه قال يتعين هنا أنه كناية ولا يخفى أنه ليس في كلام المصنف رحمه الله ما يخالف كلام الكشاف حتى يقال إنه لم يرتضه ومثله من التكلفات الباردة. قوله : ( تقطع ) أي في هذه القراءة بفتح التاء وأصله تتقطع فحذفت إحدى التاءين وقراءة الياء لإسناده إلى الظاهر وتقطع بالتخفيف ، وهو مجهول الثلاثي وتقطع بالتاء ونصب قلوبهم ، والضمير للخطاب أو للريبة وقطعت بفتح القاف والتاء في المبني للفاعل وبضم القاف وسكون التاء في المجهول. قوله : ( تمثيل لإثابة الله إياهم الخ ( في الكشاف ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن ، ولا أبلغ من هذه الآية لأنه أبرزه في صورة عقد عاقده رب العزة ، وثمنه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط بل إذا كانوا قاتلين أيضأ لإعلاء كلمته ونصر دينه ، وجعله مسجلا في الكتب السماوية ، وناهيك به من صك وجعل وعده حقاً ، ولا أحد أوفى من واعده فنسيئته أقوى من نقد غيره وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم ، وهو استعارة تمثيلية صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه ، واثابة الله لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء وأتى بقوله يقاتلون الخ بيانا لمكان التسليم ، وهو المعركة هاليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " الجنة تحت ظلال السيوف " ) 1 ( ثم أمضاه بقوله ذلك هو الفوز العظيم ، ولما في هذا من البلاغة واللطائف المناسبة للمقام لم يلتفتوا إلى جعل
اشترى وحده استعارة أو مجازا عن الاستبدال ، وان ذكروه في غير هذا الموضع لأنّ قوله : { فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ } يقتضي إنه شراء وبيع وهذا لا يكون إلا بالتمثيل ومن غفل عنه ، قال إنه تركه وهو جائز أيضا ، ومنهم من جوّز أن يكون معنى اشترى منهم أنفسهم بصرفها في العمل الصالح وأموالهم بالبذل فيها ، وجعل قوله يقاتلون مستأنفاً لذكر بعض ما شمله الكلام اهتماما به. قوله : ( استئناف ببيان ما لأجله الشراء ) يعني لما قال اشترى الخ كأنه قيل لماذا فقيل ليقاتلوا في سبيله ، وليست المقاتلة(4/366)
ج4ص367
نفس الشراء حتى تكون بيانا له كما قيل ، وقوله : ) يقاتلون في معنى الأمر ) قيل إنه مرضه لأنه لا يجري في يقتلون المجهول وجعله بمعنى يباشرون سببه تكلف من غير داع. قوله : ) وقد عرفت الخ ) دفع لسؤال عدم مراعاة الترتيب بأنّ الواو لا تقتضيه ، وبأن المراد يقتل بعض ويقتل بعض لكنه أسند إلى الجميع فعل بعضهم لأنّ المجاهدين كنفس واحدة ، وقيل يتعين الثاني لدلالته على جراءتهم حيث لم ينكسر ، والآن قتل بعضهم د هاما أنّ الواو لا تفيد الترتيب فلا يجدي لأنّ تقديم ما حقه التأخير في أبلغ الكلام لا يكون بسلامة الأمير ، وهذا لا يقتضي عدم صحته بل مرجوحيته ، وهو أمر سهل ، ثم إنه قال إنه لم يقل بالجنة وهو أخصر لما فيه من مدحهم بأنهم بذلوا أنفسهم ونفائسهم بمجرّد الوعد ثقة بالوفاء ، وأيضا تمام الاستعارة به يعني أنه يقتضي بصريحه عدم التسليم ، وهو عين الوعد لأنك إذا قلت اشتريت منك كذا بكذا احتمل النقد بخلاف ما إذا قلت بأنّ لك كذا فإنه في معنى لك عليّ كذا وفي ذمّتي لأنّ اللام هنا ليست للملك ، إذ لا يناسب شراء ملكه بملكه كالممهورة إحدى خدمتيها فهي للاستحقاق ، وفيه إشعار بعدم القبض وكون تمام الاستعارة التمثيلية به لا يخلو من وجه لأنّ الجنة بمعناها الحقيقي تصلح عوضماً ، ولأنه لولاه لصح جعله مجازا عن الاستدلال ، وهو غير مراد لكنه لا يخلو من نظر ومن لم يقف على مراده قال لا فرق بين اشترى بالجنة ، وا!ثيترى بأنّ له الجنة ، وهو من قلة التدبر والقائل مسبوق بما ذكره. قوله :
( مصدر مؤكد لما دل عليه الثسراء ) فإنه في معنى الوعد قيل هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة لأنّ معنى الشراء بأنّ لهم الجنة وعد لهم بها على الجهاد في سبيله والمفهوم من تقرير المصنف رحمه الله ظاهر أن يكون المجاز في لفظ الشراء ، وقد جعل الكلام تمثيلاً فمفرداته باقية على معانيها الأصلية ، وقد علمت أن الشراء بأنّ له كذا يفيد النسيئة ، وهي وعد فلا ينافي ما ذكره من التمثيل ، ولا يرد عليه ما قيل إنّ الوعد مستفاد من مضمون اشترى بأنّ لهم الجنة ومن جعله من الشراء فقد غفل ولا حاجة إلى تكلف أنّ مراده أنه مؤكد لمضمون الجملة ، وحقاً نعت له وعليه حال من حقا لتقدمه عليه. قوله : ( مذكورا فيهما كما أثبت في القرآن ) قال في الكشاف :
وعد ثابت قد أثبته في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن ، قال الطيبي : يعني حقا بمعنى ثابتا ومن المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن ، فقرن التوراة والإنجيل معه في سلك واحد ليؤذن بالاشتراك ، ولذلك أتى بحرف التشبيه ، وقال كما أثبته في القرآن إلحاقاً لما لا يعرف بما يعرف ، وهذا بعينه كلام المصنف رحمه الله لأنّ إثباته فيهما بذكره ثم إنه إما أن يكون ما في الكتابين أن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم اشترى منهم أنفسهم بذلك ، أو أن من جاهد له ذلك فليس في كلام المصنف رحمه الله اضطراب كما توهم ويجوز تعلفه باشترى ووعداً وحقأ وبمقدر كمذكوراً أو ثابتا ، ومن أوفى استفهام إنكاري في معنى لا أحد أوفى من الله وهو يقتضي نفي مساواته في الوفاء عرفا كما مر تحقيقه فإنه إذا قيل ليس في المدنية أفقه منه أفاد أنه أفقه أهلها. قوله : ( مبالغة في الإنجارّ ) المبالغة من أفعل التفضيل ، وجعل الوعد عهداً وميثاقأ قيل وهي لا تقتضي عدم خلف وعده وإنما المقتضى له قوله تعالى : { لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ سورة آل عمران ، الآية : 94 ا ] فتأقل. قوله : ( وتقرير لكونه حقاً ) وجه التقرير ظاهر وفي بعض التفاسير قال أبو المعالي رحمه الله : المكاتبة من المعاوضات المجازية الخارجة عن القياس فإنها مقابلة مال بملك وهما لواحد هنا ، وهذا على مذصب الشافعيّ رحمه الله فإن العبد لا يملك عنده وعند مالك رحمه الله يملك فالمعاوضة عنده حقيقية وان كان ملك العبد ضعيفا مزلزلاً ففي الآبة حجة له ، وقال أبو الفضل الجوهري رحمه الله في وعظه ناهيك بائعها وثمنها الجنة والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم . قوله : ( فانرحوا به غاية الفرح ) يقال بشرته وأبشرته إذا أخبرته بخبر سار فاستبشر فرج ووجد ما يبشر به وشر كدّا قال الراغب فليس مستعملاً في لازم معناه كما قيل. قوله : ( رفع على المدح أي هم الخ ) يعني أنه نعت للمؤمنين قطع لأجل المدح بدليل قراءة التائبين فعلى هذا الموعود بالجنة المجاهد المتصف بهذه الصمفات لا كل مجاهد وهو قول للمفسرين ، وعلى القول الآخر وهو تبشير مطلق المجاهدين بما ذكر فالتائبون مبتدأ ، وفي خبره أقوال فقيل تقديره من أهل الجنة فيكونون موعودين بها أيضاً كمن قبلهم لقوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى } [ سورة النساء ، الآية : 95 ](4/367)
ج4ص368
لأنّ المراد بها الجنة ، وقيل إنه بدل من ضمير يقاتلون وحمل التوبة على التوبة عن الكفر لأنه بعد ذكر المنافقين ، وتوبتهم عنه ولأنّ ما ذكر بعده من الصفات لو حمل على التوبة عن المعاصي يكون غير تام الفائدة مع أنّ من اتصف بهذه الصفات الظاهر اجتنابه للمعاصي ، وقوله نصبا على المدح أي بتقدير أمدح أو أعني. قوله : ( هم الجامعون لهذه الخصال الخ ) قيل عليه إنه تبع فيه الكشاف ، وفي بعض التفاسير أنه دسيسة اعتزالية كأنه يقول
المؤمنون هم الجامعون لهذه الصفات حتى يجعل المذنب غير مؤمن انتهى ( قلت ) ويدفع بأنه أراد بقوله على الحقيقة الكاملون إيمانا لا المؤمنون كما سيصرّح به في قوله وبشر المؤمنين ولو تركه كان أولى. قوله : ( لنعمانه أو لما نابهم الخ ) وفي نسخة يأتيهم والأولى أصح ونابهم بالنون والباء الموحدة بمعنى نزل بهم والسراء بالمد المسرّة والضراء بالمد المضرة يعني الحمد إما في مقابلة النعمة بمعنى الشكر أو بمعنى الوصف بالجميل مطلقا فالحمد لله على كل حال ولا حاجة إلى ما قيل إن المضرة لكونها سببا للثواب يحمد عليها. قوله : ( السائحون الصائمون الخ ا لما كان في الأمم السابقة السياحة والرهبانية ، وقد نهى عنها فسرت كما وقع في الحديث بالصوم وهو استعارة له لأنه يعوق عن الشهوات كما أنّ السياحة تمنع عنها في أكثر أو لأنه رياضة روحانية ينكشف بها كثير من أحوال الملكوت ، والملك فشبه الاطلاع عليها بالاطلاع على البلدان والأماكن النائية إذ لا يزال يتوصل من مقام إلى مقام ويدخل من مدائن المعارف إلى مدينة بعد أخرى على مطايا الفكر من ساج الماء إذا سأل ، وعن عائشة رضي الله عنها : " سياحة هذه الأمّة الصيام " ( 1 ) ، وروي مرفوعا كما هو ظاهر صنيع المصنف وقوله : ( في الصلاة ) حمل الركوع والسجود على معناهما الحقيقي وجعلهما بعضهم عبارة عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها ، وقوله : ( بالإيمان والطاعة ا لو أبقى لفظ النظم على عمومه كان أولى. قوله : ( والعاطف فيه للدلالة على أنه بما عطف عليه الخ ا لما ترك العطف فيها وذكر في موضعين احتاج إلى بيان وجهه والنكتة فيه سواء كانت وتلك الصفات إخباراً أو لا ، وقد وقع مثله في غير هذه وبحثوا عن وجهه قال في المغني : الظاهر أن العطف في هذا الوصف بخصوصه إنما كان من جهة أنّ الأمر والنهي من حيث هما أمر ونهي متفابلان بخلاف بقية الصفات لأن الأمر بالمعروف ناه عن المنكر ، وهو ترك المعروف والناهي عن المنكر آمر بالمعروف فأشير إلى
الاعتذار بكل من الوصفين وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر ، وما ذكره المصنف رحمه الله من أنهما في حكم خصلة ، وصفة واحدة أي بينهما تلازم في الذهن والخارج لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر لأنّ أحدهما طلب فعل والآخر طلب ترك فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضى للعطف بخلاف ما قبلهما ، فلا يرد عليه اًن الراكعون الساجدون في حكم خصلة واحدة أيضاً فكان ينبغي فيهما العطف على ما ذكره إذ معناه الجامعون بين الركوع والسجود ، أو لأنه لما عدد صفاتهم عطف هذين ليدل على أنهما شيء واحد وخصلة واحدة والمعدود مجموعهما ، وما ذكره ابن هشام رحمه الله أمر آخر وهو أنّ العطف إما لما بينهما من التقابل أو لدفع الإيهام ولما ورد أنه لا ينبغي العطف فيما بعده أشار إلى جوابه كما ستراه. قوله : ) أي فيما بينه وعيته من الحقائق والشرائع للتتبيه على أنّ الخ ( يعني أنه من ذكر أمر عام شامل لما قبله وغيره ومثله يؤتى به معطوفاً نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء فلمغايرته لما قبله بالإجمال ، والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه ، فاندفع ما قيل إنه عطف على ما قبله من الأمر والنهي لأن من لم يصدق فعله قوله لا يجدي أمره نفعاً ، ولا يفيد نهيه منعا ، ومن لم يتنبه لهذا قال إنه للتنبيه على أنّ ما قبله مفصل الخ وليت شعري ما وجه الدلالة في العطف على هذا ، وقد ظهر نكتة أخرى أوضح مما قالوه ، وهو أنّ المراد بحفظ الحدود ظاهره وهي إقامة الحد كالقصاص على من استحقه والصفات الأول إلى قوله الآمرون صفات محمودة للشخص في نفسه ، وهذه له باعتبار غيره فلذا تغاير تعبير الصنفين فترك العاطف في القسم الأؤل عطف في الثاني ، ولما كان لا بذ من اجتماع الأول في شيء واحد ترك فيها العطف لشذة الاتصال(4/368)
ج4ص369
بخلات هذه فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به ، وهذا هو الداعي لإعراب التائبون مبتدأ موصوفا بما بعده والآمرون خبره فكأنه قيل الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم ، وقدم الأوّل لا! المكمل لا يكون مكملاً حتى يكون كاملا في نفسه ، وبهذا اتسق النظم أحسن نسق من غير تكلف والله أعلم بمراده. قوله : ) وقيل إنّ هذا للإيذان بأنّ التعداد قد تم بالسبع ( وفي نسخة بالسابع ، وقد مز بيان كون السبع عدداً تاما وتفصيله ، وقائل هذا القول هو أبو البقاء تبعأ لغيره ممن أثبت واو الثمانية ، وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله صاحب المغني رحمه الله وذكروه في قوله تعالى : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ سورة الكهف ، الآية : 22 ] وسيأتي تحقيقه ، وقد نظر فيه بأن الدال على التمام لفظ سبعة لاستعماله في التكثير لا معدودة وفيه نظر. قوله : ) يعني به ( وفي نسخة بهم أي بالمؤمنين ولم يقل ، وبشرهم بكذا إشارة إلى أنه لأمر جليل لا يحيط به نطاق البيان ، وقوله :
) روي الخ ) ) 1 ( أخرجه البخارفي ومسلم رحمهما الله تعالى عن سعيد بن المسيب عن أبيه.
قوله : ) وقيل لما افتتح مكة الخ ) الصحيح في سبب النزول هو الأوّل ، وهذا حديث ضعيف أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما فإن قيل موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة فكيف يتأتى جعل ما مرّ في الصحيحين سببا للنزول ، قيل إنه لمجي! كان يستغفر له إلى حين نزولها فإنّ التشديد على الكفار ، والنهي عن الدعاء لهم إنما ظهر بهذه السورة كما في التقريب واعتمده من بعده من الشراح ولا ينافيه قوله في الحديث فنزلت لامتداد استغفاره له إلى نزولها أو لأن الفاء للسببية بدون تعقيب ، والأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد جبل بين مكة والمدينة وعنده بلدة تنسب إليه ومستعبراً بمعنى باكيا من العبرة بالفتح. قوله : ( بأن ماتوا على الكفر الخ ( خصه لأنه الواقع في سبب النزول ، ومثله ما إذا علم بالوحي أنهم مطبوع على قلوبهم لا يؤمنون كما سيشير إليه في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فلا اعتراض عليه كما توهم ، وقوله : ) وفيه دليل الخ ا لأنه إنما نهى عنه بعد تبين أنهم من أهل النار ، وهو لا يقطع به في حق كل إحيائهم وطلب المغفرة يستلزم بطريق الاقتضاء إيمانهم ، أو هو المراد منه فلا يقال إنه لا فائدة في طلب المغفرة للكافر ، وقوله وبه دفع النقض يعني أنّ الآية تدل على أنه لا يصح ذلك وقد وقع من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه ووجه الدفع ظاهر. قوله : ) وعدها إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه
الخ ) أباه بفتح الهمزة وابىء الموحدة يعني أنّ فاعل وعد ضمير إبراهيم عليه الصلاة والسلام واياه ضمير عائد على أبيه بدليل ما قرأه حماد الراوية والحسن وابن السميفع وابن نهيك ومعاذ القارىء كما في الدرّ المصون فإنهم قرؤوا أباه بالموحدة ، وقوله : ( منفرتك ) أي مغفرة الله لك ، وقوله : ( بالتوفيق للإيمان ) إشارة لما مرّ ، ويجب بالجيم بمعنى يقطع ويمحو وهو عبارة الحديث ولا تنافيئ سبب النزول كما قيل لأنّ معنى الآية ما كان لكم الاستغفار بعد التبيين وأما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإنما كان في حياته وقبل النهي عنه فلا وجه لما قيل إنه يشكل قوله تعالى في سورة الممتحنة { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ } [ سورة الممتحنة ، الآية : 4 ] { إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ سورة الممتحنة ، الآية : 4 ] حيث منع من الاقتداء به فيه ولو كان في حياته لم يمنع منه لأنه يجوز الاستغفار بمعنى طلب الإيمان لأحيائهم لأنه إنما منع من الاقتداء بظاهره وظن أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم وأما قوله في الكشاف على أنّ امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي لأنّ العقل يجوّز أن يغفر الله للكافر ، ألإ8 ترى إلى قوله عليه السلام دعمه لأستغفرنّ لك ما لم أنه فلم يتعرّض له المصنف رحمه الله لأنه لا يلائم قوله تعالى : { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } [ سورة التوبة ، الآية : 14 ا ] كما ئيل لأنّ وعده بامتثال أمره يقتضي أنه كان قبل موته. قوله : ( ويدلى عليه قراءة من قرأ أباه الخ ) قد علمت أنها قراءة الحسن وأنه قرأ بها غير واحد من السلف ، وإن كانت شاذة فلا التفات إلى ما قيل إنهم عدوها!حيفان وأنّ ابن المقنع صحف في القرآن ثلاثة أحرف فقرأ إياه أباه ، وقرأ في عزة وشقاق في غرة بالمعجمة ، وهو بالعين المهملة وقرأ شأن يغنيه يعنيه بفتح الياء وعين مهملة. قوله : ( أو وعدها إبراهيم أبوه ا لأنه وعده أن يؤمن ، وبهذا ظهر جواب آخر وهو أنه لما وعده الإيمان استغفر له بعد موته(4/369)
ج4ص370
لاحتمال أنه أنجز وعده وآمن وهذه القراءة لا تنافي الأخرى لأنه وعده الإيمان فوعده أن يدعو له بالتوفيق لذلك ، وقوله بأن مات الخ فمعنى عدوّ لله مستمرّ على عداوته والا فهو أوّلاً عدوّا لله لكفره والتبري قطع الوصلة وفسرها بقطع الاستغفار لمناسبة السياق له. قوله : ( لكثير التأوّه وهو كناية عن الخ ) أوّاه فعال للمبالغة من التأوّه ، وقياس فعله أن يكون ثلاثيا لأنّ أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه ، وحكى قطرب رحمه الله له فعلا ثلاثيا فقال : يقال آه يؤه كقام يقوم أوها وأنكره عليه غيره ، وقال : لا يقال إلا أوه وتأوّه قال المنقب العبدي :
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوّه آهة الرجل الحزين
وقال الزمخشري : أوّاه فعال من أوّه كلأل من اللؤلؤ وتركه المصنف رحمه الله تعالى لما
أورد عليه والتأوّه قول آه ، ونحوه مما يقوله الحزين فلذا كني به عن الحزن ورقة القلب ، وقوله : ( والجملة ) أي إن إبراهيم الخ والشكاسة الشدة وسوء الخلق. قوله : ( ليسميهم ضلالأ الخ ) ضلال بالضم والتشديد كجهال جمع ضال وإنما فسره به وان كان الإضلال خلق الضلال عندنا لظهوره ، وأما تفسير الزمخشريّ فبناء على مذهبه لأنه قبل البيان والتكليف بالنهي عن الاستغفار لا يكونون مؤاخذين وضالين ، فالمنايسب لما قبله أن يكون المعنى لا يستقيم من لطف الباري أن يذم المؤمنين ، ويؤاخذهم وشمميهم ضلالأ حتى يبين لهم ما يتقون ، وهو أنّ الاستغفار لمن مات مشركا غير جائز فإذا بين لهم ذلك ولم يتركوا الاستغفار فحينئذ يسميهم ضلالاً ، ويذمّهم وليس هذا متابعة للزمخشرفي على الاعتزال كما بينه الطيبي رحمه الله. قوله : ( حظر ما يجب اتقاؤه ) حظر بالحاء المهملة والظاء المعجمة بمعنى منع ، وهو إشارة إلى تقدير مضاف أو إلى أنّ المعنى المراد من بيان المحظور من حيث هو محظور بيان حظره والمراد نهيهم عنه ، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمه هو لاستغفرنّ لك ما لم أنه وقوله : ( في القبلة ) أي ماتوا قبل تحويل القبلة وتحريم الخمر. قوله : ( وفي الجملة دليل الخ ) أي في جملة ما ذكر أو بالجملة وعلى كل حال ، والغافل من لم يسمع النص ، والدليل السمعي وهو مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة في قولهم إنه مخصوص بما لم يعلم بالعقل كما في الكشاف بناء على القبح والحسن العقلي ، وقوله : ( في الحالين ) أي ال البيان وعدمه ، وبشراشرهم بجملتهم وكليتهم جمع شرشرة بشيم معجمة وراء مهملة ، وفيما يأتون ويذرون بمعنى ما يأتونه ويذرونه وسوا أي سوى الله ، وقوله : ( لمن استغفر ) عطف على الرسول بزيادة التصريح باللام إذ هو في معنى بيان لعذر الرسول أو لعذر من استغفر أو هو عطف على بيان بتقدير بيان لمن استغفر ، وقوله وجوب التبري عنهم رأسا قيل فيه نظر لأن المذكور فيه التبري عمن تبين أنه من أصحاب الجحيم. قوله : ( من أذن المنافقين في التخلف الخ ) يعني أنّ التوبة إمّا على ظاهرها فتقتضي ذنبا ولا مانع منه في حق
غيره صلى الله عليه وسلم فلذا لم يتعرض له ، وفي حقه صلى الله عليه وسلم المراد به ما ارتكبه من الأذن للمنافقين ، وخلاف الأولى كقوله : { عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } لهم أو هي مجاز عن البراءة من الذنب ، والصون عنه فيكون استعارة لشبه البراءة عنه بعفوه في أنه لا مؤاخذة في كل منهما كما في قوله : ( لينفر لك الله ) فإنه بمعنى ليصونك عن ذلك ، وقيل : المراد بالذنب على هذا ما يكون نقصا بالنسبة إلى الشخص أعمّ من ترك الأولى وفيه نظر ، وعلقة بضم فسكون ما يتعلق به منه. قوله : ( وقيل هو بعث على التوبة والمعنى ما من أحد الخ ( أي حض وتحريض للناس كلهم على التوبة لأنّ كل أحد محتاج إليها حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع عصمتهم لترقيهم في المقامات فكلما وصلوا إلى مرتبة كان الوصول إليها بمنزل التوبة عما دونها فتكون التوبة استغفاره للصعود إلى المقامات وانتقالاً من العليّ إلى الأعلى في الخواص ، وفي العوام من حضيض الذنوب إلى أوج التوبة المقربة لهم من العلي الأعلى والتحريض مأخوذ من إسناد التوبة إلى هؤلاء ووصفهم بها فإذا كانوا محتاجين إليها فما بالك بغيرهم فمغايرته لما قبله ، واختصاصه بالبعث المذكور ظاهر كما إذا قلت خدم الوزير السلطان مخاطباً للعوام ، فإنه يدل على تحريضهم على خدمته فاندفع ما قيل إنّ البعث والإظهار لا يتوقفان على هذا المعنى(4/370)
ج4ص371
بل يحصلان على المعنيين الأوّلين فتخصيص تعليل حصول البعث بما ذكره من المعنى الغير المشهور محل كلام ، وكذا ما قيل في دفعه إنه ليس وجهاً ثالثا بل بيان لفائدة الوجهين السابقين ، وكيف لا وهو في الأوّلين خاص ، وفي هذا عام وكون البعث موجودا فيهما لا يضرّ ، وقوله : ( 1 لا وله مقام ) أي مقام يمكنه الوصول إليه وان لم يكن مقاما له في الحال ، وضمير دونه لمقام وهو لاحد وفيه لما ، وقوله : ) والترقي الخ ) صريح فيما قرّرنا. قوله : ( وإظهار لفضلها ( أي لفضل التوبة فيكون المقصود بذكر الصفة مدحها نفسها لا مدح موصوفها كوصف الملائكة عليهم الصلاة والسلام بالإيمان والأنبياء صلى الله عليه وسلم بالصلاج في بعض الآيات ذا لوصف للمدح كما يكون لمدح الموصوف يكون لمدح الصفة ، وهذا من لطأور! البلاغة كما نصوا عليه وهو كما قال حسان رضي الله تعالى عنه :
ما إن مدحت محمداً بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمد
وقد مرّ تفضيله. قوله : ) في وقتها الخ ) فيه إشارة إلى أنّ الساعة هنا بمعناها اللغوي ،
وهو مقدار من الزمان غير معين كما في قوله : { مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } [ سورة الروم ، الآية : 55 ] فليس من استعمال المقيد في المطلق كما قيل ، وهي في عرف أهل الشرع يوم القيامة ، وفي عرف المعدلين جزء من أربعة وعشرين جزءاً من الليل والنهار كما في شرح البخاري ، وضمير هي للعسرة بمعنى الشدة والضيق وجيش العسرة وغزوة العسرة ، هي تبوك وتجهيز عثمان رضي الله عنه مذكور في كتب الحديث ، وقوله : ( في عسرة الظهر ) الظهر مجاز عما يركب تجوّز به عنه لأنه المقصود منه كالعين للربيئة أي كانوا في قلة من المركب ، والاعتقاب ركوب جماعة نوبة نوبة والزاد والماء بالجرّ عطف على الظهر أي زادهم وماؤهم قليل ، واللفظ بفتح الفاء وتشديد الظاء هنا ما يعتصر من كرس البعير والافتظاظ عصره ، وفي أمالي القالي العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها سقوا الإبل على أتنم إظمائها ، ثم قطعوا مثافرها أو خزموها لئلا ترعى فاذا احتاجوا إلى الماء افتظوا كروشها فشربوا ثميلها وهو كثير في الأشعار كقوله :
وبهماء يشتاف الدليل ثرابها وليس بها إلا اليماني يخلف
وقوله : الفظ ) في بعض النسخ الفظظ وهو الظاهر. قوله : ( عن الثبات على الإيمان ) هو
إما مجرّد همّ ووسوسة أو من ضعفائهم ومن حدث عهدهم بالإسلام ، وقوله : أو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما روي أنّ منهم من همّ بالانصراف من غير إذنه صلى الله عليه وسلم . قوله : ( وفي كاد ضمير الشأن أو ضمير القوم ) قرأ حمزة يزيغ بالياء ففي كاد ضمير الشأنّ ، وقلوب فاعل يزيغ والجملة خبرها وعليه حمله سيبويه رحمه الله الآية ، ولا يصح أن يكون قلوب اسم كاد ويزيغ الخبر لأنّ السرّ به حينئذ التقديم فيكون التقدير كاد قلوب يزيغ ولا يصح لتذكير الضمير في يزيغ وتأنيث ما يعود عليه ، وضعفه أبو البقاء رحمه الله ، واستشكل هذا بأنهم قالوا إنّ خبر أفعال القلوب لا يكون إلا مضارعاً رافعا اسمها ، فبعضهم أطلقه وبعضهم قيده بغير عسى ، ولا يكون سبباً وهذا بخلاف كان فإنّ خبرها يرفع الضمير والسببي وعلى هذا فإذا كان اسم كاد ضمير شأن ورفع الخبر لم يكن فاعله ضميراً عائدا على اسمها ولا سببيا له وقيل : لما كانت الجملة مفسرة لضمير الشان وهي هو في المعنى أغنى عن الضمير ألا ترى أن المبتدأ إذا كان ضمير شأن والجملة خبره لم يحتج لضمير يعود على المبتدأ ، وقد ذكره ابن الصائغ رحمه الله في شرح الجمل فقال : وجه ذلك أن المسند والمسند إليه في الحقيقة هو الجملة الواقعة بعد الضمير ، وليس بخارج عما تقدم ولذلك يجوز ما كان زيد بقائم على أن يكون في كان ضمير الأمر ، ويكون بقائم في موضع رفع خبر المبتدأ وأدخلت الباء عليه ، وان لم يكن خبر كان صريحا في اللفظ لأنه الخبر في المعنى ، وعلى ذلك تأوّل الفارسي ليس الطيب إلا المسك على أن في
ليس ضمير الأمر ، ودخلت الأعلى خبر المبتدا لأنه الخبر المنفي معنى ، وعلى هذا لا وجه لتكلف أبي حيان رحمه الله زيادة كاد ، وقرأ الباقون تزيغ بالتاء فيحتمل أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغ خبرها وفيه ضمير يعود على اسمها ، قال أبو عليّ رحمه اللّه : ولا يجوز ذلك في عسى ، وهذا مبنيّ على جوازه في مثل كاد يقوم زيد والصحيح المنع ويحتمل أن يكون اسم(4/371)
ج4ص372
كاد ضميرا يعود على جمع المهاجرين والأنصار أي من بعد ما كاد الجمع وقدره ابن عطية رحمه الله ما كاد القوم وضعف بأنه أضمر في كاد ضمير لا يعود إلا على متوهم وبأن خبر كاد يكون قد رفع سببياً ، وقد تقدم أنه لا يرفع إلا ضميراً عائداً على اسمها ، وذهب أبو حيان كما علمت إلى أن كاد زائدة ، ومعناها مراد ككان ولا عمل لها في اسم ولا خبر ليخلص من الأشكال ، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه من بعدما زاغت بإسقاط كاد وقد ذهب الكوفيون إلى زبادتها في نحو لم يكد مع إنها عاملة معمولة فهذا أولى ، وقرأ أبي رضي الله عنه من بعد ما كادت وقرأ الأعمش يزيغ بضم الياء. قوله : ( وقرىء من بعد ما زاغت ) هذا يستأنس به لما قيل إنها زائدة وجعل الضمير على هذه القراءة للمتخلفين سواء أكانوا من المنافقين أم لا كأبي لبابة رضي الله عنه لوصفهم بالزيغ المحتمل لكونه عن الإيمان أو الإتباع ، وأما على المشهورة فلم يوصفوا بالزيغ بل بالقرب منه فيشمل المتخلفين وغيرهم كما مرّ. قوله : ( تكرير للتثيد وتنبيه الخ ) فالضمير للمهاجرين والأنصار والنبي عتي! ، وقد تقدم أنه تاب عليهم فيكون تأكيداً له والتأكيد يجوز عطفه بثم كما صرح به النحاة وان كان كلام أهل المعاني يخالفه ظاهراً وسيأتي تحقيقه ، والتنبيه على أنّ توبته في مقابلة ما قاسوه من الشدائد ، وإنما جعله تنبيهاً لأنّ ما قبله يعيده إذ التعليق بالموصول يفيد علية الصفة. قوله : ( أو المراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم ) الكيدودة مصدر كاد كالكينونة ، والبينونة أي تاب عليهم لكيدودتهم ، وقربهم من الزيغ لأنه جرم محتاج إليهم فيكون مخصوصا ببعض من مضى وهم الفريق ، والضمير راجع إليه حينئذ فلا يكون تكريراً لما سبق ، ولكيدودتهم متعلق بتاب واللام للتعليل أو الاختصاص وعلى الثلاثة يحتمل عطفه على قوله على النبي وقوله عليهم وكلام المصنف رحمه الله يحتمله ، وقيل إن تاب مقدر هنا لتغاير توبتهم للتوبة السابقة وفيه نظر. قوله : ( تخلفوا عن النزو الخ ) أشار بتفسيره باللازم إلى أن المخلف كسلهم أو الشيطان ، أو المراد خلف أمرهم أي أخر وهم المرجؤون فالإسناد إليهم إما مجاز أو بتقدير مضاف ، وهو منقول عن السلف كما مرّ بتفصيله في قوله تعالى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ } [ سورة التوبة ، الآية : 106 ] ومرارة بضم الميم وراءين مهملتين ابن
الربغ العامري كما في مسلم وغيره ، أنكره المحدثون وقالوا صوابه العمري نسبة لعمرو بن عوف ، قاله البخاري وابن عبد البز ولا عبرة بقول القاضي عياض لا أعرف إلا العامري. قوله : ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ( يجوز إذا أن تكون شرطية جوابها مقدر ، وأن تكون ظرفية غا!ة لما قبلها ، وقوله برحبها بضم الراء إشارة إلى أن ما مصدرية والباء للملابسة ، وجعله مثلا لأنّ المكان الضيق لا يسع ولا يكون مقرا لأحد فالمراد مجازاً أنهم لم يقروا في الدنيا مع سعتهاكماقيل :
كأن بلاد الله وهي فسيحة على الخائف المطلوب كفة حابل
لاعراض الناس عنهم عدم مجالستهم ومحادثتهم لأمر النبيّ-لمج!ه لهم بذلك. قوله :
( قلوجمم من فرط الوحشة الخ ) يعني ليس الأنفس هنا بمعنى الذوأت بل بمعنى القلوب مجازاً لأنّ ضام الذوات بها كما قيل المرء بأصغريه إذ الضيق ، والسعة يوصف به القلوب دون الذواش ، ومعنى ضيقها شدة غمها وحزنها كأنها لا تسع السرور لضيقها فهو استعارة في الفيق ، مع التجوّز ويه ترق من ضيق الأرض! إلى ضيقهم في أنفسهم ، وهو في غاية البلاغة وفسر الظن بالعلم لأنه المناسب لهم ، وقوله : ( من سخطه ) بيان للمراد لأن الالتجاء فرار من سخطه ، وذلك بالتوبة وطلب المغفرة. قوله : ( بالتوفيق للتوبة الخ ا لما كان توبة الله بمعنى قبولى التوبة وقبول التوبة يقتضي تقدمها لم يفسره به ليلتئم مع قوله ليتوبوا والتوفيق للتوبة يتقدم عليها وعلة لها ، فقوله بالتوفيق الخ تفسير للتوبة ، ولو قال : وفقهم كان أظهر وقوله أو أنزل الخ جواب آخر فالمرإد به أنزل قبول توبتهم في القرآن وأعلمهم بها ليعدهم المؤمنون في جملة التائبين أو هو بمعناه المشهور ، وقوله : ( ليتوبوا ) بمعنى ليستقيموا على التوبة ويستمرّوا عليها أو التوبة الثلأنية ليست هي القبولة ، والمعنى قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل إذا صدرت منهم هفوة ولا(4/372)
ج4ص373
يقنطوا من كرمه ، وهذا هو المناسب لما ذكره في تفسير الثواب ، في قوله ولو عاد الخ ، وقد خبط من أدخله في كلام المصنف رحمه اللّه. قوله : ( مع الصادقين الخ ) الخطاب إن كان لمن آمزء من أهل الكتاب كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فالمراد بالصادقين الذين
صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الطاعة ، وان كان عامّا فيراد الذين صدقوا في الدين نية وقولاً وعملاَ وان كان لمن تخلف وربط نفسه بالسواري فالمناسب أن يراد بالصادقين الثلاثة أي كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم والى هذه الوجوه الثلاثة أشار المصنف رحمه الله وأيمانهم بفتح الهمزة جمع يمين وعهودهم عطف تفسير عليه ، وقيل إنه جعل الخطاب عاما في الوجوه كلها ، ولم يلتفت إلى ما مرّ من التفصيل الواقع في الكشاف لعدم القرينة عليه والوثوق بروايته فتأمّل. قوله : ( ما كان لأهل المدينة ) قيل خص أهل المدينة لقربهم منه ، وعلمهم بخروجه وأنه خاص بالنبيئ صلى الله عليه وسلم لا بغيره من الخلفاء لاًنّ النفير ليس بلازم ما لم يلم العدوّ ، ولم يمكن دفعه بدونه وقد سبق ما نقلناه عن ابن بطال رحمه الله من أنه كان واجبا عليهم لأنهم بايعوا عليه فتذكره ، ووقع في نسخة بعد قوله عن رسول عخيرو عن حكمه فقبل قدره ليدخل ما عداه. قوله : ( عبر عته بصبنة النفي للمبالغة ) هو نهي بليغ لأنّ معناه لا ينبغي ولا يستقيم ، ولا يصح وهو أبلغ من صريح النهي ، واذ أنهوا عن أن يتخلفوا عته مجخ! وإن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه وجب عليهم أن يصحبوه ! في البأساء والضرّاء وأن يلقوا أنفسهم ما يلقاه من الثدائد فيكونون مأمورين بذلك لأنّ النهي عن الشيء أمر بضده ، والمعنى ما صح لهم ولا استقام أن يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا الشدائد لأنفسهم ولا يكرهوها له فإنه مستهجن جدا بل عليهم أن يعكسوا القضية ، وفي كلام المصنف رحمه الله تعالى ما يشير إلى ذلك وهو قوله ويكابدوا أي يقاسوا. قوله تعالى : { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } عداه بالباء وعن وقال الواحدي رحمه الله يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي ترفعت ، وفي النهاية رغبت بفلان عن هذا الأمر أي كرهته له ففيه مبالغة أيضا فتأمّله. قوله : ( روي أن أبا خيثمة رضي الله عنه بلغ بستانه الخ ) ( 1 ( أبو خيثمة من الأنصار أحد بني سالم بن الخزرج شهد أحدا وبقي ا إلى أيام يزيد بن معاوية ، وهذا الحديث رواه البيهقيّ من طريق أبي إسحاق ، وقوله : ( بلغ بستانه ) أي أتاه ودخله بعد ما ذهب النبيّ ع!برو إلى غزوة تبوك ، وقوله : ( فرشت له ) بفتح الفاء والراء وتشديد الثين من رش الماء على التراب إذا نثره عليه ليسكن ويبرد ويجوز أن يكون من الفرس وقوله : ( بسطت حينئذ ) تفسير له ، والرطب معروف ( وظل ظليل ) تأكيد له من لفظه كليل أليل ومعنى يافع أي زاه نضيج حسن ، والضج بفتح الضاد المعجمة وتشديد الحاء المهملة ضوء
الشمس وحرها بلا ساتر منها ، وقوله : ( ظل ظليل الخ ) بتقدير هذا ، أو يكون أو إنهنا والحال أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكر من مقاساة حرّ الشمس وبروزه للرّياح فهذا ليس بخير لإيثار النعيم والراحة على مقاساة ما يقاسي النيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون رضي الله عنهم ، ( ورحل ناقتة ) كمنع أو هو مشدد وضع عليها رحلها وهو ما يركب عليه كالسرج ، وقوله ومرّ كالريح أي مرّ يسرع سيره وهو مثل في السرعة ، ومد الطرف عبارة عن النظر وأصل الطرف تحريك الجفن ويطلق على العين ، وقوله فإذا هي الفجائية ويزهاه السراب أي بالزاي المعجمة أي يرفع شخصه للناظر ، والسراب ما يرى من شعشعة الشمس في وسط النهار كالآل. قوله : ( كن أبا خيثمة ) قال السهيلي رحمه الله في الروض الأنف في الحديث كن أبا ذر وكن أبا خيثمة لفظه لفظا لأمر ومعناه الدعاء كما تقول أسلم أي سلمك الله انتهى ، وكذا قال غيره من المتقدمين كالفارسيّ رحمه الله وذكره المطرزي في قول الحريري كن أبا زيد وفي شعر ابن هلال :
ومعذرقال الإله لحسنه كن فتنة للعالمين فكأنها
ولم يزيدوا في بيانه على هذا وهو تركيب بديع غريب ، ومعناه مساقه الله إلينا وجعله إيا.
ليكون هو القادم علينا ، فاقيم فيه العلة مقام المعلول في الجملة الدعائية الإنشائية على حد قوله في الحديث : " أبلي وأخلقي " ( 1 )(4/373)
ج4ص374
أي عمرك الله ومتعك بلباسك لتبلي وتخلق ، وقولهم أسلم أي سلمك الله لتسلم ، ثم لما أقيم مقامه أبقى مسندا إلى فاعله وان كان المطلوب منه هو الله ، وهو قريب من قولهم لا أرينك ههنا أي لا تجلس حتى أراك ، وهو تمثيل أو كناية ، وفي شرح مسلم للنووي رحمه الله قال ثعلب كن زيدا أي أنت زيد وقال عياض رحمه الله : الأشبه أن كن لتحقيق الوجود أي ليوجد هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة ، وهو الصواب وهو معنى قوله في البحر اللهمّ اجعله أبا خيثمة ، واسمه عبد الله بن خيثمة وقيل مالك وليس في الصحابة رضوان الله عليهم من يكنى أبا خيثمة إلا هذا وعبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي انتهى ، والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم طلب من الله وترجى أن يكون هو.
قوله : ( وفي لا يرغبوا يجوز النصب والجزم ) النصب بعطفه على يتخلفوا المنصوب بأن واعادة لا لتذكير النفي ، وتأكيده وهو نفي في معنى النهي البليغ والجزم بجعل لا ناهية فهو نهي صريح ، وفي الكشاف روي أنّ ناسا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به صلى الله عليه وسلم كأبي ذر وأبي خيثمة رضي الله عنهما ، ثم قال : ومنهم من بقي ولم
يلحق به صلى الله عليه وسلم ، ومنهم الثلاثة قال كعب رضي الله عنه لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فردّ علي كالمغضب بعد ما ذكرني ، وقال : ليت شعري ما خلف كعباً فقيل له يا رسول الله ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه فقال معاذ بن جبل بئس ما قلت واللّه يا رسول الله ( 1 ( ما أعلم ، إلا فضلا واسلاما ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة فتنكر لنا الناس ، ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد فلما مضت أربعون ليلة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع أبشر يا كعب بن مالك فحررت ساجدا ، وكنت كما وصفني ربي سبحانه وتعالى : { حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } وتتابعت البشارة فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جال! في المسجد وحوله المسلمون فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني ، وقال : لتهنك توبة الله عليك فلن أنساها لطلحة ، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر : " أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا الآية ) 2 ( ، قال النحرير رحمه الله في شرحه هكذا وقع في الكتاب وقديماً كان يختلج في صدري أنه لا يحسن في الانتظام أن يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في حقه ما قال فيقول معاذ الله ، وهو تكذيب له فلا يليق به ثم يردّ على القائل كالمغضب ، وينهي عن مكالمته حتى تبين لي من مطالعة الوسيط ، وجامع الأصول أنه تصحيف وتحريف والصواب فقال معاذ والله بواو القسم يعني معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه صرّج بما ذكر مقسماً ، وهذا مما لم يتنبه له أحد من الشراح والعجب العجاب من الفاضل الطيبي طيب الله ثراه مع غاية اطلاعه على كتب الحديث والتاريخ كيف لم يتنبه لهذا ( قلت ا لا عجب ولا عجاب ، ولا خطأ ولا صواب فإنّ القصة والحديث كما ذكر ولو نظر إلى جلالة المصنف وكثرة اطلاعه وطبق كلامه على الرواية المأثورة المشهورة وقرأ عبارته هكذا فقال معاذ آلله بتنوين معاذ ومد همزة الله فإنه كما يقال في القسم ، والله يقال الله بالمد بمعناه قياسا مطرداً مشهورأ في الاستعمال على أنه رواه بالمعنى أو ظفر فيه برواية هكذا وهو كاصما أفتخر بواو ونحن نفتخر بمدة إن عليّ إلا الأصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ، وأنا أعجب أيضاً ممن لم يأت بشيء هنا ثم تبجح ، وافتخر فقال بعد ما ساق كلامه انظر إلى التبجح بهذه الجزئية التي مآلها إلى العثور على واو سقطت من الناسخ ، ونقل ما ذكره من الوسيط وجامع الأصول مع أنه في الصحيحين فكيف بكتابنا هذا الذي حرّرنا فيه كل صشكلة وحللنا كل معضلة ، وهذبنا الأحاديث وألفاظها ونقحنا تخريجها ، وأتينا فيه بالعجب العجاب مما ضرب بينه وبين غيرنا الحجاب فلله درّ من
قل لمن لايرى المعاصرشيئا ويرى للأوائل التقديما
إق ذاك القديم كان جديداً وسيبقى هذا الجديد قديما
وإنما نقلنا هذا مع طوله لتعلم أنه ليس كل بيضاء شحمة ، ولا كل سوداء تمرة. قوله :
( إشارة إلى ما دلّ عليه(4/374)
ج4ص375
قوله ما كان ) أي نهيهم عن التخلف عنه أو أمرهم باتباعه لما ذكروا لأمره مأخوذ مما قصد بالكلام ومن النهي لأنه أمر بضده كما مرّ ، والمشايعة بالشين المعجمة والعين المهملة بمعنى متابعة ، وعدم مفارقة شيعته وقوله شيء من العطش تفسير للظمأ بالقصر والمد وبهما قرئ ، وشيء إشارة إلى أنه للتقليل ، والإبهام المستفاد من التكثير أي قليل أو كثير ، والمخمصة المجاعة أي الجوع من جوع البطن أي ضمورها. قوله : ( لا يدوسون مكاناً ) الموطئ يجوز فيه أن يكون اسم مكان ومصدراً ميميا والوطء إمّا بمعنى الدوس بالأقدام ونحوها ، أو بمعنى الإيقاع والمحاربة كما في الحديث : " آخر وطأة وطئها الله بؤفي " ( 1 ( وهو واد بالطائف وحمله المصنف رحمه الله على معنى الدوس لأنه معناه الحقيقي وجعله اسم مكان لأنه الأشهر الأظهر ففاعل يغيظ ضميره بتقدير مضاف ، أي وطؤه لأنّ المكان نفسه لا يغيظ أو ضمير عائد إلى الوطء الذي في ضمنه ، وفسر الغيظ بالغضب ، وفي نسخة يغيظهم وسيأتي تحقيق الغيظ في سورة تبارك ، وأعلم أن خولة بنت حكيم رضي الله تعالى عنها ووت أنه-!يرو خرج وهو محتضن أحد ابني بنته رضي الله عنه ، وهو يقول : " إنكم تبخلون وتجبنون ، وإنكم لمن ريحان اللّه ، وإن آخر وطأة وطئها الله بؤفي " ( 2 ( وقد خفي على كثير وجه مناسبة آخر الحديث لأوّله ، وتوضيحه أنّ معنى تبخلون وتجبنون أنّ محبة الأولاد تحمل على البخل ليخلف المال لهم ، وعلى الجبن لخوف ضياعهم إذا قتل ، ولما كان قوله صلى الله عليه وسلم : " آخر وطأة " أي آخر وقعة وحرب لي هذه لأنّ غزوة الطائف آخر غزواته ىسي! ، وتبوك وان كانت بعدها لم يكن بها قتال كناية عن قرب أجله لأنّ تمام المصالح يؤذن بالرحيل ، فالمعنى أنهم ريحان الله يحى بهم عباده
فحبهم أمر طبيعي يعسر معه فراقهم ، واني مفارقهم عن قريب أو محبتهم تدعو إلى الجبن وترك القتال ، وقد انقضى القتال فتأمّل والنيل مصدر نال نيلاً وقيل هو مصدر نلته أنوله نولاً ونوالاً فأبدلت الواو ياء حكاه الطبري فإبداله على خلاف القياس. قوله : ( كالقنل والأسر الخ ) أي لا يأخذون ، وينالون شيئا ونيلاً إما مصدر فالمفعول به محذوف أو بمعنى المأخوذ فهو مفعول وتفسيره بالمصدر مشعر بالأوّل ، وقوله به وحد الضمير لعوده لجميع ما قبله لتأويله بذلك المذكور أو هو عائد على كل واحد منها على البدل قال النسفي وحد الضمير لأنه لما تكرّرت لا صار كل واحد منها مفردا بالذكر مقصودا بالوعد ، ولذا قال فقهاؤها لو حلف لا يأكل خبزاً ولا لحما حنث بواحد منهما ولو حلف لا يأكل خبزا ولحما لم يحنث إلا بالجمع بينهما ، وقوله : ( استوجبوا به الثواب ) أي استحقوه استحقاقا لازما بمقتضى وعده تعالى لا بالوجوب عليه ، وإنما أوّل العمل بالثواب لأنه المقصود من كتابة الأعمال فهو بتقدير مضاف أو بجعله كناية عما ذكر. قوله : ( وذلك مما يوجب الخ ) المتابعة بمثناة فوقية وموحدة أي اتباعه وعدم التخلف عنه ، والذي في أكثر النسخ المشايعة بشين معجمة ومثناة تحتية وهو بمعناه وهو الذي في الكشاف. قوله : ( على إحسانهم الخ ) هذا من التعليق بالمشتق وكونه تعليلا لكتب ، بمعنى أنهم استوجبوه لأنه لا يضيع الخ ، والتنبيه من وضع المحسنبن مكان المجاهدين والسعي في تكميلهم لأنه يقصد به أن يسلموا كضرب المجنون ، وعلاقة السوط بكسر العين لأنها تكسر في الحسيات وتفتح في المعاني كعلاقة الحب ، وذكر الكبيرة بعد الصغيرة وان علم من الثواب على الأولى الثواب على الثانية لأنّ المقصود التعميم لا خصوص المذكور إذ المعنى لا ينقصون شيئاً ما فلا يتوهم إنّ الظاهر العكس ، وانفاق عثمان رضي الله عنه في جيس العسرة ألف دينار ، قيل وألف محمل أعان به المسلمين. قوله : ( في مسيرهم ) أي سيرهم للغزو ، ومنفرج بضم الميم وبفتح الراء اسم مكان بمعنى ما انعطف يمنة أو يسرة لأنه منخفض بين جبال يجري فيه سيولها ، وهو منعطف في أكثر وأصل الوادي اسم فاعل من ودي بمعنى سال فهو السيل نفسه ، ثم شاع في محله ، ثم صار حقيقة في مطلق الأرض وجمعه أو دية كناد بمعنى مجلس جمعه أندية ، وناج جمعه أنجية ولا رابع لها في كلام العرب. قوله : ) أثبت لهم الخ ) جعل
الكتابة مجازا أو كناية عن لازم معناه وهو الإثبات ولو حمل على حقيقته أي كتبه في الصحف أو اللوح صح أيضا ، ولم يفسره باستوجبوا كما مرّ لأنه أنسب بقوله ليجزيهم الله والضمير للمذكور كما مرّ ، وإليه أشار(4/375)
ج4ص376
المصنف رحمه الله بقوله ذلك أو لكل واحد كما عرفت ، وجعله للعمل تكلف محوج إلى تقدير لأنه صفة لما قبله في المعنى وفصل هذا وأخره لأنه أهون مما قبله. قوله : ( جزاء أحسن أعمالهم الخ ) قال أبو حيان رحمه الله التقدير أحسن جزاء الذي كانو! يعملون لأنّ عملهم له جزاء حسن ، وأحسن فجعله أحسن جزاء فانتصاب أحسن على المصدرية لإضافته إلى مصدر محذوف وهو الوجه الثاني في كلام المصنف رحمه الله ، وقال الإمام فيه وجهان الأوّل أنّ أحسن صفة عملهم ، وفيه الواجب والمندوب والمباح فهو يجزيهم على الأوّلين دون الأخير قيل ، وعلى هذا يحتمل أن يكون بدل اشتمال من ضمير يجزيهم ، وأورد عليه أنه ناء عن المقام مع قلة فائدته لأنّ حاصله أنه تعالى يجزيهم على الواجب ، والمندوب وأنّ ما ذكر منه ولا يخفى ركاكته وأنه غير خفي على أحد ، وقد يقال إنه كناية عن العفو عما فرط منهم في خلاله إن وقع لأنّ تخصيص الجزاء به يشعر بأنه لا يجازي على غيره ، ثم قال الثاني أنّ اً حسن صفة لجزاء أي ليجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل وهو الثواب ، وقيل عليه إنه إذا كان أحسن صفة لجزاء كيف يضاف إلى الأعمال وليس بعضا منها ، وكيف يفضل عليه بدون من ولا وجه لدفعه بأنّ أصله مما كانوا الخ فحذفت من مع بقاء المعنى على حاله كما قيل إذ لا محصل له ، وقوله : ( جزاء أحسن أعمالهم ) قيل يحتمل أن يكون جزاء منوّناً منصوباً على المصدرية وأحسن مفعوله ، وهو مضاف لما بعده والمقصود تقدير العامل الناصب لأحسن لأنّ الفعل نصب الضمير فلا ينصب مفعولاً آخر إلا أن يجعل بدلاً كما مرّ ، والمراد بجزاء أحسن الأعمال أحسن جزاء الأعمال ، وليس المراد أحسن هذه الأعمال المذكورة حتى يقتضي أنّ الجزاء على بعضها ، ويحتمل إضافة جزاء لمعموله ، وهو أحسن وهو كالأوّل في المعنى لكنه كان مجرورا فلما حذف انتصب وهذا ثاني وجهي الإمام ( أقول ) هذا مما لا وجه له ، فإنّ المصدر الواقع مفعولاً مطلقا لا يعمل خصوصاً في غير ما عمل فيه فعله فلا يصح ضربت زيداً ضربا عمراً ولا يخفى ركاكته ، فالظاهر أنه مضاف ، وأنه لما حذف قام المضاف إليه مقامه فانتصب على المصدرية في الوجهين والمعنى أنه يجازيهم على أعمالهم بإضعافها كجزائه على الأحسن وقال السفاقسي : أحسن يحتمل أن يكون بدلاً من ضمير ليجزيهم بدل اشتمال أي ليجزي الله أحسن أفعالهم بالأحسن من الجزاء أو بما شاء ، ويحتمل أن يكون على حذف مضاف أي ليجزيهم الله جزاء أحسن أفعالهم اهـ. قوله : ( وما استقام لهم أن ينفروا جميعاً الخ ) في هذه الآية وجهان مبنيان على كونها متعلقة بما قبلها من أمر الجهاد أو منقطعة لا تختص به أو لبيان طلب العلم فانه فريضة على كل مسلم ، والثاني أوفق بصريح
النظم فلذا قدمه المصنف رحمه الله ، والمعنى لا يستقيم لهم أن يخرجرا جميعا لطلب العلم كالغزو لأنه تعالى لم بين وجوب الهجرة والجهاد وكل منهما سفر لعبادة فبعد ما فضل الجهاد ذكر السفر الآخر ، وهو الهجرة لطلب العلم فيكون النفر والخروج لطلب العلم ولكن المصنف رحمه الله تعالى عمم فيه لبيان أنّ حكمهما واحد فيلتئم بما قبله كالوجه الثاني وقوله : ( فإنه يخل بأمر المعاس ) تعليل لقوله أن ينفروا وترك الآخر لظهوره ، وهو الأثم ويصح أن يكون تعليلاً لهما فإنّ في ترك غلبة العدوّ غلبتهم المخلة بالمعاس أيضا ، والثاني وهو الذي أشار إليه بقوله ، وقد قيل الآتي أنه لما شدد على المتخلفين قالوا لا يتخلف منا أحد عن جش أو سرية فلما فعلوا ذلك حتى بقي النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده نزلت ، فقيل لهم لا تنفروا جميعا للقتال ولتقم طائفة معه لتعلم الدين ، وتفهم ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم فإذا رجع المجاهدون أفادوهم ما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم ، وهذا مرويّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قيل : فعلى هذا لا بد في الآية من إضمار والتقدير فلولا نفر من كل فرقة طائفة وأقامت طائفة ليتفقه المقيمون ، ولينذروا قومهم النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى عند ذلك التعلم ، وردّ بأنه لا حاجة إلى ا!لتقدير إذ يفهم الفرق من قوله : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) فإنّ الفرق إذا نفر من كل منها طائفة لزم أن تبقى طائفة أخرى فضمير ليتفقهوا يرجع إلى الفرق البانية المفهومة من الكلام وسيأتي ما فيه. قوله : ( فهلا نفر من كل جماعة كثيرة الخ ) يعني لولا هنا(4/376)
ج4ص377
تحضيضية لا امتناعية وهي مع الماضي تفيد التوبيخ على ترك الفعل ، ومع المضارع تفيد طلبه والأمر به لكن اللوم على الترك فيما يمكن تلافيه ، قد يفيد الأمر به في المستقبل ، ولذا قيل إنّ الآية تدل على وجوب طلب العلم لا لما قيل إنّ التوبيخ على الترك يقتضي الوجوب ، وكون الفرقة كثيرة والطائفة قليلة في الآية مأخوذ من السياق ، ومن التبعيضية لأنّ البعض في الغالب أقل من الباقي فلا يرد ما قيل إن الفرقة ، والطائفة بمعنى في اللغة فلا يدلّ النظم على ما ذكر ، وادعاء الفرق ودلالة النظم عليه وأنّ أهل اللغة لا يبالون بالتعريف بالأعم يحتاج إلى نقل. قوله : ( ليتكلفوا الفقاهة فيه الخ ) إشارة إلى أنّ صيغة التفعل للتكلف ، وليس المراد به معناه المتبادر بل مقاساة الثدة في طلبه لصعوبته ، وأنه لا يحصل بدون جد وجهد فقوله ويتجشموا أي يرتكبوها عطف تفسير لما قبله. قوله : ( وليجعلوا غاية سعيهم الخ ا لما كان الظاهر ليتفقهرا في الدين ، وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون ، وقد وضع موضع التعليم الإنذار وموضع يفقهون يحذرون آذن بالغرض! منه وهو اكتساب خشية الله ، والحذر من بأسه قال الغزالي رحمه الله : كان اسم الفقه في العصر الأوّل اسم لعلم الآخرة ، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدة الأعمال والإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة ، واستيلاء الخوف على القلب ويدل عليه
هذه الآية ، وإنما عبر بالغاية لأنّ علة النفر التفقه لكن التفقه لما كانت علته الإنذار كان علة لعلته فهو غاية له إذ علة العلة علة ، وهي علة غائية لأنها إنما تحصل بعد ذلك. قوله : ( وتخصيصه بالذكر الخ ) يعني المقصود منه الإرشاد الشامل لتعليم السنن ، والآداب والواجبات والمباحات ولا شك أن الإنذار أخص منه ، فما قيل من إنهما متلازمان ، وذكر أحدهما مغن عن الآخر غفلة أو تغافل وكذا ما قيل إن غايته تكميل النفس علماً وعملاً فهو مع دخوله في قوله ليتفقهوا إنما سكت عنه لأنه معلوم بالطريق الأولى مع أنه صرّج به في قوله يستقيم ، ويقيم ودلالته على فرضيته بالأمر ، وأنه فرض كفاية حيث أمر به طائفة منهم لا على التعيين والتذكير الوعظ. قوله : ( وأنه ينبني أن يكون غر ضالمتعلم الخ ) قيل بل يجب ، وهذا لم يدر أن ينبغي تستعمل للوجوب ، والترفع طلب الرفعة والعلو والتبسط السعة والبسطة في الجاه والرزق. قوله : ( إرادة أن يحذروا ) يعني لعل تعليل للإنذار فالترجي كناية عن إرادتهم لأنّ المترجي مراد ، والترجي من الله قيل إنه مجاز عن الطلب ، وقيل ظاهره أنّ الإرادة من المنذرين على أن لعل متعلق بقوله لينذروا قومهم ، وحي!عذ لا يبقى في الآية دليل على حجية خبر الواحد لابتنائها على أنّ الله تعالى أوجب الحذر بقول الطائفة وسياتي ما يدفعه. قوله : ( واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة الخ ) قال الجصاص في الأحكام في الآية دلالة على لزوم خبر الواحد في أمور الديانات التي لا تلزم العامّة ولا تعم الحاجة إليها وذلك لأنّ الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحوى الدلالة عليه من وجهين أحدهما أن الإنذار يقتضي فعل المأمور به وإلا لم يكن إنذارا ، والثاني أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة لأنّ معنى قوله لعلهم يحذرون ليحذروا وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد لأنّ الطائفة تقع على الواحد فدلالثها ظاهرة فإن كان التأويل ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فالطائفة النافرة إنما تنفر من المدينة ، والتي تنفقه هي القاعدة بحضرة الرسول ىلمجيح فدلالتها أيضا قائمة لأنّ النافرة إذا رجعت أنذرتها التي لم تنفر ، وأخبرتها بالأحكام فهي تدلّ على لزوم قبول خبر الوأحد القاعد بالمدينة مع كون النبيّ صلى الله عليه وسلم بها لإيجابها الحذر على السامعين بنذارة القاعدين ، فقد علمت أن في الاستدلال بالآية على حجينه ووجوب العمل به طريقين ، وكلام المصنف رحمه الله على الطريقة الأولى فسقط الاعتراض! بأنه مبنيّ على أن الترجي من لله وأنه إيجاب وهو غير متعين هنا. قوله : ( يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية الخ ) قيد الثلاثة بالتفرد ليفيد مطلوبه ، وأورد عليه أنه فسر الفرقة آنفاً بالجماعة الكثيرة كالقبيلة ، وأهل البلدة وكلامه هذا لا يلائمه ظاهرا ولا يخفى أن كاف التشبيه
تة تضي عدم الحصر ، ولذا قال ظاهرا ، ثم إن تقريره مبنيّ على أن الطائفة تقع على الواحد وسيأتي في سورة النور(4/377)
ج4ص378
ما ذكره من أن أقلها ثلاثة فبين كلاميه تعارض وسيأتي تفصيله ، ولإرادة الواحد من الطائفة قال لتندر بالإفراد ويتذكروا بالجمع كما صححوه هنا لكن وقع في نسخة ولينذروا ، وقوله : ( ليحذروا ا لا دخل له في الاستدلال قيل ولم يقيد بقوله واحدا أو اثنين كما قالوا في تقرير ألاستدلال لتعينه من كون الطائفة النافرة بعضاً من الفرقة مع أن الاستدلال لا يتوقف عليه لأنّ المقصود عدم بلوغها إلى حد التواتر ، وقوله فرقتها أي الباقية. قوله : ) وقد قيل للآية معنى آخر ) قد مرّ تقريره ، وظاهره أن الاستدلال إنما هو على القول الأوّل وقد عرفت أنه جار عليهما كما نقلنا ذلك عن كتاب الأحكام ، وهذا القول قول ابن عباس رضي الله عنهما. قوله : ( سبق المؤمنون إلى النفير الخ ا لأنهم كانوا لعاهدوا أن لا يتخلف أحد منهم عن جيش أو سرية كما مرّ وانقطاعهم عن التفقه لنزول الوحي ، وحدوث الشرائع والأحكام في كل زمان ، وقوله الجهاد ا!بر فسر كونه جهاداً أكبر بأنه هو الأصل يعني المطلوب من الجهاد إظهار الدين ، وتنوير حججه والجهاد الأكبر يستعملونه بمعنى مجاهدة النفس لأنها أعظم عدوّ وأقوى خصم. قوله : ( فيكون الضمير في ليتفقهوا الخ ) قد مرّ ما قيل إنه لا بد على هذا من إضمار وتقدير أي نفر من كل فرقة طائفة وأقامت طائفة ليتفقهوا الخ ورده بأنه لا حاجة إليه ، والضمير يعود إلى ما يفهم منه إذ يلزم من نفر طائفة بقاء أخرى ، وقيل عليه انتظام الكلام يقتضي الإضمار إذ لولاه أفاد إن نفور الطوائف للتفقه وليس كذلك فإن أراد أنه بحسب الظاهر والمتبادر لم يلزم الإضمار ، وإن أراد أنه لا يصح تعلقه به على أنه قيد وتعليل لمفهومه فلا وجه له. قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ } أي الذين يقربون منكم قربا مكانيا لا قربا نسبيا كما قيل وإنما خص الأمر بهم مع قولهم في أوّل السورة اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وتوله وقاتلوا المشركين ، ولذا روي عن الحسن رحمه الله أن هذه الآية منسوخة بما ذكر لأنه من المعلوم أنه لا يمكن قتال جميع المشركين ، وغزو جميع البلاد في زمان واحد فكان من قرب أولى ممن بعد ، ولأن ترك الأقرب الاشتغال بقتال الأبعد لا يؤمن معه من هجوم على الذراري والضعفاء ، والبلاد إذا خلت من المجاهدين وأيضاً الأبعد لا
حد له بخلاف الأترب فلا يؤمر به وقد لا يمكن قتال الأبعد قبل قتال الأقرب قال الإمام رحمه اللّه : إنما لم يقولوا بالنسخ لكون ترتيب نزول الآيتين على عكس ما قاله الحسن رحمه الله تعالى ، ومن قال : لا حاجة إلى هذا في نفس النسخ لم يفهم مراده ثم إنه قال : قوله : { يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ } ظاهر في القرب المكاني ، وقيل إنه عامّ له وللقرب النسبي ، وقيل إنه خاص بالنسبي لأنها نزلت لما تحرج الناس من قتل أقربائهم ولا يخفى ضعفه ، ولا إشعار في كلام المصنف رحمه الله به كما توهمه هذا القائل لأنّ مراده أنه أمر أوّلاً بإنذار عشيرته ! لأنه كان بين أظهرهم فوجب عليه إنذار الأقرب فالأقرب قبل الأمر بالقتال ، ثم بعد الأمر به كان على ذلك الترتيب أيضاً والذي غره قوله أحق بالشفقة فتدبر. قوله : ( وقيل هم يهود الخ ( قيل يرده كون السورة آخر ما نزل وفيه نظر. قوله : ( وليجدوا فيكم غلظة ) قالوا إنها كلمة جامعة للجراءة والصبر على القتال وشدة العداوة ، والعنف في القتل والأسر وظاهرها أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين غلظة والمقصود أمر المؤمنين رضي الله تعالى عنهم بالاتصاف بصفات كالصبر وما معه حتى يجدهم الكفار متصفين بها فهي على حد قولهم لا أرينك هاهنا كما مرّ تحقيقه ، والغلظة ضد الرقة مثلثة الغين وبها قرئ لكن السبعة على الكسر ، وقوله : ( بالحراسة والإعانة ) لأنه مع كل أحد ، ولكن هذه معية خاصة وهو تأكيد وتعليل لما قبله ، وقوله : ( على إضمار فعل الخ ( ويصير مؤخراً لأن الاستفهام له الصدر. قوله : ( بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة الخ ) لما دلت الآية على زيادة الإيمان بما ذكر ، والمسألة مشهورة فمن قال بدخول الأعمال فيه فزيادته عنده ظاهرة ، ومن لم يقل به ذهب إلى أنّ زيادته بزيادة متعلقه والمؤمن به وقيل التحقيق أن التصديق في نفسه يقبل الزيادة والنقص والثدة والضعف وليس إيماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة رضي الله عنهم كإيمان* غيرهم ، ولهذا قال عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه(4/378)
ج4ص379
لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً فقوله بزيادة العلم الخ إشارة إلى قبوله الزيادة في نفسه ، وقوله وانضمام الخ إشارة إلى زيادته باعتبار متعلقه ، وترك القول الآخر لشهرته ، وقد ذكره في أوّل سورة الأنثنال ، وقوله : ( سبب لزيادة كمالهم ) بالعمل بما فيها والإيمان بها ، وقوله : ( مضموماً ) إشارة إلى تضمين الزيادة معنى الضم ، ولذا عدى بإلى وقد قيل إلى بمعنى مع ولا حاجة إليه ،
وقوله : ( واستحكم ذلك ) أي الكفر بسبب الزيادة. قوله : ( أو لا يرون الخ ) كون الواو عاطفة على مقدر أو على ما قبلها الكلام فيه معروف ، وقد تقدم تحقيقه ، وقوله يبتلون بأصناف البليات تفسير للفتنة فإن لها معاني منها البلية والعذاب ، وابتلاؤهم لو كانوا أصحاب بصر وبصيرة بردّهم عما هم عليه ، وقوله : ( أو بالجهاد ) فالفتنة بمعنى الاختبار أي يختبرون بظهور ذلك ولم يحمل على الافتضاح لعدم ملايمته للمقام ، وقوله لا ينتهون أي عما هم عليه من الاستهزاء أو عن النفاق لأنّ التوبة تستلزم ما ذكر. قوله : ( تنامزوا بالعيون الخ ) فسر النظر بالتغامز بقرينة الحال لكنه قيل دلالة التغامز على الغيظ غير ظاهرة ولا معهودة وفيه نظر والسورة على الأوّل مطلقة وعلى الثاني مقيدة بسورة فيها ذكر عيوبهم ، وقوله : ( يقولون ( يعني لا بد من تقدير القول فيه ليرتبط الكلام وجملته حالية أو مستأنفة. قوله : ( هل يراكم من أحد الخ ) قيل معناه هل يراكم من أحد لما تغامزتم فتفضحوا ، وقوله حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم إما بمعنى حضوره ومجلسه ، أو المراد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأقحمت الحضرة للتعظيم كما هو معروف في الاستعمال ومخافة الفضيحة بغلبة الضحك أو بالاطلاع على تغامزهم وهذا على التفسير الأوّل ، وأما على الثاني فانصرافهم بسبب الغيظ ، وقيل معنى انصرفوا انصرافهم عن الهداية. قوله : ) يحتمل الإخبار والدعاء ) والجارّ والمجرور متعلق به على الأوّل ، وبانصرفوا على الثاني ، ورجح الثاني واقتصر عليه في الكشاف ، وقوله لسوء فهمهم يعني أنه إما بيان لحماقتهم أو لغفلتهم ، وعدم تدبرهم. قوله : ( من جنسكم عربي مثلكم ) يحتملأ أنه تقدير معنى أو تقدير مضاف أي من جنس العرب ، وهو امتنان عليهم لأنهم يعرفونهم والجنس آلف لجنسه ، ويفهمون كلامه ، وقيل : المراد من جنس البشر كقوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } ، [ سورة الأنعام ، الآية : 9 ] وقرئ أنفس أفعل تفضيل من النفاسة والمراد الشرف ، وقوله شديد شاق من عز عليه بمعنى صعب ، وقوله عنتكم إشارة إلى أن ما مصدرية والمصدر فاعل عزيز والعنت بالتحريك
ما يكره ويشق ، وقيل عزيز صفة رسول وعليه ما عنتم ابتداء كلام أي يهمه ، ويشق عليه عنتكم. قوله : ( أي على إيمانكم وصلاح شأنكم ( قدر المضاف لأن الحرص لا يتعلق بذواتهم وأما تعلقه برؤوف رحيم على التنازع كما قيل فلا وجه له ، وقوله قدم الأبلغ يعني كان الظاهر في الإثبات الترقي ، وقد عكس رعاية للفواصل أي لمناسبة الفواصل المراعى في القرآن ، ولذا لم يقل الفاصلة ، وهذا بناء على أن الرأفة أشذ الرحمة وقد مرّ ردّه بأنّ الرأفة الشفقة والرحمة الإحسان بدليل أنها قدمت في غير الفواصل كقوله : { رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً } [ سورة الحديد ، الآية : 27 ] ابتدعوها. قوله : ( فإنه يكفيك معرتهم الخ ) المعرة الأمر المكروه ، والأذى مفعلة من العرّ أي الحرب وهذا تعليل للأمر والاكتفاء بالله ولا إله إلا هو كالدليل عليه لأنّ المتوحد بالألوهية هو الكافي المعين ، وفسر العرس بالملك وهو أحد معانيه كما في القاموس ، ثم ثنى بمعناه المعروف ، وهو فلك الأفلاك المحيط بالعالم ، وهو أحد معانيه كما ذكره الراغب ، وقوله : تنزل الخ إشارة إلى حسن الختام ، لما سبق من الأحكام ، والرفع على أنه صفة الرب. قوله : ( وعن أبر وضي الله تعالى عنه الخ ( أخرجه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، وقوله آخر ما نزل الخ يعارضه ما رواه الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن آخر آية نزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } أسورة النساء ، الآية : 176 ] وآخر سورة نزلت براءة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما آخر آية نزلت { وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ } [ سورة البقرة ، الآية : 281 ] وكان بينها وبين موته صلى الله عليه وسلم ثمانون يوما ، وقيل تسع ليال وحاول بعضهم التوفيق بين هذه الروايات بما لا يخلو عن كدر ، وفي هذه الآية إشكال مشهور في كتب الحديث. قوله : ( ما نزل القرآن الخ ) ( 1 ( أخرجه الثعلبي رحمه الله عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال العراقي رحمه الله تعالى ، وهو منكر جدّاً ، وقال الطيبي رحمه الله تعالى المراد بالحرف الطرف منه ، والجملة سواء(4/379)
ج4ص380
كانت آية أو أقل أو أكثر مما دون السورة ، وهو مخالف لما مرّ في آخر سورة الأنعام ، ولما صرّحوا به من أنها لم تنزل جملة ( تتم ) ما علقناه على سورة التوبة ، اللهم يسر لنا الإتمام ببركة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأشرف السلام ، والحمد لله
وحده وصلى الله على من لا نبي بعده سيدنا ومولانا محمد ىلمج! ، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرّيته وأهل بيته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين آمين تم.
تم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس أوّله سورة يونس.(4/380)
ج4ص381
سورة يونس عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : ( مكية ) أي قولاً واحداً عند الدانيّ رحمه الله تعالى ، وقيل في بعض آياتها أنها
مدنية على اختلاف في ذلك أيضا ، والمناسبة أنّ خاتمة السورة قبلها بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وابتداء هذه به وقوله : ( مائة وتسع آيات ) قال الداني في كتاب العدد وهي مائة وعشر آيات في الشامي - شسع في غيره ، وقوله : ( فخمها ) أي لم يملها لأن التفخيم يطلق على ما يقابل الترقيق ، وما يقابل الإمالة والممال هنا ألف را لأنه قرئ فيها بالإمالة وتركها على ما تقرر في علم القراآت ، وقوله إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة عن الياء بيان لوجه الإمالة. وهو أن الألف المنقلبة عن الياء تمال تنبيهاً على أصلها ولما كانت هذه الكلمة اسما والأسماء لا يكون فيها الألف أصلية إلا نادراً أجروها مجرى ما أصله الياء لكثرته وخفته وعاملوها معاملته فأمالوها ولئلا يتوهم أنها حرف. قوله : ( 1 شارة إلى ما تضمنته السورة أو القرآن الخ ( جوّ. في الإشارة أن تكون لآيات هذه السورة ، وأن تكون لآيات القرآن وفي الكتاب أن يراد به السورة وأن يراد القرآن فصارت صوره أربعاً إحداها الإشارة إلى آيات القرآن ، والكتاب بمعنى السورة ولا يصح إلا بتخصيص آيات وتأويل بعيد وثانيتها عكسه ولا محذور فيه ، والأخريان مرجع إفادتهما إلى كونه حكيما ، وجوّز الإشارة إلى الآيات لكونها في حكم الحاضر وان لم يسبق ذكرها كما يقال في الصكوك هذا ما اشترى فلان ، وأوثر لفظ تلك للتعظيم ، وكونه في حكم الغائب من وجه ، وخالف فيما ذكر الكشاف فإنه لم يحمل الكتاب على القرآن ، ووجه بأنه تركه لأن الظاهر من قولنا هذه الآيات آيات القرآن أنها جميع آياته لإفادة الجمع المضاف إلى المعرفة الاستغراق ، وهذا وارد على المصنف رحمه اللّه لو سلم لكنه قيل إنه ممنوع مع أنه إنما يفيد بطلان صورة واحدة من الثلاث فتأمّل. قوله : ( ووصفه بالحكيم لاشتماله على الحكم ) فيراد بالحكيم ذو الحكمة إمّا
على أنه للنسبة كلابن وتامر أو يشبه الكتاب بإنسان(4/381)
ج5ص2
ناطق بالحكمة على طريق الاستعارة بالكتابة ، واثبات الحكمة قرينة لها تخييلية ، والحكمة ، وهي الحق والصواب صفة لله لكنه لإشتماله عليها أو لمشابهته للناطق بها وصف بها. قوله : ( أو لأنه كلام حكيم ) فالمعنى حكيم قائلة فالتجوّز في الإسناد كليله قائم ، ونهاره صائم. قوله : ( أو محكم آياته لم ينخ شيء منها ) أي بكتاب آخر لمنافاته لما سيأتي ، وهو عطف بحسب المعنى على ما قبله لأنه في قوّة لأنه مشتمل ففعيل بمعنى مفعل على ما فيه ، وهذأ بناء على أنّ المراد بالكتاب السورة وأنه لا منسوخ فيها ، والمحكم يقع في مقابلة المتشابه ، وفي مقابلة المنسوخ ، وكونه إشارة إلى الكتب المتقدّمة من التوراة والإنجيل ، والزبور كما قيل بعيد ، ولذا تركه المصنف رحمه الله. قوله : ( استفهام إنكار للتعجب ) في الكشاف الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه أي لإنكار تعجب الكفار من الإيحاء كما سيذكره والتعجيب السامعين من تعجبهم لوقوعه في غير محله فإن كان مراد المصنف رحمه الله ما ذكره الزمخشري فلام للتعجب صلة الإنكار وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكون صفة أي إنكار كائن للتعجب أي لبيان أنه مما يتعجب منه إذ التعجب لا يجري عليه تعالى والجزم بأنه تعريض للزمخشري ومخالفة له دعوى من غير دليل ، وتقديم خبر كان لأنه مصبّ الإنكار. قوله : ( وقرئ بالرفع ) أي برفع عجب على أنه اسم كان وهو نكرة و { أَنْ أَوْحَيْنَا } المعرفة خبره ومن ذهب إلى أنه لا ينبغي الحمل عليه جعل كان تامّة و { أَنْ أَوْحَيْنَا } بدل منه بدل كل من كل أو اشتمال أو بتقدير حرف جرّ أي لأنّ أوحينا أو من أن أوحينا. وهو أظهر من البدلية ، وقول المصنف رحمه الله على أنّ الأمر بالعكس أي عكس المعروف في كلام العرب ، وهو الإخبار عن المعرفة بالنكرة فيكون هذا ذهابا إلى جوازه مطلقا أو في باب النواسخ مطلقا أو إذا كانت مدخولة للنفي أو ما هو في حكمه كالاستفهام الإنكارقي على ما فصله النحرير في شرح التلخيص ، ويحتمل أن يريد بالعكس القلب إمّا على قبوله مطلقا أو إذا تضمن لطيفة فإن وجدت قبل إلا عدل عنه إلى الوجوه الأخر فإن قلت هنا وجه أظهر ، وهو أنّ للناس خبر كان وعليه اقتصر في اللوامح فلم تركوه قلت تركوه لأنه ركيك معنى لأنه يفيد إنكار صدوره من الناس لا مطلقا ، وفيه ركاكة ظاهرة فتأمّل. قوله : ) واللام للدلالة على أنهم الخ ) يعني ليس متعلقاً به على طريق المفعولية كقوله :
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
لأنّ معمول المصدر لا يتقدم عله بل هي للبيان كما في هيت لك وسقيا لك فمتعلقها مقدّر ، ومنهم من جوّزه بناء على التسمح في الظرف أو لأنه بمعنى المعجب والمصدر إذا كان
بمعنى مفعول أو فاعل يجوز تقديم معموله عليه كما ذكره النحاة ، وجوّز أيضا تعلقه بكان ، وإن كانت ناقصة بناء على جوازه. قوله : ( من أفناء رجالهم ) أفناء بفتح الهمزة وسكون الفاء ، والنون والمد وهذه العبارة وان استعملت في خمول النسب فليس بمراد لأن نسبه فيهم ، وشرفه نار على علم بل المراد أنه ممن لم يشتهر بالجاه ، والمال اللذين اعتقدوا أنهما سبب العز والإجلال لجهلهم ، وجاهليتهم لأنه قد يستعمل لعدم التعيين مطلقاً أو التعيين كقول أبي تمام :
من مبلغ أفناءيعرب كلها إني بنيت الجارقبل المنزل
يقال هو من أفناء الناس إذا لم يعلم ممن هو قاله الجوهرفي ، وتال الأزهريّ عن ابن الأعرابيّ أعفاء الناس وأفناؤهم أخلاطهم الواحد عفو وفنو ، وعن أبي حاتم عن أمّ الهيتم هؤلاء من أفناء الناس ، . ولا يقال في الواحد هو من أفناء الناس وفسروه بقوم تراع من هاهنا ومن هاهنا ، ولم تعرف أمّ الهيتم الإفناء واحدأ والمراد بالخلط إبهام النسب وليس بمراد هنا ، ومراد أبي تمام التعميم ومنهم من اعترض على المصنف رحمه الله ومتابعته الزمخشريّ في هذه العبارة ، واختار أنّ المراد برجل أنه مشهور بينهم بالجلالة ، والعفة والصدق كما قال : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ سورة التوبة ، الآية : 28 أ ] فإنه محل الإنكار وهو أنسب بالمقام وهو غير ظاهر لأنه وإن كان أعظم مما ذكر لكن السياق يقتضي بيان كفرهم ، وتذليلهم وتحقيرهم لمن أعزه الله ، وعظمه وما ذكره يناسب القسم الثاني لا الأوّل فقط خلط تفسيراً بآخر لأن تعجبهم يحتمل أن يكون لكونه ليس له مال وجاه كقوله تعالى : { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ سورة الزخرف ، الآية : 31 ] أو لكونه من البشر كقوله(5/2)
ج5ص3
تعالى : { لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً } [ سورة فصلت ، الآية : 14 ] أو لكونه أنذرهم بالبعث الذي أنكروه والمصنف رحمه الله لم يلتفت إلى هذا لبعده عن السياق ، وقولهم يتيم أبي طالب لأنه كان معه في صغره ، ولم يعرفوا أنّ أنفس الدرّ يتيمه ، وقيل للحسن رحمه الله لم جعله الله يتيماً فقال لئلا يكون لمخلوق عليه منة فإنّ الله هو الذي آواه وأدّبه ورباه ، وقوله : ( وجهلهم بحقيقة الوحي ( لأنه سبحانه يعلم حيث يجعل رسالاته وما عدوه سيئا ليس بشيء يلتفت إلى مثله ، وقوله : ( هذا ) أي الأمر هذا أو خذ هذا ، وقوله خفة الحال قد أجاد في التعبير عن قلة المال به لأنه أخف إذ ليس له معه ما يشغله عما أريد منه مع عدم احتياجه إليه ، ولذا قيل لبعض المشايخ هل
يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم زاهد فقال : ما قدر الدنيا عنده حتى يزهد فيها وقد أرسل الله إليه ملك الجبال في بدء الوحي ، وقال : إن شئت جعلتها لك ذهبا وجواهر فلم يطلب ذلك وأنما يطلب الغنى من لا يقدر عليه وقوله وقيل الخ هو التفسير الثاني كما عرفته. قوله : ( أن هي المفسرة الخ ) أي لمفعوله الإيحاء المقدر وشرطها موجود وهو أن يتقدم عليها ما فيه معنى القول دون حروفه كالإيحاء نحو كتبت إليه أن قم وقوله أو المخففة من الثقيلة على أنّ اسمها ضمير الشأن وفي وقوع الجملة الأمرية الإنشائية خبر الضمير الشأن دون تأويل وتقدير قول اختلاف فذهب صاحب الكشف إلى أنه لا يحتاج إلى ذلك لأنّ المقصود منها التفسير وخالفه النحرير وغيره في ذلك ، وذهبوا إلى أنه لا فرق بين خبره وخبر غيره ، ولم يذكر احتمال كونها مصدرية حقيقة في الوضع لمنع كثير من النحاة وصلها بالأمر والنهي ، وذكره أبو حيان هنا بناء على جوازه مع أنه نقل عنه في المغني أنّ مذهبه المنع بناء على أنه يفوت معنى الأمر إذا سبك بالمصدر ، واعترض! بأنه يفوت معنى المضيّ ، والحالية والاستقبال المقصود أيضا مع الاتفاق على جوازه ، وقد يقال إن بينهما فرقاً فإنّ المصدر يدلّ على الزمان التزاماً فقد تنصب عليه قرينة فلا يفوت معناه بالكلية بخلاف الأمر فإنه لا دلالة للمصدر عليه أصلا ، وقد مرّ ما ذهب إليه بعض المدققين من أنّ المصدر كما يجعل ويسبك من جوهر الكلمة فيجوز أخذه من الهيئة ، وما يتبعها فيقدر في هذا ، ونحوه أوحينا إليه الأمر بالإنذار كما قدر في لا تزني خير عدم الزنا خير ، ومنهم من ذكر هذا بحثا من عنده مع أنّ هذا مشترك في الالتزام ، والجواب مع أنّ المفتوحة المشددّة لأنها مصدرية أيضا ، وقوله فتكون الخ تفريع على الوجه الثاني ، وعلى الأؤل مفعوله مقدر وهذه الجملة مفسرة لا محل لها من الإعراب كما مز. قوله : ( عمم الإنذار الخ ( أي حيث قال الناس دون المؤمنين ، والكافرين ، ولا مانع من الاستغراق العرفي أي كل أحد ممن يقدر على تبليغه إذ تبليغ جميع أهل عصره غير ممكن له ، وإليه يشير قول المصنف رحمه الله إذ قلما من أحد الخ فلا وجه للاعتراض بأنّ الاستغراق المفهوم من كلامه غير صحيح لأنّ تبليغ الإنذار إلى كل من في عصره ليس في وسعه ولا حاجة إلى دفعه بأنه لم يرد الاستغراق ، وإنما قصد المبالغة ، وأفا تبشير الكافرين إن آمنوا فراجع إلى تبشير المؤمنين ، وقيل إنّ في المؤمنين عموم الخبر به ، وهو شموله للثقلين ، واعترض! على قوله في المغني أنّ أبا حيان منع وصل أن المصدرية بالأمر بأنه جوّزه هنا ، وفي سورة النحل. قوله : ) سابقة ومنزلة رفيعة الخ ) في الكشاف أي سابقة ، وفضلاً ومنزلة رفيعة سميت قدما لما كان السعي ، والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة قدما كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد وباعا لأنّ صاحبها يبوع بها فقيل
لفلان قدم في الخير والسابقة هنا مصدر بوزن فاعلة بمعنى السبق ، والسبق كالتقدم بمعنى فضلهم على غيرهم لما خصوا به من سائر الأمم فالقدم مجاز مرسل عن السبق لكونها سببه وآلته ، والسبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة فهو مجاز بمرتبتين ، وقيل المراد تقدمهم على غيرهم في دخول الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة " وقيل تقدمهم في البعث ، وقيل سابقة اسم فاعل أي سعادة سابقة في اللوج أو شفاعة سابقة ، وفي الكشاف وجه آخر ، وهو أنّ قدم صدق بمعنى مقام صدق كمقعد صدق بإطلاق الحال ، وارادة الحال ، وليس هذا معنى قوله منزلة رفيعة كما توهم حتى يلزم جمع المعاني المجازية ، وظاهر. أنّ القدم يطلق على السبق مطلقا كما تطلق اليد على(5/3)
ج5ص4
النعمة ، والعين على الجاسوس ، والرأس على الرئيس ، وقال صاحب الانتصاف لم يسموا سابقة السوء قدما إمّا لكون المجاز لا يطرد أو لأنه غلب في العرف عليه. قوله : ( وإضافتها إلى الصدق ) أصل الصدق في الأقوال قال الراغب : ويستعمل في الأفعال فيقال صدق في القتال إذا وافاه حقه ، وكذا في ضدّه يقال كذب فيه فيعبر به عن كل فعل فاضل ظاهراً ، وباطنا ، ويضاف إليه كمقعد صدق ، ومدخل صدق ، ومخرج صدق ، وقدم صدق ، ولسان صدق في قوله ، واجعل لي لسان صدق سأل أن يجعله الله صالحأ بحيث إذا أثنى عليه لم يكن كذبا كما قال :
إذانحن أثنينا عليك بصالح فأنت كما تثني وفوق الذي نثني
فإضافته من إضافة الموصوف إلى صفته ، وأصله قدم صدق أي محققة مقرّرة لما عرفت
من معناه ، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق ، ثم جعل الصدق كأنه صاحبها ، وهذا من منطوقه ، وقوله والتنبيه الخ أي تنبيه على أنهم إنما نالوا تلك السابقة بصدقهم ظاهراً وباطناً ، واعترض! عليه بأنه إنما يحصل هذا إذا كانت الإضافة من إضافة المسبب إلى السبب إلا أن يكون في التنبيه إشارة إلى احتمالها لها ، ويدفع بأنه لا حاجة إلى ما ذكر لأنّ الصدق إنما تجوّز به عن توفية الأمور الفاضلة حقها للزوم الصدق لها حتى كأنها لا توجد بدونه ويكفي مثله في ذلك التنبيه ، وهذا كما أنّ أبا لهب يشعر بأنه جهنمي. قوله : ( يعنون الكتاب الخ ) يعني الإشارة إلى
الكتاب السابق ذكره ، وعلى قراءة لساحر الإشارة إلى رجل ، وقوله وفيه اعتراف الخ لأنّ السحر خارق للعادة ، وقال النحرير لأنّ قولهم إنّ هذا لسحر المراد به الحاصل بالمصدر وهم كاذبون في ذلك عند أنفسهم أيضا ، وبهذأ الاعتبار يكون دليل عجزهم لأنّ التعجب أوّلاً ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعا حتى عند نفس المعارض دأب العاجز المفحم ، وما قيل عليه أنه لا دخل لتعجبهم فيه فالأولى تركه ليس بشيء. قوله : ) التي ه! أصول الممكنات ) إنما فسر به بيانا لحكمة تقديمها ، وكونها أصولاً لأنّ السماء جارية مجرى الفاعل ، والأرض مجرى القابل ، وبإيصال الكواكب اختلاف الفصول ، ويكون م! فيها على ما قزره الحكماء وقد تقدم تفصيله وقوله تعالى : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ سورة الأعراف ، الآية : 54 ] قيل هي مدة مساوية لأيام الدنيا ، وقيل هي بالمعنى اللغوفي ، وهو مطلق الوقت وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها من أيام الآخرة 10 لتي هي كألف سنة مما تعدون قيل ، والأوّل أنسب بالمقام لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدّة اليسيرة ، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه ، وقوله استوى إمّا بمعنى استوى أمرد ، وتمّ أو استولى فيرجع إلى صفة القدرة ، وقيل إنه صفة غير الثمانية لا يعلم ما هي ، وقيل إنه مما اشتبه فيتوقف فيه كما فصل في محله ، والعرش تقدم أنه الجسم المحيط بجميع الكائنات أو الملك أو شيء غير ذلك. قوله : ( يقدّر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته الخ ) يعني تعريف الأمر للعهد ، والمراد أمر الكائنات ، وتدبيرها بمعنى تقديرها جارية على مقتضى الحكمة ، وأمّا ما سيذكره فهو معناه اللغوفي ، وقوله وسبقت به كلمته أي قضاؤه كما في قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 115 ] وجملة يدبر استئنافية لبيان حكمة استوائه على العرس وتقرير لعظمته ، وقوله ويهيئ بتحريكه أي بسبب تحريك العرس ، وفلك الأفلاك أسباب ذلك لأنّ بحركته تحريك غيره ولذا اقتصر عليه. قوله : ( والتدببر النظر الخ ( وجه لاشتقاقه ، وبيان لحقيقته ، وقوله تقرير لعظمته لأنها علمت من خلق المخلوقات العظام فقرّر ذلك بأنه لعز جلاله لا يجسر أحد على الشفاعة عنده بغير إذن فالتقدير لا شفاعة لشفيع ، وهو تعليم للعباد أنهم إذا فعلوا شيئا يتأنون والا فهو سبحانه وتعالى قادر على خلقها دفعة في آن واحد ، وعدل عن قول الزمخشريّ يدبر يقضي ، ويقدّر على حسب مقتضى الحكمة ، ويفعل ما يفعل المتحريّ للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يلقاه ما يكره آخراً انتهى لأنه كما قيل خطأ لفظا ، ومعنى فإنه لا يجوز إطلاق التحرّي على الله ، ولا يمثل فعل الله به ، ولأنه مبنيّ على رأيه ، وهي قاعدة فاسدة عند أهل السنة. قوله : ( وردّ على من زعم أنّ اكهتهم تشفع الخ ) قيل هذا الردّ غير تامّ لأنهم لما ادعوا شفاعتها قد يدعون الإذن
لها فكيف يتمّ هذا الرذ ، ولا دلالة فيها على أنهم لا يؤذن لهم(5/4)
ج5ص5
وما قيل إنها دعوى غير مسلمة واحتمالها غير مجد لا فائدة فيه إلا أن يقال مراده أن الأصنام لا تدرك ولا تنطق فكونها ليس من شأنها أن يؤذن لها بديهيّ ، وأما إثبات الشفاعة لمن أذن له فمعلوم من الكلام لأنه لو كان المراد نفي الشفيع مطلقأ قيل لا شفيع والمراد الشفاعة المقبولة ، وهي شفاعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والأخبار. قوله : ) أي الموصوف بتلك الصفات الخ ( يعني الإشارة إلى الذات الموصوفة بتلك الصفات المقتضية لاستحقاق ما أخبر به عنه وإذا كان وجه ثبوت ذلك له ما ذكر مما لا يوجد في غيره اقتضى انحصاره فيه وأنه لا رلث غيره ولا معبود سواه فاتضح معنى قوله لا غير ، وقوله : فاعبدوه وحدوه لكن قوله للألوهية يقتضي أن الجلالة الكريمة خبر لا صفة فلذا قيل الأظهر تأخيرها لأنّ ما ذكر تفسير لاسم الإشارة. قوله : الا غير ( أي لا وست غيره ، وقيل إنه وقع في النسخ بدون ضمير فيقتضي قصر الموصوف على الصفة قصراً إضافيا قلا يلائم تعليله ، وأفا كون انتفاء السبب الخاص لا يقتضي انتفاء سبب آخو للربوبية فليس بشيء لأنّ ما ذكر من لوازم الألوهية فهي لا توجد بدونه ، والقصر من تعريف الطرقين ومن فحواه لأن تلك المقتضيات لا توجد في غيره ، وقيل إنه حمله على القصر مع انتفاء أداته لئلا يلزم التكرار فإن ما قبله داذ على ثبوت الربوبية مع عدم المنكر لها فتأقل. قوله : ) وحدوه بالعبادة ( قد أشرنا إلى أن التخصيص من ترتيب الأمر بالعبادة على اختصاص الربوبية ، وأيضا أصل العبادة ثابت لهم فيحمل الأمر به على ما ذكر ليفيد وفيه نظر. قوله : ) تتفكرون أدنى تفكر الخ ) يريد أنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى فكر تاتم ، ونظر كامل بل إلى مجرّد التفات وأخطار بالبال ، وهذا بيان لإيثار تذكرون على تفكرون وان كان هو المراد ولذا فسر به وجعل المتذكر هو ما سبق من استحقاقه لما ذكر والمنبه عليه ذلك ، وخطؤهم فيما هم عليه المشار إليه بقوله لا ما تعبدنه فلا فرق بين كلامه ، وكلام الكشاف كما توهم. قوله : ( بالموت أو النشور ( وفي نسخة والبعث وفي أخرى والنشور والحصر المذكور مستفاد من تقديم إليه وقيل عليه إنه لا يناسب ما سيأتي من أن قوله : { يَبْدَأُ الْخَلْقَ } الخ كالتعليل لقوله : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } فالحق ما وقع في النسخة الأخرى والبعث بالواو وفيه نظر يعلم مما سيأتي. قوله : ( مصدر مؤكد لنفسه الخ ) المصدر إذا أكد مضمون جملة تدذ على معناه فإن كانت نصا فيه لا تحتمل غيره فهو يسمى في اصطلاج النحاة مؤكداً لنفسه نحو له عليّ ألف اعترافا ، وإن احتمله وغيره نحو زيد قائم حقاً فهو مؤكد لغيره ولا بد له من عامل محذوف فيهما ، وتفصيله ووجه الشمية مفصل
في النحو- قوله : ( مصدر آخر مؤكد لفيره ) قد عرفت معنى المؤكد لنفسه ، وغيره وهنا لما كان الوعد يححمل الحقية والتخلف كان مؤكدا لغيره مما تضمنته جملة المصدر وعامله المقدر ، وقيل انتصماب حقا بوعد على تقدير في لشبهه بالظرف كقوله :
أفي الحق إني هائم بك مغرم
وما ذهب إليه المصنف رحمه الله أظهر. قوله : ( بعد بدئه وإهلاكه الخ ) يعني أنّ معنى
قوله يبدؤهـ ا الخلق ثم يعيده إعادته بعد بدئه واهلاكه لأنه بيان للموعود به ، والموعود به الإعادة وإنما ذكر البدء ، والإهلاك لتوقف الإعادة عليهما إذ معناها وجود ثان لما وجد أوّلاً بعد فنائه فتدبر. قوله : ( أي بمدله أو بعدالتهم الخ ( يعني أنّ الألف ، واللام عوض! عن الضمير المضاف إليه ، وهو إمّا ضممير اللّه أو ضمير المؤمنين فالمعنى بعدله أو بعدالتهم ويرجح الثاني بأنه أوفق بما يقابله من قوله بكفرهم فيعلل جزاء المؤمنين بإيمانهم ، وهو المقصود من القسط لأنّ الكفر ظلم عظيم ، وأيضا لا وجه لتخصيص العدل بجزاء المؤمنين بل جزاء الكافرين أولى به لما اشتهر أنّ الثواب بففمله ، والعقاب بعدله ، وقوله وقيامهم على العدل تفسير لعدالتهم بالقيام على العدل في الأعمال الظاهرة فيدخل فيه الإيمان وعلى ما بعده يخص بالإيمان ، ورجحوه لما مرّ. قوله : ( فإن معناه الخ ) المبالغة في اسنحقاق العقاب بجعله حقاً مقرّراً لهم كما تفيده اللام ، ولم يجعل عك وجعل الثواب علة إشارة إلى أنه المقصود ، وأمّا العقاب فهو بكسبهم وليس مقصوداً له تعالى بالذات بل بالعرض ، ولذا قال تعالى : <سبقت رحمتي غضبي > ، وقوله من الإبداء والإكلادة يقتضي تعلق ليجزي بهما على التنازع ، وقيل الأظهر تعلقه بيعيده فقط وقوله وأنه(5/5)
ج5ص6
تعالى يتولى الخ ، يعني لم يذكر الجزاء إشارة إلى أنه أمر عظيم لا تحيط به العبارة خصوصاً وقد جعل ذاته الكريمة هي الجازية فإنّ العظيم لا يتولى بنفسه إلا الأمر العظيم ، ثماليه أشار بقرله يتولى ففي كلامه إدماج لمعنى آخر.
قوله : ( والآية كالتعليل لقوله إليه مرجعكم الخ ( جريا على ما اطرد في استعمال الجملة
المصدّرة بأنّ كتوبوا إنه غفور رحيم وكونها تعليلاً أو كالتعليل لإخفاء فيه وإنما الكلام في المعلل هل هو كون المرجع إليه أو كونه لا مرجع إلا إليه فالظاهر هو الثاني كما أشار إليه النحرير في شرحه والمعنى مرجعكم إلى الله لا إلى غيره ، وإنما أرجعكم إليه ليجازيكم بما يليق بكم واستة ، دة الحصر من المعلل ظاهرة ومن العلة لأنّ البدء والإعادة معلومة الانتفاء عن غيره عقلا فلا حاجة إلى أن يعتبر في الكلام ما يدل على الحصر حتى يتكلف له ما تكلفه من تعسف بما لا يليق ذكره. قوله : ( ويؤيده قراءة من قرأ أنه الخ ) أي بالفتح بتقدير لام التعليل فهو صريح فيما ذكر وجوّز فيه أن يكون منصوباً بوعد مفعولاً له أو مرفوعا بحقا فاعلا له وكلامه يحتمل أن يكون وعد وحق هما العاملان في المصدرين المذكورين وأن يكونا فعلين آخرين مقدّرين بدلالة ما قبلهما عليهما فإن كان المراد الأوّل فالمصدران ليسا للتأكيد ويكون هذا إعراباً آخر لأن فاعل العامل في المصدر المؤكد لا بد أن يكون عائداً على ما تقدمه مما أكده فالمعنى وعد الرجوع إليه ، وحق الوعد ، وان كان الثاني فهو ظاهر ثم إن التعليل المذكور لا يناسب كون المراد بالمرجع الموت فإمّا أن يكون هذا إشارة إلى أنّ تفسيره الثاني هو المرضيّ عنده أو يكون الصحيح نسخة العطف بالواو كما مز التنبيه عليه. قوله : ( ذات ضياء وهو مصدر الخ ( يعني هو على تقدير مضاف أو جعلها نفس الضياء مبالغة كما أشار إليه في نوراً ، وانقلاب الواو ياء لانكسار ما فبلها وأمّا همزة فعلى القلب المكاني فلما وقعت الواو أو الياء المنقلبة عنها متطرفة بعد مذة قلبت همزة ابتدأء أو بعد قلبها ألفاً كما هو معروف في التصريف ، وكونه جمعا بعيد ، ولأنّ تقابله بنور ألا يقتضيه كما قيل ، وخالفه أبو عليّ في الحجة فقال كونه جمعاً كحوض ، وحياض أقيس من جعله مصدراً كقيام فهما قولان ، وإنما كان أقدر لأنّ المصدر يجري على فعله في الصحة ، والاعتلال انتهى ، وقوله في كل القرآن هذه رواية ، وقد قال بعض القرّاء أنها لم تصح ، وقيل إنما قرأ بها هنا ، وفي سورة الأنبياء القصص. قوله : ( أو سمي نوراً للميالفة الخ ) معناه ظاهر لكنه في نسخة أو فيكون فيه وجهان ، وفي نسخة بالواو والأولى أظهر ، وقوله ، وهو أعمّ من الضوء كما عرفت أي في أوّل سورة البقرة بناء على أنه ما قوي من النور ، والنور شامل للقوي والضعيف ، وعلى القول الثاني هما متباينان فما كان بالذات كالشمس ، والنار فهو ضوء ، وما كان بالعرض فهو نور ولذا غاير بينهما في النظم ، واليه أشار
بقوله نبه الخ ، وكونه بمقابلة الشمس ، والاكتساب منها لا يؤخذ من النظم ، وإنما هو من دليل آخر ، وذكره تتميما للفائدة ، وقوله خلق يشعر بأن جعل بمعنى خلق فضياء ونوراً حال ، وقد مرّ التفصيل في الضوء ، والنور بما لا مزيد عليه ، وأنه إذا كان أبلغ فلم قيل الله نور السماوات والأرض ، ولم يقل ضياؤها ، والجواب عنه ، وقد ذكر في وجهه هنا أنّ المقصود تشبيه هد 51 الذي نصبه للناس بالنور الموجود في الليل ، وأثناء الظلام ، والمعنى أنه جعل هداه كالنور في الظلام فيهدي قوما ويضل آخرون ، ولو جعله كالضياء جمثل الشمس التي لا يبقى معها ظلام لم يضل أحد ، وليس كذلك فتأمّل. قوله : ( قدّر مسير كل واحد منهما الخ ) يعني الضمير لهما بتأويل كل واحد منهما أو للقمر ، وخص بما ذكر لسرعة سيره لأنّ ما تقطعه الشمس في سنة يقطعه هو في شهر ولأنّ منازله معلومة محسوسة ، وأحكام الشرع منوطة به في اكثر فلا يضرّ ما قيل إن العنين يؤجل سنة شمسية ، وقوله حساب الأوقات بالنصب إشارة إلى عطفه على عدد لا على السنين بالجرّ ، وهو القراءة وتقدير مضاف ، وهو سير يقتضي أن منازل منصوب على الظرفية أو الحالية ، وقيل أصله قدر له منازل فهو مفعول به ، وقوله ولذلك أي لكونه مخصوصاً بالقمر لأنّ علم ذلك إنما هو به ، وليست الإشارة إلى كون الأحكام منوطة به حتى يمنع ، وليس ذكر الأيام في تفسير الحساب بناء على عود الضمير للشمس كما توهم. قوله : " لا متلبساً بالحق ( يعني أن الباء(5/6)
ج5ص7
للملابسة ، وهو حال ، والحق خلاف الباطل ، وهو الصواب أي لم يخلقه باطلا وعبثاً ، وقوله مراعياً تفسير له أي أوح خواص وقوى منتظمة بمصالح العالم السفليّ ، وقوله على وجود الصانع إشارة إلى أن الآيات بمعنى الدلائل ، وقيل هي آيات القرآن ، وتفصيلها نزولها مفصلة منجمة مبينة ل!ما يلزم ، وقوله فإنهم المنتفعون حمله على العلماء ، وخصهم لما ذكر ولم يجعله بمعنى العقلاء ، وذوي العلم لعمومه كما قيل لأن هذا أبلغ كقوله : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ سورة النازعات ، الآية : 45 ] وقوله : { إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ سورة يونس ، الآية : 6 ، مرّ تفسيره في سورة آل عمران. قوله : ( لا يتوقعوئه لإنكارهم البعث الخ ) قالوا الرجاء يطلق بمعنى توقع الخير ، وهو الأصل كالأمل ، ويطلق على
الخوف ، وتوقع الشرّ ، ويطلق على مطلق التوقع ، وهو في الأوّل حقيقة ، وفي الآخرين مجاز ، وجوّز الزمخشري فيه هنا الوجوه الثلاثة ، واقتصر المصنف رحمه الله على معنى التوقع لأنه أنسب بالمقام ، وقيل لعدم احتياجه إلى تقدير مضاف كحسن أو سوء ، وقال الإمام حمل الرجاء على الخوف بعيد لأنّ تفسير الضد بالضد غير جائز يعني في غير الاستعارة التهكمية ، والتهكم غير مراد هنا كما يشعر به قوله تفسير دون استعارة فمن ردّه بذلك لم يصب مع أنّ الإمام رحمه الله لا يسلم له ما قاله فإنه ورد في استعمالهم ، وذكره الإمام الراغب والمرزوقيّ ، وأنشدوا شاهدآ له قول أبي ذؤيب :
إذالسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل
قال الراغب وجهه أنّ الرجاء والخوف متلازمان ، واعترض على المصنف رحمه الله بأنّ تفسيره لا ينتظم مع تعليل قرينه فالمراد لا يخافونه لاعتمادهم على شفعائهم فإن قوله لغفلتهم لا يتمشى مع الإنكار ، وليس بوارد لأنه يعني أنهم غفلوا وذهلوا عن الأدلة وما يرشدهم إلى العلم بها حتى أنكروا ، والتفسير بذلك إيماء إلى ظهورها حتى كأنها حاضرة عندهم وإنما عرض لهم ذهول وغفلة فتدبر وقوله من الآخرة أي بدلاً عنها لأنّ مجرّد الرضا بها مع عدم ترك الآخرة ليس بذم ، وهو تفسير له بما وقع في النظم في قوله أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ، وجملة رضوا معطوفة على الصلة أو حالية بتقدير يرقد. قوله : ( وسكنوا إليها الخ ( حقيقة الطمأنينة سكون بعد انزعاج كما قاله الراغب رحمه الله فالاطمئنان إما بمعنى السكون بسبب زينتها وزخارفها فالباء سببية أو ظرفية بمعنى سكنوا فيها سكونا خاصا ، وهو سكون من لا يرحل ولا ينزعج لزعمهم أنه لا حياة غيرها وقوله مقصرين كان حقه أن يقول قاصرين لأنّ أقصر معناه كف مع القدرة لا بمعنى الاقتصار الذي عناه. قوله : ( لا يتفكرون فيها لانهماكهم الخ ا لما كان الغافلون ، والذين لا يرجون عبارة عما هو متحد الذات أشار إلى أنه من عطف الصفة على الصفة تنبيهاً على أنهم جامعون بينهما وأن كل واحدة منهما متميزة مستقلة صالحة لأن تكون منشأ للذم والوعيد كما في الكشاف ، وهو أولى مما ذكره المصنف رحمه اللّه فإنه يفهم من ظاهره أنّ كلاً منهما غير موجب للوعيد بالاستقلال بل الموجب له المجموع ، وهؤلاء هم المنكرون للبعث على هذا الوجه ، ولما صح أن تكون الثانية سببأ للأولى قال في الكشاف ، ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم فوكل الترتيب إلى ذهن الذكيّ ، وفي كلام المصنف رحمه الله اً يضاً إشارة إليه. قوله : ) وإمّا لتغاير الفريقين الخ ) أي هما فريقان من الكفرة متغايران فلذا عطفا
فالأوّل المشركون المنكرون للاخرة ، والثاني أهل الكتاب مثلا الذين ألهاهم حبّ الدنيا والرياسة عن الإيمان والاستعداد للآخرة ، وقوله بما واظبوا أي داوموا واستمرّوا والاستمرار التجدّدي من المضارع لا سيما إذا اقترن بكان فإنه كالصريح فيه ، والتمرّن التدرّب والاعتياد. قوله : ) بسبب إيمانهم الخ ( قدر متعلق الهداية ما ذيهر ، وقدره تارة بإلى وتارة باللام لتعديه بهما كما أنه يتعذى بنفسه ، والتقدير الأوّل والأخير يدل عليه قوله بعده : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ } الخ لأنه بيان له يعني أنّ عملهم ، وايمانهم يكون نوراً بين أيديهم يقودهم إلى الجنة أو أنهم بذلك تنجلي بصيرتهم وينكشف لهم حقائق الأمور أو لما يريدونه من النعيم أو غيره في الجنة. قوله : ( " من عمل بما علم " الخ ) هذا يقتضي أنّ العمل هو المورّث لما ذكر لا مجموع الإيمان والعمل حتى ينافي ما سيذكره كما توهم. قوله : ) ومفهوم الترتيب وإن دل على أنّ السبب الهداية(5/7)
ج5ص8
الخ ) هذا ردّ لما في الكشاف من أن الآية دلت على أنّ الإيمان المعتبر في الهداية إلى الجنة هو المقيد بالعمل الصالح لا المطلق لأنه جعل الصلة مجموع الأمرين كأنه قال إنّ الذين جمعوا بين الإيمان ، والعمل الصالح يهديهم ربهم ، ثم قال بإيمانهم أي المقرون بالعمل فرأى بعضهم وتبعه المصنف رحمه الله أنه مبنيّ على الاعتزال ، وخلود غير الصالح في النار ولا دلالة فيها على ما ذكره لأنه جعل سبب الهداية إلى الجنة مطلق الإيمان وأمّا أن إضافته إلى ضمير الصالحين تقتضي أخذ الصلاح قيداً في التسبب فممنوع فإنّ الضمير يعود على الذوات بقطع النظر عن الصفات ، وأيضا فإن كون الصلة علة للخبر في نحو الذي يؤمن يدخل الجنة بطريق المفهوم فلا يعارض! السبب الصريح المنطوق ، وليس كلى خبر عن الموصول يلزم فيه ذلك نحو الذي كان معنا أمس فعل كذا كما فصل في المعاني ، وقد ردّ هذا بأنّ الجمع بين العمل الصالح والإيمان ظاهر في أنهما السبب والتصريح بسببية الإيمان المضاف إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالتنصيص على أنه ذلك الإيمان المقرون بما معه لا المطلق لكنه ذكر لأصالته وزيادة شرفه فلا استدراك ، ولا دلالة على استقلاله ، ثم إنّ النزاع إنما هو في سبب الهدأية إلى
طريق الجنة لا إلى الاستقامة على سلوك السبيل المؤدّي إلى الثواب وأنّ من لا يكون مهتديا إلى الجنة لا يدخل الجنة مطلقا ، ومنعه مكابرة فتدبر. قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ } أي من تحت منازلهم أو بين أيديهم ، وقوله استئناف أي نحويّ أو بيانيّ فلا محل له من الإعراب ، وقوله على المعنى الأخير لعدم المقارنة في الأوّلين وان صح أن يكون حالأ منتظرة لكنه خلاف الظاهر ، وقوله خبر أي ثالث ، وقوله أو حال أخرى منه أي من مفعول يهديهم فتكون حالاً مترادفة أو من الأنهار فهي متداخلة ، وقوله أو بيهدي أي على الأخير. قوله : ( أي دعاؤهم الخ ) الدعوى مشهورة في الادّعاء لكنها وردت بمعنى الدعاء أيضا ، وهو المراد هنا بقرينة ما بعده لأنه من جنس الدعاء وتكون أيضا بمعنى العبادة وقد جوّز إرادته هنا ، وان كانت الجنة ليست دار تكليف أي لا عبادة لهم غير هذا القول والمراد نفي التكليف كقوله : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } [ سررة الأنفال ، الآية : 35 ] والأوّل أظهر فلذا اختاره المصنف والثاني أدق أو المراد أنه عبادة لهم تلذذاً لا تكليفا. قوله : ( اللهئم إنا نسبحك الخ ) أشار به إلى أنّ سبحان مصدر بمعنى التسبيح ، وعامله محذوف ، وقدّرها اسمية وقدم اللهمّ مع أنه مؤخر بناء على أنّ النداء يقدم على الدعاء لكنه استعمل مع سبحانك كذلك أمّا جعلها اسمية فلأنه أبلغ بقرينة أن الجمل التي بعدها كذلك ، وأفا التأخير فلأنّ التنزيه تخلية عن جميع النقائص ، وفي النداء ربما يتوهم ترك الأدب. قوله : ( ما يحى به بعضهم بعضاً الخ ( اختلف في إضافة هدّا المصدر وهو تحية فقيل إنه مضاف لفاعله أي تحيتهم بتقدير مضاف أي تحية بعضهم بعضاً آخراً والبعض المقدر مفعول والفاعل محذوف وكلام المصنف رحمه الله يحتملهما ، وأما على كون المحيي الملائكة عليهم الصلاة والسلام فهو مضاف للمفعول لا غير وكذا إذا كان المحي هو الله سبحانه وتعالى كما في الكشاف ، وستأتي الإشارة إليه في كلام المصنف رحمه الله ، وقيل يجوز أن يكون مما أضيف فيه المصدر لفاعله ومفعوله معا إذا كان المعنى يحيي بعضهم بعضا كما قيل في قوله تعالى : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ سورة الأنبياء ، الآية : 78 ] حيث أضيف لداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام وغيرهما وهما حاكمان ومعهما المحكوم عليهم قيل وهذا مبني على أنه هل يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أم لا فان قلنا نعم جاز ذلك لأنّ إضافة المصدر لفاعله حقيقة ولمفعوله مجاز ، ومن منع ذلك أجاب بأنّ أقل الجمع اثنان فلذلك قال لحكمهم ، وقد مرّ أنّ الخلاف في ذلك إذا كان المجاز لغويا وأفا إذا كان عقليا فلا خلاف في جوازه ونظير. ما قيل في حب الهرّة من الإيمان أن المراد أن تحب الهرّة أو تحبك الهرّة
وقيل المراد حث الهزة مطلقا سواء كان منها أو لها ، وقيل لم يقصد بالإضافة إلى الفاعل والمفعول النظر إلى ذلك بل قطع النظر عنه ، ومعناه التحية الكائنة فيما بينهم والضمير على كل حال للمؤمنين وعلى كل حال لا يخفى ما فيه ، ولما رآه السفاقسيئ مشكلأ قال إنه مصدر مضان للمجموع لا على سبيل العمل فكان كما قيل :
ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر
قوله : ) أي أن يقولوا ذلك الخ ( فسره بالمصدر لأن المبتدأ آخر(5/8)
ج5ص9
المضاف إلى المصدر فيكون بعضاً منه فلا يقال إنه لا ضرورة لتأويله بالمصدر ، والدعاء مقول لهم لا قول. قوله : ) ولعل المعنى أئهم الخ ) يعني أن لدعائهم أوّلاً وآخراً فأوّله سبحانك اللهمّ ، وآخره الحمد دلّه رلمحت العالمين وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة ترقوا في معرفته تعالى ، ومعرفة كنه ذاته غير ممكن فالغاية القصوى معرفة صفاته وهي إئا سلبية وتسمى بصفات الجلال وافا غيرها وتسمى بصفات اجمرام وبه فسر قوله تعالى : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ سورة الرحمن ، الآية : 78 ] والأولى متقدمة على الثانية فلذا قدم قوله سبحانك ، وأخر النداء أيضاً مع تقدمه في نحوه إشارة إلى ترقيهم في معرفة صفات الجلال ، ثم قيل الحمد لله إشارة إلى ترقيهم في صفات الإكرام ، وقوله أو الله تعالى إشارة إلى الوجه الآخر ، وهو أن يكون تحية مضافا للمفعول والفاعل هو اللّه كما صرّج به الزمخشري فيما تقدّم وهو المذكور في قوله تعالى : { سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ سورة يس ، الآية : 58 ] . قوله : ) وأن هي المخففة من الثقيلة الخ ) واسمها ضمير الشان محذوف ، والجملة الاسمية خبرها وأن ومعمولاها خبر المبتدأ وليست مفسرة لفقد شرطها ولا زائدة كما قيل وقراءة مجاهد وقتادة ويعقوب وغيرهم بتشديدها ونصب الحمد تدذ على ذلك وعذى يسرع بنفسه حملا له على يعجل. قوله : ) وضع موضع تعجيله الخ ( قال سيبويه التقدير لو يعجل الله للناس الشرّ تعجيلا مثل تعجيلهم الخير ، ثم حذف تعجيلا وأقيمت صفته مقامه ثم حذفت الصفة وأقيم ما أضيفت إليه مقامها كاسأل القرية انتهى ، وفي الكشاف وضحع استعجالهم
بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم ، واسعافه بطلبتهم حتى كان استعجالهم بالخير تعجيل لهم والمراد أهل مكة ، وقولهم فأمطر علينا حجارة من السماء ، وفي الانتصاف هذا من تنبيهاته الحسنة الدالة على دقة نظره إذ لا يكاد يوضع مصدر مؤكد مقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز بدون هذه الفائدة الجليلة والنحاة يقولون فيه أجري المصدر على فعل مقدر دل عليه المذكور ، ولا يزيدون عليه وإذا راجع الفطن قريحته وناجى فكرته علم أنه إنما قرن بغير فعله لفائدة ففي قوله : { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } [ سورة نوح ، الآية : 17 ] التنبيه على نفوذ القدرة في المقدور وسرعة إمضاء حكمها حتى كان إنبات الله لهم نفس نباتهم أي إذا وجد الإنبات وجد النبات حتماً حتى كان أحدهما عين الآخر فقرن به ، وقال المدقق في الكشف أنه إشعار بسرعة إجابته لهم حتى كأنّ استعجالهم بالخير عين تعجيله لا يتأخر عنه ، وهذا كما قيل في قوله فانفجرت أنه دالّ على سرعة الامتثال كأنّ الانفجار ترتب على نفس الأمر فما قيل أنّ مدلول عجل غير مدلول استعجل لأن عجل يدلّ على الوقوع ، واستعجل على طلب التعجيل وذلك واقع من الله ، وهذا مضاف إليهم فلا يصح ما ذكر بل لا بدّ أن يقدر تعجيلاً مثل استعجالهم أي ولو يعجل الله للناس الشرّ إذا استعجلوه استعجالهم بالخير من قلة التدبر وكذا دفعه بأنّ استفعل ليس للطلب بل هو كاستقرّ بمعنى أقرّ ، وقد علم من كلام المصنف رحمه الله تعالى دفع ما توهموه لأنه لا بد فيه من تقدير ولكن طيه لدلالة المذكور عليه حتى كأنه مذكور بذكره إفادة النكتة المذكورة ولذا عده في البيان من إيجاز الحذف وشبهه المدقق بالفاء الفصيحة حتى أنه لو سمى المصدر الفصيح حسن ذلك وقد أطال بعضهم هنا بغير طائل مما رأينا تركه خيراً منه فقول المصنف رحمه الله تعالى وضع أي حل محله بعد حذفه ، وقوله في الخير لأنه مشبه به فهو ثابت بخلاف تعجيل الشرّ فإنه في حيز لو منفيّ وقوله : ( المراد شرّ استعجلوه ) يؤخذ مما سيقدره وبقية كلامه ظاهر إلا أنه قيل لو طرج قوله تعجيله للخير من البين كان أولى ، وقوله لأميتوا وهلكوا لأنّ معنى قضى إليه أجله أنهى إليه مذته التي قدر فيها موته فهلك ، وعلى قراءة قضينا الضمير فيه لله أيضا وفيه التفات. قوله : ( عطف على فعل محذوف الخ ) يعني أنه لا يصح عطفه على شرط لو ولا على جوابها لانتفائه ، وهذا مقصود إثباته لا نفيه فلذا ذهبوا فيه إلى طرق منها أنه معطوف على مجموع الشرطية لأنها في معنى لا يعجل لهم ، وفي قوّته فكأنه قيل لا نعجل بل نذرهم ، ومنها أنه معطوف على مقدر تدل عليه الشرطية أي ولكن نمهلهم أو لا تعجل كما قدره المصنف رحمه الله ، وقيل الجملة مستأنفة والتقدير فنحن نذرهم ، وقيل إنّ الفاء جواب شرط مقدر ، والمعنى ، ولو يعجل الله ما استعجلوه لأبادهم ، ولكن يمهلهم ليزيدوا في طغيانهم ثم يستأصلهم(5/9)
ج5ص10
وإذا كان كذلك فنحن نذر هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا من أهل مكة في طغيانهم يعمهون ، ثم نقطع دابرهم ، وقيل هذه
الآية متصلة بقوله إنّ الذين لا يرجون لقاءنا دالة على استحقاقهم العذاب وأنه تعالى إنما يمهلهم استدراجا وأتى بالناس بدل ضميرهم تفظيعاً للأمر ثم قيل فنذر الذين لا يرجون لقاءنا مصرحاً باسمهم ، وذكر المؤمنين إنما وقع في البين تتميماً ومقابلة فليس بأجنبيّ ، ولا حاجة إلى جعله جواب شرط مقدر ، وأمّ جعل لو بمعنى أن وتفريع ما بعده عليه فركيك إذا تأملت وان ظن أنه وجه وجيه. قوله : ( دعانا لإزالتة مخلصاً فيه الخ ا لجنبه في محل نصب على الحال ولذا عطف عليه الحال الصريحة والتقدير دعانا مضطجعا لجنبه أو ملقي لجنبه واللام على ظاهرها ، وقيل أنها بمعنى على ولا حاجة إليه وقد يعبر بعلى بدله وهي تفيد استعلاءه عليه ، واللام تفيد اختصاصه به لاستقراره عليه ، واختلف في ذي الحال فقيل الإنسان والعامل فيها مس ، واستضعف بأمرين.
أحدهما : تأخرها عن محلها بغير داع.
والثاتي : أنّ المعنى على أنه يدعو كثيراً في كل أحواله لا على أنّ الضرّ يصيبه في كل أحواله كما صرّح به في غير هذه الاية.
وقيل إنه لا بأس به فإنه يلزم من مسه الضرّ في هذه الأحوال دعاؤه في تلك الأحوال
أيضا لأنّ القيد في الشرط قيد في الجواب فإذا قلت إذا جاء زيد فقيراً أحسنا إليه فالمعنى أحسنا إليه في حال فقر. ، وقيل ذو الحال فاعل دعانا وهو ظاهر ثم هل المراد بالإنسان الجنس ، والأحوال بالنسبة إلى المجموع أي منهم من يدعو على هذه الحال ومنهم من يدعو على تلك أو المراد شخص معين وأنّ هذه أحواله ، والمراد الكافر ذهب إلى كل منها بعض المفسرين ولا حاجة إلى جعل إذا هنا للمضيّ ، وصرفها عن أصلها كما قيل وقوله ملقى قدر له متعلقا خاصا ليظهر به معنى اللام. قوله : ( وفائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال ( أي سواء كان بالنسبة لشخص واحد أو للنوع كما مز ، وأمّا شموله لأصناف المضار أي الأمراض فلأنها إمّا خفيفة لا تمنعه القيام أو متوسطة تمنعه القيام دون القعود أو شديدة تمنع منهما فهذه الأحوال مبينة لمضاره من السياق ولا خفاء في ذلك يحتاج إلى التوجيه كما توهم. قوله : ( مضى على طريقتة واستمرّ على كفره ) فيه إشارة إلى أنّ المراد بالإنسان نوع منه ، وهو الكافر لا الجنس فالمرور على هذا مجاز عن الاستمرار على ما كان عليه ، وعلى الثاني باق على حقيقته وهو كناية عن عدم الدعاء وعدى بعلى في الأوّل لتضمنه معنى المضيّ وعن في الثاني لتضمنه معنى المجاوزة. قوله : ) كأنه لم يدعنا الخ ( بالتشديد بيانا لأصله لقوله فخفف والتمثيل لتخفيفه
واضمار ضمير الشأن بدليل رفع ثدياه وهذا بناء على أنها إذا خففت لا يبطل عملها فيقدّر لها ما يقتضيه الكلام ، وقال الفاضل اليمني : أنه يبطل عملها ، وأصل البيت كان ثدييه فلما خفف بطل عملها فلا حاجة إلى تقدير. قوله :
( ونحومشرق اللون كان ثدياه حقان )
وفي بعض النسخ مشرق الصدر ولم يعز هذا البيت لقائله والنحر موضع القلادة من الصدر والأصل حقتان فحذفت تاؤه في التثنية على خلاف القياس كما قالوا ، وهذا يدل على أنه لا يقال حق بمعنى حقة كما يستعمله الناس ، وكان مخففة بطل عملها فالجملة بعدها لا محل لها فانظر من أي أنواع الجمل هذه أو اسمها محذوف في محل رفع وضمبر ثدياه للنحر والثدي معروف ، وقيل ليس البيت كالآية لأنها اعتبر فيها ضمير الشأن لأنّ حق هذه الحروف الدخول على المبتدأ والخبر ، ولو بعد التخفيف فإنه لا يبطل إلا العمل وعلى هذا لا حاجة إلى ضمير الشأن في البيت والتمثيل به لمجرّد بطلان العمل وهذا مخالف لما صرّحوا به فإنّ ابن مالك رحمه الله تعالى صرّج في التسهيل بأنها عاملة بعد التخفيف دائما ، وقال في المفصل يجوز إعمالها والغاؤها مطلقا فأوّله ابن يعيش بأنّ المراد بإلغائها عملها في ضمير الشأن وهو بعيد ومن ذهب إلى الأوّل قدر ضمير الشأن في البيت كما صرحوا به ، وأمّا التفصيل الذي ذكر. فلم نره لغيره ، وبطلان عملها يخرجها عن مقتضاها على القول به وفي شرح الشواهد لابن هشام رحمه الله أنّ هذا البيت أورده سيبويه رحمه الله تعالى هكذا :
ووجه مشرق النحر كان ثدياه حقان
وعليه فالضمير للوجه أو للنحر وهو بتقدير مضاف أي ثديا صاحبه أو الإضافة لأدنى ملابسة ، وقد روي أوّله وصدر ، وأصل كان كأنه والضمير للوجه أو الصدر أو للشأن(5/10)
ج5ص11
والجملة الاسمية خبره فلا يتعين تفدير ضمير الشأن كما قالوه هنا وروي كان ثدييه على أعمالها في اسم مذكور فحقان الخبر ، وقوله إلى كشف ضر الخ إشارة إلى تقدير مضاف لأنّ المدعو إليه كشفه لا هو ، وقيل إلى بمعنى اللام فلا تقدير فيه.
قوله : ( مثل ذلك التزيين الخ ) تفسير معنى لا إشارة إلى أنّ الكاف اسمية ، والإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده لا إلى شيء آخر مشبه به ، وقد مرّ تحقيقه في سورة البقرة في قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [ سورة البقرة ، الآية : 143 ] والتزيين مرّ تحقيقه وتحقيق فاعله في سورة الأنعام. قوله : ) حين ظلموا بالتكذيب واستعمال القوى الخ ) جعلها ظرفاً بمعنى حين لا
شرطية بتقدير جواب ، وهو أهلكناهم بقرينة ما قبله لعدم الحاجة إليه. قوله : ( أو عطف على ظلموا ) وكذا قوله : { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } وجوّز الزمخشريّ كونه اعتراضا بين الفعل ومصدره التشبيهي ، وقال النحرير لأنّ معنى ظلموا وما بعده إحداث التكذيب ، ومعنى هذا الإصرار عليه بحيث لا فائدة في إمهالهم ، وحاصل المعنى أن السبب في إمهالهم هذان الأمران ، وهذا ظاهر على تقدير العطف ، وأمّا على تقدير الاعتراض فلأنه مفيد لتقرير ما تخلل هو بينه ، وهو إفادة السببية وهذا دفع لما توهم من أنه لا يصلح سببا لإهلاكهم ، والعطف يقتضيه والضمير في كانوا عائد على القرون وجوّز مقاتل رحمه الله أن يكون ضمير أهل مكة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة ، والمعنى ما كنتم لتؤمنوا وكذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الجزاء نجزي وقرئ يجزي بياء الغيبة التفاتا من التكلم في أهلكنا إليها. قوله : ( وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم الخ ) قيل عليه أنّ علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لأنّ العلم تابع للمعلوم لا بالعكس وقال بعض فضلاء عصرنا كون العلم علة لكفرهم وعدم إيمانهم باطل لا يشتبه على مؤمن فضلا عن عالم فاضل لأنّ كون علم العالم الديان علة للكفر ، والعصيان مقالة أهل الزيغ والطغيان وحاشى مثل المصنف رحمه الله أن يقع فيه لكن ظاهر عطف قوله وعلمه الخ على قوله لفساد استعدادهم يوهم ذلك فيجب أن يؤوّل كلامه ، ويصرف عن ظاهره بأن يجعل المراد موتهم على الكفر المعلوم منه تعالى أو يجعل العلم علة للحكم بأنهم يموتون على الكفر ، ويكون حاصل المعنى ، ولقد أهلكنا القرون السابقة لما كذبوا وعلمت أنهم لا يؤمنون وان أهلكناهم فتكون العلة هي المعلوم أعني عدم إيمانهم فيما سيأتي ولكن إنما علم ذلك لكون علم الله تعالى محيطا بالمستقبل فتوسيط العلم لإثبات المعلوم لا لإفادة علية العلم فافهم ، وقال آخر من فضلاء العصر أقول معنى كون العلم تابعاً للمعلوم أنّ علمه تعالى في الأزل بالمعلوم المعين الحادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصيته العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية ، وأئا وجود الماهية وفعليتها فيما لا يزال فتابع لعلمه الأزليّ التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق ، وتوجد فيما لا يزال على هذه الخصوصية فنفس موتهم على الكفر ، وعدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزليّ ، ووقوعه تابع له فخذ هذا التحقيق ينفعك في مواضع شتى وهذا مما لا شبهة فيه وهو مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى وقد صرّج به النحرير في أوّل سورة الأنعام حيث قال : علم الله بأنهم يتركون الإيمان ، ويؤثرون الكفر صار سببا لامتناعهم عن الإيمان باختيارهم عند المعتزلة ، وأما عند أهل السنة فقد صار ذلك سبباً لعدم إيمانهم بحيث لا سبيل إليه أصلا وبهذا يندفع ما قال الإمام
الرازي إن هدّا يدل على أنّ سبق القضاء بالخسران ، والخذلان هو الذي حملهم على الامتناع عن الإيمان وذلك عين مذهب أهل السنة انتهى ، وبهذا علصت ما في هذا المقام من الخبط ، وقد زاد في الطنبور نغمة من قال في رده إنّ المصنف رحمه الله لم يرد الاستدلال بالعلم على المعلوم حتى يلزم جعل المعلوم تابعا للعلم ، ويرد عليه أنّ الأمر بالعكس بل أراد به الإشارة إلى أن وقوع إهلاكه تعالى القرون مشروط بعلمه بموتهم على الكفر ، وإن كان نفس الموت على الكفر سببا لنفس الإهلاك ، وهو كناية عن نفس موتهم على الكفر لأنّ علم الله تعالى يتعلق بالأشياء على ما هي عليه ، والنكتة في تلك الإشارة ما ذكرنا من الاشتراط فتدبر ما ذكرناه ، ولا تقع في هوّة التقليد كما وقعوا واحدا بعد واحد ، وقد سبق طرف من هذا فيما سبق ، وكون اللام لتأكيد النفي مز تفسيره. قوله : ( نجزي كل مجرم أو نجزيكم الخ ) يعني المجرمين إمّا عامّ شامل لهم ، ولمن قبلهم(5/11)
ج5ص12
من القرون أو خاص بالمخاطبين وذكر القوم إشارة إلى أنه عذاب استئصال والتشبيه على الثاني على ظاهره أي يجزيكم مثل جزاء من قبلكم وعلى الأوّل هو عبارة عن عظم هذا الجزاء والتشبيه فيه على منوال { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [ سورة البقرة ، الآية : 43 ا ] ولم يلتفت إلى جعل القوم المجرمين عبارة عن القرون لأنه غير مناسب للسياق ، والدلالة المذكورة من تخصيصهم بالوصف المذكور وهي ظاهرة. قوله : ( استخلفناكم قيها بعد القرون ) إشارة إلى أنه معطوف على قوله ، ولقد أهلكنا لا على ما قبله ، وقوله استخلاف من يختبر هو معنى قوله لننظر واشارة إلى أنه على طريق التمثيل لأنّ المعنى كاستخلاف إذ حقيقة الاختبار لا تصح في حقه تعالى. قوله : ( أتعملون خيرا أو شرّا الخ ( كذا وقع في الكشاف فقيل عليه القاعدة النحوية أنّ ما بعد كيف إن كان فعلاً كان حالاً نحو كيف ضرب وان كان اسما كان خبرا نحو كيف زيد ، وهذا يخالفه فكأنه جعله مجازا عن أي شيء لدلالة المقام عليه ، ويحتمل أنه بيان لحاصل المعنى ، وفيه أن ما ذكره ليس على إطلاقه فإنها في كيف كنت خبر أيضا ، وفي كيف ظننت زيداً مفعول به ، والتحقيق أن معناها السؤال عن الأحواد والصفات لا عن الذوات ، وغيرها فالسؤال هنا عن حالهم وأعمالهم ولا معنى للسؤال عن العمل إلا عن كونه حسنا أو قبيحا وخيرأ أو شزاً فليست مجازاً بل هي على حقيقتها فهي إفا مفعول به أو مفعول مطلق قال في المغني وعندي أنها تأتي مفعولاً مطلقأ وأنّ منه كيف فعل ربك إذ المعنى أفي فعل فعل ربك ولا يتجه فيه أن يكون حالاً من الفاعل انتهى. قوله : ) وكيف معمول تعملون فانّ معنى الاستفهام يحجب الخ ( أي ليس معمولاً لننظر لأن الاستفهام له الصدارة فيحجب أي يمنع ما قبله من العمل فيه ولذا لزم تقديمه على عامله هنا ، وهو من التعليق على كل حال إقا
لأنّ النظر بمعنى العلم أو لكونه طريقا له فيعامل معاملة أفعال القلوب في جريان التعليق فيه ، وفي قوله معمول تعملون إشارة مّا إلى ما تقدم ، وفي قوله سابقا يختبر إشارة إلى أنّ المراد من النظر هنا الاختبار والمراد منه العلم لأنّ الاختبار طريقه فهو راجع إلى ما في الكشاف فإن قلت إذا كان بمعنى العلم يلزم أن لا يكون الله عالما بأعمالهم قبل استخلافهم قلت المراد أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بأعمالهم ليجازيهم بحسنها كقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ، [ سورة هود ، الآية : 7 ] ويمكن أن يقال المراد بالعلم المعلوم كما مرّ في نظائره فحينئذ يكون هذا مجازاً مرئياً على استعارة ، وعلى الأوّل استعارة تمثيلية مرتبة على استعارة تصريحية تبعية وليس الذهاب إلى هذا من المصنف رحمه الله ، والزمخشريّ لأنّ النظر تقليب الحدقة والله تعالى لا يتصف به فلا يلزم تبعيته له في نفي الرؤية كما هو مذهب بعض القدرية القائلين بأنه تعالى لا يرى ، ولا يرى كما توهم ولا في جعل رؤية الله بمعنى علمه فإنّ الرؤية إدراك عين المرئيّ كما أنّ السمع إدراك المسموع ، وهي حالة مغايرة للعلم فينا ، وأمّا في الله تعالى فهل هي مغايرة لعلمه بالمرئيات ، والمسموعات كما ذهب إليه الأشاعرة أو ليست مغايرة له بل رؤية اللّه ، وسمعه عبارة عن علمه كما ذهب إليه المعتزلة كما ذهب إليه بعض شرّاح الكشاف بل لأن المعنى يقتضيه فإذا قلت أكرمتك لأرى ما ثصنع فالمعنى لأختبرك ، وأعلم ما صنعك فأجازيك عليه ، ومن حمل كلام المصنف رحمه الله تعالى على أنه حمل البصر على الانتظار ، والتربص! الذي هو أحد معانيه وقال إنّ معمول تعملون ضمير كيف لا هو نفسه فقد خبط وتعسف لعدم تدبر كلام المصنف رحمه الله ولم يعرف أنّ كيف لا يصح أن يرجع إليها ضمير كما صرّج به السيرافيّ في شرح الكتاب ، ولولا خوف الملل لذكرت كلامه برمته ، وكشفت لك الغطاء عما فيه من المفاسد فكن على بصيرة من ربك. قوله : ( وفائدته الدلالة ) أي لم يقل لننظر عملكم ، وعدل عنه إلى ما ذكر لهذه النكتة وهي أنّ النظر إلى كيفية الأعمال لا إليها نفسها ، وهما بالنظر إلى معناه الأصليئ فإن المجاز مشعر به ، وملوح إليه في الجملة فتدبر ، وقوله يحسن الفعل تارة ، ويقبح كالخمر يشرب للهو ولإساغة الغصة عند عدم غيرها. قوله : ( يعني المشركين الخ ) هذا بيان للواقع ، ولأنّ من لا يرجو اللقاء وينكر البعث فهو مشرك ، وقوله : ( بكتاب آخر ) إشارة إلى أنّ المراد بالقرآن معناه اللغوفي ، وقوله : ( أو ما نكرهه ( أو فيه لمنع الخلو. قوله : ( أو بدّله(5/12)
ج5ص13
بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى الخ ( التبديل يطلق على تبديل ذات بذات أخرى كبدلت الدنانير دراهم ، وعلى صفة بأخرى كبدلت الخاتم حلقة فالظاهر أنّ المراد بقوله أئت بقرآن غير هذأ القسم الأوّل ، وقوله أو بدله الثاني لأن تبديل بعض
الشيء ليس تبديلا لذاته بل قريب من تبديل الصفة ، والصورة. قوله : ) ولعلمهم سألوه الخ ( الإسعاف المساعدة بالإجابة إلى ما طلبوه فيلزموه بأنه ليس من عند الله بل هو افتراء منه فلذا بدله وغيره كما يريد وليس المراد أنه لو أجابهم آمنوا ، وقوله ما يصح إشارة إلى أن كان تامّة بمعنى وجد ونفي الوجود قد يراد ظاهره ، وقد يراد به نفي الصحة فإنّ وجود ما ليس بصحيح كلاً وجود. قوله : ( وهو مصدر استعمل ظرفاً ) أي هو مصدر على تفعال بكسر التاء ولم يجىء مصدر بكسرها غير تلقاء وتبيان وان وقع في الأسماء غيرهما ، وقرئ شاذاً بفتح التاء ، وهو القياس في المصادر الدالة على التكرار كالتطواف ، والتحوال ، وقد يستعمل تلقاء بمعنى المقابل ، وأمام فينتصب انتصاب الظروف المكانية ، ويجوز جزه بمن أيضا فإنها لا تخرج الظرف عن ظرفيته ، ولذا اختصت الظروف الغير المتصرّفة كعند بدخولها عليها فهو هنا كذلك بمعنى من جهتي ومن عندي استعمل في الظرفية المجازية إذ معنى الملاقاة غير مراد هنا فما قيل إن أراد أنه يستعمل ظرفاً ولو في موضع آخر فمسلم كتوجهت تلقاءه اًي جانبه ، وان أراد أنه هنا ظرف فممنوع لدخول من عليه لا صحة له. قوله : ( وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل ) يعني أنهم اقترحوا عليه أحد أمرين الإتيان بقرآن آخر والتبديل فأجاب عن التبديل فقط بحسب الظاهر لأن الإتيان بقرآن آخر غير مقدور عليه فلم يحتج إلى الجواب عنه لأنه إذا لم يكن له التبديل لم يكن له الإتيان بقرآن آخر بطريق الأولى فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل ، والحقيقة ، وهم يعلمون أنّ الإتيان بمثله غير مقدور ولكن اقترحوه لما مرّ ولا يصح أن يكون مرادهم الإتيان به من الله تعالى بالوحي أيضاً لأنه لا يناسب قوله إن اتبع إلا ما يوحي إليّ إني أخاف إن عصيت ربي ، وأمّا كون عصيانه بالاقتراج على الله فإنه لا يليق به فخلاف الظاهر الناطق به السياق ، وفي قوله من تلقاء نفسي إشعار بأنه يكون من الله وهو كذلك كما وقع في نسخ بعض الآيات كما سيشير إليه ، وأمّا الاعتراض بأنّ قوله من تلقاء نفسي يشعر بأنه مقدور له ، ولكن لا يفعله بغير إذنه تعالى والتبديل بالمعنى الأوّل أي تبديل القرآن بغيره غير مقدور له فليس بوارد لأنّ التبديل المقصود به تبديل البعض بدليل وقوعه في مقابلة الأوّل ، والسكوت عن الأوّل لا يشعر بإمكانه بل يشعر بخلافه فتدبر. قوله : ( تعليل لما يكون الخ ) أي مستأنف لبيان وجه ما ذكره والمستبد المستقل وقوله : ) وجواب للنقض الخ ) أي أنه جواب لنقض مقدر ، وهو أنه كيف هذا وقد وقع مثله بالنسخ لبعض الآيات ، واعترض عليه بأنّ قوله من تلقاء نفسي يحصل به جواب النقض فلا حاجة لدفعه بهذا بل الجواب حاصل بالأوّل ، وهذا تعميم بعد
التخصيص فيشمل النسخ وغيره ، وفيه بحث ، وقوله : ( ولذلك الخ ) أي قيده بقوله من تلقاء نفسي رذا لتعريضهم بأنه من عنده ، وسماه عصيانا لأنّ تبديل ما هو من عند الله معصية ، وقوله : ( وفيه إيماء الخ ( لأنّ اقتراج ما يوجب العذاب يستوجبه أيضاً ، وإن لم يكن كقعله ولذا جعله إيماء. قوله : ! ( لو شاء الله غير ذلك ( مقتضى الظاهر أن يقال لو شاء الله أن لا أتلوه ما تلوته لأنّ مفعول المشيئة المحذوف بعد لو عين ما وقع في الجواب على ما قرّره أهل المعاني فقيل المراد بقوله غير ذلك عدم تلاوته فهو تفسير بالمعنى ، وقد تقدم ما فيه فتذكره. قوله : ) ولا أعلمكم به على لساني ( دريت بمعنى علمت يقال : دريت بكذا ، وأدريتك بكذا وأدريتك كذا فيتعذى بنفسه ، وبالباء وكذا العلم لكونه بمعناه قد يتعذى بالباء فيقال علمت به كما استعمله المصنف رحمه الله ، وأعلمته بكذا وفي الدرّ المصون أنه إذا تعدى بالباء يضمن معنى الإحاطة ، وفي القاموس أنه إذا تعدى بالباء يكون بمعنى الشعور ، وفيه نظر. قوله : ) بلام التثيد ( المراد بلام التاً كيد اللام التي تقع في جواب لو ، وليست لام الابتداء لأنها لا تدخل على(5/13)
ج5ص14
الماضي ، وأفا دخولها في المعطوف على الجواب دونه ، وان كان خلاف الظاهر فهو جائز لنكتة ، وهي هنا إن إعلامهم به على غير لسانه أشد انتفاء وأقوى قيل ، ولا هذه مذكرة ومؤكدة للنفي زائدة لأن لا تقع في جواب لو لأنه يقال لو قام زيد ما قام عمرو دون لا قام ، فيه نظر لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وقوله ، والمعنى أي على هذه القراءة.
قوله : ( على لغة من يقلب الألف المبدلة الخ ) هذه قراءة الحسن وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهمزة ساكنة فقيل إنها مبدلة من ألف منقلبة عن ياء وهي لغة عقيل كما حكاه قطرب فيقولون في أعطاك أعطأك ، وقيل لغة بلحرث ، وقيل الهمزة أبدلت من الياء ابتداء كما يقال في البيت لبأت وهذا على كونها غير أصلية وقد قرئ بالألف أيضا. قوله : ( أو من الدرء الخ ) فالهمزة أصلية من الدرء ، وهو الدفع والمنع ، ويقال أدرأته أي جعلته دارئا ودافعا والمعنى ما ذكره المصنف رحمه الله وقرئ أنذرتكم من الإنذار. قوله : ( مقدار عمر ( عمر يشبه بظرف
الزمان فينتصب انتصابه أي مدة ، وقيل هو على حذف مضاف أي مقدار عمر ، واليه ذهب المصنف رحمه اللّه تعالى وهو بضم الميم وقرأ الأعمش بسكونها للتخفيف وقوله مقدار عمر بالتنوين فأربعين منصوب بدل أو عطف بيان لمقدار ويجوز إضافته ، والأربعون سن به تمام الرجولية والعقل ، ولذا أكثر جمعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكون بعدها وكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم ، وقوله من قبل القرآن إشارة إلى أنّ الضضير عائد عليه على معنى النزول وقيل على وقت النزول ، وقبل التلاوة وقوله لا أتلوه ولا أعلمه بيان للقبلية المذكورة. قوله : ( فإنه إشارة إلى أن القرآن الخ ) تعليل للتقرير قيل عليه إنّ كلامه لا يخلو من تشويش ولو جعل قوله فإنّ من عاس تعليلاً لقوله ثم قرر الخ بدل قوله فإنه إشارة الخ وأتى بمعنى قوله القرآن معجز آخراً بأن يق!ول علم أنه معلم من الله وأنّ ما قرأ عليهم معجز خارق للعادة انتظم غاية الانتظام ، وقوله بين ظهرانيهم بفتح النون أي بينهم ، وفي وسطهم ، والقريض الشعر من القرض ، وهو القطع ، : والبذ بالمعجمة الغلبة والمنطيق بكسر الميم البليغ والأحاديث جمع حديث على خلاف القياس أو جمع أحدوثة ، وأعرب بمعنى أظهر ، وبين والأقاصيص القصص ، وقوله على ما هي عليه أي على النهج التي وقعت عليه مطابقا للواقع وقوله معلم به من التعليم أو الإعلام. قوله : ( أفلا تستعملون عقولكم الخ ) العقل قوّة للنفس ، ونور روحانيّ به تدرك العلوم ، وعقل يكون بمعنى علم وأدرك ، والمصنف رحمه الله جعله مأخوذاً من العقل المذكور والمراد به استعماله لأنه مما يعلم بالعقل ، ويدرك بالفكر. قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى } قد مرّ مرارا أنّ نفي الأظلمية كناية عن نفي المساوي أيضاً ، وقوله تفاد تفاعل من الفداء جعل مجازا عن المحاماة ، والاحتراز والاتقاء والاجتناب قال الشاعر :
تفادي الأسود القلب منه تفاديا
وقوله مما أضافوه إليه كناية أي مما نسبوه إليه من كونه افتراء منه لأنه المقصود من قولهم : { ائْتِ بِقُرْآنٍ } الخ كما مرّ. وقول : أو تظليم الخ أي نسبتهم إلى الظلم ، والحبهم به عليهم فعلى الأوّل القصد إلى نفي ما ذكروه بأنه لا أحد أظلم ممن أسند إلى الله مالم يقله وكذب بآياته ، وعلى الثاني يتضمن ذلك مع زيادة لأنّ نسبته إلى الافتراء تكذيب بايات الله
والأوّل أنسب بالمقام وعلى الثاني تعلقه به لأنهم إنما سألوه صلى الله عليه وسلم تبديله لما فيه من ذمّ آلهتهم الذين افتروا في جعلها آلهة ، وقيل إنه توطئة لما بعده. قوله : ( فكفر بها ) يعني أنّ المراد الكفر بكونها من عند الله لا تكذيب ما تضمنته ، وقوله : ( لأنه جماد الخ ) المقصود من هذا الوصف نفي المعبودية عن الأوثان إمّا لأنها جمادات لا تقدر على النفع ، والضرّ ومن شأن المعبود القدرة على ذلك وأمّا لأنهم إن عبدوها لا تنفعهم ، وان تركوا عبادتها لا تضرّهم ومن شأن المعبود أن يثيب عابده ، ويعاقب من لم يعبده ، والفرق بينهما إطلاق النفع ، والضرّ في الأوّل وتقييده بالعبادة وتركها في الثاني كذا في شرح الكشاف ، وكلام المصنف رحمه الله صريح في الأوّل وأو للتنويع. قوله : ( وكأنهم كانوا شاكين الخ ) أي شاكين في البعث كما أشار إليه بقوله إن يكن بعث لأنّ المتبادر من الشفاعة عند الله أنه في الآخرة ، وهو مستلزم للبعث ، وقوله لا يرجون لقاءنا يقتضي(5/14)
ج5ص15
خلافه من إنكارهم له فإذا كانوا شاكين مترددين كانوا تارة لا يرجون اللقاء ، وأخرى يرجونه ويعدونهم شفعاء لهم فيه ، وأورد عليه أنه مخالف لقوله تعالى : { لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا } [ سورة يونس ، الآية : 7 ] على ما فسره المصنف رحمه الله والفرضر لا يستلزم التردّد والشك يعني هذا القول منهم على سبيل الفرض والتقدير أي إن كان بعث كما زعمتم فهؤلاء يشفعون لنا فلا تنافي بين الآيتين والمراد بالشك مطلق التردّد لا ما تساوى طرفاه ، ولذا قال فيما سيأتي على توهم أنه الخ. قوله : ( وهذا من فرط جهالتهم الخ ) أي ما ذكر في قوله ويعبدون من دون الله الخ ، وتركهم عبادة الله من قوله من دون الله لأنّ معناه يعبدون غير الله مما لا يضرّ ولا ينفع والموجد بالجيم بمعنى الخالق فإن قلت الشفاعة نفع ولو كانت متوهمة فكيف هذا مع قوله قطعا الخ قلت مراده بقوله يعلم قطعا علمهم في الدنيا بعدم نفعها وضرّها فإنه محقق وانكارهم مكابرة لا يعتذ بها أو المراد علم غيرها بذلك مطلفا فتأمل. قوله : ( أتخبرونه ) قيل فسره به مع ظهوره لأنه يرد بمعنى الإعلام وهو غير مناسب للمقام ، وفوله وفيه تقريع وتهكم هو الواقع في أكثر النسخ يعني المقصود من ذكر أنباء الله بما لا تحقق له ، ولم يتعلق به علمه التهكم والهزؤ بهم ، والا فلا أنباء ، وقوله العالم بجميع المعلومات إشارة إلى ما
يلزم من نفي علمه بذلك وهو عدم تحققه. قوله : ( من العائد المحذوف ) وهو مفعول يعلم إذ التقدير يعلمه وهذه الحال مؤكده لنفي الشريك المدلول عليه بما قبله ، وهو جار على التفسيرين ووجه التأكيد إنه جرى في العرف أن يقال عند تأكيد النفي للشيء ليس هذا في السماء ، ولا في الأرض! لاعتقاد العامة أنّ كل ما يوجد إما في السماء ، وأما في الأرض كما هو رأي المتكلمين في كل ما سوى الله إذ هو المعبود المنزه عن الحلول ، وهذا إذا أريد بالسماء ، والأرض جهتا العلو والسفل ، وقيل الكلام إلزامي لاعتقاد المخاطبين أن الأمر كذلك ، وعلى كلام المصنف رحمه الله تعالى فيه دليل على نفي مدعاهم لأنّ ما فيهما مخلوق مقهور فكيف يكون شريكأ لخالقه ، والمعبود السماوي الكواكب ، والأرضيّ الأصنام ، والهياكل وقوله : ( عن إشراكهم ( إشارة إلى أن ما مصدرية ، وما بعده إشارة إلى أنها موصولة ، والعائد محذوف. قوله : ( موجودين على الفطرة الخ ) أي فطرة الإسلام ، والتوحيد التي خلق عليها كل أحد كما في الحديث فالمراد كونهم على جبلة واحدة قبل أن يظهر خلافه ، وهو في ابتداء النشأة بقطع النظر عما عرض لهم فالمراد كونهم على جبلة واحدة قبل أن يظهر خلافه ، وهو في ابتداء النشأة بقطع النظر عما عرض لهم أو المراد اتفاقهم على الحق في عهد آدم عليه الصلاة والسلام ، قبل اختلاف أولاده أو المراد اتفاقهم على التوحيد ، والحق في زمن نوج عليه الصلاة والسلام بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار وفي هذه الوجوه الاتفاق في الحق أو المراد اتحادهم في الضلال والباطل في الفترة ، وهذا أضعفها لبعده ولأنه باعتبار الأكثر لأن منهم من كان على الحق أو على الضلال معطوف على الحق. قوله : ( باتباع الهوى والأباطيل الخ ) هذا ناظر إلى كون الاتفاق في الحق ، وقوله أو ببعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام الخ ناظر إلى كونه في الضلال. قوله : ) بتأخير الحكم بينهم الخ ( يعني أن الناس لما اختلفوا ،
وافترقوا إلى محق ومبطل ، والله قادر على أن يحكم بينهم وينزل عليهم آيات ملجئة إلى اتباع الحق أو أن يهلك المبطل ويظهر المحق لكن الحكمة ، والقضاء الأزلي اقتضيا تأخيره إلى يوم الفصل والجزاء. قوله : ( أي من الآيات التي اقترحوها الخ ) كآية موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام طلبوا ذلك تعنتا وعناداً والا فقد أتى بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة تعلو على جميع الآيات ، وتفوق سائر المعجزات لا سيما إعجاز القرآن الباقي على وجه الدهر إلى يوم القيامة ، وفسر في الكشاف قوله يقولون بقالوا إشارة إلى أنه لحكاية الحال الماضية ولم يتبعه المصنف رحمه الله لعدم تعينه. قوله : ( تصرف عن إنزالها ( يعني أن الصارف عن الإنزال للآيات المقترحة أمر مغيب ، واعترض عليه بأنه أمر متعين ، وهو عنادهم فالمراد إنما الغيب دلّه لا أعلم متى ينزل بكم العذاب المستأصل لشأفتكم لعنادكم ، وان كنت عالماً بأنه لا بد من نزوله وأجيب بأنا لا نسلم أنّ عنادهم هو الصارف فقد يجاب المعاند ، وقوله تعالى وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون إن دذ على بقائهم على العناد ، وان جاءت لم يدل على أن العناد هو الصارف. قوله : ( لنزول ما اقترحوه ((5/15)
ج5ص16
وقع في نسخة ما اقترحتموه كما في الكشاف ، وهو بيان لمتعلق الانتظار ، وقيل إنه تهكم بهم لأنه لم يقع ، وفيه تأمل ، وقوله لما يفعل الله بكم كالقحط الذي دام عليهم ، ونصره عليهم ، وقتلهم في مواطن كثيرة ، وضمير غيره راجع لما+ قوله تعالى : ( { وَإِذَا أَذَقْنَا } الآية الخ ( قيل المراد بالناس كفار مكة لما ذكر في سبب نزولها من قحطهم ، وطلبهم أن يدعو لهم بالخصب فيؤمنوا ، وقيل إنه عاتم لجميع الكفار دون العصاة لأنّ في الاية ما ينافيه ، وقوله صحة وسعة تمثيل ، ولم يرد به الحصر وفسر مكرهم بالطعن ، وقيل هو إضافة ذلك للأصنام والكواكب والحيا بالمد والقصر المطر ، والمراد به هنا الخصب ، وقوله منكم بيان لأنّ أسرع أفعل تفضيل وذكر للمفضل عليه ، وأسرع مأخوذ من سرع الثلاثيّ كما حكاه الفارسيّ ، وقيل هو من أسرع المزيد وفيه خلاف فمنهم من منعه مطلقاً ، ومنهم من أجازه مطلقاً ، وقيل إن كانت همزته للتعدية امتنع والا جاز ومثله بناء التعجب ، وقوله قد دبر الخ
تفسير لسرعته والتدبير مجاز عن التقدير أي تقديره لذلك قبل ذلك. قوله : ( على سرعتهم المفضل عليها الخ ) في الكشاف ما وصفهم بسرعة المكر فكيف صح قوله أسرع مكرا ، وأجاب بأنه دل عليه كلمة المفاجأة لأنّ المعنى فاجأوا وقوع المكر منهم وسارعوا إليه ، وظاهر كلامه أنّ صحة استعمال أسرع الدال على المشاركة في السرعة متوقف على دلالة الكلام عليه وأنّ وجهه ما ذكر ، وكان المصنف رحمه الله لم يصرّح بالصحة إشارة إلى أنه ليس بلازم لكن دلالة الكلام عليه أوضح وأظهر ، وهو كذلك وإذا الأولى شرطية ، والثانية فجائية رابطة لجواب الشرط والكلام في كونها ظرف زمان أو مكان ، وفي العامل فيها وفي الشرطية مبسوط في محله. قوله : ( والمكر إخفاء الكيد ) الكيد المضرة ، والمكر إيصال المضرة ، وإطلاقه على الله مجاز ، ولا يستعمل إلا مشاكلة ، وقد سبق ما فيه ، وقوله وهو من الله الخ يعني إطلاقه عليه إمّا استعارة بتشبيه الاستدراج به أو مجاز مرسل أو مشاكلة فإنها لا تنافيه كما في شرح المفتاح. قوله : ( تحقيق للاثتقام ( كما مرّ من أنه إذا ذكر علم اللّه أو إثباته بكتابة ونحوها لما فعله العباد فهو عبارة عن المجازاة ، وقوله لم يخف الخ. تجهيل لهم في مكرهم ، واخفائهم ذلك على من لا يخفى عليه خافية. قوله : ( بالياء ليوافق ما قبله ) هذه قراءة الحسن ومجاهد ونافع في رواية عنه جريا على ما سبق من قوله منهم ولهم ، والباقون بالخطاب مبالغة في الإعلام بمكرهم والتفاتاً لقوله قل الله إذ التقدير قل لهم فناسب الخطاب ، وفي قوله إنّ رسلنا التفات أيضا إذ لو جرى على قوله قل الله لقيل إن رسله فلا إشكال فيه كما قيل من حيث إنه لا وجه لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إنّ رسلنا إذ الضمير لله لا له ، وأجيب بتقدير مضاف أي رسل ربنا أو الإضافة لأدنى ملابسة كما قيل ، وقد أجاب بأنه حكاية ما قال الله أو على كون المراد أداء المعنى لا بهذه العبارة ، وهذا على تقدير أن يكون هذا الكلام داخلا في حيز القول ، وليس بمتعين لجواز جعل قول الله ذلك تحقيقاً للقول المأمور به وفي قوله على الحفظة إشارة إلى أنّ المراد برسلنا رسل الملائكة ، ولو قال الكتبة كان أظهر فتأمّل. قوله تعالى : ( { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ } الآية ( قال الإمام لما قال تعالى : { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً } [ سورة يونس ، الآية : 121 الخ وهو كلام كليّ ضرب لهم مثلابهذا ليتضح ويظهر ما هم عليه ، وقوله يحملكم على السير ، ويمكنكم في الكشاف فإن قلت كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحريعني وهو مقدم عليه فلا يكون غاية له إذ التسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك قلت لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ، ولكن مضمون الجملة الثرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل
يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف ، وتراكم الأمواج ، والظن للهلاك ، والدعاء بالإنجاء قال أبو حيان رحمه الله : وهو كلام حسن ولما رآه محتاجا للتأويل أوّله بالحمل على السير والتمكين منه المتقدم على الكون في الفلك ليتضح جعله غاية له فهذا هو الداعي لتفسير المصنف رحمه الله بما ذكر ، ولم يحتج لما في الكشاف لأنه قيل إنّ التحقيق أنّ الغاية إن فسرت بما ينتهي إليه الشيء بالذات فالغاية ليست إلا الشرط وأن فسرت بما ينتهي إليه الشيء مطلقاً سواء كان بالذات أو بالواسطة كان الغاية مجموع الشرط ، والجزاء وقيل المسير(5/16)
ج5ص17
في البحر هو اللّه إذ هو المحدث لتلك الحركات في السفينة بالريح ، ولا دخل للعبد فيه بل في مقدماته وأما سير البز فمن أفعال العبد الاختيارية ، وتسيير الله فيه إعطاء الآلات والأدوات فيلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، ولذا فسره المصنف رحمه الله بالحمل عليه بأن أحوجه للمعاش ، والحركة ومكنه منها فهو معنى مجازقي شامل لهما ، وأمّا ادعاء اتحاد السير فيهما والاستدلال به على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله فتكلف وقال ابن عطية رحمه الله ركوب البحر للجهاد والحج جائز ، وكذا ركوبه لضرورة المعاس ، ولغيره وعند هيجان الريح مكروه.
تنبيه : في بعض التفاسير حكى الفخر خلافا في راكب السفينة هل هو متحرّك بحركتها أو ساكن وظاهر الآية الأول لتسويته بين البرّ والبحر وسير البرّ يعمّ الركوب والمشي ، ثم نقل عن السلف المنع فيه لغير ضرورة ، وعند هيجان ريحه.
) قلت ) الأوجه أن لا خلاف فإنه ساكن بالذات سائر بالواسطة ، وقرأ ابن عامر ينشركم بالنون ، والشين المعجمة ، والراء المهملة من النشر ضد الطيّ أي يفرّقكم ويبثكم ، وقال الحسن ينشركم من النشر بمعنى الإحياء ، وقرأ بعض الشاميين ينشركم بالتشديد للتكثير من النشر ، وقرأ الباقون يسيركم من التسيير ، والتضعيف فيه للتعدية تقول سار الرجل وسيرته ، وقال الفارسي : إنّ سار متعد كسير لأنّ العرب تقول سرت الرجل وسيرته بمعنى كقول الهذلي :
فلاتجزعن من سنة أنت سرتها فأوّل راض سنة من يسيرها
ولم يرتضه النحاة ، وأولوا البيت بما فصله المعرب. قوله : ( في الفلك ) مفرده وجمعه واحد والحركات فيه بينها تغاير اعتبارقي ، وقوله بمن فيها إشارة إلى أنّ الخطاب الأوّل عامّ وهذا خاص بمن فيها وهو التفات للمبالغة في تقبيح حالهم كأنه أعرض! عن خطابهم وحكى لغيرهم سوء صنيعهم وباء بهم للتعدية وفي بريح ربها للسببية فلذا تعلق انحرفان بمتعلق واحد لاختلاف معناهما ، ويجوز أن تكون الباء الثانية للحال أي جرين بهم ممتبسة بريح طيبة فيتعلق
بمحذوف كما في البحر ، وقيل بريح متعلق بجرين بعد تعديته بالباء وقد تجعل الأولى للملابسة ، وفرحوا عطف على جرين وهو عطف على كنتم ، وقد تجعل حالاً وفسر طيبة بلين هبوبها يعني وموافقتها لهم بمقتضى المقام ، وقوله : ( والضمير للفلك ) قدّمه لكونه أظهر ، وان كان الثاني أقرب ، وقوله بمعنى تلقتها تأويل له على الوجه الثاني وهو ظاهر. قوله : ( ذات عصف شديدة الهبوب ) أي هو من باب النسب كلابن وتامر وهو مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به فلذا لم يقل عاصفة مع أن الريح مؤنثة لا تذكر بدون تأويل ، وقوله شديدة الهبوب تفسير لمعنى العاصف لأنه من العصف ، وهو الكسر أو النبات المتكسر لأن الريح الشديدة تفعل به ذلك فكان كتامر من التمر ، ومن لم يدر هذا قال لو حذف قوله ذات عصف كان أولى ، وجعله من باب تامر لا وجه له لأنّ الريح تذكر وتؤنث فلذا لم يقل عاصفة أو لاختصاص العصوف به فهو كحاثض ، وكيف يتأتى ما ذكره وتفسيره بشديدة الهبوب ينافيه ، وقوله يجيء الموج منه تخصيص له لأنه ليس على ظاهره. قوله : ( اهلكوا وسدّت عليهم مسالك الخلاص الخ ) يشير إلى أنه استعارة تبعية شبه إتيان الموح من كل مكان الذي أشرف بهم على الهلاك ، وسد عليهم مسالك الخلاص ، والنجاة بإحاطة العدوّ ، وأخذه بأطراف خصمه ، وهذا أوفق بالنظم من قوله في الكشاف جعل إحاطة العدوّ بالحيّ مثلا في الهلاك ، وليس هذا كقوله : { واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } [ سورة البقرة ، الآية : 19 ] وهذا لا ينافي قوله تعالى وظنوا ، وقيل إنه يريد أنّ الإحاطة استعارة لسد مسالك الخلاص تشبيها له بإحاطة العدوّ بإنسان ثم كني بتلك الاستعارة عن الهلاك لكونه من روادفها ولوازمها فقوله أهلكوا بيان للمعنى المراد بطريق الكناية. وقوله : ( وسدّت الخ ) بيان للمعنى الأصلي له ، وأنه استعارة لا حقيقة وجعل كناية عن نفس الهلاك لا القرب منه كما قيل لأنه مقطوع لا مظنون ، وإنما المظنون هو الهلاك نفسه ومن جعله كناية عن القرب منه جعل الظن بمعنى اليقين ، ولك أن تجعله كناية عن الهلاك مع كون الظن بمعنى اليقين بناء على تحقق قوعه. في اعتقادهم ، وفيه بحث. قوله : ( من غير إشراك لتراجع الفطرة )(5/17)
ج5ص18
أي لرجوعهم إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد ، وأنه لا متصرّف إلا الله المركوز في طبائع العالم وصيغة التفاعل للمبالغة ، وقوله من شدة الخوف تعليل للتراجع والزوال المذكور وما ذكره المصنف رحمه الله تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ، رعن الحسن رحمه الله ليس المراد إخلاص الإيمان بل علمهم بأنه لا ينجيهم إلا الله جار مجرى الإيمان الاضطراريّ فتأمّل. قوله : ( وهو بدل من ظنوا بدل اشتمال الخ ) جعله أبو البقاء رحمه الله جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط أي لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله ،
وجعله المصنف رحمه الله كالزمخشري بدل اشتمال لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فبينهما ملابسة تصحح البدلية ، وجعله أبو حيان رحمه الله جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا كان حالهم إذ ذاك ومخلصين حال وله متعلق به والدين مفعوله ، وقيل إنه لم يجعله استئنافا جواب ماذا صنعوا ولا جواب الشرط وجاءتها حال كقوله : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ سورة العنكبوت ، الآية : 65 ] لأنّ البدل أدخل في اتصال الكلام والدلاله على كونه المقصود مع إفادته ما يستفاد من الاستئناف مع ألاستغناء عن تقدير السؤال والاحتياج إيى المجواب يقتضي صرف ما يصلح له إليه لا إلى الحال الفضلة المفتقرة إلى تقدير قد مع أن عطف وظنوا على جاءتها يأبى الحالية والفرح بالريح الطيبة لا يكون حال مجيء العاصف ، والمعنى على تحقق المجيء لا على تقديره ليجعل حالاً مقدرة ، وفيه نظر لأن تقدير السؤال ليس تقديراً حقيقيا بل أمر اعتباري مع ما فيه من الإيجاز ، وليس بأبعد مما تكلف للبدلية وما عذ. مانعاً من الحالية مشترك بينه وبين كوته جواب إذا لأنه يقتضي أنهما في زمان واحد فما كان جوابها فهو الجواب فتدبر. قوله : ( { لَئِنْ أَنجَيْتَنَا } الخ ) اللام موطئة لقسم مقدر ، ولنكونن جوابه والقسم وجوابه في محل نصب بقول مقدّر عند البصريين ، وذلك القول حال أي قائلين لئن أنجيتنا الخ ويجوز أن يجري الدعاء مجرى القول لأنه من أنواعه فتحكي به الجملة ، وهو مذهب الكويين ، وقوله إجابة لدعائهم مأخوذ من الفاء. قوله : ( فاجؤوا الفساد فيها الخ ) يعني أنّ إذا فجائية واقعة في جواب لما ، والبغي بمعنى الفساد والإتلاف ، وهو الذي يتعدى بفي وهو يكون بحق وبغير حق فلذا قيد بقوله بغير الحق ، ويكون بمعنى الظلم ، ويتعدّى بعلى ولا يتصوّر فيه أن يكون بحق فلو حمل عليه كان بغير الحق للتأكيد ، والى الأوّل ذهب المصنف رحمه الله. قوله : ( فإن وباله عليكا الخ ) يعني أنّ البغي في الواقع على الغير فجعله على أنفسهم لأنّ وباله عائد عليهم فهو إمّا بتقدير مضاف على متعلقة به أو بإطلاق البغي الذي هو سبب للوبال عليه فعلى متعلقة به أو على الاستعارة بتشبيه بغيه على غيره ، وايقاعه بإيقاعه على نفسه في ترتب الضرر فيهما كقوله : { وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } [ سورة فصلت ، الآية : 46 ] أو المراد بالأنفس أمثالهم استعارة أو أبناء جنسهم لأنهم كنفس واحدة ، وهو استعارة أيضا ، وليس المراد تقدير أمثال لأنه مفسر له. قوله : ( منفعة الحياة الدنيا لا تبقى الخ ) تفسير للمراد من متاع الحياة الدنيا فإنّ المتاع يطلق على ما لا بقاء له كما مر. قوله : ( ورفعه على أنه خبر بغيكم الخ ) متاع
قرئ بالرفع ، والنصب فالرفع إمّا على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم متعلق به أو على أنفسكم خبر ومتاع خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع الحياة الدنيا. قوله : ( ونصبه حفص على أنه مصدر مؤكد الخ ) قراءة النصب خرّجت على أوجه منها أنه منصوب على الظرفية نحو مقدم الحاج أي زمن متاع الحياة الدنيا ، ومنها أنه مصدر واقع موقع الحال أي متمتعين ، والعامل عليهما الاستقرار الذي في الخبر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا بالمصدر لأنه لا يجوز الفصل بين المصدر ، ومعموله بالخبر وأيضا لا يخبر عن المصدر إلا بعد تمام صلاته ومعمولاته ومنها أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر أي يتمتعون متاع الحياة الدنيا أو مفعول به لفعل مقدر أي يبغون متاع الحياة ولا يجوز أن ينتصب بالمصدر لما تقدم ، ومنها أنه مفعول لأجله والعامل فيه مقدر أو الاستقرار ويجوز نصبه بالبغي ، وجعل عليكم متعلقاً به لا خبراً لما مرّ ، والخبر محذوف نحو مذموم أو منهيّ عنه أو ضلال فقوله مصدر مؤكد أي لفعل محذوف ، وقوله : ( والخبر محذوف ) إشارة إلى أنه لا يجوز على هذا جعل على أنفسكم خبرا لأنه لا يجوز الفصل بين المصدر ، ومعموله بالخبر ، ولا يخبر عنه قبل تقدم متعلقاته كما مرّ(5/18)
ج5ص19
وقوله محذور هو الخبر المقدر ، وقوله : ( أو مفعول فعل الخ ) أي مفعول به ليبغون مقدراً ، وفي كلامه شيء لأنّ البغي له معان الطلب ، وهو أصله ويتعدى بنفسه ، والإتلاف والإفساد ، ويتعدى بفي والظلم ، ويتعدى بعلى كما ذكره العلامة الشارح فإذا كان بمعنى الطلب كيف يوصل بعلى ، وأيضاً البغي المذكور بمعنى الإفساد فتنتفي المناسبة ويفوت الانتظام فتأمل ، وفي جعل البغي عليهم إضارة إلى ما وقع في الحديث " أسرع الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشرّ عقاباً البغي واليمين الفاجرة " ورويءثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدينإ . وعن ابن عباس رضي الله عنهما لو بغى جبل على جبل لدك الباغي.
( وقد قلت ) في عقده :
إن يعد ذو بغي عليك فحله وأرقب زمانا لانتقام باغي
واحذرمن البغي الوخيم فلوبغى جب!!على جبل لدك الباغي
وكان المأمون رحمه الله تعالى يتمثل بهذين البيتين لأخيه رحمه الله :
يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة فأربع فخير فعال المرء أعدله
فلوبغى جبل يوماعلى جبل لاندك مف أعاليه وأسفله
وعن محمد بن كعب رحمه الله ثلاث من كن فيه كن عليه البغي ، والنكث والمكر ، وقوله بالجزاء تقدم وجهه. قوله : ( حالها العجيبة الخ ) تفسير للمثل فإنه في الأصل ما يشبه مضربه بمورده ، ويستعار للأمر العجيب المستغرب كما مرّ تحقيقه ، وهذا تشبيه مركب شبه فيه هيئة اجتماعية من الحياة وسرعة انقضائها بأخرى من خضرة الزروع ونضارتها وانعدامها عقيبها بالأمر الإلهي ، وقد مرّ تحقيقه في سورة البقرة وقول الزمخشري أنه روعي الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا يبالي بأيّ أجزائه يلي الكاف فإنه ليس المقصود تشبيهه كالماء هنا ظاهر ، وسيصزح به المصنف أيضاً ، وقوله : { أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا } استعارة وقعت في طرف المشبه به فالمشبه به مركب من أمور حقيقية وأمور مجازية كما قال الطيبي رحمه الله. قوله : ( فاشتبك بسببه حتى خالط الخ ) أي بسبب الماء كثر النبات حتى التف بعضه ببعض ومنهم من جعل الباء على أصلها وهو المصاحبة ، والاختلاط بالماء نفسه فإنه كالغذاء للنبات فيجري فيه ويخالطه. قوله : ( من الزروع والبقول ) الذي يأكل الناس ، والحشيش الذي يأكله الحيوان ، وهو بيان للنبات. قوله : ( وازيثت بأصناف النبات الخ ) يعني أنّ فيه استعارة مكنية إذ شبهت الأرض! بالعروس وحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه وتخييلية وهي أخذها الزخرف ، وقوله وازينت ترشيح للاستعارة وقيل الزخرف الذهب استعير للنضارة والمنظر السار وزين بكسر الزاي المعجمة ، وفتح الياء جمع زينة. توله : ( وازينت أصله تزينت ) فأدغمت التاء في الزاي ، وسقنت فاجتلب همزة وصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن بدليل أنه قرئ تزينت بأصله من غير
تنيير ، وقوله وأزينت على أفعلت كأكرصت وكان قياسه أن يعل فتقلب ياؤه ألفاً فيقال أزانت لأنه المطرد في باب الأفعال المعتل العين لكنه ورد على خلافه كأغيلت المرأة بالغين المعجمة إذا سقت ولدها الغيل ، وهو لبن الحامل ، ويقال أغالت على القياس ومعنى الأفعال الصيرورة أي صارت ذات زينة كأحصد صار إلى الحصاد أو صيرت نفسها ذات زينة وقرأ أبو عثمان النهدي ، وغير. أزيأنت بهمزة وصل بعدها زاي ساكنة ، وياء مفتوحة ، وهمزة مفتوحة ونون مشدّدة وتاء ئانيث وأصله ازيانت بوزن احمارّت بألف صريحة فكرهوا اجتماع ساكنين فقلبوا الألف همزة مفتوحة كما قرئ الضألين بالهمز.
وكقوله :
إذا ما الهوادي بالغبيط احمأزت
وقرأ عوف بن جميل ازيانت بألف من غير إبدال ، وقرئ ازاينت أيضا فقول المصنف رحمه الله وازيانت بألف أو همزة. قوله : ( ضرب رّرعها ما يجتاحه ( أمر الله ما قدره ، والمراد ما ذكره فهو حقيقة ، ولا حاجة إلى جعله كناية عما ذكر ويجتاح بتقديم الجيم على الحاء بمعنى يهلك ، وقوله شبيهاً بما حصد من أصله الظاهر أنه تشبيه لذكر الطرفين لأنّ المحذوف في قوّة المذكور شبه الزرع الهالك بما قطع ، وحصد من أصله ، والجامع بينهما الذهاب من محله فيهما ، ويصح أن يكون استعارة مصزحة ، وأصله جعلنا زرعها هالكا فشبه الهالك(5/19)
ج5ص20
بالحصيد وأقيم اسم المشبه به مقامه ، ولا ينافيه تقدير المضاف كما توهم لأنه لم يشبه الزرع بالحصد بل الهالك بالحصيد ، وهذا أقرب مما ذهب إليه السكاكي من أ ) ، فيه استعارة بالكناية إذ شبهت الأرض المزخرفة ، والمزينة بالنبات الناضر المونق الذي ورد عليه ما يذبله ، ويفنيه ، وأثبت له الحصد تخييلاً ولا يخفى بعده فإن أردت تحقيقه فانظر شروح المفتاح ، وقوله كأن لم يغن زرعها لو قال بدله نباتها كان أولى لكنه راعى مناسبة الحصيد ، وقوله لم يلبث باللام ، والباء الموحدة والثاء المثلثة أي لم يمكث ، ويقيم وهو تفسير له لأنّ غني بالمكان معناه أقام ، وسكن وعاس فيه ، ومنه المغني للمنزل ، ووقع في بعض النسخ ينبت من النبات والأولى أظهر وأولى ، وقوله والمضاف محذوف في الموضعين ، وبعد حذفه انقلب الضمير المجرور منصوباً في الأوّل ، ومرفوعا مستتراً في الثاني بل في المواضمع لأن قادرون عليها بمعنى قادرون على زرعها أو حصدها نعم المبالغة مخصوصة بهما ، ولذا خصهما ووجهها أنّ الأرض نفسها كأنها قلعت وكأنها لم تكن لتغيرها بتغير ما فيها ، وقوله على الأصل أي بإرجاع الضمير مذكرآ باعتبار الزرع ، ولذا قيل إنه يجوز عود الضمير على الزرع المفهوم من الكلام والسياق وقيل الضمير
للزخرف وقيل للحصيد ويجوز أن يجعل التجوّز في الإسناد. قوله : ) فيما قبله وهو مثل في الوقت القريب الخ ) أي فيما قبل أمرنا ، وفي نسخة قبيله بالتصغير ، وأمس يراد به اليوم الذي قبل يومك ، ويراد به ما مضى من الزمان مطلقأ كقول زهير :
واعلم علم أليوم والأمس قبله
والأوّل مبني لتضمنه معنى الألف ، واللام والثاني معرب ، ويضاف وتدخله أل ، وخص الوقت القريب بهذا لتعينه ، وتعين الحادث فيه وتيقن زواله والا فكل ما طرأ عليه العدم كان كأن لم يكن. قوله : ) والممثل به مضمون الحكاية الخ ( قد مر بيان أنه تشبيه ، وأنه محتو على استعارات ، ولطائف من نكت البلاغة كما قرّرنا ، والجوائح مع جائحة وهي الآفة وفي نسخة الطوائح ، وهي جمع مطيحة على خلاف القياس من الإطاحة بمعنى الإذهاب ، والإهلاك. قوله : ( دار السلامة من التقضي الخ ) دار السلام الجنة ووجه التسمية ما ذكر لأنّ السلام إما مصدر بمعنى السلامة فيكون معناه دارا فيها السلامة من الآفات ومن التقضي أي الانقضاء والزوال لخلودهم فيها أو السلام الله فالإضافة إليه لأنه لا ملك لغيره فيها ظاهراً وباطنا وللتشريف ، وللتنبيه على أنّ من فيها سالم مما مر للنظر إلى معنى السلامة في أصله ، ويدل على قصده تخصيصه بذلك دون غيره من الأسماء أو السلام بمعنى التسليم من قولهم سلام عليكم لأنه شعارهم فيها أو لتسليم الله والملائكة عليهم الصلاة والسلام عليهم تكريما لهم. قوله : ( بالتوفيق ( في شرح المواقف التوفيق عند الأشعرفي ، وأكثر الأئمة خلق القدرة على الطاعة ، وقال إمام الحرمين خلق الطاعة ، والهداية عندهم خلق الاهتداء وهو الإيمان ، فقوله بالتوفيق إن كان تفسيرا للهداية فالمعنى يوفقه لطريقها أي الجنة بالطاعة الشاملة للإيمان ، وإن كان المراد مع التوفيق فظاهر ، والتدزع لبس الدرع فإنّ الاتقاء عن المعاصي يحميه ويصون نفسه ، وضمه إلى الإسلام لأن الطريق الموصل إلى الاستقامة إنما يكون بذلك ، وفيه إشارة إلى أنّ الطريق هو الإسلام والعمل بمنزلة درع يصونه في سفره. قوله : ) وفي تعميم الدعوة وتخصيصالهداية الخ ( الآية تدل على ما ذكر وعلى أن الهداية غير الدعوة إلى الإيمان ،
والطاعة والأمر مأخوذ من قوله يدعو لأن الدعاء يكو " ن بالأمر ، والإرادة مأخوذة من قوله يشاء لأنّ المشيئة مساوية للإرادة على المشهور ، وهو ردّ على المعتزلة لأنّ الأمر عندهم بمعنى الإرادة فلذا عمم الدعوة لجميع الخلق بدليل حذف مفعوله ، وخص الهداية بالمشيئة لتقييدها بها فالكل مأمور ، ولا يريد من الكل الاهتداء لأنّ ظاهر قوله يهدي من يشاء أنه يهدي من يشاء رشده ، واهتداءه فلو شاء اهتداء الكل كان هادياً للكل ، وليس كذلك فلزم المعتزلة شيئان أحدهما أنّ المراد بالهداية التوفيق والألطاف والأمر مغاير للألطاف والتوفيق وهو كذلك لأنّ الكافر مأمور وليس بموفق. الثاني أنّ من يشاء هو من علم أن اللطف ينفع فيه لأنّ مشيئته تابعة للحكمة فمن علم أنه لا ينفع فيه اللطف لم يوفقه ، ولم يلطف به إذ التوفيق لمن علم الله(5/20)
ج5ص21
أنه لا ينفعه عبث ، والحكمة منافية للعبث فهو يهدي من ينفعه اللطف ، وان أراد اهتداء الكل ، وقوله المثوبة الحسنى توجيه لتأنيث الحسنى ، والمراد بالإحسان العمل بفعل المأمور به ، واجتناب المنهيات. قوله : ( وما يزيد على المنوبة الخ ) فالزيادة مصدر بمعنى الزائد مطلقاً ، وفيما بعده تضعيف الحسنات والمثوبة الثواب ، وفسر في الأصول بالمنفعة الخالصة الدائمة المقرونة بالتعظيم فلذا قال العلامة رحمه الله : إن قوله للذين أحسنوا الحسنى أيدل على حصول المنفعة ، وقوله وزيادة يدل على التعظيم ، وقوله ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة يدل على خلوصها ، وقوله أصحاب الجنة هم فيها خالدون إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع. قوله : ( وقيل الحسنى الجنة والزيادة هي اللقاء ) هذا هو التفسير المأثور عن الصحابة كأبي بكر رضي الله عنه وأبي موسى وحذيفة وعبادة والحسن وعكرمة وعطاء ومقاتل والضحاك والسديّ رحمهم الله ، وفي صحيح مسلم ، ومسند أحمد ، وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إنّ لكم عند اللّه موعدأ يريد أن ينجزكموه قالوا : ألم يبيض وجوهنا وينجنا من النار ويدخلنا الجنة قال : فيكشف الحجاب فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه " زاد مسلم ثم
تلا للذبن أحسنوا الحسنى ، وزبادة الآية ، ولهذأ اعترض على المصنف رحمه الله بأنه تبع الزمخشريّ في تضعيف هذا القول ، وقوله : ( إنه حديث مرفوع ) بالقاف أي مفتري ، ولا ينبغي أن يصدر من مثله فإنه حديث متفق على صحته فحرّف ، وأساء الأدب. قوله : ( لا يغشاها الخ ) أي المراد بنفيه إمّا ظاهره بان لا يعرض لهم كما يعرض لأهل النار أو المراد نفي ما يعرض لهم عند ذلك من سوء الحال وهذا أمدح ، ولذا أشير في الأوّل إلى أنّ المقصود منه تذكير حال أهل النار فإن تذكيره لهم مسرة كما أنّ تذكير حال هؤلاء لأولئك عليهم حسرة ، وقوله ولا انقرا ض لنعيمها هو مما يلزم خلودهم فيها. قوله : ( عطف على قوله { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى } الخ ) يعني الذين معطوف على الذين المجرور الذي هو مع جاره خبر ( وجزاء سيئة ( معطوف على الحسنى الذي هو مبتدأ ، وهذه هي المسألة المشهورة عند النحاة بعطف معمولي عاملين ، وفيها مذاهب المنع مطلقا ، وهو مذهب سيبويه ، والجواز مطلقا وهو قول الفراء والتفصيل بين أن يتقدّم المجرور نحو في الدار زيد ، والحجرة عمرو فيجوز أولاً فيمتنع والمانعون يخرّجونه على إضمار الجارّ ويجعلونه مطرداً فيه كقوله :
أكل امرئ تحسبين امرأ ونار توقد بالليل نارا
وهو مراد المصنف رحمه الله ، ولشهرة المسألة اعتمد على تفصحيلها المعلوم ، فلا يرد
عليه ما قيل إنّ ظاهره يدل على الاختلاف في جواز هذا المثال نفسه ، وليس كذلك فإنه مسموع عن العرب ، وإنما الاختلاف في تش- يجه على العطف أو تقدير الجاز. قوله : ( أو الذين مبتدأ والخبر جزاء سيئة الخ ) وقدر المضاف ليصح الحمل إذ الخبر مفرد مغاير له ، وعليه فالباء في بمثلها متعلقة بجزاء ، ويجوز أن يكون جزأء سيئة بمثلها جملة من مبتدأ وخبر هي خبر المبتدأ كما سيصرح به المصنف رحمه الله ، فلا حاجة إلى تقدير المضاف لكن العائد محذوف أي جزاء سيئة منهم بمثلها على حدّ السمن منوان بدرهم أي منه ، وقد جوّز فيه أن يكون لهم هو الخبر بقرينة للذين أحسنوا أي لهم جزاء سيئة بمثلها فلا حاجة إلى تقدير عائد ، وقوله أن يجازي إشارة إلى أنه مصدر المبنيّ للمفعول لا اسم للعوض كما في الوجه الأوّل ، والمقدر مصدر أيضا أو بمعنى العوض! أو بمعنى أثره وقوله : ( بسيئة مثلها ) قدر له موصوفاً مخصوصاً بقرينة المقام ، ومماثلتها لها في القدر والجنس وقوله : ( لا يزاد عليها ) إشارة إلى أن المثلية كناية عن عدم الزيادة بمقتضى العدل وأما النقص فكرم ، وهذأ يؤخذ من مقابلته بالزيادة وقيل الذين مبتدأ خبره مالهم من اللّه من عاصم ، وما بينهما اعتراض!. قوله : ( وفيه تنببه على أن الزيادة هي الفضل أو التضعيف ) تبع فيه الزمخشري ، وقد علصت أنه مخالف للمأثور والقول المنصوص في
تفسيرها ، والمراد بالفضل أن يفضل على العمل ، ويزيد عليه كما مرّ. قوله : ( أو كأنما أغشيت الخ ) عطف على جزاء سيئة(5/21)
ج5ص22
أي خبر الذين جزاء سيئة أو قوله كأنما أغشيت أو أولئك أصحاب النار ، وما بينهما من الجمل الثلاث أو الأربع اعتراض بناء على جواز تعذد الاعتراض ، وفيه خلاف للنحاة ولذا رجح ما يخالفه ، وقوله فجزاء سيئة مبتدأ أي على هذين الوجهين ، وعلى حذف الخبر الباء متعلقة بجزاء ، وإذا كان مثلها خبراً فالباء إمّا زائدة أو غير زائدة متعلقها خاص أي مقدّر بمثلها أو عام أي حاصل بمثلها ، وما قيل إنه لا معنى له حاصل وهم ظاهر نعم الأوّل أفيد ، ولفظ مقدر بالجز فيه لطف إيهام ، ويجوز رفعه على الحكاية لأنه خبر وقوله ، وقرئ بالياء لكون الفاعل ظاهراً ، وتأنيثه غير حقيقي وتأويله بأن يذل ، وقيل لأنها مجاز عن سبب الذلة كما مر. قوله : ( ما من أحد يعصمهم ) أي يحميهم ويمنعهم ، ومن في من عاصم زائدة لتعميم النفي ، وأمّا في من الله فعلى تقدير المضاف ، وهو سخط متعلقة بعاصم وقدمت عليه لأنّ من مزيدة ، والمعمول ظرف ، وعلى كون المعنى من جهة اللّه ، وعنده هو صفة عاصم قدم فصار حالاً أو متعلق بالظرف أي لهم. قوله : ( أغطيت ) بالغين المعجمة ، والطاء المهملة ، والياء المفتوحة ، وتاء التأنيث يقال أغطى الليل كذا إذا ألبسه ظلمته كغطاه بالتشديد ، وقوله لفرط سوادها وظلمتها هو وجه الشبه. قوله : ( والعامل فيه أغشيت لآنه العامل في قطعا الخ ) تبع فيه الزمخشريّ ، واعترض عليه بأنّ من الليل ليس صلة أغشيت حتى يكون عاملاً في المجرور بل هو صفة فعامله الاستقرار ، والصفة من الليل ، وذو الحال هو الليل فلا عمل لأغشيت فيه ، وقد يقال من للتبيين والتقدير كائنة ، وكائنة عامل في الليل ، وهو مبنيّ على أنّ العامل في عامل الشيء عامل فيه ، وهو فاسد ، وقيل إنه جرى على ظاهر كلام النحاة من أنّ الصفة ، والخبر والحال وغيرها هو الظرف لا عامله المقدر كحاصل ، وإلا فالعامل في الحقيقة فيه هو المقدر انتهى ، وذكر قريباً منه النحرير ، وقال إنه لا غبار عليه ، وليس بشيء ( أقول ) ما قاله المعربون ، والشراح لا وجه له ، والوجه ما قاله أبو حيان رحمه الله تعالى من أنّ الزمخشري أخطأ اللهم إلا أن يقال مراده أنّ مثله لا يحتاج لمتعلق مقدّر أو نقول مراده أنه متعلق بأغشيت مقدر لأن عامل الظرف المستقرّ كما يكون عاماً يكون خاصا كما في زيد على الفرس أي راكب أو يركب لأنه كما يكون اسما يكون فعلا ، وقول المعرب أنّ المصنف رحمه
الله أراد!انّ الموصوف ، وهو قطعا معمولاً لأغشيت ، وهي صاحب الحال والعامل في الحال هو العامل في ذي الحال فجاء من ذلك أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها بهذه الطريقة لا يسمن ، ولا يغني* من !جوع. ف!عرفه ، وقيل الوجه أن من تبعيضية أي بعض أ الم!ليل وهو بدل من قطعاً ومظلماً حال من البعض لا من الليل فيكون العامل في ذي الحال أغشيت ، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف ، وأجيب بأنه ذهب إلى أنّ أغشيف " له اتصال بقوله من الليل من قبل أنّ الصفة والموصوف متحدان لا سيما والقطع بعض بن الليل فجاز!أن يكون عاملا في الصفة بذلك الاعتبار ككبمانه- قيل أك!ث!يت الليل مظلما ، وفذا كما جوّز في نحو ونزعنا ما في صدوركم من غل إخوانا أن يكون حالاً من الضمير مع الاختلاف باعتبار اتحاده بالمضاف فكأنه قيل نزعنا ما فيهم ، وكما جوّز في ملة إبراهيم حنيفاً وهذا ما ذهب إليه المصنف رحمه الله يعني أنّ العامل يكفي في اتحاد. الاتحاد الحقيقي أو الاعتباري كما في المسالة المذكررة ، " وهذا سرّ هذا الموضع لا ما طوّله كثيرون لا سيما من حمله على التجريد فإنه مما لا. وجه له ، ولا فرق في كون عن الليل معمول الفعل بين أن يكون من للتبيين- على أ أنّ " المراد بالليل زمان كون الشمس تحت الأفق أو للتبعيض على أنّ المراد به جميع ، ذلك الزمان ، ولا حاجة لما هنا- بئ التطويلات فإنها كلها لا محصل لها. قوله : ( أو معنى الفمل " في من الليل ) عطف على أغثمي!ت يعني متعلقه المقدر ، وإنما قال معنى الفعل ليشمل الوصف ، والفعل ، وهذا هو الوجه العالمم عن التكلف وهو عالم في محل المجرور. كما تقدم ، والقطع- بكسر فسكون اسم مفرد معناه طائفة من الليل أو ظلمة آخر الليل أو اسم جنس لقطغة وعلى هذه الوجوه تفرد صفته ، ، وحاله وأمّا كونه حالاً من الجمع ، وهو قطع بكسر ثم فتح جمع قطعة كما في القراءة الأولى لتأويله بكثير كما قاله أبو البقاء فتكلف ، وقال العلامة الليل له(5/22)
ج5ص23
معنيان زمان تخفى فيه الشمس. قليلاً أو كثيراً كما يقال دخل الليل ، والآن ليل ، وما بين غروب الشمس إلى طلوعها أو قربها من الطلوع ، وعليه من هنا تبعيضية أو بيانية فاحفظه. قوله : ( مما يحتج به الوعيدية ) باعتبار ظأهره أي جعل الذين كسبوا السيئات خالدين في النار ، والوعيدية هم القائلون بخلؤد أصحاب الكبائر ، وحاصل دفعه أنّ السيئات شاملة للشرك ، والكفر والمعاصي ، وقد قامت الأدلة على أنه لا خلود لأصحاب المعاصي فخصصت الآية بمن عداهم لا أنّ اللام في السيئات للاستغراق حتى يكون المراد من عمل جميع ذلك كما توهم ، وأيضا هم داخلون في الذين أحسنوا لأنّ المراد به من أحسن بالإيمان فلا يدخل في قسيمه لتنافي حكميهما ، وكلام المصنف رحمه الله
صريح في تعميم الحكم لغير المشركين لا تخصيصه بهم كما توهم ، ! وب! سقط ما قيل إن فيه بحثا إلا أن يقال الصطلى ينصرف إلى الكامدل. قوله : ( { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } الخ ) يوم منصوب بفعل مقدر كذكرهم وخوّفهم ونحوه والمراد بالفريقين فريقا الكفار من المشركين وأهل الكتاب ، وجوّز بعضهم تخصيصه بالمشركين. قوله : ( الزموا مكانكأ حتى تنظروا ما يفعل بكم ) هذا يحتمل وجهيق أنّ مكانكم اسم فعل لألزموا ، وأن يكون ظرفا متعلقا بفعل حذف فسذ مسده ، وكلام المصنف رحمه الله كالصريح فيه ، وعلى كل حال فهو كناية عن معنى انتظروا والمراد من أمرهم بالانتظار الوعيد ، والتهديد ، واعترض على الأوّل بأنه لو كان اسم فعل لألزموا كان متعدياً مثله. وليس بمتعد ، ولذا قدره النحاة بأثبت ، وأجيب بأنه مسبوق به وهو تفسير معنى لا إعراب ، وقيل الزم يكون لازما ومتعديا كما في الصحاح فألزم هنا لازم لا متعد فلا يرد ما ذكر ، وقيل إنّ مرادهم إنه ظرف أقيم مقام عامله فهو معرب لا اسم فعل مبنيّ على الفتح كما هو قول أبي عليّ الفارسيّ ، وهذا كله تكلف وغفلة لما في شرح التسهيل أنه بمعنى أثبت فيكون لازماً ، وذكر الكوفيون أنه يكون متعديا وسمعوا من العرب مكانك زيداً أي انتظره وقال الدماميني رحمه الله في شرح التسهيل لا أدري ما الداعي إلى جعل هذا الظرف اسم فاعل إمّا لازما وامّا متعديا وهلا جعلوه ظرفا على بابه ولم يخرجوه عن أصله أي أثبت مكانك أو انتظر مكانك وإنما يحسن دعوى اسم الفعل حيث لا يمكن الجمع بين ذلك الاسم ، وذلك الفعل نحو صه وعليك وإليك ، وأمّا إذا أمكن فلا كوراءك وأمامك وفيه بحث. قوله : ( تكيد للضمير المنتقل إليه من عامله ) أي المنتقل إلى الظرف ، وهذا ظاهر في أنه باق على ظرفيته وإن احتمل الثاني أيضاً بأن ايكون بيانا لأصله قبل النقل وجعل أنتم مبتدأ خبره محذوف أي مهانون أو مخزيون خلاف الظاهر مع ما فيه من تفكيك النظم ولأنه يأباه قراءة وشركاءكم بالنصب لأنه يصير مثل كل رجل وضيعته ومثله لا يصح فيه لعدم تقدم- ما يكون عاملا فيه. قوله : ( ففرقنا بينهم الخ ( زيل بمعنى فرق ، وليس المراد التفريق الجسماني لأنه لا يناسب ما بعده ، ولذا عطف عليه قوله ، وقطعنا الوصل للتفسير ، وفيه إشارة إلى أن بين منصوب على الظرفية لا مفعول به كما توهم ، والوصل جمع وصلة ، وهي الإيصال المعنوي الذي كان بينهم في الدنيا وزيل فرق وميز قيل وزنه فعل وهو يائيّ لقولهم في مفاعلته زايل قال :
لعمري لموت لا عقوبة بعده لذي البث أشفى من هوى لا يزايل
أي لا يفارق وأما زاول فبمعنى حاول ، وقيل إنه واوفي ووزنه فيعل كبيطر ولولاه لقيل
زول إذ لا داعي للقلب فيه والقول الأوّل أصح لأن مصدركل التزييل لا الزيولة مع أن فعل أكثر
من فيعلى وبدليل زايل وقد قرئ به. قوله : ) مجارّ عن براءة ما عبدوه من عبادتهم ) قيل إنّ المراد بالشركاء على هذا الأوثان وهي لا تنطق فلذا جعل مجازاً وفيه إنها جمادات لا تتبرأ أيضأ إلا أن يكون هذا على تقدير أن يخلق الله فيها إدراكا ونطقا وهو لا يناسب قوله بعده وقيل لأنّ الظاهر ترك الواو لا جعله قولاً آخر فالظاهر أنه عامّ لما عبدوه شامل لمن له عقل ونطق وحمله على التبري ، وأنه بمعنى ما أمرناكم وما حملناكم على ذلك لأنهم عبدوهم في الواقع فكيف يصح نفيه وجعله الإهواء آمرة مجاز عن معنى داعية له ، وتوله فتشافههم بذلك أي تكلمهم ، وفي نسخة تشاقهم بالقاف بدل الفاء أي تخاصمهم ، وفيه إشارة إلى أنّ الحال(5/23)
ج5ص24
على عكس ما ظنوا. قوله : ( وقيل الشياطين ( قيل عليه ، وعلى ما قبله أنّ الأوّل لا يناسب قوله مكانكم أنثم وشركاؤكم ، وهذا لا يصح مع قوله فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ولذا مرضه المصنف رحمه الله إشارة إلى أن عهدته على قائله ، وقد أجيب عن الثاني بأنه يجوز أن يكون كذباً منهم بناء على جواز وقوعه يوم القيامة ، وقد مرّ تفصيله.
قوله : ( واللام هي الفارقة ( أي بين النافية والمخففة ، وقوله في ذلك المقام أي مقام الحشر ، وهو المقام الدحض والمكان الدهش وهو بيان لأنه باق على أصله وهو الظرفية لا أنه ظرف زمان على سبيل الاستعارة ، وان وقع كذلك في مواضع لأن بقاءه على أصله أولى 0 قوله : ) تختبر ما قدّمت من عمل الخ ( فالابتلاء على هذا مجاز بإطلاق السبب وإرادة المسبب وهو الانكشاف والظهور واليه أشار بقوله فتعاين نفعه وضرّه ، وعلى القراءة بالتاء من التلاوة بمعنى القراءة ، وهو إمّا كناية عن ظهوره أيضا أو قراءة صحف الأعمال أو من التلو لأنه يتجسم ويظهر لها فتتبعه أو هو تمثيل ، وقرأ عاصم رحمه الله في رواية عنه نبلو بالنون ، والباء الموحدة ، وفاعله ضميره تعالى وكل مفعوله فإن كان بمعنى نختبر فهو استعارة تمثيلية كما أشار
إليه أي نعاملها معاملة المختبر ، وما أسلفت بدل من كل بدل اشتمال أو منصوب بنزع الخافض ، وحذف الباء السببية أي بما أسلفت ، وكذا إن كان نبلو من البلا فالمعنى نعذبها بما أسلفت ، وما موصولة أو مصدرية وقوله نختبرها إشارة إلى أن المبدل منه ليس مطروحا بالكلية ، وقوله وابدال معطوف على نصب لا على المقروء وليست الواو واو مع كما توهم ، وقوله إلى جزائه يشير إلى أنّ الرذ معنوفي وان أريد موضع جزائه فهو حسيّ ، وقال الإمام ردّوا إلى الله جعلوا ملجئين إلى الإقرار بألوهيته. قوله : ( ربهم ومتولي أمرهم الخ ) في شرح الكشاف المولى مشترك بين معنى السيد والمالك ومعنى متولي الأمور فإن كان بمعنى الأوّل ناسب تفسير الحق بالصادق في ربوبيته لأنه تعريض للمشركين بدليل عطف توله { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ، وان كان الثاني فالحق بمعنى العدل لأنه المناسب لمتولي الأمور ، والمصنف رحمه الله جمع بينهما ، وفسر الحق بالمتحقق الصادق الحقية ، وقوله على المدح ، والمراد به الله تعالى لأنه من أسمائه وعلى الثاني هو ما يقابل الباطل وضمن ضاع معنى غاب فلذا عد 51 بعن. قوله : ( فإنّ الأرزاق تحصل بأسباب سماوية الخ ) الأسباب السماوية المطر ، وحرارة الشمس المنضجة وغير ذلك ، والمواذ الأرضية ظاهرة إشارة إلى انّ الأوّل بمنزلة الفاعل ، والثاني بمنزلة القابل ، وقوله أو من كل واحد منهما أي بالاستقلال كالأمطار أو العيون والمن والأغذية الأرضية ، وقوله توسعة عليكم تعليل للمعنى الثاني وفيه مخالفة للكشاف. قوله : ( وقيل من لبيان من ) هي على الأوّل لابتداء الغاية ، وعلى هذا لا بد من تقدير مضاف ، وجوّز فيها التبعيض حينئذ ، والمراد غير الله لأنه لإنكار رازق سواه فلا يتوهم أنه غير مناسب لأنّ اللّه ليس من أهل السماء ، والأرض لكنه لا يناسب قوله فسيقولون الله ، ولذا مرضه المصنف رحمه الله فتأمل. قوله تعالى : ( { أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ } ) أم منقطعة بمعنى بل والإضراب انتقاليّ لا إبطاليّ ، وقوله يستطيع حقيقة الملك معروفة ويلزمها الاستطاعة لأنّ المالك لشيء يستطيع التصرف فيه ، والحفظ والحماية ، ولذلك تجوّز به عن كل منهما ، وقد فسر أيضا بالتصرّف إذهابا وإبقاء. قوله : ( ومن يحمي ويميت الخ ) فالإحياء ، والإماتة إخراج أحد الضدين
من الآخر لمعنى يحصل منه فهو من قولهم الخارج كذا أي الحاصل ، وعلى التفسير الاخر فالإخراج على ظاهره كإخراج الطائر من البيضة فتدبر ، وقوله وهو تعميم بعد تخصيص إشارة إلى أنّ الكل منه ، واليه وأنه لا يمكنكم علم تفاصيله ، وقوله إذ لا يقدرون من المكابرة الظاهر على المكابرة وهو كثير ما يتسمح في الصلات وقوله أنفسكم عقابه لا يخفى أنّ التقوي لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد. فالأولى إسقاط أنفسكم إلا أن يقال إنه إشارة إلى أنه افتصال من الوقاية فهو بتقدير مضاف بعد حذفه ارتفع المضاف إليه ، وهو معنى قوله في الكشاف تقون أنفسكم. قوله : ( المتولي لهذه الأمور المستحق للعبادة هو ربكم الخ ) أي ا-لإشارة إلى المتصف(5/24)
ج5ص25
بالصفات السابقة أي من هذه قدرته ، وفسر الحق بالثابت ربوبيته لأن الحقية والثبوت يعتبران باعتبار الوصف الذي تضمته الموصوف به ، والله صفة اسم الإشارة وربكم خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف وقوله لأنه الذي أنشأكم إشارة إلى أنّ الإشارة للمتصف بتلك الصفات فيفيد تعليل مضمون الخبر بها وقوله فأنى تصرفون أي كيف تعدلون عن عبادته وأنتم مقرّون بأنه هو الحق. قوله : ( استفهام إنكار الخ ا لأن ما استفهابية وذا اسم إشارة أو ماذا رجمب ، وجعل اسم استفهام كما قرّره النحاة والاستفهام الإنكاري لنفي الوجود أي لا يوجد بعد الحق شيء يتبع إلا الضلال فمن تخطى الحق ، وهو عبادة اللّه وحده لا بد وأن يقع في الضلال وهو عبادة غيره على الانفراد أو الإشراك لأنّ عبادة الله مع الإشراك لا يعتذ بها. قوله تعالى : ( { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } ) الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف ، والإشارة قيل للمصدر المفهوم من تصرفون أي مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به ، وقيل إلى الحق إمّا السابق أو المذكور بعده ، وقوله كما حقت الربوبية لله إشارة إلى أنّ الإشارة إلى ما تضمنه قوله فماذا بعد الحق إلا الضلال أي مثل تحقق ذلك تحقق حكمه أو الإشارة إلى مصدر تصرفون كما مرّ ، وكلمة اللّه بمعنى حكمه وقضائه ، وذكر في الكشاف وجهين* في اسمشبه به ، وفسر الكلمة بالعلم ، والحكم والعدة العذاب وترك المصنف رحمه اللّه تفسيره بالعلم فالوجوه ستة ، وأنهم لا يؤمنون إمّا بدل إن فسرت الكلمة بالحكم ، وهو بدل كل من كل أو اشتمال بناء على أنّ الحكم المعنى
المصدري أو المحكوم به أو تعليل إن فسرت بالعدة بالعذاب ، واللام حينثذ مقدرة قيله أي لأنهم لا يؤمنون ، وفسر الفسق بالتمرد والخروج عن حد الاستصلاج لأنه المحناسب لكونهم مختوما على قلوبهم محكوما عليهم بعدم الإيمان. قوله : ( والمراد بها العدة بالعذاب ) أي على التعليل المراد بالكلمة ذلك كقوله : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ } [ سورة الزمر ، الآية : 9 ا ] قيل وفي هذا الوجه شيء وهو أنّ الذين فسقوا مظهر وضع موضع ضمير المخاطبين للإشعار بالعلية ، والفسق هنا فسر بالتمرد في الكفر فصار محصل الكلام إن كلمة العذاب حقت عليهم لتمردهم في كفرهم ولأنهم لا يؤمنون وهو تكرار لا طائل تحته ، وأجيب بأنه تصريح بما علم ضمنا من الذين فسقوا ، ودلالة على شرف الإيمان بأنّ عذاب المتمرّدين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان ، ومنهم من أجاب بأن الذين فسقوا دلّ على كفرهم فيما مضى ، ولا يؤمنون على إصرارهم على الكفر فالتعليل الأوّل للعدة بالعذاب ، والثاني تعليل لوعدهم به فلا تكرار ، ويؤخذ من كلام المصنف رحمه الله أنّ تمردهم في الكفر عبارة عن خروجهم عن حد الإصلاح الذي أوجب لهم الوعيد ، وخروجهم عن حده لأنهم مصزون على الكفر مطبوع على قلوبهم فالتمرّد والخروج عن الحد مأخوذ من نفي الإيمان في المستقبل فتدبر. قوله : ( جعل الإعادة كالإبداء في الإلزام بها الخ ( دفع لسؤال ، وهو إن مثل هذا الاحتجاج إنما يتأتى على من اعترف بأن من خواص الإلهية إبداءه ثم إعادته ليلزم من نفيه عن الشركاء نفي الإلهية عنها وهم غير مقرّين بذلك فاً جاب بأنه أمر مسلم عند العقلاء للأدلة القائمة عليه عقلاً ، وسمعاً ومنكره مكابر معاند لا التفات إليه. قوله : ( ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الخ ( أي ولعدم مساعدتهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالجواب عنهم ، وقيل عليه إنه جعله جوابا عن ذلك السؤال ، وليس كذلك لأنّ السؤال عن الشركاء وهذا الكلام في الله بل هو استدلال على الهيته تعالى ، وأنه الذي يستحق العبادة بأنه المبدئ المعيد بعد الاستدلال على نفي الهبة الشركاء نعم إن حمل التركيب على الحصر كان الجواب والاستدلال صحيحا يعني إن اعتبر إفادته الحصر كما قرّر في اللّه يبسط الرزق فيصير الله يبدأ ، ويعيد لا غيره من الشركاء فينتظم الجواب ، وهذا في غاية الظهور لدلالة الفحوى عليه لأنك إذا قلت من يهب الألوف زيد أم عمرو فقيل زبد يهب الألوف أفاد الحصر بلا شبهة ، وهذا أمر آخر لا يلزم فيه ملاحظة التقديم والتأخير كما قيل لأن قوله هل من شركائكم من يبدؤ الخلق الخ. ومعناه هل المبدئ المعيد اللّه أم الشركاء ألا ترى إلى قوله : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي } [ سورة يونس ، الآية : 35 ، الخ فتدبره ، وقوله :(5/25)
ج5ص26
لأنّ لجاجهم أي عنادهم وضمير بها للإعادة والقصد استقامة الطريق فلذا
قيل إنّ قصد السبيل تجريد. قوله : ( بنصب الحجج وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام الخ ) لما كان قوله قل الله يهدي دألاً على اختصاص الهداية به كما مرّ مع وجودها في بعض شركائهم كعيسى عليه الصلاة والسلام ، فسرها بما يختص به تعالى فإنّ ما ذكر من خواص الألوهية اللازم من نفيها نفيها فتأمل. قوله : ( وهدى كما يعدّى بإلى الخ ) يعني أنّ هدى يتعدّى إلى اثنين ثانيهما بواسطة ، وهي إلى أو اللام ، وأمّا تعديه لهما بنفسه فقيل إنه لغة كاستعماله قاصراً بمعنى أهتدي فيكون فيه أربع لغات ، وقيل إنه على الحذف والإيصال على الصحيح ومفعوله الأوّلط محذوف هنا في المواضع الثلاثة ، والتقدير هل من شركائكم من يهدي غيره قل الله يهدي من يشاء أفمن يهدي غير. ، وقد تعدّى للثاني بالحرفين هنا لما سيأتي ، وقول الزمخشري إنّ هدى الأوّل قاصر بمعنى اهتدى لا يناسب مقابلته بقوله يهدي للحق مع أنّ المبرد قال هدى بمعنى اهتدى لا يعرف وان لم يسلموه له. قوله : ( للدلالة على أنّ المنتهى غاية الهداية ) يعني أنه جمع بين صلتيه تفنناً واشارة إلى معنى الانتهاء فإنه ينتهي إليه ، وباللام إلى أنه علة غائية له ، وأنّ ما هداه إليه ليس على سبيل الاتفاق بل على قصده من الفعل ، وجعله ثمرة له ، وقيل اللام للاختصاص وقوله وأنها أي الهداية وما وقع في بعض النسخ ، وإنما بأداة الحصر من تحريف النساخ ، وقوله ولذلك عدى بها أي باللام في قوله قل الله يهدي للحق ، وأمّا قوله أفمن يهدي إلى الحق فالمقصود به التعميم وان كان في الواقع هو الله. قوله : ( أم الذي لا يهتدي ) بني أوّل كلامه على قراءة يهدي بوزن يرمي ، وهي قراءة حمزة والكسائيّ وسيذكر بقية القرا آت كما ستراه وذكر لها معنيين أحدهما أن يكون هدى لازما بمعنى اهتدى كما قاله الفراء ، وقد تقدم قول المبرد أنه لا يعرف لكنهم قالوا الصحيح ما قاله الفراء وعليه اعتمد المصنف رحمه الله وكفى به سنداً ، والمعنى أم من يهدي إلى الحق أحق بالاتباع أم الذي لا يهدي بنفسه إلا أن يهتدي اهتداء حصل له من هداية غيره ، وهو الله بخلقه الهداية ، وهذا هو المعنى الأوّل وحاصله نفي تسوية من يهدي غيره بمن لا يهتدي في نفسه إلا إذا طلب الهداية وحصلها من غيره فيهدي لازم بمعنى يهتدي والمعنى الثاني أن يكون متعذياً فيهما ، والمعنى أم من لا يهدي غيره إلا أن يهديه اللّه فضمير يهديه إن رجع لمن فالمعنى لا يهدي ذلك الهادي غيره إلا إن هدى الله الهادي لهدايته أو في نفسه ، وان رجع لغير فالمعنى لا يهدي إلا إذا قدر وأراد الله هداية ذلك الغير. قوله : ( وهذا حال أشراف شركائهم كالملائكة والمسيح ) الإشارة إمّا
إلى الانتفاء في الوجهين ، وهو الظاهر لأنّ الاهتداء ، وهداية الغير مختص بذوي العلم أو إلى الثاني لأن هداية الغير لا تتصوّر في الأوثان أصلاً بخلاف الاهتداء من الغير ، وفيه نظر لأنّ الاهتداء قبول الهداية ، ولا يتصوّر في الأوثان فإن كان على زعمهم ، وادّعائهم فهو جار فيهما فتامّل ثم إنّ المعرب أفاد هنا أنّ الآية واردة على الأفصح ، وهو الفصل بين أم وما عطف عليه بالخبر فإن قولك أزيد قائم أم عمرو وقوله تعالى : { أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ } [ سورة الفرقان ، الآية : 15 ] أفصح من قولك أزيد أم عمرو قائم كقوله تعالى : { أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. قوله : ) بفتح الهاء وتشديد الدال ) مع فتح الياء أيضا وأصلها يهتدي فنقلت فتحة التاء إلى الهاء ، ثم قلبت دالاً لقرب مخرجهما وأدغمت فيها وقرأها أبو عمرو ، وقالون عن نافع كذلك لكنه اختلس فتحة الهاء ولم يكملها تنبيهاً على أنّ الحركة فيها عارضة ليست أصلية. قوله : ( ويعقوب وحفص بالكسر والتشديد ) أي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال لأنه لم ينقل الحركة فالتقى ساكنان فكسر أوّلهما للتخلص من التقاء الساكنين. قوله : ( وروى أبو بكر ( أي شعبة يهدي باتباع الياء الهاء أي بكسرهما مع تشديد الدال ، وكان سيبويه رحمه الله يرى جواز كسر حروف المضارعة لغة إلا الياء فلا يجوّز ذلك فيها لثقل الكسرة عليها ، وهذه القراءة حجة عليه. قوله : ( وقرأ أبو عمرو بالإدغام المجرّد ( عن نقل الحركة إلى ما قبلها أو تحريكها بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين وهذه رواية عنه ، وروي عنه أيضاً اختلاس الكسرة ، والقراءة الأولى(5/26)
ج5ص27
استشكلها جماعة من حيث الجمع بين الساكنين فلذا قال المبرد : من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة قال النحاس إذ بدونه لا يمكن النطق بها ، وأنكره المعرب كما أشار إليه بأنه رواية التيسير ، وأنه قرئ به في يخصمون ، ويخطف أبصارهم ، وقوله وقرئ إلا أن يهدي أي مجهولاً مشددا من التفعيل للمبالغة أي دلالة على المبالغة في الهداية ، واعلم أنّ من أرباب الحواشي من اعترض على قول! المصنف رحمه الله وقرأ أبو عمرو بالإدغام الخ بأنّ مقتضاه أنّ أبا عمرو ، ونافعا قرآ بإسكان الهاء مع الإدغام ، وهذا لم يقرأ به أحد ومن ذكر إنما قرؤوا بالاختلاس ، وكأنه جعل الاختلاس سكوناً وهو بعيد إلى آخر ما فصله وهذا من قصور الاطلاع فإن ما ذكر ثابت من بعض الطرق كما فصله في لطائف الإشارات ، وكذا ابن الجزري في الطيبة وهذا الاستثناء قيل إنه منقطع ، وقيل إنه متصل. قوله : ( فما لكم كيف تحكمون بما يقتضي صريح العقل بطلانه ) ما لكم مبتدأ وخبر والاستفهام للإنكار والتعجب أي أيّ شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم
فضلا عن هداية غيرهم ، وقد قال بعض النحاة إن مثله لا يتم بدون حال بعده نحو فما لهم عن التذكرة معرضين ، وهنا لا حال بعده لأنّ الجملة استفهامية لا تقع حالاً فهي استفهام آخر أي كيف تحكمون بالباطل الذي يأباه العقل من اتخاذ الشركاء دلّه ، ولذا ذكر فيه عجب بعد عجب. قوله : ) مستندا إلى خيالات فارغة ( أي لا وجه لها ، ولا فائدة فيها وأقيستهم الفاسدة كقياس الغائب على الشاهد أي الحاضر المحسوس كقياس أحوال الخالق على أحوال المخلوق ، وهذا القياس باطل كما برهن عليه في أوائل شرح المواقف ، وتنكير ظناً للنوعية كما أشار إليه. قوله : ( والمراد بالأكثر الجميع الخ ) يعني أن الأكثر يستعمل بمعنى الجميع كما يرد القليل بمعنى العدم قال المرزوقي في قوله :
قليل التشكي في المصيبات حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
نفي أنواع التشكي كلها وعليه قوله تعالى : { فقليلاَ ما يؤمنون فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ سورة البقرة ، الآية : 88 ] وحمل النقيض على النقيض حسن وطريقة مسلوكة والمراد ما اتبعوه من العقائد أو إقرارهم باللّه قال الزمخشري : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالئه إلا ظنا لأنه قول غير مستند إلى برهان عتدهم أنّ الظن في معرفة الله لا يغني من الحق وهو العلم شيئأ ، وقيل وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام إنها آلهة ، وانها شفعاء عند الله إلا الظن ، والمراد بالاكثر الجميع يعني أن المراد بأكثرهم على الأوّل أكثر الناس فهو على حقيقته ، وعلى الثاني أكثر المشركين فالاكثر بمعنى الجميع كذا قرّر. الثرّاج ، وقيل ضمير أكثرهم للمشركين في الوجهين لأنهم الذين سبق ذكرهم فتأمل. قوله : ( من الإغناء ويجورّ أن يكون مفعولاً به ( هو على الأوّل مفعول مطلق بمعنى إغناء مّا ومن الحق حال على هذا ، وعلى غيره متعلق بيغني. قوله : ( وفيه دليل على أنّ تحصيل العلم في الآصول واجب ) يعني لما ذكر أن الظن لا غناء فيه ، والمراد في الاعتقاديات دون العمليات لقيايم الدليل على صحة التقليد والاكتفاء بالظن فيها كما تقرر في أصول الفقه ، وهذا على القول بأن إيمان المقلد غير صحيح فإن قلت تفسيره السابق يدل على أنّ الظن الباطل ما استند إلى خيالات وأوهام فارغة لا مطلق الظن فكيف يدل على ما ذكر قلت المفسر هو الظن الأوّل ، وأما الظن في قوله إن الظن الخ فمطلق الظن الشامل للصحيح والفاسد فكأنه قيل ما يتبع أكثرهم إلا ظنأ فاسداً ، والحال أن الظن مطلقاً غير نافع فكيف الظن الفاسد قوله وعيد الخ
لأنّ ما يفعلون فعلهم المعهود سابقا ، وعلمه عبارة عن مجازاته كما قرّرناه مراراً. قوله : ) 1 فتراء من الخلق ) افتراء تفسير أي يفتري ، ومن الخلق تفسير دون الله لأنه بمعنى غيره وغير الخالق الخلق وجعل أن يفتري بمعنى افتراء أي مفتري ، وفيه بحث لم يتعرض له أحد من أرباب الحواشي وهو إنّ أن والفعل المؤوّل بالمصدر معرفة باتفاق النحاة فلا يخبر به عن النكرة ( قلت ( هذا مما توقفت فيه حتى رأيت ابن جني قال في الخاطريات : إنه يكون نكرة وأنه عرضه على أبي عليئ رحمه الله فارتضاه ولذا جعله بعضهم بيانا لحاصل المعنى إذ معنى ما كان ما صح واللام فيه مقدّرة ، وأصله ما كان هذا القرآن لأن يفتري كقوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ سورة التوبة ، الآية : 122 ] وأن يفتري خبر كان ، ومن دون الله خبر(5/27)
ج5ص28
ثان بيان للأوّل أي صادرأ من غير الله كما زعموا أنه افتراه ، وهذا الإعراب ذهب إليه بعض المعربين ولم يرتضه في الدرّ المصون لكن بلاغة المعنى تقتضيه ، والخلاف مبني على أنّ لام الجحود تعاقب أن المصدرية فإذا أتى باللام حذفت أن وإذا أتى بأن حذفت اللام ، وقال أبو حيان أيضا الصحيح خلافه فما قيل في رذه إنه ليس على حذف اللام لتأكيد النفي بل أن يفتري في معنى مصدر بمعنى المفعول كما أشار إليه بقوله ، وكان محالاً أن يكون مثله في علوّ أمره ، واعجازه مفتري لكن ما ذكر من قوله ما صح ، وما استقام وكان محالاً ربما يشعر بأنه على حذف اللام ، إذ مجرّد توسيط كان لا يفيد ذلك ، والتعبير بالمصدر لا تعلق له بتأكيد لا ربما يشعر بأنه على حذف اللام ، إذ مجرّد توسيط كان لا يفيد ذلك ، والتعبير بالمصدر لا تعلق له بتأكيد معنى النفي انتهى غفلة عن مراده مع أنه رجع إلى ما قاله آخرأ فلا وجه له ، ثم إن نفي كان قد يستعمل لنفي الصحة ، وبمعنى لا ينبغي ، وأصله ما وجد ، وهي كان التامّة فيجوز أن يكون المعنى ما كان لهذا القرآن افتراء أي ما صح أن ينسب إليه ، وما أشار إليه أوّلاً ذهب إليه ابن هشام رحمه الله في أواخر المغني ، وقال شارحه أنه لا حاجة إليه لجواز أن يكون كان تافة ، وأن يفتري بدل اشتمال من القرآن ، وقيل عليه أنه لا يحسن قطعا لأن قولك ، وما وجد القرآن يوهم من أوّل الأمر نفي وجوده ، ولا بد من الملابسة بين المبدل ، والمبدل منه في بدل الاشتمال فيلزم أن يبتني الكلام على الملابسة بين القرآن العظيم ، والافتراء وفي التزام كل من الأمرين ترك أدب لا يلتزمه المنصف فالوجه ما ذكره ابن هشام وليس بسديد ابتداء لأنه ليس معنى الملابسة أن يعرف بالاتصاف به كما توهم وما ذكره من الإيهام لا عبرة به مع الدافع القوي له وهو قوله بعده ولكن تصديق الخ وما ارتضاه من كلام ابن هشام ليس كما زعم لا لما ذكره الشارح بل لما أشرنا إليه فتدبر. قوله : ( مطابقا لما تقدّمه من الكتب الإلهية الخ ( أي معنى تصديقه لها مطابقته إياها وهي مسلمة الصدق عند أهل الكتاب فيكون هذا كذلك هذا مراد المصنف رحمه الله ، وأورد عليه أن اللازم منه صدق ما طابقه منها لا كونه كلام الله وغير
مفتري ، ولا يلزم صدقه عند غير أهل الكتاب أيضا واعتبار إعجازه إنما يدلّ على صدق ما وافقه منها دون ما عداه فلا بد من ضم مقدمة أخرى ، وهي أنه ظهر عن يد أمّيّ لم يمارس الكتب ولا أهلها ، ولم يسافر إلى غير وطنه حتى يتوهم تعلمه من غيره أو يحمل تصديقه لها على إخباره بنزولها من عند اللّه كانا أنزلنا التوراة فإنه يدلّ بعد إعجازه على أنها من عند اللّه ولا يحمل على مطابقته لها في المعنى لما مرّ ثم إنه تراءى من كلامه أنه جعل التصديق أوّلاً بمعنى المطابقة وثانياً بمعنى الدلالة على الصدق وأسلوب تحريره لا يخلو عن خلل ، وقيل المراد بتصديقه إياها أنّ بعثته مصدّقة للإخبار بها في تلك الكتب إلى هنا ما قاله ، ولا يخفى أنّ الصدق مطابقة الواقع والتصديق بيان أنه صدق ، وهو إما مضاف لفاعله أو مفعوله والظاهر الأوّل لأنه المناسب لردّ دعوى افترائه بأنها بينت وأظهرت صدقه لا هو أظهر صدقها كما يلوج إليه قوله المشهود على صدقها وتصديقها له بأنّ ما فيه من أمر البعث ، والعقائد الحقة مطابق لما فيها ، وهي مسلمة عند أهل الكتاب وما عداهم إن اعترف فبها والا فلا عبرة به ، ثم إنه ترقى عن هذا إلى أنه إذا تطابق مدلولهما ، ولزم من صدق أحدهما صدق الآخر ، ومن صدق بعضه صدق كله إذ لا قائل بالتفريق بينهما لزم أن يكون هو المصدق لا هي لأنه معجز فيكون مثبتا لنفسه ، ولغيره ، ولذا سمي القرآن نورا لأنه الظاهر بنفسه المظهر لغيره فلا خفاء في كلامه ولا خفاء في اتساق نظامه لمن تدبر فإن جعل مضافا للمفعول يكون مبالغة في نفي الافتراء عنه لأنّ ما يثبت به صدق غيره فهو أولى بالصدق ، وإنما كان مصدّقا لها لأنه دال على نزولها من عند الله كقوله إنا أنزلنا التوراة ، ولاشتماله على قصص الأوّلين الموافقة لما في التوراة ، والإنجيل ، وهو معجز دونها فهو الصالح لأن يكون حجة وبرهانا لغيره لا بالعكس ، وقوله عيار عليها أي شاهد مبين لأن العيار ما يقاس به غيره وشموّي وعيار الدراهم والدنانير ما فيها من الفضة ، والذهب الخالصين. قوله : ( ونصبه بأنه خبر لكان مقدر ) في إعرابه على قراءة النصب وجوه أمّا العطف على خبر كان أو خبر لكان مقدرة أو مفعول لأجله لفعل مقدر أي أنزل لتصديقها وجعل العلة ذلك هنا ، وإن أنزل لأمور أخر ، لأنه المناسب لمقام رد(5/28)
ج5ص29
دعوى افترائه مع أنّ العلة ليس ذلك بل هو مع بيان الشرائع والعقائد ومنها إثبات نبوّته وهو الداعي لنزوله أو هو مصدر فعل مقدر أي يصدق ، وقرئ برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف وهي قراءة عيسى بن عمرو ا+لثقفيّ ومعنى لا ريب مر تحقيقه في سورة البقرة.
قوله : ( وهو خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك الخ ) أي لكان المقدرة بعد لكن أو المبتدأ المقدّر والأوّل تصديق والثاني تفصيل وهذا هو الثالث وفصل لأنه جملة مؤكدة لما قبلها
واكتفى ببيان الوجه الأوّل عن الثاني ، وقوله ويجوز أن يكون حالاً لم يذكره الزمخشريّ وان كان في كلامه إشارة إليه على ما قيل ومعنى كونه لا ريب فيه أنه لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه كما مز تحقيقه في البقرة فلا ينافي قوله : { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ } [ سورة البقرة ، الآية : 23 ] وقوله فإنه مفعول في المعنى بيان لوجه مجيء الحال من المضاف على ما عرف في النحو وأن يكون استئنافا نحويا لا محل له من الإعراب أو بيانيا جواباً للسؤال عن حال الكتاب والأوّل أظهر. قوله : ( خبر آخر تقديره كائناً الخ ) أي خبر لكان المقدرة أو المبتدأ كما مرّ وإذا كان متعلقا بالتصديق أو التفصيل وفي الكشاف بتصديق وتفصيل فجملة لا ريب فيه معترضة لئلا يفصل الأجنبيّ بين الفعل ومتعلقه ، وكذا إذا تعلق بالمعلل ، ولذا قيل لو أخره عنه لكان أولى ، وكذا على الحالية ، والمعلل أنزله الله أي أنزله الله من رب العالمين أي من عنده فأقيم الظاهر مقام الضمير وقوله أو من الضمير في فيه أي المجرور لا المستتر وقوله ومساق الآية يعني قوله ، وما كان هذا القرآن الخ والمنع من الظن من قوله ، وما يتبع أكثرهم وما يجب اتباعه القرآن والشريعة المذكور في هذه الآية ، والبرهان عليه كونه من عند الله ثابتا ما فيه بتصديق الكتب السالفة. قوله : ( بل أيقولون افتراه محمد صلى الله عليه وسلم ومعنى الهمزة فيه الإنكار ) يعني أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه رحمه الله والجمهور وبل انتقالية والهمزة للإنكار وجوز الزمخشريّ أن تكون للتقرير لإلزام الحجة قال والمعنيان متقاربان ، والمعنى على الإنكار ما كان ينبغي ذلك وضمير افترى للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه معلوم من السياق ، وقيل إنها متصلة ومعاد لها مقدّر أي أتقرون به أم تقولون افتراه وقيل أم استفهامية بمعنى الهمزة ، وقيل عاطفه بمعنى الواو والصحيح الأوّل. قوله : ( في البلاكة وحسن النظم ) أي الانتظام وارتباط بعضه ببعض ، وقوة المعنى جزالته وما فيه من الحكم ونحو ذلك وقوله على وجه الافتراء لأنهم اذعوا افتراءه فقال لهم إن كان افتراء فافتروا مثله ، وليس المراد الاحتراز عن الإتيان به من جهة الوحي فإنه لا يتحدّى به وليس في الوسع ، وقوله : فإنكم مثلي تعليل للتحدي والطلب وفي العربية أي ذلك الجنس وأهل اللسان والتمرّن الاعتياد والعبارة بمعنى التعبير ويجوز أن يريد بالنظم الشعر وبالعبارة النثر أي لكم تمرّن في أنواعه مما لم يصدر مني ولم أتمرّن عليه مثلكم. قوله : ) ومع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم الخ ) ذلك إشارة إلى المذكور أي مع كونكم مثلي فيما ذكر والفاء
في قوله فاستعينوا إشارة إلى أن دعوتهم لأجله وأنّ دعوتهم كناية أو مجاز عن الاستعانة بهم وفاء فأتوا جواب شرط مقدر دل عليه إن كنتم صادقين أي إن كان الأمر كما زعمتم ، وقوله من دون الله يصح تعلقه بادعوا فمن ابتدائية وبقوله من استطعتم فهي بيانية كما أشار إليه في الكشاف ، والثاني أولى لأنّ إطلاق ما استطعتم بحيث يعم الخالق والمخلوق ليس على ما ينبغي وقول المصنف رحمه اللّه سوى الله ظاهر ، وجعله استثناء منقطعا تكلف لا داعي له. قوله : ( بل سارعوا إلى التكذيب الخ ) المسارعة إلى التكذيب مأخوذة من قوله لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله فإن التصديق والتكذيب بالشيء ينبغي أن يكون بعد العلم به والإحاطة بكنهه ومعرفة مآله ومرجعه والا كان مسارعة إليه في غير أوانه ، ولذا رأيت بخط بعض الفضلاء المتأخرين إن بل هذه ينبغي أن تسمى فصيحة لأنّ المعنى فما أجابوا أو ما قدروا بل كذبوا ، وقرئ بسورة مثله بالإضافة فيكون كقوله فأتوا بسورة من مثله على الاحتماليق. قوله : ( بالقرآن أوّلى ما سمعوه الخ ) بدل من قوله بما لم يحيطوا الخ أي المراد بما لم يحيطوا بعلمه القرآن قبل أن يتدبروه ويقفوا على شأنه وإعجازه ، وقوله أو بما جهلوه عطف عليه أي المراد به ما كذبوه من القرآن المذكور فيه البعث ونحوه مما يخالف(5/29)
ج5ص30
اعتقادهم الفاسد. قوله : ( ولم يقفوا بعد على تأويله الخ ) لما هذه نافية جازمة تختمى بالمضارع كلم إلا أنها تفارقها من خمسة وجوه استمرار منفيها إلى الحال كقوله :
فإن كنت مأكولاً فكن خيرآكل والا فأدركني ولما أمزق
ومنفيّ لم يحتمل الاستمرار وعدمه ولا يقترن بأداة شرط ومنفيها يكون قريبا من الحال ومتوقع الثبوت ويجوز حذفه كثيراً على ما فصل في كتب العربية ، واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله بعد أي بعد ما مضى والى الآن فلم يفسرها بلم وحدها بل من ما ضمّ إليها مما يثير إلى مجناها فمن قال وضع لم موضع لما مع ما عرف من الفرق بينهما غفل أو تغافل ، وقوله ولم تبلغ أذهانهم معانيه أشار به إلى أنّ للتأويل معنيين أحدهما معاني الكلام الوضعية ، والعقلية ، وبيان ذلك يسمى تأويلا ، وهو نوع من التفسير ، والثاني وقوع مدلوله ، وهو عاقبته وما يؤول إليه ، وذكر بعضهم أن هذا هو حقيقة معناه اللغوي فإن كان تأويله معناه الأوّل فإتيانه معرفته ، والوقوف عليه مجازاً باستعماله في لازم معناه ، وان كان تأويله وقوع مدلوله الذي أخبر
بغيبه فإتيانه مجاز عن تبيينه وانكشافه ، !وقوله والمعنى أي معنى لما يأتهم تأويله على الوجهين واعجاز المعنى إخباره عن المغيبات فإنّ البشر لا يقدر عليه ، وهلى ا بيان لأن إعجازه لهم بكلا اللامرين. ، قوله : ( ومعنى التوقع الخ ) التوقع الانتظار ، وأصل معنا. طلب وقوع الفعل مع تكلف ، واضطراب ، وقد تقدم أنّ لما تدل على أن نفيها متوقع منتظر ، وهو أحد الفروق بينهاص ، ويين لم وقد ذكر له في الكشاف ثلاثة وجوه أحدها أن المراد بالتأويل بيان المعنى ، وأنه متوقع منهم الوقوف عليه ، وعلى الإعجاز يتكزر التحدي عليهم وامتحانهم به حتى يظهروا العجز ويقروا به ، وهو معنى قول المصنف رحمه الله قد ظهر لهم بالآخرة الخ ، والثاني أن الموصوفين بهذا كانوا شاكين فيه فلذا؟ أتى بلما لأنّ زوال شكهم متوقع ، ولم يذكره المصنف رحمه الله تعالى ، وصاحب الكشاف ، وان ذكره أيضاً أشار إلى ضعفه ، والثالث أنّ المراد بالتأويل ما يؤول إليه من وقوع ما فيه من المغيبات فإنه منتظر الوقوع لتيقننا بأنّ ما أخبر الله عنه سيقع وهو ما أشار إليه بقوله أو لما الخ ، وقوله فرإزوا بالراء المهملة والزاي المعجمة بمعنى جرّبوا وامتحنوا وتضاءلت بالمد بمعنى صغرت وضعفت ، وقوله : لما كرر بكسر اللام التعليلة أو بفتحها بمعنى حين ظرف ظهر وكذا لما شاهدوا ، والإقلاع الكف يقال أقلع عنه إذا كف. قوله : ( فلم يقلعوا عن التكذيب تمردا وعنادا ( قليل عدم الإقلاع يستفاد من استمرار الذم لا من كلمة التوقع ففي كلامه تسامح ، ومع ذلك ففيه أنّ النحاة صرّحوا بأنّ منفيّ لما مستمرّ النفي إلى الحال دون لم فإذا استمرّ نفيه إلي الآن لم يجز يأتي تاويله إلى حين الأخبار فلا يصح قوله ، ومعنى التوقع الخ والظاهر أنّ الاية الأولى إنكار لتكذيبهم النظم ، والثانية لتكذيبهم بما فيه من الأخبار قبل أن يحيطوا بعلمه ، ويأتيهم تأويله إلى نزول الآية الكريمة انتهى. وقد سبق هذا القائل شرّاج الكشاف ، وأشاروا إلى أنه مأخوذ من مجموع الكلام ، والسياق مع ما فيه من التكلف قال النحرير والذي يلوح من.كلامه أنه تعالى نبه أوّلاً على تكذيبهم بعد بيان المرجع ، والمآل والعلم بحقيقة الحال بقوله : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ } فإنه يدل على أنهم لم يرجعوا عن تكذيبهم بل أصرّوا بغياً وحسداً وعناداً ، ثم أضرب عن ذلك إلى الإخبار عنهم بما هو أشنع في نظر العقل من وجه وهو المسارعة إلى التكذيب قبل العلم واتيان التأويل إذ فيه اتصاف برذيلة الجهل وقلة الإنصاف ، وعدم التثبت وان كان التكذيب بعد العلم أشنع من جهة ا أنّ الجاهل ربما يعذر لكن العناد في نظر العرب ليس كاستقباج الجهل والتقليد لمن هو دونهم أو مثلهم بل ربما استحسنوه حتى قيل :
فعاند من تطيق له عنادا
ولو سلم فضمه إلى تكذيب العناد أشنع لا محالة ففي الجملة قد ثبت أنهم كذبوا قبل العلم جهلاً وتقليداً وبعده حسداً فاستمرّ تكذيبهم في الحالين بدليل عدم انقطاع الذمّ عنهم انتهى ولا يخفى حاله وهذا من مشكلات هذا الكتاب والكشاف ، ولقد أطال شراحه بما قلت إفادته وملت زيادته فتدبره. قوله : ( فيه وعيد لهم الخ ) هو يفهم من قوله كذلك وعاقبة الظالمين ، وقوله من يصدق به في نفسه يعني(5/30)
ج5ص31
المضارع إئا للحال والإيمان لغويّ بمعنى التصديق القلبي ، ولا ينافيه تكذيب اللسان أو مستقبل والمراد الإيمان العرفي باللسان ، والجنان قيل والمفسدون على الأوّل المعاندون ، وعلى الثاني المصرون ، وقيل بل المراد بهم على الأوّل المعاندون والمصرون ، وعلى الثاني المصرون فقط فتأمّل قال الزجاج كيف في موضع نصب خبر كان وقد يتصرّف فيها فتوضمع موضعالمص در وهو كيفية ويخلع عنها معنى الاستفهام بالكلية وهي هنا تحتمل ذلك ، وكذا فول البخارقي كيف كان بدء الوحي ، وفي تفصيل ، وكلام في الدر المصون فان أردته فراجعه. قوله : ( وإن أصرّوا على تكذيبك الخ ) أوّله به لأنّ أصل التكذيب حاصل فلا يصح فيه الاستقبال الذي هو مقتضى الشرط وأيضا جوابه ، وهو قل لي عملي ولكم عملكم الذي هو عبارة عن التبري والتخلية إنما يناسب الإصرار على التكذيب ، واليأس من إجابتهم ، ولذا لم يحملوه على المضيّ ، وأنّ المعنى إن كانوا قد كذبوا. قوله : ( فقد أعذرت الخ ) أي بالغت في العذر كما يقال أعذر من أنذر ، وقوله حقا كان أو باطلاً أي كل منهما ولذا لم يثنه ، وقوله لا تؤاخذون أي تعاقبون ووقع في نسخة تؤخذون والأصح الأولى ، وقوله ولما فيه متعلق بقيل قدم عليه وأشار بقوله قيل إلى ضعفه فإنّ مدلول الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وثمراتها من الثواب ، والعقاب ولم ترفعه آية السيف بل هو باق ، وقوله ولما فيه من إيهام الإعراض فيه تسمح ، وتقديره قيل إنّ المراد به مجاز الإعراض والتخلية ، وهو منسوخ فلا وجه لما قيل إن كان الكلام نظراً إلى معناه الإيهامي فإن كان المعنى الإيهامي يقبل النسخ تئم ، والا فالنسخ ليس على معناه العرفيّ. قوله تعالى : ( { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ } الخ ( من مبتدأ خبره مقدم عليه ، وأعاد ضمير الجمع لمن مراعاة لمعناها ، وقد
يراعى لفظها كقوله : { وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } [ سورة يونس ، الآية : 43 ] وقد يجمع بينهما مع تقديم كل منهما ، وفيه تفصيل في النحو قد قدمنا طرفاً منه ، والمعنى أنّ من المكذبين من يصغي إلى القرآن أو إلى كلامك ، وتصل الألفاظ لآذانهم ولكن لا يقبلونها كالأصمّ لا يسمع شيثا سيما إذا لم يعقل فإنه وان وصل لصماخه لا يسمع لعدم تعقله المعنى المراد منه إذ المقصود من الاستماع فهم المعاني ، وان كانوا كالصمّ الذين لا يعقلون مع كونهم عقلاء لأن عقولهم مؤفة أي أصابتها آفة ومرض بمعارضة الوهم للعقل ، ومتابعة الألف والتقليد فيتعذر عليهم فهم معاني القرآن والأحكام الدقيقة ، وإدراك الحكم الأنيقة فلا يتوهم أنّ صدر الآية أثبت لهم الاستماع وعجزها نفاه عنهم والمقدمة الاستدراكية مطوية مفهومة من المقام وبها يتم الانتظام وهي تنبيه على أن الغرض من استماع الحق قبوله ، وقوله كالأصم إشارة إلى أنه تمثيل في معرض! الاستدلال على ذلك الاستدراك لأنّ انتفاء الاستماع كناية عن انتفاء القبول ، وتقديم المسند إليه في قوله أفأنت تسمع الصمّ عند السكاكيئ للتقوية ، وجعله العلامة للتخصيص فتقديم الفاعل المعنوفي ، وايلاؤه همزة الإنكار دلالة على أنه ع!ز قصد إسماعهم ، وهو منتف عنه أي أنت لا تقدر عليه بل اللّه هو القادر وسرد الألفاظ سوقها متتابعة من سرد الدرع ، ونسجه والناعق الصائح الزاجر كالراعي. قوله : ( حقيقة استماع الكلام الخ ) قيل بل هو حقيقة السماع ألا ترى أنه تعالى أثبت لهم الاستماع ونفي السماع وفيه نظر والمعاني الدقيقة ما اشتمل عليه القرآن ، وقوله أفأنت تهدي العمي تقدر الخ حمله على نفي القدرة لأنه الثابت لله تعالى والمراد بالهداية الموصلة لا مطلق الدلالة لأنه ثابت له صلى الله عليه وسلم وقوله ، وان انضمّ الخ حمل النفي في قوله لا يبصرون على نفي البصيرة لمناسبة المقام وليكون تأسيساً. قوله : ( فإنّ المقصود من الأبصار هو الاعتبار والاستبصار ) جواب سؤال مقدر ، وهو أنه أثبت لهم النظر والأبصار باعتبار الواقع ونفاه ثانياً لعدم الغرض! منه الذي جعله كالعدم لا يقال الأصل في كلمة لو الوصلية أن يكون الحكم على تقدير تحقق مدخولها ثابتاً كما أنه ثابت على تقدير عدمه إلا أنه على تقدير عدمه
أولى ، والأمر هنا بالعكس لأنا نقول اتصال الوصل بالإثبات جار على المعروف فإن تقديره تسمعهم ولو كانوا لا يعقلون يقتضي إسماعهم مع العقل بطريق الأولى والاستفهام إثبات بحسب الظاهر فإن نظر إلى الإنكار وأنه نفي بحسب المعنى اعتبر أته داخل على المجموع بعد ارتباطه هكذا ينبغي تحقيق هذا(5/31)
ج5ص32
المقام وقد قيل النفي منسحب على المعطوف عليه فقط لا عليهما حتى يرد الإشكال ، ولا محصل له سوى تعقيد كلماته. قوله : ( بسلب حواسهم وعقولهم ( أي إن سلبها والظلم على ظاهره وفسره الزمخشري بينقصهم شيئا فقيل ضمن معنى النقص فنصب مفعولين إن كان نقص كذلك كما في قوله : لا ينقصوكم شيئا وبه صرّج الحلبي وقيل إنه تفسير لا تضمين فإنه متعد بمن كقوله : لا يظلم منه شيئاً فالناس منصوب بنزع الخافض وشيئاً مفعول به وقد صرّج الراغب بكونه معنى للظلم ، ومنهم من أعرب شيئا مفعولاً مطلقاً أي شيئا من الظلم ، وعدل عما في الكشاف لابتنائه على مذهبه قيل ، وهو جواب لسؤال نشأ من الآية السابقة وضمير بإفسادها وما بعده للحواس. قوله : ) وفيه دليل على أنّ للعبد كسباً الخ ) المجبرة هم أهل الجبر الذين يقولون إنّ العبد لا كسب له ووجه الدلالة أنه ذكر أنه يظلم نفسه بالتصرّف وصرف الحواس لما لا يليق وهو عين الكسب ، وقوله ويجوز أن يكون وعيداً يعني بحمل الآية على أن الله لا يظلم الناس في تعذيبهم بل يعدل فلا شك أنه وعيد وشيئا على هذا مفعول مطلق فيكون ذلك في الآخرة وفي الوجه الأوّل يختص بأمور الدنيا. قوله : ( لهول ما يرون ) كذا في الكشاف قيل والوجه هو الأوّل لأن حال المؤمنين كحال الكافرين في أنهم لا يعرفون مقدار لبثهم في القبور بعد الموت إلى الحشر فوجب أن يحمل على أمر يختص بالكفار ، وهو أنهم لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على لذاتها لم ينتفعوا بعمرهم ، وكان وجود ذلك العمر كالعدم عندهم فلذلك استقلوه والمؤمنون لانتفاعهم بعمرهم لا يستقلونه ، وأمّا قوله لهول ما يرون فهو تعليل مشترك لأنّ الكفار لما شاهدوا من أهوال الآخرة استقلوا مذة لبثهم في الدنيا أو في القبور لأن الإنسان إذا عظم حزنه نسي الأمور الماضية ، وقيل إذا شاهدوا ذلك الهول هان عليهم غيره ، ووذوا طول مكثهم في القبور أو في الدنيا لئلا يروا ذلك فيعذونها قصيرة فتأمّل. قوله : ( والجملة التشبيهية في موقع الحال الخ ( أي من مفعول نحشرهم ، وكان مخفف كأن أو مركب من الكاف وأن والظاهر الأوّل ، وأصله كأنهم أناس لم يلبثوا فيما مضى إلا ساعة ، وعلى كل حال فالتشبيه ليس مراداً به ظاهره فإن
التشبيه كثيراً ما يذكر ويراد به معان أخر تترتب عليه كما صرّح به في شرح المفتاح فالمراد إما التأسف على عدم انتفاعهم بأعمارهم أو تمني أن يطول مكثهم قبل ذلك حتى لا لشاهدوا ما رأوه من الأهوال ، ومن غفل عن هذا قال : إنّ الظاهر أنها للظن فإن تشبيههم بعدم لبثهم إلا ساعة كلام خال عن الفائدة وهو من آفة الفهم فتدبر. قوله : ( أو صفة ليوم الخ ) تبع فيه بعض المعربين وردّه أبو حيان بأنّ الجمل نكرات ، ولا تنعت المعرفة بالنكرة ، وأيضاً هو من صفة المحشورين لا من وصف اليوم فيحتاج إلى تقدير رابط ، وتكلف قبله أي كأن لم يلبثوا قبله ، ومثله لا يجوز حذفه وكذا إذا قدر صفة مصدر محذوف ، وعنده أنّ الجمل التي تضاف إليها أسماء الزمان ليست بنكرات على الإطلاق لأنه إن قدر حلها إلى معرفة كان ما أضيف إليها معرفة وإن قدّر حلها إلى نكرة كان نكرة ، وهاهنا يوم نحشرهم بمعنى يوم حشرنا والمراد به يوم القيامة ، وهو يوم معين ولا يخفى أنه جوّز تنكيرها أيضا ، والذين قالوا بتنكير. هنا لم يقولوا إنه دائماً نكرة حتى يرد عليهم ما ذكروه فيجوز أن يكون يوم بمعنى وقت ، والمعنى وقت حشرهم يشبهون فيه من لم يلبث غير ساعة من نهار ويؤيده قوله وهذا أوّل ما نشروا فإنه يدل على أن اليوم يراد به ذلك الوقت ففي كلامه ما يدفع الاعتراض ، وإن لم يتنبهوا له وصنعه من حذف العائد غير مسلم ، ونهاية ما ذكره أنه وجه ضعيف ، وهم لم يرجحوه. قوله : ( يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا ) أي لم يقع بينهم مفارقة بالموت إلا زمانا قليلاً ، وقوله : وهذا أوّل ما نشروا أوّل منصوب على الظرفية لا أفعل تفضيل وهو بيان للواقع ، وقيل إنه لدفع المنافاة بينه ويين قوله : { فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ } [ سورة المؤمنون ، الآية : 101 ] وقوله : { وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا } [ سورة المعارج ، الآية : 10 ] بالحمل على زمانين وفيه نظر وقيل المثبت تعارف تقريع وتوبيخ والمنفي تعارف تواصل ومنفعة. قوله : ( وهي حال أخرى مقدرة أو بيان الخ ) ولا داعي لجعلها مقدّرة لأنّ الظاهر عدم !تأخر التعارف عن الحشر بزمان طويل حتى يحتاج إلى جعلها مقدرة ، وتقرير البيان كما في الكشاف ، وشرحه أنه لو طال العهد لم يبق التعارف لأنّ طول العهد منس(5/32)
ج5ص33
ومفض إلى التناكر لكن التعارف باق فطول العهد منتف ، وهو معنى كأن لم يلبثوا إلا ساعة أي في القبور فالمراد بالبيان الإثبات والاستدلال ولا ينافيه كونه مثبتا بعدم اللبث أيضاً وأمّا كونه لا يتأتى إلا إذا أريد قصر المدة حقيقة لا استقصارها لما يرى من الهول فقد دفع بأنّ التعارف بخلق الله لا دخل لقصر المدة وطولها فيه وكون يتعارفون بيانا من حيث دلالته على وجه الشبه لا أنه مبنيّ على استقصار مدّة لبثهم وفيه تأمّل وقوله أو متعلق الظرف أي عامل في الظرف وهو يوم فيعطف على ما سبق. قوله : ( للشهادة على خسرانهم ) أي
لإثباتها من الله فالجملة مستأنفة ، وهي إنشائية للتعجب بقرينة المقام ، والمراد بيان أنها مما يتعجب منه والا فاللّه لا يتعجب لتعاليه عنه فماله إلى التعجب من العباد ، وقوله ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في يتعارفون فيه تسمح لأنّ الحال القول المقدر وجوّز فيه كونه حالاً من ضمير نحشرهم إن كان يتعارفون حالاً أيضأ لئلا يفصل بينها وبين صاحبها بأجنبيّ ، وما منحوا ما أعطوا من العقل والحواس والمعاون جمع معونة ، وهو ما يستعان به من الآلات واستكسبوا أي طلبوا الكسب أو بالغوا فيه وقوله نبصرنك إشارة إلى أن رأى هنا بصرية لا علمية. قوله : ( كما أراه يوم بدر ) تنظير أو تمثيل ، وهو إشارة إلى أنّ هذا الشق من الترديد هو الواقع. قوله : ( وهو جواب نتوفينك وجواب نرينك محذوف مثل فذاك ) أي فذاك واقع أو فالأمر ذاك فيكون جملة جوابية وليس مفرداً حتى يعترض! عليه بأنه لا يقع جوابا ويتكلف له بأنّ اسم الإشارة يسد مسد الجملة ، وقيل لا حاجة إلى التقدير فإنّ قوله فإلينا مرجعهم يصلح جواباً للشرط وما عطف عليه ، والمعنى أنّ عذابهم في الآخرة مقرّر عذبوا في الدنيا أو لا ، ودفع بأنّ الرجوع لا يترتب على إواءة ما يعدهم وما بيناه من المعنى لا يندفع بما ذكر ، ولا حاجة إلى أنه اتفاقيّ من غير ملازمة بينهما كما قيل. قوله : ( ذكر الشهادة وأراد نتيجتها الخ ) يعني أنّ شهادة اللّه على الخلق بكونه رقيباً عليهم وحافظاً لما هم عليه أمر دائم في الدارين وثم تقتضي حدوثه فلذا جعلت مجازاً عن لازمها لأنّ اطلاعه تعالى على أفعالهم القبيحة مستلزم للجزاء والعقاب ، وثم للترتيب والتراخي ، وقيل إنه تراخ رتبيّ حينئذ أو ذكريّ ، ولم يلتفت إليهما المصنف رحمه الله لقلة الربط فيهما وكماله فيما ذكر ولأنّ شهادة الله عليهما لا تتعلق بالشرط فتعطف على جزائه وعطفها على مجموع الشرطية خلاف الظاهر أو المراد به إظهار الشهادة يوم القيامة فثمّ على ظاهرها ، وقيل المراد من أدائها واظهارها إنطاق الجوارح فإن قلت المجازاة متقدمة على إراءة العذاب أو معها ، وقد فسر الرجوع بإراءة العذاب كما تقدم فكيف يعطف ما يراد به المجازاة على ما يراد به إراءة العذاب الذي هو نفس المجازاة بثم قلت قوله فنريكه ليس تفسيرا للرجوع بل بيان للمقصود منه المتفرّع عليه بقرينة ما ذكر هنا فلا حاجة إلى جعله تفسيراً حتى يتكلف لتوجيهه. فوله : ( بالبينات فكذبوه الخ ) يشير إلى أن في الكلام مقدراً به ينتظم الكلام لقوله
قضى بينهم ، وقد يقدر أيضا فكذبته طائفة وآمنت به أخرى قضى بينهم بإنجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن به واهلاك ما عداهم وما ذكره المصنف رحمه الله أخصر وقد قيل في تفسيره لهذه الآية ما يخالف كلامه في تفسير قوله تعالى : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ سورة يون! ، الآية : 19 ] في هذه السورة وهو مما يدفع بأدنى تأمّل ، وقوله فأنجى وأهلك إشارة إلى أنه إخبار عن حال ماضية. قوله : ( وقيل معناه لكل أمّة يوم القيامة الخ ) فعلى هذا الاستقبال على ظاهره ولا يحتاج إلى تقدير كما في الوجه الأوّل وقد رجح بأنّ قوله ويقولون متى هذا الوعد تقوية ، وأمّا حديث التأكيد والتأسيس فما لا يلتفت إليه وقوله وقضى أي وشهدوا وقضى. قوله : ( ويقولون متى هذا الوعد استبعاداً له واستهزاء به ) في الكشاف أنه استعجال لما وعدوا من العذاب استبعاداً له والمصنف رحمه الله أسقط الاستعجال وقد قال النحرير رحمه الله أن معنى الاستفهام في متى الاستعجال بمعنى طلب العجل ، وهو الذي يقال له الاستبطاء بمعنى عذ الأمر بطيئا ، ثم القصد من هذا الاستعجال هو استبعاد الموعود وأنه مما لا يكون ووسط الاستبطاء جريا على قضية المناسبة كما لا يخفى إذ الاستفهام للاستبعاد ابتداء إنما يكون بأين وأنى ونحو ذلك دون متى ففي كلام المصنف رحمه الله على هذا نظر لكن ما قاله غير مسلم فإنه لا مانع من استعماله ابتداء(5/33)
ج5ص34
في الاستبعاد إذ المقام يقتضيه والمجاز لا حجر فيه مع ظهور العلاقة هنا.
قوله : ( فكيف أملك لكم الخ ) قالوا إنه بيان لوجه ارتباط الجواب بالسؤال فإنّ الاستفهام للاستعجال والاستبعاد كما مرّ لأنّ من لا يملك ذلك لنفسه لا يملكه لغيره بالطريق الأولى وذكر النفع للتعميم إذ المعنى لا أملك لنفسي شيئا ، وقيل : إنه استطرادفي لئلا يتوهم اختصاصه بالضرّ. قوله : ( 1 لا ما شاء اللّه ) في الكشاف إنه استثناء منقطع أي ولكن ما شاء اللّه كائن فكيف أملك لكم الضرّ وجلب العذاب ، وقيل عليه إنه لم عدل عن الاتصال وهو الأصل ، ولا مانع منه هنا إذ يجوز أن يكون التقدير إلا ما شاء الله من النفع والضرّ فإني أملكه والعجب أنه قدر ما شاء الله من ذلك والإشارة إلى النفع والضرّ وهو بيان لما شاء الله فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه فكيف يكون منقطعا ورد بأنه وان كان من جنس المستثنى منه ولكن ليس المعنى على إخراجه من حكمه ، ولهذا جعل الحكم أنه كائن دون أني أملكه ويؤيده أنه ورد في آيات
أخر غير مقيد لكن فيه أنّ الملك بمعنى الاستطاعة وهو مستطيع لما شاءه الله فيكون متصلا داخلا في الحكم أيضاً نعم إن أبقى الملك على ظاهره تعين الانقطاع ولذا جوّز المصنف رحمه الله الوجهين ، وقدم الاتصال لأنه الأصل ، وقد خبط بعضهم في شرح كلامه بما لا حاجة لنا بإيراده. قوله : ( لا يتأخرون ولا يتقدّمون الخ ( يعني أن الاستفعال بمعنى التفعل ، وسبق في الأعراف أنه يجوز بقاؤه على أصله وأن المعنى لا يطلبون التقدم والتأخر ، وقالوا إن لا يستقدمون استئناف أو معطوف على القيد والمقيد لا على قوله لا يستأخرون حتى يرد عليه أنه لا يتصوّر التقدم بعد مجيء المدة فلا فائدة في نفيه ، وقد ردّ بأنّ الفائدة فيه المبالغة في انتفاء التأخير لأنه لما نظمه في سلكه أشعر بأنه بلغ في الاستحالة إلى مرتبة التقدم فهو مستحيل كالتقدّم للتقدير الإلهيّ ، وان أمكن في نفسه وهو السرّ في إيراده بصيغة الاستفعال أي بلغ في الاستحالة إلى أنه لا يطلب إذ المحال لا يطلب ، وقيل معنى إذا جاء إذا قارب المجيء نحو إذا جاء الشتاء فتأهب له ( قلت ( وأشار الزمخشريّ إلى جواب آخر وهو أن لا يتأخر ولا يتقدم كناية عن كونه له حذ معين وأجل مضروب لا يتعذاه بقطع النظر عن التقدم والتأخر كقول الحماسيّ : وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدّم
قال المرزوقيّ : يقول حبسني الهوى في موضع يستقرّ فيه فالزمه ولا أفارقه وأنا معك
مقيم وطائع لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك ، وقوله فسيحين بالحاء المهملة أي يجيء حينه وزمانه وفي ئسخة فسيجيء ، وهما بمعنى وينجز وعدكم بالبناء للمجهول. قوله : ( تعالى أرأيتم إن أتاكم عذابه ( أرأيت يستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية وهو أصل وضعه ، ثم استعملوه بمعنى أخبرني والرؤية فيه تجوز أن تكون بصرية وعلمية ، وقد أشار في مواضع من الكشاف إلى كل منهما فالتقدير أ أبصرت حاله العجيبة أو أعرفتها فاخبرني عنها ولذا لم يستعمل في غير الأمر العجيب ، ولما كانت رؤبة الشيء سببا لمعرفته ومعرفته سبباً للأخبار عنه أطلق السبب القريب أو البعيد وأريد مسببه وهل هو بطريق التجوّز كما ذهب إليه كثيرا أو التضمين كما ذهب إليه أبو حيان رحمه الله ، والكاف وما معها حرف خطاب وهل الجملة مستأنفة لا محل لها أو في محل نصب على أنها مفعول أرأيت معلق عنها أم لا فيه اختلاف لأهل العربية مفصل في محله. قوله : ) وقت بيات واشتغال بالنوم ( يعني لم يقل ليلا ونهاراً ليظهر التقابل لأن المراد الإشعار بالنوم ، والغفلة وكونه الوقت الذي يبيت فيه العدؤ ويتوقع فيه ويغتنم فرصة غفلته وليس في مفهوم الليل هذا المعنى ، ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار أو النهار كله محل الغفلة لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو غذاء أو زمان قيلولة كما في قوله بياتا أو هم قائلون بخلاف
الليل فإنّ محل الغفلة فيه ما قارب وسطه ، وهو وقت البيات فلذا خص بالذكر دون النهار ، والبيات بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم لا بمعنى البيتوتة. قوله : ( أيّ شيء من العذاب يستعجلونه ) ماذا جملتها أنها اسم استفهام مركب بمعنى أقي شيء(5/34)
ج5ص35
أو استفهامية وذا موصولة بمعنى الذي أي ما الذي يستعجلونه ، وإذا كانت مركبة هنا كما أشار إليه المصنف رحمه الله بتفسيره بأيّ شيء فهي إمّا مفعول يستعجل قدم لصدارته أو مبتدأ ، فالعائدة مقدر كما إذا كان موصولاً أي يستعجله واليه ذهب المصنف رحمه الله ، ومن قال إنّ منه هو الرابط مع تفسير الضمير بالعذاب جنح إلى أن المستعجل من العذاب فهو شامل للمبتدأ فيقوم مقام رابطه لأنّ عموم الخبر في الاسم الظاهر يكون رابطا ففي الضمير أولى فمن قال إنّ تقدير المصنف رحمه الله لضميريستعجلونه مع تفسيره بأيّ شيء لا وجه له ، وإنه مما يتعجب منه جعل منه عائداً مع عدم صحته رواية ودراية والله أعلم.
تنبيه : قال المعرب الرؤية بمعنى العلم باقية على أصلها لأنها داخل على جملة الاستفهام ، وهي ماذا وجواب الشرط محذوف قدره الزمخشري تندموا على الاستعجال وردّه أبو حيان بأنه إنما يقدّر ما تقدمه لفظا أو تقديراً نحو أنت ظالم إن فعلت أي إن فعلت فأنت ظالم والذي يسوغ تقديره فأخبروني ماذا يستعجل وفي ردّه نظر لأنه ليس نظير ما ذكر لأن الشرط هنا معتمد عليه ، وهو في الأصل اعتراض بين أرأيتم ومعمولها وحذف جوابه لدلالة معنى الجملة عليه لا لدلالة لفظ ما تقدم عليه لأنّ في قوله أخبروني ماذا يستعجل دلالة لا تخفى على ندمهم إذا حل بهم ، وجوّز كون ماذا يستعجل جوابا للشرط كقولك إن أتيتك ما تطعمني ثم تتعلق الجملة بأرأيتم وردّه بأن جواب الشرط إذا كان استفهاما فلا بد من الفاء ، ولا تحذف إلا ضرورة ، وأمّا تعلق الجملة بأرأيتم فإن عنى ماذا يستعجل فلا يصح لأنه جعلها جواباً للشرط وإن عنى بها جملة الشرط فقد فسر أرأيتم بأخبروني ، وهو يطلب متعلقاً مفعولاً ولا تقع جملة الثرط موقعه ) قلت ) جوابه أنه جواب الشرط عنده معنى لا إعرابا والجواب محذوف ، ولذا جعل الجملة الاستفهامية وهي ماذا باقية على تعلق أرأيتم بها والتقدير أرأيتم ماذا يستعجل المجرمون من عذابه إن أتاكم فماذا ت!تعجلون والتمثيل مطابق لأنّ ما تطعمني ليس هو نفس الجواب حتى يلزم فيه الفاء بل هو دال عليه والنية التقديم كما في قوله :
وان أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
وجوّز أيضا أن يكون قوله أثم إذا ما وقع جواب الشرط وماذا يستعجل اعتراض! والمعنى
إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ورذ بأنّ أثنم استفهام فإذا كان جواباً للشرط فلا بد من الفاء كما تقدم وأيضا الجملة الاستفهامية معطوفة فلا يصح أن تكون جوابا فالجملة الاستفهامية أي أرأيتم بمعنى أخبروني تحتاج إلى مفعول ولا تقع جملة الشرط موقعه ، وأجيب بما مرّ من أن الجواب معنى لا إعراباً ولم نقل إنّ جملة الشرط واقعة موقع مفعول
أخبروني بل قدم أوّلاً أن أرأيتم معلق بالاسنالهام غايته أنّ الشرط يكون اعتراضا بين أرأيتم ومعمولها وهو الجملة الاستفهامية انتهى ) قلت ( بما ذكره يندفع الاشكال إلا أنه خلاف الظاهر. قوله : ( وكله مكروه لا يلانم الاستعجال ( هدا لا ينافي ما مرّ من أنّ الاستعجال مقصود به الاستبعاد والاستهزاء دون ظاهره لما قاله الطبيئ من أنّ هذا وارد في الجواب على الأسلوب الحكيم لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا استبعاداً دالموعود منه تعالى وأنه افتراء فطلبوا منه تعيين وقته تهكما وسخرية فقال في جوابهم هذا التهلم لا يتمّ إذا كنت مقرّاً بأني مثلكم وأني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً فكيف أذعي ما ليس لي به حق ، ثم شرع في الجواب الصحيح ، ولم يلتفت إلى تهكمهم واستبعادهم وفي الكشاد ، ويجوز أن يكون معناه التعجب كأنه قيل أي شيء هول شديد يستعجلون منه ، وقيل عليه أدماذا يستعجل متعلق بأرأيتم وهو استخبار فكيف يكون ماذا للتعجب ولعل الاستخبار أيضا ليد مجرى على حقيقته وردّ بأنّ مراده أنّ التنكير للتهويل والتعجب فلا يأباه ما ذكر ، وإنما إلاه كون قصد المتكلم بهذا الاستفهام هنا هو التعجب ) وعندي ( أنّ السؤال والجواب ليس!لمتوجه وأن ظنه كذلك بعض المتأخرين أمّا السؤال فلأنّ التعجب لا ينافي ما ذكر فإنه يسنثاد من المقام لأن هذا الاستعمال إنما يكون في الاستخبار عن الحال العجيبة ، وأما كون ذلك لأخوذاً من التنكير فليس بشيء لأنّ التنكير في التفسير لا المفسر فأخذه منه تعسف لا وط له. قوله : ( وهو متعلق بأرأيتم لأنه بمعنى أخبروني ( قد قدمنا لك توجيه(5/35)
ج5ص36
كونه بمعنى أحرني والمراد بالتعلق التعلق المعنويّ الأعم من كونه معموله أو استئنافا جوابآ لسؤال لأنه بيادله وقوله للدلالة على أنهم لجرمهم الخ يعني وضع الظاهر موضع الضمير لهذه النكتة ، و ، قيل إنّ وعدهم بالعذاب إنما هو لجرمهم فلا حاجة لذكره وإنما النكتة فيه إظهار تحقيرهم إذتهم كلام واه غني عن الردّ. قوله : ( وجواب الشرط محذوف وهو تندموا الخ ) تيل عليه أن الحواب إنما يقدر مما تقدمه لفظا أو تقديراً فالذي يسوغ أن يقدر ههنا فأخبروني ما يستعجل المجرمون لأنه بمعنى أرأيتم الخ ، وأجيب بأنه كذلك لأن المقصود من قوله أرأيتم الخ تنديمهم أو تكليلهم ، ولو قدر كما ذكره المعترض لصح أيضاً والمآل واحد ثم إنّ تقدير الجوأب من غير جس المذكور إذا قامت قرينة عليه ليس بعزيز. قوله : ( ويجورّ أن يكون الجواب ماذا ( قيل إن دل ا لا يصح لأن جواب الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء تقول إن زارنا فلان فأقي رحل هو ، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة النظم وقد صزج في المفصل بأن الجملة إذا كانت انأئية لا بد من الفاء معها والاستفهام وان لم يرد به حقيقته لم يخرج عن الإنشائية والمثال المذنور ليس من كلام العرب ثم إن تعلقها بأرأيتم وكونها في قوّة معموله يمنع صحة كونها جوابا وما ذكر من كون الجملة الاستفهامية لا تقع
جوابا بدون الفاء صرّج الرضيّ بأنه جائز في كثير من الكلام الفصيح ولو سلم فيقدر فيه القول ، وحذفه كثير مطرد وقيل مراد. أنّ جواب الشرط محذوف وأنّ هذا دليله فتسمح في تسميته جوابا وما ذكر بعده يأبا. ، وأمّا تعلقها بأرأيتم فإنما هو إذا لم يقدر جوابا فلا يرد ما ذكره ، وقد أورد على هذا الوجه أيضا أنّ استعجال العذاب قبل إتيانه فكيف يكون مرتبا عليه وجزاء وأجيب بأنه حكاية عن حال ماضية أي ماذا كنتم تستعجلون كما صرّح به في قوله تعالى { وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } والقرآن يفسر بعضه بعضا لكن مجرّده لا يجوّز أن يكون جوابا لأنّ الاستعجال الماضي لا يترتب على اتيان العذاب فلا بد من تقدير تعلموا أي تعلموا ماذا الخ ، وقيل إن أتاكم بمعنى إن قارب اتيانه أو المراد أن أتاكم أمارات عذابه ، وقيل إنكار الاستعجال بمعنى نفيه رأساً فيصح كونه جوابا واعترض على قوله وتكون الجملة أي الشرطية بتمامها متعلقة بأرأيتم بأنه لا يصح تعلقها به إذا خلت عن حرف الاستفهام كما صزحوا به ، وتقدير الاستفهام قبل إن الشرطية تكلف ، وهذا إلا محصل له لأنّ مراد المعترض! إنّ أرأيت بمعنى أخبرني والجملة الشرطية لا يصح أن تكون مفعولاً له لأنه يتعدى بعن ، ولا تدخل على الجملة إلا أنها إذا اقترنت بالاستفهام ، وقلنا يجواز تعليقها وفيه كلام في العربية جازه ويدفع بأنه أراد بالتعلق التعلق المعنوي لأنّ المعنى أخبروني عن صنيعكم إن كان الخ. قوله : ) أو قوله أثم إذا ما وقع الخ ) معطوف على قوله ماذا أي والشرطية أيضا متعلقة بأرأيتم كما مز وقد تبع في هذا الزمخشري ، وهو في غاية البعد لأنّ ثم حرف عطف لم يسمع تصدير الجواب به ، والجملة المصدرة بالاستفهام لا تقع جواباً بدون الفاء كما مرّ وأمّا الجواب عنه بأنه أجرى ثم مجرى الفاء فكما أنّ الفاء في الأصل للعطف والترتيب ، وقد ربطت الجزاء فكذلك هذه فخالف لاجماع النحاة وقياسه على الفاء غير جليّ ، ولذا قيل مراده أنه يدلّ على جواب الشرط والتقدير إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه وقوله أثم إذا معطوف عليه للتأكيد نحو كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ولا يخفى تكلفه فإنّ عطف التأكيد بثم مع حذف المؤكد مما لا ينبغي ارتكابه ، ولو قيل المراد إنّ آمنتم هو الجواب وأثم إذا ما وقع معترض فالاعتراض! بالواو والفاء وأمّا بثمّ فلم يذهب إليه أحد وقرىء ثم بفتح الثاء بمعنى هنالك وأمّا تفسير ثم المضمومة به فخطا أو تفسير معنى كما في الدرّ المصون ، وقد تقدّم عن المعرب ما يدفع هذا كله فإنّ المراد بكونه جوابا أنه جواب معنى لا لفظا ، والجواب مقدر هذا قائم مقامه ولا يخفى بعده فاعرفه. قوله تعالى : ( أثم إذا وقع ( اختلف في إذا هذه هل هي شرطية أو لمجرّد الظرف بمعنى حين فعلى الأول يكون تكريراً للشرط وهو على كل حال مؤكد لمعناه ، وقول المصنف في تقرير المعنى آمنتم به بعد وقوعه ، وكذا قوله لانكار التأخير تصريح بمعنى ثم ولو على تقدير الجزائية لأنّ الجزاء متعقب
ومترتب على الشرط فلا ينافي استعارتها للربط وبالجملة فهذا المحل من مشكلات الكشاف فلا علينا بالتطويل فيه(5/36)
ج5ص37
فإنه كما قيل :
ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر
وقوله جم!صمنى الخ بيان للوجه الأخير واشارة إلى أن الجواب في الحقيقة آمنتم. قوله :
( أي قيل لهم الخ ) فالآن في محل نصب على أنه ظرف لآمنتم مقدر لا للمذكور لأنّ إلاستفهام له صدر الكلام وقرىء بدون همزة الاستفهام فيجوز تعلقه به وقمدير القول ليس بضروريّ بل لكونه أظهر وأقوى معنى وقوله : تكذيبا واستهزاء فس!ره به لما مرّ أنه استهزاء واستبعاد ولو تحققوه لم يستعجلوا وقوعه ، وقيل فسر به ليرتبط بما قبله وفيه نظر ، وقال الطيبيّ قوله أمنتم بحسب الظاهر يقتضي أن يقال بعده ، وقد ك!ختم به تكذبون لا تستعجلون فوضع موضعه لأن المراد به الاسمتعجال السابق ، وهو للتكذيب والاستهزاء استحضارا لمقالتهم فهو أبلغ من تكذبون ، وق!ل الاسئعجال كناية عن التكذيب ، وفائدة هذه الحال استحضارها والكلام على الان وتعريفه !ميموط في النحو والألف واللام لازمة لوضعه فاستعماله بدونها بأن يقال آن خطأ إلا أنه ملازم للظرفية كما ذكره ابن مالدك قيئ الثوضيح. قوله : ( المؤلم على الدوام ) إشارة إلى أنّ إضافة العذاب للخلد للدلالة على دوام ألمه وقوله من الكفر والمعاصي إشارة إلى أنهم يعذبون على " المعاصي أيضاً لأنهم مكلفون بالفروع وبالاتباع للأوامر والنواهي لكن هل العذاب عليها دائمآ تبعا للكفر أو ينتهي كنحذاب غيرهم من العصاة الظاهر الثاني ، وبه جمع بين النصوص الدالة على تخفيف عذاب الكفار وما يعارضها بأنّ المخفف عذاب المعاصي ، والذي لا يخفف عذاب الكفر. قوله : ( أحق ما تقول من الوعد أو ادعاه النبوّة ) رجح الأوّل لأنه الأنسب بالسياق ، وقيل لأنه لا يتأتى إثبات النبوّة لمنكريها بالقسم وأجيب بأنه ليس المراد إثباتها بلى كون تلك الدعوى جداً لا هزلاً أو أنه بالنسبة لمن يقنع بالاثبات بمثله ولا يخفى أنّ ما ادّعاه لا يثبت عند الزاكمين أنه افتراء قبل وقوعه بمجرّد القسم أيضاً فلا يصلح هذا مرجحا ، والقسم لم يذكر للالزام بل تأكيدا لما أنكروه والوعد هو نزول العذاب لا وجه آخر كما قيل. قوله : ( تقوله بجد أم باطل تهزل به الخ ) استخبارهم عن حقيته ، وعدمها منه يقتضي علمه بذلك وأنه لم يصدر عنه خطأ وحينئذ يلزم كونه حقاً أنه صدر عنه قصداً وجداً وكونه على خلافه عدمه فلذا وصفه بما ذكر بيانا للواقع وأيده بسبب النزول فاندفع ما قيل عليه أنه تفسير للحق لا
تفريع عليه إذ لم يقل فتقوله ، والقول بجد لا يقتضي كون المقول ثابتا متحققا في نفس الأمر ، والسؤال إنما هو عنه بدليل قوله قل الخ. وحمله على أنه لحق في اعتقادي خلاف الظاهر. قوله : ( وإلا ظهر أنّ الاستفهام فيه على أصله لقوله ويستنبؤونك وقيل إنه للإنكار ( ضعفه لأنه إذا كان للإنكار لا يناسب طلب الخبر الذي هو معنى يستنبؤونك ، وقيل لما كان زعمهم الجزم ببطلانه كان الظاهر أنه ليس على حقيقته والاستنباء تهكم منهم واستهزاء فلا دلالة فيه لما ذكره ، ولا يدفع بأنه إنما يتوجه أن لو كان المستنبىء من هؤلاء المكذبين ولو كان من غيرهم فلا والمراد حي أو هو وأتباعه وليس بشيء لأن حييا من يهود أنمدينة ومن رؤساء المكذبين وأفا جوابه بأن المراد بكونه على حقيقته أنه ليس للانكار فلا ينافي الاستهزاء فما لا ينبغي ذكره. قوله : ( ويؤيده أنه قرىء الحق هو الخ ) أي بالتعريف مع الاستفهام أي هذه القراءة تؤيد أنّ المراد الانكار لما فيها من التعريض لبطلانه المقتضي لإنكاره فإنه قصر للمسند على المسند إليه المشهور والمعنى أنّ الحق ما تقول أم خلافه فلا حاجة إلى ما في الكشاف من جعله من قصر المسند إليه على المسند المخالف لما عليه علماء المعاني وارجاعه لكلام الكشاف كما توهمه بعضهم مما لا داعي إليه. قوله : ( وأحق مبتدأ والضمير مرتفع به ) لأنه بمعنى ثابت فهو حينئذ صفة وقعت بعد الاستفهام فتعمل ويكتفي بمرفوعها عن الخبر إذا كان اسما ظاهرآ أو في حكمه كالضمير المنفصل وإذا كان خبراً مقدما فتقديمه ليلي الهمزة المسؤول عنه لا للتخصيص حتى يفيد التعريض كما في قراءة الأعمش بالتعريف مع أنه غير متعين لذلك فلذا لم يجعلها دالة على ما مرّ. قوله : ) والجملة في موضع النصب بيستنبؤونك ( أي على وجهي الإعراب فيها ثم إن استنبأ المشهور فيها أنها تتعدى إلى مفعولين أحدهما بدون واسطة ، والآخر بواسطة عن والمفعول الأوّل هنا هو الكاف ، والثاني فقامت مقامه الجملة لأن المعنى يسألونك عن جواب هذا السؤال(5/37)
ج5ص38
إذ الاستفهام لا يسأل عنه ، ولما رأى الزمخشري أن الجملة هنا لا تصلح أن تكون مفعولاً ثانيا معنى لما عرفت ولفظاً لأنها لا يصح دخول عن عليها جعل الاستنباء مضمنا معنى القول أي يقولون لك هذا ، والجملة في محل نصب مفعول للقول ، وهو كلام لا غبار عديه ، ومن غير في وجوه الحسان قال بعد ما أخطأ في قوله إن هذه الجملة بتقدير عن أن مراد الزمخشري أن المفعول الثاني مقدر وإن هذه الجملة لا تصح أن تكون مفعولا لأن الاستفهام يمنع من ذلك ولم يعرف أنه يراد بها لفظها على الحكاية ولا يمنع أحد من النحاة قلت هل قام زيد فهو خبط غريا منه. قوله : ( إن العذاب لكائن ) هذا على التفسير الأول في أحق هو وما بعده على الآخر ، قيل كلا الضميرين أي ضمير هو وأنه وهو غير ملائم للسياق ولذا مرضه
قوله : ( وأي بمعنى نعم الخ ) أي هي جواب وتصديق كنعم ولا تستعمل إلا مع القسم بخلاف نعم فإنها تستعمل به ، وبدونه ولذلث سمع من كلامهم وصلها بواو القسم إذا لم يذكر المقسم به فيقولون أيو ويوصلون به هاء السكت أيضا فيقولون أيوه ، وهذه شائعة الآن في لسان العوام كذا قرّر. الزمخشريّ لكن ردّه أبو حيان بأنه يجوز استعمالها مع القسم وبدونه ، والأوّل هو الأكثر ، وما ذكره من السماع ليس بحجة لأنّ اللغة فسدت بمخالطة غير العرب فلم يبق السماع حجة وحذف المجرور بواو القسم والاكتفاء بها لم يسمع من موثوق به ، وهو مخالف للقياس. قوله : ( بفائتين العذاب ) من الفوت بانمثاة من قولهم فاته الأمر إذا ذهب عنه جعله من أعجزه الشيء إذا فاته ويصح جعله من أعجزه بمعنى وجده عاجزاً أي ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزاً عن ادراككم وأيقاعه بكم والفائت على الأوّل هو الكفار لا العذاب. قوله : ( بالشرك أو التعدّي على الغير ) المراد بالشرك مطلق الكفر هنا وهو أحد استعماليه يعني الظلم إمّا لنفسه ، وهو بالكفر وخصه لأنه أعظمه ولأنّ الكلام في حق الكفار ، ومنهم من عممه لسائر المعاصي أو لغيره بالتعدي عليه ، وقوله من خزائنها وأموالها الإضافة فيه لأدنى ملابسة. قوله : ( من تولهم افتداه بمعنى فداه ) يعني أنّ افتدى هنا متعد بمعنى فداه أي أعطاه الفداء ، وهو ما يتخلص به فمفعوله محذوف أي افتدت نفسها بما في الأرض وقد يكون لازما مطاوع فدى المتعدّي يقال فداه فافتدى ، وقد جوّز هذا أيضاً هنا ، ولم يلتفت إلى هذا الشيخان لعدم مناسبته للسياق إذ المتبادر منه أنّ غيره فداه لأنّ معناه قبلت الفدية والقابل غير الفعل وفيه نظر لأنه قد يتحد القابل والفاعل إذ أفدى نفسه نعم المتبادر الأوّل. قوله : ( لأنهم بهتوا بما عاينوا الخ ا لما كانت الندامة والندم من الأمور الباطنة وهي لا تكون الأسرا فوصفها بالأسرار مما لا يظهر له وجه ، وأيضاً أسرار الندامة يدلّ على التجلد وليس بمراد وجه بأنّ الندامة ، وان كانت من الأسرار القلبية لكن آثارها تبدو وتظهر في الجوارح كالبكا وعض اليد ونحو ذلك فالمراد بتخصيص كونها في القلب نفي ما عدا ذلك لشدة حيرتهم وبهتهم من شدّة ما نزل بهم أو المراد أخلصوها لأنها سرية فإذا وصفت بذلك أفاد تأكيدها وقوّتها ، واخلاصها لأنّ أعمال القلب من شأنها الاخلاص ، ولذا يقال للخالص من الشيء أنه سرّه لأنه من شأنه أن يخفي ويصان ويضن
به ، وقيل أسرّ من الأضداد أي من الألفاظ المشتركة بين معنيين متضادّين لأنه يكون بمعنى أخفى وأظهر ، وقوله لخالصته الخالصة ما خلص من كل شيء وضمير أنها وبها للخالصة لا لندامة ، وفي الكشاف وقيل أسرّ رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم ولم يذكره المصنف رحمه اللّه لأنّ هول الموقف أشد من أن يتفكر معه في أمثال ذلك وان أمكن توجيهه ولأنّ ضمير أسرّوا عامّ لا قرينة على تخصيصه وأشرّ بالشين المعجمة بمعنى أظهر مشهور وإنما الكلام في كون أسر يرد بمعناه ، وفيه كلام في شرح المعلقات. قوله : ( ليس تكريرا ) يعني لقوله فإذا جاء رسولهم قضى بينهم السابق لأنّ الأوّل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأممهم وهذا مجازاة للمشركين على شركهم وبيان لأنهم لا يزادون على استحقاقهم أو هذا قضاء آخر بين الظالمين السابقين في قوله ، ولو أنّ لكل نفس ظلمت والمظلومين الذين ظلموهم وإن لم يجر لهم ذكر هنا لكن الظلم يدلّ بمفهومه عليهم فقوله ، والضمير أي ضمير بينهم ، وقوله يتناولهم أي المظلومين أو الظالمين(5/38)
ج5ص39
والمظلومين معاً ، وهذا أيضاً إذا لم يكن القضاء السابق في الدنيا كما مرّ.
قوله : ( تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب الخ ( يعني أن هذا تذييل لما سبق ، وتأكيد واستدلال على ما سبق ذكره بأن من يملك جميع الكائنات وله الترصرّف فيها قادر على ما ذكر ، وعلى انجاز ما وعد لأنه لا يخلف ما وعد رسوله به من نصره وعقاب من لم يتبعه فلا يرد على المصنف رحمه الله أنه وعيد والخلف فيه جائز كما تقرّر عندهم فالتعبير بالوعد في الاية ليس تنليبا كما يتوهم ، وهذا يعرفه من يتدبر الأمور لا من يغتر بالحياة ، ويدري ظاهرها فيظن أنها باقية وذكر القدر على الأمانة استطرادقي لا دخل له في الاستدلال على النشر وقوله لأنّ القادر لذاته بيان لما تقرّر من أن القادر بالذات لا يزول بغيره ، والقدرة صفة ذاتية عندنا ، وعين الذات عند بعضهم كما هو معلوم في الأصول. قوله : ( { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ } الخ ) الخطاب عامّ ، وقيل لقريش ومن ربكم متعلق بجاء أو وصفة موعظة ومن للابتداء والموعظة والشفاء للمؤمنين والهداية بمعنى الدلالة مطلقا عامّة وبمعنى الموصلة خاصة أيضا. قوله : ( أي قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية الخ ) يعني أنّ المراد القرآن وأنّ قوله موعظة إشارة
للعمليات لأن الوعظ ترغيب وترهيب فيحث على محاسن الأعمال ويزجر عن قبائح الأفعال وما بعده إشارة إلى الكمال العلمي بالعقائد الحقة ويتقنها بتصفية الباطن لها حتى تشرق بنور الهداية وتصعد من درجات اليقين إلى أعلى عليين وفيه إشارة إلى أنّ للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها إحداها تهذيب الظاهر عن فعل ما لا ينبغي واليه الإشارة بالموعظة لأنها الزجر عن المعاصي ، وثانيها تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الرديئة ، وهو شفاء ما في الصدور وثالثها تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى ، ورابعها تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة وقد وردت الآية مرتبة على هذا الترتيب الأنيق وبتلك الكمالات تحصل مناسبة بين المؤثر والمتأثر ليستعذ بها لفيض إحسانه فلذا لم يحصل له ذلك ابتداء بل في آخر أحواله ، وذهاب ظلمة الهيولى التي يتضح بها نور الهداية ، وقال الإمام الموعظة إشارة إلى تطهر ظواهر الخلق عما لا ينبغي ، وهو الشريعة والشفاء تطهر الأرواج عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة والهدى ظهور الحق في قلوب الصديقين ، وهو الحقيقة والرحمة إشارة إلى بلوغ الكمال والإشراق حتى يكمل غيره ويفيض عليه وهي النبوّة والخلافة فهذه درجات ستة لا يمكن فيها تقديم ولا تأخير واليه الإشارة في الحديث : " كان خلقه القرآن " فتدبر ، والمحاسن والمقابح جمع حسن وقبح على غير قياس ، وقوله وهدى مرفوع على كتاب وكذا قوله ورحمة والوصف بهذه ، وجعلها عينه للمبالغة ، وقوله والتنكير فيها أي في هذه المذكورات لا في رحمة فقط كما قيل. قوله : ( بإنزال القرآن ( الباء للسببية متعلق بفضل الله ورحمته أي ذلك بسبب نزول وهدايتكم به أو هو بدل منه مفسر له أي المراد بفضل الله ورحمته ذلك ويناسب الثاني قول مجاهد رحمه الله الفضل والرحمة القرآن والأوّل تفسيرهما بالجنة ، والنجاة من النار والتوفيق والعصمة إلى غير ذلك من التفاسير. قوله : ( والباء متعلقة بفعل يفسره قوله فبذلك فليرحوا ( يعني فليفرحوا من قوله فبذلك فليفرحوا ، وقيل جعل المجموع مفسراً لأنه لولا ذكر المتعلق لم يكن مفسراً بل عاملا فيه فالمفسر في زيداً ضربته ضربته بتمامه إذ لولا الضمير لكان عاملا. قوله : ) فإن اسم الإشارة بمنزلة الضمير الخ ( يعني أنه من باب الاشتغال وشرطه اشتغال العامل بضمير المعمول واسم الإشارة يقوم مقام الضمير فاشتغاله به بمنزلة الاشتغال بضميره وذلك إشارة إليهما باعتبار ما ذكره في قوله عوان بين ذلك وهو مشهور في اسم الإشارة ، وهذا من غريب العربية فإن المعروف في الاشتغال اشتغاله بالضمير وكونه باسم الإشارة لم يذكره النحاة.
قوله : ( نقديره بفضل اللّه وبرحمته فليعتنوا الخ ( يعني المقدر إما من لفظه أو من معناه كما في زيدأ ضربت غلامه أي أهنت زيداً وهذا مما يجوز إذا دلت عليه القرينة وقد صرّح به النحاة والقرينة قائمة هنا لأن ما يسر به يكون مما يعتني ويهتم بشأنه وتقديم المعمول لاعتناء مؤيد لذلك فقول أبي حيان رحمه الله إنّ هذا إضمار(5/39)
ج5ص40
لا دليل عليه مما لا وجه له ، وهذا أحسن مما قيل إنّ الاعتناء من تقديم المعمول. قوله : ( وفائدة!ذلك التكرير التثيد والبيان الخ ) إن كان هذا راجعا للتقديرين فالتكرير ، والتأكيد في الأوّل لأنه لازم له فكأنه مذكور ففي تقديره تكرير وتأكيد معنوي أيضا ، وأمّا الثاني فظاهر بدليل أنّ ما ذكر بعده غير مختص بالتقدير الثاني ، والبيان بعد الإجمال حيث حذف متعلق الأوّل فحصل الإبهام والإجمال لاحتمال غيره. قوله : ( وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح ) الإيجاب من الأمر لأنه الأصل فيه وتكريره ينفي احتمال الإباحة وغيرها والاختصاص من تقديمه على العامل المقدر لأنه يقدر على طبق المذكور والظاهر أنّ مراده أن التقديم أفاد الاختصاص فلما كرر أوجب اختصاصه ونفي احتمال أن تقديمه لغير ذلك ثم إنه قيل عليه اللازم من التقديم اختصاص الفرج بهما فهو إما مقلوب أو بناء على أنّ الباء يجوز دخولها على كل من المقصور والمقصور عليه حقيقة ، أو بتضمينه معنى الامتياز كما مر تحقيقه ، وقوله أو بفعل دل عليه قد جاءتكم أي مقدر بعد قل لا بعد جاءتكم المذكور لأن قل تمنع منه فلا يكون من الحذف على شريطة التفسير أي جاءتكم موعظة وشفاء وهدى ورحمة بفضل الله وبرحمته فالمراد بالرحمة الأولى غير الثانية. قوله : ( وذلك إشارة إلى مصدره ( أي مصدر جاء وهو المجيء لأنه مصدر ميمي وضمير مجيئها راجع إلى المذكورات التي هي فاعل جاء. قوله : ( والفاء بمعنى الشرط ( يعني إنها داخلة في جواب شرط مقدر أو أنها رابطة لما بعدها بما قبلها لدلالتها على تسبب ما بعدها عما قبلها والوجهان في الفاء على التقادير السابقة في متعلق الباء وان أشعر قوله في الأول فبهما أن الأول مبني على الأول منهما والثاني مبني على تقدير جاءت لقوله والدلالة على أنّ مجيء الكتاب الخ لأنه تمثيل يعلم منه حال غيره إذ لا داعي للتخصيص ، وقوله وتكريرها للتأكيد يعني إن الفاء الثانية زائدة لتأكيد الأولى وهذا جار على جميع ما سبق من التقادير والجارّ والمجرور متعلق به ، وقيل الزائدة هي الأولى لأن جواب الشرط في الحقيقة فليفرحوا وبذلك مقدم من تأخير ، وزيدت فيه الفاء للتحسين ولذلك جوز أن يكون بدلاً من قوله بفضل الله وبرحمته فلا يكون من الحذف والتفسير في شيء ، وقد وقع في نسخة الفاء الأولى وفي نسخة لم يقع لفظ الأولى فيحتمل القولين
وليست الثانية عاطفة كما قيل في : { فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } [ سورة العنكبوت ، الآية : 56 ] لأن المحذوف متعلق بفضل الله لا متعلق بهذا ولا ضرورة تدعو التكثير المحذوفات من غير داع في النظم الكريم فاعرفه. قوله : ) وإذا هلكت إلى آخر البيت ) وهو قوله :
لا تجزعي إن منفسا أهلكته وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
وهو من شعر للنمر بن تولب والخطاب لزوجته وكانت لأمته إذ نزل به ضيوف فعقر لهم أربعة قلائص! فقال لها ذلك والمعنى لا تجزير لما أتلفه من نفيس مالي فإني أحصل لك أمثاله ، ولكن اجزير إن مت وهلكت فإنك لا تجدين مثلي من الرجال يخلف عليك ، والشاهد فيه زيادة الفاء في قوله فعند ذلك أو في فاجزعي. قوله : ( وعن يعقوب فلتفرحوا بالتاء على الآصل المرفوض ) أي وروي أنه قرأ فلتفرحوا بلام الأمر وتاء الخطاب على أصل أمر المخاطب المتروك فيه فإنّ أصل صيغة الأمر باللام فحذفت مع تاء المضارعة واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن فإذا أتي بأمر المخاطب فقد استعمل الأصل المتروك فيه وهذا أحد قولين للنحاة فيه وقيل إنها صيغة أصلية وفي حواشي الكشاف عن المصنف إن هذه القراءة إنما قرىء بها لأنها أدل على الأمر بالفرج ، وأشد تصريحاً به إيذانا بأن الفرح بفضل الله ورحمته مما ينبغي التوصية مشافهة به ، وبهذا الاعتبار انقلب ما ليس فصيحا فصيحا كما في قوله : { لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ سورة الاخلاص ، الآية : 4 ] كما سيأتي بيانه وقال ابن جني وقراءة فلتفرحوا بالتاء خزجت على أصلها وذلك أنّ أصل أمر المخاطب اللام كما قرّرناه ولم يفعلوا ذلك بأمر الغائب لأنه لم يكثر كثرته ، ولذا لم يؤمر باسم الفعل كصه والذي حسنه هنا أن النفس تقبل الفرج فذهب به إلى قوة الخطاب فلا يقال فلتحزنوا إلا إذا أريد صغارهم وارغامهم ومنه أخذ العلامة ما ذكره ، وهذا من(5/40)
ج5ص41
دقائق المعاني التي ينبغي أن يتنبه لها. قوله : ) وقد روي مرفوعاً الخ ( يعني أنّ هذه القراءة وان كانت شاذة إلا أنها وردت في حديث صحيح رواه أبو داود عن أبيّ بن كعب مرفوعا إلى النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذا قال في الكشاف أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيدها بقراءة فافرحوا لأنها أمر للمخاطب على الأصل ، وقد قرأ بها الحسن ، وجماعة من الصحابة رضوان الله عليهم ومن الغريب قوله في شرح اللب لما كان النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الحاضر ، والغائب جمع بين اللام ، والتاء وكأنه يعني أن الأمر لما كان لجملة المؤمنين حاضرهم ، وغائبهم غلب الحاضرون في الخطاب على الغائبين ، وأني باللام رعاية لأمر الغائبين ، وهي نكتة بديعة إلا أنه أمر محتمل ، وقرىء فلتفرحوا بكسر اللاء. قوله : ( قإنها إلى الزوال ) أي صائرة إلى الزوال ،
ومن قدره شرفة فقد وهم لأنه يتعدى بعلى وقوله وهو ضمير ذلك أي راجع إلى لفظ ذلك باعتبار مدلوله وهو مفرد فروعي لفظه ، وإن كان عبارة عن الفضل والرحمة ، ويجوز إرجاع الضمير إليهما ابتداء بتأويل المذكور أو جعلهما في حكم شيء واحد. قوله : ( وقرأ ابن عامر ئجمعون ) بالخطاب لمن خوطب بقوله يا أيها الناس سواء كان عاما أو لكفار قريش ، وعلى قراءة فلتفرحوا أو افرحوا فهو خطاب للمؤمنين ، وأمّا على قراءة الغيبة فيجوز أن يكون لهم أيضاً التفاتا ولم يذكره المصنف رحمه اللّه لأنّ الجمع أنسب بغيرهم ، وان صح وصفهم به في الجملة ، وما في قوله مما تجمعون تحتمل الموصولية والمصدرية. قوله : ( جعل الررّق منزلاً لأنه الخ ( يعني أنّ الرزق ليس كله منزلاً منها فالإسناد مجازي بأن أسند إليه ذلك لأنّ سببه منها أو أنزل مجاز بإطلاق المسبب على السبب فهو بمعنى قدر ، وقريب منه نفسيره بخلق كما في قوله : { وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ سورة الزمر ، الآية : 6 ] وقيل إنه على طريق الاستعارة المكنية ، والتخييلية وهو بعيد كما أن جعل الرزق مجازا عن سببه أو تقدير لفظ سبب لا ينبغي لأنّ المستخبر عنه ليس سبب الرزق بل هو نفسه. قوله : ( وما في مو!ع النصب بإنزل الخ ) هي على الأوّل استفهامية وعلى الثاني موصولة ، والعائد محذوف أي أنزله ، وهي مفعول أوّل ، والثاني جملة الله أذن لكم على أن قل مكرر للتوكيد فلا يكون مانعا من العمل فيه ، والعائد على المفعول الأوّل مقدّر أي أذن لكم فيه ، وإذا كانت استفهامية فهي مفعول أنزل مقدم لصدارته ، ومعلق لا رأيتم إن قلنا بالتعليق فيه ومن بيانية والجارّ والمجرور حال. قوله : ( ولكم دل على أنّ المراد منه ما حل ولذلك وبخ على التبعيض ا لأنه بمعنى ما قدر لانتفاعكم والمقدر لانتفاعهم هو الحلال فيكون الرزق المذكور هنا قسماً منه ، وهو شامل للحلال ، والحرام فلا دلالة فيها للمعتزلة على أنّ الحرام ليس برزق فهو ردّ على الزمخشريّ ، والتبعيض التفريق بين بعض وبعض في الحل والحرمة من عند أنفسهم كالبحائر والسوائب ، ونحو ذلك. قوله : ( مثل هذه أنعام وحرث حجر الخ ) هذا إشارة إلى آيات أخر وتفسير للقرآن به ، وهذه إشارة إلى ما جعلو. لآلهتهم من الأنعام ، وحجر بمعنى ممنوعة ، وما في البطون أجنة البحائر ، وقد مر تفسيره في محله ، وقوله فتقولون ذلك الإشارة إلى ما مرّ من قوله هذه أنعام الخ وذلك مقول القول ، وبحكمه أي الله متعلق بتقولون لا خبر ذلك. قوله : ( ويجوز أن تكون المنفصلة متصلة بأرأيتم الخ ) في أم هذه وجهان أحدهما أنها متصل عاطفة تقديرها أخبروني الله أذن لكم في التحليل والتحريم أو تكذبون في نسبة ذلك إليه فجملة الله أذن لكم مفعول لا رأيتم ، والثاني
أنها منقطعة بمعنى بل والهمزة والاستفهام في الله أذن لكم للانكار فأنكر عليهم الأذن ط فيه ، ثم قال بل أتفترون تقريرأ للافتراء ، والأوّل هو الظاهر الذي رجحو. ، ولهذا قدمه المصنف رحمه الله فقوله ويجوز أن تكون المنفصلة أي الجملة ، والقضية المنفصلة ، وهي مجموع قوله الله أذن لكم أم على الله تفترون فسماها منفصلة إما على اصطلاج أهل الميزان أو بالمعنى اللغوي لانفضالها عن أرأيتم ، وتوسط قل ، وإنما عبر به لمطابقة قوله متصلة ، وعلى هذا فما موصولة واتصال الجملة بأرأيتم لأنها مفعول ثان له كما مر. قوله : ( وإن يكون الاستفهام للإنكار الخ ) يعني إنكار الإذن في التحريم ، والتحليل ، والإضراب(5/41)
ج5ص42
عنه لتقرير افترائهم ، وعلى الأوّل الاستفهام للاستخبار ، ولا ينافيه تحقق العلم بانتفاء الأذن ، وثبوت الافتراء لأنّ الاستخبار لا يقصد به حقيقته بل المراد منه التقرير ، والوعيد والزام الحجة.
تنبيه : قوله تعالى : { آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ } مر في الأنعام جعل الزمخشري له من قبيل التقديم للتخصيص ورده بأنه لا يجوز تقديم الفاعل كما تقرّر في النحو وان جوزه الزمخشري تبعا لعبد القاهر وقال السكاكي ليس المراد أن الإذن منكر من الله دون غيره فلا بد من حمله على الابتداء ، وتقوية الحكم الإنكاري يعني أن إنكاره مطلق لا من الله فقط كما لو اعتبر التقديم فلا يصح من جهة المعنى أيضا ، وقيل : إن صاحب الكشاف أراد بالإنكار نفي التحقق لا نفي الابتغاء كما ظنه السكاكي فالمعنى على التقديم أن الإذن الموجود لم يصدر منه تعالى بل من شياطينهم لا أنه ينتفي ابتغاؤه من الله دون غيره كما زعمه ، وقد مر ما فيه مفصلا في سورة الأنعام. قوله : ) أي شيء ظنهم ( يعني ما استفهامية ، وقوله : وهو منصوب أي بالظرفية ، وناصبه الظن لا يفترون لعدم صحته معنى ولا بمقدر لأن التقدير خلاف الظاهر ، وقوله : ويدل عليه أي القراءة بالماضي تدل على تعلقه بالظن لأن الظاهر عمل الفعل فيه وقيل لأن أكثر أحوال القيامة يعبر عنها بالماضي في القرآن وقوله لأنه كائن تعليل للتعبير عنه بالماضي لأنه كائن لا محالة فكأنه وقع لتحققه ومافب هذه القراءة بمعنى الظن في محل نصب على المصدرية ، والمعنى ما ظنهم في شأن يوم القيامة وما يكون فيه لهم كما يدل عليه جعله تهديداً ، ووعيدآ لكنه يرد عليه ما قيك أن اعتباى اللىث في يوم القيامة مع انكشاف اولأمور فيه مستبشع فالظاهر اعتبار 8 في اظ- نيا ، وإت الف! بى حم!صى المئس!كوت كا!يوم منصوب به ئوكوى دض- ، !
فيكون المضيّ على بابه لا أنه عبر به لذلك ، وقول المصنف رحمه الله لأنه كائن يحتمله بخلاف ما في الكشاف ، وأمّا ما قيل إن المجاز هنا لا يستقيم لأنه صار نصا في الاستقبال لعمله في الظرف المستقبلى ، وهو يوم القيامة فليس بوارد لأن يوم القيامة يقدر لتحققه ماضيا كما في أتى أمر الله. قوله : ( ولا تكون في أمر الخ ) يبث!ير إلى أن ما نافية ، وأنّ الشأن بمعنى الأمر الذي يعتني به ، وبقصد من قولهم شأنه بالهمز كسأله إذا قصده والأصل فيه الهمز ، وقد تبدل ألفاً ، وكوله من شأنت أي مأخوذ من قولهم شأنت. قوله : ( والضمير في وما تتلوا منه الخ ) أي الضمير المجرور بمن عائد على الشأن ، ومن للتبعيض لأن التلاوة بعض شؤونه ، وقوله لأنّ تلاوة القرآن الخ توجيه ، وتعليل ، وفيه إشارة إلى وجه تخصيصه من بين الشؤون ، وقوله : أو لأن القراءة توجيه بوجه آخر بجعل منه للأجل ، وقوله : ومفعول تتلو أي على الوجهين ، وقوله : من تبعيضية إذا كانت الأولى للإخل حتى لا يتعلق حرفان بمعنى بمتعلق واحد. قوله : ( أو للقرآن ) أي ضمير منه ، وقوله من قرآن بيان للضمير ومن تبعيضية ، - والقرآن عام للمقروء كلاً وبعضاً وهو حقيقة لا مجاز بإطلاق الكل على الجزء إذ لا داعي له. قوله : ( أو دلّه ( فمن ابتدائية ، ومن الثانية تبعيضية. قوله : ( تعميم للخطاب الخ ( يعني خص الخطاب الاول برأس النوع الإنساني ، وهو النبيّ عليه أفضل الصلاة والسلام ، وعبر عن عمله بالشأن لأنّ عمل العظيم عظيم ، ولما عمم الخطاب عبر بالعمل العام الشامل للجليل ، والحقير ، وليس المراد بما فيه فخامة تلاوة القرآن كما توهم ، وقيل : الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء } [ سورة الطلاق ، الآية : ا ] قيل واختلاف هذه الأفعال بالمضي ، والاستقبال إشارة إلى أنّ القصد إلى استمرارها فالمعنى ما كان وما يكون والا كنا ونكون فتأمله وقوله مطلعين عليه إشارة إلى أن المقصود من الاطلاع عليهم الاطلاع على عملهم ، وقوله : تخوضون يقال : أخاض في الحديث ، وخاض! فيه واندفع كلها مجاز مشهور وفي الشروع فيه ، والتلبس به. قوله : ( ولا يبعد عنه ولا يغيب عن علمه ) يشير إلى أن عزب بمعنى بعد ، وغاب ، وخفي فالمراد لا يبعد ، ولا يغيب عن الله شيء ، والمراد منه لا يبعد ، ويغيب عن علمه بتقدير مضاف أو هو كناية عن ذلك. قوله : ( موازن نملة صغيرة ) إشارة إلى أن
من زائدة وأن المثقال اسم لما يوازن الشيء ، ويكون في ثقله ، والذرة بمعنييها عبارة عن أقل شيء ، والهباء بالمدّ ما في الهواء من دقيق الغبار. قوله : ( أي في الوجود والإمكان ) يعني أنّ الأرض ، والسماء عبارة(5/42)
ج5ص43
عن جميع الموجودات ، والممكنات لأن العامة لا تعرف غيرهما ، وقوله ولا متعلقاً بهما كالأعراض والعرس ، والكرسي تتوهمه العامة في السماء أيضاً فلا يقال إنّ العامة تعرفهما ، وليسا فيهما وقوله في الأرض ، ولا في السماء يشمل نفس السماء والأرض أيضاً. قوله : ( وتقديم الآرض لأنّ الكلام في حال أهلها الخ ) يعني أنها قدمت في كثير من المواضع ، وقد وقعت السماوات في سورة سبأ في نظير هذه الآية مقدمة وهي قوله تعالى : { عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } فأشار إلى أنّ حقها ذلك ولكنه لما ذكر قبله شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ناسب تقديم الأرض هنا لأن السياق لأحوال أهلها وإنما ذكرت السماء لئلا يتوهم اختصاص إحاطة علمه بشيء دون شيء وقوله المقصود منه البرهان على إحاطة علمه بها أي بحال أهل الأرض أي المقصود من هذه الآية إحاطة علمه بحال أهل الأرض بأنّ من لا يغيب عن علمه شيء كيف لا يعرف حال أهل الأرض وما هم عليه مع نبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر ما في الكشاف من أنّ العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا لأنه لا بد في التقديم من نكتة ، وان كانت الواو لا تقتضيه ولأنه عكازة أعمى. قوله : ( كلام برأسه مقرّر لما قبله ) أي جملة مستقلة ، وليس معطوفا على ما قبله حتى يكون الاستثناء منقطعاً أو على خلاف الظاهر ولا إن كانت نافية للجنس فاصغر اسمها منصوب لا مبنيّ على الفتح لشبهه بالمضاف ، وكذا أكبر لتقدير عمله وفي إعراب السمين إن لا نافية للجنس وأصغر وأكبر اسمها فهما مبنيان معها على الفتح ، وهو سبق قلم فإنه شبيه بالمضاف لعمله في الجار والمجرور فلا وجه لبنائه إلا أنه مذهب البغداديين وهو قول ضعيف. قوله : ( بالرفع على الابتداء والخبر ) أو على أن لا عاملة عمل لير أما الأول فلأنه يجوز الغاؤها إذا تكروت وأما قولهم إنّ الشبيه بالمضاف يجب نصبه فالمراد المنع من البناء لا منع الرفع والالغاء كما توهمه بعضهم فأتي بما لا طائل تحته ونقل عن سيبويه رحمه الله كلاما لا يدل على مدعاه ، ولولا خوف الاطالة نقلتة لك. قوله : ( ومن عطف على لفظ مثقال ذرة الخ ( أي سواء كان مفتوحاً بأن يجيء بالفتح لأنه لا ينصرف ويعطف على لفظ مثقال أو ذزة أو مرفوعا عطفاً على محله لأنه فاعل ومن زائد وحينئذ ورد عليه إشكال ، وهو أنه يصير التقدير ولا يعزب عنه أصغر من ذلك ، ولا أكبر إلا في كتاب فيعزب عنه ومعناه غير صحيح ، وقد دفع بوجو. منها ما ذكره المصنف رحمه الله وهو أنه إنما يصير المعنى كذلك إذا كان الاستثناء متصلأ
فإذ قدر منقطعا صح لأنه يصير تقديره لكن لا أصغر ولا أكبر إلا هو في كتاب مبين ودفع أيضا بأنه على حد قوله لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وقوله :
ولا عيب فيهم غيرانّ سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
فالمعنى لا يبعد عن علمه شيء لا الصغير ولا الكبير إلا ما في اللوح أو في علمه فإن
عد ذلك من العزوب فهو عازب عن علمه ، وظاهر أنه ليس من العزوب قطعنا فلا يعزب عن علمه شيء قطعا ، وفي الآية أقوال أخر ضعيفة كجعل إلا عاطفة بمعنى الواو ، وكون الكلام على التقديم والتأخير وأنه متعلق بما قبل قوله وما يعزب ، وجعله مستثنى من مقدر لا من المنفي المذكور أي ليس شيء إلا في كتاب ونحوه وكلها ظاهرة قوّة وضمعفا إلا ما نقله الإمام عن بعض المحققين من أن العزوب عبارة عن مطلق البعد والمخلوقات فسمان قسم أوجده الله تعالى من غير واسطة كالأرض والسماء ، والملائكة عليهم الصلاة والسلام وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث في العالم وقد تتباعد سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود فالمعنى لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين كتبه الله وأثبت فيه صور تلك المعلومات ، فهو استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال واثبات العزوب بمعنى البعد عنه في سلسلة الإيجاد لا محذور فيه وهذا وجه دقيق إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء لبعده عن أسلوب العربية ، وقيل معنى معزب يبين وينفصل أي لا يصدر عن ربك شيء من خلقه إلا وهو في اللوح وتلخيصه إنّ كل شيء مكتوب فيه ذكره الكواشي ، وقريب منه قوله في المغني إن معنى يعزب(5/43)
ج5ص44
ليس يخفى بل يخرج إلى الوجود فمعناه لا يخرج إلى الوجود عنه مثقال ذرّة إلا وهو في كتاب ولا منافاة كما قيل بين قوله هنا ، وقوله في سورة سبأ في قوله تعالى : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ سورة سبأ ، الآية : 3 ] لا يجوز عطف المرفوع على مثقال والمفتوح على ذرّة لأنّ الاستثناء يمنعه اللهمّ إلا إذا جعل الضمير في عنه للغيب وجعل المثبت في اللوج خارجا لظهوره على المطالعين فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شيء إلا مسطوراً في اللوح لأنّ مراده الاستثناء المتصل الذي هو الظاهر فيكون كما في الكشاف هنا ، ومن ههنا ظهر جواب آخر ، وهو أنّ المراد بالبعد عن الله البعد والخروج عن غيبه أي لا يخرج عن غيبه إلا ما كان في اللوج فيعزب عن الغيب إلى الظهور لاطلاع الملائكة عليهم الصلاة والسلام وغيرهم عليه فيفيد إحاطة علمه بالغيب والشهادة ، ويظهر منه وجه لتقديم الأرض وهذا معنى حسن من الله به عليّ. قوله : ( والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ ا لم يفسره بالعلم كما في سورة الأنعام لئلا يتكرّر مع قوله عن ربك على ما فسره به أو لاقتضاء المعنى له فتأمّل. قوله : ( الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة ) الوليئ ضد العدوّ فهو المدبئ ومحبة العباد طاعتهم ومحبته لهم
إكرامه كما في شرح الكشاف ولذا قال القائل رحمه الله تعالى :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذالعمري في القياس بديع
لوكان حبك صادقاً لأطعته إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
وعلى الأؤل يكون فعيل بمعنى فاعل ، وعيى الثاني بمعنى مفجول نجهو مشترك فتفسير المصنف رحمه اللّه له بهما إمّا بناء على جواز استعمال المشترك في معنييه ، وامّا باستعماله !في أحدهما وارادة الآخر لأنه لازم له كما قيل ما جزاء من يحبّ إلا أن يحبّ مع أنه يجوز أن يكون بمعنى الفاعل أو المفعول فيهما ، وقيل الولاية من الأمور النسبية فاعتبر الولاية من جانب العبد بالطاعة ومن جانب الله بالكرامة فلا حاجة إلى ما قيل إن الواو في كلام المصنفءبمعنى أو. قوله : ( من لحوق مكروه الخ ) قال الراغب الخوف توقع المكروه وضده الأمن ، والحزن من الحزن بالفتح ، وهو خشونة في النفس لما يحصل من الغمّ ويضاذه الفرج ولما كان الفرح بحصول المأمول وما يسر كان الحزن بفواته كما قال :
ومن سرّه أن لايرى مايسوءه فلايتخذ شيئاً يخاف له فقدا
ولذا فسره المصنف رحمه الله بما ذكر وهما متقاربان فإذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا ، ولذا قابله في البيت به ، وقيل لحوق المكروه في المستقبل كما صرّحوا به ولا اختصاص لسبب الحزن بفوات المأمول بل قد يحصل من لحوق مكروه في المستقبل فوات مأمول في الماضي ولا يخفى ما فيه ، والمراد بانتفاء الخوف ، والحزن أمنهم كذلك في الآخرة بعد تحقق مالهم من القرب ، والسعادة ، وإلا فالخوف والحزن يعرض لهم قبل رزلك سواء كان سببه دنيويا أو أخرويا. قوله : ( وقيل { الَّذِينَ آمَنُواْ } الخ ) هو على الأوّل تفسير لما أجمل من أولياء الله الذين لا خوف ولا حزن لهم بأنهم المتقون المبشرون ، وهذا جار على وجوه الإعراب ، و!ذا مختار الزمخشري حيث قال أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وقد فسر ذلك في قوله الذين آمنوا وكانوا يتقون فهو توليهم إياه لهم البشرى في الحياة الدنيا ، وفي الآخرة فهو توليه إياهم فإن قلت إذا كانا صفتين لأولياء الله ، ولما تضمنه من المعنيين يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر ولهم البشرى جملة لا توصف به المعرفة قلت المفسر لا يلزم أن يكون صفة فإذا قدر مبتدأ وجعلا خبرين له كانا مفسرين غير وصفين فإن قلت فكان الظاهر عطف لهم البشرى كما قيل قلت المفسر شيء واحد وان تضمن معنيين قصد تفسيرهما فالظاهر ترك العطف لاتخادهما فتأمّل ، وقد وقع تفسير الأولياء بالذين يذكر الله برؤيتهم يعني يظهر عليهم آثار العبادة وعن ابن عباس رضي الله عنهما ذوو الاخبات ، والسكينة وقيل هم المتحابون في الله وعن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ من عباد اللّه عباداً ما هم بأنبياء ، ولا شهداء تغبطهم
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والشهداء يوم القيامة لمكانهم من اللّه قالوا :(5/44)
ج5ص45
يا رسول الله خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم قال هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بيثهم ولا أموال كتعاطونها فواللّه إن وجوههم لنور وأنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس " ثم قرأ الآية ، وهذا تفضيل لهم بجهة من الجهات فلا يلزم تفضيلهم على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنه قد يكون في المفضول ما ليس في الفاضل كذا في شروح الكشاف وتابعهم غيرهم وفيه أنه يقتضي تسليم أن هذه الصفات ليست في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وليس كذلك إذ جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع من آمن بهم جرى يينهم هذا التحالت ألا ترى أهل الصفة رضي الله عنهم متصفين بذلك وهم محبون للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو يحبهم أيضا فلا وجه لما ذكر فالجواب أنّ الغبطة هنا بمعنى أنه يعجبه ذلك لأنه لا يغبط إلا على ما يحمد ويحسن ويعجب من غبط فهو كناية عن ذلك فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن اتصف بذلك لكن مقام الدعوة واشتغاله بمحبة الله أجل من أن يظهر تحابه كيف لا " ولا يتم الإيمان حتى يكون النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأهله وماله " فلا تكن من الغافلين . قوله : ( وهو ما بشر به المتقين الخ ) فسر بشرى الدنيا بما ذكره ، واطلاق البشرى على أوّلها ظاهر وعلى ثانيها لأنّ الرؤيا المصالحة سماها النبي صلى الله عليه وسلم : " المبشرات " والمكاشفات التي تظهر لصفاء باطن صاحبها مما يسز في المستقبل تبشير له أو لمريده أيضا كما يعرفه أهله وكذا بشرى الملائكة عليهم الصلاة والسلام عند النزع أي نزع الروح بالموت فإنهم يبشرونه ويرى مقامه اللهتم يسر لنا ذلك
بكرمك ورحمتك ، وقوله بيان لتوليه لهم هذا من تتمة القيل أي لهم البشرى الخ بيان لهذا كما أنّ ذاك بيان لذاك فإن قلت لم لم يقل لا يخافون ولا يحزنون مع أنه أخصر وأظهر وأنسب للمشاكلة بينهما قلت لأنّ خوفهم من الله مقرّر فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وغيرهم لا يخاف عليهم ذلك ولا يحزنون لأنهم قد بشروا بما يسرّهم عقبه وهذه نكتة لم أر من ذكرها. قوله : ( ومحل الذين آمنوا الخ ) وجوه الإعراب ظاهرة لكن في جعله صفة فصل بين الصفة والموصوف بالخبر وقد أباه النحاة ممن جوّزه الحفيد رحمه الله ، وجوّز فيه البدلية أيضا والمواعيد جمع ميعاد بمعنى الوعد لأنه هو الذي لا يقع فيه الخلف ، وقوله إلى كونهم مبشرين أو إلى البشرى بمعنى التبشير وقيل إلى النعيم الذي وقعت به البشرى. قوله : ( هذه الجملة والتي قبلها اعتراض ) أمّا الأولى وهي لا تبديل لكلمات الله فلأنّ معناها لا إخلاف لوعده فتؤكد البشارة لأنها في معناه ، وأمّا الثانية وهي قوله ذلك هو الفوز العظيم فلأنّ معناها أنّ بشارة الدارين السازة ، فوز عظيم ، وهذا بناء على جواز تعدد الاعتراض وعلى أنه يجوز أن يكون في آخر الكلام ، ولذا قيل لو جعلت الأولى معترضة ، والثانية تذييلية كان أحسن بناء على أنّ ما في آخر الكلام يسمى تذييلا لا اعتراضاً وهو مجرّد اصطلاح ، والى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله وليس من شرطه الخ ومراده الاتصال بحسب الإعراب ، وفيه أنّ قوله ولا يحزنك يصح جعله معطوفا على الجملة قبله أي إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فلا يحزنك قولهم وقوله إشراكهم الخ ، وكذا ما ضاهاه مما وقع وما سيقع. قوله : ( استئناف بمعنى التعليل ( أي ابتداء كلام سبق للتعليل أو هو جواب سؤال مقدر تقديره لم لا يحزنه فقيل لأنّ الغلبة لله فلا يقهر ، ويغلب أولياؤه ، وأمّا كونه بدلاً من قولهم كما قاله ابن قتيبة رحمه الله فرذه الزمخشريّ بأنه مخالف للظاهر لأنّ هذا القول لا يحزنه بل يسرّه وأمّا أنه على سبيل الفرض للإلهاب والتهييج ، وأنهم قد يقولونه تعريضاً بأنه لا عزة للمؤمنين فبعيد وقراءة الفتح قراءة أبي حيوة. قوله : ( كأنه قيل الخ ) يشير إلى أنه كناية على نهج لا أرينك هاهنا أو مجاز لأنّ القول مما لا ينهي كما إذا قلت لا يأكلك الأسد فمعناه لا تقرب منه فالمعنى لا تحزن بقولهم فأسند إلى سببه أو جعل من قبيل ما مرّ وكذا كل ما نهى فيه عن فعل غيره ، وقوله فهو يقهرهم الخ
يعني أنّ المقصود من إثبات جميع العزة لله إثباتها لأوليائه ويلزمه ما ذكر ، وقوله : لأقوالهم فسره به ليرتبط بما قبله وقوله فيكافئهم إشارة إلى أنّ اطلاع الله على الفعل عبارة عن مجازاته به كما مرّ. قوله : ( من الملائكة والثقلين ) لأنّ من للعقلاء ، والتغليب غير مناسب هنا ووجه التخصيص ما ذكره ، وهو جار على الوجوه وقوله(5/45)
ج5ص46
أشرف الممكنات عبيداً كونهم عبيدا مأخوذ من لام الملك. قوله : ( أي شركاء على الحقيقة الخ ) هذا رذ على من توهم أن شركاء لا يصح أن يكون مفعول يتبعون لأنه يدلّ على نفي اتباعهم الشركاء مع أنهم اتبعوهم لأنّ المعنى أنهم ، وأن اتبعوا شركاء فليسوا في الحقيقة شركاء فالمراد سلب الصفة بحسب الحقيقة ، ونفس الأمر وان سموهم شركاء لجهلهم ، وقوله ويجوز أن يكون شركاء مفعول يدعون معطوف على معنى ما قبله لأنه في قوّة يصح أن يكون مفعول يتبع ، وقوله ومفعول يتبع محذوف تقديره يتبعون حقاً يقيناً كما سيشير إليه وقد يجعل آلهة أو شركاء كما قدره بعضهم ميلاً إلى أعمال الثاني في التنازع ، وقيل عليه أنه لا يصح كونه منه لأنّ مفعول الأوّل مقيد دون الثاني فلا يتحد المعمول حتى يكون من هذا الباب إذ هو مشروط فيه وأجيب بأنّ التقييد عارض! بعد الأعمال بقرينة عامل فلا ينافيه وفيه نظر. قوله : ( وإنما يتبعون ظنهم أنهم شركاء ) إشارة إلى معمول الظن المقدر وقيك إنه يجوز تنزيله منزلة اللازم. قوله : ( ويجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بيتبع ) وشركاء مفعول يدعون أي أيّ شيء يتبع المشركون أي ما يتبعونه ليس بشيء ويجوز توجيهه بحيث يتحد مع قراءة الخطاب في المعنى. قوله : ( أو موصولة معطوفة على من ) أي وله ما يتبعه المشركون خلقاً وملكا فكيف يكون شريكا له فصدر الآية باق على ما مرّ من الاستدلال وعدم صلاحية ما عبدوه مطلقا لذلك ويجوز أن تكون ما حينئذ مبتدأ خبره محذوف كباطل ونحوه أو قوله إن يتبعون والعائد محذوف أي في عبادته أو اتباعه. قوله : ( وقرئ تدعون بالتاء الخطابية ) وهذه قراءة السلمي وعزيت لعليّ كرّم الله وجهه أيضاً ، وقوله والمعنى أي على هذه
القراءة رذ لما قيل إنها غير متجهة وما استفهامية والعائد للذين محذوف ، وشركاء حال منه أي
تدعونهم حال كونهم شركاء في زعمكم والذين عبارة عن الملائكة والمسيح وعزير عليهم
الصلاة والسلام وقوله فيه أي في اتباعهم لله فيكون إلزاماً بأن ما يعبدونه يعبد الله فكيف يعبد ،
وقوله : بعد برهان أي من قوله إلا أن الله الخ وما بعده قوله إن يتبعون إلا الظن مصروف عن
الخطاب إلى الغيبة. قوله : ( يكذبون فيما الخ ( أصل معنى الخرص الحزر بتقديم الزاي
المعجمة على الراء المهملة أي التخمين والتقدير ، وششعمل بمعنى الكذب لغلبته في مثله
وكلاهما صحيح هنا وحزر سمع من باب ضرب ونصر. قوله : ( تنبيه على كمال قدرته الخ ( أي
كمال القدرة من خلق ما لا يقدر عليه غيره من الليل والنهار والنعمة براحة الليل والأبصار ،
وقوله : المتوحد يشير إلى إفادة تعريف الطرفين للقصر وأنه قصر تعيين يترتب عليه حصر العبادة
فيه لأنّ من لا يقدر ولا ينعم لا تليق عبادته. قوله : ( وإنما قال مبصراً الخ ( أي لم يقل لتبصروا
فيه ليوافق ما قبله تفرقة بين الظرفين إذ الظرف الأوّل ليس سبباً للسكون والدعة بخلاف الثاني
لأنّ الضوء شرطه الأبصار فلذا أسند إليه مجازاً ، ولم يسند إلى الليل ، وقيل مبصراً للنسب
كلابن وتامر أي ذا أبصار وجعله ابن عطية رحمه الله من باب المجاز كقوله :
ما ليل المحب بنائم ومن لم يفرق بينهمالم يصب
وأراد بالسبب ما يتوقف عليه في الجملة لا المؤثر ولا حاجة إلى جعله من حذف
الاحتباك وأصله جعل الليل مظلما لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتتحزكوا فيه. قوله : ( أي تبناه (
لعل هذا قول بعضهم وإلا فما ذكروه من الأدلة يقتضي أنهم يقولون بالتوليد حقيقة ، وقوله
تعالى اتخذ صريح فيما فسر به هنا. قوله : ) تنزيه له عن التبني الخ ( أصل معنى سبحان الله
التنزيه عما لا يليق به جل وعلا وششعمل للتعجب مجازاً فلذا قيل إنّ الواو هنا وفي الكشاف
بمعنى أو لأنه لا يجمع بين الحقيقة ، والمجاز وقيل : إنه كناية قالوا وعلى أصلها ، وهذا بناء
على صحة إرادة المعنى الحقيقيّ في الكناية ، وفيه خلاف لهم وقيل لا يلزم أن يكون استفادة
معنى التعجب منه باستعمال اللفظ فيه بل هو من المعاني الثواني ، وقوله تعجيب في نسخة
تعجب وقوله من كلمتهم الحمقاء مجاز كذكر حكيم أي الأحمق قائلها. قوله : ) فإنّ اتخاذ الولد
مسبب عن الحاجة ( وهو الغني عن كل شيء وتسببه عنها إمّا لأنّ طلبه ليتقوّى به أو لبقاء نوعه
وقوله : تقرير لغناه لأن المالك لجميع الكائنات هو الغنيّ ، وما عداه فقير وهو علة أخرى لأن التبني ينافي المالكية. قوله : ) نفي لمعارض ما أقامه من البرهان الخ ( المعارض في اللغة المنافي ، وفي الاصطلاج ما نافاه الدليل(5/46)
ج5ص47
المتأخر من أحد الخصمين والمراد هنا إما الأوّل وهو ظاهر أو الثاني لأنّ السلطان هنا الحجة التي فرضت أي ليس بعد هذا حجة تسمع والمعارض الدليل مطلقا صحيحا كان أو باطلا والمراد تجهيلهم وأنه لا مستند لهم سوى تقليداً لأوائل واتباع جاهل لجاهل ، وقوله متعلق بسلطان لأنه بمعنى الحجة وإذا كان صفة تعلق بمحذوف ، ومن زائدة ، وإذا تعلق بعندكم لما فيه من معنى الاستقرار يكون سلطان فاعل الظرف لاعتماده فلا يلزم الفصل بين العامل المعنوقي ، ومتعلقه بأجنبيّ كما قيل. قوله : ) على أنّ كل قول لا دليل عليه الخ ) يؤخذ من قوله إن عندكم الخ. وقوله وأن العقائد الخ من قوله أتقولون على اللّه الخ ، وهو رذ لمن تمسك بالآية على نفي القياس ، والعمل بخبر الآحاد لأنه في الفروع والآية مخصوصة بالأصول لما قام من الأدلة على تخصيصها وإن عمّ ظاهرها. قوله : ) افتراؤهم متاع ( فافتراؤهم هو المبتدأ المقدر بقرينة ما قبله أو تقلبهم أي تقلبهم في الدنيا وأحوالهم ، وقال السمين رفع متاع من وجهين على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر أي كيف لا يفلحون ، ولهم ما لهم فقيل ذلك متاع ، وقوله بما كانوا الباء سببية ، وما مصدرية وفي الدنيا متعلق بمتاع أو نعت له ، وقوله فيلقون الشقاء المؤبد مأخوذ من كونه في مقابلة المتاع القليل. قوله : ) { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } الخ ( إذ بدل من النبأ أو معمولة له لا لأتل لفساد المعنى ، ولام لقومه للتبليغ أو التعليل وقوله خبره مع قومه بالرفع والنصب تفسير لنبأ نوج عليه الصلاة والسلام ، وقوله : عظم عليكم وشق تفسير لكبر كما مز تحقيقه في قوله وإن كانت لكبيرة. قوله : ( نفسي الخ ( يعني المقام إفا اسم مكان وهو كناية إيمائية عبارة عنه نفسه كما يقال المجلس السامي ، ولا وجه لقوله في الكشاف ، وفلان ثقيل الظل أو مصدر ميميّ بمعنى
الإقامة يقال قمت بالبلد وأقمت بمعنى ، وأقحم في بيانه لفظ كوني للتوضيح أي إقامتي بين أظهركم مدّة مديدة أو المراد قيامه بدعوتهم ، وقريب منه قيامه لتذكيرهم ووعظهم لأنّ الواعظ كان يقوم لأنه أظهر وأعون على الاستماع فجعل القيام كناية أو مجازاً عن ذلك أو هو عبارة عن بيان ذلك وتقرّره ، وقوله فعلى اللّه توكلت جواب لأنه عبارة عن عدم مبالاته والتفاته إلى استثقالهم أو هو قائم مقامه ، وقيل الجواب فأجمعوا وقوله فعلى اللّه توكلت اعتراض لأنه يكون بالفاء فاعلم فعلم المرء ينفعه الأوّل فأجمعوا معطوف على ما قبله وبما قرّرناه لا يرد ما قيل إنه متوكل على الله دائماً فلا يصح جعله جوابا لكن فيه عطف الإنشاء على الخبر ، وقيل المراد استمراره على التوكل فلا يرد ما ذكره وقيل جواب الشرط محذوف أي فافعلوا ما شئتم. قوله : ) فاعزموا عليه الخ ) القراءة بقطع الهمزة من أجمعوا فقيل إنه يقال أجمع في المعاني وجمع في الأعيان يقال أجمعت أمري ، وجمعت الجيش ، وهو الأكثر وأجمع متعذ بنفسه وقيل بحرف جرّ يحذف اتساعاً يقال أجمعت على الأمر إذا عزمت وهنا حذف اتساعاً كذا قال أبو البقاء رحمه الله تعالى وكلام المصنف رحمه اللّه مائل إليه واستشهد للقول الأوّل بقول الحرث بن حلزة : أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت له ضوءضاء
وقال السدوسيّ أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه ، وقال أبو الهيثم أجمع أمره جعله مجموعاً بعد ما كان متفرّقا وتفرقته أن يقول مرّة أفعل كذا ومرّة أفعل كذا فإذا عزم فقد جمع ما تفرّق من عزمه ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى ، وأصله التعدية بنفسه ومنه الإجماع والمراد بالأمر هنا مكرهم وكيدهم. قوله : ( أي مع شركائكم ) هذا توجيه لقراءة النصب ، وقد قرئ بوجوه ثلاثة فالنصب خرّج على وجوه منها ما ذكره المصنف رحمه اللّه وهو أنه مفعول معه من الفاعل لأنهم عازمون لا معزوم عليهم ويؤيد هذا التخريج ، وأنهم عازمون قراءة الرفع بالعطف على الفاعل وهو الضمير المتصل لوجود الفاصل وقيل إنه مبتدأ محذوف الخبر أي وشركاؤكم مجمعون ونحوه. قوله : ( وقيل إنه معطوف على أمركم بحذف المضاف الخ ) توجيه آخر للنصب مبنيّ على أنّ أجمع متعلق بالمعاني فلذا احتاج للتقدير والشركاء إن كان المراد بهم من على دينهم فظاهر وان أربد بهم الأصنام فتهكم بهم أو الكلام من الإسناد إلى(5/47)
ج5ص48
المفعول المجازيّ كاسأل القرية. قوله : ( وقيل إنه منصوب بفعل محذوف ثقديره وادعوا شركاءكم ) أي
هو منصوب بمقدر كما في قوله علفتها تبناً ، وماء باردا وعلى قراءة نافع عطف شركاءكم عليه لأنه يقال جمعت شركائي كما يقال جمعت أمري وقيل المعنى ذوي أمركم وكلام المصنف رحمه الله تعالى يميل إليه وفيه نظر وقوله والمعنى أي على الوجوه السابقة وأمرهم بلفظ الماضي أي أنّ نوحا عليه الصلاة والسلام أمرهم ويصح أن يكون اسما أيضا وقوله بالعزم على قراءة العامّة أو الاجتماع على قراءة نافع ، وقوله على أفي وجه أعمّ من المكر والكيد وثقة علة لأمرهم وقلة مبالاة معطوف عليه. وفي قصدي مصدر مضاف إلى المفعول. قوله : ( واجعلوه ظاهرا مكشوفاً ) هذا كما مرّ من أنّ الأمر لا يصح كونه منهيا فهو إما كناية عن نهيهم عن تعاطي ما يجعله غمة أو أمرهم بإظهاره ، وعليكم على الأوّل متعلق بغمة وعلى الثاني بمقدّر أي كائنا والمراد من الغمّ ما يورثه والأمر بمعنى الشأن وهو الإهلاك أو قصده. قوله : ( أذوا إلتي الخ ) فالقضاء من قولهم قضى دينه إذا أدّاه فالهلاك مشبه بالدين على طريق الاستعارة المكينة ، والقضاء تخييل أو قضى بمعنى حكم ونفذ والتقدير احكموا بما تؤذوه إليّ ففيه تضمين واستعارة مكنية أيضا ومفعول اقضوا محذوف عليهما كما أشار إليه المصنف رحمه الله. قوله : ( وقر! { ثُمَّ اقْضُواْ } الخ ) الباء في بشركم للمعية أو التعدية وأفضى إليه بكذأ معناه أوصله إليه وأصله أخرجه إلى الفضاء كأبرزه أخرجه إلى البراز بالفتح وهو المكان الواسع ، ومنه مبارزة الخصمين. قوله : ( { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } الخ ) شرط مرتب على الجزاء قبله أي إن بقيتم على إعراضكم عن تذكيري بعد أمري لكم وعدم مبالاتي بما أنتم عليه فلا ضير عليّ ، وقيل الأوّل مقام التوكل ، وهذا مقام التسليم والمبالاة بشيء إتا للخوف أو الرجاء واليهما الإشارة بالجملتين وجواب الشرط محذوف أقيم ما ذكر مقامه أي فلا باعث لكم على التولي ولا موجب له أو ما ذكر علة للجواب أقيم مقامه ، وقوله واتهامكم بالجرّ عطف على ثقله ، والواو بمعنى أو. قوله : ( المنقادين لحكمه ) إشارة إلى أنّ المراد بالإسلام الاستسلام والانقياد لا ما يساوق الإيمان كما فسره به الزمخشريّ ، وقيده بالذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئاً والداعي له قوله : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ } إلا أنه تكلف ، ولذا عدل عنه المصنف رحمه الله ،
وقوله لا أخالف أمره مطلقا أو هذا الأمر وهو تفسير للانقياد وقوله فأصرّوا على تكذيبه فسره به لأن السياق دال على تقدم تكذيبهم له كما يدذ عليه قوله إن كان كبر الخ ولأنّ إهلاكهم المعقب إنما كان بعدما استمرّ من تصذيهم وطول عنادهم واصرارهم وإلزامهم الحجة بقوله إن كان كبر الخ وقوله وبين أنّ توليهم أي بقوله فإن توليتم الخ وقوله لا جرم توطئة لتفريع قوله فنجيناه لا إشارة إلى أن الفاء فصيحة أي فحقت عليهم كلمة العذاب فنجيناه وقوله من الفرق بدلالة المقام وقيل من أيدي الكفار ، وقوله وكانوا ثمانين أي من الناس غير الحيوانات وقوله من الهالكين به أي بالغرق ومن للبدل أي جعل الثمانون خليفة عمن هلك بالطوفان لأنه المذكور قبله وبعده. قوله : ( تعظيم لما جرى عليهم ا لأن الأمر بالنظر إليه يدل على شناعته قال الراغب : النظر يكون بالبصر والبصيرة ، والثاني أكثر عند الخاصة فالمراد اعتبر بما أخبرك الله به لأنه لا يمكن أن ينظر إليه هو ولا من أنذره ، والمراد بالمنذرين المكذبين والتعبير به إشارة إلى إصرارهم عليه حيث لم يفد الإنذار فيهم وقد جرت العادة أن لا يهلك قوم بالاستئصال إلا بعد الإنذار لأن من أنذر فقد أعذر ، وقوله لمن كذب الرسول أي رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام ، والتسلية له ظاهرة ، وقوله كل رسول إلى قومه هذا يستفاد من إضافة القوم إلى ضميرهم ، وليس من مقابلة الجمع بالجمع المفضي لانقسام الآحاد على الآحاد وفيه إشارة إلى أنّ عموم الرسالة مخصوص بنبينا صلى الله عليه وسلم واختلف في نوح عليه الصلاة والسلام هل بعث إلى أهل الأرض كافة أو إلى صقع واحد منها وعليه ينبني النظر في الغرق هل عمّ جميع أهل الأرض أو كان لبعضهم وهم أهل دعوته كما صزج به في الآيات ، والأحاديث قال ابن عطية رحمه الله وهو الراجح عند المحققين ، وعلى الأوّل لا ينافي اختصاص عموم الرسالة بنبينا مجشحيه لأنها لمن بعده إلى يوم القيامة. قوله تعالى : ( { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } الآية ( ضمير كانوا(5/48)
ج5ص49
وكذبوا القوم الرسل ، والمعنى أن حالهم بعد بعثه الرسل كحالهم قبلها في كونهم
أهل جاهلية وقيل ضمير كانوا لقوم الرسل وكذبوا لقوم نوح عليه الصلاة والسلام أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوج عليه الصلاة والسلام أي بمثله ، ويجوز أن يكون عائداً الى نوج نفسه أي ما كان قوم الرسل بعد نوج ليؤمنوا بنوج إذ لو آمنوا به آمنوا بأنبيائهم ، ومن قبل متعلق بكذبوا أي من قبل بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وقيل الضمائر كلها لقوم الرسل بمعنى آخر وهو أنهم بارزوا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول لجوا في التكذيب ، والكفر فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجهم في الكفر وتماديهم ، وقيل ما مصدرية والمعنى كذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي من سببه وجرائه وأيده بقوله كذلك نطبع الخ ، والظاهر أن ما موصولة لعود الضمير عليها ، وأما كون ما المصدرية اسفا!فقول ضعيف للأخفش وابن السراج ، وقوله لشدة شكيمتهم الشكيم والشكيمة حديدة اللجام المعترضة في فم الفرس وفلان شديد الشكيمة على التمثيل أي أبيّ لا ينقاد فالمراد لعنادهم ولجاجهم وفي شرح الكشاف للجاربردي الشكيمة الحديدة الخ وفلان شديد الشكيمة أي شديد إ النفس وفلان ذو شكيمة أي لا ينقاد اص.
قوله : ( فما استقام لهم أن يؤمنوا الخ ( كان المنفية المقترنة بلام الجحود تدذ على المبالغة
في النفي تقديراً ، وبذلك نفي الصحة والاستقامة ، وقد يراد به لا ينبغي ولا يليق أو لا يجوز ، وقد يستعمل نفيها مطلقا لذلك وصرج به الإمام البغوي في غير هذا المحل لا يقال لعله إنما حمل على نفي الاستقامة لأنّ أصل المعنى نفي كون إيمانهم المستقبل في الماضي ، وماله إلى نفي القابلية والاستعداد لأنه قيل إنه مدفوع بجعل صيغة المضارع للحال ، ويحمل على زمان إخباره تعالى لنبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمعنى ما حصل لهم أن يؤمنوا حال مجيء البينات فيكون زمان عدمه بعد زمان اعتبار عدم الإيمان. قوله : ) أي بسبب تعوّدهم تكذيب الحق وتمرّنهم عليه قبل بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام ( يحتمل أنه بيان لحاصل المعنى وأق الباء سببية لا صلة يؤمنوا كما هو الظاهر وما مصدرية ولما كان يأباه عود الضمير عليها جعله عائداً إلى الحق المفهوم من السياق ، والمقام ولما كان فيه أنّ الكفر هو تكذيب الحق الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام فلا تتضح السببية أو له بأنّ المراد بالتكذيب ما ركز في طباعهم وتعوّدوه قبل بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام من تكذيب كل حق سمعوه وهذا سبب للسبب وهو شدة شكيمتهم ولذا قذضه ، ولا يخفى ما فيه من التكلف فالأظهر ما قدمناه وقيل ما موصولة والباء للسببية أو الملابسة أي بالشيء الذي كذبوا به وهو العناد ، وقد مز ما قيل إنّ ضمير به لنوح عليه الصلاة والسلام ، وقوله كذلك نطبع أي مثل هذا الطبع كما مرّ تحقيقه. قوله : ) وفي أمثال ذلك دليل الخ ) المراد بأمثال ذلك ما وقع فيه ذكر الطبع والختم والتغشية ، وما أحال عليه هو ما
ذكره في أوائل سورة البقرة وقوله الأفعال أي أفعال العباد القبيحة ، أو مطلق الأفعال التي للعباد إذ لا قائل بالفصل وكونها واقعة بقدرة اللّه لإسنادها إليه وقبحها عائد إلى الاتصاف بها لا إلى إيجادها ، وخلقها كما برهن عليه في الكلام وكسب العبد لها ظاهر إذ طبع الله على قلبه عبارة عن منعه عن قبول الحق والإيمان ، وهو عين الكفر فقوله بخذلانهم بيان لسبب فعل الله بهم ذلك ، وخلقه فيهم وليس تفسيراً للطبع بالخذلان حتى ينافي الدلالة المذكورة ، فإنّ المعتزلة يفسرونه بذلك حيث وقع تطبيقاً له على مذهبهم فلا غبار عليه كما توهم ، وفي الكشاف الطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم لأنّ من عاند وثبت على اللجاج خذله الله ومنعه التوفيق واللطف ، فلا يزال كذلك حتى يتراكم الرين والطبع على قلبه وهذا تأويل للآية ليوافق مذهبه ، وهل هو كناية أو ليس بكناية لكنه جار مجراها يعرف بتدقيق النظر في كلام شرّاحه ، والآيات التسع هي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفاح والدم والطمس وفلق البحر. قوله : ( معتادين الإجرام ) بفتح الهمزة وكسرها جمع ومفرد أي الذنوب العظيمة أو فعل الذنب العظيم لأنّ الجرم ما عظم منه ، وهذه الجملة معترضة تذييلية وجوّز فيها الحالية فيفيد اعتيادهم ذلك وتمرّنهم عليه لأنّ معناها أنه شأنهم ودأبهم كما يعرفه من له ممارسة بعلم البلاغة ، وكذا(5/49)
ج5ص50
كونها علة لما قبلها وهو ردّهم واستكبارهم يؤخذ من ذلك كما أشار إليه المصنف رحمه الله ، والحمل على العطف الساذج لا يناسب البلاغة لا لتقدم الإجرام على البعث لأن المراد استمرارهم وتعاونهم عليه كما فسر به. قوله : إ فلما جاءهم الحق } جعل الحق كشخص جاءهم من الله على طريق الكناية والتخييل وهذا يدل على غاية ظهوره بحيث لا يخفى على ذي بصر وبصيرة فلهذا فسروه بعرفانهم ذلك ، وكذا وضع الحق موضع الضمير إشارة إلى ظهور حقيته عند كل أحد ، وأيضاً قد صرّج به في محل آخر بقوله وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم فلا يرد قوله في الفرائد لا دلالة في النظم على معرفتهم له ، وقولهم إنه يدذ على أنهم بهتوا لما بهرهم منه ، وهذا غير وارد على المصنف رحمه اللّه لأنه لم يفسره به ، وإنما ذكر أنهم عرفوه بما قارنه من الآيات كما يدذ عليه تفريعه بالفاء وهو معنى ما في الكشاف أيضاً ، والمعجزات من قوله من عندنا فتدبر. توله : ( ظاهر أنه سحر وفائق في فنه واضح فيما بين إخوانه ) يشير إلى أنّ مبين من أبان بمعنى ظهر واتضح لا بمعنى أظهر وأوضح كما هو أحد معنييه ، ولا وجه لما قيل إنّ قوله ظاهر بيان لأن الإشارة لنوعه وقوله وفائق في فنه بيان لأنّ الإشارة لفرد كامل كما يدلّ عليه ما بعده بل المراد أن ظهوره إمّا ظهور كونه سحراً في نفسه أو
ظهوره بالنسبة إلى غيره من أنواع السحر فتأمل وقوله وفائق في نسخة أو بدل الواو. قوله : ( أنه لسحر الخ ) يعني أنّ القول على ظاهره ومقوله محذوف بقرينة ما قبله لا قوله أسحر لما سيأتي وقوله بتوا القول من البت بموحدة ومثناة أي قطعوا القول بأنه سحر فكيف يستفهمون عنه ، وقوله أسحر الخ من قول موسى صلى الله عليه وسلم لا من قولهم ، وهي جملة مستأنفة للإنكار ، ثم أجاب بجواب مرّضه لأنه خلاف الظاهر ، وهو أنّ الاستفهام مقصودهم به تقريره أي حمله على الإقرار بأنه سحر لا السؤال حتى ينافي البت والقطع ، وقوله والمحكي أي في أحد الموضعين فإمّا أن يكون المقول الثاني والأوّل حكاية بالمعنى أو بالعكسى ، وإنما ذكر هذا لأنّ القصة واحدة فالصادر فيها بحسب الظاهر إحدى المقالتين ، وقوله اللهمّ هو بمعنى يا الله لا بمعنى يا الله آمنا بخير لأنه ينافي ما بعده من الشرّ ، والميم المشددة المبنية على الفتح عوض عن يا فلا تجامعها إلا شذوذا ، وله ثلاث استعمالات النداء ، والاستثناء والجواب كنعم للاستظهار وتقوية هو ضعيف عند المتكلم إشارة إلى أنه محتاج لمعونة من الله ، وقد ورد في الحديث وكلام فصحاء العرب فليس بمولد كما توهم قاله المطرزي في شرح المقامات فهو هنا إشارة إلى ضعف الجواب كأنه ينادي الله لأنّ يسدد مقاله لضعفه ، وأمّا إذا كان تقولون بمعنى تعيبون لأنّ القول والذكر قد يطلق ويراد به ذلك فلا مفعول له ، وقوله يخاف القالة الخ القالة مصدر كالقول إلا أنه يختص بالسرّ في قول لأهل اللغة وفي كلامه الآتي إشارة إلى جواب آخر ، وهو أنه مقول قولهم والاستفهام ليس له بل مصروف إلى قيده وهو الجملة أعني ، ولا يفلح الساحرون والمعنى أجئتنا بسحر تطلب به الفلاج والحال أنه لا يفلح الساحر أو هم يستعجبون من فلاحه ، وهو ساحر فتدبر ، وقوله يبطل مضارع الإبطال وهو إقنافي ، والا فيجوز أن يكون سحرا يبطل غيره من السحر ، وقوله : ولأنّ العالم عطف على فإنه لأنّ الفاء تعليلية ، وقوله فيستغنى عن المفعول أي المفعول المعهود من كلام موسى صلى الله عليه وسلم على الوجهين. قوله : ( واللفت والفتل إخوان ) أي بينهما مناسبة معنوية ، واشتقاقية لأنّ لفته بمعنى صرفه ولواه وكذا فتله وليس أحدهما مقلوبا من الآخر كما قاله الأزهرقي رحمه الله ، وقوله من عبادة الأصنام الظاهر عبادة
غير الله لأنهم عبدوا فرعون لعنه الله. قوله : ( الملك فيها سمي بها الخ ( يعني المراد بها ذلك لأنها لازمة له فأريد من اللفظ لازم معناه أو المراد الملوك لأنها عادتهم رؤساؤهم مستتبعون لغيرهم فالكبرياء بمعنى التكبر أي عد نفسه كبيراً لهم ، والفرق بينهما أن في الأوّل ملاحظة استحقار غيره ، وهو التكبر المذموم بخلاف الثاني وقيل سمي بها لأنها أكبر ما يطلب من أمور الدنيا وفي الأرض متعلق به أو يتكون أو مستقرّ حال أو متعلق بلكما والأرض! قيل المراد بها مصر ، وقوله حاذق فيه فسره به لأن المراد علمه بصفة السحر وحذقه فيها ، وقراءة حمزة والكسائيئ سحار لا ساحر كما في بعض النسخ فهو من تحريف(5/50)
ج5ص51
الناسخ ، وأسقط قوله في الكشاف هنا كما قال القبطيّ لموسى صلى الله عليه وسلم إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض لأنه لا حا! إليه لا لما قيل إنه سهو صوابه كما قال الإسرائيليّ. قوله تعالى : ( { قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ } ( لا يخفى ما في الإبهام من التحقير والإشعار بعدم المبالاة وسيأتي في الشعراء أنه ليس المراد الأمر بالسحر ، وما فعلوه لأنه كفر ، ولا يليق منه الرضا به بل علم أنهم ملقون فأمرهم بالتقدم ليظهر إبطاله وسيجيء تفصيله. قوله : ( لا ما سماه فرعون وقومه الخ ( يعنى أنّ تعريف المسند لإفادة القصر إفراداً وكذا على قراءة عبد الله بالتنكير يستفماد القصر من التعريض لوقوعه في مقابلة قوله { إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } فالمعنى على القصر في التعريف والتنكير ، وكلام المصنف رحمه الله يحتمله ثم إنه قيل إن هذا التعريف للعهد لما تقدمه في قوله إنّ هذا لسحر وهو منقول عن الفزاء رحمه الله ورذ بأنّ شرط كونه للعهد اتحاد المتقدم والمتأخر كما في أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول ، وهذا ليس كذلك فإنّ السحر المتقدم ما جاء به موسى صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما جاؤوا به ورذ بمنع اشتراط ذللث بل اتحاد الجنس كاف في الجملة ولا يشترط الاتحاد ذاتاً كما قالوا في قوله تعالى : { وَالسَّلَامُ عَلَيَّ } [ سورة مريم ، الآية : 33 ] إن اللام للعهد مع أن السلام الواقع على عيسى صلى الله عليه وسلم غير الواقع على يحيى عليه الصلاة والسلام ذاتاً كذا قالوا ، وفيه بحث من وجهين الأوّل أن الظاهر اشتراط ذلك وما ذكره لا يدلّ على ما قاله لأنّ السلام متحد فيهما وتعذد من وقع له لا يجعله متعذداً كما أنّ زيداً لا يتعدد باعتبار تعذد الأماكن والمحال وإنما يتمّ ما ذكره أن لو صح رأيت رجلا وأكرمت الرجل إذا كان الأوّل زيدأ والثاني عمراً ، ويكون العهد باعتبار الاتحاد في الجنسية كما أنّ أنواع السحر وأعمالها مختلفة خصوصاً والأوّل سحر اذعائيّ ، وهذا حقيقيئ فالاعتراض وارد على الفزاء رحمه الله الثاني أن القصر إنما يكون إذا كان التعريف للجنس ، وأمّا تعريف العهد فلا يفيد القصر فكيف قزر هذا من اذعى أن القصر من التعريف ثم ذكر أنه للعهد نعم هنا أمر آخر ، وهو أن النكرة المذكورة
أوّلاً إذا لم يرد بها معين ثم عرّفت لا تنافي الجنسية لأن النكرة تساوي تعريف الجنس فحينئذ يكدون تعريف العهد لا ينافي القصر وان كان كلامهم يخالفه ظاهراً كليحرّر هذا فاني لم أر من تعرّض! له وقوله أي الذي جئتم به إشارة إلى أن ما على القراءة المشهورة موصولة ، والسحر خبره ، وقد جوّز أن تكون استفهامية في محل رفع بحذف الخبر. قوله : ( وقرأ أبو عمرو السحر أكخ ) ما ذكره غير متحتم لجواز كونها موصولة على هذه القراءة أيضاً مبتدأ والجملة الاسمية أي أهو السحر أو السحر هو خبره ، وقوله ويجوز أن ينتصب صطف على قوله مرفوعة بالابهتداء ، فقوله السحر على وجهيه الأخيرين. قوله : ( سيمحقه أو سيظهر بطلانه ) الباطل الفاسد والذي فني وضد الأوّل الحق وضد الثاني الثابت قال إلا كل شيء ما خلا الله باطل والسحر ما ظهر للعيون من آلاته ونفس عمله فإن كان الأوّل فإبطاله بالمعنى الثاني وإن كان الثاني فالظاهر فيه المعنى الأوّل كما في قوله تعالى : - { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ } [ سورة الأنفال ، الآية : 8 ] !ويصح فيه المعنى الثاني والى هذا أشار المصنف رحمه الله ببيان معنييه. قوله : ( لا يثبتة ولا يقوّبه ا لما كان تذييلاً لتعليل ما قبله وتأكيده فسره بتفسيرين ناظرين إلى ما قبله فلا يثحته بل يزيله ويمحقه ، ولا يقوبه بل يظهر بطلانه لأنّ ما لا يكون مؤيداً من الله فهو باطل ، وأيضا الفاسد لا يمكن أن يكون صالحاً جخسب الظاهر فلذا فسر إصلاحه بإدامته ، وتقويته بالتأييد الإلهي ، وقول الزمخشري لا يثبته ، ولا يديمه ، ولكن يسلط عليه الدمار أي الفساد والهلاك قيل زاده وان لم يلزم من عدم الإصلاح الإفساد لوقوعه في مقابلة قوله ويحق اللّه الحق فكأنه قال ويبطل الباطل ورذ بأنّ نفي إثباته لا يكون إلا بالدمار ، وما ذكره المصنف رحمه الله أظهر ، وقوله لا حقيقة له تفسير للتمويه لأن التمويهات تلبيسات الأوهام من قولهم موّهت الإناء إذا طليته بالذهب والفضة وتحته نحاس أو حديد لأنّ الوهم يكسو الباطل لباس الحق ويروّجه ، وقوله إنّ السحر إفساد ، وتمويه لا حقيقة له فيه بحث لأن من السحر ما هو حق ، ومنه ما هو تخيل باطل ، ويسمى شعبذة وشعوذة فلعله أراد أن منه نوعاً باطلأ ، وقد فصله الرازي في سورة البقرة وسيأتي في تفسير المعوذتين بيانه(5/51)
ج5ص52
إن شاء الله تعالى. قوله : ( ويثبته ( أي يوجده ويحققه بأوامره وقضاياه أي بتشريعه وأحكامه ، وقراءة كلمته اعى أن المراد الجنس فتطابة! القراءة الأخرى ، ويحتمل أن يراد قوله كن قيل أو ا ( سكل!ات ار؟ مور والشؤون والكنمة الأمر رإحد الأسور ولا!نع منه كما قضس ! وقوأ- في " سبف !صره !قي مبدأ. حثته !إلخلا 5 قيده به لأ : فءس ص ت إصه بعد؟ تهـ ا أسذزاري صت ق!مد ول
وأمّا عقب الإلقاء فما آمن به إلا بعض ذريتهم. قوله : " لا أولاد من أولاد قومه ) هذا بيان لمحصل المعنى لا بيان لتقدير مضاف لأنّ من تبعيضية ، وهم بعض من الذراري لا من القوم إذ لو لم يقدر وجعلت من ابتدائية صح ويكفي لإفادة التبعيض التنوين وأشار إلى أنّ المراد بالذراري الشبان لا الأطفال ، وقوله وقيل الضمير لفرعون أي الضمير في قومه ، وهو معطوف على قوله إلا الأولاد فإنه في معنى الضمير لموسى صلى الله عليه وسلم ، ورجح الأوّل بأنّ موسى عليه الصلاة والسلام هو المحدث منه وبأنه كان المناسب على هذا على خوف منه بدون إظهار فرعون ، ورجح ابن عطية رحمه الله الثاني بأنّ المعروف في القصص أنّ بني إسرائيل كانوا في قهر فرعون ، وكانوا بشروا بأنّ خلاصهم على يد مولود يكون نبيا صفته كذا وكذا فلما ظهر موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعوه ولم يعرف أن أحداً منهم خالفه فالظاهر الثاني ، والكلام في قوم فرعون لأنهم القائلون أنه ساحر والقصة على هذا بعد معجزة العصا فالفاء ليست للتعقيب بل للترتيب والسببية وأجيب بأنّ المراد ما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فإنهم أخفوه وان لم يكفروا. قوله : ( أو مؤمن آل فرعون الخ ) إشارة إلى أنّ تلك الآية تفسير لها مؤيدة لهذا وزوجته أي زوجة الخازن وقوله : وماشطته أي ماشطة فرعون لأنه كان له ضفائر عين امرأة لتسريحها ، وهو معطوف على طائفة ، وداخل في القيل الثاني ولفظ الذرية فيه نبوّ عن هذا الوجه. قوله : ( أي مع خوف منهم ) يشير إلى أنّ على بمعنى مع كقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ سورة البقرة ، الآية : 177 ] وقوله وجمعه على ما هو المعتاد الخ اعترض عليه بأنه ليس من كلام العرب الجمع في غير ضمير المتكلم كنحن كما ذكره الرضي وردّ بأنّ الثعالبي والفارسي نقلاه في الغائب أيضاً وبأنه لا يناسب تعظيم فرعون فإن كان على زعمه وزعم قومه فإنما يحسن في كلام ذكر أنه محكيّ عنهم ، وقيل إنه ورد على عادتهم في محاوراتهم في مجرّد جمع ضمير العظماء وان لم يقصد التعظيم فتأمل. قوله : ( أو على أن المراد بفرعون ا-له كما يقال ربيعة ومضر ) قيل عليه إن هذا إنما عرف في القبيلة وأبيها إذ يطلق اسم الأب عليهم ، وفرعون ليس من هذا القبيل ، وقد قال القرافي رحمه الله إنه صار علما للقبيلة منقولاً من اسم الجد فإن لم يسمع نقله لم يطلق على الذرية ألا تراهم لا يقولون فلان من هاشم ، ولا من عبد المطلب بل من بني هاشم وبني عبد المطلب فعلى هذا يكون فرعون كربيعة ولم يسمع فيه ذلك إلا أن يراد أن فرعون ، ونحوه من الملوك إذا ذكر خطر بالبال أتباعه معه فعاد الضمير على ما في الذهن ، وتمثيله بما ذكر لأنه نظيره في الجملة والمراد بآل فرعون فرعون وآله على التغليب
فكما أطلق فرعون على الآل في النظم أطلق الآل على فرعون في تفسيره ، وقيل إنه على حذف مضاف أي آل فرعون وملئهم كاسأل القرية وقيل عليه إنّ القرية لا تسأل فالقرينة قائمة على المضاف بخلاف فرعون فإنه يخاف فلا قرينة على التقدير هنا فلا يجوز مثله ، وقيل إنّ القرينة جمع ضمير ملئهم والقرينة كما تكون عقلية تكون لفظية مع أنّ سؤال القرية للنبيّ على خرق العادة جائز أيضا ، ولا يخفى أنّ الخارق للعادة خلاف الظاهر ، وأنّ ضمير الجمع يحتمل رجوعه لغيره كالذرية فلم يتعين حتى يكون قرينة وأمّا أن المحذوف لا يعود عليه الضمير فإن أراد مطلقا فغير صحيح ، وإن أراد إذا حذف لقرينة فممنوع لأنه في قوّة المذكور ، وهو كثير في كلام العرب ، وقريب منه ما قيل إنه حذف منه المعطوف ، وأصله خوف من فرعون وقومه ، والضمير عائد لذلك لكته قيل إنه ضعيف غير مطرد ، وعوده على الذرية على جميع التقادير ، وعود. على القوم أي قوم موسى عليه الصلاة والسلام أو قوم فرعون ، والجمع حينئذ باعتبار معناه. قوله تعالى : ( { أَن يَفْتِنَهُمْ } ( أصل الفتن إدخال الذهب النار ليعلم خالصه من غيره ، ثم استعمل(5/52)
ج5ص53
في إدخال الناس النار كقوله : { عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } [ سورة الذاريات ، الآية : 13 ] وسمى ما يحصل منه العذاب فتنة ، ويستعمل في الاختبار نحو فتناك فتونا ، واستعمل بمعنى البلاء والشدة وهو المراد هنا أي أن يبتليهم ويعذبهم. قوله : ( وهو بدل منه ( أي من فرعون بدل اشتمال أي على خوف من فرعون فتنته أو مفعول الخوف لأنه مصدر منكر يجوز إعماله ، وقيل إنه على تقدير اللام وهو مما يطرد الحذف فيه ، ولا يلزم فيه أن يستوفي شروط المفعول له كما قيل. قوله : ( وإفراده بالضمير ) أي بالإبدال منه وارجاع الضمير إليه لأنه شرط في بدل الاشتمال ويحتمل أن يريد أنه بدل منه وما عطف عليه وأفرد الضمير لما ذكره وان كان الخوف والبدلية من المجموع ففي تعبيره على كل حال تساهل لا يخفى ، وقوله كان بسببه لأنهم مؤتمرون بأمره ثم إنه قيل أن قوله وإفراده بالضمير جار فيما إذا كان المراد بفرعون آله بأن يرجع إليه وحده على طريق الاستخدام ، وإنه ردّ على الزمخشري إذ منعه ، ولا يخفى ما فيه من التكلف وفسر العلو بالغلبة والقهر ، وهو مجاز معروف ، وقوله في الكبر أي التكبر والعتوّ أي التجبر إشارة إلى أنّ الإسراف مجاز عن تجاوز الحد لا التبذير وبين مجاوزة الحد فيهما بما ذكر على اللف والنشر المرتب ، وقوله فثقوا به الخ قيل لو قدم الجاز والمجرور ليفيد الحصر كما في الآية كان أحسن وليس كما ظن لأنه غفلة عن مراده وليس هذا بتفسير بل بيان لما تعلق به الثرط وتوطئة له ، والملاحظ فيه التوكل فقط كما سنبينه. قوله : ( وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين ) يعي
أنه من تعليق شيئين بشرطين لأنه علق وجوب التوكل بالإيمان ، وعلق نفس التوكل بالإسلام وهو الإخلاص لله والانقياد لقضائه كالمثال الذي ذكره فإنّ وجوب الإجابة معلق على الدعوة ونفس الإجابة معلقة على القدرة ، وعلى هذا حمل كلام الكشاف بعض شراحه ، وقال إنه يفيد مبالغة في ترتب الجزاء على الشرط نحو إن دخلت الدار فأنت طالق إن كنت تزوّجتني ، وسيأتي تفصيله ، وخالف من قال إنّ مراده أنه من باب التعليق بشرطين المقتضي لتقدّم الشرط الثاني على الأوّل في الوجود حتى لو قال إن كلمت زيداً فأنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل قبل الكلام لأنّ الشرط الثاني شرط للأوّل! فيلزم تقدمه عليه ، وقزره بأنّ هنا ثلاثة أشياء الإيمان ، والتوكل والإسلام ، والمراد بالإيمان التصديق وبالتوكل إسناد الأمور إليه وبالإسلام تسليم النفس إليه ، وقطع الأسباب فعلق التوكل بالتصديق بعد تعليقه بالإسلام لأن الجزاء معلق بالشرط الأوّل وتفسير للجزاء الثاني كأنه قيل إن كنتم مصدقين الله ، وآياته فخصوه بإسناد جميع الأمور إليه وذلك لا يتحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين لله مستسلمين بأنفسكم له ليس للشيطان فيكم نصيب والا فاتركوا أمر التوكل لأنه ليس لكل أحد الخوض فيه. قوله : ( فإن المعلق بالإيمان وجوب التوكل الخ ) الوجوب مأخوذ من الأمر وتقديم المتعلق لأنه إذا كان إسناد الأمور إلى الغير لازماً ، وقد أسندت إليه تعالى دون غيره اقتضى وجوب ذلك ولو جاز التوكل على غيره لم يكن واجبأ ، وقد علق التوكل المقصور على الأوّل ، وجعل الثاني معلقا بقوله توكلوا وحده كما أشار إليه بتأخير المتعلق ، ولا حاجة إلى اعتبار القصر فيه لأن الإخلاص يغني عنه كما أشار إليه بقوله فإنه لا يوجد مع التخليط أي عدم الإخلاص لأن من لم يخلص لله لم يتوكل عليه لأن من توكل عليه كفاه فأمعن فيه النظر فإنه من غوامض الكتاب. قوله : الأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ( هذا يؤخذ من التوكل وقصره على الله ومن التعبير بالماضي دون توكل والدعوة ربنا لا تجعلنا فتنة الخ وقيل إنه مبني على أن دعاء الكافر في أمر الدين غير مقبول ، ولا دلالة له على الإخلاص ، وفيه نظر وقوله موضع فتنة أي موضع عذاب لهم بأن تسلطهم علينا فيعذبونا ، وقيل الفتنة بمعنى المفتون وهو المراد بموضع الفتنة مجازأ وقوله أي لا تسلطهم الخ تفسير له وقوله من كيدهم إشارة إلى أنّ النجاة بمعنى الخلاص وأنه إما مما يتهمون به أو من أنفسهم ، وقوله وفي تقديم التوكل الخ ، ولا ينافيه أنه قدم لكونه بيانأ لامتثال أمر موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالتوكل فإن النكات لا تتزاحم. قوله : ( أي اتخذا مباءة ( بالمذ أي
منزلاً من تبوأ المكان اتخذه مباءة كتوطنه اتخذه وطناً وتبوّأ قيل إنه يتعدّى لواحد قيقال : تبوأ القوم بيوتاً(5/53)
ج5ص54
فإذا دخلت اللام الفاعل فقيل تبوّأت للقوم بيوتا تعدى لما كان فاعلا باللام فيتعدى لاثنين كما هنا وقال أبو علي رحمه الله هو متعد بنفسه لاثنين ، واللام زائدة كما في ردف لكم وفعل ، وتفعل قد يكون بمعنى وكلام المصنف رحمه الله صريح في الأوّل وأن تحتمل المصدرية والتفسيرية.
قوله : ( يسكنون فيها أو يرجعون إليها ا لم يذكر الأوّل في الكشاف ، واتخاذها مسكنا لا يقتضي بناءها ولا ينافيه ، وقوله أنتما وقومكما إشارة إلى توجيه الجمع بين التثنية والجمع لأن الاتخاذ والتشريع مخصوص بهما فلذا ثنى أوّلاً ، وأمّا العبادة فلا تختص فلذا جمع الضمير ليشمل القوم كما سيشير إليه ، وبين أنه من تغليب المخاطب على غيره أيضا. قوله : ( تلك البيوت ( إشارة إلى أنّ الاضافة للعهد ، وقوله مصلى الخ يعني تلك البيوت المتخذة إن كانت للسكنى فمعنى اتخاذها أن تكون محلاً للصلاة فيها فالقبلة مجاز عن المصلي ، وإن كانت للصلاة فمعنى القبلة المساجد مجازا أيضا بعلاقة اللزوم أو الكلية والجزئية ، وهذا لف ونشر ناظر إلى قوله يسكنون أو يرجعون. قوله : ) وكان موسى-نحييصلي إليها ) هذا لا يوافق ما مر في البقرة في تفسير قوله تعالى وما بعضهم بتابع قبلة بعض من أن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس وهو المنصوص عليه في الحديث الصحيح وجعل البيوت قبلة ينافيه ما في الحديثأ2 ( جعلت إلى الأرض مسجداً وطهورأ من أنّ الأمم السالفة كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم ، وأجيب عن هذا بأنّ محله إذا لم يضطروا فإذا اضطروا جازت لهم الصلاة في بيوتهم كما رخص لنا صلاة الخوف فإن فرعون لعنه الله خرّب مساجدهم ، ومنعهم من الصلاة فأوحى الله إليهم أن صلوا في بيوتكم كما رواه ابن عباس رضي الله عنهما وذكره البزيزي في تفسيره ، وقوله وكان موسى يصلي إليها هذا قول خلاف المشهور وأغرب منه ما قاله العلائي رحمه الله من أنّ جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت قبلتهم الكعبة. قوله : ) أمروا بذلك الخ ( بناء على أنّ المراد بالبيوت المساكن أفا لو أريد المساجد فلا يصح هذا التوجيه ، وقوله
وانما ثنى الضمير الخ توجيه لاختلاف الضمائر ، وقوله لأنّ البثارة الخ ، وأيضاً تبشير العظيم أسرّ ، وأوقع في النفس وقوله وأنواعا من المال حمله عليه لأنّ المال اسم جنس شامل للقليل ، والكثير فإذا جمع دل على قصد الأنواع المتعددة وذكر المال بعد الزينة من ذكر العام بعد الخاص للشمول أو تحمل على ما عداه بقرينة المقابلة وقوله تعالى : { لِيُضِلُّواْ } قرىء بفتح الياء وضمها. قوله : ( دعاء عليهم بلفظ الأمر ) ذكروا فيه ثلاثة أوجه لأنّ اللام لام الأمر ، والفعل مجزوم والأمر للدعاء أو لام التعليل أو لام العاقبة والصيرورة والفعل منصوب وقدم الدعاء على غيره إشارة لترجيحه كما في الكشاف ، وقد قال في الانتصاف أنه اعتزال أدق من دبيب النمل يكاد الاطلاع عليه أن يكون كشفا لأنّ الظاهر أن اللام للتعليل ومعناه إخبار موسى عليه الصلاة والسلام بأنه تعالى إنما أمرهم بالزينة والأموال ، وما يتبعهما استدراجاً ليزدادوا إثماً وضلالة كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا } والزمخشري لاستحالة ذلك عنده أعمل الحيلة في تأويلها وقال في الفرائد لولا التعليل لم يتجه قوله إنك آتيت فرعون وملأه زينة ولم ينتظم ، وقد أورد عليه أيضاً أنه ينافي غرض البعثة وهو الدعوة إلى الإيمان والهدى ودفع هذا كله بأنه لم يجنح إلى ما قصده الزمخشريّ لأنه ليس من منطوقه ولكل امرىء ما نوى وبأنّ المصنف رحمه اللّه أشار إلى دفع الأخير بأنه لما مارسهم وعلم أنه كائن لا محال دعا به كما يدعو الوالد على ولده إذا ليس من رشده بأن يدوم على الشقاوة والضلال وأمّا انتظام الكلام فهو أنّ موسى عليه الصلاة والسلام ذكر قوله إنك آتيت الخ تمهيداً للتخلص إلى الدعاء عليهم أي أنك أوليتهم هذه النعم ليعبدونك ويشكروك فما زادهم ذلك إلا كفراً وطغيانا فليضلوا عن سبيلك ولو دعا ابتداء لم يحسن فلذا قدم الشكاية من سوء حالهم ثم دعا عليهم فلم ينكر ذلك منه. قوله : ( وقيل اللام للعاقبة الخ ) قيل عليه أن موسى صلى الله عليه وسلم لا يعلم عاقبتهم ، ودفع بأنه أخبر عنها بالوحي واعترض بأنه مخل بالتكليف لأنه كيف يطلب منهم ما أعلمه اللّه بأنه لا يقع ، ولو قيل إنه لما رأى أحوالهم علم أنّ أمرهم يؤول إلى ذلك لممارسته وتفرسه لم يرد شيء من ذلك. قوله : ( ويحتمل أن تكون للعلة الخ ) والمراد(5/54)
ج5ص55
من التعليل إنه إنما أنعم عليهم مع كفرهم لاستدراجهم بذلك فالاستدراج سبب وعلة لضلالهم أو لاضلالهم والظاهر أنه حقيقة على هذا وأنه مقصود لله تعالى ، ولا يلزم ما قاله المعتزلة من أنه إذا كان مراد الله يلزم أن يكونوا مطيعين بضلالهم بناء على أن الإرادة أمر أو مستلزمة لأنه تبين بطلانه في الكلام السابق فلا حاجة إلى
جعل المعنى لئلا يضلوا كما قدره بعضهم أو التعليل مجازيّ ، كما أشار إليه بقوله ولأنهم الخ فلما ضلوا بسبب الدنيا جعل ايتاؤها كأنه لذلك فيكون في اللام استعارة تجية ، والفرق بين هذا وبين العاقبة أن قلنا باً نه معنى مجازي أيضاً أن في هذا ذكر ما هو سبب لكن لم يكن ايتاؤه لكونه سبباً وفي لام العاقبة لم يذكر سبب أصلاً وهي كاستعارة أحد الضدين للآخر فاعتبر الفرق فإنه محل اشتباه حتى وهم فيه كثير وقوله فيكون ربنا تكريرا الخ يعني في الاحتمالين الأخيرين للام وهو اعتذار عن توسطه بين العلة ومعلولها ، وليس من مواقع الاعتراضى ولذا عيب قول النابغة :
لعل زياد إلا أبالك غافل
فتكريره للتأكيد ، وللإشارة إلى أنه المقصود وان ورد في معرض! العلة لأنّ ما قبله بث
لسوء حالهم توطئة لما بعده كما مرّ. قوله تعالى : ( { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } ) في الفصول العمادية قال شيخ الإسلام خواهر زاده الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر أو يستحسنه أمّا إذا لم يكن ذلك ولكن أحب الموت ، أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم اللّه منه فهذا لا يكون كفرا ، ومن تأمل قوله تعالى : { رَبَّنَا اطْمِسْ } الآية يظهر له صحة ما ادعينا ، وعلى هذا لو دعا على ظالم بنحو أماتك الله على الكفر ، أو سلب عنك الإيمان لا ضرر عليه فيه لأنه لا يستجيزه ولا يستحسنه ، ولكن تمناه لينتقم الله منه ث وقال صاحب الذخيرة : قد عثرنا على رواية عن أبي حنيفة رحمه الله أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل ففيه اختلاف لكن الأوّل هو المنقول عن الماتريدي أما رضاه بكفر نفسه فكفر بلا شبهة وظاهر قولهم على ما نقل في الشكف أن من جاءه كافر ليسلم فقال اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان قليل يؤيد ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله قلت لكن يدل على خلافه ما روي في الحديث الصحيح في فتح مكة أنّ ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله عنه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : " يا رسول الله بايعه فكف صلى الله عليه وسلم يد. عن بيعته ونظر إليه ثلاث مرات " ) 1 ) وهو معروف في السير فهذا يدل على أنّ التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا فليتأمل ، وقوله جواب للدعاء وهو اشدد لا اطمس فهو منصوب والدعاء بلفظ النهي ظاهر وهو مجزوم وإذا عطف على ليضلوا فهو منصوب أو مجزوم على الوجهين السابقين. قوله : ( أي أهلكها الخ ) أصل الطمس محو الأثر والتغيير ويستعمل بمعنى الإهلاك والإزالة أيضا وفعله من
باب ضرب ودخل ويتعدّى ولا يتعدى ، وقوله المحق هو المحو كما في بعض النسخ وأقسها في كلام المصنف ضبط بفتح الهمزة من الأفعالط. قوله : ( لأنه كان يؤمن ) بالتشديد أي يقول آمين وآمين بمعنى استجب فهو دعاء وضمير لأنه لهارون وهذا دفع لأنّ الداعي هو موسى عليه الصلاة والسلام فكيف قيل دعوتكما وإن كان التخصيص بالذكر لا يقتضي أن غيره لم يدع ، وفسر الاستقامة بالثبات على الدعوة بعد دعائه باهلاكهم فيقتضي أن لا يستعجلا بالإجابة إذ لو وقعت لم يؤمرا بدعوتهم فلذا قال ولا تستعجلا فلا حاجة إلى القول بأنه مفهوم من روأية خارجة ، وقوله أنه أي موسى عليه الصلاة والسلام أو فرعون قيل وهو أولى. قوله : ( وعن ابن عامر برواية ابن ذكوان ولا تتبعان بالنون الخفيفة الخ ) قرأ العامة بشديد التاء والنون وقرىء بتخفيف النون !مكسورة مع تشديد ا ال!تاء وتخف!فها فإمّ قراءة العامة فلا فيها للنهي ، ولذلك أكد الفعل وأما كونها نافية فضعيف لأنّ المنفي لا يؤكد على الصحيح ، وأمّا قراءة التخفيف فلا إن كانت نافية فالنون علامة الرفع والجمبة حالية أي استقيما غير متبعين إلا أنه قي!ل إنّ المضارع المنفي بلا كالمثبت لا يقترن بالواو إلا أن يقدر المبتدأ أو دفع بأن ابن الحاجب رحمه الله جوّز فيها الاقتران بالواو وعدمه كما نقل في شرح الكشاف فلا إشكال وقيل إنه مرفوع والجملة سستأنفة للإخبار بأنهما لا يتبعان سبيل الجهلة ، وأمّا أن لا ناهية والنون نون التأكيد الخفيفة كسرت لالتقاء الساكنين ، فالكسائي(5/55)
ج5ص56
وسيبويه لا يجيزانه لأنهما يمنعان وقوع الخفيفة بعد الألف سواء كانت ألف التثنية أو الألف الفاصلة بين نون الإناث ونون التوكيد نحو هل تضربنان يا نسوة وأيضا النون الخفيفة إذا لقيها ساكن لزم حذفها عند الجمهور ، ولا يجوز تحريكها لكن يونس والفزاء أجازا ذلك وفيه عنه روايتان إبقاؤها ساكنة لأن الألف لخفتها بمنزلة فتحة ، وكسرها على أصل التقاء الساكنين وعلى قولهما تتخزج هذه القراءة وقيل إنها نون التأكيد المشدإة خففت وقيل الفعل مرفوع على أنه خبر أريد به النهي فهو معطوف على الأمر. قوله : ) ولا تتبعان من تبع ( أي وعنه ولا تتبعان بتخفيف التاء الثانية وسكونها وبالنون المشذدة من انثلاثيئ وعنه أيضأ تتبعان كالأولى إلا أن النوت ساكنة على إحدى الر!إبيئ عن يونسر في تس!سين نوت الث كيد الخفيفة بعد الأكف عمى الأصا! واغتفار اشقاء السىاكنيسن إذأ كان ألأؤل ألفا كما في 3ءحياي !اتبعه وتبعه قيا هه !ا لم!ت س أقي مشى خلفه كذأ أ-*-.؟ ب! ! ر!بنهور ؤ! واتمعهء-.
الأفعال بمعنى حاذاه وعليه قول المصنف رحمه اللّه تبعته حتى أتبعته ولذا فسر بأدركه ومعنى ئبعته حتى أتبعته مشيت من بعده حتى لحقته أي وصلت له كما ستراه. قوله : ) جوّزناهم في !و ) فسر القراءة المشهورة بالأخرى توطئة لذكرها ، ومعنى أجاز وجاوزا وجوّزوا حد وهو قطعه وخلفه وهو يتعدى بالباء إلى المفعول الأوّل الذي كان فاعلاً في الأصل وإلى الثاني بنفسه كما قرىء وجوّزنا ببني إسرائيل البحر وليس من جوّز بمعتت أنفذ واً دخل لأنه لا يتعدى بالباء إلى المفعول الأوّل بل بقي إلى المفعول الثاني فتقول جوّزته فيه ، وفعل بمعنى فاعل وليس التضعيف فيه للتعدية. قوله : ( ياغين وعادين الخ ( يعني أنهما مصدران وقعا حالين بتأويل اسم الفاعل أو مفعولاً لأجله ، وقوله وقرىء وعدوّا أي بضم العين والدال وتشديد الواو وادراك الفرق ولحوقه بمعنى وقوعه فيه وتلبسه بأوائله ، وقيل إنه بمعنى قارب ادراكه كجاء الشتاء قأهب لأنّ حقيقة اللحوق تمنعه عما قاله ، ولذا حمل على القول النفسي حتى جعل دليلأ لإثبات الكلام النفسي وفيه نظر لاحتماله غيوه فلا يصح الاستدلال به لما ذكر. قوله : ) بأنه ( قدّر الجار لأنّ الإيمان والكفر متعديان بالباء وهو في محل جرّ أو نصب على القولين المشهورين ، وأمّا جعله متعديا بنفسه لأنه في أصل وضعه كذلك فمخالف للاستعمال المشهور فيه. قوله : ( على إضمار القول الخ ) أي وقال إنه الخ أو هو مستأنف لبيان إيمانه أو بدل من أمنت لأنّ الجملة الاسمية يجوز إبدالها من الفعلية وجعله استئنافاً على البدلية باعتبار المحكي لا الحكاية لأنّ الكلام في الأوّل والجملة الأولى في كلامه مستأنفة والمبدل من المستأنف مستأنف وقوله فنكب عن الإيمان كنصر وفرح بمعنى عدل وأوان القبول حال صحته واختياره وحين لا يقبل حال يأسه واحتضاره ، فلا يقبل ذلك فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا كما يدل عليه صريح الآية وأفا ما وقع في الفصوص من صحة إيمانه وأنّ قوله آمنت به بنو إسرائيل إيمان بموسى عليه الصلاة والسلام فخالف للنص والإجماع وان ذهب إلى ظاهره الجلال الدواني رحمه الله وله رسالة فيه طالعتها وكنت أتعجب منها حتى رأيت في تاريخ حلب للفاضل الحلبي إنها ليست له وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي وقد ردّها القزويني وشنع عليه ، وقال : إنما مثاله رجل خامل الذكر لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس كما في المثل خالف تعرف وفي فتاوى ابن حجر رحمه اللّه إن بعض فقهائنا كفر من ذهب إلى إيمان فرعون والجلال شافعي المذهب وله حاشية على الأنوار طالعتها ورذها شخنا الرملي ، ولذا قيل إنّ المراد بفرعون في كلامه النفس الإمارة وهذا كله مما لا حاجة إليه ، واعلم أنه ورد!ن
فرعون لعنه الله لما قال آمنت الخ أخذ جبريل عليه الصلاة والسلام من حال البحر أي طينه فدسه في فيه لخشية أن تدركه رحمه الله تعالى فقال في الكشاف أنه لا أصل له وفيه جهالتان إحداهما أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس فحال البحر لا يمنعه والأخرى أنّ من كره إيمان الكافر وأحبّ بقاءه على الكفر فهو كافر لأنّ الرضا بالكفر كفر ورد بأنّ الرواية المذكورة صحيحة أسندها الترمذيّ وغيره ، وإنما فعل جبريل عليه الصلاة والسلام ما فعل غضباً عليه لما صدر منه وخوفاً أنه إذا كرره ربما قبل منه على سبيل خرق العادة لسعة بحر الرحمة الذي يستغرق كل شيء(5/56)
ج5ص57
وأمّا الرضا بالكفر فقد قدمنا أنه ليس بكفر مطلقا بل إذا استحسن وإنما الكفر رضاه بكفر نفسه كما في التأويلات لعلم الهدى ، وقيل إنه صحيح لكن الرضا بكفر نفسه إنما يكون ، وهو كافر فلا معنى لعده كفراً والكفر حاصل قبله ومرّت مسألة من جاء ليسلم فاستمهل ، وما فيها ، وقيل عليه أنّ كون الرضا بكفر نفسه دون غيره كفراً منقولة في الفتاوى فلا وجه لانكارها وهي لا تقتضي سبق الكفر لأنه لو عزم على أن يكفر غداً كفر لرضاه بذلك وفيه أنه لم ينكرها وإنما قال إن كونها كفراً ظاهري ولا ينبغي عدها مما يكفر به لأنه إمّا رضا بكفر سابق أو في الحال أو في المستقبل فإن رضي بكفره ا!بق فكما قال وان رضي بكفر في الحال فان كان غير الرضا صار ماضيا عنده وان كان نفس الرضا فهو إنشاء كفر لا رضا به ، وكذا ما في المستقبل فتأمّل. قوله : ( وبالغ فيه ا لأنه أتى بثلاث جمل ، ولذ قيل إنه ينافي حال اليأس ، وقوله آمنت إنشاء لا أخبار عن إيمان ماض كما قيل ، وقوله أتؤمن الآن قدر الفعل مقدماً لأن الاستفهام أولى به ، وأشار إلى أنه لا حاجة لتقديره مؤخراً ليفيد التخصيص لأن لفظ الآن مخصص دالّ على أنه لا إيمان له قبله فما قيل إنه لو أخره كان أولى لا وجه له والقائل هو الله وقيل جبريل عليه الصلاة والسلام ، وقوله الضالين المضلين عن الإيمان لأن وصف الكافر المتصف بالكفر الذي هو أعظم من كل جرم بالفساد ونحوه يقتضي صرفه إلى المبالغة في كفره فلذا فسره بالضالّ بكفره المضل لغيره بحمله عليه. قوله : ( نبعدك مما وقع فيه قومك الخ ) ننجي على القراءة المشهورة تفعيل من النجاة وهي الخلاص مما يكره وبعد اغراقه لا نجاة له فهو إما مجاز عن يخرجك من قعر البحر إلى الساحل والتعبير به تهكم واستهزاء وطفا على الماء علا عليه ولم يرسب ، أو هو من النجوة والنجوة المكان المرتفع قيل وسمي به لكونه ناجيا من السيل يقال نجيته إذا تركنه بنجوة أو ألقيته عليها ، وقوله ليراك بنو إسرائيل لأنّ منهم
من تردّد في هلاكه كما سيأتي. قوله : ( وقرأ يعقوب ننجيك الخ ) وهذه القراءة من الأفعال وهي بمعنى التفعيل بمعنييه السابقين ، وأمّا القراءة بالحاء المهملة فمعناها نجعلك في ناحية كما ذكره وهي قرءة ابن السميفع لكن في النشر ومما لا يوثق بنقله قراءة ابن السميفع وأبي السماك ننحيك بالحاء ، ولمن خلقك بفتح اللام والقاف انتهى. قوله : ) في موضع الحال أي ببدنك عارياً عن الروج الخ ) وهو مبنيّ على التجريد وجوّز أن يكون بدل بعض والباء زائدة فيه ولوحظ فيه للتخصيص بالذكر كونه عاريا إمّا عن الروح أو اللباس ، أو كونه تامّا وجعل حالاً بهذين الاعتبارين فليس تأكيداً مثل تكلم بفيه كما قاله أبو حيان : أو المراد بالبدن الدرع لأنه اسم للدرع القصير الكمين والباء للمصاحبة كما في دخل عليه بثياب السفر ، وفي الضوء الفرق بين الباء ومع أنّ مع لاثبات المصاحبة ابتداء والباء لاستدامتها وأصله نطرحك بعد الغرق بجانب البحر ثم سلك طريق التهكم فقيل ننجي ولمزيد التصوير أوقع ببدنك حالاً من ضمير ننجيك. قوله : ( وكانت له درع الخ ) قيل إنها كانت مرصعة بالجواهر وقيل كانت من حديد لها سلاسل من الذهب ، وقوله يعرف بها لبيان حكمة ذكرها ، وقيل ببدنك بصورتك لأنه كان أشقر أزرق العين طويل اللحية قصير القامة ليس له مثابة في بني إسرائيل. قوله : ( وقرىء بابدانك الخ ( أي قرىء بالجمع بجعل كل عضو بمنزل البدن فأطلق الكل على الجزء مجازاً كقولهم هوى بإجرامه فإنه بمعنى جرمه وجسمه فأطلق الجمع لما ذكر وليس بمعنى ذنوبه كما توهم وهو إشارة إلى بيت من قصيدة ليزيد بن عبد ربه ، وقيل هي ليزيد بن عبد الحكم الثقفيّ أوردها ابن الشجري في أماليه أولها :
تكاشرني كرها كأنك ناصح وعينك تبدي أن صدرك لي دوي
ومنها :
وكم موطن لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوي
وهو محل الاستشهاد ومنها :
فليت كفافا كان خيرك كله وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي
وقوله أو بدرعك إشارة إلى التفسير الآخر ومظاهراً من قولهم ظاهر وطابق وطارق إذا
لبس ثوبا على ثوب أو درعا على درع ، وقوله في البيت طحت بمعنى هلكت والنيق بكسر النون ما ارتفع من الجبل وكذا(5/57)
ج5ص58
القلة. قوله : ( لمن وراءك علامة الخ ) والمراد بمن خلفه من بقي
بعده من بني إسرائيل ، وقوله : إذ كان تعليل لجعله آية واحتياجهم إلى العلامة وأنه لا يهلك بمعنى من أنه أو هو بدل من الضمير في خيل ، ومطرحا بتشديد الطاء بمعنى ملقى والممرّ محل المرور ، أو لمن يأتي عطف على قوله لمن وراءك وهذا أنسب بقوله وانّ كثيراً من الناس الآية وخلفك على الأوّل ظرف مكان وعلى الثاني ظرف زمان ، وقوله أو حجة عطف على عبرة وعلى ما كان عليه حال من ضمير مملوك وتزويره دعواه الألوهية وقوله محتمل على المشهور على القراءة بالفاء.
تنبيه : استشكل قصة فرعون بأنّ إيمانه إن كان قبل رؤية ملائكة الموت وحال اليأس فباب التوبة مفتوج فلم لم يقبل إيمانه وان كان بعده فلا ينفعه ما ذكر من النطق والجواب ، وهو مخالف للإجماع وأجيب عنه بوجوه أحدها أنه كان دون ظهور أمر عظيم فلذا لم يقبل إيمانه ، الثاني أنه كان بعد موته كسؤال الملكين ، الثالث أنه في حال حياته لكنه علم عدم إخلاصه في اعتقاده ، ولذا قال جبريا! عليه الصلاة والسلام خشيت أن تدركه الرحمة ، والمتكلم بقوله الآن جبريل وقيل ميكائيل لأنه ملك البحار وعندي أنّ هذا كله تكلف ، وأنه إنما لم يقبل إيمانه لأنّ شرط صحته وقبوله إجابة دعوة رسول زمانه صلى الله عليه وسلم وقد عصاه ولم يجبه وبه صرّج في الكتاب الكريم في قوله عز وجل : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا } ، [ سورة المزمل ، الآية : 6 ا ] وهو غير مناف للحديث . قوله : ( منزلاً صالحاً مرضياً الخ ( فمبوّأ اسم مكان منصوب على الظرفية ويحتمل المصدرية بتقدير مضاف أي مكان مبقا وبدونه وثوأ متعدّ لواحد إذا فسر بأنزل وقد يتعدى لاثنين فيكون مبوّأ مفعولاً ثانياً ، والصدق ضد الكذب قال العلامة : من عادة العرب إذا مدحت شيئأ أن تضيفه إلى الصدق تقول رجل صدق وقدم صدق وقال تعالى : { مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } إذا كان عاملاً في صفة صالحا للغرض المطلوب منه كأنهم
لاحظوا أنّ كل ما يظن به فهو صادق ولذا فسر. بقوله صالحاً مرضيا وفي بني إسرائيل هنا قولان للمفسرين قيل هم الذين في زمان موسى صلى الله عليه وسلم فالمبوّأ على هذا المراد به الشأم ومصر ، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله وقدمه وقيل الثأم وبيت المقدس بناء على أنهم لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك وفيه كلام قد مرّ وقيل هم الذين على عهد نبينا عليه الصلاة والسلام فالمبوّأ أطراف المدينة إلى جهة الشأم ، وألى هذا التفسير أشار بقوله أو في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فكان عليه أن يشير إلى تفسير المبوّ! عليه أيضا ولا بد أن يراد ببني إسرائيل ما يشملى ذرّيتهم لأن بني إسرائيل ما دخلوا الشام في حياة موسى صلى الله عليه وسلم وإنما دخله أبناؤهم ، وقوله من اللذائذ وقد تفسر بالحلال وقوله فما اختلفوا في أمر دينهم بناء على أنّ بني إسرائيل من في عصر موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعده على القول الآخر وقوله بنعوته المذكورة في التوراة وتظاهر معجزاته قوّتها وكثرتها. قوله : ( من القصص ) خصه لأنّ المراد دون الأحكام لأنها لنسخها شريعتهم تحالفها فلا يتصوّر سؤالهم عنها ، وقوله على سبيل الغرض والتقدير دفع لتوهيم وهو أنه صلى الله عليه وسلم لا يتصوّر منه لانكشاف الغطاء له ، وقد دفع بمراتب لأن الخطاب ليس له بل لكل من يتصوّر منه الشك كما في قوله : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ } [ سورة السجدة ، الآية : 12 ] وقولهم إذا عز أخوك فهن ، ولو سلم أنه له فهو على سبيل الفرض والتقدير ، ولذا عبر بأن التي تستعمل غالباً فيما لا تحقق له حتى تستعمل في المستحيل عقلا وعادة كقوله : { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ } [ سورة الأنعام ، الآية : 35 ] وصدق الشرطية لا يتوقف على وقوعها ، ولما ورد بعد ذلك أنه ما الفائدة حينئذ أشار إلى جوابه بقوله ، والمراد الخ يعني أنّ الفائدة فيه الاستدلال على حقيته وبيان أنّ القرآن مصدق لها بمطابقته لها مع إعجازه ، وقوله والاستشهاد تفسير للتحقيق معطوف عليه ، وأنّ القرآن عطف على ذلك فمحصله دفع الشك إن طرأ لأحد غيره بالبرهان. قوله : ( أو وصف أهل الكتاب ) هذه فائدة ثانية محصلها توبيخ أهل الكتاب لعلمهم بما أوحي إليك وأنه حق ، وقوله أو تهييج الرسول صلى الله عليه وسلم فائدة ثالثة محصلها تهييج الرسول وتحريضه ليزداد يقيناً كما قال الخليلء!ييه ولكن ليطمئن قلبي وأيد هذا بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال حين نزول الآية : " لا
أشك ولا أسأل "(5/58)
ج5ص59
وهو مما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن !ادة رضي الله عنه.
قوله : ( وقيل الخطاب الخ ) عطف بحسب ال!نى على قولى على سبيل الغرض! لأنّ مبني الأوّل على أنه المراد بالخطاب كما مرّ وهذا على أف غير مراد على حذ قولهم :
إياك أعني واسمعي يا جماره
وأشار بقوله من يسمع إلى توجيه الأفراد فيه ، وفي قوله على لسان نبينا إليك إشارة إلى
دفع ما!قال إنّ الخطاب إذا لم يكن له كيف يتأتى قوله تعالىإ مما أنزلنا إليك } فأجاب عنه بما ذكر حتى يكون كقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } [ سورة النساء ، الآية : 174 ] وقيل أن نافية ، وقوله فاسأل جواب شرط مقدر أي فإذا أردت أن تزداد يقينا فاسأل ، وتركه المصنف رحمه الله لأنه خلاف الظاهر. قوله : ( وفي تنبيه ) أي على جيم الوجوه ومنهم من خصه بالأخير والمسارعة من الفاء الجزائية بناء لحى أنها!فيد ا!قب. قوله : ( واضحاً لا مدخل للمرية فيه ) وقع في بعض النسخ ووضوح! مأحوذ مش إشاد المجيء الذي هو من صفات الأجسام المحسوسة إليه ففيه مكنية وتخييلية ، وظهوره باتضاح براهينه حتى لا يشك فيه فاتفح تفريع ما بعده بالفاء عليه ، والامتراء الشك والتردّد ، وهو أخف من التكذيب فلذا ذكر أوّلاً وعقب بالآخر وقوله فلا تكونن من الممترين بالتزلزل !ل النيم عن كل شيء إن كان لمن تلبس به فمعناه تركه وان كان لغيره فمعناه الثبات على عدمط وأن لا يصدر منه في المستقبل ك!ا هنا فلذا قال إنه للتهييج والتثبيت وقولى أيفا أي !ما في الذي قب! وتنظيره بالآية ظاهر. قوله : ) كلمت ربك بأنهم يموتون على الكفر ونجلدون في العذاب الخ ( فسر كلمة ربك في الكشاف بقول الله الذي كتبه في اللوج ، وأخبر به الملائكة أنهم جوتون كأرا فلا لمجون غيره وتلك كتابة
معلوم لا كتابة مقدر ، ومراد تعالى الله عن ذلك واقتصر المصنف رحمه الله على ما ذكر منه لأنه مبنيّ على مذهبه لأنه جعله كتابة معلوم لا مقدّر عند أهل السنة هو معلوم لله ومقدّر ومراد فعلمه تعالى موافق لتقديره وارادته ، ولا يجوز تخلفهما ولذا أقحم الباء في قوله بأنهم أي ئقديره وقضاؤه به ، وقيل ذكرها إشارة إلى ملاحظة معنى التكلم فيها ، وهذه الآية مما استدلّ بها للقضاء والقدر ، وقضاؤه تعالى عند الأشاعرة عبارة عن إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال وقدره إيجاده إياها على تقدير معين في ذواتها وأفعالها ، وعند الفلاسفة قضاؤه عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود من أحسن نظام ، وأكمل انتظام وشممونه العناية وهي مبدأ فيضان الموجودات على الوجه اكمل ، وقدره عبارة عن خروجه إلى الوجود بأسبابه على الوجه الذي تقرّر في القضاء ، والمعتزلة ينكرونهما في الأفعال الاختيارية التي للعباد ويثبتون علمه تعالى بهذه الأفعال ، ولا يسندون وجودها إلى ذلك العلم بل إلى اختيار العباد وقدرتهم واليه يشير كلام الزمخشريّ وأدلة الفرق وما فيها وما عليها مبسوطة في الكلام بما يضيق عن بسطه هذا المقام فلذا تركناه ، وقوله ولا ينتقض قضاؤه إشارة إلى أنّ المراد من تمام الكلمة إبرام القضاء كما أشرنا إليه ، وقوله وهو تعلق إرادة الله إذ لا يكون شيء بدون إرادته كما هو مذهب أهل السنة فما لم يشأ لم يكن وهذا رذ لكلامهم ، ولما وقع في الكشاف ، وعند رؤية العذاب يرتفع التكاجف فلا ينفعهم إيمانهم فنفي الإيمان لفقد سببه ليس مطلقا بل نفي له في وقت القبول لقوله حتى يروا العذاب الأليم فتأمل. قوله : ( فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها الخ ) أشار إلى أنّ لولا هنا تحضيضية فيها معنى التوبيخ كهلاً كما يقرأ بها في قراءة أبيّ وعبد الله فهلا كانت ، وقال السفاقسي إنها هنا للتوبيخ على ترك الإيمان ولما فيها من معنى النفي الذي يقتضي أنه لم تؤمن قرية من القرى أصلاً خصت بأنّ المراد من القرى التي أهلكت بالاستئصال ولم تؤمن قبل نزول العذاب واختلف في كل هذه فذهب السمين وغيره إلى أنها تامّة وآمنت صفتها ونفعها معطوف على الصفة ، وذهب العلامة في شرح الكشاف إلى أنها ليست تامّة والا لكان التحضيض على الوجود بل ناقصة وآمنت خبرها ، ولذا قدره في الكشاف بواحدة من القرى الهالكة لامتناع أن يكون اسم كان نكرة محضة لكن التقييد بالهلاك مستدرك وإلا لكان استثناء قوم يونس منقطعا لعدم دخولهم في القرى الهالكة ، وكذا التقييد بأحد الوصفين من الوحدة ، وكونها من(5/59)
ج5ص60
القرى لأنّ أحدهما كاف والأصل عدم التقدير فلا يتجاوز قدر الضرورة انتهى ، ولذا أسقطه المصنف رحمه الله تعالى ، وقيل : إنه ذكر إشارة إلى بقاء القرية على حقيقتها ورد بأنّ كونها من القرى يغني عنه مع أنه ذكر أن المراد بها أهلها فلا يتأتى ما ذكر ، وتيد بقوله قبل معاينة العذاب إذ لو أطلق يبق لقوله إلا قوم يونس وجه ، ثم إنه أورد عليه
أن التحضيض على الصفة فلا غبار فيه ، وفيه بعد تأمل قيل والظاهر أن يقول أشرفنا بها على الهلاك ليمكن جعل الاستثناء متصحلا ، وقوله كما أخر فرعون إشارة إلى وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها. قوله : ( لكن قوم يونس ) بيان لأنّ الاستثناء منقطع وإليه ذهب سيبويه والكسائي وأكثر النحاة لعدم اندارجه فيما قبله أن أبقيت القرية على ظهره وكذا إن قدر وصفها بكونها من الهالكين فلذا نصب المستثنى ، وقوله أوّل ما رأوا الخ سيأتي بيانه.
تنبيه : في بعض التفاسير يجوز في يونس ويوسف تثليث النون والسين مهموزاً وغير مهموز وهي لغات فيهما المتواتر منها الضم. قوله : ( ويجوز أن تكون الجملة في معنى النفي الخ ) أصل معنى التحضيض يشعر بالأمر حتى جعلوه في حكمه ، وعلى كون الاستثناء متصلاً لا بد أن يلاحظ فيه معنى النفي رالا فسد المعنى لما يلزمه من كون الإيمان من المستثنين غير مطلوب ، ولذا فسر بما آمنت وكون المواد بالقرى أهاليها لقوله : { آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } [ سورة يونس ، الآية : 98 ] ولو اعتبر التحضيض لم يصح الاتصال لأنّ التحضيض طلب للإيمان ، وهو مطلوب فيه وقيل عليه بل يصح الاتصال على تقديره أيضا لأن أهل القرى محضوضون على الإيمان النافع وليس قوم يونس محضوضين عليه لأنهم آمنوا ، وقيل المعنى ما آمن من أهل قرية من القرى الهالكة فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس فجعل مدار الوجهين على توصيف القرى تارة بالهالكة ، وأخرى بالعاصية وخصه الزمخشري بالهالكة وجوّز الوجهين وعلله بأنّ المراد بالقرى أهاليها فأورد عليه أنّ التعليل ليس في محله لعدم توقف صحة الاستثناء عليه مع أنه لا يناسب الاتصال لأنّ قوم يونس ليسوأ من الهالكين ودفع بأن المراد المشرفين على الهلاك في الاتصال مع بقائه على ظاهره في الانفصال ، ولا يخفى ما فيه من التعسف ، واعلم أن الإيمان بعد مشاهدة ما وعدوا به إيمان يأس غير نافع وعادة الله إهلاكهم من غير إمهال فإن كان قوم يونس شاهدوه فهذا خصوصية ليونس واليه ذهب كثير من المفسرين لقوله كشفنا والا فلا. قوله : ( ويؤيده قراءة الرفع على البدل ا لأن البدل لا يكون إلا في غير الموجب وهو بدل من قرية المراد بها أهلها وقد خرّجت هذه أيضاً على أن إلا بمعنى غير وهي صفة وظهر إعرابها فيما بعدها. قوله : ( إلى آجالهم ) بالفتح والمدّ جمع أجل وما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسيره بقوله { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ سورة الأحقاف ، الآية : 5 ] لا صحة له وتوجيهه بأنهم إحياء
سترهم الله عن الناس مما لا وجه له ، ونينوى بالكسر من بلاد الموصل قريبة منها والموصل بفتح الميم وكسر الصاد بلدة مشهورة والمسوح جمع مسح بوزن ملح ، وهو اللباس أي لبسوا الألبسة الخلقة تذللا ، والتفريق بين الأولاد والوالدات ليبكوا ويضجوا وكذا إخراج الحيوانات للعجيج ورفع الصوت فيكون وسيلة لرحمة الله ، وأغامت بمعنى أطلعت الغيم ، وقوله فحت تعليل للتفريق والعجيج الصياج. قوله : ) بحيث لا يشذ ( بالشين المعجمة والذال المعجمة ، ويجوز ضم شينه وكسرها من الشذوذ أي ينفرد ويخرج ومن للعموم لكنها في غير النفي ليست نصاً فيه فلذا أكد بكلهم للتنصيص عليه وكذا جميعا ولا يمكن حمله على الاجتماع في زمان معين كما حمل عليه في غير هذا الموضع. قوله : ( وهو دليل على القدرية في أنه تعالى لم يشأ أيمانهم أجمعين ( المراد بالقدرية المعتزلة لقبهم أهل السنة به لاسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم وانكارهم القدر فيها وكما يصح نسبة مثبت القدر إليه يصح نسبة نافيه أيضاً إليه ولا مشاحة في الاصطلاج يعني أن الآية حجة عليهم في قولهم إرادة الله تتعلق بإيمان الكافر لكنها تخلف عنها المراد ، ووجه الحجة أن لو تدل على أنه لو أراد إيمان من في الأرض لآمنوا وأن المشيئة والإرادة لا محالة تستلزم المراد وهم لما رأوها بحسب ظاهرها مبطلة لمذهبهم قيدوا المشيئة والإرادة بمشيئة القسر والإلجاء وهذا دأبهم في كل ما ورد عليهم من ذلك فالإرادة عندهم مطلقاً يجوز تخلفها عن المراد(5/60)
ج5ص61
وما لا يتخلف نوع منها ، وهو مشيئة القسر والالجاء لأنه تعالى قادر على الجائهم إلى ما أراد فإذا فعل ذلك لزم عدم التخلف ورذه المصنف رحمه الله بأنه خلاف الظاهر ، ولا قرينة في الكلام عليه بل ما بعده صريح في رذه. قوله تعالى : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ } هذه الهمزة لصدارتها مقدمة من تأخير على الأصح لأن هذه الجملة متفرعة على ما قبلها وليس القصد إلى إنكار تفرعها ، وأنت جوز فيه أن يكون مبتدأ وفاعل مقدر يفسره ما بعده لاقتضاء الاستفهام للفعل ، والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع مبالغة. قوله : ) وترتيب ا!راه على المشيئة بالفاء الخ ( هذا مبتدأ خبره قوله للدلالة الخ ، وإيلاؤها معطوف على ترتيب وهو مصدر مضاف للمفعول ، وفاعله حرف الاستفهام لا العكس لعدم دخول هذا الإيلاء في الاستحالة المذكورة حينئذ كذا قيل وفيه نظر ، وقوله وتقديم الضمير أي تقديم الفاعل المعنوي على الفعل للتخصيص أي تخصيص إنكار الإكراه بالنبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقدم الإنكار في الاعتبار على
اعتبار الاختصاص اللازم من التقديم دون عكسه حتى يفيد إنكار الاختصاص ، وكلا الاستعمالين واقع في الكلام البليغ بحسب اقتضاء المقام فيفيد ثبوت الاكراه للّه تعالى أو لغيره ، وفي شرح المفتاح للشريف قدس سره المقصود من قوله تعالى : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ } إنكار صدور الفعل من المخاطب لا إنكار كونه هو الفاعل مع تقرر أصل الفعل فالتقديم لتقوية حكم الإنكار لا للتخصيص كما ذهب إليه الزمخشري ، وكلام المصنف رحمه الله تعالى محتمل لذلك لأنه لم يصرح بالتخصيص الذي ذكره الزمخشري لكن ظاهره أنه موافق له. قوله : ( للدلالة على أن خلاف المشيئة مسنحيل الخ ) أي خلاف مشيئة اللّه تعالى وهو إيمان من لم تتعلق مشيئته بإيمانه بأن تعلقت بخلافه قيل ومراده بتقديم الضمير ما ذهب إليه السكاكي من التكلم به مقدّماً دون أن يكون مزالاً عن أصله ، وهو أفتكره الناس أنت بدليل عدم تصريحه بالتخصيص فالمراد إنه لتقوّي الحكم ، والانكار لانكار التقوّي فله دخل في الدلالة على الاستحالة أي استحالة ما أراد اللّه خلافه ، ولذا قرّره بقوله وما كان لنفس الخ ( قلت ( مراد المصنف رحمه الله أن ترتب الانكار كما ذكره محصله لو شاء اللّه إيمانهم وقع فكيف تكرههم أنت على الإيمان الذي لم يرده فانكاره عليه الاكراه يقتضي أنه لا يكون بالاكراه فضلا عن غيره ولما فسر الزمخشري المشيئة بمشيئة الالجاء والقسر على مذهبه لزم إثبات الإكراه لله ، وحيث نفاه عنه لزم من مجموع الأمرين الحصر فلك أن تقول المفيد للحصر ذلك لا التقديم وحده فلا يكون كلامه مخالف للسكاكي ، والمصنف رحمه الله لما لم يفسره بذلك لم يذكر التخصيص فجعله لتقوية الانكار ، والدلالة على أنه مستحيل فتدبره فإنه دقيق جذاً وقوله إذ روي يعني المراد هذا المعنى إذ روي الخ. قوله : ( ولذلك قرّره بقوله وما كان لنفس الخ ( أي لدلالته على ما ذكر كان هذا تقريراً له لأنه يدل على أنه لا يكون من ذلك إلا ما يريد على ما فسره به والأذن في اللغة الاطلاق في الفعل ورفع الحجر عنه ، ويلزمه تسهيل ذلك ، وارادته فلذا فسره الزمخشري بالتسهيل ، والمصنف رحمه اللّه تعالى بالإرادة ، وذكر معه معناه الحقيقي إشارة إلى إرادته مع لوازمه فلا يرد أنه جمع بين الحقيقة والمجاز مع أنّ المصنف رحمه الله شافعي يجوّزه ، ولما كان إيمان العبد بإرادته أيضا لكسبه وهو مكلف به ضم إليه قوله ، وتوفيقه فالحصر إضافي ثم ما كان إن كان بمعنى ما وجد منه ذلك احتاج إلى تقييد النفس بمن علم الله أنها تؤمن كما في الكشاف ، وأن كان بمعنى ما صح لا يحتاج إليه ، ولذا تركه المصنف رحمه
الله تعالى ، وإنما فسره الزمخشري بما ذكر من التسهيل ومنح الألطاف لأن اللطف عنده خلق القدرة على الفعل حتى يخلق العبد لنفسه ضررا لاعتزاله. قوله : ( العذاب أو الخذلان فإنه سببه ) أصل الرجس القذر ثم نقل إلى العذاب لاشتراكهما في الاستكراه والتنفر ثم أطلق على سببه فهو مجاز في المرتبة الثانية فقول المصنف رحمه الله تعالى فإنه سببه راجع إلى التفسير الثاني الذي اقتصر عليه في الكشاف ، ومنهم من فسره بالكفر كما في قوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [ سورة التوبة ، الآية : 25 ا ] لمقابلة الإيمان فتدل على خلق الكفر وهو مخالف لمذهب المعتزلة ولذا لم يفسره الزمخشري به واقتصر على الخذلان وقال الإمام الرجس عبارة عن الفاسد(5/61)
ج5ص62
المستقذر فحمله على كفرهم وجهلهم أولى من حمله على عذاب الله ، وقيل عليه إن كلمة على تأباه وإنه يغني عنه قوله على الذين لا يعقلون وليس بشيء لأنه بمعنى يقدره عليهم ، وحديث الإغناء لا يجدي مع أنه يفسر بما يجعله تأسيساً ، وهو ظاهر ، وقوله وقرىء بالزاي أي المعجمة ، وهو بمعناه والزاي قال في النشر : يقال زاء بالمد وزاي بياء بعد الألف وزيّ بالتشديد وفي أدب الكاتب حروف المعجم تمد وتقصر ، وإذا قصرت كتبت بالألف إلا الزاي فإنها تكتب بياء بعد الألف وهو مخالف لما في النشر. قوله : ( لا يستعملون عقولهم الخ ( يعني إما أنه منزل منزلة اللازم أوله مفعول مقدر ، وأيضاً بينهما فرق معنوي كما صرح به ، وهو أنه على الأوّل لم يسلبوا قوّة النظر لكنهم لم يوفقوا لذلك ، وعلى الثاني بخلافه ويؤيد الأوّل أمرهم بالتفكر فإنهم لو سلبوا ذلك لم يؤمروا به وإنما قال يؤيد دون بدل لأنّ الطبع لا ينافي التكليف ، وقيل وجه التأييد أنّ الأمر بالتفكر يناسب من لم يستعمل عقله لا من استعمله ولم يعقل دلائله ولم يجعله دليلاً لاحتمال أن يراد به الأمر بتكرير النظر وتدقيقه رجاء أن يهتدوا ولا يخفى ما فيه. قوله : ( من عجائب صنعه الخ ) أي المراد بنظرها نظر استدلال على ما ذكر ، وماذا يجوز أن يكون كلمة استفهام مبتدأ وفي السماوات خبره أي أي شيء في السماوات ويجوز أن يكون ما مبتدأ وذا بمعنى الذي ، وفي السماوات صلته وهو خبر المبتدأ وعلى التقديرين فالمبتدأ وخبره في محلى نصب بإسقاط الخافض لأن الفعل قبله معلق بالاستفهام ، ويجوز على ضعف أن يكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي وهو في محل نصسب بانظروا وإليه أشار المصنف رحمه الله تعالى بقوله إن جعلت استفهامية ووجه ضعفه ما قيل إنه لا يخلو أن يكون النظر بمعنى البصر فيعدى بإلى وامّا أن يكون قلبيا فيعدى بفي. قوله : ( وما نافية أو استفهامية في
موضع النصب ) واقعة موقع المصدر أو مفعول به ، وعلى الوجهين الأوّلين ف!مفعول تغني محذوف إن لم ينزل منزلة اللازم ، والنذر جمع نذير بمعنى إنذار أو منذر ، وعلى المصدرية جمع لإرادة الأنواع ، ويجوز في النذر أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى في سورة القمر وأيام العرب استعملت مجازاً مشهوراً في الوقائع من التعبير بالزمان عما وقع فيه كما يقال المغرب للصلاة الواقعة فيه ، وقوله لذلك اللام للتقوية فيقدر معمول الفعل بدونها وعلى الأوّل متعلق الانتظارين واحد بالذات ، وعلى الثاني مختلف بالذات متحد الجنس وقدره في الثاني بدون اللام إشارة إلى جواز الأمرين وليناسب المقدر الثاني. قوله : ( عطف على محذوف الخ ( أي تهلك الكافرين ثم ننجي ، وعبر بالمضارع ولم يقل نجينا لحكاية الحال. قوله : ( كذلك الانجاء أو انجاء كذلك ) في نسخة أو الانجاء كذلك معزفاً باللام قيل وهو لا يلائم ما بعده يعني أنّ الإشارة إلى الانجاء وهو إمّا صفة لمصدر محذوف أي ننجيكم انجاء كذلك الإنجاء الذي كان لمن قبلكم وهو الوجه الثاني وعلى تنبهيره فهو ظاهر ، أو الكاف في محل نصب بمعنى مثل لسذها مسذ المفعول المطلق وهو الوجه الأؤل ولذا لم يقدر له موصوفاً وأمّا على النسخة الأخرى فلا يتضح كلامه وقيل إنه يريد أن كذلك إمّا وصف أو موصوف وعلى الأوّل كذلك في موقع الحال من الإنجاء الذي تضمنه ننجي بتأويل نفعل الانجاء حال كونه مثل ذلك الإنجاء وعلى الثاني هو في موضع مصدر محذوف أقيم مقامه وقد يجعل في موضمع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ولا يخفى أنه لا وجه له فالظاهر على هذه الرواية أنه إمّا مصدر أو خبر مبتدأ محذوف لكنهم قدروه الأمر كذلك ، والمصنف رحمه الله تعالى قدّره الإنجاء كذلك فتأمل. قوله : إ وحقاً علينا اعتراض الخ ) أي بين العامل ومعموله اهتماماً بالانجاء وبياناً لأنه كائن لا محالة إذ جعله كالحق الواجب عليه وقيل بدل من كذلك أي من الكاف التي هي بمعنى مثل ، وقيل كذلك منصوب بننجي الأوّل ، وحقاً بالثاني وكون الجملة المعترضة تحذف مما استفيد من هذا المحل ، ولا ضير فيه إذا بقي شيء من متعلقاتها. قوله : " ن كت!م في شك من ديني وصحته الخ ) في الكشاف إن كنتم في شك من ديني وصحته وسداده فهذا ديني فاسمعوا وصفه واعرضوه على عقولكم وانظروا فيه بعين الإنصاف لتعلموا أنه دين لا مدخل فيه للشك وهو أني لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم
وخالقكم ، ولكن أعبد اللّه الخ فقيل إنه ذكر(5/62)
ج5ص63
فيه وجهين أحدهما الشك في نفس الدين من أي الأديان هو وهذا إذا قلنا إنهم لا يعرفون دينه كما كانوا يقولون إنه صبأ فقوله وصحته وسداده بيان للدّين لكنه مستدرك لأنّ الكلام في حقيقة دينه لا في صحته وألا لم يطابق الجواب إذ ليس فيه ما يدل على صحته الثاني الشك في الثبات عليه أن قلنا إنهم عرفوه لكن طمعوا في تركه له ، وعلى كلا الوجهين لا يكون الجزاء مرتبطا بالشرط بحسب الظاهر لأن شكهم في دينه ليس سبباً لعدم عبادته الأوثان وعبادة الله فلا بد من تأويله بالأخبار أي إن كنتم تشكون في ديني فأنا أخبركم باً ني لا أعبد الخ ، وجزاء الشرط قد يكون مفهوم بالجملة الجزائية نحو إن تكرمني أكرمك وقد يكون الأخبار بمفهومه نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس أي إكرامك إياي سبب لإخباري بإكرامي إياك قبل كما قاله ابن الحاجب رحمه اللّه في قوله : وما بكم من نعمة فمن الله فإنّ استقرار النعمة ليس سببا لحصولها من اللّه بل الأمر بالعكس ، وإنما هو سبب للأخبار بحصولها منه تعالى فكذا هذه الآية ، وقوله لكنه مستدرك لا وجه له لأنهم كما لا يعرفون دينه لم يعرفوا صحته أيضا والجواب صالح لهما كما سنقرّره ، وأما جعله سبباً للأخبار فيهما ففيه أنه على الوجه الأوّل مسلم وأئا على الثاني فليس كذلك لأنه بمعنى أني ثابت عليه لا أرجع عنه أبداً ، وهو غير محتاج إلى جعل المسبب الأخبار كما في الوجه الأوّل كما أشار إليه الشارح المدقق ورجح الأوّل. قوله : ( فهذا خلاصة ديني اعتقادا وعملأ الخ ( العمل مأخوذ من العبادة والاعتقاد من قوله اللّه الذي يتوفاكم أي الإله الحق المميت المحيي وكون الاعتقاد من قوله وأمرت أن أكون من المسلمين بإدخاله في الجزاء مخالف لسياقه ، ولا حاجة إليه وقوله فاعرضوها الخ إشارة إلى ارتباط الجزاء بالشرط بناء على أن الشك في صحته وما هو وهو أحد الوجهين المذكورين في الكشاف ، وإشارة إلى أن ارتباطه به بالنظر إلى محصله وتأوبله بما ذكر وهو أنّ عبادتي لاله هذا شأنه ، وعبادتكم لحجارة لا تضر ولا تنفع فانظروا في ذلك لتعرفوا صحة ديني وحقيقته وفساد ما أنتم عليه فلا حاجة على طريق المصنف رحمه الله تعالى لجعله من جعل المسبب الأخبار والأعلام كما جنح إليه الزمخشري لأن الجزاء عنده الأمر بعرض! ما ذكر على عقولهم والتفكر فيه ، وقوله تخلقونه أي تصنعونه وعبر به زيادة في تحميقهم وضمير ، وهو أني عائد على خلاصة لاكتسابه التذكير من المضاف وتعبدونه معطوف على تخلقونه. قوله : ) وإنما خص التوفي بالذكر الخ ) أي ذكر هذه الصفة دون غيرها من صفات الأفعال لأنه لا شيء أشد عليهم من الموت فذكر لتخويفهم ، وقيل المراد أعبد الله الذي خلقكم ثم يتوفاكم ثم يعيدكم فذكر الوسط ليدل على الطرفين اللذين كثر اقترانهما به في القرآن. قوله : ( بما دل
عليه العقل الخ ) فقوله أمرت بمعنى وجب عليّ ذلك بالعقل والسمع أراد بالعقل التابع لما سمع من الشرع فلا يرد عليه أنه تبع فيه الزمخشري في قوله إنه أمر بالوحي والعقل فإنه نزغة اعتزالية لقوله بالحسن والقبح العقليين فهو كلمة حق أريد بها باطل فاعرت. قوله : ( وحذف الجار الخ ) تبع فيه الزمخشريّ ومراده أنّ الباء الجارة حذفت فإن نظر إلى مدخولها يكون حذفا مطرداً لأنّ الجار يطرد حذفه مع أن وان قطع النظر عنه يكون مما سمع لأنه سمع في بعض الأفعال عن العرب حذف الجار ، ومنها أمر ونصح فاندفع ما ورد عليه أن تفسير المطرد بحذف حروف الجرّ مع إنّ وأن يقتضي اطراده قطعا فكيف يكون من غيره مع وجود شرط الاطراد. قوله : أمرتك الخبر فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نسب
هو من قصيدة الأعشى طرود ، وقيل لعمرو بن معد يكرب ، وقيل لخفاف بن ندبة ، وقيل للعباس بن مرداس ومطلعها :
يا دارأسما بين السفح والرحب أقوت وعفى عليها ذاهب الحقب
ومنها :
واليوم قد قمت تهجوني وتشتمني فاذهب فما بك والأيام من عجب
وقد جمع فيه بين تعديته بنفسه وتعديته بالباء ، والنسب بالنون ، والسين المهملة وروي
بالشين المعجمة(5/63)
ج5ص64
ومعناه العقار الثابت.
قوله : ( عطف على أن أكون الخ ) دفع لما قيل إن أن في أن أكون مصدرية بلا كلام
لعملها النصب ، وهذه معطوفة عليها لكن لا يصح أن تكون مفسرة لعطفها على الموصولة ولأنه يلزم دخول الباء المقدرة عليها ، ولا مصدرية لوقوع الأمر بعدها فاختار في دفع ذلك أنها موصولة لنقله عن سيبويه رحمه الله وأنه يجوز وصلها بالأمر ولا فرق في صلة الموصول الحرفيّ بين الطلب ، وبين الخبر لأنه إنما منع في الموصول الاسمي لأنه وضع للتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل ، والجمل الطلبية لا تكون صفة والمقصود من هذه أن يذكر بعدها ما يدلّ على المصدر الذي تؤوّل به ، وهو يحصل بكل فعل ، وامّا أن تاويله يزيل معنى الأمر المقصود منه فقد مرّ دفعه بأنه يؤوّل بالأمر بالإقامة إذ كما يؤخذ المصدر من المادّة قد يؤخذ من الصيغة مع أنه لا حاجة إليه هنا لدلالة قوله أمرت عليه وقد يجعل قول المصنف رحمه اللّه
تعالى وأمرت بالاستقامة إشارة إلى هذا ، وقيل إن ها فعلا مقدراً أي وأوحي إلي أن أ! م وأنه يجوز فيه أن تكون أن مصدرية ومفسرة لأنّ في المقدر معنى القول دون حروفه ، ورجح بأنه يزول فيه قلق العطف ويكون الخطاب في وجهك في محله ورد بأنّ الجملة المفسرة لا يجوز حذفها ، وأمّا صحة وقوع المصدرية فاعلا ومفعولاً فليس بلازم ولا قلق في هذا العطف ، وأمر الخطاب سهل لأنه لملاحظة المحكي والأمر المذكور معه وقوله وصيغ الأفعال كلها كذلك أي دالة على المصدر. قوله : ( والمعنى وأمرت بالاستقامة في الدين ) في شرح الكشاف إقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى والإعراض! عما سواه فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالاً إذ لو التفت بطلت المقابلة فلذا كني به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين فالوجه المراد به الذات والمراد اصرف ذاتك وكليتك للدين فاللام صلة واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله والاستداد الخ وعلى الوجه الثاني الوجه على ظاهره واقامته توجيهه للقبلة فاللام للتعليل والتفسير الأوّل هو الوجه وما قيل إنه كني به عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين تكلف.
تنبيه : قوله تعالى : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ } الآية قالوا إنه يحتمل أن يكون من الحذف المطرد أي حذف الجارّ مع أنّ وأن أو من غيره كأمرتك الخير وتعقبه في التقريب بأنه على الأوّل مطرد قطعا فكيف يعطف عليه غيره إلا أن يريد أنه نوع من الحذف قد يطرد وقد لا يطرد وعلى الثاني يقدر معه لام التعليل أي لأن أكون وعطف أن أقم مشكل لأنّ أن إتا مصدرية أو تفسيرية والثاني يأباه عطفها على الموصولة لأنّ صلتها تحتمل الصدق ، والكذب بخلاف التفسيرية التي سماها الزمخشريّ عبارة إلا أن سيبويه جوّز وصلها بالأمر والنهي لدلالتها على المصدر ولذا شبهها بأنت الذي تفعل ووجه الشبه أنه نظر فيها إلى معنى المصدر الدال عليه الخبر والإنشاء وقال في الفرائد يجوز أن يقدّر وأوحى إليّ أن أقم وفيه فائدة معنوية وهي أن المعطوف مفسر كأعجبني زيد وحسنه. قوله : ( حال من الدين أو الوجه ) حنيفاً معناه مائلا عن الأديان الباطلة كما مرّ فإن كان حالاً من الوجه فهي حال مؤكدة لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل وان كان حالاً من الدين فهي حال منفكة كذا قيل ، وفيه نظر ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في أقم. قوله : ( ولا تكونق من المشركين ( تأكيد لقوله فلا أعبد الخ. وهو تهييج وحث له على عبادة الله تعالى ومغ لغيره ، وقال الإمام أنه محمول على أمره بأنه لا يلتفت لما سواه حتى يكون فائدة زائدة لأنّ ذلك شرك خفيّ عند العارفين ، وقوله من دون الله إشارة إلى آخر درجات العارفين لأنّ ما سواه ممكن لا ينفع ولا يضرّ ، وكل شيء هالك إلا وجهه فلا حكم إلا له ولا رجوع إلا إليه في الدارين وما سواه معزول عن التصرّفات فإن أضيف إليه شيء من ذلك وضع في غير موضعه وليس طلب الشبع من الأكل والريّ من
الشرب قادحاً في الإخلاص لأنه طلب انتفاع مما خلقه الله له. قوله : ( بنفسه إن دعوته أو خذلته ( قيده بنفسه لأن ذلك من اللّه لا منه بالذات ، وهو لف ونشر مرتب وخذلته هنا بمعنى تركته ، ودعوته بمعنى طلبت منه ما تريد بدليل المقابلة. قوله : ( فان دعوته ( يشير إلى أن لفظ الفعل كناية بمنزلة اسم الإشارة فكما إذا ذكرت أشياء متعذدة قبل ذلك فذلك إشارة إليها كذلك ربما(5/64)
ج5ص65
تذكر أفعال ثم يكنى عنها بلفظ الفعل كما مز تحقيقه في قوله : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } [ سورة البقرة ، الآية : 24 ] وقوله وإن يصبك فسره بالإصابة لأنه لازم معناه ، وسترى تحقيقه وفسر الكشف والرذ بالدفع إشارة إلى أن تغاير التعبير للتفنن. قوله : ( جزاء للشرط وجوإب لسؤال مقدّر عن تبعة الدعاء ( تبع بوزن صرد وتبعة مؤنثة أي ما يتبعه بعده وهذه عبارة النحاة وفسرت بأن المراد أنها تدلّ على أن ما بعدها مسبب عن شرط محقق أو مقدّر وجواب عن كلام محقق أو مقدر فاندفع ما قيل إن جزاء الشرط محصور في أشياء ليس هذا منها وما يتوهم من أن الجواب جملة فإنك لا ما بعد إذن لا وجه له فتأمّل ، وقوله عن تبعة الدعاء أي تتبع دعوة ما دون الله. قوله : ) ولعله ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضرّ الخ ( عدل عما في الكشاف من أنه ذكر في كل من الفقرتين المتقابلتين ما يدذ على إرادة مثله في الأخرى لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب لكنه قصد الإيجاز والاختصار للإشارة إلى أنهما متلازمان لا! ما يريده يصيبه ، وما يصيبه لا يكون إلا بإرادته لكنه صرّج في كل منهما بأحد الأمرين إشارة إلى أن الخير مقصود بالذات لته تعالى والضرّ إنما وقع جزاء لهم على أعمالهم وليس مقصوداً بالذات فلذا لم يعبر فيه بالإرادة وهذا أحسن مما جنح إليه الزمخشري ، وهو نوع من البديع يسمى احتباكاً ، ويمكن ملاحظته فيه أيضا بأنه يجعل نكتة للطيّ ، وعدم التصريح لكنه لا حاجة إلى التقدير وكونه بالذات ظاهر كما قال المصنف رحمه الله تعالى في تفسير قوله بيدك الخير ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات والشرّ مقضي بالعرض إذ لا يوجد شز جزئيّ ما لم يتضمن خيراً كليا. قوله : ( ووضع الفضل موضع الضمير الخ ( أي لم يقل لا دافع له أو لا راذ له على أن ما يصدر من الخير محض كرم وتفضل إذ لا يجب على الله شيء عندنا فلا يستحق العباد بأفعالهم ، وطاعتهم على الله شيئا ، وهو رد لقول الزمخشري ، والمراد بالمشيئة مشيئة المصلحة فإنه دسيسة اعتزالية. قوله : ) ولم يستثن لأنّ مراد الله لا يمكن رذه ( أي لم يقل
فلا راذ لفضله إلا هو كما قال فلا كاشف له إلا هو لأنه قد فرض فيه أن تعلق الخيرية واقع بإرادة الله تعالى فصحة الاستثناء تكون بإرادة ضده في ذلك الوقت وهو محال بخلاف مس الضرّ فإن إرادة كشفه لا تستلزم المحال وهو تعلق الإرادتين بالضدين في وقت واحد لأنه مبنيّ على أنه لا يجوز تخلف المراد عن الإرادة لا على أن إرادته قديمة لا تتغير بخلاف المس فإنه صفة فعل يوقعه ويرفعه بخلاف الإرادة فإنها صفة ذات كما توهم إذ المراد تعلقها. قوله : ( يصيب به بالخير ) أرجع الضمير للخير لقربه حينئذ ولو جعل لما ذكر صح ، ولكن هذا أظهر وأنسب بما بعده ، وقوله فتعرّضوا الخ إشارة إلى أن المقصود من ذكر المغفرة والرحمة هنا ما ذكر وقوله رسوله الخ فالحق مبالغة على الأول لأنّ المراد أن ما بلغه ، ونفسه حق. قوله : ( فمن اهتدى بالإيمان والمتابعة ) المراد بالمتابعة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وفسر من ضل بالكفر ووقع في نسخة بهما وهو المراد والكفر بهما أن لا يتبعهما ، ولا يمتثل أمرهما إذ الكفر مستلزم لذلك ، وما قيل إن ذكر المتابعة يشعر بأن الاهتداء لا يحصل بمجرّد الإيمان وحده بل مع الامتثال فيما يتعلق بالأعمال وأنه يأباه اقتصاره في تفسير الضلال على الكفر إلا أن يحمل على الاكتفاء من قلة التدبر ، وفسر الوكيل بالحفيظ لأنه أحد ما يرأد به ، وقوله اطلاعه على الظواهر منصوب على المصدرية أي كاطلاعه. قوله : ) عن النبئي !نرو الخ ) هذا الحديث موضوع نص عليه ابن الجوزيّ في الموضوعات.
تم تعليقنا على سورة يونس والحمد دلّه على إحسانه وأفضل صلاة وسلام على أفضل مخلوقاته وعلى آله وصحبه.
سورة هود عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الداني رحمه الله تعالى في كتاب العدد هي مائة دراحدى وعشرون آية في المدنيئ الأخير واثنان في المدني الأوّل وثلاث في الكوفي ، واعلم أنه لما ختم سورة يونس بنفي الشرك واتباع الوحي افتتح هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك وهي مكية عند الجمهور ، وقيل ة لا قوله فلعلك تارك الآية. قوله : ( مبتدأ الخ ) فالر اسم السورة أو القرآن وكذا إن جعل خبر مبتدأ مقدر أي هو أو هذا(5/65)
ج5ص66
وقد تقدم تفصيله في أوّل سورة البقرة. قوله : ( نظمت نظما محكماً الخ ) فسره بقوله لا يعتريه اختلال أي لا يطرأ عليه ما يخل بلفظه ومعناه ، وعبر بالمستقبل لأنّ الماضي والحال مفروغ عنه ، وذكر فيه وجوهاً أربعة أوّلها أن يكون مستعاراً من أحكام البناء ، واتقانه فلا يكون فيه تناقض أو تخالف للواقع والحكمة أو ما يخل بالفصاحة والبلاغة الثاني أن يكون من الأحكام ، وهو المنع من الفساد ، وفسره بالنسخ لبعضه من غيره أو لكله كالكتب السالفة فعطفه عليه تفسيرفي فلذا بينه بقوله فإن الخ. فهو من أحكمه بمعنى منعه ومنه حكمة الدابة لحديدة في فمها تمنعها الجماج ، ومنه أحكصت السفيه إذا منعته من السفاهة كما قال جرير :
أبني حنيفة أحكمواسفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
قيل فكان ما فيه من بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعتها حكمتها من الجماج فهي تمثيلية أو مكنية ، وهو ركيك فإنّ تشبيهه بالدابة مستهجن لا داعي له وبعد تفسيره بالنسخ لا يرد عليه ما قيل إنه يوهم قبوله للفساد وهو لا يليق بالقرآن ولم يجوّز في هذا أن يراد بالكتاب القرآن والمراد عدم نسخة كله أو بعضه بكتاب آخر لأنه خلاف الظاهر وإن صح ، والثالث من المنع أيضا لمنعه من الشبه بالأدلة الظاهرة ، والرابع من حكمته أي جعلته حكيمآ أو ذا حكمة والمراد حكيم قائلها كما في الذكر الحكيم فهو مجاز في الطرف أو الإسناد وقوله من حكم بالضم إشارة إلى أنّ الهمزة فيه للنقل من الثلاثيّ بخلاف ما قبله ، وذلك لاشتماله على أصول
العقائد والأعمال الصالحة ، والنصائح والحكم وأمّهات بمعنى أصول ، وقواعد يتولد منها غيرها. قوله : ( بالفرائد من العقائد ) قال الراغب الفصل إبانة أحد الشيئين عن الآخر حتى يكون بينهما فرجة ومنه المفاصل وفصل عن المكان فارقه ومنه فصلت العير وفي الكشاف فصلت كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية أو فرّقت في التنزيل فلم تنزل جملة واحدة ليسهل حفظها أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد أي بين ولخص وعن عكرمة والضحاك ثم فصلت أي فرّقت بين الحق والباطل يعني أنه إمّا استعارة من العقد المفصل بفرائده أي كباره التي تجعل بين اللآلئ التي تغاير حجمه أو لونه فشبهت الآيات بعقد فيه لآلئ وغيرها لتغاير النفائس التي اشتملت عليها إلى قصص وأحكام ، ومواعظ وغيرها ، وقوله من دلائل الخ متعلق بقوله فصلت لا بيان للفرائد حتى يقال إنّ الصواب ما وقع في بعض النسخ فوائد بالواو والتقدير فصلت لأنواع من دلائل التوحيد الخ ، وهي في حواشي المصنف رحمه الله تعالى بالراء أو أنها جعلت فصلا فصلاً من السور أو الآيات أو فرّقت في النزول أو هو من الإسناد المجازي والمراد فصل ما فيها ، وبين فهذه أربعة وجوه في التفصيل أيضاً والتلخيص بمعنى التبيين لا بمعنى الاختصار كما بين في اللغة ، وعلى هذا ينزل كلام المصنف رحمه الله تعالى إلا أنه على إرادة التفصيل بجعلها سور المراد بالكتاب القرآن وبالآيات آياته ، وان قيل إنه يصح أن يراد السورة على أن المعنى جعلت معاني آيات هذه السورة في سور ، ولا يخفى أنه تكلف ما لا حاجة إليه ، وقوله وقرئ ثم فصلت أي بفتحتين خفيفتين وهي قراءة ابن كثير ، ومعناه فرقت كما ذكره المصنف رحمه الله وقيل معناه انفصلت وصدرت كما في قوله ولما فصلت العير وسيأتي بيانه. قوله : ( وثئم للتفاوت في الحكم أو للتراخي في الأخبار ( لما كان التفصيل والأحكام صفتين لشيء واحد لا تنفك إحداهما عن الأخرى لم يكن بينهما ترتب وتراخ فلذا جعلوه إمّا لتراخي الرتبة ، وهو المراد بقوله في الحكم أو للتراخي بين الإخبارين وقد أورد عليه أنه إذا أريد بتفصيلها إنزالها نجما نجما تكون ثم على حقيقتها فمع تحقق الحقيقة لا وجه للحمل على المجاز وبأن الأخبار لا تراخي فيه إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازا أو يقال بوجود التراخي باعتبار ابتداء الجزء الأول وانتهاء الثاني ولا يخفى عليك أنّ الآيات نزلت محكمة مفصلة فليست ثم للترتيب على كل حال كما صرّح به العلامة في شرحه ، وليس النظر إلى فعل الأحكام والتفصيل ، وأفا التراخي بين الإخبارين فلما مرّ في أوائل سورة البقرة في ذلك الكتاب من أنّ الكلام إذا انقضى فهو في حكم البعيد ففيه ترتيب اعتباري(5/66)
ج5ص67
وهو المراد كما أشار إليه الشارح المدقق إذا عرفت هذا فاعلم أنه قال في
الكشف إن أريد بالأحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبيّ لأنّ الأحكام بالمعنى الأوّل راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى والمعنى الثاني وان كان معنويا لكن التفصيل إكمال لما فيه من الإجمال ، وان أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأنّ الأحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها ، وجعلها فصولاً بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأنّ كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصعة ، وهذا تراخ وجوديّ ، ولما كان الكلام من السيالات كان زمانيا أيضاً ، ولكن المصنف رحمه الله آثر التراخي في الحكم مطلقاً حملا على التراخي في الأخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول عن الفاء إلى ثم وان أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وألا فإخبارقي ، والأحسن أن يراد بالإحكام الأوّل وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه تنطبق المطابقة بين حكيم وخبير ، وأحكصت وفصلت ، وهي ثابتة على الوجوه الثلاثة في من لدن لكن جعلها صلة للفعلين أرجح ، وذلك لتعلق أن لا تعبدوا بهما على الوجهين ، وأفاد سلمه الله أن أصل الكلام أحكم آياته حكيم ثم أحكمها حكيم على نحو :
ليبك يزيد ضارع لخصومة
ثم من لدن حكيم كما يقال من جناب فلان لما في الكناية من المبالغة وافادة التعظيم البليغ ، وهو إشارة إلى الوجوه الستة عشر الحاصلة من ضرب معاني الأحكام الأربعة في معاني التفصيل الأربعة وهذا وان احتاج إلى البسط والإيضاح لكن الجدوى فيه قليلة فعليك باستخراجه بنظرك الصائب. قوله : ( صفة أخرى لكتاب أو خبر بعد خبر الخ ) أي هو صفة للنكرة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر على الوجهين أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى ولذا قال تقرير لأحكامها وتفصيلها ، وقوله على أكمل ما ينبغي أخذه من كون ذلك فعل الله الحكيم الخبير مع الجمع بين صيغتي المبالغة ، ولا يحتاج إلى جعل الحكيم بمعنى المحكم كما قيل لأنه يكفي فيه أن يكون صائغها ذا حكمة بالغة ، وقوله باعتبار ما ظهر أمر. وما خفي أخذه من أن الحكيم ما يفعل على وفق الحكمة والصواب ، وهو أمر ظاهر ، والخبير من له خبرة بما لا يطلع عليه غيره من الخفيات فهو لف ونشر ، وجعله الزمخشري في النظم أيضاً من اللف والنشر على أن تقديره أحكم آياته حكيم ، وفصلها خبير وله وجه وجيه لكن المصنف رحمه الله لم ينظر إليه ، ومعنى كونه تقريراً أنه كالدليل المحقق له. قوله : ( ألا تعبدوا الخ ) ذكروا فيه أنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله وحينئذ في أن وجهان أحدهما أن تكون مصدرية ، وكذا أن استغفروا لأن أن المصدرية توصل بالأمر كما مرّ تحقيقه ، وكذا توصل بالنهي فلا نافية ، وهو منصوب أو ناهية وهو مجزوم ، وهو على تقدير اللام ومحله
نصب أو جر على المذهبين وليس هذا مفعولاً له حتى يتكلم في شروطه وثانيهما أن تكون مفسرة لما في تفصيل الآيات من معنى القول دون حروفه ، وقدره الزمخشري بأمرين أحدهما فصل ، وقال لا تعبدوا والآخر أمر أن لا تعبدوا فحذف في الأوّل أن لأنه قدر صريح القول ، ولم يحذفها في الثاني لأنه قدر ما في معناه قيل ، وأن المفسرة في تقدير القول ، ومعناه ولذا لا تأتي بعد صريحه ، وإنما تأتي بعد ما هو في معناه ليكون قرينة على إرادته منها وبهذا سقط ما يتوهم من أنهم اشترطوا عدم صريح القول وتقديره في تقريرهم مناف له فتأمّل. قوله : ( ويجورّ أن يكون كلاماً مبتدأ للإغراء الخ ) هذا هو الوجه الثاني ، ومعنى كونه مبتدأ أنه منقطع وغير متصل بما قبله اتصالاً لفظياً كما في الوجهين السابقين ، وهذا على وجهين قصد الإغراء على التوحيد أو قصد التبرّي عن عبادة الغير لأنه في تأويل ترك عبادة غير الله فإن قدر ألزموا ترك عبادة غيره على أنه مفعول به فهو إغراء ، وان قدر اتركوا ترك عبادة غيره فهو مفعول مطلق للتبرّي عن عبادة الغير ، وفي الكشاف ، ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة وبدل عليه قوله إنني لكم منه نذير وبشير كأنه قال ترك عبادة غير الله إنني لكم منه نذير كقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } [ سورة محمد ، الآية : 4 ] وقيل عليه أنّ في كلامه اضطرابا حيث دلّ أوّله على الوجه الأوّل ، وآخره على الوجه الثاني ، وقد وجه بأنّ مراده بقوله كقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } [ سررة محمد ، الآية : 4 ،(5/67)
ج5ص68
إفادة معنى الإغراء لا اشتراك الصورتين في النصب على المصدرية ، ومنع جواز حمل الآية عليه بأنه ليس وزان ألا تعبدوا إلا الله وزان ترك عبادة غير الله في استقامة تقدير اتركوا عبادة غير الله تركا إذ لو قلت اتركوا عبادة غير الله أن لا تعبدوا أي عدم العبادة لم يكن شيئا لأن أن لا يحسن موقعه كما لا يحسن اضربوا أن لا تضربوا أي اضربوا الضرب ، وسرّه أنّ أن علم للاستقبال فلو أريد استقبال غير زمان الأمر لم يكن مفعولاً مطلقا وان أريد ذلك الاستقبال ضاع للاكتفاء بالأوّل اهـ والأمر كما قال وهذا توجيه لما يقتضيه النحو من أنّ أن المصدرية والفعل لا يقع موقع المفعول المطلق ، وكون ذلك لا يجوز أو لا يحسن مما لا شبهة فيه فمن قال الأمر فيه سهل بأن تجعل أن المصدرية للتأكيد لم يتدبر كلامه ، ثم إن المصنف رحمه الله تعالى أطلق كونه للإغراء من غير تقييد. له بكونه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم كما في الكشاف لأنه غير متعين لاحتمال أن يكون ما قبله أيضاً مفعولاً له بتقدير قل في أوّل الكلام ، وكونه خلاف الظاهر لا ينافي كونه وجها مرجوحاً. قوله : ( 1 نني لكم منه من اللّه ( أي فالضمير لله ، والتقدير إنني لكم من جهة الله نذير وبشير وهو في الأصل صفة فلما قدم صار حالاً ، وقيل إنه يعود على الكتاب أي نذير من مخالفته ، وبشير لمن آمن به وقدم الإنذار لأنه أهمّ ، وعطف أن استغفروا على ألا
تعبدوا سواء كان نهيا أو نفيا. قوله : ( توصلوا إلى مطلوبكم بالتوبة ا لما كان الاستغفار بمعنى التوبة في العرف كان توسط كلمة ثم بينهما محتاجاً إلى التوجيه فقيل لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل الاستغفار ترك المعصية والتوبة الرجوع إلى الطاعة ، ولئن سلم أنهما بمعنى فثم للتراخي في الرتبة ، والمراد بالتوبة الإخلاص فيها والاستمرار عليها والمصنف رحمه الله تعالى حمل الاستغفار على التوبة وجعل التوبة عبارة عن التوصل إلى مطالبهم بالرجوع إلى الله فثم على ظاهرها ولا حاجة إلى جعلها بمعنى الواو والعطف تفسيرفي كما نقل عن الفرّاء وقيل الاستغفار طلب الغفر وستر الذنب من الله والعفو عنه ومعنى التوبة الندم عليه مع العزم على عدم العود فليسا بمتحدين ولا بمتلازمين نعم قد يستعمل الأوّل في العرف بمعنى الثاني ، وفائدة عطف الثاني على الأوّل التوصل به إلى ذلك المطلوب والجزم بحصوله كما قال ثم توصلوا الخ بيانا لحاصل المعنى لا أنّ توبوا عبارة عن معنى توصلوا كما توهم ، ولا يخفى ما في العبارة من النبوّ عما ذكره فتأمّل. قوله : ( فإنّ المعرض عن طريق الحق ( أي من أعرض! عن طريق الحق بالكفر والعصيان لا بد له من الرجوع إليها ليصل إلى مطلوبه ، وهذا على طريق التمثيل في النظم بجعل التوبة بمعناها الأصلي وهو الرجوع فالرجوع إلى اللّه المراد به لازم معناه ، وهو طلب الوصول إلى المطلوب والإعراض عن الحق إن كان بالشرك فتوقفه على ما ذكر ظاهر ، وكذا إن أريد الأعمّ وأمّا إن أريد المعصية فالمراد الجزم بحصول مطلوبه فإنّ العفو يجوز من غير توبة فتأمّل. قوله : ( وقيل استففروا من الشرك الخ ) أي اطلبوا غفره وستره بالإيمان ثم توبوا إلى الله ارجعوا إلى الله بالطاعة فعلى هذا كلمة ثم على ظاهرها من التراخي ، وقيل إنّ تراخيه رتبيّ لأنّ التحلية أفضل من التخلية وإنما مزضه لأنّ قوله ألا تعبدوا إلا الله يفيد ما أفاده ، وقوله ويجوز أن يكون ثم لتفاوت ما بين الأمرين فإن بين التوبة وهي الانقطاع إلى الله بالكلية وبين طلب المغفرة بونا بعيداً ، وقيل إن هذا بطريق الكناية فإنّ التفاوت والتباين من روادف التراخي وفيه نظر. قوله تعالى ( { يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا } ) انتصابه على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله : { أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } [ سورة نوح ، الآية : 17 ] ويجوز أن يكون مفعولاً به لأنه اسم لما يتمتع به وقيل إنه منصوب بنزع الخافض أي يمتعكم بمتاع وأنّ في الكشاف إشارة إليه ، وقوله يعشكم في أمن ودعة بفتح الدال بمعنى الراحة يعني أن من أخلص الله في القول والعمل عاش في أمن من العذاب وواحة مما يخشاه ، وأمّا ما يلقاه من بلاء الدنيا فلا ينافي ذلك لما فيه من رفع الدرجات ، وزيادة الحسنات فلا ينافي هذا كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، ولا كون أشدّ الناس بلاء الأمثل فالأمثل لأنّ المراد أمنه من غير اللّه ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه وراحته طيب عيشه برجاء الله والتقرّب إليه حتى يعدّ المحنة منحة ، والتمتع يجيء
بمعنى الانتفاع وبمعنى تطويل العمر ويناسبه ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى(5/68)
ج5ص69
الأوّل للأوّل والثاني للثاني.
قوله : ( هو آخر أعماركيم المقدّرة الخ ) التقدير التعيين ببيان المقدار ، وهو المراد بالتسمية
كما مرّ في الأنعام ، وقوله أولا يهلككم معطوف على يعشكم فيكون على هذا الخطاب لجميع الأمّة بقطع النظر عن كل فرد فرد والأجل المسمى آخر أيام الدنيا والاستئصال إهلاكهم جميعا من أصلهم كما وقع لبعض الأمم. قوله : ( والآرزاق والآجال وإن كانت متعلقة بالأعمال الخ ( إن أراد تعليقها بها في الأحاديث كما ورد صلة الرحم تزيد في العمر ، وكذا ما ورد بزيادة الرزق مما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة فالمراد الجمع بين تلك الأحاديث ، وما في الآية من جعله مسمى معينا لا يقبل التغيير بالزيادة والنقص ومحصله إنّ الله لما علم صدور تلك الأعمال وعدمه كان الأجل مسمى في علم الله بالنسبة إلى كل أحد فلا منافاة بينهما وإن أراد في الآية فلأنّ قوله يمتعكم الخ بمعنى أنه يحييهم حياة هنيئة ، ولا يكون ذلك إلا بالرزق ، وهو جواب الأمر فقد علق فيه ذلك على تلك الأعمال مع أنه ذكر أنه مسمى فأجاب بأنه عالم بصدورها ، وعدمه فلا ينافي ذلك تسميتها وتعيينها فلا وجه لما قيل إنه ليس في الآية تعليق الآجال بالأعمال بل تعليق حسن العيش وأنّ ذلك لم يعلم من الآية بل من الحديث . قوله : ( ويعط كل ذي فضل في دينه جزاء فضله الخ ( يعني الفضل الأوّل بمعنى الزيادة في أمور الدين ، وقريب منه ما في الكشاف أنه الفضل في العمل فليس الثاني عينه فلذا قدر بجزاء فضله وثوابه يعني من له زيادة في الدين له زيادة في الجزاء والثواب لأنّ الأجر يزيد بزيادة العمل وقوله في الدنيا والآخرة وفي نسخة أو الآخرة وهي للتنويع بدليل قوله خير الدارين يعني أنه ينعم عليه في الدنيا والآخرة فلا يختص إحسانه بإحدى الدارين وضمير فضله على ما ذكره المصنف رحمه الله لكل ، وقد جوّز أن يعود إلى الرب فالمراد الثواب ، ولذا لم يفسره المصنف رحمه الله تعالى به كما في الكشاف ، وقد قيل إن في الآية لفا ، ونشراً وانّ التمتع الحسن مرتب على
الاستغفار ، دمايتاء الفضل مرتب على التوبة والوعد ظاهر وكونه للموحد الثابت من قوله يمتعكم إلى أجل لأنه يقتضي ثباتهم على ذلك إلى الموت. قوله : ) وإن تتولوا الخ ( يعني أنه مضارع مبدوء بتاء الخطاب لأنّ ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين والتولي الإعراض! أي إن استمرّوا على الإعراض ، ولم يرجعوا إلى الله واليوم الكبير يوم القيامة لكبر ما فيه ، ولذا وصف بالثقل أيضا أو المراد به زمان ابتلاهم الله فيه في الدنيا وقراءة تولوا قراءة عيسى بن عمرو اليماني من الشواذ وقيل إن تولوا ماض غائب والتقدير فقل لهم إني الخ لأنّ التولي صدر منهم واستمرّ وهو خلاف الظاهر فلذا لم يلتفت إليه المصنف رحمه الله تعالى. قوله : ) رجوعكم الخ ( يعني أنه مصدر ميمي وكان قياسه فتح الجيم لأنه من باب ضرب فقياسه ذلك كما علم في علم الصرف وقوله فيقدر على تعذيبهم أشدّ الخ لأنه وصف بالقدرة العظيمة فيقدر على كل عظيم وكبر اليوم لكبر ما فيه وعظمه فلهذا كان هذا تقريراً ، وتأكيداً له. قوله : ) يثنونها عن الحق وينحرفون عنه الخ ( في هذه اللفظة ثلاث عشرة قراءة المشهور منها ، وهي قراءة الجمهور يثنون بالياء المفتوحة مضارع ثناه يثنيه ، وأصله يثنيون فأعل الإعلال المعروف في نحو يرمون ، وثناه معناه طواه وحرفه وفسر المصنف رحمه اللّه تعالى هذه القراءة بوجوه الأوّل أنه كناية أو مجاز عن الاعراض عن الحق فمتعلقه محذوف أي يثنونها عن الحق لأن من أقبل على شيء واجهه بصدره ومن أعرض حرفه عنه أو المراد أنهم يضمرون الكفر وعداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم فثنى الصدر مجاز عن الإخفاء لأن ما يجعل داخل الصدر فهو خفيّ ، ومتعلقه على الكفر ومغايرته لما قبله في المعنى والمتعلق ظاهرة لا مجزد التعذي بعن وعلى كما قيل وقوله أو يولون ظهورهم تفسير ثالث وهو حقيقة على هذا لا! من ولى أحداً ظهره ثنى عنه صدره ، والمعنى أنهم إذا رأوا النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلوا ذلك فهو تفسير للمعنى الحقيقيّ بلازمه لأنه أوضح. قوله : ) وقرئ يثنوني بالياء والتاء من اثنوني ) كاخلولي فوزنه يفعوعل وهو من أبنية المزيد الموضوعة للمبالغة لأنه يقال حلا فإذا أريد المبالغة قيل احلولي وهو لازم فصدورهم فاعله ومعناه ينطوي أو ينحرف انطواء وانحرافا بليغاً ، وهو على المعاني السالفة في قراءة الجمهور والقراءة بالتاء لتأنيث الجمع وبالياء التحتية لأنّ تأنيثه غير حقيقيّ ، وهذه القراءة(5/69)
ج5ص70
قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وغيرهما ، وقوله من اثنوني أي أنه مضارع ماضيه هذا فهو مأخوذ منه بزيادة حرف المضارعة. قوله : ( وتثنون وأصله تثنونن من الثن وهو الكلأ الضعيف ( أي قرئ تثنون بتاء مثناة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نون مفتوحة تتلوها واو مكسورة بعدها نون مشذدة وهذه
القراءة نسبت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعروة وغيرهما ، وأصله تثنونن على وزن تفعوعل من الثن بكسر الثاء وتشديد النون وهو ماهش ، وضعف من الكلأ قال :
تكفي اللقوح أكلة من ثن
وصدور مرفوع على أنه فاعله ومعناه إمّا أنّ قلوبهم ضعيفة سخيفة كالنبت الضعيف فالصدور مجاز عما فيها من القلوب أو أنه مطاوع ثناه لأنه يقال ثناه فانثنى واثنونن كما صرّج به ابن مالك رحمه الله تعالى في التسهيل فقال وافعوعل للمبالمغة ، وقد يوافق استفعل ومطاوع فعل ومثلوه بهذا الفعل فالمعنى أن صدورهم قبلت الثني فتكون بمعنى انحرفت ومعناه يرجع إلى قراءة الجمهور ومن الخطأ الغريب ما قيل الكلأ بوزن جبل العشب رطبه ويابسه ، وفي القاموس الثن بالكسر يبيس الحشيش إذا كثر وركب بعضه بعضا ، وعلى هذا فقول المصنف رحمه الله شالى أو مطاوعة صدورهم للثني لا يلائمه إذ الظاهر أنّ المطاوعة في الرطب أكثر واليبيس ينكسر في اكثر إذا قصد تثنيه لأنه ظن أنهما وجه واحد ، ولم يتنبه لأنه وجه آطخر مصرّح به في كتب النحو ثم بعد إرخاء العنان فاعتماده على القاموس وترك ما ذكر. المصنف رحمه إلله تعالى ، وهو أنه ضعيف النبات وهشه وإن لم يكن يابسا مع أنه هو الذي صرّح به إمام اللغة ابن جني في كتاب المحت!سب وأغرب منه ما قيل إنه أراد بركوب بعضه لبعض انعطاف بعضه على بعض بالانحناء كما هو شأن الكلأ إذا شرع في اليبس وذلك هو المطاوعة وهو مراد المصنف وحمه الله تعالى لا أنّ فيه ثنيا بعد اليبس ، والملاءمة ظاهرة. قوله : ( وتثئمق من اثنأن كابيأض بالهمزة ) أي وقرئ بذلك كتطمئن ، وفيه وجهان أحدهما أنّ أصله اثنأنّ كاحمأرّ وأبياض! ففرّ من التقاء الساكنين بقلب الألف همزة!مكسورة ، وقيل أصله تثنونّ بواو مكسورة فاستثقلت الكسرة على الواو فقلبت همزة كما قيل في وشاح أشاح فعلى الأوّل لجكون من الافعيلال وعلى هذا هو من باب افعوعل ، ورجح الأوّل باطراده ، ولذا اقتصر عليه المصنف رحمه الله تعالى. قوله : ( وتثنوى ) كارعوى قرأ بها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل إنها غلط في النقل لأنه لا معنى للواو في هذا الفعل إذ لا يقال تنوته فانثوى كرعوته فارعوى ، ووزن ارعوى من غرلحب الأوزان ، وفيه كلام في المطوّلات ، وبقية القرا آت مفصلة في الدرّ المصون ، ومن غريب القرا آت هنا أنه قرئ مثنون بالضم واستشكلها ابن جني رحمه الله تعالى بأنه لا يقال أثنيته بمعنى ثنيته ، ولم يسمع في غير هذه القراءة. قوله : ( من الثه سرّهم ) وفي نسخة بسرّهم ذكروا في متعلق هدّه اللام وجهين الأوّل أنه متعلق بيثنون وعليه جماعة من المفسرين وهو الظاهر والثاني أنه متعلق بمحذوف أي ويريدون ليستخفوا لأنّ ثني الصدر والإعراض إظهار للنفاق فلا يصح تعليقه بذلك لأنه لا يصلح سبباً له فلذا قدر له ، ويريدون على أنها معطوفة على ما قبلها لا أنها حالية وان كان أظهر بحسب المعنى ، ولذا قيل لا وجه لتقدير الواو ويشهد له ما نقل عن الزمخشريّ إنّ المعنى يظهرون النفاق ، ويريدون مع ذلك أن يستخفوا ، ومن لم يدر وجهه
اعترض عليه والمصنف رحمه الله تعالى رأى أنه لا حاجة إلى التقدير إذ يصح تعلقه بما قبله لكنه قيل إنه على المعنيين الأوّلين ليثنون ظاهر فإنّ انحرافهم عن الحق بقلوبهم ، وعطف صدورهم على الكفر وعداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعدم إظهارهم ذلك يجوز أن يكون للاستخفاء من اللّه لجهلهم بما لا يجوز على الله تعالى ، وأمّا على المعنى الثالث فالظاهر أنه لا بدّ من التقدير إلا أن يعاد ضمير منه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا الذي ذكره في الوجهين الأولين من كلام المصنف رحمه الله تعالى لتقديره متعلقاً له فليس خلاف الظاهر كما توهم ، وقال أبو حيان الضمير في منه لله ، وسبب النزول يقتضي عوده للرسول صلى الله عليه وسلم لأنها نزلت في بعض الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم تطأمنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردّوا إليه ظهورهم ، وغثوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه ، وكراهة للقائه ، وهم يظنون أنه يخفى عليه صلى الله عليه وسلم ( 1 )(5/70)
ج5ص71
فنزلت فعلى هذا ليستخفوا متعلق بيثنون قيل فغاية ما يوجه به كلام المصنف رحمه الله في عدم التقدير أنه لما جعل سبب النزول ما ذكر جاز تعلق اللام بيثنون وصح التعليل ، وهو قريب مما قاله أبو حيان رحمه الله تعالى إلا أنه جعل الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم وعلى ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى يجوز أن يكون له ولله ، وإنما خصه بالله بناء على ظاهر قوله : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } لكنه ترك لما ذكره من المعاني الثلاثة ليثنون واختيار لمعنى آخر ، وهذا ليس بشيء بل هو على المعاني المذكورة لكنه في الوجه الأخير يكون الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس في كلامه ما ينافيه فتدبر. قوله : ( قيل إنها نزلت الخ ) قال السيوطيّ الثابت في صحيح البخاريّ أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يستحيون أن يتخلوا أو يجامعوا فيفضوا بفروجهم إلى السماء فعلى هذا ثنى الصدور على ظاهره لا مجاز ولا كناية فهو أصح نقلاً مؤيداً ببقائه على حقيقته وكون قيل لتمريضه لا فائدة فيه كالاعتذار بجواز تعدد سبب النزول كما ذهب إليه بعضهم. قوله : ( وفيه نظر إذ الآية مكية والنفأق حدث بالمدينة ) قد أجيب عنه بأنّ القائل به لم يرد بالنفاق ظاهره بل ما كان يصدر من بعض المشركين الذين كان لهم مداراة تشبه النفاق ، وأيضاً أنه كان بمكة منافقون ) كالأخنس " ( 3 ) فإنه كان يظهر الإيمان وبضمر الكفر ولا فرق بين فعله وفعل منافقي المدينة حتى لا يسمى منافقاً نعم النفاق كان بمكة لكن لم يكن في مكة طائفة ممتازون عن سائر المشركين ، وأمّا حديث أنّ النفاق كان بالمدينة والإشكال بأنّ السورة مكية فغير مسلم بل ظهوره إنما كان فيها ،
والامتياز إلى ثلاث طوائف وقع بها ، وقد صرّح به في الكشاف في قوله ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ، ولو سلم فلا إشكال بل يكون على أسلوب قوله كما أنزلنا على المقتسمين إذا فسر باليهود فإنه إخبار عما سيقع ، وجعله كالواقع لتحققه وهو من الإعجاز فكذا ما نحن فيه هكذا حقق في الكشف. قوله : ( 1 لا حين يأوون إلى فراشهم ويتغطون بثيابهم ) أي يلتحفون بما يلتحف به النائم كما ذكره في الرواية السابقة ، وقوله يستوي في علمه الخ إشارة إلى أن ذكر علم العلانية بعد علم السرّ لبيان أنهما في علم الله سواء ، والا لم يكن في ذكره مؤخراً فائدة ، وقوله ما عسى يظهرونه عسى مقحمة ، وقد تقدم بيان هذا كله ، وحين ناصبه تريدون مضمرا كما مرّ ، وقدّره أبو البقاء يستخفون ، وقيل ناصبه يعلم ، ولا يلزم منه تقييد علم الله لأنّ من يعلم هذا يعلم غيره بالطريق الأولى ، وما في ما يسرّون مصدرية أو موصولة عائدها محذوف. قوله : ( بالآسراو ذات الصدور الخ ) يعني المراد بذات الصدور إمّا الأسرار أو القلوب ، وأحوالها بجعلها لاختصاصها بالصدور كأنها صاحبة للصدور مالكة لها ، وليست الذات مقحمة كما في ذات غد ولا من إضافة المسمى إلى اسمه كما توهم. قوله : ( غذاؤها ومعاشها الخ ( المراد بالدابة معناها اللغوي ، وهو كل ما دلت على الأرض باتفاق المفسرين هنا لا المعنى العرفيّ ، واحتج بهذه الآية أهل السنة على أنّ الحرام رزق ، وألا فمن لم يأكل طول عمره إلا من الحرام لا يصل إليه رزقه ثم إن الآية تحتمل أن يراد بها أنّ الله تعالى يسوق إلى كلى حيوان رزقه فيأكله فورد النقض بحيوان هلك قبل أن يرزق شيئا ، ودفع بأنّ المراد كل حيوان يحتاج إلى الرزق يرزقه الله وما ذكر ليس كذلك لكن ينتقض بحيوان لم يرزق ، ومات جوعا ، ودفع بأنّ المراد كل حيوان جاءه رزق فمن الله كما نقل عن مجاهد لكن لا يبقى فيها استدلال لما استدلّ عليه أهل السنة بها ، ولا يبقى المحذور المذكور فتدبر. قوله : ( وإنما أتى بلفظ الوجوب الخ ) يعني أنّ على تستعمل للوجوب ، ولا وجوب على الله عند أهل الحق على ما بين في الكلام فأجاب المصنف بأنه لتحققه بمقتضى وعده كان كالواجب الذي لا يتخلف فينبغي لمن عرف ذلك التوكل على الله فكلمة على المستعملة للوجوب مستعارة استعارة تبعية لما يشبهه ، ويكون من المجاز بمرتبتين ، ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب مع العلم بأنه المسبب لها ، وفي الكشاف أنه لما ضمنه الله ، وتكفل به صار واجبا في المرتبة الثانية فلا منافاة كما في نذور العباد فإنها تصير واجبة بالنذر بعدما كانت تبرّعا ، وقال الإمام الرزق واجب بحسب الوعد ، والفضل والإحسان ، ومعناه أن الرزق باق على تفضله لكنه لما وعده ، وهو لا يخل بما وعد صوّر بصورة الوجوب لفائدتين إحداهما(5/71)
ج5ص72
التحقيق لوصوله ، والثانية حمل العباد
على التوكل فيه ، وقوله كل في كتاب مبين كالتتميم لمعنى وجوب تكفل الرزق كمن أقرّ بشيء في ذمّته ، ثم كتب عليه صكاً. قوله : ( أماكنها في الحياة والممات الخ ) جعل المستقرّ والمستوح اسم مكان لأنه الظاهر ، وجوز فيهما أن يكونا ممدرين ، وأن يكون المستوح اسم مفعول لتعدّي فعله ، ولا يجوز في مستقرّها لأنّ فعله لازم ، وقوله في الحياة ، والممات لف ونشر مرتب ، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما مستقرّها مأواها في الأرض ، ومستودعها المحل الذي تدفن فيه وسمي مستودعاً لأنها توضع فيه بلا اختيار ، وقوله والأصلاب ، والأرحام يجوز جرّه ونصبه ، وهو لف ونشر أيضاً ، وجعل الأرحام مستودعاً للنطف ظاهر لأنها توضع فيه من قبل شخص آخر بخلاف الأصلاب وقيل إنه نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما عكسه فهو لف ، ونشر مشوس ، وكلام المصنف رحمه الله يحتمله ، وقوله أو مساكنها من الأرض الخ هذا ما في الكشاف ، واقتصر عليه لعمومه لجميع الحيوانات بخلاف الأوّلين لكنه لا يخلو من بعد ، ولذا أخره المصنف رحمه الله. قوله : ( كل واحد من الدواب وأحوالها ) يعني أنّ المضاف إليه كل محذوف ، وهو كل ما ذكر أي كل دابة ورزقها؟ ومستقرّها ومستودعها في كتاب مبين ومن للتبعيض أي كل فرد فرد منها لا للتبيين بمعنى كل هو هذا ، وكأنه تعالى ذكر بعض أحوالها ، ثم عممه لغيرها أي كل ما ذكر وغيره. قوله : ( مذكور في اللوح المحفوظ ) تفسير للكتاب وبيان للمتعلق ، وقوله بيان كونه عالماً الخ يعني لما ذكر أنه يعلم ما يسرّون وما يعلنون أردفه بما يدل على عموم علمه وأراد بما بعدها قوله ، وهو الذي خلق السماوات والأرض الخ وتقريره للتوحيد لأنّ من شمله علمه ، وقدرته هو الذي يكون إلهاً لا غيره مما لا يعلم ، ولا يقدر على ضرّ ونفع ، وتقريره للوعيد لأنّ العالم القادر يخشى منه ومن جزائه ، ويجوز أن تكون الآية تقريراً لقوله ما يسرون ، وما يعلنون ، وما بعدها تقرير لقوله ، وهو على كل شيء قدير. قوله : ( أي خلقهما وما فيهما كما مرّ الخ ) الظاهر أنه إشارة إلى تقدير ذلك لأنّ الثابت أنه خلقهما ، وما فيهما في تلك المدّة فإمّا أن يقدر أو يجعل السماوات مجازاً بمعنى العلويات فيشملها ، وما فيها ويجعل الأرض بمعنى السفليات فيشملها ، وما فيها من غير تقدير ، وما قيل إنّ المراد بالعلويات نفس السماوات ، والأرض سهو ، وإنما احتاج إلى التجوّز أو التقدير وان كان خلقها في تلك المدة لا ينافي خلق غيرها لاقتضاء المقام
للتعرّض! لها. قوله : ( وجمع السماوات دون الأرضى الخ ) قد مرّ تفصيل هذا وأن المراد أنها سبع طباق متفاصلة بينها مسافة كما ورد في الأثر ، وأنّ قوله ، ومن الأرض مثلهن المراد به الأقاليم السبعة وأنّ حقيقة كل سماء غير الأخرى وأنه قيل إن الأرض مثل السماء في العدد ، وفي أن بينها مسافة ، وفيها مخلوقات فيكتفي حينئذ في التوجيه باختلاف الأصل. قوله : ( قبل خلقهما لم يكن حائل بينهما الخ ) كونه قبل خلقهما مأخوذ من كان لأنّ المعنى المستفاد منها بالنسبة للحكم لا للتكلم ، وهو خلق السماوات والأرض ، وهذا ظاهر سواء كانت الجملة معطوفة أو حالية بتقدير قد إنما الكلام في قوله لا إنه كان موضوعاً على متن الماء فإن الاستعلاء صادق بالمماسة ، وعدمها ولا دليل على ما ذكره في الآية ، وقيل مبني هذا النفي على كون الظاهر ذلك فإن كون العرس منطبقاً على الماء أوّلاً ثم رفعه عنه محتاج إلى دليل ، وهو منتف ، ولا يخفى ما فيه فإن عدم الدليل لا يكون دليلاً للعدم كما بين في محله إلا أن يكون ذلك بعناية لما نقل عن السلف أنه كان على الماء ، وهو الآن على ما كان عليه ولأنه الأنسب بمقام بيان القدرة الباهرة وعلى كل حال فلا يخلو عن القيل ، والقال. قوله : ( واستدلّ به على إمكان ا!لاء ( قيل أراد الإمكان الوقوعي لأنّ المستفاد من الآية أنه خلق السماوات والأرض! ولم يكن إذ ذاك غير العرس ، والماء وعليه منع ظاهر ، والخلاء هو الفراغ الكائن بين الجسمين اللذين لا يتماسان ، وليس بينهما ما يماسهما ، وقوله وأن الماء أوّل حادث بعد العرس ، وبيانه أن كونه على الماء يحتمل المماسة ، وعدمها ، ولذا قال إمكان الخلاء دون وجوده ولما كان معنى كونه عليه أنه موضوع فوقه لا مماسه ، وخلق السماوات والأرض بعدهما اقتضى أن الماء مخلوق قبلهما ، وأنه أوّل حادث بعده ، وهو من(5/72)
ج5ص73
فجوى الخطاب ، وقوله لا إنه كان موضوعاً الخ لأنّ سياقه لبيان قدرته يقتضيه فسقط ما قيل إنه ما المانع من إرادته فتأمل ، وقوله وقيل كان الماء على متن الريح فلا يكون الماء أوّل بل هو الريح وحده أو مع الماء ، ولو ترك المصنف رحمه الله هذا كله كان أولى. قوله : ( متعلق بخلق الخ ( أي اللام للتعليل متعلقة بالفعل المذكور ، وأفعاله تعالى غير معللة بالأغراض! على المشهور لكنها يترتب عليها حكم ، ومصالح تنزل منزلة العلل ، ويستعمل فيها حرف التعليل على طريق التشبيه ، والمجاز. قوله : ( أي خلق ذلك كخلق من خلق الخ ) يشير إلى أن إلابتلاء ، والاختبار لا يصح وصفه تعالى به لأنه إنما يكون لمن لا يعرف عواقب الأمور فالمراد ليس حقيقته بل هو تمثيل ، واستعارة شبه معاملة الله تعالى مع
عباده في خلق المنافع لهم وتكليفهم شكره واثابتهم إن شكروا وعقوبتهم إن كفروا بمعاملة المختبر مع المختبر ليعلم حاله ، ويجازيه فاستعير له الابتلاء على سبيل التمثيل فوضع ليبلوكم موضع ليعاملكم ، ويصح أن يكون مجازاً مرسلاً لتلازم العلم ، والاختبار إلا أنه على جعل الابتلاء بمعنى العلم يصير التقدير خلق ذلك ليعلم الأحسن من غيره ، وهذا أيضاً غير ظاهر لأن علمه قديم ذاني ليس متفرعاً على غيره فيؤوّل بأنه بمعنى ليظهر تعلق علمه الأزلي بذلك ، وأمّا على أنه تمثيل ، وأن المراد يعاملكم معاملة المختبر كما قرّرناه فلا تكلف فيه وهو مع بلاغته مصادف محزه فمن قال هنا إنّ ليبلوكم وضع موضعليعلم لم يصب والقرينة هنا عقلية وكون خلق الأرض وما فيها للابتلاء ظاهر وأمّا خلق السماوات فذكر تتميما ، واستطراداً مع أنها مقرّ الملائكة الحفظة ، وقبلة الدعاء ومهبط الوحي ، إلى غير ذلك مما له دخل في الابتلاء في الجملة ، وقيل إنّ ذكرها لأنها خلقت لتكون أمكنة للكواكب ، والملائكة العاملين في السماوات والأرض لأجل الإنسان. قوله : ( وإنما جاز تعليق فعل البلوى الخ ) في الكشاف فإن قلت كيف جاز تعليق فعل البلوى قلت لما في فعل الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه فهو ملاب! له كما تقول انظر أيهم أحسن وجهاً ، واسمع أيهم أحسن صوتا لأنّ النظر والاستماع من طرق العلم ، وقيل عليه إنه ينافي قوله في سورة الملك إنه سمي علم الواقع منهم باختبارهم بلوى ، وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر فإن قلت من أين تعلق قوله أيكم أحسن عملاً بفعل البلوى قلت من حيث إنه تضمن معنى العلم فكأنه قيل ليعلمكم أيكم أحسن عملاً ، وإذا فلت علمته أزيد أحسن عملا أم هو كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه كما تقول علمته هو أحسن عملا فإن قلت أتسمي هذا تعليقاً قلت لا إنما التعليق أن يوقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعاً كقولك علمت أيهما فعل كذا ، وعلمت أزيد منطلق ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الاستفهام ، وغير مصدر به ، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك علمت أزيد منطلق ، وعلمت زيداً منطلقاً انتهى فقيل إنه مضطرب حيث جوزه هنا ، ومنعه ثمة ، وللشراح فيه كلام فمنهم من سلم ، ومنهم من فرق بينهما فقيل إن التعليق لا يختص بالفعل القلبي بل يجري فيه ، وفيما يلابسه ويقاربه بالفعل القلبي ، وما جرى مجراه إمّا متعد إلى واحد أو اثنين فالأوّل يجوز تعليقه سواء تعدى بنفسه كعرف أو بحرف كتفكر لأنّ معموله لا يكون إلا مفرداً ، وبالتعليق بطل عمله في المفرد الذي هو مقتضاه ، وتعلق بالجملة ولا معنى للتعليق إلا إبطال العمل لفظا لا محلا وان تعذى لاثنين فإمّا أن يجوز وقوع الثاني جملة كباب علم أولاً فإن جاز علق عن المفعولين نحو علمت لزيد قائم لا عن الثاني لأنه يكون جملة بدون تعليق فلا وجه لعذه منه إذ لا فرق بين وجود أداة التعليق ، وعدمها فالتعليق لا يبطل عمل الفعل أصلا كما في علمت زيداً أبوه قائم ، وعلمت زيداً لأبوه قائم فإنّ عمله في محل الجملة لا فرق فيه بين وجود حرف التعليق ، وعدمه وان لم
يجز وورد فيه كلمة تعليق كان منه نحو يسالونك ماذ! ينفقون فإن المسؤول عنه لا يكون إلا مفرداً وهنا احتمالان أن يكون فعل البلوى عاملاً في قوله أيكم أحسن عملا ، وفعل البلوى كقتضي أن يكون مختبر ومختبر به ، والمختبر به لا يكون إلا مفردا لأنه مفعول بواسطة الباء كقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ } [ سورة البقرة ، الآية : 155 ] والتعليق أبطل مقتضاه ، وأن تضمن الفعل معنى العلم فيكون العلم عاملا فيه ، وهو مفعوله الثاني ، ولا يقع التعليق فيه(5/73)
ج5ص74
فقد ظهر أن تعليق الفعل في الآية إنما هو على تقدير أعمال فعل البلوى ، وعدم تعليقه على تقدير أعمال العلم فلا منافاة قطعا ، وقيل التعليق هنا بمعنى تعليق فعل القلب على ما فيه استفهام ، وهو بهذا المعنى خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين ، وهو في الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوها صرّح به ابن الحاجب فلا ينافي ما في سورة الملك من أنه ليس بتعليق لأنّ مفعوليه مذكوران فإنما نفى التعليق بالمعنى المشهور ، وأمّا الحمل على الإضمار هنا ، والتضمين ثمة للعلم ، وأنه حمل في كل منهما على وجه للتفنن فلا وجه له بعد تصريح الزمخشري بأنه استعارة ، وحاصله أنّ التعليق له معنيان مصطلح ، ويعد! بعن ، وهو المنفيّ ثمة ولغوقي ، ويعدى بالباء ، وعلى وتعليقه أن يرتبط به معنى واعرابا سواء كان لفظا أو محلا ، وهو المثبت ورد حمل أحدهما على الإضمار ، والآخر على التضمين لأنّ عبارته تأبا. وأت قوله تضمن معنى العلم فالمراد أنه يدل عليه فهو كأنه في ضمته بدليل أوّل كلامه فلا ينافيه كما توهم فقد علمت أنّ في التوفيق في الكلامين ثلاثة طرق لهم ، ولكن الفضل للمتقدم.
( والتحقيق ) عندي أنه هنا جعل قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملاً بجملته استعارة تمثيلية فتكون مفرداته مستعملة في معناها الحقيقي معطاة ما تستحقه ، وفعل البلوى يعلق عن المفعول الثاني لأنه لا يكون جملة إذ هو يتعدى له بالباء ، وحرف الجرّ لا يدخل على الجمل وإنما جرى فيه التعليق لأنه مناسب لفعل القلوب معنى كما صرّج به ابن مالك في التسهيل ، وغيره ، وفي سورة الملك جعله مستعارا لمعنى العلم والفعل إذا تجوّز به عن معنى فعل آخر عمل عمله ، وجرى عليه حكمه ، وعلم لا يعلق عن المفعول الثاني فكذا ما هو بمعناه فسلك في كل من الموضعين مسلكا تفننا ، وهو كثيراً ما يفعل ذلك في كتابه فإن قلت هل لاختياره أحد المسلكين هنا والآخر ثمة وجه أم هو اتفاقي قلت له وجه وهو أنه لما ذكر قبله خلق السماوات والأرض وما فيهما من النعم والمنافع ناسب أن يذكر بعده حال العباد في الشكر وعدمه بمقالة اختبارهم للعلم بذلك ، ولما ذكر ثمة قبله خلق الموت والحياة ناسب أن يعقب بإظهار ما هم عليه وعاقبة أمرهم ، وحسن الظت به يقتضي أنه قصده ، وما قيل إنه في غاية السقوط لأنّ القول بتعليق فعل البلوى من غير اعتبار معنى العلم فيه مجرّد اصطلاح ومخالفة لقول المصنف رحمه الله لما فيه من معنى العلم على أن صلوحه لأن يعمل في تلك الجملة مجرّدا عن معنى العلم ممنوع ، ولو سلم فمضمونها ليس بمختبر به فكيف يكون معلقاً بهذا الاعتبار لأنّ المختبر به
خلق السماوات والأرض دونه كلام ناشىء من قلة التدبر والتتبع ، وكيف يكون مجرّد اصطلاح وقد كال في التسهيل شارك أفعال القلوب ما وافقهن معنى أو قاربهن لا ما لم يقاربهن خلافاً ليونس ، وأمّ قوله لما فيه من معنى العلم فالمراد أنه طريق للعلم كالنظر والسؤال كما صرّج به
لا أنه مستعمل في معناه ، وأمّا منعه في التعليقات فغير مسموع ، وأمّا أنه غير مختبر به فعلى طرف الثمام لأنهم اختبروا بما في السماوات والأرض من المنافع فظهر حسن العمل من غيره فما يترتب على المختبر به مختبر عنه ، وجعله مختبرأ به باعتبار ترتبه عليه ، ثم إن قال إن المفهوم من كلام الكشاف في سورة الملك اختصاص التعليق بأفعال القلوب المتعدية لاثنين ، وقال فيما نقل عنه إنّ من شرط التعليق عند النحاة أن لا يذكر شيء من المفعولين كقولك علمت أيهم أخوك ، وعلمت لزيد منطلق فلو قلت علمت القوم أيهم أفضل لا يكون تعليقاً ، ولذا لم يكن ليبلوكم منه أيضاً فقد نصى على أنه يختص بالأفعال السبعة وبالمفعولين دون الثاني وحده فيشكل بأن الرضي صرّح بخلافه فيهما ، ولذا قال في إيضاح المفصل أن تخصيصه بهذه الأفعال ظاهره غير مستقيم ، وغاية ما يقال في توجيهه أن جواز تعليق المتعدي إلى واحد مختلف فيه ، ومختاره المنع ، وما يتعدى إلى اثنين بال!ضمين فيرجع إلى الأفعال السبعة ، وأما التعليق عن المفعول الثاني فقد زيفه في الملك بما لا مزيد عليه ، والحق حقيق بأن يتبع انتهى
( قلت ) هذا كله ناشىء من قلة التتبع فإنه قال في شرح التسهيل زعم ابن عصفور أنه لا يعلق فعل غير علم وظن حتى يضمن معناهما ويعمل عملهما ، واختلف في التعليق عن المفعول الثاني وحده فقال جماعة من المغاربة نعم(5/74)
ج5ص75
يعلق عنه نحو علمت زيدا أبو من هو ، وكلام التسهيل صبريح فيه وخالفهم جماعة من النحاة لما مرّ فإن قلت ما الراجح من هذين الرأيين قلت رأي من ذهب إلى أنه من باب التعليق بدليل قوله تعالى : { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } انتهى ، وهذا ليس بشيء لأنّ ما ذكره لا يصلح أن يكون دليلا لأن سأل لا يعمل في الجمل فلا يقاس عليه ما نحن فيه فحينئذ لا مخالفة بين كلام الزمخشري ، وكلام الرضي نعم ما ذكره الزمخشري لا محيد عنه لمن تدبر. قوله : ( كالنظر والاستماع ) قال اً بو حيان : لا أعلم أن أحداً ذكر أن استمع تعلق ، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر ، ورأى البصرية على اختلاف فيها ( قلت ) كلام التسهيل صريح في خلافه لأنه قال ، ومثل ذلك ما وافقهن أو قاربهن يعني من كل ما هو طريق للعلم ، وكذا قول الرضي وكذا جميع أفعال الحوأس ، وكفى بالزمخشري سندا قوياً. قوله : ( وإنما ذكر صيغة التفضيل ) الدالة على الاختصاص بالمختبرين الأحسنين أعمالاً مع أنّ اختبار الأعمال شامل لقرق المكلفين وللقبيح ، والحسن والأحسن كما عممه في قوله ليبلوكم أي أيها الناس فلا يخص المتقين ومآله إلى
سرالين تخصيص الابتلاء بالمؤمنين ، وتخصيص الأحسن بالذكر فأجاب بأنه قصد بذلك الحث والتحريض على محاسن الأعمال لدلالته على أن الأصل المقصود بالاختبار ذلك الفريق ليجازيهم أكمل الجزاء فكأنه قيل المقصود أن يظهر فضيلتكم لا فضلكم فإنه مفروغ عنه ، وليس يخصيص للخطاب كما توهم لأنّ إظهار حال غيرهم مقصود أيضا لكن لا بالذات ، وأحاسن عمع أحسن ، ومحاسن جمع حسن على خلاف القياس. قوله : ( فإن المراد بالعمل ما يعم عمل !ب الخ ) عمم العمل لما يشمل العلم والاعتقاد ، واستدل عليه بالحديث الوارد في تفسير : " أحم احسن عملاَ بأحسن عقلاَ وأورع " ( 1 ) الخ. وهو حديث مسند لابن عمر رضي الله عنه أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والحاكم بسنده لكنه قيل إنه واه لأن التقوى ، وأحسنية العمل تدل على كمال العقل ، وصحة العقيدة ، وفي الكشف أنه ذكر الزمخشري أن المراد بالأحسن عمل المتقي ، وما في الحديث تأييد له ، ويحتمل أن يكون وجها ثالثاً ويجوز ان يكون أحسن دالاً على الزيادة المطلقة ، وأن يكون من باب أفي الفريقين أحسن مقاما كما قيل. قوله : ( أي ما البعث أو القول به الخ ) إشارة إلى وجه مطابقة جوابهم لقول الرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انحم مبعوثون بوجهين " أحدهما أنه إشارة إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام ، وذكره البعث والتركيب من التشبيه البليغ أي ما قلته كالسحر في بطلانه ، والثاني أنه إشارة إلى القرآن ء " نه قال لو تلوت عليهم من القرآن ما فيه إثبات البعث لقالوا هذا المتلوّ سحر ، والمراد إنكار البعث بطريق الكناية الإيمائية لأنّ إنكار البعث إنكار للقرآن ، وقيل الأولى طرح الوجه الأوّل إذ لا لطف في تشبيهه بالسحر ولعله زاد قوله ، والبطلان لذلك ، وفيه أنه لا خصوصية له ترجحه من بين الأباطيل ، وهو كلام ساقط لأنه أيّ خصوصية أقوى من وقوعه في جواب ذكر البعث لهم ، وقد أوضح وجه الشبه بقوله في الحديقة حيث كان ذكره يمنع الناس عن لذة الدنيا الدنية ، ويصرفهم إلى الانقياد ، ودخولهم تحت الطاعة ، وقوله على أن الإشارة إلى القائل هذا يناء على الظاهر ، والا فقد جوّز على القراءة الأولى أن تكون الإشارة إليه أيضا بجعله نفس السحر مبالغة ، وجوز في هذا كون الإشارة إلى القرآن ، وجعله ساحراً مبالغة أيضآ كقولهم شعو شاعر. قوله : ( على تضمين قلت معنى ذكرت الخ ( أراد بالتضمين المصطلح أي ولئن قلت ذكرا أنكم مبعوثون فهو مفعول للذكر لا للقول ، ولذا فتحت ولم يجعله بمعنى الذكر مجازا ،
وان قيل إنه أظهر لأنّ الذكر والقول مترادفان فلا معنى للتجوز حينئذ ، ولما كان معنى القول باقياً في التضمين جاء الخطاب على مقتضاه فما قيل إنه لا وجه له لا وجه له. قوله : ( له أو أن تكون انّ بمعنى عل ) على لغة في لعل بمعناها وذكرها لأنها أخف ولاً نه ورد استعمالهما في محل واحد إذ قالوا أئت السوق محلك أن تشتري لحماً وأنك تشتري لحماً كما في الكشاف فلا يقال الأولى أن يقول لعل مع أنه أمر سهل من أن يذكر. قوله : ( بمعنى توقعوا بعثكم الخ ا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم قاطعاً بالبعث ورد أنه كيف يقول لعلكم(5/75)
ج5ص76
مبعوثون ، وأيضاً القراءة المشهورة صريحة في القطع والبت وهذه صريحة في خلافه فيتنافيان فأجابوا عنه بأنّ لعل هنا لتوفع المخاطب لا على سبيل الأخبار فإنهم لا يتوقعون البعث فليس الأمر كذلك بل على سبيل الأمر ، ولذا قال بمعنى توقعوا بعثكم ، وقد جوّزوا أن يكون هذا من الكلام المنصف ، والاستدراح فربما يتنبهون إذا تفكروا ويقطعون بالبعث ومن العجب ما قيل على المصنف رحمه الله تعالى إن ظاهر عبارته أن عل اسم فعل كعليكم ، وهو يحتاج إلى نقل فكأنه لم ينظر شيئا من شروح الكشاف ، والسكوت في بعض الأماكن أبلغ من النطق. قوله : ( وتبتوا ) أي تقطعوا من البت ، وقوله لعدوه تفسيراً لقوله تعالى ليقولن فلذا أدخل عليه اللام الواقعة في النظم في جواب القسم المقدر ، وباء بانكاره صلة البت أي لا تقطعوا بسلبه وانتفائه ، وقوله ما لا حقيقة له تفسير للسحر فإنهم أرادوا به الشعوذة ، وما لا حقيقة له منه لا مطلق السحر فإن منه ما له حقيقة كما قدمناه ، وبهذا يندفع ما يرد على تفسيره بمثله. قوله : ( الموعود ) في العذاب هنا قولان فقيل هو عذاب الآخر ، وقيل عذاب الدنيا ، وهو إمّا عذاب بدر أو قتل المستهزئين وهم خمسة نفر ماتوا قبل بدر قال جبريل عليه الصلاة والسلام : أمرت أن أكفئهم أي أقتلهم كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقول المصنف رحمه الله تعالى الموعود شامل لهذه الأقوال ، وقوله جماعة من الأوقات فالأمّة بمعنى الطائفة مطلقا وان غلب في العقلاء ، وقوله قليلة مأخوذ من قوله معدودة لأنّ الشيء القليل يسهل عده وسيأتي تحقيقه في سورة الكهف. قوله : ( استهزاء ) يعني أنّ قولهم ما يمنعه من الوقوع للاستعجال ، وهو كناية عن الاستهزاء والتكذيب لأنهم لو صدقوا به لم يستعجلوه ، وقوله كيوم بدر إشارة إلى ما مرّ. قوله : ( ويوم منصوب بخبر ليس مقدّم عليه وهو دليل الخ ) أي متعلق بمصروفاً واستدل به البصريون على جراز تقديم خبرها لأنّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم عامله بطريق الأولى ، وإلا لزم مزية الفرع
على أصله ، وقال الشاطبيئ رحمه الله تعالى في شرح الألفية : هذه القاعدة منازع فيها فإنها لا تطرد ألا ترى أنك تقول أما زبداً فاضرب وقال تعالى : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } [ سورة الضحى ، الآية : 9 ] فقد تقدّم هنا معمول الفعل ، والفعل لا يلي أما والحجازيون يقولون ما اليوم زيد ذاهبا ، ولا يجوز تقديم خبرها بالاتفاق ، والكوفيون أجازوا هذا طعامك رجل يأكل ، وزيداً ضربني فأكرمت فقدموا معمولط يأكل ، وهو نعت لرجل لا يتقدم على المنعوت ومعمول !رمت ، وهو معطوف على ضربني ، والمعطوف لا يتقدم على المعطوف عليه ، ولا النعت ملى المنعوت ، وفي الكشاف ما يخالفه في قوله تعالى : { وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا } انتهى. وقيل المعمول هنا ظرف يبنى الأمر فيه على التسامح فيه ، مع أنه قيل إنه متعلق بفعل محذوف دل عليه ما بعده ، وتقديره ألا يصرف عنهم العذاب يوم يأتيهم ، وقيل تقديره يلازمهم !وم يأتيهم الخ. وقيل يوم مبتدأ لا متعلق بمصروفا ، وبني على الفتح لاضافته للجملة ، وفي نجاء الظرف إذا أضيف لجملة صدرها فعل مضارع معرب خلاف للنحاة سيأتي فهذا الجواب غير مسلم ، وهذا الخلاف بينهم في تقديم الخبر على ليس لا على اسمها فإنه جائز بلا خلاف ، والكلام فيه وفي أدلته مفصل في كتب النحو ، وقوله وضع الماضي الخ لأنّ مقتضى الظاهر المناسب لما قبله ويحيق ، وكان الظاهر أيضا أن يقال ما كانوا به يستعجلون لكنه وضع موضعه لما ذكر. قوله : ( ولئن أعطيناه نعمة بحيث يجد لذتها ( لما كاق الذوق اختبار طعم المطعوم ملائما كان أولاً وكانت الرحمة النعمة مطلقا مطعوما أو غيره كان الذوق عاما من هذا الوجه ، ولما أريد ما يلائم ، ويستلذ منه كان خاصا من وجه فلذا فسره ر!ا ذكر ، وجعله مجازاً عنه ، وفوله منا بيان لأنها بمحض الفضل ، والأنعام لا الاستيجاب ، وقوله منه إما بمعنى من أجل شؤمه فمن تعليلية أو صلة للنزع ، وقوله لقلة صبره في الكشاف لعدم صبره لأنه لا يخلو من صبر ما أو المراد بالقلة العدم ، وهو المناسب لما بعده ، وقوله بعد عدم بالضم أي فقر. قوله : ( وفي اختلاف الفعلين نكتة لا تخفى ) المراد بالفعلين أذقنا ومسته أي لم يقل مسسناه بالإسناد إلى ضمير المتكلم كما في أذقنا للدلالة على أن مس الضر ليس مقصود بالذات إنما وقع بالعرض بخلاف إذاقة النعماء كما أشار إليه المصنف في غير هذا المحل ، وعلى هذا ينبغي أن يفسر قوله ، ثم نزعناها منه بمن أجل(5/76)
ج5ص77
شؤمه ، وسوء صنيعه وقبيح فعله ليكون قوله منا ، ومنه مشيرا إلى هذا المعنى ، ومنطبقا عليه كما قال تعالى : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ سورة النساء ، الآية : 79 ] وقيل المراد بالفعلين تحوّل النعمة إلى
الشدة وعكسه لا الفعل الاصطلاحيّ يعني أنّ اختلافهما في التعبير حيث بدأ في الأوّل باعطاء النعمة ، واذاقة الرحمة ، ولم يبدأ في الثاني بإذاقة الضرّ على نمطه تنبيها على سبق رحمة الله على غضبه ، وقيل المراد أذقنا ومست ، واختلافهما تخصيص! الأوّل بالنعماء ، والثاني بالضراء ، والنكتة تغليب جانب الرحمة ، ولا يخفى أنّ ذكره بعيداً يأباه. قوله : ( أي العصائب التي ساءتني ( المصائب جميع مصيبة ، وكان القياس فيه مصاوب لكنهم شبهوا الأصلي بالزائد ، وقول الخليل إنه الخطا الواضح مراده هذا لكنه تسمح في تعبيره ، وقوله ساءتني يشير إلى أن السيئة هنا من المساءة ضدّ المسرّة لا بمعنى الخطيئة ، ومعنى ساءتني فعلت بي ما أكره. قوله : ) بطر بالنعمة مغترّ بها ) فرح كحذر بمعنى فاعل حول للمبالغة والفرج أكثر ما يرد في القرآن للذم فإذا قصد المدح قيد كقوله : { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } [ سورة آل عمران ، الآية : 70 ا ] . قوله : ( تنبيه على أنّ ما يجده الإنسان في الدنيا الخ ) وجه التنبيه ظاهر لأنّ المس أوّل الوصول ، والذوق ما يخبر به الطعوم فمحن الدنيا لسرعة تقضيها للمؤمن كلا شيء ولغيره أنموذج لما بعده ، ولذا قد يقصد بذلك المبالغة لاشعاره بأنه مقدمة لغيره ، والتنبيه الأوّل محصله الإشارة إلى أنها أنموذج ما بعدها ، وقوله وأنه يقع معطوف على أنّ ما يجده ، وهذا تنبيه على عدم صبر الإنسان ، وأنه يتحوّل بأدنى شيء من الخير والشر وليس ابتناء الثاني على أن المراد أدنى ما يطلق عليه اسم الذوق ، والمس والأوّل على خلافه ، وأنه محمول على أصل وضعه كما توهم. قو! " : ( كالأنموفي ) قيل عليه أنه قال في القاموس : النموذج بفتح النون معرب ، والأنموذج لحن قلت هذا لم تعرّبه العرب قديما ، وما ذكره في القاموس تبع فيه الصاغاني ، وليس كما قال ففي المصباح المنير الأنموذج بضم الهمزة ، والنموذج بفتح النون معرب ، وأنكر الصاغاني أنموذج لأنّ المعرّب لا يزاد فيه انتهى ، وما ذكره الصاغاني ليس بصحيح ألا تراهم قالوا في تعريب هليله اهليلج كما أوضحناه في شفاء الغليل نعم هو أفصح كما في شعر البحتري :
أو أبلق يلقي العيون إذ أبدا من كل شيء معجب بنموذج
قوله : " يماناً بالله تعالى واستسلاماً لقضائه ا لما تضمن اليأص عدم الصبر ، والكفران عدم الشكر كان المستثنى من ذلك ضدّه ممن اتصف بالصبر والشكر فلما قيل إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا ، وذلك من صفات المؤمن فكنى بهما
عته فلذا فسره في الكشاف بقوله إلا الذين آمنوا فإنّ عادتهم أن نالتهم رحمة أن يشكروا وان زالت عنهم نعمة أن يصبروا فلهذا حسنت الكناية به عن الإيمان وأمّا دلالة صبروا على أنّ العمل الصالح شكر لأنه ورد في الأثر الإيمان نصفان نصف صبر ، ونصف شكر ، ودلالة عملوا الخ على أنّ الصبر إيمان لأنهما أخوان في الاستعمال فغير مطابق لما نحن فيه إلا أن يراد وجه آخر كأنه قيل إلا المؤمن الصالح الصابر الشاكر ، وهو وجه لكن القول ما قالت حذام لأنّ الكناية تفيد ذلك مع ما فيها من الحسن ، والمبالغة كذا أفاد. المدقق في شرحه ، وكلام المصنف رحمه الله تعالى لا يخالفه فما قيل إنّ المسلم يثق بالله أن يعيد نعمه إن زالت ، ولا يغتر بالنعم بل يشكر لعلمه أنها من فضله بخلاف الكافر ، وهذا باعتبار الأغلب ، وأنه من شأنهم فلا يضر تخلفه في بعض الأفراد كما توهم ، ثم قال إنّ قوله إيماناً ، وشكراً إشارة إلى أن تعبير جار الله له بالإيمان ليس كما ينبغي غير مسلم ، ووصفه الأجر بالكبير لأنه مخلد مع ما معه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولذا قال أقله الجنة ورضوان من الله كبر ، واختاره على عظيم لرعاية الفاصلة. قوله : ( والاستثناء من الإنسان الخ ) إشارة إلى أنّ اللام للجنس ، والاستغراق من شعبه فيحمل عله حيث لا عهد ومن حمله على الكافر جعله للعهد لسبق ذكره فيكون الاستثناء منقطعا. قوله : ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ا لما كان الترجي يقتضي التوقع ، وتوقع ترك التبلغ لما أمر بتبليغه أو التواني للتقية ، ونحوها مما لا يليق بمقام النبوّة قيل في الجواب عنه لا نسلم أن لعل هنا للترجي بل هي للتبعيد فإنها تستعمل لذلك كما تقول العرب لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه فالمعنى لا تترك ، وقيل إنها للاستفهام(5/77)
ج5ص78
الانكاري كما في الحديث : " لعلنا أعجلناك ) ( 1 ) وان سلم فهو لتوقع الكفار فإنه قد يكون لتوقع المتكلم ، وهو الأصل لأنّ معاني الانشا آت قائمة به ، وقد يكون لتوقع المخاطب أو غيره ممن له تعلق ، وملابسة بمعناه كما هنا فالمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه ، ولو سلم أن المتوقع منه هو النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا يلزم من توقع الشيء وقوعه ، ولا ترجح وقوعه لوجود ما يمنع منه وعلى هذا اقتصر المصنف رحمه الله
تعالى ، وتوقع ما لا يقع منه المقصود تحريضه على تركه ، وتهييج داعيته كما أشار إليه في الكشاف وسيأتي جواب آخر عن هذا ، وقوله تترك الخ إشارة إلى أنّ المراد باسم الفاعل المستقبل ولذلك عمل ، وأنّ المراد ترك تبليغهم لا مطلق التبليغ ، وما يخالف كالطعن في آلهتهم ، والخيانة في الوحي كتمه والتقية الترك للخوف ، والترك في بعض الأحيان لداع ليس بخيانة لأنه لا يوجب الفوت فيرتفع الوثوق به ويفوت مقصود البعثة ، وقوله أن يكون ما يصرف الخ. كان تامّة وفي بعض النسخ أقوى فهي ناقصة. قوله تعالى : ( { وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } ( قيل : هو معطوف على تارك سواء كان جملة أو مفردا ورد بأنّ هذا واقع لا متوقع قالوا وحالية ، وفيه نظر لأنّ ضيق صدره من الموحى به أن حمل على ظاهره ليس بمتوقع أيضا وإنما يضيق صدره لما يعرض في تبليغه من الشدائد ، وهذا بناء على ما فسروه فإن قلت إذا كان المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحي إليك وشق عليك أذني ووحيي أيضاً ، وهو أن يرخص لك فيه كما أمر الواحد بمقاومة عشرة ، ثم أمروا بمقاومة الواحد لاثنين ، وغير ذلك من التخفيفات لم يكن فيه محذور أصلا قلت يأباه قوله أن يقولوا الخ نعم لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد ، والضرب والطعان لأنّ هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال صح فتأمّله ، وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى اسم الفاعل ليدلّ على أنه مما يعرضى له لأنّ الله تعالى شرح صدره ، وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحوّل إلى فاعل فيقولون في سيد سائد وفي جواد جائد وفي سمين سامن قال :
بمنزلة أمّا اليتيم فسامن وأمّا كرام الناس باد شحومها
وظاهر كلام أبي حيان أنه مقيس وقيل إنه لمشابهة تارك ومنه يعلم أنّ المشاكلة قد تكون حقيقة وقول المصنف رحمه اللّه تعالى ، وعارض! لك أحيانا إشارة إلى دلالته على الحدوث ، ومنه تعلم أنّ المشاكلة غير مناسبة للمقام. قوله : ( بأن تتلوه عليهم مخافة أن يقولوا الخ ) بأن متعلق بعارض أي عارض بسبب تلاوته وهو تفسير لقوله به فالضمير للقرآن ، وهو ما يوحى ، وأن يقولوا في محل نصب أو جرّ على الخلاف في أن وأن وما معهما بعد حذف المضاف أو حرف الجز ، وقيل تقديره لئلا يقولوا أو بأن يقولوا أو كراهة أن يقولوا وقال أبو البقاء رحمه اللّه تعالى : لأن يقولوا أي لأن قالوا فهو بمعنى الماضي قيل ولا حاجة إليه ، وكيف يذعي ذلك ، ومعه ما هو نص في الاستقبال يعني أن ( قلت ( بل إليه حاجة ، وهو أنه روي في سبب النزول
أنهم قالوا اجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون بنبوّتك إن كنت رسولاً ، وروي أن كلا قالته طائفة ، وقيل القائل ابن أمية ، ولذا قيل إن تقدير كراهة أولى من تقدير مخافة لوقوع القول إلا أن يراد مخافة تكريره ، وعلى الجمع يحتاج الإنزال إلى التأويل ( قلت ) الظاهر أنّ التقدير أن يقولوا مثل قولهم لولا الخ ، وحينئذ لا يرد شيء ، ولا تخرج أن المصدرية عن مقتضاها ، وقوله وقيل الخ معطوف على ما قبله بحسب المعنى لأنه في قوّة أن يقول الضمير للقرآن يعني لما يوحى الدال عليه ، وقوله ولا عليك أي لا بأس عليك ، واسم لاسمع حذفه في مثله ، وقوله يضيق به صدرك جمل حالية ، وهي المستفهم عنها في الحقيقة وقوله فتوكل الخ تفريع عليه لأنه بمعنى قائم بكل أمر وحافظ له. قوله : ( أم مئقطعة والهاء لما يوحى ) ذكروا فيها وجهين أحدهما أنها منقطعة فتقدر ببل ، والهمزة الإنكارية أي بل أيقولون وقيل إنها متصلة ، والتقدير أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون إنه ليس من عند الله ، والأوّل أظهر ، ولذا اقتصر عليه المصنف. قوله : ( في البيان وحسن النظاً تحدّاهم أوّلاً الخ ) دفع لسؤال ، وهو أنه قد سبق التحدي بسور من مثله في البقرة ، ويونس فما وجه التحدي بعد ذلك بعشر سور مطلقاً أو ما تقدم إلى هنا كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأن نوزع فيه بأن بعضها مدنيّ وهذه مكية ، ولا معنى للتحدي بعشر لمن(5/78)
ج5ص79
عجز عن التحذي بواحد بأنّ هذا التحدي وقع أوّلاً فلما عجزوا تحداهم بسورة مما مرّ وان كان سابقاً في التلاوة متأخر في النزول ، واعترض بأنّ هذا يقتضي تقدم هذه السورة على سورة البقرة وبونس ، وقد أنكره المبرّد ، وقال الأمر بالعكس ، ووجهه بأنّ ما وقع أولاً هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام ، وأخواتها فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم ، وان لم تشتمل على ما اشتمل عليه ، وقيل عليه أنه لا يطرد في كل سورة من القرآن وأنّ تقدم السورة على السورة لا يقتضي تقدم جميع آياتها فيجوز تأخر تلك الآية عن هذه ، وأمّا تكرّرها في البقرة ويونس فلا بأس فيه.
( قلت ( أمّا قوله غير مطرد فلا وجه له لأن مراده اشتماله على شيء من الأنواع التسعة ولا
يخلو شيء من القرآن عنها ، وأمّا اذعاء تأخر نزول تلك الآية فخلاف الظاهر ، ومثله لا يقال بالرأي فالحق ما قاله المبرّد من أنه تحداهم أوّلاً بسورة مثله في البلاغة ، والاشتمال على ما اشتمل عليه فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بالإتيان بعشر سور مثله في النظم من غير حجر في المعنى ، ويشهد له توصيفها بمفتريات وأمّا ما قيل إن التحدّي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد ، وابطال الشرك فتعين أن يكون لإثبات النبوّة بإظهار معجزة ، وهي السورة الفذة ، ولذا قال المحققون القرآن هو الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه والتحدي بعشر وقع بعد تعنتهم ، واستهزائهم ، واقتراحهم آيات غير القرآن لزعمهم أنه مفتري فمقامه يناسبه التكثير
لأنه أمر مفتري عندهم فلا يعسر لإتيان بكثير مثله فمع قلة جدواه لا وجه لما أسسه عليه كما في الكشف. قوله : ( وثوحيد المثل باعتبار كل واحد ) أي كان الظاهر مطابقته لموصوفه في الجمعية لكنه أفرد بتاويله بكل واحد منها مثله إذ هو المقصود لا مماثلة المجموع ، وقيل مثل ، وان كان مفرداً يجوز فيه المطابقة ، وعدمها لأنه يوصهف به الواحد ، وغيزه نظراً إلى أنه مصدر في الأصل كقوله تعالى : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } وقد يطابق كقوله : { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ } [ سورة الواقعة ، الآية : 22 ] وقيل إنه هنا صفة لمفرد مقدر أي قدر عشر سور مثله ، وقيل إنه وصف لمجموع العشر لأنها كلام ، وشيء واحد ، وأيضا عشر ليس بصيغة جمع فيعطي حكم المفرد كنخل منقعر. قوله : ( مفتريات مختلقات الخ ) قال الإمام استدل بهذه الاية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا باشتماله على المغيبات ، وكثرة العلوم إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله مفتريات معنى أمّا إذا كان بالفصاحة فالفصيح يكون صدقا وكذبا ، وقيل عليه إنّ الملازمة ممنوعة لأن معنى قوله مفتريات من عند أنفسكم كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى لا كذباً وردّ بأن معنى الافتراء الكذب ، والاختلاق اختراع الكذب لا مطلق الاختراع كما ظنه لكن ما ذكر. إنما يدل على صحة كون وجه الإعجاز ذلك ، ولا يمنع احتمال كونه الأسلوب الغريب ، وعدم اشتماله على التناقض ، وقوله من عند أنفسكم قيده به لأنّ المعنى عليه إذ هم عرب عرباء فصحاء فالمطلوب الإتيان به من عندهم لا من عند غيرهم ، وكذا ما بعده. قوله : ( لتعلمكم القصص والأشعار الخ ) ذكره توطئة لما بعده ولا منافاة فيه لما قبله كما توهم ، والنظم عطف تفسيري للقريض إن لم يرد به ترتب المعاني الأول في النفس كما وقع في كلام عبد القاهر بهذا المعنى ، وقوله فصحاء مثلي المثلية أمّا في عدم القدرة على طبقة الإعجاز أو تنزل منه صلى الله عليه وسلم فلا يرد أنه أفصح العرب بالاتفاق كما قيل. قوله تعالى : ( { وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم } ) قدم تفسيره باستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به ، وقوله من دون الله متعلق بادعوا كما مرّ وفائدة ذكره الإشارة إلى أنه لا يقدر على مثله إلا الله ، وقد مرّ تحقيقه. قوله : ( وجمع الضمير الخ ) يعني أن الأمر بقل للنبيّ صلى الله عليه وسلم فمقتضاه أن يقال لك لكنه جمع للتعظيم بناء على أنّ ذلك لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضي أو الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين لأنهم كانوا يتحدّون أيضا ، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم شامل لهم لأنهم مأمورون بما أمر به ما لم يعلم أنه من خصائصه ، وفي هذه المسألة اختلاف عند الشافعية كما صرّح به في جمع الجوامع لكن الأصح عندهم إن أمره بشيء
لا يتناول أقته والمصنف رحمه الله تعالى ذهب هنا إلى القول المرجوح عندهم ، ومحل الخلاف ما لم يكن المأمور به يقتضي المشاركة كالقتال فما قيل إنّ قوله وكان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الخ تعليل لقوله :(5/79)
ج5ص80
كانوا يتحدونهم ، وهو مخالف لمذهبه غير وارد وهاهنا بحث ، وهو أنه ذكر في الكشاف تأييداً لهذا الوجه قوله تعالى في موضع آخر فإن لم يستجيبوا لك فاعترض! عليه بعض علماء العصر بأنه لا يصلح لتأييده بل لتأييد كون المراد الرسول صلى الله عليه وسلم وجمع للتعظيم ، وأجاب بأنه تأييد له بالنسبة للوجه الثالث إذ محصله أنّ الضمير للمتحدّي لا للمشركين ، ولا يخفى بعده ، ولو قيل إنه تأييد له لأنه خوطب النبيّ صلى الله عليه وسلم في محل آخر بالكاف ، ولو كان الجمع للتعظيم جمع هناك أيضاً فتأثل. قوله : ( وللتنبيه على أنّ التحدّي الخ ( الظاهر أنه معطوف على قوله لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم والوجوه ثلاثة إمّا أن يكون ضمير الجمع للرسول صلى الله عليه وسلم وحده جمع للتعظيم أو له وجمع مجازا أيضا تنزيلاً لفعله منزلة فعلهم جميعا لأنهم معه على حدّ بنو فلان قتلوا قتيلا ، وجعل فعله كفعلهم إشارة لما ذكره ، وعطفه باً لواو لاشتراكه مع الأوّل في أنه مجاز ، وأنه يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم وحده فيهما بخلاف الثاني فإنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين فالجمع على حقيقته ، وقيل إنه عطف على قوله لأن المؤمنين ، والفرق بينهما أنّ مبني الأوّل على كونهم متحدين حقيقة معه صلى الله عليه وسلم ، ومبني الثاني على كونهم حاضرين عند تحديه غير غافلين عنه فكأنهم متحدون أيضاً ، وإنما عطف بالواو دون أو مع تباين مبناهما لاتحادهما في كون الخطاب للمؤمنين فهما مباينان للأوّل لكون الخطاب فيه للنبيّ صلى الله عليه وسلم وحده ، وقيل إنه معطوف على لهم ، والمعنى لأنّ المؤمنين الخ يعني في الخطاب تنبيه لهم على أنّ التحدي يوجب ما ذكر فوجب أن لا يغفلوا عنه ، ويشتغلوا به ، وقيل إنه معطوف على قوله من حيث الخ يعني أمر قل يتناولهيم لدليلين أحدهما ما تقرّر أنه يجب اتباعه عليهم ، والثاني أنّ في تناول هذا الأمر تنبيها على أن التحذي الخ فهذا دليل مخصوص يتناول هذا الأمر بخصوصه بخلاف الأوّل لعمومه في كل أمر سوى ما خصه الدليل ، وقيل عليه أن التنبيه المذكور يصلح أن يكون باعثا لا يراد الخطاب في لكم جميعا بعدما أورد مفرداً ، ولا يصلح أن يكون دليلا يثبت به تناول الأمر الوارد بلفظ المفرد كما ثبت بما قبله ، وهذا مبنيّ على انّ المراد بالتحدي تحدي النبيّ صلى الله عليه وسلم أو جنسه ، وأنّ المراد بقوله فلا تغفلون عنه أنهم يفعلونه أو يراقبونه فعلى أن المراد الجنس وفعلهم له يكون مندرجا في العلية ، ويصلح دليلاً ، ولا ورود لاعتراضه ويظهر وجه عطفه بالواو أيضا فتدبر. قوله : ( ولذلك رتب عليه قوله الخ ) أي لكونه يزيدهم رسوخا في الإيمان بالله وكتبه ، ورسله عليهم الصلاة والسلام رتب عليه ما يدلّ على ذلك. قوله : ( إنما أنزل بعلم اللّه ملتبساً بما لا يعلمه الخ ) جعل ما كافة ، وفي أنزل ضمير ما أوحى ، وبعلم الله حال أي ملتبسا بعلمه ، وإنما هذه تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح فالمعنى ما أنزل إلا ملتبساً بعلمه لا يعلمه غيره ، وهو
معنى قول المصنف رحمه اللّه لأنه إذا التبس بعلمه لا يعلمه إلا هو ، والمراد بما لا يعلمه غيره ، ولا يقدر عليه سواه الكيفيات ، والمزايا التي بها الإعجاز والتحدّي ، ومن ضم إليه المغيبات لأنها لا يعلمها سواه فلبيان الواقع لا لأنّ به التحدي لكنه لا ينافيه ، وضمّ المصنف رحمه الله إليه قوله ، ولا يقدر عليه سواه مع أنّ المذكور في النظم العلم دون القدرة قيل لأنّ نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم فتأمّل. قوله : ( لا يعلمه إلا الله ) قال صاحبنا الفاضل المحشي الذي يظهر من هذه العبارة أن يكون كلا جانبي الحصر بعد الباء فلا يكون محمولاً على استفادة الحصر من أنما المفتوحة كما ذكره العلامة في سورة الكهف بل هو مستفاد من الإضافة كما في قوله فلا يظهر على غيبه أحداً أي على غيبه المخصوص بعلمه كما أفصح عنه خاتمة المفسرين هنا اص. قوله : ( لأنه العالم القادر بما لا يعلم ولا يقدر الخ ) دليل للحصر المفيد العلم لهم لأنه علم ما لا يعلمه غيره وقدر على ما لا يقدر عليه سواه فقوله بما لا يعلم ناظر إلى العلم ، ولا يقدر إلى القادر وعطفه عليه على حد قولهم متقلداً سيفا ، ورمحاً أي والقادر على ما لا يقدر الخ. فلا يرد أنّ قادراً لا يتعدى إلى قوله بما لم يعلم. قوله : ( ولظهور عجز ا-لهتهم الخ ) هذا مخصوص بالمشركين دون من آمن من أهل الكتاب فلهذا صرّح به ، وإن دخل فيما قبله فلا يقال إنه لا حاجة لذكره فالمؤكد(5/80)
ج5ص81
لإيمانهم قوله فاعلموا إنما أنزل بعلم الله ، وقوله ، ولتنصيص الخ عليه متعلق بتنصيص ، والمراد بهذا الكلام القرآن لا فوله لا إله إلا اللّه حتى يقال إعجاز بعض آية لم يقل به أحد ، وهذا دليل آخر على الوحدانية مركب من السمعيّ ، والعقلي لكنه قيل عليه لا يتوجه به تفريعه على عدم الاستجابة ، وهو المقصود فتأمّل ، والتهديد وما بعده مبنيّ على تفسيره بما مز. قوله : ) ثابتون على الإسلام الخ ) هذا بناء على أنّ الخطاب للمسلمين ، وقوله مطلقا بالنسبة إليهم ، والى من دعوهم لمعاونتهم ، والى غيرهم من المسلمين لأنهم وإن لم يباشروا المعارضة علم من عجز من هو في مرتبتهم أو عرفوه بما فهموه من أمارات إعجازه. قوله : ( ويجورّ أن يكون الكل خطاباً ) أي في لكم للمشركين ، والضمير الغائب في يستجيبوا لمن دعوهم فيعود على من في من استطعتم ، ويكون ذلك من مقوله داخلا في حيز قل ، وعلى الأوّل هو من قول الله للحكم يعجزهم كقوله : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } [ سورة البقرة ، الآية : 24 ] وقوله ، وقد عرفتم الخ جزم به ، ولم يقل وعرفتم عطفا على لم يستجيبوا لدلالة استعانتهم المفروضة على ثبوت
عجزهم. قوله : ( أنه نظم لا يعلمه إلا الله الخ ) أي لا يحيط بما فيه من البطون والمزايا إلا هو ، وما دعاهم إليه من التوحيد يعلم لثبوت نبوّته يك!يه! بالمعجزة ، وقوله وفي مثل هذا الاستفهام أي إلاستفهام بهل فإنها لطلب التصديق ، وترتبه بالفاء على ما قبله يقتضي وجوبه من غير مهلة بشهادة التعبير بمسلمون دون تسلمون ، والتنبيه المذكور من الفاء في قوله فهل ، وظاهر كلامه يثير إلى ترجيحه كما في الكشاف لأنّ الكلام بحسبه ملتثم موافق لما قبله لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار ، والضمير في هذه الآية ضمير الجمع فليكن للكفار أيضاً ولأنّ الكفار أقرب المذكورين فرجوع الضمير إليهم أولى ، ولأنّ الحمل على المؤمنين يحتاج إلى تأويل العلم ، والإسلام بالدوام ، والخلوص بخلافه على هذا ، ويمكن جعله راجعاً إليهما بأن يكون المراد إبجاب الدوام ، والخلوص ، وزوال العذر عن تركه ، وقوله بإحسانه الضمير راجع لمن أي من يريد بإحسانه الدنيا أو الرياء ، ولم يخلصه لوجه الله ، وإنما قدّر ذلك لاقتضاء السياق ، ولأنه لو أريد ظاهره لم يكن بين الشرط ، والجزاء ارتباط لأنه ليس كل من تلذذ بالدنيا كذلك. قوله : ( نوصل إليهم جزاء أعمالهم ) يعني أنّ في الكلام مضافا مقدّرا أو الأعمال عبارة عن الجزاء مجازا والأوّل أولى ووفى يتعدى بنفسه فتعديه بإلى إمّا لتضمنه معنى نوصل أو لكونه مجازاً عنه ، والظاهر من كلامه الثاني لأنه لو أراد الأوّل قال نوصله إليهم ، وافيا كما في الكشاف ، وقوله من الصحة الخ إشارة إلى ما سيأتي من احتمال من للوجوه الآتية ، وقوله والرياسة هو ناظر إلى كونه في المرائين كما فسره الزمخشريّ بقوله فعلت ليقال كذا وكذا ، وقد قيل فليس مخالفاً له كما قيل ، وقوله ونوفي بالتخفيف أي من باب الأفعال بإثبات الياء إتا على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله :
ألم يأتيك والأنباء تنمي
أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضيا من عدم جزم الجزاء إمّا لأنها لما
لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في الجزاء فتعمل في محله دون لفظه ، ونقل عن عبد القاهر أنها لا تعمل فيه أصلاً لضعفها ، والذي نقله المعرب أنّ للنحاة فيه مذهبين منهم من قال إنه في نية التقديم ، ومنهم من قال إنه على تقدير الفاء ، ويمكن أن يردّ ذلك إلى هذا ، وليس مخصوصاً بما إذا كان الشرط كان على الصحيح وأمّا قراءة الجزم فظاهرة وما نقل عن الفرّاء من أنّ كان زائدة فيها كأنه أراد أنها غير لازمة في المعنى فقدر إقحامها ليكون الشرط
مضارعا في المعنى فيقتضي جواباً مجزوماً فلا يرد عليه أنه غير صحيح للزوم أن يقال يرد بالجزم وفي الأحكام أنّ هذه الآية تدلّ على أنّ ما سبيله أن لا يفعل الأعلى وجه القرية لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأنّ الأجرة من حظوظ الدنيا فمتى أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب ، والسنة. قوله : ( كقوله :
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لاغائب مالي ولا حرم )
هذا البيت- من كقصيدة لزهير بن أبي سلمى في مدح ممدوحه هرم بن سنان ، وهي من القصائد المشهورة فلذا لم أورد منها شيئا لشهرتها ، والخليل هنا من الخلة ، وهي الفقر أي فقير ، والمسغبة المجاعة ، والمراد زمان الشدّة(5/81)
ج5ص82
والقحط ، وحرم بفتح الحاء ، وكسر الراء من الحرمان بمعنى ممنوع أي لا يعتذر إليه بعذر كما لي غائب أو لا أعط بل يسارع إلى البذل لكرمه. قوله : ( لا ينقصون شي!اً- مبن أجورهم ) ينقصون مجهول ، وشيئا تمييز وضمير فيها ظاهره أنه للدنيا لكن قيل الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكراراً بلا فائدة ورذ بأنّ فيه فائدة لإفادته أنّ البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق لأنّ المعنى هم غير مظلومين في إيفاء جزاء أعمالهم في الدنيا دون تأخيره إلى دار القرار ، والمصنف رحمه الله تعالى لم يتعرّض فلا يرد عليه شيء كما قيل مع أنه يكون للتأكيد ، ولا ضرر فيه. قوله : ( والآية الخ ) وإذا كانت في الكفرة وبرهم أي إحسانهم فهي على العموم لأنهم يعجل لهم ثواب أعمالهم في الدنيا على المشهور ، وقيل إنه يخفف به عنهم عذاب الآخرة ، ويشهد له قصة أبي طالب فلا وجه لما قيل إنّ الظاهر إنها في منكري البعث أو المرائين من مقريهم إذ لا يتمشى على القولين لكن حصرهم في الكينونة في النار يقتضي أنها في الكفار ، ومنافقيهم لا في أهل الرياء إلا أن يقال المعنى ليس يحق لهم إلا النار ، وجائز أن يعفى عما استحقوه ، ويكون المراد من سوقها كذلك التغليظ في الوعيد ، والحاصل أنه تعالى ذكر بطلان أعمال هؤلاء ، والأعمال الباطلة إفا أعمال الكفار أو أعمال أهل الرياء إذ غيرهم لا يبطل عمله فلذا اختلف فيه المفسرون ، ورجح العلامة الأوّل لأنّ السياق في الكفرة ، ولأن قوله ليس لهم في الآخرة إلا لنار لا يليق على إطلاقه إلا بهم ، وعلى تفسير. بأهل الرياء لا بد من تقييده فيقال ليس لهم في الآخرة بسبب أعمالهم الريائية إلا النار كما في شرح الكشاف ، والأصل عدم التقييد ، وهو معنى قول المصنف رحمه الله تعالى في مقابلة ما عملوا أو يؤوّل بما مرّ لكن لا حاجة إليه في كلام
المصنف رحمه الله تعالى إلا أن يقال إنه يؤول إليه فمراده بيانه تأمّل ، وقوله الحسنة بالرفع صفة صور ، وأوزار العزائم جمع عزيمة ، وهي نيته بما فعل من الرياء ، وغيره. قوله : ( لأنه لم يبق لهم ثواب في الآخرة ا لم يقل لم يبق لهم ثواب في الآخرة على أنه تفسير لحبط العمل لأنه ليس معنى الحبط إذ معناه إبطالها بعد تحققها ، وليس بمراد بل المراد أنهم لا يجازون في الآخرة إمّا لجزائهم عليها في الدنيا أو لأنها لا تستحق شيئاً من الجزاء ، وهذا المعنى معنى مجازفي للحبط عليها فلا وجه لما قيل حق التعبير ترك التعليلى إلى التفسير ، وقوله أو لم يكن الترديد مبنيّ على أنّ المرائين من المؤمنين لهم ثواب في الآخرة بأعمالهم إلا أنهم لما استوفوا ما يقتضيه صورها في الدنيا لم يبق لهم ثواب في الآخرة ، ويجوز أن لا يعتبر في حق ثواب الآخرة لأن العمدة في اقتضائه الإخلاص فتأمّله. قوله : ( ويجوز تعليق الظرف الخ ) وإذا تعلق بحبط فالضمير للآخرة ، وقوله في نفسه قيده به ليفيد ذكره بعد الحبط فالمراد بالبطلان الفساد لعدم شرط الصحبة ، وإلا فإن أريد به عدم بقائه لعدم بقاء الأعراض فجميع الأعمال كذلك ، وإن أريد عدم الانتفاع رجع إلى الحبط ، وقوله لأنه لم يعمل على ما ينبغي فلذا كان في نفسه باطلا ، وهو توطئة لما بعده. قوله : ( وكأنّ كل واحدة من الجملتين علة لما قبلها ) فيكون المعنى ليس لهم في الآخرة إلا النار لحبوط أعمالهم ، وعدم ترتب الثواب عليها لبطلانها ، وكونها ليس على ما ينبغي فإن قيل حبط ما صنعوا ، وبطلان ما عملوا يقتضي أن لا ينتفعوا به لا أن يكون لهم النار فكيف تصح العلية قلنا إذا بطل عمل الجوارح لم يبق لهم إلا أوزار العزائم السيئة كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى فلهم النار في مقابلته فإذا عرفت بهذا وجه تعليل الحبوط لما قبله ، وعلمت أنّ علة الحبوط لكونه لم يكن كما ينبغي ، وهو معنى بطلانه كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى ندفع ما قيل إنه لقائل أن يقول ما قبلها مركب من أمرين ثبوت النار لهم ونفي الثواب عنهم ، وحبوط ما عملوا ليس بعلة للأوّل لأنّ علته أوزار العزائم كما أشار إليه ، ولا للثاني لأنّ الحبوط نفس نفي الثواب فلا يكون علة لنفسه. قوله : ( وقرئ باطلأ على أنه الخ ) وهذه القراءة شاذة ونسبت لعاصم ، وقد خرّجت على ثلاثة أوجه الأوّل أن ما زائدة ، وباطلاً منصوب بيعملون ، وفيه تقديم معمول خبر كان ، وفيه كتقديم الخبر خلاف ، والأصح الجواز ، والثاني ، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله تعالى أنّ ما إبهامية ، وباطلا منصوب بيعملون أيضاً ، وما صفة للنكرة ، والمعنى باطلا أقي باطل ،(5/82)
ج5ص83
وهي كما في قوله : وحديث ما على قصره ولامرماجدع قصيرأنفه
وقيل إنها زائدة للتوكيد وقد تقدم تفصيله في قوله تعالى : { مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } [ سورة
البقرة ، الآية : 26 ] والثالث أن يكون باطلا مصدراً بوزن فاعل كما في البيت المذكور ، وهو منصوب بفعل مقدر ، وما اسم موصول فاعله ، واليه أشار بقوله أو في معنى المصدر الخ. قوله : ( ولا خارجاً الخ ) وهذا من شعر للفرزدق ، وقد حلف أن لا يقول الشعر ، ولا يذمّ أحداً وتزهد وأقبل على قراءة القرآن ، وقال :
ألم ترني عاهدت ربي وأنني لبين رتاج قائما ومقام
على حلفة لا أشتم الدهرمسلما ولا خارجاً من فيّ زوركلام
أضمر الفعل كأنه قال ، ولا يخرج خارجا ، وجعل خارجاً موضع خروجاً ، وعطف الفعل المضمر ، وهو ولا يخرج على لا أشتم ، ولا أشتم جواب للقسم أي حلفت بعهد الله لا أشتم الدهر مسلما ، ولا يخرج من فيّ زور كلام خروجا ، والرتاج باب الكعبة ، وكان حلف عنده. قوله : ( وبطل على الفعل ( أي ، وقرئ بطل على صيغة الفعل الماضي المعطوف على حبط ، وهي من الشواذ. قوله تعالى : ( { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } ( فيه وجهان أحدهما أنه مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره أفمق كان على هذه الأشياء كغيره كذا قرّره أبو البقاء ، وأحسن منه أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا ، وزينتها ، وحذف معادل الهمزة ، ومثله كثير والهمزة للتقرير ، والثاني وهو الذي نحاه الزمخشري أنه معطوف على مقدّر تقديره أمن كان يريد الحياة الدنيا فمن كان على بينة سواء أو يعقبونهم في المنزلة ، ويقاربونهم لما بينهما من التفاوت البعيد ، وهو أحد المذهبين في مثله والاستفهام على هذا إنكاريّ ، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله تعالى كما ستراه ، وهو مبتدأ محذوف الخبر على كلا الوجهين ، وليس خبراً عن مبتدأ محذوف كما توهم ، وعلى ما في الكشاف قيل لا بد من تقدير فعل ليستقيم المعنى أي أتذكر أولئك فتذكر أو يقال فيقال ، والهمزة لإنكار هذا التعقيب ، واليه أشار بقوله أن يعقب ويقارب ، وليس بشيء ، والتحقيق قول الشارح المدقق إن التقدير أمن كان يريد الحياة الدنيا على أنها موصولة فمن كان على بينة من ربه ، والخبر محذوف لدلالة الفاء أي يعقبونهم أو يقربونهم ، والاستفهام للإنكار فيفيد أنه لا تقارب بينهم فضلا عن التماثل فلذلك صار أبلغ من نحو قوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ } [ سورة السجدة ، الآية : 8 ا ] وأمّا كونها عطفاً على قوله من كان يريد الحياة الدنيا فلا وجه له لأنه يصير من عطف الجملة ، ولا يدل على إنكار التماثل ، ولا معنى لتقدير الاستفهام في الأوّل فإن الشرط ، والجزاء لا إنكار عليه ، ومن لم يقف على ما أرادوه قال على قول المصنف رحمه اللّه تعالى ، والهمزة لإنكار أن يعقب الخ اعتبار كونهم عقيب المذكورين سابقا حتى يتوجه الإنكار إليه ليس له كبير حسن عند من له ذوق صحيح فتدبر. قوله : ) برهان من اللّه يدله على الحق والصواب ) يعني المراد بالبينة الدليل الشامل للعقليّ ، والنقليّ ، والهاء للمبالغة أو النقل ، وهي ، وإن قيل إنها من بان بمعنى تبين ، واتضح
لكنه اعتبر فيها دلالة الغير ، والبيان له ، وأخذه بغضهم من صيغة المبالغة كما قيل في ظهرانة بمعنى المظهر ، وقوله فيما يأتيه ، ويذره هذا أحسن من تخصيصه بالإسلام كما في الكشاف لكنه هو المناسب لما بعده. قوله : ( والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه الخ ) يعني أن يكون هؤلاء في مرتبة بعد مرتبتهم فكيف يماثلونهم كما عرفت ، ومن فاعل يعقب وهؤلاء مفعوله ، وقوله المقصرين هممهم ، وأفكارهم على الدنيا قيل في هذه العبارة تقصير لأنّ قصر لا يتعدى بعلى ، واعتذر بأنه ضمن معنى القاصرين أو برفع هممهم على الابتداء وجعل على الدنيا خبره أي قاصرة عليها ، وأن يقارب معطوف على أن يعقب ، وهو مبنيّ للمجهول ، وبينهم قائم مقام فاعله يشير إلى تفسير المنكر بالمقاربة لتقاربهما. قوله : ( وهو الذي أغنى عن ذكر الخبر ) الضمير لإنكار التعقيب ، والمقاربة لأنه بمعنى المداناة في المماثلة فيدل على الخبر المحذوف ، وقوله وتقديره بالرفع على الابتداء ، وخبره أفمن الخ ، وهذا التقدير لازم لأنّ المبتدأ لا بد له من الخبر إلا في مواضع ذكرها النحاة(5/83)
ج5ص84
ليس هذا منها ، ويكفي لما ذكره من الإغناء كونه غير مذكور فلا يرد أنه إذا أغنى عنه فلا حاجة إليه لا لفظاً ولا معنى حتى يجاب بأنه مجرور معطوف على قوله ذكر فيكون مستغنى عنه أيضا ، وأنه بيان لمحصل المعنى ولا اختلال في عبارته كما توهم ، وهو في غاية الظهور.
قوله : ( وهو ( أي كونه على بينة حكم يعمّ كل مؤمن مخلص هذا بناء على الوجوه السابقة ، ولا يختص بكونه للمرائين أو المنافقين ، وقوله وقيل المراد به أي بمن كان على بينة ، وهو معطوف على ما قبله بحسب المعنى ، ومرضه لأنّ قوله أولئك لا يلائمه إلا أن يحمل على التعظيم ولأنّ السياق للفرق بين الفريقين لا بينهم ، وبين النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله ، وقيل الخ قيل إنه بناء على الوجه الثالث فيما تقدم ، وقوله الذي هو دليل العقل خصه به لاقتضاء تفسير الشاهد بدليل السمع. قوله : ( شاهد من اللّه ) إشارة إلى أنّ الضمير السابق المجرور ، وهذا لله لا للقرآن كما في الكشاف لأنه خلاف الظاهر ، وقوله ومن قيل القرآن إشارة إلى أنّ الضمير عائد على الشاهد بمعنى القرآن لقربه ، وقوله فإنها أيضا تتلوه في التصديق فلا ينافي تقدم نزولها زمانا فتأقل. قوله : ( أو البينة هو القرآن ) وفي نسخة وقيل البينة هو القرآن فيكون المراد بها البرهان السمعي ،
وهو معطوف على قوله الذي هو دليل العقل بحسب المعنى ، وهذا لم يذكره الزمخشري ، والتقدير البينة برهان عقلي من الله أو القرآن ، وقوله ويتلوه من التلاوة أي على هذا الوجه ، وعلى ما قبله بمعنى يتبع كما مرّ والشاهد على هذا إفا جبريل عليه الصلاة والسلام أو لسان النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ أهل اللغة ذكروا من معاني الشاهد الملك واللسان ، وقوله على أنّ الضمير له أي ضحمير منه للرسول صلى الله عليه وسلم على الوجه الأخير ومن للتبعيض ، وعلى الأوّل الله ، ومن ابتدائية ، وقوله أو من التلوّ بضم التاء واللام ، وتشديد الواو أو بفتح فسكون ، ثم واو مخففة مصدر تلاه يتلوه بمعنى تبعه أي يتبع من كان على بينة أو البينة نفسها ، وذكرت لأنّ تأنيثها غير حقيقيّ أو لكونها بمعنى البرهان ، وضمير منه دلّه ومن ابتدائية ، وقوله ملك يحفظه أي يصون صحفه لا أن حفظه بالتلاوة لأنّ ابن حجر قال لم يتل القرآن أحد من الملائكة غير جبريل عليه السلام. قوله : ) وقرئ كتاب بالنصب ا لأنه معطوف على مفعول يتلوه ، وقيل إنه منصوب بفعل مقدر أي يتلو كتاب موسى جمي! ولم يذكره لأن الأصل عدم التقدير ، واماماً ورحمة حالان من كتاب موسى ، وقوله أي يتلو الخ تفسير له على قراءة النصب وضمير منه لمن ومن تبعيضية ، ومن كان على بينة من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، من أهل الكتاب ، والشاهد علماؤهم ، وقوله ويقرأ بيان لمعنى يتلو على هذا ، وأنه من التلاوة ، وشهادتهم على أنه حق لا مفتري ، وفي الكشف والمراد به أهل الكتاب ممن كان يعلم أن نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق وأن كتابه هو الحق لما كانوا يجدونه في التوراة أي ، ويتلو القرآن شاهد من هؤلاء ، وهو عبد الفه بن سلام رضي الله عنه ولهذا جعله نظير قوله ، وشهد شاهد الآية لأنه فسره به أيضاً ، وهو يتلو من قبل القرآن كتاب موسىءسب! ، والحاصل أن من كان على بينة مؤمنو أهل الكتاب بدليل نفي المقاربة بينهم ، وبين من تبعهم ، وخص من بينهم تالي الكتابين ، وشاهدهم بالذكر فمن تبعيضية لا تجريدية كما توهم دلالة على فضله وتنبيهاً على أنهم تابعوه في الحق ، وأيد ذلك باعترافهم فبلغوا رتبة الشاهد وفي قوله يتلوه استحضار للحال ودلالة على استمرار التلاوة وهو في غاية المطابقة للمقام فتأقله وقوله كتابا مؤتما به في الدين أي مقتدي لأن الإمام يطلق على الكتاب ، ولذا يسمى المصحف العثماني بالإمام ، وقوله لأنه بيان لإطلاق الرحمة عليه. قوله : ( بالقرآن ) وفي نسخة أي بالقرآن بيان لمرجع الضمير وقيل إنه لكتاب موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أقرب ، ولا يناسب ما بعده من إيعاد من كفر من الأحزاب بالقرآن لا بالتوراة ، ولكونه توطئة لما بعده لم يكن خاليا عن الفائدة ، وقيل إنه للنبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله تحزب أي تجمع على حرب النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما في يوم أحد ، وغيره. قوله : ( يردها لا محالة ) يعني أن موعد اسم مكان الوعد ، وهم وعدوا بورود النار أي دخولها فهو مجاز المراد به ذلك كما قال حسان رضي الله عنه : أوردتموها حياض! الموت ضاحية فالنار موردها والموت ساقيها(5/84)
ج5ص85
وقوله لا محالة لأنه لا يخلف الميعاد ، ولترتبه على الكفر المستلزم لدخولها ، وهو توطئة
لقوله فلا تك في مرية مأخوذ منه ، وكسر ميم المرية بمعنى الشك لغة أهل الحجاز الفصيحة المشهورة ، والضم لغة أسد وتميم وبها قرأ السلمي ، وأبو رجاء والسدوسيّ. قوله : ) من الموعد ) أي من كون النار موعدهم ، وليس بأظهر كما قيل ، والخطاب إن كان عامّا لمن يصلح له فالمراد تحريضهم على النظر الصحيح المزيل له ، وان كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم فهو بيان لأنه ليس محلا للريب تعريضاً بمن ارتاب فيه ، ولا يلزم من نهيه عنه وقوعه ، ولا توقعه منه. قوله تعالى : ( { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا } ( المراد نفي أن يكون أحد أظلم منه أو مساوياً له في الظلم كما مرّ ، وقوله كان أسند إليه ما لم ينزل كالمحرف الذي نسبوه إلى الله أو نفى عنه كاليهود المنكرين للقرآن ولما في كتابهم كنعت النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وآية الرجم ، ويحتمل أن يريد أنه من الكلام المنصف أي لا أحد أظلم مني إن كنت أقول لما ليس بكلام الله أنه كلامه كما زعمتم أو منكم إن كنتم نفيتم أن يكون كلامه مع تحقق أنه كلام الله ، وفيه وعيد ، وتهويل للأمر قيل ، ولا يبعد أن تكون الآية للدلالة على أن القرآن ليس بمفتري فإنّ من يعلم حال من يفتري على ألله كيف يرتكبه كما مز في سورة يون! في قوله تعالى : { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ } [ سورة طه ، الآية : 69 ] وقيل أراد به هذا ، وما مرّ فيكون تفسيراً للآية بوجهين. قوله : ( في الموقف ) بيان لمحل العرض! ، وقوله بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم تفسير له بأنّ المراد من عرضهم عرض! أعمالهم ففيه مضاف مقدر أو هو كناية عن ذلك ، وقيل إنه مجاز والعرض على الله من قراءة صحف الأعمال ، وبيان ما ارتكبوه ليطلع عليه أهل الموقف ويوبخوا بسوء صنيعهم ، وان كان تعالى عالما بالسر والعلانية ، وقيل إنها تعرض على الملائكة ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والمؤمنين فالعرض على اللّه إمّا مجاز أو حقيقة ، وإسناده أي كونه على اللّه مجاز وفيه نظر والإشهاد جمع شاهد كصاحب ، وأصحاب بناء على جواز جمع فاعل على أفعال أو جمع شهيد بمعناه كشريف وأشراف ، ومعناه الحاضر ، وفي الإشارة بقوله هؤلاء تحقير لهم وقوله
تهويل عظيم أي للعنة كل من يراهم ، وقوله لظلمهم بالكذب على الله بيان لارتباطه بما قبله ، وقوله عن دينه إشارة إلى أن السبيل كالطريق المستقيم الدين مجازاً. قوله : ( ويصفونها بالانحراف ( الانحراف تفسير للعوج ، وهو ظاهر ، ويقال بغيتك الشيء طلبته لك فتفسيره بوصفهم لها بالعوج بيان لأنه مجاز عن ذلك لأن من طلب شيئاً لآخر كأنه سبب لاتصافه به ، ووصفه له فهو من إطلاق السبب على المسبب أو هو على حذف مضاف أي يبغون أهلها العوج أي الانحراف عن الدين بالردّة وحاصله أنهم يصفونها بالعوج وهي مستقيمة أو يبغون أهلها أن يعوجوا بارتدادهم للكفر وقيل يطلبونها على عوج ، وعلى اختلاف معاني عوجا اختلف إعرابه على أنه حال أي معوجين أو مفعول به أي يبغون لها العوج. قوله : ( والحال أنهم كافرون الخ ) إشارة إلى أن الجملة حالية ، وقوله وتكريرهم أي لفظ هم لتأكيد كفرهم ، واختصاصهم به كذا قال الزمخشري فقيل إنّ التأكيد من تكريرهم والاختصاص من تقديم هم على كافرون ، وقيل التخصحيص من تقديم بالآخرة ، والمعنى أنّ غيرهم ، وان كفروا بها لكنهم دون هؤلاء ، وهؤلاء هم المخصوصون بالكفر الذي لا غاية بعده ورد بأنّ تقديم بالآخرة لا يدلّ على ما ذكره بل على حصر كفرهم في الآخرة ، وأنّ كلا الأمرين مستفاد من هم لأنه بمنزلة الفصل وان لم يستوف شرائطه فيفيد الاختصاص ، وضرباً من التأكيد كما قرّروه ، وأمّا تقديم بالآخرة فلم يريدوه والاختصاص اذعائيّ ومبالغة في كفرهم كان كفر غيرهم ليس بكفر في جنبه ، وقيل إنه بناء على أنّ مثل زيد هو عارف يفيد الحصر ، والظاهر أنه يفيد تقوّي الحكم لا غير ، واختصاصهم بالجر معطوف على تأكيد وجوّز عطفه على كفرهم بناء على أنه مستفاد من تقديم الضمير الأوّل فتأمل. قوله : ( في الدنيا ) جعل الأرض كناية عن الدنيا ، ومن زائدة لاستغراق النفي ، وقيل إنها تبعيضية ، وجوّز في ما أن تكون موصولة. قوله : ( ليكون أشدّ وأدوم ( قيل عذاب الدنيا لا يمنع عذاب الآخرة فلكم من معذب في الدارين فالأولى أن يقول لحكمة لا يعلمها إلا الله ) قلت ) كونه أشد ، وأدوم مما لا شبهة فيه ، وكونه كذلك لا ينافي تعذيب(5/85)
ج5ص86
بعضهم في الدنيا كما وقع لبعضهم من الخسف ونحوه. قوله تعالى : ) { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ } ) فإن قيل ما وجه مضاعفة العذاب ، وقد نص الله على أن من جاء بالسيئة لا يجزي إلا مثلها ، وهم لا يظلمون قيل معناه مضاعفة عذاب الكفر بالتعذيب على ما فعلوا من المعاصي ، والتعامي عن الآيات ، ونحو ذلك من تضاعف كفرهم ، وبغيهم ، وصدهم عن سبيل
الله ، ويدلّ عليه نسبته إلى الموصوفين بما ذكر من الصفات وقوله استئناف أي جملة مستأنفة بين بها ذلك ، وقيل إنها من كلام الإشهاد ، وهي جملة دعائية. قوله : ( لتصامّهم عن الحق وبغضهم الخ ) قيل إنه تعالى نفى استطاعتهم لسماع الحق وأبصاره وهم يسمعون ويبصرون فبطل القول بإثبات استطاعة العبد لأفعاله ، وقدرته عليها لأنه لما ثبت أنّ بعض أفعال العبد غير مقدور عليه لم يكن الجميع كذلك ، وهذا كما يرد على المعتزلة يرد على أهل السنة لأنهم أثبتوا للعبد استطاعة غير مؤثرة فلذا قيل إن المراد أنهم يستثقلون استماع الحق إلى الغاية ، ويستكرهونه كذلك فكأنهم لا يستطيعونه وهذا شائع في كل لسان كقولهم هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه إذا استكرهوه ولا يراد نفي القدرة بل فرط الاستكراه فهذه استعارة تصريحية تبعية لأنها تشبيه حالهم بحال آخر لهم لا استعارة تمثيلية فإنها تشبيه حال شيء بحال آخر فحاصله أنه شبه استكراههم ، ونفرتهم عن الشيء بعدم الاستطاعة عليه ، ووجه الشبه الامتناع من كل منهما لكن فيه أنّ قوله أنّ الاستعارة التص شيلية لا تكون إلا في تشبيه حال شيء بحال آخر لا يظهر له وجه لأنّ اللازم فيها إنما هو التركيب ، وملاحظة الهيئتين ، وان كانتا لذات واحدة فلو قلت في أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى أنه شبه حال تردده بين إقدام ، واحجام بحالته إذا قدم رجلاً ، وأخر أخرى لم يكن منه مانع ، وقيل في تقرير الاستعارة التبعية أنه شبه تصامّهم عن الحق وبغضهم له بعدم استطاعة السمم فأطلق على المشبه اسم المشبه به ، وأورد عليه أنه لا يلائم قول المصنف لتصافهم ولتعاميهم ، ولو تعين أن اللام للتعليل فلا ضير فيه أيضا لأن تحقيق المعنى الحقيقيّ المناسب للمجازي قد يعلل به إطلاقه عليه ، والتجوّز به فالمعنى لوقوع التصامّ والتعامي ، وفرط الأعراض! ، والبغض أطلق عليهم عدم الاستطاعة ، وأمّا حمله على نفي استطاعة النافع من ذلك فيذهب به رونق الكلام والمبالغة التي فيه ، وأمّا القول بأنه تشبيه ، وأق كلام الكشاف مبنيّ عليه فليس بشيء يحتاج إلى الردّ. قوله : ( وكأنه العلة لمضاعفة العذاب ( فكأنه قيل ما بالهم استوجبوا مضاعفة العذاب فقيل لأنهم كرهوا الحق وأعرضوا عنه غاية الإعراض ، وبهذا التقرير اندفع ما ذكره الطيبيّ رحمه الله معترضاً به على التعليل ، وأنه لا ينتظم. قوله : ) وقيل هو بيان لما نفاه من ولاية الآلهة الخ ) فالمراد بقوله ما كان لهم الخ بيان عدم نصرة آلهتهم ونفعها لهم ، وقوله ما كانوا يستطيعون السمع الخ. في حق آلهتهم وهو بيان وتقرير له وما بينهما اعتراض حينئذ فالضمائر للأصنام لا للكفار ، وعلى الأوّل الأولياء مطلق الناصرين الشامل للآلهة ، وغيرهم ، وعلى هذا يخص الآلهة ، ونفي استطاعة السمع ، والأبصار حقيقة على هذا دون الأوّل ، ومرض! هذا لمخالفته السياق ، واستلزامه تفكيك الضمائر ، وقيل
إنه لا ينتظم الكلام معه بدون تقدير ما كنا في غنية عنه. قوله : ( باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى ) كأنه أراد أن خسران أنفسهم بخسران مالها من عبادة اللّه إذا استبدلوها بذلك ، وفي البحر أنه على حذف مضاف أي سعادة أنفسهم وراحتها فإن أنفسهم باقية معذبة ، وقيل إبقاؤه على ظاهره أولى لأنّ بقاء العذاب كالإبقاء ، وفي الكشاف إنّ خسرانهم في تجارتهم لا خسران أعظم منه لأنهم خسروا أنفسهم يعني أنّ المقصحود من خلقهم عبادة الله فقد تركوا أنفسهم لعبادة الأوثان فهذا في الحقيقة خسران في النفس ، وهو أعظم خسارة ففي الكلام استعارة مرشحة كقوله :
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير واجب
قوله : ( من الآلهة وشفاعتها ) قيل عطف شفاعتها من قبيل أعجبني زيد ، وكرمه لأنّ المفتري الشفاعة لا الآلهة ورد بأنه ليس منه إذ دعوى الآلهة افتراء ، ودعوى الشفاعة كذلك ، ولا حاجة إلى تقدير(5/86)
ج5ص87
مضاف أي من آلهية الآلهة كما قيل ، وأورد عليه أنه يقتضي أنّ الغائب عنهم آلهية الآلهة لا نفسها وليس بمقصود كما مرّ في سورة الأنعام نظيره فتأمّل. قوله : ) أو خسروا بما بدّلوا وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة ( لفظ بدلوا بالدال المهملة من التبديل أو بالذال المعجمة من البذل ، وهو العطاء ، والثانية قيل إنها الصحيحة رواية ، ودراية ، والباء عليها بمعنى في أي خسروا فيما بذلوا ، وهو عبادة الله ، وما حصلوا ، وهو عبادة الآلهة ، وافتراؤهم قولهم أنها حق ، ولا وجه للقول بأنّ ما حصلوا هو آلهتهم كذا قيل ، ولا محصل له ، والظاهر أنّ تفسيره هذا على وجه يغاير ما قبله ، وعلى ما ذكره ليس بينهما كبير فرق فالصواب أن يقال إنه بالدال المهملة ، وا! الباء سببية يعني أنهم خسروا بسبب تبديلهم الهداية بالضلالة ، والآخرة بالدنيا ، وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرياسة فيكون هذا الوجه أعمّ من الأوّل ، وفي النظم دلالة عليه إذ أضاف الخسران إلى أنفسهم دون تعيين لما خسروه لكن الافتراء بظاهره مناسب لتفسيره الأوّل فتأمّل. قوله تعالى : ( { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ } الخ ا لم يفسره المصنف رحمه الله تعالى تبعا للزمخشريّ ، وسيأتي تفسيره في الحواميم ، وقوله لا أحد أبين ، وأكثر خسرانا منهم وضع أفعل التفضيل للزيادة على المفضل في الكمّ ، والكيفية ، والظاهر أنه لا يمتنع الجمع بينهما فإن أراد بقوله أبين أعظم لأنّ الظهور لازم للكبير ، والعظيم فهو تفسير له بلازم معناه يكون معنى حقيقيا له ، وان أراد به ظاهره يكون معنى مجازيا فتفسير المصنف رحمه الله تعالى له بهما إمّا بناء على مذهبه من جواز الجمع بين الحفيقة ، والمجاز تتميما للفائدة السابقة ، وقيل إنّ الواو بمعنى أو أو هو من عموم المجاز ولم يبق معنى يشملهما على القاعدة فيه ، والزمخشري اقتصر على الأوّل ، وترك لثاني
فقيل لثلا يكون تكراراً مع فوله خسروا أنفسهم بناء على تفسيره المتقدم قيل ، والمصنف رحمه الله تعالى ردّد التفسير بينهما لأنه لم يفسره بما فسره به جار الله فيحتمل أن يكون معنى خسران أنفسهم أنّ ضرره عائد إليهم لا إلى الله ولا إلى غيره ثم إنّ الحصر مستفاد من تعريف المسند بلام الجنس سواء جعل هم ضمير فصل فيفيد تأكيد الاختصاص أو مبتدأ ما بعده خبره ، والجملة خبران فيفيد تأكيد الحكم ( قلت ) وهنا وجه آخر ، وهو أن حذف المفضل يفيد العموم فيكون المعنى أنهم أخسر من كل أحد ، وهو بمنطوقه يفيد الأخسرية فيهم ، وهذا أنسب بظاهر عبارة المصنف رحمه الله تعالى ، وقوله اطمأنوا إليه ، وخشعوا له الخ يعني أن الإخبات أصله نيزول الخبت ، وهو المنخفض من الأرض فأطلق على الخشوع ، واطمئنان النفس تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ، ثم صار حقيقة فيه ، ومنه الخبيت بالتاء المثناة للدنيء ، وقيل إنّ التاء يدل من الثاء المثلثة ، وقوله في أصحاب الجنة هم فيها خالدون ليس لحصر الخلود في هؤلاء فإنّ العصاة يخلدون فيها إلا أن يراد بنفي الخلود عنهم نقصه من أوّله كما سيأتي نظيره. قوله ئعالى : ( { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى } الخ ) ذكر في هذا التشبيه احتمالين تبعا للكشاف لكن بينهما مخالفة ستراها مع ما فيها فقوله يجوز أن يراد تشبيه الكافر الخ. فيه تسامح لأنّ المشبه حال الكافر ، وحال المؤمن لا الكافر ، والمؤمن لكن لما وجد أحدهما مستلزما للآخر عبر به عنه ، وقيل يحتمل أنه حمله على تشبيه الذوات ، واقحام لفظ المثل تنبيها على ما فيه دليل تركه من المشبه به في النظم ، وحاصل هذا الوجه أنه شبه كل من الفريقين باثنين باعتبار وصفين ففيه أربع تشبيهات ، ولذلك قيل إنه نظير قول امرئ القيس :
كاًنّ قلوب الطير رطبا ويابساً لدي وكرها العناب والحشف البالي
كما في الكشاف لأن حاصله تاً ويل الفريقين بفريق من الناس كافر ، وفريق مؤمن فمثل الفريقين بمنزلة قلوب الطير رطبها ، ويابسها كالأعمى ، والبصير بمنزلة العناب ، والحشف ، وكذا الأصمّ ، والبصير ، ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أنّ في البيت تشبيه كل من الرطب ، واليابس بشيء واحد ، وفي الآية كل من الكافر والمؤمن باثنين ، ولذا قيل البيت أشبه بالوجه الثاني من هذا ، وليس هذا بوارد لأنّ مراد العلامة أنه تشبيه متعدد بمتعدّد مع قطع النظر عن التضام ، والعدة فلا فرق بين البيت ، والآية إلا من جهة أن في(5/87)
ج5ص88
البيت تشبيه شيء بشيئين ، وفي الآية تشبيه كل واحد من شيئين بشيئين فلا مخالفة بين كلام المصنف رحمه الله تعالى ، والزمخشري كما توهم ، وقوله لتعاميه هذه اللام كاللام السابقة في كلامه ، وتأبيه بمعنى امتناعه تفعل من الآباء. قوله : ( أو تشبيه الكافر بالجامع الخ ) فعلى هذا فيه تشبيهان لا أربعة لأنه شبه
حال هؤلاء الكفرة الموصوفين بالتصامّ ، والتعامي بحال من خلق أصمّ أعمى لعدم انتفاعه بحاستيه فيما يتعلق بسعادة الدارين ، وحال هؤلاء المؤمنين لانتفاعهم بهما وامتناعهم مما وقع فيه أولئك بحال قوى حاسة السمع ، والبصر لانتفاعه بالنظر لأنوار الهداية ، واستماعه لما يلذ وينتفع به السمع من البشارة ، والإنذار فهو تشبيه مركب من جانب المشبه به لا المشبه كما ينبني عليه لفظ المثل ، وهذا من بديع التشبيه ، وظرائفه الرائقة ، وهذا الوجه آثره الطيبي رحمه الله تعالى ، والحق معه ، ولا نظر لقول صاحب الكشاف أنّ فيه بعد الآن الأعمى قد يهتدي بما سمع من الدلالة ، والأصمّ فد يهتدي بما يرى من الإشارة فمن كان أعمى أصمّ لا يقبل الهداية بوجه من الوجوه فهذا أبلغ ، وأقوى في التشنيع كما أشار إليه في الكشاف. قوله : ) والعاطف لعطف الصفة على الصفة ) يعني على الاحتمال الثاني فالذات واحدة لكن نزل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات فعطف بالفاء كما في البيت المذكور وفي الوجه الأوّل هو من عطف الموصوف على الموصوف واللف في الفريقين لأنه في قوّة الكافرين ، والمؤمنين فيكون تقديريا أو ما دل عليه قوله ، ومن أظلم ممن افترى الخ. وقوله إنّ الذين آمنوا الخ فهو تحقيقيّ ، وقدم ما للكافرين لتقدّمه هنا ، ولأنّ السياق لبيان حالهم والنشر في قوله كالاً عمى الخ. والطباق هو الجمع بين الضدين ، وهما الأعمى ، والبصير والأصم ، والسميع. قوله : ( الصابح فالنانم الخ ( أصل هذا أنه لما قال الحرث بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان يتوعد ابن زيابة التيمي :
أنا ابن زيابة أن تلقني لاتلقني في النعم العازب
وتلقني يشذ بي أجرد مستقدم البركة كالراكب
فأجابه ابن زيابة بقوله :
يالهف زيابة للحرث الصا بح فالغانم فالآيب
والله لو لاقيته خاليا لآب سيفانا مع الغالب
أنا ابن زيابة أن تدعني آتك والظن على الكاذب
قوله : يا لهف الخ أي يا حسرة أبي لأجل هذا الرجل ، والصابح المغرّ في وقت الصباح ، والآيب الراجع وقد تقدم تفصيله في سورة البقرة ، والشاهد فيه عطف صفات موصوف واحد بالفاء. قوله : ( تمثيلاَ أو صفة أو حالاً ) مرّ في البقرة أنّ المثل كالمثل في الأصل بمعنى النظير ثم استعير لقول شبه مضربه بمورده ، ولا يكون إلا لما فيه غرابة فلذا استعير في المرتبة الثانية
لأنّ الأولى صارت حقيقة عرفية للقصة أو الحال أو الصفة العجيبة كقوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً } [ سورة البقرة ، الآية : 17 ] أي حالهم العجيبة الشأن ، وقوله وله المثل الأعلى أي الصفة العجيبة فلذا فسره المصنف رحمه الله تعالى بهذه المعاني الثلاثة فتأمّل ، ونصبه على كل فها على التمييز المحول عن الفاعل ، وقوله على إرادة القول ، وتقديره قائلا اني لكم الخ. أو فقال وقدر في قراءة الفتح الجارّ ، والمعنى ملتبسا بالإنذار أي بتبليغه وقوله. قوله : ( بدل من أني لكم أو مفعول الخ ) البدلية على قراءة الفتح ، وأمّا على الكسر فيجوز أن تكون مصدرية سولة لأرسلنا بتقدير بأن أي أرسلنا بنهيهم عن الإشراك قائلاً أني لكم نذير مبين أو مفسرة بحاليها من تعلقها بأرسلنا أو بنذير ، وعلى الإبدال فإن مصدرية ، ولا ناهية والقول مقدر بعد أن والتقدير أرسلناه يقول إني لكم نذير بقول لا تعبدوا ، وهو بدل بعض أو كل على المبالغة ، وادّعاء أنّ الإنذار كأنه هو فإن لم يقدر القول فهو بدل اشتمال كذا حققه الشارح المدقق ، وقيل عليه أنه على تقدير القول بدل اشتمال أيضاً إذ لا علاقة بينهما بجزئية أو كلية حتى يجعل بدل بعض أو كل ، وهو غفلة عن أنه على تقدير القول يكون قوله أني أخاف المعلل به النهي من جملة(5/88)
ج5ص89
المقول ، وهو إنذار خاص فيكون بعضا له أو كلأ على الاذعاء فليس في كلامه شيء سوى غبار سوء الفهم فتدبر.
قوله : ( ويجوز أن تكون الخ ) أي أرسلناه بشيء أو نذير بشيء هو لا تعبدوا الخ لكن الانذار فيه غير ظاهر ويجوز أيضا أن يكون تفسيرا لمفعول مبين كما أنه يجوز أن يكون مفعولاً له أي مبينا النهي عن الشرك. قوله : ( مؤلم وهو في الحقيقة صفة المعذب ) بالكسر أي الله لأنه الموجد للألم ، وان كان يوصف به العذاب أيضا ، وهو حقيقة عرفية ومثله يعد فاعلا في اللغة فيقال ا-لمه العذاب من غير تجوّز ، وذكر وصف العذاب هنا استطراديّ كما في الكشاف لوقوعه في غير هذه الآية ، وقد جوّز أن يكون مراده أنه يصح هنا أن يكون صفة للعذاب لكنه جرّ على الجوار ، وهو في الوجهين على الإسناد المجازي بجعل اليوم أو العذاب معذبا مبالغة لكنه في الأوّل نزل الظرف منزلة الشخص نفسه لكثرة وقوع الفعل فيه فجعل كأنه وقع منه ، وفي الثاني جعل وصف الشيء لقوّة تلبسه به كأنه عينه فأسند إليه ما يسند إلى الفاعل على ما حقق في علم المعاني. قوله تعالى : ( { فَقَالَ الْمَلأُ } الخ ) الملأ القوم الأشراف من قولهم فلأن ملىء بكذا إذا كان قادرا عليه لأنهم ملؤوا بكفاية الأمور ، وتدبيرها أو لأنهم متمالئون أي متظاهرون متعاونون او لأنهم يملؤون القلوب مهابة والعيون جمالاً ، وا!ف نوالاً أو لأنهم مملؤون بالآراء الصائبة
والأحلام الراجحة على أنه من الملء لازما ومتعديا. قوله : ( لا مزية لك علينا الخ ) ذكر الزمخشري فيه وجهين أحدهما أنّ المثلية التي ذكروها في المزية ، والفضيلة على التنزل ، والفرض ، ولذ ذكروا أنه بشر تعريضاً بأنه يماثلهم في البشرية والا فهم أحق منه بالمزية لجهلهم وظنهم أنها بالجاه والمال يعني هب أنك مثلنا في المزية فلم اختصصت بالنبوّة من بيننا ، والثاني أنهم أرادوا أنه مثلهم في البشرية ، ولو كان نبيا كان ملكأ لأنّ النبيّ أفضل من غيره من البشر ، والملك كذلك ، واقتصر المصنف رحمه الله تعالى على الأوّل وان كان لفظ البشر ظاهراً في الثاني لأنه تفوج منه رائحة الاعتزال كما في شروحه ، د وإن نوزعوا فيه ، وقوله تخصك بالنبوّة أدخل الباء على المقصور ، وهو أحد استعماليه كما مرّ خقيقه. قوله : ( { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ } ) إن كانت رأى علمية فجملة اتبعك مفعول ثان ، دمان كانت بصرية فهي حال بتقدير قد. قوله : ( جمع ارذل فإنه بالغلبة الخ ) الأرذل ، والرذل الدنيء المستحقر ، ولما كان أفعل التفضيل إذا جمع جمع جمع سلامة في الأقيس الأغلب كالأخسرون ولا يكسر أفعل إلا إذا كان اسما أو صفة لغير تفضيل كأحمر وقد كسر هنا قالوا إنه كسر لأنه غلبت فيه الاسمية ، ولذا جعل في القاموس الرذل ، والأرذل بمعنى ، وهو الخسيس كما فسره به المصنف رحمه الله تعالى أو هو جمع رذل ، وفي الكشاف أنه جمع أرذل اسم تفضيل مفمافاً للتوضيح لأنهم يزعمون مشاركتهم في ذلك ، وأنه كقوله في الحديث : " أحاسنكم أخلاقاً " ولم يذكره المصنف رحمه الله تعالى لأنه على خلاف القياس لكن كونه جمع رذل أيضا مخالف للقياس ، ولذا قيل إنه جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع ، وقد وقع في بعض النسخ أرذل بضم الذال ، وفتح الهمزة جمع رذل فيكون جمع جمع ، وهو الأصح رواية ودراية ، وكأن الأخرى من تحريف النساخ. قوله : ( ظاهر الرأي من غير تعمق من البدوّ الخ ) قرأه أبو عمرو بالهمزة ، والباقون بالياء فأمّا الأوّل
فمعناه أوّل الرأي بمعنى أنه صدر من غير روية ، وتأمّل أوّل وهلة وأمّا الثاني فيحتمل أن أصله ما تقدم ، ويحتمل أن يكون من بدا يبدو كعلا يعلو علوّاً ، والمعنى ظاهر الرأي دون باطنه ، ولو ئؤمل لعرف باطنه وهو في المعنى كالأوّل ، وعلى كليهما هو منصوب على الظرفية ، والعامل فيه قيل نراك أي ما نراك في أوّل رأينا أو فيما يظهر منه ، وقيل اتبعك ، ومعناه؟ في أوّل رأيهم أو ظاهر. وليسوا معك في الباطن أو اتبعوك من غير تأمّل وتثبت ، وقيل العامل فيه أراذلنا ، والمعنى أنهم أراذل في أوّل النظر ، وظاهره لأنّ رذالتهم مكشوفة لا تحتاج إلى تأمل وفيه وجوه اخر مفصلة في الدر المصون. قوله : ( وانتصابه بالظرف على حذف المضاف الخ ) قد علمت أنه إذا كان ظرفا ما ناصبه لكنه قيل إنّ نصبه على الظرفية يحتاج إلى الاعتذار عنه فإنه فاعل ليس يظرف في الأصل فقال مكيّ إنما جاز في فاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل كقريب ، وملىء لإضافته إلى الرأي ، وهو كثيرأ ما يضاف إليه المصدر الذي(5/89)
ج5ص90
يجوز نصبه على الظرفية نحو أمّا جهد رأيك فإنك منطلق ، وقال الزمخشريّ : أصله وقت حدوث أوّل رأيهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقيل إنّ بادي مصدر على فاعل منصوب على المفعولية المطلقة ، والعامل فيه ما تقدم وفيه وجوه أخر ذكرها المعرب ، وقيل على تقدير المصنف ، والزمخشري أنّ تقدير الوقت ليكون نائباً عن الظرف فينتصب على الظرفية ، وأمّا تقدير الحدوث فلا داعي له على تفسيري بادي أمّا إذا كان بمعنى أوّل فلأنّ وقت أوّله هو وقت حدوثه ، وأئا إذا كان بمعنى ظاهر فوقت ظاهر الرأي ، وان اتسع وقت لاتباعهم ، وقد عرفت مما مرّ أنّ اسم الفاعل لا ينوب عن الظرف وينتصب ، والمصدر ينوب عنه كثيرأ فأشاروا بذكره إلى أنه متضمن معنى الحدوث في معنييه فلذا جاز فيه ذلك ، وليس مرادهم أنه محذوف ، وما ذكرو. هنا من أنّ الصفات لا ينوب منها عن الظرف إلا فعيل من فوائدهم الغريبة ، وعليهم الاعتماد فيه لكنه غير مسلم لأنّ فاعلاً وقع ظرفا كثيرا كفعيل فإن من أمثلته خارج الدار ، وباطن الأمر وظاهره ، وهو كثير في كلامهم فإن قلت ما ذكر. المصنف رحمه الله تعالى يشكل بأنّ ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا إذا كان مستثنى منه نحو ما قام إلا زيدا القوم أو مستثنى أو تابعا لأحدهما كما فصله المعرب ، وغيره فلذا تكلفوا لاعرابه وجوها قلت قالوا إنه يغتفر ذلك في الظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره ، والرأي جوّزوا فيه هنا أن يكون من رؤية العين أو من الفكرة والتامّل. قوله : ( وإنما استرذلوهم لذلك ) أي عدّوهم أراذل
لسرعة اتباعهم وزعمهم أنّ ذلك وقع منهم من غير تأمّل أو لفقرهم لأنهم لا يعرفون إلا الشرف الظاهر من أمور الدنيا ، وهذا هو الوجه وألاحظ اكثر حظاً وقوله : لك ولمتبعيك أدخل نوحا عليه الصلاة والسلام معهم لأنّ الخطاب أوّلأ معه فيكون تأكيداً لنفي الأفضلية عنه لسبقه في قوله ما نراك وهو تغليب ، وقيل الخطاب لاتباعه فقط فيكون التفاتا ويؤهلكم بمعنى يجعلكم أهلاً لذلك واياك واياهم بدل من مفعول نظنكم في النظم ، وقوله فغلب أي في الموضعين وقوله أخبروني تقدم تحقيقه ، وأنّ الرؤية فيه يجوز أن تكون بصرية ، وقلبية وقد جوّزهما الزمخشري لأنّ كلاَ منهما سبب للأخبار ، وأرأيتم متعلق بأنلزمكموها ، وقيل بطلب البينة يعني على أن يكون من التنازع هنا ، وأعمل الثاني فلا وجه لما قيل إنّ هذا بحسب الأصل ، وأمّا هنا فهو متعلق بأنلزمكموها لأنّ القائل بهذا يجعلها جملة مستأنفة أو مفعولاً ثانياً كما صرّحوا به ، وجواب إن كنت محذوف أي فاخبروني ، وفسر البينة بالحجة ، والبرهان كما مرّ ، وقوله بايتاء البينة أي السابقة ، والمراد البينة : المؤتاة فهو من إضافة الصفة للموصوف كما ستراه في توجيه توحيد الضمير ، والحجة المعجزة الدالة على نبوّته عتي!. قوله : ( فخفيت عليكم فلم تهدكم الخ ( يعني أنّ عماء الدليل بمعنى خفائه مجازاً فيقال حجة عمياء كما يقال مبصرة للواضحة وهو استعارة تبعية شبه خفاء الدليل بالعمى فان كلا منهما يمنع الوصول إلى المقاصد ويجوز أن يكون استعارة تمثيلية بأنّ شبه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك مفازة لا يعرف طرقها ، واتبع دليلاً أعمى فيها ، والظاهر من عبارة المصنف الأوّل ، وأمّا ادعاء القلب ، وأن أصله عميتم عنها فيأباه ذكر على دون عن مع أنه ليس بحسن هنا. قوله : ( وتوحيد الضمير لأنّ البينة الخ ا لما ذكر البينة والرحمة كان الظاهر فعميتا فوجهوه بأن الرحمة هنا هي البينة على تفسيره الأوّل بإيتاء البينة أي البينة المؤتاة كما مرّ أو هو تفسير لقوله : { وَآتَانِي رَحْمَةً } لكنه عبر بالمصدر أو الضمير للبينة أي المعجزة ، والرحمة النبوّة وخفاؤها أي البينة يستلزم خفاء المذعي فلذا اكتفى به وجملة ، وآتاني رحمة على هذا معترضة أو الضمير للرحمة ، وفي الكلام مقدّر أي خفيت الرحمة بعد خفاء البينة ، وما يدلّ عليها وحذف هذا للاختصار ، وقيل : إنه معترض في المعنى دون تقدير ، وكلام المصنف رحمه اللّه تعالى ظاهر في الأوّل أو الضمير لهما بتأويل كل واحدة منهما ، وفي الكشاف وجه آخر وهو أن يقدر عميت بعد لفظ البينة وحذف للاختصار ، وعدل عنه المصنف رحمه الله تعالى لأنه رآه مع أنه تقدير جملة ، وهذا مفرد تقديراً
قبل الدليل ، ولم يقدر في الوجه الأوّل لعدم الاحتياج إليه على أنّ كلام المصنف رحمه الله تعالى محتمل له أيضاً ، وحمله عليه بعض فضلاء العصر(5/90)
ج5ص91
وقوله على أنّ الفعل لله ، أي في القرإءتين ، وقد قرىء بالتصريح به فهو يدلّ على هذا. قوله : ( أنلزمكم على الاهتداء ( إشارة إلى ان نلزمكم بمعنى نقسركم ونكرهكم ، لأنّ المراد إلزام الجبر بالقتل ونحوه لا إلزام الايجاب لأنه واقع ، قيل. وذكر الاهتداء لأنه ليس في وسعه فلا يرد عليه ، أن المكره يصح إيمانه ويقبل عندنا إيمانه ، فيجاب بأنه لم يكن في دينهم ، وقيل : المعنى لو أمكنني الإلزام مع الكراهة فعلته ، وروي عن قتادة. قوله : ( وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعاً وقدّم الأعرف ) وهو ضمير المخاطب ، لأنه أعرف من الغائب كما بين في النحو ، وهذا أحد مذهبين في هذه المسألة ، وقيل : إنه يلزم الاتصال كما في هذه الآية ، ونسب لسيبويه ، ولو قدم الغائب وجب الانفصال ، فيقال : أنلزمها إياكم على الصحيح ، وأجاز بعضهم الاتصال ، واستشهد بقول عثمان رضي الله عنه : أراهمني حيث قدم ضمير الغائب على ضمير المتكلم الأعرف واتصلا ، وكان الواجب أراهم أياي. قوله : ( على التبليغ ( في الكشاف إنه راجع إلى قوله لهم { إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ } وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى أحسن مما ذكر ، وما قيل : إن ما ذكره الزمخشري مراده به ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى ، بعينه لا خصوص ذلك القول ، وأنّ قوله راجع إليه ، بمعنى متعلق به معنى خلاف الظاهر ، والجعل بضم فسكون ، ما يعطى في مقابلة العمل كالأجر المذكور في محل آخر. قوله : ( فإنه المأمول منه ) الضمير أن الله فيفيد الحصر ويطابق النظم ، أي ما أجر التبليغ ، أو ما مطلق الأجر إلا منه ، وليس الضمير الأوّل للأجر ، والثاني لله لفساد المعنى عليه ، إذ معناه أن الأجر هو المأمول من الله لا غير الأجر ، وهو لا يطابق المفسر فتدبر. وقوله : حين سألوا طردهم ، أي قالوا له اطردهم عنك لنؤمن بك استكافاً عن مجالستهم. قوله : ( فيخاصمون طاردهم عنده ( يعني فيعاقبه على ما فعل ، فهذه الجملة علة لعدم طردهم ، أو المعنى لا أطردهم فإنهم من أهل الزلفى عند الله ، المقرّبين الفائزين عند الله وهذا هو الشرف لا ما عرفتم ، وترك معنى آخر في الكشاف ، وهو أني لا أطردهم لأنّ إيمانهم ليس عن يقين وتفكر كما زعمتم ، لأني لا أعلم السرائر فليس عليئ إلا اتباع الظاهر ، وسيلقون ربهم فينكشف حالهم عنده من كونهم على ما زعمتم أو على خلافه ، وكان المصنف رحمه الله تعالى تركه لأنّ ما بعده لا يلائمه ، أو لأنه مبنيّ على أن سؤال الطرد
لعدم إخلاصهم في الإيمان لا لفقرهم ، وهو مرجوح عنده. وقوله : ويفوزون بقربه مستفاد من المقام ، والا فملاقاة الله تكون للفائز وغيره. قوله : ( بلقاء ربكم أو بأقدارهم ) وقريب منه قوله في الكشاف : أنهم خير منكم ، فالجهل بمعنى عدم العلم المذموم ، وهذا مناسب للوجه الثاني في قوله أوانهم الخ. وقوله : أو في التماص طردهم ، لم يذكر ما جهلوه في هذا الوجه لتنزيله منزلة اللازم وهو الظاهر ، وقيل : إن مفعوله مقدر عليه أيضاً ، أي تجهلون المحذور في التماس ذلك ، وهو خلاف الظاهر لكنه مناسب للوجه الأوّل ، وقوله : أو تتسفهون الخ فيكون الجهل بمعنى آخر ، وهو الجناية على الغير ، وفعل ما يشق عليه قولاً أو فعلاً ، وهو معنى شائع كقوله :
ألالايجلهن أحدعلينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
قوله : ( يدفع انتقامه ) يعني النصرة هنا مجاز عن لازم ، معناها وهو دفع الضررءذ معناها الحقيقي غير صحيح هنا والمثابة الخصال المجتمعة فيهم وتوقيف الإيمان ، أي جعل إيمانهم موقوفاً على طردهم ومعلقاً به لأنهم قالوا له إن طردتهم آمنا بك كما مرّ. قوله : ( خزائن ررّقه وأمواله حتى جحدتم فضلى ( هذ شروع في دفع الشبه التي أوردوها تفصيلا ، بعدما دفعها إجمالاً ، بقوله : أرأيتم الخ. فكأنه يقول : عدم اتباعي لنفيكم الفضل عني ، إن كان فضل المال والجاه فأنا لم أذعه ، ولم أقل لكم إنّ خزائن رزق الله وماله عندي ، حتى أنكم تنازعوني في ذلك وتنكروه ، وإنما وجوب اتباعي لأني رسول اللّه ، المبعوث بالمعجزات الشاهدة لما اذعيته. قوله : ( عطف على عندي خزائن اللّه الخ ا لما كان نفي القول يقتضي نفي المقول فالعطف على مقول القول المنفي منفيّ أيضا ذكر معه النفي المزيد لتأكيد النفي السابق ، والتذكير به ، ودفعاً لاحتمال أنه لا يقول إلا هذا المجموع ، فلا ينافي أن يقول أحدهما ، فالمعنى لا أقول أنّ عندي خزائن الله ، وأن عندي علم الغيب ، حتى(5/91)
ج5ص92
تكذبوني لاستبعاد ذلك ، وما ذكرت من دعوى النبوّة إنما هو بوحي وإعلام من الله مؤيد بالبينة فلا يرد ما قيل : إنّ كلمة لا تنافي عطفه على لا أقول بتقدير أقول بعدلاً. قوله : ) أي ولا أقول أنا أعلم الغيب ) كذا في الكشاف بإبراز ضمير أنا فقيل : إنّ أنا تأكيد للمستتر في أقول ، لا من باب التقؤى أو التخصيص ، وفي هذا التأكيد إظهار فائد تكرار ، لا لأنك إذا أكدت لإزالة احتمال المعية ، فقد أذنت أنك في الكلام محق على اليقين منه بعيد عن السهو والتجوّز ولو قلت إنه زاده ليظهر عطفه على الاسمية ، ويدفع احتمال عطفه على الفعلية لأنه الظاهر كان أوضح. قوله : ( حتى تكذبوني استبعاداً الما قلته من دعوى
النبوّة والإنذار بالعذاب ، فإنه بإعلام اللّه ووحيه ، والغيب ما لم يوج به ، ولم يقم عليه دليل ، وليس هذا كذلك ، وقيل : إنه غير ملائم للمقام ، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم حين اذعى النبوّة سألوه عن المغيبات وقالوا له : إن كنت صادقا فأخبرنا عنها فقال : أنا أذعي النبوّة بآية من ربي ، ولا أعلم الغيب إلا بإعلامه ، ولا يلزم أن يذكر ذلك في النظم ، كما أنّ سؤال طردهم كذلك ، ولا يخفى عليك أنه لا قرينة تدلّ على ما ذكره ، وأمّا طردهم فإن استحقارهم لهم قرينة على ذلك ، وقد صرّح به السلف رحمهم الله ، ومثله لا يقال من قبل الرأي. قوله : ( أو حتى أعلا أنّ هؤلاء أنبعوكي بادىء الرأي من غير بصيرة ولا عقد قلب ) قيل : ظاهر. أنّ المراد أنهم آمنوا نفاقاً فعلى هذا يكون المراد من قولهم بادي الرأي بادي رأي من يراهم ، وليم يذكر هذا الاحتمال ، ويجوز أن يكون المراد عقداً جازما ثابتا كأنّ ما سواه ليس بعقد ، وردّ بأن المراد بالبصيرة وعقد القلب اليقين ، والاعتقاد الجازم ، وهو شامل للوجهين في بادىء الرأي لا مغاير لهما ، كما توهمه هذا القائل ، ولا يخفى أنّ هذا صيد من المقلي ، فإنه الوجه الثاني الذي ذكره بقوله ويجوز الخ وما ذكر. أوّلاً بناء على الظاهر من عقد القلب ، فإنّ ربط القلب بالشيء اعتقاد له ، وعدمه هو النفاق ، ولا شك أنه لم يسبق له ذكر. قوله : ( وعلى الثاني يجوز عطفه على أقول ) كما يجوز عطفه على المقول ، وأمّا على التفسير الأوّل فيتعين الثاني ، وفيه نظر. قوله : ( حتى تقولوا ما أنت إلا بشر مثلنا ا لا يخفى أنّ هذا مبنيّ على الوجه الثاني المذكور في الكشاف في تفسير قوله : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا } [ سورة هود ، الآية : 27 ] وقد مرّ أنّ المصنف رحمه الله تعالى لم يعرّج عليه ، ولم يرتضه لابتنائه على الاعتزال ، ومنه تعلم ما في الكشف من النزاع في الابتناء ، فإنه إنما فسره به لاقتضاء النظم له وتوصيفه هنا بالبشرية صريح فيه ، إلا أن يقال قوله سابقا لا مزية لك علينا ، شامل للوجهين ، فإنّ المزية المقتضية لوجوب طاعته ، بأن يحوز كمالات جنسهم ، أو بأن يكون من جنس آخر أفضل منهم ، ولا مانع من ذلك في كلامه ، فهذا يعين إرادته فيما مر ، وأما جعل هذا كلاما آخر وليس ردّا لما قالو. سابقاً فلا وجه له. قوله : ( في شأن من استرذلتموهأ ) إشارة إلى أن اللام ليست للتبليغ بل للأجل ، والا لقيل لن يؤتيكم ، وأن الإسناد للأعين مجاز كما سيأتي ، وأنّ العائد محذوف ، وأنّ الازدراء وقع ، والتعبير بالمضارع للاستمرار أو لحكاية الحال ، وقوله : فإن ما أعد الله الخ ولا يبعد أن يراد به خير الدنيا والآخرة ، إذ المال غاد ورائح ، وقد أورثهم الله أرضهم وديارهم بعد غرة! م ، وقوله : إن قلت تفسير لإذا لأنها جواب وجزاء كما مرّ ، وقوله : لتجانس الراء في الجهر فإن التاء مهموسة.
قوله : ( واسناده إلى الآعين للمبالنة والتنبيه على أنهم استرذلوهم ) المبالغة من اسناده للحاسة التي لا يتصور منها تعييب أحد فكان من لا يدرك ذلك يدركه ، وأمّا التنبيه على أنه بمجرّد الرؤية فظاهر من جعل الازدراء لمجرّد تعلق البصر من غير تفكر وتأمّل ، وقوله : بادي الرؤية من غير روية مطابق لقوله : { مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } [ سورة هود ، الآية : 27 ] أحسن مطابقة مع ما بين الرؤية والروية من التجنيس ، وفيه إشارة إلى أنّ الرأي يجوز أن يكون بمعنى الرؤية كما مرّ ، وبما عاينوا الخ. كالتفسير لقوله بادىء الرأي من غير روية ، وقوله : وقلة منالهم أي ما يصلح حالهم من المال من النوال ، وهو الصلاح للحال ، قال : عجزت وليس ذلك بالنوال لا من النوال بمعنى العطاء ، وقوله : في معانيهم وكمالاتهم ، أي في المعاني التي كملوا بها كالإيمان والتسليم للحق والمسارعة إليه ، فإن كانت الرواية ، معايب من العيب فالمعنى التأمّل في أحوالهم الناقصة والكاملة ، فيفرقون بين ذلك لتمييزهم بين ما يعابون به من غيره. قوله : ( فأطلتة أو أتيت بأنواعه )(5/92)
ج5ص93
فالمراد بقوله جادلتنا شرعت في جدالنا فأطلته ، أو أتيت بنوع من أنواع الجدال فأعقبته بأنواع فالفاء على ظاهرها ، وفيه إشارة إلى أنه لا حاجة إلى تأويل جادلتنا بأردت جدالنا كقوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ } [ سورة النحل ، الآية : 98 ] كما في الكشاف. وقال المدقق : إنه عبارة عن تماديه في الجدال ، يعني مجموع ما ذكر كناية عن التمادي والاستمرار ، والحامل له عليه عطف فأكثرت بالفاء. قوله : ( في الدعوى والوعيد ) أي في دعوى النبوّة والوعيد بنزول العذاب ، قيل لا حاجة إلى الأوّل ، إذ المعنى إن صدقت في حكمك بلحوق العذاب إن لم نؤمن بك ، وما في ما تعدنا مصدري أو موصولة ، والعائد مقدر أي تعدناه. قوله : ) بدفع العذاب أو الهرب ( أعجزه بمعنى صيره عاجزاً ، والعجز إمّا بالدفع أو بعدم وجود المعذب ، وكلاهما محال هنا. قوله : ) شرط ودليل جواب الخ ) الشرط هو قوله إن أردت أن أنصح لكم ، دليل الجواب هو قوله : ولا ينفعكم نصحي ، ومجموع قوله : ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ( دليل على جواب الشرط الآخر ، وهو قوله : { إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } وفي الكشاف قوله : ( { إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } ) جزاؤه ما دلّ عليه قوله : لا ينفعكم نصحي ، وهذا الداذ في حكم ما دلّ عليه ، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك : إن أحسنت إليّ أحسنت إليك ، أن أمكنني ، يعني أنّ ما تقدم جزاء حكما لا
لفظاً ، فقيد بشرط آخر ، كما قيد صريح الجزاء ، لأنّ التقييد من مقتضيات معنى الجزاء لا لفظه ، وحينئذ جاز أن يكون قيدا للجزاء المجرّد ، فيتعلق الشرط الأوّل بالجزاء معلقا على الثاني ، ويحتمل العكس ، فليس ما ذكر بناء على قواعد الشافعية على ما توهم ، ثم إن كان أحد الشرطين لا ينفك عنه الجزاء أو الشرط الأوّل ، فهو لتحقيق المرام وتأكيده ، كما فيما نحن فيه ، وقول القائل : إن دخلت الدار ، فأنت طالق إن كنت زوجتي ، والا فهو لتقييد الجزاء على أحد الوجهين والذي حققه النحاة ، كما في شرح التسهيل لابن عقيل رحمه الله : أنه إذا توالى شرطان فأكثر كقولك إن جثتني ، إن وعدتك أحسنت إليك ، فأحسنت إليك جواب إن جثتني ، واستغنى به عن جواب إن وعدتك ، وزعم ابن مالك أنّ الشرط الثاني مقيد للأوّل بمنزلة الحال ، وكأنه قال : إن جئتني في حال وعدي لك ، والصحيح في هذه المسألة أنّ الجواب للأوّل ، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الأوّل وجوابه عليه ، فإن قلت إن دخلت الدار إن كلمت زيداً إن جاء إليك فأنت حرّ ، فأنت حرّ جواب إن دخلت ، وان دخلت وجوابه دليل جواب إن كلصت ، وان كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء ، والدليل على الجواب جواب في المعنى ، والجواب متأخر فالشرط الثالث مقدم ، وكذا الثاني ، وكأنه قيل : إن جاء فإن كلمت ، فإن دخلت فأنت حرّ فلا يعتق إلا إذا وقعت هكذا مجيء ثم كلام ثم دخول ، وهو مذهب الشافعيّ رحمه الله ، وذكر الجصاص أنّ فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ، وليس مذهب الشافعيّ فقط والسماع يشهد له قال :
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معا قد عزز إنها كرم
وعليه فصحاء المولدين ، وقال بعض الفقهاء : الجواب للأخير ، والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني ، والشرط الثاني وجوابه جواب الأوّل ، وعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء ، وقال بعضهم : إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب ، وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف ، فإن عطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين ، نحو إن جئتني أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك ، وان كان بالواو فالجواب لهما ، وإن كان بالفاء فالجواب للثاني ، وهو وجوابه جواب الأوّل ، فتخرج الفاء عن العطف ، وهذا مقرّر في كتب الفقه والنحو ولا كلام فيه ، وإنما الكلام في كون هذه الآية من ذلك القبيل ، فجعلها المصنف رحمه الله تعالى كغيره منه فعليه لا فرق بين تقدم الجواب وتأخره عته ، واستشكله ابن هثام في المغني بأنه لم يتوال فيها شرطان بعدهما جواب ، وكلام النحاة فيه ، والبيت السابق فيما كان ذلك ، وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للأوّل ، فينبغي أن يقدر إلى جنبه ، ويكون تقديره أن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان اللّه يريد أن يغويكم ، وأمّا أن يقدّر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدّما إلى جانب الشرط الأوّل فلا وجه له فعليه يختلف حكم المسألة والتوسط والتأخر ، وله رسالة في هذه(5/93)
ج5ص94
المسألة مستقلة. والسؤال الذي أورده يرد على
المصنف رحمه الله تعالى ، لكنه مدفوع ، أمّا إن قلنا بجواز تقدم الجواب كما هو مذهب الكوفيين فظاهر ، وان لم نقل به أيضاً فالمقدر في قوّة المذكور ، والكثير في توالي شرطين بدون عاطف تأخره سماعا فيقدر كذلك ، ويجري عليه حكمه فتأمّل ، فليكن ما نحن فيه مما اختلف فيه الفقهاء على ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى ، وحاصله كما قال العلامة : إن قوله : ( { إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } ) شرط جوابه محذوف يدل عليه لا ينفعكم نصحي ، وهذا الدال في حكم المدلول عليه وهو الجزاء ، أي هذا الدال هو الذي يقدر جزاء ، حتى يكون التقدير إن كان الله يريد أن يغويكم لا ينفعكم نصحي ، لكن هذا الجزاء ليس مطلقاً بل مقيدا بشرط ، وهو إن أردت أن أنصح لكم ، فحاصل التقدير إن كان الله يريد أن يغويكم لا ينفعكم نصحي ، إن أردت الخ. والحاصل أنّ المصنف رحمه الله تعالى جعل قوله لا ينفعكم دليل الجواب على امتناع تقدّمه ، وهو الأصح والجملة كلها جواب الثاني ، فيكون الكلام متضمنا لشرطين مختلفين ، أحدهما جواب للآخر ، وجعل المتأخر في الذكر متقدما في المعنى ، بناء على أنه إذا اعترض شرط على شرط ، ولا عاطف كان الثاني في نية التقديم ، وهي المسألة المختلف فيها بين الفقهاء ، وجعل جار اللّه لا ينفعكم دليل جواب إن كان الله ، وجعل إن أردت قيدأ للجواب على ما قيل إنه مراده ، فهي عنده شرطية واحدة مقيدة ، فليس نظير المسألة المذكورة ، وفائدة التقييد عنده ظاهرة ، فلا وجه ل!ما قيل إنه لا فائدة فيه على ما ذهب إليه.
قوله : ( ولذلك نقول الخ ) قال الإمام هذا الشرط المؤخر في اللفظ مقدّم في الوجود ، فإذا
قال الرجل لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار ، كان المفهوم منه أنّ ذلك الطلاق من لوازم الدخول ، فإذا قال بعده إن أكلت الخبز كان المعنى على أنّ تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأوّل ، مشروط بحصول هذا الشرط الثاني ، والشرط مقدم على المشروط في الوجود ، فعلى هذا إن حصل الشرط الثاني تعلق الجزاء بذلك الشرط الأوّل ، وان لم يحصل الثاني لم يتعلق الجزاء بذلك الشرط الأوّل. قوله : ( وهو جواب لما أوهموا الخ ) الإيهام مأخوذ من قوله أكثرت جدالنا ، فأجابهم بما حاصله إنّ كلامي نصح وارشاد ، لا أنه كلام بلا فائدة ، يكون المقصود منه مجرّد الجدال ، وإنما لم يفد لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد إضلالكم ليهلككم ، وقوله : إن أردت أن أنصح لكم ، أن أبقى على الاستقبال لا ينافي كونه نصحهم في الماضي ، وقيل : إنه مجاراة لهم لاستظهار الحجة لأنهم زعموا أنه ليس بنصح إذ لو كان نصحا قبل منه. قوله : ( وهو دليل على أن إرادة اللّه تعالى الخ ) هو رذ لمذهب المعتزلة ، ولقول الزمخشري إنّ الإغواء قبيح لا يصح أن يصدر عنه تعالى ، ولا يريده وان وقع نحوه بدون الإرادة منه ، لكنه قيل عليه
إنّ الشرطية لا تدلّ على وقوع الشرط ، ولا جوازه فلا يتم الاستدلال به ولا يحتاج إلى التأويل الآتي ، ودفع بأن المقام ينبو عنه لعدم الفائدة في مجرّد فرض! ذلك ، فإن أرادوا إرجاعه إلى قياس استثنائيّ ، فإمّا أن يستثني عين المقدم فهو المطلوب ، أو نقيض التالي فخلاف الواقع لعدم حصعول النفع. قوله : ( وأنّ خلاف مراده محال ) أي بالغير لا بالذات ، وإلا لم تصدق الشرطية الدالة على لزوم الجواب للشرط ، قيل ولو قال : بدل هذا وأنّ مراده لا يتخلف عن إرادته ، كان أظهر لقولهم إيمان الكافر مراده تعالى ، وخلاف مراده نفع النصح لهم ، وان كان صريح النظم أنّ الإغواء مراده ، لأنّ عدم نفعه لازم للإغواء ، وارادة الملزوم إرادة للازمه. قوله : ( وقيل إن يغويكم أن يهلككم الخ ( هذا من تفاسير المعتزلة للجواب عن مخالفة الآية لمذهبهم ، فتارة قالوا المراد هذا ، وتارة قالوا سمي ترك إلجاء الكافر وتخليته ، وشأنه إغواء ، وكلاهما مخالف للظاهر المعروف في الاستعمال ، وغوى بكسر الغين وفتح الواو كرضي رضا كما في القاموس ، والبشم كالتخمة من كثرة شرب اللبن ، والفصيل ولد الناقة ، ومنهم من جوّز أن يكون إن نافية ، فتدل على مدعي المعتزلة ، ولا ينبغي حمل كلام الله عليه لبعده. قوله : ( خالقكم والمتصرّف فيكم وفق إرادته ( أي على وفق إرادته فهو منصوب بنزع الخافض ، ووفقها ما يوافقها ، والرب بمعنى الخالق والمربي ، والتصرّف المذكور لازم لمعناه ، فلذا فسر بما ذكر ، ولم يرد أنّ الإغواء من تصرّفاته الموافقة لإرادته ، حتى يتوهم أنه جبريل إنه علم عدم استعدادهم ، واختيارهم استواء الطريقين على وفق الإرادة التي لا يتخلف عنها شيء ، كما زعمت المعتزلة ، وقوله فيجازيكم(5/94)
ج5ص95
قد مز تحقيقه. قوله : ( { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } وباله ( يعني أنه على تقدير مضاف ، أو على التجوّز به عن مسببه ، والافتراء المفروض هنا ماض ، والشرط يخلص للاستقبال ، فينبغي أن يقدر فيه ما يكون مستقبلا ، فلذا قيل تقديره إن علمتم أني افتريته ، لكن الجزاء لا يترتب على علمهم بل على الافتراء نفسه ، ودفع با! العلم يستدعي تحققه لا محالة ، فصح لترتب عليه بهذا الاعتبار وفيه نظر ، وقوله : وقرئ إجرامي اًي بفتح الهمزة جمع جرم. قوله : ) من إجرامكم في إسناد الافتراء إلئ ) فيه إشارة إلى أن أصله إن افتريته فعليّ عقوبة افترائي ، ولكنه فرض محال وأنا بريء من افترائكم ، أي نسبتكم إياي إلى الافتراء ، وعدل عنه إدماجا لكونهم مجى !!! ، وأن المسألة معكوسة ، والظاهر أن هذا من تتمة قصش نوج عليه الصلاة والسلام وفي ش- !ا- ، وعليلأ الجمهور ، وعن مقاتلى إنه في شأن النبي ، ولا يخفى
بعده ، وان قيل إنه أنسب ، وجعل ما مصدرية لما في الموصولة من تكلف حذف العائد المجروو ، وهو المناسب لقوله : إجرامي قبله. قوله تعالى : ( { إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } ) هذأ استثناء متصل والمراد إلا من استمرّ على الإيمان ، لأن للدوام حكم الحدوث ، ولذا لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال حنث عندنا ، وقيل المراد إلا من قد استعذ للإيمان ، وتوقع منه ، ولا يراد ظاهر. ، والا كان المعنى إلا من قد آمن ، فإنه يؤمن ، وأورد عليه أنه مع بعده يقتضي أنّ من القوم من آمن بعد ذلك ، وهو ينافي تفنيطه من إيمانهم ، ولو قيل : إن الاستثناء منقطع ، وانّ المعنى لا يؤمن أحد بعد ذلك غير هؤلاء ، لكان معنى بليغا فتدبره ، وتبتشى افتعال من البؤس ، وهو حزن في استكانة ، ويقال : ابتأس إذا بلغه ما يكرهه ، فلذا فسره بقوله ونهاه الخ. والإقناط من قوله لن يؤمن ، لأنّ لن لتأكيد النفي. قوله : ( ملتبساً بأعيننا الخ ( يشير إلى أنّ الجارّ والمجرور حال من الفاعل ، وأنّ الباء للملابسة ، أي محفوظا ، قيل : والملابسة للعين كناية عن الحفظ ، والأعين للمبالغة فيه ، كما أنّ يسط اليد كناية عن الجود ، وبسط اليدين كناية عن المبالغة فيه ، وقيل الأعين هنا بمعنى الرقباء ، وإنه تجريد على حذ قوله :
وفي الرحمن للضعفاء كافي
لأنه تعالى هو الرقيب ، وردّ بأن العين هنا بمعنى الجارحة ، وهي جرت مجرى التمثيل ، وليس من التجريد في شيء ، وليس المعنى على الرقباء هنا ، وكأنّ التوهم نثأ من قوله في تفسيره في سورة المؤمنين ، كأنّ مع الله حفاظا يكلؤنه بعيونهم ، وهذا عليه لا له ، لأنه إنما نبه به على فائدة جمع الأعين ، وليس فيه أنّ الحافظ هو اللّه بنفسه ، أو بمن نصبه لذلك ، وقد صرّج به في الطور ، والاستعارة فيه من الجارحة ، والجمع للمبالغة ، وقال في الطور إنه لذكر ضمير الجمع معه هناك فهو وجه آخر ، ولا منافاة بين الوجوه ، وأمّا ما قيل إنّ كلامه يقتضي أنه مجاز مرسل لاستعمال الجارحة في لازمها ، وهو الحفظ فلا وجه له ، لأنه بيان لوجه الشبه والمناسبة بينهما ، وقوله : بكثرة آلة الحس أي تعدّدها لأنه جمع قلة ، أو لأنه لما أضيف أفاد الكثرة لانسلاخ معنى القلة بها عنه. قوله : ( كيف تصنعها ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لم يدر كيف يصنعها ، فأوحى اللّه إليه أن تصنعها مثل جؤجؤ الطائر ، أي صدره ، وقوله : ولا تراجعني إشارة إلى أنّ النهي عن المخاطبة مبالغة في النهي عن المراجعة في أمرهم بخطاب أو
غيره ، وقوله محكوم الخ لأنه المحقق في الحال ، لأنّ الإغراق لم يقع ، فهو أبلغ لدفع الاستشفاع بعد النهي. قوله : ( وكلما مرّ عليه م! كل منصوب على الظرفية ، وما مصدرية وقتية ، أي كل وقت مرور ، والعامل فيه جوابه ، وسخروا صفة ملأ أو بدل اشتمال ، لأنّ مرورهم للسخرية. قوله : ( استهزؤوا به لعمله السفينة ) يقال سخر منه وبه وهزأ به ، ومنه واسناد الاستهزاء إلى نوح عليه الصلاة والسلام حقيقة ، وكذا إلى عمله ، وقيل إنه مجاز لأنه سبب الاستهزاء ، وقوله : فإنه كان يعملها ، بيان لسبب الاستهزاء ، قيل : إنهم قالوا له ما تصنع يا نوح لأل بيتا يمشي على الماء ، فتضاحكوا وسخروا منه ، والاستهزاء منهم حقيقة ، وفي نسخر منكم مشاكلة ، لأنه لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : إنه لجزائهم من جنس صنيعهم فلا يقبح ، ولذا فسر بعضهم السخرية بالاستجهال ، كما ذكره المصنف وهو مجاز لأنه سبب للسخرية ، فأطلقت السخرية وأريد سببها لكنه لا يناسب قوله كما تسخرون ، أو هو على هذا ضاكلة ، وقوله وقيل : معطوف على ما قبله بحسب المعنى ، وسوف تعلمون أي تعرفون ، ولذا(5/95)
ج5ص96
شدّى لواحد وهو من الموصولة ، وقيل إنها على أصلها والمفعول الثاني محذوف ، وقيل : من استفهامية والجملة معلق عنها ، وهي ساذة مسذ المفعول ، أو المقعولين على الوجهين. قوله : ( وينزل أو يحل عليه حلول الدين ( منصوب على أنه مصدر تشبي!يئ ، وهو بيان لأنه على التفسير افاني فيه استعارة تبعية ومكنية ، شبه حكم اللّه بغرقهم بالدين اللازم أداؤه ، وهو على الأوّل سقيقة ، والإسناد مجازيّ ، أي ينزل عليهم من السماء ما بغرقهم ويعذبهم به ، والعذاب على الأوّل دنيوفي ، وعلى الآخر أخروفي ، ويحتمل أنه في الأوّل أخروفي أيضا ، فيكون مجازاً ، وقوله دائم إشارة إلى أنّ الإقامة استعيرت للدوام. قوله : ) غاية لقوله ويصنع الفلك الخ ) أي هي ! ارة متعلقة به ، وإذا لمجرّد الظرفية ، وإذا كانت حتى ابتدائية فهي غاية أيضاً كما مرّ في الأنعام ، وقوله : وما بينهما حال ، كأنه جعل قالوا جواب كلما ، وسخروا متعلق بملا ، والا فلو كان سخروا جوابا كانت جملة قال استثنافية ، والحمل على التغليب بعيد ، واعترض بأنه على الثاني لا مدخل لقوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } فالمراد ما بينهما حال مع ما يتعلق به ، لأنّ المجموع حال ، وهو ناشئ من قلة التدبر لأنّ ما بعد قال بأسره من مقول القول ، الذي وقع جوابا ، !لكل جملة واحدة بمنزلة الكبرى ، وقوله : أو حتى هي التي يبتدأ الخ ، يعني أنّ إذا شرطية ، وحتى ابتدائية داخلة على الشرط ، وجوابه ، والجملة لا محل لها من الإعراب. قوله تعالى :
( { حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا } ) هو واحد الأوامر ، أي الأمر بركوب السفينة ، أو واحد الأمور وهو الشأن ، وهو نزول العذاب بهم ، وقلنا على الاحتمال الأوّل استئناف ، وعلى الثاني جواب إذا. قوله : ( نبع الماء منه وارتفع كالقدر الخ ) إشارة إيى أنه استعارة ، شبه خروج الماء بفوران القدر ، مع ما في إخراج الماء من التنور الذي هو محل النار من الغرابة ، والتنور كالفرن ما يوقد فيه النار للخبز ، وهو معروف قيل إنه كان تنورا لآدم يخبز فيه ، وهو من حجارة وكان عنده ، وقيل : غير ذلك كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ، واختلف فيه وفي ماذته ، فقيل : إنه عربيئ ووزنه تفعول من النور ، وأصله تنوور ، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ، ثم حذفت تخفيفا ، ثم شددت النون عوضا عما حذف ، وهذا القول نقل عن ثعلمب ، وقال أبو علي الفارسيّ وزنه فعول ، وقيل : على هذا إنه أعجمي ولا اشتقاق له ، ومادّته تنر ، وليس في كلام العرب نون قبل راء ، ونرجس معرب أيضا ، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون ، وقوله : في موضع مسجدها على يمين الداخلي مما يلي باب كندة ، ذكره في سورة المؤمنين ، وقوله : بعين وردة بمنع الصرف لأنه علم لها ، وقوله : من أرض الجزيرة ، يعني الجزيرة العمرية ، وسيأتي في المؤمنين إنه بالشأم ، فحمل على اختلاف الرواية ، وقوله : أشرف أي أعلى من الشرف ، وهو مرتفع الأرض ، وقوله : في السفينة يشير إلى أنه أنث ضمير الفلك لأنه بمعنى السفينة. قوله : ( من كل نوع الخ ) يشير إلى أنّ التنوين عوض عن المضاف ، أو هو بيان للمعنى المراد ، وفي الكشاف ما يقتضي أنه حمل الوحوس والهوام وغيرها ، وقراءة العافة ب ضمافة كل لزوجين ، وقرأها حفص بالتنوين ، فعلى الأوّل اثنين مفعول احمل ، ومن كل زوجين حال ، وقيل من زائدة واثنين نعت مؤكد لزوجين بناء على جواز زيادتها في الموجب ، وعلى قراءة حفص زوجين مفعول ، واثنين نعت مؤكد له ، ومن كل حال أو متعلق باحمل ، وقوله ذكرا وأنثى تفسير لزوجين ، والزوج هنا احمواحد المزدوج بآخر من جنسه ، لا مجموع الذكر والأنثى ، والا لزم أن يحمل من كل ص كف أربعة أصناف ، وهو أحد معنييه كما بيناه في شرح الدرّة ، وزوجين على الأوّل بمعنى ؤهـ ت بت ، وعلى الثاني بمعنى صنفين ، وقوله عطف على زوجين اي على القراءة الأولى : وعلى اثت 3يئ على الأخرى. قوله : ) والمراد امرأته! أي المسلمة
لا الكافرة المغرقة ، وبنوه أي منها ونساؤهم فأهله سبعة ، وكنعان قيل كان اسمه يام وهذا لقبه عند أهل الكتاب ، وواعلة بوزن فاعلة بالعين المهملة زوجته الكافرة ، وضمير أمّه لكنعان ، وهذا يدلّ على أن الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وسلم يحل لهم نكاح الكافرة ، بخلاف نبينا!ير لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ } [ سورة الأحزاب ، الآية : 50 ] الآية. قوله : ( قيل كانوا تسعة وسبعين ) فالكل مع نوح عليه الصلاة والسلام ثمانون وهي الرواية الصحيحة وقيل : سبعة ويرذه عطف من آمن إلا أن يكون الأهل ، بمعنى(5/96)
ج5ص97
الزوجة فإنه ثبت بهذا المعنى ، وهو خلاف الظاهر ، وقوله : في سنتين ، وقيل في أكثر من ذلك ، والساج شجر عظيم يكثر بالهند ، وقيل إنه ورد في التوواة إنها من الصنوبر ، وقوله : وكان طولها الخ. وفيه أقوال ، والأقوال متفقة على أنّ سمكها ئلاثون ، والمراد بالذراع ذراع ابن آدم إلى المنكب كما ذكره القرطبيّ رحمه الله تعالى ، وقوله وجعل لها ثلاثة بطون الخ ، وقيل الطبقة السفلى للوحش ، والوسطى للطعام ، والعليا له ولمن أمن. قوله : ( { وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا } ) أي تال نوح عليه الصلاة والسلام بدليل قوله : { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقيل الضمير دلّه ، وضمير الجمع لمن معه ، وفيها متعلق باركبوا وتعديته بفي لأنه ضمن معنى ادخلوا وقيل تقديره اركبوا الماء فيها ، وقيل : في زائدة للتوكيد ، والمصنف رحمه الله تعالى اختار أن تعديته بها لأنه مجاز عن معنى الصيرورة ، ولم يجعله تضمينا لأنّ الركوب ليس بحقيقيئ ، فيلزم جمع التضمين والتجوّز وما ذكره أقرب ، وقوله : جعل ذلك ركوباً يشير إلى أنّ فيه استعارة تبعية ، لتشبيه الصيرورة فيها بالركوب ، وقيل : الاستعارة مكنية. قوله : ( متصل باركبوا حال من الواو ( بيان لوجه اتصاله به ، والباء للملابسة وملابسة اسم الله بذكره ولذا فسره بقوله ة مسمين الله ، أو الحال محذوفة وهذا معمولها ساذ مسدّها فلذا سموه حالاً ، أي قائلين باسم الله ، ومجراها ومرساها معمول الاستقرار الذي تعلق به الجارّ والمجرور على الأوّل ، ومعمول قائلين وهي حال مقدرة أو مقارنة ، بناء على أن الركوب المأمور به ليس أحداثه بل الاستمرار عليه. قوله : ) وقت إجرائها وإرسائها الخ ( جوّزوا فيه أن يكون اسم زمان أو مكان ، أو مصدرأ ميميأ ، وعلى الأخير يقدر مضاف محذوف وهو وقت ، ولما حذف سد
هذا مسده وانتصب وهو كثير في المصادر ، وتمثيله بخفوق أي الطلوع أو الغروب أحسن من تمثيل الزمخشريّ بمقدم الحاج ، لاحتماله غير المصدرية ، وقوله بما قدرناه يعني متعلق الجارّ والمجرور ، أو قائلين ولا يجوز نصبه باركبوا إذ ليس المعنى على اركبوا في وقت الإجراء والإرساء ، أو في مكانهما ، وإنما المعنى متبركين أو قائلين فيهما. قوله : ( ويجورّ رفعهما الخ ) أي رفع المصدرين بالظرف لاعتماده على ذي الحال ، وهو ضمير اركبوا فهي حال مقدرة على ما مرّ ، وأمّا كونها من ضمير فيها فلا قرينة في كلامه عليه ، ومن زعم أنه مراده وأنه حمله على الصلاح فما أفسده أكثر مما أصلحه ، وقوله : أو جملة عطف على ما قبله بحسب المعنى ، والخبر المحذوف تقديره متحقق ونحوه ، وقوله : جملة مقتضية على صيغة المفعول ، أي مستأنفة منقطعة عما قبلها لاختلافها في الخبرية أو الإنشائية ، فقوله : لا تعلق لها بما قبلها تفسير له ، وأصل الاقتضاب في اللغة الاقتطاع ، ويطلق في اصطلاح المعاني على الانتقال من الغزل إلى المدح من غير تخلص. قوله : ( أو حال مقدّرة من الواو أو الهاء ) المراد بالهاء ضمير فيها العائد على السفينة ، وقد اعترض عليه بأمرين ، الأوّل أنّ الحال إنما تكون مقدّرة إذا كانت مفردة كمجراة ، أمّا إذا كانت جملة فلا ، لأنّ الجملة معناه اركبوا وباسم الله إجراؤها ، وهذا واقع ، وردّ بأنا لا نسلم أنه واقع حال الركوب وإنما يكون كذلك لو لم تكن حالاً مقدرة ، وهذا ناشئ من عدم الوقوف على مراده ، لأنهم ذكروا أنّ الفرق بين الحال إذا كانت مفردة ، وجملة أنّ الثانية تقتضي تحققه في نفسه وتلبسه بها ، وربما أشعرت بوقوعها قبل العامل ، واستمرارها معه كما إذا قلت جاءني وهو راكب فإنه يقتضي تلبسه بالركوب واستمراره عليه ، وهذا يتمادى كونها منتظرة ، ولا أقل من أنه لا يحسن الحمل عليه حيث تيسر الإفراد ، وأمّا الجواب عنه بان الجملة في تأويل المفرد لعدم الواو ككلمته فوه إلى فيّ ، والمعنى اركبوا فيها مجراة ولا شك أنّ إجراءها لم يكن جمند الركوب فهي مقدرة ، فمع أنه لا يدفع ذلك على ما قرّرناه قد مرّ في سورة الأعراف ما يدل على عدم صحته ، الثاني أنه لا عائد على ذي الحال هنا إذا كان حالاً من الواو ، وتقديره فإجراؤها معكم أو بكم كائن باسم الله تكلف ، وأمّا كون الاسمية لا بد فيها من الواو فغير مسلم كما مرّ ، وما قاله الرضي من أنّ الجملة الاسمية قد تخلو من الرابطين ، عند ظهور الملابسة نحو خرجت زيد على الباب ، فضعيف في العربية لا ينبغي التخريج عليه.
تنبيه : قال الفاضل المحشي الحال المقدرة لا تكون جملة ، ومثله لا يقال بالرأي ، وكان وجهه أن الحال المفردة صفة لصاحبها معنى ، والجملة الحالية قد يكتفي فيها بالمقارنة ، نحو سرت(5/97)
ج5ص98
والشمس طالعة ، ويتصيد منها صفة ، كالسببية ، وفيه بحث ، فإنّ الجملة الحالية منها المقارنة ، ومنها ما هو بتأويل مفرد مأخوذ من مجموعها ، نحو كلمته فوه إلى فيّ ، أي مشافها ،
وضها ما هو من جزئها كبعضكم لبعض عدوّ ، أي متعادين ، ومنه ما نحن فيه ، فردّها مطلقا غير صلم. قوله : ( ويجورّ أن يكون الاسم مقحماً ) أي زائداً وفي الكشاف ويراد باللّه إجراؤها !رساؤها أي بقدرته وأمره ، أي على إرادة ذلك أو تقديره ، وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز الإقحام طى تقدير مسمين أو قائلين ، إذ لا يظهر معناه ، وهذا على تقدير المصدر ، وأمّا على تقدير ا!زمان والمكان فيكون من قبيل نهاره صائم ، وطريقه سائر ، وهذا التقدير يجوز تنزيله على كلام !احد ، وعلى كلامين. قوله : ( ثم اسم السلام عليكما ) إشارة إلى زيادة لفظ اسم في شعر لبيد العامري ، وهو قوله :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملافقد اعتذر
وقد مز تفصيله في أوّل الفاتحة. قوله : ( مجراها بالفتح من جرى الخ ( أي من الثلاثيّ والثلا!لة الزمان والمكان والمصدرية ، وقراءة مرساها بالفتح شاذة ، وقوله : صفتين لله ، قيل : مليه إنّ اسم الفاعل بمعنى المستقبل إضافته لفظية فهو نكرة ، لا يصح توصيف المعرفة به فهو يدل ، والقول بأنّ المراد الصفة المعنوية لا النعت النحويّ ، فلا ينافي البدلية بعيد. قوله : ( أي ك لا مغفرته لفرطاتكم الخ ) بيان لارتباطه بما قبله ، أي لولا مغفرته ورحمته ما نجاكم إيمانكم من الغرق ، فهي جملة مستأنفة بيان للموجب له ، وليس علة لأركبوا لعدم المناسبة له كما قيل ، وفيه أنه قال العلامة إنه علل به ، يعني بالنظر لما فيه من الإشارة إلى النجاة ، فكأنه قيل اركبوا النجيكم اللّه. قوله : ( متصل بمحذوف الخ ) في هذه الجملة ثلاثة أوجه ، أحدها أنها مستأنفة ، والحاني أنها حالية من الضمير المستتر في باسبم اللّه ، أي جريانها استقرّ باسم الله حال كونها ب رية ، والثالث أنها حال من شيء محذوف دل عليه السياق ، أي فركبوا فيها جارية ، والفاء المحقدّرة للعطف ، وبهم متعلق بتجري أو بمحذوف أي ملتبسة بهم ، والرسوّ الاستقرار ، يقال !سا يرسو وأرسيته ، والمضارع لحكاية الحال الماضية ، وقوله : وهم فيها مستفاد من قوله بهم ، ولم يجعلوها من الضمير المستتر في الحال الأولى ، على أنها حال متداخلة لأنه يلزم أن يكون المجريان في وقت الركوب ، وهو وقت تقدير التسمية فتأمّل ، والطوفان له معان منها الماء إذا فا حتى غرّق البلاد وهو المراد ، واضطرابه شدّة حركته. قوله : ( كل موجة منها كجبل الخ ( ش ليس المراد تشبيه الموجة الواحدة بالجبال ، والموج واحده موجة ، والجبال متفاوتة ، كما
أنّ الأمواج كذلك. قوله : ( وما قيل من أن الماء الخ ) جواب عما يقال إنه روي أنه طبق ما بين السماء والأرض ، وأنّ السفينة كانت تجري في داخله كالسمك فلا يتحرّك ، ولا يجري ولا يكون له موج ، بأنه ليس بصحيح رواية ، وهو مما يأباه العقل ، ولو سلم فهذا كان في ابتداء ظهوره بدليل قول ابنه سآوي إلى جبل فإنه يدل على أنه كان تدريجياً. قوله : ( علا شوامخ الجبال ( من إضافة الصفة للموصوف وهذا مما تبع فيه المصنف الزمخشريّ وليس له وجه. قوله تعالى : ( { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } ) قال السفاقسيّ والسمين الجمهور على كسر تنوين نوج عليه الصلاة والسلام لالتقاء الساكنين ، وقراءة وكيع بضمه اتباعاً لحركة الإعراب ، وقال أبو حاتم إنها لغة ضعيفة ، وهاء ابنه توصل بواو في الفصيح ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما بسكون الهاء فلا التفات إلى ما قيل إنه ضرورة وهي لغة عقيل ، وقيل الإزد ، وقرأ عليّ رضي الله تعالى عنه ابنها ولذا قيل إنه كان ربيبه والربيب ابن امرأة الرجل من غيره ، لأنّ الإضافة إلى الأمّ مع ذكر الأب خلاف الظاهر ، وان جوّزوه ، ووجه بأنه نسب إليها لكونه كافراً مثلها ، وقرأ محمد ابن علي وعروة والزبير ابنه بهاء مفتوحة دون ألف اكتفاء بالفتحة عنها ، وهو ضعيف في العربية ، حتى خصه بعضهم بالضرورة ، وهذا النداء كان قبل ركوب السفينة ، والواو لا تدذ على الترتيب ، وقوله : على أنّ الضمير لامرأته أي على القراءتين ، وقوله : رشدة بكسر الراء المهملة وسكون الشين المعجمة وفتح الدال وتاء تأنيث ، يقال للولد(5/98)
ج5ص99
هو لرشدة إذا كان من نكاج لا من زنا وسفاح ، وضده لزينة بالكسر وقوله : إذ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عصمت أضاف العصمة لهم ، وان كانت في الحقيقة للزوجات ، لأنه عار عليهم ونقيصة مبرّؤون عنها.
قوله : ( على الندبة ) عبر في الكشاف تبعا لابن جني في المحتسب بالترثي تفعل من رثيت ، وهي بمعنى الندبة في عبارة المتقدمين ، وقوله : ولكونها الخ دفع لاستشكالهم بأن النحاة صرّحوا بأنّ حرف النداء لا يحذف في الندبة ، فأجاب بأنه حكاية والذي منعوه في الندبة نفسها إلا في حكايتها ، وما وقع في تفسير ابن عطية من أبناء بفتح همزة القطع التي للنداء رذ بأنه لا ينادي المندوب بالهمزة ، وأنّ الرواية بالوصل فيها ، والنداء بالهمزة لم يقع في القرآن. قوله : ( عزل فيه نفسه ) يعني أنّ المعزل بالكسر هنا اسم مكان العزلة ، وفد يكون زمانا ، وأمّا المصدر فبالفتح ولم يقرأ به أحد ، وإذا كان اعتزاله في الدين فهو بمعنى مخالفته مجازاً ، يقال :
هو بمعزل عن الأمر إذا لم يفعله. قوله : ( كسروا الياء ليدلّ على ياء الاضافة المحذوفة في جع القرآن ) أي هنا وفي يوسف وثلاثة مواضع في لقمان ، وفي الصافات ، وقوله : وقف مليها أي سكنها ، وعاصم عطف على ابن كثير ، وقوله : اقتصارأ على الفتح من الألف المبدلة صن ياء الإضافة ، وقيل : إنّ حذفها لالتقاء الساكنين ويؤيد الأوّل أنه قراً بها حيث لا ساكن كدها. قوله : ( وحفصى الخ ) وروي عنه الاظهار في النشر أيضاً ، وكلاهما صحيح. قوله : ( أن كرقئي ) من الأفعال ، ويجوز أن يكون من التفعيل ، فالعصمة عبارة عن حفظه عن الغرق. قوله : ( 1 لا الراحم وهو الله الخ ) ذكروا فيه وجوها الأوّل لا عاصم إلا الراحم ، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر ، لأن الأصل لا عاصم من أمر الله إلا الله ، وفي العدول إلى الموصول زيادة فخيم وتحقيق لرحمته ، وأن رحمته هي المعتصم لا الجبل ، وهو أقوى الوجوه ، الثاني لا ذا عصمة أي لا معصوم إلا المرحوم ، قيل : وفيه أن فاعلا بمعنى النسبة قليل ، فإن أريد في نفسه فم!نوع ، وان أريد بالنسبة إلى الوصف فلا يضرّ ، الثالث الانقطاع على أن لا عاصم على الحقيقة ، أي ولكن من رحمه الله فهو المعصوم ، وأورد عليه أن مثل هذا المنقطع قليل ، لأنه في الحقيقة جملة منقطعة تخالف الأولى ، لا في النفي والاثبات فقط ، والأكثر فيه مثل ما جاءني القوم إلا حمارا ، الرابع لا معصوم إلا الراحم على معنى لكن الراحم يعصم من أراد ، وهذا غير مصرّج به في الكشاف ، ولكنه يظهر من تجويزه أن يكون من رحم هو الراحم ، ولا عاصم بمعنى لا معصوم ، الخامس إضمار المكان أي لا عاصم إلا مكان من رحمه الله ، وهو السفينة ، وهو وجه حسن فيه مقابل لقوله : يعصمني ، وهو المرجح بعد الأوّل ، والعاصم على هذا حقيقة ، لكن إسناده إلى المكان مجازي ، وقيل إنه مجاز مرسل عن مكان الاعتصام بناء على إسناد الفعل إلى المكان إسناداً مجازيا والمعنى لا مكان اعتصام إلا مكان من رحمه الله ، نإنه أرجح من الكل ، لأنه ورد جواب! عن قوله ساوى إلى جبل ، الخ السادس لا معصوم إلا مكان من رحمه الله ، وأريد به عصمة من فيه على الكناية ، فإنّ السفينة إذا عصمت عصم من فيها ، وهذا وجه أبداه صاحب الكشف من عنده ، السابع أنّ الاستثناء مفرّغ ، والمعنى لا عاصم
اليوم أحداً أو لأحد إلا من رحمه الله ، أو لمن رحمه الله وعده بعضهم أقربها ، وعلى ما ذكرنا ينزل كلام المصنف رحمه الله تعالى في الاقتصار على بعضها ، وقوله : وهم المؤمنون تفسيران لا للمكان لأنه السفينة ، وقوله رذ بذلك الخ إشارة إلى الترجيح السابق ، وقوله : اللائذ به جمع لائذ مضاف للضمير ، أي اللائذين به ، وقوله لاذا عصمة ذو العصمة يشمل العاصم والمعصوم ، والمراد هنا المعصوم فهو مصدر عصم المبنى للمفعول ، فإن قيل على أنّ التقدير لا عاصم إلا مكان من رحمه الله ، يكون المعنى لا عاصم من أمر الله إلا المكان ، فيقتضي أن المكان يعصم ويمنع من أمر الله وقضائه ، وهو غير صحيح لأنه لا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه ، قلت أجيب بأن المراد بأمر الله بلاؤه وهو الطوفان ، وبهذا الاعتبار صح الاستثناء فتأمّل. قوله : ( بين نوح عليه الصلاة والسلام وابنه ) فلم يصل إلى السفينة لينجو ، أو بينه وبين الجبل فلم يتيسر له الصعود فلم ينج أيضا لزعمه أن الماء لا يصل إليه وتفريع فكان الخ على هذا لا ينافي قوله : لا عاصم لأن المراد فكان من غير مهلة أو هو بناء على ظنه. قوله : ( ئوديا بما ينادى به أولو العلم الخ ) هذه الآية(5/99)
ج5ص100
حوت من البلاغة أمراً عجيبا ترقص! الرؤوس له طربا ، قال في الكشاف : نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص ، والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات ، وهو قوله : ( يا أرضى ويا سماء ) ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل ، من قوله : ( أبلعي ماءك وأقلعي ) من الدلالة على الاقتدار العظيم ، فإنّ السماوات والأرض! وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه ، كأنها عقلاء مميزون ، قد عرفوا عظمته وجلالته وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور ، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامتثال له ، والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث الخ. قيل : عنى أنه شبه الأرض والسماء بالعقلاء المميزين على الاستعارة المكنية ، والنداء استعارة تخييلية وهي قرينتها ، ثم رشحت بالأمر والبلغ لاختصاصه بالحيوان ، لأنه إدخال الطعام في الحلق بالقوّة الجاذبة ، فهو ترشيح على ترشيح ، وأمّا الاقلاع فلا تجريد فيه ولا ترشيح ، لاشتراكه بين الحيوان وغيره ، يقال : أقلعت السماء إذا لم تمطر ، وخالفه غيره فقال : إنه تجريد لاشتهاره في السماء والمطر ، قال : وإنما اختير الترشيح في جانب الأرضى ، والتجريد في السماء ، لأنّ إذهاب الماء كان مطلوباً أوّليا وليس للسماء فيه سوى الامساك ، فقيل : أقلعي والأرض هي التي تقبل الاذهاب المطلوب ، وقيل : إنه وهم لأنّ تفسيرهم له بالامساك ينافيه فتأمّل. قوله : ( تمثيلأ لكمال قدرته الخ ) قيل مراده ما مرّ من الاستعارة المكنية والتخييلية ، مع ما يصحبه من لطائف البلاغة ، وهو تمثيل
فويّ ، أو اصطلاحيّ باعتبار أنه يلزمه استعارة أخرى تمثيلية ، لكنها ليست من صريح الطم بل تابعة له ، وقيل : إنه يعني أنّ في النظم استعارة تمثيلية شبهت الهيئة المنتزعة من كمال قدرته ملى رد ما انفجر من الأرض إلى بطنها ، وقطع طوفان السماء ، وتكوّن ما أراده فيها كما أراد ، لهيئة المنتزعة من الآمر المطاع الذي يأمر المنقاد لحكمه الخ. فعلى هذا يكون استعارة واحدة يخلاف ما في المفتاح ، وعلى الوجه الأوّل لا مخالفة بين كلام الشيخين وكلام السكاكيّ ، كما ارتضاه الشارح إلا في أمر يسير سيأتي بيانه ، وقيل : إنه يخالفه فإنّ السكاكيّ حمل النظم على استعارات حسنة ، وترشيحاتها ومجازات بليغة ، وعلاقاتها مع فخامة لفظها ووجازة نظمها ، لمجعل القول مجازاً عن الإرادة بعلاقة تسببها له ، والقرينة خطاب الجماد ، كأنه قيل أريد أن روتدّ ما انفجر من الأرض وينقطع طوفان السماء ، وجعل الخطاب بيا أرض ويا سماء وأرادا ملى نهج المكنية تشبيها لهما بالمأمور المنقاد ، وأثبت لهما ما هو من خواص المشبه به أعني النداء ، وجعل البلع استعارة لغور الماء فيها للذهاب إلى مقر خفيّ ، والماء استعارة مكنيه تشبيها لى بالمطعوم المتغذي به ، والقرينة ابلعي باعتبار أصله ، وان كان عنده استعارة تصريحية على حد ينقضون عهد الله ، ورجح استعارة البلع للنشف على ما اختاره كما سيأتي ، وجعل أمر البلع ترشيحاً للمكنية التي في المنادى لزيادته على القرينة ، كما تقرّر عندهم ، وجعل إضافة الماء إلى الأرض! مجازا لغويا لاتصال الماء بها ، كاتصال المال بالمالك ، والخطاب ترشيح له ، قيل : والظاهر أنه تجوّز عقلي في النسبة ، والخطاب ترشيح للمكنية في المنادى ، وقد مرّ تحقيقنا لهذا المبحث في مالك يوم الدين ، والخلاف فيه بين الفاضلين ، واستظهروا أنه من إضافة الغذاء إلى المغذي في النفع والتقوّى وصيرورته جزءاً منه ، ولا نظر إلى المالكية ، ومن أراد بسط الكلام في هذا فلينظر شروح المفتاح ، وقوله : الذي يأمر المنقاد لحكمه يعني فيأتمر ويبادر للامتثال ، وتركه لظهوره ، وهذه المبادرة من السياق لا من دلالة الأمر على الفور كما قيل. قوله : ( والبلع النشف والاقلاع الامساك ) النشف من نشف الثوب ، العرق كسمع وبصر إذا شربه ، قال المدقق : هذا أولى من جعل السكاكي البلع مستعار الغور الماء في الأرض لدلالته على جذب الأرض ما عليها ، كالبلع بالنسبة إلى الحيوان ، ولأنّ النشف فعل الأرض ، والغور فعل الماء ، فللّه دره ما أكثر اطلاعه على حقائق المعاني ، وأمّا ما قيل : إن البلع ترشيح والاقلاع تجريد بناء على قول الزمخشريّ ، أقلع المطر فوهم لأنّ تفسير الامساك يرشد لخلافه فتأمّل. قوله : ( وغيض الماء نقص ) من غاضه إذا نقصه وجميع معانيه راجعة إليه ، وقوله الجوهري : غاض الماء إذا قل ونضب ، وغيض الماء فعل به ذلك لا يخالفه وهو إخبار عن حصول المأمور به من السماء(5/100)
ج5ص101
والأوض معا ، أي فامتثلا ما أمرا به ونقص الماء ، ولا يخص غيض الماء بطوفان السماء كما ئوهم ، وفيه كلام طويل في الكشف. قوله : ( واستقرّت ) يقال استوى على السرير إذا استقر
عليه ، وآمل بالمذ وضمّ الميم بلدة. قوله : ( هلاكاً لهم الخ ) يعني أن البعد ضد القرب ، وهو باعتبار المكان ، وهو في المحسوس ، وقد يقال : في المعقول نحو ضلوا ضلالاً بعيداً ، وأن استعماله في الموت والهلاك استعارة لكن كلام أهل اللغة يخالفه لاختلاف فعليهما ، فإنه يقال : في الأوّل بعد يبعد ككرم يكرم بعد بضم فسكون ، وفي الثاني بعدا يبعد كفرح يفرج فرحا ، كما قيل فالواقع في قول المصنف بكسر العين في الماضي وفتحها في المصدر ، وقيل بالعكس ، والظاهر أنه فيهما بالضم ، لأنّ الواقع في النظم مصدر ل!لمضموم فهو يقتضي أن يكون من البعد المكاني ، وأنهما من ماذة واحدة ، وهو الذي حمل المصنف رحمه الله تعالى على التجوّز وقوله : إذا بعد بضم العين ، وبعدا كقربا ووصف البعد بكونه بعيداً للمبالغة كجد جده ، وقوله لا يرجى عوده بيان لشدّة بعده وبيان لاطلاق البعد على الموت ، وقد أوضح هذا المعنى التهامي في قوله في مرثيته المشهورة :
أشكو بعادك لي وأنت بموضع لولا الردى لسمعت فيه سراري
والشرق نحو الغرب أقرب شقة من بعد تلك الخمسة الأشباري
وقوله : وخص بدعاء السوء يعتي بعدا مصدر يستعمل للدعاء ، كسقيا ورعيا لكنه مخصوص بالسوء كجدعا وتعسا ، والمراد بالظلم مطلقه أو تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام لأنهم به ظلموا أنفسهم. قوله : ( والآية في غاية الفصاحة الخ ) ما اشتملت عليه من الفصاحة والنكات مفصل في شرح المفتاح ، والمراد بالفصاحة البلاغة ، وفخامة لفظها مجاز عن بلاغتها ، وكنه الحال حقيقته من إرادة ما ذكر. قوله : ) واللراد الآخبار على البناء للمفعول الخ ) يعني أنّ الفاعل قد يترك ويبنى للمجهول لتعينه ، لأن تلك الصفات لا تليق بغيره حقيقة ، أو ادّعاء وقد صرّج الشعراء بهذا المعنى وتشبتوا به كما قال أبو نواس :
وان جرت الألفاظ يوما بمدحة لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني
قوله : ( وأراد نداءه ( أوّله به ليصح التفريع عليه كما بينه ، وقيل : إنه تفصيل للمجمل لا! الإجمال يعقبه التفصيل ، وقيل : إنّ المعقب ما بعد قوله : رلث ، وهو إنما ذكر للتوطئة لما
بعده ، وإنّ تأويل المصنف رحمه الله تعالى ليس بحسن لأنّ فعل كل فاعل مختار لا بد أن يعقب إرادته ، فليس في ذكره حينئذ كبير فائدة وفيه نظر. قوله : ( وإق كل وعد تعده حق الخ ) يعني أنّ كل وعد لك حق وقد وعدت بانجاء أهلي وهو من جملتهم ، وهو في قوّة قياس ، ومراده استعلام الحكمة في عدم انجائه مع ما ذكر إن كان ذلك بعد غرقه ، أو الاستكشاف عن حاله إن كان قبله ، وإليهما أشار بقوله : فما حاله أو فما له لم ينج لكنه كان ينبغي أن يقدم قوله ويجوز الخ على ذلك. قوله : ( ويجوز أن يكون هذا النداء قبل غرقه ) فإن الواو لا تقتضي الترتيب ، قال الزمخشري : وذكر المسألة دليل على أن النداء كان قبل غرقه حين تأبيه عن ركوب السفينة وخوفه عليه ، وأمّا جواز أنه لم يعرف غرقه ، وأنه تعالى يجوز أن ينجيه بسبب أخر لمقتضى وعده فخلات الظاهر. قوله : ( لآنك أعلمهم وأعدلهم الخ ) يشير إلى أنّ المعنى على التعليل ، والى أنه إذا بنى أفعل من الشيء الممتنع من التفضيل والزيادة ، يعتبر فيما يناسب معناه معنى الممتنع ، وقال الإمام ابن عبد السلام في أماليه إنّ هذا ونحوه من أرحم الراحمين وأحسن الخالقين مشكل ، لأن أفعل لا يضاف إلا إلى جنسه ، وهنا ليس كذلك لأنّ الخلق من الله بمعنى الإيجاد ، ومن غيره بمعنى الكسب ، وهما متباينان ، والرحمة من الله إن حملت على الإرادة صح المعنى لأنه يسير أعظم إرادة من سائر المريدين ، وإن جعلت من مجاز التشبيه وهو أنّ معاملته تشبه معاملة الراحم صح المعنى أيضا لأن ذلك مشترك بينه وبين عباده ، وإن أريد إيجاد فعل الرحمة كان مشكلاً إذ لا موجد سواه ، وأجاب الآمدي رحمه الله تعالى بأنه بمعنى أعظم من يدعي بهذا الاسم ، قال : وهذا مشكل لأنه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه ، وهو يناسب مذهب المعتزلة فتأمل. قوله : ( أو لآنك أكثر حكمة من ذوي الحكم الخ ) يعني على أن يبني من الحكمة حاكم للنسبة ، وقيل : عليه إنّ الباب ليس بقياسي(5/101)
ج5ص102
وإنه لم يسمع حاكم بمعنى حكيم ، ولأنه لا يبني منه أفعل إذ ليس جاريا إلى الفعل ، فلا يقال ألبن وأتمر ، إذ لا فعل بهذا المعنى ، والجواب بأنه كثر في كلامهم ، أو يجوز أن يكون وجها مرجوحا ، وبأنه من قبيل أحنك الشابين لا يخلو عن تعسف ، وتعقب بأنّ للحكمة فعلا ثلاثيا ، وهو حكم كما مرّ في أوّل السورة ، وأفعل من الثلاثيئ مقيس ، وأيضا سمع احتنك الجراد ، وألبن وأتمر ، فغايته أن يكون من غير الثلاثيّ ، ولا يخفى ما فيه ، ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة ، كقولهم : آبل من أبل ، بمعنى أعلم وأحذق بأمر الإبل. قوله تعالى : ( { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } الخ ( قيل إنه اشتبه عليه الأمر لظنه أنّ المستثنى امرأته وحدها ، وقوله : ولا تكن مع الكافرين ، لا يدلّ على تحقق كفره لاحتمال أن يراد لا تكن في خلالهم ، ولبعد هذا اعتذر عنه المصنف
رحمه الله تعالى ، بأنّ حب الولد شغله عن تأمّل حاله فعوتب على ترك التأمّل فيه ، ومثله ليس بمعصية ، والمراد ليس من أهلك الذين وعدهم الله بالنجاة ، وقوله : لقطع الولاية يعني أنه لا يكون بين مسلم وكافر ولاية ، ولذا لم يتوارثا ، وقرابة الدين أقرب من قرابة النسب ، كما قال أبو نواس :
كانت مودّة سلمان له نسبا ولم يكن بين نوح وابنه رحم
قوله : ( فإنه تعليل الخ ) أي هذه الجملة تفيد أنّ مضمونها تعليل لما قبلها ، لأنها مستأنفة
في جواب لم لم يكن من أهلي ، وأصله إنه ذو عمل فاسد لأنه العلة في الحقيقة ، فعدل عنه مع أنه أخصر وحذف ذو للمبالغه بجعله عين عمله لمداومته عليه ، ولا يقدّر المضاف لأنه يفوّت المبالغة المقصودة منه. قوله : ( كقول الخنساء ) هي امرأة من فصحاء الجاهلية ، والخنس انخفاض الأنف ، وتوصف به الظباء ، فلذا سميت به ، ولها ديوان معروف ، وهذا من قصيدة لها رثت بها صخرأ أخاها وهي مشهورة ( ومنها ) :
وما عجول على بوّ تحن له لها حنينان إعلان وإسرار
ترتع ما غفلت ححى إذا ذكرت فإنما هي إقبال وادبار
يوما بأوجع مني حين فارقني صخر وللعيش أحلاء وإمرار
) ومنها ( :
لمان صخرالتأتق! الهداة به كأنه علم في رأسه نار
فقوله تصف ناقة لأنها مثلت حالها بناقة ذبح ولدها فهي تحن له ، فإذا ذهلت عنه رعت ،
وإذا ذكرته اضطربت ، فهي بيت إقبال وادبار ، أي بين إقبال على الحنين ، وادبار عنه ، والشاهد في قوله : هي إقبال وادبار ، والعجول التي فقدت عجلها ، والبوّ جلد يحشى تبنا لترأمه وتدر وترتع من رتع في المرعى إذا مشى فيه للرعي. قوله : ( ثم بدّل الخ ) معطوف على مضمون ما قبله ، أي علل ثم بدل ، ولمن متعلق بالنجاه أو أوجب ، ومن في من أهله بيانية أو تبعيضية ، والمراد بالمناقضة مجرّد المناقاة لأن بينهما واسطة وهي البطالة ، وقوله : وقرىء إنه عمل أي بالفعل الماضي ، وغير صالح مفعوله ، وأصله عملاً غير صالح فحذف ، وأقيمت صفته مقامه. قوله : ( ما لا تعلم أصواب هو أم ليس كذلك الخ ) أي أصواب فتسأل عنه أم لا فتتركه ، وهو شامل لوجهي السؤال ، والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة له إليه إمّا لأنه لا يهم ، أو لأنه
قامت القرائن على حاله ، كما هنا لا عن السؤال للاسترشاد والاشتنجاز أي طلب الإنجاز للوعد ، وهو إذا كان النداء قبل الغرق ، والاستفسار عن المانع عن نجاته إذ كان بعده ، قيل : والاً وّل هو الظاهر من اللفظ ، وعلى الثاني يكون من الحذف والإيصال وأصله عما ليس الخ ، لأنّ السؤال الاستفساري يتعدى بعن ، والطلبيّ بنفسه ، كما هو مشهور عندهم ، وأمّا القول بأنّ ما عبارة عن السؤال فلا حاجة إلى الحذف والايصال ، فليس بشيء لأنه يحتاج إلى التقدير في قوله : إذ لا معنى لنفي العلم عن سؤاله ، وإنما هو عن المسؤول ، فلا وهم فيه كما توهم. قوله : ( وإنما سماه جهلأ الخ ) يشير إلى أنه ليس بجهل ، وإنما هو غفلة عما مرّ من الاستثناء ، أو ظنه شمول الوعد لجميع أهله ، ولا يخفى بعده ، وقوله : أشغل بالألف في النسخ ، وقد أنكره بعض أهل اللغة ، لكها لغة قليلة أو رديئة ، وكتب بعض العمال في رقعة للصاحب أن رأي مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله ، فوقع له من كتب إشغالي لا يصلح لاشغالي ، ومتعلق العلم والجهل حال ابنه ، واستحقاقه لما حل به ، وما ليس له به علم كون المسؤول خطأ أو صواباً وأن تكون بمعنى كراهة(5/102)
ج5ص103
أن تكون أو لئلا تكون كما مز نظيره ، وقال : الماتريدي إنّ نوحاً عليه الصلاة والسلام ظن ابنه على دينه لأنه كان يخفي كفره منه ، والا لم يسأل نجاته وقد نهى عن مثله ، قيل : وهو الأظهر. قوله : ( بفتح اللام والنون ) أي ويفتح النون بدليل ما بعده ، وقوله : للياء أي لأجل أن تدل الكسرة على الياء المحذوفة ، أو لمناسبتها والإثبات أمره ظاهر ، وقوله : فيما يستقبل لأنّ السؤال وقع منه ، وقيل : إنه لدفع أن يكون ردّاً لقوله ابني وانكاره السؤال ، وأفا في الحال فغير متصوّر وقوعه منه فتأمل ، وقوله : بصحته إشارة إلى تقدير مضاف ، ودخل فيه ما علم فساده وما شك في صحته وفساده. قوله : ( انزل من السفينة ( وقال الإمام من الجبل إلى الأرض ، وقوله مسلماً بصيغة المفعول إشارة إلى أنّ الباء للملابسة ، وأنّ الجارّ والمجرور حال ، والسلام إمّا بمعنى السلامة مما يكره ، أو بمعنى التسليم والتحية من اللّه ، أو من الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، الذين من قبله ، وقوله : من جهتنا ، بيان لقوله :
منا وأن من فيه ابتدائية ، ولو أخره كان أحسن ، وهو متعلق بمسلماً لا بالمكاره كما جوّزه بعضهم. قوله : ( ومباركاً عليك ) أي مدعوا لك بالبركة ، بأن يقال بارك الله فيك ، وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، وهذه الآية من الاحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأوّل ، وذكر فيه ما حذف من الأؤل ، والتقدير بسلام منا عليك وبركات منا عليك ، وقوله آدما صرفه لأنه نكره ، ونوج عليه الصلاة والسلام يسمى آدم الثاني والأصغر ، لأن الناس كلهم من نسله عليه الصلاة والسلام ، لأنه لم يبق بعد الطوفان غير بنيه وأزواجهم على ما اختاره في الصافات ، وا! جميع الناس من نسله ، كما قال : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ } [ سورة الصافات ، الآية : 77 ] وهو لا ينافي الوجه الثاني في من هنا والحاصل أن العلماء قد اختلفوا في الناس بعد الطوفان هل هم جميعا من نسل نوح عليه الصلاة والسلام ، ولذا سموه آدم الثاني وآدم الأصغر ، كما اختلفوا فيمن كان معه في السفينة وعددهم ، فقيل : إنه مات من كان معه في السفينة من غير أولاده ولم يبق لهم نسل ، فحينئذ لا يصح أن يكون الأمم نشؤوا ممن معه إلا أن يخصوا بأولاده ، لكن الأكثر على أن لهم نسلا فلا يكون نوح عليه الصلاة والسلام أبا البشر بعد آدم عليه الصلاة والسلام ، وكلام المصنف رحمه الله تعالى ينظر إلى القولين. قوله : ( وهو الخير النامي ( الضمير للبركة وذكره باعتبار الخير ، قال الراغبه : البرك صدر البعير ، وبرك البعير ألقى بركه ، واعتبر فيه اللزوم ، ولذا سمي محتبس الماء بركة ، ولما فيه من الاشعار باللزوم وكونه غير محسوس اختص تبارك بالاستعمال في الله كما سيأتي ، ثم إن في قوله تعالى : { وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } لطيفة ، وهو أنه قد تكرّر فيه حرف واحد من غير فاصل ثماني مرّات ، مع غاية الخفة فيه ولم تتكرر الراء مثله في قوله :
وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبرحرب قبر
مع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق ، وهذا آية من جملة إعجازه فاعرفه. قوله :
( هم الذين معك ) فمن على هذا للبيان قيل عليه إنه لا حاجة إلى لفظ الأمم بل إلى هذا بأسره فلو ترك أو قيل على من معك كان أظهر وأخصر ، وقوله لتحزبهم أي لكونهم مجتمعين ، وقوله لتشعب الأمم ، فإطلاق الأمم عليهم مجاز ، وعلى الوجه الآخر ، من ابتدائية ، وقوله : والمراد بهم أي بالأمم الناشئة على الوجه الثاني ، ورجح الزمخشري هذا الوجه ، بحسن التقابل بين وعلى أمم وأمم سنمتعهم وبسلامته عن التجوّز ، واطلاق الأمم على جماعة قليلة لكنه يقتضي أن لا يسلم ويبارك على من معه ، فقيل استغنى بالتسليم عليه عن التسليم على من معه ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم زعيم أمّته ، أو أنه يعلم بالطريق الأولى. قوله : ( أي وممن معك أمم الخ ) جوّز في
هذه الواو الحالية والعطف ، وظاهره أنّ أمم مبتدأ ، وجملة سنمتعهم صفته المسوّغة للابتداء بالنكرة ، والخبر مقدر وهو ممن معك بدلالة ما قبله ، وكذا في الكشاف ، لكنه قيل عليه إنه إنما يناسب الوجه الثاني في من دون الأوّل ، وجعله في المقدر ، بمعنى آخر لا يخلو من تكلف ، ويحتمل أن يكون التقدير وأمم ممن معك سنمتعهم بحذف الصفة ، وجعل الجملة المذكورة خبراً ، وجوّز أبو حيان كون أمم مبتدأ من غير تقدير صفة على أنّ الجملة خبره لأن العطف والتفصيل مسوّغ عنده ، وفسر الأمم الثانية بالكفار لقرينة ذكر العذاب ، وقوله : والعذاب ما نزل بهم ، أي في الدنيا لا عذاب الآخرة. قوله : ( إشارة إلى قصة نوح عليه الصلاة(5/103)
ج5ص104
والسلام ( بيان لأنّ التأنيث للنبأ باعتبار القصة ، وأن الإشارة بالبعيد لتقضيها ، وقوله : أي بعضها إشارة إلى أنّ من تبعيضية لأنها بعض المغيبات ، وكونها من علم الغيب مع اشتهارها ، باعتبار التفصيل لأنه غير معلوم ، وقيل : إنه بالنسبة إلى غير أهل الكتاب لا عامّ ، لأنها نسيت لقدم العهد كما قي! ، وقوله : والضمير لها وهو الرابط لجملة الخبر.
قوله : ( موحاة إليك ) أوّله باسم المفعول لأنّ الجملة الخبرية تؤوّل بالمفرد ، ولبيان أنه لحكاية الحال الماضية ، والمقصود من ذكر كونها موحاة سواء كان خبراً أو حالاً ، إلجاء قومه للتصديق بنبوّته صلى الله عليه وسلم ، وتحذيرهم مما نزل بهم فلا يتوهم أنه لا فائدة فيه ، وفائدة تقديم من أنباء الغيب إذا تعلق بنوحيها نفى أن يكون علم ذلك بكهانة ، أو تعلم من الغير ، فلا وجه لما قيل إنه لا فائدة فيه كما سيشير إليه. قوله : ( أي مجهولة عندك الخ ) إشارة إلى أن هذا إشارة إلى الإيحاء المعلوم مما مرّ ، وقوله : جاهلاً تفسير له على وجهي الحالية وأنه بيان لهيئة الموحي أو الموحى إليه. قوله : ( تنبيه على أنه لم يتعلمها الخ ) يعني أنه إذا لم يعلمها وهو نبيّ يوحى إليه ، فغيره بالطريق الأولى ، فلا حاجة لذكرهم معه ، فأجاب بأنه من باب الترقي ، كما تقول هذا الأمر لا يعلمه زيد ، ولا أهل بلده لأنهم مع كثرتهم لا يعلمونه ، فكيف يعلمه واحد منهم ، وقد علم أنه لم يخالط غيرهم ، وقوله : على مشاق الرسالة الخ إشارة إلى أنه فذلكة لما قبله ، وبيان
للحكمة في إيجابها من إرشادهم وتهديدهم. قوله : ( عطف على قوله نوحاً إلى قومه ) أي أنه من العطف على معمولي عامل واحد ، وليس من المسألة المختلف فيها فعطف المنصوب على المنصوب ، والجارّ والمجرور على الجار والمجرور ، وقدم لعود الضمير إليه وقيل إنه على إضمار أرسلنا لطول الفصل ، فهو من عطف جملة على أخرى ، وهوداً عطف بيان لأخاهم ، وقيل إنه بدل منه ، وأخاهم بمعنى واحداً منهم ، كما يقولون يا أخا العرب. قوله : ( وقرئ بالجرّ حملاَ على المجرور وحده ) أي بجعله صفة له ، جار على لفظه ، والرفع باعتبار محل الجارّ والمجرور لا فاعل للظرف لاعتماده على النفي ، ووقع في النسخ المصححة بعد قوله : اعبدوا الله وحده ، وفي نسخة وحدوه بالأمر تفسير له بقرينة ما بعده ، ومن قوله : { مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ سررة الأعراف ، الآية : 85 ] وقيل إنه يريد أنّ معنى اعبدوا الله أفردوه بالعبادة ، ووحدوه بالألوهية بمعونة المقام لأنهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام ، فالمقصود إفراده بالعبادة لا أصلها ، مع أنه لا اعتداد بالعبادة مع الإشراك ، فالأمر بالعبادة يستلزم إفراده بها. قوله : ( باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء ) يعني قولهم إنها شركاء لأنّ اتخاذها نفسه ليس افتراء ، فجعله افتراء مبالغة ، وأشار بعطف قوله وجعلها شفعاء أنهم في الواقع إنما تقرّبوا بها إلى الله كما نطق به التنزيل في غير هذا الموضع ، لكن الشرع عده شركا ، فلا يرد عليه ما قيل ليت شعري من أين علم اتخاذهم إياها شفعاء ، فالأولى الاقتصار على اتخاذها شركاء. قوله : ( وتمحيضاً ( بالضاد المعجمة أو الصاد المهملة ، فإنّ كلاً منهما بمعنى الإخلاص ، وقوله : لا تنجع كتنفع لفظاً ، ومعنى ومشوبة بالباء الموحدة ، أي مخلوطة ممتزجة ، وقوله : أفلا تستعملون عقولكم إشارة إلى أنه نزل منزلة اللازم ، واستعمال العقل التفكر والتدبر ليعرف ماله وما عليه ، وقوله خاطب كل رسول الخ إشارة إلى ما ورد من أمثاله في القرآن ، وليس تفسيراً لما نحن فيه. قوله : ( 1 طلبوا مغفرة الله بالإيمان الخ ( يعني أنّ طلب المغفرة عبارة عن الإيمان بالله وحده ، لأنه من لوازمه لتوقف المغفرة عليه ، إذ لا معنى لطلب المغفرة مع الكفر ، والتوبة لا تكون بدونه أيضا وعطف التوبة حيمئذ بثم إن أريد بها التوبة عن الشرك ، بدليل المقام لا يظهر لأنها نفسه ، فلذا أوّلت بأنها مجاز عن التوسل بها إلى المغفرة ، والتوسل بالإيمان إلى مغفرة الله متأخر عنه ، ولا يصح أن يكون المراد التوبة عما صدر منهم غير الشرك ، لأنّ الإيمان يجب ما قبله ، وأورد
عليه أنّ التوسل بالتوبة عن الشرك لا ينفك عن طلب المغفرة بالإيمان والتوحيد ، لأنه من لوازمه فلا يكون بعده ، فإن قيل : المراد بطلب المغفرة بالإيمان طلبها قبل الإيمان لا معه ، قيل : فيرتفع الإشكال حينئذ من غير احتياج إلى التأويل بالتوسل لأنّ معناه حينئذ اطلبوا الإيمان ثم آمنوا ، وهو غير محتاج إلى التأويل ويدفع بأنّ المراد الأوّل فالاسنغفار الإيمان والتوبة عن الشرك الرجوع إلى صراط الله المستقيم ودينه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وهو متراخ عن الإيمان باعتبار الانتهاء ، وجوّز في قوله : توسلوا أن يكون بيانا لحاصل المعنى لأنّ الرجوع إلى شيء الوصول(5/104)
ج5ص105
إليه ، وأن يكون إشارة إلى أنه مستعمل فيه مجازاً ، كما مرّ في أوّل السورة والأوّل أولى. قوله : ( وأيضاً التبري من الغير إنما يكون بعد الإيمان الخ ( في الكشاف قيل : استغفروأ ربكم آمنوا به ، ثم توبوا إليه من عبادة غيره ، لأن التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان ، فعلى هذا الاستغفار كناية عن الإيمان لأنه من روادفه ، والتصديق بالله لا يستدعي الكفر بغيره لغة ، فلذا قيل : ثم توبوا ، وإنما قال قيل : إشارة إلى أنّ الوجه ما مرّ في أوّل السورة ، لأنّ قوله : { اعْبُدُواْ اللّهَ } دل على اختصاصه تعالى بالعبادة كما مرّ ، فلو حمل استغفروا على هذا لم يفد فائدة زائدة سوى ما علق عليه من قوله تعالى : { يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا } الخ وقد كان يمكن تعليقه بالأوّل ، والحمل على غير الظاهر ، مع قلة الفائدة مما يجب الاحتراز عنه في كلام الله المعجز ، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى هو بعينه ما في الكشاف ، لأنّ التبرؤ عن الغير لا يصح حمله على ظاهره إذ لم يتبرؤوا من نبيهم ولا من المؤمنين فمن ظنه كذلك ، وقال : إنما يرد على الزمخشريّ لا يرد عليه ، وجوّز أن يكون هذا وقع في مجلس آخر غير متصل بالأوّل فقد ارتكب شططا ، ثم إنه قيل : إنّ التبرؤ عن الغير هو التبرؤ التفصيلي ليظهر التراخي ، وعبر عن التوبة بالتبرؤ لأن الرجوع إلى الله يلزمه ترك التوجه إلى غيره ، والا لم يكن رجوعا إليه فتأئله ، وقوله كثير الدر أي الأمطار ، وقوله : { قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } أي مضمومة إليها ، وقيل : إلى بمعنى مع وإذا انضمت القوّة إلى أخرى فقد ضوعفت ، ولذا فسره به. قوله : ( رغبهم بكثرة المطر الخ ) المراد بزيادة القوّة قوّة الجسم وأصحاب زروع وعمارات ، أي أبنية وهو لف ونشر مرتب ، فالزروع ناظر للأمطار ، والعمارات للقوّة ، وقوله : وتضاعف القوّة بالتناسل لأنهم يحصل لهم قوّة بأولادهم ، أو لأنه ناشئ عن قوّة البدن ، وقوله : مصرين ،
وقيل : المعنى مجرمين بالتولي وهو تكلف. قوله : ( صادرين عن قولك الخ ) في الكشاف كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك ، فقيل عليه إنّ هذه كالتي في قوله : { أَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } [ سورة البقرة ، الآية : 36 ] للسببية أي وما نحن بتاركي آلهتنا بسبب قولك ، وحقيقته ما يصدر ترك لآلهتنا عن قولك ، فهو ظرف لغو متعلق بتاركي ، والمصنف رحمه الله تعالى جعله مستقرّا حالاً ، وقدره صادرين عن قولك ، وهو إما من صدر صدورا بمعنى وقع ووجد ، أو من صدر صدراً بمعنى رجع ، والأوّل باطل لأنهم ليسوا موجودين عن قوله ، وكذا الثاني لأنّ الرجوع عن القول لا يتصوّر إلا إذا كانوا قائلين له ولم يكونوا كذلك أصلاً ، فالصواب مصدرين الترك عن قولك ( قلت ) هذا كما ورد في الحديث ، وكلام العرب لا يصدر إلا عن رأيه وهو من الصدر بمعنى الرجوع عن الماء القابل للورد ، فإنّ الورد والصدر يجعل كناية عن العمل والتصرّف ، لأنهم أرباب سفر وبادية ، وذلك جل أمرهم ، ولذا قال معاوية رضي الله تعالى عنه طرقتني أخبار ليس فيها إصدار وايراد وقال :
ما أمس الزمان حاجاً إلى من يتولى الإيراد والإصدارا
أي يتصرف في الأمور بصائب رأيه ، وكما تال بعض البلغاء : إنّ أمير المؤمنين نطق بلسانك وأعطى وأخذ بيدك ، وأورد وأصدر عن رأيك ، ولما كان الصدر مستلزما للورد اكتفوا به ، فقالوا لا يصدر عن رأيه ، فالمعنى ما نحن بتاركي آلهتنا عاملين بقولك ، وهو تقدير للمتعلق بقرينة عن ، والمقدّر كناية لا تضمين ، ولذا قال : في الكشف لم يحمله على التضمين كما في قوله : فأزلهما الشيطان عنها لأنّ المضمن هو المقصود ، والترك هاهنا هو مصب الفائدة ، ومن لم يدر هذا قال : صادرين بمعنى معرضين وهو صريح في التضمين لكنه جعل المضمن حالاً ، والمضمن فيه أصلا مع رجحان العكس لأنّ المضمن هو المقصود غالبا لكون الترك هاهنا مصب الإفادة فنبه بذلك على أنه قد يختار خلافه لعارض ، وقصد به الرد على ما في الكشف تبعاً لغيره. قوله : ( حال من الضمير في تاركي ( وإذا وقع في الكلام المنفيّ قيد فالنفي منصب عليهما أو على القيد فقط ، وهو الأكثر أو على المقيد فلا يكون النفيّ للقيد وهو قليل ، وهنا قد انتفى القيد والمقيد معا لأنهم لا يتركون آلهتهم ولا يعلمون بقوله ، وقيل إنه قيد للنفي والمعنى انتفى تركنا عبادة آلهتنا معرضين عن قولك فلا يلزم محذور ، وبتفسير صادرين بمعرضين اندفع ما أورده العلامة ولو أبدل صادرين بمعرضين لئلا يرد عليه(5/105)
ج5ص106
شيء ويظهر كونه جوابا لقوله لا تتولوا أي معرضين عن قولك المجرّد عن حجة لكان أظهر وأولى ، وقد علمت أنه غفلة عن المراد. قوله تعالى : ) { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } ) في الكشاف ، وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا
مثلك فيما يدعوهم إليه إقناطا له من الإجابة لأنهم أنكروا الدليل على نبوّته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قالوا مؤكدين لذلك إنا بمجرّد قولك لا نترك آلهتنا ، ثم كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الاسمية مع زيادة الباء ، وتقديم المسند إليه المفيد للتقوّى دلالة على أنهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه فدلّ على اليأس والإقناط. قوله : ( ما نقول إلا قولنا اعتراك الخ ) يعني أنه استثناء مفرّغ وأصله أن نقول لحولاً إلا قولنا هذا فحذف المستثنى منه وحذف القول المستثنى ، وأقيم مقوله مقامه أو اعتراك هو المستثنى لأنه أريد به لفظه وذكر لفظ قولنا لبيان أنّ المراد به لفظه ، وليس مما استثنى فيه الجملة وهو بيان لسبب ما صدر عن هود عليه الصلاة والسلام بعد ما ذكروا عدم التفاتهم لقوله ، واعتراك بمعنى أصابك من عراه يعروه ، وأصله من اعتراه بمعنى قصد عراه وهو محله وناحيته ، ومعناه خبله وأفسد عقله وباء بسوء للتعدية. قوله : ( بجنون الخ ( يعني أنه المراد بالسوء ، وقوله من ذلك أي ولأجل ذلك ، والهذيان معروف ، والخر ) فات جمع خرافة بتخفيف الراء وقد موّ تفسيرها وأنّ الزمخشري نقل فيها التشديد ، وهي الغريب من القول الذي لا حقيقة له وهي منقولة من علم رجل إلى هذا المعنى ، وقوله والجملة مقول القول أي القول المقدر قبل إلا أو بعدها على ما مرّ من الوجهين فيه يريد أن انتصابه بالقول لا بإلا وفي نسخة بدل مقول القول مفعول القول ، وهما بمعنى. قوله : ( وإلا لغو لأنّ الاستثناء مفرّغ ) المراد بلغويتها عدم عملها لا زيادتها لأنّ المفزغ بحسب ما قبله من العوامل ، وهذا مبنيّ على أن العامل في غير المفرّغ إلا على اختلاف فيه مفصل في النحو ، ومقالتهم الحمقاء من الإسناد المجازي أي الأحمق قائلها ، وأني بريء تنازع فيه الفعلان وقوله فكيدون ظاهر تقرير المصنف رحمه الله تعالى أن الخطاب لقومه ، ويفهم منه حال آلهتهم بالطريق الأولى ، وقال الزمخشري : أنتم وآلهتكم ، وهو أولى وجميعا حال من ضمير كيدوني وقوله من آلهتهم إشارة إلى أن ما موصولة والعائد محذوف وهو المناسب لكونه جوابأ لقولهم اعتراك لعدم مبالاته بها وبإضرارها كما أشار إليه بقوله وفراغه الخ. والمراد فراغ ذهنه وخلوّه عن تصوّره لأنّ عدم ذلك مفروغ عنه ضرورقي ، ومن دونه متعلق بتشركون يعني تشركون به ما لم يجعله شريكا كقوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } وقوله : { مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ سورة الشورى ،
الآية : 21 ] لا حال إذ لا فائدة في التقييد به وقوله تأكيدأ لذلك أي للبراءة وتذكيره لتأويله بأن والفعل أو بالمذكور ونحوه وافادته التأكيد لأنّ شهد اللّه ونحوه كالقسم في إفادة التأكيد والتحقيق وقوله وأمرهم معطوف على أشهد أي بأن أشهد وأمر وفيه إشارة إلى التنازع ، وقوله وأن يجتمعوا في نسخة وأن يجمعوا وهو معطوف على بأن أشهد وهو ظاهر في أن الخطاب للقوم كما مز ، قيل : وهو أظهر مما سلكه الزمخشري لأنه سلك في نفي قدرة الآلهة على ضره طريقا برهانياً فلا يناسبه الطلب منها وحتى إذا الخ غاية للاجتماع ، وأن يضروه متعلق بعجزوا ولا يضر صفة جماد ولا تتمكن خبر أن ، وفي نسخة بالواو فالخبر لا تضر وهو معطوف عليه. قوله : ( وهذا من جملة معجزاته الخ ) كون تثبيطهم بمعنى تأخيرهم وتعويقهم معجزة إنما هو بملاحظة كونه بعصمة الله إذ كان واحداً أغضب كثيرين حرّاصا على قتله فأمسك الله عنه أيديهم وكفهم والا فمجزد التأخير ليس كذلك ( فإن قلت ( كيف عطف اشهدوا وهو إنشاء على الخبر ) قلت ( أمّا من جوزه فلا يشكل عليه ، وأمّا من منعه فيقدر له قولاً أي وأقول اشهدوا واشهاد الله يحتمل الإنشاء أيضا وان كان في صورة الخبر وإنما غاير بين الشهادتين لاختلافهما فإنّ الأوّل إشهاد حقيقة مقصود بذكره التأكيد ، والثاني المقصود به الاستهزاء والإهانة كما يقول الزجل لخصمه إذا لم يبال به أشهد عليّ أني قائل لك كذا ، وقول المصنف رحمه الله تعالى أمرهم بناء على ظاهر الحال أي أتى بصيغة الأمر لهم فلما لم يكن حقيقة عبر عنه بالأمر لأنه يرد كثيراً للاستهانة والتهديد وإن احتمل أن يكون إشهاده لهم حقيقة لإقامة الحجة عليهم ، وعدل عن الخبر فيها تمييزاً بين الخطابين فهو(5/106)
ج5ص107
خبر في المعنى ، وقوله العطاش إلى إراقة دمه استعارة بمعنى الحزاص كما يحرص العطشان على الماء ، والإراقة ترشيح وقوله ولذلك أي لما مرّ وكونه معصوما من الله قرّره بإظهار التوكل على من كفاه ضرّهم ، وقوله عقبه أي عقب هذا الكلام ، وقوله تقريراً له أي لثقته وذكره لما مز وكونه تقريراً له لا ينافي كونه يفيد التعليل لنفي ضرهم بطريق برهانيئ كما يشير إليه قوله لن يضروني فإني متوكل على الله لأن بيان علة الشيء تقوّيه ، وتقرّره وفي قوله : { رَبِّي وَرَبَّكُمْ } تدزج إلى تعكيس أمر التخويف وقوله لم يقدره من التقدير. قوله : ( ثم برهن عليه ( أي على المعنى ، وهو عدم قدرتهم على ضره مع توكله ولقوله ربي وربكم دخل في البرهان والناصية مقدم الرأس ، وتطلق على الشعر النابت فيها وناصيته بيده أي هو منقاد له والأخذ بالناصية عبارة عن القدرة ، والتسليط مجازاً وقد يكون كناية والمصنف
رحمه الله تعالى ذهب إلى الأوّل لأنه أنسب هنا. قوله : ( أنه على الحق والعدل الخ ) يعني أنّ قوله على صراط مستقيم تمثيل واستعارة لأنه مطلع على أمور العباد مجاز لهم بالثواب والعقاب كاف لمن اعتصم كمن وقف على الجادّة فحفظها ، ودفع ضرر السابلة بها وهو كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [ سررة الفجر ، الآية : 14 ] وقيل معناه إنّ مصيركم إليه للجزاء وفصل القضاء والحق والعدل مأخوذ من الاستقامة وفي كلام المصنف رحمه اللّه تعالى إشارة إلى اندراجه في البرهان ، وفي قوله إنّ ربي دون أن يقول وربكم نكتة غير الاختصار ، وهي الإشارة إلى أنّ اللطف والإعانة مخصوصة به دونهم. توله : ( فإن قتولوا ) جعله مضارعا لاقتضاء أبلغتكم له ولا يحسن فيه اذعاء الالتفات ، ولذا من جعله ماضيا قدر فقل أبلغتكم لكنه لا حاجة إليه ، والمراد إن استمرّوا على التولي لوقوعه منهم ويجوز أن يبقى على ظاهره بحمله على التولي الواقع بعد ما حجهم. قوله : ( فقد أذيت ما علئ من الإبلاغ وإلزام الحجة الخ ا لما كان إبلاغه واقعا قبل توليهم والجزاء يكون مستقبلا بالنظر إلى زمان الشرط أشار إلى تأويله بقوله فلا تفريط أو أنه مراد به لازم معناه المستقبل باعتبار ظهوره أو أنه جواب باعتبار الإخبار لأنه كما يقصد ترتب المعنى يقصد ترتب الإخبار كما في وما بكم من نعمة فمن اللّه ، ومنهم من جعل الجواب محذوفا وهذا دليله والتقدير لم أعاتبكم لأنكم محجوجون ، وقوله ولا عذر لكم بعض الجواب ، وجعله بعضهم جوابا آخر والواو بمعنى أو ، وقوله فقد أبلغتكم إشارة إلى أنه أقيم فيه السبب مقام المسبب ، ويصح جعله تعليلاً لما قبله. قوله : ( استئناف بالوعيد ( يحتمل أنه يريد الاستئناف النحوي بناء على جواز تصديره بالواو لا البياني بأن يكون جواب سؤال ، وهو ما يفعل بهم كما قيل لأنه لا يقترن بالواو ومنهم من فسر الاستئناف بالعطف على مجموع الشرط ، والجزاء وهو خلاف الظاهر من العبارة يكون مترتبا على قوله إنّ ربي على صراط مستقيم ، والمعنى أنه على العدل فلذا انتقم منكم وأهلككم فلا يرد أنّ المعنى لا يساعد عليه كما توهم ، وقوله يهلكهم لأنّ استخلاف غيرهم على ديارهم يستلزم ذلك ، وقوله ويؤيده القراءة بالجزم على الموضحع أي موضع الجملة الجزائية مع الفاء ، وعلى القراءة بالرفع يصح عطفه أيضا على الجواب لكن على ما بعد الفاء لأنه الجواب في الحقيقة والفاء رابطة له فما قيل إنه يشعر بجواز عطفه على الجواب على عدم القراءة بالجزم ، وليس بذاك سهو وقوله يعذرني بالجزم بيان لمعنى الجزاء على ما مرّ ومعناه يقبل عذري ، ودخول الفاء على المضارع هنا لأنه تابع يتسمح
فيه وقيل تقديره فقد يستخلف الخ. قوله : ( شيئاً من الضرر ) إشارة إلى أنه مفعول مطلق لأنه لا يتعدى لاثنين ، ولا حاجة لتأويله بما يتعدى لهما كتنقصون ، وقوله أسقط النون منه أي من تضرون لأنه معطوف على المجزوم ، وقوله بتوليكم وقيل بذهابكم وهلاككم لا ينقص من ملكه شيء ، وقوله فلا تخفى الخ إشارة إلى أن مراقبته كناية عن مجازاته كما مز أو حفيظ بمعنى حافظ والحافظ بمعنى الحاكم المستولي ، ومن شأنه أنه لا يقدر على ضرّه سواه وقوله عذابنا على أنّ الأمر بمعنى الشأن واحد الأمور أو المأمور به ، والتفسير الآخر على أنه واحد الأوامر والإسناد على الثاني مجازقي ، والأمر بالعذاب إما أمر الملائكة فهو حقيقيّ ، أو هو مجاز عن الوقوع على طريق التمثيل. قوله : ( { نَجَّيْنَا هُودًا } ( صرح بالنجاة للمؤمنين مع التعريض بعذاب الكافرين بيانا لأنه الأهم ، وأن ذلك لا يبالي به أو مفروغ منه وقوله برحمة يعني أنه بمحض الفضل إذ له(5/107)
ج5ص108
تعالى تعذيب المطيع ، وترك قول الزمخشريّ بسبب الإيمان لما فيه من رائحة الاعتزال ، ولما إن كانت لمجرّد الحين فظاهر والا فوجه الترتب على النزول قيل إنه لأن الإنجاء يعتمد نزوله ، وفيه نظر ، والظاهر أن يقال ترتبه عليه باعتبار ما تضمنه من تعذيب الكفار فيكون صرح بالإنجاء اهتماما ، ورتب باعتبار الآخر إشارة إلى أنه مقصود منه. قوله : ) وكانوا أربعة آلاف ) هذأ فيه مخالفة لما تقدم من أنه كان وحده ، ولذا عذ مواجهته وحده للجم الغفير معجزة له صلى الله عليه وسلم كما مز فحينئذ يجوز أن يكون هؤلاء معه حين المحاجة ودعوى انفراده عنهم إذ ذاك لا بد لها من دليل ، ولا مانع من جعل هذا باعتبار حالين وزمانين فتأمّل. قوله : ( تكرير لبيان ما نجاهم منه ) حاصله أنه لا تكرير فيه لأن الأوّل إخبار بأن نجاتهم برحمة الله ، وفضله والثاني بيان لما نجوا منه وأنه أمر شديد عظيم لا سهل فهو للامتنان عليهم وتحريض لهم على الإيمان ، وليس من قبيل أعجبني زيد وكرمه كما قيل أو هما متغايران فالأوّل إنجاء من عذاب الدنيا ، والثاني من عذاب الآخرة فرجح الأوّل بملاءمته لمقتضى المقام ، وقوله لبيان اللام للتعليل لأصله تكرير وقد أورد على الثاني أن إنجاءهم منه ليس في وقت نزول العذاب في الدنيا ، ولا مسبباً عنه إلا أن يجاب بأنه عطف على المقيد والقيد كما قيل في قوله : { لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ } [ سورة سبأ ، الآية : 30 ] وقد مرّ تحقيقه ، ولا يخفى ما فيه من التكلف من غير داع لأن الموافق للتعبير بالماضي المفيد لتحققه حتى كأنه وقع أن يجعل باعتبار ذلك واقعاً في وقت النزول تجوزاً ، والمعنى حكمنا بذلك لهم وتبين لهم ما يكون لهم
لأن الدنيا أنموذج الآخرة مع أن في كلام المصنف إشارة إلى أن المعنى نجيناهم في الدنيا كما سننجيهم في الآخرة فتامل ، والمراد بالغلظ تضاعفه. قوله : ( أنت اسم الإشارة باعتبار القبيلة ) فالإشارة إلى ما في الذهن وصيغة البعيد لتحقيرهم أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم ، وإذا كانت لمصارعهم وقبورهم فالإشارة للبعيد المحسوس والإسناد مجازي أو هو من مجاز الحذت أي تلك قبور عاد أو أصحاب تلك عاد. قوله : ( كفروا بها ) هذه الجملة كالتفسير لما قبلها وأشار بتفسيره إلى أن جحد متعد بنفسه ، وقد عدى بالباء حملا له على الكفر لأنه المراد أو بتضمينه معناه كما أن كفر جرى مجرى جحد فتعدى بنفسه في قوله كفروا ربهم وقيل كفر كشكر يتعدى بنفسه ، وبالحرف وظاهر كلام القاموس إن جحد كذلك أي كفروا بالله ، وأنكروا آياته التي في الأنفس والآفاق الدالة على وجوده فكأنهم كانوا منكرين للصانع لا مشركين. قوله : ( ومن عصى رسولاً فكأنما عصى الكل الخ ( هذا بالنسبة إلى التوحيد لأن الكل متفقون عليه فعصيان واحد عصيان للجميع فيه ، أو لأنّ القوم أمرهم كل رسول بطاعة الرسل إن أدركوهم والإيمان بهم لا نفرق بين أحد من رسله فالضمير في لأنهم للقوم ، وأمروا مبني للمجهول ويجوز أن يكون الضمير للكل وأمروا على صيغة المعلوم أي كل نبي أمر قومه بذلك ، وقوله من عند بتثليث النون ، وعنوداً مصدر بضم العين وأصل معنى عند اعتزل في جانب لأن العند الجانب ومنه عند الظرفية. قوله : ( أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين الخ ( يعني أن الكلام على التمثيل بجعل اللعنة كشخص تبع آخر ليدفعه في هوّة قدامه فالمتبعون قدامهم الجبارون أهل النار ، وخلفهم اللعنة والثبور وضمير اتبعوا إما لعاد مطلقا أو للمتبعين للجبارين منهم فتعلم لعنة غيرهم بالطريق الأولى ، وتكبهم تلقيهم على وجوههم. قوله : ( جحدوه الخ ) كأنه إشارة إلى ما مرّ من أن تعديته بنفسه لإجرائه مجرى جحداً ، وهو من كفران النعمة وهو متعد بنفسه ففي الكلام مضاف مقدر أو هو على الحذف والإيصال. قوله : ( دعاء عليهم بالهلاك الخ ) قد مرّ تحقيق البعد ودلالته على الهلاك ، وأنه حقيقة أو مجاز- قيل ويجوز أن يكون دعاء باللعن كما في القاموس البعد والبعاد اللعن ، ولا وجه لما قيل إنه من المزيد ، وقوله والمراد الخ يعني أنهم
كانوأ قبل أن يهلكوا مستأهلين لهذا ومثله كثير في كلام العرب كقوله :
لايبعدن قومي الذين هم سمّ العداة وآفة الجزر
واللام للبيان كما في قولهم سقياً له لا للاستحقاق كما قيل : والذي حمله عليه قوله كانوا مستوجبين وقد علمت أن(5/108)
ج5ص109
معناه أنه تأويل للذعاء فإنه لا معنى له بعد الوقوع فلذا أولوه بأن المراد منه أنهم مستوجبون لذلك ، وقوله تفظيعاً لأمرهم ناظر إلى إعادة ذكرهم وقوله ، وحثا نظار لتكرير ألا. قوله : ( وفائدثه تمييزهم عن عاد الثانية الخ ) يعني أنه إشارة إلى أن عادا كانوا فريقين عادا الأولى وعادا الثانية فيكون إفادة لذلك لا لدفع اللبس هنا حتى يرد عليه ما قيل إنه ضعيف لأنه لا لبس في أن عادا هدّه ليست إلا قوم هود عليه الصلاة والسلام للتصريح باسمه وتكريره في القصة ، وقيل المراد تأكيد تمييزهم ، وقيل : ذكر للفواصل أو ليفيد مزيد تأكيد بالتنصيص عليهم ، وارم سيأتي تفسيرها. قوله : ( هو كوّنكم منها لا غيره الخ ) قالوا إنه أخذ الحصر من تقديم الفاعل المعنوي مثل أنا قضيت حاجتك واعتبره الزمخشري في هذا وفي قوله استعمركم فيها أيضا والمصنف رحمه الله سكت عنه اكتفاء ببيان هذا عنه لا أنه عطف بعد اعتبار التقديم فلا ينسحب على ما بعده لأن الأول أنسب بالمقام ، وقد يقال الحصر مستفاد من السياق لأنه لما حصر الإلهية فيه اقتضى حصر الخالقية أيضا فبيان ما خلقوا منه بعد بيان أنه الخالق ا!بر لا غيره يقتضي هذا وبيان إنشائهم من الأرض والتراب بأن المراد خلقهم منها بالذات أو بالواسطة أو أنهم خلقوا من النطف والنطف من الغذاء الحاصل من الأرض ، وقد مرّ في الأنعام أنّ المعنى ابتدأ خلقكم منها فإنها المادّة الأولى ، وآدم الذي هو أصل البشر صلى الله عليه وسلم خلق منها أو خلق أباكم فحذف المضاف. قوله : ( عمركم فيها واستبقاكم الخ ) العمازة قال الراغب : نقيض الخراب يقال عمر أرضه يعمرها عمارة فهي معمورة وأعمرته الأرض واستعمرته فوضت إليه العمارة ، وقال : استعمركم فيها والعمر مدة عمارة البدن بالحياة والروح ، وهو دون البقاء ولذا وصف به الله دون هذا ، والعمر والعمر واحد وخص بالقسم المفتوح ويقال عمرت المكان وعمرت به بمعنى أقمت والعمرى في العطية أن تجعل له شيئا مدة عمرك أو عمره كالرقبى ، وتخصيص لفظه تنبيه على أن ذلك شيء معار انتهى فقوله عمركم بالتشديد من العمر ، وأما العمارة ففعلها مخفف يشير إلى أنه يجوز أخذه من العمر وهو مدة الحياة. قوله : ( أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها ) هذا هو الوجه الثاني على أنه من العمارة ، ومعناه أنه جعلكم قادرين على ذلك وأمركم بها فالسين للطلب على حقيقتها ولذا عطفه عليه ، وذكر القدرة توطئة له وعلى الأوّل لا طلب فيه كما أنه على تفسيره بجعلكم عمارها الاستفعال فيه بمعنى الأفعال.
قوله : ( وقيل هو من العمرى ) بضم فسكون مقصور وقد تقدم تفسيرها وهل هي هبة أو عارية تفصيله في الفروع واستدل الكسائيّ رحمه الله تعالى بهذه الآية على أن عمارة الأرض! واجبة لطلبها منهم وقسمها في الكشاف إلى واجب كالقناطر اللازمة والمسجد الجامع ومندوب كالمساجد ومباح كالمنازل وحرام كما يبنى من مال حرام وقد كان هؤلاء أعمارهم طويلة إلى الألف مع ظلمهم فسأل اللّه نبيّ لهم عن سبب تعميرهم فقال الله إنهم عمروا بلادي فعاس فيها عبادي يعني لأنهم عمروا البلاد بحفر الأنهار وغرس الأشجار فطولت لهم الأعمار كما قال الشاعر :
ليس الفتى بفتى لايستضاءبه ولا يكون له في الأرض آثار
وقال آخر :
إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
وفوله ويرثها منكم أي يرثها من بعدكم الله لأنه خير الوارثين. قوله : ( أو جعلكم معمرين دياركم الخ ) هذا على كونه من العمري أيضاً وهو ما في الكشاف حيث قال الثاني أن يكون بمعنى جعلكم معمرين دياركم فيها لأنّ الرجل إذا ورث داره من بعده فكأنما أعمره إياها ليسكنها عمره ، ثم يتركها لغيره ، وقد قيل عليه إن ما في الكشاف أن معنى استعمركم جعلكم معمرين بوزن اسم الفاعل من أعمره ، وقوله المصنف تسكنونها مدة عمركم يقتضي أن معمرين على صيغة المفعول فإن أردت حمل كلامه على ما في الكشاف جعلت الأعمار مفهوما من قوله ، ثم تتركونها لغيركم لأن تركها للغير وتوريثها إياه بمنزلة الأعمار لذلك الغير حيث يسكنها هو أيضا مدة عمره ، ثم يتركها لغيره ، ولك أن تقول مراد المصنف رحمه اللّه(5/109)
ج5ص110
أنها لهم عمرى إما للموروث عنه فلأن الله جعلها له مدّة عمره ، وإما للوارث فلأنّ الله أو موزثه جعلها له كذلك ، فلا حاجة إلى جعل العمرى مخصوصة بقوله ثم تتركونها حتى يكون ما قبله توطئة ، أو زائداً على المراد ، ولا يرد عليه ما قيل : إنّ الأولى أن يقول أو جعلكم معمرين دياركم تتركونها بعد انقضاء أعماركم لغيركم يسكنها مذة عمره في تحقيق كونه معمر إبل الاعتبار فيه للمعمر له مدة عمره ، ولا يرد على هذا القائل أنه توهم أن معمرين في كلام المصنف رحمه الله بزنة اسم الفاعل ، وهو بزنة المفعول كما قيل ، مع أنه لا مانع منه ، وحاصله أن الوجوه ثلاثة : إما أن يكون استعمركم من العمر أو التدمير أو العمرى. قوله : ( قريب الرحمة الخ ( لقوله تعالى : { إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [ سورة الأعراف ، الآية : 56 ] والقرآن يفسر بعضه بعضا وقد جعل قوله قريب ناظراً لقوله توبوا ، ومجيب لاستغفروا ، أي ارجعوا إلى الله فإنه قريب منكم أقرب
من حبل الوريد ، واسألوه المغفرة فإنه مجيب للسائلين ، وهو وجه حسن ، وكلام المصنف رحمه الله غير بعيد منه ، ومخايل جمع مخيل وهي الإمارة والسداد بالفتح الصلاج. قوله : ( أن تكون لنا سيدا أو مستشارا ) أن تكون بدل من الضمير المستتر في مرجوّا بدل اشتمال أو مفعول فعل مقدر أي نرجو أن تكون والمقصود تفسيره ، وقوله : انقطع رجاؤنا مستفاد من قوله قبل هذا ، وقوله على حكاية الحال أي في بعيد لانتهائنا لأنه على حاله. قوله : ( موقع في الريبة ) يعني أنه اسم فاعل من أرابه المتعدي ، بمعنى أوقعه في الريبة ، أو من أراب اللازم بمعنى صار ذا ريب وشك ، وذو الريب وصاحبه من قام به لا نفس الشك ، فالإسناد مجازي للمبالغة كجد جدّه ، وأما على الاحتمال الأوّل ، فالظاهر أنه مجازي أيضا ، لأن الموقع في الريب بمعنى القلق والاضطراب هو الله لا الشك فعده حقيقة ، أما بناء على أنه فاعل في اللغة ، واما لما قيل إنهم غير موحدين معتقدين أن الموقع في القلق هو الله لا الشك نفسه ، وهو ظاهر كلام الكشاف ، وقد صرح في آخر سبا بأنّ كليهما مجاز لأن المريب إنما يكون من الأعيان لا من المعاني ، واما أنّ القوم جهلة لا يفرقون بين عين ومعنى ، فمما لا يلتفت إليه لأنّ ما ذكر في الحكاية لا المحكى وكذا ما قيل : إنّ معنى كون الشك موقعاً في الريبة أن شك بعض جماعة يوقع الريبة لآخرين ، فإن الطباع مجبولة على التقليد أو باعتبار أن أصل الشك قد يوجب استمراره وهو من ضيق العطن ، وقلة الفطن وهذا كله مبني على أن بين كلامي الشيخين في المحلين فرقاً وليس بمسلم قال في الكشف قوله على الاسناد المجازي متعلق بالوجهين لأنه قال في آخر سبا بعد ما ذكر الوجهين وكلاهما مجاز إلا أن بينهما فرقاً وهو أن المريب من الأوّل منقول ممن يصح أن يكون مريبا من الأعيان إلى المعنى والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر فعلى الأوّل هو من باب الإسناد إلى السبب لأن وجود الشك سبب لتشكيك المشكك ، ولولاه لما صدر عنه التشكيك انتهى ، وهذا هو الحق عندي. قوله : ( بيان وبصيرة ( تقدم تفسير البينة بالحجة والبرهان ، وفسرها هنا بما ذكر لمناسب المقام لأن اً صل معنى البينة كما قال الراغب : الدلالة الواضحة حسية أو عقلية والبيان الكشف عن الشيء بنطق أو غيره فالمناسب لقوله فمن ينصرني تفسيره بما ذكروا والمعنى إن كان عندي بصيرة ودلالة على الحق وخالقت من يدفع عني ! أستحقه من الله. قوله : ) وحرف الشك
باعتبار المخاطبين ) حرف الشك هو أن واصل وضعها أنها لشك المتكلم ، وهو غير شاك في كونه على بينة لكنه من الكلام المنصف والاستدراج ولذا أتى به على زعمهم وما عندهم من الشك في أمره ، وقوله يمنعني من عذابه يعني أن النصرة هنا مستعملة في لازم معناها وهو المنع والدفع ، وفي الكلام مضاف مقدر أو النصر مضمن معنى المنع ولذا تعدى بمن ، وقوله : في تبليغ رسالته أي تركه والمنع عن الاشراك به. قوله : ( فما تزيدونني إذن باستتابعكم إياي ) كذا في الكشاف فقال العلامة ، وتبعه غيره إن أذن ظرف حذف منه المضات إليه ، وعوض منه التنوين وأشار لرده الشارح المدقق فقال قوله إذن حينئذ دل بإذن على أن الكلام جواب وجزاء وبحينئذ على التعقيب المستفاد من الفاء لا أنه تأكيد يدل على أن إذن تختص بالظرفية ، وقد خبط فيه(5/110)
ج5ص111
أرباب الحواشي هنا خبط عشواء لعدم النظر إلى معزاه فإنه أراد أن حذف المضاف ، وتعويض التنوين عنه إنما هو في إذ لا في إذا ، وقد جوزه في إذا بعض النحاة في بعض الآيات فرده أبو حيان بأنه لم يقله أحد من النحاة ونسبه إلى الوهم لكن في الدر المصون أنه ذهب إليه بعض أجلة المفسرين وفي كلام العرب ما يشهد له فعلى المشهور في العربية لا يصح ما ذكر مع أنّ المعنى ليس عليه إذ هو إشارة إلى أنّ قوله فما تزيدونني غير تخسير جواب للشرط المذكور لا إن جوابه محذوف يدل عليه قوله فمن ينصرني ، وقوله : حينئذ بيان لتعقيبه له المصحح للجوابية فإذن بمعناها المشهور حرف جواب ، وجواز وقد وجد رسمه بالنون في النسخ ولو كان كذلك تعين كتابته بالألف. قوله : ) غير أن تخسروني بابطال الخ ( يعني أن التخسير معناه جعله خاسرا وفاعل التخسير قومه ومفعوله هو والمعنى تجعلوني خاسرا لأني باتباعكم أكون مضيعا لما منحني الله من الحق ، وهو خسران مبين أو فاعل الخسران صالح والمفعول هم ، ومعنى تخسيره لهم نسبتهم إلى الخسران فإن التفعيل يكون للنسبة كفسقته إذا نسبته للفسق ، والمعنى ما يزيدني استتباعي غير أني أقول لكم إنكم في ضلال وخسران لا إن أتبعكم فيكون إقناطاً لهم من اتباعه ، وما قيل : إن الأولى أن يقال غير أن أنسب إلى الخسران لأن المفروض متابعته باختياره لا باختيارهم حتى يلاموا فلا إصابة فيه في اللفظ ، ولا في المعنى ، وقيل : إن المعنى غير تخسيري إياكم كما ازددتم تكذيبأ إياي ازدادت خسارتكم فكان سببها ، وقوله : منحني الله به أي باستتباعكم أو ضمن منح معنى خص فتعلقت به. قوله : ( 1 نتصبت آية على الحال وعاملها الخ ( جعل عاملها الاشارة لأن المبتدأ لا يعمل فيها ، ولذا منعها بعض النحاة فيما ليس من هذا القبيل لأن اسم الإشارة فيه معنى الفعل ، ولذا يسمى عاملاً
معنويا ، وأما ما يلزمه من اختلاف عامل الحال ، وعامل صاحبها ، فقد فصل في غير هذا المحل ، وهذه حال مؤسسة وهو ظاهر ، وجوز فيها أن تكون مؤكدة ، كهذا أبوك ، عطوفا لدلالة ناقة الله على كونها آية ، وأن يكون العامل معنى التنبيه أيضاً. قوله : ( ولكم حال منها تقدّمت عليها لتنكيرها ) قيل : عليه أنّ مجيء الحال من الحال لم يقل به أحد من النحاة لأن الحال تبين هيئة الفاعل أو المفعول ، وليست الحال شيئا منهما ، وأجيب عنه بأنها مفعول للإشارة في المعنى لأنها مشار إليها ولا يرد عليه أن المشار إليه الناقة لا الآية لأن المراد من الآية الناقة وقول الزمخشري : بعدما جعلها حالاً من آية أنها متعلقة بها أراد التعلق المعنوي لا النحوي ، فلا يرد عليه ما قيل عليه إنه تناقض لأنها إذا تعلقت بها تكون ظرفا لغواً لا حالاً ، وقيل : لكم حال من ناقة الله ، وآية حال من الضمير فيه ، فهي متداخلة وهي نافعة لهم ومختصة بهم هي ومنافعها فلا يرد عليه أنه لا اختصاص لدّات الناقة بالمخاطبين ، وإنما المختص بهم كونها آية لهم ، وقيل لكم حال من الضمير في آية لأنها بمعنى معلمة ، والأظهر كون لكم بيان من هي آية له كما ذكر في الأعراف ، وقد مر فيها أيضا تجويز كون ناقة اللّه بدلاً أو عطف بيان من اسم الإشارة ، ولكم خبره ، وآية حال من الضمير المستتر فيه. قوله : ( ترع نباتها وتشرب ماءها ( بالجزم بدل من تأكل مفسر له ، وذكر الشرب لدلالة المقام ففيه اكتفاء أو جعل الأكل مجازاً عن التغذي مطلقاً ، والقول بأن المجاز يحتاج إلى قرينة مشترك الإلزام لأن التقدير كذلك. قوله : ( ولا تمسوها بسوء ) مر تحقيقه في الأعراف ، وأن النهي عن المس الذي هو مقدمة الاصابة بالسوء مبالغة كما في قوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ } [ سورة الأنعام ، الآية : 152 ] وقد مر الكلام عليه ثمة ، وقوله : عاجل إشارة إلى أنه بمعنى السرعة لأنّ القرب كثر استعماله في المكان ، وقوله : عيشوا تفسير له لأنّ التمتع والاستمتاع انتفاع ممتد الوقت ، والمراد بالدار المنزل أو الدنيا لأنها تطلق عليهما ، وقوله : ثم تهلكون لأنّ بيان مذة الحياة يستلزم بيان الهلاك بعدها والعقر قطع عضو يؤثر في النفس ، والعاقر لها برضاهم شخص اسمه قدار كهمام بالدال
المهملة. قوله : ( أي غير مكذوب فيه الخ ) يعني أنّ المكذوب وصف الإنسان لا الوعد ، لأنه يقال : كذب زيد عمراً في مقالته ، فزيد كاذب وعمرو مكذب ، والمقال مكذوب فيه فدفعه بثلاثة أوجه إنه على الحذف والايصال كمشترك(5/111)
ج5ص112
لما حذف الحرف صار المجرور مفعولاً على التوسع ، لأن الضمير لا يجوز نصبه على الظرفية ، والجار لا يعمل بعد حذفه كما تقرّر في النحو ، أو جعل الوعد مكذوبا على طريق الاستعارة المكنية والتخييلية ، وهو معنى قول المصنف رحمه الله على المجاز ، وقيل : معناه أن مكذوب بمعنى باطل ومتخلف مجازاً ، أو مكذوب مصدر على وزن مفعول كمفتول ومجلود بمعنى قتل وجلد ، فإنه سمع منهم ذلك وإن كان نادراً ، وقوله : ويوم شهدناه سليماً وعامرا
تمامه :
قليل سوى الطعن النهال نوافله
فشهد بمعنى حضر متعدّ لواحد ، وهو سليما وعامرا وهما اسما قبيلتين صرفا باعتبار الحيّ ، وسليم مصغر فشهدناه أصله فشهدنا فيه ، وقليل صفة يوم المجرور بعد واو رب ، ونوافله فاعله جمع نافلة وهي العطية لغير عوض ، ونهال جمع ناهل بمعنى عطشان ، ويكون بمعنى مرتو فهو من الأضداد ، أو هو جمع نهل اسم جمع لناهل كطلب وطالب ، ويروى الدراك أي المتابعة ، أي ليس في ذلك اليوم عطايا سوى الطعان فهو كقوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
قوله ( أي ونجيناهم من خزي الخ ) يعني المعمول لا يعطف على عامله ، فهو متعلق بمحذوف هو المعطوف ، ولا يكون تكراراً للوجهين السابقين ، وقيل : الواو زائدة ، وفسر الخزي بالهلاك لأنه ورد بمعناه ، وان كان المعنى الآخر هو المشهور.
قوله : ( أو ذلهم وفضيحتهم الخ ) اعترض عليه أبو حيان رحمه اللّه بأنه لم يتقدم للقيامة
ذكر ، والمذكور جاء أمرنا الخ فالتقدير يوم إذ جاء أمرنا وهو الوجه الأوّل ، فيتعين والدفع بأن القرينة قد تكون غير لفظية كما هنا فيه نظر ، وقيل : القرينة قوله : { عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } السابق فإن المراد به القيامة. قوله : ( على اكتساب المضاف ) وهو يوم البناء من إذ فإنه أحد ما يكتسب بالإضافة كما بين في النحو ، وقوله : القادر على كل شيء العموم من صيغة المبالغة ، وحذف المتعلق والتخصيص لعدم الاعتداد بقدرة غيره وغلبته ، أو المراد في ذلك اليوم فيقدر على
انجاء بعض واهلاك آخرين ، وسبق تفسير ذلك في قصة صالح ثمة. قوله : ( نوت أبو بكر ههنا الخ ) وقع في نسخة قبل هذا قرأ حمزة وحفص ثمود هنا وفي الفرقان والعنكبوت بفتح الدال من غير تنوين ، ونونه الكسائي بخفض الدال في قوله قعالى : { أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ } ذهاباً إلى الحيّ ، قالوا وهو الموافق لما في كتب القرا آت لا ما في الأخرى ، وهي قوله : نونه أبو بكر أي شعبة في ألا أن ثمود ، ألا بعدا لثمود ، لا في والى ثمود أخاهم ، ونونه في النجم أيضاً ، أي لا في العنكبوت والفرقان ، وقوله : والكسائي في جميع القرآن أي في المواضع الثلاثة في هذه السورة ، وفي السور الثلاث أيضا ، وقوله : وابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو ، في قوله : ألا بعدا لثمود لا في الموضعين الآخرين منها ، ولا في باقي السور. قوله : ( ذهاباً إلى الحني ( لأنّ أسماء القبائل يجوز فيها الصرف وعدمه نظراً إلى الحيّ والقبيلة ، كما هو معروف في النحو ، وقوله أو الأب ا!بر يعني أن يكون المراد به الأب الأوّل ، وهو مصروف فيقدر مضاف كنسل وأولاد ونحوه ، أو المراد به صسرف نظر الأوّل وضعه فتأمّل ، وقوله : كانوا تسعة ، وقيل : أحد عشر ، وقيل : اثني عشر. قوله : ( ببشارة الولد وقيل الخ ) في الكشاف الظاهر الأوّل ، قال في الكشف لأنه الظاهر من ألاطلاق ، ولقوله : { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } [ سورة الذاريات ، الآية : 28 ] وان كان يحتمل أن ثمة بشارتين ، وأن يحمل في كل موضمع على واحدة منهما ، والتبشير يهلاك الكافرين ، لأنه أجل نعمة على المؤمنين ، ومرضمه المصنف رحمه الله تعالى لما سمعته. قوله : ( سلمنا عليك سلاماً الخ ) أي إنه منصوب بفعل محذوف ، والجملة مقول القول ، أو هو منصوب بنفس القول لما فيه من معنى الذكر ، ووجه كون الجواب أحسن أنه جملة اسمية دالة على الدوام والثبات ، فهي أبلغ ، والسلام معناه السلامة مما يضر ، وهو أمان لهم ، واليه يشير قوله أمركم. قوله : ( وقرأ حمزة الكسائي سلم ) بدون ألف مع كسر السين وسكون اللام وهو بمعنى التسليم ، وفسعر بالصلح ولا يناسب المقام إلا أن يكون عبارة عن التحية أيضا لأنها كانت كلمة أمان ، كما في الكشف ، وقيل : إنهم لما امتنعوا من تناول طعامه وخاف منهم قاله : أي أنا مسالم لا محارب لأنهم كانوا لا يأكلون طعام من بينهم وبينه حرب ، وهذا يدل على أن قوله هذا بعد تقديم الطعام ، وقوله تعالى : { فَمَا لَبِثَ } الخ صريح في خلافه ، وهذه القراءة في
سلام الثاني ، كما يدل عليه كلام(5/112)
ج5ص113
المصنف رحمه الله ، ووقع في الكشاف فيهما ، فلا تكون قراءة حمزة الكسائيّ بل غيرهما لأنهما لم يقرآ بها ، فيهما لمخالفته للمنقول في علم القرا آت ، وعلى قراءة الرفع إما مبتدأ محذوف الخبر أي عليكم سلام ، أو خبر محذوف المبتدأ أي أمركم سلام ، قيل : والأول أوجه لأنه يكون داخلاً في جملة إكرامهم ، وأما تقدير أمركم فمحمول على أن معناه سلمني منكم وسلمكم مني لأنه كلمة أمان. قوله : ) فما أبطأ مجيئه ) يعني لبث هنا بمعنى أبطأ وتأخر ، وأن جاء فامحله أو فاعله ضمير إبراهيم ، وأن جاء مقدر بحرف جز متعلق به ، أي ما أبطأ في أن جاء أو عن أن جاء ، وحذف الجار قبل ا! ، وأن مطرد على القولين المشهورين في محله ، والباء في بعجل للتعدية أو الملابسة ، لكن في قوله مقدر أو محذوف ، نظر ، لأنه إذا كان محذوفاً كان مقدراً فلا فرق بينهما ، وقيل في توجيهه إنه إشارة إلى القولين في محله بعد الحذف ، هل هو الجرّ فيكون مقدراً لأن المقدر في قوة المذكور فيبقى عمله ، والمحذوف يكون متروكاً فلا يبقى أثره فيكون في محل نصب ، وقيل : إنه راجع إلى في فقط ، وأته على ملاحظ معناها إمّا أن يكون في محل جرّ بحذفها ، أو منصوبا على الظرفية بعد تقديرها ، ولا يخفى ما فيه من التكلف ، مع أن نصب المصدر المؤوّل من أن ، والفعل على الظرفية ، كالصريح في نحو آتيك خفوق النجم غير مسلم عند النحاة ، والرضف براء مهملة مفتوحة وضاد ساكنة معجمة ، وفاء حجارة تحمى ويلقى عليها اللحم ليشوى بها ، والودك بفتح حروفه المهملة الدسم ، والجلال بكسر الجيم جمع جل بضمها وتفتح ، وهو ما يدثر به الخيل وتصان ، وعلى الأخير بمعنى سمين تشبيها لودكه بالجلال عليه ، أو ما يسيل منها بعرق الدابة المجللة للعرق ، وعرّقته هيأته للعرق بالدثار. قوله : الا يمذّون إليه أيديهم ) رأى أن كانت بصرية فجملة لا تصل حال ، وأن كانت علمية فمفعول ثان ، وتفسير عدم الوصول بعدم المدّ على جعله كناية عنه ، لأنه لازم له فلما كان الوصول ممكنا فسره بما ذكر ، ويلزمه عدم اكل ، فما قيل إنه لو جعله كناية عن لا يأكلون كان أولى لا وجه له ، وقيل : روي أنهم كانوا ينكتون اللحم بقداح في أيديهم ، فلذا قيل لا تصل الخ ، فليس كناية عن عدم الوصول كما ذكره المصنف رحمه اللّه ، وفيه نظر. قوله : ( أنكر ذلك منهم وخاف الخ ) يعني لظنه أنهم بشر وكان بمعزل عن الناس ، والضيف إذا هم بفتك لا يأكل من الطعام في عادتهم ، ونكر كالمؤيد في المعنى ، وقيل : بينهما فرق لكن الكثير في الاستعمال هو المزيد ، ولما فسر الإيجاس بالادراك أو الإضمار ورد أنه لا يطلع عليه ، فكيف قالوا له لا تخف دفعه بأنهم رأوا عليه أش
الخوف كما يظهر ذلك في الوجه ونحوه ، ويجوز أن يعلمهم الله به ، وأمّا قوله في آية أخرى : { إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ } [ سورة الحجر ، الآية : 52 ، فلا ينافي هذا لأنّ هذا كان في أوّل الأمر ، وذاك بعده لاختلاف الأحوال والأطوار فقوله في الحجر : { إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ } [ سورة الحجر ، الآية : 52 ] لا ينافي قول المصنف رحمه الله هنا أحسوا منه أثر الخوف ، حتى يقال : إنه غفلة منه لجواز أن يشاهدوا منه أثر الخوف 4 فبقولون : لا تخف فلا يطمئن لقولهم ، ويقول بل أنا خائف لأنّ أحوالكم ليست كسائر الضيفان. قوله : ( إنا ملائكة مرسلة إليهم العذاب الخ ) يعني أن علمه بملكيتهم من خبرهم هذا لما خافهم لظن أنهم بشر طرقوه بشر قالوا له إنا ملائكة ، ولذا لم نأكل من طعامك ، ولما لم يكف هذا لدفع الخوف لاحتمال أنهم ملائكة أرسلوا بما يخشا. فيه أو قومه ذكروا له ما أرسلوا له ، وهو الموافق لما ذكره في غير هذه السورة ، والزمخشري رجح أنه عرفهم قبل ذلك ، وإنما خشي نزولهم لما يكره ، لأن ظاهر النظم يدل عليه ، لكن قيل : عليه تقديمه الطعام وتهيئته ينافيه ، وأجيب بأنه عرفهم لكن بعد ذلك ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وأن السياق هنا وفي الحجر يدل على ما ذكره فتأمّلة ، فانه يمكن التوفيق بين ذلك ، وقوله : ) وامرأته قائمة ) جملة حالية أو مستأنفة للإخبار ، وهي بنت عمه سارة بنت هاران. قوله : ( وراء الستر تسمع محاورتهم ( بالحاء المهملة أي تكالمهم ، قيل : ومدار الوجهين على أن تستر النساء كان لازما أو لا ، والظاهر الثاني لتأخر نزول آية الحجاب. قوله : ( فضحكت سرورا الخ ) الضحك إما حقيقة ، أو المراد التبسم وطلاقة الوجه ، وطلبها لوطا عليه السلام لأنه كان أخاها ، وقيل ابن أخيه ، قيل وأو ليست لمنع الجمع ، وإنما هي للإشارة إلى صلاحية كل منها للعلية. قوله : ( فضحكت فحاضت ) قيل : يبعده قوله : ( لألد وأنا عجوز ) ولو(5/113)
ج5ص114
كان الحيض قبلى البشارة لم تنكر الحمل والولاد ، لأنّ الحيض معيارها ، ودفع بأن الحيض في غير أوانه مؤكد للتعجب أيضا ، ولأنه يجوز أن تظن أن دمها ليس بحيض بل استحاضة ، فلذا تعجبت ، وقوله :
وعهدي بسلمى ضاحكافي لبابة ولم تعدحقاثديها أن تحلما
معناه إنه قريب العهد بها طفلة يصف صغر سنها ، فعهدي مبتدأ وخبره محذوف أي قريب ، وقوله : ضماحكا لم يؤنثه لاختصاصه بالنساء كحائض وطامث ، ولبابة بباءين موحدتين في النسمخ ، ولم يضبطوه لكن منهم من فسره بثوب يغطي به ، ومنهم من فسره بجماعة النساء ، وقيا! : إنه اسم موضع ، ولم يعد أي يجاوز ، وحقا تثنية حق وبه يشبه الثدي في الصغر ،
وتحلما أصله تتحلما أي يظهر حلمته وتكبر ، وهي رأس الثدي ، وفي نسخة تحلبا بالباء كأنّ معناه خروج لبنهما. قوله : ( وقرئ بفتح الحاء ) قرأها محمد بن زياد الأعرابي ، وقيل : إنه معروف في اللغة ، وقيل : إنه مخصوص بضحك بمعنى حاض. قوله : ( نصبه ابن عامر وحمزة وحفص! بفعل يفسره ما دل عليه الكلام ) هذه القراءة بفتح الباء فتحتمل النصب والجرّ بالفتحة لعدم صرفه ، فاختلف القائلون بالنصمب فقيل : إنه معطوف على بإسحق ، على توهم نصبه لأنه في معنى ووهبنا له إسحق فيكون كقوله :
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولاناعب إلا ببين غرابها
فهو من عطف التوهم كما توهم الشاعر وجود الباء ، فهذا عكسه لكن هذا غير مقيس ، وقيل : إنه منصوب بفعل مقدر ، أي وهبنا يعقوب ، ورجحه الفارسي رحمه الله ، إلا أنه قيل عليه إنه على هذا غير داخل تحت البشارة ، ودفع بأن ذكر هبة الولد قبل وجوده بشارة معنى ، وقيل هو منصوب عطفا على محل بإسحق لأنه في محل نصب ، والفرق بينه وبين عطف التوهم ظاهر ، وذكر المصنف رحمه الله وجهين ، وترك الأول المذكور في الكشاف إشارة إلى أنه شاذ لا ينبغي التخريج عليه مع وجود غيره. قوله : ( أو على لفظ إسحق وفتحته للجرّ فإنه غير مصروف ا للعلمية والعجمة وعلى هذا هو داخل في البشارة ، وقوله : ورذ الخ ، في الدر المصون إن هذا رذ للوجهين المحكيين بقيل ، وسياق المصنف هـ حمه الله ظاهر فيه ، ولذا فسره به المحشي رحمه الله ، لكنه قيل عليه إنه رذ للثاني فقط ، يعني يرذه الفصل بين المعطوف وهو يعقوب والمعطوف عليه وهو إسحق بالظرف ، وهو من وراء إلص !حق لوجود الفصل بينهما ، لكن لا من حيث إنه فصل بين المتعاطفين ، بل للفصل بين العاطف النائب مناب العامل ، وهو حرف الجرّ هنا فكما لا يجوز الفصل بينه وبين مجروره لا يجوز الفصل بين المجرور وما قام مقام الجار ، فلا بد من تقديم المجرور أو إعادة الجار ، وهذا المحذور في الجرّ لا في العطف على المحل وفيه نظر ، وأورد على العطف على المحل إنه إنما يتأتى إذا جاز ظهور المحل في فصيح الكلام كقوله :
ولسنا بالجبال ولا الحديدا
وبشر لا يسقط باؤه من المبشر به في فصيح الكلام ، وقوله : ما عطف عليه بالبناء للفاعل ، يعني الواو فلا يرد أن الفصل بينه وبين المعطوف عليه غير ممتنع. قوله : ( وقرأ الباقون بالرفع الخ ) وخرّجت قراءة الرفع على وجوه ، على أنه مبتدأ خبره الظرف ومتعلقه مولود ، أو
موجود كما قدّره ، وقدره غيره كائن والجملة حالية أو مستأنفة ، وقيل إنه فاعل للظرف وهذا على مذهب الأخفش كما قاله المعرب ، وقيل : إنه على مذهب الجمهور لاعتماده على ذي الحال ، وهو وهم لأنّ الجار والمجرور إذا كان حالاً لا يجوز اقترانه بالواو فتأمّل ، وقيل : إنه مرفوع بيحدث مقدرا. قوله : ( وقيل الوراء ولد الولد الخ ) قال الراغب رحمه الله : يقال وراء زيد كذا لمن خلفه ، نحو قوله : { وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ } فمن فسره بهذا أراد أنه يخلفه ويكون من جهته والا لم يكن وراءه فهو مجارّ ظاهر فلا يرد عليه قول الإمام إنه تعسف لا دلالة للفظ عليه ، وهو معنى قول المصنف رحمه الله وفيه نظر ، وان أراد أن الوراء مطلقاً بمعنى ولد الولد فاللغة تأباه ، فحصل معناه أنه ولد ولد إبراهيم من جهة إسحق لا من جهة إسماعيل عليهم الصلاة والسلام وتبشيرها به إشارة إلى أنها تعيش حتى ترى ولد ولدها. قوله : ( ليس من حيث أنّ يعقوب عليه الصلاة والسلام وراءه ) يعني على هذا التفسير لأنه ليس ولد ولد إسحق ، بل ولد ولد إبراهيم عليهم(5/114)
ج5ص115
الصلاة والسلام ، وقوله : وفيه نظر عندي أنه راجع إلى هذا ، يعني أنه وراء إسحق لأنه خلفه وولده ، وكونه ولد الولد إنما يؤخذ من إضافته إليه فتأثل. قوله : ( والاسمان يحتمل وقوعهما في البثارة ) كما في قوله : { نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى } [ سورة مريم ، الآية : 7 ] وهو الأظهر ، ويحتمل أنها بشرت بولد وولد ولد من غير تسمية ، ثم سميا بعد الولادة ، وقوله : وتوجيه البشارة إليها دون أن يبشر بذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما وقع في آية أخرى ، وكونه منها يعني بالواسطة ، وحينئذ يحتاج عدم إضافته إليها لنكتة ، وقوله : ولأنها كانت عقيمة حريصة الخ ، وكان لإبراهيم ولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام. قوله : ( يا عجبي الخ ) يعني المراد بها هنا التعجب ، لا معنى الويل لأنه لا يناسب المقام ، ويدل عليه الاسنفهام ، وقوله : { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } وهذه الكلمة جارية على الألسنة في مثله ، وقوله فأطلق على كل أمر فظيع الفظيع بمعنى الثنغ ، يعني أنه إذا استعمل مطلقا من غير تقييد وقرينة دل على الثناعة والفظاعة بخلاف ما نحن فيه ، أو إذا أطلق في الاستعمال الأصلي فلا يرد عليه ، أن الأولى أن يقال أصله للدعاء بالويل ، ونحوه في جزع التفجع لشدة مكروه يدهم النفس ، ثم استعمل في التعجب ، ولا حاجة إلى ما قيل إن فيه تشنيعا للمواقعة في سن الهرم ، وقوله : وقرئ بالياء على الأصل في نسخة إيذانا على الأصل بتضمينه معنى الدلالة ، فالألف بدل من الياء ، ولذا أمالوها ، وبهذا يلغز فيقال : ما ألف هي ضمير مفرد متكلم ، وقيل : إنها
للندبة ، ولذا لحقتها الهاء ، وكونها ابنة تسعين رواية ابن إسحق رحمه الله ، والأخرى رواية مجاهد رحمه الله. قوله : ( وأصله القائم بالأمر ) فأطلق على الزوج لأنه يقوم بأمر الزوجة ، وهذا مخالف لكلام الراغب فإنه قال : البعل هو الذكر من الزوجين ، وجمعه بعولة كفحل وفحولة ، ولما تصوّروا من الرجل استعلاءه على المرأة وقيامه عليها ، شبه كل مستعل وقائم به فتأمّل. قوله : ( ونصبه على الحال الخ ) قيل : مثل هذه الحال من غوامض العربية إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر ، ففي قولك : هذا زيد قائما لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامه ، ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيد عند عدم القيام ، وليس بصحيح ، فهنا بعليته معروفة والمقصود بيان شيخوخته ، والا لزم أن لا يكون بعلها قبل الشيخوخة ، ولذا ذهب الكوفيون إلى أن هذا يعمل عمل كان وشيخا خبره ، وسموه تقريبا ، وفيه نظر لأنه إنما يتوجه إذا لم تكن الحال لازمة غير منفكة ، إما في نحو هذا أبوك عطوفا فلا يلزم المحذور ، والحال هاهنا مبينة هيئة الفاعل أو المفعول ، لأنّ العامل فيها ما في معنى هذا من معنى الإشارة أو التنبيه ، وبذلك التأويل يتحد عامل الحال وذيها ، وقوله : وبعلى بدل ، وجوّز كونه عطف بيان ، وكون شيخ تابعاً لبعلي أيضاً ، وقوله : خبر محذوف بالإضافة. قوله : ( يعني الولد من الهرمين ) بكسر الراء وهو الضعيف لكبر سنه جدّاً ، فالإشارة إلى ما ذكر وهو ولادة الولد والبشارة به ، وقوله : من حيث للتعليل ، وفي قوله : ولذلك قالوا فيه صنعة من البديع سماها في شرح المفتاح التجاذب ، لأنه جعل قالوا الواقع في النظم كأنه من كلامه بطريق الاقتباس والتقدير ، ولذلك ورد قولهم قالوا : لكته طواه. قوله : ( منكرين عليها ) يريد أنه إنكار لتعجبها من حيث العادة لا من حيث القدرة ، لأنّ بيت النبوّة ومهبط الوحي محل الخوارق ، فلا ينبغي تعجب من نشأ فيه مما خالف العادة ، ولو صدر من غيرهم لم ينكر ، وقوله فإن خوارق الخ ، بيان لوجه إنكارهم ، وقوله : ليس ببدع بكسر الباء وسكون الدال والعين المهملتين ، أي ليس بمستغرب مستبدع ، وقوله : ولا حقيق الخ عطف تفسير له ، وتذكير خبر الخوارق لإرادة الجنس ، وقوله : بأن يستغربه عاقل مستفاد من المقام ، وتخصيصهم بمزيد النعم من قوله رحمة الله وجملة رحمة الله الخ ، دعائية أو خبرية ، وملاحظة الآيات مشاهدتها. قوله : ( وأهل البيت نصب على الماخ الخ ) قال المعرب : في نصبه وجهان أحدهما أنه منادى ، والثاني أنه منصوب على المدح ، وقيل على الاختصاص
وبين النصبين فرق ، وهو أنّ المنصوب على المدح لفظ يتضمن لوصفه المدح ، كما أنّ ما للذم ، كذلك وفي الاختصاص يقصد المدح أو الذم ، لكته ليس بحسب اللفظ كقوله :
بنا تميما يكشف الضباب
كذا نقل عن سيبويه وفيه نظر ، ومعنى نصبه على المدح أنّ نصبه بتقدير امدح ونحوه ،
فهو مفعول به ، أو هو(5/115)
ج5ص116
منصوب على الاختصاص فيفيد المدح أيضاً وباب الاختصاص منقول من النداء فجعله منه باعتبار الأصل ، ولم يجعله نداء أصليا كما في الكشاف لفوات معنى المدح المناسب للمقام ، ولأن مثل هذا التركيب شاع استعماله لقصد الاختصاص وباب الاختصاص وأحكامه مفصلة في كتب النحو فانظره. قوله : ( فاعل ما يستوجب به الحمد ) فحميد فعيل بمعنى مفعول أي مستوجب للحمد مستحق له لما وهبه من جلائل النعم فلا يبعد أن يعطي الولد بعد الكبر ، وهو تذييل حسن لبيان أنّ مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن وتمجده إذ شرفها بما شرّف. قوله : ( كثير الخير والإحسان ( هذا أحد معانيه من مجدت الإبل رعت حتى شبعت ويكون بمعنى الشرف وهو قريب منه ، وقوله أي ما أوجس من الخيفة لأنّ الروع هو الخوف الواقع في القلب ، وأما الروع بالضم فهو النفس لأنها محل الروع ففرق بين الحال والمحل ، وفي الحديث : " إن روح القدس نفث في روعي " واطمأن قلبه بيان لذهاب الروع ، وقوله بعرفانهم أي اطمئنانه بسبب عرفان أنهم ملائكة أتوا لما ذكر ، وقوله بدل الروع أي إنه تبدل خوفه بالسرور والبشارة. قوله : ( يجادل رسلنا الخ ) يعني أنّ مجادلة الرسل نزلت منزلة مجادلة الله فهو مجاز في الإسناد ، وحمله عليه للتصريح به في سورة العنكبوت ، وأنّ المجادلة وان كان المراد بها السؤال لا يناسب نسبتها إلى الله ، ومجادلته فسروها بقوله أن فيها لوطا عليه الصلاة والسلام ، وهو من المؤمنين فكيف يحل بهم ذلك وللقصة تفصيل في الكشاف اقتصر منها المصنف رحمه الله على المتيقن الواقع في النظم ، وعذ هذا مجادلة لأنّ ماكه كيف يهلك قرية فيها من هو مؤمن غير مستحق للعذاب ، ولذا أجابوه بقولهم لننجينه الخ. قوله : ) وهو إما جواب لما ( دفع لأن لما لما مضى فذكر المضارع بعدها ما وجهه فوجهه بأنه
ماض عبر عنه بالمضارع لحكاية الحال ، وأصله جادلنا أو أنّ لما كلو تقلب المضارع ماضيا كما أن إن تقلب الماضي مستقبلاً ، وقوله أو لأنه ضميره ليجادلنا ، أو الجواب محذوف كما تذره وهذه جملة مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانياً تدل عليه ، وقوله أو دليل عطف على قوله جواب لما. قوله : ( أو متعلق به أقيم مقامه ) وفي نسخة مقام مقامه الخ وهذا الوجه آثره الزجاج ولكنه جعله مع حكاية الحال وجها واحداً لاً نه قال إنّ الكلام إذا أريد به حكاية حال ماضية قدر فيه أخذ أو أقبل لأنك إذا قلت قام زيد دل على فعل ماض ، وإذا قلت أخذ زيد دل على حالة ممتدة بذكر أخذ أو أقبل وعلى ما ذكره المصنف رحمه الله تبعا للكشاف هما وجهان وتحقيقه كما في الكشف أنه إذا أريد بما ذكر استمرار الماضي فهو كما ذكره الزجاج ، وان أريد التصوير المجرّد فلا يكون وجهاً آخر ويجادلنا على هذا حال من فاعل الجواب المحذوف. قوله : ( غير عجول على الانتقام من المسيء إليه ) وصفه بما ذكر من الصفات بيانا لأنه كان رقيق القلب شفوقا فلذا أحب ترك نزول العذاب عليهم رجاء لرجوعهم ، ولما كان الحلم لا يتصور في إساءة الغير قيده بقوله إليه ولا يضره كون السياق في إساءة قوم لوط عليه الصلاة والسلام كما توهم حتى قيل الأولى تركه لأنّ هذه الصفات عبارة عن الشفقة ورقة القلب كما ذكره المصنف رحمه اللّه ، ورجاء توبتهم لا ينافيه إخبار الملائكة عليهم الصلاة والسلام بتحتم تعذيبهم لأنه كان قبل بيان ذلك لكن كون ذلك لكون لوط فيهم أولى ، وقوله من الذنوب ذكره لبيان حقيقة الحال ، وقوله راجع إلى الله أي في كل ما يحبه ويرضاه ولذا سأله دفع العذاب ودلالة الكلام على ما ذكر أما حليم وأوّاه فظاهر ، وأما منيب فإن كان بمعنى رجوعه إلى الله في دفع العذاب فكذلك ، وإلا فلأنّ شأن التائب ذلك. قوله : ( على إرادة القول ) وتقديره ليرتبط ، وقيل إن المراد اعتبار معناه دون تقديره في النظم لا وجه له. قوله تعالى : ( { إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ } ) أي قدره المقضي ، ومجيء القدر المقدر عليهم لا يقتضي وقوعه ، وقيل أراد به المشارفة أي شارف المجيء والا لم يجىء بعد وفسر الأمر بما ذكر ، ولم يفسره بالعذاب أو بالأمر به كما فسره في قوله ولما جاء أمرنا نجينا هوداً لئلا يتكرر مع قوله آتيهم عذاب غير مردود كذا قيل ، وأورد عليه أنه مشترك الإلزام لأنّ مجيء القدر بالعذاب يغني عنه أيضا والتكرار مدفوع بأنه توطئة لذكر كونه غير مردود ، وعلى(5/116)
ج5ص117
ما ذكرناه ، وكذا على جعله للمشارفة لا يتأتى هذا لأنه إذا قيل شارفهم العذاب ، ثم وقع بهم لم يكن مكرراً وقوله وهو أعلم بحالهم من استحقاقهم محقة العذاب وعدم توبتهم. قوله : ( قدره بمقتضى قضائه الخ ) قال المصنف رحمه الله في شرح
المصابيح القضاء الإرادة الأزلية والعناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على- ترتيب خاص ، والقدر تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها يعني أنّ لصفة الإرادة الإلهية تعلقا قديماً بوجود الأشياء في وقتها المخصوص فيما لا يزال ، وتعلقا حادثا بها في وقت وجودها بالفعل ، والقضاء هو التعلق القديم ، ولذا وصف المصنف رحمه الله بالأزلي ، والقدر التعلق الحادث لا إنّ القضاء هو نفس الإرادة كما يوهمه ظاهر كلامه والكلام على تحقيقه في الكلام. قوله تعالى : ( { وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ } ) يقال ساءه سوءاً ومساءة فعل به ما يكره فاستاء والسوء بالضم الاسم منه ، والضمير فيه للوط عليه الصلاة والسلام أي أحدث له مجيئهم المساءة ومجيئهم هو الفاعل في الأصل ، قيل : الباء للمفعول كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى ، وهو فاعل حقيقة لغوية كما بين في كتب المعاني فإن حمل على أن مراده أن باء بهم للسببية والسبب لا يلزم أن يكون فاعلا فليس مما ذكر في شيء ، ووقع في بعض النسخ وقرأ نافع وابن عامر والكسائي سيىء وسيئت بإشمام السين الضم ، وفي العنكبوت والملك والباقون باختلاس حركة السين ، ا هـ وقيل : عليه إنّ فيه نقصا وتصحيفاً أما النقص! فلأنه لا بدّ أن يكون الأصل هنا وفي العنكبوت ، والملك إذ ليس في هذه السورة سيئت ، وأما التصحيف فلأن الصحيح المطابق لكتب القراآت بإخلاص كسر السين فقوله باختلاس تصحيف أي تحريف ( قلت ) أما الثاني فوار وأما الأوّل فليس بشيء لأنّ المراد أنه قرئ في هذه المواضع مع قطع النظر عن خصوص لفظه فوكله إلى القارئ لظهوره 4 واعلم أنه وقع في البحر لأبي حيان وفي المغني لابن هشام رحمه الله ، وتبعه بعض المفسرين كلام مختل أفردناه بتعليقة حاصلة اًن أن زيدت في قصة لوط عليه الصلاة والسلام دون قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأنّ الإساءة وقعت في الأولى بلا مهلة دون الثانية ، ونقل مثله عن الشلوبين فرده أبو حيان رحمه الله تعالى بأنّ الزائد لا يفيد غير التوكيد ، وما ذكروه لا يعرفه النحاة وفي قوله الإساءة لحن لأنّ الواقع في التنزيل ثلاثي ، ورده ابن هثام بأنه ليس في الكشاف ما ذكر من الفرق لا في العنكبوت ، ولا هنا وهذا كله لا وجه له وسيأتي تفصيله. قوله : ( وضاق بمكانهم صدره الخ ) ذرعا تمييز وهو في الأصل مصدر ذرع البعير بيديه يذرع في سير. إذا سار ما خطوه من الذرع ، ثم توسع فيه فوضع موضع الطاقة والجهد فقيل ضاق ذرعه أي طاقته ، وقد وقع الذراع موقعه في قوله :
إليك إليك ضاق به ذراعا
وذلك أن اليد كما تجعل مجازاً عن القوة فالذراع الذي هو من المرفق كذلك. فقيل : إنه
كناية عن ضيق الصدر ، وإليه ذهب المصنف رحمه الله وقوله بمكانهم إشارة إلى أن ضيق صدره ليس بصنع منهم ، وإنما هو لمكانهم أي لأمرهم وحالهم لخوفه عليهم كما قال في العنكبوت صار شأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته فأشار هنا إلى أنه المراد هنا ، وأن الذرع كما يجعل كناية عن الصدر والقلب يجعل كناية عن الطاقة. قوله : ( وهو كناية عن شدّة الانقباض! ( أي الذرع عبارة عن الصدر وضيقه عبارة عما ذكر فهو كناية متفرعة على كناية أخرى مشهورة ، وقيل إنه مجاز لأن الحقيقة غير مرادة هنا ، والاحتيال فيه أي في المدافعة وذكره لتأويله بالدفع أو هو للمكروه وهو مجرور معطوف على المدافعة. قوله : ) شديد ( لأنه لكثرة شده كاً نه عصب بعضه ببعض والتف به ، ويهرعون جملة حالية والعامة على قراءته مبنيا للمفعول ، والإهراع الإسراع ، وقال الهروي : هرع وأهرع استحث وقرأه جماعة يهرعون بفتح الياء مبنيا للفاعل من هرع وأصله من الهرع ، وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضا فالمعنى على القراءتين يسوقون أي يسوق بعضهم بعضا أو يساقون بمعنى يسوقهم كبيرهم فتفسيره بيسرعون بيان للمراد منه عليهما ، وقوله : كأنهم يدفعون على المجهول إشارة إلى أنه استعارة ، وقوله لطلب الفاحشة أي لأجل إرادتها تعليل للمجيء لا للإسراع أو الدفع ولا مانع من عوده لهما. قوله : ( فتمرّنوا بها(5/117)
ج5ص118
لم الخ ( يعني أن المراد من ذكر عملهم السيئات قبل ذلك أنهم اعتادوا ذلك فلم يستحيوا فلذلك أسرعوا لطلب الفاحشة من ضيوفه مظهرين لذلك فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها ، وقيل : إنه بيان لوجه ضيق صدره لما عرف من عادتهم. قوله : ( فدى بهق أضيانه الخ ) هذا على الوجوه الثلاثة الأول وبقوله فتزوجوهن اندفع ما قيل كيف يعرضهن عليهم ، وهو تحريض على الزنا وكيف ذلك مع نزاهة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبناتهم ، وبقوله وكانوا يطلبونهن أنه لا طائل في العرض على من لا يقبل ، وأما قولهم ما لنا في بناتك من حق فمرادهم دفعهم به عما أراد فلا ينافي الطلب السابق. قوله : ( لا لحرمة المسلمات على الكفار الخ ( فلا حاجة إلى أن يقال بشرط الإسلام أو أنه كان جائزاً في شريعتهم ونسخ في شريعتنا ، وقد اختلف في جوازه في شريعتنا هل كان في بدء الإسلام ، ثم نسخ أم لا وذهب الزمخشري إلى أنه كان جائزا ، ثم نسخ وأدلته مفصلة في المفصلات وقال الزمخشري : بالأوّل لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم زوّج ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن وائل قبل الوحي وهما كافران ، وقال الطيبي : الصواب أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ، وفي جامع الأصول
هو أبو العاص بن الربيع فقوله ابن وائل خطأ رواية وزوجته زينب رضي الله عنها ، وهي أكبر بناته صلى الله عليه وسلم فلما أسر زوجها يوم بدر وفدى نفسه أخدّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً أن يعيدها إليه إذا عاد لمكة ففعل فهاجرت إلى المدينة فلما أسلم أبو العاص وهاجر ردّها صلى الله عليه وسلم إليه بغير تجديد نكاح لأنه لم يفرّق بينهما إلى أن ماتت بالمدينة سنة ثمان وفيه خلاف ، وكلام كثير في شرح التقربب للعراقي. قوله : ( أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه الخ ) عطف على قوله كرما وهذا هو الوجه الذي أشار إليه الزمخشري بقوله ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغة في تواضعه لهم ، واظهار الشدّة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا له ضيوفه مع ظهور الأمر ، واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم ، ومن ثمّ قالوا لقد علمت مستشهدين بعلمه مالنا في بناتك من حق لأنك لا ترى مناكحتنا ، وما هو إلا عرض سابري ، قال صاحب الفرائد ، وهو بعيد عن الصواب لوجهين أحدهما أن منكوحته كانت كافرة فكيف يقول لا ترى مناكحتنا ، وثانيهما أنه تحريض على الزنا إذا لم تجز المناكحة فالوجه هو الأوّل ، وردّ با! قوله لا ترى مناكحتنا عام أريد به خاص أي لا ترى جواز نكاحنا للمسلمات لا عكسه كما هو عندنا ، ومراده الدفع لعلمه بعد القبول فلا تحريض فيه على الزنا وهو معنى عرض السابري ، وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يكن له إلا بنتان ، ولذا قال : في الكشف أنه كان له ربيبتان فعرضهما عليهم إذ البنتان لا تكفي جمعا كثيراً فأمر سهل لأنّ إطلاق الجمع على الاثنين كثير جداً ، واعلم أنّ عرض السابري وهو الثوب الرقيق نسبة إلى سابور ، وهو معرّب مغير صيغته وهو الدرع الأنيق صنعتها مثل للعرض الذي لا يبالغ فيه لأن الشيء النفيس يرغب فيه بأدنى عرض! أو يقصد به العرض! له من غير إرادة البذل ، وإنما يكون لتطييب نفس أو نحوه ، وما قيل إنه بكسر العين وسكون الراء أي عرضك عرض رقيق والمقصود تحقيره ، والاستهانة به فخلاف الرواية والدراية وقوله لشدة امتعاضه من المعض ، وهو الغضب لما يشق عليه ويكرهه منه. قوله : ) المراد بالبنات نساؤهم ) فالإشارة لتنزيلهم منزلة الحاض!ر عنده ، والإضافة لما ذكره من الملابسة لأن كل نبيّ أب لأمته كما يشهد له قراءة ابن مسعود رضي الله عنه في تلك الآية بزيادة وهو أب لهم. قوله : ( أنظف قعلاَ ) ناظر إلى الوجوه كلها ، واشارة إلى ما في اللواطة من الأذى والخبث الذي هو سبب الحرمة ، وقوله وأقل فحشا أي قبحاً ناظر إلى الوجه الثاني ، وهو ما إذا لم يكن بطريق التزوج فإنه فيه فحش أيضا إشارة إلى أن المراد بالطهارة الطهارة المعنوية وهو التنزه عن الفحش ، والإثم كما أن الطيب بمعنى الحل وليس ذلك موجوداً في كل من الجانبين لكنه جعل الأقل فحشا بالنسبة إلى الأكثر كأنه سالم منه وفضل على الآخر على فرض اتصافه بذلك كما أنّ الميتة والمغصوب لا حل فيهما ،
ولكنه جعل الميتة لعدم تعلق حق الغير أحل منه فالصيغة مجار(5/118)
ج5ص119
فيه فتأمله فإنه دقيق جدّأ وهذا استعمال لأفعل قريب من نمط الخل أحلى من العسل.
قوله : ( وقرئ أطهر بالنصب على الحال على أن من خبر بناتي الخ ) هؤلاء بناتي جملة برأسها ، وهن أطهر لكم جملة أخرى ويجوز أن يكون هؤلاء مبتدأ وبناتي بدل أو عطف بيان أو مبتدأ ثان وأطهر إما خبر لهؤلاء ، واما لبناتي والجملة خبر الأوّل وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وسعيد بن جبير وعيسى بن عمرو السدوسي أطهر بالنصب وخرّجت على الحال فقيل هؤلاء مبتدأ وبناتي هن جملة في محل خبره ، وأطهر حال عاملها إما التنبيه أو الإشارة أو هن ضمير فصل بين الحال وصاحبها بناء على أنه وقع بين الحال وصاحبها شذوذا ، كقولهم : أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة ومنعه سيبويه رحمه الله ونقل عن أبي عمرو أنه خطأ من قرأها وقال إنه احتبى في لحنه وروي تربع في لحنه يعني أنه أخطأ خطأ فاحشا يجعله كأنه تمكن في الخطأ كالمحتبي أي العاقد للحبوة أو المتربع فهو استعارة تصريحية ، أو تمثيلية أو مكنية وتخييلية بجعل اللحن كالمكان له الذي استقرّ فيه ، ومن أباه خروجه على أن لكم خبرهن فلزمه تقديم الحال على عاملها المعنوي ، وخرج المثال المذكور على إضمار كان وخرجه غيره على الوجه الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى. قوله : ( على أن من خبر بناتي ) أي وهؤلاء إما مبتدأ خبره هذه الجملة أو منصوب بفعل محذوف أي خذ هؤلاء ، ومثاله ظاهر في الأوّل ، وقيل : هؤلاء مبتدأ وبناتي بدل منه أو عطف بيان وهن خبره وقس عليه المثال ، وما قيل إنه لا طائل فيه معنى يدفع بأن المقصود بالإفادة الحال كقولك هذا أبوك عطوفا. قوله : الا فصل ا لما عرفت أنه لا يتوسط بين الحال وصاحبها ، وإنما يكون بين المسند والمسند إليه كما بينه النحاة ، وفي المغني أنّ الأخفش رحمه الله تعالى أجازه كجاء زيد هو ضاحكا وجعل منه هذه الآية ولحن أبو عمرو من قرأها ، وقد خرجت على أن هؤلاء بناتي جملة وهن إما تأكيد لضمير مستتر في الخبر أو مبتدأ ، ولكم الخبر وعليهما فأطهر حال قال : وفيهما نظر أما الأوّل فلأن بناتي جامد لا يتحمل ضميرا عند البصريين ، وأما الثاني فلأنّ الحال لا تتقدم على عاملها الظرفي عند أكثرهم وأجيب عنهما بأنها مؤوّلة بمولود أتى أو على مذهب الكوفيين فتأمل. قوله : ) بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم ( الثاني ناظر إلى الوجه الأوّل في هؤلاء بناتي والأوّل للوجوه كلها ، ولا تخزون نهي مجزوم بحذف النون والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة وقرئ بإثباتها على الأصل ، وخزي لحقه انكسار إما من نفسه ، وهو الحياء المفرط ومصدره الخزاية ورجل خزيان وامرأة خزيي وجمعه خزايا ، وأما من غيره وهو الاستخفاف والتفضيح ومصدره الخزي كذا قال الراغب وإليه
أشار المصنف رحمه اللّه. قوله : ( يهدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح ) يرعوي بمعنى ينكف يعني ليس فيكم من يكف الغير ولا يكف نفسه إن كانت النسخة يهدي فإن كانت- يهتدي فالمعنى ليس منكم من يفعل الحسن ، ويترك القبيح وهي المصححة في النسخ وهذا الاستفهام للتعجب وحمله على الحقيقة لا يناسب المقام. قوله : ( من حاجة ) الحق يطلق على خلاف الباطل وعلى أخذ الحقوق لفهو إن كان بالمعنى الأوّل فالمراد به النكاح أي مالنا في بناتك نكاح حق لأنك لا ترى مناكحتنا أو النكاج الحق عندنا نكاح الذكران ، وان كان الثاني فالمراد به قضاء الشهوة وهو الذي عناه المصنف رحمه الله تعالى بقوله حاجة ويجوز أن يكونوا قالوه على وجه الطنز والخلاعة ، ولم يرتض المصنف رحمه الله بالوجه الأوّل لبعده لا لأنه لا يناسب المعنى كما توهم لأنّ مناسبته للمعاني إلا خروجه لذكره ، ولذا تعرّض له الزمخشريّ ، وقوله وهو إتجان الذكران ومنهم الضيفان. قوله : ( لو أنّ لي بكم قوّة ) إي لو ثبت أنّ لي قوة ملتبسة بكم بالفقاومة على دفعكم وفسره بقوّته في نفسه ، وان كان مطلقا لدلالة مقابله لأنّ استناده واعتماده على الركن ليدفع به ، وقوله : " رحم الله أخي لوطاً صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه والمرادة بالأخوّة إخوّة النبوّة وهو استغراب له لأنه لا أشد من ركنه :
إذا كان غير الله للمرء عدة أتته الرزايا من وجوه الفوائد
وقوله شبهه الخ إشارة إلى أنه استعارة شبه المعين بركن الجبل يعني جانبه. قوله : ( وقرئ
أو آوى(5/119)
ج5ص120
بالنصب الخ ا لو هنا شرطية جوابها محذوف أي لدفعتكم ، وليست للتمني ولا مانع منه ، وقراءة النصب في آوى على أنه معطوف على قوّة كقوله :
للبس عباءة وتقرّ عيني
وأويا بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء مصدر أوى وأصله على ورن فعول فأعل ،
ونقل فيه كسر الهمزة وقد يعطف في قراءة الرفع على قوّة أيضاً بأن يكون أن آوى فلما حذفت
أخرجه البخاري 3272- 4537- 4694 ومسلم 1 5 1- 238 وابن ماجه 06 42 واحمد 2 / 326 والطبري في جامع البيان 5974- 0 1940 والبغوي 63 في شرح السنة كلهم من حديث أبي هريرة.
أي ارتفع ، وقيل : أو بمعنى بل ولم يجعل بمعنى إلى لأنه غير مناسب معنى لأنه على التنزل من قوّة نفسه إلى نصرة الغير. قوله : ( فتسوّروا الجدار ) أي علوه ونزلوا منه ، والكرب الحزن والخوف وجعل قوله قالوا في النظم مقدراً في كلامه للاقتباس كما مرّ وقوله لن يصلوا إلى إضرارك الخ فسر. به لأنه مقتضى المقام ، وقوله : فضرب جبريل عليه السلام بجناحه أي فعاد إلى صورته الملكية فضرب الخأ ا ( فالفاء فصيحة ، وقيل إنه مسح بيده وجوههم فعموا من غير عود إلى صورته الأصلية ، وقوله : وأعماهم عطف تفسيري ، وقوله : النجاء النجاء أي انجوا بأنفسكم وهو مصدر منصوب بفعل مضمر وتكراره للتأكيد ، وهو ممدود ومقصور. قوله : ( بالقطع من الإسراء ) وقراءة نافع وابن كثير بهمزة الوصل والباقين بالقطع فإنه يقال سرى وأسرى وهما بمعنى واحد وهو قول أبي عبيد ، وقيل أسرى لأوّل الليل وسرى لآخره ، وهو قول الليث وسار قيل إنه مخصوص بالنهار ، وليس مقلوب سرى والسرى بضم السين مصدر سري ، وباء بأهلك للملابسة أو التعدية ، وفسر القطع بطائفة من الليل ، وقيل من ظلمته وقيل في آخر.. قوله : ( ولا يتخلف أو لا ينظر إلى ورائه ( بالمعنى الثاني هو المشهور الحقيقي ، وأما الأوّل فلأنه يقال لفته عن الأمر إذا صرفته عنه فالتفت أي انصرف ، والتخلف انصراف عن المسير قال تعالى : { أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } أي تصرفنا كذا قاله الراغب : وفي الأساس إنه معنى مجازي. قوله : ( والنهي في اللفظ لآحد الخ ) هذا منقول عن المبرد يعني أن معناه لا تدع أحداً منهم يلتفت كقولك لخادمك لا يقم أحد النهي لأحد ، وهو في الحقيقة للخادم أن لا يدع أحدا يقوم فالمعنى لا تدع أحدا يلتفت إلا امرأتك فدعها تلتفت ، وبهذا تمت المناسبة بينه وبين المعطوف عليه لأنه لأمره ، وهذا لنهيه ، وهو دفع لما أورده أبو عبيد من أنه يلزم أنهم نهوا عن الالتفات إلا أمر أنه فإنها لم تنه عنه وهو لا يستقيم ، ولو كانت نافية والفعل مرفوعا استقام قيل وفيه إنّ المحذور وارد على هذا هو أو ما يقرب مته ، وفيه نظر فإنه لا محذور هنا حتى يحتاج إلى دفعه فتأمّل ، ومن لم يقف على هذا قال لو قال والنهي للوط صلى الله عليه وسلم ومن معه كان أولى ( وهاهنا لطيفة ) وهو أنّ المتأخرين من أهل البديع اخترعوا نوعا من البديع سموه تسمية النوع ، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام :
واستخدموا العين مني فهي جارية وكم سمحت بها في يوم بينهم
وتبجحوا باختراعه ( وأنا بمن الله أقول ) أنه وقع في القرآن في هذه الآية لأنّ قوله فأسر بأهلك بقطع من الليل ، ولا يلتفت منكم أحد وقع فيه ضمير منكم للأهل فهو التفات فقوله لا يلتفت من تسمية النوع ، وهذا من بديع النكات ثم إني وجدت منه قوله تعالى : { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } [ سررة يوسف ، الآية : 75 ] وفي سورة يوسف فإنّ فهو جزاؤ. جزاء من الشرطية ، وقد ذكر أنه جزاء ومنه قوله تعالى : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ سورة الرعد ، الآية : 17 ] إلى قوله : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } [ سورة الرعد ، الآية : 117. قوله : ( استثناء من قوله فأسر بأهلك ويدل عليه الخ ) هذا ردّ لقول الزمخشري في توجيه قراءتي الرفع والنصب بأنه استثناها من قوله فأسر بأهلك ، والدليل عليه قراءة عبد الذ فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ، ويجوز أن ينتصب عن لا يلتفت على أصل الاستثناء ، وإن كان الفصيح هو البدل أعني قراءة من قرأ بالرفع فأبدلها من أحد ، وفي إخراجها مع أهله روايتان روي أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت عذة العذاب التفتت ، وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها ، وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها فإنّ هواها إليهم فلم يسر بها واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين ، ا هـ ورده ابن الحاجب بأنه باطل لأنّ القراءتين ثابتتان قطعاً فيمتنع حملهما على وجهين أحدهما باطل قطعا ، والقصة واحدة فهو إمّا أن يسري بها أو لا فان كان قد سرى بها فليس مستثنى إلا من قوله ولا يلتفت ، وان كان ما سرى بها فهو مستثنى من قوله فأسر بأهلك فقد ثبت(5/120)
ج5ص121
إن أحد التأويلين باطل قطعاً فلا يصار إليه في إحدى القراءتين الثابتتين فالأولى أن يكون إلا امرأتك في الرفع ، والنصب مثل ما فعلوه إلا قليل منهم ، ولا يبعد أن يكون بعض القرّاء على الوجه الأقوى ، وأكثرهم على وجه مرجوح بل جوّز بعضم أن يتفق القرّاء على القراءة بغير الأقوى ، وأجاب عنه بعض فضلاء المغرب بأنه يمكن حمله على أنه لا تخالف بين الروايتين بأن يكون ما سرى بها ، وخلفها لكنها سرت بنفسها وتبعتهم فعلى تقدير صحة هذا لا تدخل في المخاطبين بقوله ، ولا يلتفت منكم لكن ابن مالك نقل هذا في توضيحه ، وقال : إنه تكلف ولا شبهة فيه ، وإن استحسنه المعربون وغيرهم وارتضاه أبو شامة وقال إن فيه اختصارا وأصله فإن خرجت معكم ، وتبعتكم من غير أن تكون
أنت سريت بها فإنه أهلك عن الالتفات غيرها فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها ضكانت قراءة النصب دالة على مجموع المعنى المراد ، وارتضاه الشارح المدقق في الكشف ، وتممه بدفع ما يرد على الكشاف من أنه يلزم من قوله واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين الشك في كلام لا ريب فيه من رب العالمين بأنّ معناه أنّ اختلاف القراءتين جالب ، وسبب لاختلاف الروايتين كما تقول السلاج للغزو أي أداة وصالح ، ونحوهما ولم يرد أنّ اختلاف القراءتين قد حصل ، ولا شك أنّ كل رواية تناسب قراءة وهذا ما أمكنني في تصحيحه ، وأورد عليه أنه مع بعده فيه أنه تنقلب حينئذ الرواية دراية لاتحادهما من ظاهر القراءة وأيضاً فيه التزام استلزام اختلاف الروايتين أمراً محذوراً هو الجمع بين متنافيين ، وكلاهما غير وارد فتأمّل ، وقال في المغني الذي أجزم به أنّ قراءة الأكثرين ليست مرجوحة ، وأنّ الاستثناء على القراءتين من أسر بدليل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ، وأن الاستثناء منقطع بدليل سقوط ، ولا يلتفت في سورة الحجر والمراد بالأهل المؤمنون وان لم يكونوا من أهل بيته كما في قوله لنوج صلى الله عليه وسلم إنه ليس من أهلك ووجه الرفع أنه مبتدأ أو الجملة بعده خبره كقوله : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ } [ سورة الغاشية ، الآية : 23 ] إلا أنه جعل النصب على اللغة الحجازية والرفع على التميمية ، ولم يجعل المستثنى جملة ، وهو أولى ليكون الرفع على اللغتين لضعف اللغة التميمية والمعنى أسر بالمؤمنين لكن امرأتك مصيبها ما أصابهم ، وهو وجه حسن وذهب الرضي إلى أنّ الاستثناء متصل ولا تناقض قال : لما تقرّر أن الاتباع هو الوجه مع الشرائط المذكورة ولما كان أكثر القرّار على النصب هنا تكلف الزمخشري له ما مرّ فاعترض عليه ابن الحاجب بما قرّرناه ، والجواب أن الإسراء وان كان مطلقاً في الظاهر إلا أنه مقيد في المعنى بعدم الالتفات فمآله أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات فاستثن على هذا إن شئت من أسر أو لا يلتفت ، ولا تناقض ، وهذا كما تقول امش ولا تتبختر أي امش مشيا لا تتبختر فيه فكأنه قيل ولا يلتفت منكم أحد في الإسراء وكذا امش ولا تتبختر في المشي فحذف الجاز والمجرور للعلم به ، وقد ذكر مثله بعينه الفاضل اليمني ، وفي شرح المغني أنه كثير إما يأخذ كلام الرضي بعبارته كما يعرفه من تتبع كلامه وقد أورد عليه السيد قدس سرّه في حواشيه أنّ الاستثناء إذا رجع إلى القيد كان المعنى فأسر بجميع أهلك إسراء لا التفات فيه إلا من امرأتك فيكون الإسراء بها داخلا في المأمور به وإذا رجع إلى المقيد لم يكن الإسراء داخلاً في المأمور به فيكون المحذور باقيا بحاله ولا دفع له إلا بأن تناول العامّ إياها ليس قطعياً لجواز أن يكون مخصوصا فلا يلزم من رجوع الاستثناء إلى قوله فلا يلتفت كونه مأمورأ بالإسراء بها ، وحينئذ يوجه الاستثناء بما ذكر من أنها تبعتهم أو أسري بها مع كونه غير مأمور بذلك إذ لا يلزم من عدم الأمر به النهي عنه فتأمّل ا هـ ( وفيه بحث ) لأنّ قوله وإذا رجع إلى المقيد الخ إن أراد به
أنه ر* يكون داخلآ في المأمور به مطلقا فليس بصحيح لتقيده بالقيد المذكور وان أراد لا يدخل في الصأمور به المقيد فلا ضرر فيه لأنه إذا أمر بالإسراء مع التفاتهم ، وأخرجت المرأة من مجموع الإسراء فالالتفات لا ينافي ذلك الأمر بالإسراء بها من غير التفات فتأمّله فإنه غير وارد مع أن احتمال التخصيص من غير دليل لا وجه له ومراده بالتقييد إنه ذكر شيآن متعاطفان فالظاهر أن المراد الجمع بينهما لا إن الجملة حالية فلا يرد عليه(5/121)
ج5ص122
أنّ الحمل على التقييد مع أنّ الواو للنسق ممنوع وكذا جعلها للحال مع لا الناهية وأيضا القراءة بإسقاطها تدل على عدم اعتب ر ذلك التقييد فتأمل فقول المصنف رحمه الله تعالى استثناء من قوله فأسر أي على سبيل الجواز لا القطع لما سيأتي ، وقوله ويدل عليه الخ فإنه متعين في هذه وهو تأسيس للاستثناء من الأبعد مع وجود الأقرب ، وقوله ناقض ذلك قراءة ابن كثير وأبي عمرو هذا هو الصحيح ، وما وقع في نسخة ونافع سهو فإنه لم يقرأ إلا بالنصب والمناقضة للزوم كون المرأة مسرى بها وغير مسري ، وهو إشارة إلى اعتراض ابن الحاجب ، وقد مز الكلام فيه وقوله لا يجوز حمل القوأءتين الخ ردّ للزمخشري كما مرّ وقوله ولا يبعد جواب عن سؤال مرّ دفعه ، وغير الأفصح هو النصب في كلام غير موجب ، وقوله ولا يلزم الخ أي لا يلزم من استثنائها من لا يلتفت أمرها بالالتفات ، وهو رذ لقول جار الله وأمر أن لا يلتفت أحد منهم إلا هي وقد أجاب عنه في الكشف بأنه نقل للرواية لا تفسير للفظ القرآن ، وإنما الكائن منه استثناؤها عن النهي وقوله استصلاحاً تعليل للنهي أي نهيها وغيرها ممن ينهي لطلب صلاحه بعدم الهلاك ، وقوله : ولذلك علله إفادت للتعليل مر بيانها مرارا وذلك إشارة إلى عدم النهي لا لأمرها بالالتفات فإنه لا يصلح له وقوله علله أي علل استثناء امرأته. قوله : ( ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعاً على قراءة الرفع ) قيل إنه إشارة إلى الرذ على من دفع المنافاة بجعل الاستثناء منقطعاً بتقدير لكن امرأتك يجري لها كيت وكيت إذ لا يبقى حينئذ ارتباط لقوله إنه مصيبها ما أصابهم ، وأمّا على تقدير الاتصال فيكون تعليلا له على طريقة الاستئناف ، وهو سهو لما قرّرناه ولما ستراه ، واعترض على المصنف رحمه الله تعالى بأنه لا مانع من جعله منقطعا على لغة تميم كما مرّ عن أبي شامة أو على غيرها كما في المغني ، وأمّا قول أبي حيان في رده بأنه إذا لم يقصد إخراجها عن المنهيين عن الالتفات ، وكان المعنى لكن امرأتك يجري عليها كذا وكذا كان من الاستثناء الذي لا يتوجه إليه العامل ، ويجب نصبه بالإجماع ، وإنما الخلاف في المنقطع الذي يمكن توجه العامل إليه فقد ردّ بأنّ ابن مالك قال في التوضيح حق المستثنى بالأمن كلام تامّ موجب مفرداً كان أو مكملا معنى بما بعده كقوله تعالى : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ } [ سورة الحجر ، الآية : 60 ] النصب ولا يعرف أكثر المتأخريت من البصحريين في هذا إلا النصب ، وقد غفلوا عن ورود مرفوعاً بالابتداء ثابت الخبر محذوفه فالأوّل كقول أبي قتادة رضي الله عنه أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم قالا بمعنى لكن وما بعده مبتدأ وخبر ، ومن
الثاني لا تدري نفس بأقي أرض تموت إلا الله أي لكن الله يعلم اهـ ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، وقد رذ كلام أبي حيان رحمه الله تعالى أيضا بأن ما ذكره النحاة في نحو قولهم ما زاد المال إلا ما نقص ، وهو مسألة أخرى. قوله : ( كأنه علة الأمر بالإسراء ( هذا يناسب تفسيره بالسرى في أوّل الليل روي أنه سألهم عن وقت هلاكهم فقالوا موعده الصبح فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا له أليس الصبح بقريب ، وإليه أشار المصنف رحمه اللّه تعالى بقوله جواب لاستعجال لوط عليه الصلاة والسلام ، ويحتمل أنه ذكر ليتعجل في السير. قوله : ( عذابنا أو أمرنا به ) على الأوّل الأمر واحد الأمور وعلى الثاني واحد الأوامر ، ونسبة المجيء إلى الأمر بالمعنيين مجازية والمراد لما حان وقوعه ، ولا حاجة إلى تقدير الوقت مع دلالة لما عليه وقيل إنه يقدر على الثاني أي جاء وقت أمرنا لأن الأمر نفسه ورد قبله والمأمور به قوله : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } وأمّا اذعاء تكرار الأمر بأن يقال افعلوا الآن فنحن في غنى عنه. قوله : ) ويؤيده الأصل ( يعني يؤيد أنّ المراد بالأمر ضد النهي أنه الأصل فيه لأنه مصدر أمره ، وأفا كونه بمعنى العذاب فيخرجه عن المصدرية الأصلية ، وعن معناه المشهور والأصل يستعمل في كلامهم بمعنى الكثير الأغلب فلا يرد عليه أنه يقتضي أنه في المعنى الآخر ليس بحقيقة وجعل التعذيب معطوف على الأصل فإنه نفس إيقاع العذاب فلا يحسن جعله مسببآ عنه بل العكس أولى إلا أن يؤوّل المجيء بإرادته ، وقوله فإنه جواب لما تعليل للسببية وقوله وكان حقه الخ كلام آخر. قوله : ( فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبب ) بكسر الباء اسم فاعل أي موجد الأسباب وخالقها فالإسناد إليه(5/122)
ج5ص123
مجاز باعتبار اللغة وإن كان هو الفاعل الحقيقي وكونه مسبباً شامل لكونه أمرآ أيضا ، وبين نكتة الإسناد إليه بأنّ تعظيم ذلك الأمر ، وتهويله لا! ما يتولاه العظيم من الأمور فهو عظيم ، ويقوي هذا ضمير العظمة أيضا. قوله : ) فإنه روي الخ ) 11 ( تعليل لقوله ، وكان حقه الخ والديكة بكسر الدال المهملة وفتح الياء جمع ديك ، وفسر الضمير المؤنث بالمدن لأنها معلومة من السياق ، وقوله أو على شذاذها بضم الشين المعجمة والذالين المعجمتين المشددة أولاهما جمع شاذ وهو المنفرد ، والمراد من كان خارج المدن منهم لأنه روي أنّ رجلاً منهم كان في الحرم فبقي حجره معلقا بالهواء حتى خرج منه فوقع عليه ، وأهلكه
وتأنيث الضمير لأنه بمعنى الطائفة الشاذة يريد أن الأمطار إمّا على المدن أو على من خرج منها منهم. قوله : ( من طين متحجر ) أي ياب! مكتنز كالحجارة لقوله في الآية حجارة من طين ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ويتعين إرجاع بعضه لبعض في قصة واحدة ، وهو معزب فارسيته سنككل أي حجارة ووقع في بعض النسخ سنكيل فإن لم يكن غير قبل التعريب فهو تحريف. قوله : ( وقيل إنه من اسجله إذا أرسله الخ ( إن كان المراد بالإرسال مطلق الإنزال والإطلاق فلا يحتاج إلى من في النظم ولا في مثل في عبارة المصنف رحمه الله تعالى وان كان المراد به صب الماء ، والمطر كما فسر به الراغب كقوله : { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء } [ سورة الأنعام ، الآية : 60 ] أو إدلاء الدلو في البئر كما في بعض التفاسير فهو ظاهر ، والمعنى حجارة كائنة من مثل ذلك ، وهو مراد المصنف رحمه الله تعالى وعلى كونه بمعنى العطية فهو تهكم كبشرناهم بعذاب ، وقوله السجل بتشديد اللام ، وهو الصك ومعنى كونه من السجل أنه كتب عليهم العذاب ، وقيل إنه كتب عليه أسماؤهم. قوله : ( وقيل أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت لامه نوناً ( كذا وقع في النسخ ، وكان الظاهر أبدلت نونه لاما وادّعاء القلب فيه ركيك فلذا قيل إن نونا منصوب بنزع الخافض ، وأصله أبدلت لامه من النون ، وهو من عناية القاضي ، ووقع في نسخة على الأصل وسجين جهنم ، وقيل إنه واد فيها. قوله : ( نضد معدّاً لعذابهم ) أي وضع بعضه على بعض معداً ومهيأ لعذابهم ، والمراد الكثرة أو تتابع كالخرز المنظوم أو الصق حتى صار كالحجارة ، وقوله معلمة بزنة المفعول من الإعلام وهو وضع العلامة قال السدي : كان عليها مثال ختم كالطين المختوم ، وقوله : وقيل معلمة ببياض وحمرة منقول عن الحسن رحمه الله تعالى والسيما مقصور العلامة وذكر ضميره وكان الظاهر تأنيثه لتأويله بشيء يتميز به ، ومنضود نعت سجيل وجوّز كونه وصف حجارة وهو تكلف ، وقوله : في خزائنه أي فيما غيبه عنا. قوله : ( حقيق بأن تمطر عليهم ) أفرد حقيقا لكونه على وزن فعيل أو لأن أن تمطر فاعله والباء زائدة فيه ، وقوله : وفيه وعيد لكل ظالم لاشتراكهم في سبب نزول العذاب فهي عامّة ، وعلى ما ذكر في الحديث خاص بهذه الأمة وعلى الوجه الأخير خاص بقوم لوط عليه الصلاة والسلام
فالوجوه ثلاثة ، وقوله يعني الضمير دئه ، وقوله وهو بعرض! حجر بضم العين المهملة وسكون الراء المهملة والضاد المعجمة أي مستعد ومعرّض له من قولهم هو عرضة للوائم ، وقوله وقيل الضمير للقرى أي هي وعلى ما قبله هو للحجارة يعني أنّ القرى بمنظر منهم فليعتبروا بها والحديث المذكور قال العراقي رحمه الله تعالى : ذكره الثعلبي ولم أقف له على إسناد. قوله : ( وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان ) هذا ناظر إلى الوجهين في مرجع الضمير فإن كان للحجارة فتذكيره لأنها بمعنى الحجر ، المراد به الجنس ، وان كان للقرى فبتأويل مكان بعيد. قوله : ( أراد أولاد مدين ) يعني أنّ مدين إمّا اسم القوم المرسل إليهم شعيب عليه الصلاة والسلام سموا باسم أبيهم كمضر وتميم أو اسم مدينة فيقدر مضاف أي أهل مدين على الوجه الثاني دون الأوّل ، وان احتمل تقديره وهو أولاده. قوله : ( أمرهم بالتوحيد أوّلاً الخ ) وهكذا جرت القصص بالأمر بالتوحيد أوّلاً ثم النهي عما عرف فيهم والتوحيد من قوله اعبدوا الله كما مرّ فإن عبادته تستلزم توحيده ، إذ لا يعتد بها مع الشرك ، أو من قوله حالكم من إله غيره وكان قومه مشركين ، وقوله ما لكم من إله غيره تعليل للأمر بالعبادة ، وقوله عما اعتادوه يعني ليس تهيأ قبل الوقوع ، فإنّ النهي عن الشيء لا يقتضي وجوده ، والتعاوض! تفاعل من العوض ، وحكمة التعارض إيصال الحقوق لأصحابها.(5/123)
ج5ص124
قوله : ( بسعة تغنيكم عن البخس! ) السعة بكسر السين وفتحها اتساع الرزق والغنى ، والبخس النقص والهضم فالمراد بالخير الغنى الذي لا يحتاج معه إلى تنقيص الحقوق أو النعمة التي ينبغي شكرها ، ومن جملة الشكر التفضل على الغير وأجل شكر النعم الإحسان فبخس الحقوق تعكيس لمقتضى النعم ، وقوله وهو في الجملة أي على الوجوه الثلاثة والخير له معنيان والثالث كالأول لكن المقصود منه يختلف. قوله : ( لا يشذ منه أحد ) أي لا يخرج منه ويسلم لأنّ إحاطة اليوم تكون بإحاطة ما فيه ، وشموله أو هو استعارة للإهلاك كما مرّ وسيأتي. قوله :
( وتوصيف اليوم بالإحاطة وهي صفة العذاب الخ ) يعني أنّ المراد في الحقيقة إحاطة العذاب ، وشموله فهو صفة له ولذا جعله بعضهم صفة عذاب لكنه جرّ للمجاورة فوصف به اليوم لاشتماله عليه بوقوعه فيه فهو مجاز في الإسناد كنهاره صائم ، وفي الكشاف إنّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب بها لأنّ اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه ، قال العلامة : يعني أنّ اليوم زمان جميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه فإذا كان محيطاً بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له كما جمع الشاعر الأوصأف :
في قبة ضربت على ابن الحشرج
فوقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة وجعله اليوم محيطاً بالمعذب كضرب
القبة على الممدوج فكما أنّ هذا كناية عن ثبوت الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب ، وأمّا وصف العذاب بالإحاطة فهو استعارة الإحاطة لاشتماله على المعذب فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب فهذه استعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب ، وتلك كناية تفيد أن كل العذاب له فهي أبلغ والمصنف رحمه الله تعالى كلامه مخالف له ، ولك أن تتكلف تنزيله عليه. قوله : ( صرّح بالأمر بالإيفاء الخ ( يعني أنّ النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما الداعي لذكره ووجهه أنه لا يتحقق الانتهاء المطلوب دون الإيفاء فيكون مطلوبا تبعا ، وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزماً له ضمنا ، أو التزاماً وذلك لأن خلافهم في مقتضى اللفظ لا أنّ التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضدّ وذكر في الكشاف لذكره فوائد كالنعي بما كانوا عليه من القبيح مبالغة في الكف ، ثم الأمر بالضد مبالغة في الترغيب واشعاراً بأنه مطلوب أصالة ، وتبعاً مع الإشعار بتبعية الكف عكسأ وتقييده بالقسط قصراً على ما هو الواجب ، ثيم إدماج إنّ المطلوب من الإيفاء القسط ، ولهذا قد يكون الفضل محزما في الربويات ، وما قيل إن النهي عن نقص حجم المكيال وصفحات الميزان والأمر بإيفاء المكيال ، والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل أو الوزن وهذا الأمر بعد مساواة المكيال ، والميزان للمعهود فلا تكرار كيف ، ولو كان تكريراً للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين فليس بوارد ، أمّا الأوّل فلأنّ المكيال والميزان شاع فيما يكال ويوزن به حتى صار كالحقيقة مع أنّ اللفظ واحد فيهما فحمله في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر ، وأمّا التكرار الذي هرب منه ففي ضمنه من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس ، وأمّا العطف فيه فلأنه لاختلاف المقاصد فيهما جعلا كالمتغايرين فحسن العطف وقد صرّج به أهل المعاني في
قوله تعالى : { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ } [ سورة البقرة ، الآية : 50 ] . قوله : ( مبالغة ) أي في الترغيب ، والزيادة التي لا يتأتى الإيفاء بدونها لازمة لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به واجب فلا ينافي قوله من غير زيادة ولا نقصان ، وقوله فإنّ الازدياد إيفاء أي زيادة على الوفاء المأمور به ، وكان عليه أن يعبر بما هو أظهر منه ، وقوله وقد يكون محظوراً أي ممنوعا كما في الربويات. قوله : ( تعميم بعد تخصيص ) أي بعد ما ذكر المكيل والموزون أتى بهذا تذييلا ، وتتميما له لشموله الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون ، وقوله فإنّ العثو يعمّ تنقيص الحقوق وغيره بالنصب على تنقيص لأنه مطلق الفساد ، وفعله من باب رمي وسعي ورضي. قوله : ( وقيل المراد الخ ( عطف على قوله تعميم بعد تخصيص فإنه حينئذ لا يكون كذلك ، وقوله : كأخذ العشور عاي المخالف للشرع ، وكذا أخذ السمسار ما لا يرضى به ، وقوله والعثو بالرفع(5/124)
ج5ص125
عطف على قوله المراد داخل تحت القيل أو مجرور معطوف على البخس ، قيل : وجعله واويا وجار الله جعله يائيا ، وكتب اللغة تساعده ( قلت أليس كما قال : فإنه واوي ، ويائيّ قال الراغب : في مفرداته العثي والعيث يتقاربان كالجذب والجبذ إلا أن العيث أكثر في الفساد الذي يحس ، ويقال عثى يعثي عثياً وعثا يعثو عثواً انتهى ، والغارة النهب. قوله : ( وفائدة الحال ) يعني فائدة قوله مفسدين على الوجهين فهي حال مؤسسة ، وما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام قتل الغلام وخرق السفينة. قوله : ( وقيل معناه ) عطف بحسب المعنى على قوله ، وفائدة لأنه مبنيّ على اتحاد العثو والإفساد ، وتأويله بما مرّ وهذا مبنيئ على تغايرهما فإن العثو في الأرض ، والأموال والإفساد للدين والآخرة ، ومآله إلى تعليل النهي أي لا تفسدوا في الأرض! فإنه مفسد لدينكم ، وآخرتكم وتفسير البقية والخيرية بما ذكره لمقتضى المقام. قوله : ( فإنّ خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة ) عن النار والخلود فيها يعني أنه لا بقية باجتنابهم ما نهوا عنه إن لم يؤمنوا لعدم سلامتهم من العذاب فلا يرد أنّ الكفرة يسلمون بانتهائهم عن تبعة ما نهوا عنه ،
ولذا حمل الإيمان على التصديق بما قاله لكنه يقتضي انتفاء الثواب على ما فعله من اعتقد أنه لا ثواب له فيه ، وجزاء الشرط مقدر يدل عليه ما قبله على الصحيح ، وإذا فسرت البقية بالأعمال فاشتراط الإيمان فيها ظاهر وقراءة تقية بالتاء المثناة الفوقية قراءة الحسن رحمه الله تعالى. قوله : ) أحفظكم عن القبائح الخ ) المقصود بيان أنه بالغ في نصحهم ، وقوله لست بحافظ يناسب المعنى الثالث في أراكم بخير. قوله : ( أجابوا به أمرهم ) هو مصدر مضاف للمفعول ، وهذا هو الصحيح المناسب لقوله ، وهو جواب النهي ، وفي نسخة أجابوا به بعد أمرهم ، وهي بمعناها لأنّ الجواب بعد كلام يكون له أيضا. قوله : ( على الاستهزاء والتهكم الخ ( الصلاة ، وان جاز أن يكون أمرها على طريق المجاز لكنهم قصدوا الحقيقة تهكماً ، وأنه لا يأمر بمثله العقلاء وأمّا في مثله في غير هذا فيجوز أن يكون إسناداً مجازيا لأنها سبب لترك المنهيات فكأنها محصلة لها أو على الاستعارة المكنية كأنها شخص آمرناه. قوله : ( والإشعار بأنّ مثله لا يدعو إليه داع عقلئ ( عطف على التهكم لبيان وجه التهكم ، وقوله : من جنس قيل إنه بتقدير مضاف أي جنس داعي ما يواظب عليه لأنّ الوساوس ليست من جنسها ، وقيل إنه أطلق الوسوسة على أثرها لخفائها ، وظهوره وهو كثير شائع والمواظبة مأخوذة من جمع الصلاة ، والإضافة إليه ، ثم الإخبار بالمضارع ليدل على العموم بحسب الأزمان كذا في شرح الكشاف ، وجعل المصنف المواظبة وكثرة الصلاة مستفادة من الخارج ، وجعله نكتة للجمع والتخصيص! بالذكر. قوله : ( بتكليف أن نترك قحذف المضاف الخ ( أي حذف المضاف ، وهو تكليف وأصله تكليفك أن نترك فلما حذف دخل الجارّ على أن وحذفه قبلها مطرد فلذا لم يذكره ، والمعنى أن صلاته كأنها تقول له كلفهم تركها ، والتكليف فعله فقد أمرته بفعله لا بفعل غيره لأنه لا يقدر عليه حتى يؤمر به والترك فعل الكفار ، وقوله بفعل غيره إشارة إلى أنّ المراد بالترك كف النفس ، وهو فعل لا عدم فإنه لا يدخل تحت التكليف ، فما قيل إنه من حذف الجارّ مع مجروره ، وهو تكلف لا وجه له ، وكذا قوله في الانتصاف إنه رمز خفيّ إلى الاعتزال لأنّ التكاليف كلها بما خلقه الله ، وفعله فهو مكلف بفعل غيره لأن التقدير ليس بناء على القاعدة المذكورة بل لأنّ عرف التخاطب في مثله يقتضي ذلك كما اعترف هو به ، وقيل : إنه قد لا يقدر المضاف لنكتة ،
وهو المبالغة بادعاء أنه مأمور بأفعالهم فتأمّل. قوله : ( عطف على ما ) سواء كانت موصولة أو مصدرية ولم يجعله على قراءة النون معطوفا على أن نترك لاستحالة المعنى إذ يصير معناه تأمرك بفعلنا في أموالنا ما نشاء ، وهم منهيون عنه لا مأمورون بخلافه على قراءة التاء ، وقوله وأن نترك إشارة إلى أنّ أو بمعنى الواو لأنها للتنويع واختيرت على الواو لتقابل الفعل ، والترك في الجملة وقوله وقرئ بالتاء فيهما أي في نفعل ونشاء ، وإذا عطف على أن نترك لا يحتاج إلى تقدير مضاف لأنه فعله والعطف في الحقيقة على المضاف المحذوف لكن لما كان غير مذكور ، وهذا قائم مقامه جعل العطف عليه كما سيأتي نظيره ، وقوله وهو جواب النهي أي قوله أن نفعل على القراءتين جواب معنويّ عن النهي السابق : في قوله(5/125)
ج5ص126
ولا تنقصوا الخ ، وقوله وقيل الخ أي هو قص أطرافها والقطع منها كما وقع في زماننا هذا ولم يرضه لعدم مناسبة السياق ، وما يدل عليه والحاصل أنّ فيها ثلاث قرا آت بالنون في الجميع ، وبتاء في الأخيرين وبنون وتاء فيهما وما عدا الأولى شاذ ففي الأوّل هو معطوف على مفعول نترك ، وهو ما موصولة أو مصدرية والتقدير أصل! اتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو نترك أن نفعل في أموالنا تطفيفا ونحوه ولا يصح أن يعطف على غيره وعلى قراءة التاء معطوف على مفعول نترك أو تأمر ، ومن قرأ بنون وتاء فهو معطوف على مفعول تأمر. قوله : ( تهكموا به ) فيكون المراد ضد معناه على طريقة الاستعارة التهكمية أو المراد به ظاهره ، وهو علة للإنكار السابق المأخوذ من الاستفهام بأنه كان موصوفاً عندهم بالحلم ، والرشد المانع من صدور مثل ذلك كما مرّ في قصة صالح عليه الصلاة والسلام من قولهم له : { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا } [ سورة هود ، الآية : 62 ] بدليل أنه عقيب بمثل ما عقب به ذلك من قوله : { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً } الخ ولذا رجح هذا الوجه على الأوّل وان كان الأوّل أنسب بما قبله لأنه تهكم أيضا. قوله : ) إشارة إلى ما آتاه اللّه من العلم الخ ) قد مرّ تفسير البينة بالحجة والبرهان والنبوّة أيضا ، وحملها هنا على العلم والنبوّة والمراد بالعلم علمه بالله وتوحيده وفسرت بالحجة الواضحة واليقين ، وفسر الرزق الحسن بالمالط الحلال ، وجوّرّ الزمخشري أن يراد به النبوّة والحكمة لتفسيره البينة بما مرّ والفرق بينهما أمر يسير ، وقوله المال الحلال المكتسب بلا بخس ، وتطفيف كما في الكشاف وهو مناسب للمقام. قوله : ( وجواب الشرط محذوف الخ ( قال أبو حيان : الذي قاله النحاة في
أمثاله أنه يقدر الجملة الاستفهامية على أنها مفعول ثان لأرأيتم المضمنة معنى أخبروني المتعذية لمفعولين ، والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية نحو أرأيتك ما صنعت ، وجواب الئرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها ، والتقدير إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع الخ ولزوم هذا التقدير محل كلام. قوله : ( مع هذا الآنعام الجامع للسعادات الروحانية ( وهي العلم والجسمانية الرزق الحلال ، والخيانة في الوحي عدم تبليغه ، وقوله وأخالفه في بعض النسخ فأخالفه بدخول الفاء على السبب ، وقوله وبإعانته تفسير لكونه من عنده إذ كل رزق منه. قوله : ) وما أريد أن آني ما أنهاكم عنه الخ ) أي لا يقع مني إرادة لما نهيتكم عنه ولا استقلال به كما هو شأن بعض الناس في المنع من بعض الأمور فالمراد نفي المعلل والعلة ، ولذا ظهر تفريع ما بعده عليه ، وما ذكره من الفرق بين خالفته إليه وعنه معنى بديع أفاده الزمخشري ، وضمير قصدته وعنه راجع لكذا وضمير هو لزيد. قوله : ) ما أريد إلا أن أصلحكم الخ ( يشير إلى أنّ أن هنا نافية وما مصدرية ظرفية في محل نصب متعلقة با الإصلاح ، وهو أحد الوجوه في إعرابها وأظهرها ، وقوله ولهذه الأجوبة الثلاثة أي أجوبة شعيب عليه السلام يعني من قوله أرأيتم إلى هنا لأنها جواب عما أنكروه وكونها أجوبة يقتضي أن يعطف قوله إن أريد الخ ، لكنه ترك عطفه لكونه مؤكدا لما قبله ، ومقرّراً له لأنه لو أراد الاستئثار بما نهى عنه لم يكن مريدا للإصلاح ، وكونه مؤكداً لا ينافي تضمنه لجواب آخر ، والأوّل هو قوله إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسناً ، فإنه بيان لحق الله عليه من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته والثاني قوله ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه فإنه بيان لحق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره ، والثالث قوله إن أريد إلا الإصلاج الخ فإنّ حق الغير عليه إصلاحه وارشاده ، ووجه ترتيبها ظاهر وقوله ، وكل ذلك يقتضي الخ قيل لا بد فيه من تقدير القول أي فقال شعيب عليه الصلاة والسلام الخ لأن مقتضى الظاهر أن يقال يأمرهم ، وقيل لا حاجة إليه لأنّ الأجوبة ، وما تضمنته صادرة من شعيب عليه الصلاة والسلام فلذا جرى على مقتضاه ، ولك أن تقول إنه
التفات لعوده إلى أمر شعيب عليه الصلاة والسلام ، واقتضاء الأوّل والأخير ظاهر ، وأمّا اقتضاء حق النفس له فلأنّ إصلاح الغير وارشاده فيه نفع نفسه أيضا لما فيه من الثواب فتأمّل. قوله : ( وما مصدرية واقعة موقع الظرف الخ ) إما بجعل المصدر ظرفا أو تقدير حين قبله وسده مسده ، وعبارة المصنف رحمه الله تعالى تحتملهما ، وهذا هو الوجه ، وأمّا إذا كان بدلأ سواء قدر المضاف أو لا فهو بدل بعض ، أو كل لأنّ المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه ، وقيل إنه بدل(5/126)
ج5ص127
اشتمال ، وعلى هذا والأوّل يقدر ضمير أي منه لأنه لا بد منه ، وأراد بالخبرية الموصولة ، وهم يطلقون ذلك عليها وحذف المضاف على الثاني لأنه على الأوّل بمعنى مقدار من الإصلاج وترك كونها مفعولاً به للمصدر المذكور في الكشاف لضعف أعمال المصدر المعرّف عند النحاة ، والمراد بالمقدار مقدار من الإصلاح فهو بدل بعض. قوله : ( وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته الخ ) المصدر هنا من المبنيّ للمفعول أي ، وما كوني موفقا أي وما جنس توفيقي أو وما كل فرد منه لأنّ المصدر المضاف من صيغ العموم والمآل و!د لأنّ انحصار الجنس يقتضي انحصار أفراده لكنه على الأوّل بطريق المفهوم وعلى الثاني بطريق المنطوق فلا وجه لرذ الأوّل ، وتقدير بهدايته ومعونته قيل إنه لدفع ما يرد عليه من أن فاعل التوفيق هو الله تعالى ، وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد ، وإنما يقال من زيد فالاستعمال الفصيح ، وما توفيقي إلا من الله ، وبتقدير المضاف الذي ذكره يتوجه دخول الباء ، ويندفع الإشكال ، وأيضاً التوفيق وهو كون فعل العبد موافقأ لما يحبه الله ويرضاه لا يكون إلا بدلالة الله عليه ، ومجرّد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه. قوله : ( فإنه القادر المتمكن الخ ) تعليل للقصر المستفاد من تقديم المتعلق ، وقوله في حد ذاته إشارة إلى أن قدرة العبد لسكونها بإيجاد الله كلا قدرة لأنه لو شاء لم يوجدها ، ثم ترقى عن ذلك إلى أنه معدوم سد الاحتمال أن عجزه عن الاستقلال لا عن أصل الفعل لأنّ الوجود الإمكاني مع وجود الواجب عدم كما قال تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ سورة القصص ، الآية : 88 ] ولذا قال بعض العارفين لما سمع كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما كان عليه فافهم وقوله أقصى مراتب العلم بالمبدأ إشارة إلى أنّ من عرف نفسعه بالعجز والفناء عرف خالقه بالقدرة والبقاء ولولا ذكر المعاد بعده صح حمل المبدأ على الله لأنّ الحكماء يطلقون عليه المبدأ الفياض فتدبر كلامه هنا فإنه دقيق ، ولا حاجة إلى ما!قيل المراد بالتوحيد في كلامه توحيد الأفعال بأن يعلم أنه لا فاعل لشيء سواه لأنّ التوحيد الحقيقي علم الذات ، وجميع
الصفات الثبوتية ، والسلبية ، وتوحيد الأفعال يكون بعده. قوله : ( وهو أيضاً يفيد الحصر ) أي الحصر بتقديم متعلقه كما أفاده ما قبله أو معنى قوله أيضا كما يفيد معرفة المعاد يفيد الحصر وقوله على الله وقع هنا نسخ مختلفة ففي أخرى على ضمير الله ، وفي أخرى على أنيب وفي أخرى على الفعل فقيل إنها على الأوليين يعلق الجارّ فيها بالحصر ، وعلى الآخريين بتقديم ، وفي الأوّل خفاء والباس. قوله : ) وفي هذه الكلمات طلب التوفيق الخ ) أي في قوله ، وما توفيقي إلا بالثه إلى هذه المعاني أمّا طلب التوفيق فمن قوله إلا بالله لأنها إنشائية للطلب كالحمد لله أو لأنها إخبار عن نعمة التوفيق ، وشكر لها والاعتراف والشكر استجلاب للمزيد ، وقوله فيما يأتيه ويذره مأخوذ من عموم التوفيق أو إطلاقه المقتضى له ، والاستعانة عطف على طلب ، ويصح أخذه من تفويض التوفيق إليه ، ومن التوكل ومجامع أمره ما يجمعها ، والمراد جميعها ، وقوله والإقبال معطوف عليه أيضا مأخوذ من التوكل عليه ، وشراشره بمعنى كليته ، وأصله الجسد والنفس أو الأثقال ، وقال كراع رحمه الله تعالى : ألقى عليه شراشره أي نفسه وقيل بل هي محبة نفسه الواحد شرشر قال :
وكائن ترى من رشده في كريهة ومن غيه تلقى عليه الشراشر
انتهى وقال الجوهرفي واحده شرشرة وقوله وحسم أطماع الكفار وما بعده معطوف عليه
أيضاً وهذا من قوله عليه توكلت كقول نوح عليه الصلاة والسلام : { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } [ سورة يونس ، الآية : 71 ] وهذا على الوجهين في { إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } أمّا على الثاني فظاهر ، وأمّا على الأوّل فلأنهم تهكموا به ليرتدع فقال حسماً لما عنوه إن اعتمادي على اللّه لا أطلب تحقيق رجاء غيره ، ولا ارتدع بتقريعه ، واظهار الفراغ ، وعدم المبالاة من التوكل أيضاً لأنه الكافي المعين ، وقد جعل هذا وجهاً للتهديد أيضاً ، ووجه المصنف رحمه الله تعالى لتهديد بأنه من الرجوع إلى الله فإنه يكنى به عن الجزاء ، وهو وان كان هنا مخصوصاً به لكنه لا فرق فيه بينه ، وبين غيره وإنما خص! لاقتضاء المقام له ، وقوله شقاقي مصدر مضاف للمفعول أي معاداتكم إياي. قوله :(5/127)
ج5ص128
( وأن بصلتها ثاني مفعولي جرم الخ ) وشقاقي فاعله ، وعلى قراءة الضم من الأفعال ، وهمزته لنقله من التعدية إلى واحد إلى اثنين ، ونهى الشقاق مجازاً وكناية عن نهيهم عنه ، وفيه مبالغة لأنه إذا نهى ، وهو لا يعقل علم نهي المتشاقين بالطريق الأولى. قوله :
( والآوّل أفصح ) أي جرم أفصح من أجرم ، وقوله فإن أجرم أقل دورانا الخ. إشارة إلى أنّ الفصاحة هنا ليست بمصطلح أهل البيان بل بمعنى كثرة الاستعمال وأهل اللغة حيث ذكروه إنما يريدون هذا المعنى قال في الكشاف والمراد بالفصاحة أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور ، وهم له أكثر استعمالاً فلا يتوهم اشتمال القرآن على لفظ غير فصحيح. قوله : ) وقرئ مثل بالفتح لإضافتة إلى المبنئ ا لأن مثل ، وغير مع ما وأن المخففة ، والمشدّدة جوّزوا بناءهما على الفتح كالظروف المضافة للمبنيئ كما بين في النحو ، وقيل إنه منصوب صفة مصدر محذوف أي إصابة مثل إصابة قوم نوح عليه الصلاة والسلام ، وفاعل يصيب ضمير مستتر يعود على العذاب المفهوم من السياق ، وهو تكلف وعلى الأوّل مثل هو الفاعل. قوله : ( لم يمنع الخ ) هذا من قصيدة لبعض العرب اختلف فيه فقيل هو أبو قيس بن رفاعة الأنصارفي ، وقيل إنه رجل من كنانة وقيل إنه للشماخ ومنها :
ثم ارعويت وقد طال الوقوف بنا فيها فصرت إلى وجناء شملال
تعطيك مشيا وارقالاً ودأدأة إذا تسربلت الآكام بالآل
لم يمنع الشرب منها غيرأن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال
وضمير منها راجع لوجناء ، وهي الناقة ، والا وقال جمع وقل وهي الحجارة أو شجرة المقل أو ثمره ، والمراد أن سماعها صوت الحمامة على بعد لشدة حسها يفزعها فيمنعها من الشرب أو يطربها فيلهيها عنه لأنّ الإبل شديدة الحنين إلى الأصوات المغرّدة ، وقيل إنّ فيه قلبا أي لم يمنعها من الشرب ، وكذا في غصون ذات أو قال في بعض معانيه ، والشاهد في غير فإنه مبنيّ على الفتح. قوله : ) زماناً أو مكاناً الخ ( أي المراد بالبعد المنفيّ الزماني أو المكاني أي لا يمنعكم من الاعتبار قدم عهد ، ولا بعد مكان فإنهم بمرأى ، ومسمع منكم أو البعد معنوقي أي ليس ما اتصفوا به بعيداً من صفاتكم فاحذروا أي يحل بكم ما حل بهم من العذاب كما قال بعض المتأخرين :
فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم !ط قوم لوط منكم ببعيد
وجعل زمانا ، ومكانا تمييزاً ، ولم يجعله كما في الكشاف في تقدير بزمان أو مكان بعيد
فقيل هربا من الأخبار بالزمان عن الجثة الذي أورد عليه أنه إذا أفاد جاز الإخبار كما صرّحوا به ، وهو مقيس هنا فليس ببعيد قال في الألفية :
ولا يكون اسم زمان خبرا عن جثة وإن يفد فأخبرا
قوله : ( د إفراد البعيد الخ ) يعني أنّ الأخبار ببعيد غير مطابق له لا لفظاً ولا معنى أمّا لفظا
فلأنه اسم جمع وهو جميعه مؤنث على ما اختاره الزمخشريّ لأنّ قوم إذا صغر يقال فيه قويمة ومعناه الجمع فالقياس ببعيدة أو ببعداء وقال الجوهرفي والقوم يذكر ويؤنث لأنّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث مثل رهط ونفر ، وقوم قال تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 66 ] فذكر ، وقال تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ سورة الشعراء ، الآية : 05 ا ] فأنث وان صغرت لم تدخل فيها الهاء ، وقلت نفير وقويم ورهيط وإنما يلحق التأنيث فعله وتدخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين مثل إبل وغنم لأنّ التأنيث لازم له وبين الكلامين بون بعيد وعليه فلا حاجة له إلى التأويل هنا من تقدير في الأوّل كإهلاك أو في الثاني كشيء أو مكان أو زمان أو أنّ فعيل المصدر يستوي فيه المذكر ، والمؤنث فأجرى هذا مجراه. قوله : ( عظيم الرحمة للتائبين الخ ) العظيم مأخوذ من صيغة المبالغة ، ولم يفسره بكثير الرحمة باعتبار المرحومين أو أنواع الرحمة لأنّ هذا أبلغ إذ عظم الرحمة لكل أحد منهم مستلزم للكثرة ، وقوله فاعل بهم الخ إشارة إلى أنه مجاز باعتبار غايته لأنّ الموذة بمعنى الميل القلبيّ لا يصح وصفه تعالى بها ، ويجوز أن يكون كناية عند من لم يشترط إمكان المعنى الأصلي ، ولا يناسب تفسيره بمودود ، وان كان حقيقة لعدم المبالغة فيه ، وقيل رحيم ناظر إلى الاستغفار لأنه لكرمه يرحم من(5/128)
ج5ص129
يطلب منه المغفرة ، وودود ناظر إلى التوبة ترغيبا بأنه يودّ من يرجع إليه ، وهو وجه حسن ، والوعيد على الإصرار يعلم من تعذيب قوم لوط.
قوله : ( ما ئفهم ) لأنّ الفقه هو العلم في الأصل ، وقولهم كثيراً فراراً من المكابرة ، ولا
يصح أن يراد به الكل ، وان ورد في اللغة لأنّ قوله مما تقول يأباه ، وقوله وما ذكرت دليلا كقوله : { مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ سورة الأعراف ، الآية : 85 ] وقوله إني أخاف الخ. أي لم يفهموا دعواه ، ولا دليلها وقوله لقصور عقولهم أي نفيهم لذلك لغباوتهم أو لاستهانتهم كما يقول الرجل لمن لا يعبأ به لا أدري ما تقول ، وترك ما في الكشاف من أنه كناية عن عدم القبول لأنّ
قوله كثيراً يأباه ، وجعلهم كلامه هذيانا لأنه يرجع للاستهانة أو أنه كان ألثغ لأنه لم يصح عنده لأنّ جعله خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلايم ينافيه ظاهراً ، وقوله فتمتنع منصوب في جواب النفي وفي نسخة فتمنع فمفعوله محذوف يدل عليه قوله بعده إن أردنا بك سواء ومهينا بفتح المييم بمعنى ذليلا فقوله لأعز لك صفة كاشفة ، والمراد بالقوّة المنفية قوّة الجسم ، وما بعدها الذل. قوله : ( وقيل أعمى بلغة حمير ) يعني أن الضعيف في لغة أهل اليمن كالضرير بمعنى أعمى ، وهو كناية كما يقال له بصبر على الاستعارة تمليحاً ووجه عدم مناسبته أنّ التقييد بقوله فينا يصير لغواً لأنّ من كان أعمى يكون أعمى فيهم ، وفي غيرهم ، وأمّا إرادة لازمه ، وهو الضعف بين من يبصره ، ويعادبه فلا يخفى تكلفه. توله : ( ومنع بعض المعتزلة استنباء الأعمى ) قال الإمام رحمه الله تعالى : جوّز بعض أصحابنا العمى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لكنه هنا لا يحسن الحمل عليه لما مرّ ، وأمّا المعتزلة فاختلفوا فيه فمنهم من قال : إنه لا يجوز لكونه منفر العدم احترازه عن النجاسات ، ولأنه يخل بالقضاء ، والشهادة فهذا أولى ، واليه أشار المصنف رحمه الله تعالى ، ولأنه يأباه مقام الدعوة ، والاستنابة فيه غير ظاهرة ، وقوله والفرق بين لأنّ القاضي يحتاج إلى تمييز الخصمين ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحتاج لتمييز من يدعوه ، وفيه نظر مع أنه معصوم فلا يخطىء كالقاضي الأعمى ، والذي صححوه أنه ليس فيهم أعمى ، ولم يذكروا تفصيلاً بين الأصلي ، والعارض! ، وقد ورد في روايات عمى شعيب عليه الصلاة والسلام ، وسيأتي في القصص. قوله : ( قومك وعزتهم ) بيان للمعنى ، ويحتمل أنه إشارة إلى تقدير مضاف وقوله لكونهم على ملتنا تأويل للعزة ، والشوكة القوّة ، وقوله فإن الرهط الخ تعليل لعدم الخوف إذ القليل غير غالب في الأكثر ، وقوله أو بأصعب وجه فيكون الرجم كناية عن نكاية القتل ، وقوله : { وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } صيغة المبالغة ، وأفعل التفضيل على التفسير الآني يقتضي أن له عزة عندهم فقوله فتمنعنا عزتك يعني به عزتك المؤثرة عندنا بجعل الاضافة للعهد أو لفهمه من السياق فلا ينافي ما مرّ فلا يرد عليه أنه لا يناسب السياق تفسيره بما ذكر أو يقال إنّ ذاك يشعر بثبوت عزة له بقومه ، وهذا ينفيها عنه في ذاته على زعمهم وهو الظاهر لمن تأمّل ما سيأتي أو أنها عندهم غير معتد بها فتأمّل. قوله : ( وفي إيلاء ضميره حرف النفي الخ ( إشارة إلى أنّ التقديم يفيد التخصيص ، وأنه قصر قلب أو قصر إفراد ، والظاهر الأوّل ، وقد تبع فيه صاحب الكشاف ، وقال صاحب الإيضاح : فيه نظر لأنا لا نسلم إفادة التقديم الحصر إذا لم
######(5/129)
ج5ص130
######
صريحاً ، ولوّح إلى الآخر ، وعلى طريقة المصنف رحمه الله تعالى هما مذكوران ، والكلام شامل لهما ، وهو أحسن لما قيل عليه إنه فرق بين ما هنا لاقتضاء سباقه ، وسياقه لذكرهما ، وما نظر به ليس كذلك ، والمسلك الثالث أنهما مذكوران تفصيلاً ، وهو مختار الزمخشري كما ستراه ففي الآية ثلاث طرق ، وكل ما ذكر في القرآن بالفاء إلا هذه. قوله : ( وقيل كان قياسه ومن هو صادق الخ )(5/130)
ج5ص131
هذا ما في ا الكشاف من أن اعملوا على مكانتكم إني عامل ذكر فيه الكاذب والصادق ، وكذا في هذا لأن المراد من قوله من هو كاذب الصادق لكن جرى في ذكره على ما اعتادو. في تسميته كاذباً تجهيلاً لهم ، وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم حتى يرد عليه ما توهم من أنّ كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل بل المعنى ستعلمون حالكم ، وحال الصادق الذي سميتموه كاذبا ، وقوله من يأتيه ، ومن هو كاذب جوّز فيه أن تكون من موصولة ، وأن تكون استفهامية ، وكلام المصنف أنسب بالأؤل ، وكذا كلام الكشاف فإنّ قوله ومن هو كاذب على زعمهم في جريه على الاستفهام تأمّل. قوله : ( وانتظروا ما أقول لكم الخ ( وهو حلول ما أوعد صم به ، وظهور صدقه فالمنتظر من الطرفين أمر واحد وقيل المعنى انتظروأ العذاب إني منتظر للنصرة والرحمة ، وذكر لفعيل ثلاثة معان كما في الكشاف لكن كونه بمعنى مرتقب أنسب بقوله ارتقبوا ، وان كان مجيء فعيل بمعنى اسم الفاعل المزيد غير كثير كالصريم بمعنى صارح من الصرم بمعنى القطع ، والعشير بمعنى معاشر ، والرفيع بمعنى المرتفع. قوله : ( { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا } الخ ) أخبر بتنجية المؤمنين دون هلاك الكافرين لأنه مفروغ منه ، وإنما المقصود تنجية هؤلاء لجواز أن يلحقهم ما لحق أولئك بشؤمهم ، وقوله إنما ذكره بالواو جواب عن السؤال أنّ في قصة عاد ومدين ، ولما جاء أمرنا ، وفي قصة ثمود ولوط فلما جاء فما الحكمة فيه بأنه ذكر في هاتين القصتين الوعد وقوله فلما جاء أمرنا مرتب عليه فجيء بالفاء وأمّا في الآخريين فذكر مجيء العذاب على أنه قصة بنفسه وما قبله قصة أخرى لكنهما متعلقان بقوم فهما مشتركان من وجه مفترقان من آخر ، وهو مقام الواو كذا قرّر في الكشاف وشروحه ، وقيل في كلام شعيب صلى الله عليه وسلم ذكر الوعد أيضا ، وهو قوله يا قوم اعملوا على مكانتكم إلى قوله رقيب غاية الأمر أنه لم يذكر بلفظ الوعد ومثله لا يكفي للدفع كما توهم ، وما قيل في جوابه إن ما ذكر محمول على العذاب الدنيوفي أو أنه ذكر الفاء في الموضعين لقرب عذاب قوم صالح ولوط للوعد المذكور من غير فصل بعيد فلا يخفى ما فيه ، وقوله يجري مجرى السبب لأنّ الوعيد لاقتضائه وقوع الموعود به كالسبب لا سبب لأنّ السبب كفرهم ونحوه وقوله وأخذت الذين ظلموا الصيحة قد سبق في الأعراف
فأخذتهم الرجفة أي الزلزلة ، وأنها كانت من مباديها فلا منافاة بينهما { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي صاروا جاثمين أو دخلوا في الصباح حالة كومحهم جاصمين وكأن لم الخ خبر بعد خبر أو حال بعد حال وألا بعد ادعاء عليهم بعد هلاكهم بيانا لاستحقاقهم له كما مز ، ولمدين مرّ تفسيره فتذكره. قوله : ( ميتين الخ ( أصل معنى الجثوم من جثم ال!طائر إذا لصق بالأرض بطنه ، ولذا خص الجثمان بشخص الإنسان قاعدآ ثم توسعوا فيه فاستعملوه بمعنى الاقامة واستعير من هذا للميت لأنه لا يبرج مكانه فلذ فسره به المصنف رحمه الله تعالى ، وأشار إلى حقيقته ، ويغنوا بمعنى يقيموا ، ومنه المغني لمنزل الإقامة. قوله : ( شبههم بهم ( فيه تسمح أي شبه هلاكهم بهلاكهم لاتحاد نوعه ، وقوله غير انّ صيحتهم الخ. هذا هو المروقي عن ابن عباس رضي الله عنهما كما نقله القرطبيّ رحمه الله ، وما مرّ في الأعراف من أنه أتتهم صيحة من السماء فرواية أخرى ذكرها هناك فلا تعارض بين كلاميه كما قيل. قوله : ( وقرىء بعدت بالضم الخ ) العامّة على كسر العين من بعد يبعد بكسر العين في الماضي ، وفتحها في المضارع بمعنى هلك قال :
يقولون لا تبعدوهم يدفنونه ولا بعد إلا ما توارى الصفائح
أرادت العرب الفرق بين المعنيين بتغيير البناء فقالوا بعد بالضم في ضد القرب ، وبعد بالكسر في ضدّ السلامة ، والمصدر البعد بفتح العين ، وقرأ السلمي وأبو حيوة بعدت بالضم أخذاه من ضد القرب لأنهم إذا هلكوا فقد بعدوا كما قال الشاعرة
من كان بينك في التراب وبينه شبرفذا في غاية البعد
وقال النحاس المعروف : الفرق بينهما وقل ابن الأنباري : من العرب من يسؤقي بين الهلاك ، والبعد الذي هو ضد القرب ، وبهذا علمت اختلاف أهل اللغة فيه وبه يوفق لين ذلإم المصنف هنا ، وقوله في قصة(5/131)
ج5ص132
نوج عليه الصلاة والسلام أنه استعير للهلاك ، وما سيأتي في سورة المؤمنين. قوله : ( بالتوراة او المعجزات ) فالمراد بالآيات آيات الكتاب أو المعجزات ، وقد اعترض على الوجه الأوّل بأن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون ، وملئه كما سيصرح به في
سورة المؤمنين فكيف يستقيم أنه أرسل موسى عليه الصلاة والسلام بالتوراة إلى فرعون ، وملئه بل أراد بها الآيات التسع العصا ، وا أسيد البيضاء ، والطوفان والجراد ، والقمل والضفاح ، والدم ونقص من الثمرات ، والأنفس ، ومنهم من أبدل النقص من الثمرات ، والأنفس بأظلال الغمام ، وفلق البحر ، وتبعه بعض المتأخرين ، والكل مأخوذ من كلام أبي حيان في تفسيره ، وقيل في دفعه أنه يمكن تصحيحه أما أوّلاً فبما صرّحوا به من جواز ارجاع الضمير ، وتعلق الجارّ والمجرور ، ونحوه بالمطلق الذي في ضمن المقيد فقوله إلى فرعون يجوز أن يتعلق بالارسال المطلق لا المقيد بكونه بالتوراة ، وأمّا ثانيا فلأن موسى عليه الصلاة والسلام كما أرسل إلى الفرعنة أرسل إلى بني إسرائيل فيجب أن يحمل ملأ فرعون على ما يشملهم فيجيء الكلام على التوزيع على معنى أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين ، والى ملته بالتوراة فيكون لفا ونشراً غير مرتب ( قلت ) هذا عذر أقبح من الذنب ، ومثل هذه التعسفات مما ينزه عنه ساحة التنزيل ، وشمول الملا لبني إسرائيل مما لا يمكن هنا مع الإضافة إليه ، وجعلهم من أهل النار ، ولو جعل قوله إلى فرعون متعلقاً بسلطان مبين لفظا أو معنى على تقدير ، وسلطان مرسل به إلى فرعون لم يبعد مع المناسبة بيته وبين السلطان فتأمّل. قوله : ( وهو المعجزات الظاهرة ) أمّا على التفسير الأوّل فهو ظاهر ، وأمّا على الثاني فالعطف لأنها صفات متغايرة ، وقيل إنه تجريد نحو مررت بالرجل الكريم ، والنسمة المباركة كأنه جرد من الآيات الحجة ، وجعلها غيرها ، وعطفها عليها أو هي هي ، وكلام المصنف رحمه الله تعالى على الأوّل لقوله ويجوز أن يراد بهما واحد الخ ، وقوله وافرادها أي العصا لأنها مؤنث سمافي ، وأبهرها بمعنى أعجبها ، وقوله ويجوز الخ. جار على الوجهين ، وقوله وسلطانا له أي دليلا ، وأبان اللازم بمعنى تبين ، والمتعدي بمعنى بين وأظهر وقوله : والفرق بينهما أي بين الآيات والسلطان وفي نسخة بينها أي بين الآيات والسلطان ، والمبين كما يدلّ عليه ما بعده ، وعلى الأوّل ذكره للتتميم استطراداً ويخص بالبناء للفاعل لا مجهول كما قيل. قوله : ( فاتبعوا أمره بالكفر الخ ) بالكفر متعلق بالأمر بمعناه المشهور ، وقوله أو فما اتبعوا الخ يؤخذ من السياق لأنه بعد ما ذكر ارسال موسى إليهم ، ولم يتعرّض له بل خص اتباع فرعون علم أنهم لم يتبعوه ، ولا ينبغي تخصيص هذا بالوجه الثاني ،
وهو ما إذا كان الأمر واحد الأمور ، وهو الشأن والطريقة ، والمسكة بالضم ما يتمسك به ويقال ماله مسكة من كذا أي قليل ، وهو المراد هنا ، وما ذكره بيان للواقع لا من حاق النظم. قوله : ( مرشد أو ذي رشد ) يعني وصف الأمر بمعنييه بكونه رشيدا لأنه فعيل بمعنى مفعل أو للنسب ، والمراد ذو رشد للملابسة بينه وبينه أو بيان لأنه مجاز لأنّ الرشيد صاحبه لا هو ، وليس هذا الغاء لمعنى الأمر فإنه لا قرينة معينة له وسيأتي له تفسير آخر. قوله : ( يقال قدم بمعنى ؤقدّم ) يعني كنصر ينصر يقال قدمه يقدمه إذا تقدمه ، وقوله ونزل لهم النار منزل الماء الخ. يعني أنّ النار استعارة مكنية تهكمية للضد وهو الماء ، واثبات الورود لها تخييل ، ومورد في كلام المصنف رحمه الله تعالى مصدر ميمي بمعنى الورود لكن قوله فسمي اتيانها موردا يقتضي أن الايراد مستعاراً استعارة تبعية لسوقهم إلى النار فيكون التخييل مستعملا في معنى مجازي على حد قوله ينقضون عهد الله ، والمذكور في الكشاف أنه شبه فرعون بالفارط ، وهو الذي يتقدم القوم للماء ففيه استعارة مكنية ، وجعل أتباعه واردة ، واثبات الورود لهم تخييل ، ويجوز جعل المجموع تمثيلا. قوله : ( أي بئس المورد الذي وردوه الخ ) الورد يكون مصدراً بمعنى الورود ، ويكون صفة بمعنى المورود أي النصيب من الماء كالذبح ، ويطلق على الوارد ، وعلى هذا لا بد من مضاف محذوف تقديره بئس مكان الورد المورود للزوم تصادق فاعل بئسى ، ومخصوصها فالمورود هو المخصوص بالذمّ ، وقيل المورود صفة الورد والمخصوص بالذمّ محذوف تقديره بئس الورد المورود النار ، وقيل التقدير بئس انلحوم المورود بهم هم ، والورود اسم جمع بمعنى الواردين ، والمورود صفة لهم ، والمخصوص(5/132)
ج5ص133
بالذمّ الضمير المحذوف فهو ذم للواردين لا لمحلهم ، وهذا بناء على جواز تذكيره كما مرّ فلا يرد عليه شيء وظاهر قول المصنف رحمه الله تعالى بئس المورد الذي وردوه أن جعلى الورد نصيب الماء ، والذي نعت للمورد ، وأن اختلف فيه النحاة فالمخصوص بالذتم محذوف ، وهو النار ويجوز أن يكون هو المورود ، وان كان ظاهره أنه نعته ، والا لقال مورود أو المورود الذي وردوه ، وكلامه يحتمل الوجوه السابقة ، وقوله والنار بالضد إشارة إلى أنه استعارة تهكمية. قوله : ( والآية كالدليل على قوله وما أمر فرعون ) المراد بالاية قوله يقدم قومه الخ ، وجعله دليلاً على التفسير السابق لرشيد أي ليس برشيد لأنه أهلك نفسه ، ومن اتبعه فالجملة مستأنفة جوابا بالسؤال تقديره لم لم يكن رشيدا ، ويجوز أن يكون المعنى ما أمره بصالح محمود العاقبة فالرشد على الأوّل حقيقة لأنه
مقابل الغيئ ، ولذا قال إنما هو عيّ محض ، وضلال صريح ، وعلى هذا مجاز عن العاقبة الحميدة لأنّ الرشد يستعمل لكل ما يحمد ، ويرتضي كما في الكشاف فالمعنى أنّ أمر فرعون مذموم سيىء الخاتمة فجاء قوله يقدم قومه الخ. مفسراً له ، وقوله ما يكون أي الأمر الذي يكون كذلك ، وما موصولة ، ويجوز كونها مصدرية ، وقوله على أن المراد الرشد ، وفي نسخة بالرشد ، وكلاهما بمعنى. قوله : ) أي يلعنون في الدنيا والآخرة ( إشارة إلى أن يوم القيامة معطوف على محل في هذه لا ابتداء كلام أي ، ويوم القيامة بئس رفدهم فاللعنة واحدة كما قيل لأن معمول بئس لا يتقدمها. قوله : ( بض العون المعان الخ ( الرفد يكون بمعنى العون ، وبمعنى العطية ، وإليهما أشار المصنف رحمه الله تعالى ، وأصله ما يضاف إلى غيره أي يستند إليه ليعمده أي يقيمه من قولهم عمده ، وأعمده إذا أقامه بعماد ، وهو والعمود بمعنى ، وسميت اللعنة عونا إما لأن الثانية منضمة إلى الأولى كالعون لها فهي استعارة أو على طريق التهكم لأنها خذلان عظيم ، وكذا جعلها عطاء وجعل العون معانا والرفد مرفوداً على الإسناد المجازفي كجذ جده ، وقيل إنّ لعنة الدنيا مدد للعنة الآخرة حقيقة ، وفيه نظر. قوله تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى } الاية يجوز أن يكون نقصه خبراً ومن أنباء حال ، والعكس أو خبر بعد خبر ، وضمير ظلمناهم لأهل القرى لأن معه مضافا مقدراً أي أهل القرى وقيل القرى على ظاهرها ، وإسناد الأنباء إليها مجاز ، وضمير منها لها ، وضمير ظلمناهم للأهل المفهوم منها ، وعلى الأوّل الضمائر منها ما يعود للمضاف ، ومنها ما يعود للمضاف إليه ، وقيل القرى مجاز عن أهلها ، وضمير منها لها باعتبار الحقيقة وظلمناهم باعتبار المجاز فهو استخدام ورجح هذا على جعلها حقيقة وضمير ظلمناهم لأهلها استخداما لأن القرى لم يسبق ذكر هلاكها في غير قوم لوط على الصلاة والسلام مع أن الغرض ذكر هلاكهم لاهلاكها ، وقوله مقصوص إشارة إلى أنه خبر ، وأنه غير منظور فيه إلى الحال أو الاستقبال إذ لا فائدة فيه ، ويحتمل من أنباء أن يكون حالاً من مفعول نقصه كما مز. قوله : ( كالزرع القائم ( إشارة إلى أنه استعارة بقرينة مقابلته بحصيد والمراد باق ، وقوله عافى الأثر من عفا أثره إذا اندرس وفنى ، وأعاد منها إشارة إلى أنه مبتدأ خبره محذوف مقدر قبله لكونه نكرة لا معطوف على الأوّل لفساد المعنى ، وليس منها مبتدأ وقائم وحصيد خبر لأنّ المعنى على الاخبار عن بعض منها بأنه كذا ، وبعض كذا لا الاخبار عن القائم والحصيد بأنه بعض منها لعدم الفائدة ونظيره تقدم في قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ } [ سورة البقرة ، الآية : 80 ، في البقرة وقد تقدم رذه هناك فتذكره. قوله : ( والجملة مستأنفة ا لا
محل لها وهو استئناف نحويّ للتحريض على النظر فيها ، والاعتبار بها أو بياني كأنه سأل لما ذكرت ما حالها ، وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى : إنها حال من مفعول نقصه وردّه المصنف رحمه الله تعالى بخلوها من الواو ، والضمير ، ووجه بأنّ المقصود من الضمير الربط ، وهو حاصل لارتباطه بمتعلق ذي الحال ، وهو القرى فالمعنى نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحال تشاهدون فعل اللّه بها قال أبو حيان رحمه الله تعالى : والحل أبلغ في التخويف ، وضرب المثل للحاضرين ، وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى : يجوز أن يكون حالاً من القرى قال في الكشف جعل الجملة حالاً من ضمير نقصه فاسد لفظاً ، ومعنى ومن القرى كذلك قيل وقد نبه على اندفاع الفساد اللفظي وأمّا الفساد المعنوي فلم يبينه حتى يتكلم عليه ، وقد علمت أنه أبلغ في التخويف ( أقول ) أراد بالفساد اللفظي(5/133)
ج5ص134
في الأوّل ما مرّ ، وفي الثاني مجيء الحال من المضاف إليه في غير الصور المعهودة ، وأراد بالفساد المعنوي أنه يقتضي أنه ليس من المقصوص بل هو حال حالة عليها ، وليس بمراد ولا يسوغ جعل ما بعده ابتداء المقصوص ، وفيه فساد لفظيّ أيضا ، وأمّا الاكتفاء في الربط بما ذكر فمع خفائه فهو مذهب تفرّد به الأخفش ولم يذكره في الحال ، وإنما ذكره في خبر المبتدأ كما مرّ تحقيقه في البقرة في قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } [ سررة البقرة ، الآية : 228 ] وما ذكره عن أبي حيان رحمه الله تعالى لا يجدي مع ما قررناه نفعا ، ومن لم يتفطن لهذا قال أراد بالفساد اللفظي في الأوّل ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى ، وفي الثاني ضعف وقوع الجملة الاسمية حالأ بالضمير وحده وأراد بالمعنوي تخصيص كونها مقصودة بتلك الحالة فإنّ المقصوصية ثابتة لها ، وللنبا وقت عدم قيام بعضها أيضا ويوجه كلام أبي البقاء بأن يقال مراده أنّ الجارّ والمجرور حال ، والمرفوع فاعل لاعتماده ، وقوله بأن عزضوها له أي للهلاك.
قوله : ) فما نفعتهم ، ولا قدرت أن تدفع عنهم ( يشير إلى أن ما نافية لا استفهامية وأنّ تعلق عن به لما فيه من معنى الدفع فمن في من شيء زائدة ، ومجرورها مفعول مطلق أو مفعول به للدفع ، وفسر أمر الله بعذابه كما مز ، والنقمة بالكسر ، والفتح المكافأة بالعقوبة ، وقوله هلاك أو تخسير كان الظاهر إهلاك ، وتخسير أو هلاك ، وخسارة ، والأوّلى أولى لا! تب بمعنى هلك ، وتبب غيره بمعنى أهلكه ، وكأنه أشار بهما إلى جواز جعله مصدر المبنيّ للفاعل أو المفعول. قوله : ( ومثل ذلك الأخذ الخ ( كلامه محتمل لأن يكون المشار إليه الأخذ المذكور بعده كما مرّ تحقيقه في قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [ سررة البقرة ، الآية : 143 ، في
البقرة وأن يكون لأخذ القرى السابقة وكذلك خبر سواء كانت الكاف اسمية أو حرفية وكلامه صريح في الثاني وعلى قراءة الفعل فهي سادة مسد المصدر النوعي ، ولا مانع من تقدّمه على فعله ، وقوله أي أهلها شامل للمجاز في القرى ، والإسناد وتقدير المضاف كما مز وقوله لأن المعنى على المضيّ بالنسبة إلى القرى المأخوذة والاستقبال بالنظر للموعود بأخذه. قوله : ( حال من القرى ) والظلم صفة أهلها فوصفت به مجازاً ولذا أنث الضمير ، وظالمة وأفا جعله حالاً من المضاف المقدّر ، وتأنيثه مكتسب من المضاف إليه فتكلف وقوله ، وفائدتها أي فائدة هذه الإشارة إلى سبب أخذهم لإفادة المشتق عليه الاشتقاق ، والإنذار لجعل الظلم مستوجبا للهلاك فينبغي أن يحذره من له عقل ، ومن وخامة العاقبة متعلق بالإنذار ، وقوله ظلم نفسه أو غيره لإطلاق الظلم ، ووجيع تفسير لأليم ، وغير مرجوّ الخلاص لشديد ، وقوله لعبرة لأن الاية العلامة الدالة ، ويلزمها هنا العبرة. قوله : ( يعتبر به عظة الخ ( يعني أنّ من يقز بالآخرة ، وما فيها إذا رأى ما وقع في الدنيا من العذاب الأليم اعتبر به لأنه عصا من عصبة ، وقليل من كثير ، وقوله أو ينزجر معطوف على يعتبر أن ينكف ، ويترك ما يوجبه كالكفر ، والظلم ، وقوله لعلمه الخ لأن الكلام في العالم بالآخرة ، ويلزمه العلم بربها ، وقوله فإنّ الخ. بيان لوجه ذكر قوله لمن خاف عذاب الآخرة لأنّ نحو الدهريّ لا يعتبر ، ولا ينزجر لظنه الفاسد بأنها لأسباب فلكية ، واقترانات نجومية لا لما اتصفوا به ، وأقام من خاف عذاب الآخرة مقام من صذق بها للزومه له ، ولأن الاعتبار إنما ينشأ من الخوف ، وترتب تلك الحوادث على مجيء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ودعائهم ، ونحو مشاهد صدق على بطلان ما ذكر مع أنه مفروغ عنه. قوله : ( 1 شارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة ( أي إلى المجموع لأنه المراد من اليوم لا إلى كل واحد لأن عذاب الآخرة مذكور فلا يناسبه قوله دذ الخ. وقوله يجمع إشارة إلى أن لفظ مجموع أريد به المستقبل لعلمه. قوله : ) والتغيير للدلالة الخ ( أي العدول عن يجمع إلى
مجموع ، ومخالفة الظاهر للدلالة على بيان معنى الجمع له إمّا باعتبار أنّ أصل الاسم الدلالة على الثبوت ، ودلالة اسم الفاعل ، والمفعول على الحدوث عارضة بخلاف الفعل أو لأنه يتبادر منه الحال حتى قيل إنه حقيقة فيه ، والحال يقتضي الوقوع فأريد به الثبوت والتحقق ، والتعبير بأنهم مجموعون له كما تقيده اللام يقتضي عدم الانفكاك عنه لإثبات المجموعية له على وجه الثبات فهو أبلغ من التعبير بالفعل ، والجمع لما فيه من الجزاء فجعل الجمع له يقتضي عدم انفكاكه عنه ، ويؤيد النكتة المذكورة. قوله : ( مشهود فيه أهل السماوات والأرضين فاثسع فيه الخ ( أي أصله(5/134)
ج5ص135
مشهود فيه فحذف الجار ، وجعل الضمير مفعولاً توسعا فأقيم مقام الفاعل واستتر ، وليس المراد أنّ اليوم نفسه مشهود لأنّ سائر الأيام كذلك بل مشهود فيه جميع الخلائق ، والاعتراض على الفرق بين المشهود والمشهود فيه بأن سائر الأيام مشهود فيها كما أنها مشهودة فاسد لأنه لا يقال يوم مشهود فيه إلا ليوم شهد فيه الخلائق من كل فج لأمر له شأن ، وخطب يهمهم كيوم عرفة ، ويومي العيد ، والجمعة ، ولا يلزم أن يكون كل يوم كذلك ، وبه يندفع أيضا ما قيل الشهود الحضور ، واجتماع الناس حضورهم فمشهود بعد مجموع مكرر ، واليه يشير قول المصنف رحمه الله تعالى أهل السماوات والأرضين ، وقوله في معنى البيت كثير شاهدوه. قوله : ( كقوله الخ ( هذا من شعر لام قيس الضبية ، وذكر الضمير باعتباو الشخص ومن يقول الشعر ، ومثله كثير والشعر هو هذا :
من للخصوم إذا جد الضجاج بهم بعد ابن سعد ومن للضمر القود
ومشهد قدكفيت الغائبين به في محفل من نواصي الناس مشهود
فرجته بلسان غيرملتبس عند الحفاظ وقلب غيرمردود
إذا تناة امرئ أرّري بها خور هز ابن سعد قناة صلبة العود
ومشهد مجرور معطوف على الخصوم أي ، ومن لمشهد وناد كنت تكفي في مهماته عمن غاب ، ونواصي الناس ورواه في الحماسة نواصي الخيل فسرت برؤوس الفرسان كما يعبر عنهم بالذؤابة ، والرأس لعلوّهم ، وقوله ولو جعل اليوم مشهوداً مز تفسيره ، وقوله أي اليوم لم يفسره بالجزاء كما سيأتي لأن ما بعده من نفي المتكلم هناك قرينة عليه ، وليس هنا قرينة ، وفيه نظر لأنّ تلك قرينة قريبة أيضا ، ولذا فسر به هنا أيضاً ، وهو المناسب. قوله : 11 لا الانتهاء مدّة معدودة متناهية ( يعني العد هنا كناية عن التناهي كما يجعل كناية عن القلة ، والأجل يطلق على
المدة المعينة لشيء كلها ، وعلى نهايتها ومنع المصنف رحمه اللّه تعالى من إرادة الثاني هنا لأنه لا يوصف بالعد ، وأفا أنه تجوّز إن قلنا با! الكناية لا يشترط فيها إمكان المعنى الأصلي فعدول عن الظاهر من غير داع إليه وتقدير المضاف أسهل منه ، وإرادة بالجرّ على العطف على حذف ، وفي نسخة وأراد بصيغة الفعل ، ولام لأجل للتوقيت. قوله : ( أي الجزاء أو اليوم الخ ( يعني الضمير للجزاء لدلالة الكلام أو لليوم لنسبة الإتيان إلى الزمان في القرآن ، وليس المراد باليوم المذكور هنا لأنّ الجملة المضاف إليها الظرف لا يعود منها ضمير إليه كما قرّره النحاة بل السابق ، وفي ناصب هذا الظرف وجوه أظهرها أنه تكلم ، والمعنى لا تكلم نفس يوم يأتي ذلك اليوم ، وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ } [ سررة البقرة ، الآية : 210 ] بيان له بورود نظيره وان كان مؤولاً بإتيان حكم ونحوه ويشهد له أيضاً قراءة يؤخره ، بالياء. قوله : ( على أن يوم بمعنى حين ) أي هنا لئلا يلزم عند تغاير اليومين أن يكون للزمان زمان لأن إتيان الزمان وجوده وأن يتعين الشيء بنفسه لأنّ تعين المضاف بالمضاف إليه وتعين الفعل بفاعله ، وهو اليوم فإذا فسر بالحين سواء كان مطلق الوقت الشامل له ، ولغيره أو جزأه الأوّل أو غيره ، والكل يجعل ظرفا للجزء حقيقة عرفية كالساعة في اليوم فلا يرد ما ذكر ، ولا محذور في تخصيص نفي التكلم بجزئه لاختلاف الأحوال في الموقف أو لأن جزء ذلك اليوم هو زمان الموقف كله. قوله : ( وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة يأت بحذف الياء الخ ( كان الأصل إثباتها لأنها لام الكلمة ، ولا جازم والمعهود حذفها في الفواصل ، والقوافي لأنها محل الوقف لكنه سمع من العرب لا أدر ولا أبال ، وهي لغة لهذيل ، وقوله اجتزاء أي اكتفاء بالكسرة الدالة عليها من قوله يجزيه كذا أي يكفيه ، والقول بأنه اتباع لرسم المصحف لا ينبغي لأنه يوهم أنّ القراءة تكون بدون نقل متواتر ، لكنها رسمت في المصاحف العثمانية بالوجهين على القراءتين ، واللغتين وللقراء هنا ثلاثة وجوه حذفها مطلقاً ، وإثباتها مطلقا ، وحذفها في الوقف دون الوصل ، وقراءة ابن عامر وحمزة بالحذف مطلقاً. قوله : ) وهو الناصب للظرف ( يعني يوم ، وهذا أظهر الوجوه ، ولذا قدمه ، والانتهاء المحذوف هو الذي قدره في قوله لأجل ، وقول الزمخشري ينتهي لأجل تصوير للمعنى لا تقدير فعل لا حاجة إليه ، وعلى تقدير اذكر يكون مفعولاً به لتصرّفه ، وجملة تكلم حال(5/135)
ج5ص136
من ضمير اليوم ، وأما جعله نعتا له فيقتضي أن إضافته لا تفيد تعريفا ، وهو ممنوع. قوله : ( 1 لا بإذن اللّه كقوله الخ ( استشط بها لأنّ القرآن يفسر نجعضه بعضاً ، وقوله وهذا في موقف الغ.
دفع لما يتوهم من تعارض الآيات كقوله : { هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ } [ سورة المرسلات ، الآية : 35 ] وكذا قوله : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ سورة النحل ، الآية : 111 ، وقوله والممنوع عنه الخ قيل عليه كيف يتاً تى هذا مع قوله تعالى حكاية عنهم يوم القيامة { وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 123 فلا بد من اعتبار تعذد الوقت ورذ بأن هذا ليس من قبيل الإعذار إنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم ، وأنهم أضلوهم ، وليس بشيء لأن المراد به ما يقابل الكلام الحق ، وليس هذا منه ، وقد مرّ الاختلاف في جواز الكذب يوم القيامة وقد أجيب أيضاً بأنّ مراده دفع التعارض بين الآيتين اللتين تلاهما المصنف لا مطلق ما يعارض ذلك ودفع التعارض أيضاً بأنّ النفس عامّة لكونها نكهرة في سياق النفي ، وهذه في شاًن المؤمن ، وقوله لا ينطقون في شأن الكافر. قوله تعالى : ) { وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } الآية ( اعلم أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق ، والتقسيم أفا الجمع ففي قوله يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه فإن النفس عامّة لكونها نكرة في سياق النفي كما يقرّر ، والتفريق في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } ، وأفا التقسيم ففي قوله فأقا الذين شقوا الخ كما في قول الشريف القيرواني :
لمختلفي الحاجات جمع ببابه فهذا له فن وهذا له فن
فللخامل العليا وللمعدم الغنى وللمذنب العتبي وللخائب الأمن
قوله : ( الزفير إخراج النفس الخ ( ليس المراد أنه إخراج النفس مطلقا بل إخراجه مع صوت ممدود ، وأصله من الزفر وهو الحمل الثقيل ، ولما كان صاحبه يعلو نفسه غالبا أطلق عليه ، وقوله واستعمالهما الخ ظاهره أنه لا يستعمل إلا في هذين مع أنّ المعنيين مذكوران في كتب اللغة فلعل هذا غلب في الاستعمال ثم إنّ أوّل النهيق يحصل بإخراج النفس ، وآخره بإدخاله ، وكني به عن الغمّ ، والكرب لأنه يعلو معه النفس غالبا. قوله : ) وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه الخ ) يجوز فيه الرفع عطفا على الدلالة والجز عطفاً على شدة ، والفرق بين الوجهين أنه على الأوّل استعارة تمثيلية ، وعلى الثاني استعارة تصريحية وقوله ، وقرئ شقوا بالضم الجمهور على فتح الشين لأنه من شقي ، وهو فعل قاصر ، وقرأ الحسن رحمه الله تعالى بضمهما فاستعمله متعديا لأنه يقال شقاه الله كما يقال أشقاه اللّه ، وقرأ الإخوان
أيضا سعدوا بضم السين والباقودت بفتحها فالأولى من قولهم سعده اللّه أي أسعده ، وحكى الفرّاء عن هذيل أنهم يقولون سعده اللّه بمعنى أسعده ، وقال الجوهريّ : سعد الرجل بالكسر فهو سعيد كسلم فهو سليم ، وسعد بالضم فهو مسعود قال القشيريّ : ورد سعده الله فهو مسعود ، وأسعده فهو مسعد ، وقيل يقال سعده فأسعده فهو مسعود واستغنوا باسم مفعول الثلاثيّ ، وقال الكسائيئ أنهما لغتان بمعنى ، وكذا قال أبو عمرو رحمه الله تعالى وقيل من قرأ سعدوا حمله على مسعود وهو شاذ قليل ، وقيل أصله مسعود فيه ، وقيل مسعود مأخوذ من أسعده بحذف الزوائد ولا يقال سعده وسيأتي هذا ، وإنما ذكرناه هنا لاتحاد الكلام فيهما فلذا آثرت تلقي الركبان فيه. قوله : اليس لارياط دوامهم الخ ) يعني أنّ الخلود لا يتناهى ، ودوام السماوات متناه ، وكلاهما بالنص الثابت قلو علق الأوّل بالثاني لزم بطلان أحد الأمرين فدفع بأمور منها أنه تمثيل للدوام كما بقال مارساً ثبير فيشبه طول مكثه بالدوام في مطلق الامتداد ، وقيل إنه كناية ، وقوله على سبيل التمثيل أراد ضرب المثل ، والمثل قد يكون حقيقة ، وقد يكون مجازاً فإن ما ذكره ، وأشباهه كناية عى الدوام ، وبه صرّج النحرير في المختصر ، وفيه نظر لأنه لا سموات ، ولا أرضين في ذلك ا ليوم فضلاً عن دوامهما فكيف يكون كناية على القول المشهور فالظاهر أن كلام المصنف رحمه اللّه تعالى على ظاهره. قوله : ) ولو كان للارتباط الخ ا لا يخفى أنه لا مجال للارتباط لأنّ طيّ السماء كطيّ السجل قبل دخولهم النار إلا أن يراد ما يشمل عذاب القبر لكن هذا أمر فرضيّ لا يضره ما ذكر ، وحاصله أنّ المربوط مدة دوام العذاب بدوامهما فلا يلزم من العدم العدم إلا بطريق المفهوم ، وهذا لا يعارض النص الدالّ على خلودهم ، وأيضا لا يلزم من عدم الملزوم عدم اللازم لجواز كونه لازماً أعنم فكيف ما هو كاللازم. توله : ( وقيل المراد سموات الخ ) يعني المراد بالأرض(5/136)
ج5ص137
المقل ، وبالسماء المظل ، ولا بد في الجنة منهما فالمراد بالسعماء والأرض سماء الآخرة ، وأرضها لا هذه المعهودة عندنا ، وقوله ويدل! عليهما أي على السماوات ، والأرض الأخروية ، وفي نسخة عليه أي تحقق السماوات والأرض! الأخروية أو هو راجع للمراد أو لما ذكر ، والدليل الأوّل نقليّ ، والثاني عقليّ ، والمظل أي ما يعلو عليهم كالظلة ، وهو العرس. قوله : ( وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف الخ ) قيل إنه يعني أنّ في الكلام تشبيهاً ضمنيا لدوامهم بدوامهما ، وإن كان بحسب
الإعراب ظرفا لخالدين ، ولا بد أن يكون المشبه به أعرف ليفيد التشبيه ، ويحصل الغرض منه ، وهذا ليس كذلك ، وقوله فإنما يعرفه الخ أي بالوحي ، وكلام الرسل عليهم الصلاة والسلام لا بخصوص الدليل الدال على دوام الثواب والعقاب ، وما قيل في الجواب عنه بأنه إذا أريد ما يظلهم ، وما يقلهم سقط هذا لأنه معلوم لكل عاقل ، وأما الدوام فليس مستفادا من دليل دوام الثواب ، والعقاب بل مما يدل على دوام الجنة ، والنار سواء عرف أنهما دار الثواب ، والعقاب وأنّ أهلهما السعداء والأشقياء أولاً على أنه ليس من تشبيه ما يعرف بما لا يعرف بل الأمر بالعكس قيل عليه أنّ قوله لأنه معلوم لكل عاقل غير صحيح فإنه لا يعترف به إلا المؤمنون بالآخرة ، وقوله الدوام مستفاد مما يدل على دوام الجنة ، والنار لا يدفع ما ذكره كمصن! رحمه الله تعالى من أنّ المشبه به ليس أعرف من المشبه لا عند المتدين لأنه يعرفهما من قبل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وليس فيه ما يوجب أجمرفية دوام سموات الآخرة ، وأرضها وليس مراده أنّ دوامهما مستفاد من خصوص الدليل الدال على دوام الثواب والعقاب بعينه فإنه لا يهم ليمنع ، ولا عند غير المتدين فإنه لا يعرف ذلك ، ولا يعترف به وقوله إنه ليس من تشبيه ما يعرف الخ يدفع بأنّ مراده التشبيه الضمني لا ما ذكره من تشبيه تلك الدار بهذه الدار ، وقيل عليه مراده أنّ كل عاقل من المعترفين بالآخرة يعرف وجود هذا القدر لا منهم ولا من غيرهم وأنّ فساد ما ذكره من تعريف الشيء بما لا يعرف لا مما ذكره المجيب ، ولزوم الأعرفية في التشبيه الصريح دون الضمني ولو سلم فهو فساد آخر غير ما ذكره المجيب ( أقول ) كل هذا تعسف ، وخروج عن السنن والحق ما ذكره المجيب إذا نظرت بعين الإنصاف لأنّ هذا التشبيه لا بد من أن يؤخذ من المعترف بالخلود في الآخرة ، ويلزمه الاعتراف بها ، والمعترف بدوامه فيها لا بد من أن يعترف أنّ له مقلاً ، ومظلاً ودوامه يستلزم دوام جنس ذلك ، ولا شك أنّ ثبوت الحيز أعرف من ثبوت ما تحيز فيه بديهة فليس المشبه فيه سواء كان ضمنيا أو صريحا أعرف من المشبه به قطعا أمّا الأوّل فلأنه شبه قراره في تلك الدار بقرار حيزه هو من حيث هو حيز دوامه ، وقراره أقرب إلى الذهن من دوام ما فيه ، وأئا الصريح فظاهر لأنه شبه مظل الآخرة ، ومقلها بسماء الدنيا ، وأرضحها فأطلق عليهما اسمهما فلا وجه للاعتراض ، ولا للجواب مع التأمل الصادق ، ثم إنّ كون المشبه به أعرف في كل تشبيه غير مسلم عند الناظر في المعاني بقي هنا وجه آخر لو حمل عليه هذا لكان أحسن ، وأظهر كما في تفسير ابن كثير ، وهو أن يراد الجنس الشامل لما في الدنيا ، والآخرة وهو بمعنى مقل ومظل في كل دار الدنيا ، ودار الآخرة ، ثم إنّ قول ابن جرير أن هذا جار على ما تعارفه العرب إذا أرادوا التأبيد أن ي!قولوا ما اختلف الليل والنهار ومثله كثير يعرفه الخاص ، والعامّ بدفع ما أوردوه ، واحتاجوا للجواب عنه ، وفيه وجوه أخر في الدرر والغرر للرضي. قوله : ( استثناء من الخلود في النار الخ ( ذكر في هذا
الاستثناء أربعة عشر وجها ومم هو ، وهل ما على ظاهرها أو بمعنى من أحدها ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من أنه استثناء متصل من قوله خالدين ، وما بمعنى من لكونها للوصف كقوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى } [ سورة النساء ، الاية : 3 ] الخ وأن عصاة المسلمين داخلون في المستثنى منه والاستثناء لإخراجهم ، وزوال الحكم ، وهو الخلود يكفي فيه زواله عن البعض ، وأنهم المرادون بالاستثناء الثاني أنّ مدّة مكثهم في النار نقصت من مدة خلودهم في الجنة فلا وجه لمن تمسك بها لخروج الكفار من النار ، ولا وجه لذكره هنا. قوله : ( ظ نّ التأبيد من مبدأ معين الخ ) دفع لأنّ الاستثناء باعتبار الآخر لا الأوّل بأنه يصح أن يكون من أوّله ، ومن آخره فإنك إذا قلت إذا مكثت يوم الخميس في البستان(5/137)
ج5ص138
إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذللى الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوّله ومن آخره ، وأورد عليه أنّ الخلود إنما هو بعد الدخول فكيف ينتقض بما سبق على الدخول كيف ، وقد تقدم قوله في الجنة فلذا استصوب حمل الأؤل على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ، والثاني على ما لأهل الجنة من غير نعيمها مما هو أكبر منه ، ولذا عقب بقوله عطاء غير مجذوذ ، وهو كالقرينة على أنه أريد به خلاف ظاهره فلا يختل النظم باختلاف الاستثناءين ، والمبدأ المعين هنا دخول أهل النار في النار ، ودخول أهل الجنة في الجنة وهو معلوم من السياق ، والمقام فلا يرد على المصنف رحمه الله تعالى أنه ليس هنا مبدأ معين أو هو من قوله يوم يأتي. قوله : ) وهؤلاء وإن شقوا الخ ( إشارة إلى أنهم داخلون في الفريقين باعتبار الصفتين فصح إرادتهما بالاستثناءين فلا يقال الثاني في السعداء ، وهم ليسوا منهم ، ولا يخفى ما فيه من مخالفة الظاهر. قوله : ) ولا يقال فعلى هذا لم يكن الخ ) جواب عما ورد من أنّ العصاة دخلوا في القسمين ، والاستثناء فيهما راجع إليهم باعتبار الابتداء ، والانتهاء على ما ذكرت فكيف يصح هذا التقسيم مع عدم التمانع فدفعه بأنّ التقسيم لمنع الخلوّ فقط ، وأن أهل الموقف لا يخلون من القسمين ، وليس لمنع الجمع ، والانفصال الحقيقي حتى يرد ما ذكر ، وتقابل الحكمين لا يدل على تقابل القسمين نعم هو الظاهر منه. قوله : ( أو لأنّ أهل النار ) معطوف على قوله لأنّ بعضهم ، وهذا ما اختاره
الزمخشري من أن الاستثناء من الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم الجنة بناء على مذهبه من تخليد العصاة ، وهو في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حرّ النار إلى برد الزمهرير وردّ بأنّ النار عبارة عن دار العقاب كما غلبت الجنة على دإر الثواب ، وقال بعض المفسرين : ليس في هذا نقل عن أحد من المفسرين ، ومثله لا يقال من قبل الرأي ، وأجيب عنه بأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أمّا دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فلا ألا ترى إلى قوله تعالى : { نَارًا تَلَظَّى } [ سورة الليل ، الآية : 114 نارا { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ سورة البفرة ، الآية : 24 ، وكم وكم وأفا رضوان الله تعالى عن أهل الجنة ، وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف ، وقوله خالدين فيها لا يدل بظاهره على أنهم ينعمون فيها فضلا عن انفرادهم بتنعمهم بها إلا أن تخص الجنة بجنة الثواب وهو تخصيص من غير دليل ، وأورد عليه أن عدم هجر الأصل علم من الوصف بالتلظي ، والوقود في الآيتين والتقابل في النار هنا يعضد أنه هجر فلا يرد ما ذكر نقضاً. قوله : ( أو من أصل الحكم الخ ) عطف على قول في الخلود في أوّل كلامه المراد بأصل الحكم قوله في النار ، والأصلية مقابلة للفرعية التي للمستثنى منه في الأوّل ، وهو الحال أعني خالدين أوّ لأنّ الخلود فرع الدخول ، والاستثناء في هذا الوجه مفرّغ من أعمّ الأوقات المحذوف ، وما على أصلها لما لا يعقل ، وهو الزمان ، والمعنى فأمّا الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك اليوم إلا زمانا شاء الله فيه عدم كونهم فيها ، وهو زمان موقف الحساب ، وأورد عليه أنّ عصاة المؤمنين الداخلين النار إمّا سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى ، وليس كذلك أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار ، وهو خلاف مذهب أهلى السنة ، وأيضا تأخيره عن الحال على هذا لا يتضح إذ لا تعلق للاستثناء به ، وقد يدفع بأن القائل بهذا يخص الأشقياء بالكفار ، وبالسعداء بالأتقياء ، وبكون العصاة مسكوتا عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان من أهل السنة فإن كان من المعتزلة فقد وافق سنن طبعه ، وسيأتي جواب آخر للمعترض ، وأمر التقديم سهل. قوله : ) أو مدّة لبثهم في الدنيا والبرزخ الخ ( معطوف على قوله زمان توقفهم أي المستثنى المفرّغ من أعمّ الأوقات هذه المدة إن لم يقيد الحكم بقوله يوم يأتي ، وهو يوم الجزاء فإنه متعلق بتكلم ، والحكم المذكور متفرّع عليه فيتقيد به معنى ، وعلى هذا يقطع النظر عنه فالمعنى هم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زمانا شاء الله لبثهم في الدنيا ، والبرزخ ، والمراد مع زمان الموقف لأنهم ليسوا في زمانه في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فظاهر مطلقا لكنهم معذبون في البرزخ أيضا إلا أن يقال لا يعتد به لأنه عذاب غير تاتم لعدم تمام حياتهم فيه وما على هذا أيضا عبارة عن الزمان فهي لغير العقلاء ، وأورد عليه ما أورد على ما قبله ، وأجيب بأنه إنما يرد لو كان المستثنى في الاستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الاستثناء الأوّل ، وهو غير مسلم فليكن(5/138)
ج5ص139
المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك
الاستثناء أربعة عشر وجها ومم هو ، وهل ما على ظاهرها أو بمعنى من أحدها ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من أنه استثناء متصل من قوله خالدين ، وما بمعنى من لكونها للوصف كقوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى } [ سورة النساء ، الآية : 3 ] الخ وأن عصاة المسلمين داخلون في المستثنى منه والاستثناء لإخراجهم ، وزوال الحكم ، وهو الخلود يكفي فيه زواله عن البعض ، وأنهم المرادون بالاستثناء الثاني أنّ مدة مكثهم في النار نقصت من مدة خلودهم في الجنة فلا وجه لمن تمسك بها لخروج الكفار من النار ، ولا وجه لذكره هنا. قوله : ( فإنّ التأبيد من مبدأ معين الخ ) دفع لأنّ الاستثناء باعتبار الآخر لا الأوّل بأنه يصح أن يكون من أوّله ، ومن آخره فإنك إذا قلت إذا مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذللى الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوّله ومن آخره ، وأورد عليه أنّ الخلود إنما هو بعد الدخول فكيف ينتقض بما سبق على الدخول كيف ، وقد تقدم قوله في الجنة فلذا استصوب حمل الأوّل على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ، والثاني على ما لأهل الجنة من غير نعيمها مما هو أكبر منه ، ولذا عقب بقوله عطاء غير مجذوذ ، وهو كالقرينة على أنه أريد به خلاف ظاهره فلا يختل النظم باختلاف الاستثناءين ، والمبدأ المعين هنا دخول أهل النار في النار ، ودخول أهل الجنة في الجنة وهو معلوم من السياق ، والمقام فلا يرد على المصنف رحمه الله تعالى أنه ليس هنا مبدأ معين أو هو من قوله يوم يأتي. قوله : ( وهؤلاء وإن شقوا الخ ( إشارة إلى أنهم داخلون في الفريقين باعتبار الصفتين فصح إرادتهما بالاستثناءين فلا يقال الثاني في السعداء ، وهم ليسوا منهم ، ولا يخفى ما فيه من مخالفة الظاهر. قوله : ) ولا يقال فعلى هذا لم يكن الخ ) جواب عما ورد من أن العصاة دخلوا في القسمين ، والاستثناء فيهما راجع إليهم باعتبار الابتداء ، والانتهاء على ما ذكرت فكيف يصح هذا التقسيم مع عدم التمانع فدفعه بأن التقسيم لمنع الخلوّ فقط ، وأن أهل الموقف لا يخلون من القسمين ، وليس لمنع الجمع ، والانفصال الحقيقي حتى يرد ما ذكر ، وتقابل الحكمين لا يدل على تقابل القسمين نعم هو الظاهر منه. قوله : ) أو لأنّ أهل النار ( معطوف على قوله لأنّ بعضهم ، وهذا ما اختاره
الزمخشريّ من أن الاستثناء من الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم الجنة بناء على مذهبه من تخليد العصاة ، وهو في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حرّ النار إلى برد الزمهرير ورذ بأنّ النار عبارة عن دار العقاب كما غلبت الجنة على دار الثواب ، وقال بعض المفسرين : ليس في هذا نقل عن أحد من المفسرين ، ومثله لا يقال من قبل الرأي ، وأجيب عنه بأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أفا دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فلا ألا ترى إلى قوله تعالى : { نَارًا تَلَظَّى } [ سورة الليل ، الآية : 14 ] ناراً { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ سورة البقرة ، الآية : 24 ] وكم وكم وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة ، وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف ، وقوله خالدين فيها لا يدل بظاهره على أنهم ينعمون فيها فضلا عن انفرادهم بتنعمهم بها إلا أن تخص الجنة بجنة الثواب وهو تخصيص من غير دليل ، وأورد عليه أن عدم هجر الأصل علم من الوصف بالتلظي ، والوقود في الآيتين والتقابل في النار هنا يعضد أنه هجر فلا يرد ما ذكر نقضا. قوله : ( أو من أصل الحكم الخ ) عطف على قول في الخلود في أوّل كلامه المراد بأصل الحكم قوله في النار ، والأصلية مقابلة للفرعية التي للمستثنى منه في الأوّل ، وهو الحال أعني خالدين أوّ لأنّ الخلود فرع الدخول ، والاستثناء في هذا الوجه مفرّغ من أعمّ الأوقات المحذوف ، وما على أصلها لما لا يعقل ، وهو الزمان ، والمعنى فأمّا الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك أليوم إلا زمانا شاء الله فيه عدم كونهم فيها ، وهو زمان موقف الحساب ، وأورد عليه أن عصاة المؤمنين الداخلين النار إما سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى ، وليس كذلك أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار ، وهو خلاف مذهب أهل السنة ، وأيضاً تأخيره عن الحال على هذا لا يتضح إذ لا تعلق للاستثناء به ، وقد يدفع بأن القائل بهذا يخص الأشقياء بالكفار ، وبالسعداء بالأتقياء ، ويكون العصاة مسكوتاً عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان من أهل السنة فإن كان من المعتزلة فقد وافق سنن طبعه ، وسيأتي جواب آخر للمعترض ، وأمر التقديم سهل. قوله : ( أو مدّة لبثهم في الدنيا والبرزخ الخ ( معطوف على قوله زمان توقفهم أي المستثنى المفرّغ من أعمّ الأوقات هذه المذة إن لم يقيد الحكم بقوله يوم يأتي ، وهو يوم الجزاء فإنه متعلق بتكلم ، والحكم المذكور متفزع عليه فيتقيد به معنى ، وعلى هذا يقطع النظر عنه فالمعنى هم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زماناً شاء الله لبثهم في الدنيا ، والبرزخ ، والمراد مع زمان الموقف لأنهم ليسوا في زمانه في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فظاهر مطلقاً لكنهم معذبون في البرزخ أيضاً إلا أن يقال لا يعتذ به لأنه عذاب غير تاثم لعدم تمام حياتهم فيه وما على هذا أيضا عبارة عن الزمان فهي لغير العقلاء ، وأورد عليه ما أورد على ما قبله ، وأجيب بأنه إنما يرد لو كان المستثنى في الاستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الاستثناء الأوّل ، وهو غير مسلم فليكن المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك
الزمان المستثنى في الآية الأولى فإن المستثنى ليس فيه ما يدل على زمان معين حتى لا يمكن الزيادة عليه ، وفيه بحث.
قوله : ( وعلى هذا يحتمل التأويل أن يكون الاستثناء من الخلود الخ ) الإشارة إلى كونه مستثنى من أصل الحكم يعني إذا كان مستثنى من أصل الحكم صح استثناؤه أيضا من الخلود لأنّ من لم يكن في النار لم يكن في حال خلودها ، وحاصله أنّ الاستثناء على هذا يرجع لجميع ما تبله فإنّ الاستثناء يجوز كونه من أمور متعددة كما صرّح به النحاة ، ولا يرد عليه أنّ الخلود يقتضي سبق الدخول كما مز. قوله : ( وقيل هو من قوله لهم فيها زفير وشهيق ( وأورد على هذا في الكشف أن المقابل لا يجري فيه هذا ، ولا يرد لأنّ المراد ذكر ما تحتمله الآية والاطراد ليس بلازم. قوله : ( وقيل إلا هنا بمعنى سوى الخ ) يعني أنه استثناء منقطع كما في المثال ، وهذا القول اختاره الفرّاء ، ويحتمل أن يريد أن إلا هنا بمعنى غير صفة لما قبلها والمعنى يخلدون فيها مقدار مذة السماوات ، والأرض سوى ما شاء الله مما لا يتناهى قال في الكشف بعد نقله وهو ضعيف ، ويلزم عليه حمل السماوات والأرض على هذين الجسمين المعروفين من غير نظر إلى معنى التأبيد ، وهو فاسد ثم إنه اختار أنّ الوجه أن يكون من باب { حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } [ سورة الأعراف ، الآية : 40 ] و { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } [ سورة الدخان ، الآية : 56 ] وهو منقول عن الزجاج رحمه الله تعالى وارتضاه الطيبي رحمه الله تعالى فيكون المراد بالأشقياء الكفار وبالسعداء أهل التوحيد ، والمعنى أنهم خالدون فيها إلا وقت مشيئة اللّه عدم خلودهم ، وقد ثبت بالنصوص القاطعة أن لا وجود لذلك فيقدر الخلود ولا يتوهم جواز التعارض بين هذه ، وبين النصوص الدالة على عدم الخلود لأن المحتمل لا يعارض القطعي وقيل إلا بمعنى الواو العاطفة ، وهو قول مردود عند النحاة. قوله : ( وهو تصريح بأنّ الثواب لا ينقطع ( أي قوله عطاء غير مجذوذ لبيان أنّ ثواب أهل الجنة ، وهو إمّا نفس الدخول أو ما هو كاللازم البين له لا ينقطع فيعلم منه أن ألاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من اللّه أو لبيان النقص من جانب المبدأ ، ولهذا فرق في النظم بين التأبيد بما تممه إذ قال في الأوّل { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } للدلالة على أنه ينعم من يعذبه ، ويبقى غيره كما يشار ويختار ، وفي الثاني عطاء غير مجذوذ
بيانا لأنّ إحسانه لا ينقطع. قوله : ( ولأجله فرق ) أي لأجل القيد الدالّ على عدم انقطاع ثواب أهل الجنة فرق أهل السنة بين ثوابهم ، وعقابهم بالتأبيد في الأوّل دون الثاني لدلالته على أنّ العقاب على ما مرّ قبل دخولهم الجنة فلا يتأبد ، وقوله من سعده قد مرّ تفصيله ، وقوله نصب على المصدر فيكون بمعنى الإعطاء أو على حد { أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } [ سورة نوح ، الاية : 17 ] وقوله أو الحال بالجز عطف على المصدر ، وما نقله ابن عطية رحمه الله تعالى من أنه على طريق الاستثناء الذي ندبه الشارع في نحو : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ } [ سورة الفتح ، الآية : 27 ] فهو في محل الشرط وليس متصلا ولا منقطعاً تكلف لا حاجة إليه.
تنبيه : وقع لبعضهم هنا أنّ النار ينقطع عذابها بالكلية بخلاف نعيم أهل الجنة وأورد فيه حديثاً عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين " وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى إنه موضوع ، وأشار لنحو منه الزمخشريّ إلا أنه تكلم في عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما كلاماً لا ينبغي ذكره ( وأقول ) إن قوله كأنها أبواب الموحدين بيان لأنّ المراد بأبوابها ما يخص عصاة الموحدين فلا ينافي ما عليه الإجماع ولا عبرة بمن خالفه. قوله : ( شك بعدما أنزل عليك ما مآل أمره الناس ) الشك تفسير للمرثة كما مرّ ، وقوله بعدما أنزل مأخوذ من تعقيب الفاه ، ومآل الأمر إمّا حال الأشقياء العذاب الأليم ، والسعداء النعيم المقيم ، ومن لبيان ما أنزل. قوله تعالى : ( { مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء } ) من فيه إمّا بمعنى في أو ابتدائية ، وما مصدرية أو موصولة ، واليهما أشار المصنف رحمه اللّه تعالى ، وعلى الثاني يقدر مضاف أي حال هؤلاء لأنه لا معنى للمرية في أنفسهم ، وقوله يضرّ ، ولا ينفع في نسخة لا يضرّ ، ولا ينفع. قوله : ( استئناف ) أي بيانيّ جواب لم نهى عن الشك فقيل لأنهم كانوا كآبائهم في الشرك فسيحل بهم
ما حل بهم ، وأشار إلى أنّ ما إن كانت مصدرلة فالاستثناء من مصدر(5/139)
ج5ص140
مقدر ، وإن كانت موصولة فمن مفعول محذوف ، وما عبارة عن الأوثان ، ومن ذلك بمعنى من أجل ذلك متعلق بلحق ، والمراد بالأسباب الأسباب العادية ، وتقدير كان لا! مقتضى الظاهر كما عبد لقوله من قبل وعدل عنه مع أنه أخصر ، وأظهر للدلالة على أنه كان عادة مستمرة لهم. قوله : ) حظهم من العذاب ( وفيه تهكم لأن الحظ ، والنصيب ما يطلب فإذا كان الرزق قعلى ظاهره ، وقوله فيكون عذراً أي إنما أخر ما استوجبوه لأن لهم رزقاً مقدراً ما لم يتم لا يهلكون ، ومع ما فيه من بيان سببه فيه كرم ، وفضل منه حيث لم يقطع رزقهم مع ما هم عليه من عبادة غيره ، وعليه فالحال مؤسسة كما قيل ، وفيه نظر ، وقوله ولو مجاز اتبع فيه الزمخشري ، ولو أسقط ولو لكان أولى لئلا يرد عليه ما أورد من أن التوفية الإتمام لما وقع مفعولاً كلا أو بعضأ فهي على كل حال حال مؤكدة كوليتم مدبرين ، وفائدتها دفع توهم التجوز ، ولا يرد عليه أنه إذا لم تكن القرينة قائمة لم يبق احتمال للمجاز مع أنه اشتهر في معنى الإعطاء مطلقا ، وكفى بالشهرة قرينة فتأمل. قوله تعالى : ) { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ } ( يحتمل عود الضمير إلى موسى ، والى الكتاب ، والظاهر الثاني من كلام المصنف رحمه الله لقوله كما اختلف هؤلاء في القرآن ، وقوله لقضى بينهم أي بين قوم موسى عليه الصلاة والسلام أو قومك كما في الكشاف ويحتمل التعميم لهما لكن قوله ، وان كلا ظاهر في التعميم بعد التخصيص ، وقوله بإنزال ما يستحقه المبطل أي عذاب الاستئصال فلا ينافيه ما نزل باليهود ، ولا بالمشركين في بدر ونحوه ، وقوله ليتميز به إشارة إلى ما في معنى القضاء من الفصل ، والتمييز ، واعلم أنهم اختلفوا في الكلمة التي سبقت فقال ابن جرير رحمه الله هي تأخيره العذاب إلى الأجل المعلوم أي القيامة ، وعليه اعتمد المصنف فقول الفاضل المحشي الأظهر أن لا يقيده بيوم القيامة ليشمل ما في الدنيا غفلة عما ذكر ، ولو فسرها بقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ سورة الإسراء ، الآية : 5 أ ] كما قاله ابن كثير اتجه ما قاله. قوله : ) وإنّ كفار قومك ( أي أكثرهم ، وإلا فمنهم من تيقنه ، وقوله موقع في الريبة ، ويجوز أن يكون من أراب صار ذا ريبة كما مرّ تحقيقه ، وسيأتي في سورة سبأ. قوله : ) وإن كل المختلفين الخ ( قدر المضاف إليه المحذوف جمعاً لعود ضمير
الجمع إليه فليس التقدير كل واحد ، وكل إذا نوّنت تنوينها عوض! عن المضاف إليه المعلوم من الكلام عند قوم من النحاة ، وقيل إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضا ، وقوله بالتخفيف مع الأعمال هو أحد المذهبين ، والآخر أنّ المكسورة إذا خففت بطل عملها ، والآية حجة عليه ، واعتبار الأصل في العمل لشبه الفعل فلا يبطل مقتضاه بزوال صورة الشبه اللفظي ، وكون اللام الأولى موطئة للقسم أحد ما قيل هنا ، وهو منقول عن الفارسيّ رحمه الله تعالى ، وتبعه الزمخشريّ ، والمصنف رحمهما الله تعالى ، وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة من أنها الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفظا أو تقديرا لتؤذن بأن الجوأب له نحو واللّه لئن أكرمتني لألزمنك ، وليس ما دخلت عليه جواب القسم بل ما يأتي بعدها ، وليس هذا بمتفق عليه فإن أبا علي في الحجة جعلها هنا موطئة فاللام الموطئة لا يجب دخولها على الشرط ، وإنما هي ما دلت على أنّ ما بعدها صالح لأن يكون جوابا للقسم وقال الأزهري أنه مذهب الأخفش كما في الكشف ، ومن لم يرتض بالمخالفة فيه قال إنها لام التأكيد الداخلة على خبر أن لا الفارقة لأنها الداخلة في خبر أن المخففة إذا أهملت لتفرق بينها ، وبين النافية ، وهي عاملة هنا ، واحتمال إهمالها ، ونصب كلا بفعل مقدر أي ، وأن أرى كلا خلاف الظاهر وإن ذكره ابن الحاجب ولام ليوفينهم لام جواب القسم وما زائدة للفصل بين اللامين أو موصولة أو موصوفة واقعة على من يعقل ، والقسم وجوابه صلة أو صفة والمعنى ، وإن كلا للذي أو لخلق موفى جزاء عمله ، ورجح هذا كثير من المفسرين. قوله : ) والثانية للتأكيد أو بالعكس الخ ( أراد بقوله للتأكيد أنها جواب القسم وعبر به لأنها تفيد التأكيد ، وليتأتى قوله بالعكس فإنه إذا كانت الثانية موطئة كانت الأولى مؤكدة لا جوابية ، وهي لام الابتداء ، واعترض عليه بأنّ لام ليوفينهم لا يمكن أن تكون إلا لام(5/140)
ج5ص141
جواب القسم لا موطئة على ما لا يخفى على من عرف معناها ، والجواب عنه بأنّ الموطئة إذا لم يشترط دخولها عى شرط قبله قسم كما مز كان معنى التوطئة دلالتها على أن في الكلام قسماً مقدراً مدخولها جوابه ليس بشيء لأنه اصطلاج جديد فيه إطلاق الموطئة على لام الجواب ، ولم يقل به أحد فلا يندفع بمثله الاعتراض. قوله : ( بالتشديد على أنّ أصله لمن ما الخ ( في مغني اللبيب أنه ضمعيف لأنّ حذف هذه الميم استثقالاً لم يثبت ، وقال ابن الحاجب : إنها لما الجازمة التي بمعنى لم ، والفعل المجزوم بها محذوف تقديره لما يهملوا ، والأحسن لما يوفوا أعمالهم إلى الان ، وسيوفونها لقوّة دليله وقربه ، ومن هنا جوّز فيها فتح الميم على أنها موصولة ، وما زائدة وكسرها على أنها الجارة ، وما موصولة أو موصوفة أي لمن الذين والله ليوفينهم قاله الفراء ، وجماعة وعلى الوجهين الإعلال ما ذكر ، وكلام المصنف رحمه الله محمول على الثاني رواية ودراية ، وحمله على الأوّل تكلف إذ حمل قوله لمن الذين على فتح الميم ، وجعل الذين بدل من قبل الصلة ، وهو سخيف إن سلم
صحته ، وقوله في التقدير لمن الذين يوفينهم بإسقاط اللام القسمية إشارة إلى أنّ الصلة في الحقيقة جواب القسم لأن القسم إنشاء لا يصلح للوصل به ، ولو أبرزها كان أظهر. قوله : ) وقرئ لما بالتنوين أي جميعا الخ ) قال ابن جني على أنه مصدر كما في قوله تعالى : { كَلَّا لَمَّا } [ سورة الفجر ، الآية : 19 ] أي أكلا جامعاً لإجزاء المأكول ، وكذا تقدير هذا { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } أي توفية جامعة لأعمالهم جميعاً ، ومحصلة لأعمالهم تحصيلا كقولك قياماً لأقومن ، والمصنف رحمه الله كالزمخشري ذهب إلى أنها للتوكيد بمعنى جميعا ، وقول أبي البقاء رحمة الله إنها حال من مفعول ليوفينهم ضعفه المعرب. قوله : ( وإن كل لما ) أي بالكسر وتشديد الميم على أنّ إن نافية ، ولما بمعنى إلا وأخر هذا القول لما فيه لأنّ أبا عبيد أنكر مجيء لما بمعنى إلا وقالوا إنها لغة لهذيل لكنها لم تسمع إلا بعد القسم ، وفيه كلام في الدرّ المصون ، وقوله وان كل الخ معطوف على نائب فاعل قرئ قبله. قوله : ( فاستقم كما أمرت ) المراد منه دم على الاستقامة أنت ، ومن معك وفي كلام المصنف رحمه الله تعالى إشارة إليه ، وقوله كما أمرت يقتضي سبق أمره عليه الصلاة والسلام بوحي آخر ، ولو غير متلوّ وقد وقع في سوة الشورى فاستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم. قوله : ( لما بين أمر المختلفين في التوحيد الخ ( بيان لترتب هذه الآية وارتباطها بما قبلها ، وما ذكره معلوم مما مرّ بالتأمّل فيه ، وقوله مثل ما أمر بها أي بوحي آخر ، وفي نسخة أمروا بها ، والأولى أولى ، وقوله وهي أي الاستقامة ، والتوسط بين التشبيه ، والتعطيل أي للصفات هو مذهب أهل الحق ، والأعمال بالجرّ عطف على العقائد ، والقيام معطوف على تبليغ ، وكذا ونحوها والتفريط التقصير ، والإفراد الزيادة ، ومفوت صفة لهما ، والمراد بالحقوق حقوق نفسه ، وحقوق غيره وتفويت التفريط ظاهر ، وتفويت الإفراط لأنه يؤذي إلى الملل والترك ، وقوله وهي في غاية العسر أي الاستقامة يعسر على كل أحد التزامها في جميع الأمور كما قال الإمام : إنها كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل ، ولا شك أنّ البقاء على الاستقامة الحقيقية مشكل جذاً ، والاستقامة في جميع أبواب العبودية أوّلها معرفة اللّه كما يليق بجلاله ، وكذا سائر المقامات ، وسائر الأخلاق على هذا فالقوّة الغضبية ، والشهوانية لكل منهما طرفا إفراط ، وتفريط مذمومان ، والفاضل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين ، والوقوف عليه صعب ، والعمل به أصعب ،
وقس على هذا سائرها كالشجاعة والسخاء والعفة ، وهو لا يحصل إلا بالافتقار إلى الله ، ونفي الحول ، والقوّة بالكلية ، ولذا قيل لا يطيق هذا إلا من أيد بالمشاهدات القوية ، والأنوار السنية ، والآثار الصادقة ، ثم عصم بالتشبث بالحق ، ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا. قوله : ( ولذلك قال عليه الصلاة واللام شيبتني سورة هود ) هذا الحديث أخرجه الترمذيّ رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما وحسنه قال قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله قد شبت فقال عليه الصلاة والسلام : " شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعتم يتساءلون وإذا الشسى كوّرت " اهـ قال الطيبي : صح هود في الحديث غير منصرف لأنه اسم السورة لا النبيّ صلى(5/141)
ج5ص142
الله عليه وسلم ففيه العلمية ، والعجمة والتأنيث فهو كماه وجور اسمي بلدتين ، واضافة سورة إلى هود ليس كإضافة إنسان إلى زيد بل السورة لها اسمان هود ، وسورة هود وفي هذا الاسم الثاني هود اسم النبيّ صلى الله عليه وسلم أضيفت إليه لذكر تفصيل قصته فيها فليس من القبيل المذكور على أنّ استقباح ذلك إذا لم يكن له فائدة كما في المثال المذكور فإن أفاد حسن ، وهنا هو لدفع الاشتراك فاعرفه ، وقد مرّ تحقيقه ، وفي الكشاف عن ابن عباس رضي الله عنهما ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية وعن بعض الصلحاء أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له روي عنك يا رسول اللّه أنك قلت شيبتني هود فقال : نعم فقال ما الذي شيبك منها أقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وهلاك الأمم قال : لا ، ولكن قوله فاستقم كما أمرت ، وقد روي هذا الحديث من طرق اختلف فيها ما ضم إليها كما في الجامع الصغير ، وفي الكشف التخصيص لهود بهذه الآية غير لائح إذ ليس في الأخوات ذكر الاستقامة ، وفي قوت القلوب أنه لما كان القريب الحبيب شيبه ذكر البعد ، وأهله ولعل الأظهر أنه شيبه ذكر أهوال القيامة لذكرها في كلها فكأنه شاهد منها يوما يجعل الولدان شيباً ، وأورد عليه أنّ ما وقع لبعض الصلحاء في الرؤية يكون وجها للتخصيص " فإنّ الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم " ومعنى شيبتني ليس إلا أن يكون لها دخل في الشيب لا أن تكون مستقلة فيه فلا ممانعة ( قلت ا لم يقع في طرقه المروية في حديث الاقتصار على هود بل ذكر أخواتها معها على اختلاف فيها ، وحيحئذ يشكل أنه ليس في تلك السور الأمر المذكور مع أنه وقع في غيرها من الحواميم كما مرّ فلا يصح نسبة ذلك إليها كما لا يتضح اقتصار المصنف رحمه اللّه كغيره على ذكرها ( وقد لاج لي ( بحمد الله دفع هذا الإشكال ببركته صلى الله عليه وسلم فاعلم أنك إذا أجدت التأمّل استبان كما بينه المدقق
في الكشف أن مبني هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها ، والى ما يعتري من تصدي لهذه المرتبة السنية من الشدائد ، واحتماله لما يترتب عليها في الدارين من الفوائد لا على تسليته صلى الله عليه وسلم فإنه لا يطابق المقام فانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله واليه يرجع الأمر كله فاعبده ، وتوكل عليه تقض من ذلك العجب فلما كانت هذه السورة جامعة لإرشاده من أوّل أمره إلى آخره ، وهذه الآية فذلكة لها فحين إذ نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد ، وخاف من عدم القيام بأعبائها حتى إذا ألقى الله في يوم الجزاء ربما مسه نصب من السؤال عنها فذكر القيامة في تلك السور يخوّفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده الله له في هذه ، وهذا لا ينافي عصمته ، وقربه لكونه إلا علم بالله ، والا خوف منه فالخوف منها يذكره بما تضمنتة هذه السورة فكأنها هي المشيبة له مجشحر من بينها ، ولذا بدئ بها في جميع الروايات ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة فلا منافاة بين نسبة التشييب لتلك السورة ، ولا لهذه السورة وحدها كما فعله المصنف رحمه الله ، ولا لتلك الآية كما وقع في رؤية ذلك العبد الصالح فالحمد لله على التوفيق لما ألهم من هذا التحقيق ، وقوله كما أمرت الكاف فيه إئا للتشبيه أو بمعنى على كما في قولهم كن كما أنت عليه أي على ما أنت عليه ، وقال أبو حيان في تذكرته إن قلت كيف جاء هذا التشبيه للاستقامة بالأمر قلت هو على حذف مضاف تقديره مثل مطلوب الأمر أي مدلوله فإن قلت الاستقامة المأمور بها هي مطلوب الأمر فكيف يكون مثلاً لها قلت مطلوب الأمر كليّ والمأمور جزئي فحصلت المغايرة ، وصح التشبيه كقولك صل ركعتين كما أمرت اهـ ، وفيه تأمل فتدبر. قوله تعالى : ( { وَمَن تَابَ مَعَكَ } ( قال أبو البقاء رحمه الله أنه منصوب على أنه مفعول معه ، والمعنى استقم مصاحبا لمن تاب قيل ، وفيه نبوّ عن ظاهر اللفظ يعني التصريح بالمعية لكنه في المعنى أتتم ، ولذا اختاره وقال غيره أنه مرفوع معطوف على الضمير المستتر في الأمر ، وأغنى الفصل بالجاز ، والمجرور عن تأكيده بضمير منفصل لحصول الغرض! به فهو من عطف المفردات ، وقد تقدم في البقرة في قوله : { اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } [ سورة البقرة ، الآية : 35 ،(5/142)
ج5ص143
أن كثيرا من النحاة اختاروا في مثله أنه مرفوع بفعل محذوف أي ، وليسكن زوجك فالتقدير هنا ، وليستقم من الخ لأنّ الأمر لا يرفع الظاهر فهو من عطف الجمل ، والمصنف رحمه الله ذهب إلى الأوّل لعدم احتياجه إلى التقدير ، وما ذكروا من المحذور مدفوع بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، وهو تغليب لحكم الخطاب على الغيبة في لفظ الأمر لكن التغليب فيه محتاج إلى دقة نظر وقيل من مبتدأ محذوف الخبر أي فليستقم ، ولو قيل معك خبر لم يبعد. قوله : ) أي تاب من الشرك والكفر وآمن معك ( لما فسر التوبة بالتوبة عن الكفر ذكر لازمها ورديفها ، وهو الإيمان ليتعلق به المصاحبة إذ المعنى حينئذ على ذكر مصاحبتهم له في الإيمان مطلقا من غير نظر إلى ما تقدمه ، وغيره ، وقد قيل في توجيه المعية أيضا يكفي الاشتراك ،
والمعية في التوبة مع قطع النظر عن المتوب عنه ، " وقد كان !ك! يستغفر الله في كل يوم أكثر من سبعين مرّة " . قوله : ( ولا تخرجوا عما حدّ لكم ) أي ما بين وشرع من حدود الله فإنّ الطغيان الخروج عن الحد. قوله : ( وهو في معنى التعليل للأمر والنهي ) فكأنه قيل استقيموا ، ولا تطغوا لأن الله ناظر لأعمالكم مجازيكم عليها ، والله ينظر إلى قلوبكم لا إلى صوركم ، وقيل إنه تتميم لقوله فاستقم أي حق الاستقامة فإنه بصير لا يخفى عليه سرّكم ، وعلانيتكم وما سلكه المصنف رحمه الله أحسن ، وأتنم فائدة. قوله : ( وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص الخ ( ليس فيه إنكار للقياس ، والاستحسان كما توهم فإن المصنف رحمه اللّه ليس من مذهبه إنكاره ، وإنما أراد أنه لا يجوز ذلك مع وجود النصوص الصريحة التي لا احتمال فيها لغير ظاهرها لأنه أمره باتباع أوامره ، وعدم تجاوزها إلى غيرها على طريق التشهي ، وأعمال العقل الصرف كما نراه من بعض المؤوّلين للنصوص زاعمين أنّ لها معاني غير ما دلت عليه. قوله : ( ولا تميلوا إليهم ) لأنّ الركون إذا تعذى بإلى كان بمعنى الميل ، ومنه الركن المستند إليه غيره لكنه ليس مطلق الميل بل الميل اليسير وأدنى الميل مفسر بما ذكره ، وقوله بركونكم الباء فيه للسببية ، وهو مأخوذ من الفاء الواقعة في جواب النهي لأنها تفيد تسببه عن المنهي عنه ، وقوله ما يسمى ظلما إشارة إلى أنّ العدول عن الظالمين إلى هذا لدلالة الفعل على الحدوث دون الثبوت الدال عليه الوصف باعتبار أصل وضحعه ، وقوله الموسومين بالظلم أي المعروفين به ، وإنما يكون ذلك بكثرته ودوامه منهم ، وما ذكره من المراتب إشارة إلى ما في الاية من المبالغة ، ولذا قال الحسن رضي الله عنه جمع الدين بين لاءين يشير إلى هذا كما نقل عنه جمع الزهد بين لاءين في قوله تعالى : { لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ سورة الحديد ، الآية : 23 ، ولذا قال إنها أبلغ آية في معناها. قوله : ) وخطاب الرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت الخ ) يعني أنه أمرهم أوّلاً بالاستقامة الجامعة ، ثم نهاهم عن الطغيان ، وتجاوز
الحدود المأمور بها ، والميل إلى من تجاوزها للتثبيت عليه ، والا فقد تضمن معنى هذا النهي ما سبق من الأمر فلا يكون تكراراً فإن كان المراد بالأمر الأوّل الثبات ، والدوام كما مز يكون هذا تأكيداً له ، وقوله فإنه أي الزوال تكرير لأنّ السابقة للتأكيد على حد قوله فلا تحسبنهم فقوله ظلم خبر أن الأولى ، ويحتمل أنه خبر الثانية ، وقوله بالميل خبر الأولى ، وهو أظهر ، وقوله في نفسه أي بقطع النظر عن كونه على نفسه أو غيره لأنه وضع الشيء في غير محله مطلقا. قوله : ( وقرئ تركنوا فتمسكم الخ ) أي بكسر حرف المضارعة على لغة تركنوا ، وعلى البناء للمفعول من أركنه جعله مائلا أي لا يملكم إليهم أغراضكم الفاسدة. قوله : ( من أنصار يمنعون العذاب عنكم ) فسره به لأنّ الوليّ له معان منها الناصر ، وفسره الزمخشريّ بنفي القدرة على المنع ، وهو أبلغ ولا يرد على المصنف رحمه الله تعالى أنه يفهم من نفي المنع عن غير الله إثباته له بخلاف نفي القدرة الذي في الكشاف لأن قوله ثم لا تنصرون يدفعه فعلى ما ذكره يكون الكلام أفيد وأحسن مقابلة ، وقد أشار إليه المصنف بقوله ، ثم لا ينصركم الله فخص النصرة المنفية فيه باللّه لأنّ انتفاء نصرة غيره علمت مما قبله وقوله ، ولا يبقى عليكم أي لا يرحمكم من أبقى عليه إذا رحمه وعذى بعلى لما فيه من معنى الشفقة. قوله : )(5/143)
ج5ص144
وثم لاستبعاد نصره إياهم الخ ) قال الزمخشري : معناها الاستبعاد لأنّ النصرة من اللّه مستبعدة مع استيجابهم العذاب ، واقتضاء حكمته له ، واعترض عليه بأنّ أثر الحرف إنما هو في مدخوله ، ومدخول ثم عدم النصرة ، وليس بمستبعد وإنما المستبعد نصرة الله لهم فالظاهر أنها للتراخي في الرتبة لأنّ عدم نصرة الله أشد وأفظع من عدم نصرة غيره ، وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن يقال فيه مضاف مقدر ، والمعنى لاستبعاد ترك نصره إياهم مع الإيعاد بالعذاب ، والإيجاب ، وظاهر أنّ للحرف مدخلاً في بعد ترك النصر عما قبله ولا يخفى بعده ، وتكلفه فالظاهر ما قيل إن ثم كما تكون لاستبعاد ما دخلت عليه تكون لاستبعاد ما تضمنه ، د!ان لم يتصل به ، والمعنى على أنه فكيف ينصرهم ، وما ذكره المعترض! أقرب من هذا.
قوله : ( ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاء ) أي أنه على الأوّل المقام مقام الواو ، وعدل
عنها لما ذكر وعلى هذا كان الظاهر أن يؤتى بالفاء التفريعية المقارنة للنتائج إذ المعنى أنّ اللّه أوجب عليكم عذابه ولا مانع لكم منه فاذن أنتم لا تنصرون فعدل عنه إلى العطف بثم
الاستبعادية على الوجه السابق واستبعاد الوقوع يقتضي النفي والعدم الحاصل الآن فهو مناسب لمعنى تسبب النفي فاندفع ما قيل عليه إن الداخل على النتائج هي الفاء السببية لا الاستبعادية فتأمّل ، والفرق بين الوجهين أنّ المنفيّ على الوجه الأوّل نصرة الله لهم ، وعلى هذا مطلق النصرة كما أشار إليه بقوله لا ينصرون أصلاً. قوله : ( غدوة وعشي الخ ) النهار من طلوع الشمس إلى غروبها أو من طلوع الفجر إلى الغروب ، وسيأتي وجه ذلك وقوله لأنه مضاف إليه أي إلى الظرف فيكتمسب الظرفية منه ، وينتصب انتصابه كما يقال أتيت أوّل النهار وآخره ، وهو ظرف لأقم ، ويضعف كونه للصلاة. قوله : ) وساعات منه قريبة من النهار الخ ) اعلم أن العامّة قرؤوا زلفاً بضم الزاي وفتح اللام جمع زلفة كظلمة ، وظلم ، وقرىء بضمهما إما على أنه جمع زلفة أيضا ، ولكن ضمت عينه اتباعاً لفائه أو على أنه اسم مفرد كعنق أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف ، وقرأ مجاهد وابن محيصن باسكان اللام إمّا بالتخفيف فيكون فيها ما تقدم أو على أنّ السكون على أصله فهو كبسرة وبسر من غير اتباع ، وقرىء زلفى كحبلى بمعنى قريبة أو على إبدال الألف من التنوين اجراء للوصل مجرى الوقف ، ونصبه إما على الظرفية بعطفه على طرفي النهار لأنّ المراد به الساعات أو على عطفه على الصلاة فهو مفعول به ، والزلفة عند ثعلب أوّل ساعات الليل ، وقال الأخفش : مطلق ساعات الليل ، وأصل معناه القرب يقال ازدلف أي اقترب ، ومن الليل صفة زلفا ، وقوله وهو جمع زلفة أي على قراءة الجمهور بضم الزاي ، وفتح اللام ، وقوله قريبة من النهار إشارة إلى حذف صلته ، ومن في من الليل تبعيضية ، وقوله فإنه تعليل لتفسيره بما ذكره. قوله : ( وصلاة الغداة صلاة الصبح لأنها الخ ) شروع في تفسير الصلاة في الطرفين ، والزلف بعدما بين أن طرفيه أوّله ، وآخره الداخلان فيه فإن كانا غير داخلين فيه ملاصقين لأوّله وآخره فاطلاق الطرف مجاز لمجاورته له فالمراد بما وقع في طرفه الثاني صلاة العصر ولما لم يقع في طرفه الأوّل صلاة حملت على الصبح لقربها منه فيكون ما وقع في الطرفين ليس على وتيرة واحدة ، وهو قول قتاد والضحاك ، وعليه كلام المصنف رحمه الله وقال ابن عباس رضي الله عنهما صلاة الطرفين الصبح والمغرب فهما على وتيرة واحدة ، وقال أبو حيان رحمه الله : طرف الشيء لا بد أن يكون منه فالذي يظهر أنها الصبح والعصر فجعل أوّاط النهار الفجر. قوله : ( وقيل الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشئ الخ ( هذا قول مجاهد رحمه الله فالمراد بما في طرفه الثاني صلاة الظهر ، والعصر لأنّ ما بعد الزوال عشيّ ، وطرفا النهار الغدوّ والعشيّ قيل ، ومرضه المصنف رحمه الله لأنه لا يلزم من اطلاق العشيّ
على ما بعد الزوال أن يكون الظهر في طرف النهار فإنّ الأمر بالإقامة في ظرفيه لا في الغداة ، والعشي ورذ بأنه لما فسر طرفي النهار بالغدوّ والعشيّ دخل الظهر في العشيّ بلا شبهة إذ معنى طرفي النهار حينئذ قسماه فالسؤال إنما هو على تفسيره لا على دخول الظهر في الثاني ، وارتضى بعضهم تفسير طرفي النهار بالصبح والمغرب كما رجحه الطبرقي ، وزلف الليل بالعشاء ، والتهجد فإنه كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم فهو(5/144)
ج5ص145
كقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } [ سورة الإسراء ، الآية : 79 ، أو الوتر على ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله أو مجموع العشاء ، والوتر والتهجد كما يقتضيه جمع زلفا ، وفسرها المصنف رحمه الله بالمغرب والعشاء فإن قلت زلف جمع فكيف يطلق على صلاتين قلت كل ركعة منهما قربة ، وصلاة فيصدق عليهما أنها قرب وصلوات ، وقوله كبسر وبسر يعني أنه جمع زلفة ، وقياسه الفتح ، ولكن ضم للاتباع وتسكينه للتخفيف ، وقد مرّ تفصيله ، وقوله وزلفى أي قرىء زلفى بألف ، وقد قدمناه. قوله وفي الحديث : " إنّ الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما الخ " هذا الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهق ما اجتنبت الكبائر " واستشكله القرطبي رحمه الله ، وقال إن حديث مسلم يقتضيه تخصيصه بالصغائر فيحمل المطلق عليه لكن في شرح الأحكام أنه يرد عليه اشكال قويّ ، وهو أنّ الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر بالنص يعني قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ، وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس ، وأجاب عنه البلقيني رحمه الله بأنه غير وارد لأنّ المراد أن تجتنبوا في جميع العمر ، ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت التكليف أو الإيمان إلى الموت ، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فلا تعارض بين الآية ، والحديث قال ابن حجر رحمه الله تعالى ، وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص منه سهل ، وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس فمن لم يفعلها لم يعذ مجتنبا للكبائر لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها فتأمل فيه ، وقوله يكفرنها فسره به لأنها تذهب المؤاخذة عليها لأنفسها لأنها أعراض! وجدت ، وانعدمت وحمل الحسنات على الصلوات المفروضة بقرينة سبب النزول فالتعريف للعهد ، وقيل المراد مطلق الفرائض لرواية الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن ، والأحاديث في المكفرات كثيرة ، وقد صنف فيها بعض المتأخرين تصنيفاً جمع فيه
بين الروايات ، ووفق بينها ولولا خوف الاطالة أوردت لك زبدة ما قاله فعليك بالنظر في الكتب المفصلة في علم الحديث. قوله : ( وفي سبب النزول أنّ رجلاَ أتى النبتي صلى الله عليه وسلم الخ ( رواه الشيخان وهو أنّ : " رجلاَ أتى النبئ صلى الله عليه وسلم فقال إني أصبت من امرأة غير أتي لم آتها " أ ا ( يريد أنه قبلها وهو مروقي عن ابن مسعود رضي الله عنه ، والحاكم والبيهقيّ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، والرجل هو أبو اليسر بفتح الياء والسين المهملة ، ثم راء مهملة واسمه عمرو بن غزية بفتح الغين المعجمة ، وكسر الزاي الضعجمة وتشديد الياء ، وهو أنصارفي صحابيئ رضي الله عنه ، وقيل اسمه كعب بن مالك ، وقيل كعب بن عمرو. قوله : ( إشارة إلى قوله فاستقم وما بعده ( بتأويل المذكور ، وقيل إلى الصلاة لقربها أي إقامتها في هذه الأوقات سبب عظة وتذكرة ، وقيل إلى ما في هذه السورة من الأوامر ، والنواهي ، وقوله للذاكرين خصهم لأنهم المنتفعون بها. قوله : ( عدول عن المضمر الخ ) أي لم يقل أجرهم ونحوه ، والأوامر بأفعال الخير أفردت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وإن ك!انت عامّة في المعنى ، وفي المنهيات جمعت للأمة ، وهو من البلاغة القرآنية ، وقوله كالبرهان أي اللميّ أي سبب عدم إضاعة أجرهم الإحسان ، وقوله كالبرهان لأنه لم يورد بصورة الدليل أو لأنه لا علية ، ولا سببية لشيء عندنا في الحقيقية ، وما عدّ منه فهو من الأسباب العادية ووجه الإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص أنّ إحسان ذلك إخلاص. لقوله صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " . قوله : ( فهلا كان الخ ( يشير إلى أنّ لولا هنا للتحضيض ، ودخلها معنى التندّم ، والتفجع عليهم مجازا ، وحكي عن الخليل رحمه الله تعالى أن كل لولا في القرآن فمعناها هلا إلا التي في الصافات قال الزمخشري : وهذه الرواية تصح عنه لوقوعها في غيرها في موأضع. قوله : ( من الرأي والعقل ( فالبقية بمعنى الباقية ، والتأنيث لمعنى الخصلة أو القطعة ، وقوله أو أولو فضل فالبقية
بمعنى الفضيلة أو التاء للنقل إلى الاسمية كالذبيحة وأولو بمعنى ذوو جمع ذو من غير لفظه ، ولا واحد له ويرسم بواو زائدة بعد الهمزة للفرق بينه ، وبين إلى الجارّة ، وقوله وإنما سمي أي الفضل أطلق عليه بقية استعارة من البقية التي(5/145)
ج5ص146
يصطفيها المرء لنفسه ، ويدخرها مما ينفقه فإنه يفعل ذلك بأنفسها ، ولذا قيل في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا ، وقوله أفضل ما يخرجه بخاء معجمة ، وجيم كما في بعض النسخ ، والحواشي والمراد ما ينفقه ، ويصرفه لأنّ الخرج يستعمل بهذا المعنى ، وفي بعضها يجرحه بجيم وحاء مهملة أي يكتسبه ، وارتضى هذه بعضهم والأولى أظهر. قوله : ( ويجورّ أن يكون مصدرا كالتقية الخ ا لأنه فعيل وفعيل يكون مصدراً ، وقيل إنه اسم مصدو وهو بمعنى الابقاء أي ذوو إبقاء لأنفسهم بمعنى صيانتها عن سخط الله ، ويؤيد المصدرية أنه قرىء بقية بزنة المرّة ، وهو مصدر بقاء يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره ، وراقبه كما قاله الراغب رحمه الله تعالى وفي الحديث : " بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي انتظرناه وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضي يرضى ، والمعنى على هذه القراءة أصحاب مراقبة لخشية الله ، وانتقامه. قوله : ( ينهون عن الفساد في الأرض ) الظاهر أن كان تامة ، وأولو بقية فاعلها ، وجملة ينهون صفته ومن القرون حال مقدمة عليه ومن تبعيضية ، ومن قبلكم حال من القرون ، والمعنى هلا وجد أولو بقية ناهون حال كونهم من قبلكم لا ناقصة ، وخبرها ينهون لأنه يقتضي انفكاك النهي عن أولي البقية ، وهو فاسد لأنهم لا يكونون إلا ناهين إلا أن يجعل من قبيل :
ولا ترى الفسب بها ينجحر
كذا قيل وقوله لأنهم كانوا كذلك أي ناهين عن الفساد يقتضي أنه جعلها ناقصة لا تامة
كما ذكره ، وسيأتي ما فيه. قوله : ( لكن قليلأ منهم أنجيناهم الخ ) جعله سيبويه رحمه الله كقوله في سورة يونس : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ } [ سورة يون! ، الآية : 98 ] وقال السيرافي في شرحه لا يجوز فيه البدل وفي لو فعلت ذلك لكان أصلح لك وهذه الأشياء تجري مجرى الأمر وفعل الشرط ، ولا يجوز في شيء من ذلك البدل لو قلت ليقم القوم إلا زيد لم يجز كان قام إلا زيد ، وليس فيه الاستثناء الذي هو إخراج جزء من جملة هو منها. لأنّ القصد إلى قوم أطبقوا على الكفر ، ولم يكن فيهم مؤمنون فقبح فعلهم ، ثم ذكر قوما مؤمنين باينوا طريقتهم فمدحهم ، ويجوز الرفع في قوم يونس على أن إلا بمعنى غير صفة ، وكان الزجاج يجيز رفعه على البدل على لغة أهل الحجاز بتقدير فهلا كان قوم نبيّ آمنوا
إلا قوم يونس عليه الصلاة والسلام وعلى لغة تميم ، وان لم يكن من جنسه ، ولعله جوّزه لأنّ المعنى ما آمنت قرية إلا قوم يونس عليه الصلاة والسلام ، ولما كان التحضيض إذا دخل على ماض مشتملاً على التنديم ، والنفي كان له اعتباران التحضيض والنفي فإن اعتبر التحضيض لا يكون الاستثناء متصلاً بل منقطعا لأنّ المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له ففي جاءني القوم إلا زيدا المعنى أنه ما جاءني ، وفي ما جاءني أحد إلا زيدا المعنى أنه جاءني ، والتحضيض معناه لم ما نهوا ولا يجوز أن يقال إلا قليلاً فإنهم لا يقال لهم لم ما نهوا لفساد المعنى لأنّ القليل ناهون لأنّ معنى هذه كما في الآية الأخرى أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب هذا محصل كلامهم في منع الاتصال ، وأورد عليه أنّ صحة السلب أو الاثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر ، وأما الطلب فيكون بحسب المعنى فإنك إذا قلت اضرب القوم إلا زيدا ليس المعنى على أنه ليس اضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلا زيدا فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال أولو بقية محضوضون على النهي إلا قليلا فإنهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالاستثناء متصل قطعا كما ذهب إليه بعض السلف فإن اعتبر معنى النفي كان متصلا وهو ظاهر لأنه يفيد أنّ القليل الناجين ناهون ، وحينئذ يجورّ فيه الرفع على البدل ، وهو الأفصح ، والنصب على الاستثناء ، وقد يدفع ما أورده با! مقتضى الاستثناء أنهم غير محضوضين ، وذلك إما لكونهم نهوا أو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم فأما أن يكونوا جعلوا احتمال الفساد فساداً أو ادعوا أنه هو المفهوم من السياق ، ثم إن المدقق قال إن تقدير الزمخشري يشعر بأنّ ينهون خبر كان ، ومن القرون خبر آخر أو حال قدمت لأنّ تحضيض أولي البقية على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة ومن القرون خبراً كان المعنى على تنديم أولي القرون على أن لم يكن فيهم أولو بقية ناهون وإذا جعل خبراً لا يكون معنى الاستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا بل المعنى ما كان منهم أولو(5/146)
ج5ص147
بقية ناهين إلا قليلا فإنهم نهوا ، وهو فاسد والانقطاع على ما آثره أيضاً يفسد لما يلزمه من أن يكون أولو البقية غير ناهين لأن في التحضيض ، والتنديم دلالة على نفيه عنهم فالوجه أن يؤوّل بأنّ المقصود من ذكر الاسم التمهيد للخبر فكأنه قيل لولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلا قليلاً وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يختلف نفي الناهين ، وأولو البقية ، وإنما عدل عن هذا مبالغة لأنّ أصحاب فضلهم ، وبقاياهم إذا حضضوا على النهي ، وندموا على تركه فهم أولى بالتحضيض ، والتنديم ، وفيه دلالة على أنّ أولي البقية لا يكونون إلا ناهين فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فهو كقولك :
ولا ترى الضبّ بها ينجحر
وقولك : ما كان شجعانهم يحمون الحقائق في الذمّ تريد أنه لا شجاع ولا حماية وهذا
هو الوجه الكريم الذي توجه إليه نظر الحكيم وهو المطابق لبلاغة القرآن العظيم اهـ ومن هذا
عرفت وجه جعل كان ناقصة لا تامّة لأنه ليس التحضيض على وجودهم فيهم ، وليس المنفيّ ذلك أيضا بل هو على النهي فإن قلت هو صفة ، والتحضيض والنفي متوجه إليها فيكون مطابقا للمرام فقد زدت في الطنبور نغمة من غير طرب ، ومثله نصب. قوله : ( لكن قليلاً منهم أنجيناهم الخ ( قدر الانجاء بعده لمقتضى قوله ممن أنجينا ، وقدره الزمخشري نهوا لتلازمهما ، ولا فرق بينهما وهو نظر إلى ما قبله ، والمصنف لما بعده لظهوره في الانقطاع. قوله : ( ولا يصح اتصاله الخ ا لفساد المعنى كما سمعته مع ماله وما عليه ، وقوله إلا إذا جعل استثناء من النفي قيل المعنى ما وجد منهم أولو بقية ينهون إلا قليلا ممن أنجيناهم ، وهم أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو ما كانوا ينهون إلا قليلاً منهم والثاني فاسد ، وقد أوّله في الشكف بما مرّ ، وحمل كان على التامة مغن عن هذه التكلفات ، ومصحح للمراد اهـ ، وقد عرفت أنه لا يسمن ولا يغني من جوع ، وأنه ناشىء من قلة التدبر ومن بيانية أو تبعيضية. قوله : ( ما أنعموا فيه من الشهوات الخ ( أي ما صاروا منعمين فيه لأنّ حقيقة الترف التنعم ، وتفسيره بطغوا فيه من أترفته النعم إذا أطغته ففي إما سببية أو ظرفية مجازية خلاف المشهور وان صح هنا لكن الأوّل أولى ، وأشمل وجعل اتباعه كناية عن الاهتمام به ، وترك غيره لأنه دأب التابع للأمر. قوله : ( وكانوا مجرمين كافرين ) فسره به لأن الكفر أعظم الإجرام ، ولأنه الذي يحصل به الفائدة مع ما قبله ، وفشو الظلم شيوعه مأخوذ من إسناد الظلم إلى الجميع ، واتباع الهوى هو اتباع ما أترفوا فيه ، وترك النهي عن المنكرات مأخوذ من مقابلتهم للناهين ، والكفر من الأجرام لتفسيره به. قوله : ( واتبع معطوف على مضمر دل عليه الكلام إذ المعنى فلم ينهوا عن الفساد واتبع الخ ( المضمر بمعنى المقدر ، وهو ما أشار إليه بقوله لم ينهوا فعليه يكون بيانا لحال من ترك النهي بعد ذكر الناهين ، وعدل عن تقديره نهوا كما في الكشاف ، وان لم يرد عليه ما ورد عليه كما توهم لأنه نثأ من جعله خبرا على الانقطاع ، والمنصف رحمه الله لم يقدره بل قدر أنجيناهم كما سمعته ، ولا وجه لما قيل إنه على تقديره لا يرتبط الكلام بما قبله ، ولذا عدل عنه لأنه على تقديره المعنى لكن قليلا نهوا عنه فهم نهوا ، وغيرهم انهمك في هواه ، وترك ما سواه فلذا عذبوا وأفي ارتباط أحسن من هذا ، أو إنما اختاره لأنه أكثر فائدة وأحسن مقابلة ، والذي ورد على الكشاف أنه قدر نهوا خبر لكن فلا يصح عطفه عليه لخلوّه من الربط ودفع بما فصل في شروحه ، وليس لنا به حاجة لترك المصنف رحمه الله له. قوله : ) وكانوا مجرمين عطف على
على اتبع الخ ) مع المغايرة بينهما ، وليس العطف تفسيريا والمعنى ، وكانوا مجرمين بذلك الاتباع كما في الكشاف لتكلفه ، ولذا ترك عطفه على أترفوا المذكور فيه ، وجعله اعتراضاً بناء على أنه يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني. قوله : ) وقرىء وأتبع الخ ) هي قراءة أبي عمرو رحمه الله في رواية وأبي جعفر أي بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الأتباع ، ولا بد حينئذ من تقدير مضاف أي أتبعوا جزاء ما أترفوا فيه وما موصولة بمعنى الذي وهو الظاهر لعود الضمير في فيه إليه ، ويجوز أن تكون مصدربة أي جزاء أترافهم فالضمير للظلم المعلوم منه ، وقوله فتكون الواو للحال إذا جعل حالاً يكون المعنى إلا قليلاً أنجيناهم ، وقد هلك سائرهم ، وقد كانوا مجرمين ، ولا يحسن جعله(5/147)
ج5ص148
قيداً للإنجاء إلا من حيث إنه يجري مجرى العلة لا هلاك السائر فيكون اعتراضا أو حالاً من الذين ظلموا والأوّل حال من مفعول أنجينا المقدر أما لو جعل عطفاً على مقدر فحسن ، ولا يخفى أنه يجوز كون الواو عاطفة على لم ينهوا المقدر ، وإذا فسرت به المشهورة فقيل فاعل اتبع ما أترفوا ، والكلام على القلب ثم الواو وللعطف أو للحال أيضا. قوله : ( ويعضده تقدّم الانجاء ( لأنّ تقدم الانجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا كأنه قيل ، وأنجينا القليل ، واتبع الذين ظلموا جزاءهم فهلكوا فيحسن التقابل حينئذ لكون وصول الجزاء إلى الكثير في مقابلة انجاء القليل ، ولا يفتقر إلى تقدير معطوف عليه حينئذ لأنّ الواو حالية. قوله : ( بشرك ( فسر الظلم به لوروده بهذا المعنى في القرآن ، ولاقتضاء المقام ، ولذا ترك ابقاءه على ظاهره المذكور في الكشاف ، والباء للسببية. قوله : الا يضمون إلى شركهم ا لتفسير الظلم به والتباغي تفاعل من البغي ، وقوله وذلك إشارة إلى ما ذكر من عدم اهلاكهم بكفرهم ، وقوله ومن ذلك أي من أجل مسامحة الله في حقوقه قال الفقهاء إنه إذا اجتمع حق الله وحق العبد في شيء قدم حق العبد على حق الله ، وهو مبين في الفقه ، وقوله وقبل معطوف على قدم ، وهو ظاهر. قوله : ( قدم الفقهاء ) أي لأجل أن الله مسامح في حقه كالشرك هنا إذ لم يعجل عقوبته ، ولم يسامح في حقوق العباد كظلم بعضهم لبعض قدم الفقهاء الخ. والمراد أنهم قدموها في الجملة عليه ما لم يمنع منه مانع فلا يرد عليه أنهم قالوا إذا اجتمع حق الله كالزكاة ودين الناس على حيّ غير محجور عليه يقدم حق الله لقوله صلى الله عليه وسلم : " دين الله أحق أن يقضى " وهو متفق عليه ، وإن كان
محجوراً قدم دين إلا دميّ على حقه تعالى ما دام حياً ، وكذا إذا اجتمعا في تركة ميت كما بين في أوّل الفرائض. قوله تعالى : ( { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } ( قيل إنّ الآية ترجع إلى قياس استثنائي استثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم ، وهو مركب من مقدمتين طويت الثانية منهما ، وقوله : وأنّ ما أراده يجب وقوعه هو مفهوم المقدّمة المذكورة ، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد نتيجة القياس ، وفي كلام المصنف رحمه الله تعالى إشارة إليه ، وقوله على أن الأمر غير الإرادة لازم النتيجة بعد ضم مقدمة أخرى هي أنّ الكل مأمور بالإيمان ، وكل منهما ناع على المعتزلة المخالفين في ذلك ، ولما رأوها ظاهرة في رذ ما قالوه جعلوا الارادة قسمين الجائي قسرية ، وغيرها فحملوا المنفية على الأولى فتدبره. قوله : ) مسلمين كلهم ( يعني أنّ الوحدة المراد بها وحدة في الدين بمقتضى المقام وقوله ، ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ، وقوله مسلمين كلهم تفسير للأمّة الواحدة بدل أو عطف بيان وكلهم تأكيد للضمير المستتر فيه ، وليس المراد بالإسلام ما يخص هذه الأمّة. قوله : ) وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الارادة ( أما الأوّل فلأنه أمر الكل بالإسلام ، وقال هنا أنه لم يرده ، ولو أراده لوقع ، والمعتزلة يقولون إنّ الأمر هو الإرادة بعينها عند بعضهم ، وانّ الارادة تتخلف عن المراد فأوّلوا هذه الارادة بإرادة القسر كما في الكشاف ، وأما الآخران فظاهران ، وهذه الآية لا تخالف قوله ، وما كان الناس إلا أمّة واحدة لما مرّ في تفسيرهما ، ولأنه ليس المراد هنا لجعل كل فرق منهم فتأمّل. قوله : ( بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل ) حمل الاختلاف على ما يشمل اختلاف العقائد ، والفروع وغيرهما من أمور الدين لعدم ما يدل على الخصوص في النظم فالاستثناء منقطع حيث لم يخرج من رحمه الله من المختلفين لاختلافهم في غير العقائد فلو قال لكن ناسأ هداهم الله من فضله اتفقوا كان أظهر في مراده ، ولو حمل الاختلاف على ما يخص الأصول كان الاستثناء متصلا ، وقوله مطلقا يأبى حمله عليه فمن قال لا وجه للانقطاع لم يقف على الداعي له ، وقوله : على ما هو أصول دين الحق حمله عليه لأنّ اختلاف الفروع للمجتهدين لا يمنع الرحمة بل هو رحمة. قوله : ( إن كان الضمير للناس فالإشارة إلى الاختلاف ) في المشار إليه أقوال كثيرة أظهرها أنه للاختلاف الداذ عليه مختلفين فالضمير حينئذ للناس أي لثمرة الاختلاف من كون فريق في الجنة ، وفريق في السعير خلقهم ، واللام لام العاقبة ، والصيرورة لأنّ حكمة خلقهم ليس هذا لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ سورة الذاريات ، الآية :
56 ] ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم عليه أو الاشارة له وللرحمة المفهومة(5/148)
ج5ص149
من رحم لتأويلها بأن ، والفعل أو كونها بمعنى الخير ، وتكون الاشارة لاثنين كما في قوله : { عَوَانٌ بَيْنَ } [ سورة البقرة ، الآية : 68 ] ذلك والمراد لاختلاف الجميع ، ورحمة بعضهم خلقهم ، وهذا معزوّ إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وان كان الضمير لمن فالإشارة للرحمة بالتأويل السابق.
قوله : ( وعيد ) وفي نسخة وعيده فيكون بيانا لأنها مجاز عن الوعيد وإن قيل إنه يجوز أنه حقيقة بإرادة الكلمة الملقاة للملائكة عليهم الصلاة والسلام ، والكلمة بمعناها اللغويّ ، وهو الكلام. قوله : ( من عصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما ) إشارة إلى دفع ما يسأل عنه في هذه الآية ، وآية السجدة : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ سورة السجدة ، الآية : 13 ] كما قال بعض المتأخرين إنّ ظاهرها يقتضي دخول جميع الفريقين جهنم ، وخلافه متفق عليه قال وأجاب عنه بعض المفسرين بأن ذلك لا يقتضي دخول الكل بل بقدر ما تملأ به جهنم كما إذا قلت ملأت الكيس من الدراهم لا يقتضي دخول جميع الدراهم في الكيس ، ولا يخفى ما فيه فإنه نظير أن تقول ملأت الكيس من جميع الدراهم ، وهو يقتضي دخول جميع الدراهم فيه ، والسؤال عليه كما في الآية باق بحاله ، والحق في الجواب أن يقال المراد بلفظ أجمعين تعميم الأصناف ، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد كما إذا قلت ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام فإنه لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام كقولك امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس بل يكون فيه من كل صنف فرد ، وهو ظاهر ، وعلى هذا تظهر فائدة لفظ أجمعين إذ فيه ردّ على اليهود ، وغيرهم ممن زعم أنه لا يدخل النار اهـ ، وإنما أوردت هذا مع طول ذيله لتعلم ، وجازة كلام المصنف رحمه الله تعالى ، ودقته إذ جمع سؤاله ، وجوابه في كلمتين ، وقد اعتنى بهذا البحث فضلاء العجم حتى إنّ بعضهم كتب عليه ما لو أوردته لقضيت منه العجب ، وحاصل كلام المصنف رحمه الله تعالى أنّ المراد بالجنة ، والناس أمّا عصاتهما على أنّ التعريف للعهد ، والقرينة عقلية لما علم من الشرع أنّ العذاب مخصوص بهم ، وأنّ الوعيد ليس إلا لهم ، ولا حاجة إلى تقدير مضاف كما قيل فأجمعين حينئذ ظاهر فإن لم يحمل على العهد ، وأبقى على إطلاقه ففائدة التأكيد بيان أنّ ملء جهنم من الصنفين لا من أحدهما فقط ، ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه موكولاً إلى علمه تعالى ، وما ذكره المجيب وجه آخر لكن دخول كل صنف غير معلوم ، وكذا المراد بالصنف ، وهو إما مجاز في اللفظ أو بالنقص وعلى كل حال فأجمعين لا يلائمه وأمّا قول النحاة أنّ أجمعين لا يجوز أن يكون تأكيداً للمثنى فهو إذا كان مثنى حقيقة لا إذا كان كل فرد منه جمعا فانه حينئذ تأكيد للجمع في الحقيقة فلا يرد عليه ما ذكر كما قيل ، ولذا قيل إنه لتأكيد
النوعين لئلا يختص الحكم بأحدهما ، ولا يلزم دخول جميع العصاة فيها إذ ما من عام إلا وقد خص فهو مقيد بقيد مقدر ، وهو مما قدر الله أن يدخلها فتأمّل. قوله : ( وكل نبا ) إشارة إلى أنّ التنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف وقوله تخبرك به تفسير له ، وأشارة إلى أنّ كلا مفعول به ، ومن أنباء الرسل صفة للمضاف إليه المحذوف لا لكلا لأنها لا توصف في الفصيح كما في إيضاح المفصل ، ومن تبعيضية ، وقيل بيانية. قوله : ( بيان لكلا ) أي عطف بيان فالمعنى هو ما نثبت الخ. أو بدل كل أو بعض ، وقوله أو مفعول أي ما مفعول به لنقص وكلا منصوب حينئذ على المصدرية أي كل نوع من أنواع الاقتصاص أي اقتصاصا متنوّعا ، وجعله عطف بيان تبعا للزمخشري في عدم اشتراط توافقهما تعريفا وتنكيراً فلا يرد عليه الاعتراض به حتى يتكلف له ويقال مراده أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ما نثبت والجملة مفسرة فالبيان البيان المعنوي لا النحوي. قوله : ( ما هو حق ) أوله بما ذكر ليتناسب المعطوف ، والمعطوف عليه ، وقيل جعلها اسماً موصولأ لا حرف تعريف ليحصل الانتظام بينه وبين معطوفيه ، وفيه نظر ، ولا بدّ من بيان وجه يفسره بما ذكره ونكتة للاختلاف تعريفا وتنكيراً فالظاهر أن يقال إنما عرفه لأنّ المراد منه ما يختص بالنبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ارشاده وتسليته بما هو معروف معهود عنده فلذا عرف بحرف التعريف ، وأمّا الموعظة والتذكر فأمر عامّ لم ينظر فيه لخصوصية ففرق بين الوصفين للفرق بين موصوفاتهما ، وفي كلام المصنف رحمه(5/149)
ج5ص150
الله تعالى إشارة إليه ، ويشهد له تخصيصه بهذه السورة لأنّ مبناها على إرشاده كما مرّ فما قيل أن تخصيصها للتشريف لأنه جاءه في غيرها فيه نظر ، وقوله على حالكم قد مز تحقيقه في تفسير المكانة ، وقوله الدوائر أي وقوع الدوائر ، وهي ما يخاف ويكره كقوله : { نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } [ سورة المائدة ، الآية : 52 ، . قوله : ( خاصة لا يخفى عليه خافية ) هو بيان لمعنى اللام والاختصاص المستفاد منها ومن التقديم ، وكونه لا يخفى عليه خافية من عموم المصدر المضاف فإنه من طرق العموم فأفاد أنه يعلم كا! غيب ، وأنه لا يعلم ذلك سواه ، وقيا! إنه إذا علم غيبا علم ما سواه إذ لأفاوق ، وقوله مما فيهما قيل إشه إشارة إلى أن الاضافة على معنى في. قوله : ) فيرجع لا محالة الخ ( فهي كلمة جامعة دخا
فيها تسليته صلى الله عليه وسلم وتهديد الكفار بالانتقام منهم دخولاً أوليا. قوله : ( وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه ) أي التوكل إنما ينفع العابد لأنّ تقدّمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع. قوله : ( أنت وهم ) قيل هو ظاهر في بيان إنّ الاية!ت قبيل التغليب فيكون تفسيره مبنيا على قراءة تعملون بتاء الخطاب الفوقية فلا يناسبه قوله ، وقرأ نافع ، وابن عامر وحفص الخ الموجود في بعض النسخ ، ولذا قيل إنّ الأصح إسقاطه ، وليس بشيء لأنه فسره على القراءة المختارة ثم ذكر أنها قرنت بالوجهين فأفي محذور في التصريح بما علم ضمناً. قوله : ( من قرأ سورة هود الخ ) قد مرّ أنّ هود ممنوع من الصرف في اسم السورة ، وأنّ الرواية عليه وهذا الحديث رواه ابن مردويه ، والواحدي عن أبيّ رضي الله عنه ، وهو موضوع كما ذكره ابن الجوزي في موضوعاته ( إلى هنا انتهى ) ما أردنا تعليقه على سورة هود بمن من بيده الكرم والجود يسر الله تعالى اتمام ما أردناه ، ووفقنا لفهم معاني كلامه على ما يحبه ويرضاه ، وأفضل صلاة وسلام على أفضل أنبيائه وعلى آله وأصحابه وأحبائه ما مشت الأقلام على الطروس لخدمة كتابه وسمع صريرها طربا بلذيذ خطابه آمين.
سورة يوسف عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : ( مكية ) وقيل إلا ثلاث آيات من أوّلها ، ولما ختمت السورة التي قبلها بقوله :
{ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ } ذكرت هذه بعدها لأنها من أنبائهم ، وقد ذكر أوّلاً ما لقي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قومهم ، وذكر في هذه ما لقي يوسف من اخوته ليعلم ما قاسوه من أذى الأجانب والأقارب فبينهما أتمّ المناسبة ، والمقصود تسلية النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لاقاه من أذى القريب والبعيد. قوله : ( مائة وإحدى عشرة ) قال الداني بالاتفاق. قوله : ( تلك إشارة إلى آيات السورة وهي المراثة بالكتاب ( لم يتعرّض للمراد بالر اعتمادا على ما فصله في أوّل البقرة مع ما فيه من الإشارة إلى أنها حروف مسرودة على نمط التعديد لأنها لو كانت أسماء للسورة لصرّج بأنها المشار إليها وحينئذ فالاشارة إلى ما بعده لتنزيله لكونه مترقباً منزلة المتقدم أو جعل حضوره في الذهن بمنزلة الوجود الخارجي كما في قوله : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ سورة الكهف ، الآية : 78 ] والاشارة إلى ما في اللوج بعيد ، والاشارة بما يشار به للبعيد أمّا على الثاني فلأنه لما لم يكن محسوسا نزل منزلة البعيد لبعده عن حيز الاشارة أو لعظمه ، وبعد مرتبته ، وعلى غيره لذلك أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار كالمتباعد ، وقد مرّ تفصيله :
والحر تكفيه الاشارة
وقوله وهي المرادة بالكتاب أي المراد به السورة لأنه بمعنى المكتوب فيطلق عليها ، ولم
يذكر أنّ المراد بها القرآن كما في سورة الرعد اكتفاء بالظاهر ، ولايهامه أنها جميع آياته ، وليس القصد إليه مبالغة ، والقرينة لا تدفع الايهام ولا ينافيه تلك آيات القرآن في النمل لأنّ القرآن يطلق على بعضه كما صرّح به المصنف رحمه الله تعالى فالاعتراض به غفلة عنه ، ثم إن فائدة الأخبار حينئذ تقييدها بالصفة المذكورة بعدها ، وهي المبين كما أشار له بقوله الظاهر الخ فتأمّل. قوله : أ الظاهر أمرها في الاعجاز ) بشير إلى أنّ المبين من أبان ، وهو يكون لازماً بمعنى
ظهر ، ومتعدياً بمعنى أظهر فعلى أخذه من الأوّل المراد الظاهر أمرها واعجازها فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع ، واستتر وعلى الثاني المفعول لمبين مقدر ، وهو أنها من عند الله(5/150)
ج5ص151
أو ما سأله عنه أليهود ، وقيل إنه على الأوّل من الاسناد المجازي ، ولا تقدير فيه لما يلزمه من حذف الفاعل وهو وهم لأن مثله لا يعد حذفا لوجود ما قام مقامه ، وعلى الثاني الاسناد المجازي ، وتبيينها أنها من عند الله لأنها تحمل من تدبرها على ذلك أفلا يتدبرون القرآن فالوجوه أربعة ، ووجه ترتبها أنّ المقصود اعجازه فلذا قدم الأوّل من وجهي اللزوم والتعدّي وان دلّ الآخر عليه بالأخبار عن الغيب ، وقوله في الاعجاز قيل إنه أصاب حيث لم يضف الاعجاز إلى العرب كما في الكشاف ، ولا يخفى أن المتحدي هم ، والاعجاز بالنسبة إليهم فلا محذور في الاضافة. قوله : ( أي الكتاب ) السابق ذكره وقيل خبر يوسف عليه الصلاة والسلام ، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى أظهر ، وقوله سمي البعض قراناً أي أطلق على البعض ، وهو هذه السورة القرآن الذي هو عبارة عن مجموع السور بحسب الظاهر المتبادر لأنّ القرآن اسم جنس يشمل القليل ، والكثير فكما يطلق على الكل يطلق على البعض لكنه غلب على الكل عند الاطلاق معرفا لتبادره منه ، وهل وصل بالغلبة إلى حذ العلمية أو لا ذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى الأوّل فيلزمه الألف ، واللام ومع ذلك لم يهجر المعنى الأؤل ، وما وقع في كتب الأصل من أنه وضع تارة للكل خاصة ، وتارة لما يعمّ الكل والبعض أعني الكلام المنقول في المصحف تواتراً فافيه نظر لأن الغلبة ليس لها وضع ثان ، وإنما هي تخصيص لبعض أفراد الموضوع له ، ولذا لزمته اللام أو الإضافة إلا أن يدعي أن فيها وضعا تقديريا. قوله : ( ونصبه على الحال الخ ) محصله أنه إما حال بعده حال أو قرآنا بمعنى مقروء فيه ضمير مستتر ، وعربياً حال من الضمير المستتر فهي متداخلة أو قرآنا حال ، وعربياً صفته ، وحينئذ فهي إما موطئة أو غير موطئة لأنها إن أبقيت على جمودها من غير تأويل بالمشتق موطئة لأن المقصود بالحالية وصفها إذ هي لا تبين هيئة ، وان أوّلت به فغير موطئة لأن معنى التوطئة أنها تبين أن ما بعدها هو المقصود بالحالية لا أنها حال موصوفة لعدم دلالتها على الهيئة ، ولذا عرف النحاة الحال الموطئة بأنها الجامدة الموصوفة نحو : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } [ سورة مريم ، الآية : 17 ] ومعنى قوله في نفسه بقطع النظر عما بعده ، وعن تأويله بالمشتق ، وقوله بمعنى مفعول أي مقروء ومجموع وقيل قرآنا بدل من الضمير وعربيأ صفته. قوله : ) علة لائزاله بهذه الصفة الخ ( أي حكمة له بمنزلة العلة لأنّ أفعاله لا تعلل بالأغراض أو مستعملأ استعمال العلة
لأنّ لعل تستعمل بمعنى لام التعليل على طريق الاستعارة التبعية كما مرّ في البقرة ، وجعلها للرجاء من جانبهم لا يناسب المقام ، وان كان جائزاً كما قيل ، وقوله مجموعا أو مقروء بيان لمحصل المعنى ، ويتحمل أن يكون إشارة إلى ترجيح جعله قرآنا حالاً غير موطئة ، وقوله كي تفهموه ، وتحيطوا بمعانيه منالسب لتفسير المبين الثاني ، والرابع وتستعملوا فيه عقولكم ملائم للثالث ، ولكنه لا يختص! بشيء منها حتى يكون تأكيدا وقوله اقتصاصه أي الكتاب كذلك معجزة من معجزاته بئ لاخباره بالمغيبات. قوله : ) أحسن الاقتصاص الخ ( فيه وجهان أحدهما أن يكون مفعولاً به لنقص إن كان القصص مصدرا بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق أو صف مشبهة على فعل كقبض ، ونقض بمعنى مقبوض ومنقوض! أي نقص عليك أحسن الأشياء المقصوصة ، والثاني أن يكون منصوبا على المصدر لاضافته إلى المصدر أو لكونه في الأصل صفة مصدر أي قصصا أحسن القصص ، ومفعوله محذوف أي نقص ما سيذكر أحسن قصص! أو هذا القرآن ، والى الوجهين أشار المصنف رحمه اللّه تعالى لكنه ترك احتمال كونه مصدرا بمعنى مفعول قيل ، وقوله أحسن ما يقص إشارة إلى أنّ اللام حينئذ موصولة ليصح وقوعه مضافا إليه فتأقل. قوله : الاشتماله على العجائب الخ ) يعني أنه أحسن في بابه لأنه ليس أحسن من قصة النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه أحسن في سمته لاشتماله على سير الملوك والمماليك ، ومكر النساء ، والصبر على أذى الأقارب والعفو بعد الاقتدار ، وغير ذلك مما يعرفه من وقف على معاني السورة ، وأصل معنى القص اتباع الأثر ، ومنه قص الحديث لأنه يذكره ويتبع ما وقع فيه ومعانيه دائرة عليه ومثله التلاوة أصلها الاتباع وقوله بايحائنا إشارة إلى أنّ ما مصدرية ، والباء سببية. قوله : ( ويجورّ أن يجعل هذا مفعول نقصى الخ ) أي كما يجوز جعله مفعول أوحينا على أنّ مفعول نقص أحسن القصص أو محذوف بناء على المذهبين في التنازع(5/151)
ج5ص152
إذ هذا منه إذا لم يكن أحسن القصص! مفعولأ واخضار أعمال الثاني ترجيحا للقول به ، ولأنّ تعلق الوحي به أظهر من تعلق القصص باعتبار ما اشتمل عليه ، ويجوز تنزيل أحد الفعلين منزلة اللازم. قوله : ( لم تخطر بيالك الخ ) أسقط تفسير الزمسخثرفي له بقوله من الجاهلين به لأنه دمان كان مراداً وقد عبر الله بالغافلين توقير النبي صلى الله عليه وسلم بل لم يسمه غافلا بل نسب الغفلة إلى من هو بين أظهرهم فما بال مثله يترك الأدب ، والتبرّك بأخلاق الله لكن لكل جواد كبوة ، وليس لنا حاجة إلى ذكر ما اعتذر
به فإنه يكفيك من شرّ سماعه. قوله : ( وهو تعليل لكونه موحى ) أي أوحي إليك لأنه لم يخطر ببالك ، ولم يطرق سمعك الكريم تفصيله لكن الأكثر فيما يرد للتعليل ترك العطف. قوله : ( بدل من أحسن القصص الخ ) فهو بدل اشتمال لاشتمال المظرف على المظروف ، ولم يجوّز البدلية على المصدرية لأنّ المقصوص هو الواقع في ذلك الوقت لا الاقتصاص على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر فالمانع فيه عدم صحة المعنى ، وقيل المانع بحسب العربي لأنّ أحسن الاقتصاص مصدر فلو كان بدلاً ، وهو المقصود بالنسبة لكان مصدراً أيضاً ، وهو غير جائز لعدم صحة تأويله بالفعل ، وأورد على التعليل الأوّل أنه وان لم يشتمل الوقت على الاقتصاص فهو مشتمل على المقصوص فلم لم تجز البدلية لهذه الملابسة ورذ بأن مطلق الملابسة لا يصحح الابدال ، والا لصح إبدال كل شيء بل المراد بالملابسة أن يكون البدل صفة للمبدل منه كأعجبني زيد حسنه أو يحصل بحسبه صفة له كسلب زيد ثوبه ، وأعجبني عمر ، وسلطانه لحصول صفة المالكية ، والملابسة والوقت لا ملابسة فيه للاقتصاص بهذا المعنى اهـ ، والذي حزره النحاة بعد الخلاف في أنّ المشتمل الأوّل أو الثاني أو العامل أنه لا يكتفي بهذا القدر بل التحقيق ما قاله نجم الأئمة الرضي أنّ الاشتمال ليس كاشتمال الظرف على المظروف بل لكونه دالاً عليه إجمالاً ومتقاضيا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأوّل متشوّقة إلى الثاني منتظرة له فيجيء الثاني مبيناً لما أحمل فيه فإن لم يكن كذلك يكن بدل غلط فالوجه أن يقال في عدم صحته أنّ النفس إنما نتشوّق لذكر وقت الشيء لا لذكر وقت لازمه فلذا لم يصح جعله بدلاً من الاقتصاص لأنّ الملابسة بينه وبين وقته ، وهذا ليس وقتا له فلو أبدل منه فسد المعنى ، وأمّا توجيهه بأنه لو أبدل لكان مصدراً فليس بصحيح أيضاً لأنّ المصدر كما يكون ظرفاً نحو أتيتك طلوع الشمس يكون الظرف أيضا مصدراً ومفعولاً مطلقاً لسدّه مسد المصدر كما في قوله :
ألم تغتمض عيناك ليل أرمدا
فانهم صرّحوا كما في التسهيل وشروحه أنّ ليلة مفعول مطلق أي اغتماض ليلة أرمد فما
ذكره من حديث الفعل من الأوهام الفارغة نعم إذا ناب عن المصدر ففي كونه بدل اشتماله شبهة ، وهو شيء آخر غير ما ذكر. قوله : ( وبقي هنا بحث ) في كلام الرضي لعل النوبة تفضي إليه. قوله : ( بدل الاشتمال ) زاد في الكشاف لأن الوقت مشتمل على القصص ، وهو المقصوص فإذا قص وقته فقد قص فقيل إنه جوإب سؤال وهو أنه إذا كان بدلاً من المفعول به يكون الوقت مقصوصا ، ولا معنى له فأجاب بأن المراد لازمه وهو اقتصاص قول يوسف عليه الصلاة والسلام فإن اقتصاص وقت القول ملزوم لاقتصاص القول لكنه أورد عليه أن يكون بدل بعض أو كل لا اشتمال وليس كما قال وإنما يلزم ما ذكر لو كان الوقت بمعنى القول وهو إمّا
عبن المقصوص أو بعضه أمّا لو بقي على معناه وجعل مقصوصا باعتبار ما فيه فلا يرد ما ذكره فتأئل ، وقوله منصوب بناء على تصرّفه ، وذكر الوقت كناية عن ذكر ما حدث فيه وقيل إنه منصوب يقال يا بنيّ. قوله : ( ويوسف عبريّ الخ ) أي أنه علم أعجمي إذ العجمة ما عدا العربية ولو لم يكن عبرانياً انصرف لأنه ليس فيه غير العلمية ، وليس فيه وزن الفعل للقراءة المشهورة ، وهي ضم الياء والسين فإنها تأباه إذ ليس لنا فعل مضارع مضموم الأوّل ، والثالث ومثله يون! ، والتلعب كثرة التغيير فيه شبه بالكرة ونحوها مما يلعب به فتتداوله الأيدي ولذا قالوا : أعجمي فالعب به ما شئتا
وقوله من آسف بالمد أصله " سف فأبدلت المدة الثانية ألفاً يعني أنه يكون من الأفعال
لضم الياء ، وهذا على تسليم عربيته لشبهة أنه يتأسف عليه لقوله يا أسفا على يوسف ، وفي الصحاح يقفر بضم الياء علم ينصرف لأنه قد زال عنه(5/152)
ج5ص153
شبه الفعل اهـ ، وهو مذهب سيبويه ، وخالفه الأخفش فيه فمنع صرفه لعروض الضم للاتباع كذا قال النحاة : فإن قلت فما بالهم لم يجروا هذا الخلاف في يونس ، ويوسف ، وهو مثل يعفر قلت قالوا إنه لم يجر فيهما لتحقق منع صرفهما للعلمية ، والعجمة ، ولو كان عربياً لجرى فيه الخلاف فكلام المصنف رحمه اللّه على مذهب سيبويه رحمه الله تعالى ويوسف ويونس مثلثا السين ، والنون وبها قرىء شذوذاً. قوله : ) وعنه عليه الصلاة والسلام ) هو حديث صحيح رواه البخاري ، والكريم مرفوع مبتدأ أو ابن الأوّل مرفوع صفته ، والثاني والثالث مجروران صفة الكريم ، وكذا يوسف مرفوع خبره ، وابن الأوّل صفته ، والثاني والثالث مجروران صفة للاسمين المجرورين بالفتح لمنع الصحرف ، والمراد بالكرم كرم النسب لتوالي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في نسبه. قوله : ( أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث الخ ( هذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : التاء للتأنيث ، وياء الاضافة مقدرة بعدها ، ويأباه فتحها ، وعدم سماع أبتي في السعة ، وقوله لتناسبهما في الزيادة أي في كون كل منهما من حروف الزوائد وفي كون كل منهما يضم إلى الاسم في آخره وقيل إن الياء أبدلت تاء لأنها تدل على المبالغة ، والتعظيم في نحو علامة والأب والأمّ مظنة
التعظيم ، وقوله ولذلك قلبها هاء الخ دليل لكونها تاء تأنيث لا للعوضية لأنّ دليلها ما ذكرناه ، وخطىء في نسبة الوقف بالهاء إلى أبي عمر ولأنّ الواقف بها ابن كثير وابن عامر والباقون وقفوا بالتاء وقوله ، وكسرها لأنها عوض حرف يناسبها مبتدأ وخبر أي كسر التاء لأنها عوض عن الياء التي هي أخت الكسرة فحرّكت بحركة تناسب أصلها لا لتدل على الياء حتى يكون كالجمع بين عوضين أو بين العوض والمعوّض ، وجعل الزمخشري هذه الكسرة كسرة الياء زحلقت إلى التاء لما فتح ما قبلها للزوم فتح ما قبل تاء التأنيث. قوله : ( وفتحها ابن عامر في كل القرآن الخ ) أي لأنّ أصلها ، وهو الياء إذا حرّك حرك بالفتح ، وان اختلف في أصلها هل هو البناء على السكون لأنه الأصل في كل مبني أو الفتح لأنه أصل ما كان على حرف واحد وكلام المصنف رحمه الله يحتملهما ، وقوله أو لأنه يعني أصلها أي أصل هذه الكلمة يا أبتا بأن قلبت الياء ألفا ، ثم حذفت ، وأبقيت فتحتها دليلا عليها ، وكون أصلها هذا ضعيف عند النحاة لأنّ يا أبتا ليس بفصيح حتى قيل إنه يختص بالضرورة مثل يا أبتي كقوله :
يا أبتا علك أو عساكا
وقيل لأنّ الألف خفيفة لا تحذف ، وكونها ألف ندبة أو زائدة ضعيف ، وقوله جمع بين العوض! ، والمعوّضى بخلاف يا أبتا فإنه جمع بين عوضين وقوله ، وقرىء بالضم هي ضعيفة رواية ودراية لأنّ ضم المنادي المضاف شاذ ، وقوله وإنما لم تسكن أي التاء مع أنّ الياء المعوّض عنها تسكن لأنّ الياء حرف معتل تنقل حركته في الجملة ، ولذا لم يسكن من الضمائر غير الياء ، وقوله منزل منزلة الاسم لأنها عوضى عن اسم ، وليست اسما ، وجعلها الزمخشري اسما مسامحة فأشار المصنف به إلى مراد من سماها اسماً ، ومن قال به جعلها بدلاً من الياء لا عوضاً ، والاسم إذا كان على حرف واحد وأبدل لا يخرج عن الاسمية. قوله : ( من الرؤيا لا من الرؤية لقوله { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ } الخ ( يعني كلاهما مصدر لرأي لكن فرق بين كونها بصرية بجعل مصدرها رؤية ، وحلمية بجعله رؤيا والدليل على أنّ الفعل هنا فعل الحلمية تصريحه بمصدره فيما سيأتي ، وهذا بناء على المشهور من أنّ الرؤيا لا تكون إلا مصدراً لحلمية ، ولذا خطىء المتنبي في قوله :
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
وذهب السهيلي وبعض علماء اللغة إلى أنّ الرؤيا سمعت من العرب بمعنى الرؤية ليلا أو مطلقا ، وكلام المصنف رحمه الله تعالى مخالف له ، وترك ما في الكشاف ، وغيره من أنه لو كان حقيقة ، وهو أمر خارق للعادة لشاع وعد معجزة ليعقوب عليه الصلاة والسلام أو ارهاصا ليوسف عليه الصلاة والسلام لجواز أن يكون ليلا والناس غافلون في زمن يسير والصحيح أنها منام ، والبحث في مثله لا طائل تحته. قوله : ( روي عن جابر رضي الله تعالى عنه الخ ) هذا الحديث اً خرجه جماعة كابن أبي حاتم ، والحاكم ، وجماعة من المفسرين واختلف في صحته فقال أبو زرعة ، وابن الجوزي أنه منكر موضوع ، وقال الحاكم : إنه صحيح على شرط مسلم ، وذكروا أنّ اسم اليهودي سنان ، وتعيين هذه الكواكب وضبط أسمائها لم يتعرّضوا له هنا ، ولم أره(5/153)
ج5ص154
في كلام من يوثق به ، وجريان بفتح الجيم ، وكسر الراء المهملة ، وتشديد الياء منقول من اسم طوق القميص والطارق معلوم ما يطلع ليلاً ، والذيال من ذوات الأذناب وقابس بقاف وموحد وسين مقتبس النار وعمودان تثنية عمود ، والفليق نجم منفرد ، والمصبح وما يطلع قبيل الفجر ، والفرغ بفاء وراء مهملة ساكنة وغين معجمة نجم عند الدلو ووثاب بتشديد المثلثة سريع الحركة ، وذو الكتفين تثنية كتف نجم كبير ، وهذه نجوم غير مرصودة خصت بالرؤيا لغيتهم عنه ، وكان بين رؤياه ومسير إخوته إليه أربعون سنة ، وقيل ثلاثون سنة ، وفي الكشاف أخر الشمس والقمر ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص بيانا لفضلهما واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليها لذلك ، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع أي رأيت الكواكب مع الشمس والقمر ، وتركه المصنف رحمه الله لأنه قيل عليه إنّ أحد عشر كوكبا يتناول الشمس ، والقمر فليس من القبيل المذكور وانّ النحاة اتفقوا على أنّ عمرا في نحو ضربت زيدا وعمرا لا يصح أن يكون مفعولاً معه لظهور العطف الذي هو الأصل من غير مانع منه ، وأجيب بانّ التناول غير لازم لأنّ إفادته
المبالغة من العطف الدال على المغايرة ، والتنبيه على أنهما من جنس أشرف ، وقد كان يمكنه أن يقول ثلاثة عشر كوكبا فلما عطف دل على فرط اختصاص واهتمام بشأنهما لزيادة الفائدة لاخراجهما عن ذلك الجنس ، وجعلهما متغايرين بالعطف ، والعدول عن مقتضى الظاهر كما في المستشهد به ، وإن كان الوجه مختلفا ، وفي بعض الحواشي ، وتخصيصهما بالذكر ، وعدم الادراج في عموم الكواكب لاختصاصهما بالثرف ، وتأخيرهما لأنّ سجودهما أبلغ وأعلى كعباً فهو من باب لا يعرفه فلان ولا أهل بلده ، وقيل إنه رشح معنى الاختصاص بالمبالغة في التغاير كأنهما جنسان لا فاضل بينهما ولا مفضول ، وهو وجه حسن أيضاً وإنما لم يرد على أسلوب غيره لأنّ ذكر العدد لأمر مقصود يفوت بتركه لأنه به تطابق الرؤيا ، والتعبير ، وأمّا أمر المعية فغير مسلم ، ولو سلم فواو العطف تدل على المعية ، وهو أصل معناها ولذا صرّح به في قوله : { أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ } [ سورة المائدة ، الآية : 36 ] وفيه تأمّل.
قوله : ) استئناف لبيان حالهم الخ ( جعله بعضهم تأكيداً للأولى تطرية لطول العهد كما في قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ } [ سورة المؤمنون ، الآية : 35 ] وبه يسلم من أن رأي الحلمية كالعلمية تتعدى لمفعولين ، ولا يحذف ثانيهما اقتصارا ، وعلى الوجه الأوّل يلزم حذفه من رأيت الأولى ، واختار المصنف رحمه الله تبعا للزمخشريّ أنه جواب سؤال مقدر فيكون تأسيسا وهو أولى من التأكيد ، وأفا الاعتراض! عليه بما مرّ فلعله لا يراه متعديا لمفعولين ، وساجدين عنده حال أو يقول بجواز ما منعوه فيها. قوله : ( وإنما أجريت مجرى العقلاء ) يعني في ضميرهم ، وجمع صفتهم جمع مذكر سالم ، وصفات العقلاء هي السجود ، وهو إتا استعارة مكنية بتشبيههم بقوم عقلاء مصلين والضمير ، والسجود قرينة أو أحدهما قرينة تخييلية ، والآخر ترشيح أو استعارة تصريحية ، والتصغير هنا يدل على الشفقة ولذا سماه النحاة تصغير التحبيب كما قال بعض المتأخرين :
قد صغر الجوهر في ثغره
لكنه تصغير تحبيب. قوله : ( فيحتالوا لإهلاكك حيلة الخ ( إشارة إلى أنّ كاد متعدّ بنفسه
كما في قوله فكيدوني ، وجعل اللام زائدة كجعله مما يتعدى بنفسه ، وبالحرف خلاف الظاهر فلذا حمله على تضمين ما يتعدى بها ، وهو الاحتيال فيقيد معنى الفعلين معاً فيكون هذا توطئة لما سيأتي ، ويحتمل أن يريد أن الكيد والحيلة متقاربان فحمل على مناسبه في التعدية ، وهو
وجه آخر لكن الظاهر الأوّل ، ويكيدوا منصوب في جواب النهي ، وكيداً مصدر مؤكد ، وقيل إنه مفعول به ، ومعناه يصنعون لك كيداً ، وهو ما يكاد به فلك حال أو اللام للتعليل ، وفهم يعقوب عليه الصلاة والسلام ذلك لعلمه بالتعبير ، ولدلالة خضوع الإجرام العلوية له على ذلك ، وقوله أن الله يصطفيه لرسالته أي لنبوّته لأنه لم ينقل له شريعة مستقلة فكونه فوق إخوته إفا بالملك أو لتفاوت مراتب النبوّة ، وخوفه حسدهم إما لعلمهم بالتأويل أو لاحتمال تعب بينهم لذلك. قوله : ( والرؤيا كالرؤية ( ليس المراد التشبيه في تمام المعنى ، وجميع الوجوه بل في كونها مصدر رأي(5/154)
ج5ص155
إلا أن الرؤية مصدر رأي البصرية الدالة على إدراك مخصوص ، والرؤيا مصدر رأي الحلمية الدالة على ما يقع في النوم سواء كان مرئيا أو لا وهو قول تقدم ما يخالفه فلا يرد عليه شيء كما توهم ففرق بين مصدر المعنيين بالتأنيثين كالقربة للتقزب المعنوي بعبادة ونحوها ، والقربى للنسبي. توله : ( وهي ( أي الرؤيا انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة الخ. قيل عليه لا يلزم في الرؤيا الانحدار من المتخيلة لأن الإنسان إذا أدرك شيئأ وبقيت صورة ذلك المدرك في الخيال فبعد النوم ترتسم في الحس المشترك تلك الصورة التي بقيت مخزونة في الخيال ، وهي من أقسام الرؤيا مع أنه لا يصدق التعريف المذكور عليها ولا مجال لأن يقال التعريف للصادقة منها لمكان قوله ، والصادقة منها الخ. ثم إن ما ذكره مبنيئ على أصول الفلسفة ، وقول المتكلمين في الرؤيا غير ذلك ( قلت ( هذا غير وارد كما بينه النفيسي في شرح الأسباب والعلامات حيث قال إذا ضعف الخيال بالنوم لم يحفظ الصور في اليقظة على المجرى الطبيعي حتى تتصزف فيها القوّة المتخيلة ، وتلقيها على الحس المشترك فتنعكس إليه منه ثانيا فيتذكر عند اليقظة وتفصيل الحواس ، وبيان معانيها مفصل في محله فإن قلت المنقول عن المتكلمين إن النوم مضاذ للإدراك وأن الرؤيا خيالات باطلة ، وكيف يصح هذا القول مع شهادة الكتاب ، والسنة بصحة الرؤيا قلت دفع هذا بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكاً بالبصر رؤية وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمع باطل فلا ينافي حقيته بمعنى كونه أمارة لبعض الأشياء لذلك الشيء بنفسه أو ما يضاهيه ، ويحاكيه فتأمل والانطباع مجاز مشهور في الارتسام في القوى الباطنة ، وأفق المتخيلة استعارة لتلك القوّة ، والملكوت عالم الملكوت ، والتناسب هو التجزد ، وعند فراغها متعلق باتصال ، وقوله أدنى فراغ لعدم قطع العلاقة كما في الموت ، وقوله فتتصوّر أي يحصل لها صورة ، وإدراك وتحاكيه بمعنى تحكيه أو تشابهه بصورة أخرى
وقوله ، ثم إن كانت أي تلك الصورة ، وقوله بالكلية أي في المبادي ، والجزئية في الحس المشترك ، واستغناؤه عن التعبير في الأغلب ألا ترى إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لما رأى ذبح ابنه عبر له بالقربان مع شدة مناسبته ، ولذا أراد ذبحه بناء على أغلب حاله فتأمّل. قوله : ( وإنما عدى كاد باللام ) قد مرّ تقريره ، وقوله تأكيدا يعني أن التضمين لتأكيد المعنى بإفادة معنى الفعلين جميعا ، وقوله ولذلك أي لكون القصد التأكيد والمقام مقامه ، وقوله وعلله الخ لأن بيان علة الشيء تفيد نوع تقرير له. قوله : ( ظاهر العداوة ) بيان لأن مبين من أبان اللازم ، وقوله فلا يألو جهداً الخ. بيان لكونه تعليلا لما قبله وقوله ، وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الخ هذا جرى على ما سلف من تغاير المشبه والمشبه به ، والزمخشري يجعل المشبه ، والمشبه به مصدر الفعل المذكور ، وكذلك في محل نصب صفة لمصدر مقدر ، وقيل إنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ، وقوله أو لأمور عظام فيكون المعنى أعمّ مما قبله ، ويشمل إغناء أهله ودفع القحط ببركته ، ويجتبى بمعنى يختار من الجباية لأنه إنما يجتبى ما يطلب ، ويختار. قوله : ( كلام مبتدأ الخ ( أي مستأنف ، وقوله وهو يعلمك على عادتهم في تقدير المبتدأ فيما يستأنف ، ولذا قيل إنه يحتمل الحالية بتقدير المبتدأ أيضاً لأنّ الجملة المضارعية لا تقترن بالواو. قوله : ( خارج عن التشبيه ) قيل لأنّ الظاهر أن يشبه الاجتباء بالاجتباء ، والتعليم غير الاجتباء فلا يشبه به ، وفيه نظر لأنّ التعليم نوع من الاجتباء ، والنوع يشبه بالنوع ، وقيل إنه يصير المعنى ، ويعلمك تعليما مثل الاجتباء بمثل هذه الرؤية ولا يخفى سماجته فإن الاجتباء وجه الشبه ، ولم يلاحظ في التعليم ذلك ) قلت ( ولا مانع من جعله داخلا فيه على أنّ المعنيّ بذلك الإكرام بتلك الرؤيا أي كما أكرمك بهذه المبشرات يكرمك بالاجتباء ، والتعليم ولا تكلف فيه بجعله تشبيهيا ، وتقدير كذلك والرأي بضم الراء وفتح الهمزة وألف مقصور جمع رؤيا ووقوع في نسخة الرؤيا لأنها مصدر يصدق على الكثير. قوله : ( لآنها أحاديث الملك إن كانت صادقة الخ ( هذا مذهب المحدثين فيها ، وما مرّ مذهب الحكماء ، وهذا تعليل لإطلاق الأحاديث على المنامات وأحاديث النفس ، والشيطان مجاز عن الوسوسة ، والخيالات ، ولذا سموها دعابة الشيطان ، وعلى التفسير(5/155)
ج5ص156
الآخر فالأحاديث على ظاهرها. قوله : ) وهو اسم جمع للحديث الخ ) ولا ينافي
هذا قوله في سورة المؤمنين في تفسير قوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } [ سورة المؤمنون ، الآية : 44 ] إنه اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة إذا تأمّلت الفرق بينهما ، وهذا مبنيّ على قول الفراء أن الأحدوثة تكون للمضحكات ، والخرافات بخلاف الحديث فلا يناسب هنا ، ولا في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون جمع أحدوثة ، ولذا قال ابن هثام رحمه الله الأحدوثة من الحديث ما يتحدث به ولا يستعمل إلا في الشرّ ، وقال المبرد إنها ترد في الخير وأنشد قول جميل :
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو يعيدها
ولما نقل كلام الفراء السهيليّ تعجب منه ، وقال كيف لم يذكر هذا الشعر وهو مما سار
وغار فإن قلت كيف يكون اسم جمع على تسليم كلام الفراء وقد شرط النحاة في اسم الجمع أن لا يكون على وزن يختص بالجموع كمفاعيل وأفعال وهذا مما اتفق عليه قلت سيأتي عن صاحب الكشف أنّ الزمخشريّ كفيره يطلق اسم الجمع على الجمع المخالف للقياس كليال ، وأهال فلا يخالف كلام الكشاف هنا قوله في المفصل قد يجيء الجمع مبنيا على غير واحده كأباطيل ، وأحاديث كما قيل ، وقيل إنهم جمعوا حديثا على أحدوثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع ، وأقطعة وأقاطيع. قوله : ( بالنبوّة الخ ) هذا ناظر إلى الوجه الثاني في جمع اجتبائه لعظائم الأمور لئلا يتكرر وعلى تفسير تمام النعمة بإيصال نعم الآخرة ظاهر والتأويل من الأول ، وهو الرجوع إلى الأصل ، والردّ إلى الغاية المرادة منه قولاً أو فعلا إما بتفسيره أو بوقوعه فمن الأوّل قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ } ومن الثاني يوم يأتي تأويله ، وقوله : وللنوى قبل يوم البين تأويل
كذا حققه الراغب. قوله : ( ولعله استدلّ على نبوّتهم بضوء الكواكب ) يعني بمقتضى تعبير الرؤيا ، وما عنده من علمها ، وهذا بناء على تفسيره الإتمام بالنبوّة ، وليس هذا استدلالاً عقليا حتى يقال تمثيلهم بالكواكب إنما يدل على كونهم هادين للناس ، وقوله أو نسله بالنصب عطف على سائر أي ذزيته ، وهو شامل لأولاد أولاده ، وقوله بالرسالة إشارة إلى أنّ الأبوين بمعنى الأب ، والجد أو الجد وحده ، وكون الذبيح إسحق عليه الصلاة والسلام على رواية ، والمشهور أنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام. قوله : ( عليم بمن يستحق ( قيل إنّ هذا مبنيّ على مذهب
الحكماء من أنّ النبوّة ، والرسالة من الأمور المكتسبة بالتصفية والتكميل ، وليس مذهب أهل السنة ، ولا وجه لما قاله فإنه ظاهر في خلافه ، وسيأتي ما في قوله الأجسام متماثلة في سورة الإسراء ، وقد مرّ الكلام عليه في سورة الأنعام في تفسير قوله : { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ سورة الأنعام ، الآية : 124 ] . قوله : ( دلائل قدرة اللّه تعالى وحكمته الخ ) أي المراد ما وقع في تلك القصة أو أن في ذلك علامات على نبوّة النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله لمن سأل عن قصتهم الخ أي وعرفها متعلق بالوجهين ويجوز أن يجعلا وجها واحدا كما قال أبو حيان رحمه الله تعالى : الذي يظهر أنّ الآيات هي الدلالات على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما أظهره الله تعالى في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام من عواقب البغي ، وصدق رؤياه ، وتأويله وضبط نفسه ، وقهرها ، وقيامه بالأمانة ، وحدوث السرور بعد اليأس وبه يظهر معنى الجمع ، وعلى الوجه الثاني الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى يكون وجهه إخباره بما طابق الكتب من غير سماع ، ولا قراءة كتب مع ما فيما قصه من الإعجاز لفظاً ، ومعنى ، وقيل جمع لاشتماله السور على قصص أخر. قوله : ( والمراد بإخوته علانه العشرة الخ ) قيل عليه فيه أن العلات هم الأخوة لأب كما أنّ الأعيان الأخوة لأب وأمّ ، والأخياف لام والعلات على ما عده أحد عشر ، وقد وقع في بعض النسخ الإحدى عشرة لكن المشهور أنهم عشرة ، وليس فيهم من اسمه دينة ، وقيل كانت دينة أخت يوسف عليه الصلاة والسلام ، وقوله هم عبارة عن مطلق علاته لا مقيدة بكونهم عشرة ، والعلات يتناول الإناث أيضا ، ولا محصل له فدفعه أنّ الأخوة جمع أخ فهو مخصوص بالذكور فلا يضر ذكر أخته(5/156)
ج5ص157
وكونهم بها أحد عشر ، وعلى النسخة الأخرى هو من التغليب فلا غبار في كلامه ، وقوله من بنت خالته أي خالة يعقوب عليه الصلاة والسلام ، وقوله : تزوّج أختها أي أخت ليا أو بنيامين ، المشهور فيه كسر الباء ، وصححه بعضهم بضمها ، وقوله رّلفة وبلهة اسم السريتين ، وقوله : وتخصيصه بالإضافة الخ. يعني أنّ الجميع إخوته ، لكن الإخوّة من الجانبين الأب والأم أقوى ، فلذا خص به ولم يذكره باسمه إشعارا بأنّ محبة يعقوب عليه الصلاة والسلام له لأجل شقيقه يوسف ، ولهذا لم يتعرضوا له بشيء مما وقع بيوسف. قوله : ( وحده الخ ) أي أتى به مفرداً ، وهو فعل ماض مشدد الحاء إشارة إلى القاعدة المشهورة في النحو ،
وكونه جائزاً في المضاف إذا أريد تفضيله على المضاف إليه ، فإذا أريد تفضيله مطلقاً فالفرق لازم ، وأحب أفعل تفضيل من المبنيّ للمفعول شذوذاً ، وأفعل من الحب والبغض يعذى إلى الفاعل معنى بإلى وإلى المفعول باللام ، وفي تقول زيد أحبّ إليّ من بكر إذا كنت تكثر محبته ، ولي وفيّ إذا كان يحبك أكثر من غيره. قوله : ( والحال أنا جماعة أقوياء أحق بالمحبة ) إشارة إلى أنّ الجملة حالية ، وقوله أقوياء إشارة إلى أنّ العصبة ليس المراد بها مجرد العدد ، بل الدلالة على القوّة ليكون أدخل في الإنكار لأنهم قادرون على خدمته ، والجذ في منفعته فكيف يؤثر عليهم من لا يقدر على ذلك ، وفي عدد العصبة خلاف لأهل اللغة ، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى أحد الأقوال فيها وقوله : لأنّ الأمور تعصب بهم أي تشذ فتقوى ، وقوله : لتفضيله المفضول يشير إلى أنّ مرادهم بالضلال خطأ الرأي وعدم الاهتداء إلى طريق الصواب ، لا ما يتبادر منه فيكون سوء أدب ، ونسبة النبيّ المعصوم إلى ما لا يليق به ، والجملة الاسمية المؤكدة ، وجعل الضلال ظرفا له لتمكنه فيه ، ووصفه بالمبين إشارة إلى أنه غير مناسب له ذلك ، والمخايل بالياء لا بالهمزة جمع مخيلة وهي الإمارة ، والعلامة من خال بمعنى ظن أي زيادة محبته له ، لأنّ فيه مظنة لعلوه مقامه لا لما توهمه إخوته من أنه مجرّد ميل بلا سبب ، كما هو المعتاد في زيادة الميل لأصغر البنين ، وضمير ضاعف ليعقوب عليه الصلاة والسلام ، وله ليوسف صلى الله عليه وسلم ، والتعرّض له ما فعلوه به. قوله : ( من جملة المحكي بعد قوله إذا قالوا الخ ) إشارة إلى ارتباطه بما قبله ، وليس التقدير ، وقال رجل غيرهم شاوروه في ذلك ، كما قيل وقوله كأنهم اتفقوا توجيه لإسناده إلى الكل ، وقوله إلا من قال إشارة إلى أنّ الإسناد بالنظر إلى ا!ر وأنه في حكم المستثنى ، وقوله : وقيل إنما قاله شمعون أحد الأخوة ، وقيل : دان وهو أحدهم أيضا كما مز ، وقوله ورضي به الآخرون توجيه لنسبة القول الصادر من واحد إليهم ، لأنهم لما رضوه فكأنهم قائلون كما مرّ. قوله : ( منكورة بعيدة من العمران الخ ( منكورة بمعنى مجهولة لا يهتدي إليها ، ولذا نكرت ولم توصف فترك الوصف ، والتنوين في قوّة الوصف بما ذكر ، واختلف في نصبه فقيل على نزع الخافض كقوله كما عسل الطريق الثعلب ، وقيل على الظرفية ، واختاره
المصنف تبعاً للزمخشري ورده ابن عطية وغيره بأنّ ما ينتصب على الظرفية المكانية لا يكون إلا مبهما ، ودفع بأنه مبهم إذ المبهم ما لا حدود له والأرض! المبهمة كذلك ، وفيه نظر يعرفه من وقف على معنى المبهم عند النحاة ، وقيل إنه مفعول به لأنّ المراد أنزلوه فهو كقوله : { أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا } [ سورة المؤمنون ، الآية : 29 ] والمراد إن تأثمتم من قتله فغرّبوه فان التغريب كالقتل في حصول المقصود مع السلامة من إثم القتلى ، وقوله وهو معنى تنكيرها أي لا أيّ أرض! كانت. قوله : ) والمعنى يصف لكم وجه أبيكم الخ ) يصف بمعنى يخلص ، والوجه الجارحة المعروفة ، ويعبر به عن الذات أيضاً فلذا ذكر فيه وجهان في الكشف أحدهما أنه كناية عن خلوص محبته لهم لأنه يدل على إقباله عليهم إذ الإقبال يكون بالوجه ، والإقبال على الشيء لازم لخلوص المحبة له ففيه انتقال من اللازم إلى الملزوم بمرتبتين فالوجه بمعناه المعروف ، والكناية تلويحية ، والى هذا أشار بقوله يصف الخ ، وإذا كان الوجه بمعنى الذات كان الانتقال بمرتبة فهو كناية إيمائية ، وإليه أشار بقوله بكليته ، والثاني أنه كناية عن التوجه ، والتقيد بنظم أحوالهم ، وتدبير أمورهم ، وذلك لأنّ خلوه لهم يدل على فراغه عن شغل يوسف عليه الصلاة والسلام فيشتغل بهم ، وينظم أمورهم ، والوجه على هذا بمعنى الذات ، واليه أشار بقوله(5/157)
ج5ص158
ولا ينازعه في محبته أحد أي لا يشغله شاغل عنكم ، وقيل إنه اختار أنّ الوجه بمعنى الجارحة مطلقا وفيه نظر. قوله : ) أو نصب بإضمار ان ) يعني يجوز فيه الجزم عطفا على جواب الأمر ، والنصب بعد الواو الصارفة بإضمار أن أي يجتمع لكم خلو وجهه والصلاج ، وقوله من بعد يوسف عليه الصلاة والسلام والفراغ من أمره ، وفي نسخة أو الفراغ فعلى الأولى الضمير ليوسف عليه الصلاة والسلام ، ومعنى كونه بعده بعد الفراغ من الاشتغال فالعطف فيه بالواو لتفسيره إذ لا معنى للبعدية عن ذاته وعطف الوجهين بأو عليه إشارة إلى رجوع الضمير إلى أحد المصدرين المفهومين من الفعلين ، ورجحت هذه النسخة فالوجوه ثلاثة ، وعلى الأخرى الوجوه أربعة فالضمير ليوسف عليه الصلاة والسلام ، ومعنى كونه بعده بعد مفارقته ولظهوره لم يفسره أو للفراغ المفهوم من قوله يخل لكم على ما مرّ من تفسيره. قوله : ( تائبين إلى اللّه ثعالى عما جنيتا أو صالحين مع أبيكم الخ ) قيل الصلاج إما ديني أو دنيوقي ، والدينيّ إفا بينهم ، وبين اللّه بالتوبة أو بينهم ، وبين أبيهم بالعذر ، وهو وان كان مخالفا للدين لكونه كذبا فموافق له من جهة أنهم يرجون عفوه وصفحه ليخلصوا من العقوق ، والدنيوفي بصلاح أمورهم ، وهو ظاهر فلا يرد عليه أنه كيف يكون الكذب دينيا ، وقوله ، وكان أحسنهم فيه رأيا إذ لم ير القتل له ، ولا طرحه في أرض خالية قفراء بل في بئر يحتاج إليها السابلة ، وتشرب من مائها فإنه أقرب لخلاصه ،
وقوله وكان أي يهوذاً أو المشير بذلك ، وقوله : { وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ } يتضمن النهي عن إلقائه في الأرض الخالية بعد النهي عن قتله صريحا ، وفيه من حسن الرأي ما لا يخفى ووقوع هذا منهم قبل النبوّة إن قيل به ، وليس بصغيرة كما قيل ، وفي قوله قائل دون التعيين بأسمائهم إذ لم يسم مخهم غير يوسف عليه الصلاة والسلام ، وإنما ذكروا بعنوان إخوته ، والإضافة إليه تشريف له في مقابلة ما ناله من الأذى ، وستر على المسيء بعدم ذكره باسمه لما فيه من التفضيح ، وأمّا القول بأنه كان على هذا ينبغي للمصنف رحمه الله تعالى أن لا يعينه فليس بشيء لأنه مقام تفسير ، والقول بأنه يهوذا هو الصحيح كما يشعر به كلام المصنف رحمه الله تعالى. قوله : ) في قعره سمي به لغيبوبتة الخ ( الجب البئر التي لا حجارة فيها من الجب ، وهو القطع ، وغيابتها حفرتها ، وقرارها كما قال :
إذا أنا يوما غيبتني غيابتي
يعني القبر وسميت الحفرة غيابة لغيبتها عن النظر ، وقرئ بالإفراد ، وهو ظاهر وبالجمع
لأن كل جانب منها غيابة فهو يدل على سعتها ، وقوله وقرئ غيبة أي بسكون الياء على أنه مصدر أريد به الغائب منه ، وقرئ أيضا غيبة بفتحات على أنه مصدر كغلبة أو جمع غائب كصانع ، وصنعة فتكون كقراءة الجمع ، وكلام المصنف رحمه الله تعالى يحتملهما ، وأما قراءة الجمع بتشديد الياء التحتية فعلى أنه صيغة مبالغة ، ووزنه فعالات كحمامات أو فيعالات كشيطانة ، وشيطانات ، وقوله وألقوه في غيابة الجبّ يعني لا تقتلوه ، ولا تطرحوه في أرض قفرة بعيدة لما فيه من المشقة عليكم ، والتسبب إلى الهلاك الذي فررتم منه ، وتقدم أنه من حسن رأيه فيه. قوله : ( بمشورتي أو إن كنتم على أن تفعلوا ) أي إن كان فعلكم بمشورتي ، ورأص! فألقوه الخ. أو إن كنتم عازمين مصرّين على أن تفعلوا به ما يفرق بينه ، وبين أبيه ، والفرق بين الوجهين أن كان باق على مضيه في الثاني دون الأوّل بناء على أنّ أن لا تقلب مضيها والأوّل محتاج إلى تقدير فلذا قيل بترجيح الثاني عليه. قوله : ( لم تخافنا عليه ا لم يفسره به لأنّ الأمن لا يتعذى بعلى لأنّ الاستعمال على خلافه يقال ائتمنه على ماله ونفسه ، وسيأتي كما أمنتكم على أخيه بل لأنهم فهموا منه الخوف ، وعدم الأمن لا يستلزم الخوف ألا ترى أنّ من لم يأتمن أحداً على وديعة لم يأتمنه ، ولم يخفه ، ويلتقطه بمعنى يأخذه ، ومنه
اللقطة ، والسيارة الجماعة السائرة. قوله : ( ونحن نشفق عليه الخ ) كأنه جعل النصح بمعنى الشفقة ، واختيار الأحسن بحاله كناية لأنه المناسب للمقام ، واستنزاله عن رأيه أي تبديل رأي يعقوب عليه الصلاة والسلام في خوفه عليه منهم ، وفيه استعارة ، ولما تنسم متعلق بحفظه ، وأصل التنسم تلقي النسيم للتروّج ، وشمه فهو استعارة للإحساس أي لإحساسه بحسدهم ، وما مصدرية. قوله : ( والمشهور تأمناً بالإدغام الخ ) قراءة العاقة لا تأمنا بالإخفاء ، وهو اختلاس الحركة الضعيفة ، وقرأها بعضهم بالإشمام أي ضمّ الشفتين مع انفراج(5/158)
ج5ص159
بينهما إشارة إلى الحركة مع الإدغام الصريح كما يكون في الوقف ، وهو المعروف عندهم ، وفيه عسر هنا قالوا ، وهذه الإشارة بعد الإدغام أو قبله ، وفي الثاني تأقل ، وبطلق الإشمام على إشراب الكسرة شيئا من الضمة في نحو قيل ، وعلى إشمام أحد حرفين شيئا من حرف آخر كما مرّ في الصراط ، وقرأ الحسن رحمه الله تعالى بالإظهار لكونه من كلمتين محافظة على حركة الإعراب ، وقرئ بنقل ضمة النون إلى الميم ، وقرئ بكسر حرف المضارعة مع الهمزة ، وتسهيلها. قوله : ( نتسع في أكل الفواكه ) أصل معنى الرتع أن تأكل ، وتشرب ما تشاء في خصب وسعة ، ولذا أطلقت الرتعة بسكون التاء ، وفتحها على الخصب بكسر أوّله ضد الجدب. قوله : ( بالاستباق والانتضال ) أي رمي السهام يعني أنّ لعبهم ليس لعب لهو ، والا لم يقرّهم عليه يعقوب عليه الصلاة والسلام ، ولم يصدر منهم بل هو مباج يحسن لتمرّنهم به على الحرب ، وهو المسابقة ، ورمي السهام ، وهو مطلوب لما فيه من إحمام النفس ، وإنعاش قوّة العمل. قوله : ( وقرأ ابن كثير نرتع بكسر العين الخ ) فيها أربع عشرة قراءة من السبعة ، وغيرها فقرأ نافع بالياء التحتية ، وكسر العين ، وقرأ البزفي نرتع ، ونلعب بالنون وسكون العين ، وقرأ قنبل بثبوت الياء بعد العين وصلا ، ووقفا وفي رواية عنه إثباتها في الوقف دون الوصل وهو المروقي عن البزقي ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بالنون فيهما ، وسكون العين ، والباء والكوفيون بالياء التحتية فيهما ، وسكون آخرهما ، وقرأ جعفر بن محمد بالنون في نرتع ، والياء في يلعب أي يوسف عليه الصلاة والسلام لمناسبة اللعب له لصغر سنه ، ويروى عن ابن كثير رحمه الله تعالى ، وقرأ ابن سيابة بالياء فيهما وكسر العين ، وضم الباء على أنه مستأنف ، وقرأ مجاهد وقتادة بضم النون ، وسكون العين والباء ، وقرأها أبو رجاء كذلك إلا أنه بالياء التحتية
فيهما والنخعيّ ، ويعقوب برفع النون ، ويلعب بالياء ، والفعلان في هذه كلها مبنيان للفاعل ، وقرأ زيد بن عليّ بالياء فيهما ، والبناء للمفعول ، وقرأ نرتعي ، ونلعب بثبوت الياء ، ورفع الباء ، وقرأ ابن أبي عبلة يرعى ، ويلعب فهذه أربع عشرة قراءة ست منها في السبعة ، وما عداها شاذة وتوجيهها ظاهر ، ونرتعي من الرعي أي ترعى مواشينا فأسند إليهم مجازاً أي تجوّز عن أكلهم بالرعي ، وكسر العين لأنه مجزوم بحذف آخره ، وقوله أن يناله مكروه على تقدير الجار من أو عن. قوله : ( { إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } ) أن قلنا اللام لا تخلص المضارع للحال فظاهر ، وان قلنا إنها تخلصه كما هو مذهب الجمهور قيل عليه إنّ الذهاب هنا مستقبل فيلزم تقدم الفعل على فاعله ، وهو غير جائز لأنه أثره فلذا قيل إنّ التقدير قصد أن تذهبوا أو توقع أن تذهبوا بتقدير المضاف ، وهو الفاعل وهو حال ، وقيل يجوز أن يكون الذهاب يحزنه باعتبار تصوّره كما قيل نظيره في العلة الغائية ، وقد قيل إن اللام فيه جرّدت للتأكيد مسلوبة الدلالة عن التخليص للحال ( قلت ) كذا قالوا : وأنا أظن ذلك مغلطة لا أصل لها فإنّ لزوم كون الفاعل موجوداً عند وجود الفعل إنما هو في الفاعل الحقيقيّ لا النحوقي ، واللغويّ فإن الفعل يكون قبله سواء كان حالاً كما فيما نحن فيه أو ماضيا كما أنه يصح أن يكون الفاعل في مثله أمراً معدوماً كما في قوله :
ومن سرّه أن لايرى مايسوءه فلايتخذ شيئايخاف له فقدا
ولم يقل أحد في مثله أنه محتاج للتأويل فإن الحزن والغمّ كالسرور ، والفرح يكون بالشيء قبل وقوعه وقد صرّج به ابن هلال في فروته ، ولا حاجة إلى تأويل أو تقديرأ ، وتنزيل للوجود الذهنيّ منزلة الخارجي على القول به أو الاكتفاء به فإنّ مثله لا يعرفه أهل العربية ، واللسان فإن أبيت إلا اللجاج فيه فليكن من التجوّز في النسبة إلى ما يستقبل لكونه سببا للحزن الآن ، والذي في شرح الكتاب للسيرافي أنّ اللام الداخلة على المضارع فيها أقوال ثلاثة أحدها أنها في خبر أنّ مقصورة على الحال ، وهو ظاهر كلام سيبويه رحمه الله الثاني أنها تكون للحال ، وغيره واستدلوا بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ سورة النحل ، الآية : 124 ] الثالث أنها للحال إن خلت عن قرينة ، ومعها تكون لغيره كالآية المذكورة ا! ، واعلم أنّ من ذهب إلى الأوّل قدره بقصد أن تذهبوا ، ونحوه ، ولا يلزمه حذف الفاعل لأنه إنما يمتنع إذا لم يسد مسده شيء سواء كان مضافا أو غيره فتقدير قصدكم صحيح أيضا خلافا لمن خطأه فيه لظنه أنه لا يقوم إلا المضاف إليه مع أنه يجوز(5/159)
ج5ص160
أنه بيان للمعنى لا تقدير إعراب فاعرفه. قوله تعالى : ( { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ } ) وقع هذا من يعقوب عليه الصلاة والسلام تلقينا للجواب
من غير قصد ، وهو على أسلوب قوله تعالى : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } [ سورة الانفطار ، الآية : 6 ] والبلاء موكل بالمنطق ، وروى الدارمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا تلقنوا الناس فيكذبوا فإنّ بني يعقوب عليهم الصلاة والسلام لم يعلموا أنّ الذئب يأكل الناس فلما لقنهم إني أخاف أن يأكله الذئب قالوا أكله الذئب كذا في الجامع الكبير ، ومذأبة بفتح الميم أي كثيرة الذئاب ، ومفعلة يصاغ لهذا المعنى كثيراً كمقثأة وقوله ، وقيل رأى في المنام الخ. يحذره من الحذر أو التحذير ، وإنما حذره لأنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لمناسبتهم التامّة بعالم الملكوت تكون وقائعهم بعينها واقعة ، والا فالذئب في النوم يؤوّل بالعدوّ ، وشد بمعنى وثب ، وحمل والذئب عينه همزة فمن قرأ بها أتى به على أصله ، ومن أبدلها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها أتى به على القياس ، ومن خصه بالوقف فلأن التقاء الساكنين في الوقف جائز لكن إذا كان الأوّل حرف مذ يكون أحسن ، وقوله من تذاءبت بالمذ من باب التفاعل كما في الأساس ، والذي نقله أهل اللغة عن الأصمعيّ عكس ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى تبعا للزمخشري لأنهم جعلوا تذاءبت الريح مأخوذ من الذئب لأنها أتت كما يأتي ، وهو أنسب ، ولذا عده من المجاز في الأساب لكنه عدل عنه لأن أخذ الفعلى من الأسماء الجامدة كإبل قليل مخالف للقياس ، وقوله لاشتغالكم هذا ما عند الأخوة والثاني ما في نفس يعقوب منهم. قوله : ( اللام موطئة للقسم ) تقدم تفسيرها ، وهل يشترط أن تدخل على شرط مسبوق يقسم لفظا أو تقديراً لتوطئ الجواب المذكور بعدها ، وتؤذن به ، ولهذا تسمى مؤذنة أم لا ، وقوله وجوابه بالجز معطوف على القسم ، وهو المقصود بالذكر أي لتوطى الجواب للقسم. قوله : ) ضعفاء منبونون الخ ) خاسرون هنا إمّا من الخسار بمعنى الهلاك أو من خسران التجارة ، وكلاهما غير مراد فهو إمّا مجاز عن الضعف ، والعجز لأنه يشبهه أو سببه كما في قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ } أي عاجزون أو المراد به استحقاقهم له أو أن يدعي عليهم به ، وأشار إلى أنه يجوز أخذ ذلك من عدم الربح في التجارة بقوله مغبونون ، والوجوه في الكشاف أربعة هما لكون ضعفاً وعجزا أو مستحقون للهلاك لعدم غنائهم أو مستحقون لأن يدعي عليهم بالخسار ، والدمار فيقال خسرهم الله ، ودمّرهم إذ أكل الذئب أخاهم ، وهم معه أو أنهم إذا لم يقدروا على حفظ بعضهم هلكت مواشيهم وخسروا ، والمقصود إدراجها في وجهين كما يعرف بالتأقل الصادق ، ولما ذكر يعقوب عليه الصلاة والسلام لهم في وجه عدم مفارقته أمرين حزنه لمفارقته ، وخوفه عليه من ذئب أجابوا عن الثاني دون الأوّل لكراهتهم له لأنه سبب حسدهم له فلذا أعاروه أذنا صماء أو لترك ذكر ما يحزنه ، وكأنه غير واقع لسرعة عودهم أو أنه إنما حزن
لذهابه للخوف عليه فنفي الثاني يدلّ على نفي الأوّل. قوله : ) وعزموا على إلقائه فيها الخ ) إشارة إلى أن أصل معنى الإجماع العزم المصمم ، وأنه على حذف الجارّ من متعلقه ، والأردنّ بضم الهمزة ، وسكون الراء وضم الدال المهملة ، وتشديد النون ، وقوله في القاموس ، وتشديد الدال من طغيان القلم ( أقول ) هكذا في النسخ كما ذكره الفاضل المحشي ، وفي نسخة الشريف المعتمد عليها بديارنا بتشديد النون ، ولا أدري هو إصلاج منه أو من المصنف رحمه الله تعالى ، ومدين تقدّم بيانها ، والقول الأخير هو الراجح ، ولا وجه لما قيل إنّ الخلاف لفظيّ لإمكان التوفيق بينها. قوله : ( وجواب لما محذوف الخ ) وهو ما ذكره ، ومنهم من قدره عظمت فتنتهم ، ومنهم من قدره وضعوه فيها ، وقيل الجواب أوحينا ، والواو زاثدة ، وقوله ليلطخوه أي بدم سخلة ذبحوها ، وقوله أتواري به أي استتر وقولهم اح الأحد عشر تهكم به. قوله : ( وأوحينا إليه ) أي أعلمناه بإرسال ملك ، والموحى إليه ما ذكر بعده لا الإيحاء المعروف بإبلاغ الشرائع حتى يتكلف له بأنه أعلمه بالتبليغ بعد زمان تأنيسا ، وتسلية له ، ونزول الوحي من أوائل النبوّة ، ولما كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام نبئوا في سن الأربعين أشار إلى جوابه بأنه الأغلب ، وقيل إنه بمعنى الإلهام وقيل الإلقاء في مبشرات المنام وقوله وفي القصص أي كتب قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام(5/160)
ج5ص161
وهو إمّا جمع أو مفرد ، وقوله علقها بيوسف كان الظاهر
على يوسف ، وقوله لعلوّ شأنك ، وما بعده بيان لوجه عدم شعورهم ، وهو ظاهر ، والحلي بالضم ، والقصر جمع حلية بالكسر هيئة الشخص ، وقوله وذلك أي قوله لتنبئهم بأمرهم هذا ، وهو إشارة لما سيأتي في النظم القرآني ، وقوله بشره تفسير لقوله وأوحينا أي أرسلنا جبريل عليه الصلاة والسلام لتبشير. الخ. ومرّض القول بكون هذه الجملة الحالية متعلقة بأوحينا لبعده وقلة جدواه ، وفي الكشاف ، ويجوز أن يتعلق وهم لا يشعرون على قراءة تنبئنهم بالتاء بقوله ، وأوحينا على معنى آنسناه بالوحي ، وأزلنا وحشته ، وهم لا يشعرون بذلك ، وبحسبون أنه مستوحش لا أني! له ، وقرئ لتنبئنهم بالنون على أنه وعيد لهم فقوله لا يشعرن متعلق بأوحينا لا غير ، ونظر فيه بأنه يجوز أن يتعلق بقوله لننبئنهم ، وأن يراد بأنباء الله إيصال جزاء فعلهم به ، وهم لا يشعرون بذلك ، ودفع بأنه بناء على الظاهر ، وأنه لا يجتمع أنباء الله مع عدم شعورهم بما أنبأهم به إلا بتأويل كتقدير لنعلمنهم بعظيم ما ارتكبوه قبل ، وهم لا يشعرون بما فيه. قوله : ( آخر النهار الخ ) قال الراغب العشي من زوال الشمس إلى الصباح ، والعشاء من صلاة المغرب إلى العتمة ، والعشاآن المغرب ، والعتمة والعشا ظلمة تعرض في العين ، ورجل أعشى ، وامرأة عشواء ، ومنه يخبط خبط عشواء ، وعشى عمى وعشوت النار قصدتها ليلاً ، ومنه العشوة بالضمّ ، وهي الشعلة فلا تسامح في كلامه كما توهم ، والذي غرّه قوله في القاموس العشاء أوّل الظلام ، وكلام الكشاف مطابق لما قاله المصنف رحمه الله تعالى وهو إمام اللغة. قوله : ( وقرئ عشياً ) بضم العين ، وفتح الشين ، وتشديد الياء منوّنا وهو تصغير عشى وقد مز تفسيره. قوله : ( وعشى بالضم والقصر جمع أعشى ) وقيل إنه جمع عاش ، وأصله عشاة كماس ومشاة فحذفت الهاء تخفيفاً ، وأورد عليها أنه لا جواز لمثل هذا الحذف ، وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل على فعل بسكون العين ، ولذا قيل كان أصله عشواً فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفا صحيحا ساكنا ، ثم حذفت بعد قلبها ألفا لالتقاء الساكنين ، وأن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان قيل ، والأظهر أنه جمع عشوة مثلث العين ، وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال أوطأه عشوة أي أمراً ملتبساً يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيداً لكذبهم ، وهو إمّا تمييز أو مفعول له أو يكون جمع عشوة بالضئم بمعنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لابتهاجهم بما فعلوا من العظيمة ، وافتعلوا من العضيهة ، وقوله أي عشوا من البكا إشارة إلى أنّ قياسه أن يكون على فعل كحمر ، وأمّا ما مرّ من أنه بقدر هذا البكا لا يكون عشو فدفعه ظاهر لأنّ المقصود المبالغة في شدّة البكا والنحيب لا حقيقته أي كاد أن يضعف بصرهم لكثرة البكا. قوله : ( متباكين ) أي مظهرين بتكلف لأنه
ليس عن حزن وقوله يشترك الافتعال والتفاعل أي يكونان بمعانى كنستبق بمعنى نتسابق ، وفسر الإيمان بالتصديق ، وهو معناه اللغوقي ، ولذا عدى باللام ، وأمّا في معناه الشرعيّ فيتعدى بالباء ، وقوله لسوء ظنك تعليل لكونه غير مصدق لهم ، وقوله ولو كنا صادقين قيل معناه ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة ، ولا بد من هذا التأويل إذ لو كان المعنى ، ولو كنا صادقين في نفس الأمر لكان تقديره فكيف إذا كنا كاذبين فيه فيلزم اعترافهم بكذبهم ، وفيه نظر. قوله : ( وفرط محبتك ) فإنها داعية إلى اعتقاد عدم هلاكه ، وأن لا يطمئن قلبه لما قالوه ، وقوله أي ذي كذب الخ بيان لأنه وصف بالمصدر كرجل عدل فإمّا أن يكون بتقدير مضاف أو أنه وصف بالمصدر مبالغة ، وقراءة النصب لزيد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما على أنه مفعول له أو حال لكنه من النكرة على خلاف القياس لو كان من دم بمعنى مكذوباً فيه ، والأحسن جعله من فاعل جاؤوا بتأويله بكاذبين ، وعليه اقتصر المصنف رحمه الله تعالى ، وما قيل إنّ المصدر يجيء بمعنى المفعول به ، والمفعول له فلا حاجة إلى تقدير ، وهم لأنه ليس بحقيقة ، وهو تأويل كالتقدير لكن الثاني هو المشهور فيه فلذا اختاره المصنف رحمه الله تعالى. قوله : ( وكدب بالدال غير المعجمة الخ ) هذه قراءة عائشة رضي الله تعالى عنها ، وليس من قلب الذال دالاً بل هو لغة أخرى بمعنى كدر أو طريّ أو ياب! فهو من الأضداد وكدر مثلثة الدال نقيض صفا ، وقوله وقيل أصله(5/161)
ج5ص162
أي أصل الكدب بالدال المهملة ، ومصدره الكدب بالفتح ، وهو البياض في أظفار الأحداث فشبه به الدم في القميص لمخالفة لونه لون ما هو فيه فهو استعارة أو تشبيه بليغ. قوله : ( وعلى قميصه في موضعالنصب على الظرف أي فوق قميصه ) قيل عليه الأصح جعله ظرفا للمجيء يعني أنه العامل فيه فيقتضي أنّ الفوقية ظرف للجائين ورد بأنّ الظرفية ليست باعتبار الفاعل بل باعتبار المفعول كقوله جاء على جماله بأحمال فالظرفية كما تصح باعتبار المفعول الصريح كرميت الصيد في الحرم تكون باعتبار المتعلق أيضا ، وهو مما استفدناه من هذا المقام ، وقيل إنه أراد أنّ على على حقيقته ، وهو ظرف لغو وفي بعض الحواشي الأولى أن يقال إنه حال من جاؤوا بتضمينه معنى الاستيلاء أي جاؤوا مستولين على قميصه ، وقوله بدم حال من القميص لكن الظاهر استولوا على القميص ملتبسا بدم جائين ، وهذا أولى من جاؤوا مستولين لما مرّ في التضمين ، والأمر فيه سهل فإن جعل المضمن أصلاً ، والمذكور حالاً كل منهما جائز وإذا اقتضى المقام أحدهما رجح ، والأظهر أنه ظرف للمجيء المتعدي ،
ومعناه أتوا به فوق قميصه ، ولا يخفى استقامته. قوله : ( أو على الحال من الدم إن جؤز تقديمها على المجرور ) قال السفاقسيّ وهو الحق لكثرته في لسانهم ، وقال في الكشف أنّ الخلاف في غير الظرف قال في اللباب ولا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح نحو مررت جالسة بهند إلا أن يكون الحال ظرفا على أنّ الحق ما اختاره ابن مالك من جوازها مطلقا. قوله : ( وقال ما رأيت كاليوم ذئباً الخ ) هذا مثل قول العرب ما رأيت كاليوم رجلا قال المبرد في المقتضب : المعنى ما رأيت مثل رجل أراه اليوم رجلاً أي ما رأيت مثله في الرجال ولكنه حذف لكثرة استعمالهم له ، وانّ فيه دليلاً عليه انتهى فتقديره على هذا ما رأيت كذئب أراه اليوم ذئبا أي ما رأيت مثله في الذئاب ففيه حذف لما بعد الكاف ، ولعامل الظرف ، وهو أراه وذئبا تمييز كما أنّ رجلا في ذلك التركيب تمييز كما صرّحوا به ، وأحلم صفته والمقصود منه التعجب منه إذ أكله ، ولم يمزق ثيابه هذا ما صرّج به أهل العربية ، وقيل أصله ما رأيت ذئبأ كالذئب الذي رأيته اليوم أي مثل الذئب فقدم الكاف على المضاف إليه فصار كذئب اليوم فحذف المضاف إليه ، وهو ذئب ، وقدم كاليوم على ذئباً فصار حالاً وأحلم صفة ذئبا ، وقوله من هذا إشارة إلى ما في الذهن من الذئب الذي أكل يوسف ، وقوله أكل بيان لقوله ما رأيت ، ولا يخفى ما فيه. قوله : ( ولذلك { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ } الخ ( يعني لما جعلوا الدم علامة لصدقهم وسلامة القميص دالة على كذبهم علم يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه ليس الأمر كما قالوا مع وثوقه بالرؤيا الدالة على بلوغه مرتبة علية ، وإنما حزن لما خشي عليه من المكروه ، والشدائد غير الموت ، والتسويل تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه ، وتصوير القبيح بصورة الحسن ، وأصل اشتقاقه من السول بفتحتين ، وهو استرخاء في العصب ، ونحوه فكأن المسؤول بذله فيما حرص عليه ، وأرخاه له بتزيينه. قوله : ) فأمري صبر جميل الخ ( يعني أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر ، وهذا الخبر ، أو المبتدأ مع المصدر الذي هو بدل قيل حذفه واجب ، وقيل إنه جائز. قوله : ) وفي الحديث الخ ) هو حديث مرسل أخرجه ابن جرير وقيده بقوله إلى الخلق لقوله بعده { أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } ولذا لما سئل عليه الصلاة والسلام
عن سبب سقوط حاجبيه على عينيه فقال : " طول الزمان وكثرة الأحزان " أوحى الله إليه أتشكو إلى غيري فقال خطيئة فاغفر لي. قوله : ( على احتمال ما تصفونه الخ ) أي يحمل ذلك بالصبر عليه حتى يسلو ويظهر خلافه ، وقوله وهذه الجريمة أي الذنب العظيم جواب عن أنهم أنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف صدر هذا منهم ، وقوله إن صح إشارة إلى أنّ فيه اختلافاً. قوله : ( قريباً من الجب ( قال في القاموس ، والجب بالضم البئر أو الكثيرة الماء البعيدة القعر أو الجيدة الموضع من الكلأ أو التي لم تطو أو مما وجد لا مما حفره الناس وجب يوسف على اثني عشر ميلا من طبرية أو بين سنجل ونابلس ، وقوله بعد ثلاث أي ثلاث ليال مضت من زمان إلقائه. قوله : ( الذي يرد الماء ويستقي ) عطف تفسير له ، وإدلاء الدلو إرسالها لإخراج الماء يقال أدلاها إذا أرسلها(5/162)
ج5ص163
في البئر ودلاها إذا أخرجها ملأى ، ولذا قال فتدلى بها يوسف عليه الصلاة والسلام أي تعلق للخروج وخرج ، والدلو مؤنثة سماعية. قوله : ( نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه ) فيه وجهان أحدهما أنه نادى البشرى كما في قوله : { يَا حَسْرَتَى } كأنه نزلها منزلة شخص فناداه فهو استعارة مكنية وتخييلية واليه أشار المصنف رحمه اللّه تعالى بقوله هذا أوان حضورك ، وقيل المنادى محذوف كما في قوله يا ليت أي يا قومي انظروا أو اسمعوا بشراي ، وأمّا جعل بشرى اسم صاحب له فضعيف لأن العلم لا تحسن إضافته في لغة العرب وقيل إنّ هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء ، والبشارة إمّا لنفسه أو لقومه ورفقته. قوله : ( وهو لنة ( هي لغة هذيل يقلبون الألف قبل ياء المتكلم ياء ويدغمونها فيها فيقولون في هواي هوقي ، ويا سيدي وموليّ لأنهم لما لم يقدروا على كسر ما قبل الياء أتوا بالياء لأنها أخت الكسرة وأمّا من قراها بالسكون في الوصل مع التقاء الساكنين فيه على غير حدّه فلنية الوقف أجرى الوصل مجراه أو لأنّ الألف لمدها تقوم مقام الحركة ، وعلى كل حال ففيها ضعف من جهة العربية فلذا لم يقرأ بها السبعة هنا لكنهم رووها عن قالون وورش في سورة الأنعام ، ورويت هنا في بعض التفاسير واستضعفها أبو عليّ رحمه الله تعالى ورد بإجراء
.
الوصل مجرى الوقف كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ، ونظائره كثيرة في القرآن وغيره ، وقرئ بكسر ياء الإضافة لأجل الياء المقدرة " قبلها كما سيأتي في مصرخي ، وقرئ يا بشرى بغير ياء ، ويقدر على ألفه ضمة إن كان نكرة مقصودة أو فتحة. قوله : ( أي الواود وأصحابه من سائر الرفقة الخ ) يعني أخفوا يوسف عليه الصلاة والسلام حتى لا تراه الرفقة فيطمعوا فيه ، وعلى القول الثاني لم يخفوه ، وإنما أخفوا أمره ، وكونه وجد في البئر وهذا لا يلائمه قوله يا بشراي على أنه ناداهم إلا أن تكون البشارة لمنفسه أو يكون المراد الإخفاء عن غيررفقته من أهل القافلة فتأمّل. قوله : ( وقيل الضمير لآخوة يوسف ) عليه الصلاة والسلام ، وهو مرويّ عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قيل وهو المناسب لإفراد قال وجمع ضمير أسروا وللوعيد بقوله والله عليم بما يعملون ، وليس فيه اختلال في النظم كما قيل فتأمّل. قوله : ) ونصب على الحال الخ ) أي أخفوه حال كونه متاعا للتجارة ، وفي الفرائد أنه ضمن أسرّوه وجعلوه أي جعلوه بضاعة مسرّين فهو مفعول به ، وقال ابن حاجب : يحتمل أن يكون مفعولاً له أي لأجل التجارة ، وليس شرطه مفقودا لاتحاد فاعلهما إذ معنا. كتموه لأجل تحصيل المال به ، ولا يجوز أن يكون تمييزا والبضاعة من البضع ، وهو القطع لأنه قطعة وافرة من المال تقتني لتجارة ، ومنه البضع بالكمسحر كما قاله الراغب. قوله : ( لم يخف عليه أسرارهم الخ ) الأوّل على أنّ المسرّين من السيارة والثاني على أنهم الأخوة فهو وعيد لهم. قوله : ( وبامحوه ) شرى من الأضداد إذ يكون بمعنى اشترى ، وباع فإن عاً د ضمير شروه على الأخوة كالن شرى بمعنى باع ، وان عاد على السيارة كان بمعنى اشترى كذا في الدرّ المصون ، والمصنف رحمه الله تعالى جوّز الوجهين على تقدير كونه بمعنى باع أمّا إذا كان للأخوة فظاهر وأمّ إذا كان للرفقة فبناء على أنهم باعوه لما التقطوه من بعضهم بثمن قليل ، والمشتري باعه مرة أخرى بوزنه ، وفي قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنّ إخوة يوسف نظروا إلى القافلة ، واجتماعها على الجب فاتوهم ، وكانوا يظنون أنّ يوسف عليه الصلاة والسلام مات فرأوه أخرج حياً فضربو. ، وشتمو. ، وقالوا هذا عبد أبق منا فإن أردتم بعناه منكم ، ثم قالوا له بالعبرانية لا تنكر العبودية فنقتلك فأقرّ بها فاشتراه عالك بن ذعراء منهم بثمن بخس ا! ، وأمّا إذا كان بمعنى اشترى تعين عود الضمير إلى السيارة فتعريف الوجهين للعهد أي الوجهان السابقان في أسرّوه. قوله : ( مبخوص لزيف أو نقصان ) وفي نسخة
لزيفه أو نقصانه بالإضافة ، والبخس بمعنى النقص مصدر والمراد به هنا المبخوس ، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى تفسير للبخس لا للمراد به هنا فإنّ قوله معدودة ، وتفسيره يدلّ على أنّ بخسه هنا بمعنى نقصحانه فقط ، والمعدود كناية عن معنى القليل لأنّ الكثير يوزن عندهم ، وهو ظاهر ، والزهد فيه والرغبة عنه بمعنى ، وزهدهم لما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ، وقيل لعدم علمهم بمنزلته ، ولأنّ الله صرفهم عن النظر لحسنه صيانة له.(5/163)
ج5ص164
قوله : ( والضمير في وكانوا إن كان للإخوة الخ ( يعني إن كان ضمير كانوا للوارد ، وأصحابه وهم بائعون ، وهو الظاهر فزهدهم فيه لأنهم التقطوه ، ويحتمل أن يكون الضمير لغيرهم من الرفقة باعوه بعد أن اشتروه من الرفقة ، وقوله وإن كانوا مبتاعين الخ. أي إن كان الضمير للرفقة ، وكانوا مبتاعين بأن اشتروه من بعضهم أو من الأخوة كما مرّ فزهدهم لأنه أبق والآبق لا يغالي في ثمنه فقد علم أن البيع وقع مرّتين. قوله : ( وفيه متعلق بالزاهدين الخ ( فيه اختلاف هنا فقال ابن مالك أنه متعلق بمحذوف دلت عليه الصلة ، ومنهم من قدر أعني ، وليس بجيد فعلى الأوّل يقدر زاهدين فيه من الزاهدين ، وحينئذ فهل من الزاهدين صفة لزاهدين مؤكدة كما تقول عالم من العلماء أو صفة مبينة أي زاهدين بلغ بهم الزهد إلى أن يعدوا في الزاهدين لأنّ الزاهد قد لا يكون عريقاً في الزاهدين حتى يعد فيهم إذا عدوا أو يكون خبرآ ثانيا كل ذلك محتمل ، وليس بدلاً من المحذوف لوجود من معه ، وقال ابن الحاجب : في أماليه أنه متعلق بالصلة ، والمعنى عليه بلا شبهة ، وإنما فروا منه لما فهموا من أنّ صلة الموصول لا تعمل فيما قبل ا!موصول مطلقا ، وبين صلة أل ، وغيرها فرق فإنّ هذه على صورة الحرف المنزل منزلة جزء من الكلمة فلا يمتنع تقويم معمرلها عليها فلا حاجة إلى القول بأنه على مذهب المازني الذي جعلها حرفا للتعريف كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ، وقوله متعلق بمحذوف إشارة إلى ما قاله ابن مالك ، وليس هذا من الاشتغال في شيء ، وفيه مانع آخر لم يذكره ، وهو أنّ معمول المجرور لا يتقدم عليه فكأنه لم يره مانعا ، والا لم يتم بما ذكره ارتفاع المانع ، وأمّا لزوم عمل اسم الفاعل من غير اعتماد فساقط لأن محل الخلاف عمله في الفاعل ، والمفعول به الصريح لا في الجاز ، والمجرور الذي يكفيه رائحة الفعل فإن قلنا إنه يجوز في الجارّ ، والمجرور التقدم لأنه يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره اندفع السؤال أيضا ، وما قيل على
تقدير تعلقه بمحذوف يبينه الزاهدين أنه إن أراد أنه من قبيل الإضمار على شريطة التفسير ففيه أنه ليس منه لعدم الاشتغال عنه بضميره ، وان أراد أنه جواب سؤال كأنه قيل في أفي شيء زهدوا كما في الكشاف فهو تقدير سؤال في غير أوانه فغير وأراد لما نقلناه لك عن القوم. قوله : ( وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر الخ ) فالعزيز وزير والذي باعه له مالك بن ذعراء ، وغيره من الرفقة وقوله ، وقيل كان فرعون الصحيح أنه من أولاده ، وتوله والآية أي قول مؤمن من آل فرعون ، ولقد جاءكم يوسف فالمعنى لقد جاء قومكم ، وآباءكم أو جعل ما جاء آباءهم كأنه جاءهم ، وقوله ولبث في منزل الخ. قيل هذا إمّا تغليب على مذة السجن أو السجن كان في بيته أو هو مجاز بمعنى عبوديته. قوله : ) من جعل شراءه غير الآوّل ) أي من جعل شراء العزيز المذكور في قوله الذي اشتراه غير الشراء المذكور سابقا في قوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } على أنّ الأوّل شراؤهم من الأخوة أو شراء بعضهم من بعض ، وهو الأصح وفيه إشارة إلى أنه قيل باتحادهما ، وإنه ضعيف لقوله من مصر فإنه يصير ضائعا ، واختلف بصيغة المعلوم ومن فاعله ، والقول الثاني لا يتأتى على القول باتحادهما ، وقوله ملؤوه فضة ، وقيل ذهبا كذا في النسخ فقيل المراد وزنه كما صزج به في بعض الروايات ، وفي نسخة مثله ، وهي أظهر والمراد به ذلك أيضاً ، وكونه استوزره وهو ابن ثلاثين ، وأوتي الحكمة ، وهو ابن ثلاث وثلاثين هو الموافق لما في التفاسير ، والمشهور في النسخ وفي بعضها استوزره ، وهو ابن ثلاث وثلاثين فقط ، وهي الموافقة لما مرّ من أنه أوحى إليه في صغره فتأمّله. قوله : ( راعيل أو زليخا ( الأوّل بمهملات بوزن هابيل ، والثاني بفتح الزاي ، وكسر اللام ، والخاء المعجمة وفي آخره ألف ، وهو المشهور وقيل إنه بضم أوّله على هيئة المصغر ، وقيل أحدهما لقبها ، والآخر اسمها. قوله : ( اجعلي مقامه عندنا كريماً ( المراد بكونه كريمأ أن يكون حسناً مرضيا ، والمثوق محل الثواء وهو الإقامة ، واكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه ، وأتمه لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة واتخاذ الفراش ، ونحوه فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به أو المقام مقحم
كما يقال المجلس العالي ، والمقام لسامي ، ولذا قال والمعنى أحسني تعهده أي النظر فيما عهد له من لوازم إكرام الضيف. قوله :(5/164)
ج5ص165
( في ضياعنا ) بكسر الضاد جمع ضيعة ، وهي القرية ، ونستظهر بمعنى نستعين به ، وقوله نتبناه تفعل من البنوّة أي نجعله بمنزلة الولد لأنه كان عقيمأ ، وقوله لما تفرس علة لما فهم منه أي تبناه لما تفرس أي فهمه منه بالفراسة ، والأمور الثلاثة معروفة ، وقوله : " أفرس الناس ثلافة الخ " أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه ، ثم إنّ الفراسة على ما سيأتي في الحجر علم ما هو مغيب ، ولو كان بأمارات بل هو الغالب فيه ، والحذق والفراسة هو الانتقال منه إلى ذلك وإنما كان هؤلاء أفرس لأنّ ما تفرسوه وقع على أتم الوجوه والذي تفرسه العزيز منه أن يكون له شأن ونفع عظيم ، وكذلك ابنة شعيب عليه الصلاة والسلام ، والذي تفرّسه في عمر رضي الله عنه ما يكون في أيام خلافته من الصلاح ، والسداد فما قاله القرطبيّ وغير. من أنه جرّبه في الأعمال ، ومواظبة الصحبة وابنة شعيب عليه الصلاة والسلام كانت معها علامات ظاهرة ، والعزيز عرفه لما أعلمه بنسبة ليس بشيء لأنه لا ينافي الفراسة لما يقع في المستقبل مما لا يعلمه إلا الله. قوله : ( وكما مكنا محبته ني تلب العزيز الخ ( أي أثبتناها فيه يعني أنّ المشبه به ما علم مما قبله ، وهو إمّا تمكين محبته في قلبه أو تمكينه في منزله ، ومثواه وأنجاؤه ، وعطف قلب مالكه عليه والمشبه تمكينه في الأرض يتصرّف فيها على ما أراده الله تعالى له ، وقوله وعطفنا يجوز تشديده ، وتخفيفه ، ولا وجه لما قيل هنا من أنّ المصنف رحمه الله تعالى ، والزمخشريّ جعلا قوله ، ويعلمك من تأويل الأحاديث كلاما مبتدأ لكونه غير معنون بعنوات الاجتباء ، وهذا التفسير منهما مناف لما أسلفتاه فإنهما لم يجعلا قوله ، ولنعلمه داخلاً في حيز التشبيه بل علة للمشبه فلو قلت زيد كالأسد لأنه أغار على قبيلة كذا لا يرد أنه لا دخل للإغارة في التشبيه ، وهذا منه غريب ، والاشتغال بدفعه أغرب منه مع أن ما سبق ليس بمسلم. قوله : ( أي كان القصد في إنجائه وتمكينه إلى أن يقيم العدل الخ ) إلى متعلق بالقصد ، واقامة العدل ، والتدبير
مأخوذ من المعطوف عليه المقدر ، وقد طوى في كلامه الإشارة إلى الوجوه الثلاثة السابقة في قوله كذلك لكنه لم يأت بها على الترتيب فإنجاؤه إشارة إلى الثالث ، وتمكينه إلى الأوّلين لاً نه شامل لتمكينه بالمحبة في قلبه ، ولتمكينه في منزله ، ومن لم يتنبه لهذا قال إنه يشير إلى اختياره للوجه الثالث منها ، وقوله كما فعل بسنيه بكسر السين ، والنون ، وتشديد الياء جمع سنة بمعنى القحط أو بمعنى العام ، والإضافة إليه لأدنى ملابسة وقوله أحكامه أي أحكام الله ، وتعبير معطوف على معاني وفي نسخة يعبر فهو معطوف على يعلم. قوله : ( لا يردّه شيء ولا ينارّعه فيما يشاء الخ ) يعني ضمير أمره إمّا لله فالمعنى أنه لا يمنع عما يشاء ، ولا ينازع فيما يريد أو ليوسف عليه الصلاة والسلام ، والمعنى أنه يدبره ولا يكله إلى غيره فلا ينفذ فيه كيد إخوته ، ولا كيد امرأة العزيز ، ولا غيرهم كما قص في قصته ، وقوله أراد به إخوة يوسف الخ. أتى به على طريقة التمثيل ، ولذا أظهر في محل الإضمار. قوله : ( إنّ الآمر كله بيده الخ ) هذا ناظر إلى التفسير الأوّل في أمره ، والعموم مأخوذ من إضافة المصدر لأنّ المصدر المضاف من طرق العموم ، وقوله أو لطائف صنعه ناظر إلى الثاني ، واقتصر الزمخشري بعد ذكر الوجهين على قوله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنّ الأمر كله بيد الله لشموله لتدبير أمر يوسف عليه الصلاة والسلام ، وغيره فلا يرد عليه أنه لا يظهر تعلق الاستدراك بهذا المعنى بقوله : { وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } كما توهم. قوله : ( منتهى اشتداد جسمه وقؤته وهو سن الوقوف ) يعني الوقوف عن النموّ لأنّ الإنسان ينمو جسمه في ابتداء أمره إلى تمام الشباب ، وبعده يقف عن النمو ، والانحطاط إلى زمان الشيخوخة ، وسن الانحطاط والهرم ، والأشد بفتح الهمزة ، وقد تضم فيه قولان فقيل هو سن الوقوف وقيل سن النموّ ، واختلف فيه على أقوال هل هو مفرد على بناء ندر في المفردات أو جمع لا واحد له أو له واحد ، وهو شدة كنعمة ، وأنعم أو شد كضل ، وأضل أو شد بالفتح ككلب ، وأكلب ، وهذا المفرد تقديريّ أيضاً لأنه لم يستعمل بهذا المعنى ، وكما أنّ سن الوقوف يقف فيه البدن تقف فيه القوى ، والشمائل والأخلاق ، ولذا قيل :(5/165)
ج5ص166
إذا المرء وفي الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وان جرّأسباب الحياة له العمر
وقوله منتهى بمعنى زمان انتهائه إن كان أشد بمعنى الزمان ، وإن كان بمعنى الانتهاء فهو مصدر ، وفي الآية مضاف مقدر أي زمان أشده ، وما بين الخ عطف بيان أو بدل من سن ، وقوله ومبدؤه بلوغ الحلم ، وهو والاحتلام بمعنى البلوغ المعروف عرفا. قوله : ( حكمة الخ (
الحكم يكون بمعنى الحكمة ، وهو في لسان الشرع العلم النافع لكن بشرط العمل ، ولذا قال المصنف رحمه الله المؤيد ولم يقل العلم ، والعمل لأنها بدونه لا يعتد بها ، ومن عمل بخلاف علمه يسمى سفيهاً لا حكيما ، وقوله يعني علم تأويل الأحاديث المراد بالأحاديث كما مرّ الرؤيا أو الكتب الإلهية فخص بالذكر لأنه غير داخل فيما قبله أو أفرد بالذكر لأنه مما له شأن وليوسف به اختصاص تامّ ، وعلى تفسير الحكم بالحكومة فهو ظاهر ، ولذا فسر الزمخشري علم هذا بعلم الدين. قوله : ( تنبيه على أنه تعالى إنما آثاه ذلك جزاء الخ ) كونه جزاء الإحسان لأن التعليق بالمشتق يقتضي عليه مأخذ الاشتقاق ، وفيه إشارة إلى أنّ المراد بالإحسان الإحسان في العلم ، والعمل لا يقال إحسان العمل لا يكون إلا بعد العلم به فلو كان العلم المؤيد بالعمل للإحسان في العمل لزم الدور لأنه قيل إحسان العمل يمكن بطريق آخر كالتقليد ، والتوفيق الإلهي فيكون سبباً للعلم به عن دليل عقليئ أو سمعي أو المراد تحسين الأعمال الغير المتوقفة على السمع فهو السبب للعلم بما شرع له من لأعمال والظاهر تغاير العلمين كما في الأثر من عمل بما علم يسر الله له علم ما لم يعلم. قوله : ( طلبت منه وتمحلت أن يواقعها الخ ( التمحل الطلب بحيلة ، وتكلف والفعلان تنازعا في أن يواقعها ، والمواقعة المجامعة ، وهو مأخوذ من راد إذا جاء ، وذهب في طلب ، وهو يدل على الجذ في الطلب فلذا ذكر أخذه منه ، ومن راد الرائد ، وهو الذي يرسل لطلب الماء ، والكلا ، والإرادة مأخوذة منه أيضا ، وقوله التي هي في بيتها دون امرأة العزيز مع أنه أخصر ، وأظهر لأنه أنسب في الدلالة على الداعي لها. قوله. ) قيل كانت سبعة والتشديد للتكثير ) يعني أنه للتكثير في المفعول إن قلنا بتعذدها فإن التفعيل يكون لتكثير الفاعل ، والمفعول فإن لم نقل به فهو لتكثير الفعل فكأنه غلق مرّة بعد مرة أو بمغلاق بعد مغلاق ، وجمع الأبواب حينئذ إفا لجعل كل جزء منه كأنه باب أو لجعل تعذد أغلاقه بمنزلة تعدده ، وما قيل إن التشديد للتعدية لا! غلقت الباب لغة رديئة كما في الصحاح ، وجعله للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق ، وهم رذ بأنّ إفادة التعدية لا تنافي إفادة التكثير معها ، ولذا قال الجوهري : إنها للتكثير ، ولم يتنبه الراذ لأن ما نقله عليه لا له لأن الرديء الذي ذكره اللغويون إنما هو استعمال الثلاثيّ منه لا أن له ثلاثيا لازما حتى يتعين كون التفعيل للتعدية فتعذيه لازم في الثلاثي ، وغيره سواء أكان رديئأ أو فصيحا فتعين أنه للتكثير ، وقد سبق المصنف رحمه الله غيره فيما ذكر فالواهم ابن أخت خالته فتدبر. قوله : ) { هَيْتَ لَكَ } ( قال صاحب النشر قرأ المدنيان ، وابن ذكوان بكسر الهاء ، وفتح التاء من غير همز ، وعن هشام
بالهمز ، وقال الداني رحمه الله تعالى إنه وهم لكونه فعلاَ من التهيؤ فلا بد من ضم تائه حينئذ ، وقد تبع في هذا الفارسيّ في الحجة حيث قال إنه وهم من الراوي لأن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يتهيأ لها بدليل قوله وراودته الخ. وتبعه جماعة ، وهي صحيحة ، ومعناها تهيا إليّ أمرك لأنها لم تتيسر لها الخلوة قبل ذلك أو حسنت هيأتك ، ولك بيان أن أقول لك ، وهي صحيحة نقلاً مروية عن هشام رحمه الله من طرق ، وعنه أيضا بكسر الهاء ، والهمزة وضم التاء ، وانفرد الهذلي عن هشام بعدم الهمزة ، وقرأ ابن كثير رحمه الله بفتح الهاء وضم التاء بغير همز ، والباقون بفتح الهاء ، والتاء من غير همز وورد فيها كسر الهاء ، وضم التاء من غير همز ، وفتح الهاء ، وكسر التاء من غير همز قراءة الحسن ورويت عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والصواب أنّ هذه السبع قراآت كلها لغات فيها ، وهي اسم فعل بمعنى هلم ، وليست التاء ضميراً وقال الفراء والكسائي هي لغة أهل الحجاز ومعناها تعال ، وقال أبو حيان لا يبعد أن يكون مشتقا من اسم كحمدل ، ولا يبرز ضميره بل يبين بالضمير المجرور باللام ، ويختلف بحسبه(5/166)
ج5ص167
اهـ ، وقد اختلفوا في هذه الكلمة هل هي عربية أم معرّبة ، وهل معناها تعال ولذا قال مجاهد رحمه الله أنها كلمة حث ، وإقبال أو غير ذلك وهل هي اسم أو فعل ، وقيل إنه في بعض اللغات يتعين اسميتها ، وفي بعضها فعليتها ، وقد رويت القراءة فيها على أنحاء كثيرة منها ما هو في السبعة ، ومنها شواذ ، والمعتمد لك ما مرّ والمصنف رحمه الله قدم القراءة المشهورة ، وجعله فيها اسم فعل ، وذلك الفعل إمّا إنشائيّ كبادر ، وأقبل لأنها تدل على الحث كما مرّ أو خبري كهيهات بمعنى بعد ، وليس تفسيره بتهيأت على أنّ الدال على التكلم التاء التي من بنية الكلمة بل لأنها لما بينت التهيؤ بأنه له لزم كونها هي المتهيئة كما إذا قيل لك قرّبني منك فقلت هيهات فإنه يدل على معنى بعدت بالقرينة فلا يرد عليه ما قيل إنها إذا كانت بمعنى تهيأت لا تكون اسم فعل بل فعلأ مسنداً إلى ضمير المتكلم ، ولو كان كذلك لم يصح تفسيره به على قراءة الفتح. قوله : ( واللام للتبيين كالتي في سقيا لك ) كأنه قيل لمن التهيؤ فقيل لك فهو متعلق بمحذوف أي هو كائن لك أو يقدر السؤال لمن تقولين فقيل أقول لك ، ولم يجعل على كونه بمعنى تهيأت متعلقا بهيت لأنّ اسم الفعل لا يتعلق به الجارّ ، وعيط بكسر العين المهملة ، وسكون الياء ، وفتح الطاء المهملة اسم صوت من العياط ، وهي كلمة تقولها الصبيان ، ويتصايحون بها في اللعب ، وجير بمعنى نعم مبنيّ على الكسر ، وأوّله مفتوح. قوله : ( وهئت كجئت الخ ( تقدم أنّ هذه القراءة مروبة عن هشام ، وما أورده أبو علي في الحجة عليه ورذ صاحب النشر له فتذكره :
فما بالعهد من قدم
وقوله ، وعلى هذا الإشارة إلى القراءتين على حد { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } [ سورة البقرة ، الآية :
68 ] وسقط من بعض النسخ قوله ، وقرئ هيئت ، وهو ظاهر واعلم أنه قال في المغني هيت لك من قرأ بهاء مفتوحة ، وياء ساكنة ، وتاء مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة اسم فعل ماض أي تهيات واللام متعلقة به كما تتعلق بمسماه لو صرّج به ، وقيل مسماه فعل أمر بمعنى أقبل ، واللام للتبيين أي إرادتي لك أو أقول لك !من قرأ هئت مثل جئت فهو فعل بمعنى تهيأت ، واللام متعلقة به ، ومن قرأ كذلك ، وجعل التاء ضمير المخاطب فاللام للتبيين مثلها في اسم الفعل ، ومعنى تهيؤه تيسر انفرادها به لا أنه قصدها بدليل قوله ، وراودته فلا وجه لإنكار الفارسيّ مذه القراءة مع ثبوتها ، وظهور وجهها ، وهيا بكسر الهماء ، وفتحها وتشديد التاء المثناة التحتية ، وهي لغة بمعنى هيت. ضلمه ش ( أعوذ باللّه معاذا ) إشارة إلى أنه منصوب على المصدرية بفعل محذوف ، وأنّ أصله التكثير ، وأحسن مثواي تقدّم تفسيره ، والرب على الأوّل بمعنى الس!يد ، وموله والضمير لله والرب عليه بمعنى الخالق ، والضمير عنى الأوّل للشأن ، ويجوز جعله ضمير شأن على هذا كما في الكشاف فالجملة خبر ، وإذا كان لله فأحسن خبر آخر ، ولذا عطفه المصنف رحمه الله با!لواو والمحسن لمثواه زليخا فإسناده لقطفير لأنه الآمر به ، ولله لأنه مسبب الأسباب بعطف قلبه عليه. قوله : ( المجازون الحسن بالسيئ ا لأنه وضمع للشيء في غير موضعه ، والحسن إكرامه ، والسيئ قصد أهله بسوء ، وإذا فسر الظالمون بالزناة فظلمه ما ذكر والمزني اسم مفعول ، وضمير بأهله يعود على أل الموصولة. قوله : ( قصدت مخالطته وقصد مخالطتها الخ ) الهمّ بمعنى الإرادة ، والقصد مطلقاً ، وهو لا يتعلق بالذوإت فلذا قدر ما ذكر ، وهو على ما قاله محيي السنة رحمه الله همان همّ ثابت معه عزم ، وعقد ورضا كهم زليخا ، وهو مذموم مؤاخذ به ، وهمّ بمعنى خاطر ، وحديث نفس من غير تصميم ، ولا اختيار ، وهو غير مذموم ، ولا معاقبة عليه كهم يوسف عليه الصلاة والسلام ، ويؤلده حديث الصحيحين " إنّ اللّه تجاوز عن أمّتي ما حدّثت به النفس ما لم يعملوا أو يتكلموا " ( 1 ) وقال الإمام الصراد بالهمّ في
الآية خطور الشيء بالبال أو ميل الطبع كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسه على الميل إليه ، وطلب شربه ، ولكن يمنعه دينه عنه وكالمرأة الفائقة حسنا ، وجمالاً تتهيؤ للشاب النامي القوي فتقع بين الشهوة ، والعفة وبين النفس ، والعقل مجاذبة ، ومنازعة فالهم هنا عبارة عن جواذب الطبيعة ، ورؤية البرهان جواذب الحكمة ، وهذا لا يدل على حصول الذنب بل كلما كانت هذه الحال أشد كانت القوّة على لوازم العبودية أكمل إذا عرفت هذا فالمختار أنّ يوسف عليه الصلاة والسلام إن كان ما نسب إليه من الهنم واقعا بناء على أنه لا يقدر(5/167)
ج5ص168
على دفعه ، ونظيره جواب لولا فهو بهذا المعنى الذي لا يعدّ سيئة بل حسنة كما سمعت ، ولذا غاير بين العبارة في الهمين ، ولم يقل هما وأكد الأوّل دون الثاني وأن لم يكن واقعاً كما اختاره في البحر ، وقال لم يقع منه همّ البتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول لقد قارفت الإثم لولا أنّ الله عصمك ، ولا تقول إنّ جواب لولا يتقدم عليها ، وان لم يقم دليل على امتناعه بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها حتى ذهب الكوفيون ، وأعلام البصريين إلى جواز ققدّمه بل تقول هو محذوف لدلالة ما قبله عليه لأنّ المحذوف في الشرط يقدّر من جنس ما قبله ، والبرهان ما عنده من العلم الدال على تحريم ما همت به وأنه لا يمكن الهمّ فضلا عن الوقوع فيه هذا هو الذي يجب اعتقاد. ، والحمل عليه ، وكلام المصنف رحمه الله راجع إليه كما ستراه فقوله ، والهمّ بالشيء قصده ، والعزم الخ بناء على أنه ليس مطلق القصد ، وان هذا أصله فهو في حقها على حقيقته ، وأمّا في حقه فبمعنى آخر ، وقوله أمضاه أي فعله. قوله : ( والمر! بهمه ميل الطبع الخ ) مبني على الطريقة الأولى المثبتة للهم له وجعله بمعنى الميل الطييعى كميل الصائم للماء البارد وما فسر به الهم فبله إن كان حقيقة كما هو الظاهر من كلامه فإطلاقه على هذا استعارة أو مشاكلة أو من مجاز المشارفة. قوله : ( أو مشارفة الهم كقولك كعلتة لو لم أخف الله ) هذا على إثبات الهم له وتاويله بالقرب من الهم كما في المثال المذكور إذا قصد بقتلته شارفت قتله بضرب أو نحوه ، وقد مرّ له جواب آخر فلا يرد عليه ما قيل إنه ما الموجب لإخراج قتلته عن حقيقته فإنه دليل الجواب إذ لم نجوّز تقديمه ولو للامتناع فالمعنى امتناع القتل لامتناع عدم الخوف منه تعالى ، وهو معنى صحيح إذ المناقشة في التمثيل ليست دأب أرباب التحصيل ، وقيل معنى همت به ، وهمّ بها أنها اشتهته ، واشتهاها ، وإنه أحسن الوجوه. قوله : ( في قبح الزنا وسوء مغبته الخ ) المغبة بفتح الميم ، والغبن العاقبة ، وقوله لخالطها هو الجواب المقدر للولا بدلالة ما قبله لأنّ الهم من لوازم المخالطة ، والشبق ،
والغلمة بالضم شد الشهوة ، وهذا منفي عنه لدخوله في حيز لولا لكن كان التعبير بغيره أولى ، وأنسب بسلوك طريق الأدب ، والظاهر أنّ مراده لشبق غلمة زليخا ومبالغتها في مراودته التي تدعو إلى مخالطته لولا أن رأى برهان ربه ، وهو ما علمه من تحريمه لما ذكر ، وقوله ولا يجوز تقدم أنّ النحاة أكثرهم جوّزه ، وقوله في حكم أدوات الشرط أي الجازمة. قوله : ( بل الجواب محذوف يدل عليه ) وهو قوله لخالطها كما قررناه لك لا إنه مقدر بغير المذكور كما توهم حتى يرد عليه ما قيل عليه إنه حينئذ لا يحتاج إلى تقدير خالطها في مقام الجواب ، ولا يحتاج إلى إخراج الهم عن معناه وارتكاب المجاز كما اختاره. أو تقدير الكلام على هذا لولا أن رأي برهان ربه لقصد مخالطتها وعزم عليها ، والمذكور قبل الشرط إنما أتى به ليكون دليلا على الجواب المحذوف لا أنه مقصود بالإفادة في الكلام. قوله : ( وقيل وأى جبريل عليه الصلاة والسلام الخ ) هذا مع ما في القصص ونحوه مما لا يليق ذكره ، وتركه أحسن منه كله مما لا أصل له والنص ناطق بخلافه. قوله : ( أي مثل ذلك التثبيث الخ ) يعني أنه في محل نصب صفة مصدر فعل محذوف ، وذلك إشارة إلى المصدر أو خبر مبتدأ مقدر وفيه وجوه أخر ، وقوله إنه من عبادنا المخلصين قيل فيه إنّ كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته فشهد الله تعالى بقوله لنصرف الخ. وشهد هو على نفسه بقوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي } ونحوه ، وشهدت زليخا بقولها : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } وسيدها بقوله : { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } وابليس بقوله : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } فتضمن إخباره بأنه لم يغوه ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص فكان كما قيل :
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
وقوله إذا كان في أوّله الألف واللام هذا التخصيص ينافي ما ذكره في سورة مريم في
قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا اً } [ سورة مريم ، الآية : 51 ] وهو المصرح به في القرا آت ، وأخلصهم الله لطاعته أي اختارهم. قوله : ( تسابقاً إلى الباب ) أي قصد كل سبق الآخر إلى الباب فيوسف عليه الصلاة والسلام ليخرج ، وهي لتمنعه(5/168)
ج5ص169
من الخروج ، ووحد الباب
هنا مع جمعه أوّلاً لأنّ المراد الباب البرّاني فإن قلت كيف يستبقان إلى البراني ودونه أبواب جوّانية قلت أشار الزمخشريّ إلى دفعه بما روي أنّ أقفالها كانت تتناثر إذا قرب يوسف عليه الصلاة والسلام إليها وتنفتح ، وقوله فانقذ قميصه قالوا من جيبه ، وأعلاه ، والاجتذاب افتعال من الجذب ، والفرق بين القذ والقط مذكور في كتب اللغة ومنه قط القلم ، وقيل القذ مطلق الشق ، ويؤيده أنه قرئ وقطت ، وقال يعقوب القط في الجلد ، والثوب الصحيحين.
قوله : ) وصادفا زوجها الخ ) الذي في كتب اللغة أنّ الفي بمعنى وجد ، وهو قريب مما
ذكر ، والمراد بالسيد الزوج لأنهم كانوا يستعملونه بهذا المعنى لملكه التصرف فيها ، ولذا لم يقل سيدهما ، وقيل لأنه لم يكن مالكا له حقيقة لحرّيته ، وقوله إيهاماً مفعول له لقالت أي قالت ما ذكر لذا ، وتغييره بالغين المعجمة معطوف على إيهاما أي لتغيير زوجها ، واعتقاده فيه والمفعول له يكون معرفة ونكرة ، وقوله إلا السجن بفتح السين مصدر سجنه إذا حبسه ، وقوله أو عذاب أو للتنويع عطفت المصدر الصريح على المؤوّل ، وقرئ بالنصب بتقدير فعل ، وعلى جعل ما استفهامية فجزاؤه مبتدأ أو خبر ومن موصولة أو موصوفة. قوله : ) طالبتني بالمواتاة الخ ( يعني قال هذا لدفع الضرر عن نفسه لا لتفضيحها ، ولذا قال هي ، ولم يقل هذه مشافها لها بما تكر. ، وقوله دفعاً لما عرضته التعريض في قولها ما جزاء من أراد بأهلك سواء إلا أن يسجن حيث لم تقل هذا أراد بأهلك السوء ، وجزاؤه السجن بل قصدت العموم ، وأجملت حياء ، وحشمة لبعلها وكبت بالسوء عن الفاحشة كما قالت ابن شعيب عليه الصلاة والسلام : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } [ سورة القصص ، الآية : 26 ] ولم تقل إنه قوقي أمين حياء من أبيها فجعل ذلك كناية عما ذكر وتعريضاً به ، وقوله ولو لم تكذب عليه لما قاله هذا لا ينافي قوله دفعاً للضرر لأنه يقتضي أنه قاله لكذبها عليه فينافي الحصر الذي قاله لأنّ القصر الأوّل إضافيّ أي قاله لدفع الضرر لا للتفضيح فلا ينافي كونه لكذبها ، وأيضاً معنى قوله لكذبها الدفع كذبها ، وما يترتب عليه لو صدقت فهو داخل في الدفع المذكور فتنبه. قوله : ( قيل ابن عم لها الخ ( صبياً راجع إلى ابن العم ، وابن الخال ، وقيل إنه قيد للثاني ، وترك كون الشاهد حكيماً كان عنده المذكور في الكشاف ، وقوله ومن النبني صلى الله عليه وسلم تكلم أربعة الخ اعترض! عليه الطيبي بأنه يرد على الحصر ما
رواه البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لم يتكلم في المهد إلا عيى ابن مريم علبه الصلاة والسلام وصاحب جريج وساق قصته وبينا صيئ يرضع أمّه مو رجل على دابة فارهة وشارة حسنة فقالت أمّه اللهمّ اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي ، وقال اللهتم لا تجعلني مثله " ( 1 ) يعني أنّ الحصر في الثلاثة المذكورة أخرج الماشطة وشاهد يوسف من الحكم ، وأثبت بدلهما الرضيع المذكور ، وسيأتي سادس في سووة البروج ، وما وفق به من أنه يجعل قوله في المهد قيداً ، وتأكيدا لكونه في مبادي الصبا ، وفي هذه الرواية يحمل على الإطلاق أي سواء كان في المبادي أو بعيدها بحيث يكون تكلمه من الخوارق لا يخفى بعده ، وقيل على الطيبيّ أنّ هذا على عادته من عدم الاطلاع على الأحاديث فإنّ الحديث الذي أووده المصنف رحمه الله تعالى صحيح أخرجه أحمد في مسنده ، وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ، وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال إنه على شرط الشيخين فصاروا خمسة ، وهم أكثر ففي صحيح مسلم تكلم الطفل في قصة الأخدود أيضا ، وقد جمعها السيوطي فبلغت أحد عشر ونظمها في قوله :
قكلم في المهد النبيّ محمد ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مربالأمة التي يقال لهاتزني ولاتتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم
( قك ا لم يرد الطيبي الطعن على الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله كما توهم ،
وانما أراد أنّ الحصر في الأحاديث متعارض يحتاج إلى التوفيق ، وهو كما قال. قوله : ( ابن ماشطة فرعون ) قال ابن الجوزي :(5/169)
ج5ص170
ماشطة إبنة فرعون لما أسلمت أخبرته ابنته بإسلامها فأمر بإلقائها وأولادها في البقرة التي اتخذها من نحاس تحمى ، ويعذب بها من أسلم فلما بلغت النوبة آخر أولادها ، وكان مرضعاً قال اصبري يا أمّاه فإنك على الحق ( 2 ) فقوله ماشطة فرعون الإضافة لأدنى ملابسة. قوله : ( وصاحب جريج ) بجيمين مصغر كان عابدا يعبد الله في صومعة فقالت بغيّ منهم أنا أفتنه فتعرّضت له فلم يلتفت إليها فمكنت من نفسها راعي غنم كان يأوي إلى صومعته فلما ولدت منه غلاما قالت هو من جريج فضربوه ، وهدموا صومعته فصلى ودعا
وانصرف إلى الغلام فوكزه ، وقال له بالله يا غلائم سير! أبوك فقال أنا ابن الراعي. قوله : ( وإنما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها الخ ) تعبيره بإلقاء الشهادة لكونه صبياً لا يتعمدها فما قيل إنّ الأولى أن يذكره بعد قوله ابن عمها لاختصاصه بشهادة الرجل فإنّ شهادة الصبيّ حجة قاطعة لا فرق فيها بين الأقارب وغيرهم بخلاف الرجل فإنّ ظاهر القريب الشهادة لقريبه لا عليه ، ولا يخفى ما فيه ، وهو مبنيّ على جعك القيد للثاني ، والقريب مطلقاً أقوى بلا شبهة فتدبر. قوله : ( لأنه يدل على أتها قذّت الخ ) وفي الكشاف دلالة قد الدبر على كذبها لأنها تبعته ، وجذبت ثوبه فقدته ، ودلالة قد القبل على صدقها من وجهين إنه تبعها ، وهي دافعته عن نفسها فقدت قميصه من قدامه بالدفع أو أنه أسرع خلفها ليلحقها فتعثر في مقادم قميصه فشقه ، واعترض عليه بأنه يمكن مثله في اتباعها له بل هذا أظهر لأنّ الموجب للقد غالباً الجذب لا الدفع ، وقيل إنه من قبيل المسامحة في أحد شقي الكلام لتعين الآخر بتنزيل المحتمل منزلة الظاهر لأنّ الشق بالجذب في هذا الشق أيضاً محتمل ، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى غفلة عنه ، وقيل أيضا في دلالة الإمارتين على ذلك نظر إمّ دلالة قد القميص! من دبره على كذبها فلجواز أنه قصدها فغضبت عليه وأرادت ضربه ففرّ منها فتبعته ، وجذبته للضرب فقدّت قميصه من دبر ، وهي صادقة ، وأمّا قد القيل فمعارض بمثله لأنّ الخرق بالدفع معارض! بالخرق يالجذب من خلف جذبا عنيفا ينخرق به من قذامه ، ولأنه ربما تعثر في الفرار فانقد قميصه من قذامه فالعثار في الاتباع معارض بالعثار في الفرار ، ودفع بأن هذه الاحتمالات لا تضرّ في شهادة الشاهد على براءته لأنه متعين الصدق في نفسه ، ومجرّد الاحتمال غير قادح فيه وكان ما علم من نزاهته ، وحالها دافعاً لهذه الاحتمالات ، وقيل الحق أنّ الشاهد إن كان صبيا في المهد فالبراءة بمجزد كلامه ، وتعيين ما عينه من غير نظر في الإمارة المذكورة تذعن لحاله ، وان كان رجلا من أهلها أو من غيرهم كالحكيم فمراده تصديق يوسف عليه الصلاة والسلام ، وتكذيبها لما شاهده لكن لم يرد فضاحتها بذا ، والحاصل أنه لو شهد من غير ذكر إمارة ، وقال رأيته فرّ منها ، وهي تبعته ، وجذبت قميصه فانقدّ من دبره لصدق لكنه ذكر امارات تلويحا لما رآه ستراً عليها فتأمّله. قوله : ( والشرطية محكية على إرادة القول الخ ) يعني أن الشرطية مضمونها هو المشهود به ، ولكنها في اللفظ كيف تتعلق به فقال إنه على تقدير القول أي فشهد فقال أو قائلا إن كان الخ. أو الشهادة لما كانت في معنى القول جاز أن تعمل في الجمل ، وهو جار في كل ما شابهه ، هما قولان لنحاة البصرة ، والكوفة ، وقوله وتسميتها شهادة لأنها أدّت مؤدّاها دفع لما يقال إنه أمر معلق على شرط ، وليس تعيينا حتى يكون شهادة به بأنه دل على صدقه فكان في معنى
الشهادة له. قوله : ( والجمع بين إن وكان على تأويل أن يعلم الخ ) هذا مبنيّ على إن كان قوية في الدلالة على الزمان فحرف الشرط لا يقلب ماضيها مستقبلا ، والا فكل ماض! دخل عليه الشرط قلبه مستقبلا من غير حاجة إلى التأويل نحو إن قام زيد قام عمر ، وفعلى هذا القول كونه كذلك ، وكذلك جعله إمارة صدقها أو كذبها ، والجزأن على كونه كذلك ، والمعلق عليه من الصدق والكذب واقعان فأوّل بمعنى حدوث العلم أي أن يعلم أو يظهر أنه كذلك فقد ظهر الصدق أو الكذب قال في الكشف ، وهذا بين ، وفيه إنك جعلت ما لا يعرف كونه كأنه ليس بكائن ، وفيه دقة فكأنه يريد أنه ليس من باب التقدير لتكلفه ، ولا التجوّز في كان يجعلها بمعنى علم لأنه يعود على المدعي بالنقض بل يبقى على حاله وينزل استقبال علمه منزلة استقباله لما بينهما من التلازم كما قيل أي شيء يخفى فقيل ما لا يكون فتدبره.(5/170)
ج5ص171
قوله : ( ونظيره قوله إن أحسنت إلئي اليوم فقد أحسنت إليك من قبل ) ووجه التنظير أنه ليس مستقبلا لتقييده بما ذكر بل هو لتعليق الأخبار على سبيل الامتنان بمثله فيؤول إلى ما ذكره ، وتمنن من المن أو الامتنان ، وقيل كان بمعنى ثبت ، والثبوت ليس بحاص! ، قبله. قوله : ) وقرئ من قبل ومن دبر بالضم الخ ( أشار أوّلاً إلى قراءة العامّة بضم الباءين مع جره ، وتنوينه لأنه بمعنى خلق يوسف عليه الصلاة والسلام أو الفميص وقدامه ، وقرأ الحسن وأبو عمرو ، في رواية عنه بتسكين العين تخفيفا وتنوينه ، وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحق ، والعطاردي ، والجارود بثلاث ضمات ، وروي أيضا بضم الآخر مع السكون ، ووجه بأنهم بنوهما على الضم كقبل ، وبعد إذا قطعا عن الإضافة ، وتال أبو حاتم أنه ضعيف في العربية لأنه مخصوص بأسماء الظروف ، وقرأ ابن إسحق بفتحهما ، ووجه بأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار الجهة ، وكأنه علم جنس ، وفيه نظر. قوله : ) آن قولك ما جزاء من أراد الخ ) أي الضمير راجع إلى ما قبله من القول أو السوء لكنه قيل إنّ السوء ليس نفسه حيلة ، ولكنه يلازمها ففيه مجاز ، وهو لهذا الأمر وهو طمعها في يوسف علبه الصلاة والسلام وقد القميص وجعله من الحيلة مجاز كالذي قبله والمكر ، والكيد ، والحيلة متقاربان ، ولذا فسره به. قوله : ) والخطاب لها ولآمثالها ) يعني بالخطاب ضمير النسوة في كيدكت ، ولسائر النساء عطف على لأمثالها ، وقال الزمخشريّ لها ولأمّتها أي جماعتها أي من جواريها ، وهو أولى. قوله : ) فإن كيد النساء ألطف
وأعلق الخ ) يعني ألطف من كيد الرجال ، وأعلق أي أكثر علاقة بالقلب منهم ، وأكثر من ذلك ، وأشد تأثيراً منهم ، وكيد الشيطان ضمعيف بالنسبة لكيدهن أيضا ، واليه أشار المصنف رحمه اللّه بقوله لأنهن يواجهن به ، والشيطان كيده وسوسته ، ومسارقته ، ولذا قال بعض العلماء إني أخاف من النساء أكثر من الشيطان لأنّ الله يقول إنّ كيد الشيطان كان ضعيفا ، وقال في كيدهن أنه عظيم ، وقيل عليه إنّ ضعف كيد الشيطان في مقابلة كيد الله ، وعظم كيدهن بالنسبة للرجال ، وهو ليس بشيء لأنه استدل بظاهر إطلاقهما ، ومثله مما تنقبض له النفس ، وتنبسط يكفي فيه ذلك القدر ، وكذا ما قيل إنه محكيّ عن قطفير لأنه قص من غير نكير. قوله : ( حذف منه حرف النداء الخ ) يعني ذكريا إمّا لبعده حقيقة أو حكماً ككونه غافلا أو غير فطن ، وكلاهما منتف هنا فحذفه لهذه النكتة من الإيجاز الحسن ، وقرئ بفتح الفاء من غير تنوين فقيل إنها غير ثابتة ، وقيل إنها حركة إعراب فهو منصوب وقيل أجرى الوقف مجرى الوصل ، ونقل له حركة الهمزة ، وقرئ أعرض ماضيا وكلها شاذة ، وقوله اكتمه قيل إنه يدل على عدم الغيرة ، وهي لطف من اللّه تعالى بيوسف عليه الصلاة والسلام ، وقال أبو حيان إنه مقتضى تربة مصر. قوله : ( من خطئ إذا أذنب متعمداً والتذكير للتنليب ) يقال خطئ يخطأ خطأ وخطأ إذا تعمد خلاف الصواب ، وأخطأ إذا فعله من غير تعمد ، ولهذا يقال أصاب الخطأ ، وأخطأ الصواب وأصاب الصواب ، وتغليبه كما مرّ تحقيقه في قوله من القانتين ، وهو أبلغ من إنك خاطئة. قوله : ( هي اسم لجمع امرأة ) المشهور أنه جمع تكسير كصبية وغلمة ، وقيل إنه اسم جمع وعلى كل فتأنيثه غير حقيقيّ ، ولذا لم يؤنث فعله وليس له واحد من لفظه بل من معناه ، وهو امرأة والمشهور كسر نونه وقد تضم وهو اسم جمع حينئذ بلا خلاف ، ويكسر على نساء ، ونسوان ، وفي المدينة صفته ، وهو الظاهر ، وتعلقه بقال خلاف الظاهر ولذا أوّله المصنف رحمه الله تعالى بأنّ معنى كون قولهن فيها إشاعته وافشاؤه وقوله بهذا الاعتبار أي باعتبار الجمعية لأنّ الجمع ، واسمه من حيث هو كذلك ، وان نظر لمفرده فهو مؤنث حقيقي ، ولم ينظر إليه لأنّ التأنيث المجازي لطروه أزال الحكم الحقيقيّ كما أزال التذكير وفيه نظر ، وبالضم قرأ المفضل ، والأعمش والسلمي كما قال القرطبيّ رحمه الله : فلا عبرة بمن أنكرها ، وكونهن خمساً رواية مقاتل رحمه الله ورواية الكلبي أنهن كن أربعا بإسقاط امرأة الحاجب. قوله : ( تطلب مواقعة
غلامهاللاها ) تقدم أنّ المراودة الطلب بتمحل ، وحيلة ، وأنه يتعلق بالمعاني لا بالذوات ، + وفالى غلامها لأنه كان يخدمها ، وقيل إنّ زوجها وهبه لها ، وقوله العزيز بلسان العرب الملك ، ، فيلبته على أهل مملكتة ، وقيل إنه غلب على ملك مصر(5/171)
ج5ص172
والإسكندرية لكنه فيل عليه إنّ مارزكزه صتنافي ما مر من أنّ قطفير كان على خزائن " !صز ، ومككها الريان وفنى يائيّ بدليل تث!نيته !لأنها تردّ الأشياء لأصولها فالفتوة على هذا شاذة ، وقيل إنه يائيّ وواوي ككنوت وكنيت ، وله نظائر كثيرة. قوله : ( شق شغاف قلبها الخ ) الشغاف بوزن سحاب حجاب القلب ، وقيل سويداؤه ، والفؤاد القلب ، وقوله لصرف الفعل عنه أي محوّل عن الفاعل ، والأصل شغفها حبه ، وهنأه بالهمزة بمعنى طلاه بالقطران ، ومعنى إحراقه أنه أثر في جلده ، وهذا أصله ، والشغف والشعف تاثير الحب وهما متقاربان ، وقد فرق بينهما. قوله : ( باغتيابهق وإنما سماه مكرا الخ ) يعني أنّ المكر استعير للغيبة لشبهها له في الإخفاء كما أشار إليه ، وعلى الوجه الثاني هو حقيقة ، وكذا على الأخير لأنهت مكرن بها في إظهار كتمان السرّ حتى أطلعن على أمرها ، وقوله لتريهن أي زليخا ، وفي نسخة ليرين أي النسوة من الثلاثيّ. قوله : ( تدعوهن ) أي للضيافة مكرا بهن لما سيأتي ، ويبهتن مجهول أي يتحيرن ، وأما بهته فبمعنى افترى عليه ، ويقطعنها أي الأيدي من قطع الثلاثيّ ، وكونه من الأفعال بمعنى يجعلنها قاطعة لها ركيك ويجوز أن يكون من التفعيل ، ويبكتن من التبكيت ، وهو الغلبة أي يغلبن بالحجة التي لها مما له من الجمال الذي لا يمكن صبر النساء معه ويهاب عطف على يبهتن أي يخاف يوسف عليه الصلاة والسلام فينقاد لها وهو مناف للمقام ، ولذا لم يجعله في الكشاف وجها ، وجمع بين المكرين. قوله : ( متكأ طعاماً ) هو على الثاني اسم مكان أو ا-لة بمعنى الوسادة ، وهو مستعمل في حقيقته ، وقوله فإنهم كانوا يتكؤون الخ بيان لوجه إطلاقه عليهما ، وعلى الأوّل هو اسم للطعام ، وهو اسم مفعول أو مصدر جعل كناية أو مجازا عنه ، والظاهر الثاني أي اتكاء أو متكأ له ، واستشهد بالبيت للأوّل ، وأنه لو فعل لأنه المحتاج للإثبات ، وأما الثاني فهو اسم مكان لا حاجة لإثباته ، والتترف كالترفه
التنعم ، وقوله ولذلك ، أي لكونه فعل المترفين المتكبرين نهى عنه في الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة عن جابر رض!ي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " نهى أن يثل الرجل بشماله وأن يثل متكئاً ) ( 11 لكن الواقع ! في الحديبن النهي عن اكل ، والنهي عن الهشرب ثبت بدلالة القياس ، ولذا صرّحوا به قال العلافمه في قوله ، وآتت كك ، وإحدة- تف!يره " اعتدف لهرهـ متكأ فجئن و!دن وآتت كل واحدة الخ ، ولا يبعد أن تسمى هذه الواو فصيحة فاحفظه. قوله : ( قال جميل ) هو من شعراء العرب الإسلامية ، وهو مشهور ، والبيت من قصيدة له من يحر الخفيف ، وعروضها مختلف ، وأوّلها :
رسا. !اروقفت في طلمله كخدت أقضي الصيا؟ غ مثن جلله
موحشاً ما ترى به أحداً تنسج الترب ريح معتدله
ومنها :
فظللنابنعمة واتكأفا وشربنا الحلال من قلله
قال ابن قتيبة معنى اتكأنا أكلنا ، وطعمنا والقلل جمع قلة ، وهي الجرّة ، والحلال أراد به النبيذ. قوله : ( وقيل المتكأ طحم. يحزحزا ) بألحاء المهملة أي يقطع ، وكونه بالجيم جوّزه بعضهم لأنّ معنا. قريب منه والأوّل أولى لأنه المعروف ، وأمّا الجز فأستعماله في قطع / الصوف ، ونحو. ، وهذا مخالف للأوّل لأنه مطلق الظ!ط بخ! ، وهذا مخصوص باللخم. ، . ونن!ه. قوله : ( وقرئ متكاً بحذف الهمزة ) أي وضم الميم ، وتشديد التاء مفتعا من أوكيت القربة إذا شددت فاها بالوكاء ، والمعنى اعتدت شيئا يستندن عليه بالاتكاء أو بالقطع ، وقرئ بالمدّ على أنه إشباع كما قالوا في منتزح ، وهو البعيد ، منتق اح ، وقرئ متكا بضم ! الميم ، وسكون التاء
والتنوين ، وروي فيه الضم ، والفتح ، وهو الأترج بضم الهمزة ، والراء المهملة ، وبينهما تاء ساكنة وفي آخره جيم مشددة ، ويقال اترنج وترنج ، وهو ثمر معروف ، وقيل ما يقطع من المأكولات من متكه ، وهو وبتكه بمعنى قطعه ، والباء والميم تتعاقب كثيرا كلازم ولازب ، وقيل إنه طعام يقالط له زما ورد وقرئ متكأ بفتح فسكون ، وفي آخره همزة من تكىء بمعنى اتكأ ، ومعناه كمعنى متكأ. قوله : ( عظمته الخ ) فأكبر. بمعنى كبره أي عظمه ، وقيل أكبرن بمعنى حضن ، والإكبار يكون بمعنى الحيض ، وأنشدوا عليه بيتاً قيل إنه مصنوع ، وسمي الحيض إكباراً لكون البلوغ يعرف به كأنه يدخلهم سن الكبر فيكون(5/172)
ج5ص173
في الأصل كناية أو مجازاً ، وهذا منقول عن قتادة والسديّ. قوله : ( وعن النبئ صلى الله عليه وسلم الخ ) أخرجه ابن جرير ، والحاكم ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ، وقوله والهاء ضمير للمصدر فكأنه قيل أكبرن إكباراً ، والحامل عليه أنه غير متعد أو هو ليوسف عليه الصلاة والسلام على إسقاط حرف الجرّ أي حضن لأجله ، وترك القول بأنها هاء سكت لأنه ردّ بأنها لا تحرّك ، ولا تثبت في الوصل ، واجراء الوصل مجرى الوقف ، وتحريكها تشبيهاً لها بالضمير كما في قوله :
وأحرّ قلباه ممن قلبه شبم
على تسليم صحتة ضعيف في العربية ، ونزع الخافض ، والتأكيد بضمير المصدر أقرب ، والقول بأن الأوّل يختص بالصفات ، والظروف ، والصلات ، والثاني لا يصح ممنوع. قوله : ( كما تال المتنبي ) هو من قصيدة مدح بها الحسين بن إسحق التنوخي أوّلها :
هو البين حتى ما تأنى الحزائق ويا قلب حتى أنت ممن أفارق
ومنها :
خف الله واسترذا الجمال ببرقع فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
قال الواحدي روي ذابت أي من شوقها إليك ، وروي حاضت لأنّ المرأة إذا اشتدت
شهوتها حاضت والعواتق جمع عاتق ، وهي المرأة الشابة ، وذا الجمال بنصب الجمال نعت ذا اسم الإشارة ، وجوّز فيه أن يكون ذا بمعنى صاحب ، والجمال مجرور بالإضافة ، والمراد بذي الجمال الوجه ، والأوّل أولى رواية ، ودراية والخدور جمع خدر بالكسر ، وهو ستر يمد في جانب البيت للنساء ، وقوله جرحنها يعني أنّ القطع ليس بمعنى الإبانة كما قيل لأنه خلاف الظاهر ، وهذا معنى حقيقيّ له أيضا ، وقال صاحب الكشف الأصح أنه مجاز. قوله : ( تنزيهاً له من صفات العجز الخ ) تعليل لقولهن هذا لا تفسير له ، وسيأتي تفسيره ، وفي شرح التسهيل الاستعمال على أنهم إذا أرادوا تبرئة أحد من سوء ابتدؤوا بتنزيه الله سبحانه ، وتعالى من السوء ثم يبرؤون من أرادوا تبرئته على معنى أنّ الله منزه عن أن لا يطهره مما يضيمه فيكون آكد وأبلغ كما في هذه الآية وقوله في الدرج فيه مخالفة للكشاف ، واشارة إلى أنّ في كلامه قصوراً. قوله : ( وهو حرف يفيد معنى التنقله ) وفي نسخة التبرئة ، المعنى فيهما واحد يعني أنه حرف وضع للاستثناء ، والتبرئة معا ثم بعد ذلك اقتصر فيه على معنى التبرئة فاستعمل له في غير الاستثناء كما هنا ، وقال النحاة إنه أداة متردّدة بين الحرفية ، والفعلية فإن جرّت فهي حرف وان نصبت فهي فعل ، وهي من أدوات الاستثناء ، ولم ير سيبويه رحمه الله تعالى فعليتها ، وذكر الزمخشريّ رحمه الله تعالى أنها تفيد في الاستثناء التنزيه أيضا ، وأنها حرف جرّ وضع موضع التنزيه ورده أبو حيان رحمه الله بأنّ إفادتها التنزيه في الاستثناء غير معروف ، ولا فرق بين قولك قام القوم إلا زيداً وحاشا زيداً ، وعدم ذكر النحاة له لا يدل على ما ذكره لأنه وظيفة اللغويين لا وظيفتهم وقال المبرد يتعين فعليتها إذا وقع بعدها حرف جرّ كما هنا ففاعله ضمير يوسف عليه الصلاة والسلام بدليل مجيء المضارع منها في قوله :
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
قوله : ( فوضع موضع التنزيه ) أي جرد له ووضع موضعه فيما لا يكون فيه استثناء فجعل
اسما بمعنى التنزيه بعد أن كان حرف استثناء ، ولم ينوّن مراعاة لأصله المنقول عنه ، وهو يقتضي أنه نقل من الحرفية إلى الاسمية ، واعترض عليه بأنّ الحرف لا يكون اسماً إلا إذ! نقل ، وسمي به ، وجعل علما ، وحينئذ يجوز فيه الحكاية ، والإعراب ، ولذا جعله ابن الحاجب رحمه الله تعالى اسم فعل ، وكون المعنى على المصدرية لا يرد عليه لأنه قيل إن أسماء الأفعال موضوعة لمعاني المصادر ، وهو منقول عن الزجاج رحمه الله تعالى ، وقوله واللام للبيان فهي متعلقة بمحذوف ، ومن جعلها مصدراً أو فعلاً جعلها متعلقة به. قوله : ( وقرئ حاشا اللّه بغير لام الخ ) قرأ بها أبيّ وعبد اللّه على الإضافة كسبحان اللّه لنقله إلى الاسمية ، وقال الفارسي إنها
حرف جرّ مراد به الاستئناء ورد بإفه لم يتقدّمه- ما يستثنى منه ، والتنوين لنقله إلى الاسمية ، وفيه ما مرّ. قوله : ( وقيل حاشى فاعل ) بفتح العين أي فعل كقاتل من المحاشاة ، وهو مذهب المبرد ، ومعناه صار في ناحية الله ، والمرأد بعده عما اتهم؟ مه روتبزيهه عنه لما رؤي فيه من آثار العصمة ، وأبهة النبوّة عليه الصلاة+ والسلام. قوله : ( لأن هذا الجمال(5/173)
ج5ص174
غير معهود؟ للبشر الخ ) يعني نفي البشرية عنه لأنّ جماله لم ير مثله فيهم ، واثبات الملكية له لذلك مع الكمال ، ولذا وصف بالكرم ، ومشاركة ما لليس في نفي الحال هو المشهور ، وقال الرضي : إنّ ليس ترد لنفي الماضي ، والمستقبل فالمشاركة في مطلق النفي ، وقراءة بشرى بالباء الجارة مخالفية صلرسم المصحف لأنه لم يكتب بالياء فيه ، ومخالفة لمقتضى المقام لمقابلته بالملك إلا أنّ ابن عادل رحمه الله تعالى قال من قرأ بها قرأ ملك بكسر اللام فيتناسب الكلام حينثذ ، وقول المصنف رحمه الله تعالى أي بعبد مثتري لئيم إشارة إلى وجه المقابلة بينهما على هذه القراءة ، وقوله ولا يفوقه في نسخة لا يفوقه بدون واو فالضيير ليوسف عليه الصلاة والسلام واسنفادة فائقية الملك من كمونه مشبها به.
تنبيه : أنكر بعضهم هذه القراءة لأنها لا تناسب ما بعدها من قوله إن هذا إلا ملك كريم
ورد بأنها صحيحة رواية ، ودراية أمّا الأوّل فلأنها رواها في المبهج عن عبد الوارث بسند صحيح ، وأما الثاني فلأنّ من قرأ بهذه قرأ ملك بكسر اللام فتصح المقابلة أي ما هذا عبد لئيم يملك بل سيد كريم مالك ، وكان على اللمصنف أن يذكر هذا إلا أنه أشار بقوله لئيم إلى ذلك وإن احتمل أنه أثبت المقابلة بوجه بينه ، وبين وصفه بطريق برهانيّ ففيه خفاء افتأمّل. قوله : ( فهو ذلك العبد الكنعاتى الذي لمتنني الخ ) يعني ذلك خبركلمبتدأ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه ، والذي صفة اسم ، الإشارة ، وعلى الوجه الثاني ذلك مبتدأ ، والذي خبره ، وتنزيله لعلوّ منزلته منزلة البعيد ظاهر كلامه أنه على الوجه الثاني فقط ، ولذا عبر عنه بهذا فيه دون الأوّل لأنّ يوسف عليه الصلاة والسلام في وقت اللوم كان غير حاضر ، وهو الآن حاضر فإن جعلت
الإشارة إليه باعتبار الزمان الأوّل كانت على أصلها ، وجعله خبرا عن ضمير الغائب يقتضيه ، وإن لوحظ الثاني كان قريباً ، واحتمال أنه عليه الصلاة والسلام أبعد عنهن لثلا يزددن دهشة ، وفتنة ، ولذا أشير إليه بذلك بعيدا ، والكنعاني منسوب إلى بلاد كنعان ، وهي نواحي القدس ، وفي الافتتان متعلق بلمتنني ، وقوله ولو صوّرتنه يعني لو تصوّرتنه قبل المشاهدة. قوله : ( فامتنع طباً للعصمة الخ ) قيل عليه إنّ الامتناع للعصمة ، وعلى ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى يلزم أن لا تكون العصمة حاصلة وقت ألامتناع فإنه لا يطلب الحاصل إلا أن يراد بالعصمة زيادتها أو الثبات عليها ، وفي البحر الذي ذكر. التصريفيون في استعصم أنه بمعنى اعتصم ، والظاهر أنّ العصمة لغة بمعنى الامتناع مطلقاً ، وفي العرف ما أودعه الله فيه مما يمنع عن الميل للمعاصي كما للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ومرادها الأوّل ، وتعني به فراره منها فهو امتنع منها أوّلاً بالمقال ، ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار فلا يرد عليه شيء ، ويعاونها بتشديد النون ضمير النسوة كقولهم له أطعها ، وافعل ما أمرتك به ، والأنة العريكة تحويله عن الآباء ، وهو مجاز معروف فيه كما يقال موطؤ ا!ناف ، وأصل العريكة السنام. قوله : ( ما آمر به فحذف الجاز الخ ) يعني أنّ ما موصولة ، والضمير عائد عليها ، وأصله الذي آمر به فحذف الجارّ ، واتصل الضمير ، ولما كان هذا شائعاً في أمر كقوله :
أمرتك الخير فافعل ما ائتمرت به
وحينئذ فإمّا أن يكون ترك المفعول لأنّ مقصودها لزوم امتثال ما أمرت به مطلقاً أو لأن
يفعل يدل عليه ويغني عنه ، ولو جعل الضمير ليوسف عليه الصلاة والسلام ، والعائد محذوف ، وهو به جاز أيضاً بالحذف التدريجي لكنه اختار هذا لما مرّ قال ابن المنير في تفسيره والعائد على الموصول محذوف مثل : { أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا } [ سورة الفرقان ، الآية : 41 ] لا يقالى ضمير المأمور به حينئذ مجرور به ، ولا يحسن حذف العائد المجرور لأنا نقول هذا الجارّ مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلا منصوبا مفصولاً كانه قال آمر يوسف إيا. لتعذر اتصال ضميرين من جنس واحد فما عينه الزمخشريّ غير متعين ، وتبعه المصنف رحمه الله تعالى ، ومن قال في قوله فيكون الضمير ليوسف عليه الصلاة والسلام أي حتما لم يصب وأن كانت مصدرية فالضمير ليوسف عليه الصلاة والسلام ، وفعل الأمر بمعنى فعل موجبه بالفتح على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف. قوله : ( وهو ) أي الصاغر بمعنى الذليل فعله صغر كفرح ،
ومصدره صغر بفتحتين ، وصغر بضم فسكون وصغار بالفتح هذا في القدر ، وأما في الجثة والجرم ففعله ككرم ، ومصدره صغر كعنب ، وفي القاموس جعل(5/174)
ج5ص175
صغاراً مصدراً لهذا ، والمشهور ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ، وأكدت ليسجنن بالنون الشديدة لتحققه وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير محقق ، وقرئ بالتشديد فيهما ، وهو يخالف رسم المصحف بالألف كقوله :
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
فترسم بها وشبهها بالتنوين لفظا لكونه نونا ساكنة مفردة تلحق الاخر فلذا حملت في الرسم عليه ، وقراءة يعقوب السجن بالفتح على أنه مصدر سجنه ، وبالكسر اسم المحبس. قوله : ( آ " لر عندي من مؤاتاتها رنا الخ ) إنما فسره به لأنه لا محبة له لما دعون له ، ولا للسجن ، وكذا آثر من الإيثار أفعل تفضيل ، ولا إيثار له للمؤاتاة إلا على سبيل الفرض! ، وإنما هوى السجن لكونه أهون الشرّين وقد مرّ أن فاعل أحبّ يجر بإلى ، ومفعوله باللام أوفى ، والمؤاتاة بمعنى المطاوعة ، وزنا تمييزاً ، ومنصوب بنزع الخافض ، وقوله نظراً إلى العاتبة فمحبة السجن لذلك. قوله : ( وإسناد الدعوة الخ ) فهو على الحقيقة فيما روي أنّ كلاً منهن طلبت الخلوة لنصيحته فلما خلت به دعته إلى نفسها ، وقوله إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا أي أنا أختار السجن ، ولو لم يختره ، ودعا الله بخلاصه من الأمرين معا سهل الله له الخلاص منهما فلا يرد عليه ما قيل إن يوسف عليه الصلاة والسلام ، إنما أجاب بهذا قولها لئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن ، والتقدير إذا كان لا بد من أحد الأمرين الزنا أو السجن فهذا أولى ، وما ذكر مأثوراً وروي أنه لما قال السجن أحب إليّ أوحى الله يا يوسف أنت جنيت على نفسك ، ولو قلت العافية أحبّ إليّ عوفيت ذكره القرطبي ، وقوله : ولذلك رد الخ. إشارة إلى ما رواه الترمذي عن معاذ رضي الله عنه عن النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه سمع رجلاَ وهو يقول اللهم إني أسألك الصبر فقال سألت الله البلاء فأسأله العافية " وقوله وإن لم إشارة إلى أنّ إلا مركبة من أن ، ولا النافية
وقوله في تحبيب ذلك أي السجن. قوله : ( أمل إلى جانبهق أو إلى أنفسهن الخ ( مضارع مجزوم الأوّل ناظر إلى أنّ دعوتهن لاطاعتها فالميل إليهن كناية عن قبول ما قلن ، وفي نسخة إجابتهن فهو بمؤاتاتها ، والثاني ناظر إلى أنهن دعوته لأنفسهن فالميل لهن كناية عن المؤاتاة ، وقوله بطبعي راجع إليهما ، وقيل إنه متعلق بالثاني ، والميل الأوّل اختياري ، والثاني طبعي ، وفيه أنه لا يلائم أكن من الجاهلين فتأمّل ، وقرئ أصب من صببته كعلمته بمعنى عشقته فهو مضمن معنى الميل أيضا ليتعدى بإلى. قوله : ( من السفهاء بارتكاب ما يدعونني الخ ا لما كان عدم الصرف لا يترتب عليه الجهل بمعناه المعروف أشار إلى أنّ الجهل هنا بمعنى فعل ما لا يليق ، وهو أحد معنييه كقوله :
ونجهل فوق جهل الجاهلينا
واطلاق الجهل عليه لأنه لا يفعله الحكيم العالم بل السفيه فالجهل بمعنى السفاهة لا ضد
العلم بل ضد الحكمة وعلى الوجه الثاني جعل عدم العمل أو العمل بخلاف ما يعلم جهلا لأنّ العلم حينئذ بمنزلة العدم. قوله : ( الذي تضمنه قوله وإلا تصرف ا لأنه في قوّة قوله رب اصرفه عني ، وقوله فثبته بالعصمة يحتمل التفسير والتفريع أي ثبته بسبب عصمته له عن الميل إلى الشهوات حتى وطن نفسه أي ثبتها كما يثبت الشيء في وطته على تحمل مشقة السجن ، وايثار تلك المشقة على اللذات المتضمنة للمعاصي. قوله : ( ثم بدا لهم من بعد الخ ) قيل إنّ القطع ، والاستعصام ليسا من الشواهد الدالة على البراءة في شيء ، وأجيب بأق الاستعصام عنهن بدعوتهن لاً نفسهن إمارة دالة على براءته مما ادّعته راعيل ، والعزيز ، وأهله سمعوا ذلك وتيقنوه حتى صار كالمشاهد لهم ، وفيه نظر إما دلالة الاستعصام المعلوم لهم ، وهو امتناعه ، واباؤه فظاهرة وأمّا دلالة القطع فلأنّ حسنهءلمجف الفاتن للنساء في مجلس واحد ، وفي أوّل نظرة يدل على فتنتها بالطريق الأولى ، وأنّ الطلب منها لا منه ، وما قيل من أنه نشأ من فرط الدهثة مما شاهدن من نور النبوّة ، وأبهة الملك لا مدخل له في ذلك قطعا. قوله : ) وفاعل بدا مضمر
يفسره ) وفي نسخة تفسيره ليسجننه الخ قال بعض النحاة : إنّ الجملة قد تكون فاعلاً نحو يعجبني يقوم زيد وبدا له ليفعلن كذا ، والصحيح خلافه فقال المازني : فاعله مضمر في الفعل والمعنى ، ثم بدا لهم بداء فأضمر لدلالة الفعل عليه وحسن ، وان لم يحسن ظهر لي ظهور لأنّ بداء قد استعمل في غير المصدر فقالوا بدا له بداء أي ظهر له رأي ، ويدلّ عليه قوله :
لعلك والموعود حق لقاؤه بدالك في تلك القلوص بداء(5/175)
ج5ص176
وجملة ليسجننه تحتمل ثلاثة أوجه أن تكون مفعولاً لقول مضمر ، والتقدير قالوا ليسجننه ، واليه ذهب المبرد ، وأن تكون مفسرة للضمير المستتر في بدا فلا موضع لها ، وهو الذي ذكره المصنف ، والضمير إما للبدأء بمعناه المصدري أو بمعنى الرأي أو للسجن بالفتح المفهوم من الكلام ، وأن تكون جواباً لبدا لأنّ بدا من أفعال القلوب ، والعرب تجريها مجرى القسم ، وتتلقاها بما يتلقى به ففي الفاعل له أقوال ، واختار أبو حيان رحمه الله تعالى أنه للسجن ، وكلام المصنف رحمه الله تعالى يحتمله أي ظهر لهم سجنه ، وقوله لأنها خدعت الخ روي أنها لما أيست منه قالت للعزيز إنّ الغلام فضحني فاحبسه ، وقصدها أن يطول السجن لعله ي!اعد ما على ما أرادت ، وهو معنى قوله حتى تبصر. قوله : ( أي أدخل يوسف السجن واتفق ثخ ) اضار بقوله اتفق إلى أنّ الدخول ليس باختيار لهم ، وبقوله حينئذ إلى أنّ مع تدل على !صحبه ، والمقارنة لفاعل الفعل في ابتداء تلبسه بالفعل ، ونقض هذا بقوله تعالى : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } إذ ليس إسلامها مقارناً لابتداء إسلام سليمان ، وأجيب بأنّ ذلك يحمل على التخصيص للصارف الدال عليه ، ولذا قال الزمخشريّ في قوله تعالى { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أنه لا يصح تعلقه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حدّ السعي ، ولا بالسعي لأنّ صلة المصدر لا قتقدّم عليه فبقي أن يكون بياناً كأنه لما قال فلما بلغ السعي أي الحد الذي يقدر فيه على السعي عيل مع من فقال مع أبيه فمع هاهنا جار على الحقيقة حال من فاعل دخل ، وفيد للفعل فيكون حكرثها مع حدوث الفعل ، ويحمل على الحقيقة إذ لا صارف عنها ، وقيل عليه أنه لا تتعين المعية في الفعل للفاعل فجاز أن يراد أسلمت لله ، ولرسوله وتقديم مع للإشعار بأنها كانت تظن أنها كانت على دين في عبادة الشمس ، وان حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف نحو صع بلوغ دعوته أو إظهار معجزته لأنّ الفرق بين المعية ومطلق الجمع معلوم بالضرورة ،
وتابعه على ذلك الفأضل المحشي ، والفرق بين الفعل الممتدّ كالإسلام ، وغيره كالدخول بانّ الأوّل لا يقتضي مقارنتهما في ابتدائه بخلاف الثاني راجع إلى الجمع ، وليس من المعية في شيء على أنه حينئذ لا يحتاج إلى تأويل في السعي فتأمّل ، وشرابيه منسوب إلى الشراب أي ساقيه ، ويسمانه بمعنى يجعلان السم في طعامه ، وشرابه ، وقوله حكاية حاله ماضية ، وأصله رأيت في المنام ، وكون العنب يؤول إلى كونه خمرا ظاهر لكن الذي يؤول إليه ماؤه لا جرمه ، ومثله لا يضر لأنه المقصود منه فما عداه غير منظور إليه فليس فيه تجوزان بالنظر إلى المتعارف فيه ، وقيل العنب يسمى خمراً في لغة ، وقوله تنهس فيه بالمهملة والمعجمة أي تأخذ منه ، وتقضم بمقدم الفم ، وفعله على مثال مغ كما في التحبير ، وقوله من عبيد الملك أي الملك الأعظم وهو الريان حكى أنّ بعض أهل مصر ضمن لهما مالاً على أن يسماه في طعامه ، وشرابه فأجاباه ، ثم إنّ الساقي لم يفعله ، وفعله الخباز فلما حضر الطعام قال الساقي للملك لا تأكل منه فإنه مسموم فقال الخباز لا تشرب فإنّ شاربه مسموم فقال الملك للساقرلأ اشرب فشرب ، ولم يضره ، وقال للخباز كل فأبى فجرّب في داية فهلكت فأمر بسجنهما. قوله- ( من الذين يحسنون قأويل الرؤيا ا لعلمهم بذلك إذ عبر لبعضهم رؤياه أو المراد من العالمين كما في قولهم قيمة المرء ما يحسن أي يعلم أو المراد بالإحسان إلى أهل السجن لأنه كان يعود المريض منهم ، ويجمع للمحتاج ما يقوم به منهم ، وقوله إن كنت تعرفه لأنّ قولهما نراك من المحسنين فراسة فتناسب التعليق بالشرط لأنهما لم يتيقناه. قوله : ( أي بتأويل ما قصصتما علئ الخ ) فالمراد بالتأويل تعبير الرؤيا لكنه يقتضي أن يكون الطعام المرزوق ما رأياه في النوم ، ولا يخفى ما فيه ولذا لم يتعرّض لهذا في الكشاف فتامّله. قوله : ( بيان ماهيته وكيفيتة فإنه يشبه تفسير المشكل الخ ) فالمراد بالطعام ما يبعث إلى أهل السجن ، وتأويله ذكر ما هو بأن يقول يأتيكما طعام كيت ، وكيت فيجدانه كذلك ، وقوله فانه يشبه الخ. إشارة إلى أنّ حقيقة التأويل تفسير الألفاظ المراد منها خلاف ظاهرها ببيان المراد فإطلاقه على تعيين ما سيأتي من الطعام مجاز ففيه استعارة ، ومشاكلة محسنة لها. قوله : ( كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد الخ ) بيان لارتباط الجواب بالسؤال فإنهما سألاه تعبير رؤياهما فذكر لهما إخباره بالمغيبات ، وما ذهب إليه من التوحيد ، وعرضه عليهما ، ثم أتى بالجواب فكان غير(5/176)
ج5ص177
مطابق ظاهرا فبين أنه أراد أن يعرض عليهما التوحيد لاقتراضه عليه ، وجعل العلم بما ذكر مقدّمة له ووسيلة لتخليصه لما أراد كالتخلصات المعروفة عندهم أي كأنّ يوسف عليه الصلاة والسلام أراد بقوله هذا الذي قدّمه
على جواب سؤالهما. قوله : ( أن يسعف إلى ما سألاه ) أي يساعد ، وهو يتعدى بالباء فعداه بإلى لتضمينه معنى التوجه ، والقصد إليه. قوله : ( أي ذلك التأويل ) المراد بالتأوبل كشفه عن الطعام قبل مجيته لأنه لما ذكره لهما قالا له هذا كهانة أي سحراً وتنجيم أي استخراج له بما علم من علم النجوم فقال لا بل هو مما علمني الله بوحيه ، والهامه. قوله : ( تعليل لما قبله الخ ) أي هذه الجملة مسوقة لبيان علة تعليم الله له بالوحي ، والإلهام أي خصني بذلك لترك الكفر ، وسلوك طريق آبائي المرسلين ، وقوله أو كلام مبتدأ أي مستأنف أي الجملة الأولى ذكرت تمهيداً للدعوة ، والثانية إظهاراً لما ذكر لتقوى الرغبة فيه ، وقوله والوثوق عليه ضمنه معنى الاعتماد ، ولذا عداه بعلى دون الباء أي الاعتماد عليه. قوله : ( وتكرير الضمير للدلالة على اختصاصهم ) أي تكريرهم مع إمكان أداء المعنى بقوله ، وبالآخرة كافرون أو الاكتفاء بذكره مرّة واحدة يريد أنّ ضمير الفصل ، وهو الثاني بناء على مذهب الزمخشري من عدم اشتراط تعريف الخبر معه لتخصيص الكفر بهم دون الكنعانيين ، والأوّل لتأكيد كفرهم بتكرر الإسناد ، وقال أبو حيان للدلالة على أنهم خصوصآ كافرون بالآخرة وغيرهم مؤمنون بها ، وليست هم عندنا تدل على الخصوص قال المعرب لم يقل الزمخشري إن هم تدل على الخصوص ، وإنما قال التكرير يدل على الخصوص ، وهو معنى حسن عند أهل البيان اهـ ( أقول ) هذا عجيب منهما فإنّ هم إذا لم تفد تخصيصا عند أبي حيان فكيف قال إنهم خصوصاً كافرون ، والتكرار إنما يفيد التأكيد فمن أين ما يفيد التخصيص فالصواب أنه من ضمير الفصل ، والتقديم فإن قلت قول القاضي تعليل أو كلام مبتدأ وقول المعرب إنه على الوجهين لا محل للجملة ما وجهه قلت التعليل استئناف بيانيّ إلا أنّ عبارة المصنف رحمه الله تعالى مغلقة فاعرفه ، وقوله إني تركت أي أظهرت الترك فلا يلزم اتصافه بذلك. قوله : ( ما صح لنا معشر الأنبياء ( خصه بهم مع أنه لا يصح من غيرهم أيضا لأنه يثبت بالطريق الأولى أو المراد نفي الوقوع منهم لعصمتهم ، وقوله أيّ شيء كان يعني أنّ من زائدة في المفعول به لتأكيد العموم أي لا نشرك به شيئا من الأشياء قليلا أو حقيراً صنماً أو ملكا أو جنيا أو غير ذلك. قوله : ( ذلك أي التوحيد ) جعل المشار إليه التوحيد المأخوذ من
نفي صحة الشرك لقربه قال الزمخشري : ذلك التوحيد من فضل الله علينا ، وعلى الناس أي على الرسل ، وعلى المرسل إليهم لأنهم نبهوهم عليه ، وأرشدوهيم إليه ولكن أكثر الناس المبعوث إليهم لا يشكرون فضل اللّه فيشركون ، ولا يتنبهون ، وقيل إن ذلك من فضل الله علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدلّ بها ، وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت ، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ، ولا يستدلون اتباعا لإهوائهم فيبقون كافرين غير شاكرين ففضل الله على هذا عقليّ ، وعلى الأوّل سمعي ، وحاصله أنّ ذلك المراد به التوحيد ، وكونه مبتدأ من فضل اللّه لأن من ابتدائية على أنّ المراد به إمّا الوحي بأقسامه أو نصب الدلائل العقلية ، وانزال المعجزات الملزمة عقلاً فعلى الأوّل معنى كون أكثر المبعوث إليهم غير شاكرين أنهم غير متبعين لهم ، وعلى الثاني أنهم غير ناظرين للأدلة ، ولا مصدقين بالمعجزات الباهرة فتضمن ذلك جعل بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لإرشاد الكافرين ، وتثبيت المؤمنين ، ونصب الدلائل ، واقامة المعجزة نعمة مسوقة لهم ، وعدم الاتباع كفرانا بها بعد ما حق عليهم شكرها ، واليه أشار المصنف بقوله كمن يكفر الخ فلا مخالفة بين كلام الشيخين فلا غبار عليه كما توهم بعض الناظرين فأثار العجاج دون قتال ، ولا غنيمة. قوله : ( يا ساكنيه أو صاحبئ فيه الخ ) يعني جعلهما صاحبي السجن ، وصاحبه الملك أو السجان إمّا على أنّ الصحبة بمعنى السكنى كما يقال أصحاب النار لملازمتهم لها أو المراد صاحبيّ فيه فجعل الظرف توسعاً مفعولاً به كسارق الليل ولما ذكر ما هو عليه من الدين القويم تلطف في الاستدلال على بطلان ما عليه قومهما من عبادة الأصنام فوصفهما بالصحبة الضرورية المقتضية للموذة ، وبذل النصيحة ، وان كانت تلك الصحبة كما قلت :(5/177)
ج5ص178
ماصحبة الغارياخليلي كصحبة ال!سجن والسفينة
وليس في الإضافة على الأوّل اتساع ، وقيل إنها على الاتساع ، وأنه أضافهما إلى السجن
دونه لكونهما كافرين ، وانّ قوله أهل الدار مفعول سارق ، والأصل متاع أهل الدار أو مفعول لمحذوف بتقدير احذر أهل الدار وهو وهم كما مرّ تقريره في الفاتحة. قوله : ( شتى متعدّدة
متساوية الأقدا ، ) حمل التفرّق على معنى التعدد ، وقيل المراد مختلفة الأجناس ، والطبائع ففيه إشارة إلى عدم صلاحيتها للربوبية ، وأمّا قوله متساوية أي في عدم النفع ، واللياقة لذلك فقيل إنه بيان للواقع إذ لا دلالة للكلام عليه ، وقيل إنه ماخوذ من قوله القهار ، ولو قيل إنه ماخوذ من قوله ما تعبدون من دونه إلا أسماء كان أظهر ، وقوله المتوحد بالألوهية حمله عليه لقوله الله فيكون توصيفه به مفيداً. قوله : ( أي إلا أشياء باعتبار أسام أطلقتم الخ ) قيل إنه إشارة إلى أنّ -؟لتسمية بمعنى الإطلاق لا وضع الاسم ، وانّ الأسماء عبارة عما يطلق عليها إلا أنّ قوله فكأنكم الخ. ظاهر في أنه بمعناه المتبادر منه ، وإنه استعارة إلا أن يجعل الأوّل بياناً لحاصل المعنى ، وفيه نظر وقوله أطلقتم عليها أي على الأشياء ، وقوله من غير حجة لأنه لا يدل عليه عقل ، ولا نقل فإن الإله وضع لمستحق العبادة ، وما سموه ا-لهة لا دليل على استحقاقها لها ، وقوله في أمر العبادة أي شأنها ، وصحتها فلا تكون إلا للإله أو لمن يأمر بعبادته ، وهو لا يأمر بذلك ، ولا يجعله لغيره لأنه أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ، وقوله الذي بدل من الضمير. قوله : ( الحق وأنتم لا تميزون هخ ) إشارة إلى أنّ القيم كالمستقيم بمعنى الحق ، والصواب ، وقوله وأنتم لا تميزون مأخوذ من الحصر أي هو المس!كيم لا غيره مما أنتم عليه ، وفوله على طريق الخطابة بفتح الخاء يعني قوله تعدّد الآلهة ، وتشعبها خير أم وحدتها أمر خطابيّ لا برهاني ، وقوله برهن أي استدل قال في الأساس برهن مولد ، وأثبته بعض أهل اللغة ، وقوله فإن استحقاق العبادة بناء على أنّ العبادة ، والإلهية متحدان أو متلازمان ، وقوله الذي لا يقتضي العقل غيره لأنّ معنى القويم كما قاله أبو حيان الثابت الذي دلت عليه البراهين فهم الذين ليسوا بعقلاء ، ولا عقيدتهم بعلم ، وقوله فيخبطون في جهالاتهم من قولهم خبط خبط عشواء. قوله : ( كما كان يسقيه قبل
ويعود إلى ما كان عنيص ) من منزلته عند الملك فلا تكرار فيه وقوله فقالا كذبنا بناء على أنهما قصدا تجربته ، وليست رؤيا حقيقة ، وقيل رأي الشرابي ، والآخر تحالم. ترله. : ( ولذلك وحده ) أي لكونه بمفى ما يؤول إليه أمركما فإنه المقصود من ا المسؤول عنه ، وليسا المراد ما اتهما به من التسميم كما في الكشل!؟فيحتاج إلى تقدير مضماف ، برهو عاقبة ، وقال أمركما بالخطاب جرياً على ما وقع في النظم ، وقوله قطع الأمر قيل إنه مخصوص به لأنه علم بالوحي ، ؤالمشهور أن الرؤيا تقع كما تعبر وسيأتي ، ولذا قيل الرؤيا علي جناج طائر إذا!ى وقع ، وقوله لكنهما أراد استبانة عاقبة ما لمزل بهما لا يخالف قوله كذبنا لأنهما قالاه له ، ههو يكفي للنكتة مع احتمال الكذب في قولمهما " كذبنا. قوله : ( الظانّ يوصف عليه الصلاة والسلام إن ذكر ذلك عن اجتهاد ) بمقتضى علم التعبير ، وقيل عليه أنّ قوله قضي الأمر ينافيه إلا أن يؤول بأنّ المراد أنه مقتضى علمي ، وما عندي خلافه ، والعلم عند اللّه أو يكو ) حلى أ الظن مستعملاً بمعنى اليقين فإنه ورد بمعنا. كثيراً ، والتعبير به إرخاء " ل!ل!نان ، وتأدّب مع الله ، وقوله فهو ضمير يحود إلى الظانّ أي فالظانّ هو الفتى الناجي لا يوسف عليه الصلاة والسلام إلا إذا جعل الظن بمعنى اليقين ، وهو المناسب للسياق ، وقولها لذكر حالي أي صفتي ، وعلمي بالرؤيا ، وما جرى عليّ. قوله : : ( فأنسى الشرابئ أن يذكره لربه الخ ) قدمه لأنه المناسب لقوله الآتي ، وا!ير بعد أمّة ، ولأنه المناسب لذكر الفاء ، ومقتضى الظاهر على الثاني العكس فإضافة ذكر للمذكور له للملابسة أو هو مضاف للمفعول بتقدير مضاف. قوله : ( أو أنسى يوسف عليه الصلاة والسلام الخ ) وانساء الشيطان ليس من الإغواء في شيء بل ترك الأولى بالنسبة لمقام الخواص الرافعين للأسباب من البين ، وتأييد الحديث له بحسب ظلبره فلا يرد عليه أنه كلا تأييد فيه لإ ، رجاع الضمير ليوسف عليه الصلاة والسلام فإنه لو عاد على الشرابيّ لكان صمدق " الحديث على حاله إذ يكون المعنى لومخليبم يقل أذكرني عند ربك ما لبث في السجن بضع سنين(5/178)
ج5ص179
بمانساء الشرابيّ ذكر ربه. قوله : ( رحم الله أخي يوسف الخ ) ( 1 ) هذا الحديث أخرجه المنذري ، وابن أبي حاتم ،
وابن مردويه بلفظ ما لبث في السجن طول ما لبث ، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى يدلّ على أن لبثه في السجن اثنتا عشرة سنة ، وقوله تعالى فلبث في السجن بضع سنين حينئذ لا ينافيه لأنه يكون بيانا للبثه بعد قوله للشرابيّ لا للمدة كلها لكن الذي صححوه أنّ مدة لبثه كلها سبع سنين ، ولبثه بعد القول سنتان وعلى هذه الرواية قوله في قوله ليسجننه أنه مكث سبع سنين فلا منافاة بينهما كما قيل.
قوله : ( والاستعانة بالعباد في كشف الشدائد الخ ( إشارة إلى أنه كيف أنكر على يوسف الاستعانة بغير الله مع قوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } [ سررة المائدة ، الآية : 2 ] وغيره مما وقع في الأحاديث ، والآيات فأشار إلى أنه أمر محمود أيضا ، ولكن اللائق بخصوص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تركه. قوله : ( لما دنا فرجه الخ ) يعني أنّ رؤيا الملك الأعظم وهو الريان لهذه الرؤيا جعلها الله سببا لتخليصه وعلوّ منزلته الذي قدره له في علمه الأزلي ، والسمان جمع سمينة ، وهي الممتلئة لحما وشحماً وضدها العجاف جمع عجفاء بمعنى مهزولة ، وقوله قد انعقد حبها لأن الخضرة قد تكون قبل الانعقاد ، وهو غير مناسب للمقام. قوله : ) وسبعاً أخر يابسات ) تصريح بكونها سبعأ كالخضر فيكون العدد محذوفا لقيام القرينة عليه قال في الكشاف فإن قلت هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت سبعاً كالخضر قلت الكلام مبنيّ على انصبابه إلى هذا العدد في البفرات السمان والعجاف ، والسنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الآخر السبع ، ويكون قوله ، وأخر يابسات بمعنى وسبعا أخر فإن قلت هل يجوز أن يعطف قوله ، وأخر يابسات على سنبلات خضر فيكون مجرور المحل قلت يؤذي إلى تدافع ، وهو أنّ عطفها على سنبلات خضر يقتضي أن تدخل في حكمها فتكون معها مميزاً للسبع المذكورة ، ولفظ الآخر يقتضي أن تكون غير السبع بيانه أنك تقول عندي سبعة رجال قيام ، وقعود بالجرّ فيصح لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بالقيام ، والقعود على أنّ بعضهم قيام ، وبعضهم قعود فلو قلت عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود تدافع ففسد ، وهو كلام حسن ، وتوضيحه أمّا الأوّل فلأنه يلزم من وصف التمييز وصف المميز ، ولا يلزم من وصف
المميز وصف التمييز فإذا قلت عندي أربعة رجال حسان بالجرّ معناه أربعة من الرجال الحسان فيلزم حسن الأربعة لأنهم بعض الرجال الحسان فإن رفعت حسان فمعناه أربعة من الرجال حسان فليس فيه وصف الرجال بالحسن ، والثاني معناه أنّ أسماء العدد لا تضاف إلى الصفات إلا في الضرورة ، وإنما يجاء بها تابعة لأسماء العدد وورد عليه أصحاب ، وفرسان فأجاب عنه بأنهما جريا مجرى الجوامد ، والثالث أنه إنما امتنع ضخام ونحوه لأنه لا يعلم موصوفه بخلاف ما في الآية الكريمة ، ولذا لم يصرّح به والرابع أنه وصف سبع بعجاف ولم يضف إليه لأن العدد لا يضاف للصفة كما تقدم. قوله : ( قد أدركت ) أي نضجت ، وقوله فالتوت أي التفت عليها حتى علين عليها أي عصرنها حتى أذهبنها ولم يبق منها شيء كما أكلت السمان العجاف ، واليه أشار بقوله ، وإنما استغنى عن بيان حالها أي من عددها ، واذهابها للخضر لأنه يعلم من البقرات ، وحالها لأنها نظيرتها. قوله : ( وأجرى السمان على المميز الخ ) المميز الأوّل بلفظ اسم الفاعل ، والثاني بوزن اسم المفعول ، وحاصله أنه جعل الوصف للتمييز دون العدد المميز فلم يقل سمانا بالنصب لأنّ وصف تمييزه وصف له معنى لكن الفارق المرجح لما في النظم مع تساويهما في المعنى أنه إذا وصف التمييز به كان التمييز بالنوع ، وأذا وصف المميز به كان التمييز بالجنس ولا شك أنّ الأوّل أولى ، وأبلغ لاشتمال النوع على الجنس فهو أزيد في رفع الإبهام المقصود من التمييز وقوله لأنّ التمييز بها أي لأنّ كمال التمييز حاصل بها. قوله : ( ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التمييز بها مجرّدا عن الموصوف فإنه لبيان الجنس ) يعني لم يقل سبع عجاف بالإضافة ، وجعله صفة للتمييز المقدر على قياس ما قبله لأنّ التمييز لبيان الجنس ، والحقيقة والوصف لا يدل عليه بلى على شيء ماله حال وصفة فلذا ذكروا أنّ التمييز يكون باسم الجنس الجامد ، ولا يكون بالوصف المشتق في فصيح الكلام فتقول عندي ثلاثة قرشيون ، ولا تقول قرشيين بالإضافة ، واعترض! عليه بأنّ الأصل في العدد(5/179)
ج5ص180
التمييز بالإضافة فإذا وصف السبع فلا بد من تقدير المضاف إليه وكل واحد من الوصف وتقدير المضاف إليه خلاف الأصل أمّا إذا أضيف كانت الصفة قائمة مقام الموصوف فقولنا سبع عجاف في قوّة قولنا سبع بقرات عجاف فالتمييز المطلوب حاصل بالإضافة إلى الصفة لقيامها مقام الموصوف ولا يجوز سبع بقرات عجاف ، ويجوز سبع عجاف ، وإنما لم يضف لأنه قائم مقام البقرات ، وهي موصوفة بعجاف فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وهو غير فصيح ، وقيل هب أنّ الأصل في العدد التمييز بالإضافة لكن لما سبق ذكر سبع بقرات سمان تبين أنّ السبع العجاف بقرات فهذا السبع مميز بما تقدم فقد حصل التمييز بالإضافة فلو أضيف إلى العجاف لكان العجاف قائما مقام البقرات في التمييز فيكون التمييز بالوصف ، وهو خلاف الأصل وافا أنّ
السبع قائم مقام البقرات فإنما يكون إذا وصف بالعجاف أما إذا أضيف بكون العجاف قائمة مقام البقرات فلا يلزم إضافة الموصوف إلى الصفة ، وفيه تأمّل فقوله وصف السبع يعني لم يضف إليه ، وقوله مجرّدا عن الموصوف ، وهو بقرات للاستغناء عنه وقوله فإنه لبيان الجنس مر تقييد.. قوله : ( وقياسه صف الخ ) أي القياس فيه ذلك كحمراء ، وحمر لكنه حمل على سمان لأئه نقيضه ، ومن دأبهم حمل ا!نقيض كما يحمل النظير على النظير ، والعجف شذة الهزال. قوله : " ن كنتم عالمين بعبارة الوؤيا ) أي بتفسيرها ، وت!ويلها ، ومنه إطلاق العبارة على اللفظ لدلالته على المعنى ، وتفسيره له ، وقوله عبروها بالتشديد جرى على المشهور ، وان كان الفصيح خلافه كما سياتي ، ولما كان! من العبور ، وهو المجاوزة بين المناسبة بينهما بأنّ فيها انتقالاً ، وعبوراً من الصور الخيالية الى المعاتي النفسانية كما مرّ تحقيقه قال الراغب : أصل العبر تجاوز صن حال إلى حال ، وأمّا العبور فصختص بتجاوز الماء إمّا بسباحة أو في سفينة أو على بعير أو قنطرة ، ومنه عبر النهر لجانبه ، وقيل عابر سبيل ، وأمّا العبارة فهي مختصة بالكلام العابر من لسان المتكلم إلى سمع السامع. قوله : ( وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عيرتها تعبيرا ) يعني ال!تخفيف أقوى ، وأعرف عند أهل اللغة من التشديد ، وكذا المعروف عابر لا معبر ق!ل الزحخشريّ عبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات ، ورأيتهم ينكرون عبرت بالتشديد ، والتعبير ، والمعبر وقد حرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الإعراب ، وهو : رأيت رؤيا ثم عبرتها وكنت للأحلام عبارا
قال هما لغتان جمعهما الشاعر ، ونقله المبرد فعلم منه أنه يقال عبر بالتخفيف وعبر بالتشديد فلا عبرة بمن أنكر التشديد لكن التخفيف لغة القرآن الفصيحة ، وقل من ذكر. من أهل اللغة. قوله : ( واللام للبيان أو لتقوية العامل الخ ا لما كان عبر متعدياً بنفسه ، 1 وقد اقترن هنا باللام أوّله بثلاثة أوجه الأوّل أنه ليس صلة له بل هو متعلق بمحذوف ، والمقصود به البيان كأنه لما قيل تعبرون قيل لأيّ شيء قاك للرّؤيا كما في سقيا لك لكن تقديم البيان على المبين لا يخلو من شيء ، والثاني أنه لتقدمه ضعف عامله فزيدت فيه لام التقوية وهي تدخل على المعمول إذا تقدم وعلى معمول غير الفعل إذا تأخر كما قرّره النحاة أو ضمن معنى فعل قاصر ، والانتداب افتعال من ندبه للأمر ، إذا دعاه فافتدب له أي أجاب فهو مطاوع له. قوله : ( أي هذه
أضغاث أحلام الخ ) ني الكشاف أضغاث أحلام تخاليطها ، وأبطيلها ، وما يكبرن منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان ، وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط النبات ، وحزم الواحد ضغث فاستعيرت لذلك والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام ، والمعنى هي أضغاث أحلام ، وأوردوا عليه أنّ الأضغاث إذا استعيرت للأحلام الباطلة ، والأحلام مذكرة ، ولفظ هي المقدر عبارة عن رؤيا مخصوصة فقد ذكر المستعار له ، والمستعار وهو مانع من الاستعارة على الصحيح عندهم ، ولنا في تقريره وجهان الأوّل أنه يريد أنّ حقيقة الأضغاث أخلاط النبات فشبه به التخاليط ، والأباطيل مطلقاً سواء كانت أحلاما أو غيرها ويشهد له قول الصحاح ، والأساس وضغث الحديث خلطه ، ثم أريد هنا بواسطة الإضافة أباطيل مخصوصة فطرفا الاستعارة أخلاط النبات ، والأباطيل الملفقات فالأحلام ، رؤيا الملك خارجان عنهما فلا(5/180)
ج5ص181
يضرّ ذكرهما كما إذا قلت رأيت أسد قريش فهو قرينة أو تجريد فقوله تخاليطها تفسير له بعد التخصيص وقوله فاستعيرت لذلك إشارة إلى التخاليط الثاني أنّ الأضغاث استعيرت للتخاليط الواقعة في الرؤيا الواحدة فهو أجزاؤها لا عينها فالمستعار منه حزم النبات ، والمستعار له أجزاء الرؤيا فهذا كما إذا استعرت الورد للخدّ ثم قلت شممت ورد هند مثلاً فلا يقال إنه ذكر فيه الطرفان قال في الفرائد : أضغاث ا لأحلام مستعارة لما ذكر ، وهي تخاليطها ، وأباطيلها ، وهي قد تحقق في رؤيا واحدة ، وقد وقع للشراح ، وأرباب الحواشي هنا أجوبة غير منتجة منها أنّ المراد بالاستعارة معناها اللغوي فلا يضرّ كونه من قبيل لجين الماء ، وهو مع تعسفه : يردّه قوله في الأساس ، ومن المجاز أضغاث أحلام ، وهو ما التبس منها ، وضغث الحديث خلطه لأنّ المتبادر منه المجاز المتعارف وإن كان يطلقه على غيره فيه ، ومنها أنّ الأحلام وان تخصصت بالباطلة فالمراد بها هنا مطلق المنامات والمستعار له الأحلام الباطلة ، وهي مخصوصة ، والمذكور هنا المطلق وليس أحد طرفيها قال العلامة فإن قلت شرط الاستعارة أن لا يكون المشبه مذكورا ، ولا في حكم المذكور ، والتقدير كما ذكرت هي أضغاث أحلام فلا يكون استعارة قلت هذه والاستعارة ليست استعارة أضغاث الأحلام للمنامات بل استعارة الأضغاث لأباطيل المنامات ، وتخاليطها ، وهي غير مذكورة ، والحلم بضم اللام ، وسكونها والرؤيا بمعنى واحد ، وهو ما يراه النائم في النوم هذا بحسب الأمر الأعمّ كما في أضغاث أحلام فإنّ المراد بها المنامات أعم من أن تكون باطلة أولا إذ الأضغاث هي الأباطيل مضافة إلى الأحلام بمعنى من ، وقد تخصص !الرؤيا بالمنام الحق ، والحلم بالمنام الباطل اهـ ، وهذا وان سلم أنّ ذكر المشبه بأمر أعم لا ينافي الاستعارة لا تسلم صحته هنا لأنّ المبتدأ المقدّر رؤيا مخصوصة فقد وقع فيما فرّ منه على أنّ إضافة ة العام إلى الخاص لا تخلو من الكدر ، إذ المعهود عكسها فإن أراد أنّ الضمير راجع إلى الرؤيا من غير اعتبار كونها مخلطة ، وباطلة كما قالوه في نهاره صائم إذا جعلا مجازا من أنّ ذكر الطرفين مطلقاً لا ينافي الاستعارة بل إذا كان
على وجه ينبئ عن التشبيه سواء كان بالحمل كزيد أسد أو الإضمافة كلجين الماء على أنّ المشبه هنا هو شخص صائم مطلقا ، والضمير لفلان من غير اعتبار كونه صائماً وهو محل كلام لكن العلامة في تفسير قوله في مقام أمين في سورة الدخان أشار إلى أنّ ذكر الأعم لا ينافي الاستعارة فانظره ، وقد أورد على المصنف رحمه الله ما أورد على الزمخشري ، وأجاب عنه المحشي بما ذكر ففيه ما فيه. قوله : ( وإنما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان ( في الكشاف أنه كما يقال فلان يركب الخيل ، ويلبس عمائم الخز لمن لا يركب إلا فرسا واحداً ، وما له إلا عمامة فردة تزيدا في الوصف فهؤلاء أيضاً تزيدوا في وصف الحلم بالبطلان فجعلوه أضغاث أحلام ، وأباطيل ، وفي الفرائد لما كانت أضغاث الأحلام مستعارة لما ذكر ، وهي تخاليطها وأباطيلها ، وهي قد تتحقق في رؤيا واحدة إذا كانت مركبة من أشياء كل واحد منها حلم فكانت أحلاما فلا افتقار إلى ما ذكره من التكلف ، وهو كلام واه وان استحسنه الشارح الطيبي نعم ليس هذا من إطلاق الجمع على الواحد لوجود ذلك في هذا الجنس إذ الإضافة على معنى من ، وقد أشار إليه صاحب الكشف في سورة آل عمران ، واعلم أنّ الرضي قال في شرح الشافية إن جمع القلة ليس بأصل في الجمع لأنه لا يذكر إلا حيث يراد بيان القلة فلا يستعمل لمجرّد الجمعية ، والجنسية كما يستعمل له جمع الكثرة يقال فلان حسن الثياب في معنى حسن الثوب ، ولا يحسن حسن الأثواب ، وكم عندك من الثوب أو من الثياب ، ولا يحسن من الأثواب أص ، وقد ذكره الشريف رحمه الله في شرح المفتاح ، وهو مخالف لما ذكروه هنا فتأمّله ، وقوله أو لتضمنه أشياء مختلفة يعني أنّ الأضغاث بمعنى التخاليط ، وهي تقع في الرؤيا الواحدة ، وأضافها للأحلام لا على أنها أحلام حتى يلزم إطلاق الجمع على الواحد بل على أنها من جنسها ، وهذا ما ذكره صاحب الفرائد. قوله : ( يريدون بالأحلام المنامات الباطلة ) الرؤيا ، والحلم عبارة عما يراه النائم لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير ، والشيء الحسن وغلب الحلم على خلافه كما في الآية " وفي الحديث الرؤبا من الله والحلم من الشيطان " قال التوربشتي(5/181)
ج5ص182
الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا ، والتفريق من الاصطلاحات التي ستها
الشارع للفصل بين الحق ، والباطل كأنه كره أن يسمى ما كان من الله ، وما كان من الشيطان باسم واحد فجعل الرؤيا عبارة عن الصالح منها لما في الرؤيا من الدلالة على المشاهدة بالبصر أو البصيرة ، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان لأنّ أصل الكلمة لم تستعمل إلا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة مما لا حقيقة له وفي كتاب الأحكام للجصاص هذه الرؤيا كانت صحيحة لا أضغاثاً لتعبير يوسف عليه الصلاة والسلام لها بالخصب ، والجدب ، وهذا يبطل قول من يقول إن الرؤيا تقع على أوّل ما تعبر به لأنهم قالوا إنها أضغاث أحلام ، ولم تكن كذلك فدل على فساد القول بأنها على جناح طائر إذا فسرت وقعت ا هـ ، وفيه نظر لما رواه أبو داود ، وابن ماجه عن أبي رزين : " الرؤيا على جناج طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت ولا تقصها إلا على واذ أو ذي رأي " ا هـ فتفسيره بما ذكر لأنه مخصوص به في عرف الشرع ، وقيل لما كان المناسب لما تقدم في الجواب أن يقال ، وما نحن بتأويل الأضغاث بعالمين حتى يكون عذراً لهم في جهلهم بتأويلها كأنه قيل هذه رؤيا باطلة ، وكل رؤيا كذلك لا يعلم تأويلها أي لا تأويل لها حتى نعلمه على حذ قوله :
علي لا حب لا يهتدي بمناره
حمل تعريف الأحلام على العهد ، وقوله كأنه مقدمة أي كبرى للقياس الذي ذكرناه ، ولم يجعله للجنس كما في الكشاف حتى يكون المعنى على نفي علمهم بتأويل المنامات لئلا يضيع قوله أضغاث أحلام إذ لا دخل له في ألعذر إلا أن يقال المقصود إزالة خوف الملك من تلك الرؤيا وقد يجعل هذا جوابا مستقلاً ، والحاصل أنه يحتمل أن يكون نفيا للعلم بالرؤيا مطلقأ ، وأن يكون نفيا للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصة. قوله : ( وتذكر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد جماعة من الزمان الخ ( يعني أنّ أمة بلفظها المعروف بمعنى مذة ، وطائفة من الزمان ، وان غلب استعماله في الناس ، وقرأ العقيلي أمة بكسر الهمزة ، وتشديد الميم ، ومعناها نعمة بعد نعمة ، وهو خلاصه من القتل ، والسجن ، وانعام ملكه عليه كقوله :
ثم بعدالفلاح والملك والأفة وارتهم هناك القبور
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما ، وغيره أمه بفتح الهمزة والميم المخففة وهاء منونة من
الأمة ، وهو النسيان وروي عن مجاهد وعكرمة في هذه سكون الميم فلا عبرة بمن أنكرها. قوله : . ( والجملة اعتراض ) أقي / جمملة وادّكر أي تذكر ، وهذا هو الظاهر ، وجوّز فيها الحالية بتقدير قد والعطف على الصلة ، وتذكره ليوسف عليه الصلاة والصلام تذكر علمه بالرؤيا أو ما وصاه به من قوله اذكرني عند ربك ، وقيل إنه لم يذكره مخافة عليه لدينه ، وهو مخالف للظاهر ، وهذا مناسب لأحد الوجهين في قوله فأنساه الشيطان كما مرّ. قوله : ( أنا أنبئكم بتأويله ) أي / أخبركم بمن عنده تأويله أو أثلكم عليه أو أخبركم إذا سألته عنه ، وقوله وعرف صدقه هذا يدل على أنهما لم يكذبا على يوسف في منامهما ، وأنهما كذبا في قولهما كذبنا إن ثبت ، ولا يقال صديق إلا لمن شوهد منه الصدق مراراً لأنه صيغة مبالغة ، وقوله أفتنا في سبع الخ. لم يغير لفظ الملك لأنّ التعبير يكون على وفقه كما بينوه ، وقوله إذ قيل الخ تعليل للوجه الثاني ، وقوله تأويلها الخ الأوّل يناسب الوجه الأوّل في تفسير تذكره ، والثاني الثاني ، ومكانك مجاز بمعنى قدرك ، ، ورفعتك عند اللّه. قوله : ) وإنما لم يبت الكلام ) أي لم يقطع به بل قال لعلي ، ولعلهم لما ذكر ، واخترم بصيغة المجهول من اخترمه الموت إذا قطع عمره مفاجأة ، وقوله جازماً من الرجوع أي واثقا منه ، وقيل إنه لما رأى عجز الناس خاف عجزه أيضاً وعدم وثوقه بعلمهم إمّا لعدم فهمهم أو لعدم اعتمادهم. قوله : ( أي على عادتكم المستمرّة الخ ) أصل معنى الدأب التعب ، ويكنى به عن العادة المستمرّة لأنها تنشأ من مدإومة العمل اللازم له التعب فهو إمّ حال بمعنى دائبين أو ذوي دأب ، وأفرد لأنّ المصدر الأصل فيه الأفراد أو مفعول مطلق لفعل مقدر ، وجملته حالية أيضا. قوله : ( وقيل تزرعون أمر الخ ) وفي نسخة قيل بدون الواو ، والظاهر الأوّل لأنه عطف على ما قبله بحمسب المعنى لأنه في قوّة ، وهو خبر ، وعلى هذه فهو مستأنف ، ولا بعد فيه أيضا ، والدال على أنه خبر لفظا ، ومعنى قوله على عادتكم الخ فإن المعتاد لا يحتاج إلى الأمر به ، وقائله الزمخشريّ ، ووجه المبالغة فيه(5/182)
ج5ص183
أنه بولغ في إيجاب إيجاده حتى كأنه وقع وأخبر عنه ، وأيده بأنّ قوله فذروه يناسب كون الأوّل أمراً مثله قيل يعني
أنّ الفاء جوابية فينبعي أن يكون تزرعونلأ في ! معنى الأمر حتى يكون خما ، حصدتم جواباً له ، وه!و وهم منه لأنّ عبارة الكشاف ، والدليل على كونه في معنى الأمر قوله فذروه ، وما حصدتم جمله شرطية لا يصح أن تكون جوابا للأمر ، وكون الأمر الغير الصريح يكون له جوإب مصدر بالفاء لا وجه له ، ووجه تمريضه أنه لا يناسب المقام ، وكونه تعبيرا للرّؤيا الدالة على وقوع الخصب بالزراعة ، والأمر بتركه في سنبله لا يدل على أنّ تزرعون بمعنى ازرعوا ا بل تزرعون إخبار بالغيب عما يكون منهم من توالي الزرع سبع ستين ، وأمّا ذروه فأمر لهم بما ينبغي أدط يفعلوه ، وهم يزرعون على عادتهم من غير حاجة إلى الأمر بخلاف تركه في سنبله فإنه غير معتاد. قوله : ( وهو على الأوّل نصيحة خارجة عن العباوة ) أي على كونه خبرا هو زائد على تأويله للرّؤيا لنصحهم ، وبيان ما يليق بهم ، وفيه إشارة إلى دخع ما تمسك به الزمخشريّ من. أنه لو لم يؤوّل بالأمر لزم عطف الإنشاء على الخبر لأنّ ما إمّا شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط ، وعلى كل حال فلكون الجزاء أمراً تكون الجملة إنثائية معطوفة على الخبرية بأنها ليست من جملة التعبير بل جملة مستانفة لنصحهم أو هي جواب شرط مقدر أي إن زرعتم فما حصدتم الخ. مع احتماله للعكس بأن يكون ذروه بمعنى تذرونه ، وأبرز في صورة الأمر لأنه بإرشاده فكأنه أمرهم به مع أنه يعارضه قوله ، ثم يأتي فإنه يقتضي عدم تأويله ، وفيه نظر لأنه يقتضي أنّ الشرطية التي جوابها إنشائيّ إنشائية ، وهو غير مسلم. قوله : ( خارجة الخ ) قيل ، وعلى الثاني؟ غير خارجة عنها فإنّ أكل السبع العجاف السبع السمان ، وغلبة السنبلات اليابسات الخضر دال على أنهم يأكلون في السنين المجدية ما حصل في السنين المخصبة ، وطريق بقائه تعلموه من يوسف عليه الصلاة والسلام فبقي لهم في تلك المدّة ، وقيل إنه على التقدير الثاني قوله تزرعون بمعنى ازرعوا خارج عن العبارة أيضا ، والتحقيق ما في الكشف من أن تزرعون على ظاهره لأنه تاويل للمنام بدليل قوله يأتي ، وقوله فما حصدتم فذروه اعترإض اهتماما منه بشأنهم قبل تتميم التأويل وفيه ما يؤكد السابق ، واللاحق فهو يامرهم بما فيه صلاحهم ، وهذا هو الذي يلائم النظم المعجز اهـ. قوله : ( فأسند إليهق على المجاز تطبيقا الخ ) يعني لما عبر البقرات بالسنين نسب اكل إلى السنين كما رأى في الواقعة البقرات ياكلن حتى يحصل التطابق بين المعبر ، وهو المرئيّ في المنام ، والمعبر به ، وهو تأويله ولا يتعين المجاز لأنه يؤكل فيها فيكون كقوله : { النَّهَارَ مُبْصِرًا } [ يونس : 67 ] الجواز أن يكون مشاكلة حينئذ ، وقوله سبع شداد أي سبع سنين حذف التمييز لدلالة الأوّل عليه. قوله : ( تحرزون لبذور الزراعة ( البزر بالزاي ، والبذر بالذال بمعنى كما في العين ، وهو الحب الذي يجعل في الأرض لينبت وفرق ابن دريد
بينهما على ما في المجمل فقال البذر في البقول والبزر خلافه وجمعه بزور. قوله : ( يمطرون ( بصيغة المجهول من الثلاثي أو المزيد وكون المزيد في العذاب ليس بكليّ ، وقوله من الغيث فهو ثلاثيّ يائيّ ، ومنه قول الإعرابية غثنا ما شئنا وقول بعضهم أذى البراغيث إذا البراغيث ، وإذا كان من الغوث فهو واويّ ربافي. قوله : ( ما يعصر كالعنب والزيتون الخ ) يعني أنه من العصر بمعناه المعروف فهو إمّا عصر الثمار التي من شأنها أن تعصر وترك مفعوله يدلط على شموله ، وعمومه ، ولذا قدّر المصنف رحمه الله مفعوله بقوله ما يعصر أو هو بمعنى الحلب لأنّ فيه عصر الضرع ليخرج الدز ، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي لأنه الذي خاطبه وما عداه غيب وكذا ما قبله من قوله يغاث الناس فكان الظاهر تعصر ، ولم يذكر الالتفات في قوله تزرعون مع أنّ الظاهر أنه التفات أيضا لكنه جرى على أنه ليس التفاتا لأنه لما أشركهم معه في التكلم في قوله أفتنا جعلهم حاضرين فجرى الخطاب على ظاهره من غير التفات ، وهو المناسب. قوله : ( وقرئ على بناء المفعول من عصره إذا أنجاه ( أي ينجيهم الله والعصر يرد بمعنى النجاة ومنه قوله :
لوبغيرالماءحلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري
واذا كان المبنيّ للفاعل منه فهو بمعنى ينجي بعضهم بعضاً ، ومنه خبريكون لا المبني
على أنّ اسمها ضمير راجع(5/183)
ج5ص184
إلى يعصرون لما فيه من التكلف ، وقوله يغيثهم الله معنى يغاث الناس ، ويغيث بعضهم بعضاً معنى ، وفيه يعصرون على البناء للفاعل فيكون كل منهما للإغاثة ، والتغاير بينهما بما ذكر ، ويحتمل أن يكون الأوّل من الغيث بفتح ياء يغيثهم في عبارته ، وقيل يغيثهم الله تفسير للمبنيّ للمفعول ، وما بعده تفسير للمبنيّ للفاعل.
قوله : ) أو من أعصرت السحابة عليهم ) أي حان وقت عصر الرياج لها لتمطر فعلى صلتها كما في عصرت الليمون على الطعام فحذفت على ، وأوصل الفعل بنفسه أو تضمن معنى مطر فيتعدّى ، وقد ذكره الجوهرقي في معنى عصر ، وظاهره أنه موضوع له فلا يحتاج إلى التضمين عليه ، وقوله معنى المطر بسكون الطاء مصدر مطره. قوله : ( ولعله علم ذلك بالوحي (
إنما ذكر هذا لأنّ الرؤياً تدل على سبع مخصبة ، وسبع مجدبة ولا دلالة فيها على العام الثامن ، وإنما قدم كونه بالوحي لرجحانه لأنّ تفصيل ما فيه يقتضي ذلك ، ولو كان جاريا على العادة أو السنة الإلهية أجمله ، وحصر الجدب يقتضي تغيره بعدها بخصب ما لا على ما ذكره خصوصا إغاثة بعضهم لبعض لأنها لا تعلم إلا بالوحي ، ولذلك اقتصر عليه في الكشاف. قوله : ( تأنى في الخروج ) أي توقف ، وهو تفعل من أنى الشيء إذا جاء أوانه وزمانه ، وحقيقته انتظار حينه ، وأوانه وقوله لتظهر براءة ساحتة أي قبل اتصاله بالملك الداعي للحسد فلذلك اهتم بتقديمه فلا يقال هو يحصل بتأخيره أيضا. قوله : ( وفيه دليل على أنه ينبغي الخ ) الأوّل من صريح النظم لأنّ المبادرة إليه وتقديمه على خلاصه اجتهاد فيه ، والثاني لازم له ، وقال ينبغي لأنه دلالة على الوجوب فيها ، ومواقعها بالعين أو الفاء. قوله : ( وعن النبئ صلى الله عليه وسلم الخ ) هذا الحديث أخرجه الطبراني ، وابن راهويه وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود رضي الله عنه ، ووقع في الصحيحين مختصرا ، وأوّله لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره ، واللّه يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف ، والسمان ، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك ، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة ، وبادرتهم الباب ، ولما ابتغيت العذر إن كان حليماً ذا أناة قال البغوفي وصفه بالأناة ، والصبر حيث لم يبادر إلى الخروج حين جاءه الرسول بالعفو عنه مع طول سجنه بل قال ارجع الخ إقامة للحجة على ظلمه ، وإنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا منه لا أنه لو كان مكانه بادر ، وعجل ، والا فحلمه صلى الله عليه وسلم ، وتحمله معلوم ، وقوله والله يغفر له لتوقيره ، وتوقير حرمته كما يقال عفا اللّه عنك ما جوابك في كذا ، وقيل إنه إشارة إلى ترك العزيمة بالرخصة ، وهو تقديم حق نفسه على تبليغ التوحيد ، وقيل إنّ ما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام صبر عظيم ، وما رآه النبي صلى الله عليه وسلم رأى آخر ، وهو الأخذ بالحزم ، وانتهاز الفرصة فإنه ربما عن أمر منع من إخراجه فهذا تعليم للناس. قوله : ( وإنما قال فاسأله ما بال النسوة الخ ) يعني أنّ السؤال عن
شيء ما يهج الإنسان ، ويحرّكه لاليحث عنه لأنه يأنف من جهله ، وعدم علمه به ، ولو قال سله ب!ن ايقتش لكان تهييجا عن الفحص عنه ، وفيه جراءة عليه فربما امتنع منه ، ولم يلعخت إليه ، وقوله وتحقيق الحال إشارة إلى أنّ البال بمعنى الأقى ، والحال ، وترك ذكر امرأة العزيز تأدّباً ، وتكرّماً ، ولتا حملها ذلك على الاعتراف بتزامته ، وبراءة ساحته ، وضمّ نون النسوة تقدّم بيانه ، واعلم أنّ من جرّ إليه هذا شبع الخمس النسوة ، والعزيز ، وامرأته ، وأنّ المرتي في الوافعة سبعة أشياء ، وحبسه في : السجن سبع سنين على الصحيح فكانت سنو الجدب سبعاً جزاء على سني مكثه في السجن فتنبه لذلك. قوله : ( وفيه تعظيم كيدمن ) قال الزمخشريّ أراد أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد غوره أو استشهد بعلبم-يمثه عالى أنهن كدنه ، وأنه بريء مما قرف به أو أراد الوعيد لهن أي هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه فذكر وجوهاً ثلانة ، والحصر من تخصيصه بالذكر لصلوحه لإفادت عند بعضهم أو من اقتضاء المقام لأنه حمله على المسمؤال ، ثم أضاف علمه إلى أ الله فدلّ علي عظمه ، هأنّ كنهه غير مأمول الوصو! إليه لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، وهذا هو الوجه ، وفيه تشويق وبعث على معرفته فهو تتميم لقوله اسأله الخ. والكيد علي هذا ما كدنه به ، وعلى ا الماني محو الاستشهاد بالله على أنهن كدنه ، وأنه بريء(5/184)
ج5ص185
فيكون تذييلاً لمما حمله على التعرف ل!ميين نله ألبراءة فإنّ اللّه يعلم ذلك وأنه كيد منهت فيكون بريئا لا محالة و!يد يمعنى الجدل فكأنه كأنه قال الله شاهد ، وعلى الثالث يحتملهما ، والمراد حث الملك على ألغضب والانتقام له لي!لاعم ا الكلام لكنه لا يطابق كرمه فالوجه هو الأوّل ، ثم الثاني كذا حقق في الكشف ، وهذا مراد المصنف رحمه الله تعالى لكن الواو فيه بمعنى أو أو على ظاهرها. قوله : ( قال الملك الخ ) الخطب الأمر العظيم لأنه مخاطب به أو يخطب له كما في الدرّ المصون ، والمراودة وحلاص لله تقدّم تحقيقهحا ، وقوله تنزيه له ويلزمه تنزبه يوسف عليه الصلاة والسلام كما مرّ قحقيقه مما نقلناه عن شرح التسهيل. قوله : ( ثبت واستقر الخ ) الآدط صتعلق بحصحص ، وحصحص معناه ظهر بعد خفاء كما قاله الخليل ، وهو من الحصة أي لجانت حصة الحق من حصة الباطل ، والمراد تميز ، وقيل معناه ثبت من حصحص البعير إذا برك ، وحص وحصحص ككف ، وكفكف وحصه قطعه ، ومنه الحصة ، والقطع إمّا بالمباشرة أو الحكم ، والمبارك بفتح الميم جمع مبرك ، وهو ما يبرك به ، ويلصق بالأرض ، وقوله ليناخ من قولهم
أنخت الجمل أبركته ، ويقال أيضا أناخ الجمل نفسه أي برك ، وقال ابن الأعرابي يقال أناخ ، ولا يقال ناخ ، وكذا قال في الأفعال. قوله :
( فحصحص في صتم الصفاثفناته وناءبسلمى نوأة ثم صمما )
هو من قصيدة لحميد بن ثور الهلالي ، والضمير المستتر في حصحص للبعير ، وثفناته مباركة الخمس المعروفة وصمّ الصفا جمع أصمّ ، وهو الصلب من الحجارة ، والصفا الحجارة لا اسم موضع كما توهم ، وقد وقع في نسخة الحصا ، وناء بمعنى أثقل ونهض ، والتصميم المضي في الأمر يعني أنها ركبت عليه ، وقام بها ومضى في سبيله ، وألف صمم للإطلاق ، والإشباع والمراد تحزنه على فراق محبوبته. قوله تعالى : ( { أَنَاْ رَاوَدتُّهُ } الخ ( قالته بعد اعترافها تأكيدا لنزاهته ، وقولها إنه لمن الصادقين اعترفت به قبل السؤال توخيا لمقابلة الاعتراف بالعفو ، وقيل إنها لما تناهت في حبه لم تنال بانتهاك سترها وظهور سرّها ، وقوله في قوله متعلق بمقدر أي صادق في قوله بعد جعله من الصادقين فهو إثبات له بطريق برهانيئ ، ولا يتعلق بالصادقين لفساده. قوله : ( قاله يوسف عليه الصلاة والسلام لما عاد إليه الرسول الخ ) أي أنه من قول يوسف عليه الصلاة والسلام لا من قول امرأة العزيز ، وذلك إشارة إلى التثبت ، وما تلاه من القصة أجمع ، ولذلك جمع الخائنين أي ذلك التثبت لظهور البراءة فتعين أنه من كلامه ، وأنه فذلكة لما مرّ من طهارة ذيله ، وبراءة ساحته ، وفيه إيجاز أي فرجع فأنهى مقاله عليه الصلاة والسلام فأحضرهن سائلاً ما خطبكن ، ورجع إليه الرسول قائلا فتش الملك عن كنه الأمر فبان له جلية الحال من عصمتك فقال عليه الصلاة والسلام " ذلك ليعلم " الخ. أي لم يكن مني خيانة ، وفيه من كثرة التقدير ما يبعده ، وقوله لما عاد ردّ لأنه من كلامه متصل بقوله فاسأله ، وقيل إنه من قول امرأة العزيز داخل تحت قوله قالت بدليل الاتصال الصوري لا قوله إذ لم يكن حاضرا وقت سؤال الملك النسوة ، وهو الذي وجهه الزمخشري. قوله : اليعلم العزيز ) أي ليظهر علمه بذلك إذ كان علمه حين شهد شاهد من أهله وقيل الضمير للملك أي ليعلم الملك أني لم أخن العزيز أو لم أخن الملك لأن خيانة وزيره خيانة له. قوله : ) بظهر الغيب الخ ( هذا تفسير له على الوجوه ، وظهر الغيب استعارة ، والباء إمّا للملابسة أو للظرفية ، وعلى الأوّل هو إمّا حال من الفاعل أي وأنا غائب عنه أو من المفعول أي ، وهو غائب عني ، وهما متلازمان ،
وجوّز ابن المنير كونه حالاً منهما وفيه نظر وعلى الظرفية فهو ظرف لغو ويحتمل الحالية أيضاً. قوله : ( لا ينفذه ولا يسدّده الخ ) فهداية الكيد مجاز عن تنفيذه ، وعلى الوجه الثاني المراد لا يهدي الخائنين بسبب كيدهم فأوقع الهداية المنفية على الكيد ، وهي واقعة عليهم تجوّزاً للمبالغة لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى ، والمراد بالفعل الهداية لأنها وان كانت منفية لكن النفي يقتضي تصوّر الإثبات ، وتقديره فلا يرد أنه ليس فيه إيقاع بل نفي ، وقوله بكيدهم متعلق بيهدي ، وتعليل لنفي الهداية ، وجوّز تعلقه بالخائنين وأنّ فيه تنبيهاً على أنه يهدي كيد من لم يقصد به الخيانة ككيد يوسف بإخوته عليهم الصلاة والسلام. قوله : ( وفيه تعريض براعيل في خيانتها ( أي لو كنت خائنا ما نفذ كيدي ، وسدده ، وأراد بكيده فحصه(5/185)
ج5ص186
عن الحال ، وسماه كيداً مشاكلة كما في الكشف ، وفيه نظر ، وقوله وتوكيد لأمانته الخ بالواو دون أو إذ لا مانع من اجتماع التعريض ، والتوكيد ، وقوله تنبيها على أنه الخ وقيل فيه إشارة إلى أن عدم التعرّض لم يكن لعدم الميل الطبيعي بل لخوف الله. قوله : ( { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي } ) أي أزكيها فمعنى لم أخنه أي بفعل قبيح. قوله : ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( ذكر هذا في كثير من التفاسير فإمّا أن يراد الميل الطبيعي كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى بعده أو أنه صغيرة تجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل النبوّة ، وقوله قال له جبريل عليه الصلاة والسلام أو ملك آخر. قوله : ( من حيث إنها بالطبع مائلة الخ ( يعني الأمر مجاز عن الهمّ أي القصد ، والعزم الذي يتبعه استعمال القوى ، والجوارج غالبا ، وهو إشارة لوجه الشبه فإنّ في الأمر استعمالاً لها بالقول ، وفي الهمّ استعمال لها بالحمل عليه ، وكونه في كل الأوقات مأخوذ من صيغة المبالغة. قوله : ( كل الأوقات ) إشارة إلى أنه استثناء من أعنم الأوقات ، وما ظرفية مصدرية زمانية فهو منصوب على الظرفية لا على الاستثناء كما توهم لكن فيه التفريغ في الإثبات أي هي أمّارة بالسوء في كل الأوقات إلا في وقت مخصوص ، وهو وقت رحمة اللّه. قوله : ( أو إلا ما رحمه اللّه ) فالاستثناء من النفس أو من الضمير المستتر في إمارة أو من مفعوله المحذوف أي أمّ رة صاحبها إلا ما رحمه اللّه ، وفيه وقوع ما على ما يعقل ، وهو خلاف الظاهر ، ولذا أخره وقوله من النفوس ظاهر في الأوّل ، وأورد على الوجه الأوّل أن المعنى حينئذ كل نفس أمّارة بالسوء في كل الأوقات إلا وقت رحمته ، والمقصود إخراج نفس
يوسف ، وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وعلى هذا يلزم دخولها في أكثر الأوقات إلا أن يحمل على ما قبل النبوّة بناء على جوازه قبلها أو المراد جنس النفس لا كل واحدة ( قلث ( أمّا الأخير فغير ظاهر لأنّ الاستثناء معيار العموم ، ولا يرد ما ذكر رأساً لأنّ المراد هضم النوع البشري اعترافاً بالعجز لولا العصمة على أن وقت الرحمة قد يعم العمر كله لبعضهم فتأقله. قوله : ) ولكن رحمة ربي الخ ) فكل نفس آمرة بالسوء أي تهمّ به سواء كان مع العزم والتصميم كما في أكثر الناس أو بدونه كما في المعصومين ، وقد أشرنا لتحقيق ذلك قبيله. قوله : ( والمستثنى نفس يوسف عليه الصلاة والسلام ( هذا من جملة المحكي ، وهو على المعنى الثاني ، وأمّا على الأوّل فنفس راعيل ، والمراد الوقت الذي تابت فيه ، وقوله عن ابن كثير في رواية البزي ، ونافع في رواية قالون. قوله : ( يغفر هنم النفس ( أي إن كان ذنبا وهو ناظر إلى كونه من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام ، وكذا قوله يرحم من يشاء بالعصمة ، وفيه إشارة إلى أنها محض لطف من اللّه تعالى ، وقوله أو يغفر للمستغفر ناظر لكونه من قول راعيل أو عام للأقوال. قوله : ) وقال الملك ائتوني الخ ) قال أوّلاً ائتوني به لأجل الرؤيا فلما تبين حاله طلب أن يجعله خالصا لنفسه مختصاً به فلما كلمه أكرمه بقوله إنك اليوم لدينا مكين أمين ، وفاعل كلمه ضمير الملك أو يوسف عليه الصلاة والسلام ، وقوله فلما أتوا الخ يشير إلى أن في الكلام إيجازاً لاقتضائه ما ذكر ، والدهاء بفتح الدال المهملة ، والمد كثرة العقل وجودة سرعة الرأي ، وجددا بضمتين جمع جديد كسرير ، وسرور وقوله من خيره أي خير الملك ، وقوله سلم عليه قيل إنه سلم عليه بالعبرية فقال له ما ذكر ، وقوله فكلمه بها أي بالسبعين ، وقوله فأجلسه أي بعد قص الرؤيا ، وتأويلها وقيل كان قبله ، وأمّا جعله على خزائن الأرض فقيل كان بعد سنة إذ لم يعلقه بمشيئة اللّه ، وقوله وقيل توفي الخ ، وعلى الأوّل ظاهره أنه جعله ملكاً مكانه وقيل عزل قطفير ، وجعله مكانه ، ولما كان من أذى جاره أورثه الله داره أورثه الله منصبه ، وزوجته ،
وتزوّج راعيل على الفور بناء على أنه لم تكن العدة من دينهم ، وقال القرطبي : إنه بعد مدة طويلة. قوله : ( وقيل توفي قطفير الخ ) قال ابن المنير في تفسيره وكان قطفير عنيناً وجمالها فاتنا فكان يصانعها على عنته مع جمالها الفاتن ، ومن العجب ما رواه القصاص أنها كانت عذراء ، وكذا وجدها يوسف عليه الصلاة والسلام عندما أعيد إليها شبابها وتزوّجها بسابقة الكتاب انتهى ، وفيه إشارة إلى رد قول إنها عادت شابة بكرأ إكراما له بعدما كانت ثيباً. قوله : ) ولني أمرها ) إشارة إلى أن على متعلقة بمسؤول مقدر قيل إنه لما كلمه ، وعبر رؤياه قال له ما ترى أيها الصديق قال تزرع في سني الخصب زرعا كثيرأ فإنك لو زرعت فيها على حجر نبت(5/186)
ج5ص187
وتبنى الخزائن ، وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون بعتها فيحصل مال عظيم فقال له من لي بهذا قال اجعلني على خزائن الأرض ، وتحل بكسر الجيم بمعنى تعظم ، وقوله إذا علم قيد لطلب التولية ، والتولي من الكافر ، ومثله السلطان الجائر جائز ، وهو المذكور في كتب الفقه ، وقوله وعن مجاهد فلا يكون فيه دليل على ذلك. قوله : ( وكذلك مكنا الخ ( التمكين إمّا من المكنة بمعنى القدرة أو من المكان يقال مكنه ومكن له ، والمعنى مثل ذلك التمكين ، والأقدار في نفس الملك أو السلطنة أعطيناه القدرة في أرض! مصر أو كما جعلنا لمحبته مكاناً في طلب الملك جعلنا له مقرّآ فيها أو ومثل ذلك الأنعام بتقريبه ، وانجائه وجملة يتبوّأ حال من يوسف عليه الصلاة والسلام ، ومنها متعلق بيتبوّأ وحيث ظرف له ، وقيل مفعول به ، وقيل حال وضمير يشاء ليوسف عليه الصلاة والسلام ، ويجوز أن يكون لله ففيه التفات ، وعلى قراءة ابن كثير لله. قوله : ( في الدنيا والآخرة ) عممه ، وهو الظاهر لقول سفيان المؤمن يثاب على حسناته في
الدنيا ، والآخرة والكافر يعجل له الخير في الدنيا ، وتلا هذه الآية كذا قيل ، ولا دلالة في كلام سفيان رحمه الله عليه لأنه مأخوذ من مجموع الآية ، ولذا ذكره الزمخشريّ أيضا ، وكذا عمم في الدّي بعده بقوله عاجلا ، وآجلا والزمخشريّ خصه بالدنيا ليكون ما بعده مصرحا فيه بأجر الآخرة فيكون تأسيساً ، وأمّا ذكر المتقين فتخصيصهم بالخيرية لا بالأجر مطلقا ، وقيل التخصيص بالذكر لا يقتضي الاختصاص فما قيل إنه لا داعي له لا داعي له ، وقوله لعظمه ، ودوامه متعلق بقوله خير ، وقوله برقابهم بأن يملكهم ، وهو مما كان يصح في شرعهم وقوله فأعتقهم ، والحكمة إظهار قدرته وكرمه ، وانقيادهم بعد ذلك لأمره حتى يخلص إيمانهم ، ويتبعوه فيما يأمرهم به فلا يقال ما الفائدة في تحصيل ذلك المال العظيم ، ثم إضاعته ، والميرة بكسر الميم ، وسكون الياء التحتية ، والراء المهملة طعام يمتاره الإنسان أي يجلبه من بلد إلى بلد أخرى ، وكنعان بلاد معروفة سميت باسم بانيها ، وهو من أولاد نوح عليه الصلاة والسلام كما مرّ في سورة هود وذكره توطئة لما بعده من تفسير الآية. قوله : ( أي عرفهم يوسف عليه الصلاة والسلام ولم يعرفوه لطول العهد ) أي إنّ يوسف يرو عرفهم من غير تعرف لعدم المانع منه كما كان لهم لأنهم لم يعرفوه لهذه الأمور ، وقال الحسن رحمه الله ما عرفهم يوسف حتى تعرّفوا له ، وقد كان كثير الفحص عنهم ، وهم لم يعرفوه لأنه عليه الصلاة والسلام أوقفهم موقف ذي الحاجات بعيداً منه ، وكلمهم بالواسطة ، ولم يكتف بطول العهد لاشتراكه معهم فيه ، وقوله ونسيانهم إياه قيل الأظهر أن يقول ، ولم يعرفوه لنسيانهم إياه بطول العهد ، ويجعل النسيان معللاً بطول العهد وما عطف عليه ، والأمر فيه سهل. قوله : ( أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاؤوا لآجله ( قال الراغب : الجهاز ما يعد من متاع وغيره والتجهيز حمل ذلك وبعثه ، وضرب البعير بجهازه إذ ألقاه في رحله ، والركائب جمع ركاب أو ركوبة ، وهي الإبل المعذة للحمل ، والركوب ، والوقر بالكسر الحمل الثقيل ، والجهاز الذي جاؤوا له الطعام والميرة ، والجهاز بالفتح ، والكسر للميت ، والعروس ، والمشافر ما يحتاج إليه. قوله : ( ائتوني بأخ لكم ( لم يقل بأخيكم تنكراً منهم فكأنه لا يعرفه ، ولو أضافه اقتضى معرفته لإشعار الإضافة به ، وقوله روي الخ. قيل يضعفه بهت إخوته بجعلهم جواسيس فلعله بوحي ، والعيون جمع
عين وهو الجاسوس ، وقوله فاقترعوا أي فعلوا القرعة ليتعين من خرجت له لكونه رهينة ، ولم يقل في شمعون ، وكان أحسنهم رأيا كما في الكشاف لأنه ينافي قوله سابقا إن يهوذا أحسنهم رأيا ، وان وفق بينهما ، ومراده من ذكر الرواية بيان سبب طلبه لأخيه منهم ، وما فسر به ائتوني بأخ الآية تغ فيه الزمخشري وغيره ، وقال ابن المنير رحمه الله تعالى إنه غير صحيح لأنه إذا ظنهم جواسيس كيف يطلب منهم واحداً من إخوتهم ، وما في النظم يخالفه ، وأطال فيه ، وليس بشيء لأنهم لما قالوا له أنهم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام طلب أخاهم ، وبه يتضح الحال. قوله : ) ألا ترون الخ ) تحريض لهم على الإتيان به وقوله فلا كيل أي في المرة الأخرى إيعاد لهم على عدم الإتيان به ، وللضيف متعلق بالمنزلين والنزل الضيافة ، وقوله ولا تقربوني إشارة إلى أن الياء محذوفة ، والنون نون الوقاية ، وأنّ المراد منه عدم(5/187)
ج5ص188
دخول دياره ، وقوله معطوف على الجزاء يحتمل عوده إلى الثاني فعلى الأوّل يكون مستأنفا لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر ، ويحتمل عوده إليهما ، والعطف مغتفر فيه لأنّ النهي يقع جزاء ، وأمّا كونه نفيا بمعنى النهي فخلاف الظاهر ، ولا داعي حينئذ لحذف نونه فلذا لم يذكره المصنف رحمه الله تعالى ، وان ذكره في الكشاف وقوله سنجتهد الخ لما مرّ بيانه. قوله : ) ذلك لا نتوانى قيه ) يعني مفعوله ذلك ، وهو إشارة إلى المراودة المفهومة من الفعلى أو الإتيان به فيكون ترقيا إلى الوعد بتحصيله بعد المراودة ، وعبروا بالفاعل الدالّ على تحققه لأنه كما في الكشاف فسر بأنا لقادرون عليه لا نتعايا به أو إنا لفاعلون ذلك لا محالة لا نفزط فيه ولا نتوانى يعني أنه إفا للحال فيكون بمعنى القدرة لأنهم ليسوا بمراودين في الحال ، ولا نتعايا بمعنى لا نعجز ، وامّا بمعنى الاستفبال فيكون تأكيدأ للوعد ، وكلام المصنف رحمه الله تعالى يحتملهما ، ومنهم من خصه بالثاني ، وقيل إن قوله وقال لفتيته قبل تجهيزهم ففيه تقديم ، وتأخير ولا حاجة إليه ، وقوله جمع فتى أي جمع قلة ، وقد مرّ أنه قيل إنه اسم جمع. قوله : اليوافق قوله اجعلوا الخ )
لأنّ الرحال جمع كثرة ، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد فينبغي أن يكون مقابله صيغة جمع الكثرة ، وهم كانوا أحد عشر أو اثني عشر وعلى القراءة الأولى يستعار أحد الجمعين للاخر ، وأدما بضم الهمزة ، وفتحها جمع أدم ، وهو الجلد المدبوغ. قوله : ( وإنما فعل ذلك ثوسيعاً الخ ) أي جعل بضاعتهم في رحالهم لما ذكر ، وقيل لأنّ ديانتهم تحملهم على العود ليعطوا ثمن ما أخذوه أوّلاً لاحتمال أنه لم يقع قصداً أو قصدا للتجربة ، ويؤيده ما بعده. قوله : ( لعلهم يعرفون حق ردّها ) يعني إن أبقى لعل على ظاهرها ففي الكلام مضاف مقدر ، وهو حق ردّها بخلاف ما إذا جعل بمعنى لكي فإنه حينئذ لا يحتاج إلى تقدير فإنّ المقصود من وضعها في الرحال أن يعرفوها ويعودوا لردّها. قوله : ( لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع ) إشارة إلى أنّ هذا مسبب عما قبله وأنّ رجوعهم بسبب معرفتها أو معرفة حق رذها ، وأنه وكل ذلك إلى فهم السامع ، وقيل رجع هنا متعد والمعنى يرجعونها أي يردّونها. قوله : ( حكم بمنعه بعد هذا الخ ا لما رجعوا إلى أبيهم بادروا إلى الشروع في طلب إرسال أخيهم معهم ، وأوّل منع بحكم مجازا لا كناية لأنه لم يقع ، والحكم بقوله لا كيل لكم ، وقيل إنه على حقيقته ، وأنّ المراد منع من أن يكال لأخيهم الغائب حمل آخر ورد بعيره غير محمل بناء على رواية أنه لم يعط له ، وسقا بدليل قراءة يكتل بالتحتية. قوله : ( نرفع المانع من الكيل ونكتل الخ ) قيل إنه يريد أنه جاء بآخر الجزاءين مرتبا دلالة على أوّلهما مبالغة ، وقيل إن هذا جواب الأمر فوضع موضع نكتل لأنه لما علق المنع على الكيل بعدم إتيان أخيهم كان إرساله رفعا لذلك المانع فوضعه موضع نكتل لأنه المقصود ، ووزن نكتل نفتل ، وأصله نكتيل بوزن نفتعل ، ولذا خطئ المازني رحمه الله لما سئل عنه فقال وزنه نفعل. قوله : ( على إسناده إلى الأخ الني ) في الكشاف قرئ يكتل بمعنى يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا أو يكن سببا للاكتيال فإن امتناعه بسببه يعني أنه يحتمل أن يراد اكتيال الأخ فيكون حقيقة ، وأن يراد مطلق الاكتيال فيكون إسناده إلى الأخ مجازاً لأنه سببه كذا قال الشارح العلامة رحمه الله تعالى وتبعه من أرجع عبارة المصنف رحمه الله تعالى إلى الوجهين ، وكأنّ نسخته أو يكتل بعطفه بأو
الفاصلة لا بأي التفسيرية ، وعلى النسخة الثانية قيل إن كلام المصنف رحمه الله تعالى إشارة إلى الردّ على من قال المراد على هذه القراءة اكتيال الأخ فقط لأنّ اكتيالهم ملحوظ أيضاً كيف لا وقد قال يوسف عليه الصلاة والسلام فلا كيل لكم ، وقالوا لأييهم عليه الصلاة والسلام منع منا الكيل ولم يذكر ما في الكشاف من المجاز لأت- يلزمه ترك ذكر اكتياله لنفسه ، وأمّا على قراءة النون فيدخل ذلك فيه ، وليس بشيء لأنه سبب لتمام الكيل أو لمجموعه فيدخل فيه على كل حال ، وقد عرفت من أين نثأ كلامه فتأمّل. قوله : ( هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم ) حال اً و نعت مصدر محذوف شبه ائتمانه على هذا بائتمانه على ذاك ، وآمنكم بالمد ، وفتح الميم ورنجع النون مضارع من باب علم وآمنه ، وأتمنه بمعنى(5/188)
ج5ص189
والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، ولذا وقع بعده الاستثناء المفرغ ، ولم يصرّح بالمنع لما فيه من المصلحة بل فوّض! أمره إلى الله ، ولذا روي أنّ الله تعالى قال : وعزتي وجلالي لآرذهما عليك إذ توكلت علئ وقوله : وقد قلتم يحتمل دخوله في التشبيه لأنهم قالوا ذلك له في حقهما.
قوله : ) وانتصاب حفظا على التمييز الخ ) حافظا مبتدأ ، ونصبه على الحكاية ، ويحتمله أي التمييز خبره ، والحال بالنصب معطوف على مفعول يحتمل وقوله كقوله مثال للتمييز ، واعترض على الحالية بأنّ فيه تقييد الخبرية بهذه الحال ورد بأنها حال لازمة مؤكدة لا مبينة ، ومثلها كثير مع أنه قول بالمفهوم ، وهو غير معتبر ، ولو اعتبر ورد على التمييز ، وفيه نظر وقراءة خير حافظ بالإضافة قراءة الأعمش ، وقراءة رذت بكسر الراء بنقل حركة الدال إليها كما في قيل ونحوه من المعتل وقوله ماذا نطلب فما استفهامية مفعول مقدم لنبغي وقوله هل من مزيد إشارة إلى أن الاستفهام في معنى النفي أي لا مزيد على ما فعل لأنه أكرمنا ، وأحسن مثوانا بإنزالنا عنده ورذ الثمن علينا والقصد إلى استنزاله عن رأيه. قوله : ( أو لا نطلب وراء ذلك الخ ) يعني ما إما استفهامية ، ونبغي بمعنى نريد ونطلب أو نافية ، ونبغي بهذا المعنى أيضاً ومفعوله محذوف ، وقوله وراء بمعنى غير مجازاً أو هو من البغي بمعنى مجاوزة الحدّ ، وبقال بغى عليه إذا كذب ، والمراد لا نكذب ، وقيل المعنى ما نطلب بضاعة أخرى. قوله : ( ولا نتزيد فيما حكينا لك )
مضارع من التزيد على وزن التفعل ، وفي نسخة لا نزيد على أنه مصدر منه مبنيّ مع لا ، والمعنى لا نكذب قال أبو علي يقال تزيد في الحديث إذا كذب فما قيل إنه لا احتمال لكذبهم رأسا ، ولذا نفي الزيادة لا وجه له ، وقوله أي شيء فما استفهامية ، وجوّز فيها أن تكون تامّة على هذه القراءة أيضا. قوله : ) استئناف موضح لقوله ما نبغي ) أي على جميع المعاني السابقة في قوله ما نبغي ، وإنما الكلام فيما بعده. قوله : ( معطوف على محذوف الخ ( أي هو ، وما بعده لا على جملة ما نبغي لاختلافهما خبرية ، وانشائية مع عدم الجامع ، والمعطوف عليه تقديره هذه بضاعتنا نستظهر بها أي نستعين ، ونتقوّى بها على معاشنا ، وقيل عليه أنّ الاستفهام هنا راجع إلى النفي ، واجتماع هذين القولين في الوجود واتحاد القائل ، والغرض ، وهو استنزال يعقوب عليه الصلاة والسلام عن رأيه يكفي للجامعية ، ووسق بفتح فسكون بمعنى ما يحمله ، وعن الخليل رحمه الله الوسق حمل البعير والوقر حمل البغل والحمار ، ولعله أغلبيّ ، وقوله باستصحاب أخينا لأنه كان يعطي لكل واحد وسقاً كما مرّ. قوله : ( ه!ذا إذا كانت ) أي ما استفهامية ، وهذا إشارة إلى تعين العطف على محذوف ، وقوله احتمل ذلك أي العطف على محذوف وهو جار فيما إذا كان البغي بمعنى الطلب أو الكذب ، وقوله لا نبغي فيما نقول الخ يعني اجتمع أسباب الأذن في الإرسال ، وما ينبغي كالتمهيد والمقدمة للبواقي ، والتناسب من حيث تشارك الكل في توقف المطلوب عليها بوجه ما مصحح للعطف مع أن الاجتماع في القولية كاف ، واعترض على المصنف رحمه الله تعالى بأن كلامه يشعر باختصاص العطف على ما نبغي بكونه بمعنى الكذب ، ولا وجه له ، وعلى كونه بمعنى الكذب جملة ، وغير تذييلية اعتراضية كقوله فلان ينطق بالحق ، والحق أبلج هذا محصل ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ، وقرّره من كتب عليه ، والذي في الكشاف فإن قلت هذا إذا فسرت البغي بالطلب ، وأما إذا فسرته بالكذب ، والتزيد في القول كانت الجملة الأولى ، وهي قوله هذه بضاعتنا الخ بيانا لصدقهم ، وانتفاء التزيد عن قيلهم فما تصنع بالجمل البواقي قلت أعطفها على قوله ما نبغي على معنى لا نبغي فيما نقول ، . وغير أهلنا ، ونفعل كيت وكيت ، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ كقولك وينبغي أن نمير أهلنا كما تقول سعيت في حاجة فلان ، واجتهدت في تحصيل غرضه ، ويجب أن أسعى ، وينبغي لي أن لا أقصر ، ويجوز أن يراد ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيرنا مع أخينا ، ثم قالوا هذه بضاعتنا نستظهر بها ، وغير أهلنا ونفعل ، ونصنع بيانا لأنهم لا يبغون في رأيهم ، وأنهم مصيبون فيه ، وهو وجه حسن واضح اهـ وهو دائر
على جعله بمعنى الطلب والكذب ، وكون هذه الجمل بيانا أو غير بيان ، ولا تعلق له بالنفي والاستفهام الذي ذكر. المصنف ، ولذا قال العلامة في شرحه : تقدير السؤال إن قوله ما نبغي إذا فسر بلا نطلب شيئا زائداً(5/189)
ج5ص190
على ما حصل لنا فمن الظاهر أنّ الجمل المذكورة بعده بيان له ، وأفا قوله : { نَمِيرُ أَهْلَنَا } الخ. فما موقعها فأجاب بثلاثة أجوبة ، وتحرير الجواب الأخير أنهم كما تكلموا في فضل الملك ، واحسانة تكلموا في تجهيزهم مع أخيهم وتلك الجمل إنما لا تصلح أن تكون بيانا لقولهم ما نبغي بمعنى لا نكذب لو كان المراد به الصدق في فضل الملك أمّا إذا أريد به الصدق في التجهيز صحت لبيانه ، وهو ظاهر ا هـ فبين الكلامين بون بعيد ، والشراح لم يوضحوه وهو محل نظر ، وتأمّل فتدبره. قوله : ( استقلوا ما كيل لهم فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك الخ ) يعني أنه من كلام الأخوة لاتصاله بما حكي عنهم ، والكيل مصدر بمعنى المكيل ، والمراد به ما كيل لهم أوّلاً أي أنه غير كاف لنا فلا بد لنا من الرجوع مرة أخرى ، وأخذ مثل ذلك مع زيادة ، ولا يكون ذلك بدون استصحاب أخينا أو الإشارة إلى كيل البعير الزائد على مكيلهم ، وأنّ يوسف عليه الصلاة والسلام لا يأباه أو هو من كلام يعقوب عليه الصلاة والسلام ، وذلك إشارة إلى الكيل الزائد كما مرّ نظيره في قوله ذلك ليعلم لكن على هذا كان الظاهر تقديمه ، وذكره مع مقوله أو تأخيره عن قوله قال ولكونه خلاف الظاهر أخره المصنف رحمه اللّه تعالى قيل ، ولو قال ويزدادوا بالواو ليكون مع ما قبله وجها واحداً كان أحسن واستقلال عشرة أحمال ، وتكثيرها بحمل واحد بعيد ، وليس بشيء ، وقوله جواب القسم أي الذي تضمنه الكلام ولداً قرن باللام قوله : ( حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله ) يعني أنّ الموثق مصدر ميمي بمعنى المفعول ، وقوله عهداً الخ يعني الحلف بالله بدليل قوله لتأتنني به فإنه جواب قسم مضمر أي تحلفون به وتقولون ، والله لنأتينك به. قوله : ( 1 لا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك الخ ( يعني أنه استعارة كقولهم أحيط بفلان إذا قرب هلاكه ، وأصله من أحاط به العدوّ إذا سذ عليه مسالك النجاة ، ودنا هلاكه فقيل كل من هلك أو غلب أحيط به ، وأوفى كلام المصنف للتقسيم ، والتنويع أي إلا أن لا تقدروا على الدفع ، وذلك إمّا بالغلبة التامّة أو الهلاك ، والأوّل تفسير قتادة ، والثاني تفسير مجاهد ، والمصنف رحمه الله تعالى جمع بينهما لأنّ المراد منهما عدم القدرة على الدفع فلا يرد عليه أنه يلزم على الثاني كونهم خائنين إذ لم يأتوا به من غير أن يهلكوا جميعاً ، وأنه لا وجه للقسم بهذا مع احتمال أن يغلبوا فلا يأتوا به ،
وان لم يهلكوا فالوجه هو الأول. قوله : ( وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال الخ ( قال أبو البقاء وردّ بأنّ المصدر من أن والفعل لا يقع موقع الحال كالمصدر الصريح فيجوز جئتك ركضاً أي راكضا ولا يجوز جئتك أن أركض وان كان في تأويله لأنّ الحال يلزمها التنكير ، وأن مع ما في حيزها معرفة في رتبة المضمر ورد بأنه ليس مراده بالحال الحال المصطلح يعني أنه أراد في كل حال إلا في حال الإتيان وهذا أيضا مبنيئ على جواز نصب المصدر المؤوّل على الظرفية كالصريح في نحو أتيتك خفوق النجم ، وصياج الديك ، وللنحاة فيه خلاف فهو أهون الشرّين ، وفيه تأمّل. قوله : ( أو من أعم العلل على أن قوله لتأتنني به في تأويل النفي الخ ( أورد عليه أن ظاهره أنّ الاستثناء إذا كان من أعمّ الأحوال لا يحتاج إلى تأويله بالنفي مع أنه استثناء مفرغ ، وهو لا يكون في الإثبات أيضا إلا إذا صح ، وظهر إرادة العموم في الإثبات نحو قرأت إلا يوم الجمعة لا مكان القراءة في كل يوم غير الجمعة ، وهو هنا غير صحيح لأنه لا يمكن لإخوة يوسف عليه الصلاة والسلام أن يأتوا ببنيامين في كل وقت وعلى كل حال سوى وقت الإحاطة بهم لظهور أنهم لا يأتون به له ، وهو في الطريق أو في مصر وقد دفع بما لا يجدي ، وقد يقال إنه من هذا القبيل ، وأن العموم والاستغراق فيه عرفيئ أي في كل حال يتصوّر الإتيان فيها أو يقال إنّ قوله في تأويل النفي قيد لما قبله من الوجهين ، وتصويره في الوجه الأخير لقربه لا لاختصاصه به فذكر أحدهما ليقاس عليه الآخر. قوله : ) كقولهم أقسمت باللّه إلا فعلت ) قال ابن هشام إذا وقع بعد الأفعل تصيد من لفظه اسم يكون هو المستثنى في المعنى فقال سيبويه مصدر ، وقال المبرد اسم مشتق والأوّل أولى لقوّة دلالة الفعل على مصدره بالاشتقاق فإن كان قبل إلا نفي ظاهر فالكلام على ظاهره ، وإن كان إثباتا أوّل بالنفي لأنه استثناء مفرغ من متعلق الفعل العامّ إمّا من مفعوله العائم أو من أحواله المقدّرة ، والمفرغ لا يكون إلا بعد النفي ليفيد مثال الأوّل ما يقوم(5/190)
ج5ص191
زيد إلا ضحك ، وما يقوم إلا بكى تقديره عند سيبويه رحمه اللّه ما يقوم على حال إلا الضحك ، وعند المبرد ما يقوم إلا ضاحكا والمعنى عليهما واحد ، ومثال الثاني نشدتك الله إلا فعلت ، وأقسمت عليك إلا فعلت أي ما أطلب إلا فعلك ، وما أسألك إلا فعلك لأن نشد بمعنى سأل وطلب ، ومثله في تأويله بالنفي لتأتنني به إلا أن يحاط بكم أي لا تمتنعن من الإتيان به لعلة من العلل إلا لعلة الإحاطة أو في كل زمان إلا زمان الإحاطة فهو استثناء من عام إمّ عام في العلل أو الأزمان أو الأحوال ، والاستثناء الذي هو كذلك لا يكون إلا في النفي لفظاً أو حكما ، وقال ابن يعيش إنما جاز وتوع فعلت في قولك أنشدك الله إلا فعلت من حيث كان دالاً على مصدره كأنهم قالوا ما أسألك إلا فعلك ، ونظيره قوله :
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو
إذ أوقع الفعل موقع المصدر لدلالته عليه ، وعلل الأخفش وقوع الفعل بعدا لا بأنه كلام
في معنى الشرط فأشبه الشرط فلذا وقع بعده الفعل ألا ترى أنّ معنى لا يصيبهم ظمأ إلا كتب لهم إن أصابهم ذلك كتب لهم. قوله : ( رقيب مطلع ) فسره به لأنّ الموكل بالأمر يراقبه ، ويحفظ ، والمراد مجاز عليه ، وقوله لأنهم الخ تعليل للنهي وبيان لحكمته ، والأبهة بضم الهمزة ، وتشديد الباء المفتوحة بمعنى المهابة ، والرواء ولا يناسب تفسيرها بالكبر هنا ، وإنما ضم اشتهارهم لذلك توطئة لما سيأتي من تخصيص التوصية بالمرّة الثانية ، وكوكبة بمعنى جماعة أي مجتمعين ، ويعانوا مجهول من عانه إذا أصابه بالعين كركبه إذا أصاب ركبته. قوله : ( ولعله لم يوصهم في الكرّة الأولى لأنهم كانوا مجهولين الخ ) قيل عليه إن تعبيره بلعل يقتضي أنه من بنات أفكاره مع أنه مسبوق بالوجه الأوّل ، وكونه بالنظر إلى الوجه الثاني بعيد ، ومن تتبع كلامه وجده يعبر بلعل كثيرا فيما سبق إليه ، وإنما يعبر به فيما يكون تأويلا غير منقول عن السلف تأدبا لئلا يجزم بأنه مراد اللّه. قوله : ( وللنفس آثار منها العين الخ ا لو استدل بقوله صلى الله عليه وسلم : " العين حق " فإنه حديث متفق عليه لكان أولى ، وفيه أيضاً العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا وأخذ الجمهور بظاهره ، وأنكره بعض المبتدعة وزعم بعض أهل الطبائع أنه تنبعث من عينه قوّة سمية تؤثر فيما نظره ، وهل هو مجرّد تلك القوّة حتى يرد بأنّ العرض! لا يؤثر أو بأجزاء سمية لطيفة تنفصل من عينه لكنها لا ترى أو بخلق الله تعالى ذلك عند نظره من غير انفصال ، واختلف هل يجب على العائن أن يغتسل بماء ، ثم يعطي الماء للمعيون ليغتسل به كما فصله في نهاية الحديث فقال المأزري يجب ، ويجير عليه لظاهر الحديث ، ولأنه جرّب وعلم أنّ البرأ به ففيه تخليص من الهلاك كإطعام المضطر ، وفي شرح مسلم عن القاضي أنه ينبغي للإمام منعه من مخالطة الناس ، ولزوم بيته فإن كان فقيراً رزقه من بيت المال ما يكفيه ، وله تفصيل في كتاب الروح ، وقوله منها العين الخ العين هنا بالمعنى المصدري ، وهو مصدر عانه يعينه عيناً إذا أصابه بنظره ، وقال الإمام تأثير النفس مبنيّ على قواعد الفلسفة فإنهم قالوا ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات
المحسوسة من الحرارة ، والرطوبة ، وضدهما بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا ألا ترى الإنسان يمشي على خشبة غير عريضة فإذا ارتفعت لا يقدر على ذلك ، وأنه إذا غضب أو خاف سخن بدنه فإذا جاز أن يتأثر بدنه لم يبعد تعدي أثره للغير ، وقال الجاحظ : إنّ العين بانفصال أجزاء سمية من عينه تتصل بما استحسنه لأنه يطلب إزالة ما يستحسن به كما قاله البلخي : قيل وهو منظور فيه ، والحق عند أهل السنة أنه لا تأثير للعين حقيقة بل المؤثر إنما هو الله عند رؤية ذلك المستحسن ، ولا مانع من كون فعل الله مبنياً على أسباب خلقها في العين فقوله إنّ المصنف رحمه اللّه تعالى تبع الفلاسفة غير مسلم. قوله : ) في عوذته الخ ) العوذة بضم العين ، وبالذال المعجمة كالرقية لفظاً ، ومعنى وهذا الحديث رواه البخاري وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : " أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لائة ، ويقول إن أباكما إبراهيم كان يعوذ بهما إسماعيل ، واسحق عليهم الصلاة والسلام " قال ابن الأثير : الهافة واحدة الهوامّ وهي الحيات ، وكل ذي سمّ يقتل ، وما لا يقتل ، وشممّ هو السوامّ جمع سامة كالزنبور ، وتطلق الهوامّ على كل(5/191)
ج5ص192
ما يدب من الحيوان ، واللامة ذات اللمم وهو الضرر من ألم ، ولم يقل ملمة للازدواج ، والمشاكلة بهامة ويجوز أن يكون على ظاهره من لمه بمعنى جمعه أي جامعة للشرّ على المعيون. قوله : ( مما قضى عليكم الخ ) تفسير لقوله من الله ففيه مضاف مقدر أي قضاء الله ، وقوله بما أشرت يعني قوله : ادخلوا من أبواب الخ وهو متعلق بأغنى ، وقوله فإنّ الحذر هو من حديث رواه أحمد والحاكم والبزار " لا يغني حذر من قدر " . قوله : ) يصيبكم لا محالة إن قضى عليكم سوءا ( فاعل يصيبكم ضميريعود إلى قوله ما قضى عليكم ، ويصلح أن يعود على سوءأ على التنازع فيه ، وقوله ولا ينفعكم ذلك أي ما وصيتكم به فحينئذ فائدة التوصية احتمال أنه قضاء غير مبرم بل معلق بشرط ولهذا يسعى العبد ، ويجتهد مع العلم بأن المقدر كائن ، ويحتمل أن الأوّل جار على هذا ، وقوله إن الحكم إلا للّه إشارة إلى مرتبة الخواص في التفويض التام. قوله : ) جمع بين الحرفين ( يعني الواو والفاء ، وقوله لتقدم الصلة
بيان لمصحح الجمع ، وقوله للاختصاص علة للتقدّم يعني إنّ قصد الاختصاص أوجب تقديم الصلة عليه ، وقد دخل عليها العاطف فلما قصد تسبب توكلهم على توكله لأنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقتدى بهم وجب دخول الفاء لبيان التسبب لا للعطف ولو قيل فعليه لتتوكلوا أفاد تسبب الاختصاص لا أصل التوكل ، وهو المقصود وفيه نظر ، وقوله كأنّ الواو الخ. اعتذار عنه بعدم توالي عاطفين في جملة ، وبيان لفائدة اجتماع الحرفين ، ولم يجزم به لاحتمال أن يعطف على مقدر أو أن يكون جواب شرط مقدر أو متوهم ، ولا بد من القول بزيادة الفاء وافادتها السببية ، ويلتزم أنّ الزائد قد يدل على معنى غير التوكيد ، وفيه ما فيه. قوله : ( أي من أبواب متفرّقة ) فحيث للمكان ، ويلزمه كونهم متفرّقين فلذا فسره الزمخشري به لا أنه جعله بمعنى الجهة كما قيل وقوله ، واتباعهم له هو دخولهم متفرّقين المذكور قبله ، ولذا زاده هنا ولم يذكره أوّلاً ، وقد قيل إنّ العين دفعت عنهم ، وهو المراد من رأيه لدفع عين الكمال فكيف قيل إنه لم يغن عنهم شيئاً ، وأجيب بأنه أراد بدفع العين أنه لا يمسهم سوء ما وإنما خصت إصابة العين لظهورها ، وأما ادعاء أنّ هذا من العين أيضا فقد تخلف ما أراده عن تدبيره فتكلف ، والظاهر أنّ المراد أنه خشي عليهم شر العين فأصابهم شز آخر لم يخطر بباله فلم يفد دفع ما خافه شيئاً كما في المثل قد أخاف عليه لآخر ، واستدل بهذه الآية على أنّ لما حرف جواب إذ لو كانت ظرفاً عمل فيها جوابها ، وهو ما كان ، وما النافية لا يتقدم معمول ما في حيزها عليها ، ولذا قيل إنّ جوابها محذوف كامتثلوا وقضوا حاجة أبيهم ، وقيل آوى جواب للما الأولى ، والثانية ومن في من شيء زائدة في الفاعل أو المفعول ، وسرّقوا مجهول مشذد بمعنى نسبوا للسرقة. قوله : ( اسثشاء منقطع الخ ) وذكر الطيبي أنه يجوز أن يكون متصلاً على حد قوله :
ولا عيب فيهم غيرأنّ سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
أي ما أغنى عنهم ما وصاهم به يعقوب عليه الصلاة والسلام شيئا إلا شفقته التي في نفسه عليهم ، والشفقة لا تغني شيئا مع ما قدره اللّه ، وجملة قضاها صفة حاجة على هذا وعلى كونه منقطعاً ، ويجوز أن يكون خبر إلا لأنها بمعنى لكن وهي يكون لها اسم ، وخبر فإذا أوّلت بها
قد يقدر خبرها ، وقد يصرح به كما نقله الطيبي رحمه الله عن ابن الحاجب وفيه إنّ عمل الا بمعنى لكن عملها لم يقله أهل العربية ، والشفقة الترحم ورقة القلب ولذا صرح باسم يعقوب عليه الصلاة والسلام لاشتهاره بالحزن ، والحرازة بفتح الحاء ، والراء المهملة والزاي المعجمة بمعنى الاحتراز وفسر قضاها بالإظهار والتوصية لأنه الواقع فقط. قوله : ( على الطعام أو في المنزل ( هما روايتان عن السلف ، ولذا عطف بأو مع عدم المانع عن الجمع بينهما كما صرح به في الرواية المذكورة ، وقوله أتحب الخ لم يذكر أنه صرّح به بأنه أخوه حقيقة كما روي لاختلافهم فيه فاقتصر على المتفق هنا ، وقوله مثنى مثنى كما وقع في الحديث صلاة الليلى مثنى مثنى ، وقد قيل فيه إنّ مثنى بمعنى اثنين وقيل بمعنى اثنين اثنين فيكون الثاني تأكيدا ، وكون بنيامين وحيد الأجل أن يضمه إليه ، وقوله أن أكون أخاك أراد الأخوة الحقيقية ، وبنيامين حملها على غيرها لعدم علمه به ، وقوله افتعال من البؤس قال(5/192)
ج5ص193
الراغب البؤس والبأس ، والبأساء الثدة ، والمكروه لكن البؤس كثر في الفقر والحزن ، والمراد الثاني كما ذكره المصنف رحمه اللّه. قوله : ) في حقنا الخ ( أي من الحسد ، وصرف وجه أبينا وتفسير تبتئس بتخف الحسد بإقبالي عليك يأباه كان ظاهراً ، والمشربة بكسر الميم ما يشرب به الماء ، وأما المشربة بفتح الميم فهو بمعنى الغرفة كما في شرح الكشاف ، وهو القياس ، وقد نقل في الأوّل الفتح لكونه محلا للماء المشروب ، وقوله صاعاً أي مكيالاً والصاع يطلق عليه وعلى ما فيه ، وقوله على حذف جواب فلما وقيل الواو زائدة. قوله : ( ثم اذن مؤذن نادى مناد ) تبع فيه الزمخشري ، وأورد عليه أنّ النحاة قالوا لا يقال قام قائم لأنه لا فائدة فيه ، وأجيب بأنهم أرادوا أن ذلك المنادي من شأنه الأعلام بهذا بمعنى أنه موصوف بصفة مقدرة تتم بها الفائدة أي أذن رجل معين للأذان فتأمل. قوله : ( لعله لم يقله بأمر يوسف عليه الصلاة والسلام ( يعني نسبة السرقة إليهم غير واقعة فهي كذب لا تليق بيوسف عليه الصلاة والسلام ، ولا بالنبوة والملك ، والتعبية
جعل شيء في أثقاله وأحماله ، وكونه برضا بنيامين قيل عليه أنه لا يدفع ارتكاب الكذب ، وإنما يدفع تأذي أخيه منه إلا أن يقال إذا تضمن لكذب مصلحة رخص فيه وأمّا سرقة يوسف عليه الصلاة والسلام لخى التأويل أي أخذتم يوسف عليه الصلاة والسلام من أبيه على وجه الخيانة كالسرّاق ، واختير هذا على وجه التورية ، وقيل المعنى على الاستفهام أي أئنكم لسارقون ، ولا يخفى بعده فهو في عبارة المصنف رحمه اللّه أئنكم بهمزتين ، ومن لم يعرفه اعترض بأنه مكرر لعلمه مما قبله. قوله : ) والعير القافلة وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال ( وأصل معنى قافلة راجعة أي طائفة راجعة من السفر فأطلقت على الذاهبة تفاؤلاً ، والعير من عار بمعنى تردد اًي جاء وذهب ، وهو اسم جمع للإبل لا واحد له فأطلق على أصحابها. قوله : ) كقوله عليه الصلاة والسلام : " يا خيل الله اركبي " ( وهو من أحسن المجاز وألطقه كما في الآية ، والخيل في الأصل الإفراس ، وششعمل للفرسان ، والحديث الصحيح مروقي عن سعيد بن جبير وضي الله عنه وروي في سيرة ابن عائذ عن قتادة رضي الله عنه أن النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي يوم الأحزاب يا خيلى الله اركبي ، وأخرجه العسكركما في الأمثال عن أن! بن حارثة بن النعمان أنه قال للنبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ادع الله لي بالشهادة فدعا له فنودي يا خيل الله اركبي فكان أوّل راكب وأؤل فارس استشهد رضي الله عنه ، وفي الآية ، والحديث مجاز أو تقدير لكن في الآية نظر إلى المعنى المراد بقوله : { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ولم ينظر إليه في الحديث إذ قيل اركبي دون اركبوا. قوله : ( وقيل جمع عير ( بفتح العين وسكون الياء ، وهو الحمار ، وعلى هذا أصله عير بضم العين ، والياء فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، ثم كسرت العين لثقل الياء بعد الضمة كما فعل في بيض جمع أبيض ، وقوله تجوّز به لقافلة الحمير مخالف لما في الكشاف حيث قال وقيل هي قافلة الحمير ، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير فتأمله. قوله : ( أيّ شيء ضاع منكم والفقد غيبة الشيء الخ ) إشارة إلى أنّ ماذا في محل نصب بتفقدون قال الراغب : الفقد عدم الشيء بعد وجوده فهو أخص من العدم فإنه يقال له ، ولما لم يوجد أصلا ، والتفقد والتعهد بمعنى لكن حقيقة التفقد تعزف فقدان الشيء ، والتعهد تعرف العهد المقدم ، وما ذكره حاصل المعتى ، وماذا تقدم الكلام فيها ، وقوله والفقد غيبة الشيء مخالف لما ذكرناه لكنه فسره به لأنه المناسب للحال ، وجعله بمعنى الغيبة على أنه مصدر المجهول أو أريد به الحاصل بالمصدر
فلا يرد عليه أنّ الفقد العدم أو طلب ما غاب ، وما ذكره المصنف رحمه الله ليس بشيء منهما ، وقوله إذا وجدته فقيداً فالأفعال للوجدان ، وهو أحد معانيه ، وجملة أقبلوا حالية بتقدير قد. قوله : ( وفرئ صاع وصوع بالفتح والضم الخ ) والعين يذكر ويؤنث ، وقراءة العامة ، وهي التي بنى عليها المصنف رحمه ألله كلاه أوّلاً صواع بوزن غراب والعين المهملة ، وقراءة ابن جبير والحسن كذلك إلا أنهما أعجماه ، وقرئ صواع بكسر الصاد ، وقرئ صاع ففيه ثمان قرا آت ، والمتواتر منها واحدة ، وهي الأولى ، وقوله وصواغ من الصياغة أي قرئ بالألف والضم ، والإعجام ، وكذا القرا آت على الأعجام كلها من الصياغة ، وعلى قراءة صوغ بالفتح فهو مصدر أريد به(5/193)
ج5ص194
المصوغ. قوله : ) جعلا له ( الجعل بالضم ما يعطى للشخص في مقابلة عمله ، والجعالة بتثليث الجيم الشيء الذي يعطى ، ومعنى لمن جاء به من دل على سارقه ، وفضحه أو من أتى به مطلقا ، ولو كان السارق نفسه ، ويناسبه قول المصنف رحمه الله أؤذيه إلى من رذه ، وهو بمهمزتين بمعنى أعطيه من الأداء ، وليس فيه أنّ الرّاد له هو من علم أنه سرقة حتى يقال إنه دفع لما قيل إنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئاً على رذ السرقة فلعله جائز في ديتهم.
قوله : ) وفيه دليل على جوارّ الجعالة وضمان الجعل قبل تمام العمل ( استدل بهذه الآية
عاقة مشايخنا رحمهم الله على جواز تعليق الكفالة بالشروط كما في الهداية ، وشروحها لأنّ مناديه علق الالتزام بالكفالة بسبب وجوب المال ، وهو المجيء بصواع الملك ، ونداؤه بأمر يوسف ، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا مضت من غير إنكار ، وأورد عليه أمران أحدهما ما قاله بعض الشافعية من أن هذه الآية محمولة على الجعالة لمن يأتي به لا لبيان الكفالة قهو كقول من أبق عبده من جاء به فله عشرة دراهم فلا يكون كفالة لأن الكفالة إنما تكون إذا التزم عن غيره ، وهنا قد التزم عن نفسه الثاني أنّ الآية متروكة الظاهر لأنّ فيها جهالة المكفول له ، وهي تبطل الكفالة ، وأجيب عن الأؤل بأنّ الزعم حقيقة في الكفالة ، العمل بها مهما أمكن واجب فكان معناه قول المنادي للغير أنّ الملك قال لمن جاء به حمل بعير ، وأنا به زعيم فيكون ضامنا عن الملك لا عن نفسه فتتحقق حقيقة الكفالة ، وعن الثاني بأنّ في الآية ذكر أمرين الكفالة مع الجهالة للمكفول له ، واضافتها إلى سبب الوجوب ، وعدم جواز أحدهما بدليل لا يستلزم عدم جواز الآخر ، وقال السكاكي إنه كان مستأجراً والمستأجر ضامن الأجرة سواء كان أصلا أم كفيلاً ، وإذا كان ضامنا عن نفسه بحكم عقد الإجارة لا يكون كفيلا إذ الكفيل معناه من يكون ضامنا عن الغير فمعنى قوله أنا به زعيم أنا ضامن الأجر بحكم الإجارة لا بحكم الكفالة ، وكذا قال الجصاص في كتاب الأحكام روي عن عطاء الخراساني زعيم بمعنى كفيل فظن بعض
الناس أنّ ذلك كفالة إنسان ، وليس كذلك ، وذلك لأنّ قائله جعل حمل بعير أجرة لمن جاء بالصاع وأكده بقوله ، وأنا به زعيم أي ضامن فألزم نفسه ضمان الأجرة لرذ الصاع ، وهذا أصل في جواز قول القائل من حمل هذا المتاع لموضع كذا فله درهم ، وإنه إجارة جائزة وان لم يشارط رجلا بعينه ، وكذا قال محمد بن الحسن في السير الكبير وفيه دلالة على صحة هذه الإجارة وان لم يقاوله باللسان ، وكان حمل البعير قدراً معلوما فلا يقال إن الإجارة لا تصح إلا بأجر معلوم فإن قلت هذا يدل على الالتزام دون اللزوم ، والنزاع إنما هو فيه قلت لم يذكر المصنف رحمه الله تعالى اللزوم في الجعالة بل الجواز فيها ، وفي الضمان أيضاً فإن دل الضمان على لزوم ما ضمنه فهو مصرّح به في النظم لأنّ زعيم بمعنى كفيل ، والكفالة ضمان فتأمّل ، وفيه رذ على من قال الكفالة قبل لزوم الحق غير صحيحة. قوله : ( قسم فيه معنى التعجب ) أي تعجبوا من رميهم بما ذكر مع ما شاهدوه من حالهم ، والتاء بدل من الباء والمشهور أنها بدل من الواو وقيل إنها أصلية ، وقال الزمخشري : في غير هذا المحل الواو بدل من الباء ، والتاء بدل من الواو ، ويكثر استعمالها في التعجب نحو تالله تفتؤ ، واختصاصها بالجلالة غير مسلم لدخولها على رلت مطلقا أو مضافا للكعبة وعلى الرحمن ، وقالوا تحياتك فلعله باعتبار المقيس ، واكثر. قوله : ( اسش!هدوا بعلمهم على براءة أنفسهم الخ ) يعني أن الكلام ليس على ظاهره باًن يحلفوا على علمهم بذلك لأنه غير معلوم لهم بل المراد بذكر علمهم الاستشهاد ، وتأكيد الكلام ، ولذا أجرته العرب مجرى القسم كقوله :
ولقدعلمت لتأتين منيتي إنّ المنايالاتطيش سهامها
وأنّ قوله ما كنا سارقين هو الجواب للقسم في الحقيقة لأنّ الظاهر أن حلفهم على فعلهم
لا على علم الغير وفعله فيكونون أقسموا على شيئين نفي الفساد ونفي السرقة ، وقوله ما جئنا يجوز أن يكون متعلق العلم وأن يكون جواب القسم أو جواب العلم لتضمته معناه كما ذكرنا ، وكعم بفتح الكاف ، وسكون العين المهملة ربط فمها لئلا تعض أو تأكل وقريب منه العكم للشد ، ومنه العكام وكانوا يفعلون ذلك إذا دخلوا المدينة والسرق بفتح السين المهملة ، وفتح الراء وكسرها ، وسكونها مصدر بمعنى السرقة. قوله : ) فما جزاء السارق )(5/194)
ج5ص195
جوّز في مرجع الضمير ثلاثة أوجه ، وأشار إلى أنه إذا رجع للصواع ، وهو الظاهر لاتحاد الضمير يحتاج إلى تقدير مضاف كسرقه ، وأخذه ، وإذا رجع إلى السارق لا يحتاج إلى تقدير لأنّ جزاء السارق بمعنى جزاء سرقته لأنّ الجزاء يضاف إلى الجناية ، والى صاحبها مجازاً فلا وجه لما قيل إن
التخصيص بالأخير لا يظهر له وجه فتأمّل. قوله : ( أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله ( تفسير له على الوجو. السابقة ، وقوله أخذ الخ إشارة إلى أنه لا بد من تقدير مضاف قبل من لأنّ المصدر لا يكون خبراً عن الذات ، ولأنّ نفس ذاته ليست جزاء في الحقيقة ، والمضاف المقدر إمّا أخذه أو استرقاقه أي جعله رقيقا ، والمصنف رحمه الله تعالى جمع بينهما ، وجعل الثاني تفسيراً للأوّل لأنه المراد بالأخذ إذ الأخذ بمجرّده ليس جزاء. قوله : ( واسترقاقه ) وفي نسخة سبيه كما في الكشاف هكذا كان شرع يعقوب عليه الصلاة والسلام ، وكان دين الملك أن يأخذ ضعف ما سرقه بعد ضربه ، وقوله أو خبر من عطف على قوله تقرير للحكم ، وقوله هكذا بمعنى أنه استمرّ شرعه على هذا كما في قوله :
هكذايذهب الزمان ويفنى الى صلم فيه ويدرس الأثر
وتيل إنه كقولهم مثلك لا يبخل ، وهو مبتدأ واسم كان ضميره ، وشرع خبرها أو هو مرفوع اسمها ، وهكذا خبرها ، ولذا سألوهم ليلزموهم بشريعتهم. قوله : ( خبر من والفاء لتضمنها معنى الشرط أو جواب لها الخ ( يعني جزاؤه الأوّل مبتدأ ، ومن إن كانت موصولة فهي مع صلتها خبره وقوله فهو جزاؤه لتقرير ذلك الحكم والزامه أي هو جزاؤه لا غيره كقولك حق زيد أن يكسى ، وينعم عليه فذلك حقه أو فهو حقه لتقرّر ما ذكر من حقه ، وذكر الفاء فيه لتفرّعه على ما قبله ادعاء ، وإلا فكان الظاهر تركها لأنه تأكيد ، ومنه يعلم أنّ الجملة المؤكدة قد تعطف لنكتة ، وان لم يذكره أهل المعاني أو جملة هو جزاؤه خبرها ، ودخلته الفاء لتضمه معنى الشرط ، والجملة خبر جزاؤه أو من شرطية ، والجملة المقترنة بالفاء جزاؤها ، والشرط وجزاؤه خبره أيضاً وذكر في الكشاف وجها آخر هو أنّ جزاءه خبر مبتدأ محذوف تقديره المسؤول عنه جزاؤه ثم أفتوا بقوله من وجد في رحله فهو جزاؤه ، ولخفائه تركه المصنف رحمه الله تعالى. قوله : ( كما هي ) أي كما كانت في الموصولية وقوله على إقامة الظاهر ، وهو جزاء الثاني مقام الضمير العائد إلى جزاء الأوّل الواقع مبتدأ ، وهو دفع لما أورد عليه من أنه يلزم عليه خلوّ الجملة الخبرية عن عائد إلى المبتدأ لأنّ الضمير المذكور لمن لا له فلذا جعل الاسم الظاهر ، وهو الجزاء الثاني قائما مقام الضمير لأن الربط كما يكون بالضمير يكون بالاسم الظاهر وقد قال الزجاج : إنّ الإظهار هنا أحسن من الإضمار لئلا يقع اللبس ، ويتوهم أنه تأكيد أو عائد إلى غيره والعرب إذا فخمت شيئاً أعادت لفظه بعينه ، وهذا المقام مقام التفخيم ، والتهويل فلا يرد عليه ما في البحر من أنه لا يناسب لأنه إنما يفصح إذا كان المقام مقام تعظيم كما قاله سيبويه
رحمه الله ، وقوله كأنه قيل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو كما تقول لصاحبك من أخو زيد فتقول أخوه من يقعد إلى جنبه فهو هو يرجع الضمير الأوّل إلى من ، والثاني إلى الأخ ، وهكذا ما نحن فيه ، وقوله بالسرقة متعلق بالظالمين لا بنجزي. قوله : ( فبدأ المؤذن الخ ) بأوعيتهم متعلق ببدأ أي بتفتيشها ففيه تقدير مضاف ، وكون الضمير للمؤذن ظاهر ، وعليه فالتفتيش حيث وجدوا قبل الرذ إلى مصر ، وعلى الثاني الضمير المستتر ليوسف عليه الصلاة والسلام ، ولكن الظاهر أن إسناد التفتيش له مجازي ، ويرجح رجوعه للمؤذن قرب سبق ذكره ، ويدل على الثاني مقاولة يوسف فإنها تقتضي وقوع ذلك بعد رذه ظاهراً ، وقوله وبقلبها همزة أي على الكسر فإن إبدال الوأو المكسورة همزة مطرد في لغة هذيل كوشاح وأشاج ، وهذه قراءة ابن جبير وقوله مثل ذلك للإشارة إلى أنّ الإشارة لما بعده ، وقد مر تحقيقه ، وأنه ليس القصد فيه إلى التشبيه ، وقوله نفياً للتهمة أي لتهمة أنهم دسوه فيه إذ لو بدؤوا به ربما ظن ، ولا ينافي ذلك كون تأخيره عن البعض كافيا فيه ، والصواع يذكر ، ويؤنث ، وفي الكشاف وجه آخر تركه المصنف رحمه الله تعالى لابتنائه على تعين ضمير بدأ ، واستخرج ليوسف عليه الصلاة والسلام ، وفيه نظر. قوله : ( بان علمناه إياه وأوحينا به إليه ) يعني أنّ(5/195)
ج5ص196
المكر ، والكيد ، والخديعة إن توهم غيرك خلاف ما تخفيه ، وتريده ، وهو على الله تعالى محال فهو محمول على التمثيل كان صورة صنع الله في تعليمه يوسف عليه الصلاة والسلام أن لا يحكم بحكم الملك ، ويجري على سنتهم في استعباد السارق صورة الكيد إذ المقصود ليس 4ظاهره بل إيواء أخيه إليه ، وهو لا يتم إلا بهذا ولما كان قوله ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك هو عين ذلك الكيد جعله تفسيراً له مع ما بعده ، وقيل إنّ في الكيد إسنادين بالفحوى إلى يوسف عليه الصلاة والسلام ، وبالتصريح إلى الله تعالى ، والأوّل حقيقيّ والثاني مجازيّ ، والمعنى فعلنا كيد يوسف أو يحتمل أن يكون مجازا لغويا ، والمعنى علمناه الكيد أو دبرناه أو صنعناه له. قوله : ( أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك ( بأن تدين بدين يعقوب عليه الصلاة والسلام ، والمراد ما كانوا يتدينون به بكون الله أذن له فيما ذكر لا بجعله من دين الملك كما توهم ، ولعله كان يوحى إليه ما يطابق دينهم وإلا فالنبيّ صلى الله عليه وسلم لا يجوز له العمل بما يدين به الكافر ، ولذا قيل إلا أن يشاء الله المراد به التأبيد أي ما كان ليأخذه في دين الملك أبداً لأنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجل من الاتصاف بالحكم بدين الكفار فهذا كقوله : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ } [ سورة الأعراف ، الآية : 89 ] . قوله : ( فالاستثناء من أعئم الآحوال ) أي ما كان ليأخذه في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله وقد
تقدم الكلام فيه قريبا ، وتحقيقه فتذكره. قوله : ( ويجوز أن يكون منقطعا ) أي لكن أخذه له بمشيئة الله وإذنه ، وان لم يكن على دين الملك إذ لم يخالفه فيه أحد لتخييره لهم ، وعلى الأوّل فهو متصل ، ومن قال يمكن اتصاله على هذا فقد وهم فتدبر ، وقوله كما رفعنا درجته أي درجة يوسف عليه الصلاة والسلام ، ومرتبته على إخوته ، وقوله أرفع درجة منه أي أعلم مأخوذ من قوله فوق وصيغة عليم. قوله : ) واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته ) أي لا بصفة علم زائدة على الذات ، وهم المعتزلة ومن حذا حذوهم في أنّ الصفات عين الذات كما بين في الأصول ، وحاصل استدلالهم أنه لو كان له صفة علم زائدة على ذاته كان ذا علم أي صاحب علم لاتصافه به ، وكل ذي علم فوقه عليم فيلزم أن يكون فوقه ، واعلم منه عليم آخر ، وهو باطل والجواب عنه بمنع الملازمة وأنّ المراد بكل ذي علم المخلوقات ذوي العلم العقلاء لأن الكلام في الخلق لا في الله وهذا إثبات لسند المنع وقوله ولأنّ العليم هو الله يعني أنه صيغة مبالغة معناها أعلم من كل ذي علم فتعين أنّ المراد به اللّه تعالى فما يقابله يلزم كونه من الخلائق لئلا يدخل فيما يقابله. قوله : ( ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص ( وجه آخر للتخصيص ، وفيه جواب بطريق النقض بأنه لو صح ما ذكره المستدل لم يكن الله عالما لاتفاقهم معنا في صحة هذا المثال فيلزم على تسليم دليله إذا كان اللّه عالما أن يكون نرقه من هو أعلم منه فإن أجابوا بتخصيصه فالاية مثله ، وهذا إنما يتم إذا كان هذا المثال مسلما عندهم كذا قيل ، ويدفعه أنّ الزمخشري فسره بهذا ، وذهب إلى ما ذكر فألزمه بهذا. قوله : ) أن يسرق فقد سرق أخ له ( أتوا بكلمة أن لعدم تحققهم له بمجرّد خروج السقاية من رحله ، وقد وجدوا بضاعتهم قبل في رحالهم ، ولم يكونوا سارقين ، وأمّا قولهم إن ابنك سرق فبناء على الظاهر ، ومدعي القوم ، ويسرق لحكاية الحال الماضية ، والمعنى إن كان سرق فليس ببدع
لسبق مثله من أخيه ، والعرق نزاع ، وقيل إنهم جزموا بذلك ، وان لمجرّد الشرط ، وقوله من أبيها يعني إسحق عليه الصلاة والسلام ، والمنطقة بكسر الميم ما يتنطق به أي يشذ في الوسط ، وتحضن بمعنى أنه في حضانتها عندها ، ومحزومة بالحاء المهملة ، والزاي المعجمة أي مشدودة ، وشب بمعنى كبر وصار شاباً مستغنياً عن الحضانة ، والعناق بفتح العين المهملة أنثى المعز وألقاه في الجيف أي على المزبلة ، وقيل إنّ ما أعطاه السائل بيضة ، وقوله فأعطى السائل أي أعطاها له ، واعلم أن ما ذكر في تفسير أن يسرق تبع فيه غيره ، وفي البحر لابن المنير رحمه الله أنه تكلف لا يسوغ نسبة مثله إلى بيت النبوّة بل ولا إلى أحد من الأشراف فالواجب تركه ، واليه ذهب مكيّ ، وفسره بعضهم بأن يسرق فقد سرق مثله من بني آدم ، وذكر له نظائر في الحديث ، وهو كلام حقيق بالقبول. قوله : ) والضمير للإجابة أو المقالة الخ ( يعني الضمير المنصوب المؤنث إمّا للمقالة أو للإجابة أي أضمر إجابتهم أو مقالتهم(5/196)
ج5ص197
في نفسه فلم يجبهم عنها ، والوجهان متقاربان ، والمقالة بمعنى القول أي المقول ، وقيل إنه للحزازة التي حصلت له وكونه لنسبة السرقة ظاهر ، والحاصل أنه راجع لما فهم من الكلام والمقام أو لما بعده ، وقوله أنها أنثه باعتبار الخبر والكناية بمعنى الضمير لأنها تطلق عليه ، ولو قيل المقصود أن لفظها صح لكنه رسم متصلا في النسخ ، وقوله يفسرها قوله قال أنتم شرّ مكانا في الكشاف أنتم شرّ مكانا بدون قال ، وبينهما فرق مع أنه على كلام الزمخشري لا يصح فيه البدلية إذ هو مقول القول ، وتأنيثه باعتبار أنه كلمة وجملة ، وكذا على كلام المصنف رحمه الله تعالى أيضا لأن قال ليس المراد به لفظه قطعاً فيكون جملة ، دمابدال الجملة من الضمير غير صحيح ، وإن كان في الإبدال من الضمير المنصوب خلاف فكلام الشيخين فلا يخلو من الخلل فكان الصواب الاقتصار على أنه ضمير مفسر بما بعده ، ولولا قوله على شريطة التفسير حمل كلامه على أن جملة قال بدل من أسرّها ، وقد سبق إلى هذا الزجاج وهو كلام مشوش ، ولذا حكاه المصنف رحمه الله تعالى بقيل وقوله منزلة في السرقة يشير إلى أن المكان بمعنى المنزلة أي أثبت في الاتصاف بهذا الوصف ، وأقوى فيه. قوله : ( والمعنى قال في نفسه ( فلا يكون هذا القول خطابا لهم بخلافه على الأوّل ، وهو الأظهر ، وقوله لسرقتكم أخاكم أي لخيانتكم في حقه المشبهة بالسرقة أي لا سرقة ثمة ، وسوء الصنيع عقوق الوالد والكذب. قوله : ) وفيه نظر ( إذ المفسر بالجملة لا يكون إلا ضميراً لشأن قيل ليس هذا من التفسر بالجمل في شيء حتى يعترض بأنه من خواص ضمير الشأن الواجب التصدير ، !انما هو نظير : { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ } [ سورة البقرة ، الآية : 132 ] قيل وفي جعل المصنف رحمه الله تعالى قال بدلاً من أسرّ إثبات للكلام
النفسيّ وليس بذاك ، وهذا أيضا غير صحيح لأنه ليس وزانه وزان هذه الآية لأنّ في تلك تفسير جملة بجملة ، وهذه فيها تفسير ضمير بجملة لكن ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من اختصاصه بضمير الشأن ليس بمسلم. قوله : ) وهو يعلأ أنّ الآمر ليس كما تصفون ( فيه إشارة إلى أنّ أعلم ليس المراد به التفضيل ، وقال أبو حيان رحمه الله معناه أعلم بما تصفون به منكم لأنه عالم بحقائق الأمور ، وكيف كانت سرقة أخيه الذي أحلتم سرقته عليه فهو على ظاهره فإن قيل لم يكن فيهم علم ، والتفضيل يقتضي الشركة قيل تكفي الشركة بحسب زعمهم فإنهم كانوا يدعون العلم لأنفسهم ألا ترى قولهم فقد سرق أخ له من قبل جزما. قوله : ) في السن أو القدر ذكروا له حاله استعطافا ( أي لأجل استعطافه وهو علة لهما لا للثاني وعطفهما بأو لأنهما معنيان متغايران وقوله ثكلان على أخيه أي حزين لفقده والثكلان بالمثلثة الحزين لفقد ولده مؤنثه ثكلى وتسميته هالكا بناء على ظنهم ذلك. قوله : ) من المحسنين إلينا فأتمم إحسانك أو من المتعؤدين بالإحسان فلا تغير عادتك ( قيل الفرق بين الوجهين بتخصيص الإحسان أو توجيهه إلى أصل الفعل وعلى الأوّل كأنهم قالوا أنت من المحسنين إلينا وما الأنعام إلا بالإتمام ، وعلى الثاني كأنهم قالوا قد عم إحسانك الورى فلن يعدونا ، ونحن إخوته ولكل ترجيح من وجه وهما حسنان ، والحمل على أن الأوّل استئناف لبيان الموجب ، والثاني اعتراض! لإثبات إحسانه على لعموم لا يلائم تقديرهم فتفوت المبالغة المشار إليها ، وتوله فأتمم في الأوّل ، وأجر في الثاني صريح في أنهما من أسلوب واحد ، والتفاوت ما هديت إليه فهو اعتراض! عليهما ، وهذا !ان تلقوه بالقبول فالظاهر خلافه لأن مقتضى الظاهر أنه إذا أريد بالإحسان الإحسان إليهم يكون مستأنفا لبيان ما قبله إذ أخذ البدل إحسان إليهم ، وأمّا إذا أريد أن عموم ذلك من دأبك ، وعادتك يكون مؤكداً لما قبله فذكر أمر عائم على سبيل التذييل ، والاعتراض أنسب به فما ذكروه غير متجه. قوله : ) فإن أخذ غيره ظلم الخ ( لأنه على ما أفتوا به من شريعتهم يؤخذ السارق فأخذ غيره ولو برضاه ظلم ، وقوله فلو أخذت الخ قدره لاقتضاء السياق له ، ولأن إذا حرف جواب ، وجزاء وإنما قيد الظلم بمذهبهم وشرعهم لأنه لكونه برضا منه لا ظلم فيه. قوله : ) أو أنّ مراده إنّ اللّه أذن الخ ) يعني كونه ظلما لأنّ الله أذن في خلافه لمصلحته ، ورضا الله عليه فيكون ظلما في نفس الأمر وظن بعضهم أنّ هذا ابتداء كلام لا إشارة إلى المذهب لوقوع الواو في نسخته بدل أو فحرف لفظا ، وتكلف ما لا معنى له ، وقوله(5/197)
ج5ص198
كنت ظالما أي لنفسي ،
وعلى الأؤل الظلم للغير فتأمّل. قوله : ( يئسوا من يوسف الخ ( أي استفعل بمعنى فعل وزيدت السين ، والتاء للمبالغة أي يئسوا يأسا كاملا لأنّ المطلوب المرغوب يبالغ في تحصيله ، والضمير المجرور ليوسف عليه الصلاة والسلام ، وقوله واجابته إشارة إلى أن المراد باليأس منه اليأس من إجابته ويحتمل أنه إشارة إلى تقدير مضاف في الكلام ، ولم يجعل الضمير لبنيامين كما قيل لأنهم لم ييأسوا منه بدليل تخلف كبيرهم لأجله ، وقوله انفردوا إشارة إلى أنّ الخلوص من الناس عبارة عن الانفراد عنهم ، وقول الزجاج انفرد بعضهم عن بعض فيه نظر. قوله : ) متناجين ( وإنما وحده لأنه مصدر كالتناجي بمعنى المشاورة ، والتدبير فيما يقولون لأبيهم عليه الصلاة والسلام ، وكان الظاهر جمعه لأنه حال من ضمير الجمع فوجهه بأنه مصدر بحسب الأصل أطلق على المتناجين مبالغة أو لتأويله بالمشتق ، والمصدر ، ولو بحسب الأصل يشمل القليل ، والكثير أو لكونه على زنة المصدر لأنّ فعيلا من أبنية المصادر ، وهو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجال! أي مناج بعضهم لبعض فيكونون متناجين ، وقوله وجمعه أنجية ذكره لأنه على خلاف القياس إذ قياسه في الوصف أفعلاء كغنيئ ، وأغنياء لكنهم جمعوه على ذلك كقوله :
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
وهو يقوي كونه جامداً كرغيف وأرغفة وقوله وهو شمعون وقيل يهوذا ، والثاني هو
الذي صرّح به في أوّل السورة ففيه اختلاف أشار إليه هنا ، وقوله جعل حلفهم إشارة إلى أن المراد بالموثق اليمين لأنه يوثق به ، وكونه من الله إمّا لأنه بإذنه فكأنه صدر منه أو هو من جهته فمن ابتدائية ، ومن قيل هذا إشارة إلى أن قبل من الغايات المبنية على الضم لحذف المضاف إليه وهو هذا ، وقوله قصرتم بمعنى فرطتم وفيه إشارة إلى المعنى المراد من التقصير فيه ، وهو التقصير في أمره وشأنه أو أن فيه مضافاً مقدراً ، وإذا كانت ما مزيدة فمن قبل متعلق بالفعل بعده ، والجملة حالية ، وقدمه لأنه أحسن الوجوه ، وأسلمها. قوله : ( ويجوز أن
تكون مصدرية ) أي ما مصدرية ، والمصدر في محل نصب لعطفه على مفعول تعلموا ، وهو أنّ أباكم ، وأورد عليه أمران الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف بالظرف وتقديم معمول صلة الموصول الحرفي عليه ، وفي جوازهما خلاف للنحاة ، والصحيح الجواز خصوصا بالظرف المتوسع فيه كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى في الأول ، ولم يتعرّض للثاني ، وقوله أو على اسم أن فيحشاج حينئذ إلى خبر لأن الخبر الأوّل لا يصح أن يكون خبراً له فلذا ذكره ، ولا يخفى أنّ المقصود الإخبار بوقوع التفريط في يوسف عليه الصلاة والسلام من قبل لا كونه واقعا فيه أو من قبل ، وفيه أيضا المحذوران المسابقان. قوله : ) وفيه نظر لأنّ قبل الخ ( هذا الرذ ذكره أبو البقاء رحمه الله ، وتبعه أبو حيان فاعترض به على الزمخشريّ ، وابن عطية فقال إنّ الهغايات لا تقع صلة ، ولا صفة ، ولا حالاً ، ولا خبرا ، وهذا متفق عليه وقد صرّج به سيبويه سواء جرت أو لم تجر فتقول ي!وسم السبست يوم مبارك ، والسفر بعده- ، ولا تقول والسفر بعد وأجاب عنه في الدرّ المصون بأنه إنما امتنع ذلك لعدم الفائدة ، وعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف إليه المحذوف فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مدلولاً عليه أن يقع ذلك الظرف المضاف إلى ذلك المحذوف خبرا وصلة ، وصفة وحالاً ، والآية الكريمة من هذا القبيل ، وردّ بأنّ جواز حذف المضاف إليه في الغايات مشروط بقيام القرينة على تعيين ذلمك المحذوف على ما صرّج به !الرضي فدل ذلك على أنّ الامتناع ليس معللا بهذا ( قلت ) ما ذكروه لميس متفقا عليه ، وقد قال الإمام المرزوقي في شرح الحماسة : إنها تقع أخباراً وصفات وصلات ، وأحوالاً ، وضل هذا الإعراب المذكور هنا عن الرمانيّ ، وغيره واستشهد له بما يثبته من كلام العرب ، وفي تعريفها بالإضافة باعتار تقدير المضاف إليه ععرفة يعينه الكلام السابق عليها اختلاف فالمشهور انها معارف ، وقال بعضهم أنها!كرات ، وأنّ التقدير من قبل شيء كما في شرح التسهيل ، والفاضل سلك مسلكا حسناً ، . وهو أن المضاف إليه إذا كان معلوما مدلولاً عليه بأن يكعون مخصوصا معيناً صح الإخبار لحصول الفائدة فإن لم يتعين بأن قامت قرينة العموم دون الخصوص ، وقدر ومن قبل شيء لم يصح الإخبار ، ونحوه إذ ما من شيء إلا ، وهوس قبل شيء ما فلا. فائدة في الأخبار فحينئذ يكون(5/198)
ج5ص199
معرفة ، ونكرة ، ولا مخالفة بين كلامه ، وكلام الرضي مع أنّ كلام الرضي غير متفق عليه فتأقله فإنه تحقيق حقيق بأن يرسم في دفاتر الأذهان ، ويعلق في حقائب الحفظ والجنان ، وقوله وفيه نظر أي في كون من قبل خيراً سواء هذا الوجه ، وما سبق ، وبه اندفع الإشكال بأنه قبل ليس خبرا بل من قبل ، وهو الجارّ والمجرور ، وقوله حتى لا ينقص أي يكون ناقصاً غير صالح للخبرية ، وقد أورد على أنها لا تكون صلة قوله تعالى : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ } [ سورة الروم ، الآية : 42 ] ودفع بأنّ الصلة قوله كان أكثرهم مشركين ، ومن قبل ظرف لغو متعلق بخبر كان لامستقرّصلة.
قوله : ( وأن تكون موصولة ) معطوف على أن تكون مصدرية وعلى هذا الوجه التفريط
بمعنى التقديم من الفرط ، وعلى الوجوه الأول بمعنى التقصير ، وأورد عليه أنه يكون قوله من قبل تكراراً فان جعل خبراً يكون الكلام غير مفيد ، وإن جعل متعلقا بالصلة يلزم مع التكرار تقديم مثعلق الصلة على الموصول ، وهو غير جائز كما مرّ ، وقوله ومحله ما تقدم أي في الإعراب من الرفع ، والنصب وعائد الموصول محذوف ، وأعلم أن السيرافي رحمه الله قال في شرح الكتاب قبل ، وبعد مبنيان على الضمّ وفي حال الإضافة يجرّان ، وينصبان فأعطيا حركة لم تسكن لهما حال التمكن ، وهي الضمة فحرّكتا بأقوى الحركات لما حذف المضاف إليه ، وتضمنا معنى الإضافة ، وحرفها لتكون عوضا عما ذهب ، وعلة أخرى ، وهو أنه أشبه المنادي المفرد الذي إذا نكر أو أضيف أعرب ، وإذا أفرد أو كان معرفة بني ، وكذا قبل ، وبعد إذا حذف المضاف إليه ، وكان معرفة فإن نكرا أعربا كقوله :
فساغ لي الشراب وكنت قبلا
وأنما بنيا لأنهما صارا كبعض اسم آخره الجزء الثاني ، ولذا سميتا غاية لأنهما صارتا
آخراً ، ومثلهما غيرهما من الظروف ، وما أشبهها كقوله :
ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء
اص. وإنما نقلناه لما فيه من الفوائد منها أنّ الغايات معارف لا يقدر ما حذف إلا معرفة
فلا يقدر نكرة كما تقدم عن بعض الحواشي فإنه ناشئ من عدم المعرفة. قوله : ( فلن أفارق أرض مصر ) يعني أنّ أبرح تامّة ضمنت معنى فارق ، والأرض مفعوله لا ناقصة لأنّ الأرض لا يصح أن تكون خبراً عن المتكلم هنا ، وليس منصوباً على الظرفية ، ولا بنزع الخافض وقوله في الرجوع لأنه المستحيي منه ، وقوله بخلاص أخي أي بسبب من الأسباب فذكر ثلاثة أوجه أحدها خاص ، وهو إذن أبيه في الانصراف ، والآخر عام ، وهو حكم الله فكأنه رجع عن الأسباب وفوض! الأمر إلى اللّه ، وقوله قفت بتشديد الفاء من قف شعره يقف إذا قام من غضب أو فزع ، وفي نسخة ووقفت بواوين من الوقوف ، والمراد بهما متحد ، وقوله فمسه أمر في
الأوّل ماض في الثاني ، وقوله لنوراً من نور يعقوب يريد أحداً من نسله صلى الله عليه وسلم بدليل أنه وقع في نسخة لبذرا من بذر يعقوب عليه الصلاة والسلام ، وهو استعارة تصريحية فيهما ، وقوله لأنّ حكمه لا يكون إلا بالحق بخلاف حكم غيره قد تقدم تحقيق معنى هذه الآية. قوله : ( على ما شاهدناه من ظاهر الآمر ) وهو خروج الصواع من رحله وكذا علمهم أيضاً مبني عليه لأنه يحتمل أن يدس عليه ، ويدل على هذا قراءة سرق بالتشديد المنسوبة إلى الكسائيّ فإنها بمعنى نسب للسرقة فتتحد القراءتان ، وقد استحسنت قراءة التشديد لما فيها من تنزيه بيت النبؤة عن السرقة ، وقوله بأن رأينا متعلق بعلمنا أو بدل تفسيري من قوله بما ، والوعاء هنا بمعنى الغرارة ونحوها ، وقوله ودس عطف على سرق بالتشديد ، وهو عطف تفسيري ، وحافظين على الوجهين بمعنى عالمين لأنّ العلم حفظ للشيء في الذهن ، ولأنه سبب للعلم أو منشؤه فصح التجوّز به عنه ، ولام للغيب للتقوية ، وقوله وما كنا للعواقب اعتذار لأبيهم بأنّ ما أصاب بنيامين لم يكن داخلا في الميثاق وما حلفنا عليه. قوله : ( يعنون مصر ) بناء على ما مر من أن المفتش لهم يوسف عليه الصلاة والسلام أو المؤذن ، وقوله يعنون أي الأخوة ، وفي نسخة يعني أي كبيرهم القائل له ذلك ، وقوله أرسل الخ يعني أنّ فيه طيا للإيجاز ، وسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها إمّا مجازا في القرية لإطلاقها على أهلها بعلاقة أو في النسبة أو يقدر فيه مضاف ، وأمّا جواز أن يسأل القرية نفسها فتنطق على خرق العادة لأنه نبيّ جمفه ، فليس مراداً ولا يقتضيه المقام لأنه ليس بصدد إظهار المعجزة ، وقوله عن القصة إشارة إلى(5/199)
ج5ص200
حذف متعلقه للعلم به. قوله : ( وأصحاب العير ( بيان لمحصل المعنى فيحتمل تقدير المضاف ، وجعله مجازأ كما مرّ في " يا خيل الله اركبي " وقيل إنه رجح المجاز هناك لاقتضاء النداء له ، ورجح هنا التقدير ، وقوله التي توجهنا فيهم إشارة إلى كثرتهم وأنهم كانوا مغمورين بينهم ، وقوله وكنا كالتعليل له. قوله : ) تثيد في محل القسم ( يعني ليس المراد إثبات صدقهم بما ذكر حتى يكون مصادرة لإثبات الشيء بنفسه بل تأكيد صدقهم بما يفيد ذلك من الاسمية وأن واللام ، ويحتمل أن يريد أن هنا قسما مقدراً. قوله : ) فلما رجعوا إلى أبيهم الخ ( بيان لاتصال الكلام بما قبله وار- تباطه بما طوى
لأن اسأل القرية قول بعض بنيه وبل سوّلت قول أبيهم عليه الصلاة والسلام ردّاً لعذرهم فلا بد من تقدير لمحصل المعنى ، وبيان لأنّ فيه إيجازاً والتسويل تقدم بيانه ، وقوله والا فما أدري الملك الخ يعني أنّ منشأ ظنه بهم في هذه القصة أخذه بسرقته فإنه ليس دينهم فقام ذلك عنده مقام القرينة ، وأورثه شبهة لاتهامهم بقصد السوء لأخيهم فما قيل كون هذا من التسويل محل نظر من قلة التدبر ، وقوله فأمري الخ يعني هو إمّا خبر أو مبتدأ كما مرّ تحقيقه ، وقوله عسى الله الخ لأنه كان عرف اًنّ يوسف عليه الصلاة والسلام لم يمت لما سأل عنه ملك الموت عليه الصلاة والسلام هل قبضت روحه فقال لا ولأنه علم من تناهي الشدة أنّ بعدها فرجا عظيماً وقوله لما صادف أي لقي منهم في أمر يوسف وأخيه. قوله : ( أي يا أسفي ثعال الخ ) إشارة إلى ما مرّ من نداء ما لا يعقل أي ما حل به من الأسف وتوطين نفسه له حتى كأنه يطلب إقباله والأسف أشد الحزن أي على ما فات لا مطلقاً ، وقوله والألف بدل من ياء المتكلم للتخفيف ، وقيل هي ألف الندبة ، والهاء محذوفة ، وقوله رزؤهما بضم الراء المهملة ، وسكون الزاي المعجمة والهمزة وهي المصيبة ، وقوله لأن رزأه أي مصيبة يوصف كانت قاعدة ومبني لجميع مصيباته فكلما عرضت له مصيبة ذكرته بمصيبة يوسف عليه الصلاة والسلام لأنها في كل زمان غضة أي طرية لم تزل عن فكره أبداً ، وكل جديد يذكر بالقديم ، وقوله دون حياته قيل إنه ينافي ما سيأتي في تفسير قوله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون ، ويحتمل أنّ علمه بعد هذا ، وفي أسفا ويوسف تجنيس نفيس وقع من غير تكلف. قوله : ( وفي الحديث " لم تعط أمّة من الأمم! الخ ( رواه الطبرانيّ وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أي أنهم لم يعلموه ، ولم يوفقوا له عند نزول المصيبة بهم. قوله : ( لكثرة بكائه ) يعني أنه
جعل الحزن في الآية سبب ابيضاض عينه لأنه سبب للبكاء الذي بيضها فأقيم سبب السبب مقامه لظهوره ، وقوله كأق العبرة بفتح العين أي الدموع محقت سوادهما يعني أن ظاهره أنه نزلت عينه غشاوة بيضتها ، والقول الثاني إنه كناية عن العمى لأنه لازم لذهاب سوادها فلا وجه لما قيل إنه كان حق التعبير فقيل بالفاء لأنه ليس مقابلا لما قبله بل تفصيل له والقول الأخير قيل هو الظاهر لقوله فارتذ بصيراً ، وقد مز الكلام في جواز العمى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقوله الحزن أي بفتحتين. قوله : ( وفيه دليل على جواز التأسف ) أي الحزن عند التفجع أي المصيبة ، وهو كذلك وإنما المنهيّ عنه النياحة واللطم ، وقوله : " بكى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، حديث صحيح أخرجه الشيخان عن أن! رضي الله عنه ، وقوله مملوء من الغيظ ، وقيل من الحزن فهو فعيل بمعنى مفعول فكأنه مملوء بالغيظ ففيه استعارة مكنية وتخييلية ، وقوله على ملئه أي ملآنا أو هو بمعنى فاعل أي شديد التجرّع للغيظ أو الحزن لأنه لم يشكه إلى أحد قط والجرّة بكسر الجيم ، وتشديد الراء ما يجتره البعير أي يخرجه من جوفه مما أكله أوّلاً ليلوكه فكأنه يرده لجوفه مرّة بعد أخرى من غير أن يطلع أحدا عليه وهو استعارة بليغة. قوله : ( لا تفتأ ولا تزال تذكره تفجعا عليه ( القائلون إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام ، وقيل غيرهم من أتباعه واستدل به على جواز الحلف بغلبة الظن ، وقيل إنهم علموه منه لكنهم نزلوه منزلة المنكر فلذا أكدوه ، وقوله ولا تزال تذكره عطف تفسيرقي مع الإشارة إلى حذف لا وقيل إنه فسره بلا تزال دون لا تفتر كما روي عن مجاهد ، وأوّله الزمخشري بأنه جعل الفتوء ، والفتور أخوين(5/200)
ج5ص201
أي متلازمين لا أنه بمعناه يعني أن فثأ بمعنى فتر وسكن ليس بالمثناة بل هو فثأ بالمثلثة كما في الصحاح من فثأت القدر إذا سكنت غليانها ، والرجل إذا سكنت غضبه ، وهو كما قال أبو حيان تصحيف ، وخطأ ابن مالك فيه وليس كما قال فإن ابن مالك نقله عن الفزاء ، وقد صرح به السرقسطي في أفعاله ، ولا يمتنع اتفاق مادتين في معنى ، وهو كثير وقد جمعه ابن مالك رحمه
اللّه تعالى في كتاب سماه ما اختلف إعجامه ، واتفق إفهامه ، ونقله عنه صاحب القاموس. قوله : ) فقلت الخ ) شاهد على حذف لا في جواب القسم ، وهو من قصيدة مشهورة لامرئ القيس أوّلها :
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
ومنها :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ويمين الله يروى بالرفع والنصب على أنه مبتدأ خبره محذوف ، والأوصال جمع وصل
بكسر الواو وسكون الصاد المهملة وهي الأعضاء ، وقيل المفاصل ، وقيل ملتقى كل عظمين في الجسد. قوله : ( لأنه لا يلتبس بالإثبات ) أي لأن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات كان على النفي وعلامة الإثبات هي اللام ونون التأكيد ، وهما يلزمان جواب القسم المثبت فإذا لم يذكرا دلّ على أنه منفي لأن المنفيّ لا يقارنهما فلو كان مثبتاً قيل لتفتأنّ ، وقوله كان على النفي أي كان المعنى على النفي أو كان الكلام مبنيا على النفي. توله 0 ( مريضا مشفيا على الهلاك ) أي مشرفا عليه وقريبا منه ، وقيل الحرض معطوت على ما قبله بحسب المعنى ومعنى أذابه جعله مهزولاً نحيفا ، وهو مصدر فلذا لا يؤنث ، ولا يجمع ولا يثنى وجه ذلك أنّ المصدر يطلق على القليل ، والكثير والنعت أي الصفة حرض بكسر الراء كدنف لفظأ ، ومعنى وبضمتين صفة مشبهة أيضا. قوله : ) أو تكون من الهالكين ) أو يحتمل أن تكون بمعنى بل أو بمعنى إلى أن فلا يرد عليه أنّ حقه التقديم على قوله حتى تكون حرضا فإن كانت للترديد فهي بمعنى الخلوّ ، وقدم على ترتيب الوجود كما قيل في قوله تعالى : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ سورة البقرة ، الآية.
أو لأنه أكثر وقوعاً ، وما قيل إنه مقيد بعدم بلوغه إلى الهلاك سهو لأنه يتكرّر مع ما قبله. قوله : ) همي الذي لا أقدر الصبر عليه ( ضمن أقدر معنى أطيق فعداه بنفسه كأنّ همه ثقل يحمله فلا يطيق حمله وحده فيفرقه على من بعينه كقوله :
إذا الحمل الثقيل توزعته أكف القوم هان على الرقاب
فالبث استعارة تصريحية ، وهو مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول والظاهر الثاني. قوله :
( من صنعه ورحمتة الخ ( ففيه حذف مضاف ، ومن بيانية قدمت على المبين ، وهو ما وقد جوّزه النحاة ، وعلى الثاني هي ابتدائية ، وقوله وأنه لا يخيب داعيه تفسير للصخ ، وقوله رأى ملك الموت الخ بيان للإلهام ، وقوله علم من رؤيا يوسف وجه آخر ، ويحتمل أنه أيضاً من الإلهام ، واعترض! على قوله في المنام بأنه باطل رواية ودراية لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يرى الملائكة يقظة فلا حاجة إلى جعله مناما ، وقد أخرج ابن أبي حاتم من النضر رضي الله عنه أنه قال بلغني أنّ يعقوب عليه الصلاة والسلام مكث أربعة وعشرين عاماً لا يدري أيوسف عليه الصلاة والسلام حيئ أم ميت حتى تمثل له ملك الموت عليه الصلاة والسلام فقال له : من أنت قال : أنا ملك الموت فقال : أنشدك بإله يعقوب هل قبضت روج يوسف قال لا فعند ذلك قال عليه الصلاة والسلام يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، وفيه نظر لأنّ مثله إنما يكون برواية. قوله : ( فتعرفوا منهما وتفحصوا عن حالهما الخ ) الشحسس تفعل من الحس ، وهو الإدراك بالحاسة وقريب منه المجسس بالجيم ، وقيل إنه بالحاء في الخير وبالجيم في الشر وردّ بأنه قرئ بهما هنا ، وقوله التحسس طلب الإحساس هو أصل معناه والمراد لازمه ، وهو التعرّف ، وذكر التفحص أي التفتيش لأنه طريقه وقيل التحسس طلب الإدراك بالحس مرّة بعد أخرى ، وإنما أمرهم يعقوب عليه الصلاة والسلام بالتحسس لما رأى في منامه أو أخبره به الملك أو لما تفرس من ذكر إكرامه لهم ، وما هو عليه من أنه ليس من الفراعنة. قوله : ) ولا تقنطوا من فرجه وتنفيسه ( الروح بالفتح أصل معناه النفس كما قاله الراغب(5/201)
ج5ص202
ثم استعير للفرج كما قيل له تنفيس من النفس ، وقرئ روج الله بالضم ، وفسر بالرحمة على أنه استعارة من معناها المعروف لأنّ الرحمة سبب الحياة كالروح واضافتها إلى الله تعالى لأنها منه ، وقال ابن عطية رحمه الله تعالى معناه لا تياسوا من حيّ معه روح الله الذي وهبه فإنّ كل من بقيت روحه يرجى وفي غير من قد وارت الأرض مطمع. قوله : ( بالله وصفاته ) لأنّ سبب اليأس عدم التصديق بالصانع وصفاته الكمالية ، وليس فيه دليل على أنّ اليأس كفر بل هو ثابت بدليل آخر ، وقوله بعدما رجعوا إلى مصر رجعة ثانية بيان له بحسب الواقع ، وقوله شدة الجوع هذا أحسن من تفسير الزمخشري له بالهزال ، وهذا إشارة إلى مسالة أصولية وهي إلا من مكر الله ، والياس من رحمته كبيرة أو كفر قولان
مشهوران ، وفي جمع الجوامع وشروحه كلام مفصل فيها. قوله : ( رديئة أو قليلة ) يعني أصل معنى التزجية الدفع والرمي فكني بها عن القليل والرديء لأنه لعدم الاعتناء به يرمي ويطرج ، والمراد أنّ ما أتوا به غير صالح لأن يكون ثمنا بدون محاباة وتزجية الزمان دفعه بالأمر القليل والصبر عليه حتى ينقضي كما قيل :
درّج الأيام تندرج وبيوت الهمّ لاتلج
وقد فسر الآية بهذا الزجاج فقال أي إنا جئنا ببضاعة الأيام مزجاة بها ، والمصنف رحمه
الله سكت عنه ، ولم يفسر به ثم إنه شرع في بيان كونها رديئة أو قليلة بقوله قيل الخ والصنوبر معروف والحبة الخضراء أيضا معروفة وليست الفستق كما قاله أبو حيان رحمه الله تعالى ، والمقل هو الذي يسمونه دوماً ، وهو بضم الميم وسكون القاف. قوله : ) فأتم لنا الكيل ) أي لا تنقصه لقلة بضاعتنا أو رداءتها ، واختلف في حرمة أخذ الصدقه هل هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم أو تعم جميع الأنبياء عليهم الصلاة والس!لام فذهب سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى إلى اختصاص ذلك بنبينا تخرر استدلالاً بظاهر هذه الآية ، ومن ذهب إلى العموم ، وأنّ هؤلاء أنبياء أو آل نبيّ والصدقة لا تحل لهم فسر الآية بردّ الأخ ، ونحوه مما ليس بصدقة حقيقة أو يقول المحرم إنما هو الصدقة المفروضة مع أنّ الصدقة تكون بمعنى التفضل ، ومنه تصدق الله على فلان بكذا ، وأمّا قول الحسن رحمه اللّه تعالى لمن سمعه يقول اللهثم تصدّق عليّ إنّ الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل اللهئم أعطني أو تفضل عليّ فقد ردّ بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " وأجيب عنه بأنه مجاز أو مشاكلة ، وإنما رذ الحسن رحمه الله تعالى على القائل لأنه لم يكن بليغا كما في قصة المتوفى ، وقوله أحسن الجزاء إشارة إلى أنه حث على الإحسان فإنه يجزي أحسن جزاء من الله وان لم يجزه المحسن إليه ، وقوله في القصر أي في شأن القصر أي قصر صلاة المسافر والحديث في صحيح البخارقي رحمه الله
تعالى. قوله : ( أي هل علمتم قبحه فثبتم ) إشارة إلى المراد منه كناية أو بتقدير مضاف لأن الفعل الصادر بالاختيار لا ينفك عن العلم به والشعور ، ولذا قيل إنهم عالمون بقبحه أيضاً لأنه لا يخفى على مثلهم ، وإنما ذكره حثالهم على التوبة لأنّ العاقل إذا اتضح له قبح فعله لا يتوقف في الرجوع عنه ، ولذا رتب عليه قوله فتبتم ، وقوله إذ أنتم جاهلون قبحه متعلق بفعلتم على هذا التقدير لأنه لا يصح هل علمتم قبحه إذ جهلتموه بل المعنى هل علمتم قبحه بعدما فعلتموه جاهلين به ، وهو تلقين للعذر كما في قوله تعالى : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } !سورة ألانفطار ، الآية : 6 ] وتخفيف للأمر عليهم ، والمراد بعاقبته ما آل إليه أمر يوسف عليه الصحلاة والسلام والتنصيح بذل النصح تديناً لهم ، وقوله لا معاتبة وتثريبا كما قيل إنه استعفام لما ارتكبوه لمخالفته لقوله لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم. قوله : ( وقيل أعطوه كتاب يعقوب عليه الصلاة والسلام ) وصورته كما في الكشاف من يعقوب إسرائيل اللّه بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أمّا بعد فإئا أهل بيت موكل بنا البلاء أمّا جدي فشذت يداه ورجلاه ، ورمى به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه برداً وسلاما ، وأمّا أبيئ فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله ، وأمّا أنا فكان لي ابن ، وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم ، وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به فذهبوا به ، ثم رجعوا(5/202)
ج5ص203
وقالوا : إنه سرق وإنك حبسته لذلك ، وأنا أهل بيت لا نسرق ، ولا نلد سارقا فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. قوله : ( أو لأنهم كانوا حينئذ صبياناً طياشين ( الطيش ) الخفة ورد هذا بأنه غير مطابق للواقع ولقوله ، ونحن عصبة ، ولذا مرّضه المصنف رحمه اللّه تعالى. قوله : ( استفهام تقرير الخ ) ولذلك أكد لأنّ التأكيد يقتضي التحقق المنافي للاستفهام ، وقوله صلى الله عليه وسلم أنا يوسف تصديق لهم ، وقراءة ابن كثير بحذف الهمزة والمراد بالإيجاب ما يقابل
الاستفهام كما يقال له إثبات ، وقيل إنّ الهمزة محذوفة على هذه القراءة ، وقوله بروائه أي برؤية منظره لأنه لم يدنهم قبل ذلك وقيل إنه كان يكلمهم من وراء حجاب وكان الظاهر أن يقول وبكلامه بلسان العبرية لقوله كلمهم به ، وقوله ثناياه أي مقدم أسنانه لحسنها وانتظامها كالدر ، وقوله بقرنه أي جانب رأسه ، وقوله وكانت أي العلامة ولسارة ويعقوب مثلها جملة خبر كان أو اسم كان مثل وأنث لإضافته إلى المؤنث ، ويجوز نصب مثلها ، وقوله ذكره تعريفا لنفسه جواب سؤال وهو أنّ السؤال عنه فلم ذكر أخاه. قوله : ( أي يتق اللّه ) أبقى التقوى على ظاهرها ، وعدل عن تفسير الزمخشري له بيخف الله وعقابه لأنه اعترض عليه بأنه مجاز من غير داع ولا قرينة فالوجه تفسير التقوى بالاحتراز عن ترك المأمورات ، وارتكاب المنهيات ، والصبر بالصبر على المحن والبلايا ، وقد أجيب عنه بأنّ هذه الجملة تعليل لقوله قد من الله علينا ، وتعريض لإخوته بأنهم لم يخافوا عقابه ، ولم يصبروا على طاعة الله وطاعة أبيهم ، وعن المعصية إذ فعلوا ما فعلوا فيكون المراد بالاتقاء الخوف وبالصبر الصبر على الطاعة ، وعن المعصية ورد بأنّ التعريض حاصل في التفسير الآخر أيضا فكأنه فسره به لئلا يتكرّر مع الصبر ، وفيه نظر وقرئ بإثبات ياء يتقي فقيل إنه على لغة من يجزمه بحذف الحركة المقدرة وقيل شبهت من الشرطية بالموصولة ، وقوله من جمع الخ فيكون الإحسان مجموعهما. قوله : ( اختارك الخ ) الإيثار الاختيار ، ويكون بمعنى التفضيل أيضاً ، وقوله بحسن الصورة قيل المناسب للمقام ما في الكشاف بالتقوى ، والصبر وسيرة المحسنين بخلاف ما نحن عليه فإنا لم نصبر على تفضيل أبينا لك ، ولم نحسن حالنا وسيرتنا معك ، ومع أخيك وقيل آثرك بالملك أو بالعلم. قوله : ( والحال إن شأننا إنا كنا مذنبين الخ ) يشير إلى أنّ الواو حالية ، وان مخففة واسمها ضمير شأن وأنّ الخاطئ من تعمد الذنب ، وأنّ اللام مزحلقة عن محلها. قوله : ( لا تأنيب الخ ) التأنيب ، والتقريع اللوم بعنف ، ولما لم يستعمل من هذه المادّة غير الثرب ، وهو الشحم الرقيق في الجوف ، وعلى الكرس جعلوه منه ، وجعلوا التفعيل للسلب كالتجليد بمعنى إزالة الجلد فاستعير للوم لأنّ بإزالة الشحم يبدو الهزال ، وما لا يرضى كما أنه باللوم تظهر العيوب فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال أو إزالة ما به الكمال والجمال ، وكذا التقريع أصله إزالة القرع ، وهي البثور ، وقوله يمزق العرض ويذهب ماء الوجه تفسير له بما يناسب معناه أي
التثريب الذي أصله إزالة الثرب استعير لتمزيق العرض ، واذهاب ماء الوجه الدّي هو إزالة الخير والوجاهة. قوله : ( متعلق بالتثريب الخ ) تغ فيه الكشاف ، وأورد عليه أنه يكون حينئذ شبيهاً بالمضاف نحو لا ضاوبا زيدا فيتعين نصبه بل هو خبر كقوله :
لا نسب اليوم ولا خلة
أي لا تثريب كائن في اليوم ، ولذا قال أبو البقاء خبر لا عليكم أو اليوم وعليكم متعلق بالظرف أو بمتعلقه ، وهو الاستقرار ، ولا يجوز أن يتعلق بتثريب ، وإلا لنصب لأنّ اسم لا كالمنادى إذا عمل نوّن وقال أبو حيان رحمه الله لا يجوز تعلق اليوم بتثريب لأنه مصدر فصل بينه وبين معموله بعليكم ، وهو لا يجوز سواء كان خبراً أو صفة لأنّ معمول المصدر من تمامه وأيضا لو تعلق به لم يجز بناؤه لشبهه بالمضاف ، ولو قيل الخبر محذوف وعليكم واليوم متعلق به أي لا تثريب كائن عليكم اليوم لكان قوياً ( أقول ) اتفق على هذا كلمتهم هنا وهو غريب منهم فإنه صرّح في متون النحو بأن شبيه المضاف سمع فيه عدم التنوين نحو لا طالع جبلاً ووقع في الحديث : " لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت " باتفاق الرواة فيه ، وإنما الخلاف فيه هل هو مبنيّ أو معرب ترك تنوينه ، وأمّا الفصل بين المصدر ومعموله فقد ردّه المعترض على نفسه من حيث لا يشعر لأنه إذا سلم جعل معمولاً لمقدر ، والجملة معترضة ، وبالاعتراض(5/203)
ج5ص204
سقط الاعتراض ، وأمّا ما قيل إنه متعلق الظرف لا شبيه المضاف فمخالف لتصريح أهل العربية ، وكذا كون الظرف متعلقا بالنفي لا بالمنفيّ ، وا! المراد بتعلقه به تعلقه بالخبرية ، وأنه لما فصل بينه ، وبين متعلقه جاز البناء وكل هذا مما لا حاجة إليم 4 ، وإنما هو ضغث على إبالة لأنه كلام ناشئ من قلة الاطلاع ، ولبعض الناس هنا كلمات مضطمة تركناها لافتضاح المصباح بطلوع الصباح. قوله : ( والمعنى ) يعني على كلا التقديرين لا أثزبكم اليوم يعني أنّ تعبيره باليوم ليس لوقوع التثريب في غيره لأنه إذا لم يثرب أول لقائه ، واست حال ناره فبعده بطريق الأولى وقال الشريف المرتضى في الدرر والغرر أن اليوم موضوع موضع الزمان كله كقوله :
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوالنا تبعا
أي بعد اليوم. قوله : ( أو بقوله يففر اللّه ) قال الشريف في الدرر ضعف قوم هذا الجواب
من جهة أنّ الدعاء لا ينصب ما قبله ، ولم أر من صرّج به غيره قيل ، وفي كلام المصنف إشارة
إلى دفعه بجعله خبر الادعاء وقال ابن المنير رحمه الله تعالى الصحيح تعلقه بتثريب أو بالمقدر في عليكم فإنه لو كان متعلقاً بيغفر لقطعوا بالمغفرة بإخبار الصديق ولم يكن كذلك لقولهم يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا فأجيب بأنّ ستر الذنب ، وعدم المؤاخذة به إنما يكون في القيامة ، والحاصل قبله هو الأعلام به ، وطلب ما يعلم حصوله غير ممتنع بل الممتنع طلب الحاصل على أنه يجوز أن يكون هضما للنفس كما في استغفار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولا فرق بين الدعاء والاً خبار هنا. قوله : ( لآنه صفح عن جريمتهم حينئذ الخ ) قيل إنه إشارة إلى أنه أخبار لادعاء وتعليل لفظه بغفران الله بأنه عفا عنهم ، وتابوا كما أشار إلى الأوّل بقوله صفح عن جريمتهم والى الثاني بقوله واعترفوا بها فلا محالة غفروا مما يتعلق به ، وبالله بمقتضى ، وعد الله بقبول توبة العباد لا مما يتعلق بأبيهم إذ هو المطلوب بقولهم يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا حتى يرد أنه قطع بمغفرتهم لإخبار الصادق فيجاب بما مرّ في القولة قبل هذا ، وقيل قطع بالمغفرة فيما يرجع إلى حقه دون أخيه ، وفيه بحث ، وقوله وهو أرحم الراحمين تحقيق لحصول المغفرة لأنه عفا عنهم فالله أولى بالعفو والرحمة لهم فإن كانت الجملة دعائية فهو بيان للوثوق بإجابة الدعاء ، وقد مرّ تحقيق التفصيل فيه ، وقوله فإنه يغفر الصغائر والكبائر أو لا! رحمة البشر برحمته أيضا وهي جزء من مائة جزء من رحمته قيل ، ولو علله بهذا كان أولى ، وقوله والكبائر أي التي لا يغفرها غيره ، وتفضله على التائب بمقتضى وعده بخلاف رخماء الناس قد يقبلون التوبة ، وقد لا يقبلونها ودلالة ما ذكره على الكرم إذ جعل مجيئهم إليه ليس لأجل إكرامهم بل لإكرامه هو فالمنة لهم في ذلك وحفدة جمع حفيد أو حافد ، وهو ولد الولد. قوله : ( القميص الذي كان عليه الخ ) يجوز رفع القميص بتقدير هو ، ونصبه بتقدير أعني ، وضعف القول الثاني لأنّ قوله أجد ريح يوسف يدل على أنه كان لابسا له لا في تعويذته كما تشهد به الإضافة إلى ضميره ، وقيل إنه القميص الذي قدمن دبر أرسله ليعلم براءته من الزنا ولا يخفى بعده ، وباء بقميصي للملابسة أو للمصاحبة أو للتعدية ، والتعويذ التميمة التي تعلق للحفظ من لعين ونحوها. قوله : ( يرجع بصيرا أي ذا بصر ( أصل معنى الإتيان المجيء فإن كان على حقيقته يكون بصيراً حالاً وان تجوّز به عن معنى الصيرورة يكون خبرها وترك الوجه الأوّل لأنه المناسب لقوله ارتد بصيراً وهو يدل على أنه ذهب بصره وفي نسخة يصر بصيراً ، ومجيئه له
يدل عليه قوله ، وائتوني بأهلكم كما صرّح به المصنف ولو حمل على ظاهره احتاج إلى تكلف. قوله : ( أنتم وأبي ) إشارة إلى ما فيه من التغليب وما قيل إنه لا حاجة إليه لأنه كان شيخا كبيراً عاجزاً فهو داخل في الأهل غير حسن لأنه متبوع لا تابع وما ذكر. وا. جدا ، وقوله فصلت العير أي خرجت من قولهم فصل القوم عن المكان ، وانفصلوا بمعنى فارقو. ، وقوله لمن حضره أي من ولد ولده. قوله : ( أوجده اللّه ريح ما عبق بقميصه ) أي جعله الله واجدا لريحه أي رائحته وعبق يعبق كفرح يفرح بمعنى التصق ، وتسامحوا فيه فجعلوه بمعنى فاح منه الرائحة ، ويخص بالرائحة الطيبة والرائحة لعرقه لا للبدن نفسه ففيه تجوز واضافته لأدنى ملابسة. قوله : ( تنسبوني إلى الفند ) بفتحتين(5/204)
ج5ص205
وهو ضعف الرأي ، والعقل من الهرم ، وكبر السن وفنده نسبه إلى الفند وهو مأخوذ من الفند ، وهو الحجر والصخرة كأنه جعل حجر القلة فهمه كماقال :
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ~ فكن حجرا من يابس الصخر جلدا
ثم اتسع فيه فقيل فندد إذا ضعف رأيه ولامه على ما فعله ، ولذا لم يقل للمرأة مفندة لأنها
لا رأي لها حتى تضعف كذا في الكشاف والأساس ، وقال الشمني إنه غريب ولا وجه لاستغرابه فإنه منقول عن أهل اللغة كما في القاموس ، ولعل وجهه أنّ لها عقلاً وان كان ناقصا يسدّ نقصه بكسر السين فتأمّل ، وقوله ذاني أي غير عارض لهرم ونحو. ، وقوله لصدقتموني أو لأخبرتكم خبره لأنه مصذق ، ولكن ظنوا ما قاله من وساوس الشيخوخة ، وقوله أو لقلت أنه أي يوسف قريب مكانه أو لقاؤه. قوله : الفي ذهابك عن الصواب الخ ) يعني أنّ الضلال بمعنى عدم الصواب ، وجعله فيه لتمكنه ، ودوامه عليه ، ولا يليق تفسيره بجنونك القديم وإنما قالوا هذا لظنهم أنه مات ، وقوله قدما بكسر القاف وسكون الدال المهملة بمعنى قديماً كما في قوله : ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد مكراً وقدماكان ذلك من فعلي
كذا في النبراس وهذا مما أهمله بعض أهل اللغة كصاحب القاموس ، وأمّا القدم بالضم فبمعنى التقدم كما في مثلثات البطليوسي. قوله : ( روي أنه قال كما أحزنته الخ ا لأنه الذي
حمل إليه ذلك القميص قيل الظاهر أن تطرح الفاء أو كما من العبارة ، وقوله طرج البشير ففاعله ضمير البشير وهو الظاهر من قوله فألقوه على وجه أبي أو فاعله ضمير يعقوب عليه الصلاة والسلام قيل وهو الأنسب للأدب. قوله : ( عاد بصيرا ) فبصيرا خبرها ، ومن أنكر مجيئها بمعنى صار جعله حالاً ، وانتعش بمعنى تحرّك وقوي حتى قوي قلبه ، وحرارته الغريزية فأوصل نوره إلى الدماغ وأذاه إلى البصر فأبصر فلا يرد عليه أنّ الصواب أن يقال إنه معجزة ليعقوب عليه الصلاة والسلام لأن قؤة البدن لا تفيد قوّة البصر ، وقوله والمقول لا تيأسوا أي إن كان الخطاب لأولاده أو أني لأجد إن كان مع من حضر ، وقوله ومن حق المعترف الخ لأن قوله : { إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } تعليل لما قبله فلا وجه لما قيل إنّ المناسب لقوله يا أبانا إذ نادوه بما يقتضي العطف والشفقة أن يقال ، ومن حق شفقتك علينا أن تستغفر لنا فإنه لولا ذلك لكنا هالكين لتعمد الإثم فمن ذا يرحمنا إذا لم ترحمنا ، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى هو المناسب للسياق والسباق. قوله : ( أخره إلى السحر أو إلى صلاة الليل أو إلى ليلة الجمعة ( قيل يأبى هذه الاحتمالات الثلاثة سوف لأنها أبلغ من السين في التنفيس فكان حقه على ما ذكر السين ورد بما في المغني من أنّ ما ذكره مذهب البصريين ، وغيرهم يسوي بينهما ، وهذا غير وارد حتى يحتاج إلى الدفع لأنّ التنفيس التأخير مطلقا ، ولو أقل من ساعة فتأخيره إلى السحر ، ومضى ذلك اليوم محل للتنفيس بسوف وإنما أخر لما ذكر لأنها أوقات الإجابة كما وردت به الأحاديث ، وفي الكشاف وجه آخر ، وهو أن يراد الدوام على الاستغفار قيل وهو مبنيّ على أن السين ، وسوف تدل على الاستمرار في المستقبل ، وفيه كلام في مغني اللبيب ، وقد مرّ تحقيقه في قوله تعالى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاء } [ سورة البقرة ، الآبة : 142 ] . قوله : ) أو إلى أن يستحل لهم من يوسف ( عليه الصلاة والسلام أن يجعلهم في حل منه بالعفو عنهم الأوّل مبنيّ على ظن أنه لم يعف عنهم ، والثاني على أنه عفا ، ولكن أراد تيقنه بسماعه مته ، وهذا على أن ما طلبوه عفو يوسف عليه الصلاة والسلام عما فعلوه به وعفو المظلوم شرط المغفرة فيجب على الظالم أن
يتحلل منه ، وهل يجب تعيين المظلمة له وقدرها لأنها إذا علمت قد لا تطيب نفسه بالعفو أو يكفي ذكرها إجمالاً فيه اختلاف للفقهاء ، وقوله ولدك بضمّ فسكون جمع ولد ، وقوله وعقد مواثيقهم أي عهد على نفسه أن يعطيهم النبوّة من قولهم عقاد الألوية ، وفي النهاية هلك أهل العقد يعني أصحاب الولاية على الأمصار ثم تجوز بالعقد ، والحل عن فصل الأمور إثباتا ونفياً وأصله في اللواء كما عرفت ، وقوله إن صح إشارة إلى الاختلاف في نبوّتهم فعلى القول بها يكون ما صدر عنهم قبل النبوّة بدليل هذه الرواية. قوله : ( وجه إليه ) أي إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام وقوله واستقبله(5/205)
ج5ص206
يوسف والملك يقتضي أنه لم يكن ملكاً ، وإنما كان على خزائنه كالعزيز ، وكأنّ الرواية مختلفة فيه فإنه قيل إنه تسلطن ، وهو المشهور ، والتجهيز حمله ، وما معه ، وفي قوله فلما دخلوا على يوسف إيجاز تقديره فرحل يعقوب عليه الصلاة والسلام بأهله أجمعين ، وساروا حتى أتوا يوسف عليه الصلاة والسلام فلما دخلوا الخ. قيل وكان دخولهم يوم عاشوراء. قوله : ( بضعة وسبعين رجلاَ ) في الصحاح إذا جاوز العدد العشرة ذهب البضع فلا يقال بضع وعشرون لكن في المغرب ما يخالفه ، وقد وقع في الحديث الصحيح في البخاريّ ، وغيره : " الإيمان بضع وسبعون شعبة " ورأيت بضعة وثلاثين ملكاً ، ولهذا قال الكرماني رحمه الله تعالى بعدما نقل كلام الجوهرفي أنه خطأ منه لأنّ أفصح الفصحاء تكلم به وكأنّ منشأ الغلط أنهم قالوا إنه لا يطلق على العشرة ، وإنما يطلق على كسورها سواء كانت قبل العشرة أو بعدها فظن أنها لا تستعمل فيما بعدها فتأمّل ، والهرمى جمع هرم. قوله : ( ضم إليه أباه وخالته واعتنقهما نزلها منزلة الأمّ الخ ) تنزيل منصوب على أنه مصدر تشبيهي أي نزل الخالة منزلة الأمّ كما نزل العم منزلة الأب بقطع النظر عن كونها زوجة يعقوب عليه الصلاة والسلام ، وعلى الوجه الثاني أنه لما تزوّجها بعد أمّه صارت راية له فنزلت منزلة الأم لكونها مثلها في زوجية الأب ، وقيامها مقامها ، والرابة امرأة الأب غير الأم كما أنّ الولد من غيرها يسمى ربيبا واسم الخالة ليا ، وقيل راحيل وقيل إنّ أمة كانت في الحياة ، وما قيل إنّ الله أحياها لم يثبت ،
ولو ثبت مثله لاشتهر. قوله : ( والمشيئة متعلقة بالدخول المكيف بالأمن ( قال صاحب التيسير الاستثناء داخل في الأمن لا في الأمر بالدخول لأنه أمر بالدخول ، ووعد بالأمن والاستثناء يدخل في الوعد لا في الأمر وقال في الكشاف ، إنّ المشيئة تعلقت بالدخول مكيفا بالأمن لأنّ القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم فكأنه قيل أسلموا وآمنوا في دخولكم إن شاء الله ، ونظيره قولك للغازي ارجع سالما فإنما إن شاء الله فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقاً ، ولكن مقيداً بالسلامة والغنيمة مكيفاً بهما فقيل إنه إشارة إلى أنّ الكيفية مقصودة بالأمر كما إذا قلت ادخل ساجداً كنت آمراً بهما وليس إشارة إلى أنّ التركيب فيه معنى الدعاء إذ ليس المعنى على ذلك ، وفيه نظر. قوله : ( والدخول الآوّل كان في موضع خارج البلد حين استقبلهم ) توفيق لما يترا أى من منافاة الأمر بالدخول للبلد بعد ذكر أنهم دخلوا عليه إذ الدخول عليه المتبادر منه أنه فيها بانّ الدخول الأوّل كان عليه في موضع الاستقبال خارج مصر فهو متقدّم على الثاني ، وفي الكشاف يجوز أن يكون قد خرج في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال فأمر أن يرفع إليه أبواه فدخل عليه القبة فآواهما إليه بالضمّ ، والاعتناق ، وقرّبهما منه ، وقال بعد ذلك ادخلوا مصر ، وليس فيه مخالفة للنظم كما توهم لأن قوله رفع أبويه المراد به رفعهما على سريره في مجلسه وهو شيء آخر. قوله : ( تحية وتكرمة له ) فإنّ السجود كان عندهم يجري مجراها دفع به السؤال بأنّ السجود لا يجوز لغير الله بأنه في غير شريعتنا ، وقد كان جائزاً للتكرمة فنسخ وامّ أنه كان الأليق حينئذ سجود يوسف ليعقوب عليهما الصلاة والسلام فدفع بأنه تحقيق لرؤياه لحكمة خفية ، وبأنّ يعقوب عليه الصلاة والسلام إنما فعله لتتبعه الأخوة فيه لأنّ الأنفة ربما حملتهم على الأنفة منه فيجر إلى ظهور الأحقاد الكامنة ، وعدم عفو يوسف عليه الصلاة والسلام. قوله : ( وقيل معناه خرّوا لآجله سجدا ) قال الإمام إنه قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو الأقرب ، وفي الكشاف إن في الكلام نبوة عنه فقيل لأنه جعله تأويل رؤياه من قبل ، وقد ذكر فيها رأيتهم لي ساجدين ، ودفع بأنّ القائل به يجعل اللام للتعليل فيهما كما صرحوا به أو بمعنى إلى ما في صلى للكعبة أي اتخذوني قبلة وسجدوا إليّ أي إلى جهتي وكون ضمير له لله مثله في المغني وإنما المخالفة بينهما في مرجع الضمير هل هو ليوسف عليه الصلاة والسلام والمعنى خرّوا ليوسف سجداً لله أو خرّوا لله سجدا شكرا على ما لقوا من يوسف عليه الصلاة والسلام ، وقوله والواو أي ضمير خروا للأبوين ، والأخوة وقيل إنه للأخوة فقط أولهم ، ولمن هنأه بهم ، والقائل فرّ من سجود يعقوب ليوسف عليهما الصلاة والسلام إذ اللائق العكس ، وقد مر توجيهه ، وهذا لا يناسب تأويل(5/206)
ج5ص207
الرؤيا. قوله : ( والرفع مؤخر عن
الخرور إن قدم لفظاً ( لأن الواو لا تدلّ على الترتيب ، وهذا دفع لقول الإمام تقوية للوجه الثاني بأنّ قوله رفع أبويه وخرّوا يدل على أنهم صعدوا ثم سجدوا ولو كان السجود ليوسف عليه الصلاة والسلام كان قبل الصعود يعني لأنه يكون تحية والمعتاد فعلها حين الدخول لا بعد الصعود والجلوس بخلاف سجدة الشكر ، ومخالفة لفظه ظاهر الترتيب ظاهر المخالفة للظاهر فما قيل إن الملازمة غير بينة ولا مبينة ساقط. قوله : ) رأيتها أيام الصبا ) إشارة إلى أن من قبل متعلق برؤياي ، وجوّز تعلقه بتأويل لأنها أوّلت بهذا قبل وقوعها ، وجوّز أبو البقاء كون من قبل حالاً من رؤياي ، وكون الغايات لا تكون حالاً تقدم ردّه ، وقوله صدقا إشارة إلى أنّ الحق بمعنى الصدق ، والرؤيا توصف به ولو مجازاً وليس في كلامه إشارة إلى أنّ جعل يتعدّى لاثنين إذ يجوز في حقاً أن يكون مصدراً لفعل محذوف كما يجوز أن يكون بمعنى ثابتاً أي حق ذلك المرئي حقاً وثبت ئبوتا. قوله تعالى : ) { وَقَدْ أَحْسَنَ بَي } ( أحسن أصله أن يتعدى بإلى أو باللام كقوله : وأحسن كما أحسن الله إليك فقيل ضمن معنى لطف فتعدى بالباء كقوله : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وقول كثير عزة :
أسيئي بنا أوأحسني لاملومة لدينا ولامقلية إن تقلت
وقيل بل تتعدى بها أيضا وقيل هي بمعتى إلى ، وقيل المفعول محذوف أي أحسن صنعه
بي فالباء متعلقة بالمفعول المحذوف ، وفيه حذف المصدر دمابقاء معموله ، وهو ممنوع عند البصريين ، وإذ منصوب بأحسن أو بالمصدر المحذوف وفيه النظر المتقدّم ، وإذا كانت تعليلية فالإحسان هو الإخراج ، والإتيان أو ظرفية فهو غيرهما ، وقيل إن تعدية لطف بالباء غير مسلمة بل تعديته باللام يقال لطف الله له أي أوصل إليه مراده بلطف ، وهذا ما في القاموس لكن المعروف في الاستعمال تعديه بالباء وبه صرح في الأساس وعليه المعوّل ، وسترى تحقيقه عن قريب. قوله : ) ولم يذكر الجب لئلا يكون تثريباً عليهم ) ولأنّ الإحسان إنما تم بعد خروجه من السجن لوصوله للملك وخلوصه من الرق والتهمة والبادية والبدو والبداء بمعنى قيل سميت به لأنّ ما فيها يبدو للناظر لعدم ما يواريه ، وقوله أهل البدو قيل إنّ يعقوب عليه الصلاة والسلام تحوّل إلى البادية بعد النبوّة لأن الله لم يبعث نبيأ من البادية. قوله : ( أفسد بيننا وحرّض الخ ) الإفساد فعل الفساد ، وأسنده إلى الشيطان مجازاً لأنه بوسوسته والقائه ، وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا والنزع كالنخس وهو معروف ثم استعمل مجازاً في الدخول للإفساد ، وذكره لأنّ النعمة بعد البلاء أحسن موقعاً ، وقوله الرابض بالراء المهملة ، والباء الموحدة ، والضاد المعجمة من ربض الدابة إذا رتع بها وكونه بالهمزة من الرياضة ، وان صح غير مناسب. قوله : ( لطيف
التدبير له ) يعني اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الأمور المدبر لها ، والمسهل لصعابها ، ولنفوذ مشيئته فإذا أراد شيئا سهل أسبابه أطلق عليه اللطيف لأنّ ما يلطف يسهل نفوذه قال الراغب اللطيف ضد الكثيف ، ويعبر اللطف عن الحركة الخفيفة ، وتعاطي الأمور الدقيقة فوصف اللّه به لعلمه بدقائق الأمور ورفقه بالعباد فقوله لما يشاء متعلق بلطيف لأنّ المراد مدبر لما يشاء لا أنه يتعدى باللام كما صرّح به في الدر المصون وقال الطيبي رحمه الله تعالى أنّ المعنى لأجل ما يشاء فليس متعديا باللام كما قيل يعني إن هذا الاجتماع ثم طيب العيش ، وفراغ البال بتسهيل الله له بعد صعوبته ، وقوله إنه هو العليم الحكيم أي كونه المدبر في أفعاله لكونه عليما بجميع الاعتبارات الممكنة فيسهل صعابها ، ويحكم بمقتضى الحكمة ، وعن قتادة رحمه الله تعالى لطف بيوسف عليه الصلاة والسلام إذ أخرجه من السجن ، وأتى بأهله من البدو ونزع نزغ الشيطان مما بينهم ، وما أعقك بمعنى ما أعظم عقوقك وقيل المعنى ما جعلك عاقالي بترك الصلة بالمكتوب ، وعندك هذه القراطيس ، وقوله أنت أبسط مني إليه أي أقرب مني وأدلّ عليه من التبسط في الملاقاة ، وقوله فهلا خفتني كان الظاهر فهلا خافني لكنه خاطبه تنزيلاً له منزلة الحاضمر ، وهكذا المعتاد في ذكر جناية الجاني أن يؤتى فيها بالخطاب. قوله : ( بعض الملك وهو ملك مصر ) الضمير إما للمضاف أو للمضاف إليه ، والاحتمال الثاني لا ينافي(5/207)
ج5ص208
قوله مكنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء لأنه لم يكن مستقلاً فيه ، وان كان ممكنا في جميع أرضها فتأمل. قوله : ( الكتب أو الرؤي ) جمع رؤيا ، وقوله أيضا أي كالتي قبلها ، وقوله لأنه لم يؤت كل التأويل أي تأويل الكتب أو الرؤي لأنه لا يمكن أن يؤتى جميعها وإن كانت له ملكة ما لم يؤت ، وقوله فاطر السماوات نعت لقوله رب أو بدل أو بيان أو نداء ثان أو منصوب بأعني ، وقوله برأسه أي مستقل. قوله : ( ناصري أو متولي أمري الخ ) يعني الوليئ إما من الموالاة فهو بمعنى الناصر أو من الولاية فمعناه متكفل بأمره أو بمعنى المولى كالمعطى لفظاً
ومعنى أي معطي نعم الدنيا والآخرة ، وقوله أقبضني لأنّ التوفي استيفاء الشيء بقبضه وأخذه فلذا أطلق على الموت قيل ، وفي تفسيره بهذا ذهاب إلى أنه تمنى الموت ولذا قيل إنه لم يتمن الموت نبيّ قبله ولا بعده وقيل إنه لم يتمن الموت وإنما عدد نعم الله عليه ثم دعا بأن تدوم تلك النعم في باقي عمره حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام وألحقه بالصالحين والحاصل أنه بمعنى الموافاة على الإسلام لا الموت ولا يرد عليه أنّ من المعلوم أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يموتون إلا مسلمين إما لأنّ الإسلام هنا بمعنى الاستسلام لكل ما قضاه اللّه أو بيان لأنه ، وان لم يتخلف ليس إلا بإرادة الله ، ومشيئته وهو ظاهر ، والحاصل أنهم اختلفوا في قوله توفني مسلما هل هو تمني الموت أو لا فكثير من المفسرين على أنه طلب الموت وبعضهم قالوا إنه طلب الوفاة في حال الإسلام وليس فيه دلالة على طلب الوفاة كقوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ سورة البقرة ، الآية : 132 ] طلب موتهم في حال الإسلام لا موتهم. قوله : ( في الرتبة والكرامة ) قيل يوسف عليه الصلاة والسلام من كبار الأنبياء والصلاح أوّل درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلب اللحاق بمن هو في البداية وأجيب بأنه طلبه هضما لنفسه فسبيله سبيل استغفار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ قوله في الرتبة والكرامة راجع إلى قوله آبائي وفيه بعد ودفع بأن عامة الصالحين داخل فيهم أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهو يريد من الله أن ينال كرامتهم فلا يرد السؤال حتى يحتاج إلى ما ذكر من الجواب ، ولا يخفى ما فيه فإن عامة الصالحين إن أريد به الأنبياء منهم فلا دلالة للفظ عليه ، وان أبقى على ظاهره عاد السؤال فالحق هو الجواب الأوّل فتأمل. قوله : ( ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد ( أي اشتاقت نفسه إلى الملك المخلد وهو الآخرة رغبة وزهادة في ملك الدنيا وقوله فتمنى الموت أي بقوله توفني ، وهو على أحد القولين ، وقوله فتخاصم أهل مصر أي طلب كل أن يدفن في محلته والمدفن محل الدفن والصندوق بضم الصاد على الأفصح. قوله : ( شرعا فيه ) بفتحات بمعنى سواء كقوله :
مجدي أخير أو مجدي أوّلاً شرع
وفي شرح الفصيح قال ابن درستويه قولهم أنتم فيه شرع أي سواء كأنه جمع شارع كخدم
في جمع خادم أي كلكم يشرع فيه شروعاً ويستوي فيه المذكر والمفرد وغيره ، وأجاز كراع والقزاز تسكين رائه ، وأنكر. يعقوب في الإصلاح ، وقال إنما شرع بالسكون بمعنى حسب ا هـ ، وقوله ثم نقله موسى عليه الصلاة والسلام إلى مدفن آباً ئه ببيت المقدس بعد أربعمائة سنة قيل ، وأخرجه من صندوق المرمر لثقله ، وجعله في تابوت من خشب ، وعمره مائة وعشرون سنة نقله في اللباب عن التوراة ، وقيل مائة وسبع سنين ففيه اختلاف ، وقوله وهو جد يوشع عليه الصلاة والسلام الضمير لا فراثيم فكان ينبغي ذكره بجنبه ورحمة عطف عى إفراثيم وقوله ذلك إشارة وجوز فيه أن يكون اسما موصولاً ، وهو مذهب مرجوج في كل اسم إشارة كما بينه النحاة. قوله : ( خبران له ) أي لذلك ويجوز في جملة نوحيه أن تكون حالاً ، وقوله كالدليل عليهما أي على الخبرين ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، وقوله حين عزموا عزمهم همهم بإلقائه في الجب أو مكرهم بيوسف إذ حثوه على الخروج معهم وبأبيهم في استئذانه. قوله : ( فتعلمتة منه ) وفي نسخة فتعلمه وأصله فتتعلمه ، وقوله وإنما حذف هذا الشق الخ يعني أن الدال على أنه إخبار بالغيب مجموع أمرين عدم مشاهدته للقصة ، وأصحابه وعدم ملاقاة من يعلمه ذلك فحذف الثاني لعلمه من ذكره في آية أخرى ، وفي الكشاف وجه آخر ، وهو أنه تهكم بهم إذ جعل المشكوك فيه كونه حاضرا معهم مشاهدأ لمكرهم فنفاه بقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } الخ فلما جعل(5/208)
ج5ص209
المشكوك فيه ما لا ريب فيه دل على أنّ كونه لم يتعلم كفلق الصبح فجاء التهكم البالغ إذ حاصله أنكم أيها المكابرون علمتم أنه لم يشاهد من مضى من القرون الخالية وانكاركم لما أخبر به يفضي إلى أن تكابروا في عدم مشاهدته لهم وهذا كقوله : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ } [ سورة الأنعام ، الآية : 144 ، بهذا ، ومنه ظهر وجه العدول عن أسلوب قوله ما كنت تعلمها أنت ولا قومك في سورة هود إلى هذا الأسلوب ، وهذا أبلغ مما ذكره المصنف رحمه الله ، وذكر لتركه نكتة أخرى ، وهي أن المذكور مكرهم ، وما دبروه ، وهو مما أخفو. حتى لا يعلمه غيرهم فلا يمكن تعلمه من الغير ، ولذا ترك الثاني ، وهو وجه حسن. قوله : ( وأما كثر الناس ولو حرصت الخ ( حرص من باب علم ، وضرب وكلاهما لغة فصيحة ،
وجملة ولو حرصت معترضة بين المبتدأ والخبر وقوله على الأنبياء بكسر الهمزة مصدر وتعريفه للعهد أي هذا الأنباء أو للجنس ، والضمير عليه عائد على ما يفهم مما قبله ، وكذا إذا عاد على القرآن ومعنى عليه على تبليغه والجعل الأجرة وحملة جمع حامل وحامل الخبر من يقصه ويحكيه مجاز مشهور.
قوله : ( إن هو إلا ذكر عظة ) إن نافية ، والذكر بمعنى التذكير والموعظة ، وهو كالتعليل
لما قبله لأن الوعظ العام ينافي أخذ الأجر من البعض لأنه لا يختص بهم وقوله وكم يشير إلى أن كأين بمعنى كم التكثيرية الخبرية هنا وان وردت للاستفهام ، والكلام عليها مفصل في النحو ، وقوله وكأيّ عدد شئته وفي نسخة شئت إشارة إلى أنّ تمييزها مجرور بمن دائما أو أكثرياً وهي زائدة أو مبينة للتمييز المقدر ، والآية هنا بمعنى الدليل الدال على ما ذكر وهي وإن كانت مفردة بمعنى الآيات لدلالة كأين على كثرتها ولذا فسرها بالجمع وقوله في السماوات والأرض صفة آية وجملة يمرّون خبر كأين وجوز العكس فيه ، وعلى رفع الأرض! يكون في السماوات خبر كأين ، وقوله ويشاهدونها لأنه ليس القصد إلى مجزد المرور بل مع المشاهدة وعدم الاعتبار بها ، وقوله فيكون لها الضمير في عليها الأولى أن يقول فيكون الضمير في عليها لها أي للأرض! لا للآيات كما في القراءة الأخرى. قوله : ) وبالنصب على ويطؤون ( أي قرئ الأرض! بالنصب بفعل محذوف تقديره ويطؤون الأرض ، وقوله يمرّون عليها تفسير لها فهو من الاشتغال المفسر بما يوافقه في المعنى ، وجوز فيه كون يمزون حالاً من ضمير يطؤون أو من الأرض ، وقوله يتردّدون أي يذهبون ويجيئون ، وهذا تفسير له على القرا آت الثلاث لا على القراءة الأخيرة أو هو لها ويعلم منه حال القراءتين بالقياس ، ولا مانع منه ، وقوله فيرون الآثار الأمم الهالكة وقريب منه ما قيل فيشاهدون ما فيها من الآيات وليس بينهما فرق كبير كما قيل. قوله : ( في إقرارهم ) قيل لا يظهر لإقحام لفظ الإقرار فائدة ، وقيل فائدته أنها نزلت في المشركين ، والمعلوم إقرارهم لا مواطأة قلوبهم ، وفيه نظر وكأنه إشارة إلى أنه إيمان لساني إذ
لا اعتداد به مع الشرك ، وقوله بعبادة غيره بناء على أنها في مطلق المشركين ، واتخاذ الأحبار أربابا لأهل الكتاب لأنهم اتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله ، والتبني أي اتخاذ الابن لله بقولهم عزير ابن اللّه والمسيح ابن الله ، والقول بالنور الخالق للخير ، والظلمة الخالقة للشرّ الذاهب إليه المانوية ، والمجوس من الثنوية ، وقوله النظر إلى الأسباب كالمال ، والكسب ، ونحو ذلك كالاعتماد على الخلق ، وهو بيان للشرك الخفي المعنوي ، ، كذا نسبه الآثار إلى الكواكب ، وقولهم : " مطرنا بنوء كذا " كما وقع في الحديث ، وقلما ينجو من النظر إلى الأسباب أحد ، ولذا قال في الحكم كلك شرك خفيّ. قوله : ( وقيل الآية في مشركي مكة ) أي على الاحتمال الأوّل ، ولو قال فقيل كان أظهر ، وكذا على الثاني يرجع إليه أيضاً ، وقوله وقيل في أهل الكتاب على الاحتمال الثاني ، وعلى الاحتمال الثالث فهو في الثنوية وعلى الرابع عام. قوله : ( عقوبة تفشاهم وتشملهم ) فسر الغاشية بالعقوبة ليظهر تأنيثها ، وبالمضارع إشارة إلى دلالة اسم الفاعل محلى الاستقبال ، وقوله تشملهم تفسير لتغشاهم ، وأنه من الغشاوة الدالة على الشمول والإحاطة لا من الغشيان بمعنى الإتيان لتكرره ، وقلة جدواه ، والعقوبة نعم الدنيوية والأخروية ، وفجاة بضم الفاء والمد أو بالفتح ، والقصر بمعنى المفاجأة والبغتة ، وقوله من غير سابقة علامة من إضافة الصفة للموصوف أو سابقة مصدر بمعنى سبق ، وهو قليل وقوله غير مستعدين بالنصب إشارة إلى أنّ عدم الشعور(5/209)
ج5ص210
عبارة عن عدم الاستعداد بتوبة ، ونحوها فيفيد مع قوله بغتة ، ولا حاجة إلى جعله تأكيداً لها كما قيل والجملة حالية كما أشار إليه بتأويلها بغير مستعدين. قوله : ( يعني الدعوة إلى التوحيد الخ ( فهذه إشارة إلى الدعوة ولذا أنث ، وان صح تأنيثه باعتبار السبيل أيضا لأنها مؤنثة في الأكثر كالطريق ودعوته إلى التوحيد معلومة من قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ } لدلالته على أنّ كونه ذكراً لهم لاشتماله على التوحيد لكنهم لا يرفعون له رأسا ودعوتهم للإيمان معلومة من حرصه على إيمانهم فإنه بدعوتهم له ، والإعداد للمعاد من التخويف من مفاجأته من غير استعداد وجعل أدعو إلى الله مفسر الماء ذكر أما
بالنسبة إلى التوحيد واما بالنسبة للإعداد فكأنه من قوله على بصيرة لأن من كان على بصيرة استعد ، وحمل غيره على الاستعداد أو هو تفسير للأهم المقصود بالذات منه ، ومعنى أدعو إلى الله إلى معرفته بصفات كماله ونعوت جلاله ومن جملتها التوحيد والبعث. قوله : ( وقيل هو حال من الياء ( وعلى الأوّل الجملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب وتمريضه لأن الحال من المضاف إليه في مثله مخالفة للقواعد ظاهراً ، ولذا تكلف بعضهم فقال إنه حينئذ مفعول مصدر مقدّر أي سلوك سبيلي لا لأنها تقييد للشيء نفسه لأن تقييدها بكونها على بصيرة يدفعه. قوله : ( واضحة غير عمياء ) قد مرّ تحقيقه فتذكره ، وقوله أو في على بصيرة أي أو للضمير المستتر في على بصيرة لأنه حال فيستتر فيه ضمير المتكلم وكذا إذا كان خبراً ، وقوله عطف عليه أي على أنا في الوجه الأخير ولم يذكر عطفه على المستتر في الوجه الآخر لظهوره ، وإذا عطف على المستتر ففيه تغليب كما مرّ تحقيقه في قوله : { اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } [ سورة البقرة ، الآية : 35 ] ومنهم من قدر في مثله فعلا عاملا في المعطوف ، وقيل معنى قوله عطف عليه على المستتر لتأكده بالمنفصل ، ولا يصح عطفه على أنا لكونه تأكيداً ، ولا يصح في المعطوف كونه تأكيداً كالمعطوف عليه فتأمّل ، وقوله أو مبتدأ عطف على قوله تأكيد ، وقوله وأنزهه تنزيهاً إشارة إلى أنه منصوب. على المصدرية بفعل محذوف هو المعطوف ، وقوله من الشركاء خصه به لدلالة السياق والسباق عليه. قوله : ) رذ لقولهم لو شاء ربنا لأنزل ملانكة الخ ) أي نفي له كما مز في سورة الأنعام ، وقيل معناه نفى استنباء النساء ، وفيه اختلاف أيضاً كما مرّ وهذا التفسير منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وأمّا كونه نزل في سجاج بنت المنذر المتنبئة فلا صحة له ، وإنما هو غلط من عبارة الزمخشري لأنّ ادّعاءها النبوّة كان بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم وكونه إخباراً بالغيب لا قرينة عليه وهي التي قيل فيها :
أضحت نبيتنا أنثى نطوف بها ولم تزل أنبياء الله ذكرانا
وتزوّجها مسيلمة لعنه الله ثم أسلمت بعده ، وحسن إسلامها وقصتها معروفة في التواريخ. قوله : ( وقرأ حفص! نوحي ) بالنون وهو مناسب لقوله أرسلنا ، وقوله في كل القرآن يعني هنا ، وفي النحل والأوّل من الأنبياء كما في النشر وكون أهل القرى أعلم من أهل البادية وأحلم مما لا شبهة فيه ، ولذا يقال لأهل البادية أهل الجفاء ، ونقل عن الحسن رحمه الله أنه
قال ل! يبعث رسول من أهل البادية ، ولا من النساء ولا من الجن ، وأما قوله تعالى : { وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ } فقد مر أنهم ليسوا أهله ، وإنما كانوا يخرجون إليه بمواشيهم ، وكان مجيئهم إذ ذاك منه. قوله : ) من المكذبين بالرسل والآيات الخ ( المشغوفين بالغين المعجمة ويجوز إهمالها ، وقوله فيقلعوا أي يكفوا يقال أقلع عن الأمر إذا كف عنه ، وفي نسخة ينقلعوا والصحيح الأولى. قوله : ) ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة ) إشارة إلى المذهب المختار في مثله فإن فيه مذهبين أحدهما أنه من إضافة الموصوف للصفة ، والآخر أنه يقدر للصفة موصوف كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ، وهو خلاف مشهور بين الكوفيين ، والبصريين في مثل بقلة الحمقاء ، ومسجد الجامع. قوله : ) يستعملون عقولهم ليعرفوا ) وفي نسخة فيستعملون عقولهم بالفاء التفسيرية ، وأما في النظم فسببية مزحلقة. قوله : ( حملاَ على قوله قل هذه سبيلي أي قل لهم أفلا تعقلون ( أي أنه من مقول قل أي قل لهم مخاطبا أفلا تعقلون فالخطاب على ظاهره ، وقوله وما أرسلنا إلى من قبلهم أو اتقوا اعتراض بين مقول القول ، ولا ينافي الثاني كون تفسيره لقوله أفلا تعقلون على القراءتين كما توهم ولو جعل هذا التفاتا كان(5/210)
ج5ص211
أظهر. قوله : ( غاية محذوف دل عليه الكلام الخ ( لما لم يكن في الكلام شيء تكون حتى غاية له اقتضى ذلك تقدير أمر يكون مغيي بها ، واختلفوا في تقديره ، وما قدره المصنف رحمه الله تعالى مأخوذ من محصل الكلام الذي قبله ، وقوله أيس إشارة إلى أنّ الاستفعال بمعنى المجرد هتا ، وقوله من غير وازع بزاي معجمة وعين مهملة أي مانع وكاف. قوله : ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) في هذه الآية قراآت فقرأ الكوفيون كذبوا بالتخفيف ، والباقون بالتثقيل فعلى التخفيف ضطرب الناس فيها فمنهم من أنكرها ، وهو مروقي عن عائشة رضي اللّه عنها قالوا ، والظاهر أنه غير صحيح عنها فإنها قراءة متواترة ، وقد وجهت بوجوه منها أنّ ضمير ظنوا عائد على المرسل إليهم لعلمهم مما قبله ولأنّ ذكر الرسل يستلزم ذكر المرسل إليهم ، وضمير أنهم ، وكذبوا للرّسل أي ظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا أي كذبوا فيما أرسلوا إليه بالوحي في نصرهم عليهم ، ومنها أنّ الضمائر الثلاثة عائدة على الرسل عليهم الصلاة والسلام ، والتقدير كما في الكشاف حتى إذا استيأسوا من النصر ، وظنوا أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم أنهم ينصرون أو رجاؤهم لأنه يقال للرّجاء صادق وكاذب والمعنى إنّ مدة التكذيب والعداوة
من الكفار ، وانتظار النصر من الله وتأميله تطاولت حتى استشعروا القنوط ، وتوهموا أنه لا نصر لهم في الدنيا فجاءهم نصرنا قال الحلبيّ رحمه الله فجعل الفاعل المقدر إمّا أنفسهم أو رجاءهم ، وجعل الظن بمعنى التوهم لا بمعناه الأصلي ، ولا بالمعنى المجازي وهو اليقين ، ومنها أنّ الضمائر كلها للرّسل عليهم الصلاة والسلام والظن بمعناه واليه نحا ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن مسعود وابن جبير قالوا الرسل ضعفوا وساء ظنهم ، قيل ولا ينبغي أن يصح هذا عنهم فإنه لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولذا نقل عن عائشة رضي اللّه عنها إنكار هذا التأويل ، وقال الزمخشري ، وتبعه المصنف رحمه الله تعالى إن صح هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ، ويهجس في القلب من شبه الوسوسة ، وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأما الظن فلا يليق بآحاد المسلمين فضلاً عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قال السمين ولا يجوز أيضاً أن يقال خطر بب لهم شبه الوسوسة فإنها من الشيطان ، وهم معصومون عنها فإن ذهب ذاهب إلى أن المعنى ظن الرسل الذين وعد الله أممهم على لسانهم أنهم قد كذبوا فقد أتى بأمر عظيم لا يجوز نسبته إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل إلى صالحي الأمّة ، وكذا ما أسند إلى ابن عباس فإن الله لا يخلف الميعاد ، ولا مبذل لكلماته ، ومنها أنّ الضمائر كلها للمرسل إليهم أي ظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوّة وفيما وعدوا به من لم يؤمن من العقاب ، وهو المشهور عن ابن عباس وغيره من الصحابة رضي الله عنهم قالوا لا يجوز عود الضمير على الرسل عليهم الصلاة والسلام لأنهم معصومون ، وحكي أنّ ابن جبير سئل عن معناها فقال معناها إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوهم فقال الضحاك وكان حاضراً لو رحلت في هذا لليمن كان قليلا ، وأمّا قراءة التشديد فالضمائر فيها للزسل عليهم الصلاة والسلام أي ظن الرسل أنهم قد كذبهم أممهم فيما جاؤوا به لطول البلاء عليهم فجاءهم نصر الله عند ذلك " وهو تفسير عائشة رضي اللّه عنها المتقول عنها في البخاري " فيتحد معنى القراءتين ، والظن على هذا بمعناه أو بمعنى اليقين أو التوهم ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ، ومجاهد كذبوا مخففاً مبنيا للفاعل فضمير ظنوا للأمم ، وأنهم قد كذبوا للزسل أي ظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوهم فيما وعدوهم به من النصر أو العقاب ، ويجوز عود ضمير ظنوا للرسل ، وأنهم وكذبوا للمرسل إليهم أي ظن الرسل عليهم الصلاة والسلام أن الأمم كذبتهم فيما وعدوهم به من أنهم يؤمنون بهم والظن الظاهر أنه بمعنى اليقين وقال أبو البقاء أنه قرئ مشدّدا مبنياً للفاعل ، وأوّله بأن الرسل عليهم الصلاة والسلام ظنوا أن الأمم قد كذبوهم في وعدهم ، ولم يقف الزمخشري على أنها قراءة فقال لو قرئ بها صح هذا خلاصة
ما قالوه في هذه الآية فلنرجع إلى كلام المصنف رحمه اللّه تعالى. قوله : ( أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون ) الضمائر في هذا الوجه وفي الثاني للرسل ، ولذا قابلهما الثالث ، وجعله شراج الكشاف(5/211)
ج5ص212
على هذا من باب التجريد وفيه نظر ، وقوله بأنهم ينصرون ناظر إلى قوله فيما قبيله من النصر عليهم ، وقوله في الثاني بوعد الإيمان ناظر إلى قوله أو عن إيمانهم ، وقيل عليه إنّ تحديث أنفسهم بالنصر بوعد من الله كما سيأتي عن ابن عباس رضي الله عنهما فظن كذب أنفسهم ظن بكذب وعده تعالى ، وليس بلازم أن يكون بوعد من الله إذ يجوز تحديثها لهم بأمر لم يوعدوا به كما أشار إليه في الكشف ، وأمّا تحديثها ب!يمانهم فظاهر ، ولا حاجة فيه إلى جعل الظن بمعنى اليقين حتى يرد عليه ما قيل إن الظن لا يستعمل بمعنى اليقين والعلم فيما يكون محسوساً فلا يقال أظنني إنسانا ، ولا أظنني حيا. قوله : ( وقيل الضمير للمرسل إليهم ) أي الضمائر الثلاثة ، وتقدم توجيه عوده إلى المرسل ، والدعوة قوله إني مبعوث إليكم وأمرهم بالتوحيد. قوله : ( وقيل الأول للمرسل إليهم والثاني للرّسل عليهم الصلاة والسلام الخ ) المراد بالثاني ضمير أنهم ولم يذكر الثالث لعلمه من كون الثاني للرسل ، والا لزم خلو جملة الخبر من العائد ، وقوله وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما الخ إن صح كذا في الكشاف ، ولا وجه لقوله إن صح مع أنه مروفي في البخاري والجواب بأنّ روايته فيه لا تقتضي تواتره ليس بشيء ، وقوله على طريق الوسوسة اعترض! عليه بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزهون عن وسوسة الشيطان كما مرّ ، وأجيب بأنه لم يقل إنه وسوسة بل على طريق الوسوسة ، ومثالها من حديث النفس ، وهو غير الوسوسة. قوله : ) هذا وانّ المراد الخ ) أي الأمر هدّا أو مضى هذا وهو توجيه آخر لكلام ابن عباس رضي الله عنهما بأنّ المراد بظنهم كذب النفس في حديثها المبالغة في التراخي ، وطول المدة على طريق التمثيل أي الاسنعارة التمثيلية بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزام كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما للآخر. قوله : ( وقرأ غير الكوفيين بالشديد ( في هذا الوجه الضمائر للرسل ، وما في ما أو عدوهم مصدرية أي في إيعاد الرسل المرسل إليهم ، وقوله عند قومهم متعلق بحدثوا ، وقيل تنازع فيه كذبوا وحدثوا ، وقد ذكر الزمخشريّ في هذه القراءة ثلاثة أوجه اختار المصنف رحمه الله ثانيها
لاستبعاد أوّلها ورجع الثالث إلى الثاني في المبني للمفعول. قوله : ) النبي والمؤمنين ) بالنصب على أنه عطف بيان لمن أو بتقدير يعني وننجي قرأها ابن عامر ، وعاصم بنون واحدة ، وجيم مشذدة وياء مفتوحة على أنه ماض مبني للمفعول ومن نائب الفاعل ، والباقون بنونين ثانيهما ساكنة والجيم خفيفة ، والياء ساكنة مضارع أنجى ، ومن مفعوله ، والفاعل ضمير المتكلم المعظم نفسه ، وقرأها الحسن ، ومجاهد في آخرين كعاصم إلا أنهم سكنوا الياء والأجود تحريكها وتسكينها للتخفيف ، ومثله كثير ، وقيل الأصل ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم ورذ بأنها لا تدغم فيها ، وقد ذهب بعضهم إلى جواز إدغامها وقرأها جماعة كالباقين إلا أنهم فتحوا الياء ورويت عن عاصم ، وليست بغلط كما توهم لأنه مضارع منصوب ، وقرأ الحسن ننجي بنونين وجيم مشذدة وياء ساكنة مضارع نجى المشذد ، وقرأ نصر وأبو حيوة نجا ماضياً مخففا ، ومن فاعله وقرأها ابن محيصن كذلك إلا أنه شدد الجيم ، والفاعل ضمير النصر ومن مفعوله ، وقد رجحت قراءة عاصم بأن المصاحف اتفقت على رسمها بنون واحدة وقال مكيّ أكثر المصاحف عليه فأشعر بوقوع خلاف في الرسم ، وأما على الأخرى فلا خفاء بها ورسمت بنون واحدة تشبيها للإخفاء بالإدغام فكما حذف في الإدغام حذف فيه بل هو أولى ، وقوله وإنما لم يعينهم الخ أي أنه ظاهر غير محتاج إلى التعيين لأنهم هم المستحقون للنجاة وقيل للإشارة إلى أنه بمجزد مشيئة الله من غير استحقاق له لأحد وقوله وفيه بيان المشيئين أي من شاء الله نجاتهم لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين وهم المؤمنون ، ومشيئين جمع مشيء كمريء اسم مفعول من شاء فهو شاء ، والآخر مشيء كراء فهو راء وذاك مريء ، وقيد عدم رذ البأس بالنزول لأنه قبل النزول قد يدفع ويردّ وهو ظاهر. قوله : ) في قصص الآنبياء الخ ) القصة ما يجري بين الناس بعضهم مع بعض كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع الأمم ويوسف مع إخوته ورجح الزمخشري التفسير الأوّل بقراءة قصصهم بكسر القاف جمع قصة ، والمفتوج مصدر بمعنى المفعول وردّ بأنّ قصة(5/212)
ج5ص213
يوسف عليه الصلاة والسلام وأبيه واخوته مشتملة على قصص ، وأخبار مختلفة ، وقد يطلق الجمع على الواحد كما مز في أضغاث أحلام ، وهو كما قيل إلا أنه خلاف المتبادر المعتاد فإنه يقال في مثله قصة لا قصص. قوله : الذوي العقول المبرأة عن شوائب الألف والركون إلى الحس ( فسره به لأن اللب وان كان بمعنى العقل لكن أصله للخالص من الشيء فلذا يقال لكل شيء خالص إنه لب كذا فاعتبر خلوص العقل عن الأوهام الناشئة عن الألف والحس ، ولم يقف عليه قال إن المصنف رحمه الله تعالى حمله على العقل
بالفعل فلذا قيده به ، ولا حاجة إليه. قوله : ( ما كان القرآن حديثاً مفتري ) يعني اسم كان ضمير راجع للقرآن المفهوم من القصص إذا قرئ بالكسر ولا يعود لها لأنه كان يلزم تأنيث ضميره وإذا قرئ بفتح القاف يجوز أن يعود إلى القصص والى القرآن لكنه فسره بما يجري على القراءتين ، وعوده إلى القصص بالفتح في القراءة به ، واليه في ضمن المكسور ، وتذكيره باعتبار الخبر ، وان جوز لا حاجة إليه. قوله تعالى : ( { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ) العامة على نصب تصديق على عطفه على خبر كان ، وقرأ غيرهم تصديق بالرفع وقد سمع من العرب فيه الرفع والنصب والمراد بما بين يديه ما تقدمه من الكتب الإلهية. قوله : ( وتفصيل كل شيء يحتاج إليه في الدين الخ ) قيل عبارة كل للتكثير ، والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ سورة النمل ، الآية : 23 ] ومن لم يتنبه لهذا احتاج إلى تخصيص الشيء بالذي يتعلق بالدين ، ثم تكلف في بيانه فقال إذ ما من أمر ديني إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط ، ولم يدر أن عبارة التفصيل لا تتحمل هذا التأويل ورد بأنه متى أمكن حمل كلمة كل على الاستغراق الحقيقي لا تحمل على غيره ، والعجب أن هذا القائل قال في تفسير قوله تعالى ، وتفصيلا لكل شيء يحتاج إليه في الدين ففيه دلالة على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام لأنه فرع الإجمال في بعض الأمور الدينية فبين كلاميه مناقضة ظاهرة والمنصوص عليه في التوراة ستمائة حكم ، وشيء والوقائع غير متناهية فكيف لا يكون في شرعه اجتهاد والتفصيل هنا بمعنى التبيين كما صرح به في اللغة فلا ينافي الإجمال ، والفرع الذي ذكر. من كونه لا اجتهاد في الشرائع السابقة مما لم يتعرّضوا له في الأصول لأنه لا يترتب عليه حكم الآن ، والظاهر أنه غير صحيح لما ذكره المجيب. قوله : ( يصدّقونه ) قيل حمل الإيمان على معناه اللغوي فقدر له مفعولاً ، والأولى أن يحمل على المصطلح عليه كي لا يدخل فيه من يصدق بقلبه ، ويجحد به عناداً ، ولا يخفى أن من هذا حالاً لا يعتد بتصديقه ، ولا يسمى مؤمناً فالمراد تصديقه تصديقا متعارفا ، وهو ما طابق فيه اللسان الجنان. قوله : ( وعن النبي صلى الله عليه وسلم " علموا أرقاءكم سورة يوسف " ( الأرقاء بالمد جمع رقيق ، ولعل تهوين سكرات الموت لدعائه صلى الله عليه وسلم بقوله توفني مسلما وألحقني بالصالحين ، وأما عدم الحسد فلاعتباره بما وقع بسبب حسد يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته وان كان سبباً
لرفعته في الدنيا والآخرة كما قال :
عداي لهم فضل عليّ ومنة فلا قطع الرحمن عني إلاعاديا
وهذا الحديث رواه الثعلبي والواحدي وابن مردويه عن أبيّ رضي الله عنه ، وهو موضوع ، وقال ابن كثير أنه منكر من جميع طرقه وهو من الحديث المشهور الذي ذكر فيه فضائل جميع السور ، وقد اتفقوا على أنه موضوع تمت السورة والحمد لله على جميع آلائه ، والصلاة والسلام على أشرف مخلوقاته وخاتم أنبيائه ، وعلى آله وأصحابه ما دعى الله بأسمائه اللهم يسر لنا خدمة كلامك ووفقنا لفهم معانيه بإلهامك إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير.
سورة الرعد
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : ) سورة الرعد ( خبر مبتدأ محذوف ومدنية خبر آخر أو هو مبتدأ وخبر. قوله :
( مدنية وتيل مكية ) قال الداني في كتاب العدد وكونها مكية قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وقال قتادة هي مدنية إلا قوله(5/213)
ج5ص214
ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ، وروي من أوّلها إلى آخر ولو أن قرأنا الآية نإنه مدنيّ وباقيها مكي ، وهي ثلاث وأربعون في الكوفي ، وأربع في المدني ، والمكي وخمس في البصري ، وسبع في الشامي. قوله : ( قيل معناه أنا الله أعلم وأرى ) هذا بناء على أنها حروف مقتطعة من كلمات ، وهو أحد الأقوال السابقة ، وتخصيصه هنا هذا الوجه لأنه مأثور روي عن مجاهد كما في الدرّ المنثور فما قيل من أنه لا وجه له لا وجه له. قوله : ( يعني بالكتاب السورة الخ ( ليس من باب إطلاق اسم الكل على البعض لأنّ الكتاب بمعنى المكتوب صادق على السورة فلا داعي إلى التجوّز من غير قرينة ، والحامل على ذلك ما ستراه في تصحيح الحمل ، وقوله وتلك إشارة إلى آياتها باعتبار أنها التلاوة بعضها والبعض الآخر في معرض! التلاوة صارت كالحاضرة أو لثبوتها في اللوج أو مع الملك ، وهذا على جعل تلك مبتدأ ، وآيات الكتاب خبره ، وقيل إشارة إلى أنباء الرسل عليهم الصلاة والسلام المذكورة في آخر السورة المتقدمة ، وأمّا إعراب المر فكما مز في البقرة. قوله : ) اي تلك الآيات آيات السورة الكاملة ( قيل في بيانه إن خبر المبتدأ إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة وأنّ هذا المحكوم عليه اكتسب من الفضيلة ما يوجب جعله نفس الجنس ، وإنه ليس نوعاً من أنواعه وهو في الظاهر كالممتنع ، ولذا قال الزمخشري : الكاملة العجيبة في بابها فيحمل على الاستغراق لمقتضى المقام مبالغة في الكمال إذا أريد بكل كتاب السورة أو على الحقيقة فيدعي اتحاد مفهوم الكتاب بالسورة ، ولذا قيل الكتاب دون السورة ، وقيل الكمال مستفاد من إطلاق الكتاب الذي هو مجموع المنزل على بعضه فكأنه الكل في الكمال كأنه المستأهل لأن يسمى كتاباً دون غيره ، وليس هذا من قبيل قوله تعالى ذلك الكتاب المفيد لحصر جن! الكتاب في المشار إليه فيفيد أنه الكامل دون ما عداه من الكتب إذ المسند هنا ليس معرّفا باللام حتى يفيد حصره في المسند إليه بل المضاف إلى المعرف ، وقيل إنّ الكمال مستفاد من حمل اللام على الاستغراق أو الحقيقة للمبالغة في الكمال لا لأنّ مدخول اللام ليس بمسند فإن مدار الإفادة هو
كون اللام لأحد المعنيين المذكورين ليس إلا وليس بمخصوص بالمسند ومن ادعى ذلك فعليه البيان قيل لأنّ ذلك إنما ينتظم أن لو كانت السورة من أفراد الكتاب كما أنّ زيداً في قولك زيد هو الرجل من أفراد الرجال ، وما قالوه في ذلك الكتاب لأمر غير ما نحن فيه ، ثم إنه إنما اعتبر هذا المعنى هاهنا ليفيد الحكم ولم يعتبر في سورة يوسف لوصفه بالمبين ، ولا يخفى عليك أنه إذا أريد بالكتاب السورة فالآيات إتا أن يراد بها جميع آياتها أولاً ، والمراد الأوّل وجميع الايات هو السورة فتكون الإضافة بيانية ، ويؤول المعنى إلى أنّ تلك آيات هي الكتاب ، ومعناه معنى ذلك الكتاب ، والمآل أنها سورة كاملة عجيبة ولا بد للقائل من الاعتراف بهذا أيضا ، وما أورده من الشبهة قد عرفت دفعه ، وقد علم من هذا فائدة ، وهي أن الخبر إذا كان مضافا إضافة بيانية إلى المعرف باللام الجنسية يفيد الحصر ، وما ذكره شراح الكشاف خال من التكلف والمجاز. قوله : ( أو القرآن ( بالنصب عطف على السورة فالمعنى آيات هذه السورة آيات القرآن ، ولا يلزم منه كون آيات السورة جميع آيات القرآن لعدم الفائدة فيه ، وإنما جوّزه في سورة يونس لوصفه بالحكيم. قوله : ( هو القرآن كله ) تفسير للذي أنزل ، ولم يفسره أحد ببعض القرآن هنا ، وإذا كان في محل جرّ عطفاً على الكتاب فالحق خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق أو ذلك الحق. قوله : ( عطف العام على الخاص ) قيل عليه أن الكتاب إمّا بمعنى السورة أو القرآن كما مر وليس أعمّ لأنه إمّا من عطف الكل على الجزء أو من عطف أحد المترادفين على الآخر ، وكذا ما قيل إنّ هذا الوجه على إرادة السورة من الكتاب وليس هذا بوارد لأنّ التفسير المذكور للمراد منه في النظم والعموم ، والخصوص باعتبار مفهوم الكتاب بمعنى المكتوب من القرآن المتلو الصادق على الكل ، والجزء والمراد منه أحد ما صدقاته ، والذي أنزل ما أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو أعم من ذلك بل من القرآن فتدبر. قوله : ) أو إحدى الصفتين على الأخرى ) قيل هذا إذا أريد بالكتاب القرآن قيل ، وفيه رذ على أبي البقاء رحمه الله إذ جعله نعتا للكتاب بزيادة الواو في الصفة كقوله أتاني كتاب أبي حفص والفاروق ، ويرد عليه أنّ الذي ذكره في زيادة الواو(5/214)
ج5ص215
للإلصاق خصه صاحب المغني بما إذا كان النعت جملة ، ولم نر من ذكره في المفرد في غير هذا المحل ، وعلى ما ذكره المصنف هو كقوله :
هو الملك القرم وابن الهمام
قوله : ( والجملة كالحجة على الجملة الأولى ( يعني على هذا الوجه ، وهو ما إذا كان مبتدأ وخبراً ، وعلى ما قبله الحق خبر مبتدأ محذوف ، وفي الكشاف بعد ما فسر الكتاب بالسورة هو الحق الذي لا مزيد عليه لا هذه السورة وحدها وفي أسلوب هذا الكلام قول الإنمار؟لآ هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها تريد الكملة ، والإنمارية هي فاطمة بنت
الخرشب ولدت لزياد العبسي ربيعا الكامل ، وعمارة الوهاب وقي! الحفاظ ، وأن! الفوارس ، وكاتت العرب تسميهم الكملة قال في الكشف ، وهو تغليب كالعمرين إن جعل الكامل لقبا وإن جعل وصفا غالباً فأظهر ، وفيه نظر لأنه لا يكون تغليبا إلا إذا كان لقباً ، وجعل الجمع له أمّا إذا كان وصفا فلا تغليب فيه إلا باذعاء الاختصاص فكيف يكون أظهر مع أنه لقب بلا شبهة ، وفيه كلام في حواشي المطوّل ، وكانت قيل لها أفي بنيك أفضل فقالت ربيع بل عمارة بل قيس بل أنس ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، والله أنهم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها ، ووجه الشبه عقلي مركب في حكم الواحد ، وهو امتناع تعين أحد المتقابلين فيهما أعني الفاضل والمفضول في المشبه والطرف ، والوسط في المشبه به فكما أنها نفت التفاضل آخراً بإثبات الكمال لكل واحد وأتت بالإجمال بعد التفصيل للدلالة على أن كمال كل واحد منهم لا يحيط به الوصف كذلك هنا لما أثبت لهذه السورة بخصوصها الكمال استدرك عليه بأنّ كل المنز! كذلك فلا تختص سورة دون أخرى بالكمال للدلالة المذكورة ، وهذا وجه بليغ ومعنى بديع ، وما ذكره المصنف وحمه تعالى شيء آخر وهو أن هذه الجملة لتقرير ما قبلها والاستدلال عليه لأنه إذا كان كل منزل عليه حقا كان الكتاب النازل عليه كلاً وبعضاً حقا فهو كامل لأنه لا أكمل من الحق والصدق ، وإنما قال كالحجة ، ولم يقل إنه حجة لأنه لا يلزم من الحقية الكمال ولأنه فيه شائبة إثبات الشيء بنفسه فتأقله. قوله : ( وتعريف الخبر وإن دل على اختصاص المنزل بكوئه حقاً ( إشارة إلى رذ دليل النافين للقياس فإنهم قالوا الحكم المستنبط بالقياس غير منزل من عند الله وإلا لكان من لم يحكم به كافرآ لقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ سورة المائدة ، الآية : 44 ] وكل ما ليس منزلاً من عند الله ليس بحق لهذه الآية لدلالتها على أن لا حق إلا ما أنزله فأشار إلى إبطال المقدمة الثانية بأن المراد بالمنزل من عند الله ما يشمل الصريح ، وغيره فيدخل فيه القياس لاندراجه في حكم المقيس عليه المنزل من عنده وأمرنا بالقياس في قوله تعالى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } الدال على حسن اتباعه كما بين في الأصول وسكت عن إبطال المقدمة الأخرى لأنّ إبطال إحدى مقدمتي الدليل كاف في عدم صحته ، واستقامة الاستدلال به مع أنه علم مما مرّ في المائدة أن المراد بعدم الحكم ليس هو الحكيم بغيره مما ذكر بل الاستهانة به وإنكاره ، وقد قيل إنّ المراد من لم يحكم بشيء أصلا مما أنزله ، ولا شك أنه من شأن الكفرة أو أن المراد بما أنزله الله هنا التوراة بقرينة ما قبله ونحن غير متعبدين بها فتختص باليهود ، ويكون المراد الحكم بكفرهم ، إذ لم يحكموا بكتابهم ، ونحن نقول بموجبه كما بين في شرح المواقف ، ولا قصور في كلام المصنف وحمه الله تعالى كما قيل ثم إنه قيل لمانع أن يمنع دلالة هذه الآية على القصر بل هي دالة على كمال
الحقية في المنزل لعدم الاعتداد بحقية غيره لقصوره عن مرتبة الكمال كما أشار إليه الزمخشري ، وبه يندفع ما يتوهم من أنّ الحكم بكمال السورة يشعر بأنّ غيرها ليس كذلك ، ولو سلم أنه حقيقيّ فهو بالإضافة إلى غيره من الكتب المنزلة لتحريفها ونسخا فقوله وغيره أي السنة والإجماع ، وفيه إشارة إلى انتقاض دليلهم بهما والجواب الجواب وما نطق المنزل الخ إشارة إلى ما مر وقوله وما آتاكم الرسول فخذوه وكنتم خير أفة ونحوه مما يثبت حقية ذلك ، ثم إنّ ما ذكروه من كونه إشارة إلى الدليل المذكور في شرح المواقف حتى يعتذر عن عدم تعرضه للمقدمة الأخرى بما مر غير لازم لجواز أن يريد أن حصر الحقية في المنزل من الله يقتضي عدم حقية القياس لأنه من تصزف المجتهدين فيدفع بما ذكر من غير حاجة إلى تكلف ما ذكر(5/215)
ج5ص216
الداعي إلى ما مرّ من القصور فتأمل. قوله : ( مبتدأ وخبر الخ ) رجح هذا في الكشف بأن قوله ، وهو الذي مد الأرض عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات ، والسفليات ، وفي المقابل الخبرية متعينة فكذا هذا ليتوأفقا ، ولدلالته على أن كونه كذلك مقصود بالحكم لا أنه ذريعة إلى تحقيق الخبر ، وتعظيمه كما هو مقتضى الوجه الآتي ، وهو على هذا جملة مقزرة لقوله ، والذي أنزل إليك من ربك الحق ، وعدل عن ضمير الرب إلى الجلالة الكريمة لترشيح التقرير كأنه قيل كيف لا يكون المنزل ممن هذه أفعاله هو الحق ، وتعريف الطرفين لإفادة أنه لا مشارك له فيها لا سيما ، وقد جعل صلة للموصول ، وهذا أشدّ مناسبة للمقام من جعله وصفا مفيداً لتحقيق كونه مدبراً مفصلاً مع التعظيم لشأنهما كما في قول الفرزدق :
إنّ الذي سمك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعز وأطول
ولا تنافي بين الوجهين باعتبار أن الوصفية تقتضي معلوميتها ، والخبرية تقتضي خلافها
لأنها معلومة عليهما ، والمقصود بالإفادة قوله لعلكم بلقاء ربكم توقنون فالمعنى أنه فعلها كلها لذلك ، وعلى الثاني فعل الأخيرين لذلك مع أن الكل لذلك ، وهذا مما يرجح الوجه الأوّل أيضا كما يرجحه أن ذكر تدبير الآيات ، وهي الرفع والاستواء ، والتسخير فإنه ذكرها ليستدلّ بها على قدرته ، وعلمه ولا يستدل بها إلا إذا كانت معلومة فيقتضي كونها صفة فإن قلت لا بد في الصلة أن تكون معلومة سواء كان الموصول صفة أو خبرا قلت إذا كان صفة دل على انتساب الآيات إلى الله تعالى وإذا كان خبراً دلّ على انتسابها إلى موجود مبهم وهو غير كاف في الاستدلال. قوله : ( والخبر يدبر الآمر ) ويفصل خبر بعد خبر وعلى الأوّل هما مستأنفان أو يدبر حال من فاعل سخر ويفصل حال من فاعل يدبر أو هما حالان من ضمير استوى وسخر من تتمته لأنه تقرير لمعنى الاستواء ، وتبيين له أو جملة مفسرة. قوله : ( أساطين ) جمع أسطوانة ، وهي السارية معربة أستون ووزنها أفعوالة أو فعلوانة كما في القاموس ووقع في بعض نسخة أفعوانة من غلط الكاتب والصحيح ما قاله في المصباح من أنه بضم الهمزة ، والطاء السارية ، والنون عند الخليل أصل فوزنها أفعوالة وعند بعضهم زائدة والواو أصل فوزنها أفعلانة ، وجمعه
أساطين وأسطوانات اهـ. قوله : ( جمع عماد كإهاب وأهب او عمود ) بالجرّ عطف على عماد وقال ابن مالك في التسهيل إنه جمع لفاعل ، وذكروا له أمثلة في كلامهم بلغت اثني عشر مثالاً كما في شرح التسهيل ، والمزهر وما قيل إنه جمع العماد كأديم ، وأدم واهاب وأهب وأفيق وأفق ولا خامس لها مردود ، وكونه جمع عمود لأنّ فعيلاً وفعولاً يشتركان في كثير من الأحكام ، وهو مخالف لما في التسهيل من وجهين لأنهم جعلوه جمعا ، وهو اسم جمع ولأنه ذكر أنه اسم جمع لفاعل ، وهم جعلوه لفعيل أو فعول أو فعال والأمر فيه سهل ورجح كونه اسم جمع برجوع ضمير ترونه في قراءة أبيئ إليه ، وقيل إنه راجع لرفع السماوات بغير عمد. قوله : ( صفة لعمد أو استئناف ( على كونها صفة يصح توجه النفي للصفة فيكون لها عمد لكونها غير مرئية ، والمراد بها قدرة الله فيكون العمد على هذا استعارة ، ويصح أن يكون لنفي الصفة والموصوف على منوال قوله :
ولا ترى الضب بها ينحجر
لأنها لو كان لها عمد كانت مرئية ، وهذا في المعنى كالاستئناف لأنها حينئذ تكون جملة مستأنفة لبيان موجب أنّ السماوات رفعت بغير عمد كأنه لما قيل رفعها بغير عمد قيل ما الدليل عليه فقيل رؤية الناس لها بغير عمد واليه أشار بقوله للاستشهاد فهو كقول القائل :
أنا بلا سيف ولا رمح تراني
ويحتمل أن يكون استئنافاً بدون تقدير سؤال وجواب ، وما قيل إنّ المراد بالعمد الغير المرئية جبل قاف غير مناسب رواية ودراية. قوله : ( وهو دليل على وجود الصانع الحكيم الخ ( كونها متساوية في الجرمية أمر مقزر مثبت في الكلام فما قيل إنه لا دليل عليه عقلا ونقلاً ناشئ عن عدم الاطلاع ، وكذا احتمال كونها مركبة من أجزاء مختلفة الحقائق بعضها يقتضي الارتفاع وبعضها يقتضي التسفل ، وانّ هذا دليل ظني فتدبر ، وقوله ليس بجسم ، ولا جسماني أي فيه خواص الأجسام كالتحيز إذ لو لم يكن كذلك لزم التسلسل ، وقوله ما ذكر من الآيات أي من تسخير الشمس واخواته ، وقوله بالحفظ ، والتدبير إشارة إلى أنه ليس المراد بالاستواء ظاهره بل هو استعارة تمثيلية(5/216)
ج5ص217
لما ذكر كما مرّ تقريره ، وقوله كالحركة المستمرّة أي في هذه النشأة ، وقوله ينفع أي يجري العادة على ما أراده الله فليس ذهابا إلى تأثير العلويات. قوله : المدّة معينة يتم
فيها ) وفي نسخة بها أدواره أو لغاية الخ إشارة إلى أنّ الأجل كما يطلق على مدّة الشيء يطلق على غايتها كما مرّ ، وأنّ التسخير لمنافع العباد في هذه الدار وعن ابن عباس رضي الله عنهما كل منهما يجري إلى وقت معين فإنّ الشمس تقطع الفلك في سنة ، والقمر في شهر لا يختلف جري واحد منهما كما في قوله تعالى : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } [ سورة ي! ، الآية : 38 ، قيل وهذا هو الحق في تفسير الآية ، وأمّا قول المصنف رحمه الله تعالى أو لغاية مضروبة الخ فلا يناسب الفصل به بين التسخير والتدبير ، ثم إنّ غايتهما المذكورة متحدة ، والتعبير بكل يجري صريح في التعذد ، وما للغاية إلى دون اللام وما رذ به من أنه إن أراد أنّ التعبير به صريح في تعذد ذوي الغاية فمسلم لكن لا يجديه نفعاً وان أراد صراحته في تعدد الغاية فغير مسلم واللام تجيء بمعنى إلى كما في المغني وغيره ، وهو إنما يقتضي صحته لا مناسبته للظاهر ولما بعده وهو الذي ذكره المرجح لتفسير ابن عباس رضي الله عنهما على ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى فتأمّل ، { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [ سورة التكوير ، الآية؟ أ ] عبارة عن فناء العالم ، وقيام الساعة كما سيأتي ، وقوله أمر ملكوته أي ما يجري في ملكه. قوله : ( ينزلها ويبينها مفصلة الخ ) فالمراد بالآيات آيات الكتاب المنزلة وهو المناسب لما قبله أو المراد بالآيات الدلائل لأنه المناسب لما بعده ، والمراد بالدلائل رفع السماوات بغير عمد الخ ، وتفصيلها بمعنى إحداثها وقال غيره بمعنى تبيينها ، والمراد بالدلائل ما يدل على وجود الصانع وصفاته وألوهيته ، وحكمته وقدرته ، ويلزم من معرفة ذلك العلم بصحة القول بالحشر والنشر والجزاء كما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى بقوله أنّ من قدر الخ. قوله : ( بسطها طولاً وعرضاً ( استدل به بعضهم على تسطيح الأرض وأنها غير كرية بالفعل ، وأن من أثبته أراد به أنه مقتضى طبعها كما بين في محله ورد بأنه ثبت كريتها بأدلة عقلية لكنه لعظم جرمها يشاهد كل قطعة ، وقطر منها كأنه مسطح ، وهكذا كل دائرة عظيمة ، ولا يعلم كريتها إلا الله. قوله : ( جمع راسية الخ ( اعترض عليه بأنّ أئمة العربية كابن مالك وابن الحاجب ، وأبي حيان صرّحوا بأن فواعل يجمع عليه فاعلة مطلقا ، وفاعل إذا كان صفة مؤنث كحائض أو صفة ما لا يعقل مذكراً كجمل بازل وبوازل أو اسما جامداً أو ما جرى مجراه كحائط وحوائط ، وأمّا صفة المذكر العاقل فلا تجمع عليه إلا شذوذاً كهالك وهوالك ، ومن ظن أن فاعلاً المذكر لا يجمع عليه مطلقاً فقد غلط كما صرّج به ابن مالك في كافيته وشرحها ، وهو مما لا شبهة فيه ، وقد تبع المصنف
رحمه الله تعالى المشهور بينهم فأورد عليه ما أورد عليهم ثم إنّ ما ذكره لا يخلو من شيء لأنّ تاء المبالغة في فاعله غير مطردة ، ولأن رواسي إذا كان صفة فموصوفه إمّا جبال أو أجبل والثاني غير مراد ، ولأنه جمع جبل فيلزم كون مفرد رواسي راسيا والأوّل مفرده أيضا جبل لا أجبل لأنه ليس بجمع الجمع كما صرح به أهل اللغة ، وأمّا قول أبي حيان رحمه الله تعالى بأنه غلب على الجبال وصفها بالرواسي ، ولما استغنوا بالصفة عن الموصوف جمع جمع الاسم كحائط ، وحوائط فلا حاجة إليه ، وما أورد من أن الغلبة تكون بكثرة الاستعمال ، والكلام في صحته من أوّل الأمر ففيما ذكره دور فيه نظر لأنّ كثرة استعمال الرواسي غير جار على موصوف تكفي لمدّعاه فتأمّل ، وكذا ما قيل إنه جمع راسية صفة جبل مؤنث باعتبار البقعة. قوله : ( على أنها صفة جبل الخ ( لما كانت صيغة جمع الكثرة للفظ تنتظم أضعاف عدد جمع القلة لذلك اللفظ ، وان أريد بجمع القلة غاية ما يصح أن يطلق عليه فلذا قيل أجبل راسية ، وجبال رواس ورد عليه ما قيل من أنه إما أن يرأد بالجبال إلا جبلات جمع الجمع فلا يخطر ببال أحد ، ولا يتوقف تحقيق مراد المصنف عليه فمن أورد على المصنف أنه لا حاجة إلى جعل مفردها صفة لجمع القلة ، وهو أجبل بأن يعتبر في جمع الكثرة انتظامه لطوائف من جموع القلة ينزل كل منها منزلة مفرده فقد ألزمه ما لم يلزمه وإذا صح إطلاق أجبل راسية على جبال قطر مثلأ صح إطلاق الجبال على جبال جميع الأقطار من غير إرادة جعل الجبال جمع أجبلات ، وبما ذكرنا تبين أيضا فساد ما قيل إنه لا مجال(5/217)
ج5ص218
لما ذكر فإن جمعية كل من صيغتي الجمعين إنما هي لشمول الأفراد لا باعتبار شمول جمع القلة للأفراد وجمع الكثرة لجموع القلة فكل منهما جمع جبل لا أنّ جبالاً جمع أجبل فتدبر. قوله : ) وعلق بهما فعلاَ واحدأ ( من حيث إن الجبال أسباب لتولدها هذا بناء على ما ذهب إليه بعض الحكماء من أن الجبال لتركبها من أحجار صلبة إذا تصاعدت إليها الأبخرة احتبست فيها ، وتكاملت فتنقلب مياها ، وربما خرقتها فخرجت منها والذي تدل عليه الآثار أنها تنزل من السماء ، ولما كان نزولها عليها أكثر كانت كثيرا ما يخرج منها ، ويكفي هذا لتشريكهما في عامل ، وجعلهما جملة واحدة. قوله : ( أي وجعل فيها من جميع أنواع الثمرات الخ ) يعني أنّ معنى كون الثمرات زوجين زوجين أنّ كل ثمر مختلف بما ذكر وترك تفسيره بأن حين مدّ الأرض جعل كل صنف منها زوجين لأنه كما في الكشف دعوى بلا دليل ، والزوج يطلق على الشيئين المزدوجين ، وعلى كل واحد منهما فإن أريد الأول فاثنين مؤكد وإن أريد الثاني فمبين. قوله : ( يلبسه مكانه فيصير الجوّ مظلماً بعدما كان مضيئا ) غشيه بمعنى ستره ، وغشاه بكذا جعله ساترأ له ، ومنه غاشية السرج ، والنهار
زمان ظهور الشمس ، وانتشار الضوء ، والليل زمان غيبوبتها فليس أحدهما مسئوراً بالآخر فلذا جعلوه بمعنى غشيان مكان النهار واظلاله له ، وذلك بمنزلة غشيانه نفسه ، فالتجوّز في الإسناد بإسناد ما لمكان الشيء إليه ، ويجوز فيه أن يكون استعارة كقوله : { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ } [ سورة الزمر ، الآية : 5 ] يجعله مغشيا للنهار ملفوفا عليه كاللباس على الملبوس والأوّل أوجه وأبلغ ومكانه هو الجوّ وفي جعله مكاناً له تجوز لأنّ الزمان لا مكان له ، والمكان للضوء الذي هو لازمه ، واكتفى بذكر تغشية الليل النهار مع تحقق عكسه للعلم به منه مع أنّ اللفظ يحتملهما لأنّ التغشية بمعنى الستر ، وهي أنسب بالليل من النهار. قوله : ( فإنّ تكوّنها وتخصصها بوجه دون وجه الخ ) قال الإمام الأكثر في الآيات إذا ذكر فيها الدلائل الموجودة في العالم السفلي أن يجعل مقطعها إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وما يقرب منه وسببه أنّ الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية فردّه الله تعالى بقوله لقوم يتفكرون لأنّ من تفكر فيها علم أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث من الاتصالات الفلكية ولذا عقبه بقوله : { وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ } الخ ومن تأمّل هذه اللطائف علم اشتمال القرآن على علوم الأوّلين والآخرين ثم بين كيفية الاستدلال بما لخصه منه المصنف في قوله بعضها طيبة وبعضها سبخة الخ. قوله : ( لاشتراك تلك القطع الخ ) ، وأمّا اشتراكها في الطبيعة الأرضية فظاهر لأنها بسيطة متحدة المادّة ، وما يعرض لها بالعين المهملة على الصحيح ، وفي بعض النسخ يفرض بالفاء أي ما يقدر لها وبينه بالأسباب السماوية ، وقوله من حيث إنها متضامّة تعليل للاشتراك ، وقوله متشاركة في النسب أي في نسب العلويات ، وأوضاعها في الاقترانات ونحوها. قوله : ( وبساتين فيها أنواع الأشجار والزروع ) بساتين جمع بستان وهو الحديقة معرب بوستان ، وفي الكشاف وفي بعض المصاحف قطعا متجاورات على معنى وجعل ، وقرئ وجنات بالنصب للعطف على زوجين أو بالجرّ على كل الثمرات ، وقرئ وزرع ونخيل بالجز عطفاً على أعناب أو جنات اهـ وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى الظاهر أنه على رفع جنات عطفا على قطع ، وقرئ بنصبه عطفا على زوجين مفعول جعل ، ومن كل الثمرات حالاً مقدّما لا صلة جعل لفساد المعنى عليه أي جعلنا فيها زوجين حال كونهما من كل الثمرات ، وجنات من أعناب ، ولا يجب تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه فإن قلت إنهم قالوا في قوله :
{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ } [ سورة التوبة ، الآية : 25 ] إنه لازم قلت قال في الكشف مرادهم ثمة إنه الظاهر الذي لا يخالف إلا لقرينة وهاهنا القرينة قائمة وقرئ بجرّه عطفا على كل الثمرات على أن يكون هو مفعولاً بزيادة من في الإثبات وزوجين اثنين حالاً منه ، والتقدير وجعل فيها من كل الثمرأت حالة كونها صنفين صنفين ، وقوله وتوحيد الزرع يعني لم يقل زروعاً لأنه مصدر في أصله وفي نسخة في الأصل مصدر زرع يزرع زرعا فالمصدر شامل للقليل والكثير. قوله : ( وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص وزرع ونخيل صنوان بالرفع عطفاً على وجنات ) فيه تسمح بذكر صنوان كما في نسخة وفي نسخة إسقاطها ، وهي ظاهرة لأنه ليس معطوفا بل تابع للمعطوف ، وكذا في قوله وجنات بالواو كما(5/218)
ج5ص219
في النسخ ، فإنّ المعطوف عليه جنات ، ثم إنه إذا عطف على جنات فهو واضح ، وأئا إذا عطف على أعناب والزروع لا تعد حدائق فجعله في الكشف نحو متقلداً سيفا ورمحا أو المراد إنّ في الجنات فرجا مزروعة بين الأشجار ، وهو أحسن منظراً وأنزه.
قوله : ( وقرأ حفص! بالضتم وهو لغة بني تميم كقنوان في جمع قنو ) على قراءة الجمهور بالكسر هو مما اتحد فيه مثناه ، وجمعه قال ابن خالويه في كتابه ليس ، ولم يأت منه إلا ثلاثة أسماء صنو ، وصنوان ، وقنو وقنوان وزيد بمعنى مثل وزيدان ، وحكى سيبويه شقد وشقدان وحش وحشان للبستان ، وكون هذه مروية عن حفص نقله الجعيرقي رحمه اللّه تعالى في شرح الشاطبية فقال روى اللؤلؤي عن أبي عمرو القواس عن حفص ضمّ صاد صنوان فسقط ما قيل إنّ المصنف رحمه الله تعالى تبع فيه الإمام ، ولكن لم تقع هذه القراءة منسوبة إلى حفص في كتب القرا آت المشهورة بل عزوها إلى ابن مصرف والسلمي ، وزيد بن عليّ ، وسبب اختلافهم أن القرا آت السبع لها طرق متواترة ، وقد ينقل عنهم من طرق أخر قراءة فتكون شاذة ، وقارئها أحد السبعة فأعرفه فإنه ينبني عليه أمور يعترض بها على الناقل كما هنا. قوله : ( في الثمر ( الأكل بضم الهمزة ، والكاف وتسكن ما يؤكل ، وهو هنا الثمر ، والحب ففي كلام المصنف رحمه الله تعالى تغليب ، والأصول هي العناصر ، والأسباب ما ينمو به كالسقي ، وحز الشمس ، ونحوه مما جعله الله سببا لذلك ، وقوله ليطابق قوله يدبر الأمر ليس المراد أنّ القراءة بالرأي لأجل هذا كما توهم بل كان وجه نزولها كذلك في تلك ، وهذا هو الظاهر ، وقوله يستعملون
عقولهم إشارة إلى أنه نزل منزلة اللازم. قوله : ( وإن تعجب يا محمد من إنكارهم الخ ) هكذا قرّره الزمخشريّ ، واعترض عليه بأنّ هذا ليس مدلول اللفظ لأنه جعل متعلق عجبه ىسييه هو قولهم في إنكار البعث وجواب الشرط هو ذلك القول فيتحد الشرط ، والجزاء إذ تقديره إن تعجب من إنكارهم البعث فأعجب من قولهم في إنكار البعث وهو غير صحيح ، وإنما المعنى أن يقع منك عجب فليكن من قولهم أئذا متنا الخ. وما ذكره وجه حسن بجعل تعجب منزلاً منزلة اللازم ، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأمّا اعتراضه فغير صحيح لأنّ مرادهم بعد جعل الخطاب للنبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الشرط ، والجزاء متحدان صورة ومتغايران حقيقة كقوله : " من كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرقه إلى الله ورسوله " وقوله من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى وهو أبلغ في الكلام لأن معناه أنه أمر لا يكتنه كنهه ولا تدرك حقيقته وأنه أمر عظيم كما أشار إليه المصنف رحمه اللّه تعالى بقوله حقيق بأن يتعجب منه ، وقيل الخطاب عام أي وإن تعجب يا من نظر في هذه الايات ، وعلم قدرة من هذه أفعاله فازدد تعجباً ممن ينكر مع هذا قدرته على البعث ، وهو أهون شيء عليه ، وقيل المعنى إن تجدد منك التعجب لإنكارهم البعث فاستمرّ عليه فإن إنكارهم ذلك من الأعاجيب كما تدل عليه الاسمية. قوله : ) فإنّ من قدر على إنشاء ما قصى عليك الخ ( يعني ما ذكر سابقاً من الأمور العجيبة التي تدلّ على قدرة يصغر عندها كل عظيم ، ودلالة ما ذكر على المبدأ ظاهرة ، وكذا قبول موادها التصرّفات بنموها ، واخراجها الثمر ، وغير ذلك. قوله : ( بدل من قولهم ( قال أبو حيان رحمه الله تعالى هذا إعراب متكلف ، والوجه هو الثاني من أنه مقول القول ، والقرا آت في أئذا وأئنا مسطورة في فنها ، وقوله والعامل في إذا محذوف دل عليه أئنا لفي خلق جديد ، وهو نبعث قال أبو البقاء رحمه الله تعالى ، ولا يجوز أن يعمل فيه ما بعد أن ، والاستفهام لأنّ معمول ما بعدهما لا يجوز تقدمه عليهما ، ولا كنا لأنّ إذا مضافة إليه وردّ الثاني في المغني بأنّ إذا عند من يقول بأنّ العامل فيها شرطها ، وهو المشهور غير مضافة كما يقوله الجميع إذا جزمت كقوله :
واذا تصبك خصاصة فتحمل
قيل فالوجه في ردّه أنّ عمله فيها موقوف على تعيين مدلولها ، وتعيينه ليس إلا بشرطها فيدور ، وفيه نظر لأنها عندهم بمنزلة متى ، وايان غير معينة بل مبهمة كما في ذكره القائلون به ،
وصرّج به في المغني. قوله : ( لآنهم كفروا بقدوته على البعث ) كما يدل عليه ما قبله من إنكارهم له ، وهو كفر بالله لأنّ من أنكر قدرته فقد أنكره لأنّ الإله لا يكون عاجزاً ، ولأنه تكذيب لله ، ولرسله عليهم الصلاة والسلام المتفقون عليه. قوله : ( مقيدون بالضلالة لا يرجى(5/219)
ج5ص220
خلاصهم الخ ) يعني هذه الجملة إن نظر إلى ما قبلها ، وجعلت وصفا لهم بامتناعهم من الإيمان ، واصرارهم على الكفر فهي تشبيه ، وتمثيل لحالهم في الدنيا في الإصرار ، وعدم الالتفات إلى الحق بحال طائفة في أعناقهم أغلال لا يمكنهم الالتفات كقوله :
كيف الرشاد وقد خلفت في نفر لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وان نظر إلى ما بعدها تكون لوصف حالهم في الآخرة إمّا حقيقة ، وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى وامّا تشبيهاً لحالهم بحال من يقدم للسياسة. قوله : ( وتوسيط الفصل لتخصيص! الخلود بالكفار ) يعني أنّ الخلود هنا على ظاهره لا بمعنى المكث الطويل فالمراد بأصحاب النار الكفار ، والخلود مقصور عليهم ولذا وسط الضمير ، وأورد عليه أنه ليس ضمير فصل لأنّ شرطه أن يقع بين مبتدأ ، وخبر ويكون اسما معرفة أو مثل المعرفة في أنه لا يقبل حرف التعريف كأفعل التفضيل ، وهذا ليس كذلك ، وقيل في جوابه مراد. بضمير الفصل الضمير المنفصل ، وأنه أتى به وجعل الخبر جملة مع أنّ الأصل فيه الإفراد لقصد التخصيص ، والحصر كما في هو عارف ، ولا يخفى أنه من عناية القاضي ، ولو قيل إنّ الزمخشريّ لا يتبع النحاة في اشتراط ما ذكر كما أنّ الجرجاني والسهيلي جوّزاه إذا كان الخبر فعلاً مضارعا واسم الفاعل مثله وقد تبعه المصنف رحمه الله تعالى لكان أقرب. قوله : ( بالعقوبة قبل العافية ) يعني أنّ المراد بالسيئة العقوبة التي هدّدوا بها والمراد بالحسنة السلامة منها ، والخلاص منها ، والمراد بكونها قبل العافية أنّ سؤالها قبل سؤالها أو أنّ سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها. قوله تعالى : ( { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ } الخ ) الجملة حالية ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، والمثلات قراءة العامّة فيها فتح الميم وضمّ الثاء جمع مثلة كسمرة وسمرات ، وهي العقوبة
الفاضحة ، وفسرها ابن عباس رضي الله عنهما بالعقوبة المستأصلة للعضو كقطع الأذن ، ونحوه سميت بها لما بين العقاب ، والمعاقب عليه من المماثلة كقوله : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ سورة الثررى ، الآية : 40 ] أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص يقال أمثلته وأقصصته بمعنى واحد أو هي من المثل المضروب لعظمها ، وقرأ ابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرأ ابن وثاب بضم الميم وسكون الثاء ، وهي لغة تميم ، وقرأ الأعمش ومجاهد بفتحهما ، وعيسى بن عمر وأبو بكر بضمهما إفا الضم ، والإسكان فهي لغة أصلية أو مخففة من مضموم العين ، وأفا ضمهما فلغة أصلية ، ويحتمل أنه اتبع فيه العين للفاء ، وقوله عقوبات أمثالهم العقوبات تفسير للمثلات كما مرّ ، وأمثالهم مأخوذ من قوله ، وقد خلت من قبلهم ، وقوله المثلة بفتح الثاء ، وضمها يعني كلاهما لغة فيها ، وقوله لأنها مثل المعاقب عليه أي الذنب ، وقوله إذا قصصته أي اقتصصت منه ، وقوله وقرئ المثلات بالتخفيف أي تسكين الثاء بعد فتح الميم ، وهو في الأصل مضموم العين أو مفتوحها أو هي لغة كما مز ، وقوله والمثلات أي بضمتين ، والثانية أصلية أو حركة اتباع ، وقوله اتباع الفاء العين مصدو مضاف لفاعله أو مفعوله ، وقوله والمثلات بالتخفيف بعد الاتباع أي بضم الميم ، وسكون الثاء تخفيف المثلات بضمتين ، ولم يجعله أصليا لأنّ قياسه بالفتح كحجرة ، وحجرات ، وقوله والمثلات أي بضم الميم وفتح الثاء كركبة وركبات. قوله : ( مع ظلمهم أنفسهم ومحله النصب الخ ) أي الجارّ والمجرور حال من الناس والعامل فيها هو العامل في صاحبه وهو المغفرة وهذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة وهو جواز مغقرة الكبائر ، والصغائر بدون توبة لأنه ذكر المغفرة مع الظلم أي الذنب ، ولا يكون معه إلا قبل التوبة لأنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وهم يؤولونها بأنّ المراد مغفرة الصغائر لمجتنب الكبائر أو مغفرتها لمن تاب أو المراد بالمغفرة معناها اللغوي ، وهو الستر بالإمهال ، وتأخير عقابها إلى الآخرة ، ولا يرد عليه أنه تخصيص للعام من غير دليل لأنّ الكفر خص منها بالإجماع فيسري التخصيص إلى ذلك لأنه لو حمل على ظاهره لكان حثا على ارتكابها ، وفيه نظر نعم التأويل الأخير في غاية البعد لأنه كما قال الإمام !لا يسمى مثله مغفرة ، هالا لصح أن يقال إنّ الكفار مغفورون يعني أنه مخالف للظاهر ، ولاستعمال القرآن فلا يتوجه عليه أنّ المغفرة حقيقتها في اللغة الستر ، وكونهم مغفورين بمعنى مؤخر عذابهم إلى الآخرة لا محذور فيه(5/220)
ج5ص221
وهو المناسب لاستعجالهم العذاب. قوله : ( لشديد العقاب للكفار ( التخصيص لأنّ ما قبله في شأنهم ، والتعميم هو المتاسب لقوأ ، للناس قبله ، والحديث المذكور أحض جه ابن أبي حاتم والثعلبي ، والواحدي من حديث سعي!3بئ
المسيب مرسلا ، وقوله : " لما هنأ " بالهمزة أي ما التذ وتهنأ به ، وقوله : " لا تكل كل أحد " أي اعتمد على عفو اللّه وكرمه فترك العمل. قوله : ( لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة الخ ( يعني قولهم هذا يقتضي عدم النزول ، وهو مخالف للواقع فإمّا أن يكون لعدم الاعتداد بما أنزل علي! أو المراد آية مما كان للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قبله كالعصا واحياء الموتى وتنوين آية للتعظيم ، ويجوز أن يكون للوحدة ، والفرق بين الوجهين في كلام المصنف رحمه الله تعالى ظاهر. قوله : ( مرسل للإنذار كغيرك من الرسل عليهم الصلاة والسلام الخ ) يعني لما لم يعتدوا بالآيات المنزلة ، ولم يجعلوها من دلائل النبوّة بل ما اقترحوه تعنت قيل إنما أنت منذر لا منصوب لإجابتهم في مقترحاتهم ، ولك أسوة بسائر الرسل المنذرين الذين لم ينتصبوا لإجابة المقترحين ، وجملة الله يعلم على هذا استئنافية جواب سؤال ، وهو لماذا لم يجابوا لمقترحهم فتنقطع حجتهم فلعلهم يهتدن بأنه آمر مدبر عليم نافذ القدرة فعال لما تقتضيه حكمته البالغة دون آرائهم السخيفة فهاد عبارة عن الداعي إلى الحق المرشد بالآية التي تناسب كل نبيئ ، والتنكير للإبهام ، والحصر إضافيّ أي إنما عليك البلاغ لا إجابة المقترحات ، والوجه الثاني أنهم لما أنكروا الآيات عناداً لكفرهم الناشئ عن التقليد ، ولم يتدبروا الآيات قيل إنما أنت منذر لا هاد مثبت للإيمان في صدورهم صاذ لهم عن جحودهم فإنه إلى الله وحده فالهادي هو الله والتنكير للتعظيم ، وقوله الله أعلم تفسير لقوله هاد أو جملة مقرّرة مؤكدة لذلك والحصر إضافيّ أي عليك الإنذار لا هدايتهم ، وأيصالهم إلى الإيمان ، وقوله نبيّ مخصوص بمعجزات تليق به وبرماته كما أن موسى عليه الصلاة والسلام لما كان في عصره السحر جعلت آياته قلب العصا ، وخوها ، وعيسى عليه الصلاة والسلام لما غلب على قومه الطب أبرأ ا!مه ، وأتى بما أتى ، ونبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ، لما بعث بين أظهر قوم بلغاء جعل أشهر آياته ، وأعظمها القرآن مع ما ضمّ إلى ذلك مما فإن معجزة كل نبيّ ، وهذه جملة مستأنفة ، ويجوز عطف هاد على منذور جعل المتعلق مقدّما عليه للفاصلة لكن الأولى خلافه لما فيه من الفصل بين العطف ، والمعطوف بالجارّ ، والمجرور المختلف فيه عند النحاة إلا أنّ هذا يدل على عموم رسالته وشمول دعوته وقد يجعل خبر مبتدأ مقدر أي وهو هاد أو وأنت هاد وعلى الأوّل فيه
التفات. قوله : ( أو قادر على هدايتهم ) عطف على قوله نبيّ وتنوينه للتعظيم والتفخيم كما مز ، وفي الكشاف إنّ هذا ناظر إلى الوجه الآخر في تفسير قوله لولا أنزل عليه ، وقوله تنبيها على أنه تعالى قادر الخ ناظر إلى قوله على كمال علمه وقدرته وجار على تفسير الهادي وقيل إنه مخصوص بتفسيره بالنبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وفيه نظر. قوله : ( وإنما لم ينزل لعلمه الخ ) إشارة إلى أنّ قوله الله يعلم الخ جواب سؤال مقدّر كما بيناه وقوله لعلمه بأنّ اتتراحهم للعناد فلا يفيد أو يستوجب الاستئصال ، وقوله وأنه قادر على هدايتهم عطف على أنه تعالى قادر وناظر إلى قوله ، وشمول قضائه ، وقدره ، وإلى الثاني من معنى الهادي. قوله : ( وإنما لم يهدهم لسبق قضائه عليهم بالكفر ( قيل إنه لا يقطع السؤال فالأولى أن يقال لحكمة لا يعلمها إلا الله ورد بأنّ المراد أنه سبق قضاؤه به لعلمه بأنهم يختارون الكفر فلا يلزم الجبر وينقطع السؤال على هذا الوجه الآية جواب سؤال أي لم لم يهدهم وأقيم الظاهر فيها مقام المرمممر. قوله : ( أي حملها أو ما تحمله ) يعني ما إمّا مصدرية أو موصولة ، والعائد محذوف ويجوز أن تكون موصوفة وعلى الأوّل الحمل بمعنى المحمول ، وعلم قيل إنها متعدية إلى واحط هنا فهي عرفانية ونظر فيه بأنّ المعرفة لا يصح استعمالها في علم اللّه ، وقد مرّ الكلام فيه مفصلا ، وقوله وأنه عطف تفسير وفي أكثر النسخ إنه بدون عاطف فهو بدل اشتمال لا مفعول ثان لعلم لأنه لا يجوز الاقتصار على أحد مفعولي باب علم ، وفيه كلام في العربية ، وجوّز في ما أن تكون استفهامية معلقة لعلم ، والجملة سادة مسذ المفعولين ، وما مبتدأ أو مفعول مقدم ، وهو خلاف الظاهر المتبادر ففيها ثلاثة وجوه تجري فيما بعدها.(5/221)
ج5ص222
قوله : ) وما تنقصه وما تزداده ( يقال غاض الشيء وغاضه غيره كنقص ، ونقصه غيره فيكون متعديا ولازما كذا ازداد ، وفسر الزيادة ، والنقص بأن تكون في الجثة أو في مدة الحمل أو في عدده لإطلاقه واحتماله لما ذكر ، والخلاف في أكثر مدة الحمل ، وأقلها مفصل في كتب الفروع ، وهرم بوزن كتف وحيان بالمثناة التحتية بالصرف وعدمه وما نقله عن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه من وضع خمسة أولاد في بطن واحد من
النوادر وقد وقع مثله في هذا العصر لكن ما زاد على اثنين لضعفه لا يعيش إلا نادراً. قوله : ) وقيل المراد نقصان دم الحيض الخ ( فيجعل الدم في الرحم كالماء في الأرض يظهر تارة ، ويغيض أخرى وتعدى هذين ولزومهما متفق عليه بين أهل اللغة ، وقوله تعين ما أن تكون مصدرية ، وفي نسخة تعين أن تكون ما مصدرية ، وهي أحسن ، وتعين المصدرية لعدم العائد ، وعلى التعذي يحتمل الوجهين ، وقوله واسنادهما إلى الأرحام يعني على وجهي التعدي ، واللزوم ، وقوله فإنهما لله يعني على التعذي أو لما فيها على اللزوم ففيه لف ، ونشر تقديري. قوله : ) بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه الخ ) أي مما كان وما هو كائن موجوداً أو معدوما إن شملهما الشيء ، والا فهو معلوم بالدلالة ، وعنده صفة كل أو شيء ، وقوله وهيأ له أسباباً أي لوجوده وبقائه حسبما جرت به العادة الإلهية ، وقوله وقرأ ابن كثير هاد ووال الخ أي كل منقوص غير منصوب اختلف فيه القراء في إثبات الياء وحذفها وصلا ووقفاً كما فصل في علم القرا آت. قوله : ) الغائب عن الحس ( مرّ تحقيقه في البقرة ، والشهادة الحاضر له أي للحس ، وقوله الكبير العظيم الشأن يعني أن الكبر في حقه تعالى لتنزهه عن صفات الأجسام عبارة عن عظم الشأن ، وقال الطيبي أن معنى الكبير المتعال بالنظر لما وقع بعده ، وهو عالم الغيب والشهادة هو العظيم الشأن الذي يكبر عن صفات المخلوقين ليضمّ مع العلم العظمة ، والقدرة بالنظر إلى ما سبق من قوله ما تحماى كل أنثى الخ مع إفادته التنزيه عما يزعم النصارى ، وألمشركون وعالم الغيب خبر مبتف أ محدوف أو هو مبتدأ والكبير خبره أو خبر بعد خبر ، وقوله الذي لا يرج أي لا يزول ، وفي نسخة لا يخرج وصفه به بقرينة ما سبقه من قوله عالم الغيب ، والشها إة. قوله : ( أو الذي كبر عن نعت المخلوقين وتعالى عنه ( معطوف على قوله العظيم الشآن لا على قوله الذي لاب-ء لأنه تفمص جر آخر للكبير المتعال فمعناه على الأوّل العظيم الشأن المستعلب على كل شيء في ث اته ، ويهلما / وسائر صفاته ، وعلى هذا معناه الكبير الذي يجل عما نعته به الخلق ، ويتعالى عن! ذالأوّل-خزب؟ ء له في ذاته وصفاته عن مداناة شيء منه ، وعلى هذا معناه- : !يهه عما وصفه الىءصفرد به فهـ ، رذ لهم كقوله : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ سورة
المؤمنون ، الآية : 91 ] . قوله : ( سواء منكم من اسرّ القولي ومن جهر به الخ ) فيه وجهان أحدهما أنّ سواء خبر مقدم ، ومن مبتدأه مؤخر ، ولم يثن الخبر لأنه مصدر في الأصل ، وهو الآن بمعنى مستو منكم حال من الضمير المستتر فيه لا في أسرّ ، وجهر لأنّ ما في حيز الصلة ، والصفة لا يتقدم على الموصول والموصوف ، وقيل سواء مبتدأ لوصفه بمنكم ، ونقل عن سيبويه ، وفيه الأخبار عن النكرة بالمعرفة ، ومعنى أسرّ القول أخفاه في نفسه ، ولم يتلفظ به ، وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى ، وهو أبلغ ، وقيل تلفظ به بحيث يسمع نفسه دون غيره ، والجهر ما يقابل السرّ بالمعنيين لكن على هذا ينبغي تفسير الجهر بما لم يضمر في النفس والمصنف رحمه الله تعالى فسره بمعناه المتبادر لأنه أبلغ لدلالته على استواء الكلام النفسي والكلام الذي يسمعه الغير عنده فتنبه. قوله : ( طالب للخفاء في مختبا بالليل ( أي محل الاختباء ، وهو الاختفاء ، وينبغي أن يكون قوله في مختبأ صفة طالب ليفيد الاختفاء إذ مجرّد الطلب له غير كاف هنا والسارب اسم فاعل من سرب إذا ذهب في سربه أي طريقه ، ويكون بمعنى تصرّف كيف شاء ، وأريد به هنا لازم معناه ، وهو بارز وظاهر لوقوعه في مقابلة مستخف والمصنف رحمه الله تعالى ذهب إلى أنّ سرب حقيقة بمعنى برز ، وهو ظاهر. قوله : ( وهو عطف على من أو مستخف ) أي سارب يعني إن سواء بمعنى الاستواء يقتضي ذكر شيئين ، وهنا إذا كان سارب معطوفا على جزء الصلة أو الصفة يكون شيئا واحداً فدفع بوجهين أحدهما أن سارب معطوف على من هو الخ لا على ما في حيزه كأنه قيل سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر هو سارب قال في الكشف ، والنكتة في زيادة هو في الأوّل أنه الدال على كمال العلم فناسب زيادة(5/222)
ج5ص223
تحقيق ، وهو النكتة في حذف الموصوف عن سارب أيضاً ، وهو الوجه في تقديم أسرّ وأعماله في صريح القول ، وأعمال جهر في ضميره ، والثاني أنه متعدد المعنى كأنه قيل سواء منكم اثنان هما مستخف وسارب وعلى الوجهين من موصوفة لا موصولة فيحمل الأولان على ذلك ليتوافق الكل ، وايثارها على الموصولة دلالة على أنّ المقصود الوصف فإنه متعلق العلم ، ولو قيل الذي أسرّ الخ وأريد الجنس كما في قوله :
ولقد أمز على اللئيم يسبني
فهو والأوّل سواء لكن الأوّل نص وان أريد المعهود حقيقة أو تقديراً لزم إيهام خلاف المقصود كما مز ، وأمّا الحمل على حذف الموصوف بتقدير ومن هو سارب كقوله :
فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
وقول حسان رضي الله تعالى عنه :
ومن يهجورسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
على ما نقل في الحواشي فضعيف جداً لما فيه من حذف الموصول ، وصدر الصلة فإنه ،
وإن ذكر النحاة جواز كل منهما لكن اجتماعهما منكر بخلاف ما في البيتين ، وما قيل المقصود استواء الحالتين سواء كانا لواحد أو لاثنين ، والمعنى سواء استخفاؤه وسروبه بالنسبة إلى علم الله فلا حاجة إلى التوجيه بما مرّ وكذا حال ما تقدمه فعبر بأسلوبين والمقصود واحد لا تساعده العربية لأنّ من لا تكون مصدرية ، ولا سابك في الكلام فكيف يتأتى ما ذكره. قوله : ( كقوله الخ ) هو للفرزدق من شعر مشهور ذكر فيه ذئبا لقيه بفلاة فصحبه وأضافه ومنه :
فقلت له لماتكشرضاحكا وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن عاهدتني لاتخونني نكن مثل من ياذئب يصطحبان
والشاهد فيه إطلاق من على متعدد ومراعاة معناه بتثنية الضمير ، وقوله وقائم سيفي أي
وأنا قابض على سيفي متمكن منه يظهر تجلده وشجاعته وكشر بمعنى أبدى أسنانه ضاحكا لي ، وهذا عكس قول المتنبي :
إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أنّ الليث مبتسم
ولكل وجهة وقوله يا ذئب معترض! ببن أجزاء الصلة. قوله : ( والآية متصلة بما قبلها
مقررة لكمال علمه وشموله ) أي جملة سواء الخ متصلة بقوله عالم الغيب والشهادة الخ اتصالاً معنويا لأنها مؤكدة له ، ولذا لم تعطف عليه وضمير شموله للعلم ، وقوله سواء منكم اثنان اثنان معنى من واسقط هو للاستغناء عنه في بيان المعنى ، واعتبره في الكشأف فقال اثنان هما مستخف وسارب فإفراد الضمير للفظ من وتقسيمه لاعتبار معناه وفي البيت اعتبر معناه فقط. قوله : ( لمن أسرّ أو جهر الخ ) يعني أنّ الضمير المفرد المذكر لما مرّ باعتبار تأويله بالمذكور واجرائه مجرى اسم الإشارة ، وكذا المذكور بعده ، وجعل ضمير له لله وما بعده لمن تفكيك للضمائر من غير داع ، وقيل الضمير لمن الأخير ، وقيل للنبي لأنه معلوم من السياق. قوله : ( ملانكة تعتقب في حفظه ( يعني أنه جمع معقبة من عقب مبالغة في عقب فالتفعيل للمبالغة والزيادة في التعقيب فهو تكثير للفعل أو الفاعل لا للتعدية لأنّ ثلاثيه متعد بنفسه ، وقوله إذا جاء على عقبه أصل معنى العقب مؤخر الرجل ، ثم تجؤز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة كان
أحدهم يطأ عقب الآخر قال الراغب عقب إذا تلاه نحو دبره وقفاه. قوله : ( كان بعضهم يعقب بعضاً ( أي يطأ عقبه وهو مؤخر رجله ، وإنما قال كأنّ لأنه لا وطء ولا عقب ثمة وان أتى أحدهما بعد الآخر ومن لم يتنبه لمراده قال الظاهر أن يقول فإنّ ولعل وجه ما في الكتاب هو ما روي عنه عليه الصلاة والسلام إنه قال : كما في البخاري " ثتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر " يعني أنّ اجتماعهم يقتضي عدم التعاقب فلذا قال كأنّ لأنه لا تعاقب في الحقيقة ، وكذا ما قيل إنه عبر به لعدم جزمه به فإنه كيف يظن بالمصنف رحمه الله تعالى عدم الجزم بما صرّح به في الصحيحين ، ولك أن تقول إنما لم يجزم بأنه مراد من الآية لأنّ له ملائكة كتبة وحفظة والظاهر تغايرهما. قوله :(5/223)
ج5ص224
( أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله ) أي يتبعونها ومنه تعقب فلان كلام فلان ، والمراد من التتبع الحفظ بالكتابة ، ولذا عطف عليه قوله فيكتبونه وكان الظاهر فيكتبونها ولكنه أراد ما يصدر منه وما ذكر وهذا معطوف على ما قبله بحسب المعنى.
قوله : ( أو اعتقب ) أي هو من باب الافتعال ، وقوله فأدغمت التاء في القاف تبع فيه الكشاف ، وقد اتفقوا على ردّه بأنّ التاء لا تدغم في القاف من كلمة ، أو كلمتين وقد قال أهل التصريف أن القاف والكاف كل منهما يدغم في الآخر ، ولا يدغمان في غيرهما. قوله : ( والتاء للمبالغة ) أي تاء معقبة لأنّ المراد به الملائكة ، وهي غير مؤنثة فتاؤه للمبالغة كما في علامة أو هي صفة جماعة ، ولذا أنثت فمعقبات جمع معقبة مراد به الطائفة منهم. فوله : ) وقرئ معاقيب جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من إحدى القافين ) وفي نسخة من حذف إحدى القافين في التكسير لأنه جمع معقب أو معقبة بتشديد القاف فيهما ، وقال ابن جني إنه تكسير معقب كمطعم ومطاعيم فجمع على معاقبة ، ثم حذفت الهاء من الجمع وعوضت الياء عنها وهذا أظهر وأنسب بالقواعد مما تكلفوه. قوله : ) من جوانبه أو من الأعمال ما قدّم وأخر ) قال المعرب من بين يديه متعلق بمحذوف على أنه صفة معقبات ، ويجوز أن يتعلق بمعقبات ومن لابتداء الغاية ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في الظرف الواقع خبرا والكلام على هذه الأوجه تمّ عند قوله
ومن خلفه فإذا تعلق بمعقبات فالمعنى أنها تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال ، وهو عبارة عن حفظ جميع أعماله وهو الوجه ، وان كان صفة أو حالاً فالمعنى أنّ المعقبات محيطة بجميع جوانبه. قوله : ( من بأسه متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له الخ ) فمن على هذا متعلقة بيحفظون صلة له ، وكذا على توله يحفظونه من المضارّ ، وكذا قوله بالاستمهال أو الاستغفار أي يحفظونه باستدعائهم من اللّه أن يمهله ويؤخر عقابه ليتوب فيغفر له أو يطلبون من الله أن يغفر له ولا يعذبه أصلا. قوله : ( أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله تعالى ) إياهم ، وقد قرئ به أي يحفظونه لأمر اللّه لهم بحفظه فمن ثعليلية والقراءة باللام لم يذكرها الزمخشري ، ، -انما ذكر القراءة بالباء السببية ، ولا فرق بين العلة والسبب عند النحاة وان فرق بينهما أهل المعقول فقوله ، وقيل من بمعنى الباء محل نظر. قوله : ( وقيل من أمر اللّه صفة ثانية ا لا صلة كالوجه المتقدم ، والصفة الأولى يحفظونه فإن كان من بين يديه صفة أيضا فهي ثالثة ، ويجوز أن يريد بالثانية من بين يديه على أن جملة يحفظونه مستأنفة أو حالية. قوله : ( وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة ) جمع جلواز وهو الشرطي من الجلوزة ، وهي سرعة الذهاب والمجيء والحرس حرس السلطان والواحد حرسيّ ، وهو وان كان جمع حارس لكنه صار اسم جنس لهؤلاء بالغلبة كالأنصار فلهذا نسب إليه وان كان القياس حارسيّ بردّ الجمع إلى واحدة في النسبة. قوله : ( يحفظونه في توهمه من قضاء اللّه تعالى ) يعني لا راذ لما قضى ولا حافظ منه إلا هو ومن جعله حافظا كالحفظة فجعل الحرس حفاظا إن كان على زعمه وتوهمه فهو حقيقة ، وان لم يعتبر ذلك فهو استعارة تهكمية كبشرهم بعذاب أليم فهو مستعار لضده ، ولذا قيل المعنى لا يحفظونه. قوله : ( من الآحوال الجميلة بالآحوال القبيحة ) فالمراد بما في أنفسهم ما أتصفت به ذواتهم من ذلك لا ما أضمرو. ونووه والمراد بالتغيير تبديله بخلافه لا مجرّد تركه ، وليس المراد أنه لا يصيب أحد إلا بتقدم ذنب منه حتى يقال إنه قد يصاب بذنب غيره كقوله تعالى : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ سورة الأنفال ، الآية : 25 ] وإنه قد يستدرح المذنب بتركه إذ المراد إنه عادة الله في الأكثر ، وأنها جارية بهذا إذا اتفقوا عليه وأصروا فلا ينافي غيره كما توهمه ، ولك أن تقول إن قوله : { وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } [ سورة الرعد ، الآية : 11 ] تتميم لتدارك ما ذكر. قوله : ( فلا رذ له ) يثير إلى أن مردّ مصدر ميمي ، وقوله فالعامل في إذا ما دل عليه الجواب لأنّ ما بعد الفاء ومعمول المصدر لا يتقدم عليه على الصحيح ،
والتقدير لم يرذ أو وقع ونحوه ، وقوله فيدفع عنهم السوء ليس هذا مكرراً مع ما قبله ، ولا قوله يدفع مصحف يرفع بالراء ليكون الأوّل دفعا ، وهذا رفعا كما توهم(5/224)
ج5ص225
لأنّ هذا عام بعد خاص أي لا يلي جميع أمورهم غير الله من خير ونفع فلا يضر اندراج الدفع فيه ودخوله دخولاً أولياً لأنه مقتضى السياق. قوله : ) وفيه دليل على أنّ خلاف مراد اللّه تعالى محال ( فإن قلت الآية إنما تدل على أنه إذا أراد الله بقوم سوءاً وجب وقوعه ، ولا تدل على أن كل مراد له كذلك ، ولا على استحالة خلافه بل على عدم وقوعه قلت لا فرق بين إرادة السوء به وإرادة غيره فإذا امتنع رد السوء فغيره كذلك ، والمراد بالاستحالة عدم الإمكان الوقوعي لا الذاتي كذا قيل ، وفيه تأمل. قوله : ( خوفاً من أذا وطمعاً في النيث ) المراد بالأذى الصواعق ونحوها والطمع في غيثه فالخائف والطامع واحد والقول الآتي بالعكس. قوله : ) وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف ( إذا كان مفعولاً له وأشترط اتحاد فاعل العلة ، والفعل المعلل احتاج هذا للتأويل لأن فاعل الإراءة هو الله ، وفاعل الطمع والخوف غيره فأمّا أن يقدر فيه مضاف ، وهو إرادة أي إراءتهم ذلك لإرادة أن يخافوا وأن يطمعوا فالمفعول له المضاف المقدر وفاعلهما واحد أو الخوف والطمع موضوع موضع الإخافة ، والإطماع كما وضع النبات موضع الإنبات في قوله : { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } [ سورة نوح ، الآية : 17 م فإنّ المصادر ينوب بعضها عن بعض أو هو مصدر محذوف الزوائد كما في شرح التسهيل على أذ 4 قد ذهب جماعة من النحاة كابن خروف إلى أن اتحاد الفاعل ليس بشرط ، وقيل إنه مفعول له باعتبار أن المخاطبين رائين لأن إراءتهم متضمنة لرؤيتهم والخوف والطمع من أفعالهم فهم فعلوا الفعل المعلل به ، وهو الرؤية فيرجع إلى معنى قعدت عن الحرب جبنا ورد بأنه لا سبيل إليه لأنّ ما وقع في معرض! العلة الغائية لا سيما الخوف لا يصلح علة لرؤيتهم ، وهو كلام واه لأن القائل صرح بأنه من قبيل قعدت عن الحرب جبنا يريد أن المفعول له حامل على الفعل وليس من قبيل ضربته تأديبا فلا وجه للرد المذكور ، وقيل التعليل هنا مثله في لام العاقبة لا أن ذلك من قبيل قعدت عن الحرب جبناً كما ظن لأنّ الجبن باعث على القعود دونهما للرؤية ، وهو غير وارد لأنه باعث بلا شبهة ، وما قيل عليه من أنّ اللام المقدرة في المفعول له لم يقل أحد بأنها تكون لام العاقبة ولا يساعده الاستعمال ليس بشيء كيف ، وقد قال النحاة : كما في الدرّ أنه كقول النابغة الذبيا ني :
وحلت بيوتي في يفاع ممنع تخال به راعي الحمولة طائرا حذارأعلى أن لا تنال مقادتي ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
ثم إن قوله ليس ما نحن فيه مثل قعدت عن الحرب جبنا لا! الخوف والطمع ليسا
مقدمين على الرؤية كالجبن ، وإنما يحصلان في حال الرؤية إلا أن يراد بهما الملكة النفسانية فيكون إراءة الله لهم لما جبلوا عليه عند رؤيتهم من الخوف ، والطمع لا يخفى ما فيه من التعسف ، وقد علمت أنه غير وارد وسيأتي لهذا تتمة في سورة الروم. قوله : ( أو الحال من البرق أو المخاطبين ( معطوف على العلة ، وقوله على إضمار ذو في نسخة ذا وفي أخرى ذوي فالمراد تقدير مضاف من هذا النوع أو جعل المصدر حالاً مبالغة أو تأويله باسم فاعل أو مفعول ، وقوله بمعنى المفعول أو الفاعل ، لف ونشر مرتب ، وقوله وقيل الخ تقدم الفرق بينه وبين الوجه السابق وهو ظاهر ، وقوله من يضره كالمسافر ونحوه وقوله المنسحب في الهواء أي المنجر فيه إشارة إلى وجه تسميته سحابا. قوله : ( وهو جمع ثقيلة وإنما وصف به السحاب الخ ( أي لأنه اسم جنس في معنى الجمع فكأنه جمع سحابة ثقيلة لا أنه جمع أو اسم جنس جمعيّ لإطلاقه على الواحد وغيره. قوله : ( ويسبح سامعوه ( فهو على حذف مضاف ، أو إسناد مجازفي للحامل والسبب ، وقوله ملتبسين إشارة إلى أن الباء للملابسة وأن الجار والمجرور حال ، وقوله فيضجون بالضاد المعجمة والجيم وفي نسخة يصيحون من الصياج ، ومعناهما متقارب يشير إلى أنه على ظاهره بمعنى قول ذلك. قوله : ( أو يدل الرعد بنفسه على وحدانية اللّه ) فالإسناد على حقيقته ، والتجوّز في التسبيح والتحميد إذ شبه دلالته بنفسه على تنزيهه عن الشرك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي ، ودلالته على فضله ورحمته بحمد الحامد لما فيها من الدلالة على صفات الكمال ، وقيل إنه مجاز مرسل استعمل في لازمه والأوّل أولى فهو على حد قوله وإن من شيء إلا(5/225)
ج5ص226
يسبح بحمده. قوله : ) وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما الخ ) أخرجه الترمذيّ وصححه النسائي والمخاريق جمع مخراق وهو ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضاً إذا لعبوا ويطلق على السيف مجازاً فالمراد أنه آلة تسوق بها الملائكة السحاب فالرعد اسم لملك ، ولذلك الصوت أيضا ولا تجوّز فيه حينئذ وقوله من خوف الله إشارة إلى أنه مصدر ، وليس المراد به النوع ، وقوله فيصيب إما تفريع أو تفسير ومن مفعول يصيب ، والباء
للتعدية ومفعول يشاء محذوف مع العائد أي من يشاء إصابته ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما من سمع صوت الرعد فقال سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير إن أصابته صاعقة فعليّ ديته ، وعنه أيضا إذا سمعتم الرعد فاذكروا اللّه فإنه لا يضرّ ذاكرا. قوله : ( حيث يكذبون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما يصفه به الخ ) فالمراد بالمجادلة في الله المجادلة في شأنه ، وما أخبر به عنه مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم ، والجدال أشد الخصومة من الجدل بالسكون ، وهو فتل الحبل ونحوه لأنه يقوي به ويشتد طاقاته. قوله : ( والواو إمّ لعطف الجملة على الجملة ) أي هم يجادلون معطوف على قوله ، ويقول الذين كفروا لولا أنزل المعطوف على يستعجلونك ، والعدول إلى الاسمية للدلالة على أنهم ما ازدادوا بعد الآيات إلا عنادا ، وأمّا الذين كفروا فزادتهم رجساً إلى رجسهم وجاز عطفها على قوله هو الذي يريكم ، على معنى هو الذي يريكم الآيات الباهرة الدالة على القدرة والرحمة وأنتم تجادلون فيه ، وهذا أقرب مأخذاً والأوّل أكثر فائدة كذا في الكشف ولا يعطف على يرسل الصواعق لعدم اتساقه ، والحالية من مفعول يصيب أي يصيب بها من يشاء في حال جداله أو من مفعول يشاء ، وقوله فإنه روي راجع إلى قوله فإنهم يكذبون ، وبيان له بسبب النزول روى محيي السنة عن عبد الرحمن بن زيد أنه قال نزلت هذه الآيات في عامر بن الطفيل ، واربد بن ربيعة وهما عامريان أقبلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في نفر من أصحابه في المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور إلا أنه من أجمل الناس فقال رجل : يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك ، فقال : " دعه إن يرد الله به خيراً يهده ( فأقبل حتى قام عنده فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت فقال : " لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم! قال : تجعل لي الأمر من بعدك قال : " ليس ذلك إليّ هو دلّه عز وجل يجعله حيث شاء! قال : تجعلني على الوبر وأنت على المدر قال : " لا " ، قال : فما تجعل لي قال : " أجعلك على أعنة الخيل تغزو عليها ، قال : أوليس ذلك لي اليوم ، ثم قال قم معي أكلمك فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أوصى اربد بأنه إذا خاصمه أن يضر به بالسيف فجعل يخاصم النبيّ صلى الله عليه وسلم ويراجعه فدار اربد خلفه ليضربه فاخترط سيفه فحبسه الله ولم يقدر على سله فجعل عامر يومع إليه فالتفت رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى صنيع اربد " فقال اللهم اكفنيهما بما شئت لا فأرسل الله على اربد صاعقة في يوم صحو ياقظ فأحرقته وولى عامر هاربا ، وقال : يا محمد دعوت على اربد فقتله ربك فوالله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يمنعك الله من ذلك وابنا قيلة " يعني الأنصار فنزل عامر ببيت امرأة سلولية فلما أصبح وقد تغير لونه وأصابه الطاعون جعل يركض في الصحراء بعدما ضم سلاحه عليه ، ويقول واللات لئن أضحى إليّ محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي فأرسل الله له ملكاً فلطمه فخرّ ميتاً " أ ا ( والطفيل مصغر ، واربد بوزن افعل بالباء الموحدة أخو لبيد العامري لأمّه ، واختلف في اسم أبيه فقيل ربيعة وقيل قيس ، وظاهر قوله فأرسل الله على اربد أنه كان في حين ملاقاته النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض الكتب أنه كان بعد انصرافه عنه ، وهو الصحيح فالفاء إشارة إلى عدم تطاول الزمان ، وقوله فمات في بيت سلولية يشير إلى ما تقدم في الرواية ، وفي رواية أنه ركب فرسه وبرز في الصحراء فمات بها وهذه تنافيها إلا أن يراد أنه حصل له سبب الموت ، وهو الطاعون. قوله : ( وكان يقول غدة كغدّة البعير وموت في بيت سلولية ) فأرسلها مثلاً ، وهو كما قال الميداني : يضرب في خصلتين كل منهما شرّ من الأخرى ، والغدة طاعون يكون في الإبل وقلما تسلم منه يقال أغد البعير فهو مغداً إذا صار ذا غدّة ، وهو مرفوع ويروى أغدّة وموتا(5/226)
ج5ص227
بالنصب أي أغذ غذة وأموت موتا وسلولية امرأة من سلول ، وهي التي نزل عندها وسلول من أخس قبائل العرب كباهلة ، وقوله فنزلت وهي إحدى الروايات في سبب النزول ، وفيه روايات أخر ، والذي في البخاري عن أنس بن مالك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالدا رضي اللّه عنه في سبعين راكباً إلى قومه " وهو مخالف لما هنا. قوله : ( المماحلة والمكايدة ) المماحلة بالجز عطف بيان للمحال بكسر الميم إشارة إلى أنهما مصدران كالقتال ، والمقاتلة والمكايدة عطف تفسير للممالحة ، ومحل بالتخقيف ، وقوله تكلف لأنّ التفعيل يكون للتكلف وكونه من المحل بمعنى القحط ، والميم أصلية ذكره الراغب فعذه معنى آخر في القاموس لا ينافيه كما توهم ، وقوله فعال من المحل بمعنى القؤة أي اسم لا مصدر ، وا ) صحل بمعنى القوّة فمعناه شديد. قوله : ) وقيل مفعل من الحول ( بمعنى القوّة أو من الحيلة المعروفة والميم زائدة على هذا ، وقوله أعل على غير قياس إذ كان القياس فيه صحة الواو كمحور ومرود ومقود ، وقوله ويعضده أي يعضد زيادة الميم لكنه على هذا من الحيلة ، وإنما عضده أي قوّاه لأنّ الأصل توافق القراءتين. قوله : ( ويجوز أن يكون بمعنى الفقار ) وهو عمود الظهر وسلسلة العظم التي فيه مركباً بعضها ببعض ، وبها قوام البدن فيكون مثلا في القوّة أي
استعارة ومجازا فيها ، قال في الأساس يقال فرس قوفي المحال ، وهو الفقار الواحدة محالة والميم أصلية والفقار بفتح الفاء واحده فقارة ويجمع على فقارات. قوله : ( فساعد الله أشدّ وموساه أحد ) هو حديث صحيح ، وفي نهاية ابن الأثير رحمه الله تعالى في حديث البحيرة فساعد الله أشدّ ، وموساه أحد أي لو أراد الله تحريمها بشق أذنها لخلقها كذلك فإنه تعالى يقول لما أراد كن فيكون فلذا قيل كان ينبغي للمصنف رحمه الله أن يقول كقول النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وموسى بضم الميم وسكون الواو والسين المهملة وألف مقصورة آلة الحلق المعروفة ، ووزنها فعلى من أوساه بمعنى حلقه وقطعه ، وأما موسى علم النبي صلى الله عليه وسلم فمعرّب. قوله : ( الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد الخ ) يعني أنّ الدعوة بمعنى الدعاء أي لطلب الإقبال ، والمراد به العبادة لأنه يطلق عليها لاشتمالها عليه ، وكلامه بيان لحاصل المعنى وتصوير له با! إضافته إلى الحق لاختصاص عبادته به دون عبادة غيره ، وقيل إنه ذهب إلى المذهب المرجوج في جواز إضافة الموصوف للصفة لعدم تكلفه هنا لكن يأباه جعل إضافته للملابسة ، فإنّ المتبادر منها خلاف ما ذكر وعلى هذا تجعل الملابسة شاملة للملابسة الجارية بين الموصوف وصفته ، وهو الذي صرحوا به كما ستراه. قوله : ( الذي يحق أن يعبد ويدعي الخ ) وفي نسخة أو بأو الفاصلة فقيل إنه يثير إلى أن المراد بالدعاء العبادة كما مر وأنّ تقديم له لإفادة الاختصاص ، وقيل إنه على نسخة الواو بيان لأنّ الدعوة المتعدية بإلى بمعنى الدعاء على ظاهرها وأنّ المدعوّ إليه هو العبادة لله لا أنها بمعناها ، وقوله دون غيره ناظر إلى يدعي لا إلى يحق لأنه المناسب للحصر ، وعلى نسخة أو بيان لأنّ الدعوة إمّا بمعنى العبادة أو بمعنى الدعوة إليها وعليه دون غيره تنازع فيه الفعلان ، وقوله الذي يحق تفسير للاستحقاق المستفاد من اللام ، وبيان لأنّ الحصر ناظر إلى المعنى الأوّل لا تفسير للحق ، وفي هذه النسخة بحث فإنّ الوجوه حينئذ تكون ثلاثة لأنّ الدعاء إما بمعنى العبادة أو دعوة الخلق إلى العبادة أو بمعنى التضرّع فالذي يناسب كلامه أن تجعل النسختان بمعنى ، وأنّ دعوة الحق بمعنى الدعوة إلى عبادته ، وإذا كانت الدعوة إلى عبادته حقاً لزم كون عبادته حقا فإذا أريد أحدهما لزم الآخر فالعطف بأو ترديد في المراد أوّلاً من اللفظ فتأمّل. قوله : ) أو له الدعوة المجابة الخ ( هذا وجه آخر معطوف على ما قبله فيه الدعوة بمعنى التضرع ، والطلب المشهور وقوله فإن من دعاه أجابه بيان لأنّ الدعوة دعاء الخلق دته ، ومعنى أن دعاء الخلق له أن له إجابته دون غيره ولم يقل فإنه المجيب لمن دعاه دون غيره بيانا للحصر المستفاد من الكلام كما في الوجه الأوّل إمّا لظهوره بالقياس إليه ، أو لأنه لا حاجة إلى استفادته
من التقديم لدلالة قوله بعده لا يستجيبون على حصر الإجابة فيه لكنه بالنسبة إلى آلهتهم فقط ، والذي يفيده التقديم الحصر فيه مطلقاً فلو ذكره كان أظهر ، وقوله ويؤيده ما بعده فإنّ ذكر الاستجابة دليل على أنّ الدعاء بهذا المعنى ، وان صح كونه بمعنى يعبدون ، أو يدعون إلى(5/227)
ج5ص228
العبادة. قوله : ( والحق على الوجهين ما يناقض الباطل ) أي على وجهي تفسير الدعاء السابقين ، وقوله واضافة الدعوة أي إلى الحق المقابل للباطل عليهما لما بين الدعوة بالمعنيين ، وبين الحق بهذا المعنى من الملابسة لأنّ عبادة الله ، والدعوة إليها ودعاء الله يتصف بالحقية ، واضافة الصفة إلى الموصوف عند من لا يؤوّلها بتقدير موصوف هو المضاف إليه لأدنى ملابسة كما في شرح التسهيل ، والى الوجه الثاني أشار بقوله تأويل دعوة المدعوّ الحق أي دعوة المدعوّ إليه غير الباطل ، والمدعوّ إليه العبادة لا الله فحذف الموصوف وأقيصت صفته مقامه ، وليس فيه ردّ على الزمخشري حيث قدر المدعوّ إذا أريد بالحق الله لأنه كلام آخر فلا منافاة بينهما كما توهم ، وبهدّا التقرير اندفع ما قيل عليه إنه لو كان الحق مصدراً كالصدق ظهر صحة ما قاله لكنه صفة يصح حمله مواطأة على الدعوة لما فسره به. قوله : ( وقيل الحق هو اللّه وكل دعاء إليه دعوة الحق ا لما كان لكلام مسوقا لاختصاصه تعالى بأن يدعي ، ويعبد ردّاً لمن يجادل في الله ويشرك به الأنداد فلا بدّ أن يكون في الإضافة إشعار بهذا الاختصاص ، فإن جعل الحق مقابل الباطل فهو ظاهر ، وان جعل اسما له تعالى فالأصل دعوة الله تأكيداً للاختصاص باللام والإضافة ، ثم زيد ذلك بإتامة الظاهر مقام الضمير معاداً بوصف ينبئ عن اختصاصها به أشذ اختصاص ، فقيل له دعوة المدعوّ الحق ، والحق من أسمائه تعالى يدل على أنه الثابت بالحقيقة ، وما سواه باطل من حيث هو وحق بتحقيق اللّه له ، وبهذا سقط ما قيل إن مآل الكلام على هذا لله دعوة الله فهو كما تقول لزيد دعوة زيد ، وهو غير صحيح ولا حاجة إلى تأويله بأنّ المراد دلّه الدعوة التي تليق أن تنسب ، وتضاف إلى ذاته فإنه قليل الجدوى. قوله : ( والمراد بالجملتين ) يعني وهو شديد المحال وله دعوة الحق ، وهذا بيان لمناسبتهما لما قبلهما واتصالهما به فإن كان سبب نزول الأوّل قصة اربد وعامر فظاهر لأنّ إصابته بالصاعقة من حيث لا يشعر من مكر الله به ودعوة الحق دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صاحبه بقوله : " احبسهما عني بما شئت " فأجيب فيهما فكانت الدعوة دعوة حق فإن لم يكن الأوّل في قصتهما فهو وعيد
للكفرة على مجادلتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم ، واجابة دعائه إن دعا عليهم واتصاله ظاهر أيضا ، وقوله محال من الله أي كيد على طريق التمثيل ، واجابة لدعوة رسوله ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم فيهما احبسهما عني بما شئت وفيه لف ونشر للجملتين المذكورتين ، وقوله : أو دلالة على أنه الحق لأنه ناظر إلى تفسير الدعوة بالعبادة ، أو الدعاء إليها أي الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، وقوله وعيد الخ بيان لمعنى الجملة الأولى على معنى الدعوة الثانية ، وتهديدهم معطوف عليه بيان للثانية عليه أيضاً ناظر إلى تفسير الدعوة الثاني ، وقوله أو بيان ضلالهم الخ ناظر إلى تفسير الدعوة الأوّل ، وضلالهم وفسادهم كونهم على الباطل في عبادة غيره تعالى. قوله : ( والذين يدعون الخ ) أي الذين إمّا عبارة عن المشركين ومفعول يدعون محذوف لدلالة من دونه عليه لأنّ معناه متجاوزين له ، وتجاوزه بعبادتها ولاستدعاء الدعوة ومدعوّآ له أو الأصنام فعائد الموصول محذوف أي يدعونهم ، وقدر ضمير العقلاء لمناسبة صيغة الذين ففيه تنزيله منزلة أولي العلم بناء على زعمهم ، وقوله عليه متعلق بدلالة ، وقوله من الطلبات بيان لشيء وهو جمع طلبة بمعنى مطلوب. قوله : ( 1 لا استجابة كاستجبابة من بسط كفيه الخ ( يعني الغرض! نفي الاستجابة على القطع بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطرّ إليه فضلا عن مجرّد الحاجة ، والحاصل أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمه بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلا عن الاستطاعة للاستجابة ، وبقائهم لذلك في الخسران بحال ماء بمر أي من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة ، واشارة فهو لذلك في زيادة ظمأ وشدة خسران ، والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل أبرز في معرض! التهكم حيث أثبت للماء استجابة زيادة في التخسير والتحسير فالاستثناء مفرغ من أعمّ عام المصدر أي لا يستجيبون شيئا من الاستجابة ، وأمّا إذا شبه الداعون بمن أراد أن يغرف الماء بيديه فبسطهما ناشراً أصابعه في أنهما لا يحصلان على طائل ، وقوله في قلة جدوى(5/228)
ج5ص229
دعائ! أراد عدم الجدوى لكه بالغ بذكر القلة ، وارادة العدم دلالة على تحقيق الحق ، وايثار الصدق لإشمام طرف من التهكم فهو من تشبيه المفرد المقيد كقولك لمن لا يحصل من سعيه على شيء كالراقم على الماء فإنّ المشبه هو الساعي مقيداً بكون سعيه كذلك ، والمشبه به هو الراقم مقيداً بكونه على الماء ، وكذلك فيما نحن فيه ، وليس من المركب العقلي في شيء على ما توهم نعم وجه الشبه عقلي اعتباري ، والاستثناء مفرغ من أعم عام الأحوال أي لا تستجيب الآلهة لهؤلاء الكفرة الداعين إلا مشبهين ، أعني الداعين بمن بسط كفيه ولم يقبضهما ،
وأخرجهما كذلك فلم يحصل على شيء لأنّ الماء يحصل بالقبض لا بالبسط ، وقوله يطلب منه أن يبلغه فاعل يطلب الباسط ، وضمير منه ويبلغه للماء أو فاعل يبلغ للماء ومفعوله للفم ، وقوله وما هو يبالغه ضمير هو للماء وبالغه للفم ، وقيل الأوّل للباسط ، والثاني للماء وهو لا يناسب نفي الاستجابة وفيه نظر. قوله : ) فيبسط كفيه ) بسط الكف نشر الأصابع ممدودة كما في قوله : تعؤد بسط الكف حتى لوأنه أراد انقباضا لم تطعه أنامله
وقوله ليشربه هو في هذا الوجه وفي الأوّل بسط يديه للدعاء والإشارة إليه كما مز وما نقل عن
عليّ رضي الله عنه من أنه في عطشان على شفير بئر بلا رشاء فلا يبلغ قعر البئر ، ولا الماء يرتفع إليه راجع إلى الوجه الأوّل ، وليس مغايراً له كما قيل والاستثناء في قوله إلا كباسط على حد قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
قوله : ) في ضياع وخسار وباطل ) قيل إمّا ضياع دعائهم لآلهتهم فظاهر لكنه فهم مما
سبق ، رأمّا ضياع دعائهم لله لكفرهم وبعدهم عن حيز الإجابة فيرد عليه أنّ المصرح به في كتب الفتاوى أنّ دعاء الكافر قد يستجاب إلا أن يحمل على الأوّل ويجعل مكرّراً للتأكيد ، أو على الثاني ويقيد بما يتعلق بالآخرة ، ولك أن تجعله مطلقاً شاملا لهما ولا يعتذ بما أجيب منه. قوله : ) يحتمل أن يكون السجود على حقيقته الخ ( ويؤيده من المخصوصة بالعقلاء لكن قيل إنه يأباه تشريك الظلال معهم والمعنى الثاني على عكس هذا كما لا يخفى ، وقيل إنه يقدو له فعل أو خبر أو يكون هو مجازاً ولا يضرّ الحقيقة لكونه بالتبعية والعرض! فتأمل هذا كله من عدم تأقل كلام المصنف رحمه الله تعالى فإنّ مراده بالحقيقة ليس ما يقابل المجاز بل ما يقابل ألانقياد فيئ ألمعنى وان كان مجازياً والحقيقة المذكورة إن كانت في مقابلته فقط فهي شاملة لما كان بال!. ض أما على مذهب المصنف رحمه الله في جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز فظاهر أو يراد به الوقوع على الأرض! بطريق عموم المجاز فيشمل سجود الظلال أيضأ وضمير ظلالهم ينبغي أن يرجع لمن في الأرض! لأنّ من في السماء لا ظل له إلا أن يحمل على التغليب أو التجوّز. قوله : ( طوعا حالتي الشدّة والرخاء ) فالطوع بالنسبة إلى الملائكة والمؤمنين ، وهو على حقيقته ، والكره بالنسبة إلى الكفار في حالة الشدّة والمراد به الاضطرار والإلجاء فيشمل المنافقين المصلين خيفة السيف ، والظاهر أنه بمنزلة الكره لا كره حقيقي ، وقيل إنّ قوله في حالتي الشدة والرخاء إشارة إلى أنهما مجازان عن الحالتين ، والمقصود استواء حالتيهم في أمر السجود ، والانقياد بخلاف الكفرة وفيه نظر ، وقال أبو حيان رحمه اللّه الساجدون كرهاهم الذين
ضمهم السيف إلى الإسلام قال قتادة فيسجد كرهاً فإثا نفاقاً أو يكون الكره ، أوّل حاله فتستمز عليه الصفة وان صح إيمانه بعد ، وقوله بالعرض! أي بالتبع ، وهو مقابل للحقيقة أو مندرج فيه كما مز. قوله : ) وأن يراد به انقيادهم لإحداث ما أراده الخ ( يعني سجود من ذكر إفا استعارة للانقياد المذكور أو مجاز مرسل لاستعماله في لازم معناه لأنّ الانقياد مطلقاً لأزم للسجود ، وشاؤوا بمعنى رضوا ولم يكرهوا ، وتقلص الظل ارتفاعه ونقصه. قوله. ( وانتصاب طوعاً وكرهاً بالحال أو العلة ( أفا الأوّل فإن قلنا بوقوع المصدر حالاً من غير تأويل فهو ظاهر هالا فهو بتأويل طائعين ، وكارهين وإذا كان علة أي مفعولاً لأجله فالكره بمعنى الإكراه ، وهو مصدر من المبني للمفعول ليتحد فأعلاهما كما مرّ تحقيقه ، وعلى قول ابن خروف فهو على ظاهره ، وما قيل عليه من أنّ اعتبار العلية في الكره غير ظاهر فإنّ الكره الذي يقابل الطوع ، وهو الإباء لا يعقل كونه علة(5/229)
ج5ص230
للسجود قد مز دفعه في قوله خوفاً وطمعا فإنّ العلة ما يحمل على الفعل ، أو ما يترتب عليه لا ما يكون غرضا له فتذكره. قوله : ) ظرف ليسجد ( فالباء بمعنى في وهو كثير والمراد بهما الدوام لأنه يذكر مثله للتأبيد فلا يقال لم خصا به ، وإذا كان حالاً من الظلال فيصح فيه ذلك أيضا ، أو يقال التخصيص لأنّ امتدادها وتقلصها فيهما أظهر ، وقيل المراد إنّ الامتداد في الآصال أظهر ، والتقلص في الغدوّ أظهر أمّا الأوّل فلأن في الأصيل يزيد الظل في زمان قصير كثيراً ، وأمّا الثاني فلأن نقصانه في زمان قليل كثير. قوله : ( والغدوّ جمع غداة كقنى جمع قناة ) بقاف ، ونون وهي الرمح ومجرى الماء ، والآصال جمع أصيل وأصله أ أصال بهمزتين فقلبت الثانية ألفا ، وقراءة الإيصال بكسر الهمزة على أنه مصدر آصلنا بالمد أي دخلنا في وقت الأصيل كما قاله ابن جني ، وهي قراءة لابن مجلز شاذة ، وقد اقتصر على الوجه الثاني في سورة النور وسيأتي الكلام عليه هناك ، وقوله خالقهما ومتولي أمرهما لأن الرب يكون بمعنى الخالق ، أو بمعنى المربي الذي يتولى أمر من رباه واليهما أشار المصنف رحمه اللّه. قوله : ( أجب عنهم بذلك إذ لا جواب لهم سواه الخ ) قد مرّ الكلام في هذا ونكتة مبادرة السائل إلى الجواب ، والجواب عن الخصم ، وقد وجهه المصنف رحمه اللّه هنا بأنه لتعينه للجواب ، ولأنه لا نزاع فيه للمسؤول منه ، والفرق بينهما أنه على الأوّل متعين عقلا سواء كان بينا أو لا ، وعلى الثاني أنه أمر مسلم ظاهر لكل أحد بقطع النظر عن تعينه ، ولهذه المغايرة عطفه فلا وجه
لما قيل الأولى ترك العطف ليكون علة للأوّل ، وعلى الأخير لقنهم الجواب ليتبين لهم ما هم عليه من مخالفتهم لما علموه وقيل إنه حكاية لاعترافهم ، والسياق يأباه. قوله : ( ثم ألزمهم بذلك الخ ) مترتب على الجواب أي أنه لقنهم الجواب ليلزمهم ويقول لهم إذا علمتم أنه الخالق المتولي للأمور فكيف اتخذتم أولياء غيره وفيه إشارة إلى أنّ الاستفهام للإنكار ، وأنّ إنكار ذلك مترتب على ما قبله مسبب عنه ، وإنما أتى المصنف رحمه الله بثم في التفسير إشارة إلى أنه تعكيس ، وإلى أنه لا ينبغي أن يترتب على ذلك الاعتراف هذا بل عكسه ، وليس إشارة إلى أنه لو عطف لكان حقه أن يعطف بثم ، كما قيل وكذا كونه إشارة إلى أن الفاء للبعد فإنه لم يقله غيره ، وإنما هو إشارة إلى استبعاد التعقيب كما يدل عليه إنكاره فتأمّل. قوله : ( لأنّ اتخاذهم منكر بعيد عن مقتضى العقل ) يعني أنه لإنكار التعقيب فالتعقيب واقع منهم وإليه الإشارة وإنكاره استبعاد لصدوره من العقلاء كما أشار إليه بقوله ، ثم فتعقيبهم ذلك الاعتراف بالاتخاذ عكس قضية العقل ، والسببية مقتضى أفعالهم ، ولذا كان إلزاما لهم فلا وجه لما قيل إنها للتعقيب لا للسببية ، ولو جعلت لسببية الجواب لإنكار الاتخاذ لم يبعد. قوله : ( لا يقدرون أن يجلبوا إليها نفعاً الخ ) الملك التصرّف ، ويطلق على التمكن منه والقدرة كما ذكره الراغب وأشار إليه المصنف رحمه الله ، وقوله يجلبوا إليها أي إلى أنفسهم. قوله : ( فكيف يستطيعون إيقاع الخير ودفع الضرّ عنهم ) كذا في أصح النسخ هنا ، والإيقاع أفعال من الوقوع وضمير عنهم للذين يدعون ، ولا إشكال على هذه النسخة ، وفي نسخة أخرى إنفاع الغير ودفع الضر عنه ، واعترض عليه بأن لفظ الإنفاع من النفع لم يذكر في كتب اللغة ، ولم يسمع من العرب ، وقد استعمله المصنف رحمه الله في غير هذا المحل كسورة الجن وهو خطأ وفي أخرى إنفاع الغير ، ودفع الضرّ عنهم بضمير الجمع باعتبار معنى الغير ولا بعد فيه كما قيل وقيل إن هاتين النسختين من تصحيف الكتاب. قوله : ( وهو دليل ثان على ضلالهم ) قيل الدليل الأوّل هو ما يفهم من قوله : { قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء } [ سورة الرعد ، الآية : 16 ] وقيل إنه ما يفهم من قوله والذين يدعون من دونه الخ وهذا أظهر ، وان كان الأوّل أقرب من كلام المصنف رحمه الله ، ولا خطأ فيه كما توهم. قوله : ) المشرك الجاهل بحقيقة العبادة الخ ) هذا المراد منه فهو استعارة تصريحية كما في القول بأنّ المراد الجاهل بمثل هذه الحجة ، والعالم بها وقيل إنه تشبيه ، والمعنى لا يستوي المؤمن والكافر كما لا يستوي الأعمى والبصير فهو حقيقة ، وليس المراد على الأوّل بالعمى والبصر القلبيين فتأنل. قوله : ( المعبود النافل عنكم الخ ) هذا من إرخاء
العنان والا فلا إدراك لها أصلا حتى تتصف بالغفلة ، ويصح أن يطلقه لمقابلة(5/230)
ج5ص231
قوله المطلع على أنه من المشاكلة على حذ قوله من طالت لحيته تكوسج عقله ، وقوله الشرك والتوحيد إنما وحد التوحيد لأنه واحد كاسمه وجمع الشرك لتعدّد أنواعه كشرك النصارى ، وشرك المجوس وغيرهم ، وقوله بل أجعلوا والهمزة الخ يعني أم هنا منقطعة مقدرة ببلى ، والهمزة المقدّرة للاستفهام الإنكاري ، ومعنى الإنكار لم يكن لأحد الخلق. قوله : ( صفة لشركاء داخلة في حكم الإنكار ) يعني أنّ تعكيسهم ذلك لما لم يكن عن حجة كان حكايته أدخل في ذمّهم ، وفيه تهكم لأنّ من لا يملك لنفسه شيئا من النفع ، والضرّ أبعد من أن يفيدهم ذلك ، وكيف يتوهم فيه أنه خالق ، وأن يشتبه على ذي عقل فالآية ناعية عليهم متهكمة بهم ، وليس المقصود بالإنكار والنفي القيد ، وهو قوله كخلقه بل المقيد ، وقيده كما أشار إليه المصنف بقوله اتخذوا شركاء عاجزين الخ ، وقوله حتى يتشابه إشارة إلى معنى فتثابه ، وأنه منفي لترتبه على المنفي. قوله : الا خالق غيره فشاركه في العبادة الخ ) إشارة إلى أن خلقه لكل شيء يستلزم أن لا خالق سواء لاستحالة التوراد ، وأنه المقصود إذ نفي الخلق عن غيره يدل على نفي استحقاقه للعبادة ، والألوهية وهو المقصود ولذا قال ثم نفاه عمن سواه ، وكونه موجبا للعبادة ولازما لاستحقاقها لأنه ذكره بعد إنكار التشريك فيها فيدل على ذلك. قوله : ( ليدل على قوله وهو الواحد الخ ) وجه الدلالة ظاهر فهو كالنتيجة لما قبله ، وقوله وهو الواحد الخ يحتمل أن يكون من مقول الفول ، وأن يكون جملة مستأنفة ، وقوله الغالب على كل شيء فما سواه مما هو مغلوب له كيف يكون شريكا ، وقوله من السحاب الخ إمّ لأنّ السحاب سماه حقيقة لأنها ما علا وارتفع أو مجاز بتشبيهها بها في الارتفاع ، وقوله أو من جانب ففيه مجاز أو تقدير أو المراد بالسماء معناها الظاهر ، والتجوّز في لفظ من لأن مبادي الماء لما كانت من السماء جعل نفسه من السماء ففيه استعارة تبعية حرفية ، وضمير منه للسماء بتأويله بالفلك ، ونحوه وإلا فهي مؤنثة وكون مباديه منها لكونه بتأثير الإجرام الفلكية في البخار كما في كتب الحكمة ، وسيأتي
تحقيقه. قوله : ( جمع واد وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه ) وبه سميت الفرجة بين الجبلين ، وجمعه أودية كناد وأندية وناج وأنجية قيل ، ولا رابع لها وفي شرح التسهيل ما يخالفه ، والوادي يطلق على الطريقة يقال فلان في واد غير واديك ذكره الراغب فإطلاقه على الماء الجاري إمّا مجاز لغوقي بإطلاق اسم المحل على الحال ، أو عقلي والتجوّز في الإسناد ، والمصنف رحمه الله ذهب إلى الأوّل ويحتمل تقدير مضاف أي مياهها. قوله : ) وتنكيرها لأنّ المطرياتي على مناوب بين البقاع ) قيل إنه دفع لما يتوهم من أنّ الأودية كلها تسيل وان كان ذلك في أزمنة مختلفة فالظاهر تعريفها بلام الاستغراق ، والتعريف هو الأصل والجواب أنه أريد التنبيه على تناوب الأودية في ذلك أي وقوعها نوبة في أودية ، ونوبة أخرى في أخرى ووقع في نسخة تفاوت بالفاء ، وهما بمعنى فلو عرّف فات ذلك التنبيه ، وتفسيره للوادي بالموضعالذي يسيل فيه المال لا ينافي ما مرّ في آخر سورة التوبة من أنه منفرج ينفذ فيه السيل ، وإنه اسم فاعل من ودى إذا سال ثم شاع في الأرض لما مرّ من أنه حقيقته المهجورة ، وهذا حقيقته في عرف اللغة فلا حاجة إلى دفعه بأنّ هذا قول الجمهور وذاك قول شمر من أهل اللغة. قوله : ( بمقدارها الذي علم اللّه الخ ) فالقدر بمعنى المقدار ، والضمير راجع إلى الأودية بالمعنى السابق فلا استخدام فيه كما في الوجه الثاني فإنه يعود عليها باعتبار معنى المواضع ، وقوله نافع غير ضار إشارة إلى ما في الكشاف أنه فيما سيأتي لما ضرب المطر مثلاً للحق وجب أن يكون مطرا خالصاً للنفع خاليا من المضرّة ولا يكون كبعض الأمطار ، والسيول الجواحف وقوله في الصغر والكبر أي يسيل بقدر صغر الأودية ، وكبرها لأنّ النافع ذلك ، وبقدرها إمّا صفة أودية أو متعلق بسالت أو أنزل. قوله : ( رفعه والزبد وضر الغليان ( الوضر بفتحتين ، وبالضاد المعجمة والراء المهملة وسخ الدسم ونحوه وهو مجاز عما يعلو الماء من الغثاء ، وإنما خصه بالغليان وهو اضمطراب الماء وشدة حركته لأن الغشاء يحصل مع ذلك في الغالب بل لا يكون منشؤه إلا من ذلك ، ولذا قال في الدر المصون إنه ما يطرحه الوادي إذا جاس ماؤه فما قيل إنه تفسير بالأخص! إذ ليس من لازم الزبد الغليان(5/231)
ج5ص232
ولا وجود غالبا معه لا وجه له ، واحتمل بمعنى حمل ، وقال أبو حيان عرّف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل ، والذي يتضمنه الفعل من المصدر !ان كان نكرة إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة كما كان لو صرّج به نكرة ، وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شرّاً له أي الكذب ، ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزا عائدأ على المصدر المفهوم من فسالت ، وأورد عليه إنه كيف يجوز أن يعنى به ما فهم من الفعل ، وهو حدث والمذكور المعرّف عين فإنّ المراد به الماء السائل ، وأجيب بأنه بطريق الاستخدام وهو غير صحيح لا تكلف كما قيل لأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ،
ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر سواء كان حقيقياً أو مجازيا ، وهذا ليس كذلك لأنّ الأوّل مصدر أي حدث في ضمن الفعل ، وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك الحدث فكيف يتصوّر فيه الاستخدام نعم ما ذكروه أغلبيّ لا مختص بما ذكر فإن مثل الضمير اسم الإشارة ، وكذا الاسم الظاهر كما في قول بعض أهل العصر.
أخت الغزالة إشراقا وملتفتا
وقد فصلناه في محل آخر فالحق أنه إنما عرّف لكونه معهوداً مذكوراً بقوله أودية ، وانما
لم يجمع لأنه مصدر بحسب الأصل. قوله : ( ومما توقدون عليه في النار ) هذه جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى لضرب مثلى آخر كما سيذكره المصنف رحمه الله ، والفلز بكسر الفاء ، واللام وفي آخره زاء معجمة مشددة ما يخرج من الأرض من الجواهر المعدنية التي تنطبع بالمطرقة كالذهب والفضة والنحاس والرصاص ، وبقية الأجساد السبعة وتطلق على ما يتطاير منها وينفصل عند التطريق ، وهذا هو المشهور وهو المراد وفيه لغات ، وله معان قال في القاموس الفلز بكسر الفاء واللام ، وتشديد الزاي وكهجف وعتل نحاس أبيض يجعل منه القدور المفرغة أو خبث الحديد أو الحجارة أو جواهر الأرض كلها أو ما ينفيه الكير من كل ما يذاب منها ، وقوله يعم أي لفظه شامل لها. قوله : ( على وجه التهاون ) هو تفاعل من الهوان وهو التذلل والجار والمجرور حال من فاعل يعم ، واستفادة التهاون من عدم ذكرها بأسمائها والعدول إلى وصفها بالإيقاد والضرب بالمطارق الذي الإيقاد لأجله ونحوه ، وقوله إظهاراً لكبريائه أي لعظمته علة للتهاون بها بما مرّ لأن أشرف الجواهر خسيس عنده تعالى إذ عبر عن سبكه بإيقاد النار به المشعر بأنه كالحطب الخسيس ، وصوره بحالة هي أحط حالاته وهذا لا ينافي كونه ضرب مثلا للحق لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون به مع الإشارة إلى كونه مرغوباً فيه منتفعاً به بقوله ابتغاء حلية أو متاع فوفى كلاً من المقامين حقه فما قيل إن الحمل على التهاون لا يناسب المقام لأن المقصود تمثيلى الحق بها وتحقيرها لا يناسبه ساقط ، وابتغاء
مفعول له أو حال ، وقوله طلب حلي يشير إلى أنه مفعول له وحلي بوزن رمى أو بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء ما يتحلى ويتزين به ، والأواني جمع آنية وهي معروفة ، وقوله ومما توقدون الخ إشارة إلى أن الجار والمجرور خبر مقدم وزبد مبتدأ والمراد بالزبد الثاني خبث الجواهر المذكورة ومن في مما للابتداء أي نشأ منه أو هو بعضه ، وقوله مثل الحق والباطل إشارة إلى أنّ في الكلام مضافاً مقدرا وفي نسخة بمثل والقرينة على المقدر قوله كذلك يضرب الله الأمثال ، وقوله في النار صفة مؤسسة لأنّ الموقد عليه يكون في النار وملاصقا لها وقيل إنها مؤكدة. قوله : ) فإنه ) أي الله تعالى مثل الحق بتشديد الثاء أي أتى به على طريق التمثيل المركب ، إذ شبه الحق وثباته للنفع والباطل وعدم ثباته ، وقوله في منافعه بالنون والقاف والعين جمع منقع ، وهو مجتمع الماء كالغدران وفي نسخة منابعه بالباء الموحدة بدل القاف جمع منغ والأولى أظهر لأنه الذي يناسب السلوك بعده وقوله وبالفلز عطف على قوله بالماء إشارة إلى أنه تمثيل آخر ، وبين ذلك أي وجه الشبه في المذكور بقوله فأمّا الزبد الخ تبدأ بالزبد في البيان ، وهو متأخر في الكلام السابق وفي التقسيم يبدأ بالمؤخر كما في قوله يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه فأمّا الذين اسودّت الخ وقد راعى الترتيب فيه ، ولك أن تقول النكتة فيه أنّ الزبد هو الظاهر المنظور أوّلاً وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره ، والاية من الجمع والتقسيم على ما فصله الطيبيّ. قوله : ( يجفأ به أي يرمي به السيل الخ ) يقال جفأ الوادي بالسيل ، والماء بالزبد إذا قذفه ورمى به فالباء(5/232)
ج5ص233
للتعدية ، وقيل إنه كرماه ورمى به وجفاء حال لأنه بمعنى مرمياً والجفال باللام بمعنى الجفاء بالهمز ، وهو الزبد المرمى به ، وهذه القراءة لرؤبة وكان أبو حاتم رحمه الله لا يقبل قراءته ، وقوله للمؤمنين الذين استجابوا ليس تقديراً للموصوف بل بيان لحاصل المعنى ، وقوله الاستجابة الحسنى تقدير للموصوف. فوله : ) على أنه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين الخ ( شأن الفريقين هو صفتهما وحالهما ، وهو الحق والباطل ولهما أي لأهل الحق والباطل ، وهم المستجيبون وغيرهم فاللام داخلة على الممثل له لا على المضروب له المثل ولو كان كذلك لقيل للناس أو لقوم يعقلون ولم يفصل هذا التفصيل ، قيل : ولك أن تعكس فتجعل المعنى ضرب مثل أهل الحق والباطل ضرب المثل للمؤمنين والكفار على أن يكون المراد بالفريقين أهل الحق والباطل بحذف المضاف ، والمضاف إليه كقوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء } [ سورة البقرة ، الآبة : 19 ، أي كمثل ذوي صيب فلفظ الشان ليس إلا لأن ضرب
المثل يكون للشؤون دون الذوات ، ويجوز أن يكون قوله ضرب المثل لهما على معنى كضرب المثل لهما ونصبه بنزع الخافض ، وفيه تأمّل. فوله : ( وقيل للذين استجابوا خبر الحسنى الخ ) في البحر هذا التفسير أولى لأنّ فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين كما وقع في غير هذه الآية ، والله قد ضرب الأمثال في غيرهما ، ولأن فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف الأوّل ولأنّ تقدير الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ، ومقابلها بنفي الاستجابة الحسنى لا نفي الاستجابة مطلقا ، ولأنه على الأوّل يكون قوله لو أنّ لهم ما في الأرض! كلاماً مفلتا ، أو كالفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أنّ لهم إلى آخره ، وأيضاً إنه يوهم الاشتراك في الضمير ، وان كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما ورذ هذا مع الاعتراف بأنّ هذا الوجه أرجح كما اتفق عليه شراج الكشاف بأنه لا مقتضى للتفسير الأوّل لتقييد الأمثال عموما بمثل هذين ألا ترى قوله تعالى كذلك ، ثم إنه يفهم من الأوّل ثواب المستجيبين أيضا ألا ترى القصر المستفاد من تقديم الظرف في قوله لهيم ، والإشارة بأولئك إلى علية أوصافهم الخبيثة ، وأيضا قوله الحسنى صفة كاشفة لا مفهوم لها فإن الاستجابة لله لا تكون إلا حسنى وكيف يكون قوله لو أن لهم الخ كلاما مفلتا ، وقد قالوا إنه استئناف بياني لحال غير المستجيبين ، وكيف يتوهم الاشتراك في الضمير مع أنّ اختصاصه بالكافرين معلوم ( قلت ( ما ذكروه متوجه بحسب بادئ الرأي ، والنظرة الأولى أمّا إذا نظر بعين الإنصاف بعد تسليم أنه أحسن ، وأقوى علم أنّ ما ذكره وارد فإنّ قوله كذلك يقتضي أنّ هذا شأنه ، وعادته في ضرب الأمثال فيقتضي إن ما جرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء ، وليس كذلك وما ذكره ولو سلم فهو خلاف الظاهر ، وأمّا قوله إنّ ثواب المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمنا ، والعلم صراحة ، وأمّا أنّ الصفة مؤكدة أولاً مفهوم لها فخلاف الأصل أيضا ، وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر ، والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما ملبس وعود الضمير على ما قبله مطلقاً هو المتبادر وما ذكر يدفع الإيهام ، وفي شرح الطيبي ما يؤيده فتأمّل ، وقوله بأن يحاسب تفسير لمناقشة الحساب المذكور في حديث من نوقش الحساب عذب ، وقوله والمخصوص بالذمّ محذوف أي مهادهم أو جهنم. قوله : ) قيستجيب ) بالرفع ويستجيب الثاني منصوب في جواب النفي وقوله لا يستبصر أي لا يدرك ما ذكر وفيه إشارة إلى تشبيه الجاهل بالأعمى الذي لا يأمن العثار والوقوع في المهاوي ، وتشبيه ضدّه بضده. قوله : ( والهمزة لإنكار أن تقع شبهة في تشابههما الخ ) أشار بقوله بعدما ضرب الخ إلى أنّ الفاء للتعقيب في الذكر فالهمزة لإنكار
التعقيب أو لتفريعه عليه ويصح أن تكون لتعقيب الإنكار لأنها مقدمة من تأخير ، والتشابه لأن تشبيه شيء بشيء يقتضي شبه الآخر به لا المصطلح. قوله : ( المبرأة عن مثايعة ( وفي نسخة متابعة ، وهي بمعناها وفيه إشارة إلى الفرق بين اللب والعقل كما ذكره الراغب وغيره فإن لب كل شيء خالصه وخلوص العقل أن لا يتبع ما ألفه ولا وهمه من غير تأقل قال الطيبيّ رحمه الله ولذا علق الله الأحكام التي لا تدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب ، وقيل إنهما مترادفان والقصد بما ذكر دفع ما يتوهم من أنّ الكفار عقلاء مع(5/233)
ج5ص234
أنهم غير متذكرين ولو نزلوا منزلة المجانين حسن.
قوله : ) الذي عقدوه ( وفي نسخة ما عقدوه فالعهد عهد ألست ، والمصدر مضاف لفاعله
ولو جعل العهد على هذا ما عقده الله لهم إذ ذاك صح ، وكان مضافا لفاعله أيضا كما في الوجه الثاني ، وفي قوله في كتبه إشارة إلى أنّ المراد من الذين ما يشمل جميع الأمم وما في كتبه الأحكام والأوامر والنواهي. قوله : ( ما وثقوه من المواثيق الخ ( ما بينهم وبين الله النذور ونحوها مما بين في كتب الأحكام وما بينهم وبين العباد هو العقود وما ضاهاها ، وكونه تعميما بعد تخصيص على كلا تفسيري العهد ، وقيل إنه على التفسير الأوّل لعهد الله وإلا فعلى الثاني تخصيص بعد تعميم ، وليس كذلك لأن نقض الميثاق على تفسيره ، وهو إبطال ما تقدم من العهود الإلهية وما يجري بينهم وبين غيرهم من الخلق شاماى لما عهد في عالم الأزل من التوحيد وغيره ، كما أنه شامل لما عهد الله على خلقه في كتبه وغيره مما لم يذكر فيها. قوله. ( من الرحم وموالاة المؤمنين والإيمان ( مفعول أمر محذوف تقديره أمرهم به وان يوصل بدل من الضمير المجرور ، وقول المصنف رحمه الله من الرحم بيان لما الموصولة قيل والموالاة والإيمان لا يستقيم جعله بياناً لما لأنه وصل لا موصول ، ودفعه بأنّ المراد به الحاصل بالمصدر لا يجدي والأمر فيه سهل لأنّ مراده والمؤمنين بموالاتهم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإيمان بهم ، والناس بمراعاة حقوقهم بل سائر الحيوانات بما يطلب في حقها ، وجوبا أو ندبا كما في الكشاف ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام والقرابات ، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان ، إنما المؤمنون إخوة بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ، ونصرتهم والذب عنهم والشفقة عليهم والنصيحة لهم وطرح التفرقة بين أنفسهم
وبينهم ، وافشاء السلام عليهم وعيادة مرضاهم وشهود جنائزهيم ، ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر وكل ما تعلق منهم بسبب حتى الهرّة والدجاجة انتهى ، ومن توهم إنه خارج عما أمر الله بوصله فقد وهم وهو ظاهر. قوله : ( وعيده عموماً ) في فروق العسكري الخوف متعلق بالمكرو. ، ومنزل المكروه تقول خفت زيدا وخفت المرضى. والخشية تتعلق بمنزل المكروه دون المكروه نفسه ، ولذا قال غعالى : { يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } [ سورة الوعد ، الآية : 21 ] قيل وبه يظهر ما في كلام المصنف رحمه الله تبعاً للزمخشري وليس هذا بمسلم لقوله خشية إملاق ، وقوله لمن خشي العنت منكم وقد فرق الراغب رحمه الله كي عفرداته بينهما بفرق آخر فقال الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم ولذلك خص العلماء بها في قوله ئعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [ سورة فاطر ، الآية : 28 ] ومثله من الفروق أغلبي لا كليّ وضعي فلذا لم يفرق بينهما المصنف رحمه الله باعتبارهما ، وإنما فرق بينهما باعتبار المتعلق ، وقوله وعيده بيان لمتعلق الخشية لأنّ الذات من حيث هي لا تخشى أو إشارة إلى تقدير مضاف فيه وذكر الخاص بعد العام للاهتمام به وكونه خاصا فيه تسمح لأنّ الوعيد من قبل ما يذكر والسوء فعل مغاير له لكنه لكونه حموعودا مندرج فيه في الجملة ، وقوله-قجحاسبون أنفسهم إشارة إلى ما ورد في !لحديهث : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " ( 1 ) . قوله : ( علي ما!قكرهه / النفس ) وفي عسخة لمنفوس بالجمع وما تكرهه هو المصاضب البدنية والمالية وما يخالصه الهوى أي هوى " النفس كالانتقام ، ونحوه ، ويدخل فيما ذكر التكاليف. وقوله طلبا لزضاه إضارة إلئ أنه مفجول له وكجوز أن- يكون حالاً. قوله : ( لا تحوزا وسنعة ) أي لا يكون صبره لأجل ا!الئحرّز والصيائة!ق! ه " أو ماله بل بنية حسشة فهو بالحاء والراء المهملتين والزاء المعجمة كما في نسخة ، ووخع 1 في. نسخة أخزى تحوّزاً بالواو بدل الراء الم!هملة ، وفسرت بالحماية عن الخوزة وهي بيضة الملك ، واعترض عليه بأنه لهم يسمع لكن ابن تيمية قال إنه يقال تحوّز وتحيز وهو ثقة ، والسمعة الرياء ، وقوله المفروضنة-لمو أبقاه على إطلاقه كان أولى ومثله سهل ، وقوله بعضه بيان لمعنى من التبعيضية والواجب التفقة على المماليك والعيال ، واخراج الزكاة ونخوها ، وقوله كمن- لا يعرف الخ بالكاف وفي ذمدشة باللام وكونه لا يعرف بالمال بيان للأولى لأنّ من لا يعرف لو أظهر الإنفاق لأنهم ومن عرف به
لو أظهره ربما دخله الرياء والخيلاء ، ولو حمل السز(5/234)
ج5ص235
على صدقة السز والعلانية على ما ينبغي إظهاره كالزكاة أو أبقى على إرادة العموم منه لكان له وجه. قوله : ) فيجارّون الإساءة بالإحسان الخ ( أي يقابلونها بها مع القدرة على غيرها ، وهذا كما فسر بدفع الشرّ بالخير وفي الوجه الثاني يكون كقوله تعالى : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [ سورة هود ، الآية : 114 ] وهو مخصوص بالصغائر أو بدفع الذنب بالتوبة. قوله : ( عاقبة الدنيا ( يعني تعريف الدار للعهد والمراد بها دار الدنيا وعاقبتها الجنة لأن العاقبة المطلقة هي الجنة قال تعالى : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ سورة الأعراف ، الآية : 28 ا ] وترك قوله في الكشاف لأنها هي التي أراد الله لأنه مبنيّ على الاعتزال للتفادي عن نسبة دار الشرّ إليه كما لا ينسب الشرّ إليه عندهم وتبعية الإمام له في ذلك غفلة عما أراد أو أنه لم ينظر إلى مفهومه ، وإنما قال مآل أهلها ليشمل الفاسق المعذب فإنه يؤول أمره إليها لأنه موصوف بهذه الصفات في الجملة فإن كان خارجا منها فالمراد مالهم من غير تخلل لدخول النار. قوله : ( إن رفعت بالابتداء ) وهو الأوجه لما في الكشف من رعاية التقابل بين الطائفتين ، وحسن العطف في قوله ولا ينقضون وجريهما على استئناف الوصف للعالم ، ومن هو كالأعمى والاستئناف نحويّ أو بيانيّ في جواب ما بال الموصوفين بهذه الصفات ، وقوله بدل أي بدل كل من كل. قوله : ( أو مبتدأ خبره يدخلونها ( قيل إنه بعيد عن المقام والأولى أن يقال خبر مبتدأ محذوف ، ولا وجه له لأنّ الجملة بيان لقوله : { عُقْبَى الدَّارِ } فهو مناسب للمقام ، وبطنان الجنة وسطها فيكون بدل بعض وقوله للفصل بالضمير أي المنصوب الذي هو مفعول ، وقوله أو مفعول معه اعترض عليه بأنها لا تدخل إلا على المتبوع ، ورد بأنه إنما ذكر في مع لا في واو المعية وفيه نظر. قوله : ( وهو دليل على انّ الدرجة تعلو بالشفاعة الخ ) قيل إنه لا دلالة على ما ذكر خصوصاً إذا كان ومن صلح مفعولاً معه وأجيب عنه بأنه إذا جاز أن تعلو بمجرّد التبعية للكاملين في الإيمان تعظيما لشأنهم فالعلوّ بشفاعتهم معلوم بالطريق الأولى ( أقول ا لما كانوا بصلاحهم مستحقين لدخول الجنة كان جعلهم في درجتهم يقتضي طلبهم لذلك ، وشفاعتهم لهم بمقتضى الإضافة فتأمّل. قوله : ) أو أنّ الموصوفين بتلك الصفات الخ ) على هذا الوجه لا دلالة فيه على أنّ دخولهما بالتبعية بل إنهم بعد الدخول يجمع بينهم ،
وبين أهلهم تأنيساً لهم وجمعا لشملهم ودلالته على عدم نفع النسب في الآخرة من توصيفهم بالصلاح دون أن يقال وآباؤهم الخ وظاهر كلامه أنّ من قرن بهم يكون موصوفا بتلك الصفات أيضا ، فما قيل في قوله يقرن بعضهم ببعض إنه إذا قرن بهم من هو أدنى منهم فلأن يقرن من هو مثلهم في تلك الصفات أولى فيه بحث. قوله : ( أو من أبواب الفتوح والتحف ) الفتوح جمع فتح ، وهر الرزق الذي يفتح اللّه به عليهم مما لم يكن على بال من الأرزاق وليس التحف عطف تفسير له ، وقيل المراد بالباب النوع ومن للتعليل والمعنى يدخلون لاتحافهم بأنواع من التحف ، وفي كون الباب بمعنى النوع كالبابة نظر فإن ظاهر كلام الأساس وغيره أنه معنى الثاني فالظاهر أنه مجاز أو كتابة عما ذكر لأنّ الدار التي لها أبواب إذا أتاها الجم الغفير يدخلونها من كل باب فأريد به دخول الأرزاق الكثيرة عليهم وأنها تأتيهم من كل جهة وتعدد الجهات يشعر بتعدّد المأتيات فإنّ لكل جهة تحفة. قوله : ( قائلين سلام عليكم ( أي هو حال بتقدير القول قيل ، ولم يقل أو مسلمين كما في الكشاف لابتنائه على أنه إنشاء للتسليم وقد جعله المصنف رحمه الله للإخبار لأنه المناسب للمقام بدلالة قوله بشارة بدوام السلامة والدوام مستفاد من الجملة الاسمية ، وفيه نظر لأنّ الجملة الإنشائية لا تقع حالاً فالظاهر أنّ مراده أنها مفعول قائلين المقدر الواقع حالاً من فاعل يدخلون أو هو حال من غير تقدير لأنها فعلية في الأصل أي يسلمون سلاما. قوله : ( متعلق بعليكا ) أي بما تعلق به عليكم أو به نفسه لأنه نائب عن متعلقه ، وقد مغ هذا السفاقسي لا بسلام لأنه لا يفصل بين المصدر ومعموله بالخبر لأنه أجنبيّ قاله أبو البقاء ، وجوّزه غير أبي البقاء قال في الدر المصون وجهه أنّ المنع إنما هو في المصدر المؤوّل بحرف مصدرقي وفعل وهذا ليس منه والمصنف رحمه الله تبع فيه أبا البقاء ، وقد علمت جوابه مع أنّ الرضي جؤزه مع التأويل أيضاً ، وقال لا أراه مانعاً لأنّ كل مؤول بشيء لا يثبت له جميع أحكامه ، وقال صاحب الكشف(5/235)
ج5ص236
إنّ عليكم بحسب أصله ليس بأجنبي فلذا جاز الفصل به ، أو هو خبر مبتدأ محذوف متعلق بكائن أو مستقرّ المحذوف ، وتقديره هذا أي الثواب الجزيل بما صبرتم ، وما مصدرية أي بصبركم أي بسببه أو بدل منه فإنّ الباء تكون للبدلية كما ذكره النحاة ، وقوله وقرئ الخ أي قراءة الجمهور بالكسر والسكون وغيرها شاذة وهي لغات فيها ، وقوله وبغيره أي بغير النقل وابقائها مفتوحة على الأصل ، والمخصوص بالمدح محذوف أي الجنة. قوله : ) من بعدما أوثقوه به من الإقرار والقبول ( جعل الميثاق اسم آلة وهو ما يوثق به
الشيء فعهد الله قوله : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } [ سورة الأعراف ، الآية : 172 ] وميثاقه الاعتراف بقوله بلى ، وقد يسمى العهد من الطرفين ميثاقا لتوثيقه ما بين المتعاهدين ، وهو الذي ذكره المصنف رحمه الله أوّلاً في قوله ما وثقوه بينهم وبين اللّه فلا تنافي بين كلاميه لأنّ التوثيق حصل بالمجموع ، وهو في الحقيقة بالجواب ، وقوله بالظلم أي لأنفسهم وغيرهم وتهييج الفتن بمخالفة دعوة الحق واثارة الحرب على المسلمين. قوله : ( عذاب جهنم ) يعني المراد بالدار جهنم وسوءها عذابها ، أو سوء عاقبة الدنيا فالدار هي الدنيا وسوءها عاقبتها السيئة ، وهي عذاب جهنم أو جهنم نفسها ، ولم يقل سوء عاقبة الدار لأنّ العاقبة إذا أطلقت يراد بها الجنة كما مرّ وهذا الوجه أحسن كما أشار إليه المصنف رحمه اللّه لرعاية تقابل عقبى الدار إذ المراد بها ثمة الدنيا أيضاً ، ولأنه المتبادر من الدار بقرينة ما قابله وهو الحاضر في أذهانهم. قوله : ( يوسعه ويضيقه ) ترك قول الزمخشري الله وحده هو يبسط الرزق لأن مثله لا يفيد الحصر عند صاحب المفتاح ، والزمخشريّ يرى أنه قد يرد له لأنه لا مانع من الجمع بين التقوى ، والتخصيص عنده وبسط الرزق توسعته ، وأئا قول المصنف رحمه اللّه تعالى ويضيقه فليس من مدلوله بل لازم له لأنه إذا وسعه إذا شاء لزم منه تضييقه إذا لم يشأ ، وهذا وان كان عاما نزل في حق أهل مكة كأنه دفع لما يتوهم من أنه كيف يكونون مع ما هم عليه من الضلال موسعا رزقهم فبين أنّ توسعة رزقهم ليس تكريماً لهم كما أنّ تضييق رزق بعض المؤمنين ليس إهانة لهم بل ذلك لحكم الهبة ، ثم إنه تعالى استأنف النعي على قبح أفعالهم مع ما وسعه عليهم فقال ، وفرحوا الخ والمراد بالرزق الدنيوي لا ما يعمّ الأخروي كما قيل لأنه غير مناسب للسياق ، وقوله بما بسط لهم في الدنيا لأن فرحهم ليس بنفس الدنيا فنسبة الفرح إليها مجازية أو بتقدير أي ببسطه الحياة وكذا إسناد المتاع إليها أو الحياة الدنيا مجاز عما فيها ، وفسر ضمير فرحوا بأهل مكة مع عدم سبق ذكرهم وهم المراد بالذين كفروا بعده ولم يعكس للعلم به في الأوّل ، وتسجيل الكفر عليهم في الثاني ، وليس فيها تقديم وتأخير كما قيل ومحله بعد يفسدون لاختلافهما عموما وخصوصا واستقبالاً ومضيا. قوله : ) في جنب الآخرة ( يعني أنّ الجاز والمجرور حال أي ، وما الحياة القريبة كائنة في جنب الآخرة وليس متعلقا بالحياة ولا بالدنيا لأنهما ليسا فيها ، وفي هذه معناها المقايسة ، وهي كثيرة في الكلام كما يقال الذنب في رحمة الله كقطرة في بحر ، وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق وهي الظرفية المجازية لأنّ ما يقاس بشيء يوضع بجنبه ، وقيل معنى الآية كالخبر الدنيا مزرعة الآخرة يعني كان ينبغي أن يكون ما بسط لهم في الدنيا وسيلة إلى الآخرة كمتاع تاجر يبيعه بما يهمه ، وينفقه في مقاصده
لا أن يفرحوا بها ويعدونها مقاصد بالذات ، والأوّل أولى وأنسب. قوله : ) الآمتعة لا تدوم كعجالة الراكب الخ ) المتعة ضم الميم وكسرها الزاد القليل كما يعطي لمن هو على جناج سفر وهو راكب على دابته من غير إعداد له فإنه يكون أمراً قليلا كتمرات أو شربة سويق وقوله أشروا الأشر الفرج بطراً وكفراً بالنعمة ، وهو المذموم لا مطلق الفرح وقوله ولم يصرفوه الخ إشارة إلى أن وضع النعمة في موضعها ، وصرفها في محلها مما يستوجب به الثراب شكراً لها واداء لحقها. قوله : ( باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات ) إنما فسره وقيده بما ذكر لأنه المناسب للجواب عن اقتراحها فلا وجه لحذفه حتى يشمل ما قبله من الضلال كما قيل وقوله أقبل إلى الحق إشارة إلى أنّ الإنابة بمعنى التوبة ولما كان حقيقته كما في الكشاف دخل في نوبة الخير ، وهو الإقبال على الحق فسره به لأنّ أصل معناه الرجوع ، ومن لوازم الرجوع عن شيء الإقبال على خلافه كما قيل. قوله : ( وهو جواب يجري مجرى التعجب من تولهم الخ ) يعني أن قولهم لولا أنزل عليه آية من ربه من باب العناد ، والاقتراج ورد الآيات الباهرة(5/236)
ج5ص237
المتكاثرة ، وإنما يستحق هذا الكلام بحسب مقتضى الظاهر أن يقابل بأن يقال ما أعظم كفركم وأشد عنادكم ونحوه ، فوضع هذا موضعه إشارة إلى أنّ المتعجب منه يقول إن الله يضل من يشاء الخ ، وقوله ممن بيان لمن يشاء ، وقوله كل آية أي مما اقترحوه وغيره ، وقوله بما جئت به متعلق بيهدي ، وقوله بدل من من أقي بدل كل من كل أو عطف بيان عليه أو منصوب بأعني ونحوه مقدراً وقيل إنه مبتدأ والموصول الثاني بدل منه ، وطوبى لهم خبره فيتم التقابل ، وهو أولى من جعل الموصول الثاني خبراً وألا بذكر الله اعتراضا وطوبى لهم دعاء. قوله تعالى : ( { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم } ( عبر بالمضارع لأنّ الطمأنينة تتجدد بعد الإيمان حينا بعد حين ، وقوله أنسابه واعتمادا عليه أي لا تضطرب للمكاره لأنسها بالله ، واعتمادها عليه في الإزالة اً و الثبوت عليها والضمائر كلها للّه ، وهذه الآية لا تنافي قوله تعالى : { إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ سورة الأنفال ، الآية : 2 ، إذ المراد هناك وجلت من هيبته واستعظامه ، وهو لا ينافي اطمئنان الاعتداد والرجاء. قوله : ) او بذكر رحمته ( ففي الكلام مضاف مقدر وهذا مناسب للإنابة إليه تعالى وقوله أو بذكر دلائله فيه
أيضا إشارة إلى التقدير ، وهذا يناسب ذكر الكفر ووقوعه في مقابلته فالمصدر مضاف للمفعول ، والضمائر كلها لله والاطمئنان على الأوّل من مكروه العذاب ، وعلى الثاني عن قلق الشك والتردّد ، وقوله أو بكلامه الخ لا حاجة في هذا إلى تقدير ألمضاف لأنّ القرآن يسمى ذكراً وهذا يناسب قوله : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [ سورة يونس ، الآية : 20 ، أي هؤلاء ينكرون كونه آية والمؤمنون يعلمون أنه أعظم آية تطمئن لها قلوبهم ببرد اليقين ، وهو أنسب الوجوه والمصدر فيه بمعنى المفعول ، وقوله تسكن إليه أي إلى الله تستأنس بسبب ذكره أو إلى ذكره فهو معنى غير ما تقدم ، وليس تكريراً معه وتطمئن بمعنى اطمأنت معطوفة على الصلة ، أو هي جملة معترضة فتدبر. قوله : ( فعلى من الطيب قلبت ياؤه واوا ) كموسر وموقن ، وقيل إنها جمع طيبة كضوقي في ضيقة ورد بأنّ فعلى ليست من أبنية الجموع فلعله أراد أنه اسم جمع ، وقيل إنها اسم شجرة في الجنة ، وهي مرفوعة بالابتداء ، وان كانت نكرة لأنها للدعاء أو للتعجب كسلام لك وولل له ، وقال ابن مالك إنها لا تكون إلا مبتدأ ولا تنصرف ، وخالفه غيره فجوّز نصبها ويدل عليه عطف المنصوب عليها في قراءة ، وأجاب عنه السفاقسيّ بأنه يجوز نصبه بمقدر أي رزقهم حسن مآب ، وهو بعيد ، وقرئ طيبي بالياء في الشواذ وعلى الرفع الجملة الدعائية خبر للمبتدأ بتأويل يقول لهم أو هي خبرية ، والمعنى لهم خير كثير وإذا نصبت فناصبها فعل مقدّر أي طاب ، وهو الخبر واللام للبيان كما فني سقيا له ، ومنهم من قدر جعل طوبى لهم ، وقوله ولذلك قرئ وحسن ماب بالنصب ، وأمّا الرفع فلا حاجة إلى دليل لأنه متفق عليه ، وهو قراءة الجمهور. قوله : ( مثل ذلك ) يعني إرسال الرسل قبلك فشبه إرساله صلى الله عليه وسلم بإرسال من قبله وان لم يجر لهم ذكر لدلالة قوله قد خلت عليهم ، والزمخشري على عادته في مثله يجعل الإشارة إلى إرساله والإشارة بالبعيد للتفخيم كما مز تحقيقه في سورة البقرة أي أرسلناك إرسالاً له شأن ، وفي في قوله في أمم بمعنى إلى كما في قوله فردّوا أيدهم في أفواههم ، وقوله يعني إرسال الخ تفسير لذلك فلا يرد ما قيل الأحسن أن يقول مثل إرسال الخ ، وقيل في إشارة إلى أنه من جملتهم وناشئ بينهم فلا ينكر لا بمعنى إلى إذ لا حاجة لبيان من أرسل إليهم وفيه نظر. قوله : ( أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليها ) هذا بناء على تفسيره للتشبيه وأفا على تفسير الزمخشريّ فقيل إنه لا يكون لقوله قد خلت كثير مساس هنا ، وتأويله بقوله فهي آخر الأمم الخ منظور فيه إذ لا يلزم من تقدم أمم كثيرة قبله أن لا يكون أمّة يرسل إليها بعده حتى يلزم أن يكون خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وفيه بحث لأنّ المراد بكون إرساله عجيبا أنّ رسالته
أعظم من كل رسالة فهي جامعة لكل ما يحتاج إليه فيلزم أن لا نسخ إذ النسخ إنما يكون للتكميل ، والكامل أتتم كمال غير محتاج لتكميل كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ سورة المائدة ، الآية : 3 ] . قوله : ( لتقرأ عليهم الكتاب الذي أوحيناه إليك ) بيان لمحصل المعنى لا لتقدير موصوف للذي ، وان جاز وفي إبهامه وذكر نون العظمة تفخيم له لا يخفى ، وضمير عليهم للأمّة باعتبار معناها كما روعي في الذي قبلها لفظها. قوله : ( وحالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة الخ )(5/237)
ج5ص238
إشارة إلى أنّ هذه حال من فاعل أرسلنا لا من ضمير عليهم إذ الإرسال ليس للتلاوة عليهم حال كفرهم ومنهم من جوّزه وأنّ التلاوة عليهم في حال الكفر ليتفقوا على إعجازه فيصدّقوا به لعلمهم بأفانين الفصاحة ، ولا ينافي تلاوته عليهم بعد إسلامهم ، ويجوز في الجملة أن تكون مستأنفة لكنه مخالف لظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى ، وقوله بالبليغ الرحمة إشارة إلى فائدة الالتفات عن بنا إلى الظاهر ، دمايثار هذا الاسم الدال على ما ذكر والمبالغة في الرحمة من صيغة الرحمن ، وفسرها لشمولها للكل بقوله وسعت كل شيء رحمته ، وقوله فلم يشكروا نعمه الخ يعني أنهم فابلوا رحمته العامّة ، ونعمه بالكفر ومقتضى العقل عكسه بأن يشكروها ويعرفوا المنعم بها فيوحدوه ، وفسر الرحمة بالنعمة تنبيها على أنهما بمعنى هنا ، وقوله الدنياوية بالألف على ما بين في الصرف من أنه يقال دنيوية ودنياوية ، وما في ما أنعم مصدرية ، وقوله بإرسالك فإنه رحمة للعالمين. قوله : ( وقيل نزلت الخ ( وقيل نزلت في الحديبية حين كتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا الرحمن لا نعرفه ، وقيل نزلت حين سمعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا الله يا رحمن فقالوا : إنه يدعو الهين ، وهذه كلها غير مناسبة ، ولهذا مرضه المصنف رحمه الله تعالى لأنه يقتضي أنهم يكفرون بهذا الاسم ، واطلاقه عليه تعالى ، والظاهر أنّ كفرهم بمسماه ، وقوله حين قيل لهم الخ لا حين كفروا به ولم يوحدوه كما في الوجه الأوّل وهذه الآية في سورة الفرقان قيل ، وهو يقتضي تقدم نزول تلك الآية فالمناسب الجواب بهو ربي فيها أيضا أو هو ربكم وفيه نظر. قوله : ( قل هو ريي الخ ) فسره بما ذكر لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالأخبار بتخصيص توكله عليه أو لإنشاء ذلك وأمر أولاً بأن يقول هو ربي توطئة لقوله عليه توكلت ولما لم يلزم من قوله هو ربي توحده بالألوهية ضم إليه قوله لا إله إلا هو وهو داخل في حيز قل سواء كان صفة أو خبرا بعد خبر ، وفيه تنبيه على أنّ التوكل عليه لا
على غيره ، وما قيل إنّ المقصود الإخبار بأنّ التوحيد بهو ربي لا الإخبار بأنه هو متوحد ابالألوهية فيه فتأمّل. قوله : ( مرجعي ومرجعكم ) فيرحمني ويتتقم منكم ، والانتقام من الرحمن أشدّ كما قيل أعوذ بالله من غضب الحليم قيل ، وعلى كلام المصنف رحمه الله تعالى متاب مبتدأ نكرة مخصص بتقد!م خبره عليه ، وهو مخالف لما في الكشأف ورد بانّ التقديم للتخصيص أي إليه لا إلى غيره ، والمبتدأ معرفة بالإضافة والمضاف إليه محذوف تقديره متابنا ، وقوله مرجعي ومرجعكم تفصيل له والظاهر ما في الكشاف إذ تقدير ضمير المتكلم مع الغير لا يناسب ما قبله ، وكلام المصنف رحمه الله تعالى قد يحمل عليه بأن يكون اكتفاء والتقدير متابي ومتابكم وان الكلام داذ عليه التزاما فتاقل. قوله : ( شرط حذف جوابه ) أي إن قلنا إنه يحتاج إلى جواب ، وان جعلت وصلية لا ج!واب لها والجملة حالية أو معطوفة على مكدر لم يقدر شيء والجواب على هذا ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى فيما سيأتي بقولمه لكان هذا القرآن الخ ، وقوله والمراد منه تعظيم شأن 11 لقرآن مبنيّ على التقدير الأوّل ، وقوله أو المبالغة الخ مبنيّ على الثافي ، وقوله لو أن كتابا بيان لأنّ قراناً بمعنى الكتاب المقروء مطلقاً فهو بمعناه اللغوي لا العرفي لأنه المراد وبه يتم الارقباط ، وزعزعت بزاءين معجمتين وعيين مهملتين بمعنى حركت وقلعت من مكانها إلى آخر ، ومقارّها بتشديد الراء جمع مقرّ أي محك- قوله : ( تصدّع من خشية اللّه الخ ) أي المراد بتقطعها تقطع وجهها وتفرقه وذلك إمّا لخشية الله أو لتجري منها " الأنهار وتنفجر العيون والظاهر أنه حقيقة على سبيل الفرض كقوله :
ولو طار ذو حافر قبلها
على كلا ا لديرية في الجواب ، وجعله تمثيلاً كقوله تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [ سورة الحشر ، الآية : 21 ] لا وجه له وأمّا تمثيل الزمخشري بتلك الآية فليس يريد به أنها تمثيل مثلها بل بيان لأنّ القرآن يقتضي غاية الخشية ، وقوله وعيوناً في نسخة أو يخونا وهما بمعنى. قوله : ( فتقرأه أو فتسمع وتجيب عند قراءته ) الباء على الأوّل صلة كلم وعلى الثاني للسببية أي لو كلم أحد بقرآن الموتى لكان هذا أو لو كلم الموتى بأن أسمعهم فأجابوا بسبب سماعه بما يدل عبى حقيته ، وقوله النهاية في التذكير والإنذار ناظر إلى قوله تصدّعت من خشية الله ، وقوله كقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا } يعني هذه الآية
تشهد لتقدير الجواب الثاني. قوله : ( وقيل إن قريثاً قالوا يا محمد إن سرّك الخ(5/238)
ج5ص239
( بيان لسبب النزول ، وهو تأييد لتقدير الجواب الثاني ، وليس فيه مغايرد لما سبق إلا في جعل التقطيع من قطع الأرض بمعنى سيرها ، وقطائع جمع قطيعة وهي الأرض التي تزرع ومنه إقطاع الجند ، وقوله تشع أي مكة مجزوم في جواب الأمر وتسخير الريح ليركبوها فيذهبوا ويأتوا في زمان يسير فيستغنون عن رحلة الثتاء والصيف ، وابعث لنا أي أحيه لنا لنكلمه فيخبرنا بصحة نبوّتك.
قوله : ( وقيل الجواب مقدم الخ ) معطوف على قوله حذف جوابه ، وهذا منقول عن الفراء وغيره ممن يجوز تقديم جواب الشرط عليه ولا يخفى أنّ في اللفظ نبوة عنه لكونها اسمية مقترنة بالواو ، ولذا أشار السمين رحمه الله تعالى إلى أن مراده أنها دليل الجواب لكنه يكون لا فرق يينه وبين تقدير لما آمنوا في المعنى وقوله خاصة أي دون ب!ميرت وقطعت لأنه جمع ميت ، والميت منه مذكر فنظر إليه تغليبا. قوله : ( بل دلّه القدرة على كل شيء الخ ( قال في الكشاف إنه على معنيين أحدهما بل لله القدرة على كل شيء ، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها ألا إنّ علمه بأن إظهارها مفسدة يصرفه ، والثاني بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار ، ويعضده قوله أفلم ييأس الذين الخ ولما كان الثاني مبنياً على مذهبه كما بينه شرّاح الكشاف تركه المصنف رحمه الله تعالى واقتصره على الأوّل وهذا جار على وجوه تقدير الجواب إمّا على الأخير فظاهر ، وأمّا على الأوّل فلأن إرادة تعظيم شأن القرآن لا تنافي الردّ على المقترحين وقوله عن إيمانهم فمتعلق اليأس محذوف تقديره ما ذكر لا أن لو يشاء واليأس على هذا بمعنى القنوط وقدمه لأنه المعروف من معناه ، وقو!ه إضراب عما تضمنته لو الخ أي لا يكون تسيير الب ل وما ذكر بقرآن بل يكون بقيره مما أهـ اده
الله فإنّ الأمر له جميعاً فلا يرد عليه شيء حتى يتوهم أنّ الأحسن عطفه على مقدر أي ليس لك من الأمر شيء بل الأمر للّه جميعاً. قوله : ( وذهب كثوهم ) أي المفسرين إلى أنّ معناه أفلم يعلم فاليأس بمعنى العلم ، والتبين ويشهد له القراءة المذكورة ، وقوله وهو تفسير. أي تفسيره بمعنى يدل على أنّ المراد منه ذلك لا أنهم قرؤوا بها للتفسير من غير أن يسمعوها من النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه غير صحيح. قوله : ( وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأنه ) أي اليأس مسبب عن العلم فإنّ الميؤوس عنه لا يكون إلا معلوما ، وقد اختلفوا في أن استعمال اليأس بمعنى العلم هل هو حقيقة لأنه لغة قوم من اليمن يسمون النخع أو مجاز لأنّ اليأس متضمن للعلم فإنّ اليائ! عن الشيء عالم بأنه لا يكون فإن قلت اليأس حينئذ يقتضي حصول العلم بالعدم ، وهو مستعمل في العلم بالوجود قلت أجيب بأنه لما تضمن العلم بالعدم تضمن مطلق العلم فاستعمل فيه فقول المصنف رحمه الله تعالى لا يكون إلا معلوما إمّا على ظاهره لأنّ ما يتطلبه الشخص ، ثم ييأس منه لا بد له من علمه لأنه لا يطلب ما لا يعلم ، ولا حاجة إلى حمله على العلم بوجوده أو عدمه حتى يتكلف له ما مرّ وقيل المراد به أنه معلوم الانتفاء ، وقوله فإن بالفاء ، وفي نسخة بأنّ بالباء الموحدة والأولى أولى وفي نسخة لا يكون بدون قوله إلا معلوما فهي كان التامّة ، وهذه تؤيد ما قيل إنّ المعنى معلوماً انتفاؤه. قوله : ( ولذلك علقه بقوله أن لو يشاء الله الخ ) أي لكون اليأس بمعنى العلم ، والمراد بتعلقه به جعله معلولاً له بحسب المعنى سادّاً مسذ مفعوليه كما ذكره المعرب رحمه الله تعالى ، وأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشان محذوف ، والجملة الامتناعية خبرها ، وقوله فإنّ معناه نفي هدى بعض الناس لتصحيح المعنى فإنّ نفي تعلق المشيئة بهداية الجميع صادق بأن لا يهدي أحداً ، وبأن لا يهدي بعضهم ، ويهدي بعضاً آخرين ، والأوّل غير واقع ، وغير معلوم فكونه معلوما باعتبار ما صدقه الثاني ، وليس هذا من التعليق المصطلح في شيء فإنه يتعدّى بعن وأمّا التعليق بمعنى جعله متعلقا به ، ومعمولاً له فهو يتعدى بالباء ، وأمّا ما قيل إنه من التعليق الاصطلاحي ولذا جعله بمعنى النفي ليكون فيه ما يقتضي التعليق ، وانّ هذا معنى كلامه ، وما عداه من خرافات الأوهام فليس بشيء ، وإلى ما ذكرناه أوّلاً أشار بعض الفضلاء ، والآية فيل إنها لإنكار سؤال المؤمنين على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنهم سألوا نزول الآيات المقترحة طمعا في إيمان قريش مع علمهم بانتفاء هدى بعض الناس لعدم تعلق مشيئة الله بذلك كما فيمن مات على إصراره فإنه يعلم منه أنّ اقتراحهم(5/239)
ج5ص240
بالآيات بعد صدور معجزات قاهرة دالة على صحة النبوّة قطعا ليس إلا لعدم تعلق مشيئة الله بإيمانهم فتأمّل. قوله : ( وهو على الأوّل متعلق بمحذوف تقديره الخ ) ضمير عن
إيمانهم للكفار ، والضمير في علماً منهم للمؤمنين ، وعلماً منصوب على أنه مفعول له ، وأن لو يشاء الله مفعول به لعلما المحذوف ، ولم يقصر المسافة بتقدير لأن لو يشاء اللّه لأنه لا يصلح للعلية وإنما العلة علمهم بذلك ولم يجعله تضمينا لبعده. قوله : ( أو بآمنوا ) معطوف على قوله بمحذوف فإن لو يشاء معمول لآمنوا بتقدير الباء أي لم ييأس الذين آمنوا بمضمون هذه القضية عن إيمان هؤلاء الكفرة فإن قلت تعلقه به ، وتخصيص إيمانهم بذلك بالذكر يقتضي أنّ لهذه دخلا في اليأس عن إيمانهم ، والأمر بالعكس لأن قدرة الله على هداية جميع الناس تقتضي رجاء إيمانهم لا اليأس منه قلت وجه تخصيص الإيمان بذلك أنّ إيمان هؤلاء الكفرة المصممين كأنه محال متعلق بما لا يكون لتوقفه على مشيئة الله تعالى هداية جميع الناس ، ذلك مما لا يكون بالاتفاق وذكر أبو حيان هنا وجهاً آخر ، وهو أنّ الكلام قد تم عند قوله أفلم ييأس الذين آمنوا تقرير اليأس المؤمنين من إيمان هؤلاء المعاندين ، وأن لو يشاء الله جواب قسم مقدّر أي أقسم لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ، وأن رابطة لجواب القسم كاللام الجوابية ، وقد ذكر سيبويه رحمه اللّه ، وابن عصفور أنها تكون كذلك في كلام العرب كقوله :
أما والله إن لو كنت حرّاً ومابالحرأنت ولا العتيق
وأمثا له.
تنبيه : قوله أفلم ييأس كما تقدم في سورة يوسف عليه الصلاة والسلام استيأسوا ، وهي خمس قرأها البزي عن ابن كثير رحمه الله بخلاف عنه بألف بعدها ياء ، والباقون على الأصل يئس فاؤها ياء وعينها همزة ، وهي لغة والأولى على القلب بتقديم الهمزة على الياء بقلب حروفها ويدل عليه أمران الأوّل المصدر ، وهو اليأس ، والثاني أنه لولا أنه مقلوب لقلبت ياؤه ألفاً لتحرّكها ، وانفتاج ما قبلها لأنها كانت في محل لا يقبل المل ب ، وهو الفاء فكذلك ما وقع موقعه ، وقال أبو شامة رحمه الله : بعدما ذكر قراءة البزي في الخمس كلمات ، ولذا رسمت في المصحف كما قرأها البزي بألف مكان الياء ، وياء مكان الهمزة ، وقال أبو عبد اللّه : اختلف في هذه الكلمات في الرسم فرسم ييأس ، ولا تيأسوا بألف ورسم الباقي بغير ألف ( قلت ) هذا هو الصواب ، وكأنها غفلة من أبي شامة انتهى من الدر المصون ( أقول ) ما ذكره من اتفاقهم على رسمه كما ذكر مقرّر ، وتخطئة أبي شامة خطأ منه لعدم فهم كلامه فإنه ذكر أنها رسصت بألف ، ولم يقل في الخمسة ولا في الجميع ، ثم نقل تخصيص رسم الألف بموضعين فيكون كلامه المطلق أوّلاً محمولاً على المقيد ومفسراً لما أبهم أوّلاً فالمخطئ له هو المخطئ فاعرفه. قوله : ( داهية تقرعهم وتقلعهم ( القارعة من القرع ، وأصله ضرب شيء بشيء كما قاله الراغب ،
واستعملت مجازا في الداهية المهلكة نحو قوله : { الْقَارِعَةُ *مَا الْقَارِعَةُ } [ سورة القارعة ، الآية : أ ] وقوله تقلعهم أي تهلكهم وتستأصلهم وقوله تحل بمعنى تنزل ، وقوله يتطاير إليهم شررها الشرر واحده شرارة وهي ما يتطاير من النار يشير إلى أن المراد بحلولها بقربهم إشرافهم على الهلاك ، وظهور أماراته بتطاير شرره وتواتر شروره. قوله : ( وقيل الآية في كفار مكة فإنهم لا يزالون مصابين الخ ( هو على الأوّل للجنس من الكفرة ، ولا يلزم منه حلول القارعة بجميعهم ، وعلى هذا للكفرة المعهودين ، والسرايا جمع سرية وهي قطعة من الجيش ، ويغير من أغار على العدوّ ، وحوأليهم بفتح اللام ، والياء ظرف بمعنى حوله وفي جوانبه ، ومواشيهم أي دواب أهل مكة ، وأنعامهم ، وقوله وعلى هذا أي اختصاصه بأهل مكة ، والوجه هو الأوّل ، وقصة الحديبية معروفة ، وقوله الموت أو القيامة هو على التفسير الأوّل ، وما بعده على ما بعده وقوله لامتناع الكذب في كلامه هذا بناء على أنّ الوعد خبر يتصف بالصدق ، والكذب. قوله : ( وعيد للمستهزئين والمقترحين عليه الخ ) أدخل الاقتراح في الاستهزاء لأنّ عدم الاعتداد بآياته ، واقتراح غيرها في المعنى استهزاء وباندراجه فيه ارتبط بما قبله أشد ارتباط ولذا صرّج به فما قيل إنّ اقتراحهم تسيير الجبال ، وأخويه على سبيل الاستهزاء فهما شيء واحد لا وجه له ، وملاوة وملوة بتثليث الميم فيهما(5/240)
ج5ص241
بمعنى حين وبرهة من الزمن ومنه الملوان ، والحكمة في الإملاء ليؤمن من قدر ألله إيمانه ، وششدرج غيره والدعة بفتح الدال الراحة ، وقوله فكيف كان عقاب أصله عقابي ، والياء تحذف في الفواصل في أمثاله وهو المطرد ، ومثله متاب فيما مضى فلا وجه لما مرّ من أن يقدر متابنا ، والمعنى كيف رأيت ما صنعت بهم فكذا أصنع بمشركي مكة إن شئت ، وفي كيف كان تفخيم للعقاب ، وتهويل له. قوله : ( رقيب عليه ( أي مراقب لأحوالها ، ومشاهد لها فهو مجاز لأنّ القائم عند الشيء عالم به ، ولذا يقال وقف عليه إذا علمه فلم يخف عليه شيء من أحواله ، وتذكير ضمير عليه بتأويله بالشخص ، والإنسان وكان الظاهر تأنيثه ، وقوله ولا يفوت عنده شيء من جزائهم عطف كالتفسير لأن اطلاع الله على أعمال العباد إذا ذكر فالمراد مجازاتهم عليها. قوله : ( والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك ( أو تقدير
الخبر لم يوحدوه أي من مبتدأ خبره محذوف ، وتقديره ما ذكر ، وجملة وجعلوا على هذا مستأنفة أو معطوفة على جملة أفمن هو قائم كمن ليس كذلك لأنّ الاستفهام إنكاريّ بمعنى النفي فهي خبرية معنى ، وعلى الثاني جملة ، وجعلوا معطوفة على الخبر المقدر ، ولما قرّره في المغني قال الشارح رحمه الله لم يظهر لي وجه اختصاص العطف على الخبر بهذا الوجه الثاني فقيل إنه لاح لي بفضل الله وجهه ، وهو حصول المناسبة بين المعطوف ، والمعطوف عليه التي هي شرط قبول العطف بالواو في التقدير الثاني ، وعدمها في الأوّل ، ولذا قال أهل المعاني زيد يكتب ويشعر مقبول دون يعطي ويشعر انتهى. وهذا من قلة التدبر فإن مرادهم إنه على التقدير الأوّل يكون الاستفهام إنكاريا بمعنى لم يكن نفياً للتشابه على طريق الإنكار فإنّ عطف جعلهم شركاء عليه يقتضي أنه لم يكن وليس بصحيح ، وعلى التقدير الثاني الاستفهام توبيخيّ ، والإنكار فيه بمعنى لم كان وعدم التوحيد وجعل الشركاء واقع موبخ عليه منكر فيظهر عطفه على الخبر ، وأمّا ما ذكره من حديث التناسب فغفلة لأنّ المناسبة بين تشبيه الله بغيره ، والتشريك تامّة ، وعلى الوجه الثاني عدم التوحيد عين الإشراك فليس محلا للعطف عند أهل المعاني على ما ذكره فهو محتاج إلى توجيه آخر ، والمعنى أفالله الذي هو قائم كمن ليس كذلك من الأصنام ، والهمزة لإنكار مضمون الجملة ، والفاء قيل إنها للتعقيب الذكري أي بعدما ذكر أقول هذا الأمر المنكر ، والذي في الكشف أنه تعقيب حقيقي للترقي في الإنكار يعني لا عجب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها ، وإنما العجب كل العجب من جعلهم القادر على إنزالها المجازي لهم على إعراضهم عن تدبر معانيها كغيره ممن لا يقدر على شيء ، ولا يملك لنفسه نفعاً ، ولا ضرّاً ، وله تفصيل طويل فيه وقوله من خير أو شرّ بيان لما الموصولة. قوله : ( استئناف أو عطف على كسبت الاخ ) يعني أنه استخبار عن سوء صنيعهم ، وما تحتمل الموصولية ، والمصدرية وعلى الأوّل فالعائد مقدر وعلى المصدرية يجوز عطفه عليه ، وليس هذا مخصوصا بكون المقدر كمن ليس كذلك ، ولا يلزم اجتماعهما حتى تختص كل نفس بالمشركين ، وقوله أو لم يوحدوه عطف على من ليس كذلك ، وأخره لأنّ الخبر فيه ليس مقابلا للمبتدأ ، واكثر في التقدير ذلك لأنه ورد مصرحا به كقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ سورة النحل ، الآية : 7 ا ] وقوله : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } [ سورة الرعد ، الآية : 9 أ ] لكن لا بأس به لدلالة قوله وجعلوا عليه ، وأقيم فيه الظاهر مقام الضمير للدلالة على أن الألوهية موجبة لاستحقاق التوحيد والعبادة وللنداء على سخافة عقولهم إذ جعلوا الجمادات مشاركة للذات المستجمعة لسائر الكمالات ، وقيل إنه معطوف على قوله استهزئ ، وقيل إنها حالية. قوله : ( ويكون لظاهر فيه موضع الضمير ) موضع منصوب على الظرفية وهو خبر يكون أو التقدير وضع موضع الضمير ، وهذا إذا عطفت على الخبر لاحتياجه
إلى العائد ، وان كان عطفه على كسبت ظاهراً بخلاف الاستئناف ، وقيل إنه جار على التقادير الثلاثة وقوله للتنبيه الخ لأنّ الجلالة أصلها الإله وهو المعبود بالحق المستجمع لجميع الصفات الكمالية. قوله : ( تنبيه على أنّ هؤلاء الخ ) وفي بعضها تنبيهاً بالنصب فلفظ قوله ، وتنبيها معطوف على اسم كان ، وخبرها أي إنه كالدليل على عدم استحقاقهم العبادة ، وأنما عبر بالتنبيه لكون ذلك معلوماً لكل من له أدنى مسكة ، وأشار إلى وجه التنبيه(5/241)
ج5ص242
بقوله ، والمعنى الخ فإنه ليس فيهم ما يستحقون به ذلك. قوله : ( والمعنى صفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة ( فسر التسمية بالوصف فالمعنى اذكروا صفاتهم هل فيها ما يقتضي الاستحقاق ، وفي الكشاف أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبؤه بأسمائهم فذهب إلى أن المراد به ذكر أسمائهم ، وليس فيه خلط كما توهم ، ويعرف ذلك من نظر في شروحه ، وقوله بل أتنبؤنه إشارة إلى أنّ أم منقطعة بتقدير بل ، والهمزة ، وقوله بالتخفيف أي من باب الأفعال ، والضمير لله. قوله : ( بشركاء يستحقون العبادة ) يعني ما عبارة عن نفس الشركاء ، وقوله أو بصفات معطوف على قوله بشركاء فعلى هذا ما عبارة عن صفات الشركاء ، وضمير يستحقونها للعبادة ، وضممير لأجلها للصفات ، وقوله لا يعلمها أي الشركاء أو الصفات ، وإذا كان لا يعلمها ، وهو عالم بكل شيء مما كان ، وما يكون فهي لا حقيقة لها فهو نفي لها بنفي لازمها على طريق الكناية قيل ، وتفسيرها بالشركاء يناسب تفسير سموهم بذكر أسمائهم على ما في الكشاف ، والمناسب لتفسيره هو الثاني ، وفيه بحث. قوله : ( أم تسمونهم شركاء ( إن كان المعنى أم تصفونهم بأنهم شركاء فهو عين ما تقدم ، وإلا فهو غيره ، وقوله من غير حقيقة أي معنى متحقق في نفس الأمر لفرط الجهل ، وسخافة العقل ، وقوله كتسمية الزنجي كافورأ كممدوح المتنبي المعروف ، وكأنه إشارة إلى ذلك. قوله : ( وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإعجارّ ) أي لما كان قوله أفمن هو قائم على كل نفس كافيا في هدم قاعدة الإشراك مع السابق ، واللاحق ، وما ضمن من زيادات النكت ، وكان إبطالاً من طريق حق مذيلاً بإبطال من طرف النقيض على معنى ليتهم إذا شركوا بمن لا يجوز أن يشرك به أشركوا من يتوهم فيه ذلك أدنى توهم ، وروعي فيه أنه لا أسماء للشركاء ، لا حقيقة لها فضلا عن المسمى على الكناية الإيمائية ، ثم بولغ بأنها لا تستأهل أن يسئل عنها على الكناية التلويحية استدلالاً بنفي العلم عن نفي المعلوم ، ثم منه إلى عدم الاستئهال مع التوبيخ ، وتقدير أنهم
يريدون أن بنبؤوا عالم السرّ ، والخفيات بما لا يعلمه ، وهو محال على محال ، وفي جعل اتخاذهم شركاء ، ومجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام إنباء له تعالى نكتة بل نكت سرية ، ثم أضرب عن ذلك ، وقيل :
قد بين الشمس! لذي عينين
وما تلك التسمية إلا بظاهر القول لا طائل تحته بل هو صوت فارغ فمن تأمّل حق التأمّل اعترف بأنه كلام خالق القوى ، والقدر الذي تقف دون أستار أسراره أفهام البشر ، وقوله أم بظاهر أم منقطعة وقيل متصلة وقيل الظاهر بمعنى الباطل كقوله :
وذلك عاريا ابن ريطة ظاهر
قوله : ( تمويههم فتخيلوا أباطيل ثم خالوها ) قوله بل زين إضراب عن الاحتجاج عليهم
فكأنه قيل ح ذا فإنه لا فائدة فيه لأنهم زين لهم ما هم عليه من المكر ، والتمويه من قولهم موّه الآنية إذا طلا النحاس منها بفضة أو ذهب ليظن أنها ذهب أو فضة ، وليست به فأطلق على التلبيس بالمكر ، والخديعة ولذا عطف أحدهما على الآخر ، وقوله فتخيلوا أباطيل أي تكلفوا الإيقاع ذلك في الخيال من غير حقيقة ، ثم بعد ذلك ظنوها شيئاً لتماديهم في الضلال ويحتمل أنّ المتخيل أوّل من أسسها ، ومن خالها من قلدهم من بعدهم فأسند فيهما ما للكل إلى البعض لوقوعه بينهم ، ورضاهم به ، وحذف أحد مفعولي خال لأنه يجوز إذا قامت عليه قرينة ، وان كان اكثر خلافه ، وتمويههم ومكرهم مضاف إلى الفاعل ويجوز أن يكون مضافاً إلى المفعول ، وقوله أو كيدهم للإسلام بشركهم فعلى الأوّل المراد به مكرهم بأنفسهم ، وعلى هذا بغيرهم من الإسلام ، وأهله. قوله : ( سبيل الحق ) فتعريفه للعهد أو ما عداه كأنه غير سبيل ، وفاعل الصد إما مكرهم ، ونحوه أو الله بختمه على قلوبهم ، وعلى قراءة الفتح للمعلوم مفعوله محذوف ، وأمّا قراءة الكسر فشاذة ، وهو مجهول نقلت فيه حركة العين إلى الفاء إجراء له مجرى الأجوف ، وهو قوله وصد بالتنوين أي وقركأ صد ، وهو معطوف على مكرهم في النظم ، وعلى كونه معلوماً مفعوله محذوف كما ذكره يناسب التقسير الثاني لمكرهم ولذلك قدّم القراءة المناسبة للتفسير الأوّل ، ولم يجعل صذوا منزلاً منزلة اللازم لعدم ملايمته للتفسيرين وفيه نظر لأنه يلائم التفسير الأوّل. قوله : ) بخذلانه ) وفي نسخة يخذله ، وهما بمعنى ، وليس هذا مبنياً لحى(5/242)
ج5ص243
مذهب المعتزلة كما يتوهم في بادئ الرأي ، ولو فسرا بخلق الضلال ، والاهتداء كان أظهر ، وأوفق بمذهبنا وقوله يوفقه للهدي إشارة إلى أنّ الهداية بمعنى الدلالة موجودة ،
لرانما المنفي الإيصال ، وتوفيقه بجعل أفعاله على وفق ما يرضاه الله ، وقوله بالقتل ، والأسر عقوبة من الله بكفرهم ، وأمّا وقوع مثله للمؤمن فعلى طريق الثواب ، ورفع الدرجات فلا غبار في كلامه ، وكذا سائر المصائب. قوله : ( من عذابه أو من رحمته ( من الثانية زائدة للتأكيد ، والأولى على تقدير من عذابه سواء كان معناه أو قدر فيه مضاف فلا يلزم تقديم معمول المجرور عليه لأنّ الزائد لا حكم له ، وعلى الثاني من الله ظرف مستقر حال من واق وصلته محذوفة ، والمعنى ما لهم واق ، وحافظ من عذاب الله حال كون ذلك الواقي من جهة الله ، ورحمته ومن في من الله للابتداء على الأوّل وللتبيين على الثاني ، ومن رحمته على الأوّل يكون من كلام المصنف رحمه الله لبيان ذلك الواقي فتأئل. قوله : ( صفتها التي هي مثل في الغرابة الخ ) قال العلامة قد مرّ في البقرة أن المثل له معنى لغوي ، وهو الشبيه ، ومعنى في عرف اللغة ، وهو القول السائر المعروف ، ومعنى مجازي ، وهو الصفة الغريبة مأخوذا من المعنى العرفي بعلاقة الغرابة لأنّ المثل إنما يسير بين الناس لغرابته ، وقال أبو علي في الإغفال تفسير المثل بالصفة غير مستقيم لغة ، ولم يوجد فيها ، وأكثر المفسرين على خلافه لكنه يحتاج إلى إثبات من كلام العرب ولم يذكروه فمثل الجنة هنا إمّا أن يراد به المعنى أو غيره ، وعلى هذا التفسير المراد به معناه المجازي ، وحينئذ هو عند سيبويه مبتدأ ، وخبره محذوف أي فيما يقص ، ويتلى عليكم صفة الجنة ، وقوله تجري من تحتها الأنهار جملة مفسرة كخلقه من تراب في قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ سورة آل عمران ، الآية : 59 ] أو مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال كما سيأتي ، وهذا هو الوجه السالم من التكلف مع ما فيه من الإيجاز والإجمال والتفصيل واليه ذهب أيضاً في قوله : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } كما سيأتي تفصيله في سورة النور ، وقدر الخبر فيه مقدما لطول ذيل المبتدأ أو لئلا يفصل به بينه ، وبين ما يفسره أو ما هو كالمفسر له. قوله : ( وقيل خبره تجري من تحتها الأنهار ) على طريقة قولك صفة زيد أسمر الخ فالمثل بالمعنى المجازي ، وهذا قول الزجاج واعترض عليه بأنّ المثل بمعنى الصفة لم يثبت وهو وارد على القول الأوّل أيضاً وبأنه غير مستقيم معنى لأنه يقتضي أنّ الأنهار في صفة الجنة ، وهي فيها لا في صفتها مع تأنيث الضمير العائد على المثل حملاً على المعنى وأمر التذكير والتأنيث سهل ، وأمّا دفع الأوّل بأنه على تأويل أنها تجري فالمعنى مثل الجنة جرياًن الأنهار ، وكدّا صفة زيد أسمر المراد السمرة ، وأنّ الجملة في تأويل المفرد فلا يعود منها ضمير للمبتدأ أو المراد بالصفة ما يقال فيه هذا إذا وصف فلا حاجة إلى الضمير كما في خبر ضمير الشان وكذا ما قيل إنّ تأنيث الضمير لكونه راجعا إلى الجنة لا إلى المثل ، وإنما جاز ذلك لأنّ
المقصود من المضاف عين المضاف إليه وذكره توطئة له وليس نحو غلام زيد فكله كلام ساقط متعسف لأنّ تأويل الجملة بالمصدر من غير حرف سابك شاذ كما في المثل تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، وكذا التأويل بأنه أريد بالصفة لفظها الموصوف به ، وليس في الكلام ما يدل عليه ، وهو تجوّز على تجوّز ولا يخفى تكلفه ، وقياسه على ضمير الشأن قياس مع الفارق ، وأنا عود الضمير على المضاف إليه دون المبتدأ فأضعف من بيت العنكبوت ولا أدري ما الداعي إلى ارتكاب مثله. قوله : ( أو على حذف موصوف أي مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ( اعترض على هذا أبو علي الفارسي بأق المثل الشبه ، وهو حدث فلا يجوز الإخبار عنه بالجثة ، وهي الجنة ورد بأنّ المثل بمعنى المثيل ، والشبيه فهو جثة أخبر عنها بمثلها ، وقيل إنه غير وارد رأسا ، ولا حاجة إلى جعله بمعنى الشبيه لأنّ التشبيه هنا تمثيلي ، ووجهه منتزع من عدة أمور من أحوال الجنان المشاهدة من جريان أنهارها ، ونضارة أغصانها ، والتفاف أفنانها ، ونحوه ، وهو مراد الزجاج بقوله إنه تعالى عرفنا أمر الجنة التي لم نرها بما شاهدناه في أمور الدنيا ، وعايناه ، ولذا أتى الزمخشريّ فيه بلفظ التمثيل ، ويكون قوله : { كُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } بياناً لفضل تلك الجنان ، وتميزها عن هذه الجنان المشاهدة وقيل إنّ هذه بيان لحال جنان الدنيا على سبيل الفرض ، وانّ فيما ذكره انتشارا واكتفاء في النظير(5/243)
ج5ص244
بمجرّد جريان الأنهار ، وهو لا يناسب البلاغة القرآنية ، والغرض المذكور لا قرينة عليه ، والفصل بينهما أحسن منه ، ولا تكلف فيها من جهة العربية.
قوله : ( أو على زيادة المثل ) بمعناه اللغوي ، وهو الشبه لأنه ورد زيادته في نحو ليس
كمثله شيء فقد عهد زيادته بهذا المعنى بخلافه بمعنى الصفة فلا يرد عليه ما قيل إنّ الأسماء لا يجوز إقحامها فإنه في كلامهم كثير كاسم السلام ، ولا صدقة إلا عن ظهر غنى ، ومقام الذئب في بيت الشماخ. قوله : ( حال من العائد الخ ( لأن تقديره التي وعدها ويحتمل التفسير والاسنئناف البياني كما مرّ وقوله : لا ينقطع ثمرها قيل خصه بالثمر لأنه ليس في جنة الدنيا غيره ، وان كان في الموعودة غير ذلك من الأطعمة والظاهر أنه إنما فسره به لإضافته إلى ضميرها ، وأمّا الأطعمة فلا يقال فيها أكل الجنة وقوله : { وِظِلُّهَا } كذلك أي هو مبتدأ محذوف الخبر ، والجملة معطوفة على الجملة ، وقوله كما ينسخ في الدنيا لعدم الشمس أو لكونها في طرف منها فتأمّل. قوله : ( وعقبى الكافرين النار لا غير ) الحصر من تعريف الخبر والمراد بالذين اتقوا من اتقى الكفر بدليل المقابلة بالكافر فيدخل فيه العصاة لأنّ عاقبتهم الجنة دمان عذبوا ،
ولو أريد المتقين عن المعاصي لأنّ المقام مقام ترغيب صح ، ويكون العصاة مسكوتا عنهم وقوله ترتيب النظمين أي ذكر الجملتين المذكورتين بعدما سبق ، وهما تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار لأنّ النظم يطلق على اللفظ القرآني المركب ، ووجه الأطماع ، والإقناط ظاهر ، والمراد إن ذكرها فيما بعدهما لما ذكر فلا تكرار فيه. قوله : ( يعني المسلمين من أهل الكتاب كابن سلام رضي اللّه تعالى عنه الخ ) فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، وجوّز أن يراد به القرآن ، وبالذين مطلق المسلمين ، ومعنى يفرحون استمرار فرحهم وزيادته ، وقوله كابن سلام بتخفيف اللام هو من اليهود ، وقوله وثمانية باليمن زاده على الكشاف لأنهم بهم يتم العدد ، وهذا بحسب المشهور فلا ينافيه إسلام بحيرا ، وتميم الداري ونحوهما والحبشة بفتحتين الجماعة من الحبش ، وهم طائفة من السودان معروفون. قوله : ( أو عامتهم فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم ) فالمراد بما أنزل بعضه ، وهو ما وافق كتبهم ، وقيل عليه إنه يأباه مقابلة قوله ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأن إنكار البعض مشترك بينهم ، وأجيب بأنّ المراد من الأحزاب من حظه إنكار بعضه فحسب ، ولا نصيب له من الفرح ببعض منه لشذة بغضه ، وعداوته ، وأولئك يفرحون ببعضه الموافق لكتبهم ، وهو تكلف فالظاهر أنّ المعنى أن منهم من يفرج ببعضه إذا وافق كتبهم ، وبعضهم لا يفرج بذلك البعض بل يغتم به ، وإن وافقها ، وينكر الموافقة لئلا يتبع أحد منهم شريعته كما في قصة الرجم ، وأشار بقوله أو ما يخالف ما حزفوه منها ، ومع ذلك فهو مخالف للظاهر ، ولذا أخره المصنف رحمه اللّه وتركه الزمخشريّ. قوله : ( يعني كفرتهم الذين تخربوا على رسول اللّه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ ) فالأحزاب جمع حزب بكسر فسكون ، وهو الطائفة المتحزبة أي المجتمعة لأمر ما كعداوة ، وحرب ، وغيره على ما أفاده الراغب ، وغيره من أهل اللغة ، وأمّا الأحزاب المذكور في قوله تعالى ، ولما رأى المؤمنون الأحزاب فطوائف من الكفرة مخصوصة بواسطة تعريف العهد فما ذكره المصنف رحمه الله تفسير لبعض الأحزاب ولا ينافي كون بعض الأحزاب أحزاباً لاندراجهم في معناه اللغوي كما توهمه من تعسف هنا بما لا طائل تحته والسيد والعاقب علمان لا سقفي نجران وأشياعهما اتباعهما. قوله : ( وهو ما يخالف شرائعهم ( هو على تفسير الذين يفرحون بمسلميهم ، والمنكرين بكفرتهم ، وقوله أو ما يخالف ما حرّفوه ، وفي نسخة أو ما يوافق ما حرفوه على تفسير الفرحين بعامتهم من الكفرة فإن منهم من يفرج بما وافقها ، ومنهم من ينكره لعناده وتشييد فساده ، وانكارهم لمخالفة المحرف بالقول دون القلب لعلمهم به أو هو بالنسبة لمن لم يحرفه فمن قال
الأولى ترك هذا اكتفاء بالأوّل لاختصاص الجواب بإنما أمرت بذلك لم يأت بشيء يعتد به كما ستراه. قوله : ( جواب للمنكرين اي قل لهم إنما أمرت الخ ) يعني أنه تعالى لما حكى عن بعض أهل الكتاب إنكار بعض ما عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من إثبات الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا وب بماذا أجيبهم إذن ) فقيل له قل لهم إن ما أتيت به من إثبات الإسلام ، والنبوّة يوجب عبادة اللّه تعالى واثبات التوحيد ونفي(5/244)