ج4ص61
وحديث الاستدراج لا يدفعه لأنه يفيد الصحة اجتماع الفتح مع النسيان لا سببيته له فلا بذ من قبل الجمهور من الجواب انتهى. ( قلت ا للنحويين في لما مذهبان الأوّل أنها حرف وجود لوجود أو وجوب لوجوب ، والثاني أنها ظرف بمعنى حين ، وقال ابن مالك : بمعنى إذ وهو حسن لاختصاصها بالماضي والإضافة إلى الجمل ، وردّ ابن خروف الظرفية بنحو لما أكرمتني أمى أكرمتك اليوم لأنها لو قدرت ظرفا كان عاملها الجواب والواقع في اليوم لا يكون في الأمس ، وأوّله القائلون به بنحو لما ثبت إكرامك كما أوّل إن كنت قلت غير المبرد ، وعلى كلا القولين ففيها معنى الشرطية وإنما الخلاف في حرفيتها واسميتها فلا بد من تأويل الآية بأنّ النسيان سبب للاستدراج المتوتف على فتح أبواب الخير وسببيته شيء لآخر تستلزم سببيته لما يتوقف عليه فاندفع الاعتراضى أو الجواب ما ذكر باعتبار ماله ومحصله وهو ألزمناهم الحجة ونحوه كما أشار إليه المصنف وتسببه عنه ظاهراً وإنه مسبب عنه باعتبار غايته وهو أخذهم بغتة ، وقوله كل شيء المراد به التكثير لا التعميم والإحاطة وهو مستعمل بهذا المعنى كما مرّ وقوله ولم يتعظوا إشارة إلى أنّ النسيان مجاز عت الترك وعدم العمل والاتعاظ كما مرّ نحوه. قوله : ) مراوحة عليهم الخ ( بالراء والحاء المهملتين أي مناوبة من قولهم راوج بين العملين إذا عمل هذا مرّة وذاك أخرى كأنه يروج إلى أحدهما بعد الآخر أو يستريح إليه كما يفعل الأب المشفق بابنه في الملاينة والمخاشنة ليصلح حاله فعلى الوجه الأوّل هذا للتأديب وعلى الثاني للاستدراج ، قال النحرير : والوجه هو الثاني ، والأوّل مبنيّ على الاعتزال فتأمّل ، وقوله : ) أو مكراً بهم ) أي استدراجا قال الراغب مكر الله إمهال العبد وتمكينه من أغراض! الدنيا ، ولذلك قال أمير المؤمنين من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع عن عقله. قوله :
( لما روي الخ ) قال السيوطي : لم أقف عليه مرفوعاً إنما هو من تول الحسن أخرجه ابن أبي حاتم بزيادة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا لكن روى أحمد والطبرانيئ والبيهقيّ في شعب الإيمان من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا : " إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج " ( 1 ( ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية والتي بعدها ، وقوله : ( ورت الكعبة ) قسم يعني أنه لما سمع قوله تعالى فتحنا عليهم الخ أقسم إنما هو للمكر والاستدراج بهم مؤيد للتفسير الثاني. قوله : ( وقرا ابن عامر الخ ) قرأها الجمهور هنا مخففة وابن عامر مثقلة للتكثير ، وقرأ ابن عامر أيضا في الأعراف لفتحنا ، وفي القمر ففتحنا بالتشديد ، وكذا قرئ فتحت يأجوج ومأجوج والخلاف أيضاً في فتحت أبوابها في الزمر في الموضعين وفتحت السماء في النبأ ، فإنّ الجماعة وافقوا ابن عامر على تشديدها ولم يخففها إلا الكوفيون فقد جرى على نمط واحد في هذا الفعل ، والباقون شدّدوا في المواضع الثلاثة المشار إليها وخففوا في الباقي جمعاً بين اللغتين هذا تحقيق النقل فيه وفي كلام المصنف رحمه الله إجمال تفصيله هذا. قوله : ( أعجبوا ) مبنيّ للفاعل من قولهم أعجبني هذا الشيء وأعجبت به وهو شيء يعجب إذا كان حسناً جدا كذا في تهذيب الأزهريّ أو مبنيّ للمفعول من قولهم أعجب إذا زهى وتكبر ، وقوله : ( والقيام بحق ( أي حق المنعم وهو الشكر وقوله : ( ولم يزيدوا على البطر ) أي غاية الفرج والنشاط المفرطين وزاد الواو على عبارة الكشاف لما فيه من إيهام إنه جواب. قوله : ( فإذا هم مبلسون الخ ( إذا هي الفجائية وفيها ثلاثة مذاهب مذهب سيبويه رحمه الله تعالى إنها ظرف مكان ومذهب جماعة منهم الرياشي إنها ظرف زمان ومذهب الكوفيين إنها حرف فعلى تقدير كونها ظرف زمان أو مكان الناصب لها خبر المبتدأ أي أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها ، والإبلاس له ثلاثة معان في اللغة جاء بمعنى الحزن والحسرة واليأس وهي معان متغايرة ، وقال الراغب والإبلاس الحزن المعترض من شذة اليأس ، ولما كان المبلس كثيراً ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان إذا سكت وإذا انقطعت حجته ، وأيس وشس بمعنى ، واليأس معروف. قوله : ( بحيث لم يبق الخ ( إشارة إلى أنه كناية عن الاستئصال لأنّ ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله وهو من دبره إذا تبعه فكان في دبره أي خلفه فالدابر ما
يكون بعد الآخر ويطلق عليه تجوّزاً ، وقال أبو عبيد : دابر القوم آخرهم وقال الأصمعي : الدابر الأصل ومنه قطع الله دابره أي أصله. قوله : ( نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها ) قال في الكشاف : فيه إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة فهو عنده إخبار بمعنى الأمر تعليما للعباد قيل ويحتمل أنه تعالى حمد نفسه على هذه النعمة الجليلة وجعل المصنف رحمه الله الحمد على هلاك الظلمة ، وبين أنه نعمة باعتبار ما ذكره ، وفي الانتصاف ونظير الأوّل قوله تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ } [ سورة الشعراء ، 1 لآية : 173 ] قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى فيمن وقف هاهنا وجعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين ، ومنهم من وقف على المنذرين وجعل الحمد متصلا بما بعده من إقامة البراهين على وحدانيته تعالى وأنه جل جلاله خير مما يشركون ، فعلى الأوّل يكون(4/61)
ج4ص62
الحمد ختما ، وعلى الثاني فاتحة وهو مستعمل فيهما شرعا ولكنه في آية النمل أظهر في كونه مفتتحا لما بعده وفي آية الأنعام ختم لما تقدمه حتماً إذ لا يقتضي السياق غيره. انتهى ، وقوله : أصمكم وأعماكم يعني أخذهما مجاز عما ذكر لأنه لازم له وفيه دليل على بقاء العرض زمانين لأنّ الأخذ لا يكون إلا للموجود وهو كلام حسن. قوله : ( أي بذاك ) إشارة إلى ما مرّ تحقيقه في سورة البقرة في قوله تعالى : { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } [ سورة البقرة ، الآية : 68 ] من أنّ اسم الإشارة المفرد يعبر به عن أشياء عدّة وأن الضمير قد يجري مجراه لكنه في اسم الإشارة أشهر وأكثر في الاستعمال فلذا تأوّل الضمير به ولذا قال رؤبة في تفسير قوله :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلدتوليع البهق
أردت كان ذاك ففسر الضمير الراجع إلى ما تقدم باسم الإشارة قال الزمخشري : والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها وجمعها وتأنيثها ليس على الحقيقة وكذلك الموصولات ولذا جاء الذي بمعنى الجمع ومن غفل عن هذا قال إنّ هذا التأويل يجري في الضمير من غير حاجة إلى تأويل باسم الإشارة ، وفي مجالس! النحاس إنه قيل لرؤبة ألا تقول كأنها فتحمله على الخطوط أو كأنهما فتحمله على السواد والبلق فغضب وقال كان ذاك بها توليع البهق فذهب إلى المعنى والموضع انتهى ، ويحتمل إنه يريد أنه أفرد مراعاة للخبر لأنّ التوليع اجتماع لونين ولفظه مفرد ومعناه مثنى فتامّل ، وأما قول بعضهم فإن قيل ما وجه اعتبار اسم الإشارة واقامة الضمير مقامه قلت للأشعار بأنّ الأمور المذكورة أمور ظاهرة فيكون الاحتجاح بها آكد فنا شيء من قلة التدبر. قوله : ( أو بما أخذ وختم ) يعني ضمير به راجع إلى المأخوذ والمختوم عليه الذي في ضمن ما مرّ لأنه بمعنى المسلوب منكم كما نقل عن الزجاج ، وليس في الكلام ما
الموصولة لا ملفوظة ولا مقدرة حتى يقال في تفسيره إنّ الضمير على ظاهره لأن ما وان كان متعدّد المعنى مفرد اللفظ كما توهم وأمّا الوجه الثالث فظاهر وأما جعله راجعا إلى السمع وجعل ما بعده داخلاً معه في القصد فبعيد. قوله : ( انظر كيف نصرّف الآيات الخ ) انظر يفيد التعجب أيضاً مثل أرأيت وتصريف الآيات تكريرها على أنحاء مختلفة كتصريف الرياج ، ثم إنّ المراد إمّا مطلق الدلائل أو الدلائل القرآنية مطلقا أو ما ذكر من أوّل السورة إلى هنا أو ما ذكر قبل هذا ذهب إلى كل بعض من أرباب الحواشي فلذا قيل هي المقدمات العقلية الدالة على وجود الصانع وتوحيده المشار إليها بقوله : { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ } الآية وأمّا الترغيب فبقوله فيكشف ما تدعون إليه ، وأمّا الترهيب فبقوله : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ } [ سورة الأنعام ، الآية : 46 ] الخ وبمكن أن يؤخذ في ضمن قوله : { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ } فيكونان مذكورين في ضمن المقدمات العقلية وأمّا التنبيه والتذكير فبقوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ } [ سورة النحل ، الآية : 63 ] الخ وقيل غير ذلك ، وقوله بعد تصريف الآيات وظهورها تقرير لكون ثم للاستبعاد كقوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } [ سورة الكهف ، الآية : 57 ] وأنّ تعريف الآيات للعهد كما مرّ. قوله : ( من غير مقدمة ) أي إمارة متقدمة يعني بغتة من حيث الظاهر لا يقابل جهرة لأنّ مقابل الجهرة الخفية لكن لما كان معنى بغتة وقوع الأمر من غير شعور ، فكأنها في معنى خفية حسن أن يقابل بها كما في شروح الكشاف وليس المراد أنه مجاز أو استعارة بل إنه لما قرب أحدهما من الآخر صح مقابلته به ومثله كثير كما وقع في الحديث " بشروا ولا تنفروا " ( 1 ( ومقابل التبشير الإنذار لا التنفير فمن قال إنّ البغتة استعارة للخفية بقرينة مقابلة الجهرة وانها مكنية من غير تخييلية بل بقرينة المقابلة المذكورة ، وهذه الاستعارة لم يذكرها أهل المعاني تعسف بما لا حاجة إليه ، ولا يخفى ما فيه وأنه يلزمه أن يصح بل يحسن النور خير من الجهل على أنّ الجهل استعارة للظلمة بقرينة مقابلته بالنور ، ومثله يمجه الذوق السليم ، وفي بعض التفاسير لما كانت البغتة هجوم الأمر من غير ظهور إمارة وشعور به تضمنت معنى الخفية فصح مقابلتها بالجهرة ، وبدأ بها لأنها أرح من الجهرة وإنما لم يقل خفية لأنّ الإخفاء لا يناسب شأنه تعالى وهو بيان لنكتة ترك المقابلة ، وليس المراد بقوله تضمنت معنى الخفية إلا أنها مثلها في
عدم الشعور أي تضمنت ما في الخفية من ذلك المعنى ولو لم يرده لتناقض أوّل كلامه وآخره فمن اعترض عليه بأنّ البغتة ليست هنا(4/62)
ج4ص63
من قبيل الخفية حقيقة لأن الإتيان وان كان بغتة على سبيل الجهر لا على سبيل الخفية كما توهمه ابن كمال لم يقف على مراده.
قوله : ( وقرئ بنتة أو جهرة ) يعني بفتح الغين والهاء على أنهما مصدران كالغلبة ، وقال
ابن جني في المحتسب قرأ سهيل بن شعيب السهمي جهرة وزهرة في كل موضع محرّكا ، ومذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتح أنه لا يحرّك الأعلى أنه لغة فيه كالنهر والنهر والشعر والشعر والحلب والحلب والطرد والطرد ومذهب الكوفيين أنه يجوز تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا قياسا مطردأ كالبحر والبحر ، وما أرى الحق إلا معهم ، وكذا سمعت من عامّة عقيل وسمعت الشجري يقول أنا محموم بفتح الحاء وليس في كلام العرب مفعول بفتح الفاء وقالوا اللحم يريدون اللحم ، وسمعته يقول تغدوا بمعنى تغدوا وليس في الكلام تفعل بفتح الفاء ، وقالوا سار نحوه بفتح الحاء ولو كانت الحركة أصلية ما صحت اللام أصلا ا هـ وهي فائدة ينبغي حفظها ومنه تعلم حال بغتة وقرئ بالواو العاطفة. قوله : ( ما يهلك الخ ) يشير إلى أنّ الاستفهام في معنى النفي ولذا صح وقوع الاستثناء المفرغ بعده لأنّ الأصل فيه النفي وليس المراد أنّ هل نافية حقيقة لأنّ أرأيت بعده الاستفهام في الجملة ، وقوله : هلاك سخط وتعذيب توجيه للحصر بتقييد الهلاك بما يتبادر منه والا فقد يهلك غيرهم لكنه رحمه منه ليجازيهم على ما ابتلاهم به بالثواب الجزيل. قوله : ( ولذلك الخ ) أي لكون المراد بالاستفهام النفي أو لأنّ المراد هلاك سخط وتعذيب صح الاستثناء المفيد للحصر لأنّ غير الظالمين يهلك كما مرّ قيل والمسألة نحوية لأنه في الاستثناء المفرّغ يقدر العموم بما يقدر في الإثبات بالنفي وفيما لم يقدر يجوز بالإثبات نحو قرأت إلا يوم الجمعة إذ يصح قرأت كل يوم إلا يوم الجمعة ، وهاهنا يصح هلاك الظالمين إلا أنّ المعنى هاهنا على النفي لا إنه لولاه لم يصح الاستثناء المفرغ ، وهذا منه بناء على تعين الاحتمال الثاني عنده. قوله : ( 1 لا مبشرين ومنذرين الخ ( التخصيص لأنّ الجنة أعظم ما يبشر به ، فلذا يتبادر من الإطلاق كما في العشرة المبشرة والنار أعظم ما ينذر به فلا يقال الأولى التعميم ، وهما حالان مفيدان للتعليل أي لأجل التبشير والإنذار وأشار إليه المصنف بقوله ليقترج والاقتراج طلبهم الآيات والتلهي السخرية يقال تلهى به إذا سخر وتلعب وهذا إشارة إلى ارتباط هذه الآية بقوله : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [ سورة العنكبوت ، الآية : 50 ] وقوله ما يجب إصلاحه أي الإتيان به على وفق الشريعة أي
إصلاحه على الوجه المشروع في إخلاص العبادة وعدم الشركة فعلى متعلقة بإصلاح. قوله : ( جعل العذاب ماساً ) يعني نسبة المس إليه وجعله فاعلا له يشعر بقصد الملاقاة من جانبه وفعله وان لم يتعين ذلك ، فما أورد عليه من أنّ المس ليس من خواص الإحياء حتى يلزم ما ذكر وإنما هو تلاقي الجسمين من غير حائل بينهما يمكن دفعه بالعناية فعلى ما ذكره المصنف فيه استعارة تبعية وجوّزها الطيبي ، وفي الكشاف جعل العذاب ماساً كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد ، وفي البحر أنّ المماسة تشعر بالاختيار والعرض لا اختيار له ومراد العلامة أنه وصف العذاب فيه بوصف المعذب مبالغة كشعر شاعر وهو مبنيّ على قاعدة الاعتزال وعند أهل السنة لا مانع من أن يخلق الله فيها حياة واحساسا وقوله : ( واستغنى ) يعني حيث لم يقل العذاب الأليم أو العظيم ونحوه لأنّ تعريف العهد يفيد ما ذكر. قوله : ( بسبب خروجهم الخ ) إشارة إلى أنّ ما مصدرية وأصل معنى الفسق لغة الخروجي قال فسق الرطب إذا خرج عن قشره ، ويقال لمن خرج عن حظيرة الشرع مطلقا بكفر أو غيره وأكثر ما يقال لمن خرج عن التزام بعض الأحكام لكنه غير مناسب هنا ، ولذا فسره بمعنى يشمل الكفر لأنّ تعذيب الكافر بغير الكفر من ذنوبه وان صح لكن لا ينبغي أن يقال عذب الله الكافر بترك الصلاة مثلاً. قوله : ( مقدوراته الخ ) يعني الخزائن جمع خزينة أو خزانة وهي ما يحفظ فيه الأشياء النفيسة إما مجاز عن المقدورات أو هو بتقدير مضاف أي خزائن رزقه ، وظاهر قول الزمخشري خزائن الله هي قسمه بين الخلق وأرزاقه أنّ الخزائن يحتمل أنه مضاف لمقدر ، ويحتمل إنه مجاز عن المرزوقات من إطلاق المحل على الحال أو اللازم على الملزوم وكلام المصنف يحتمله وقيل إنّ التجوّز أولى لأنه لا بذ على التقدير من التجوّز أيضا فتأمّل. قوله : ( ما لم يوح إلئ ولم ينصب عليه دليل ( ما إما بدل من الغيب ، أو عطف بيان مفسر له فإنه(4/63)
ج4ص64
الذي لا يطلع عليه وفي قوله لم ينصب الخ إشارة إلى جواز اجتهاد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وما في كلام المصنف رحمه الله موصولة وجوّز جعلها مصدرية زمانية فالغيب عام مقيد بمدة عدم الإيحاء ونصب الدليل. قوله : ( وهو من جملة المقول ) هنا قولان ومقولان أي قل وأقول وكلام المصنف محتمل فيحتمل أنه أراد أنه من جملة مقول قل كما قيل إنه من مقول قل لا أقول ولذا احتيج إلى إعادة أقول في قوله : { وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } فإنه على تقدير العطف على عندي خزائن الله لا حاجة إلى إعادته وإنما لم يكتف فيه بنفي القول للفرق بينه وبين قرينيه ، وهو إنّ مفهومي عندي خزائن الله واني ملك معلومان عند الناس فلا حاجة إلى نفيهما إنما الحاجة إلى نفي ادعائهما تبرأ عن دعوى الباطل بخلاف مفهوم لا أعلم الغيب فإنه كان مجهولاً لا عندهم بل كان الظاهر من حاله عدم الاطلاع
عندهم على الغيب ، ولذا نسبوه إلى الكهانة فالحاجة هنا إلى نفيه ، ثم إنّ هذا النفي تضمن الجواب عن قولهم إن كنت رسولاً فأخبرنا بما يقع في المستقبل لنستعدّ له ، ونفي دعوى الملكية تضمن جواب ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق اوو ، ويحتمل أنه مقول أقول لأقل ، ولذا قيل لو قال المصنف رحمه الله من جملة ما لا يقولى كان أوضح وكلمة لا حينئذ في لا أعلم مذكرة للنفي لا نافية ولم يجعل من مقول قل لأنّ المقصود نفي دعوى علم الغيب ودعوى مالكية خزائن الله ليكونا شاهدين على نفي دعوى الألوهية ، وبهذا اندفع ما قيل على هذا الوجه من أنه يؤدّي إلى أنه يصير التقدير ، ولا أقول لكم لا أعلم الغيب وهو غير صحيح ف!نه لا وجه لعدم صحته ولله درّ المصنف حيث أتى بما يشملهما على الحصر ، ولا يخلو من مخالفة للظاهر في الجملة ، وعند التأمّل لكل وجهة ولذا قال النحرير : إنه من جملة القول في الواقع ومحمول على هذا المعنى البتة لأنه لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب ، وإنما الفائدة في الإخبار بأني لا أقول ذلك ليكون نصا لادّعاء الأمرين اللذين هما من خواص الإلهية ليكون المعنى إني لا أذعي الإلهية ولا الملكية ويكون تكرير لا أقول إشارة إلى هذا المعنى وكان المصنف رحمه الله أجمل في قوله المقول لجوازهما عنده وزعم السفاقسي أن كلام الزمخشريّ محتمل لهما أيضا فتأمّل. قوله : ( من جنس الملانكة ) قيل هو إشارة إلى ما ذكره أبو عليّ الجبائيّ من أنّ هذه الآية تدل على أفضلية الملائكة لأن المعنى لا أدّعي منزلة أقوى من منزلتي وقال القاضي عبد الجبار : إن كان الغرض! من النفي التواضع فالأقرب لزوم الأفضلية ، وان كان نفي القدرة على أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة فلا وهو الأليق بالمقام ، ولو سلم فتكفي الأفضلية بزعم المخاطبين ، وعليه يتنزل كلام المصنف ويخرج عما في الكشاف من النزغة الاعتزالية قيل ، وهو على الأوّل حقيقة وعلى الثاني مجاز مرسل عن القادر على أفعالهم أو تشبيه بليغ ، وفيه نظر لأنّ المقصود نفي الملكية لا نفي شبهها فتأمّله. قوله : ( تبرّأ عن دعوى الإلهية والملكية ( وفي نسخة الألوهية جعل مجموع قوله : { عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } عبارة عن نفي الألوهية لأنّ قسمة الأرزاق بين العباد ومعرفة علم الغيب مخصوصان به تعالى ولذا كرّر في الملكية لفظ ولا أقول وتيل على الزمخشري إذ ذكر هذا بعينه إنه يهدم قاعدة استدلاله في قوله تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } [ سورة النساء ، الآية : 172 ] ، على تفضيل الملك على البشر لأنّ الترقي لا يكون من الأعلى إلى الأدنى يعني من الألوهية إلى الملكية ، ولا هدم لها مع إعادة لا أقول الذي جعله أمراً مستقلا كالإضراب ، إذ المعنى لا أذعي الألوهية بل ولا الملكية ولذا كرّر لا أقول ، وقيل مقام نفي الاستنكاف ينتفي فيه أن يكون المتأخر أعلى لئلا يلغو ذكره في مقام نفي الادعاء بالعكس فإن من لا يتجاسر على دعوى الملكية أولى أن لا يتجاسر على دعوى الإلهية الأشذ استبعاداً وأورد على هذا أنّ المراد لا أملك أن أفعل ما أريد مما تقترحونه وليس المراد التبري عن دعوى الإلهية ، والا لقيل لا أقول لكم إني إله كما قيل ولا أقول لكم إني ملك وأيضا في الكناية عن
الألوهية بعندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة بل هو جواب عن اقتراحهم عليه صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهم خيرات الدنيا ، وقيل في دفعه وجه التبري أنّ قوله تعالى لا أقول في قوّة قول الرسول لا أقول لعدم توقفه في الامتثال وليس(4/64)
ج4ص65
إضافة الخزائن إلى الله تعالى منافيا لهذه الكناية لأنّ دعوى الإلهية ليس دعوى أن يكون هو الله بل شريكا له في الإلهية ، وفيه نظر لأنّ إضافة الخزائن إليه تعالى اختصاصية فتنافي الشركة إلا أن يكون المعنى خزائن مثل خزائن الله أو تنسب إليه ، فتأمّل. قوله : ( رذا لاستبعادهم الخ ) يعني أنه بعد نفي الإلهية والملكية ألزمهم بالحجة العقلية على ما ادّعاه لأنّ حاصله أني عبد ممتثل أمر مولاه ويتبع ما أوحاه وأي عقل ينكر مثله كما يشير إليه قوله أفلا تتفكرون أي في أنّ اتباع ذلك لا محيص عنه ولذا قال اتبع ما يوحى إليّ ، ولم يقل إني نبيّ ، أو رسول تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم والجاما لهم بالحجة وليس في كلامه نفي لتفضيل الملك بوجه من الوجوه كما قيل ، ودفعه ما قدمناه وحاصل الردّ أنّ هذه دعواي وليست مما يستبعد إنما المستبعد إدعاء الإلوهية أو الملكية ولست أدّعيهما على أنّ مجرّد نفي هاتين لا يستلزم نفي الاستبعاد لجواز أن يذعي أمراً آخر مستبعداً. قوله : ( للضال الخ ) ذكر فيه ثلاثة وجوه مبناها على أنه تذييل لما مضى من أوّل السورة إلى هنا أو لقوله إن اتبع الخ أو لقوله لا أقول الخ والأوّل هو الوجه عندهم ، ثم الثاني ، وقوله : في تفسير قوله أفلا تتفكرون فتهتدوا الخ لف ونشر ناظر إلى هذه التفاسير على الترتيب فقوله تهتدوا راجع إلى الأوّل ، وقوله : أو فتميزوا إلى الثاني ، وقوله : أو فتعلموا إلى الثالث ، والأفعال في عبارته منصوبة في جواب الاستفهام وقيل إنه غير مرتب وهو تكلف ، وقابل المستحيل بالمستقيم كما قابله سيبويه بالمحال وكذا قال المتنبي :
كأنك مستقيم في محال
وهو استعمال العرب لأنّ أصل المحال من أحاله عن وجهه ، وصرفه وهو في المحسوسات عين الاعوجاج ومن لم يعرفه اعترض عليه بأنّ الظاهر أن يقول :
كأنك مستقيم في اعوجاج
فالمستقيم هنا بمعنى الممكن ، وفي بعض النسخ فتميزوا على أنه من تتمة تهتدوا وقوله :
أو فتعلموا ناظر إلى الأخيرين ، وفي نسخة فتعلمون والأولى أولى. قوله : ( كالألوهية والملكية ( فإن قيل دعوى الملكية من الممكنات أي من دعوى الأمور الممكنة لأنّ الجواهر متماثلة يجوز أن يقوم بكلها ما يقوم ببعضها ولهذا ما قيل لآدم جمم ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين أقدم على اكل طمعا في الملكية مع أن النبيّ لا يطمع في
المحال ، قلت أجاب عته شراح الكشاف بأنّ المقدمات على تقدير تمامها ، إنما تفيد إمكان أن يصير البشر ملكا وأما أن يكون ملكا فلا لتمايزهما بالعوارض المتنافية بلا خلاف ، وهذا كما قالوا إنّ كلا من العناصر يجوز أن يصير الآخر لا أن يكون ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل طمع آدم عليه الصلاة والسلام لو سلم كونه نبيا عند اكل ، أو أنه لم يطمع في الملكية بل في الخلود ، وقوله : ( وجزمهم على فساد مدعاه ) ضمنه معنى الحرص فلذا عداه بعلى فإن قلت : لم قال خزائن الله ولم يقل : لا أقدر على ما يقدر عليه الله قلت لأنه أبلغ لدلالته على إنه لقوّة قدرته كأنّ مقدوراته مخزونة حاضرة عنده. قوله : ( المفرّطون ) بتشديد الراء قيده به لأنه المناسب للإنذار ولقوله : لعلهم فخص بالذكر هؤلاء لأنهم الذين ينفعهم الإنذار ويقودهم إلى التقوى وليس المراد الحصر حتى يرد أنّ إنذاره لغيرهم لازم أيضا وقوله أو متردداً عطف على مقرّاً لأنه كافر أيضا وقوله : فإنّ الإنذار الخ بيان لوجه التخصيص ، وينجع مضارع نجع كنفع لفظاً ومعنى ، وأصله من نجع الدواء في المريض إذا أثر في برئه ، والمراد بالفارغين منكر والحشر لأنّ أذهانهم خلت عن اعتقاده أو لأنهم فرغوا عن تداركه ، وقوله لكي يتقوا بيان لمحصل المعنى لا إن لعل بمعنى كي ، فإن المصنف لم يرتضه في كتابه هذا ، وقد مرّ تفصيله وتحقيقه ، وقوله في موضمع الحال لأن مجرّد الحشر لا يخاف ما لم يكن على هذه الحال ، وفي الكشاف هنا كلام طواه المصنف لابتنائه على الاعتزال. قوله : ( أمره بإكرام المتقين الخ ( لأنّ النهي عن الشيء أمر بضده فالنهي عن طردهم كالأمر بتقريرهم وقوله : ترضية يقال رضاه بالتشديد كما يقال أرضاه ، وقوله : هؤلاء الأعبد جمع عبد وقالوه تحقيرا لهم لأنهم موال مسهم الولاء والرق وليس تشبيها بالعبيد في الخرقة والحرفة كما قيل ، أما عمار بن ياسر المذحجي رضي الله عنه فولاؤه مشهور ، وأما صهيب بن سنان رضي الله عنه ويعرف بالرومي فهو نمريّ من العرب لكن أسره الروم وهو(4/65)
ج4ص66
صغير فنشأ عندهم ثم قدمت به مكة فاشتراه عبدلذ بن جدعان وأعتقه ، وخباب عدة من الصحابة منهم من مسه الرق ورق سلمان رضي الله عنه مشهور وتفصيله في الاستيعاب ، وفي كلام المصنف رحمه الله خلط بين حديثين ، وقد وقع مثله في الكشاف ، وهذا الحديث ) 1 ( يروى من طرق عدة كما في تخريج أحاديث الكشاف وليس هو قول عمر في بعض طرقه فلا معنى لإنكاره بناء على أنه لا يليق بمقام النبوّة طرد المؤمنين لأجل غيرهم ظنا إنه ينافي في عصمته لأنّ الطرد لم يقع منه والذي همّ به أن يجعل لهم وقتا خاصا ولهؤلاء وقتاً خاصا ليتألف أولئك فيقودهم ، إلى الإيمان والصحابة رضي الله عنهم يعلمون ما قصد فلا يحصل لهم إهانة وانكسار قلب منه صلى الله عليه وسلم . قوله : ( والمراد بذكر الغداة والعشئ الدوام الخ ) كما يقال فعله صباحا ومساء لما يداوم عليه ، وقيل الغداة والعشيّ عبارة عن صلاتي الصبح والعصر لأن الزمان كثيراً ما يذكر ، ويراد به ما يقع فيه كما يقال صلى الصبح ويراد بالصبح صلاته وكذا المغرب كما يعكس فيراد بالصلاة زمانها نحو قربت الصلاة أي وقتها ، وقد يراد بها مكانها نحو : { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } [ سورة النساء ، الآية : 43 ] أي المساجد والدعاء على هذا مراد به حقيقته ، أو المراد الدعاء الواقع في الصلاة فلا حاجة إلى ما قيل إنه مسامحة أو المراد الصبح والعصر وذكر الصلاة لبيان الدعاء وقد فسر الدعاء هنا بالصلوات الخمس وبالذكر وقراءة القرآن. قوله : ( وقرأ ابن عامر يالغدوة ) وكذا قرأه في سورة الكهف أبضا وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء العطاردي وغيرهم ، وغدوة وان كان المعروف فيها أنها علم جنس ممنوع من الصرف ولا تدخله الألف واللام ، ولا تصح إضافته فلا تقول غدوة يوم الخميس كما قاله الفراء لكنه سمع اسم جنس أيضا منكراً مصروفا فتدخله اللام ، وقد نقله سيبويه في كتابه عن الخليل ، وذكره جمّ غفير من أهل اللغة والنحو فلا عبرة بقول أبي عبيد إنّ من قرأ بالواو وأخطأ وأنه اتبع رسم الخط لأنّ الغداة تكتب بالواو كالصلاة والزكاة وهو علم جنس لا تدخله الألف واللام والمخطئ مخطئ لما مرّ ، وقد ذكر المبرد عن العرب تنكير غدوة وصرفه وادخال الألف واللام عليه إذا لم يرد غدوة يوم بعينه ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وكفى بوقوعه في القراءة المتواترة حجة فلا حاجة إلى ما قيل إنه علم لكنه نكر لأن تنكير علم الجنس لم يعهد ولا أنه معرفة ودخلته اللام لمشاكلة العشيّ كما في قوله :
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا
إذ قال اليزيد لمجاورة الوليد ومنه تعلم أنّ المشاكلة قد تكون حقيقة. قوله : ( يدعون ربهم مخلصين الخ ) إشارة إلى أنّ المراد بالوجه الذات كما في قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ سورة القصص ، الآية : 88 ] على أحد التفاسير فيه وأنّ معنى إرادة الذات الإخلاص لها لأنه ذكر في الإشارات أنّ من الناس من أحال كون الله مراداً لذاته وقال إنّ الإرادة صفة لا تتعلق إلا بالممكنات لأنها تقتضي ترجيح أحد طرفي المراد على الآخر وذلك لا يعقل إلا في الممكنات ، وقوله عليه أي الدعاء بالإخلاص. قوله : ( ما عليك من حسابهم الخ ) جوّز في ما هذه أن تكون تميمية وحجازية وفي شيء أن يكون فاعل الظرف المعتمد على النفي أعني عليك ، ومن حسابهم وصف له قدم فصار حالاً ومن مزيدة للاستغراق لكن تشبيه الزمخشري بقوله إن حسابهم إلا على ربي الدال على الحصر بصريح النفي والإثبات يشعر بكون شيء مبتدأ ، والظرف خبر فدم للحصر ، وقوله : ليس عليك حساب إيمانهم يشير إلى تقدير مضاف أو إلى أنه المراد من النظم ، أو أنّ الإضافة إليهم للملابسة المذكورة وأنّ حساب الإيمان إمّا بحسب المقدار أو بحسب الإخلاص ، والضمير على هذا للمؤمنين كما يعلم من مقابله ، ويجوز أن يكون الضمير للمشركين وضمير تطردهم للمؤمنين وضمير سؤالهم وايمانهم راجع إلى من ، ولما مشددة حينئذ أو مخففة وما مصدرية. قوله : ( فإن كان لهم باطن غير مرضئ الخ ) قال أبو حيان كيف يفرض هذا وقد أخبر الله بإخلاصهم في قوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } واخباره هو الصدق الذي لا شك فيه وليس بشيء مع قوله كما ذكره المشركون. قوله : ( فحسابهم الخ ) هذا بعينه ما ارتضاه الزمخشريّ وأن الجملتين في معنى جملة واحدة تؤدّي مؤذي { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وأنه لا بذ منهما والا فالأولى تكفي للجواب وفي قوله كما أنّ إشارة إلى أنّ الثانية مسلمة ظاهرة حتى إنها تدل على الأولى لجعلها مقيسا عليها ولم يجعل المعنى أنّ حسابهم(4/66)
ج4ص67
ليس عليك بل علينا ليكون كقوله تعالى : { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي } [ سورة الشعراء ، الآية : 13 ا ] لأنّ المقصود دفع قدح المشركين في فقراء المؤمنين وهو بمجرد إن
حسابهم إلا على الله لا عليك ولا دخل للثانية فيه وجعلها للتأكيد ينافي العطف كما ذكره العلامة في شرح الكشاف وأما وجه أخذ إن. حسابهم عليهم من النظم ، فهو إنه كان أصله عليك حسابهم على أنه تصر قلب فإذا نفي ذلك لزم ثبوت عكسه ، ولا حاجة إلى اعتبار النفي أولاً ثم اعتبار الحصر ليفيد حصر انتفاء حسابهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فيلزم كون حسابهم على أنفسهم لا على النبيئ صلى الله عليه وسلم ، وتفسير حساب الرزق بالفقر لأنه الذي يتوهم مضرته وقد روي أنهم قالوا له يتبعونك لأنهم لا يجدون ما بنفقون وقوله : ولا هم بحسابك أي ولا يؤاخذون أو هو معطوف على الضمير المستتر للفصل ، واعلم أنه قدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين تشريفا له والا كان الظاهر وما عليهم من حسابك من شيء بتقديم على ومجرورها كما في الأوّل وفي النظم ردّ العجز على الصدر كما في قوله عادات السادات ، سادات العادات. قوله : ( على وجه التسبب وفيه نظر ) في قوله فتطردهم وجهان أحدهما أنه منصوب على جواب النفي بأحد معنيين فقط ، وهو انتفاء الطرد لانتفاء كون حسابهم عليه وحسابه عليهم لأنه ينتفي المسبب بانتفاء سببه ، وتوضيحه أن قولك ما تأتينا فتحدثنا بنصب فتحدثنا يحتمل معنيين انتفاء الإتيان وانتفاء التحديث كأنه قيل ما يكون منك إتيان فكيف يقع منك حديث وهذا المعنى هو المقصود هنا أي ما يكون منك مؤاخذة كل واحد بحسابه فكيف يقع منك طرد ، وانتفاء التحديث وثبوت الإتيان كأنه قيل ما تأتينا محدثا بل غير محدّث ، وهو لا يصح هنا وهم وان أطلقوا قولهم منصوب على الجواب فمرادهم هذا ، وجوّز في الدرّ المصون أن يكون منصوبا جوابا للنهي ، وأما قوله فتكون ففيم نصبه وجهان أن يكون منصوبا في جواب النهي أعني لا تطرد وأن يكون معطوفا على فتطردهم وجعله المعرلث أظهر من الأوّل ولما لم يصلح في المعنى جواباً للنفي إلا إذا قصد تسببه على الطرد قال الط!بي : وجه النظر الذي ذكره المصنف رحمه الله إنّ قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم } الخ حينئذ مؤذن بأنّ عدم الظلم لعدم تفويض الحساب إليه فيفهم منه أنه لو كان حسابهم عليه وطردهم لكان ظالماً وليس كذلك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وأجاب عنه بأنّ المراد به المبالغة في معنى الطرد يعني لو قدر تفويض الحساب إليك ليصح منك طردهم لم يصح أيضا فكيف والحساب ليس إليك فهو كقول عمر رضي الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، وقيل بل وجه النظر أنّ الإشراك في النصب بالعطف يقتضي الإشراك في سبب النصب وهو توقف الثاني على الأوّل بحيث يلزم من انتفاء الأوّل انتفاؤه واً نه منتف كونه من الظالمين سواء لوحظ ابتداء أو بعد ترتبه على الطرد ، وأما جعله مترتبا على نفس الطرد بلا اعتبار كونه مترتبا على المنفي ومنتفياً بانتفائه فيفوت وجود سببية النصب ، وفي البحر هما منصوبان تقدمهما نهي ونفيان وكل منهما أهل أن يجاب به ولا يكون جواب واحد لمتناقضين فتطردهم جواب للنفي وتكون جواب النهي ولا يمكن عكسه لئلا يكون الجواب والمجاب واحداً ولا يستقيم أن يقول لا تطردهم فتطردهم ، ويمكن أن يكون فتطردهم جوابا للنهي كما مرّ ويكون فتكون عطفا على الجواب فالجائز وجهان خاصة أحبهما الأوّل لا الثاني إذ كلاهما لا يناسب أن يجاب لأنه بصير معناه ما عليك كل منهم فتطردهم فيناسب وان أجيب بالثاني صار
المعنى مالك كل عليهم فتطردهم فمفهومه إن كانوا يحملون عنك كان طردك إياهم حسناً وهو خلف لا يجوز حمل القرآن عليه وهو وان خرج عن مختار البصريين لأعمال الثاني لا يضرّ لأنّ شرطه عندهم أن يكون المعنى مستقيما فيهما فان لم يستقم أعمل الأوّل اتفاقا كما في قوله ، ولم أطلب قليل من المال انتهى. قوله : ( ومثل ذلك الفتن الخ ) يعني مثل ما فتنا الكفار بحسب غناهم وفقر المؤمنين حتى أهانوهم لاختلافهم في الأسباب الدنيوية فتناهم بحسب سبق المؤمنين إلى الإيمان وتخلفهم عنه حتى حسدوهم وقالوا ما قالوا لاختلاف أديانهم فشبه فتنا بفتن والزمخشري جعل ذلك إشارة إلى هذا الفتن المذكور وعبر عنه بذلك إيذانا بتفخيمه ، ولدّا قال : ومثل ذلك الفتن العظيم(4/67)
ج4ص68
كقولك ضربت زيداً ذلك الضرب ولا يلزم منه تشبيه الشيء بنفسه لأنّ المثل ليس بمراد ، وإنما جيء به مبالغة كما يقال ذلك كذلك ، كذا قرّره العلامة يعني أن التشبيه كما يجعل كناية عن الاستمرار لأنّ ماله أمثال يستمرّ نوعه بتجذد أمثاله كما أشار إليه شراح الحماسة في قوله : هكذايذهب الزمان ويفنى الى حلم فيه ويدرس الأثر
والاستمرار يقتضي التحقق والتقرر ويستلزمه ، فجعل في أمثال هذا بواسطة الإشارة إلى البعيد عبارة عن تحقق أمر عظيم ، وكونه عظيمأ مستفاد من لفظ ذلك المشار به إلى هذا الفتن القريب المذكور ، وليست الكاف فيه زائدة ، ومن قال الكاف فيه مقحمة أراد أنّ التشبيه غير مقصود فيه بل المراد لازمه الكنائيئ أو المجازي ، وصاحب الكشاف لما في هذا الوجه من البلاغة والدقة اختاره وفيما ورد فيه كذلك وبعضهم لما رأى غموضه وتوهم فيه تشبيه الشيء بنفسه أوّله وتكلف لوجه التشبيه والمغايرة ، وقال الطيبي : في شرح قوله وكذلك زينا في هذه السورة لما قال الزمخشري ومثل ذلك التزيين البليغ هذا على أن يكون المشار إليه ما في الذهن ، وسيجيء بيانه في قوله تعالى : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ سورة الكهف ، الآية : 78 ] والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهني والتفسير بقوله زبن ، وهو ما يعلمه كل أحد من المزين من هو انتهى. فعلى هذا المشبه به الأمر المقرّر في العقول والمشبه ما دلّ عليه الكلام من الأمر الخارجيّ ، وهو تخريج لطيف إلا أنه يخالف ما نقل صاحب الكشف في سورة الدخان عن العلامة الزمخشري أنه قال : المعنى فيه أنه لم يستوف الوصف وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف فكأنه قال الأمر نحو ذلك وما أشبهه.
( أتول ) أراد أنّ الكاف مقحم للمبالغة وقد سلف إشارة إلى ذلك وأنّ هذا الإقحام مطرد
في عرفي العرب والعجم انتهى. فهو من باب الكناية وهو وجه بديع ، وهذا مما من الله به علينا فاحفظه ، فانك لا تجده في غير كتابنا هذا. قوله : ( فتنا أي ابتلينا ) إشارة إلى ما قدمنا من أنّ أصل معنى الفتن تصفية الذصب ونحوه ثم استعمل في الابتلاء والاختبار. قوله : ( أي أهؤلاء من أنعم الله اليم ) هذا بيان لمحصل المعنى وإنما أتى بمن الموصولة إشارة إلى أنّ إنثارهم إنما هو
لوصفهم بذلك وجعله سمة لهم لعدم اعترافهم بذلك واعتقادهم أنهم ليس عليهم آثار النعمة وهذا نحو ما تزره الخطيب في قوله :
إن الذين ترونهم إخوانكم يشفى غليل صدورهم إن تصرعوا
وليس مراده بيان التقدير والإعراب ليتقدم الخبر على المبتدأ فيفيد الحصر حتى يرد عليه أنّ المعنى على إنكار أن يكونوا مختصين بإصابة الحق دونهم كما قرّره ، وإذا كان المعنى على ما ذكره يكون هناك من أنعم الله عليهم من بينهم يعرفونهم بكونهم كذلك ، ولكن ينكر المتكلم أن يكونوا هؤلاء الفقراء وهو غير المعنى المراد ، وانّ معنى الحصر مستفاد من قوله بيننا فإنه في موضع الحال من الضمير المجرور أي منفردين من بيننا ، ولم يدر أن ما توهمه غير صحيح لفظا لأنّ المبتدأ والخبر إذا تعرّفا لم يجز تقديم الخبر فيه للبس مع ما في حذف الموصول وإبقاء صلته من ا اضعف وان جوّزه بعض النجاة كما في الدرّ المصون ، لكني أظن أنّ هذا التكلف لم يخطر ببال المصنف رحمه الله. قوله : ( واللام للعاقبة الخ ) قيل إنّ ما يترتب على فعل الفاعل من حيث ترتبه عليه فائدة ومن حيث وقوعه في طرفه غاية ، ومن حيث كونه باعثا عليه غرض بالنسبة إلى الفاعل وعلة غائية بالنسبة إلى الفعل ، ولأفعاله تعالى فوائد وغايات لأنّ أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض لما برهن عليه في الكلام ، ثم إنه قد تشبه الغاية بالعلة الغائية من حيث إنها عاتبة له فتستعمل فيها اللام التعليلية على نهج الاستعارة التبعية ، كاللام الداخلة على ثمرات أفعاله المسماة بالحكم ، وليست هذه لام العاقبة عند الزمخشريّ ومن تابعه ، وفي شرح المقاصد أنّ لام العاقبة إنما تكون فيما لا يكون للفاعل شعور بالترتب وقت الفعل أو قبله فيفعل لغرض ، ولا يحصل له ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفعل لذلك الغرض الفاسد تنبيها على خطئه ، ولا يتصوّر هذا في كلام علام الغيوب بالنظر إلى أفعاله ، وان وقع فيه(4/68)
ج4ص69
بالنظر إلى فعا! غيره كقوله : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } [ سورة القصص ، الآية : 8 ] إذ ترتب فوائد أفعاله تعالى عليها تنبيه على العلم التانم فبينهما مباينة ولم يعتبر ابن هثام وغيره فيها هذا القيد وجعلها لا ما تدل على الصيرورة والمآل مطلقاً فيجوز أن تقع في كلامه تعالى وعليه المصنف ، والفرق بين لام العاقبة وهذه في كلامه تعالى من حيث إن ترتب الفائدة في الأولى لمجرّد الإفضاء لا السببية والاقتضاء بخلاف الثانية ، ولهذا كانت لام عاقبة إن لم يرد الخذلان على طريقة المصنف رحمه الله ، وسيأتي الكلام عليه قريبا وهذا مما من الله به وينبغي للطالب حفظه. قوله : ( أو للتعليل على أنّ فتنا متضمن معنى خذلنا ) الخذلان تركه على ما هو فيه من الغواية من غير إرشاد واغاثة فالفتن متضمن معنى الخذلان لأنه سبب لافتتانهم وهو سبب لذلك القول أو هو من إطلاق المسبب على السبب واللام في هذا للتعليل لأنه سبب مقتض له ، وان لم يكن باعثا عليه وعلى ما قبله كان ابتلاء بعضهم ببعض لما مرّ مؤدّيا إلى
الحسد المؤذي إلى ذلك القول فاللام لام العاقبة والثاني هو المذكور في الكشاف بناء على مذهبه من أنّ الفتن أمر قبيح لا يسند إلى الله ، فإن كان هذا نقلاً لكلامه وأخره إشارة إلى أنه ليس مذهبنا المرضيّ عنده فظاهر ، وان كان بياناً لمعنى يحتمله النظم فالخذلان لا ينافي كون ذلك بإيجاده فكلام الزمخشريّ إشارة إلى نفيه وكلام المصنف وحمه الله ساكت عنه ، وأورد هنا بعضهم سؤالاً ، وهو فإن قيل التعليل هنا ليس بمعناه الحقيقي لأنّ أفعله تعالى منزهة عن العلل والأغراض فيكون مجازا عن مجرّد الترتب وهو في الحقيقة معنى لام العاقبة فلا وجه للترديد ، وقيل هما مختلفان بالاعتبار فإن اعتبر تشبيه الترتيب بالتعليل كانت لام تعليل وان لم يعتبر كانت لام عاقبة وفيه إنّ العاقبة أيضاً استعارة فلا يتم هذا الفرق إلا على القول بأنه معنى حقيقيّ ، وعلى خلافه يحتاج إلى فرق آخر فليتأمّل. قوله : ( بمن يقع منه الإيمان والشكر الخ ) الباء الأولى زائدة والثانية متعلقة بأعلم وفي الدرّ المصون العلم يتعدّى بالباء لتضمن معنى الإحاطة وهو كثير في كلام الناس نحو علم بكذا وله علم به وذكر الإيمان لأنّ الشكر على النعم الممنون بها عليهم وهي تفضيلهم في الدين ، وذكره الخذلان على الوجه الثاني أو عليهما لأنه لارّم له ، وتد أشرنا إلى ما فيه قريبا. قوله : ( وصفهم بالإيمان بالقرآن الخ ) الآيات تطلق على آيات القرآن وعلى الحجج وكل منهما صحيح هنا كما أشار إليه المصنف رحمه الله لكن كان الظاهر أو مكان الواو ولذا قيل المراد بالحجج هنا الحجج القرآنية ، ثم إنه جوّز في الباء هنا أن تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به بسبب نزول الآيات ، وقوله : بعدما وصفهم بالمواظبة الخ إشارة إلى ما مرّ في تفسير الغداة والعشيّ ، أمّا على الوجه الأوّل فظاهر ، وأما على الثاني فلأن من واظب على هذين الوقتين مع كثرة تشاغل الناس عنهما لزمه المواظبة على غيرهما ، وقوله بأن يبدأ بالتسليم أي وان كان في محل لا ابتداء به فيه إكراماً لهم بخصوصهم كما روي عن عكرمة والا فالسلام منه ليس مخصوصاً بهؤلاء. قوله : ( ويبثرهم بسعة رحمة الله الخ ) تفسير لقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } والسعة مأخوذة من شمولها لمن أذنب في قوله إنه من عمل الخ ، ولم يعطف على ما قبله لأنّ جملة السلام دعائية إنشاثية و-الذانا تعليل لقوله وصفهم الخ وفضيلتي العلم والعمل من قوله يدعون ويؤمنون ، وقوله : ( من الله بالسلامة ) مبنيّ على الوجه الثاني في سلام ، وقوله : ( وقيل الخ ) وجه آخر في المراد بالذين وهو حديث مرسل رواه الفريابي وغيره ، وفاعل نزلت ضمير يعود
على هذه الآية وفي هذه الآية دليل على إطلاق النفس على الله من غير مشاكلة كما تقدم. توله : ( اسمئناف ا لفا نحويّ أو بيانيّ ، كأنه قيل وما هي وفي قراءة الفتح وجوه منها ما ذكره ، وقيل إنه على تقدير اللام وقيل إنه مفعول كتب والرحمة مفعول له وقوله كعمر إشارة إلى ما روي سابقاً وأشار بمعنى رأى ذلك رأياً وروي أنه رضي الله عنه بكى عند نزولها وقال معتذراً ما أردت إلا خيرالم ا ( . توله : ( في موضع الحال الخ ( الجهل له معنيان كما في الكشاف عدم العلم بالشيء أو بعاقبتة والمخاطرة من غير نظر إلى العواقب كما في قوله :
ونجهل فوق جهل الجاهلينا
ولذا تمتدح به العرب فعلى الأوّل المراد بها الهالة بمضارّ ما يفعله ، وعلى الثاني السفه
من غير تقديره فعول وقوله وأصلح آي في توبته بان أتى(4/69)
ج4ص70
بشروطها ولذا ذكر العزم على عدم العود مع أنه لا بد منه في التوبة ، قيل وهذه الآية سيما على الوجه الثاني تقوّي مذهب المعتزلة حيث ذكر في مقام بيان سعة الرحمة أنّ عمل السوء إذا قارن الجهل ئم حصلت التوبة والإصلاح فإنه يغفر ولذا قيل : إنها نزلت ! في عمر رضي الله عنه لما قال لرسول الله !ت : " لو أجبتهم لما قالوا لعل الله يأتي بهم " قاله حين لم يعلم المضرّة وتاب وأصلح وأورد عليه أنه تقرّر في الأصول أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزول الآية في حق عمر رضي الله عنه لا يدفع الإشكال ( قلت ) يريد أنّ اللفظ ليس عامّا وخطاب منكم لمن كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله عنه فلا إشكال ، وفسر ضمير بعده بالعمل أو السوء ولو فسره بالجهالة الملتبسة بالسوء كان أظهر ، وقوله : ملتبساً بفعل الجهالة إشارة إلى أنه حال مؤكدة حينئذ. قوله : ( فتحه من فتح الأوّل غير نافع الخ ) ذكر فيها وجوه منها ما ذكره المصنف ، ومنها أنها منصوبة بفعل مقدر أي فليعلم أنه ، وقيل إنها تكرير للأولى للتأكيد وطول العهد ، والجواب محذوف وهو بعيد ، وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية ، وهي قراءة الأعرج والزهراوي وأبي عمر والداني ولم يطلع على ذلك أبو شامة رحمه الله فقال : إنه محتمل إعرابي وان لم يقرأ به وليس كما قال. قوله : ( وكذلك نفصل ) قد مرّ الكلام على ذلك وقوله
في صفة المطيعين والمجرمين خالف فيه ما في الكشاف حيث قصره على الثاني لظاهر قوله سبيل المجرمين ، والمصنف رحمه الله رأى الاقتصار عليهم لأنّ بيان أحوالهم أهنم هنا لما فيها من المفاسد التي يجب التنبيه عليها أو اكتفاء بذكر أحد الفريقين واستبان كتبين يكون لازما ومتعدياً ، وقد دل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ } [ سورة الأنعام ، الآية : 39 ] على أهل الطبع وقوله : { الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ } [ سورة الأنعام ، الآية : 51 ] على أهل إمارة القبول وقوله : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا } على المطيعين أو المفرطين قال النحرير : قوله فصلنا ذلك إشارة إلى تقدير متعلق لام لتستبين وقدره ماضيا نظراً إلى ما اقتضاه المعنى ، وذكر تفصيل الآيات بلفظ المضارع لقصد الاستمرار وتناول الماضي والآتي ، ومبناه على كونه من قبيل ضربت كذلك وهو على التشبيه ظاهر أيضا ، وتذكير السبيل وتأنيثه لغتان مشهورتان وقوله بما نصب الخ راجع لصرفت ، وأنزل راجع لزجرت على اللف والنشر المرتب ، ولتستبين معطوف على مقدر هاليه أشار المصنف رحمه الله بقوله ليظهر الحق الخ. قوله : ( عن عبادة ما تعبدون ) تفسير لقوله إن أعبد فتدعودط إما بمعنى تعبدون لتضمن العبادة للدعاء أو بمعنى تسمونها آلهة ، وقوله : تأكيد لقطع أطماعهم جعله تأكيداً لأنه يفهم من نهيه عما هم عليه المذكور قبله مع استمرار المضارع المنفي هنا والموجب للنهي كون ما هم عليه هوى باطل واستجهالهم من اتباع الهوى وترك الهدى ، أو من قوله نهيت لأنّ من لم تنهه الأدلة فهو جاهل واليه جنح الزمخشري. قوله : ( وتنبيه لمن تحرّى الحق الخ ) قيل إنه ميل منه إلى مذهب الأشعري وغيره من أنّ إيمان المقلد غير صحيح في حق الآخرة كما تقرّر في الأصول ، ولك أن تفول مراده بمن تحر 3 ، الحق من يقدر على الاستدلال ، والمراد بقوله ولا يقلد التقليد الصرف كما يفعله الكفرة وأهل الاهواء. قوله : ( أي في شيء من الهدى ) قيل هو من المهتدين أبلغ من هو مهتد
فنفيه بالعكس فهو هنا لتأكيد الخفي لا لنفي التأكيد ، واليه أشار المصنف بقوله في شيء من الهدي وهو معنى دقيق ، وهو ردّ لما قيل إنّ في هذا التفسير نظراً لأنّ هذا الأسلوب في الإثبات يوجب أن يكون المدخول ليس ممن له حظ قليل في ذلك الوصف بل له حظوظ وافرة ، وفي السلب يوجب أن يكون المدخول له حظ ما فيه وفي الكشاف في قوله تعالى : { لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ } [ سورة الشعراء ، الآية : 168 ] قولك فلان من العلماء أبلغ من قولك فلان عاليم لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم معروفا بمساهمته لهم وعراقته في وصفه وأجيب بأن إفادة معنى الاستغراق في نفي الهدي ليست من هذا القبيل بل جواب لما دل عليه قل لا أتبع أهواءكم على سبيل التعريض كأنه قيل إن اتبعت أهواءكم ضللت وكنت منكم وممن انغمس وتوغل في الضلال ولا أكون من الهدى في شيء مثلكم ، وهو يدل على أنه من زمرة المهتدين المساهمين فيه ، وهو وأن كان له وجه لكن الأوّل أولى ، وهذه الفائدة قد ذكرها ابن جني رحمه الله في الخصائص وقد بسطنا الكلام فيها في غير هذا(4/70)
ج4ص71
المحل وقيل إنه يريد أنّ نفي كونه من المهتدين يستلزم نفي كونه في شيء من الهدى لأنّ الشخص بأدنى شيء يعدّ منهم ، وقوله : وفيه تعريض بأنهم كذلك فهو كقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ سورة الزمر ، الآية : 65 ] كما تقرّر في المعاني. قوله : ( والبينة الدلالة الواضحة الخ ) هكذا فسرها الراغب على أنها من بان يبين بمعنى ظهر ، ولذا قيل فالوضوح ليس مأخوذاً من التنكير كما قيل وقوله التي تفضل الخ إشارة إلى أنها من البينونة بمعنى الانفصال والمعنى الأصلي ملاحظ فيها وان صارت بمعنى الدليل ، ولما قال في الكشاف بعد تفسيرها بما ذكر يقال أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتاً عندك بدليل علم أنّ قيد الوضوح ليس في مفهومها فلذا قيل إنه مأخوذ من التنكير وبان بمعنى ظهر وبمعنى انفصل معنى آخر فلا ينبغي خلطهما ، وقيل المراد القرآن فعطف الوحي عليه من عطف العامّ على الخاص والبينة ما به التبيين أو المبينة ، وقوله من معرفته إشارة إلى تقدير مضاف في أحد الوجهين. قوله : ( على بينة من ربر ) إن قيل معناه على حجة من جهة ربي فعلى هذا من ربي صفة لبينة على معنى كائنة من ربي صادرة عنه ، وضمير به للبينة لأنها بمعنى البيان والمثبت كما قاله الزجاج لا لربي إذ الفرق للتفرقة ، والتفصيل بينه وبينهم ، وذلك إني صدقت بالبينة وأنتم كذبتم بها بخلاف ما إذا قيل وأنتم كذبتم بربي وأمّا على الوجه الآخر فالمعنى من معرفة ربي فيعود الضمير على ربي لأنّ المعنى أني صدقت به وأنتم كذبتم به وعليه فالخبر مقدر يتعلق به على بينة ومن ربي أي على بينة لأجل معرفة ربي ،
ويجوز أن بكون من ربي صفة بينة أيضاً ومن اتصالية أي بينة متصلة بمعرفة ربي أنا عليها كما في شروح الكشاف فنزل عليه كلام المصنف رحمه الله ، وقوله باعتبار المعنى إشارة إلى تأويل البينة بما مرّ. قوله : ( في تعجيل العذاب وتأخيره ) قيل هو أولى من تخصيص الزمخشريّ بالتأخير ثم إنه قد سلك مسلك المصنف في تفسير يقضي وكأنه لم يقف على مراده من أنّ المقصود من قوله : إن الحكم إلا لقه التأسف على وقوع خلاف مطلوبه كما يشهد به موارد استعماله ، وهو على التأخير فقط ثم أردفه بالقضاء بالحق فيهما تكميلا للخاص لإردافه بأمر عام كقوله : { الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ سورة الملك ، الآية : ا ] وهو أولى مما ذكره المصنف فلله درّ العلامة ما أدق نظره. قوله : ( أي القضاء الحق ا لما كان القضاء يتعدّى بالباء لا بنفسه قالوا : إنّ الحق منصوب على المصدرية لأنه صفة صدر مصدر محذوف قامت مقامه أو يقضي ضمن معنى ينفذ أو هو متعدّ من قضى الدرع إذا صنعها كقوله : وعليهمامسرودتان قضاهما داود
فهو استعارة وقوله فيما يقضي ظرف ليقضي على المعنيين ، وقوله : وأصل الحكم المنع
من حكمة لجام الفرس وقوله : من قص الأثر أي بالصاد المهملة المشدّدة قيل وهذه قراءة لا تناسب ما بعده فإنّ قوله خير الفاصلين يقتضي ذكر القضاء قبله والا لقيل خير القاصين وردّ بأنه قرئ بذلك فكأنّ هذه القراءة لم تبلغه وبأنّ القصص بمعنى القول وهو يوصف بالفصل كما في قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [ سورة الطارق ، الآية : 13 ] ، وغيره فيناسبه مع أنّ معنى يقصه أنه بينه بياناً شافياً وهو عين القضاء ، وقضى الأمر بمعنى قطع ، وقطع الأمر بينه وبينهم كناية عن إهلاكهم. وقوله : ( يؤخذ الخ ) أي يهلك ويؤخر هلاكه وفسر عنده بما هو في قدرته لأنه يشترط فيها الحضور بالفعل ولذا قد يراد بها العلم أيضا وجعله في المعنى استدراكا لأنّ مآله لو قدرت أهلكتكم ، ولكن الله أعلم بمن يهلك من غيره وله حكمه في عدم التمكن منه. قوله : ) خزائنه جمع مفتح بفتح الميم الخ ) هو بالفتح المخزن والخزانة والكنز لأنه مما يفتح فكأنه محل الفتح ، والمفتاح والمفتح بكسر ميمي ما آلة الفتح وسمة في العنق والفخذ قيل والأنسب جعله بمعنى الكنز على أنّ مفاتح الغيب من قبيل لجين الماء ، وأخر الزمخشري تفسيره بالخزائن لعدم
تبادره من لفظ المفاتح ، وعليه فهو استعارة مكنية وتخييلية شبه الغيب بأمور تحفظ وتصان ، وأثبت لها المخازن تخييلاً ، والمقصود أنّ علمها مخصوص به لأنه يلزم من علم المخازن علم ما حفظ فيها ، ولذا لم يعطف عليه جملة لا يعلمها إلا هو لاتحادهما معنى فهي مؤكدة ، وقال الإمام المراد على هذا التفسير أنه القادر على جميع الممكنات كما في قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } [ سورة الحجر ، الآية : 21 ] ، والخزائن والمخازن متقاربان بأن معنى لكن الأولى لغة القرآن الفصيحة فلذا فسر النظم بها ثم أشار بعد إلى أنهما بمعنى فلا يقال لو قال مخازنه لكان أنسب(4/71)
ج4ص72
بما بعده والأمر فيه هين. قوله : ( مستعار الخ ) يعني أنها مكنية وتخييلية إذ شبه الغيب بالأشياء المستوثق منها بالأقفال وإثبات المفاتيح تخييل كإظفار المنية ، وأمّا جعلها تمثيلية فبعيد ، وكذا جعل المفاتح بمعنى لعلم وجعله قرينة المكنية بناء على أنه لا يلزم أن يكون حقيقة كما تقرّر في ينقضون عهد الله أو هو استعارة مصرحة والإضافة إلى الغيب قرينتها ، وهذا أسلم من التكلف ، وجوّز فيه أن يكون مجازاً مرسلا فإنّ كونه مفاتح الغيب مستلزم للتوصل إليه ، وتأييد قراءة مفاتيح ظاهر ، ولذا قيل إنّ مفاتح جمع مفتاح كما قيل في جمع محراب محارب وجوّز الواحدي في مفتح بفتح الميم أن يكون مصدرا بمعنى الفتح. قوله : ( والمعنى أنه المتوصل الخ ) الظاهر أنه تفسير للوجه الثاني وينتقل منه إلى معنى الأوّل كما خصه به الزمخشرفي وجعله تفسيراً لهما ينبو عنه اللفظ ، وقوله إنه المتوصل الحصر من تقديم الخبر ، والمراد بالتوصل إحاطة العلم والإحاطة تؤخذ من لام الاستغراق ، ووجه اختصاصها به تعالى أنه لا يعلمها كما هي ابتداء إلا هو ، وقيل المراد بالغيب المغيبات الخمس ، وفي الانتصاف لا يجوز إطلاق المتوصل على الله إذ لم يرد إذن به مع إيهامه بتجدد الوصول ، وما في صيغة التوصل من الإشعار بأنه وصل بعد تباعد عن نيله ولا يدفعه ما قيل إنه يراد به الاستمرار التجددي ولذا أشار النحرير إلى أنه مرتضى عنده وهو غير وارد على المصنف رحمه الله لأنه وصف به العلم ولم يطلقه على الله. قوله : ( فيعلم أوقاتها ) فيه إشارة إلى ربطها بما قبلها وهو ظاهر وقوله وفيه دليل الخ أورد عليه أنّ علمه تعالى ليس بزمانيّ فلا قبلية ولا بعدية بينه وبين الأشياء الواقعة في الأزمنة وأجيب بأنه عند من جوّز كون علمه زمانيا لا إشكال فيه ومن منعه وهو الصحيح تأوّل القبلية والبعدية بأنها بالنظر إلى وجود المعلوم دون العلم أو بالنظر إلى تعلقه الحادث ، وقيل لا شك في تقدم ذاته تعالى وعلمه على المصنوعات غايته أن ذلك التقدم ليس بزمانيّ بل بنوع من التقدم كتقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض كما حقق في محله يعني
أنّ قبل هنا مجاز عن مطلق التقدم ، وهو وجه حسن. قوله : ( عطف للأخبار الخ ) أي هو معطوف على قوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } الخ لأنّ قوله لا يعلمها إلا هو كالتأكيد لها فلا يصح عطفه عليه لأنه لا يصلح للتأكيد ولو كان علمه لها على وجه التفصيل والاختصاص لأنّ علم الغيب والشهادة متغايران ، فلا يؤكد أحدهما الآخر ، نعم من لم يجعلها مؤكدة يجوزه فيكونان مستأنفتين لتفصيل علمه وشموله ولا تعلق له بما قبله ، ويصح أنّ المجموع مؤكد لاشتماله على مضمون ما قبله لأنه ليس توكيداً اصطلاحياً ، وجعل المعرب الجملة الأولى حالاً فلا مانع من العطف عنده والمصنف رحمه الله لم يتعرّض! لذلك فكلامه يحتملهما. قوله : ( ألا يعلمها ) حال من ورقة وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النفي والتقدير ما تسقط من ورقة إلا عالماً بها لصحة التفريغ في الحال أو نعت لها بناء على جوازه فيه كما في قوله تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ سورة الحجر ، الآية : 4 ] ومن في من ورقة زائدة في الفاعل وما بعده معطوف عليه ، وقرئ بالرفع عطفاً على المحل وسيأتي وقوله مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات ردّ على الفلاسفة في قولهم إنه لا يعلمها وهو قول باطل ، إلا أنّ المحقق الطوسي أنكره وقال إنهم لم يفهموا كلامهم ، وله فيه رسالة جليلة. قوله : ( بدل من الاستثناء الأوّل بدل الكل الخ ) قال أبو البقاء رحمه اللّه : إلا في كتاب إلا هو في كتاب مبين ، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه يعلمها لأنه يصير المعنى وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في كتاب فينقلب المعنى من الإثبات إلى النفي فإذا يكون الاستثناء الثاني بدلاً من الأوّل أي ولا تسقط من ورقة ولا حبة ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وما يعلمها إلا هو ، وهذا معنى قوله في الكشاف إنه كالتكرير وقيل أي من جهة المعنى على ما بين وأما من جهة اللفظ فهو صفة للمذكورات كما أنه لا يعلمها إلا هو صفة لورقة ، وأمّا ما يقال إنه تأكيد للاستثناء الأوّل أو بدل وإنه ليس استثناء من لا يعلمها اللزوم كونه نفياً من الإثبات لكون لا يعلمها إلا هو إثباتاً من المنفي فمما لا ينبغي أن يصفي إليه المحصل ، ا! فهو اسنثناء من أعمّ الأوصاف والمعنى ما تسقط من ورقة بوصف إلا بأنه يعلمها وكذا حال إلا في كتاب والحصر إضافيّ بالنسبة إلى غير العلم ، والذي جنح إليه إنه إن دخل في حيز العطف لم تصح البدلية والا فلا لتخلل العطف(4/72)
ج4ص73
وفصله بين البدل والمبدل مع أنه قيل عليه إنّ صفة شيء كيف تكون تكرير الصفة شيء آخر معنى ، ووجه كونه بدلاً أنّ قوله ولا رطب ولا يابس معطوفان على ورقة ليشاركاها في صفتها أعني لا يعلمها إلا هو فكأنه قيل ولا رطب ولا يابس إلا يعلمها ، ولا يخفى أنه تكلف لا
حاجة إليه وأنّ ما أورده غير وارد لأنّ الورقة داخلة في الرطب واليابس فلا تغاير بحسب المعنى فصح ما ذكره وسيأتي له تفصيل في سورة يونس.
قوله : ( أو بدل الاشتمال ) ولا يصح أن يكون بدل كل من كل لعدم اتحادهما وهو ظاهر ، وأما ما قيل أنّ اللوح محل معلوماته فيؤول إليه فتكلف لا حاجة إليه مع صحة الاشتمال ، وكذا ما قيل إنه حينئذ يصح أن يكون بدل كل من حيث إنّ كونها في اللوج كناية عن كونها معلومة له لأنه خلط بين التفسيرين بجعلهما واحداً والكلام ناطق بخلافه ، وقال الزجاج : إنه تعالى أثبت المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وفائدة ذلك أمور أحدها اعتبار الملائكة موافقات المحدثات للمعلومات الإلهية ، وثانيها تنبيه المكلفين على عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب حيث ذكر أنّ الورثة والحبة في الكتاب ، وثالثها عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب ولذا قال جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهذا الكتاب يسمى اللوج المحفوظ. قوله : ( استعير التوفي الخ ( أشار بذكر المصدر إلى أنّ الاستعارة تبعية وقوله في زوال الإحساس إشارة إلى وجه الشبه بينهما والظاهر أنّ أل فيه للعهد أي إحساس الحواس الظاهرة لأنه ذكر في سورة يوسف أن الحواس الباطنة تدرك في النوم ، وقيل إنه بناء على ما اشت!هر من أنّ النوم ضد الإدراك ، وجعل صاحب التلخيص وجه الشبه عدم ظهوو الفعل وقوله جرياً على المعتاد أي من الكسب في النهار وعدمه في الليل والا فقد يعكس. قوله : ( يوقظكم الخ ( يعني أنّ البعث بمعنى الإيقاظ ضمير فيه للنهار على ما ذهب إليه كثير من المفسرين والزمخشري لما رأى قوله : { يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } ( دالاً على حال اليقظة وكسبهم فيها وكلمة ثم تقتضي تأخير البعث عنها عدل عنه فقال في تفسيره ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل ، وكسب الآثام بالنهار ومن أجله كقولك فيم دعوتني فتقول في أمر كذا فجعل الضمير جارياً مجرى اسم الإشارة عائدا على مضمون كونهم متوفين وكاسبين ومفى في هو حاصل معنى لام العلة والأجل المسمى هو الكون في القبور قال النحرير : ولا يخفى ما فيه من التكلف وأنه لا حاجة إليه لأنّ قوله : { يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي وأنّ الإيقاظ متأخر عن التوفي وان قولنا يفعل ذلك التوفي لنقضي مدة الحياة المقدّرة كلام منتظم غاية الانتظام ، ولا يخفى أنه تكلف بعيد وما قيل في وجه التراخي أنّ
حقيقة الإنامة في الليل تتحقق في أوّله ، والإيقاظ متراخ عنه وان لم يتراخ عن جملته ليس بسديد لأنه لا وجه حينئذ لتوسط قوله : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } ومعنى جرحتم كسبتم مأخوذ من جوارج الطير. قوله : ( ترشيحا للتوقي ) قيل فعلى هذا يكون الترشيح مجازاً ، وقد يقال إنه ليس بمجاز ، ولا يخفى أنّ الترشيح له نوع خصوص بالمشبه والبعث مما لا خصوص له إذ يقال بعثه من نومه إذا أيقظه كما صرّح به في المطول ولك أن تتكلف بأنه كذلك في اللغة لكنه حقيقة شرعية في إحياء الموتى في الآخرة ( قلت ) كونه ترث!يحاً باعتبار ما ذكر. ، وأنه المتبادر في عرف الشرع وان كان لغة أعنم وإذا أسند إليه تعالى لم بفهم منه إلا هذا أو الإيجاد وبعث هنا ليس مجازاً كما توهم بل حقيقة جعل ترشيحا لما مرّ ولا يشترط في الترشيح اختصاصه بالمشبه به ، بل أن يكون أخص به بوجه كما قرّروه في قوله :
له لبد أظفاره لم تقلم
إذ جعلوا لم تقلم ترشيحا والبعث في الموت أقوى لأنّ عدم الإحساس فيه أقوى فإزالته
أشد ، وهو ظاهر وإن خالفه ما في المطوّل لأنه غير مسلم حتى جعله بعضهم قرينة في قوله من بعثنا من مرقدنا مع أنّ البعث حقيقة في الإيقاظ لكن المتبادر منه ما ذكروا لا لم يكن ترشيحا بل تجريدا ، ولو سلم أنه مجاز فهو لا ينافي الترشيح ، قال في الفرائد : الترشيح يجوز أن يكون باقياً على حقيقته تابعا للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها وأن يكون مستعارا من ملائم المستعار لملائم المستعار له ، فلا يتجه ما قيل فيه بخث لأنه لما كان(4/73)
ج4ص74
البعث مجازاً عن الإيقاظ لم يكن من الترشيح في شيء ، لأنّ الترشيح باق على حقيقته لا يعتبر فيه تشبيه ولا استعارة ، والذي غرّه ظاهر كلامهم ، وكذا ما قيل البعث الإثارة لا الإيقاظ غايته أنّ بعث النائم يكون !ايقاظه فلا ترشيح فيه ولو قلنا بعث النائم بايقاظه لا يكون ترشيحاً بل تجريداً. قوله : ( ليبلغ المتيقظ الخ ) الظاهر إنه علة غائية لما تقدم أعني ، وهو الذي يتوفاكم الخ أي جعل هذا منتهى أعماركم ، وقوله : أخر أجله إما تفسير للمراد من الأجل ، أو إشارة إلى أنّ المراد به مجموع العمر لأنه يطلق عليهما كما مرّ. قوله : ( ثم إليه مرجعكم ) قال الثريف المرتضى : في الدرر والغرر فيما وقع في القرآن من ذكر الرجوع إلى الله نحو إليه ترجع الأمور كيف ترجع إليه وهي لم تخرج عن يده ، وأجاب بأنه في دار التكليف قد يغير البعض فيضيف بعض أفعاله تعالى إلى غيره فإذا انكشف الغطاء انقطعت حبال الآمال عن غيره فيرجع إليه ، أو أنّ المراد أن الأمور في يده من غير خروج ورجوع حقيقي فرجع بمعنى صار تقول العرب : رجع عليّ من فلان مكروه بمعنى صار ، ولم يكن سبق ، فهو بمعنى المصير إليه كما تشهد به اللغة أو أنه في دار الدنيا ما يكون للعباد ظاهراً كالعبد لسيده ، فإذا أفضى الأمر إلى الآخرة زال ذلك ورجع الأمر كله إلى الله ظاهر أو باطنا ، قيل ولو حمله على البعث من القبور لكان أولى لأنّ انقضاء الأجل يتضمن
الموت ، والظاهر أنه تمثيل مثل قدم على ربه وقوله بالمجازاة هو إمّا مجاز فيها أو كناية ثم إنه يحتمل أن يكون ما في القبر أو ما بعده أو أعثم منهما ، ولو فسر بالمحاسبة وعرض الصحف لكان أظهر. قوله : ( وقيل الآية خطاب للكفرة الخ ) هذا مختار الزمخشرقي لأنها مسوقة للتهديد كما في قوله : { ثُمَّ يُنَبِّئُكُم } الخ ولأنّ حمل البعث على الإيقاظ تكرير مع ذكر كسب النهار ولأنّ ثم تدل على التراخي وهنا ليس كذلك وقد مرّ جوابه ، وأما الجواب بأنّ واو ويعلم حالية وما عبارة عما كسب في النهار السابق كما يرشد إليه عدم إيراده بصيغة الاستقبال فلا دلالة فيه على أنّ الإيقاظ عن هذا التوفي وكلمة ، ثم إنما تدل على تأخر الإيقاظ عن التوفي دون غيره ، ولو سلم فإنما يدل على تأخره عن العلم دون الجرج ولا ضير فيه ، ف!نه يعلم في الماضي أنهم يكسبون كما في الآتي ، ثم إنّ المتبادر هو البعث عن التوفي المذكور لا عن غير المذكور فحمله عليه غير سديد لأنّ واو الحال لا تدخل على المضارع إلا شذوذاً أو ضرورة في المشهور ، وقوله : في شأن الخ يشير إلى أنّ الضمير واقع اسم الإشارة ، كما مرّ ومعنى في شأنه لأجل جزائه وحسابه وتشبيه نوم الليل بالموت لما فيه من ترك العبادة فتكون بيوتهم مقابرهم كما قيل : أيا نائم الليل هنئته فقبل الممات سكنت القبورا
وقوله ليقضي الأجل الخ فالمراد بالأجل مدة موتهم أو غايتها ، وقوله : سماه وضربه أي
عينه والبعث علة لانقضاء تلك المدة ، فإن قلت قد علل البعث بقوله فيه على هذا التوجيه فما وجه قوله ليقضي ، قلت هو تعليل لتأخير البعث المستفاد من ثم ، وفي الكشف وأما إن قضاء الأجل المسمى لا يصلح علة للبعث فليس بشيء بعدما فسره المصنف بقوله الأجل المضروب لبعثهم وجزائهم أي يبعثكم من القبور ليقضي أجل البعث والجزاء فيه ، وهو متأخر عن البعث لا محالة ألا ترى إلى قوله : { ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [ سورة يونس ، الآية : 4 ] وقال العلامة في شرح الكشاف لا شك أنّ ظاهر الآية على العموم لكن قوله : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ } يدل على تهديد شديد لا يليق إلا بالمعاندين الجاحدين ، ولهذا فسر التوفي وان كان مسندا إلى الله بانسداحهم كالجيف لأن المقصود بيان حالهم المذمومة في الليل كما أنّ قوله ما جرحتم الخ بيان حالهم المذمومة في النهار ، ويتوفاكم أي يقبض أرواحكم عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت كما في قوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ } [ سررة الزمر ، الآية : 42 ] الآية ، وفي أكثر التفاسير يبعثكم يوقظكم في النهار ليقضي أجل مسمى أي مدة الحياة ثم إليه مرجعكم بعد الممات ، ثم ينبئكم بالمجازاة وإنما عدل عنه لأنّ قوله ويعلم ما جرحتم بالنهار دال على حال اليقظة وكسبهم فيها وكلمة ، ثم تقتضي تأخر البعث عنها ، فإن قلت البعث من القبور ليس علة لقضاء الأجل المسمى فنقول المراد بالأجل المسمى مدّة الكون
في القبور لا مذة الحياة كما قالوا والبعث علة لانقضاء تلك المدّة. قوله : ( من النوم الخ ) فان قلت النوم ضروري فالنائم غير مكلف(4/74)
ج4ص75
فكيف يحاسب عليه ، قلت المراد أنه يحاسب على أسبابه ومقدماته فإنها اختيارية ألا ترى أنّ من نام في آخر الوقت حتى فاتته الصلاة يكون عاصيا بنومه. قوله : ( وهو القاهر ) قد مرّ تفسيره وفوق منصوب على الظرفية حال أو خبر بعد خبر ، وذكر الإرسال بعده ليفيد أنّ إرساله ليس لاحتياجه بل لما ذكر من الحكم ، وقوله : ( تحفظ أعمالكم ) تفسير للحفظة جمع حافظ ككتبة وكاتب ، ويحتمل أنّ المراد بهم المعقبات التي تحفظه من بين يديه ومن خلفه ، ويرسل مستأنف أو عطف على القاهر لأنه بمعنى الذي يقهر ولا يصح جعله حالاً لأن الواو الحالية لا تدخل على المضارع ، وتقدير المبتدأ لا يخرجه عن الشذوذ على الصحيح وعليكم متعلق بيرسل أو بحفظة ، والإشهاد جمع شهد كصحب وهو جمع شاهد ، أو اسم جمع له لأن فاعلا لا يجمع على أفعال إلا نادراً ، وقوله : يحتشم بمعنى يستحي ، وضمير من خدمه إمّا إلى السيد أو إلى العبد ، قيل والمبالغة في الثاني أكثر وخدم بفتحتين جمع خادم ، وهو من نوادر الجموع ، وقوله ملك الموت وأعوانه جمع عون وهو المعين والظهير ، والظاهر منه أن قبض الأرواح بجملتها ليس موكولاً إلى ملك الموت بل له أعوان يقبضونها معه ، وقيل إنّ المباشر ملك الموت عليه الصلاة والسلام واسناد الفعل إلى المباشر والمعاون معاً مجاز كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلا ، والقاتل واحد منهم وقد يسند إليه فقط ، والى الله تعالى وتوله حتى أي بلغت غلبته إلى أنهم لا يتأتى لهم مخالفة رسله في قبض الأرواح ، وليس متعلقا لإرسال الحفظة حتى يقال ليس غاية إرسال الحفظة وقت مجيء الموت إلى أحدهم. قوله : ( والمعنى الخ ) يعني معنى قراءة التخفيف والضمائر كلها للرسل ، والإفراط مجاوزة الحد وهو يكون بالزيادة والنقصان والتفريط التقصير ، ولذا فسره بالتواني والتأخير ، وقيل إنه على القراءتين ، وفيه لف ونشر مرتب إن كان ضمير لهم للناس وما عبارة عن آجالهم وغير مرتب إن كان الضمير للرسل وما عبارة عن الإكرام والإهانة ، وفيه نظر. قوله : ) ثم رذوا إلى الله الخ ) قيل الضمير للكل المدلول عليه بأحد وهو السرّ في مجيئه بطريق الالتفات والإفراد
أوّلاً والجمع آخرا الوقوع التوفي على الانفراد ، والرذ على الاجتماع أي ردّوا بعد البعث ، وقيل أيضا فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ومن التكلم إليها لأنّ الرذ يناسبه اعتبار الغيبة ، وان لم يكن حقيقة لأنهم ما خرجوا من قبضة حكمه طرفة عين ، وقيل عليه ضمير ردّوا عبارة عن الأحد العامّ إذ المراد ليس فرداً واحداً إلا عن المخاطبين فالالتفات واحد ، ثم إنّ الردّ إنما يقتضي غيبتهم وقت الردّ لا وقت الخطاب بأنكم تردّون فكأنه لم يسمع قوله : { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ } [ سورة التوبة ، الآية : 94 ] ولا يخفى أن الأحد وان كان يعمّ كما مرّ في سورة البقرة ، لكنه لما أضيف إلى المخاطبين اقتضى ذلك التغاير بينهما والردّ لا يختص بل يعمّ الجميع فرجع إلى العباد فيكون فيه التفاتان بلا تكلف ، وكون الرذ يقتضي الغيبة مما لا شبهة فيه لأنه لا يردّ إلا من ذهب وغاب فالمردود في أوّل تعلق الرذ به غائب ، وبعده يصير حاضرا ، فيجوز اعتبار كل من حاليه ، واعتبار حالة البعد أنسب بالمقام فلا يرد ما ذكره وهو لا ينافي الخطاب في تردّون ولكل وجهة.
وللناس فيما يعشقون مذاهب
وقوله : ( إلى حكمه وجزائه ) وقيل إنه الرذ من البرزخ إلى موضع العرض والسؤال ، وليس ببعيد من هذا. قوله : ( العدل ) الحق يطلق على الله إمّا مجازا وهو بمعنى العدل ، أو مظهر الحق أو واجب الوجود ، أو الصادق الوعد ، ونصبه على المدج ، أو على أنه صفة للمفعول المطلق أي الردّ الحق ، فلا يكون حينئذ المراد به الله. قوله : ( لا يشنله حساب عن حساب ) هذا بناء على أنه يحاسبهم ، وقيل إنه يأمر الملائكة بذلك فيحاسب كل إنسان ملك وإذا حاسبهم بنفسه في زمان قليل لزم أن لا يشغله حساب عن حساب فلا يرد ما قيل إن هذا المعنى لا يدل عليه قوله اسرع الحاسبين ، وقوله مقدار حلب شاة عبارة عن تقليل زمانه وهو أنه عنده. قوله : ( فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب ) أي إنه يوم اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته ، وقوله ذو كواكب كقوله :
إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
بناء على أنّ الليل إذا لم يستتر بنور القمر ظهرت الكواكب صغارها وكبارها ، وكلما اشتدت ظلمته اشتد ظهور الكواكب فيه ، ومن الأمثال القديمة رأى الكواكب مظهراً أي أظلم يومه لاشتداد الأمر فيه كما قال الهذلي :(4/75)
ج4ص76
إني أرى وأظن أنّ ستري وضح النهاروعالي النجم
وقد تلطف بعض المتأخرين فيه إذ قال :
قد أعرت الشباب غيري وما زال شباب الإنسان ثوبا معارا
أطلع الشيب في عذارى نجوما فرأيت النجوم منه نهارا
قوله : ( أو من الخسف ) معطوف على قوله من شداندهما قيل فهو على الأوّل استعارة للهول ، وعلى هذا المراد حقيقة الظلمات يعني ليس المراد شذة الخسف والغرق حتى يدخل هذا الوجه في الأوّل فيكون أعئم منه بل المراد ظلمة البرّ بالخسف في الأرض ، وظلمة البحر بالغرق فيه فتغايرا ، ومنهم من جعله كناية عن الخسف والغرق فهو حقيقة أيضا. قوله : ( معلنين ومسرين ( يعني نصبها على الحال أو المصدرية ، وقيل بنزع الخافض ، والإعلان والإسرار ي!ضمل أن يراد بهما ما باللسان والقلب ، وقراءة خفية بالكسر لأنها لغة فيه كالأسوة والأسوة. قوله : ( على إرادة القول ) أي تقديره والقول المقدر حال أو على إرادة معناه من تدعون بناء على مذهب الكوفيين في الحكاية بما يدلّ على معنى القول من غير تقدير ، والصحيح الأوّل فيكون محل الجملة النصب ، وقيل إنّ الجملة القسمية تفسير للذعاء فلا محل لها ، وقرأ الكوفيون أنجانا بلفظ الغيبة مراعاة لقوله تدعونه والباقون أنجيتنا بالخطاب حكاية لخطابهم في حالة الدعاء. قوله : ( غتم سواها ( أمره بالجواب تنبيها على ظهوره كما مرّ أو إهانة لهم إذ لا يلتفتون لخطابه ، والمصنف رحمه الله نظر إلى الظاهر فخصه بقوله سواها لتقدم قوله منها فكل للتكثير حينئذ ، ولا حاجة إليه بل يجوز أن تبقى على أصلها من التعميم والإحاطة وذكر التعميم بعد التحصيص كثير ، ولا يعدّ تكرأراً ، ثم إنّ المراد بالكرب ما يعم ما تقدم ولا محذور في التعميم بعد التخصيص أو أهوال القيامة ، أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى كالأمراض والأسقام ، فما قيل إن هذا يدلّ على أنّ المراد بما تقدم كرب مخصوص كالخسف والغرق والا فشدائد البر والبحر تتناول جميع الشدائد والكرب فلا فائدة في التعميم ، أو الأولى نعمة رفع وهذه نعمة دفع هانه من قبيل متقلداً سيفاً ورمحاً تكلف لا داعي له. قوله : ( تعودون إلى الشرك الخ ( لأنّ الخطاب للمشركين وشركهم مقدّم على ذلك ، فالشرك المذكور بالمضارع ، وثم شرك آخر عادوا إليه بعد النجاة كما يقتضيه السياق ، وهذا يؤيد ما سلكه الزمخشرقي سابقا من تخصيص الخطاب بالكفرة ووضع تشركون موضع لا تشكرون ا ) أي هو مقتضى الظاهر المناسب لقوله : { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } لأنّ إشراكهم تضمن عدم صحة
عبادتهم وشكرهم ، لأنه عبادة بل نفيها لعدم الاعتداد بها معه إذ التوحيد ملاك الأمر ، وأساس العبادة فوضعه موضعه توبيخا لهم لعدم الوفاء بالعهد ، ولم يذكر متعلقه لتنزيله منزلة اللازم تنبيهاً على استبعاد الشرك في نفسه. قوله : ( قل هو القادر ) في الكشاف هو الذي عرفتموه قادرا أو هو الكامل القدرة ، ولشراحة فيه كلام فقيل مراده أنها للعهد أو للجنس ، وأنّ الحصر فيه باعتبار الكمال أو لخصوص هذه الأشياء المذكورة في النظم ، وإنما أوّله بذلك لأنّ في هذه الأمور شروراً وقبائح لا تسند إليه عند المعتزلة ، وفيه تفصيل كفانا المصنف رحمه الله مؤنته بتركه وقوله : { مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } المراد به جهة العلو وجهة السفل ، فلا يتوهم أنّ الماء ليس تحت أرجلهم ، والذي من فوقهم كأمطار حجارة من سجيل في قصة الفيل ، وأرسال السماء في قصة نوح وإمطار الحجارة على قوم لوط عليه الصلاة والسلام. قوله : ( أو يلبسكم ) معنى يلبسكم يخلطكم فقيل : المراد اختلاط الناس في القتال بعضهم ببعض ، وهو مراد المصنف رحمه الله ، وقيل : المراد يخلط أمركم عليكم ففي الكلام مقدر وخلط أمرهم عليهم بجعلهم مختلفي الأهواء وشيعا جمع شيعة ، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر ، وهو حال وقيل إنه مصدر منصوب بيلبسكم من غير لفظه. قوله : ( فينشب القتال بينكم الخ ) أصل معنى النشوب التعلق وفي الحديث قد نشبوا في قتل عثمان رضي الله عنه ) 1 ( ، أي وقعوا فيه ويكون نشب بمعنى لبث نحو لم ينشب أن مات أي لم يلبث وليس مراداً هناه قوله : ( وكتيبة الخ ( هو شعر للفرار السليّ وهو :(4/76)
ج4ص77
وكتيبة لبستهابكتيبة حتى إذا التبست نفضت لهايدي
فتركتهم نفض الرماح ظهورهم من بين منعقروآخرمسندي
ما كان ينفعني مقال نسائهم وقتلت دون رجالها لاتبعدي
فلبستها بمعنى خلطتها فالتب!ست أي اختلطت ، والمراد بقوله نفضت لها يدي أنه فرّ يقال نفضت يدي من فلان إذا وكلته لنفسه ، ويقال في ضده قبضت كفي وجمعت عليه يدي ، والمراد تبريه منهم وتركهم وشأنهم كقوله : { فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ } [ سورة الحشر ، الآية : 6 ا ] يريد أنه مهياج للشر خبير بمداخله ومخارجه وفيه طرف من اللؤم والجبن ، ولذا
عيب عليه هذا المقال ، والكتيبة بالتاء المثناة الجيش. قوله : ( يقاتل بعضكم بعضاً ) هذا التفسير مأثور ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ة سألت الله أن لا يبعث على أمّتي عذاباً من فوقها أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك وسألتة أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل عليه الصلاة والسلام أن فناء أمتي بالسيف " ( 1 ( . فإن قلت كيف أجيبت الدعوتان وقد وقع الخسف وسيكون خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بالجزيرة. قلت الممنوع خسف مستأصل لهم ، وأمّا عدم إجابته في بأسهم ، فبذنوب منهم ، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم ، ونصيحته لهم لم يعملوا بقوله. قوله : ( بالوعد والوعيد ) فسره بعضهم بقوله يحوّلها من نوع إلى آخر من اً نواع الكلام تقريراً للمعنى وتقريبا إلى الفهم ، والوعد والوعيد لا يناسب قوله : { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } وقيل الترغيب والترهيب ربما يحمل الإنسان على تأمّل يقوده إلى برهان ، وهذا مصحح لا مرجح وقوله الواقع لا محالة الخ لف ونشر مرتب والصدق صدق إخباره وأحكامه. قوله : ( بحفيظ وكل إلئ أمركم ) أصل معنى التوكيل أن تعتمد على غيرك قال تعالى : { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } والموكل على القوم هو الذي فوّض! أمرهم إليه فهم يعتمدون عليه ، ويلزمه حفظهم فكونه بمعنى حفيظ ايشعمال له في لازم معناه قال الراغب ما أنت عليهم بوكيل أي بموكل عليهم وحافظ ، ووكيل فعيل بمعنى مفعول في قوله : { وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } ، أي اكتف به أن يتولى أمرك ويتوكل لك. قوله : ( أما العذاب ) فالنبا بمعنى المنبأ به أو بمعنى المصدر أي الأنباء ، وقوله : وقت استقرار وفسره لأنه المناسب لما بعده وأمّا جعله مصدراً ميميا بمعنى الاستقرار فغير مناسب لكن قول المصنف رحمه الله ووقوع إن عطف على استقرار على أنه بيان للاستقرار فظاهر ، ويصح عطفه على وقت فيكون تجويزاً للمصدرية فيه لكنه خلاف الظاهر. قوله : ( بالتكذيب الخ ا لما كانت قريش تفعل ذلك في أنديتها ، ولذا أتى بإذا الدالة على التحقيق
بخلاف النسيان وفسر الإعراض بعدم المجالسة ، وإن احتمل غير ذلك لدلالة قوله : ولا تقعد عليه ثم إنه قد استدلّ بهذه الآية على أن إذا تفيد التكرار حيث حرم القعود مع الخائض كلما خاض وفيه نظر لأنّ العموم ليس من إذا بل من الصيغة لترتب حكم المشتق على مأخذ اشتقاقه وهو الخوض. قوله : ( اعاد الضمير الخ ) يعني إلى الآيات ، والظاهر عوده إلى الخوض أو الطعن أو مجموع ما مضى ، وأصل معنى الخوض عبور الماء استعير للتفاوض في الأمور وأكثر ما ورد في القرآن للذمّ وتخاوضوا في الحديث وتفاوضوا بمعنى ، وقوله بأن يشغلك بوسوسته هذا على سبيل الفرض إذ لم يقع ، ولذا عبر باًن ، وإمّا أن الشرطية زيدت بعدها ما واختلف في لزوم توكيد الفعل الواقع ما بعدها فالمشهور لزومه وقيل لا يلزم وعليه قوله في المقصورة :
أما ترى رأسي حاكى لونه طرّة صبح تحت أذيال الدجا
وقوله : بالتشديد يعني تشديد السين ونسي بمعنى أنسى ، وقال ابن عطية رحمه الله : نسي
أبلغ من أنسى.
تنبيه : قال في كتاب الأحكام اختار الرافضة أنّ النبيئ غت!ه منزه عن النسيان لقوله تعالى : { سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى } [ سورة الأعلى ، الآية : 6 ] وذهب غيرهم إلى جوازه انتهى ( وعندي ( أن يجمع بين القولين بأنه لا ينسى شيئاً من القرآن والوحي ويجوز في غير ذلك. قوله : ( بعد أن تذكره ) الذكرى مصدر ، والمصدر يؤنث بالتاء كضربة وبالألف كبشرى والضمير راجع إلى النهي ، وفي الكشاف وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهي قبح(4/77)
ج4ص78
مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول وهو مبنيّ على الاعتزال مع تكلفه ولذا تركه المصنف رحمه الله ، وقوله : ( ظلموا الخ ) المراد ظلم خاص والظلم وضع الشيء في غير موضعه. قوله : ) مما يحاسبون عليه ) الظاهر أنه تفسير لقوله : { مِنْ حِسَابِهِم } فيكون مصدراً بمعنى المفعول ، ولا يصح أن يكون تفسير الشيء وأمّا جعل من ابتدائية بمعنى الأجل فمع كونه تكلفا الظاهر أن يقول إنها تعليلية لأنها ترد لذلك ، كما ذكره النحاة وفسر على في على الذي يتقون باللزوم كما في قولهم عليّ ألف درهم ، ولم يفسره بالمؤاخذة ، كما في قوله : { عَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ سورة البقرة ، الآية :
286 ] قيل لأنه لا يناسب سبب النزول ولا وجه له لأنه لا يؤاخذ إلا بما يلزمه ، ومآلهما بحسب المعنى واحد وقوله وغيره من القبائح عممه والزمخشري خصه بالخوض! لمناسبة المقام. قوله : ( لأنّ من حسابهم يأباه ا لأنه يصير المعنى ، ولكن ذكرى من حسابهم وليس بسديد ، وقد تبع فيه الزمخشريّ واعترض عليه كثير من الشراح وغيرهم بأنه لا يلزم من العطف على مقيد بقيد اعتبار ذلك القيد في المعطوف ، وظاهر كلام بعضهم هنا أنه مخصوص بالحالط والجار والمجرور هنا حال لأنه صفة للنكرة قدمت عليها ، والحال قيد في عاملها فإذا كان من عطف المفردات ، وعمل فيها العامل لزم تقيدها فإن قدر عامل آخر لم يكن من عطف المفردات وقيل نحن لا ندعي هذا بل نقول إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف البتة بحكم الاستعمال تقول ما جاءني يوم الجمعة ، أو في الدار أو راكبا أو من هؤلاء القوم رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة ، أو في الدار أو بصفة الركوب ، أو تكون من القوم البتة ، ولم يجىء الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب ، قالوا والسرّ فيه أن تقدم القيود يدلّ على أنها أمر مسلم مفروغ منه وانها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وأنّ هذه القاعدة مخصوصة بالمفرد لذلك وأمّا في الجمل فالقيد إذا جعل جزءا من المعطوف عليه وان سبق لم يشاركه فيه المعطوف ، كما في قوله تعالى : { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أسورة يونس ، الآية : 49 ] كما في شرح المفتاح وهذا إذا لم تفهم القرينة خلافه كما في قولك جاءني من تميم رجل وامرأة من قريش ، وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره النحرير مما يقتضيه الذوق لكنا لم نر من التزمه غيره ومنهم من عممها كما قيل إنّ أهل اللسان والأصوليين يقولون إنّ العطف للتشريك في الظاهر فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت ضربت زيداً يوم الجمعة ، وعمرأ فالظاهر اشتراك عمر ومع زيد في الضرب مقيداً بيوم الجمعة ، فإن قلت وعمرأ يوم السبت لم يشاركه في قيده ، والآية من القبيل الأوّل فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي مثله للمنع وفيه بحث.
قوله : ( ولا على شيء لذلك الخ ) مراده بقوله لا تزاد بعد الإثبات لا تقدر عاملة بعد الإثبات لأنها إذا عملت كانت في قوة المذكورة المزيدة ، ولذا قيل الظاهر أن يقول لا تقدر عاملة بعد الإثبات ولا ينافيه ما مر من تجويز زيادتها في الإثبات في قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } [ سورة الأن!ام ، الآية : 42 ] كما أورده عليه بعضهم لا لأنه مشى على قول هنا وعلى آخر ثمة لأنها عكازة أعمى بل لأنّ خلاف الأخفش وغيره في غير الظروف ، كقبل وبعد
وأمّا دخول من زائدة على الظروف في الإثبات فذهب إلى جوازه كثير من النحاة وارتضوه كما في شرح التسهيل وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس وقوله لمساءتهم مصدو إمّا مضاف للفاعل ، والمفعول مقدّر أو مضاف للمفعول. قوله : ( ويحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون والمعنى الخ ) أي ضمير لعلهم للمتفين أي يذكر المتقون المستهزئين ليثبت المتقون على تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر ، وذكروا الثياب لأنّ أصل التقوى كان لهم قبله وقوله تنثلم أي تنقص ، وأصل معناه الكسر وثقب الحائط ، وقد ذكر العلماء أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي ، وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع وإلا صبر هذا إذا لم يكن مقتدى به وإلا فلا يفعل لأنّ فيه شين الدين ، وما روي عن أبي حنيفة من أنه ابتلى به كان قبل صيرورته إما ما مقتدى به لقوله : { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 68 ] .(4/78)
ج4ص79
قوله : ( لعباً ولهوا ) قال السفاقسي هو مفعول ثان لاتخذوا وظاهر كلام ابن عطية والزمخشرفي أنه مفعول أوّل ودينهم ثان وفيه إخبار عن النكرة بالمعرفة وقال الرازي إنه مفعول لأجله أي اكتسبوا دينهم للهو واللعب فهو متعد لواحد. قوله : ( أي بنوا أمر دينهم الخ ا لما أضاف الدين إليهم وليس لهم دين في الواقع أوّله في الكشاف بأوجه الأوّل أنهم اتخذوا الدين المفترض عليهم شيئا من جنس اللعب واللهو كعبادة الأصنام ونحوها ، والدين المفترض الواجب عليهم وان كان في الواقع دين الإسلام لكن على هذا الوجه ليس المراد به هذا المفهوم بل مجرّد ما يصدق عليه مفهوم الدين الواجب الثاني أنهم اتخذوا ما يتبينون به ، وينتحلونه بمنزله الدين لأهل الأديان شيئاً من اللعب واللهو ، وحاصله أنهم اتخذوا اللعب واللهو دينا لهم كما صرح به الزمخشرفي ، وليس من القلب في شيء ولا من جعل المبتدأ نكرة والخبر معرفة كما توهم ، وفيه بحث الثالث أنهم اتخذوا دينهم الذي فرض عليهم وكلفوه أعني الإسلام لعبا ولهواً حيث سخروا به واستهزؤوا ، فحاصل الأوّل اتخذوا الدين الواجب لعبا ، والثاني جعلوا اللعب دينا واجبا ، والثالث استهزؤو! بالدين الحق الذي يجب أن يعظم غاية التعظيم ، ومعنى الإضافة في الأول والثالث ظاهر ، وفي الثاني أنه عادة لهم ، والوجه الرابع أنّ المراد بالدين العبد الذي يعاد إليه كل حين معهود بالوجه الذي شرعه الله كعيد المسلمين ، أو بالوجه الذي اعتادوه من اللعب واللهو كأعياد الكفرة لأنّ أصل معنى الدين العادة والعيد معتاد في كل عام ، ولبعده عن الظاهر أخر وترك المصنف ر-حه الله الثاني منها لما فيه من الخفاء ولأنه إن حمل على ظاهره من القلب فهو ضعيف والا فهو راجع
إلى الوجه الآخر ، والفرق بينهما سهل ، وقوله زمان لهو الخ إشارة إلى أنه إذا كان بمعنى العيد وهو اسم زمان لأنه يوم مخصوص يقدر مضاف ليصح الحمل. قوله : ( والمعنى أعرضر عنهم ولا تبال الخ ( إشارة إلى أنّ الظاهر يقتضي الكف عنهم مع أنه مأمور بالتبليغ والقتال فأوّله بأنّ المراد لا تبال بهم وامض لما أمرت أو هو للتهديد ، أو أن الآية نزلت قبل آية السيف التي في سورة براءة والأمر بالقتال فتكون منسوخة وعلى ما قبله فهي محكمة فذر بمعنى اترك فيه ثلاثة وجوه ، واعلم أنهم اختلفوا في الوجوه المذكورة في الكشاف فقيل إنها أربعة وقيل ثلاثة ، وقوله : اتخذوا ما هو لعب ولهو دينا لهم ليس من توجيه معنى الدين في شيء وهو الأوّل بعينه وإنما ذكره الزمخشري لبيان الوجهين من كونه مفعولأ أوّل أو ثانياً ، والقلب الداعي له أن لا يثبت لهم دين فقول النحرير : إنه ليس من القلب إذ لا داعي له لا وجه له وفسره العلامة بقوله : ما هو لعب إشارة إلى تأويله بمعرفة المفهومة من ما الموصولة كما قيل ، وفيه تأمّل. قوله : ) وغرتهم الحياة الدنيا حتى أنكروا البعث ) ففرّ من الغرور وهو معروف ، وقيل : إنه من الغرّ وهو ملء الفم أي أشبعتهم لذاتها حتى نسوا الآخرة وعليه قوله :
ولما التقينا بالعشية غرّني بمعروفه حتى خرجت أفوّق
قوله : ( وذكر به أي بالقرآن ) جعل الضمير للقرآن كما في قوله فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ، والقرآن يفسر بعضه بعضا فلهذا اقتصر عليه ، وقيل : إنه يعود على حسابهم ، وقيل على الدين وقيل إنه ضمير يفسره ما بعده فيكون أن تبسل بدلاً منه واختاره أبو حيان. قوله : ( مخاقة أن تسلم الخ ) إشارة إلى أنه مفعول لأجله بتقدير مضاف أو أصله أن لا تبسل ومنهم من جعله مفعولاً به لذكر وتسلم من الأفعال ويجوز أن يكون من التفعيل وهما متقاربان وفسر تبسل بالإسلام إلى الهلاك أي وقوعه فيه وجعله كأنه رهن بيده ، قال الراغب : تبسل هنا بمعنى تحرم الثواب والفرق بين الحرام والبسل أنّ الحرام عاتم لما منع منه بحكم أو قهر والبسل الممنوع بالقهر ، وقوله تعالى : { أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ } [ سورة الأنعام ، الآية : 70 ] أي حرموا الثواب ، وفسر بالارتهان لقوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ سورة المدثر ، الآية : 38 ] ورهينة فعيلة بمعنى فاعل أي ثابتة مقيمة ، وقيل بمعنى مفعول أي كل نفس مقامة في جزاء ما قدمت من عملها ، ولما كان الرهن يتصوّر منه حبسه استعير ذلك للمحتبس أي شيء كان انتهى ، فمعنى
قوله ثرهن أي تحيس في الهلاك بسبب سوء عملها وهو معنى(4/79)
ج4ص80
إسلامه إليه ، ولهذا جمع بينهما لأنه روي كل منهما عن السلف ، وقال الزجاح : إنهما بمعنى واحد واليه أشار المصنف رحمه الله ، فما قيل إنه من راهنه على كذا إذا خاطره فكان الهلاك يقول إن حصل منك سوء العمل ، فالنفس لي تكلف نشا من قلة التدبر ، وفريسة الأسد ما يفترسه ويصطاده ، ولا تفلت أي تتخلص منه ، والقرن بالكسر الكفوفي الشجاعة ، والبسل بالسكون الحرام والإبسال التحريم قال :
أجارتكم بسل علينا محرّم وجارتنا حل لكم وحليلها
ويكون بسل جوابا بمعنى نعم وأجل واسم فعل بمعنى اكفف ، وقوله عز وجل أن تبسل
نفس فسر هنا بالعموم أي كل نفس وهو نكرة في الإثبات كقوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } [ مورة التكوير ، الآية : 4 ا ] إما لأنه قد يؤخذ عمومه من السياق واقا لأنه نفي معنى كما يفهم من كلام المصنف ، فتأمّل. قوله : ( ليس لها الخ ) في هذه الجملة ثلاثة وجوه فقيل إنها مستأنفة للإخبار بذلك أو في محل رفع صفة نفس ، أو في محل نصب على أنها حال من ضمير كسبت وضمير يدفع للوليّ والشفيع باعتبار أنه مذكور أو تأويله بذلك أو بكل واحد على البدل ، ومعنى كونهما من دون الله سواء كانت من زائدة أو ابتدائية إنهما يحولان بينها وبينه بدفع عقابه ، ولذا قيل إنّ فيه مضافاً مقدراً أي دون عذابه ، واليه يشير كلام المصنف ، فلا يرد أنه من أين يؤخذ العذاب من النظم. قوله : ) وإن تفد كل فداء ) الفداء بالكسر والمدّ ، وإذا فتح قصر وكل منصوب على المصدرية لأنه بحسب ما يضاف إليه لا مفعول به ، وقيل : هو بمعنى الكامل ، كقولك هو رجل كل رجل أي كامل في الرجولية وتقديره عدلاً كل عدل وفيه أنّ كل بهذا المعنى تلزم التبعية ، والإضافة إلى مثل المتبوع نعتا لا توكيداً ، كما في التسهيل ولا يجوز حذف موصوفها ، وقوله : ( لا إلى ضميره ) لأنّ العدل هنا مصدر لوقوعه مفعولاً مطلقا وليس هو بمأخوذ نعم يجوز أن يراد بضميره العدل بمعنى الفدية على الاستخدام فيصح الإسناد إليه كما في قوله تعالى : { لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } لكن لا حاجة إليه مع صحة الإسناد إلى الجار والمجرور كسير من البلد وأخذ من المال وكذا كونه راجعاً إلى المعدول به المأخوذ من السياق ، وكون يؤخذ بمعنى يقبل ونحوه. قوله : ( أسلموا إلى العذاب الخ ) فالمشار إليه بأولئك هم الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهواً لا الجنس المفهوم من قوله أن تبسل نفس مع قوله بما كانوا يكفرون لاحتياجه إلى تكلف وكون هذا مشروطا بعدم رجوعهم عما هم عليه معلوم بالأمخرورة ولا ينافيه مخافة أن تبسل الخ لأنه يخاف على كل أحد ويحرص على إنقاذه من كفره شفقة
منه. قوله : ( تثيد وتفصيل لذلك الخ ) لأنّ المسلم إليه مجمل مفصل بهذا فيؤكده ، وماء مغلي بصيغة المفعول تفسير للحميم ويتجرجر من الجرجرة بجيمين وراءين مهملتين بمعنى يتردّد ويضطرب فيها وأصل الجرجرة صوت يردّه البعير في حنجرته ، وخص العذاب بالنار لأنه المتبادر منه فلا يرد أنه لا وجه له وفسر ندعو بنعبد ، والنفع والضرّ بالقدرة عليهما لأنه الواقع ولأنّ نفيهما أبلغ. قوله : ( ونردّ على أعقابنا ) جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال رجع على عقبه إذا انثنى راجعاً كرجع على حافرته وانقلب على عقبيه قال تعالى : { فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } [ سورة المؤمنون ، الآية : 66 ] ومعناه القهقرى وقيل إنه كناية عن الذهاب من غير رؤية موضع القدم وهو ذهاب بلا علم بخلاف الذهاب مع الإقبال ، وخطاب قل وان كان للنبيّ !يلى لكن فاعل تدعو ونردّ عامّ له ولغيره ، والمعنى أيليق بنا معاشر المسلمين ذلك فلا يرد أن ذلك لم يكن من النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصوّر ردّه إليه لأنه لتغليب من أسلم من المؤمنين وليس مخصوصاً بالصدّيق أيضاً بسبب النزول ، وقيل الردّ على الإعقاب بمعنى الرجوع إلى الضلال والجهل شركاً أو غيره. قوله : ( من هوى يهوي هوياً إذا ذهب ( هذا هو المعروف في اللغة وأمّا كونه من هوى بمعنى سقط يقال هوى يهوي هويا بفتح الهاء من أعلى إلى أسفل وبضمها لعكسه أو هما بمعنى ، وأنه على تشبيه حال الضال كما في قوله تعالى : { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء } [ سورة الحج ، الآية : 31 ] لأنه في غاية الاضطراب فلا يناسب قوله : { فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 71 ] مع أنه يتوقف على ورود الاستفعال منه ومردة جمع ما ردوا لمهامه جمع مهمه وهو الفلاة وترك قول الزمخشري كما تزعمه العرب لأنه مبنيّ على إنكار الجن ، وهو مذصب باطل والتشبيه تمثيلي وقد رذا بعد الكاف(4/80)
ج4ص81
ليكون تشبيه ردّ برذ وقوله متحيراً بيان لأنه حال وكذا في الأرض ويصح تعلقه باستهوته والمستهوي بصيغة المفعول. قوله : ( ومحل الكاف النصب على الحال ) قال في الفرائد حاصله حينئذ نرذ حال مشابهتنا كقولك جاء زيد راكباً أي في حال ركوبه ، وليس الردّ في حال الشبه ، وردّ بأنّ الحال مؤكدة كقوله : { وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } فلا يلزم ذلك وفيه نظر ، والتشبيه على الحالية تمثيليّ شبه حال من خلص من الشرك ثم عادله بحال من ذهبت به الغيلان في مهمه بعدما كان على الجادة ، وعلى أن يكون مصدراً
مركب عقلي. قوله : ( أي يهدونه الخ ) هو وما بعده وجه واحد وأوّل كلامه بيان لحاصل المعنى وقيل هما وجهان الأوّل بقاؤه على المصدرية ، والثاني تأويل المصدر باسم المفعول وسوق الكلام يأباه. قوله : ( يقولون له ائتنا ) مرّ أنّ أمثاله يقدر فيه قول هو حال أو يحكي بالدعاء لأنه بمعنى القول على الخلاف بين البصريين والكوفيين فيه ولا ينافيه تعدية يدعون لإلى كما توهم ، وقوله في محل آخر لا حاجة لتقدير القول بناء على أحد القولين فلا تناقض فيه كما قيل ، وقوله هو الهدي وحده الحصر من تعريف الطرفين أو ضمير الفصل. قوله : ( واللام لتعليل الخ ) بذلك إشارة إلى قول أنّ الهدى الخ أي أمرنا أن نقول ذلك عن خلوص طوية لننقاد لأمره فاللام لام تعليل ، وهذا معنى قول أبي حيان مفعول أمرنا الثاني محذوف تقديره أمرنا بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم لرب العالمين ، وليس هذا ما وقع في الكشاف حتى يقال إنه مبني على الاعتزال من تساوي الأمر ، والإرادة وأن المصنف رحمه الله تابعه غفلة منه كما توهم وهذا غفلة عن مراده وعن إنّ ما أورده في الانتصاف ليس مسلما ولذا سم يعرّج عليه من الشراح غير الطيبي ، والذي في الكشاف هي تعليل للأمر بمعنى أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم ، وفي الكشف قال جار الله إذا قلت أمرته ليقوم كان ظاهره أمراً مطلقاً خصصه التعليل ونحوه قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } [ سورة الحج ، الآية : 39 ] وقوله : { قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ } [ سررة إبراهيم ، الآية : 31 ] أي أذن في القتل وقل لهم صلوا ) أقول ) والتحقيق أنّ حقه أن يعدّى بالباء فلما عدل عن ذلك حمل على أنه لام التعليل ، وتقديره أمرنا بأن نسليم للإسلام لا لغرض آخر فأفاد مبالغة في الطلب من وجهين انتهى ، وهو محل تأمّل وقيل إن الإشارة للإسلام ولا غبار في تعليل الأمر بالإسلام بنفس الإسلام لأن مآله أنه طلب النفع ، وهو تكلف لا حاجة إليه ، وقيل اللام بمعنى الباء قال أبو حيان وهو غريب لا تعرفه النحاة ، وأمّا زيادتها وتقدير أن بعدها فقول مرّ ما فيه ، وقال الخليل وسيبويه : ومن تابعهما الفعل في هذا ، وفي : { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ سورة النساء ، الآية : 26 ] يؤوّل بالمصدر وهو مبتدأ واللام وما بعد خبره أي أمرنا للإسلام ، وعليه فلا مفعول للفعل كما في المغني فهو كتسمع بالمعيدي ، ولا يخفى بعده وذهب الكسائيئ والفراء إلى أنّ اللام حرف مصدرقي بمعنى أن بعد أردت وأمرت خاصة ، وردّه الزجاج وارتضاه صاحب الانتصاف ففي اللام هنا أربعة وجوه كونها زائدة وتعليلية للفعل أو للمصدر المسبوك منه أو بمعنى الباء أو أن المصدرية ، فاختر لنفسك ما يحلو ، وفي هذه المسألة كلام سيأتي تفصيله ، والهدى بمعنى الاهتداء فسره بالإسلام ، ولذا قابله بالضلال
فليس الظاهر أن يقول الإضلال كما قيل. قوله : ( عطف على لنسلم الخ ( أي بناء على أنّ اللام تعليلية وهذا قبله حرف جرّ مقدر لاطراد حذفه والجار والمجرور معطوف على الجارّ والمجرور ، وهو أيضا على مذهب سيبويه من تابعه من النحاة القائلين بدخول أن المصدرية على الأمر كما مرّ ، أو فيه تسمح بناء على أنه معطوف على نسلم وأنه علة واللفظ مؤوّل والمراد ولتقيموا فاخرج على لفظ الأمر وفيه تأمّل ، وأورد على هذا ابن عطية رحمه الله إنّ في اللفظ ما يمنعه لأن نسلم معرب وأقيموا مبنيّ ، والمبنيّ لا يعطف على المعرب لأنّ العطف يقتضي التشريك في العامل ، ورد بأته ليس كما ذكر بل هو جائز كقام زيد ، وهذا وكقوله : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [ سورة هود ، الآية : 98 ] إلى غير ذلك. قوله : ( أو على موقعه ) !خ فيه الزمخشري إذ قال إنه عطف على موضعلنسلم كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا إنه كثيرا ما يقع في هذا الموقع أن نسلم فعطف عليه وان أقيموا بهذا الاعتبار على التوهم كما في فأصدق واكن ، وبه يشعر قول الزمخشريّ كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموالكن لا يخفى أنّ أن في أن نسلم مصدرية ناصبة(4/81)
ج4ص82
للمضارع وفي أن أقيموا مفسرة ، وقيل لا حاجة إلى هذا الاعتبار بل المراد إنه عطف على مجموع اللام وما بعدها ، ثم جوّز أن يكون عطفا على ما بعد اللام وأن مصدرية موصولة بالأمر بناء على جواز وصلها به وأمّا دفعه بأنّ العطف على توهم أن المفسرة ، وأنه توهم إن مكانه أن أسلموا فبعيد ، وقال أبو حيان رحمه الله : ظاهره أنّ لنسلم في موضمع المفعول الثاني لأمرنا وعطف عليه أن أقيموا فتكون اللام زائدة ، وقد قدم أنها تعليلية فتناقض كلامه فتأمّل ، ولما ذكر سبب النزول نشأ منه سؤال أشار إلى جوابه بقوله وعلى هذا كما بينه في الكشاف ، وفي الدرّ المصون إنّ فيه وجوهاً فقيل معطوف على قوله إنّ هدى الله وقيل على قوله لنسلم ، وقيل على ائتنا وهو بعيد ، وقيل معطوف على مفعول الأمر المقدّر أي أمرنا بالإيمان واقامة الصلاة ، وقيل هو محمول على المعنى وفيه كلام طويل فانظره. قوله : ( قائماً بالحق ) إشارة إلى أنّ الجار والمجرور في موقع الحال من الفاعل ومعنى الآية حينئذ كقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ } ، [ سورة ص ، الآية : 27 ] ويجوز أن يكون حالاً من المفعول أي ملتبسة بالحق. قوله : ( جملة اسمية الخ ) قال الطيبي : الواو ستئنافية ، والجملة تذييل لقوله : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } ولهذا جعل اليوم بمعنى الحين ليعمّ الزمان فقوله مبتدأ ، والحق صفته والمراد المعنى المصدري أي القضاء الصواب الجاري على وفق الحكمة فلذا صح الإخبار عنه بظرف الزمان أعني يوم الخ ، وإلى هذا يشير كلام المصنف رحمه الله ، وتمثيله بالقتال إشارة للمصدرية ، وقوله : وقوله الحق الخ إشارة إلى أنّ تقديم الخبر ليس للحصر ، وقوله : نافذ هو معنى كن فيكون وكونه في جميع الكائنات مأخوذ من جملة الكلام والتذييل وقال النحرير : تقديم الخبر لكونه الشائع في الاستعمال مثل عنده علم الساعة لأنّ الحصر غير مناسب هنا وقول الزمخشري لا يكوّن شيئا من السماوات والأرض وسائر المكوّنات إلا عن حكمة ، وصواب مستفاد من المقام ، ولو جعل التقديم هنا للحصر لكان للحصر على عكس ما ذكر أي قضاؤه الحق لا يكون إلا يوم يقول وهو فاسد ا هـ ، وفيه أنّ المعروف الشائع تقدم الخبر الظرفي إذا كان المبتدأ نكرة أو نكرة موصوفة كما مز في أجل مسمى ، أما إذا كان معرفة فلم يقله أحد ومثاله غير مستقيم لأنه قصد فيه الحصر لأنّ علم الساعة عند الله لا عند غيره ، وما قيل من أنه يشير إلى أنّ الط طف داخل في المعنى على المبتدأ وأنّ المقصود بكون قول الحق وقت إيجاد الأشياء نفاذه فيها وأنّ المراد السماوات والأرضى وما فيهما أو الكلام على الظاهر ، والمقصود تعميم قوله الحق لجميع الكائنات لا محصل له وهو ناشئ من قلة التدبر. قوله : ( وقيل يوم منصوب بالعطف على السماوات الخ ( إذا عطف على السماوات فهو مفعول به ، والمعنى أنه أوجد السماوات والأرض! وما فيهما وأوجد يوم الحشر والمعاد ، وكذا إذا عطف على الهاء فهو مفعول به أيضا كما في قوله : { وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [ سورة البقرة ، الآية : 48 ، وهو بتقدير مضاف أي هو له وعقابه وفزعه أو المراد باتقاء ذلك اليوم اتقاء ما فيه من ذلك ، وأما القول بأنه معطوف على بالحق وهو ظرف لخلق فيتوقف على صحة عطف الظرف على الحال لأنّ الحال ظرف في المعنى وهو تكلف. قوله : أ أو بمحذوف دل عليه بالحق ( أي يقوم بالحق يوم الخ لأن معنى بالحق قائماً بالحق كما مرّ قال أبو حيان رحمه الله : وهو إعراب متكلف. قوله : ( وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون الخ ) يعني على الوجوه الثلاثة الأخيرة وقوله على معنى وحين يقول الخ تقرير للمعنى على تقدير أن يكون قوله الحق فاعل يكون على الوجوه الثلاثة ، ويوم على الأوّل مفعول خلق ، وعلى الثاني مفعول اتقوا ، وعلى الثالث منصوب بفعل محذوف وقوله لقوله الحق إشارة إلى أنّ الكائن جميع المخلوقات واسناد الكون إلى الحق إسناد مجازي إلى السبب وقيل لما اقتضى كون قوله الحق فاعل يكون تعلق كن به قال لقوله الحق ، وفسره بالقضاء ولا شك أنّ تكوين القضاء
يوجب تكوين المقضيّ ، وهو تحريف لكلامه والقضاء بالمعنى المصدري لا يتعلق به التكوين إلا مجازا فالوجه ما قدمناه وفي الكشف المراد بالقول ما يقع بالقول ، وهو المقضي أي حين يقول لمقضيه كن فيكون المقضي ، والوجه الأوّل ا هـ فلا يرد عليه أنّ هذا التفسير لا يناسب أن يكون قوله فاعلا ليكون بل المناسب أن يقال وحين يقول كن فيكون أثر قوله الحق كما توهم وعلى كونه فاعلا فإن عطف على السماوات(4/82)
ج4ص83
فالمراد بالتكوين الإيجاد واليه أشار بقوله حين يكون الخ وإن عطف على مفعول اتقوا أو تعلق بمقدر ، فالمراد بالتكوين الإحياء للحشر لأنه الذي يتقي ويظهر بعده القيام بالحق ، واليه أشار بقوله فيكون التكوين الخ ، وفي قوله حشر الأموات تسمح لأنه ليس بتكوين وقوله كقوله : { لِّمَنِ الْمُلْكُ } [ سورة غافر ، الآية : 6 ا ] الخ يعني أنّ تحصيص الملك بذلك اليوم لتعظيمه لا لاختصاص ملكه به ، وفيه كلام آخر سيأتي. قوله : ( يوم ينفخ في الصور ) أي استقرّ الملك يوم ينفخ ، واليه أشار بقوله لمن الملك فلا يدعيه غيره ، والصور قرن ينفخ فيه كما ثبت في الأحاديث لا جمع صورة كما قيل والصور وأحواله مفصلة في كتب السنة. قوله : ) كالفذلكة للاية ( لأنّ الحكيم جامع لجميع أفعاله المتقنة الجارية على وفق المصالح ، والخبير جامع لعلم الغيب والشهادة ففيه لف ونشر مرتب قيل : والواو ليست للعطف بل هي استئنافية نحو : { جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } [ سورة سبأ ، الآية : 17 ] وهو المسمى في المعاني بالتذييل ، والمراد بالفذلكة إجمال ما فصل أوّلاً قال الواحدي رحمه الله في شرح قول المتنبي :
نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً وأتى فذالك إذ أتيت مؤخرا
فذالك جمع فذلكة وهي جملة الحاسب لقوله فيها فذلك كذا انتهى ، وهو من النحت المولد. قوله : ( آزر الخ ) إن كان علما لأبيه فهو عطف بيان أو بدل وقال الزجاج رحمه الله : ليس بين النسا بين اختلاف في أنّ اسم أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم تارج بناء مثناة فوقية ، وألف بعدها راء مهملة مفتوحة وحاء مهملة ، والذي في القرآن يدل على أنه خلافه ، فإما أن يكون لقبا غلب عليه أو كما قيل هو اسم عمه أو اسم جذه والعم والجذ يسميان أبا مجازا ، والمصنف رحمه الله أجاب بأجوبة وهي ظاهرة ، وقيل آزر وصف معناه الشيخ بفارسية خوارزم ، وقيل إنه المعوج بالسريانية وقيل معناه المخطئئ وعلى الوصفية لا يظهر لمنع صرفه وجه فقال المصنف رحمه الله : إنه حمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين ، فإنه يغلب منع صرفه لأنه كثير في الإعلام الأعجمية ، والأولى أن يقال إنه غلب عليه فألحق بالعلم والا فليس فيه علمية أصلاً لأنّ
الوصف في العجمة لا يؤثر في منع الصرف ومن لم يتنبه لهذا قال : العلة لم تبلغ النصاب ، وقوله : أو نعت الخ فمنع صرفه لوزن الفعل والوصفية ، لأنه على وزن أفعل ، والأزر القوّة والوزر الإثم ، وقوله : ( والآقرب الخ ) يشير إلى أنه لا عبرة بما وقع في التواريخ مخالفا لظاهر الكتاب المجيد لأنها أكثرها نسي بالتقادم وخلطت فيه أهل الكتاب ، وقوله : ( بحذف المضاف ) أي عابد آزر ، وحذفه إما في كلامهم أو في النظم. قوله : ( وقيل المراد الخ ) فهو من جملة المقول ، وليس هذا التفسير المصطلح عليه في باب الاشتغال لا لأنه بينه وليس عينه بل ما يناسبه وهو تعبد لأنه لا يشترط فيه أن يكون عينه نحو زيداً ضربت عبده إذ تقديره أهنت زيداً ، ضربت عبده بل لأنّ ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها ، وما لا يعمل لا يفسر عاملاً كما تقرّر عندهم. قوله : ( تفسير أو تقرير ) المراد بالتفسير تفسير آزر مراداً به الصنم وعامله المقدر لأن تقديره أتعبد آزر ، وقوله أتتخذ أصناما تفسير له والمراد بالتقرير تقريرهم بسوء عقيدتهم ليلزمهم ، ولذا فسره النحرير بالتحقيق والتثبيت لأنه واتع وقيل المراد تقرير الاستفهام الإنكاري لا القابل للإنكار ، وفيه نظر. قوله : ( ويدل عليه أنه قرئ أزارا ( بهمزتين الأولى استفهامية مفتوحة ، والثانية مفتوحة ومكسورة وهي إمّا أصلية إن كان اسم صنم أو أصلية بمعنى القوّة ، أو مبدلة من الواو بمعنى الوزر والإثم ، وعليه فعامله مقدر أي تعبد إزرأ إن كان اسم صنم وإن كان عربيا فهو مفعول له ، أو حال أو مفعول ثاني لتتخذ أو منصوب بمقدر كما ذكره المعرب وغيره ومن قرأ بهذه أسقط همزة أتتخذ ، فجعل هذه القراءة دليلاً على أنه اسم صنم لا يتجه وقوله : ( وهو يدل على أنه علم ( أي قراءة يعقوب آزر بالمد وضم الراء على أنه منادى تدل على العلمية لأن حذف حرف النداء من الصفات شاذ ، فما قيل إن النداء يكون بالصقات نحو يا عالم ، وأجيب عنه بأنّ كثرته في الأعلام تكفي للترجيح ، وقيل عليه دعوى الكثرة محل نظر من سوء الفهم وقلة التدبر ، وكذا ما قيل إنّ خطاب إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه بما يشعر بتحقيره ينافي حسن الأدب لأنه ليس بأدون من قوله إني(4/83)
ج4ص84
أراك وقومك في ضلال مبين وليس مقتضى المقام الأدب معه ، وقوله ظاهر إشارة إلى أنه من أبان اللازم. قوله : ( ومثل هذا التبصير الخ! إشارة إلى أنّ الإشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده ، والإشارة قد تكون إلى متأخر كما مرّ في قوله هذا فراق بيني وبينك ، وزيادة كافة وعدمها سبق منا تحقيقه ، قيل ، ولك أن تجعل المشبه التبصير من حيث أنه واقع والمشبه به التبصير من حيث أنه مدلول اللفظ ، ونظيره وصف النسبة بالمطابقة
للواقع ، وهي عين الواقع وليس أبا عذرته فإنه سبق ما هو قريب منه في كلام الطيبي رحمه الله ويجوز أن يكون المشار إليه ما أنذر به أباه وضلل قومه من المعرفة والبصارة فيكون قوله فلما جن عليه الليل تفصيلا وبيانا لمعنى المثل ، وأشار بقوله التبصير إلى أنّ رأى هنا بصرية لا علمية والزمخشرفي جعلها بصرية لكن ذكر أنها مستعارة للمعرفة ، كما بينه شراحه ، وكذا قال ابن عطية رحمه الله : وردّه أبو حيان بأنه يحتاج إلى نقل عن العرب إنّ رأى بمعنى عرف تتعدّى إلى مفعولين ( قلت ( إذا كانت بصرية استعيرت للمعرفة استعارة لغوية من إطلاق السبب على المسبب فلا يرد ما ذكره ، وهذا ما جنح إليه الزمخشرقي ، ولولا هذا لكان ادّعاء الاستعارة لغواً ، وقوله وهو حكاية حال ماضية لما كان الظاهر أرينا جعله حكاية للحال الماضية استحضارا لصورته حتى كأنه حاضر شاهد. قوله : ) تبصره دلائل الربويية ) إن قرأناه فعلا من بصره يبصره فيكون ملكوت الذي هو نائب الفاعل بمعنى دلائل الربوبية أو بتقدير مضاف لكن هذه عبارة الكشاف بعينها ، وقد ضبطها العلامة في شرحه على صيغة المصدر المنصوب وجعلها مفعولاً ثانيا مقدر التري ، وهو يصح هنا وكأنه من طريق الرواية. قوله : ( ربوييتهما وملكهما ) الملكوت مصدر كالرغبوت والرحموت كما قاله ابن مالك وغيره من أهل اللغة وتاؤه زائدة للمبالغة ، ولذا فسر بأعظم الملك ، ! وقوله ربوبيتهما إشارة إلى مصدريته ، وقال الراغب : إنه يختص به تعالى وتفسيره الأوّل إشارة إلى معناه الحقيقي ورؤيتها إن كانت الرؤية بصرية رؤية آثارها ، والثاني إشارة إلى معناه المجازي لأنّ ذلك هو المرئي ، وقيل الأوّل ناظر إلى كون الرؤية رؤية البصيرة ، والثاني إلى كونها رؤية البصر ، وفيه نظر. قوله : ( ليستدذ الخ ( إشارة إلى ما مرّ في أمثاله من أنه إمّا معطوف على علة مقدّرة أي ليستدل وليكون أو علة لفعل مقدر أي وفعلنا ذلك الخ وقيل إنّ الواو زائدة وهو متعلق بما قبله ، وهذه الوجوه جارية في كل ما جاء في القرآن من هذا فيل ينبغي أن يراد بملكوتهما بدائعهما وآياتهما لأنّ الاستدلال من غاية إراءتها لا من غاية إراءة نفس الربوبية ، وقد مزت الإشارة إلى أنّ رؤية الربوبية برؤية دلائلها وآثارها ، وقيل إنّ الاستدلال مع قطع النظر عن كونه سبباً للإيقان لا يكون علة للإراءة فكيف يعطف عليه بإعادة اللام وليس بشيء ، وقوله وفعلنا تدره مقدما لأنّ العلة ليست منحصرة فيما ذكر ، ومن قدره متأخرا رأى أنه المقصود الأصلي. قوله : ( تفصيل وبيان لذلك ) أي تفصيل للجملة المذكورة والترتيب ذكرى لتأخر التفصيل عن الإجمال في الذكر وليس في هذا دليل على أنه بالبصيرة أو البصر وقوله : ) وقيل عطف الخ ( قيل فائدته التنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم في معرفة ربه إلى مرتبة الإيقان بالاستدلال وإقامة البرهان بحيث قدر على إلزامهم ، وان كان ذا نفس
قدسية لا يحتاج في اعتقادها بالذات إلى وساوس الأدلة ، وكونه عطفاً على قال إبراهيم تبع فيه الزمخشري وهو تسمح والأوّل على إذ قال كما صرّج به غيرهما وقوله : ( فإنّ أباه الخ ) بيان لوجه المناسبة والارتباط ، وقيل إنهم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذوا لكل كوكب صنما من المعادن المنسوبة إليه ، كالذهب للشمس ، والفضة للقمر ليتقرّبوا إليها ، فالصنم كالقبلة لهم فانكر أوّلأ عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر ، ثم أبطل منشأها وما نسبت إليه من الكواكب بعدم استحقاقها لذلك أيضاً. قوله : ( وجق عليه الليل ستره بظلامه ) هذه المادّة بمتصرّفاتها تدل على الستر قال الراغب : أصل الجن الستر عن الحاسة ، يقال جنة الليل وأجنه وجن عليه فجنه ستره وأجته جعل له ما يستره وجن عليه ستره أيضأ ، والزهرة بضم الزاي وفتح الهاء كتؤدة نجم في السماء الثالثة وتسكين الهاء في غير ضرورة الشعر خطأ ، كما في أدب الكاتب ، وفيه نظر وان نظر وان اشتهر خلافه ، والوضع سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها لكونها(4/84)
ج4ص85
معلمة عند غيره لأجل إلزامه بها وهو مصطلح أهل الجدل ، واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله فإنّ الخ قيل هذا ناظر إلى الوجه الثاني في فلما جن عليه الليل ، وقوله أو على وجه النظر إلى الوجه الأوّل وفيه نظر لأنه يمكن أن يجري على القول الأصح على الوجهين ، لأنّ معنى ، وكذلك الخ ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم والمراد هدايته لطريق الاستدلال مع الخصوم ، وبه تحصل زيادة اليقين ، وإفحام الخصوم كما قاله الطيبي رحمه الله. قوله : ( وإنما قاله رّمان مراهقتة ) يريد الردّ على أنه لا حاجة إلى النظر والاستدلال المؤيد لما عنده من الاعتقاد فإنه مقام النبوّة والأنفس القدسية أعلى من أن تتشبث بحال الاستدلال فقال إنه كان في مبادي السن قبل البعثة ولا يلزمه اختلاج شك مؤدّ إلى كفر لأنه لما آمن بالغيب أراد أن يؤيد ما جزم به بأنه لو لم يكن الله إلهاً وكان ما يعبده قومه لكان إمّا كذا وامّا كذا ، والفرق بينه وبين الأوّل إنه لإلزام الغير ، وهذا الثلج الصدر ببرد اليقين ، والوجه الأوّل لا لأنه دفع لما يقال إنّ قوله هذا ربي يكون حينئذ كفرا والأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزهون عنه قبل البعثة ، وبعدها بالاتفاق لأنّ كفر الصبيّ غير المراهب لا يعتذ به ، وان صح إسلامه كما صرّح به الفقهاء ، ولا يلزمه الكذب على الأوّل لأنه كلام لاستدراج الخصم على وجه الفرص وارخاء العنان ومثله لا يسمى كذباً ، بل لما قال محي السنة لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو موحد عارف بالله بريء عن كل ما سواه وكيف يتوهم هذا على من طهره الله وعصمه ، وآتاه رشده من قبل إلى أن جاء ربه بقلب سليم ، وقال وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات
والأرض وليكون من الموقنين أو تراه أرإه الملكوت ليوقن فلما أيقن رأى كوكباً قال هذا ربي معتقداً له هذا لا يكون أبداً بل أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ، ويغرّفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه إذ كانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ، وقال الإمام السبكي رحمه الله في تفسير هذه الآية قد تكلم الناس فيها كثيراً ، وفهمت منها أنّ ذلك تعليم منه سبحانه لإبراهيم صلى الله عليه وسلم طريق الحجة على قومه فاراه ملكوت السماوات والأرض ، وعلمه كيف يحاجهم ويقول لهم إذا حاجهم في مقام بعد مقام إلى أن يقطعهم بالحجة ولا يحتاج مع هذا إلى أن يقال ألف الاستفهام محذوفة ويؤخذ منه أنّ القول على سبيل التنزل ، وليس اعترافا وتسليماً مطلقاً وقولنا على سبيل التنزل معناه أنّ الخصم ينطق به لينظر ما يترتب عليه ، وهذا الذي فهمت أقرب ما قيل فيها ويرشد إليه صدر الآية وعجزها أي قوله وكذلك نرى إبراهيم الآية ، وقوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 83 ] على قومه انتهى وهذا هو الحق فالنظم دال على خلاف الوجه الثاني. قوله : ( فضلاَ عن عبادتهم ) هذا إمّ إشارة إلى عدم العبادة بالبرهان أو إشارة إلى أنه كني بعدم المحبة عن عدم العبادة ، لأنه يلزم من نفيها نفيها بالطريق الأولى وهما متقاربان ، والزمخشريّ قدر مضافا أي لا أحب عبادة الآفلين ، والتعليل بقوله فإنّ الخ للازم المنطوق المراد منه فلا يرد عليه أنه لا يصح أن يكون تعليلاً لعدم المحبة بل لترك العبادة وقد بناه على عدم المحبة. قوله : ( والاحتجاب بالاستار الخ ا لا يوصف الله بأنه محجوب ، قال القاضي رحمه الله : في الشفاء ما في حديث الإسراء من ذكر الحجاب في حق المخلوق لا في حق الخالق فهم المحجوبون ، والباري جل اسمه منزه عما يحجبه إذ الحجب إنما يحيط بمقدّر محسوس ، ولكنه حجب على أبصار خلقه وبصائرهم وإدراكاتهم للأجرام المحدودة ، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك ، فهو تمثيل لمجرّد منعه الخلق عن رؤيته ، أو هو في حق المخلوق ، وقال الشريف قدس سره : في الدرر والغرر العرب تستعمل الحجاب بمعنى الخفاء وعدم الظهور فيقول أحدهم لغير. إذا استبعد فهمه بيني وبينك حجاب ، ويقولون لما يستصعب طريقه بيني وبينك كذا حجبا وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك ، فهو مجاز في المفرد عنده ، وفي حكم ابن عطاء الله الحق ليس بمحجوب إنما يحجب عن النظر إليه إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه ، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر وكل حاصر لشيء فهو له قاهر ، وهو القاهر فوق عباده فتدبره ، وقيل : إنّ قوله يقتضي الإمكان والحدوث لف ونشر غير مرتب لأنّ الانتقال حركة ، وهي حادثة فيلزم حدوث محلها ، والاحتجاب اختفاء يستتبع إمكان(4/85)
ج4ص86
موصوفه ومن هاهنا ظهر ضعف ما قيل إنّ الاستدلال بحدوث الجواهر دون إمكانها طريقة الخليلءجمف وهو منقول عن جملة أهل الكلام وهم يقولون إنه من صفات الإجرام المحدودة المتحيزة ، وهو يستلزم الحدوث فلا يرد عليهم ما ذكره فتأمّل ، وبزوغ القمر طلوعه منتشر
الضوء ، وأصله في بزوغ الناب لظهوره ، وبزغ البيطار الداية أسال دمها فبزغ هو أي سال فشبه هذا به قاله الراغب رحمه اللّه. قوله : ( فلما أفل ) قيل كان غاب عن نظره ولم يكن حين رآه في ابتداء الطلوع بل كان وراء الجبل ثم طلع منه ، أو في جانب آخر لا يراه ، والا فلا احتمال لأن يطلع القمر من مطلعه بعد أفول الكواكب ثم يغرب قبل طلوع الشمس ، وقيل فيه بحث إذ يجوز أن يكون الجبل في طرف المغرب ، والذي ألجأهم إلى هذا التعقيب بالفاء ، ويمكن أن يكون تعقيبا عرفياً مثل تزوّج فولد له إشارة إلى أنه لم تمض أيام وليال بين ذلك سواء ، كان استدلالاً أو وضعا ، واستدراجا لا إنه مخصوص بالثاني كما توهم على أنا لا نسلم ما ذكره إذا كان كوكبا مخصوصاً وإنما يرد لو أريد جملة الكواكب أو واحد لا على التعيين فتأمّل. قوله : ( استعجز نفسه الخ ) أي أظهر العجز صورة ، وقوله إرشاد إشارة إلى أنّ هذا القول !يس بمرضي عنده ، وهو الحق الحقيق بالقبول والنظم ناطق به كما بين في شروح الكشاف ، لأنّ قوله لئن لم يهدتي ربي وقوله يا قوم إني بريء مما تشركون يدل على أنه كان مع قومه ، وكان محاجا لهم مثافهة والمجموع دليل لمكان التعريض بدليل قوله كونن من القوم الضالين ، ثم الجملة القسمية تدل على أنّ الكلام مع منكر مبالغ في الإنكار فلا يناسب فرض التردّد في نفسه على أنّ قوله ربي صريح في اعترافه بأنّ له ربا يعرفه ويعبده ، وما قيل من أنه استعجز نفسه فاستعان بربه في درك الحق وقوله : { إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } إشارة إلى حصول اليقين من الدليل فخلاف الظاهر على أنّ حصول اليقين من الدليل لا ينافي محاجته مع قومه كما في الكشف فقد علمت أنّ في كلام المصنف رحمه الله نبوة من الظاهر لكن ينبغي أن يقاد إليه بزمام العناية بما مرّ ، وفي الانتصاف إنما عرّض! بضلالهم في أمر القمر لأنه قد أيس منهم في أمر الكواكب ، ولو قال في الأوّل لما أصغوا ولما أنصفوا ، ثم صرّح في الثالثة بالبراءة لما تبلج الحق وظهر غاية الظهور ، وهم في ظلمات العمى والعناد. قوله : ( له ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر الخ ) قال بعض المتأخرين ما نصه بعدما حكى كلام المصنف والكشاف لا حاجة إلى هذا التكلف لأن الإشارة إنما هي إلى الجرم ولا تأنيث فيه وإنما التأنيث بحسب اللفظ وليس في ذلك المقام لفظ الشمس فإنه في الحكاية لا المحكي انتهى ، وقد سبق إلى هذا أبو حيان رحمه الله فقال يمكن أن يقال إنّ أكثر لغة العجم لا تفرق في الضمائر ، ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث بل المؤنث والمذكر سواء عندهم فأشار في الآية إلى المؤنث بما يثار به إلى المذكر حين حكى كلام إبراهيم صلى الله عليه وسلم وحين أخبر تعالى عنها بقوله : بازغة وأفلت أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية انتهى ، وهذا إنما يظهر لو حكى كلامهم بعينه في لغتهم أما إذا عبر عنه بلغة العرب فكونه يعطي حكم كلام العجم فلا وجه له وان ظنوه شيئا ،
ثم إنّ النفس ألفت أخذ المعاني من الألفاظ حتى إذا تصوّرت شيئاً لاحظت ما يعبر به عنه في ذلك التخاطب وتخيلت أنها تناجي نفسها به كما قاله الرئي! في الشفاء ، فإذا اشتهر التعبير عن شيء بلفظ مذكر أو مؤنث لوحظ فيه ذلك وإن لم يطلق عليه ذلك الاسم وقت التعبير والإشارة ، كما في قوله تعالى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ سورة ص ، الآية : 32 ] فحيث خولف ذلك المقتضى احتاج إلى عذر وتأويل كما حققه السيد قدس سرّه في ألم ذلك الكتاب وبعضهم ذكره هنا من عنده زاعماً أنه من نتائج أفكاره وأمّ كون لغته لا تأنيث فيها فلا وجه له لما علمت أن العبرة بالحكاية لا المحكي ، ألا ترى إنه لو قال أحد الكواكب النهاري طلع فحكيته بمعناه وقلت الشمس طلعت لم يكن لك ترك التأنيث بغير تأويل لما وقع في عبارته ، وإذا تتبعت ما وقع في النظم الكريم رأيته إنما يراعي فيه الحكاية مع أنه مبنيّ على أنّ إسماعيل هو أوّل من تكلم بالعربية والصحيح خلافه. قوله : ( وصيانة للرب عن شبهة التأنيث ) قيل ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر أو لأنه لا يفرق في غير لغة العرب بين المذكر والمؤنث في الإشارة فأجرى الكلام على قاعدة تلك اللغة في مقام(4/86)
ج4ص87
الحكاية ، وعلى قاعدة العربية في مقام الإخبار ، وأمّا ما قيل وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث فيرد عليه إنّ هذا في الرب الحقيقي مسلم ، ورذ بأن مراد القائل ما ذكره هذا الفاضل بقوله ويحتمل الخ والحكم بالوجوب بالنظر إلى اقتضاء المقام فلا يرد عليه شيء ، وأجيب أيضا بأنه على تقدير أن يكون مسترشدا ظاهر وعلى المسلك الآخر إظهاراً لصونه ليستدرجهم إذ لو حقر بوجه ما كان سبباً لعدم إصغائهم ، وقوله : ( من الإجرام الخ ) إشارة إلى أنّ ما موصولة ويصح جعلها مصدرية ، وقوله : ( ومخصص الخ ) أي يخصصها بصفاتها كالبزوغ والأفول. قوله : ( لتعدّد دلالته ا لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب ولكل منهما دلالة كما عرفت ، والبزوغ وان كان انتقالاً مع البروز لكن ليس للثاني مدخل في الاستدلال ، وقيل عليه إنّ البزوغ أيضاً انتقال مع احتجاب إلا أنّ الاحتجاب في الأوّل لاحق وفي الثاني سابق ، وإما إنّ جوابه يؤخذ مما بعده وهو رؤيتها في وسط السماء فلا يشاهد البزوغ حتى يستدل به فلا يخفى ما فيه ، فليتأمّل. قوله : ( وخاصموه في التوحيد ( أي تارة بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد ، وأخرى بالتخويف فأشار إلى جواب كل منهما وإليه شار المصنف رحمه الله بقوله ولعله الخ فتدبر. قوله : ( في وقت الخ ) إشارة إلى ا! أن يشاء على معنى الظرف مستثنى من أعمّ الأوقات استثناء مفرّغا ، وقال الزمخشريّ : إنّ الوقت محذوف فيه ، وقال أبو البقاء : إنّ المصدر منصوب على الظرفية من غير تقدير وقت وقد منع ذلك ابن الأنباري فقال : ما معنا. يجوز خروجنا صياح الديك ، ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك على معنى وقت صياحه ، وإنما يقع ظرفاً المصدر الصريح ، وأجاز ذلك ابن جني من غير فرق بينهما كما في الملتقط وغيره والاستثناء متصل ، ويجوز أن يكون منقطعا على معنى ولكن أخاف أن يشاء ربي خوفي ما أشركتم به ، وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق وأن يصيبني بيان له. قوله : ( بتخفيف النون ) واختلف في أيهما المحذوفة ، فقيل نون الرفع وقيل نون الوقاية ، والأوّل مذهب سيبويه ، وهو أرجح لقلة التغيير بالحذف والكسر ولأنه عهد حذفها للجازم وهذه لغة غطفان وهي لغة فصيحة ولا يلتفت إلى قول مكيّ إنه ضعيف. قوله : ( لأنها لا تضرّ بنفسها ( قيد بنفسها لأنها تضرّ إن شاء الله مضرتها وقوله ولعله إنما أتى بلعل لأنه لم يسبق له ذكر ، وإنما فهم من قوله أخاف ، والتهديد يؤخذ من تعليقه شيئا بمشيئته تعالى. قوله : ( كأنه علة الاستثناء ) في الكشاف أي ليس بعجب ولا مستبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها كرجمه بالنجوم لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله أشعر بجواز وقوعه. قوله : ( أفلا تتذكرون الخ ) قد مرّ أنّ فيه وجهين تقدير معطوف عليه أي أتسمعون هذا فلا تتذكرون ، أو تقديم الهمزة من تأخير لصدارتها أي بعدما أوضحته من الدلائل الظاهرة المقتضية لشرعة التذكر إشارة إلى أن ما صنعوه ناشئ عن الغفلة. قوله : ( وكيف أخاف ما أشركتم ) أي أشركتموه به فحذف اختصاراً لعلمه بالقرينة وذكره فيما بعده ، ولأنّ المراد تخويفهم ، وذكر المشرك به أدخل في ذلك ، وأمّا ما قيل إنه ليعود إليه الضمير فيما لم ينزل به ، فليس بشيء لأنه يكفي سبق ذكره في الجملة ، والظاهر أن يقال في وجهه والنكتة فيه إنه لما قيل قبيل هذا رلا أخاف ما أشركتم به ، كان هذا كالتكرار له فناسب الاختصار إنه ى!يب حدّفه إشارة إلى بعد وحدانيته عن الشريك ، فلا ينبغي عنده نسبته إلى الله ولا ذكره معه ، ولما ذكر حال المشركين الذين لا ينزهونه عن ذلك صرّح به ، وهذه نكتة بديعة فمن قال هنا لا بذ من بيان فائدة حذف بالله في الأوّل وإثباته في الثاني ولم أر أحداً تعرض له ، فأقول لعل الوجه في ذلك إنّ مقصود إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الأوّل إنكار أن يخاف غير الله تعالى سواء كان مما يشركه الكفار أو لا ، وبالجملة خصوصية الإشراك بالله تعالى مقصودة في هذا المقام ، وأمّا قوله : ( ما أشركتم
} دون أن يقول بالله فلان الكلام
فيما أشركوا وفي الثاني إنكار. عدم خوفهم من إشراكهم بالله فإنّ المنكر المستبعد عند العقل السليم هو الإشراك باللّه تعالى لا مطلق الإشراك فلذا حذفه في الأوّل وأتى به في الثاني انتهى. فلا يخفى أنه تطويل من غير طائل مع أنّ ما أشركوا كيف يدل على ما سوى الله غير الشريك ، وهو عجيب منه وأنت في غنى عنه مما(4/87)
ج4ص88
أوضحناه لك.
قوله : ( وهو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف ) أي يخاف بسبب عذابه وعقابه الخوف الشديد ، وفي الكشاف وأنتم لا تخافون ما يتعلق به كل مخوف وقدر أنتم ليبين أنهم أحقاء بالخوف فبنى الكلام على تقوى الحكم فعلى هذا يصح أن يكون قول المصنف رحمه الله وهو حقيق الخ بيانا لمآل الجملة وهو لا ينافي كون الجملة حالية وإن طعن فيه بأنّ المضارع المنفيّ لا يقرن بالواو كالمثبت لكنه غير مسلم ومنهم من جعله قيدا ، وقال هذا القيد مع القيد السابق أعني قوله ولا يتعلق به ضرّ يومي إلى أنه جعل قوله ولا تخافون الخ عطفاً على جملة أخاف وان كان الزمخشري جعلها حالاً من فاعل أخاف أو مفعوله. قوله : ( بالقادر الضاز النافع ( وفي نسخة والقادر الضارّ ، وهي ظاهرة لأنّ بين لا تضاف إلا لمتعدد وأمّا على هذه فقيل الباء بمعنى مع متعلق بمحذوف ، وهو مع المجرور في محل نصب حال عن المقدور لا متعلق بالتسوية والا فلا يكون لبين معنى وهو تعسف. قوله : ( بإشراكه ) بيان لأنّ في الكلام مضافا مقدّرا وقيل إنه أرجع الضمير إلى الإشراك المقيد بتعلقه بالموصول فلا حاجة إلى العائد وهو مبنيّ على مذهب الأخفش في الاكتفاء في الربط برجوع العائد إلى ما يتلبس بصاحبه ، كما مرّ تحقيقه في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } [ سورة البقرة ، الآية : 234 ] الآية لكنه لم يذكر مثله في ربط الصلة ولا بعد فيه ، وقوله لم ينصب الخ فعدم التنزيل كناية عن ذلك ، وقيل هو تعميم للدليل بحيث يشمل العقليّ والنقليّ ، والسلطان الحجة فمعنا. على الثاني ظاهر وعلى الأوّل لأنه متضمن للحجج والبراهين. قوله : ( احترازاً من تزكية نفسه ) فأدرج نفسه فيمن زكاه إخفاء لتزكية نفسه لأنه أدعى لترك العناد إذ تزكية النفس ، وان طابقت الواقع ربما دعت الخصم إلى اللجاج فلا يقال إنّ من ادّعى أنّ الحق معه لا يكون مزكياً لنفسه ، وكيف لا والتزكية بالباطل كذب لا تزكية ، ووجه أيضا بأنه للإشارة إلى أنّ أحقية إلا من لا تخصه بل تشمل كل موحد ترغيباً لهم في التوحيد. قوله : ( استئناف منه ) أي من إبراهيم صلى الله عليه وسلم محكيا عنه ، والظاهر أنه استئناف نحويّ لا بياني لأنه ما كان جواب مقدّر ، وهذا جواب سؤال محقق ، بقي هنا ا!
ابن هشام رحمه الله قال في المغني الاستئناف النحوقي ما كان في ابتداء الكلام ، أو مقتطعا عما قبله ، وهذا خارج عنهما لارتباط الجواب والسؤال فكيف يكون استئنافا نحوياً ، والجواب عنه أنه في ابتداء كلام المجيب تحقيقاً أو تقديراً فيدخل فيما ذكره ، أو المراد بكونه مقتطعا عما قبله أن لا يعطف عليه ولا يتعلق به من جهة الإعراب وان ارتبط بوجه آخر. قوله : ( والمراد بالظليم هنا الشرك ) فإن قلت لا يلزم من قوله : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ سورة لقمان ، الآية : 13 ] إن غير الشرك لا يكون ظلما قلت : التنوين في بظلم للتعظيم فكأنه قيل لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم ولما تبين أنّ الشرك ظلم عظيم علم أنّ المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك أو أنّ المتبادر من المطلق أكمل إفراده. قوله : ( لما روي الخ ) ( 1 ( هذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأحمد ابن حنبل والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه فقول النحرير : كما ستراه قريبا إن صح لا يليق به ، وقوله : يصدق بتشديد الدال يصح قراءته مجهولاً ومعلوما. قوله : ( وقيل المعصية الخ ) هذا ما ارتضاه الزمخشري تبعا لجمهور المعتزلة لأنّ تفسير الظلم بالشرك يأباه ذكر اللبس أي الخلط إذ هو لا يجامعه ، وإنما يجامع المعاصي قال النحرير : قد شاع استدلال المعتزلة بهذه الآية على أنّ صاحب الكبيرة لا أمن له ، ولا نجاة من العذاب حيث دلت بتقديم لهم على اختصاص الأمن بمن لم يخلط إيمانه بظلم أي بفسق ، وأجيب بأنّ المراد بالظلم هنا الشرك الذي هو ظلم عظيم كامل ، ويشبه أن يكون تنكير ظلم إشارة لهذا بدليل ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه والزمخشرقي دفعه بأنّ لبس الإيمان بالشرك أي خلطه به مما لا يتصوّر لأنهما ضدان لا يجتمعان ، والحديث إن صح خبر واحد في مقابلة الدليل القطعي فلا يعمل به ، والقول بأنّ الفسق أيضا لا يجامع الإيمان عند المعتزلة لكونه اسما لفعل الطاعات ، واجتناب المعاصي حتى إن الفاسق ليس بمؤمن كما أنه ليس بكافر مدفوع بأنه كثيراً ما يطلق على نفس التصديق بل لا يكاد يفهم منه بلفظ الفعل غير هذا حتى إنه يعطف عليه عمل الصالحات ، وأجيب بأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق سواء كان باللسان ، أو غيره فظاهر أنه(4/88)
ج4ص89
يجامع الشرك ، كالمنافق وكذا إن أريد تصديق القلب لجواز أن يصدّق بوجود الصانع دون وحدانيته كما في قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } [ سورة يوسف ، الآية : 06 ا ] وهو ما أشار إليه المصنف رحمه اللّه ، ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به
بحيث يخرح عن الكفر فلا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ، ومشرك بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوباً مضمحلا أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر مراراً ، وبعد تسليم جميع ما ذكر فاختصاص إلا من بغير العصاة لا يوجب كون العاصة معذبين البتة بل خائفين ذلك متوقعين للاحتمال ، ورجحان جانب الوقوع وقيل فيه بحث لأنّ اللبس على هذا المعنى متحقق على تقدير الانتهاء إلى الإيمان بتأخره عنه فيلزم أن ينتفي إلا من حينئذ البتة ولأنّ المراد بالأمن نفيا واثباتاً التعذيب وعدمه ، والا قالا من كفر كاليأس ويدفع بأنّ المراد باللبس بالكفر أن يكون الكفر متأخراً لأنه جعل كاللباس والغطاء وما قبله كالتوطثة والفراش ، وكون الإيمان يجبّ ما قبله قرينة له كما هو معلوم من الدين بالضرورة ، والمراد بالأمن الطرف الراجح الذي هو كالجزم كما أشار إليه وليس هو إلا من الذي يكفر به ، وفي بعض الحواشي فإن قيل المؤمن الفاسق الذي مات على الفسق ليس له الأمن فما وجه حمل الظلم على الشرك مع أنه يقتضي أنّ من لم يشرك آمن ، وإن كان فاسقا قيل على التقدير المذكور يكون المراد من الأمن الأمن من خلود العذاب ، ومن الاهتداء الاهتداء إلى طريق توجب إلا من الخلود فإذا كان المراد من الظلم المعصية ، كان الأمن إلا من العذاب مطلقا فتأمّل. قوله : ( 1 ن جعل خبر تلك ) وآتيناها خبر بعد خبر أو معترضة أو تفسيرية ، وقيل يصح تعلقه بآتينا لتضمنه معنى الغلبة وجعله متعلقاً بمحذوف في هذا الوجه لئلا يلزم الفصل بين أجزاء البدل بأجنبي. قوله : ( بالتنوين ( قال أبو البقاء : يقرأ بالإضافة على أنه مفعول نرفع فرفع درجة الإنسان رفع له ، ويقرأ بالتنوين فمن مفعول ، ودرجات منصوب على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على المصدرية بتأويل رفعات أو هو تمييز ، وأما كونه مفعولاً ومن بتقدير لمن فبعيد. قوله : ( كلاَ منهما ( لم يقل منهم لأنّ هداية إبراهيمءلمجييه معلومة مما سبق ، لأنّ الغرض تعديد النعم على إبراهيمءلمجب! بشرف الأصول والفروع ، والولد لا يعد نعمة ما لم يكن مهدياً ، قيل وإنما ذكر نوحا لمجم!ه لأنّ قومه عبدوا الأصنام فذكره ليكون له به أسوة وأمّا إنه لما ذكر أنعامه من جهة الفرع ثني بذكر النعمة من جهة الأصل فلا دلالة في النظم على علاقة الأبوّة ، وقد قيل إنها معلومة بدليل آخر أو لشهرتها ، ولك أن تقول أن من قبل دال عليه ، فتدبر. قوله : ( الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام الخ ) وهو من عطاياه التي امتن بها
عليه على كلا الوجهين ، لأنّ شرف الذزية وشرف الأقارب شرف لكنه على الأوّل أظهر ، ويكون تطرية في مدح إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالعود إليه مرّة بعد أخرى ، وقال محيي السنة رحمه الله : ومن ذرّيته أي ذرّية نوح ع!ي!ه ولم يرد من ذرّية إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنه ذكر في جملتهم يونس صلى الله عليه وسلم وكان من الأسباط في زمن شعياء أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل وقال إنّ لوطاً صلى الله عليه وسلم كان ابن أخي إبراهيم لمج!ه ابن تارح آمن بإبراهجم ولشص معه مهاجرا إلى الشأم فأرسله الله إلى أهل سدوم ، ومن قال الضمير لإبراهيم صلى الله عليه وسلم يقدر ومن ذزية إبراهيم ، وسليمان صلى الله عليه وسلم هدينا لأنّ إبراهيم هو المقصود بالذكر ، وذكر نوح لتعظيم إبراهيم ولذلك ختم بيونس ولوط وجعلهما معطوفين على نوحا هدينا من عطف الجملة على الجملة ، وصاحب الكشف أخرج إلياس صلى الله عليه وسلم ، وليس كذلك لما في جامع الأصول عن الكسائيّ إنهما من ذرّيته فبقي لوط خارجا ولما كان ابن أخيه آمن به وهاجر معه أمكن أن يجعل من ذزيته على سبيل التغليب كما ذكره الطيبي ، وعليه ينزل كلام المصنف رحمه الله تعالى 0 قوله : ( عطف على نوحاً ) وذكر إسماعيل وان كان من ذرّية إبراهيم لأنّ السكوت عن إدراجه في الذرّية لا يقتضي أنه ليس منهم ، وأنما لم يعد في موهبته لأنّ هبة إسحق كانت في كبره وكبر زوجه فكانت في غاية الغرابة ، وذكر يعقوب لأنّ إبقاء النبوّة بطنا بعد بطن(4/89)
ج4ص90
غاية النعمة ولم يعطف كلاً هدينا لأنه مؤكد لكونه نعمة. قوله : ( جزاء مثل ما جزينا ( قيل عليه أنّ مجموع الأمور الثلاثة من رفع الدرجة ، وكثرة الأولاد والنبوّة فيهم ليست موجودة في غير إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، والمراد بمماثلة جزائهم لجزائه مطلق المشابهة في مقابلة الإحسان بالإحسان والمكافأة بين الأعمال ، والا جزية من غير بخس لا المماثلة من كل وجه لأنّ اختصاص إبراهيمءكب!ه بكثرة النبوّة في عقبة مشهور فلا يرد عليه ما توهم. قوله : ( دليل على أنّ الذزية تتناول أولاد البنات ) لأنّ انتساب عيسى صلى الله عليه وسلم ليس إلا من جهة أمّه ، وأورد عليه أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأمّ إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه والمسألة مختلف فيها والقائل بها استدل بهذه الآية وآية المباهلة حيث دعا صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بعدما نزل ندع أبناءنا وأبناءكم إن لم نقل إنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم ، وقيل : إنّ هذا ليس بشيء لأن مقتضى كونه بلا أب أن لا يذكر في حيز الذرّية وفيه نظر ، وقوله : ( فيكون البيان ) المراد به قوله ومن ذرّيته ، ويكون توله وزكريا وما بعده معطوفا على مجموع الكلام السابق. قوله : ( قيل هو ادرش! جدّ نوح ) عليهما الصلاة والسلام ، وعلى هذا لا
يجوز إرجاع ضمير ومن ذرّيته إلى نوح-لمج!ه ، وقيل إلياس من ولد إسماعيل ، وعن العينيّ أنه سبط يوشع بن نون. قوله : ( الكاملين في الصلاح ) جواب عما يقال الصلاح صفة محمودة في نفسها لكنها لا يوصف بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 0 قوله : ( وقرأ حمزة والكسائي الليسع ) بوزن الضيغم وهو آعجمي دخلت عليه الألف واللام على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة للتعريب ، كما قال التبريزي إن استعماله بدونها خطأ يغفل عنه الناس ، ويكون تنظيره باليزيد في دخول اللام فيما لا تدخل قبل النقل فإن كان فعلا فشابه العجمي الفعل في عدم جواز دخول أل عليه ، فليس يسع من قبيل يزيد فعلاً حتى يرد أنّ دخول اللام عليه مخصوص بالضرورة فلا يصح تخريج ما في القرآن عليه فإنّ التشبيه ليس من كل الوجوه ، ووجه الشبه ما مرّ ، وهو أعجمي قيل إنه معرّب يوشع. قوله : ( رأيت الوليد بن اليزيد الخ ) هو من قصيدة للرمّاح بن ميادة من قصيدة مدح بها الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان أوّلها :
ألا تسأل الربع الذي ليس ناطقاً واني على أن لا أنين لسائله
كم العام منه أومتى عهد أهله وهل يرجعن لهو الشباب وعاطله
هممت بقول صادق أن أقوله واني على رغم العداة لقائله
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديداً بأعباء الخلافة كأهله
أضاء سراج الملك فوق جبينه غداة تناجي بالنجاح قوابله
وهي قصيدة طويلة وقد قيل : إنّ اللام دخلته لمشاكلة الوليد وهي فيه للمح الأصل ورأيت إن كانت علمية فمباركا مفعول ثان ، والا فهو حال وشديداً حال مترادفة أو متداخلة ، وأعباء جمع عبء كثقل لفظا معنى وإضافته إلى الخلاف كأظفار المنية أو لجين الماء أو هو استعارة تصريحية لمهماتها ، وما قيل إنه من قبيل لجين الماء وفيه استعارة تخييلية مجرّدة عن المكنية وهم ، والكاهل ما بين الكتفين ، ويونس بن متا بالمثناة كحتى ويقال : متتا بالفك اسم أبيه ، وقيل : اسم أمّه وأنه لم يشتهر نبيّ باسم أمّه غير يونس وعيسى صلى الله عليهما وسلم وقد رسم بالألف. قوله : ( وفيه دليل الخ ) قيل ظاهره تفضيل كل منهم على من عداه وهو مشكل لأنه يلزم منه تفضيل الشيء على نفسه ولو أول بعالمي زمانه إنما يتم لو لم يجتمع في زمان نبيان وليس كذلك فإبراهيم ولوط عليهما الصلاة والسلام اجتمعا فتوجيهه تحصيص العالمين بمن ليس نبياً واليه أشار بقوله بالنبوّة ، وبقوله على من عداهم من الخلق ليلزم كون
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من الملائكة على ما هو المشهور من الاستدلال عليه بهذه الآية ، وفيه إنه لا يلزم فضل غير المذكورين من الأنبياء عليهم ولا فضلهم على رسلهم لأنّ المراد كما صرّح به تفضيلهم بالنبوّة فاويهم فيها ، وأما التفضيل على الملائكة مطلقا فمن عموم العالمين فلا يرد ما ذكره. قوله : ( عطف على كلا ) الظاهر أنه أراد أنه عطف(4/90)
ج4ص91
على كلا فضلنا وجوّز أن يريد بكلا أحدهما لا على التعيين ، فقوله أو هدينا هؤلاء إشارة إلى أنه واقع موقع المفعول به لتأويله ببعض ، وقوله : فإنّ الخ إشارة إلى وجه ذكر من التبعيضية في النظم ، وقوله تكرير لبيان ما هدوا إليه أي لأجل بيانه لأنّ المهديّ إليه لم يتكرّر ، والمكرّر الهداية ، وقوله : ما دانوا به يعني أديانهم ، ويصح أن يكون إشارة إلى الهدي إلى الطريق المستقيم. قوله : ( دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية ) قيل فيه دليل على أنّ الهداية بمشيئته تعالى ، وأما أنه متفضل بها فمبناه على عدم لزوم المشيئة لذاته وذلك غير ذلك ، وردّ بأنه ظاهر من لفظ المشيئة فإنها مرادفة للإرادة ومن كلمة التبعيض ، ولذا قال بعضهم لما جعل المشيئة علة الهداية صارت تفضلاً بلا شبهة فاندفع ما فيه وما أورد عليه. قوله : ( مع فضلهم ) قيل لو أخره بعد قوله : ( لحبط عملهم ) كان أولى وأمره سهل ، وقوله : ( بسقوط ثوابها ) إشارة إلى أنّ سقوط الأعمال لا يتصوّر بعد الوقوع ، وإنما الساقط جزاؤها ، وقوله : ( والرسالة أليس عطفاً تفسيريا بل المراد أنّ النبوّة وان كانت أعمّ فالمراد بها ما يشمل الرسالة لأنّ المذكورين رسل ، وقد يقال إنما ذكر الأعمّ في النظم لأنّ بعض من دخل في عموم آبائهم وذرّياتهم ليسوا برسل فلا يرد عليه أنّ تفسير النبوّة بالرسالة غير ظاهر ، وتفسير هؤلاء بقريش من قرينة خارجية مع دلالة إشارة والمقام. توله : ( أي بمراعاتها ) هذا تفسير لمحصل معنى التوكيل بها لأنّ معناه الحفظ ، وما قيل المراد بتوكيلهم بها توفيقهم للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهد فمعنى المراعاة داخل في معنى التوكيل إن أراد أنه تفسير له بجزء معناه ، فلا نسلمه لأنه وما ذكره من لوازمه ولو سلم فإنما تركه لتكرّره مع قوله ليسوا بها بكافرين وما توهم من أنه إشارة إلى تقدير مضاف ، وأنّ فيه مبالغة لأنه يقتضي مراعاة المرإعاة تعسف لا وجه له. قوله.
( وهم الأنبباء عليهم الصلاة والسلام المذكورون ومتابعوهم ) رجحه الزمخشري بوجهين ، الأوّل أنّ الآية التي بعده إشارة إلى الأنبياء المذكورين عليهم الصلاة والسلام فإن لم يكن الموكلون هيم لزم الفصل بالأجنبي الثاني أنه مرتب بالفاء على ما قبله فيقتضي ذلك ، وقيل إنّ فيه بعداً فان الظاهر كون مصذق النبوّة ومنكرها مغايراً لمن أوتيها ، ولدّلك رجح بعضهم غير هذا الأوّل وهو أن يراد كل مؤمن ، وقوله وقيل الملائكة قال الإمام فيه بعد لأنّ القوم قلما يقع على غير بني آدم. قوله : ( فاختص ) أمر من الاختصاص أي اجعله منفرداً بذلك واجعل الاقتداء مقصوراً عليه وهو مستفاد من التقديم. قوله : ( والمراد بهداهم الخ ) فإن قيل الواجب في الاعتقاد وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل أو السمع ، ولا يجوز لا سيما للنبي مج!يي! أن يقلد غيره فما معنى أمره بالاقتدأء بهداهم قلنا معناه الأخذ به لا من حيث إنه طريقهم بل من حيث إنه طريق العقل والشرع ففيه تعظيم لهم وتنبيه على أنّ طريقهم هي الحق الموافق للعقل والسمع كذا قال النحرير : وفيه إنّ اعتقاده حينئذ ليس لأجل اعتقادهم بل لأجل الدليل فلا معنى لأمره بالاقتداء في ذلك ، وأيضا قيل عليه أنّ الأخدّ باصول الدين حاصل له قبل نزول هذه الآية فلا معنى للأمر يأخذ ما قد أخذ قبل إلا أن يحمل على الأمر بالثبات عليه ، فتعين كما قاله بعض المحققين إنّ الاقتداء المأمور به ليس إلا في الأخلاق الفاضلة والصمفات الكاملة ، وإذا أمر رسوله ىشيي! أن يقتدي بجميعهم في ذلك ، وهو معصوم عن مخالفة ما أمر به ثبت أنه اجتمع فيه جميع ما تفرق فيهم من الكمال ، وثبت بهذه الآية أنه أفضل الرسل كما قال الإمام رحمه الله : وهو استنباط حسن فثبت أنه أفضل من الجميع كما ثبت أنه أفضل من كل واحد منهم ، ولما نقل عن ابن عبد السلام إنه لا يدلّ على تفضيله على الجميع شنع عليه علماء عصره ، واعلم أنّ المأمور بالاقتداء فيه هو العقائد لا الفروع مطلقا فما قاله النحرير : وغيره لا وجه له. قوله : ( فليس فيه دليل عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله ) كما ذهب إليه كثير واستدلوا بهذه الآية وردّه المصنف كغيره بأنّ المراد بها العقائد الدينية مما لا يتبذل دون الفروع لأنها ليست مضافة إلى الكل ، ولا يمكن التأسي بهم جميعاً فيها لتناتض الأحكام وأيضاً لو تعبد بشريعة لنقل إلينا ولم ينقل وقد عرفت ما في هدّا الوجه الذي اختاره فتذكر. قوله : ( والهاء في اقتده(4/91)
ج4ص92
للوقف الخ ) أي هاء السكت التي تزاد في الوقف ساكنة
إجراء للوصل مجرى الوقف ، وبعضهم يحرّكها تشبيهاً لها بهاء الضمير ، والعرب كثيراً ما تعطي للشيء حكم ما يشبهه وتحمله عليه ، وقد روي قول المتنبيّ :
وأحرّ قلباه ممن قلبه شبم
بضم الهاء وكسرها على أنها هاء السكت شبهت بهاء الضمير فحركت ، والأحسن كما في
الدرّ أن يجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبه الضمير لأنّ هاء الضمير لا تكسر بعد الألف فكيف بما يشبهها ، وأمّا كونه اتبع فيه خط المصحف فمما لا ينبغي ذكره لأنه يقتضي أنّ القراءة بغير نقل تقليدا للخط فمن قاله فقدوهم ، وقيل إنها ضمير المصدر أي اقتد الاقتداء ، وهو أقرب لأنّ إجراء الوصف مجرى الوقف ضعيف حتى قيل إنه مخصوص بالضرورة ، والمراد بقوله أشبعها أنه كسرها ووصلها بياء وهو قراءة كما في الدرّ المصون ، وابن عامر كسرها من غير إشباع وهو الذي تسميه القراء اختلاساً. قوله : ( جعلا من جهتكم ) هذا القيد معلوم من قوله أسألكم لأن المسؤول منه يطلب شيء من جهتة بالضرورة ، وقيل إنه ماخوذ من قوله في موضمع آخر إن أجرى إلا على الله ، قيل والآية تدلّ على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام وللفقها فيه كلام لشهرته غنيّ عن البيان ، والجعل بضمّ الجيم وسكون العين كالجعالة ، والجعيلة ما يجعل للإنسان بفعله وهو أعمّ من الأجر والثواب كما قاله الراغب. توله : ( وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه ) قيل فيه اعترإف بعدم اختصاص الهدي المذكور بالأصول فلا وجه لنفي التمسك به قبيله ) قلت ) استفادة الاقتداء بهم في الأصول من الأمر الأوّل لا ينافي أن يؤمر بالاقتداء بهم في أمر آخر كالتبليغ وتلك آية هذه آية أخرى ، ولا ينافيه تقدم المتعلق للحصر ثمة لأنه نفي لاتباع طريقة غيرهم في شيء أخر ، ألا ترى قوله تعالى : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [ سورة الأحقاف ، الآية : 35 ] لا ينافي تلك الآية وقد أمر فيها بالاقتداء بهم أيضا وهو معلوم من تحقيق المسألة والنظر فيما قاله أهل الأصول فيها فلا حاجة إلى ما قيل مخالفته لتخصيص الهدي بالأصول ظاهرة وأمّ لزوم جواز التمسك المذكور فلا لأنّ محل الخلاف هو أنه مأمور بالتعبد بشرع من قبله فيما لم يوجد في القرآن ما يدل على وجوبه أو حرمته أو إباحته فإذا وجد ذلك لا يكون محل الخلاف كيف وكثير من أحكام القرآن في الكتب المتقدمة ، وقوله : إلا تذكيراً جعله نفس التذكير مبالغة ، وذكرى مصدر كما مرّ ولا حاجة لتأويله بمذكر والمراد بالغرض غرض التبليغ والقرآن ، ويصح تفسيره بالأجر أيضاً. قوله : ( وما قدروا الله حتى قدره ) فسره هنا بما عرفوه حق معرفته وفي الزمر بما قدروا عظمته في أنفسهم حق تعظيمه لأنه في الأصل معرفة المقدار بالسبر ثم إستعمل في معرفة الشيء على أتمّ
الوجوه حتى صار حقيقة فيه كما قالوا رحم الله من عرف قدره أي نفسه وحقيقته ومعرفة الله لما لم تكن إلا بصفاته فسر في كل محل بما يليق به فهنا لما كان في حق المشركين والكفار ناسب العظمة فدّكر في كل مقام ما يليق به ، ولهذا فسر أيضا بما وصفوه حق وصفه لما عرفت. قوله : ( في الرحمة والأنعام على العباد ( لما جعل قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء سبباً لأنهم ما عرفوه حق معرفته فإمّا أن يكو!ا عدم المعرفة في صفة أ المطف أو في صفة القهر فإن كان في اللطف فالسبب إنكار النبوّة لأنها من أجل رحمته بالعباد ، وان كان في القهر فالسبب الجسارة على ذلك الإنكار والى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله حين أنكروا الخ. قوله : ( والقائلون هم اليهود الني ) اختلفوا في القائلين ما أنزل الله على بشر من شيء فذهب الجمهور إلى أنهم اليهود ، واستدل عليه بقراءة الخطاب في قوله : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 191 وتقرير الاستدلال أنّ قوله قل من أنزل الخ جواب لأولئك القائلين والتاء في تجعلونه خطاب لهم ولا شك في أنّ الجاعلين التوراة قراطي! هم اليهود فيكون القائلون تلك المقالة هم اليهود ، فإن قلت اليهود يقولون التوراة كتاب الله أنزله على موسى صلى الله عليه وسلم ، فكيف يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء أجيب بأنّ مرادهم الطعن في رسالته صلى الله عليه وسلم مبالغة في ذلك الإنكار فقيل لهم على سبيل الإلزام قد أنزل الله التوراة على موسى صلى الله عليه وسلم فلم لا يجوز إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فكأنهم أبرزوا إنزال القرآن عليه في صورة الممتنعات حتى بالغوا في إنكاره فألزموا بتجويزه(4/92)
ج4ص93
ثم وصف كتاب موسى صلى الله عليه وسلم قصداً إلى تجهيلهم وتوبيخهم بصفات ثلاث أحدها أنه نور وهدى للناس ، وثانيها أنهم حرّفوه وتصرّفوا فيه بابداء بعض واخفاء كثير كصفته غ!يرو وآية الرجم ، وثالثها إنهم علموا في ذلك الكتاب على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم يعلموا ولا آباؤهم مما كانوا يختلفون فيه ، وقراءة الغيبة على هذا التفات تبعيدا لهم بسبب ارتكابهم القبيح عن ساحة الخطاب ، ولذا خاطبهم حيث نسب إليهم الحسن في قوله وعلمتم ، وهذا من عيون اللطائف في الالتفات ويؤيد هذا الوجه ما روي في سبب النزول فقوله مبالغة الخ إشارة إلى أنهم عمموا الإنكار مع اعترافهم بالتوراة لذلك ، وقوليما نقض كلامهم أي ردّه بإلزامهم كما عرفت وقراءة الجمهور بالجرّ عطف على نقض فإنها تدل على أن الخطاب لليهود ، وقراءة الياء التفات نكتته ما ذكرنا مع مناسبته للغيبة في قالوا وقدروا.
قوله : ( بدليل الخ ) هو دليل على كون الخطاب لليهود لكونهم الذين صدو منهم ذلك أو
دليلى للمبالغة لأنهم لا ينكرون نزول التوراة فهو كما إذا قيل فلان يعرف الفقه فقلت منكراً لذلك هو لا يعرف شيئاً أصلا مع أنه لا بد لمعرفته لشيء مّا ، وإنما ألزموا بالتوراة لاعترافهم
بها فكلامهم مبالغة على طريق الكناية أو أنه كان لذهول من الغضب والتهوّر كما روي عن ابن الصيف. قوله : ( وقراءة الجمهور ) بالجر قيل الذين يجعلون التوراة كذلك هم أليهود لا قريش ، وأمّ على قراءة الياء التحتية فيكون التفاتا جعلوا غيبا لثناعة ارتكاب ذلك الفعل وليس اعتراضاً بأنّ قراءة الياء لا تخرجه عن الاستدلال لأنّ ذلك الفعل ، إنما صدر منهم وأنّ المصنف رحمه الله أيضا قصد التعريض بالاعتراض على تخصيص الزمخشريّ الاستدلال بقراءة الخطاب كما قيل فإنّ مراد العلامة إنّ قراءة الخطاب ، أظهر في ذلك لدلالتها بالمعنى والصيغة. قوله : ( وتضمن ( وفي نسخة وتضمين وهو معطوف على نقض ، وهو دليل آخر لأنه لو كان جوابا لكفار قريش لم يكن ما ذكر من التوبيخ في موقعه لأنهم لا يوبخون بفعل غيرهم فهو دليل على أنه جواب ، وخطاب لهم فيكون القول الأوّل منهم ، ومن لم يتفطن لهذا قال إنه عطف على قراءة الجمهور لا على إنه دليل آخر أوله مدخل فيه وان أوهمه ظاهر العبارة ، وكيف يعطف على الدليل ما ليس بدليل ، وفي نسخة تضمن على المضيّ فلا يكون من الدليل ويكون كقوله في الكشاف وأدرج تحت الإلزام توبيخهم انتهى ، وتوبيخهم مفعول تضمن وذمهم بصيغة المصدر معطوف عليه والمراد بالحمل الحفظ من غير عمل كقوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } [ سورة الجمعة ، الآية : 5 ] الآية. قوله : ( روي ) هذا الحديث ) 1 ( أخرجه ابن جرير والطبرانيّ عن سعيد بن جبير ، والصيف بالصاد المهملة كضد الشتاء ، والحبر بكسر أوّله وفتحه العالم الفصيح وليس حينئذ من إسناد ما صدر من البعض ، إلى الكل إذا أريد به إنكار بعثته صلى الله عليه وسلم مبالغة ويكون منه إن أريد ظاهره ، وليس إسناده إليهم لأنهم رضوا به لأنّ تمام الحديث يدلّ على خلافه كما سيأتي إذ لا يلزم ذلك في هذا الإسناد ولو سلم فجعله رئيسا لهم في حكم الرضا بما يقوله ، ويفعله وحي!عذ فاللوم والتوبيخ لمالك حين جسر على مثله ، وإن لم ينكر نزول التوراة في الحقيقة أو جعل عدم العمل والرضا بما فيها بمنزلة إنكارها ، قيل وهذا الوجه لا يلائم لومهم وإلزامهم بإنزال التوراة على موسى عت!ه لا سيما بعد أن قال هذا القائل ، إنما صدر هذا عني من الغضب ثم إنّ النحرير جعل قوله روي الخ جواباً مستقلاً حيث قال إنّ
هذا القول صدر مبالغة في إنكار إنزال القرآن على النبيّ صلى الله عليه وسلم أو غضباً وذهولاً عن حقيقة الكلام كما أشار إليه بقوله وروي ، الخ لكن الوجه هو الأوّل ولذا رتب عليه بحث الإلزام والتوبيخ حين عيروه انتهى. فلذا عطف في الكشاف بالواو ، والعلامة في شرحه جعله مؤيداً للجواب الأوّل ، ولم بجعله جوابا مستقلا وكان المصنف رحمه الله تعالى جنح إليه فترك العطف فلا يرد عليه ما قيل الظاهر أن يقول وروي بالواو لأنه بدونه يوهم كونه بيانا لكون القائلين هم اليهود لا وجها آخر ، وليس كذلك لعدم دلالة هذه الرواية على أنّ الغرضى من هذا القول نفي إنزال القرآن ، فتأمّل وقوله أنشدك الله قسم من نثده بمعنى سأله ، وبغض الله للحبر السمين لأنه يدلّ على الحمق(4/93)
ج4ص94
والجهل ولأنه من كثرة التنعم باكل والشرب في أكثر ولذا قيل ما أفلح سمين قط ، وهو أغلبي ، وتتمة الحديث : " فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود " فضحك القوم فغضب ، ثم التفت إلى عمر رضي الله عنه فقال ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه ما هذا الذي بلغنا عنك قال : إنه أغضبني فنزعوه أي عزلوه عن كونه رئيساً عليهم وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. قوله : ( وقيل هم المشركون الخ ) وعليه قراءة الياء التحتية ظاهرة لقولهم : { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ } [ سورة الأنعام ، الآية : 57 ا ] ولقولهم : { إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } إلا أنّ قوله : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } لا يلائمه لأنه ليس من فعل المشركين فلذا جعل من الانتقال عن خطابهم إلى خطاب اليهود به تعريضاً بهم بأنّ إنكارهم إنزال الله من جنس فعل هؤلاء بالتوراة في البطلان وعدم الإسناد إلى برهان ، وعلى قراءة الخطاب فهو التفات من خطاب قوم إلى خطاب قوم آخرين وهو التفات عند الأدباء لكن الالتفات في القول المختار أبلغ وأحسن ، وقيل : إنهم لما سمعوا كلام اليهود ورضموا به خوطبوا بما يخاطبون به وهو بعيد. قوله : ( على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ) والخطاب لليهود كما صرحوا به واليه يشير قول المصنف رحمه الله زيادة على ما في التوراة وقوله : ( وقيل الخطاب الخ ) فإن قيل إنه من جملة مقول قل من أنزل ، وليس أجنبيا بينه وبين قل الله فأفي داع لتعيين إنه خطاب لليهود أو لقريش قيل هو لا يدخل معنى في حيز من أنزل الكتاب الخ إذ لا دخل له في الجواب ، ولدّا قالوا إنه في موقع الحال أو عطف على مقول قل على إنه مقول آخر بالاستقلال وعلى تقدير كون الخطاب لقريش فهو خطاب لمن آمن منهم إذ التعليم إنما هو لهم لا للكفرة ولم يتعرّضوا لما فيه من القراءتين على الالتفات ، ولا شبهة أن في قوله ما لم تعلموا إشارة إلى أنهم أهل علم بالكتاب فلذا لم يلتفتوا إلى كونه خطابا لقريش تنزيلاً لعلمهم الحاصل بالتعليم منزلة العدم لعدم العمل بموجبه توبيخا لهم كما قيل ، وضعف كونه خطاباً لمؤمني قريش لعدم
اقتضاء السياق والسباق له ، وعلى هذا هو اعتراض للامتنان على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأتباعه لهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن كما في الكشف والذي اقتضى التخصيص أنّ التعليم فاعله إمّا الإحبار أو النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلى الأوّل الخطاب لليهود ، وعلى الثاني للمؤمنين ، وما قيل الظاهر أن يقال هم قريش حتى يندرح فيهم من آمن منهم ويكون أوّل الكلام خطاباً لبعضهم وآخره خطابا لبعضهم وهم مؤمنوهم وإذا كان الخطاب مع اليهود وخطاب تجعلونه لهم ، فلا يظهر لخطاب من آمن من قريش بهذا الخطاب وجه إلا أن يقال الناس عامّ فيدخل فيهم قريش وعلمتم معطوف على تجعلونه والخطاب فيه للناس باعتبار اليهود ، وفي علمتم لهم باعتبار مؤمني قريش تكلف لا حاجة إليه. قوله : ( أي أنزله الخ ( يعني هو إمّا فاعل فعل مقدر أو مبتدأ خبره جملة مقدرة ، واختلف في الأرجح منهما فقيل تقدير الفعل ليطابق السؤال ويقل التقدير ، لأنّ ما بعد أداة الاستفهام في من أنزل فعل ، وقيل : الأرجح تقدير الله أنزله وهو المطابق لمن أنزل بتقدير الله أنزله أم غيره مع إفادته للتقوّى وقد مرّ الكلام فيه ، وله تفصيل في كتب العربية والمعاني وقوله أمره بأن يجيب عنهم إشارة إلى نكتة تلقين السائل الجواب ، وعدم نقل جوابهم إشارة إلى أنهم ينكرون الحق مكابرة منهم وقد مرّ تفصيله. قوله : ( في أباطيلهم ) قد مر أنّ الخوض هو المتكلم في الشيء وأنه مخصوص بالباطل في المشهور ، وإليه أشار المصنف رحمه الله وقوله : ( فلا عليك ) أصله ، فلا بأس عليك واسم لا يحذف كثيراً ، وقد سمع في هذا بخصوصه ، ووجوه الإعراب فيه ظا+ص. وكونه حالاً من ضمير خوضهم لأنه مصدر مضاف لفاعله ، وقوله : ( أو من هم الثاني ) وهو معطوف على هم الأوّل إشارة إلى أنه لا يصح حينئذ جعل الظرف متصلا بيلعبون على الحالية أو اللغوية لأنه يكون معمولاً له متأخراً عنه رتبة ومعنى مع أنه متقدم عليه رتبة أيضا لأنّ العامل في الحال عامل في صاحبها فيكون فيه دور وفساد في المعنى ، وفي قوله والظرف متصل بالأوّل إيجاز لأنه أراد بالكلام الأوّل فيشمل كونه لغواً أو حالاً من هم ولذا لم يقل بهم الأوّل ، ومن لم يتنبه له قال لا أرى وجها لعدم ذكره جواز كون الظرف حالاً من مفعول ذرهم مع أن المتبادر من عبارته. قوله : ( مبارك كثير الفائدة والنفع ) لاشتماله على منافع الدارين وعلوم(4/94)
ج4ص95
الأوّلين والآخرين ، قال الإمام : قد جرت سنة الله بأنّ الباحث عن القرآن والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وقد شوهد كذلك في كل عصر ، وقوله
يعني التوراة خصها لأنها أعظم كتاب نزل قبله ، ولأنّ الخطاب مع اليهود أو الكتب التي قبله فهو أعمّ شامل لها ولغيرها ومعنى كونها بين يديه أنها متقدّمة عليه لأنّ كل ما كان بين اليدين فهو كذلك. قوله : ( عطف على ما دل عليه مبارك الخ ) في الكشاف معطوف على ما دلّ عليه صفة الكتاب كأنه قيل أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار ، وقال النحرير : لا حاجة إلى هذا التكلف لجواز أن يكون عطفاً على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار ، ومثل هذا أعني عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير وقيل الداعي إلى هذا التكلف أنه رأى الصفات السابقة عراة عن حرف العطف ليتلاءم أطراف الكلام ولا ينفك النظام ، فلما جيء به مقترناً بالعطف اقتض حسن التوجيه أن لا يحمل على الوصف بل على العطف على محذوف وله غير نظير في القرآن سيما في هذه السورة كما مرّ ، وليس بشيء وإن ارتضاه بعضهم لأنه يقتضي أنّ الصفات إذا تعدّدت ولم يعطف أوّلها يمتنع العطف في آخرها أو يقبح ، وليس كذلك بل الواقع المصرّح به خلافه كقوله تعالى : { عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } [ سورة التحريم ، الآية : 5 ] فعطف قوله وأبكارا مع ترك العطف في الصفات السابقة لكنه لنكتة يمكن اعتبار ما يضاهيها هنا ، مع أنّ ما ذكره لازم على الوجه الثاني وهو قوله أو علة لمحذوف الخ لأنّ جملة وأنزلناه لتنذر معطوفة على أنزلنا الواقع صفة فالظاهر أنّ الحامل على هذا أنّ اللفظ والمعنى يقتضيه أمّا المعنى فلأنّ الإنذار علة لإنزاله كما قال الله تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ } [ سورة الأنعام ، الآية : 19 ] ولو عطف لكان على أوّل الصفات على القول الأصح ولا يحسن عطف التعليل على المعلل به ولا الجارّ والمجرور على الجملة الفعلية لأنه نظير هذا رجل أقام عندي وليخدمني ولا يخفى قبحه ، ومنه يعلم الحامل اللفظي ، وليس تقديم الجارّ فيه للحصر لأنه فهم من الجملة السابقة علة أخرى ككثرة البركة بل للاهتمام لأنّ الإنذار مقتضى المقام أو الحصر إضافيّ ، ويصح أن يقدّر لتبشر ولتنذر. قوله : ( وإنما سميت الخ ) وجه الأوّل أنهم يجتمعون عندها كتجمع الأولاد عند الأمّ المشفقة ، ووجه قوله أعظم القرى شأنا أنّ غيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل ووجه قوله لأنّ الأرض! الخ ، يعني أنها أخرجت من تحتها كما يخرج الأولاد من تحت الأمّ وأيضاً فالناس يرجعون إليها كما ترجع الأولاد إلى الأمّ ، واليه أشار الزمخشريّ في شعر له رويناه في ديوانه من قوله :
أنا جار بيت الله مكة مركزي ومضرب أوتادي ومعقد أطنابي
فمن يلق في بعض القريات رحله فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابي
واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله قبلة أهل القرى ومحجهم ، ومنتابي بمعنى مرجعي
نوية بعد نوبة وإنما ذكرناه لأنّ شراحه لم يقفوا عليه وعلى المراد منه والقراءة بالياء التحتية على الإسناد المجازي لأنه منذر به. قوله : ( أهل المشرق والمنرب ) أوّله لعموم بعثته لقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ } [ سورة سبأ ، الآية : 28 ] واللفظ متحمل له وردّا على من تمسك بها لأنه مرسل للعرب خاصة ولا متمسك فيها لما سمعت على أنه خصهم لأنهم أحق بإنذاره كقوله تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [ سورة العراء ، الآية : 214 ] ولذا نزل كتاب كل رسول بلسان قومه مع أنه استدلال لإرساله للعرب وليس فيه حجة على نفي غيره. قوله : ( والضمير يحتملهما ) أي النبيّ والكتاب على البدل والصلاة المراد بها مطلق الطاعة مجازاً ، أو اكتفى ببعضها لما ذكر وكلام المصنف رحمه الله تعالى ظاهر في الثاني ، وعلم الإيمان بمعنى علامته ولذا أطلق الإيمان عليها مجازا كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ سورة البقرة ، الآية : 143 ] أي صلاتكم. قوله : ( ومن أظلم الخ ) استفهام إنكاري معناه النفي والمراد أنه أظلم من جميع المخلوقات كما مرّ ومسيلمة بكسر اللام لأنّ ما بعد ياء التصغير يلزم كسره ، والعامّة تغلط فتفتحها ، وهو من بني حنيفة أهل اليمامة اذعى النبوّة في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقتل في خلافة أبي بكر رضي الله عنه والأسود العنسي ، كك كاهنا باليمن من بني عنس بعين مهملة مفتوحة ونون ساكنة وسين مهملة(4/95)
ج4ص96
ادّعى النبوّة ، واستولى على اليمن ، وأخرج بعض عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي ، وجاء خبر قتله قبيل موته صلى الله عليه وسلم وقيل عقبه ، وقوله : ( اختلق ) بالقاف بمعنى افترى ، وعمرو بن لحيّ منقول من تصغير لحى ، وهو الذي حرم البحائر وسيب السوائب في الجاهلية والزمخشري قصره على من ادّعى النبوّة والمصنف عمم وأو للتنويع لا للترديد ، وعن النبيّ بوو : " رأبت فيما يرى النائم كأن في يديّ سوارين من ذهب فكسرا علئ ، وأهماتي ، فأوحى الله إلئ أنفخهما فنفختهما فطارا عني ، فأؤلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة وكذاب صنعاء الآسود العنسي " ( 1 ( ، كذا في الكشاف ، قالوا والتأويل المذكور لأنّ السوار سيما الذهبي لا يناسب الرجال سيما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكونهما في يديه دليل على نزاع فيما يتقوّى به من أمر النبوّة ونفخهما إشارة إلى استحقار شأنهما وزوالهما بأدنى شيء وقد كنت تأوّلت هذه الرؤيا قبل الوقوف على هذا بأنّ الذهب النبوّة لأنه أشرف المعادن ، وأنفعها لأنه خواتيم الله في أرضه التي بها التعامل ، كما أنها
أشرف صفات البشر الذين بهم تنتظم الأمور وكونها سوار إشارة إلى أنها بعده أو أنه يذهبها رجلان من أصحابه وهما الصذيق بأمره وخالد بن الوليد بمباشرته رضي الله عنهما والطيران بالنفخ زوالهما بدون مباشرته بنفسه بل بمقتض كلامه وشرعه ، ثم وقفت على هذا وهو قريب مما قلته. قوله : ( أو قال أوحى إلئ ) فسره الزمخشري بمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمصنف رحمه الله جعله عبد الفه بن أبي سرح كاتب الوحي لما كان هذا داخلاً في الافتراء على الله وجه العطف باو بأنّ المراد بالثاني هو القول ولو على سبيل الترديد فيه ، وقال الإمام : إنه في الأوّل يدعي أنه أوحى الله إليه ولم ينكر نزول الوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي الثاني أثبت الوحي لنفسه ، ونفاه عنه صلى الله عليه وسلم ، فكان جمعاً بين أمرين عظيمين ، وهو إثبات ما ليس بموجود ، ونفي ما هو موجود فجعل الواو عاطفة وضمير إليه للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعلى توجيه غيره الواو للحال والضمير لمن وكون سبب النزول قصة ابن أبي سرح ) 1 ( ذكره ابن عطية في تفسيره ، وقال ابن عرفة أنه غير صحيح ولم يبين وجهه. قوله : ( كالذين قالوا الخ ) فيكون دعوا. أنه سينزل بمعنى أنه قادر على ذلك والزمخشري حمل هذه الآية على ابن أبي سرح وساق حديثه هنا ، ورجح بأنه ليس في حديثه أنه أوحى إليه بل ادّعى القدرة على ذلك لو روي أنّ هذه القصة كانت لابن أبي خطل ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم لكن ابن الجوزي قال : إنه موضوع ، وحديث ابن أبي سرح أخرجه ابن جرير عن السدي بدون قصة فتبارك اللّه ، وقال ابن سيد الناس : في سيرته إنّ عثمان رضي الله عنه شفع له عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبله بعد تلوّم وحسن بعد ذلك إسلامه حتى لم ينقم عليه شيء ومات ساجدا وأكثر بلاد المغرب فتحت على يديه في زمن عثمان رضي الله عنه. قوله : ( حذف مفعوله ) ، ثم لما حذف أقيم الظاهر مقام المضمر إذ أصله ولو ترى الظالمين إذ هم وتقييد الرؤية بهذا الوقت ليفيد أنه ليس المراد مجرّد رؤيتهم بل رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر ، وما قيل ظاهره إنّ المفعول المحذوف هو الظالمون ولكن المقصود أنه هيئة كونهم
في غمرات الموت ، حال كون الملائكة باسطي أيديهم وجواب الشرط المحذوف شاهد لما قلت ، فهو تعسف لتفسيره الكلام بما لا يدل عليه نعم هو وجه آخر ، وقيل المفعول إذ والمقصود تهويل هذا الوقت لفظاعة ما فيه وجواب الشرط مقدر أي لرأيت أمرا فظيعا هائلاً. قوله : ( شدائده ) يعني أصل معنى الغمرة المرّة من غمر الماء ثم استعير للشدة وشاع فيها حتى صار كالحقيقة واليه يشير قول المتنبي :
وتسعدني في غمرة بعدغمرة سبوح لهامنها عليها شواهد
فانظر موقع قوله سبوح هنا ومثله بسط اليد هنا على الوجه الأخير. قوله : ( بقبض أرواحهم الخ ) ، والمتقاضحي الغريم الذي يطلب قضاء حقه والملظ بالظاء المعجمة والطاء المهملة الملح الملازم ، وقوله : كالمتقاضي صريح في أنه تشبيه لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح في استيفاء حقه ، وفي الكشف أنه كناية عن ذلك ولا بسط ولا قول حقيقة وقيل الظاهر من كلام المصنف رحمه الله أن يكون(4/96)
ج4ص97
هذا القول حقيقة لا تمثيلا وتشبيها لفعل الملائكة عند قبض أرواحهم بفعل الغريم الملظ ، كما ذهب إليه في الكشاف فحمل قوله كالمتقاضي على التنظير وأنّ هذا الفعل صادر منهم حقيقة كما يصدر من الغريم ، وهو الذي ارتضاه في الانتصاف وبه نطقت الآثار فبسط اليد إئا حقيقة أو على سبيل التمثيل وإذا كان بسط اليد بالعذاب بنحو الضرب فهو حقيقة أو المراد زيادته كما في قوله بل يداه مبسوطتان. قوله : ( يقولون لهم الخ ) فأخرجوا في محل نصب مقول قول مقدر وهو كثير مطرد والقول المضمر في محل النصب على الحالية من الضمير في باسطو الأمر على الأوّل للعنف بهم ، وعلى الثاني للتوبيخ والتعجيز ، والأوّل ناظر إلى قبض أرواحهم والثاني إلى قوله بالعذاب ، ولو عمم لقوله وخلصوها لكان له وجه ، وليس تقدير القول منافيا للتمثيل لأنه على سبيل الفرض أيضا ، والمراد باليوم مطلق الزمان لا المتعارف وهو إما حين الإماتة أو ما يشمله وما بعده. قوله : ( وإضافتة إلى الهون الخ ) الهون والهوان بمعنى كما في قول الخنساء :
تهين النفوس وهون النفوس يوم الكريهة أبقى لها
واضافة العذاب إما حقيقية لأنّ العذاب قد يكون للتاديب لا للهوان أو هو كرجل سوء
كما في الكشاف لأنّ العذاب مضرّة مقرونة بالإهانة ، كما إنّ الثواب منفعة مقرونة بالإكرام فالعذاب مشتمل على الهوان واضافته إليه ليفيد أنه متمكن فيه لأنّ الاختصاص الذي تفيده الإضافة اً قوى من اختصاص التوصيف ، والعراقة بالعين المهملة الأصالة وأصلها ثبات العروق قيل ، ولو ذكر ادّعاء الولد والشريك فيما مضى لكان أنسب ، وتعدية القول بعلى لتضمنه الافتراء واليه أشار بقوله كاذبا ، وجملة ولقد جئتمونا الخ مستأنفة من كلامه تعالى ، ولا ينافي قوله تعالى : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } [ سورة البقرة ، الآية : 174 ، لأنه كناية عن الغضب وكونه من كلام ملائكة العذاب بعيد. قوله : ( جمع فرد ( على خلاف القياس ، وفي الدر المصون فرد بفتح الراء ، وقيل : بسكونها وفي نسخة فردان كسكران ، وهو يقتضي أنه مفرد محقق لا مقدر ، وفي الصحيح كأنه جمع فردان في التقدير إلا أن يكون تسمح في التعبير ، وقال الراغب؟ هو جمع فريد كأسير وأسارى وكسالى بضم الكاف وفتحها جمع كسلان وفراد بالضم كرخال جمع رخل أنثى الضأن ، وهو جمع نادر لم يات منه إلا كلمات مخصوصة كما مرّ ، وقوله : فرداً كثلث يعني بضمتين مفرد بمعنى منفرد كعنق كما في القاموس ، فكان الظاهر تكراره كما يقال فردأ فردا لكنه يؤوّل بما أوّل به قوله تعالى : { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا } ، [ سورة غافر ، الآية : 67 ] ووقع في نسخة فراد كثلاث المعدول عن فرد فرد وقيل إنه من تحريف النساخ لما قيل إنّ مجيء هذا الوزن المعدول مخصوص بالعدد بل ببعض كلماته ، ولم نره في اللغة ولا في كلام من يوثق به.
زقلت ) في الدرّ المصون يقالط جاء القوم فراد غير منصرف كأيحاد ورباع في كونه صفة معدولة وبه قرئ ، وقرئ منوّنا مصروفا أيضاً فلا عبرة بإنكاره وكون العدل مخصوصا بما ذكر غير مسلم وإنما هو شائع فيه وإلى هاتين القراءتين أشار المصنف رحمه الله بقوله فرادا كرخال الخ فما ذكر من قلة الاطلاع ، وفي تفسير الفراء فرادى جمع والعرب تقول قوم فرادى ، وفراد غير منصرف شبهت بثلاث ورباع وفرادى واحده فرد وفريد وفرد وفردان ا!. وفردى كسكرى تأنيث فردان والتأنيث لجمع ذي الحال. قوله : ( بدل ) أي بدل كل من كل لأنّ المراد المشابهة في الانفراد المذكور والكاف حينئذ اسم بمعنى مثل أو فرد ، وعلى الحالية فهي إما حال مترادفة أو متداخلة ، وقوله عند من يجوز تعدد الحال أي من غير عطف وهو الصحيح ، وقوله أو مشبهين هو على هذا حال أيضا وعطفه بأو لأنه قسيم لما قبله معنى لأنه على ما قبله شبيه في
الانفراد وفي هذا باعتبار ابتداء الخلقة فلا وجه لما قيل الظاهر أن يقول أي مكان أو ، وقوله : ( مشبهين ابتداء خلقكم ) كذا قدره أبو البقاء واعترض عليه المعرب بأنهم لم يشبهوا بابتداء خلقهم فصوابه أن يقدر فيه مضاف أي مشبهة حالكم حال ابتداء خلقكم وفيه نظر ، وحفاة جمع حاف وهو خلاف المنتعل ، والغرل بغين معجمة وراء مهملة ولام الأقلف وصحفه بعضهم عزلاً بعين مهملة وزاي معجمة ، وهو خطأ لأنّ هذا هو المروي المأثور في الحديث ( 1 ) ، والبهم جمع بهيم أو أبهم وأصله الخيل التي لا شية فيها واستعير للخالي عما يغير هيئته الأصلية ، وقوله مجيئا المراد بالمجيء هنا الخلق والإعادة ولذا جعل(4/97)
ج4ص98
كما خلقناكم صفة له ، وقوله : فشغلتم إشارة إلى أنه متضمن للتوبيخ ، والتخويل بالخاء المعجمة الأنعام وأصله ملك الخول وهم الخدم والنقير النقرة في ظهر النواة ويكنى به عن الشيء الحقير وقوله ما قدمتموه كناية عن كونهم لم يصرفوه إلى ما يفيد في الآخرة وكان الظاهر في العبارة أن يقول ما قدّمتم منه شيئا فكأنه جعل شيئا بدلاً من ضمير المفعول تنصيصا على العموم ولا يضرّ توسط منه لأنه ليس بأجنبيّ. توله : ( في ربوبيتكم الخ ) يعني أنّ فيكم متعلق بشركاء على حذف مضاف ، وهو الربوبية واستحقاق العبادة عطف تفسيري له وقدره الزمخشريّ ، في استبعادكم لأنهم حينئذ دعوها آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وقيل استعبده جعله عبدا فقوله في استعبادكم أي استعباد الإله إياكم ، ولو قال في عبادتكم لكان أصوب لأنهم عبدوها فقد جعلوها شركاء في عبادتهم لا استعبادهم وردّ بأنه لم يجعل ال!ضاف المقدر عبادتكم لأنّ جعلهم شركاء في العبادة ، كان على الحقيقة لا الزعم دمانما الزعم كونهم شركاء في اتخاذهم عبيدا ولك أن تجيب عنه بأنّ معنى جعلهم شركاء في العبادة العبادة الحقة المستحقة ، وهي ليست على الحقيقة وإليه يشير كلام المصنف رحمه الله. قوله : ( أي تقطع وصلكم الخ ) هذا على قراءة الرفع وقد قرئ بهما يعني أنه من الأضداد أي الألفاظ المشتركة بين ضدين كالقرء للحيض ، والطهر فيكون مصدرا لا ظرفا ، وقيل إنه على هذا مصدر بمعنى البينونة والفصل وتحقيقه أنه قد يقال بيني وبينك شركة في كذا كما يقال بيني وبينك فراق والشركة من قبيل الوصلة فاستعمل لذلك بمعنى الوصل وتد اقتدى في ذلك بالإمام وتحقيقه أنّ بعضهم كابن عطية طعن في هذا بأنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل ، وإنما انتزع من هدّه الآية فقيل عليه إنه فهم أنه معنى حقيقي لها ، وهو مجاز كما قاله الفارسي لأنها تستعمل بين الشيئين المتلابسين في نحو بيني وبينك رحم وصداقة وشركة فصارت لذلك بمعنى الوصلة ، ولو قيل بأنه حقيقة لم يبعد فإنّ أبا عمرو
وأبا عبيد وابن جني والزجاج وغيرهم من أئمة اللغة نقلوه وكفى بهم سنداً فيه فكونه منتزعا من هذه الآية غير مسلم ، وقيل هو ظرف أسند إليه الفعل على الاتساع هذا توجيه لقراءة الرفع فهو على هذا لازم الظرفية لكنه توس!ع فيه كما يتوسع بجعله مفعولاً ، وفيه نظر ، وقيل إنه منصرف غير لازم للظرفية وعليه الزمخشريّ في سورة العنكبوت ، وقوله : ( والمعنى الخ ) يعني أنه وان أسند إليه لفظا لكن المعنى على الظرفية إذ التقدير وقع التقطع بينكم في قراءة النصب. قوله : ( وحفص عن عاصم بالنصب ) فالوجوه السابقة على قراءة الرفع وأوّله المصنف رحمه الله بما ذكره وقيل إنه الفاعل وبقي على حاله منصوباً حملا له على أغلب أحواله ، وهو مذهب الأخفش ، وقيل إنه بنى لإضافته إلى مبنيّ كما مز في مثل ما أنكم تنطقون ، وقوله : ( إنها شفعاؤكم ( قيل المناسب للمقام إنها شركاء دته في الربوبية ألا ترى إلى قوله { لَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء } ( فلت ) ما ذكره المصنف رحمه الله هو المناسب لقوله تعالى : { مَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ } . قوله : ( على إضمار الفاعل لدلالة الخ ) أي تقع الأمر أو الاشتراك بينكم أو وصلكم ، وقيل إنّ الفاعل ضمير المصدر ولا يخفى إباء العبارة عنه إذ قوله لدلالة ما قبله لا يناسبه ولو كان كذلك لقال لدلالة الفعل عليه ، وقال أبو حيان أنه ليس بصحيح لأنّ شرط إفادة الإسناد مفقودة فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ولذلك لا يجوز قام القائم أو هو أي القيام ، وفيه أنه سمع من العرب بدا بداء وقد قدروا في قوله تعالى : { ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ } [ سورة يوسف ، الآية : 35 ] بدا البداء فليتأمّل ، ثم إنه إذا كان الضمير للمصدر فالمعنى على تأويل التقطع كما مرّ لئلا يصير التقدير تقطع التقطيع ، وإذا تقطع التقطيع حصل الوصل وهو ضد المقصود. قوله : ( أو أقيم مقامه موصوفه الخ ) فما موصوفة لا موصولة ولو سلم جواز حذف الموصول وابقاء صلته ، وهو مذهب الكوفيين كما نقله المعرب لأنها إذا كانت ظرفاً غير متصرّف يلزم حذف الفاعل من غير بدل يحل محله وجوازه في مثله غير مسلم ، وقد أشار أبو حيان رحمه الله تعالى إلى منعه ولم يذكر فيه خلافا قال : والذي يظهر لي أنه من باًب التنازع سلط على ما كنتم تزعمون تقع وضل فاعمل الثاني ، وهو ضل وأضمر في تقطع ضميرها وهي الأصنام فالمعنى لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا(4/98)
ج4ص99
عنكم كما قال تعالى : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } [ سورة البقرة ، الآية : 66 أ ] أي لم يبق إيصال بينكم وبين ما كنتم تزعمون أنهم شركاء فعبدتموهم وهذا إعراب حسن لم يتنبه له أحد. قوله : ( بالنبات والشجر ( لف ون!ئمر مرتب لأنها تتشقق ويخرج م!نها شيء ينمو والحب معروف ، رالنوى ما في
جوف التمر ، ثم إنّ قوله الشقاق الخ مروي عن مجاهد رحمه الله وضعف بأنه لا دلالة له على كمال القدرة مع أنّ الشقاق داء يكون في الدواب ، وأما استعماله بمعنى الشق فلم يذكره أهل اللغة إلا أنه وقع في شرح التسهيل صيغة فعال يكون للادواء كالزكام والأصوات كالصراخ قال ابن عصفور : وهو مقيس فيهما وفيما تفرق أجزاؤه كالرفات والحطام فيمكن أن يخرج هذا عليه لدلالته على التفرّق. قوله : ( ليطابق ما قبله ) قيل مشابهة إخراج الحي من الميت للأنبات تكفي للمطابقة وهذا غفلة عن كونه بيانا لما قبله ولذلك ترك العطف فلا بذ من تعميمه ليصلح لذلك ، وقوله : ( ذلك ) إشارة إلى غير النامي. قوله : ( حملاَ على فالق الحب الخ ) أي عطفا عليه لا على يخرج الحيّ لأنه بيان لفالق الحب والنوى وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه كقوله : { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ سورة الملك ، الآية : 19 ] والإمام وصاحب الانتصاف جعلاه معطوفاً على يخرج الحيّ من الميت ، وفيه من البديع التبديل كقوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [ سورة الحج ، الآية : 61 ] وإنما عدل إلى صيغة المضارع في يخرج ليدل على تصويره وتمثيله واستحضاره ، واشتماله على زيادة فيه لا يضرّ ذلك بكونه بياناً ، كما أن مخرج الميت من الحيّ بيان مع شموله للحيوان والنبات وله وجه وحجته إنه ورد في آيات أخر معطوفا عليه هكذا يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحي فيبعد قطعها عن نظائرها وإنما عدل إلى المضارع لتصويره واستحضاره لكونه أوّل في الوجود وأعظم في القدرة. قوله : ( الذي يحق له العبادة ) فسره به ليرتب عليه قوله فأنى تؤفكون ترتباً ظاهر إلا أنه حمله على مفهومه الأصلي دون ذات الواجب تصحيحا للحمل على ما قيل. قوله : ( شاق عمود الصبح الخ ) عمود الصبح ضوؤه المشبه به وهذا جواب عما يقال ما معنى فلق الصبح ، والظلمة هي التي تفلق عنه كما قال تفرّي ليل عن بياض نهار ، وحاصله أنّ الصبح صبحان صادق وكاذب تعقبه ظلمة فإن أريد الأوّل فالمراد فالقه عن بياض النهار أو في الكلام مضاف مقدر أي فالق ظلمة الإصباح وان أريد الثاني فالمراد فالقه عن ظلمة آخر الليل التي تعقبه وشاقه منه كما قال الشاعر :
فانشق عنه عمود الفجر حافله
والإصباح مصدر سمي به الصبح قال امرؤ القيس :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى بصبح وما الإصباح منك بامثل
وفتح الهمزة على أنه جمع صبح كقفل وأقفال ويقال مساء وامساء أيضاً قال تناسخ الإصباح والإمساء والغبش بغين معجمة وباء موحدة وشين معجمة ظلمة آخر الليل. قوله : ( سكنا ) في الكشاف السكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا واسنرواحا إليه من زوج أو حبيب ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ألا تراهم سموها مؤنسة والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه ويقال للدار سكن أيضا كما قال الراغب فهو يطلق على الزمان والمكان ومن فيه قال :
يابارقاذكرالحشى سكنه م!ض لتابالعقيق من سكنه
فيجوز أن يراد جعل الليل مسكوناً فيه ، وقوله التعب بكر العين كحذر صفة مشبهة من التعب ، وقوله اطمأن إليه بمعنى سكن إليه ، ولذا عذى بإلى كما في الأساس ، وقوله : أو يسكن فيه الخلق أي يقروا ويهدؤوا من السكون. قوله : ( ونصبه بفعل دلّ عليه جاعل لا به ( لأنه يشترط في عمل اسم الفاعل كونه بمعنى الحال أو الاستقبال والكسائيّ وبعض الكوفيين أجازوا عمله بمعنى الماضي مطلقا حملا له على الفعلى الماضي الذي تضمن معناه واستدلوا بهذه الآية ونحوها ، وبعضهم جوّزا عما له بمعنى الماضي إذا دخلت عليه الألف واللام ، وبعضهم جوّز أعماله في الثاني إذا أضيف إلى الأوّل لشبهه بالمعرف باللام إذا أضيف وهذه مذاهب للنحاة قال السيرافي : الأجود هنا أن يقال إنما نصب اسم الفاعل المفعول الثاني ضرورة حيث لم يمكن إضافته إليه وقد أضيف إلى الأوّل فاكتفى في الأعمال بما في اسم الفاعل من معنى الفعل الماضي(4/99)
ج4ص100
ولا يجوز الاعمال بدون هذه الضرورة ، ولما لم يوجد عاملا في المفعول الأوّل مع كثرة وروده في الكلام قال أبو عليّ : إنه منصوب بفعل دل عليه اسم الفاعل فنحو معطي زيد درهما كأنه لما قيل زيد قيل ما أعطي فقال : درهماً أي أعطاه درهما كقوله :
ليبك يزيد ضارع لخصومة
فيسلم من الضرورة المذكورة ، وردّه الأندلسيّ بأنه لا يستقيم ذلك في نحو ظانّ زيد أمس
قائما إذ لا يقال هذا ظانّ زيد أمس ظنه قائما للزوم حذف أحد مفعولي ظانّ ، وهو لا يجوز ، وأجيب بأنّ للفارسي أن يرتكب جوازه للقرينة وان كان قليلا في أفعال القلوب ، وضعف مختار السيرافي بقولهم هذا ضارب زيد أء. س وعمرا إذ لا اضطرار هنا إلى نصب عمراً لأنّ حمل التابع على إعراب المتبوع الظاهر أولي- ولا استدلال للكسائيّ في قوله تعالى : { بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ الْوَصِيدِ } [ سورة الكهف ، الآية : 18 ] لأنه حكاية للحال كما قرّره الرضي وغيره ، وقيل عليه من لم يجوّز أعماله بمعنى الماضي كيف يسلم صحة الأمثلة المذكورة حتى يستدل بها على جواز أعماله فلا حاجة إلى أن يقال إعماله ضروريّ في تلك الأمثلة ، ولا أن يقال انتصابه فيها بفعل مدلول عليه بها حتى يرد عليه عدم استقامته في المثال الأخير ، وان جاز الاعتذار عنه ، وكيف يسلم كون انتصاب سكنا بجاعل حتى يستدلّ به عليه بل يجعله بفعل دلّ عليه جاعل كما ذكره المصنف رحمه الله.
( قلت ) القائل بجواز أعماله بمعنى الماضي تمسك بما ذكر ، وقال : إنّ التقدير واذعاء حكاية الحال خلاف الأصل ومثله يكفي في الأدلة النحوية ، فكيف ينكر عليه ، وقوله : ( وبدل عليه ) أي على كونه بمعنى الماضي وإنما حمله على المعنى ليتناسبا. قوله : ( أو به ) أي باسيم الفاعل المذكور ولا بفعل مقدّر وهذا مختار الزمخشري ، واعترض عليه بأنه ذكر أن جاعلا دال على جعل مستمرّ في الأزمنة المختلفة ومع ذلك جعله عاملا في المضاف إليه ناصبا حيث جوّز عطف والشمس والقمر في قراءة النصب على محل الليل ، وهو صريح في أنّ اسم الفاعل إذا أريد به الاستمرار كان عاملاَ فتكون إضافته غير حقيقية ، وقد ذكر أنها حقيقية في مالك يوم الدين فبين كلاميه تناف وأجيب بأنّ الزمان المستمرّ يشتمل على الماضي والحال والاستقبال ، فإن نظر إلى المضيّ لم يعمل وكانت إضافته حقيقية وإن لم ينظر إليه كان عاملاً واضافته غير حقيقية وكل واحد من الاعتبارين متعين باقتضاء المقام وقرائن الأحوال ، وأجيب أيضاً بأنه لا منافاة بين أن يكون المستمرّ عاملا واضافته حقيقية لأنه لما استمرّ احتوى على الماضي وغيره فروعي الجهتان معاً فجعلت الإضافة حقيقية نظرا إلى الجهة الأولى واسم الفاعل عاملا نظرا إلى الثانية ، وليس بشيء لأنّ مداركون إضافته حقيقية أو لفظية على العمل وعدمه ، ويمكن أن يقال الاستمرار في مالك يوم الدين ثبوتي وفي جاعل الليل تجذديّ ومتعاقب إفراده واضافته لفظية لورود المضارع بمعناه دون الأوّل كما قرّره الشريف قدس سرّه ، وقد مرّ فيه فوائد ومباحث في سورة الفاتحة ، ولك أن تؤيد هذا الأخير بل تذعي تعينه بأن ملك يوم الدين لم يقع فكيف يقال إنه مستمرّ إلا بمعنى أنه ثابت بقطع النظر عن معنى التجدد كما في الصفة المشبهة والا كان الاستمرار فيه غير حقيقيّ وهو محتاج إلى التكلف ، فتأمّل فإن قلت إنه ذكر في المفصل أنّ الصفة تدل على معنى ثابت واسم الفاعل والمفعول يجريان مجراها في ذلك فيقال ضامر البطن وحاملة الوشاج ومعمور الدار ومؤدب الخدام ، وقد ذكره غيره من النحاة ، فإن أريد الاستمرار الثبوتي يكون صفة مشبهة واشترط لعمله ما يشترط لها ، فلا يصح الحمل عليه هنا ، ولذا قال أبو حيان : إذا كان بمعنى الاستمرار لا يعمل عمل اسم الفاعل ، وليس لمجروره محل كما صرّحوا به ، قلت هو لا يجري مجراها إلا إذا اشتهر بذلك وشاع استعماله لذلك حتى يلحق بالصفة المشبهة ، وهذا ليس كذلك ولم يتعرّضوا هنا لحكاية الحال لأنّ كون
الليل محل الهدّ وليس مما يستغرب ، والحكاية تختص به ويصح أن يكون جعل بمعنى أحدث المتعدي لواحد وسكنا حال. قوله : ( ويشهد له الخ ) لأنّ العطف متعين فيكون في وجه النصب كذلك ، وليس المراد أنها تدل على تعلقهما من حيث المعنى بالليل والنهار كما قيل ، وقوله : ( بجعل مقدّرا ( وهو الناصب لسكنا أو آخر والأوّل أولى. قوله : ( أي مجعولان حسباناً ( أو محسوبان حسباناً ، ثم إن المصنف رحمه الله فسر الحسبان في سورة(4/100)
ج4ص101
الرحمن بحساب معلوم مقدّر في بروجهما ومنازلهما ويتسق بذلك أمور السفليات ويختلف الفصول والأوقات وتعلم السنون والحساب. قوله : ( مصدو حسب بالفتح ) ، هكذا قال الزمخشري : أيضا فإن أراد أنه لا يكون إلا كذلك ورد عليه الحرمان فإنه مصدر حرمه كضربه وعلمه وان أراد أنه الأصل المقيس المسموع وما سواه ورد على خلاف القياس اتجه ، وحسب هنا بمعنى زعم وظت وخمن والتسيير مصدر سيره. ثوله : ( الذي قهرهما ) المراد بقهرهما كونهما مسخرين لا يتيسر لهما إلا ما أريد بهما وبهذا التفسير يظهر تناسب المبدأ والختام فلا يتوهم أنه كان الظاهر تقدير الحكيم العليم ، وفسره في غير هذه السورة بالغالب بقدرته على كل مقدور ، والأنفع من التداوير جمع تدوير تفعيل من الإدارة وليس بمعنى ذلك التدوير الذي اصطلح عليه أهل الهيئة وهو فلك صغير خارج المركز لأنه ليس للشمس فلك تدوير إلا أن يريد به مطلق الخارج المركب وليس بمعنى الاستدارة لأنه لا يناسب هنا ، وهدّا إجمال لما سيأتي في سورة يس من أنّ مخالفة حركاتها المقدرة لها تخل بتكوّن النبات وتعيش الحيوان ، واعلم أنه قال في البحر الكبير أن السنة الشرعية قمرية لا شمسية ، والشمسية مما حدث في دواوين الخراج ، فإن قلت فلم أضاف الله الحساب إليهما قلت لأنّ بطلوع الشمس ومغيبها يعرف عدد الأيام التي تتركب منها الشهور والسنون فمن هنا دخلت انتهى. قوله : ( في ظلمات الخ ) المراد بالنجوم ما عدا النيرين لأنها التي بها الاهتداء ولأن النجم يخص بما عداهما ، واليه أشار بقوله : ( في ظلمات الليل ا لأنهما لا ظلمة مع!ممما ويجوز أن يدخلا فيها فيكون بيانا لفائدتهما العامّة بعدما بين فائدتهما الخاصة. قوله : ( وإضافتها إليهما للملابسة ( الإضافة تكون لأدنى ملابسة مجازا ، وهل هو مجاز لغوقي أو
حكمي عقليّ اضطرب فيه كلام أهل المعاني ، فقال النحرير : في شرح المفتاح في تحقيق قوله تعالى : { ابْلَعِي مَاءكِ } [ سررة هود ، الآية : 44 ] إضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك بناء على أنّ مدلول الإضافة في مثله الاختصاص الملكي فيكون استعارة تصريحية أصلية جارية في التركيب الإضافي الموضوع للاختصاص الملكي في مثل هذا ، وإن اعتبر اللام وبنى الاتصال والاختصاص عليها فالاستعارة تبعية ، وقال : في إضافة كوكب الخرقاء حقيقة الإضافة اللامية ألاختصاص الكامل ، فالإضافة لأدنى ملابسة تكون مجازاً حكمياً ، وقال الشريف قدس سرّه : راذاً عليه الهيئة التركيبية في الإضافة اللامية موضوعة للاختصاص الكامل المصحح ، لأن يخبر عن المضاف بأنه للمضاف إليه ، فإذا استعملت لأدنى ملابسة تكون مجازاً لغويا لا حكميا كما توهم لأنّ المجاز في الحكم إنما يكون بصرف النسبة عن محلها الأصلي إلى محل آخر لأجل ملابسة بين المحلين ، وفيه كلام ليس هذا محله ، وقوله مشتبهات الخ فهي استعارة تصريحية تحقيقية وعلى الأوّل المجاز في الإضافة ، ولكم إجمال لأنه يدل على انتفاعهم بها مطلقا ، وقوله فإنهم المنتفعون به أي بالتفصيل بيان لوجه التخصيص مع أن فائدة التفصيل عامّة. قوله : ( فلكم استقرار الخ ( جوّز في مستقرّ ومستوح أن يكونا مصدرين ميميين وأن يكونا اسمي مكان والاستقرار إمّا في الأصلاب أو فوق الأرض لقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [ سورة البقرة ، الآية : 36 ] أو في الأرحام لقوله تعالى : { وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ } [ سورة الحج ، الآية : ه ، والاستيداع في الأرحام ، فجعل الصلب مستقز النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر ، وفي الرحم من قبل الأب فأشبهت الوديعة كان الرجل أودعها ما كان عنده أو في الأصلاب أو تحت الأرض أو فوقها فإنها عليها أو وضعت فيها لتخرج منها مرّة أخرى كقوله : وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بذ يوئم أن ترذ الودائع
وجوّز أن يكون المستقز كناية عن الذكر والمستوح كناية عن الأنثى ، وقوله لأن الاستقرار منا الخ وجه كون الأوّل معلوما بأنه صادر منا والثاني مجهولاً بأن الله أودعهم وهو ظاهر. قوله : ( ذكر مع ذكر النجوم الخ ( بناء على أن الفقه شدة الفهم والفطنة ، ومن قال إنه الفهم مطلقاً وليس بأبلغ من العلم قال إنه تفنن حذرا من صورة التكرير ، وقال في الانتصاف
الفقه أنزل من العلم ، وإذا قيل فلان لا يفقه كان أذمّ من(4/101)
ج4ص102
لا يعلم ولما كان علم الإنسان بنفسه أقرب إليه من علم العلويات نفي عنه الفقه دون العلم ، وهذا عكس ما ذكره المصنف رحمه الله تبعا للكشاف. قوله : ( من السحاب ) يعني المراد بالسماء لأنها كل ما علا ، أو هو مجاز أو بتقذير مضاف كجانب أو أنه ينزل من السماء حقيقة إلى السحاب ، ومنه إلى الأرض وتلوين الخطاب هنا الالتفات من الغيب إلى التكلم وعبر به إشارة إلى نكتته العامّة ، والخاصة إنه لما ذكر فيحا مضى ما ينبهك على أنه الخالق اقتضى ذلك التوجه إليه حتى يخاطب. قوله : ( نبت كل صنف ) أي النبات بمعنى النابت وشيء ليس بعاتم بل المراد به الصنف من النبات إذ لا معنى لإضافة النبات إلى شيء ليس منه وقوله المفتنة بالفاء والتاء والنون افتعال من الفتن ، وفي نسخة مفتنة بنونين أي على فنون وأنواع وقال ابن الجوزي : تقول لذي الفنون من العلوم مفتن ، وقد افتن في الأمر أخذ من كل فن والعامّة تقول متفنن والمتفنن هو الضعيف وقد تفنن ضعف أخذ من الفنن ، وهو مالان من الغصون. قوله : ) من النبات أو الماء ( المراد بالنبات أصوله والخضر شعبه وأوراقه وجملة تخرج صفة خضرا أو مستأنفة ومتراكبا معناه بعضه فوق بعض ، وقد أخرج تعالى من الماء الحلو الأبيض في رأي العين أصنافا من النبات والثمار مختلفة الطعوم والألوان واليه نظر القائل يصف المطر :
يمدعلى الآفاق بيض خيوطه فينسج منهاللثرى حلة خضرا
فلله درّ التنزيل كم حوى معنى بديعا لو مرّ على خاطر الشعر قطع نفسه تقطيعاً ، وقوله أخضر وخضر كأعور وعور إشارة إلى اختصاصه بالألوان والعيوب وما ألحق بهما. قوله : ( جمع قنو ( وهو ومثناه سواء لا يفرق بينهما إلا الإعراب ، ولم يأت مفرد يستوي مثناه وجمعه إلا ثلاثة أسماء صنو وصنوان وقنو وقنوان ورئد ورئدان بمعنى مثل قاله ابن خالويه ، وحكى سيبويه شقد وشقدان وحش وحشان للبستان نقله في المزهر. قيل وجعل من النخل الخ مبتدأ
وخبراً ليس كما ينبغي لأن المقصود تعديد آيات قدرة الله ولا يستقاد ذلك إلا بنسبة جعل القنوان إليه تعالى ، وهذا التركيب لا يدل عليه وسيأتي جوابه في قوله : { وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ } ومن طلعها على البدلية بدل بعض من كل وقوله فعلان بالفتح ليس من أبنية الجمع بل من أبنية المفردات كقبان وهو شرط اسم الجمع كما قرّره النحاة ، وقوله : قريبة الخ لما كانت النخل شاهقة أشار إلى تأويله وهو حقيقة فيهما لكنه اقتصر في الوجه الثاني على البعض لما ذكره ويحتمل أن المراد سهولة الوصول إلى ثمارها بالهز والسقوط مجازاً. قوله : الدلالتها الخ ) الزمخشري جعلهما وجهين أي إما أن يقدر على طريق الاكتفاء كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ سورة النحل ، الآية : 81 ] أو لا يقدر اقتصاراً على ما هو أوفر نعمة وكلام المصنف رحمه الله يحتمله ويحتمل أنه جعلهما وجهاً واحداً وهو أقرب وأوجه. قوله : ( عطف على نبات ) النبات على ما قاله الراغب النابتات الخارجة من الأرض سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن كالنجم لكنه اختص في المتعارف بما لا ساق له بل اختص عند العامّة بما تأكله الحيوانات ، وعليه قوله تعالى : { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا } [ سررة النبأ ، الآية : 15 ] وجعله الواحدي على خضرا ، وقال الطيبي : الأظهر أن يكون عطفا على حباً لأنّ قوله نبات كل شيء مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي كأنه قال : فأخرجنا بالنامي نبات كل شيء ينبت كل صنف من أصناف النامي ، والنامي الحب والنوى وشبههما وقوله فأخرجنا منه خضراً الخ تفصيل لذلك النبات أي أخرجنا منه خضرا بسبب الماء فيكون بدلاً من فأخرجنا الأوّل بدل اشتمال ومن هاهنا يقع التفضيل فبعض يخرج منه السنابل ذات حبوب متكاثرة ، وبعض يخرج منه ذات فنوان دانية ، وبعض آخر جنات معروشات الخ وهذا مبنيّ على أن المراد بالنبات المعنى العاتم ، وحينئذ لا يحسن عطفه عليه لأنه داخل فيه فالوجه ما ذكرنا فإن أريد ما لا ساق له تعين عطفه عليه لأنه داخل فيه وتعين أن يقدر لقوله من النخل فعل آخر وهو الذي اختاره المصنف رحمه اللّه ، وما قيل إنه لم يجعله معطوفا على خضراً لا! الأشجار ليست كالخضراوات في الخروج من النبات لأن الخارج أولاً يكبر ، ويصير شجر إلا أنه يخرج نبات ، ثم يخرج منه شيء يصير شجرأ ولأن كثرة صنوف المسببات واقتنانها مع وحدة(4/102)
ج4ص103
السبب وهو الماء أدخل في مقام بيان كمال القدرة والحكمة لكن هذين الوجهين على تقدير إوجاع الضمير قي منه إلى النبات ، وأما إذا رجع! !ى الماء كما جوّز فلا يتمشيان ليس بشيء لأنه ناشئ من الغفلة عن معنى ا!نبات لأنّ الشجر وأغصانه من النبات على الأوّل ، ولأنه يفيد وحدة السببية لأنه تفصيل للمسبب سواء رجع الضمير إلى الماء أو إلى النبات ، وهذا كله من قلة التدبر وقوله لكم إشارة إلى خبر مقدر وهو ظاهر. قوله : ( ولا يجوز عطفه على قنوان ( لما جوّز الزمخشرقي فيه وجهين هذا وما قبله رذ
عليه المصنف رحمه الله بما ذكره لأنه يؤول إلى أن يكون المعنى ومن النخيل جنات من أعناب وفساده ظاهر إلا أن يتكلف له ما لا حاجة إليه كما قال النحرير : وقد يجاب عنه بأنّ من أعناب صفة جنات وهي لما كانت معروشة تحت أشجار النخل جاز وصفها بكونها مخرجة من النخيل مجاز الكون هيئتها مدركة من خلالها كما يدرك القنوان ، وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز أو بأن المراد أنه من عطف الجملة أي ومخرجة وحاصلة من الخضر ، أو الكرم جنات من أعناب ففي قوله عطف على قنوان تجوّز لا حاجة إليه على هذا التقدير لجواز أن يعتبر جنات من أعناب عطفاً على قنوان وذلك المحذوف أعني من الخضر أو من الكرم عطفا على من النخل أي من نبات أعناب ، يفي أنه على حذف المضاف لأنّ البستان لا يكون من العنب نفسه بل من النبات والأشجار انتهى ، وقد يجاب عن الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من لا يقول به بأن الكلام على تقدير المضاف أي يخرج من أرض النخيل أو رياضها ونحوه ، فلا يلزم ما ذكر ، وقيل جنات مبتدأ ومن أعناب خبره ولا يلزم الابتداء بالنكرة من غير تخصيص لأن العطف على المخصص يكفي في التخصيص ذكره ابن مالك واستشهد عليه بقوله :
عندي اصطباروشكوى عند قاتلتي فهل بأعجب من هذا امرؤسمعا
وأورد على الوجه الأوّل أيضا أنه لا دلالة فيه على أنّ الأعناب والجنات من آثار القدرة
ولا خفاء في أنه لا يختص بالوجه الأوّل ولا بالجنات والأعناب بل يجري في النخيل والقنوان ، ويندفع باً نه مفوض إلى شهادة الذوق ودلالة المقام كما قرّره النحرير رذا على العلامة ، ولك أن تقول أنّ قوله تعالى : { نَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ سورة النحل ، الآية : 79 ] إشارة إلى ذلك لأن معناه آيات دالة على أنه لا يقدر عليه غير الله تعالى وقوله نصب على الاختصاص أي بأخص ونحوه مقدرأ وقوله : ( لعزة الخ ( بيان لنكتة وجه تغيير الأسلوب لأنه اتفق على قراءة النصب وكان الظاهر الجرّ فعدل عنه لذلك وغير المصنف رحمه الله ما في الكشاف فبدأ بقراءة النصب المتفق عليها ، وأخر قراءة الأعمش المروية عن عاصم فإنها شاذة والجمهور على كسر تاء جنات عطفا على نبات كل شيء وجملة من النخل معترضة أو هو عطف على خضرا ، وفي الرفع وجوه أحدها أنه مبتدأ خبره مقدر مقدما أو مؤخرا وثم وجنات أو ومن الكرم جنات ، وهو أحسن بمقابلة من النخل أو ولهم أو ولكم جنات ومنهم من قدره وجنات من أعناب أخرجناها لكم ، وهو معطوف على قنوان قال الزمخشرفي : من غير ملاحظة قيد من النخل ، والمعنى جنات من أعناب وضعف بما ذكره المصنف وتوجيهه ما تقدم. قوله :
( حال من الرمان الخ ) منهم من جعله حالاً من الثاني لقربه وقدر مثله في الأوّل ومنهم من جعله حالاً من الأوّل لسبقه وتدر في الثاني ولا بد من تقدير والا كان المعنى جميعه متشابه ، وجميعه غير متشابه وهو غير صحيح كما أشار إليه النحرير وقوله أو من الجميع أي بعض ذلك يعني
الضمير راجع إلى الأمرين واقعا موقع اسم الإشارة وفي الكلام مضاف مقدر وهو بعض ومنهم من قال في تفسيره. إنه حال منهما بتأويل كل واحد أو الجميع ، فإن قلت يأبى عن التأويل بكل واحد قوله بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه وأيضاً المتشابه يسند إلى المتعدد وكل واحد غير متعذد قلت المراد كل نوع ، والنوع متعدد يحتمل التبعيض والمضاف محذوف اهـ وعذه بعض الناس سهواً لأنه ليس المراد تأويله بجميع بدليل تفسيره وليس بشيء لأنه لا فرق بين تأويل الضمير الراجع إليهما بذلك وتأويله نفسه بجميع فتأمّله وأشار بقوله متشابه الخ إلى ما في الكشاف إنّ افتعل وتفاعل هنا بمعنى كاستوى وتساوى وقوله : ) في الهيئة ، والقدر الخ ) إشارة إلى ما وقع فيه(4/103)
ج4ص104
التشابه وعدمه ويحتمل أنه لف ونشر فالهيئة ما به التشابه وغيره ما به عدمه. قوله : ( أي ثمر كل واحد من ذلك ( إشارة إلى أن الضمير راجع إلى جميع ما تقدم بتأويله باسم الإشارة ، وأئا رجوعه إلى كل واحد منهما على سبيل البدل فبعيد لا نظير له في عدم تعيين مرجع الضمير ، وذلك إما إشارة إلى الرنان والزيتون فيكون استخداما على إرجاعه إليه باعتبار الشجر ، وقد سبق ذكره بمعنى الثمر أو إلى جميع ما تقدم ليشمل النخل وغيره مما يثمر فتأمّل. قوله : ( إذا أخرج ثمره الخ ) يشير إلى أنّ التقييد بقوله إذا أثمر للإشعار بأنه حينئذ ضعيف غير منتفع به فيقابل حال الينع ، ويدل كمال التفاوت على كمال القدرة ، وعلى هذا لا يتم ما نقل عن الزمخشري في حواشيه أنه قال : فإن قلت هلا قيل إلى غض ثمره وينعه قلت في هذا الأسلوب فائدة ، وهي أنّ الينع وقع معطوفا على الثمر على سنن الاختصار على طريقة جبريل وميكائيل للدلالة على أنّ الينع أولى من الغض فلذا لم يقل إلى غض ثمره وينعه ، كذا في شروح الكشاف ، وفي الكشف إنّ قوله كيف يخرجه ضئيلا يأبى هذه الحاشية ويجعلهما متقابلين ، نعم لو قيل فيه استحضار للحال الأولى واراءة التباين بين الحالين بخلافه لو قيل غض الثمر وينعه ففيه تقابل محض لكان حسنا ( أقول ) قد وقع مثل هذا في سورة يوسف في قوله تعالى : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } [ سورة يوسف ، الآية : 4 ] فقال ثمة أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص بيانا لفضلهما واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ، ثم عطفهما عليها لذلك واعترض عليه صاحب التقريب بأنّ أحد عشر كوكبا لا يتناول الشمس والقمر بخلاف الملائكة فإنها تتناول جبريل وميكائيل ، وأجاب عنه بأن التناول غير لازم لأنّ إفادة المبالغة هنالك من حيث إنّ ظاهر العطف المغايرة فكان فيه تنبيه على أنهما من جنس وهاهنا أيضا كان يمكنه أن يقول ثلاثة عشر كوكباً فلما عطف دل على فرط اختصاص واهتمام بشأنهما لزيادة الفائدة والتشبيه باعتبار التأخير ، واخراجهما من جن! الكواكب وجعلهما متغايرين بالعطف انتهى وهذا بعينه
جار هنا لأنه لم يقتصر على ثمره وزاد الظرف فاقتضى ذلك تعينه فكيف غفلوا عنه مع التصريح به فيما سيأتي ، وضئيل بمعنى صغير ضعيف وهو في وقت الإخراج كذلك. قوله : ( وإلى حال نضجه ) وفي نسخة وألى حال نضيجه بوزن فعيل قيل يشير إلى أنّ الينع إمّا مصدر أو صفة ويانعه بالجز عطف على الضنم ، وقيل الأوّل إشارة إلى تقدير الوقت ليناسب إذا أثمروا الثاني إشارة إلى عدم لزومه ، ولا يخفى أنه تأويل يحتاج إلى تأويل ، لأنّ الزمان لا ينظر والحال ليس بمعنى الزمان بل بمعنى الصفة. قوله : ( ولا يعوقه الخ ا لأنه لو كان له ضد ، أو نذ لخالفه في بعض ما يريد هالا لم يكن ضدّاً ولا ندا فيلزم تخلف ما ذكر كما قال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ سورة الأنبياء ، الآية : 22 ] . قوله : ( أي الملاءلكة الخ ) كلا الأمرين موجب للشريك أما الأوّل فظاهر وأما الثاني فلأنّ الولد كفؤ الوالد فيشاركه في صفات الألوهية ، وتسمية الملائكة جنا استعارة وقد سبق في سورة البقرة عن المصنف رحمه الله ما يقتضي أنّ الجن تشمل الملائكة حقيقة ، وتوله : تحقيراً لشأنهم يعني عبدوا ما هو ، كالجن في كونه مخلوقاً مستتراً عن الأعين ، والمراد التحقير من حيث قام الشركة لا ازدراؤهم في أنفسهم. قوله : ( او الشياطين الخ ) فهو استعارة في جعلهم شركاء وعلى الوجه الذي بعده مجاز عقليّ. قوله : ( والشيطان خالق الشرّ ) وجمعه حينئذ لأنه مع أتباعه كأنهم معبودون كما قاله الإمام : قيل ولذلك غير قول الزمخشريّ إبليس إلى قوله والشيطان ليشمل أتباعه. قوله : ) ومفعولاً جعلوا للّه شركاء الخ ) في الكشاف فائدة التقديم استعظام أن يتخذ دئه شريك من كان ملكا أو جنيا أو إنسيا أو غير ذلك ، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء ، وفي الكشف إنه على الوجهين يعني جعل لله مستقرّا وغيره ، وما ذكره في الإيضاح من رذ قول من جعل تقديم لله على تقدير الاستقرار للاهتمام معللا بأنّ الإنكار ناشئ من الجعل المتعلق بالمفعولين على السواء فلا فرق بين المتلوّ وعكسه مدفوع بأنّ ذلك لا ينافي كون مصب الإنكار أحد الجزأين ، وملاحظة أصلهما ، ولهذا جعل في المفتاح قوله لله شركاء تمهيداً لهذا ، ثم إنه ناقض نفسه في ذلك حيث سلم أنّ تقديم شركاء على الجن على(4/104)
ج4ص105
تقدير أن يكونا مفعولين لذلك ( قلت ) محصل ما في
الإيضاح أن الفعل المتعذي إلى مفعولين لا اعتناء بذكر أحدهما إلا باعتبار تعلقه بالآخر فإذا قدّم أحدهما على الآخر لم يصح تعليل تقديمه بالعناية ، وقد أجابوا عنه بأنّ الاشتراك بين الشيئين في مطلق العناية والاهتمام لا ينافي كون أحدهما أهمّ من الآخر بسبب خارج ككون الله نصب عين المؤمن هنا مع أنه يناقض ما ذكره فيما مرّ من أنّ تقديم شركاء على الجن على القول بأنهما مفعولاً جعلوا لاستعظام أن يتخذ شريك من كان ملكا أو جنيا أو غيرهما ، ويناقض أيضا ما ذكره في بحث تقديم بعض معمولات الفعل على بعض كتقديم المفعول الأوّل على الثاني في باب أعطيت وقد دفع التناقض المذكور بأن إنكار التعليل بالعلة الحاصلة على تقدير خاص لا ينافي صحة التعليل بعلة أخرى على تقدير آخر ، ثم إنه رذ جعلها على الوجهين بأنه على الثاني فقط ، وعلى تقدير الظرف لغواً سواء تعلقا بشركاء أو بجعلوا ، وذلك لأن حق الظرف اللغو أن يتأخر عن المفعول ، وأما على تقدير اللغوية وجعل لله شركاء مفعولي جعلوا فيكون تقديم الخبر الظرف على المبتدأ النكرة جاريا على الأصل غير معلل بالاهتمام والاستعظام ، وأشار في شرح المفتاح الشريفي إلى أنّ تقديمه لأنه محز الإنكار ولأن المفعول الأوّل منكر يستحق التأخر فلا تنافي بين التنكير واعتبار التقديم لنكتة أخرى ، ثم قال : إن السكاكيّ لم يرض! بما في الكشاف لأنّ المقصود الذي سيق له الكلام إنكار اتخاذ الشريك لله مطلقا جنيا كان أو غيره ، واستفادة هذا المعنى من تقديم دلّه على الجن لا يخلو من ضعف لأنّ التقديم إنما يدل بحسب المقام على أنّ المقدم أدخل في الإنكار لا على أنّ المؤخر لا دخل له في الإنكار أصلا ، ولا يخفى أنّ المقدم مصب الإنكار ومحزه كما قرّروه في أنه يجب أن يلي همزة الإنكار ليفيد ذلك فإذا قلت أفلسا أعطيته كان الإنكار لخسة الفلس لا للعطاء ، وهذا مثله على أنا نقول هو بخصوصه لا دخل له في الإنكار بل باعتبار كونه شريكاً ثم إنّ السكاكي جعل سبب التقديم كون المقدم في نفسه نصب العين ، وكون كل واحد من مفعولي جعل حاضراً في الذهن وقت الإنكار لا يقتضي كون كل واحد منهما في نفسه نصب العين باعتبار أمر آخر مقتض لتقديمه ، والسكاكي قد صرّح بهذا القيد أعني في نفسه ، والمعترض! غفل عنه وعن فائدته. قوله : ) والجن بدل من شركاء ( قيل الأولى أن ينصب بمحذوف جوابا عن سؤال ، كأنه قيل من جعلوه شركاء فقيل الجن ، وذلك لأنه لو كان بدلاً لكان التقدير وجعلوا لله الجن ، وليس له كبير معنى ، وأجيب بأنّ المبدل منه !يس في حكم الساقط بالكلية. قوله : ( وقد علموا أن الله خالقهم ( اختار كون الضمير راجعا إلى الجاعلين لئلا يلزم تشتت الضمائر لو ارجع إلى الجن ، وان رجح بأن جعل المخلوق كالخالق أفحش من جعل من لا يخلق كمن يخلق ، وبأن كونهم مخلوقين معلوم من قوله : { وَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ سورة الأنعام ، الآية : 98 ]
وقدر قد لتصحيح لفظ الحال وعلموا لمعناه لأنه المقارن لجعلهم ولأنه المقتضى للإنكار فتأمل ، وقوله : ( دون الجن ) نفي الخالقية عنهم على الثاني ظاهر ، لأنّ الخالق لا يكون مخلوقا ، وعلى الأوّل معلوم من إنكار تشريكهم المارّ ، وقيل : إنّ الشيء الواحد لا يكون مخلوقا لخالقين ، فقوله : وخلقهم في قوّة أن يقال دون الجن ، ولا يضره جواز الاجتماع في الخلق بطريق الاشتراك لأنّ المراد بالخلق في قوله وخلقهم ما هو بالاستقلال ولا يخفى ما فيه من التكلف ، وقوله : ( أي وجعلوا الخ ) إشارة إلى أنّ هذا على تقدير أن لله شركاء مفعولاً جعل وهو ظاهر ، وقيل إنه على هذا يكون جعل متعذياً إلى مفعول واحد وإنه كان عليه أن يذكره وليس بشيء ، وقوله : أي زوروا في الكشاف والمزوّر محرّف مغير للحق إلى الباطل. قوله : ( بنير علم ) ذنم لهم بأنهم يقولون بمجرّد الرأي والهوى ، وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جزم به وقام عليه الدليل ، وقيل هو كناية عن نفي ما قالوا فإن ما لا أصل له لا يكون معلوما ولا يقام عليه دليل ولا حاجة إليه لأنّ نفيه معلوم من جعله اختلاقا وافتراء ومن قوله : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } وقوله : فقالت اليهود فيكون المراد بالبنين ما فوق الواحد أو أنّ من يجوّز الواحد يجوّز الجمع ، وأفرد قوله شريكا أو ولداً لأنّ نفي الواحد يدلّ على نفي الجنس ، ولأنه أليق بالتنزيه. قوله : ( ثبت(4/105)
ج4ص106
الغدر ) الثبت بسكون الباء بمعنى ثابت ، والغدر بفتحتين وغين معجمة ودال ، وراء مهملتين المكان ذو الحجارة والشقوق ، قال : في العين رجل ثبت الغدر إذا كان ثبتاً في قتال أو كلام وفي المجمل يقال للرجل والفرس ثبت في موضع الزلل ، والإضافة فيه على معنى في ولما كان تعالى منزهاً عن المكان والحلول أوّله بقوله عديم النظير فيهما ، ومعناه أنّ إبداعه لهما لا نظير له لأنهما أعظم المخلوقات الظاهرة فلا يرد عليه أنه لا يلزم من نفي النظير فيهما نفيه مطلقاً ، ولا حاجة إلى تكلف أنه خارج مخرج الردّ على المشركين بحسب زعمهم أنه لا موجود خارج عنهما ، وقوله : ( وخبره أني الخ ) وهو استفهام إنكاري في معنى الإخبار فلا حاجة إلى تقدير القول فيه.
قوله : ( اي من أين الخ ) أني لها استعمالات أحدها بمعنى كيف الثاني بمعنى من أين وهي عبارة سيبويه ، والفرق بين أين ومن أين أنّ أين سؤال عن مكان الشيء ، ومن أين عن المكان الذي برز منه ووقع في عبارات بعضهم أنها بمعنى أين وهو تسمح كما في عروس الأفراج ، وفي الكشف إنها بمعنى أين ومن مقدرة قبلها كما تقدر في الظروف وفيه نظر لأنه لو كان كذلك لجاز ظهورها ، فيقال من أني ولم يسمع. قوله : ) وقرئ بالياء للفصل ( هي قراءة إبراهيم النخهص قال ابن جني تؤنث الأفعال لتأنيث فاعلها لأنهما يجريان مجرى كلمة واحدة لعدم استغناء كل عن صاحبه فإذا فصل جاز تذكيره وهو في باب كل أسهل لأنك !و حذفتها استقل ما بعدها وهو كلام حسن ، وعلى الوجهين الأخيرين الجملة خبر ، واعترض على الوجه الأخير بأنه إذا كان العمدة في المفسر مؤنثا فالمقدر ضمير القصة لا ضمير الشأن ، وليس بوارد لعدم لزومه وإن ظنه كثير لازماً وقد نبه على خطئه في شرح التسهيل. قوله : ) وإنما لم يقل به ( أي لم يقل عليم به لتقدّم كل شيء لأنّ الأوّل مخصوص بغير ذاته وصفاته ، والثاني عامّ لعلمه بهما وبغيرهما ، وهذا لا يخالف ما ذكره في سورة البقرة. قوله : ( 1 لأوّل الخ ( قزره في الكشاف هكذا إنه مبتدع السماوات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة لأنّ الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا ، وهذا عندي أحسن من تقرير المصنف رحمه الله لما فيه من الخلل لأنّ كون السماوات من جنس ما يوصف بالولادة لا يقتضي تصوّره في نوعها أو إفرادها لأن التوالد لا يكون فيما لا روج له فكيف يقال إن تبرّأها عن ذلك لاستمرارها ، وطول مدتها والولد إنما يطلب للبقاء ببقاء النوع ، وهي غير محتاجة إلى ذلك فالله جل وعلا أولى به وكأن القاضي غرّه قوله لا يستقيم الخ وظنه صفة أجسام ، وليس كذلك بل ضمير أنه للشأن ومبتدع مبتدأ ، ولا يستقيم الخ خبره فاعرفه فإن من لم يهتد له قال تقرير المصنف رحمه الله : أولى لكونه بطريق برهانيّ من تقرير الزمخشرفي ، وقوله المعقول بمعنى المتصوّر في العقول فلا حاجة إلى أنه بناء على الأكثر وإنه لا حاجة إلى الكلية لأنّ الكلام في ولد الوالد وهو يستدعي الزوجة ، وقرّره بوجه آخر في البقرة وهو أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال ماذته منه وهو تعالى مبتدع الأشياء كلها فاعل على الإطلاق منزه عن الانفعال فلا يكون والداً انتهى ، وهي متقاربة المعاني ، والفرق بينهما يعلم مما بعدهما
إنه قال هناك :
{ ا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ سورة البقرة ، الآية : 17 ا ] وهنا أني يكون له ولد فتدبر. قوله : ) الثالث أنّ الولد الخ ) الدليل الأوّل من قوله تعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ سورة البقرة ، الآية : 117 ] والثاني من قوله ولم تكن له صاحبة والثالث من قوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } والزمخشريّ قرّره هكذا إنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج قال النحرير : الظاهر أنّ العلم بكل شيء وجه مستقل فتكون الوجوه أربعة إلا أنه أدرجه وجعله مع خلق كل شيء وجها واحداً لأنّ المعنى إنما يتحقق بالإيجاد الاختياري ، وذلك بالعلم ولأنه ربما يناقثى في لزوم كون الولد كالوالد في العلم بكل شيء ، وقيل : إن المصنف رحمه الله جعلهما وجهاً واحداً لمدارهما على معنى واحد وهو الكفاءة وان هذه المناقشة ترذ على الزمخشري لا على المصنف لتقييده العلم بقوله لذاته ، وفيه أنه لا يجدي نفعأ لأنّ المساواة في العلم ذاتيا أو غيره لا تلزم في الكفاءة ، ولذا قيل في كلام المصنف مناقشة ظاهرة لأن التفاوت في العلم بل في سائر الكمالات لا ينافي الكفاءة فكثيراً ما يلد العالم النحرير والمؤمن ضده ، وهذه أدلة إقناعية لا تليق(4/106)
ج4ص107
المناقشة في مقدماتها. قوله : ( إشارة إلى الموصوف الخ ا لأن اسم الإشارة كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة كما مرّ تحقيقه ، وقوله : ويجوز الخ يعني يجوز أن يكون الله بدلاً من اسم الإشارة وربكم صفته وما بعده خبر ، ولا يجوز في الله أن يكون صفة فإن أراد مع ما بعده لا يصح أيضا لأنه جملة والجمل لا يوصف بها إلا النكرات أو المعرّف بأل الجنسية ، وهذا ليس كذلك وكذا خالق كل شيء يصح أن يكون بدلاً من الضمير وذكر فيما سبق للاستدلال على نفي الولد وهنا لإثبات استحقاق العبادة فلا تكرار ، واليه يشير كلام المصنف رحمه الله تعالى وقد غفل عنه بعضهم مع ظهوره وأفاد بعص المتأخرين هنا إنه قيل هنا ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وفي سورة المؤمن : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ سررة غافر ، الآية : 62 ] فإن قيل لم قدم هاهنا قوله : { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } على قوله : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وعكس في سورة المؤمن قلنا لأنّ هذه الآية جاءت بعد قوله : { جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء } الخ فلما قال : { ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ } أتى بعده بما يدفع الشركة فقال : { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ثم قال : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وهناك جاء بعد قوله : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ سورة غافر ، الآية : 57 ] فكان الكلام على تثبيت خلق الناس وتقريره لا على نفي الشريك عته كما كان في الآية الأولى فكان تقديم خالق كل شيء هناك أولى ، وقيل معناه يجوز أن يكون البعض بدلاً من اسم الإشارة لأنّ العلم أخص من اسم الإشارة عند الجمهور فلا يجوز أن يكون صفة له لأن الموصوف لا بد أن يكون أخص أو مساوياً كما حقق في النحو ، وأما كونه صفة فقيل إنه على مذهب ابن السرّاج فإنه
ذهب إلى أن أعرف المعارف اسم الإشارة ثم المضمر ثم العلم ثم ذو اللام ، ويحتمل أن يكون الله صفة ذلكم على ما مرّ من أنه صفة ، وقد مز ما فيه. قوله : ( حكم مسبب عن مضمونها الخ ) قيل العبادة المأمور بها هي نهاية الخضوع وهي لا تتأتى مع الشريك فلذا استغنى عن أن يقال فلا تعبدوا إلا إياه وذكره غيره من المحشين ، وقال إنه من سوانح الوقت وهذا يقدج فيما ذكروه من أنّ تقديم المفعول في إياك نعبد يعتمد الاختصاص إذ على هذا يفهم من مجرّد العبادة ولا حاجة فيه إلى تقديم المفعول ، ويرذه أن مفهوم العبادة لا يقتضي الاختصاص! إلا من الدليل الخارجيّ على أن إفادة الحصر بوجهين لا مانع منه كما في لله الحمد فإن التقديم ولام الاختصاص يدلان عليه ، وكذا التقديم مع التصريح بأداته كما صرّحوا به. قوله : ( فكلوها إليه الخ ) الأمر بإيكالهم إليه لازم لمفهوم هذه لأنه إذا تولى جميع الأمور لزم أن لا يوكل إلى غيره ممن لا يتولاها ، والتوسل بالعبادة مأخوذ من جعل وهو على كل شيء وكيل حالاً وقيدا للعبادة كما يشهد له الذوق ، فما قيل إنه يريد أن فائدة الإخبار بكونه على كل شيء وكيل ذاك لا أنه يفهم ذلك من الوكيل ناشئ من عدم التحقيق ، وكذا تفريعه على الرقيب بالمجازاة إشارة إلى أنه كناية عن المجازاة ثم لما وصفه بأنه رقيب عليهم عقبه بقوله لا تدركه الأبصار إشارة إلى أنّ مراقبته ليست كمراقبة غيره ، لأن المراقبة تستلزم النظر إليه بحسب الظاهر المتوهم. قوله : ( وهي حاسة النظر ) المراد بالحاسة القوّة ولذا أنث وتأنيث هي مراعاة للخبر. قوله : ( واستدل به المعتزلة الخ ) فسر بعضهم الإحاطة بإدراك ذاته وجميع صفاته وفسرها بعضهم بإدراكه بالكنه ، وأورد عليه أنه كما لا يدرك كنهه بالبصر لا يدرك بالعقل أيضا فالتخصيص بالأبصار يقتضي تفاوتا بينها وبين العقول مع أنّ الأبصار لا تدرك كنه غيره أيضا وبأنّ التخصيص خلاف الظاهر ، ومقتضى المدح الامتناع والأقرب شيء يمكن أن يبصر ولا يبصر لمانع فالحق في الجواب كما دلت عليه الأحاديث أنه لا يرى بأعمال الحاسة إنما يرى بقوّة يخلقها بمحض قدرته في العبد ثم إنهم تمسكوا بالآية تارة على الامتناع ، لأنّ ما يمدح بعدمه يكون وجوده نقصاً يجب تنزيه الله عنه وتارة على عدم الوقوع ، والمصنف رحمه الله اقتصر على إيراد الأوّل وأجاب بما يبطل عدم الوقوع لأنه يلزم منه إبطال الامتناع ، وقوله ليس الإدراك مطلق الرؤية بل على وجه الإحاطة كما أشار إليه أوّلاً ، وتوله : ( ولا النفي في الآية عامّاً ( لأنّ القضية مطلقة لم تقيد بكلية
ولا دوام ، ولما كان عموم الأوقات وعموم الأحوال متلازمين لم نجعلهما جوابين. قوله : ) فإنه في قوّة قولنا لا كل بصر الخ ( يعني الألف واللام للاستغراق(4/107)
ج4ص108
والنفي لسلب العموم واحتمال الثاني لا يضرنا لأنه يكفي الاحتمال الأوّل في إبطال الاستدلال ، ثم تنزل عن منع الكلية فقال مع أن النفي لا يوجب الامتناع ، وقيل عليه لا يخفى إنّ حديث التمذج يدفعه ( قلت أليس هذا بمسلم عندنا ، وكيف يتمذح بنفي ما أثبته الكتاب والسنة بل إنما ذكر للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فليحذر كما أشار إليه الطيبي ، وقد روي في تفسير الآية لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة.
قوله : ( يحيط علمه بها ) قيل الأنسب بالمقام إنه علم بطريق الرؤية ، ويجوز تعميمه أيضأ. قوله : ( فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار ( فهذه الجملة سيقت لوصفه تعالى بما تضمن تعليل قوله وهو يدرك الأبصار فقط على هذا الوجه ، ثم إنّ المراد بالإبصار هنا النور الذي يدرك به المبصرات فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه يرى ، أو يقال المراد أنّ كل عين لا ترى نفسها ووقع في نسخة بدل كالإبصار بالإبصار على صيغة المصدر. توله : ( ويجوز أن يكون من باب اللف الخ ) فإنّ اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالفتح والخبير يناسب كونه مدركا بالكسر ، وبقوله فيكون اللطيف مستعاراً من مقابل الكثيف فشبه به الخفيّ من الإدراك اندفع ما قيل إنّ المناسب لعدم الإدراك اللطيف المشتق من اللطافة وهو ليس بمراد هنا ، وأما اللطيف المشتق من اللطف بمعنى الرأفة فلا يظهر له مناسبة هنا ، وفي شرح الأسماء الحسنى لمحمد البهائيّ اللطيف الذي يعامل عباده باللطف وألطافه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والآخرة ، وان تعذوا نعمة الله لا تحصوها ، والله لطيف بعباده يرزق من يشاء ، هيأ مصالح الناس من حيث لا يشعرون وأخفى لهم لطفه من حيث لا يعلمون ، وقيل اللطيف العليم بالغوامض والدقائق من المعاني والحقائق ولذا يقال للحاذق في صنعته لطيف ، ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكنافة ، وهو وان كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم ، لأن الجسمية يلزمها الكنافة وإنما لطافتها بالإضافة فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن إدراك البصائر فضلاً عن الإبصار ويعز عن شعور الإسرار فضلا عن الأفكار ، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال وينزه عن حلول الألوان والإشكال ، فانّ كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق ، بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ويوصف بالنسبة إليه بالكنافة انتهى.
وهذا يقتضي أنه حقيقة فيه تعالى فتأمّله ، والخبير للمبالغة فيه يكون علة ، والمقام وان اقتضى ترك العطف لكن المقصود به إثبات هذه الأوصاف والتعليل الذي أشار إليه المصنف
رحمه الله ضمنيّ ، وقوله لما لا يدرك بالحاسة أي ليس شأنه ذلك فلا يقال إذا كان اللطيف بمعنى ما لا تدركه الأبصار كيف يعلل الشيء بنفسه فلا يرد هذا كما توهم ، وقوله : ولا ينطبع فيها أي لا ينطبع ويرتسم مثاله فيها وإلا فالشيء نفسه لا ينطبع ففيه تسمح ، وهذا أحد المذاهب في كيفية الرؤية وتحقيقه في كتب الحكمة والكلام ، وقوله : ( وهي للنفس الخ ) المعروف إنها للقلب كالبصر للعين ، وقوله : ( تجلى ) بمعنى تظهر وتكشف ، وقوله : ( الدلالة ) فجمعه باعتبار أنواعه وقيل المراد آيات القرآن. قوله : ( فلنفسه أبصر ) قدره غيره فلنفسه الإبصار ، وقدّره أبو حيان فيهما بقوله فالإبصار لنفسه أي نفعه وثمرته ، ومن عمى فعليها أي فالعمى عليها أي فجدوى العمى عائد على نفسه ، والإبصار والعمى كنايتان عن الهدى والضلال ، قال : وهذا الذي قدرناه من المصدر وهو الإبصار والعمى أولى لوجهين أحدهما أنّ المحذوف يكون مفرداً لا جملة ويكون الجارّ والمجرور عمدة لا فضلة ، وفي تقدير غيره المحذوف جملة والجارّ والمجرور فضلة ولأنه لو كان المقدر فعلا لم تدخله الفاء سواء أكانت شرطية أو موصولة مشبهة بالشرط لأنّ الفعل الماضي إذا لم يكن دعاء ولا جامداً ، ووقع جواب شرط أو خبر مبتدأ مشبه باسم الشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ، ولا في خبر المبتدأ لو قلت من جاءني فأكرمته لم يجز بخلاف تقديرنا ، وهو غير وارد ، لأنه ليس كالمثال الذي ذكره بل مثاله من جاءني ، فلا كرامة جاء إذ تقدم فيه الجارّ والمجرور لإفادة الحصر والجاز والمجرور إذا تقدم على الماضي جاز اقترانه بالفاء ، بل قيل : إنها لازمة له كما صرّح به النحرير ، والمعرب السفاقسي ، ففي هذه المسالة ثلاثة مذاهب المنع ، وهو مختار أبي حيان والجواز(4/108)
ج4ص109
واللزوم وهو مختار غيره ، وفي الدرّ المصون أنّ هذا التقدير سبق الزمخشري إليه غيره من السلف كالكلبي وقوله : فعليها وباله لم يقدر فعليها عمى كما قدره الزمخشري لأنّ عمى لم يعهد تعديه بعلى بخلاف ما قدّره فإنه لا يحتاج إلى تكلف تأويل ، وقيل إنه قدّر في إحداهما الفعل وفي الأخرى الاسم إشارة إلى جواز كل من المسلكين ، والمراد بالعمى والبصر الهدى والضلال كما أشار إليه المصنف رحمه الله ، ومن هذا عرفت أنّ الظرف المقدر متعلقه فعلاً يقع جواب الشرط مع الفاء أو بدونها كما يؤخذ من كلام الزجاج ، وقد ردّه في المغني وليس بصواب كما ستراه. قوله : ( واللّه سبحانه وتعالى هو الحفيظ ( الحصر مستفاد من تقديم المسند إليه على ما عرف من مذهب الزمخشري من عدم اشتراط الخير الفعلي ، وقوله وهذا الخ يعني قد جاءكم بصائر إلى
هنا كما صرّح به في الكشاف لا قوله : { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } فقط كما قيل وعلى هذا فقل مقدرة كما صرّح به شراح الكشاف ، وأمّا ما قيل الورود على لسانه لا يقتضي هذا التقدير ، فإنّ منشئ القصيدة على لسان غيره لا يضمر القول فتخيل فاسد ، وإنما نظيره ما إذا وصف متكلم نفسه ، ثم ذكر ما لا يصح إسناده إليه فإنه لا بد من تقدير الحكاية والا فسد كلامه ، واختل نظامه ، وقوله مثل ذلك قد مز شرحه. قوله : ) وليقولوا الخ ) قدر صرفنا ماضياً والزمخشرفي قدره مضارعا متأخرا قيل لقصد التخصيص ، وفيه نظر واللام لام العاقبة وهي مجاز منقول من التعليل ولذا عطف عليه الغرض وجوّز أن يكون على الحقيقة أبو البقاء وغيره لأنّ نزول الآيات لا ضلال الأشقياء وهداية السعداء ، قال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ سورة البقرة ، الآية : 26 ] وبجوز أن يكون التقدير لينكروا وليقولوا الخ ، وقيل هذه اللام للأمر ويؤيده إنه قرئ بسكونها كأنه قيل ، وكذلك نصرّف الآيات وليقولوا هم ما يقولون ، فإنهم لا احتفال بهم ولا اعتداد بقولهم وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بقولهم ، وفي الدرّ المصون فيه نظر لأنّ المعنى على ما قالوه وأيضا فإنّ قوله ولنبينه نص في أنّ اللام لام كي ، وأما تسكين اللام في القراءة الشاذة فلا دليل فيها لاحت!مال إنها خففت لإجرائها مجرى كبد ، وكونها معترضة ولنبينه متعلق بمقدر معطوف على ما قبله وان صححه لا يخرجه عن كونه خلاف الظاهر ، وعبارة الزمخشرفي هنا ، وليقولوا جوابه محذوف تقديره وليقولوا درست نصرّفها ، ومراده بالجواب المتعلق ، وهو اصطلاج منه وقع في مواضمع من كتابه قال المعرب سماه جوابا لأنه يقع جوابا للسائل الذي يقول أين متعلق هذا الجارّ ، فلا يرد عليه ما قاله أبو حيان ، ولكونه خلاف الظاهر عدل عنه المصنف رحمه اللّه. قوله : ( درست من الدروس الخ ) فيه قرا آت ثلاث متواترة وما عداها شاذة فقرأ ابن عامر درست كضربت ، وابن كثير وأبو عمرو دارست كقاتلت ، والباقون درست أنت كضربت ، ومعنى الأولى قدمت وتكرّرت على الإسماع كقوله : { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 25 ] ومعنى الثانية دارست يا محمد غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية ، كقوله : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } [ سورة النحل ، الآية : 103 ] الآية ومعنى الثا اصة حفظت ، واتقنت بالدرس أخبار من مضى كقوله تعالى : { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [ سورة الفرقان ، الآية : ه ، وقرئ في الشواذ درست ماضياً مجهولاً ، وفسرت بتليت
وعفيت أي الآيات ، واعترض! على الثاني بأنّ درس بمعنى انمحى لازم لم يعرف متعديا في اللغة والاستعمال ، ورذ بأنه ورد متعديا قال الزبيدي درس الشيء يدرس دروسا عفا ودرسته الريح ، وقال النحرير : جاء درس لازما ومتعدياً لمعنيين وقرئ دزست مشددا معلوما وتشديده للتكثير أو للتعدية والتقدير درست غيرك الكتب ، وقرئ مشدداً مجهولاً ، وقرئ دورست على مجهول فاعل ، ودارست بالتأنيث والضمير للآيات أو للجماعة ، وقرئ درست بضم الراء والإسناد للآيات مبالغة في محره أو تلاوته لأنّ فعل المضموم للطبائع والغرائز ، وقرأ أبيّ رضي الله عنه درس وفاعله ضمير النبيّ ع!ي! أو الكتاب إن كان بمعنى انمحى ودرسن بنون الإناث مخففا ومشدداً ، وقرئ دارسات بمعنى قديمات أو بمعنى ذات درس أو دروس كعيشة راضية وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي دارسات ، وقراءة المفاعلة إمّا على أنه بمعنى أصل الفعل ، أو تأويله بما مرّ تحققه في قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللّهَ } [ سررة البقرة ، الآية : 9 ] . قوله : ( اللام على أصله ( قال الشريف قدس سرّه : أفعاله تعالى(4/109)
ج4ص110
يتفرّع عليها حكم ومصالح متقنة هي ثمراتها وان لم تكن عللا غائية لها حيث لولاها لم يقدم الفاعل عليها ومن أهل السنة من وافق المعتزلة في التعليل ، والغرض الراجع منفعته إلى العباد ، وادّعى أنه مذهب الفقهاء والمحدثين ، إذا عرفت هذا فاعلم أن حقيقة التعليل عند أهل السنة بيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل ، وأما تفسيره بالباعث الذي لولاه لم يقدم الفاعل على الفعل أو عدم اشتراط ذلك فهو من تحقيقات المتكلمين لا تعلق له باللغة ، وأما عند أهل اللغة فهو حقيقة في ذلك مطلقا ، والفرق بينها وبين لام العاقبة أنّ لام العاقبة ما تدخل على ما يترتب على الفعل ، ويى! مصلحة ، وهل يشترط فيها أن يظنه المتكلم غير مترتب أم لا حتى يكون في كلامه تعالى من غير حكاية أم لا فيه خلاف تقدم شرحه فما قيل أنّ اللامات الداخلة على فوائد أفعاله المسماة بالحكم والمصالح استعارات تبعية فلا تكون اللام فيها على أصلها إلا على رأي من يجوّز أن تكون أفعاله معللة بالاغراض ، ولا يقول به المصنف رحمه الله مردود بما سمعت آنفا ، وقوله باعتبار المعنى يعني التأويل بالكتاب أو القرآن ، والمراد بالمصدر التبيين أو التصريف كما قيل فهو مفعول مطلق على الأوّل ، وقوله : ( فإنهم المنتفعون به ( بيان لوجه تخصيصهم بذلك لجعل ما سواهم كالعدم ، وجعل الجملة المعترضة بين المعطوف والمعطوف عليه تفيد تقوية الكلام صرّح به الزمخشري في مواضع من كتابه فلا عبرة بمن أنكره ، وقوله أكد به إيجاب الاتباع لأنّ من هذا وصفه يجب اتباعه. قوله : ( أو حال مؤكدة ) فسم ابن مالك في التسهيل الحال المؤكدة
إلى مؤكدة لعاملها نحو ولي مدبرا ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، ومؤكدة لغيره في بيان فخر أو يقين أو تعظيم ونحوه ويجب أن يتقدّم عليها جملة اسمية ، ويحذف عاملها وجوبا فمن قال وكونها واقعة بعد الجملة الاسمية شرط لوجوب حذف عاملها لا لصحتها لقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ سورة البقرة ، الآية : 60 ] فقد خلط بين معنيي الحال وقسميها ومعنى لا تحتفل لا تعتد وتبال وقوله ولا تلتفت تفسير له ، وأوّله بهذا لأنه لا بد له من التبليغ والقتال إلا أن يكون قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخ بالآية السيف في سورة براءة فيكون حينئذ على عمومه ، وقوله وهو دليل الخ ردّ على المعتزلة كما مرّ ، والزمخشرفي فسره بمشيئة إكراه وفسر لأنّ عندهم مشيئة الاختيار حاصلة البتة قال النحرير : وهذه عكازته في دفع مذهب أهل السنة من أنّ الله تعالى لم يثأ إيمان الكافر ولا طاعة العاصي تمسكا بأمثال هذه الآيات. قوله : ( أي ولا تذكروا آلهتهم الخ ) هذا إمّا لأنّ الذين يدعون عبارة عن الآلهة والعائد مقدر ، والتعبير بالذين على زعمهم أنهم من أولى العلم أو بناء على أنّ سب آلهتهم سبّ لهم كما يقال ضرب الدابة صفع لراكبها ، أو على تغليب العقلاء منهم كالمسيح صلى الله عليه وسلم وعزير ، ثم إنه في الكشاف ذكر في سبب النزول وجهين ( 1 ( الأوّل إنهم قالوا عند نزول قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ سورة الأنبياء ، الآية : 98 ] لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك ، والثاني إن المسلمين كانوا يسبون آلهتهم فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله تعالى ، وأورد على الأوّل أن وصف اكهتهم بأنها حصب جهنم وبأنها لا تضرّ ولا تنفع سبّ لها فكيف نهى عنه بقوله : { وَلاَ تَسُبُّواْ } الخ.
وأجيب بأنهم إذا قصدوا بالتلاوة سبهم وغيظهم يستقيم النهي عنها ، ولا بدع فيه كما
ينهى عن التلاوة في المواضمع المكروهة ، أو معناه لا يقع السب منكم بناء على ما ورد في الآية فيصير سبباً لسبهم ، وقيل السب ذكر المساوي لمجرّد التحقير والإهانة ، وذلك إنما ورد للاستدلال على عدم صلوحها للألوهية والمعبودية ومثله لا يسمى سبا ، وفيه نظر وقيل عليه إنّ
سبب النزول على إحدى الروايتين وصفه لها بأنها حصب جهنم فكيف لا يكون ذلك سبا فالجواب أن يقال النهي عن السب في الحقيقة إنما هو عن إظهاره ، فإنه المؤذي إلى سب الله فتأمّل. قوله : ( أو لنهجونّ إلهك ) فإن قيل إنهم كانوا يقرّون بالله وعظمته وإنّ آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء عنده فكيف يسبونه ، قلنا لا يفعلون ذلك صريحاً بل يفضي كلامهم إلى ذلك كشتمهم له ولمن يأمره بذلك مثلا ، وقد فسر بغير علم بهذا ، وهو حسن جذا أو أنّ الغيظ والغضب ربما حملهم على سب الله صريحا ألا ترى المسلم قد تحمله شدّة غضبه على التكلم بالكفر وعدوا كضربا وعدوا كعتوّاً وعداء كعزاء ، وعدواناً كسبحان مصدر(4/110)
ج4ص111
عدا عليه بمعنى تعدى وتجاوز وهو مفعول مطلق لتسبوا من معناه لأنّ ال!سب عدوان أو مفعول له أو حال مؤكدة مثل بغير علم ، وقرأ ابن كثير في رواية عنه عذوا بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو على أنه حال. قوله : ( وفيه دليل الخ ) يعني إذا أذت إلى معصية راجحة على معصية ترك الطاعة وكانت سببا لها بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها وكثيرا ما يشتبهان ، ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء ، وخالفه الحسن للفرق بينهما كما في الكشاف ، وقد علم مما مرّ في تفسير قوله تعالى : { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أسورة الأنعام ، الآية : 68 ] ما هو الصحيح عند فقهائنا ، كما أفاده شيخنا المقدسي في الرمز من أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي ، وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع والا صبر ، وهذا إذا لم يكن مقتدى به والا فلا يقعد لأنّ فيه شين الدين ، وما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ابتلى به كان قبل صيرورته إماما يقتدى به ، وقال الإمام أبو منصور كيف نهانا الله عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه وقد أمرنا بقتالهم ، وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر وكذا أمر النبيّ لمجز بالتبليغ والتلاوة عليهم وان كان يكذبونه وأجاب بأنّ سب الآلهة مباج غير مفروض! ، وقتالهم فرض وكذا التبليغ وما كان مباحاً نهى عما يتولد منه ويحدث وما كان فرضا لا ينهي عما يتولد منه ، وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة فيمن قطع يد قاطع قصاصاً فمات منه فانه يضمن الدية لأنّ استيفاء حقه مباج ، فأخذ بالمتولد منه ، والإمام إذا قطع يد السارق فمات لا يضمن ، لأنه فرض! عليه فلم يؤخذ بالمتولد منه انتهى ، ومنه تعلم أنّ قوله الطاعة ليس على إطلاقه. قوله : ) من الخير والشر الخ ) وقوله في الكشاف مثل ذلك التزيين زينا لكل أمّة من أمم الكفار سوء عملهم أي خليناهم ، وشأنهم ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم ، أو زيناه في زعمهم ، وقولهم إنّ الله تعالى أمرنا بهذا وزينه لنا ، يعني أن ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى
زين للكافرين الكفر وعملهم القبيح ، وتزيين القبيح قبيح ، واللّه متعال عنه على أصول المعتزلة ، فلذا أوّل الآية بوجوده رجح منها الوص! الثاني لمناسبته لوصف ايمفرة قبله ، والمصنف رحمه الله تعالى ذكر وجها آخر وترك ما ذكره لعدم الحاجة إليه عندنا ولم يجعل التشبيه فيه من قبيل ضربته كذلك لخفائه قيل : ولأنه يأباه قوله لكل أثة ، وفيه نظر والمشبه بالنصب عطف على اسم أن ويجوز رفعه. قوله : ) مصدر في موقع الحال ) أو حال مؤوّل باسم الفاعل أو منصوب بنزع الخافض أي أقسموا بجهد أيمانهم أي أوكدها ، وقد مرّ الكلام عليه في المائدة والتحكم إظهار الحكومة وتكلفها باقتراج الآيات. قوله : الئن جاءتهم آية الخ ( كإنزال الملائكة وغير ذلك ، وفيه إشارة إلى أن ما جاءهم ليس بآية عندهم كما يدلّ عليه ، وقوله : ) واستحقار ( فلا حاجة إلى التقييد بقوله من مقترحاتهم إلا أن يكون لبيان الواقع. قوله : ) وليس شيء منها بقدرتي الخ ) في الكشاف إنما الآيات عند الله وهو قادر عليها ، ولكنه لا ينزلها إلا على موجب الحكمة أو إنما الآيات عند الله لا عندي فكيف أجيبكم إليها وآتيكم بها ، والمصنف رحمه الله أشار إلى أن العندية بمعنى كونها مقدورة له تعالى ، والمقصود من الحصر نفي القدرة عن نفسه ليبين أنه لا يمكنه أن يجيبهم بها ، وزاد الزمخشري وجهاً آخر ، وهو أن المراد أنّ الآيات منحصرة في المقدورية لا تتعداها إلى النزول بغير حكمة قيل : ولم يلتفت إليه المصنف لما قال النحرير إق فائدة الحصر يعني فكيف أجيبكم الخ لا تظهر على هذا الوجه ويمكن أن تظهر بأنه لا حكمة فيما يطلبونه فلا يمكن أن يجيبهم به ، ويمكن أن يقال إن المصنف رأى تقارب الوجهين فجعلهما وجها واحداً وقد جنح إلى هذا من قال العندية من حيث القدرة ، ومن حيثية الإتيان بالمشيئة إن اقتضته الحكمة ، وقوله : ) أنّ الآية المقترحة ) إشارة إلى أنّ الضمير راجع للآية لا للآيات لأن عدم إيمانهم عند مجيء ما اتترحوه أبلغ في توبيخهم قيل ولو جعل الضمير للآيات لكان فيه مزيد مبالغة في بعدهم عن الإيمان وبلوغهم في العناد غاية الإمكان ، ولا يخفى ما فيه إلا أن يلاحظ أنه باعتبار شمولها للمقترحة وغيرها فتأفل. قوله : ) وما يدريكم ( استفهام إنكار وهو في المعنى نفي وفي بعض الحواشي ، ما استفهامية لا نافية والا يبقى(4/111)
ج4ص112
الفعل بلا فاعل ، وفي الدر المصون قيل فاعله ضمير الله أي وما يشعركم الله إنها إذا جاءت الآيات المقترحة لا يؤمنون وهو تكلف بعيد ، وقال السفاقسي : إنه كير مستقيم لأن الله أعلمهم بأنهم لا يؤمنون ،
إلا أن تجعل لا زائدة. قوله : ( أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب الخ ( إشارة إلى جواب ما يقال إنك إذا قيل لك أكرم زيداً يكافئك قلت في إنكاره ما أدراك أني إذا أكرمته يكافئني فإن قيل لا تكرمه ، فإنه لا يكافئك قلت في إنكاره ما أدراك إنه لا يكافئني تريد وأنا أعلم منه المكافأة فمقتضى حسن ظن المؤمنين بهؤلاء المعاندين أن يقال وما يدريكم إنها إذا جاءت يؤمنون غائبات لا بعكس المعنى إلى أن المعلوم لك الثبوت وأنت تنكر على من نفى كذا قرّره شراح الكشاف ، فلذا حمله بعضهم على زيادة لا ، وبعضهم على ا! أن بمعنى لعل وبعضهم على أنها جواب قسم بناء على أن أنّ في جواب القسم يجوز فتحها ، والزمخشري وتبعه المصنف أبقى الكلام على ظاهره فقيل في المثال المذكور إنك إذا علمت أنه لا يكافئ وأشير عليك بإكرامه لظن المشير المكافأة فلك حينئذ معه حالتان ، حالة أن تنكر عليه اذعاء العلم بما تعلم خلافه ، وحالة أن تعذره لعدم علمه بما أحطت به ففي الحالة الأولى تقول ما يدريك أنه يكافئ ، وفي الثانية تقول ما يدريك أنه لا يكافئ أي من أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم المكافأة ، وكذلك الآية لإقامة عذر المؤمنين كما يدل عليه ما بعده ، وايضاحه كما قيل إنه استفهام في معنى النفي ، والإخبار عنهم بعدم العلم لا إنكار عليهم والمعنى إنّ الآيات عند الله ينزلها بحسب المصالح وقد علم إنهم لا يؤمنون ولا ينجع ذلك فيهم وأنتم لا تدرون ما في الواقع من علمه تعالى فلذا توقعتم إيمانهم ، والاستفهام الإنكاري له معنيان فالإنكار ، إن كان بمعنى لم يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون وبمعنى لا يقال لا يؤمنون والمراد الثاني بدليل ما بعده ، وفي الكشف إنه في الثاني منكر عليهم الاقتراح وهو القول من كير علم وبمعنى ما لا يعرت حقيقته ، وهو أبلغ وإن كان الثاني أوضح وأقرب ومنه يعلم أنه يجوز أن يكون الإنكار بمعنى لم أيضا فقوله أنكر السبب أي الإشعار مبالغة في نفي المسبب أي الشعور ، وليس معناه أنه أنكر الدراية بهذا العلم وأريد إنكاره إظهار الحرص أي أنتم لا تدرون كما قيل فالمعنى لا تدرون أنهم يؤمنون ، وفي نفي المسبب بهذا الطريق مبالغة ليست في نفيها بدونها لأنّ في الكناية إثبات الشيء ببينة وفيه تعريض بأن الله عالم بعدم إيمانهم على تقدير مجيء الآية المقترحة لهم ، وتنبيه على أنه تعالى لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون فعدم الإنزال لعدم الإيمان. قوله : ( أن بمعنى لعل ) هذا قول الخليل رحمه الله ، ويؤيده أن يشعركم ويدريكم بمعنى ، وكثيرا ما تأتي لعل بعد فعل الدراية نحو وما يدريك لعله يزكي ، وأن في مصحف أبيّ رضي الله عنه وما أدراك لعلها ، وقوله كأنه قال وما يشعركم ما يكون منهم إشارة إلى أن مفعوله محذوف على هذين الوجهين وهو يتعدى إلى مفعولين. قوله : ( ثم أخبرهم الخ ) ظاهره أنه إخبار ابتدائيّ وجعله ابن
الحاجب جواب سؤال ، وفي الكشف كأنه قيل لم وبخوا فقيل لأنها إذا جاءت لا يؤمنون ، ولك أن تبنيه على قوله وما يشعركم فإنه أبرز في معرض المحتمل كأنه سأل عنه سؤال شاك ثم علل بقوله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون جزما بالطرف المخالف ، وبياناً لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة ، وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه وهذا نوع من السحر البياني لطيف المسلك ، وعلى كونه خطاباً للمؤمنين لا يكون داخلا في حيز قل إلا بأن يقدر قل للكافرين إنما الآيات عند الله وللمؤمنين وما يدريكم ، وهو تكلف لا داعي إليه ، وعلى كونه خطابأ للمشركين يدخل تحته ويكون فيه التفات. قوله : ( وقرئ وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم الخ ( في الكشاف أي يحلفون بأنهم يؤمنون عند مجيئها وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينثذ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات مطبوعا عليها فلا يؤمنوا بها اهـ ، والضمير للكفار كما يدل عليه قوله على حلفهم أي إنكار لما حلفوا عليه والقراءة حينئذ إمّا بالفتح أو بالكسر ، ويجري فيه ما مز فنزل عليه كلام الشيخين ، وتقدم أنّ يشعركم وينصركم ونحوه قرئ بضم خالص وسكون واختلاس.
تنبيه : قراءة كسر إنّ وجهها الخليل وغيره بأنها استئناف إخبار بعدم إيمان طبع على قلبه ، وضعف الفتح بأنه يصير عذراً(4/112)
ج4ص113
لهم وليى مقصود الآية ، وقال الزمخشرقي على الكسر ثمّ الكلام عند يشعركم ثم أخبرهم بعلته ، ووجه الفتح بستة أوجه فصلها صاحب الدرّ المصون. قوله : ( فلا يؤمنون ) إشارة إلى أنه ليس المراد بتقليب الإبصار حقيقته ، وقوله : ( بما أنزل من الآيات ( إشارة إلى أنّ الضمير راجع إلى الآيات بتأويله بما أنزل وقولهه هداية المؤمنين يعني الدلالة الموصلة ، وقيل إنه لله والرسول أو القرآن أو التقليب وهو بعيد. قوله : ( وحثرنا عليهم كل شيء قبلا ( معنى حشرنا سقنا ما اقترحوه من هذه الأشياء ، وقوله : ( فقالوا الخ ) بيان لقوله ولو أننا أنزلنا ، وقوله : ( فآتوا بآبائنا ) بيان لقوله وكلمهم الموتى وفسره بالنظم القرآنيّ ، وقوله : ( أو تأتي ) بيان لقوله وحشرنا عليهم كل شيء والتعبير بكل تنزيلاً لأعظم الشيء منزلة كله أو مبالغة ،
وكون قبلاً الجمع حالاً من كل لأنه يجوز مراعاة معناه ولفظه كما نص عليه النحاة واستشهدوا بقوله :
جادت عليه كل عين ثزة فتركن كل حديقة كالدرهم
إذ قال تركن دون تركت فلا حاجة إلى ما قيل إنه باعتبار لازمه وهو الكل المجموعيّ ،
وهو معنى قوله وإنما جاز ذلك لعمومه مع الإشارة إلى مصحح الحال من النكرة مع تأخرها ، وفي قبلا قرا آت كسر القاف وفتح الباء وضمهما ، وقرئ في الشواذ بضم فسكون وغير ذلك فقبلا بكسر وفتح بمعنى مقابلة ومشاهدة وهو حال كما قاله الفراء والزجاج وعليه أكثر أهل اللغة وهو مصدر وعن المبرد أنه بمعنى جهة وناحية فانتصابه على الظرفية كقولهم لي قبل فلان كذا ، وأما المضموم فقيل جمع قبيل بمعنى كفيل ، ومنه القبالة لكتاب العهد والصك أو قبيل بمعنى جماعة والمعنى عليه حشرنا عليهم كل شيء فوجا فوجا وجماعة جماعة ويكون بمعنى الأوّل أيضا أي معاينة ومقابلة ، كقوله : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [ سورة يوسف ، الآية : 26 ] . قوله : ( ما كانوا ليؤمنوا ) جواب لو وهواداً كان منفيا لا تدخله اللام ولذا اعترض على الحوفي رحمه الله في قوله إنّ اللام فيه مقدرة أي لما ، وقوله : لما سبق عليهم القضاء بالكفر بتشديد الميم وتخفيفها ، وقيل عليه إنّ فيه تعليل الحوادث بالتقدير الأزلي ، ولا يخفى فساده بل لبطلان استعدادهم وتبدل فطرتهم القابلة بسوء اختيارهم وتبعه من قال : في تفسيره أي ما صح واستقام لهم الإيمان لتماديهم في العصيان وغلوّهم وتمردهم في الطغيان وأما سبق القضاء عليهم بالكفر فمن الأحكام المترتبة على ذلك حسبما ينبئ عنه قوله : { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 10 ا ] وليس بشيء لأن ما ذكره على مذهب الأشعري القائل بأنه لا تأثير لاختيار العبد وان قارن الفعل عنده ، ولا يلزم الجبر كما يتوهم على ما حققه أهل الأصول ولا خفاء في كون القضاء الأزليّ سببا لوقوع الحوادث ولا فساد فيه ، وأما سوء اختيار العبد فحسبب للقضاء الأزلي ، وتحقيقه كما قيل إن سوء الاختيار ، وان كان كافيا في عدم وقوع الإيمان لكنه لا قطع فيه لجواز أن يحسن الاختيار بصرفه إلى الإيمان بدل صرفه إلى الكفر فكان سوء اختياره فيما لا يزال مسببا للقضاء بكفره في الأزل فبعد القضاء به يكون الواقع منه الكفر حتما ، كما قال تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ سورة السجدة ، الآية : 13 ] . قوله : ( استثناء من أعتم الآحوال الخ ) وجوّز أن يكون من أعمّ الأزمان والظاهر الأوّل فإن لوحظ أن جميع أحوالهم شاملة لحال تعلق المشيئة بهم فهو متصل وان لم يلاحظ أنّ حال المشيئة
ليس من أحوالهم كان منقطعاً أي لكن إن شاء الله آمنوا واستبعده أبو حيان ولام فيه المصنف رحمه الله ، وقوله : ) حجة واضحة على الصعتزلة ( قال أهل السنة لما ذكر الله تعالى إنهم لا يؤمنون إلا إن شاء الله إيمانهم فلما لم يؤمنوا دل على أنه تعالى ما شاء إيمانهم بل كفرهم ، وأجابوا عنه بأن المراد مشيئة قسر وإكراه وعدم إيمانهم يستلزم عدم المشيئة القسرية وهو لا يستلزم عدم المشيئة مطلقاً فتأمّل. قوله : ( ولذلك أسند الجهل إلى كثرهم الخ ( أي لكونه جهلا مخصوصا بالمقسم عليه أسند إلى الأكثر مع أنّ مطلق الجهل يعئم جميع الكفار وكذا الكلام في تقييد جهل المسلمين بيمينهم ، وليس الظاهر الخطاب حينئذ كما قيل ، وقوله : ولكن كثر المسلمين ليس الوجهان مبنيين على اختلاف القراءتين لئلا يلزم ترجيح القراءة الشاذة على المشهورة بل على تقدم ذكر المقترحين المقسمين والمسلمين المتمنين لحصول ما اقترحوا وأن قوله وما يشعركم إنكار على المسلمين بوجه يتضمن الإنكار على المقسمين. فوله : ( وهو دليل الخ ) رذ على الزمخشريّ حيث فسره بقوله : كما(4/113)
ج4ص114
خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأعدائهم أوّله بذلك لأن عداوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصية فلا تكون بخلق الله وجعله عنده ، ولما كان خلاف الظاهر جعله المصنف رحمه الله دليلاً على خلافه وهو الظاهر. قوله : ( ولكل متعلق به ( أي بعدوا أو جعل حالاً من عدؤاً تدم لنكارته أو مفعول ثان على البدلية على ما تقدم في إعراب { وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ } [ سورة الأنعام ، الآية : 00 ا ] فتذكره ويصح جعله متعذيا لواحد وعلى كونه متعلقأ بعدوا يكون ثقديمه للاهتمام ، ويجوز نصب شياطين بفعل مقدر وقوله يوسوس الخ تفسير للوحي هنا لأنه الشيء الخفي والوسوسة كذلك وقوله من زخرفه أي مأخوذ منه وأصل معنى الزخرف الذهب ، ولما كان حسناً في الأعين قيل لكل زينة زخرفة ، وتد يخص بالباطل فيقال شيء مزخرف ونحوه مموّه لأنه من الماء وهو الذهب المذاب وأصله موه ، وقوله مفعول له أو مصدر في موقع الحال بتأويل غارين ، وفسره الزمخشري بقو!ه خدعا وأخذاً على غرّة أي غفلة ، وقال الراغب : غرّه غروراً كأنما طواه على غرّة بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء وهو طية الأوّل.
قوله : ( ولو شاء ربك إيمانهم الخ ) قدره بعضهم ولو شاء ربك أن لا يفعلوا معاداة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وايحاء الزخارف على أنّ الضمير لما ذكر بناء على المشهور ومن تقدير مفعول المشيئة ما دلّ عليه جواب لو بعده ولذا قيل في تفسيره ولو شاء ربك عدم الأمور المذكورة لا إيمانهم كما قيل فإنّ القاعدة المستمرّة إنّ مفعول المشيئة عند وقوعها شرطا يكون مضمون الجزاء ، وهو ما فعلوه كما تقرّر في كتب المعاني.
( قلت ) هنا ذكر فعل المشيئة سابقا فالظاهر أنه يجوز مراعاة كل منهما بحسب ما يقتضيه الحال ، وهنا كذلك لأنّ المشيئة تعلقت بالإيمان في قوله : قبيله إلا أن يشاء الله والمذكور في المعاني ما لم يتكرّر فيه فعل المشيئة ولم يكن قرينة غير الجواب فاعرفه ، فإنه بديع ، وقيل إن جعل العدم متعلق المشيئة لا يخلو عن تكلف ، فلذا جعل المفعول هنا لازمه بناء على أنه يكفي في العدمي عدم المشيئة دون مثيئة العدم كما مرّ فتأمّل ، وقوله ما فعلوا ذلك يريد أنّ الضمير راجع إلى جميع ما تقدم بتأويله كما مرّوا إنما لم يرجعه إلى كل واحد على البدل لاحتياجه إلى تأويل فيما هو مؤنث كالعداوة ، ثم إنه قال هنا ولو شاء ربك ما فعلوه ، وفيما بعده ولو شاء الله ما فعلوه ، فغاير بين الاسمين في المحلين فذكر النكتة فيه بعضهم بأنّ ما قبله من عداوتهم له كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي لو شاء منعهم عنها فلا يصلون إلى المضرة يقتضي ذكره بهذا العنوان إشارة إلى أنه مربيك في كنف حمايته ، وإنما لم يفعل ذلك لأمر اقتضته حكمته وأمّا في الآية الأخرى فذكر قبله إشراكهم فناسب ذكره بعنوان الألوهية التي تقتضي الإشراك. قوله : ( وهو أيضاً دليل على المعتزلة الخ ) قيل أي دليل عليهم في شيئين كقوله : { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ } [ سورة الأنعام ، الآية : 111 ] ومن قدر مفعول المشيئة عدم فعل المعاداة والإيحاء ، ثم قال في الآية دلالة على أن الشرور صدورها عنه بمشيئته فقد سها حيث غفل عن أنّ عدم تعلق المشيئة بعدم فعل لا يستلزم تعلقها بذلك الفعل ، وفيه أنه في مثيئة العبد ظاهر ، وأما في مشيئة الله على رأي أهل السنة القائلين بأنه لا يكون إلا ما يريد ، فإذا عدم تعلقها بعدم شيء لزم التعلق بوجوده إذ لا واسطة بينهما فليتأمّل ، وكفرهم تفسير لافترائهم وجعل ما مصدرية ، ويصح أن تكون موصولة والواو بمعنى مع أو عاطفة ، وذرهم أمر له بعدم المبالاة أو هو قبل النسخ كما مرّ. قوله : ( وليكون ذلك جعلنا الخ ) فحذف المعلل وأقيمت علته مقامه ، وإنما قدره مؤخرا للاهتمام بالعلة لا للحصر. قوله : ( والمعتزلة لما اضطروا الخ ) يعني أن القبائح عندهم لا ينسب إليه تعالى خلقها ، فلا تعلل بها أفعاله فلذلك
أوّلوها بما ذكر ، والا فيجوز أن تكون حكماً ومقاصد له تعالى ، وقيل : اللام للتعليل أو للعاقبة على الاختلاف في كون أفعاله تعالى معللة بالأغراض ، وردّ بأنه لا يخفى أنّ اللامات الداخلة على ثمرات أفعاله سبحانه عند من لم يجعل أفعاله تعالى معللة بالأغراض استعارة تبعية تشبيها للغاية بالعلة الغائية ، وليس شيء منها للعاقبة كما مرّ فجعل الاختلاف في كون أفعاله تعالى معللة بالأغراض أم لا مداراً للاختلاف(4/114)
ج4ص115
في كون اللام في لتصغي للتعليل أو العاقبة خطأ يعني ليس مداره ذلك بل أن الشرور هل تنسب إليه فيعلل بها أفعاله أم لا ، وقوله إنه استعارة ليس بشيء أيضا لأنه يسمى لغة علة وغرضاً وتفسير الغرض بما ذكر إنما هو اصطلاج للمتكلمين وأهل المعقول ، كما مرّ تحقيقه وعلى القول بأنه عطف على غروراً وهو مفعول له ذكرت اللام لأنه غير مصدر صريح فلا ينصب على المفعولية لعدم استكمال الشروط ، وهو حينئذ متعلق بيوحي. قوله : ( أو لام القسم كسرت ) قال الرضي : لا يجوز عند البصريين في جواب القسم الاكتفاء بلام الجواب عن نون التوكيد إلا في الضرورة ، والكوفيون أجازوه في السعة وبعض العرب بكسر لام جواب القسم الداخلة على الفعل المضارع كقوله :
إذا قال قدني قال بالله حلفة لتغني عني ذا إنائك أجمعا
وبعضهم يجعل هذه اللام لام كي والجاز والمجرور جواب القسم ، واعترض عليه ابن
هشام في المغني بأنه مفرد لا يصلح أن يكون جوابا للقسم ، ويردّه أنه يقدر متعلقه فعلا ، وقد مرّ في تفسير قوله : { وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } [ سررة الأنعام ، الآية : 154 ] جواز كونه جواب الشرط ، وفي الحديث : " من ترك كلا فإلئ ومن ترك مالاً فلورثتة " ) 1 ( وهل تلزم الفاء أم لا مرّ تحقيقه ، وقال المعرب : إنها على هذا القول واقعة موقع الجواب لدلالتها عليه وليست جوابا وإنما هي الذي أقسم لأجله وقد دل على المقسم عليه فوضع موضعه ، وقول المصنف كسرت لما لم يؤكد كذا قاله النحاة في وجهه : قال المعرب : ويدلّ على فساده أنّ النون قد حذفت ولام الجواب باقية على فتحها كقوله :
لئن تك قد ضاقت عليّ بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي أوسع
فقوله ليعلم جواب القسم الموطأ له باللام وهي مع ذلك مفتوحة مع حذف نون التوكيد فتأمّل. قوله : ( أو لام الأمر وضعفه أظهر ) أي من ضعف القسمية ، وفي نسخة ظاهر لعدم حذف حرف العلة من آخره ويؤيده أنه قرئ بحذفها ، وقرئ بتسكين اللام وحرف العلة قد يثبت في مثله كما خرج عليه قراءة أرسله معنا غداً نرتعي ونلعب وإنه من يتقي ويصبر فليكن هذا مثله والأمر
حينئذ للتهديد أو للتخلية. قوله : ( والصنو الميل ) ومنه قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ سورة التحريم ، الآية : 4 ] وفي الحيث فأصغى لها الإناء وعين صغواء وصغياء بمعنى مائلة ويقال صغوت وصغيت صغواً وصغيا فهو مما جاء واويا وبائيا ، ومضارعه يصغي ويصغو ومصدره صغيا بالفتح والكسر ، وزاد الفراء صغياً وصغوّاً بالياء والواو مشددتين ويقال أصغى مثله فيصح في قول المصنف رحمه الله الصغو تشديد الواو وتخفيفها. قوله : ( والضمير لما له الضمير في فعلوه ( يعني ضمير إليه ولذا جوّز عوده إلى الوحي وإلى الزخرف والى القول والى الغرور وإلى العداوة لأنها بمعنى التعادي كذا قال المعرب. قوله : ) وليكتسبوا ) الاقتراف في اللغة الاكتساب وأكثر ما يقال في الشر والذنب ، ولذا قيل : الاعتراف يزيل الاقتراف ، وقد يرد في الخير كقوله تعالى : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } [ سورة الشورى ، الآية : 23 ] ، وأصله قشر لحاء الشجر وجلدة الجرج وما يؤخذ منه قرف ومنه القرفة لنوع من العقاقير ، وما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف وجوّز فيها المصدرية والظاهر الأوّل واليه يشير قوله من الآثام. قوله : ) وغير مفعول ( قدم وولى الهمزة لما تقدم في قوله : { أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا } [ سورة الأنعام ، الآية : 14 ، وليس للتخصيص إلا أن يراد أنه لتخصيص الإنكار لا لإنكار التخصيص ، وقيل في تقديمه إيماء إلى وجوب تخصيصه تعالى بالابتغاء والرضا بكونه حكماً وكذا الفاء لسببية الإنكار لا لإنكار السببية ، وحكماً حينئذ إمّا حال من غير الله وهو ظاهر أو تمييز أو مفعول له وعلى العكس قدم لأنه مصب الإنكار ، وكون الحكم أبلغ من الحاكم لأنه صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها ولذا لا يوصف به إلا العادل أو من تكرّر منه الحكم. قوله : ) القرآن المعجز ( يحتمل التوراة أيضأ لما بين فيها من نبوّته لمجي! وصفاته. قوله : ( وفيه تنبيه على أن القرآن الخ ( لأنّ المعنى لا أبتشي حكمأ يخر الله بعد إنزال القرآن متضمنا للأحكام فاصلا بين الحق والباطل ، واعترض عليه بأن كونه مغنيا بتقريره وتفصيله ظاهر ، وامّا أن يكون لإعجازه دخل في ذلك فلا.
وأجيب بأنه لا يكون إلزاماً إلا بالعلم بكون المنزل من عند الله ، وهو يتوقف على الإعجاز بحيث يستغنى عن آية أخرى دالة على صدق دعواه على أنه من(4/115)
ج4ص116
عند الله وفي دلالة النظم عليه خفاء إلا أن يقال جعل الجملة الاسمية حالية دالة على تقرره وثبوته في نفسه أو أن يجعل الكتاب بمعنى المعهود إعجازه ، وهذا من عدم تدبر الآية إذ المعنى لا أبتغي حكماً في
شأني وشأن غيري إلا الله الذي نزل الكتاب لذلك وإنما يحكم له بصدق مدعاه بالإعجاز فإنهم لما طعنوا في نبوّته ، وأقسموا أنهم إن جاءتهم آية آمنوا بين الله أنهم مطبوع على قلوبهم وأمره بأن يوبخهم وينكر عليهم بقوله أفغير الله الخ أي " عدل عن الطريق المستقيم فأخص غيره بالحكم ، وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز الذي أفحكم وألزمكم الحجة يكفي به حاكماً بيني وببنكم بإنزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات من التوحيد والعدل والنبوّة والإخبار إلى غير ذلك مما هو كالعقد المفصل الذي أعجزكم عن آخركم فأجابهم بالقول بالموجب لأنهم طعنوا في معجزاته فبكتهم على أحسن وجه ، وضم إليه علم أهل الكتاب فقوله ينفي التخليط والالتباس مأخوذ من كونه مفصلا وكونه معجزاً مأخوذ من كونه مغنيا عما عداه في شأنه وشأن غيره كما مز. قوله : ) بعلم أهل الكتاب ) جارّ ومجرور متعلق بتأييد ، وبه متعلق بعلم أي بحقيته ، ولتصديقه علة العلم ووجه التأييد ظاهر ، والفرق بين أنزل ونزل مرّ تحقيقه وأن الأؤل دفعيّ والثاني تدريجيّ وهو أكثري والقراءة بهما هنا تدل على قطع النظر عن الفرق وليس إشارة إلى المعنيين باعتبار إنزاله إلى سماء الدنيا ، ثم إنزاله إلى الأرض لأنّ إنزاله دفعة إلى السماء لا يعلمه أهل الكتاب. قوله : ) في أنهم يعلمون ذلك الخ ( لما كان النبيّ مجشحيه لا يمتري في حقيته أجابوا عما اقتضاه ظاهر النظم بأربعة أوجه ، الأوّل هذا وهو أنّ المراد امتراؤه في علم أهل الكتاب بذلك ، ولعله قبل إعلام الله له إذ بعده لا امتراء فيه أيضا ولو قدم قوله بجحود أكثرهم كما في الكشاف ليبين سبب امترائه في علمهم لكان أولى ، وقوله : من باب التهييج جواب ثان أي ليس المراد حقيقته بل تهييجه وتحريضه على ذلك ، وتوله : ( أو خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم الخ ) جواب آخر أي أن الخطاب لأمته على طريق التعريض ، وقوله : ( وقيل الخطاب لكل أحد ) جواب رابع والمراد كل أحد ممن يتصوّر منه الامتراء لما تقرّر أن أصل الخطاب أن يكون مع معين وقد يكون لغيره كما في قوله ولو ترى إذ المجرمون فلا يرد ما قيل : إن جعل الخطاب لعموم الناس يحتاج إلى جعل العموم لما سواه أو جعل خطابه للتهييج ، فيلزم الجمع بين الحاقيقة والمجاز إلا أن يجعل النهي كناية عن أنه لا ينبغي لأحد أن يمتري فيه ، واليه يشير قوله : ( فلا ينبغي الخ ) مع أنّ الظاهر أنه جمع بين مجازين لا بين مجاز
وحقيقة. قوله : ) بلغت الخ أليس المراد أنه عرض لها التمام بعد ضده بل المراد إنها بدئت كذلك ، واستمرّت عليه ، والفعل تد يرد لمثله نحو : { كَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ سورة النساء ، الآية : 96 ] فليس من يدع التفاسير كما توهم ، ثم لما كان التمام يعقبه النقص غالبا كما قيل :
إذا تم أمر بدا نقصه تيقن زوالاً إذا تيل تم
ذكر قوله لا مبدل لكلماته احتراساً وبياناً لأن تمامها ليس كتمام غيرها ، وقوله في الأخبار والمواعيد بناء على أنّ الوعد خبر كما مز ، وقيل إنه إنشاء وصدقها عدم الخلف فيها فالظاهر العطف بأو والنصب على الوجوه من ربك أو الكلمة. قوله : ( لا أحد يبدل شيئاً منها الخ ( المراد أنه لا أصدق منها فتبدل به ونفى الأصدقية يدل على نفي المساواة ، كما يقال ليس في البلد أعلم من فلان كما مز تفصيله فلا يقال إنه لا ينافي جواز التبديل بما هو مثله ، وقيل : الباء هنا ليست في موقعها لأنّ معنى بدله بخوفه أمنا أزال خوفه إلى الأمن وليس بوارد لأنه يقتضي أنّ الباء لا تدخل على المأخوذ وقد صرّحوا بخلافه ، وفي الكشف أنه إذا قيل تبذل الكفر بالإيمان أريد أتخذ الكفر بدله فالمطلوب المأخوذ هو ما عدّى إليه الفعل بلا واسطة ، وإذا قيل بدله به أريد غيره به فالحاصل ما أفضى إليه الفعل بالباء ، قال في تفسير قوله تعالى : { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } لا أحد يبدل شيئا بما هو أصدق انتهى ، فقد فرق بين بدل وتبذل وما ذكره ناشئ من عدم الفرق ، وقوله : ( أصدق ( إن قيل الصدق لا يقبل الزيادة والنقص لأنه إن طابق الواقع فصدق والا فكذب ، قيل المراد أبين وأظهر صدقا ، وفي الحديث أصدق الحديث الخ قال الكرماني جعل الحديث كمتكلم فوصف به كما يقال زيد(4/116)
ج4ص117
أصدق من غيره والمتكلم يقبل الزيادة والنقص في ذلك وقيد التحريف بالشيوع لأن غيره لا ضير فيه. قوله : ( على أنّ المراد بها القرآن ) أي بالكلمات في هذا الوجه وفي الذي بعده وأما الأوّل فعام لسائر الكتب والأحاديث القدسية ، وقوله : ( بعدهما ( قيد للنبيّ غ!ت والكتاب ، فلا حاجة إلى أن يراد لا نبيّ بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، والمراد أنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا ينسخ شريعته شريعة ولا كتابة كتاب آخر ينزل فلا يدل على أنّ القرآن لا ينسخ بالحديث ، ولا ينافي هذا نزول عيسى عشييه لأنه يعمل بعد النزول بشريعة نبينا لمجي! ، وقوله : ( ما تكلم به ) فهو على هذا عامّ وعلى أن المراد به القرآن خاص قيل والكلمة تطلق على الكلام إذا كان مقصودا مضبوطا نحو كلمة زهير رضي المه عنه
لقصيدته هكذا قيدوه هنا ، وأطلق النحاة فيه وقوله فلا يهملهم إشارة إلى أنّ العلم والسمع عبارة عن المجازاة كما مرّ غير مرّة. قوله : ( يريد الكفار الخ ) فهو عامّ والخطاب له ولأئته ىلمجرو فيشمل الفرق الضالة وغيرهم وان أريد بالأرض! مكة فلأنّ أكثر أهلها كانوا حينئذ كفاراً. قوله : ( وهو ظنهم الخ ) إشارة إلى أنّ اتباع الظن مطلقا ليس بمذموم كما في العمل بالظن في التحري والاجتهاد ونحوه ، وقوله : ( يطلق على ما يقابل العلم ( أي الجهل لأنّ العلم ، كما يقابل الظن والشك يقابل الجهل ، فالمراد به حينئذ الاعتقاد ، ويقابله الباطل ولو جزما وهو على الأوّل حقيقة فلا فرق بينه وبين تفسيره بالآراء الفاسدة والأهواء الباطلة كما قيل. قوله : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } إن فيه وفيما قبله نافية والخرص الحزر والتخمين وقد يعبر به عن الكذب والافتراء وأصله القول بالظن وقول ما لا يستيقن ويتحقق قاله الأزهرفي ، ومنه خرص النخل خرصاً وهي خرص المفتوح مصدر والمكسور بمعنى مفعول كالنقض والنقض والذبح والذبح. قوله : ( فإن أفعل لا ينصب الظاهر الخ ( أي على الصحيح وبعض الكوفيين يجوّزه ، وقوله في مثل ذلك أي مما أريد به التفضيل أما إذا جرد لمعنى اسم الفاعل فمنهم من جوّز نصبه كما صرّح به في التسهيل وحينثذ يؤتى بمفعوله مجرورا بالباء أو اللام كقول المصنف رحمه الله تعالى بالفريقين فإذا لم ينصبه قدر له فعل يدل عليه أفعل كما قاله الفارسي وخرج عليه قوله :
أكر وأحمى للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا
لأنه ضعيف لا يعمل عمل فعله ، والفعل المقدر هنا يعلم ، وقيل معنى في مثل ذلك مثل
هذا الكلام وإنه ذكر في علم النحو إن اسم التفضيل لا يعمل في المظهر إلا إذا كان لشيء وهو في المعنى لمتعلق ذلك الشيء المفضلى باعتبار الأوّل على نفسه باعتبار غيره منفيا مثل ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد لأنه بمعنى حسن ، وهو يريد مسألة الكحل وفي تلك المسألة لا ينصب الظاهر بل يرفعه والكلام ثمة في عمل الرفع لا في عمل النصب فهذا ، وهم ويبعد أن يريد بمثل ذلك المفعول به احترازاً عن الحال والمفعول فيه والتمييز فإنها شنصبها أعلم ،
وقوله : ( معلق عنها الفعل المقدّر ) التعليق إبطال العمل لفظا لا محلاً والإلغاء إبطاله لفظأ ومحلاً كما يعلم من كتب النحو. قوله : ( فتكون من منصوية الخ ) يعني بالفعل وهو يعلم ، وفاعله ضمير ألله كما أشار إليه المصنف وحمه الله وهذا على قرأءة يضل بضم الياء ، وأما على القراءة الأولى فلا تصح الإضافة وجوّز أن تكون استفهامية معلقا عنها الفعل أيضاً وإذا جرّت بالإضافة فالمعنى أعلم المضلين ، وكذا على الثاني أعلم المضلين أي من يجد الضلال من أضللته وجدته ضالاً ، ومجرورة بالنصب عطف على منصوبة قيل فيكون لقوله : أي يضله الله مدخل في هذا الإعراب كما في إعراب النصب كما يدل عليه الفاء التفريعية في قوله فتكون وأنت خبير بعدم استقامته أما إذا كان المضلين اسم فاعل فظاهر لأن من حينئذ يكون عبارة عن الضالين ، أي على أن الفاعل ضميره تعالى وأما إذا كان اسم مفعول مع أنه غير شائع في الاستعمال فلأنّ المضاف ليس من جنس المضاف إليه ولا مجال لكون الإضافة للتخصيص ، فأما أن يقال التفريع على هذه القراءة ولا مدخل للتفسير فيه لكنه خلاف الظاهر أو يقال توله مجرورة مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة عطف على التفريع والمفرع عليه ولو صرّج به وغير عبارته لكان أوضح.
( قلت ) ضمير يضل(4/117)
ج4ص118
في الإضافة عائد على من وتركه لظهوره فادّعاء عدم الظهور فيه مكابرة ، وعلى هذه القراءة كان الظاهر أن يقال بالمهديين ، وكان وجه العدول عنه الإشارة إلى أن الهداية صفة سابقة ثابتة لهم في أنفسهم كأنها غير محتاجة إلى جعل لقوله : كل مولود يولد على الفطرة بخلاف الضلال فإنه أمر طارئ أوجده فيهم فمن قال : يرد عليه إنّ سياق الكلام لبيان الضالّ لا المضل ويدذ عليه قوله وهو أعلم بالمهتدين فليس من المهتدين لهذه النكتة ، وكيف يصح ما ذكره بعد القراءة بها. قوله : ( والتفضيل الخ ) يعني زيادته إمّا في المعلومات أو في وجوه العلم أو باعتبار الكيفية وهي لزوم علمه أو كونه ذاتيا. قوله : ( مسبب عن إنكار الخ ) لأنه أنكر اتباع المضلين ومن جملة ما هم عليه الذبائح للأصنام وغيرها ، وتحريمهم الحلال كالصوائب والبحائر وتحليل الحرام كالميتة وما ذبح لغير الله. قوله : ( لا مما ذكر عليه اسم غيره ) قيل الحصر مستفاد من عدم اتباع المضلين ومن التقييد بالشرط المذكور ، وقيل من سبب النزول وانّ نزاع القوم إنما هو في الميتة دون ما ذكر عليه اسم الله فلو لم يكن المراد إباحة ما ذكر اسم الله عليه فقط لكان الكلام متعرضا لما لا يحتاج إليه ساكتا عما يحتاج إليه ، وقيل عليه لا حاجة إلى هذا والنفي المذكور مستفاد من صريح النظم وهو قوله ولا تأكلوا مما لم الخ فإنه
وقوله وذروا الخ معطوفان على قوله فكلوا ، وقوله وما لكم من تتمة المعطوف عليه يشير إلى أنّ التسبب باعتبار المعطوف ولا دخل فيه للمعطوف عليه ، وفائدته الرذ على من تحرّج من المسلمين في أكل الذبيحة وان ذكر عليها اسم الله كما صرح به في قوله : وما لكم أن لا تثلوا الخ تقريعا لهم على ذلك ، ويردّه أنهم جعلوا هذا النفي مأخوذاً من المعطوف عليه فقط مستفاداً من قبل ذكر المعطوف فلا بد من ملاحظة ما ذكره النحرير كغيره. قوله : ( حتف أنفه ( أي من غير ذبح ونحوه قال الجوهري : ولم يسمع له فعل ، وحكى ابن القوطية في أفعاله له فعلاً وهو حتفه الله يحتفه من باب ضربه إذا أماته قيل أوّل من تكلم حتف أنفه النبيّ لمجور فهي لغة إسلامية وليس كذلك فإنهم تكلموا بها في الجاهلية قال السموأل :
وماماًت مناسيدحتف أنفه ولاضل مناحيث مات قتيل
وخص الأنف لأنهم أرادوا أنّ روحه تخرج من أنفه بتتابع أنفاسه فتخيلوا خروج روج المريض من أنفه والجريح من جراحته. قوله : ( إن كنتم بآياته مؤمنين ) أي إن صرتم عالمين حقائق الأمور بسبب إيمانكم بالله وهذا من جملة ذلك فألزموه وقيل إن كنتم متيقنين بالإيمان ، وعلى يقين منه فإنّ التصديق يختلف ظنا وتقليدا وتحقيقاً. قوله : ( وأيّ غرضى لكم الخ ) اختلف في سبب نزول الآية فقال علم الهدى سببه أن المسلمين كانوا يتحرّجون من أكل الطيبات تقشفا وتزهداً ، ويؤيده قوله مالكم الخ ، ثم إنه قيل إنه يجوز اكل مما ذكر اسم الله عليه وغيره معا ، وليست من التبعيضية لإخراجه بل لإخراج ما لم يؤكل منه كالروث والدم ، وهو خارج بالحصر السابق كما نطق به كلامه ، وقوله : في أن إشارة إلى تقدير في قبل المصدر المؤوّل وليس حالاً كما أعربه بعضهم لأنّ المصدر المؤوّل من أن والفعل لا يقع حالاً كما صرح به سيبويه لأنه معرفة ولأنه مصدر بعلامة الاستقبال المنافية للحالية ، وان أيده وقوع الحال بعده كثيراً نحو ما لهم عن التذكرة معرضين إلا أن يؤوّل بنكرة أو يقدر مضاف ، وقوله بقوله : حرمت عليكم الميتة تبع فيه الزمخشري ، وقد ردّه الإمام وغيره بأنّ الصواب بقوله : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا } [ سورة الأنعام ، الآية : 45 ا ] الآية فبقي ما عدا ذلك على الحل لا بقوله حرّصت الخ لاً نها مدنية ، وأما التاخر في التلاوة فلا يوجب التأخر في النزول وقيل : التفصيل بوحي غير متلو كما أشير إليه في قوله قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرما الآية وفصل وحرم قرئ كلى منهما معلوما ومجهولاً. قوله : " لا ما اضطررتم إليه ) ظاهر تقرير الزمخشري أنّ ما موصولة فلا
يستقيم غير جعل الاستثناء منقطعاً ، قيل ولك أن تجعله استثناء من ضمير حرم ، وما مصدرية في معنى المدّة أي الأشياء التي حرّمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها ، وفيه أنه لا يصح حينئذ الاستثناء من الضمير بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر ومن في مما حرم تبعيضية وضمير إنه راجع لما. قوله : ( وقيل الزنا في الحوانيت(4/118)
ج4ص119
واتخاذ الأخدان ) جمع خدن وهو الصاحب ، وأكثر ما يستعمل فيمن يصاحب لزنا وغيره من الشهوات النفسانية فيقال خدن المرأة وخدينها وهذا لف ونشر مرتب للظاهر والباطن ، وكانوا في الجاهلية يستحلون زنا السرّ ، وأفاد الطيبي أنه على هذا الوجه مقصود العطف مسبب عن عدم الاتباع وعلى الأوّل معترض للتاً كيد ، وهو الوجه ، ولذا أخره المصنف رحمه الله تعالى.
قوله : ( ظاهر في تحريم الخ ) أي من الحيوان وذهب عطاء وطاوس إلى أنّ متروك التسمية حيواناً أو غيره حرام لظاهر الآية ولكن سبب النزول يؤيد خلافه كما احتج عليه من عداه. قوله : ( وقال مالك ( الذي في شروح الهداية عنه أنه تال : بالحرمة مطلقا ، وفي الانتصاف وصاحبه من أئمة المالكية أنّ مذهب مالك يوافق مذهب أبي حنيفة وأما هذا فرواية شاذة عن أشهب فعنة في ذلك روايتان أشهرهما موافقة أبي حنيفة رحمه الله. قوله : ( ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه ) ذكر الضمير لتأويله بالمذبوج وهذا الحديث رواه أبو داود في المراسيل ولفظهإ ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر " ) 1 ( . قوله : ( وفرق أبو حتيفة رحمه الله الخ ) قال النحرير : أما الناسي فلأنّ تسمية الله في قلب كل مؤمن على ما روي أنه ىلمجي! سئل عن متروك التسمية ناسيا فقال : " كلوه فإنّ تسمية الله في قلب كل مسلم " و! م يلحق به
العامد إما لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وان كان منصوص العلة وأمّا لأنه ترك التسمية عمداً فكأنه نفى ما في قلبه واعترض بأن تخصيص العامّ الذي خص منها البعض جائز بالقياس المنصوص العلة وفاقا وبأنا لا نسلم أنّ التارك- عمدا بمنزلة النافي لما في قلبه بل ربما يكون لوثوقه بذلك وعدم افتقاره إلى الذكر فذهبوا إلى أنّ الناسي خارج بقوله وإنه لفسق إذ الضمير عائد إلى عدم ذكر التسمية لكونه أقرب المذكورات ، ومعلوم أنّ الترك نسيانا ليس بفسق لعدم تكليف الناسي والمؤاخذة عليه فتعين العمد ، وقد عرفت ما فيه ، وفي هذا المقام تحقيقات من أرادها فعليه بشروح الكشاف. توله : ( وأوّله ) وفي نسخة وأوّلوه وظاهر النسخة الأولى إنه تأويل أبي حنيفة رحمه الله والذي في الكشاف إنه تأويل الشافعي رحمه الله وهو الظاهر ، واعترض بأنه عند أبي حنيفة أن متروك التسمية عمداً حرام أيضا ، فالواجب أن يقول وبالمتروك التسمية عمدا فتأويله عند أبي حنيفة بالميتة لا غير يجعل المتروك التسمية عمدا داخلاً في الميتة دون المتروك نسياناً ، ولك أن تحمل كلام المصنف رحمه الله على أنه تأويل لمذهبه أو من طرف أبي حنيفة رحمه الله لمن استدل عليه بالآية بإخراجه منها هاثبات مدعاه بالحديث ، والظاهر أن أو في كلامه للترديد أي منهم من أوّله بهذا ، ومنهم من أوّله بذاك بدليل قوله فإنّ الفسق الخ وقوله وهو يؤيد التأويل بالميتة فإنه يدل على أنه تأويل على حدة ، وقيل إنها للتنويع وهو تأويل واحد. قوله : ( وإنه لفسق الخ ) هذا ملخص ما ذكره الإمام استدلالاً للشافعي رحمه الله بأنّ النهي مقيد بقوله وإنه لفسق لأن الواو للحال لقبح عطف الخبر على الإنشاء والمعنى لا تأكلوه حال كونه فسقا ثم إنّ الفسق مجمل يفسره قوله : { أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } [ سورة المائدة ، الآية : 3 ] فيكون النهي مخصوصاً بما أهل لغير الله به فيبقى ما عداه حلالاً إما بالمفهوم أو بعموم دليل الحل أو بحكم الأصل واعترض! عليه بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة مع أنه سبب النزول وبأنّ التأكيد بأنّ واللام ينفي كون الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيص قصد الإعلام بتحققه البتة ، والردّ على منكر تحقيقا أو تقديراً على ما بين في المعاني والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير كأنه قيل لا تأكلوا منه إن كان فسقا فلا يحسن وإنه لفسق بل وهو فسق وأجيب عن الأوّل بأنه دخل بقوله وإنه لفسق ما أهل به لغير الله ، وبقوله وإنّ الشياطين الخ الميتة فيتحقق قول الشافعي إنّ هذا النهي مخصوص بما ذبح على النصب أو مات حتف أنفه ، وعن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق هاهنا الإهلال لغير الله كان التأكيد مناسباً كأنه قيل لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق والمشركون ينكرونه وفيه أنه وقع في بعض كتب المعاني في قوله :
إنّ بني عمك فيهم رماج
أنّ الجملة المصدرة بأن لا تقع حالاً لأنها حرف لا يكاد يرتبط ما صدر به بما قبله إلا أن كلامهم هنا لا يوافقه ، ولم ينكروا على الرازي إعرابها حالية ، وقد قال الفاضل اليمني في قوله
تعالى : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ سورة البقرة ، الآية : 76 ا ](4/119)
ج4ص120
لا امتناع في تصدير الجملة الحالية بأنّ والنحرير أشار إلى تفصيل فيه وهو من الفوائد البديعة. قوله : ( والضمير لما الخ ) أئا بتقدير مضاف أي أكله أو جعله عين الفسق مبالغة ، ولم يجعل الضمير للمصدر المأخوذ من مضمون لم يذكر اسم الله عليه أي إن ترك ذكر اسم الله عليه فسق لأن كون ذلك فسقا لا سيما على وجه التحقيق ، والتأكيد خلاف الظاهر ، ولذا لم يذهبوا إليه ولأنّ ما لم يذكر اسم الله عليه شامل للميتة مع القطع بأنّ ترك التسمية عليها ليس بفسق كذا قيل ، وقيل عليه إنّ الضمير يرجع إلى ما باعتبار أحد متناوليه والمعنى لا تأكلوا الميتة وما أهل لغير الله به ، فإنّ عدم التسمية على الثاني فسق دمانّ الكفار يجادلونكم في أكل الأوّل ، وقوله : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ } من جملة الدليل دال على أحد شطري المدعي وهو مع تكلفه ليس مطابقا لكلام المعترض فإنه على تقديره رجوعه إلى المصدر لا إلى ما وهذا من جملة أوهامه ، والمراد بما قتله الله الميتة. قوله : ( وإنما حسن حذف الفاء الخ ) تبع فيه أبا البقاء رحمه الله ، وقيل عليه إنّ هذا لم يوجد في كتب العربية بل اتفقوا على أنّ ترك الفاء في الجملة الاسمية لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، وكأنه قاسه على جواز عدم جزم المضارع في الجزاء إذا كان الشرط ماضيا فالتوجيه في تركها ما ذكر الرضي وأبو حيان ، والمعرب إنه على تقدير القسم وحذف لام التوطئة فلذلك أجيب القسم والأصل والتقدير ولئن أطعتموهم والله أنكم لمشركون وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده وأتا ما ادّعاه من أنّ حذف الفاء مخصوص بالضرورة فليس كما قال فإنّ المبرد أجازه في الاختبار كما ذكره المرادي في شرح التسهيل ، وقول ابن مالك : توضيحه ما زعمه النحويون من أنه مخصوص بالضرورة ليس بصحيح بل يكثر في الشعر ، يقل في غيره كما في الحديث : " إنك إن تاع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة " ( 1 ( فمن خص الحذف بالشعر فقد حاد عن التحقيق ، وضيق حيث لا تضييق انتهى ، فيه نظر لأن الكلام في حذفها وحدها إمّا تبعية للجملة أو بعض أجزائها فليس محل الخلاف كما في الحديث فرث أمر يغتفر تبعاً ولا يغتفر استقلالاً. قوله : ( مثل به من هداه الله الخ ) قيل هما
تمثيلان لا استعارتان كما مرّ في قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء } [ سورة البقرة ، الآية : 9 ا ] وردّ بأنّ الظاهر أنّ من كان ميتا ومن مثله في الظلمات من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحاً يحاولا دلالة بحيث ينافي الاستعارة والاستعارة الأولى بجملتها مشبه والثانية مشبه به ، وهذا كما تقرل : في الاستعارة الإفرادية أيكون الأسد كالثعلب أي الشجاع كالجبان.
( قلت ) وهذا من بديع المعاني الذي ينبغي أن يتنبه له ويحفظ فإنهم ذكروا أن التشبيه
ينافي الاستعارة بل شرطوا فيها أن لا تشمّ رائحته ، والمراد إن التشبيه الواقع في تلك الاستعارة أو في شيء منها مناف لها وأمّا تشبيه المعنى المستعار بعد تقرّر التجوّز فيه بمعنى آخر حقيقي أو مجازي كما هنا فلا ينافيها ، كما صرّح به المحققون من شراح الكشاف ، وقد أومأ إليه الشريف أيضا في سورة البقرة في قوله :
كان أذني قلبه خطلاً وان
فتدبره بأذن واعية ، وقوله ميتاً على الأصل يعني بالتشديد ، وقوله : ( صفته ( بيان لأنّ
المثل هنا بمعنى الصفة كما في قوله : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ } اسورة الأنعام ، الآية : 22 ا ] الآية لكنه يختص بالصفة الغريبة كما مز تحقيقه في أوّل سورة البقرة. قوله : ( وهو مبتدأ خبره الخ ) في الكشاف كمن صفته هذه وهي قوله : إ في الظلمات ليس بخارج ( منها بمعنى هو في الظلمات ليس بخارج منها كقوله مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار أي صفتها هذه ، وهي قوله فيها أنهار يعني أن جملة هو في الظلمات ليس بخارج منها وقعت خبر المبتدأ الذي هو مثله على سبيل الحكاية ، بمعنى إذا وصف يقال له ذلك ، وجملة مثله مع خبره صلة الموصول ففي الظلمات خبر هو مقدراً ، ولا يصح أن يكون خبر مثله لأن في الظلمات ليس ظرفاً للمثل وضمير هو وضمير ليس راجعان لمن إذا عرفت هذا فقد قيل إن في كلام المصنف رحمه الله تعالى اختلالاً إلا أن يتكلف ويفسر قوله ، وهو مبتدأ بمعنى لفظ هو مبتدأ حتى قيل إن في النسخة تحريفاً من الناسخ ولعل لفظه خبره هو في الظلمات ( قلت أليس الأمر كما زعم فإن ما ذكره المصنف رحمه الله صزج به المعربون كالسمين وأبي البقاء فإنه قال في الظلمات خبر مثله ولم يقدر هو مبتدأ وهو لا يلزمه أن يكون في(4/120)
ج4ص121
الظلمات ظرفاً للمثل لأنّ المراد أنّ مثله هو كونه في الظلمات والمقصود الحكاية وليس تقدير الزمخشري هو إلا لأجل التوضيح لذلك وليس بضروري ، فإن المثل بمعنى الصفة وهي مبهمة ، وقوله في الظلمات الخ مبين لتلك الصفة ولش! الضمير الذي فيه يرجع للمثل حتى يلزم ما توهمه لأنّ الخبر عين
المبتدأ فلا يحتاج إلى عائد كما إنه لو قدر هو كذلك فتأمّله فإنه حقيق بالتأمّل ، ومن فسر كلام المصنف بما في الكشاف وشروحه فقط خبط هنا إلا أنّ ما قاله الزمخشري أحسن لأنّ خبر مثله لا يكون إلا جملة تامّة والظرف بغير فاعل ظاهر لا يؤدّي مؤدّاه كقوله : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ } [ سورة الرعد ، الآية : 35 ] فاعرفه ، وقوله للفصل ولأنه لا يخبر عن المبتدأ إلا بعد ذكر ما هو من تتمته مع أنّ المعنى ليس عليه فالمراد بقوله صفته صفته الغريبة العجيبة فإنّ المثل مخصوص به وتركه اعتماداً على ما تقدم في سورة البقرة فلا يرد عليه ذلك كما قيل ، وقوله للفصل أي بالخبر ولضعفها من المضاف إليه لا لعدم مساعدة المعنى كما قيل. توله : ( كما زين الخ ) قيل هذا بعيد والظاهر أن يجعل المشار إليه إيحاء الشياطين ، وكأنه إنما قدّره بقرينة سبب النزول فالمراد بالمؤمنين حمزة وعمر وعمار رضي الله عنهم والكافرين أبو جهل فإنّ الأوّلين زين لهم إسلامهم وهو زين له عمله. قوله : ( أي كما جعلنا في مكة كابر مجرميها الخ ) قال الطيبي : هذا مشعر بأنّ قوله أو منك ان ميتا الآية متصل بقوله : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ سورة الأنعام ، الآية : 121 ] لأنّ الضمير المرفوع للمسلمين والمنصوب للمشركين وهم الذين قيل فيهم : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } [ سورة الأنعام ، الآية : 16 ا ] وهم الذين قالوا للمسلمين : إنكم تزعمون إنكم تعبدون الله فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم والجملة الشرطية أي وان أطعتموهم إنكم الخ متضمنة لإنكار عظيم وقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } [ سورة الأنعام ، الآية : 122 ] الخ أمّا حال مقرّرة للإنكار إذ الموحد والمشرك لا يستويان فتأمله. قوله : ( ومفعولاه أكابر مجرميها على تقديم المفعول الثاني الخ ( إذا كان جعل بمعنى صير تعدّى لمفعولين واختلف في تعيينهما فقيل في كل قرية مفعول ثان مقدم وأكابر مجرميها بالإضافة هو الأوّل ، وقيل أكابر مفعول أوّل ومجرميها بدل منه فاله أبو البقاء ، وقيل أكابر مفعول ثان قدم ومجرميها مفعول أوّل لأنه معرفة فتعين إنه هو المبتدأ بحسب الأصل والتقدير جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر فيتعلق الجارّ والمجرور بالفعل ، ولما كان في كل عصر مجرم كان معلوما ، وإنما المطلوب كونه من الرؤساء ، واعترض على هذا أبو حيان بأنه خطأ وذهول عن فاعدة نحوية وهي إن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظا بها أو مقدرة أو مضافا إلى نكرة كان مفرداً مذكرا دائما سواء كان لمفرد مذكر أو لغيره ، فإن طابق ما هو له تأنيثا وجمعا وتثنية لزمه أحد أمرين إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة فالقول بأنّ مجرميها بدل من أكابر أو مفعول خطأ لالتزامه أن يبقى مجموعا وهو غير معرف بأل ولا مضاف لمعرفة وذلك لا يجوز ، قال : وقد تنبه لهذا الكرماني إذ قال : إضافة أكابر إلى مجرميها
لأنّ أفعل لا يجمع إلا مع الألف واللام أو الإضمافة ولو قال إلى معرفة لكان أولى ، وهو غير وارد لأنّ أكابر وأصاغر أجرى مجرى الأسماء لكونه بمعنى الرؤساء والسفلة ، وما ذكره إنما هو إذا بقي على معناه الأصلي ، ويؤيده قول ابن عطية رحمه الله إنه يقال : أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة كما قال :
إنّ الأحامرة الثلاث تولعت
وانّ ردّه أبو حيان بأنه لم يعلم أحد من أهل اللغة والنحو أجاز في جمع أفضل أفاضلة
وفيه نظر ، وأمّا الجواب بأنه على حذف المضاف المعرفة للعلم به أي أكابر الناس ، أو أكابر أهل القرية فلا يخفى ضعفه. قوله : ( ويجوز أن يكون مضاقاً إليه إن فسر الجعل بالتمكين الخ ) كون الجعل بمعنى التمكين أي الاستقرار في المكان إنما هو إذا تعدى لمفعول واحد وكأن هذا إنما جاء من تعلق في كل قرية به وقد قدم إنه إذا تعدى لواحد يكون بمعنى خلق ، وبه صرّج النحاة ، ولما كان غير مناسب هنا فسره بما ذكر وهو راجع لمعنى التصيير ، وقيل إنه عطف على قوله مجرميها بدل ولا يلزم أن يكون بمعنى التمكين بل يجوز كونه بمعنى التصيير والظرف مستقرّ أي صيرنا أكابر مجرميها موجودين في كل قرية ، وعلى تفسيره بالتمكين فالتمكين حيحئذ من المكان وان جعل من المكنة لا يصح إلا بجعل ليمكروا مفعولاً ثانياً ، أي مكنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها أي جعلناهم متمكنين للمكر(4/121)
ج4ص122
فيها ، فمن قال : لا يحتاج إلى هذا إلا على تقدير كون ليمكروا مفعولاً ثانيا فقدسها وان كان كلاما مستأنفا يرد عليه إنّ كونه مضافا إليه لا يتوقف على هذا التفسير ، وغاية ما يمكن في توجيه كلام المصنف إنه عطف على قوله مفعولاه أكابر مجرميها ردّاً لقول الإمام أنه لا تجوز الإضافة لأنّ المعنى لا يتم إذ يحتاج إلى مفعول ثان للجعل ، وعلى هذا التفسير يتم المعنى فتجوز الإضافة ، وفي قوله أو في كل قرية إشارة إلى رد آخر وهو مبني على تمام الكلام عند قوله مجرميها ، وكون اللام للمصلحة وظاهر كلام الزمخشري أن جعلنا بمعنى صيرنا والظرف لغو وأكابر أوّل المفعولين مضاف لمجرميها وليمكروا الثاني كما ذكره النحرير ، قيل عليه لا تخصيص للإضافة بهذا المعنى ، بل يصح مع جعل الجعل بمعنى التصيير والمفعول الثاني لا يتعين أن يكون مجرميها كما مرّ ، ويحتمل أن يكون المفعول الثاني ليمكروا فيها وهو مقتضى سوق الكشاف كما ذكره النحرير وفيه أنّ اللام سواء كانت للغرض أو للعاقبة متعلقة بالجعل لا محالة ( قلت ) يعني إنه على الإضافة لا يصح جعل ليمكروا مفعولاً ثانياً لأنّ المعنى يأباه ، ولا في كل قرية لأنّ جعل مجرمي القرية في القرية
لغو من الكلام لا يفيد ، وجعل أصل الكلام أكابر المجرمين فأضيف إلى ضمير القرية لزيادة الربط تكلف مستغنى عنه ، فتعين أن يكون متعديا لواحد بمعنى مكناهم لأن معنى جعل زيد في البيت إسكانه وتمكينه فيه وكأنه معنى مجازي ، وقى عليه جعل جعل بمعنى خلق ومنه يعلم ما وقع في بعض الحواشي ، وقوله إذا أضيف يعني لمعرفة وهو الواقع وترك التصريح به لأنه معلوم ، وقال النحرير : قيل في كل قرية أكابر مفعولاً جعلنا ومجرميها بدل أو مضاف إليه بدليل قراءة أكبر مجرميها ، وقيل أكابر مجرميها مفعولاه بتقديم الثاني وفي كل قرية لغو ، والذي يقتضيه النظر الصائب ، والتأمّل الصادق إنّ في كك قرية لغو وأكابر أوّل وليمكروا ثان انتهى. قوله : ( زاحمنا بني عبد مناف ) يعني نافسناهم في الشرف ، وقوله : ( كفرسي رهان ) هو مثل يضرب للتساوي ولما كان فرسا الرهان لا يلزمهما التساوي إذ قد يسبق أحدهما فسره في النهاية بقوله سابقان إلى غاية ، وقال غيره المراد التشبيه باعتبار ابتداء الجري والخروج للرهان لا باعتبار النهاية. قوله : ( استئناف للرذ عليهم الخ ) أي جواب سؤال نشا من قولهم لن نؤمن الخ أي فما كان جواب الباري تعالى لهم قوله : وإنما هي بفضائل الخ في المواقف لا يشترط في الإرسال استعداد ذاني بل الله يختصبرحمته من يشاء ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته فقيل عليه دلالة الآية على الاستعداد أظهر لما روي عن أبي جهل ولما ذكره المصنف رحمه الله ، وهذا لا يستلزم الإيجاب الذي يقوله الفلاسفة لأنه إن شاء أعطى النبوّة وان شاء أمسك وأن استعد المحل.
( قلت ( مراد صاحب المواقف أيضا بالاستعداد الذاتي الموجب لأنّ عادته تعالى أن يبعث
من كل قوم أشرفهم وأطهرهم جبلة فلا يرد عليه ما ذكر ، ثم إنّ قوله أعلم بالمكان يريد أنّ حيث خرجت عن الظرفية بناء على القول بتصرفها ، ولا عبرة بمن أنكره فهي مفعول به وناصبه فعل مقدر أي يعلم وترك التنبيه عليه اعتمادا على ما سبق فلا يرد عليه أنه يقتضي نصب أفعل التفضيل للمفعول به كما توهم وفي كتاب الشعر لأبي عليّ رحمه الله تعالى الجملة بعد حيث إذا وقعت مفعولاً به صفة ، والمعنى حيث يجعله أي يجعل فيه قيل ، وعبارة المصنف رحمه الله تدلّ عليه ، ويحتمل الإضمافة أيضا ، وقال الرضي : والأولى أنه مضاف ولا مانع من إضافته وهو اسم إلى الجملة وفيه بحث ، وقال ابن الصائغ : ولا يصح في حيث هنا الجرّ بالإضافة لأن أفعل بعض ما يضاف له ولا نصبه بأفعل نصب الظرف لأنّ علمه تعالى غير مقيد بالظرف ، وردّ بأنه يجعل تقيده به مجازيا باعتبار ما تعلق به ، وهو أولى من إخراجه عن الظرفية فإنه ممتنع أو
نادر ، فإن قلت ذكر المفسرون والمتكلمون أنّ الآية ردّ على الفلاسفة والمتكلمين وهؤلاء إنما ذكروا النبوّة والمذكور في الآية الرسالة ، فلا دليل فيها ، قلت : إثبات الأخص أعني الرسالة يلزم منه إثبات الأعمّ أعني النبوّة الذي نازع فيه الفريقان ، وهذا مع ظهوره لم يتعرّضوا له لأنهم إنما ينكرون الرسالة لأنها هي التي تضرهم أو لأنه يلزم من إنكار الأعمّ ، وانتفائه انتفاء الأخص. قوله : ( دّل وحقارة الخ ) كونه بعد الكبر مستفاد من قوله سيصيب ومن وصفهم بأكابر قبله ، وهو أشنع فلذا قيده به ، وقوله : ( يوم القيامة ) تفسير(4/122)
ج4ص123
للعندية كما يقتضيه المقام ، وقد يفسر بعلمه وقدرته فإن لكل مقام مقالاً. قوله : ( وقيل تقديره من عند الله ) قال الفراء : إنه اختار هذا أكثر المفسرين ولا يجوز في العربية أن تقول جئت عند زبد وأنت تريد من عند زيد انتهى ، والى ضعفه أشار المصنف رحمه الله بتمريضه وتأخيره ، وقوله بسبب مكرهم إشارة إلى أنّ الباء للسببية وما بعده إلى أنها للمقابلة كما في بعثه بكذا ، وفسر الهداية بالتعريف لأنّ تعريف الطريق دلالة. قوله : ( فيتسع له ويفسح فيه ) وفي نسخة وينفسح وهو بمعنى يتسع أيضاً وأصل معنى الشرح الشق والفتح وهو يقتضي السعة والفسح فإنه إذا شرح جسم انبسط وظهر ما تحته ولذا قابله بالضيق هنا والواسع يقبل ما يدخله بسهولة فلذا جعل عبارة عن كونه قابلا للحق مفرغا عن غيره إذ لو اشتغل به لم يكن متسعاً ، وهذا على طريق التمثيل والتجوّز ، فقوله كناية أراد به معناها اللغوي وهو إنه عبارة عن ذلك والا فهو بناء على من لا يشترط فيه إمكان المعنى الحقيقي. قوله : ( وإليه أشار عليه أفضل الصلاة والسلام الخ ) هذا الحديث ( 1 ( ساقه أكثر المفسرين هنا وقد أخرجه الفريابي وابن جرير والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود رضي الله عنه يعني أنّ النبئ صلى الله عليه وسلم سئل عن معنى شرح الصدر في هذه الآية فذكره والإنابة
إلى دار الخلود بمعنى الميل إلى ما يقرب من الجنة والتجافي البعد عن الدنيا ، وقوله بحيث ينبو أي يمتنع عن قبول الحق ، وهو بيان لأنه ضد شرح الصدر ، وقوله : ) وصفا بالمصدر ( أي للمبالغة وكذا ضيقا في أحد وجوهه وأصل معناه شدة الضيق ، فإن الحرجة غيضة أشجارها ملتفة بحيث يصعب دخولها. قوله : ) كأنما يصعد الخ ) فسره ابن عباس رضي الله عنهما بقوله ، فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يقدر على أن يدخل الإيمان والتوحيد في قلبه حتى يدخله وبه يتضح معنى التشبيه والامتناع فيه عادي ، وقوله : ( بمن يزاول الخ ) تفسير لصيغة التفعل إشارة إلى أنه للمزاولة والتكلف ، وقوله وقيل معناه محصل الأوّل محاولة ما لا يقدر عليه ومعنى هذا تباعده عن الحق ونبوّة عنه ، وأصل يصعد ويصاعد يتصعد ويتصاً عد فأدغمت التاء في الصاد من الصعود وهذه الجملة مستأنفة ، وؤاء. جوّز فيها الحالية أيضا. قوله : ( كذلك ) يجوز فيه التشبيه كما ذكره المصنف وأن يكون إشارة إلى الجعل المذكور بعده كما مرّ خقيقه ، وقوله العذاب أو الخذلان فوصف الخذلان ومغ التوفيق بنقيض ما يوصف به التوفيق من أنه طيب ، أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب ، وقوله للتعليل لأنّ سبب خذلانهم وعذابهم عدم إيمانهم. قوله : ( الطريق الذي ارتصاه الخ ) يعني إضافة صراط إلى الرب إن كانت للتشريف فالمراد به الطريق المرضي وهو يناسب الإشارة إلى بيان القرآن أو الإسلام ومستقيماً بمعنى لا عوج فيه حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل هذا أبوك عطوفا ، وان جعلت بمعنى الطريق الذي أوجده على مقتضى الحكمة شمل الهداية والإضلال لأنهما طريقان للفلاح والخسران وهو يناسب جعل الإشارة إلى ما سبق ومستقيما حال مؤسسة إن أخذ على ظاهره ، والعامل اسم الإشارة أو ها التي للتنبيه وان فسر
بما ذكره المصنف فمؤكدة ، وعاملها مقدر كما أشار إليه بتمثيله بقوله : { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً } [ سورة البقرة ، الآية : 91 ] والمراد بالعوج في قوله لا عوج العوج المعنوي ، وقوله مطرد إشارة إلى أنّ الاستقامة بمعنى الاطراد والدوام ولا وجه لما قيل إن كل حال مؤكدة يحتمل أن تكون مقيدة بهذا الاعتبار ولم يقل به أحد والعامل في الحال على كل حال معنى الإشارة أو التنبيه ، وقوله دار الله إشارة إلى أنّ السلام اسمه تعالى أضيف إليه للتشريف ، أو بمعنى السلامة من المكاره أو دار تحيتهم به فيكون السلام بمعنى التسليم لقوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ سورة يونى ، الآية : 0 ا ] . قوله : ( في ضمانه الخ ) أي معنى العندية أنه تكفل بها تفضلاً بمقتضى وعده فلا يرد عليه إنه تبع الزمخشري فيه وهو على مذهبه في الوجوب على الله ، أو إنها مدخرة لهم لقوله تعالى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ سورة السجدة ، الآية : 17 ] وفسر بأنهم في منزلة وضيافته وكرامته ويحتمل أن يكون قوله عند الله فيما سبق من قوله : { صَغَارٌ عِندَ اللّهِ } [ سورة الأنعام ، الآية : 24 ا ] بهذا المعنى على سبيل التهكم. قوله : ( بسبب أعمالهم الخ ) يعني الوليّ إن كان بمعنى الموالي أي المحب أو الناصر فالباء للسببية وان كان بمعنى المتولي فهي(4/123)
ج4ص124
للملابسة بتقدير مضاف أي يتولاهم ملتبسا بجزاء أعمالهم أي يعد لهم الثواب ، ويوم نحشرهم منصوب على الظرفية ، والعامل فيه اذكر مقدّراً أو نقول أو كان ما لا يذكر لشناعته كما ارتضاه الزمخشري وقوله من إغوائهم يعني أنه بتقدير مضاف إذ لا معنى لاستكبارهم بحسب الظاهر أو هو عبارة عن جعلهم أتباعاً. قوله : ( بأن دلوهم على الشهوات الخ ) هذا محصل ما في الكشاف ، ومعنى يعوذون أنّ الرجل منهم كان إذا نزل وادياً وخاف قال : أعوذ برب هذا الوادي يعني كبير جنه ، ومعنى إجارتهم إنقاذهم كما ينقذ الجار جاره وأصل معناه المنع كما قال :
هم المانعون الجار حتى كأنهم لجارهم فوق السماكين منزل
وقوله : ( وهو اعتراف الخ ) يعني قوله : ( ربنا استمتع ) إلى هنا وإنما جعله للتحسر لعدم
فائدة الخبر ولازمها وهو ظاهر. قوله : ( منزلكم الخ ) يعني منوي إما اسم مكان أو مصدر فإذا كان مصدرأ فالحال من الضمير ظاهرة لأنه عامل فيه لأنه مضاف إلى فاعله ، والحال لا يكون من المضاف إليه إلا إذا كان المضاف عاملاً أو جزأه أو كجزئه ، وأما إذا كان اسم مكان فلا يكون عاملاً فلذا قدر العامل أي يبوّؤن فيها خالدين ، وأما قول أبي البقاء ، وتبعه المصنف رحمه الله إنّ العامل معنى الإضافة فقد رذوه بأنّ النسبة الإضافية لا تعمل ولا يصح أن تنصب الحال وسيأتي تفصيله. قوله : ( 1 لا الآوقات الخ ا لما كان الخطاب للكفرة ، وهم لا يخرجون من النار لأنّ ما قبله بيان حالهم فيبعد جعله شاملا للعصاة ليصح الاستثناء باعتباره مع أن استعمال ما للعقلاء قليل وجهوه ، بأن المراد النقل من النار إلى الزمهرير أو المبالغة في الخلود بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله وهو مما لا يكون مع إبراز في صورة الخروج ، وأطماعهم في ذلك تهكماً وتشديدا للأمر عليهم وما مصدرية وقتية ولخفاء هذا الوجه تركه المصنف رحمه الله تعالى ، أو أن المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول ورذ الأوّل بأنّ فيه صرف النار من معناها العلمي ، وهو دار العذاب إلى اللغوي ، وأجيب عنه بأنه لا بأس بالصرف إذا ادعت إليه ضرورة ، وقيل عليه إنّ المعترض لا يسلم الضرورة لا مكان غير ذلك التأويل مع أنّ قوله مثواكم يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر وردّ الأخير أبو حيان بأنه في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج والمخرج منه ، فإن قلت قام القوم إلا زيدا فمعناه إلا زيدا ما قام ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا ما يقوم في المستقبل ، وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا معناه إلا زيداً فإني لا أضربه في المستقبل ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا فإني ما ضمربته قبل إلا إذا كان استثناء منقطعاً ، فإنه يسوغ كقوله : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } [ سورة الدخان ، الآية : 56 ] فإنهم ذاقوها ولك أن تقول أنّ القائل به يلتزم انقطاعه كما في الآية التي ذكرها ولا محذور فيه مع ورود مثله في القرآن وفيه نظر ، وقيل إنه غفلة عن تأويل الخلود بالأبد والأبد لا يقتضي الدخول ، وفي الآية تأويلات أخر منها ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبيّ-لمج! ، وهذا مبني على أنّ الاستثناء ليس من المحكيّ ، وإنّ ما بمعنى من ، ومنها أنهم يفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم إستهزاء بهم وهو معنى قوله :
{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } [ سورة المطففين ، الآية : 34 ] قال الشريف : علم الهدى المرتضى في الدرر فإن قيل أفي فائدة في هذا الفعل وما وجه الحكمة فيه قلنا وجه الحكمة فيه ظاهر لأنّ ذلك أغلظ على نفوسهم وأعظم في مكروههم ، وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة لأنّ من طمع في النجاة والإخلاص من المكروه واشتد حرصه
على ذلك ثم حيل بينه وبين الفرج وردّ إلى المكروه يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه ، ومنها ما قال الزجاج : إن المعنى إلا ما شاء من زيادة العذاب ولم يبين وجه استقامة الاستثناء والمستثنى منه على هذا التأويل ، قال في الانتصاف : ونحن نبينه فنقول العذاب على درجات متفاوتة فكان المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها الأنوأع العذاب في الشدة تعد خارجة عنه ليست من جنسه ، والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما يعبر عن كثرة(4/124)
ج4ص125
الفعل برب وقد الموضوعتين لضده من القلة وهو معتاد في لغة العرب وقد حام أبو الطيب حوله فقال :
ولجدت حتى كدت تبخل حائلاً للمنتهى ومن السروربكاء
فكأنّ هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب ونهاية الشذة قد وصلوا إلى الحذ الذي يكاد أن
يخرج عن اسم العذاب المطلق حتى يسوغ معاملته في التعبير معاملة المغاير له وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط ، وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ما يؤيده وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا في تفسير قوله إلا ما شاء ربك. قوله : ( وقيل إلا ما شاء الله قبل الدخول ) فيه تأمّل إذ لو أراد جعل قوله خالدين فيها أبداً في جميع الأوقات لا يخفى ما فيه ، وان أراد تقدير أبداً بعد الخلود ففيه إنّ الخلود بعد الدخول فلا يتناول ما بعده ما قبل الدخول ، وجعل التأبيد للدخول الضمني المفهوم من الخلود تعسف وكذا تعليقه بقوله : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ } [ سورة الأنعام ، الآية : 128 ] تعسف ظاهر فلذلك قال قيل. قوله : ( نكل بعضهم إلى بعض الخ ) قال النحرير : هو على الأخير من الموالاة والمقارنة يوم القيامة ولا قبح فيه فلذا لم يؤوّله الزمخشري بناء على مذهبه وعلى الأوّل بمعنى تجعل الظلمة بعضهم ، واليا على بعض متصرفاً فيه في الدنيا وهو غير قبيح عندنا من حيث صدوره عنه تعالى وعندهم قبيح ، فلذا أوّلوه بتخليتهم وشأنهم حتى تصير الظلمة ولاة وعلى هذا التوجيه ما قال الإمام : إنّ هذا يدلّ على أنّ الرعية إذا كانوا ظالمين فالئه تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم ، وفي الحديث : " كما تكونوا يولي عليكم ) ) 1 ( وهذا رذ على الشارح العلامة إذ ردّ كلام الإمام ، وقوله : ( أو نجعل
الخ ( فهو خاص مؤوّل بالإغواء ، وقوله كما كانوا في الدنيا إشارة إلى معنى التشبيه في هذا الوجه ، وأما على الأوّل فيجوز أن يكون تشبيها وأن يكون من قبيل ضربته كذلك كما مرّ. قوله : ) الرسل من الإنس خاصة ا لما كان المشهور أنه ليس من الجن رسل وأنبياء قدر الفراء هنا مضافا أي من أحدكم أو أنه من إضافة ما للبعض إلى للكل كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ سورة الرحمن ، الآية : 22 ] وإنما يخرجان من الملح كما سيأتي تحقيقه أو أن الرسل أعمّ من المرسل من الله أو من رسل الله لأنّ الجن لم يرسل إليهم ، وفي بعض التفاسير إنه قام الإجماع عليه وزعم قوم أنّ الله تعالى أرسل للجن رسولاً منهم يسمى يوسف ، وهو لا يضرّ الإجماع لأنه خلاف لا اختلاف ، والفرق بينهما معلوم ، وقوله لما جمعوا الخ ظاهره أنه لا بدّ في مثله من الجمع في صيغة واحدة ، وقال الزجاج : هو جار في كل ما اتفق في أصل كما اتفق الجن والإنس في التمييز والتكليف ، وقوله : رسل الرسل يعني الذين بعثهم رسلنا ليبلغوهم عنهم واليهم متعلق برسل. قوله : ( ذم لهم على سوء الخ ) يشير إلى ما في الكشاف من أن الشهادة الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون وكيف يعترفون ، والثانية ذمّ لهم وتخطئة فلا تكرار فيها والمخدج بالدال المهملة بمعنى الناقص ، وتحذيرا مفعول له. قوله : ( ذلك الخ ) جوّز فيه أن يكون مرفوعا خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره مقدر أي كما ذكر أو خبره إن لم يكن ربك الخ أو منصوبا بفعل مقدر كخذ ونحوه والمشار إليه إتيان الرسل ، أو ما قص من أمرهم أو السؤال المفهوم من قوله ألم يأتكم كما ذكره المعرب واللام مقدرة قبل أن وإليه يشير قوله تعليل ، وقوله : { مُهْلِكَ الْقُرَى } إشارة إلى التجوّز في النسبة أو تقدير المضاف ولا يأباه قوله وأهلها غافلون لأنّ أصله وهم غافلون فلما حذف المضاف أقيم الظاهر مقام ضميره ، وقوله : أو لأنّ الشأن إشارة إلى أنّ اسمها حينئذ ضمير شان مقدر ، وقوله ملتبسين الخ إشارة
إلى أنّ الباء للملايسة وأنه حال من المضاف المعلوم ولو قدر ملتبسة على أنه حال من القرى صح. قوله : ( أو ظالماً ) إشارة إلى وجه آخر على أنه حال من ربك أي ملتبساً بظلم أي ظالماً ، والظلم عند عدم إرسال الرسل بناء على أنه من شأنه ذلك أو بناء على القبح ، والحسن العقليين ونحن نثبته ولكن لا نجعله مناط الحكم كما قالت المعتزلة ، قيل ولا يخفى أنّ قوله : وهم غافلون على هذا التقدير كالمستدرك لأنّ الظلم إنما يكون على تقدير غفلتهم ، وأورد عليه أنّ الحصر ممنوع إذ قد يتصوّر الظلم مع عدم الغفلة حال التيقظ ومقارنة الانقياد ، وان كان المراد به هاهنا هو الإهلاك حال الغفلة فقوله وهم غافلون تعيين للمراد فلا يتوهم الاستدراك وفيه بحث ، وقوله : ( بدل من ذلك ) أي من لفظ ذلك عطف على قوله تعليل لأنه لا يقدر اللام فيه.(4/125)
ج4ص126
قوله : ( مر ، لب ) فسره به ليتناول الدركات حقيقة أو تغليباً فإنه عامّ لجميع المكلفين ، وقوله من أعمالهم الخ فمن على الأوّل ابتدائية ، وعلى الثاني بيانية بتقدير مضاف وعلى الثالث تعليلية. قوله : ( على تنليب الخطاب الخ ) ويجوز أن يكون التفاتاً قيل إنما خصه بقراءة الخطاب إذ لا استتباع فيمن قرأ بالياء لصحة الأخبار عن الغائبين بيعلمون من غير ارتكاب تغليب بخلاف الأخبار عن المفرد الحاضر يتعلمون فإنه لا يصح بدون التغليب ، ومن توهم أنّ القيد المذكور لأنه على قراءة الغيبة لا يحمل على تغليب غير. صلى الله عليه وسلم إذ لم يعهد في كلامهم تغليب الغائب وان كثر على المخاطب ولا يغلب أحدهما على المتكلم فقد وهم حيث زعم أنه لولا عدم العهد بتغليب الغائب على المتكلم لكان الكلام المذكور مظنة التغليب ، وقد عرفت أنه ليس كذلك لصحة الكلام بدون التغليب ، ا هـ قلت لا كلام في صحة الكلام بدون التغليب وإنما الكلام فيما لو أريد شمول يعلمون للمخاطب بأن أريد جميع الخلق ، فما المانع من التغليب على المخاطب إلا أنه لم يعهد مثله فالواهم هو لا من وهمه. قوله : ( أيها العصاة ) خصهم لأنّ التخويف يناسبهم ومنهم من قدره أيها الناس وله وجه. قوله : ( أي قرناً بعد قرن الخ ) في الكشاف من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم ، وهم أهل سفينة نوح عليه الصلاة
والسلام ، وإنما فسره بذلك لأنّ آخرين يدل على التغاير في الصفة ومثل لهم بذلك لتحقق قدرته ، وقوله لا محالة أخذه من التأكيد بأن واللام ، ولكنه استدراك من أن يشأ. قوله : ( على غاية تمكنكم ) يعني المكانة إما مصدر بمعنى التمكن أو ظرف بمعنى المكان كالمقام والمقامة وهو مجاز عن الحال كما أشار إليه الزمخشري ، ويقال على مكانتك أي أثبت على حالك ولا تنحرف فهو اسم فعل بمعنى الأمر. قوله : ) كان المهدّد الخ ( قال النحرير : يريد أنّ الأمر للتهديد وهو من قبيل الاستعارة تشبيها لذلك المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لا بدّ أن يكون ممن ضربت عليه الشقوة. قوله : ( العاقبة الحسنى ) يريد أنه أطلق العاقبة والدار والمراد بالدار الدنيا وبالعاقبة العاقبة الحسنى أي عاقبة الخير لأنها الأصل ، فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة وقنطرة المجاز إليها وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن الخاتمة ، وأما عاقبة الشرّ فلا اعتداد بها لأنها من نتائج الفجار كما سيأتي في سورة القصص ، وقوله فمحلها الرفع أي على الابتداء والجملة خبرها ومجموعهما سادّ مسد مفعولي العلم وتركه لظهوره وقوله خبرية أي موصولة وهي مفعول علم بمعنى عرف الذي يتعدى إلى واحد ، وقوله مجمعا عليه على صيغة الفاعل أي عازماً مصمماً كقوله : { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } [ سورة يونس ، الآية : 71 ] وقوله لا يتأتى منه إلا الشر إشارة إلى وجه الشبه والعلاقة. قوله : ( وفيه مع الإنذار الخ ) الإنذار يؤخذ من قوله فسوف تعلمون لأنه للتهديد ، وحسن الأدب حيث لم يقل العاقبة لنا وفوّض الأمر إلى الله وهذا من الكلام المنصف كقوله تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } ووجه كون الظلم أعمّ ظاهر ، وكونه أكثر فائدة لأنه إذا لم يفلح الظالم فكيف الكافر. قوله : ( روي
أنهم كأنوا يعينون الخ ) أصلا النظم وجعلوا لله الخ ولشركائهم فطوى ذكر الشركاء لأنه أمر محقق عندهم وأشار إلى تقدديره بالتصريح به بعد ذلك والزعم مثلث كالوذ. قوله : ( ساء ما يحكمون ) ساء يجري مجرى بئس في جميع أحكامها فما فاعل موصولة أو موصوفة وحكمهم المخصوص بالذمّ كما أشار- إلى تقديره ، ويكرن ضد سرّ متعديا لواحد ويصح أن يراد هنا والتقدير ساءهم حكمهم وملا مصدرية وأخطأ ابن عطية رحمه الله في منعه الأوّل لأنّ المفسر يضمر مع أنه يجوز بلا خلاث ، ثم إق فاعل ساء يجب أن يكون معرّفاً باللام ، أو مضافاً في الأشهر فالوجه الثاني أولى خلافا لمن عكسه. فوله : ) بالوأد ( هو قتل البنات الصغار ، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات بأن يدفنوهن أحياء ، ويقال إنهم كانوا في ذلك فريقين ، أحدهما يقول إنّ الملائكة بنات الله قألحقوا البنات بالئه نهو أحق بهم ، والآخر أنهم كانوا يقتلونهن خشية الإنفاق ، وقيل إنهم كانوا ينذرون إن بلغ بنره عثرة نحر واحداً منهم ، قيل إنما قيل لها موءودة لأنها ثقلت بالتراب الض ي طرح عليها حتى ماتت وليس بمستقيم لأن فعل الموءودة وأد وفعل الثقل آد قال تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ سورة البقرة ، الآية : 255 ] فهذا ناشئ من عدم الفرق بين المادتين ، وقد وقع هذا الخطأ لبعض أهل(4/126)
ج4ص127
اللغة ونبه عليه الشريف المرتضى في أماليه واذعاء القلب لا داعي إليه ، هـ كانوا يذبحون أولادهم ويقسمون بذلك ، وينذرونه كما فعله عبد المطلب في قصته المشهورة واليها أشار النبيّ بمخ! بقوله : " أنا ابن الذبيحين ! ) 1 ( وهو معنى قوله : ( ونحرهم لآلهتهم ) . قوله : ( شركاؤهم الخ ( السدنة بالسين المهملة جمع سادن وهو خادم الصنم وجعل الجن شركاء لا!اعتهم لهم كما يطاع الشريك دلّه ، وكذا السدنة أو لأنهم شركاء
في أموالهم ، ومعنى تزيينه تحسينه لهم وحثهم عليه. قوله : ( وهو ضعيف في العربية الخ ) تبع فيه الزمخشري وهو من سقطاته وسوء أدبه على الله الذي يخشى منه الكفر كما قاله في الانتصاف والقرا آت السبعة لا بذ فيها من نقل صحيح أو متواثر فيما عدا الأداء على المشهور ، وأفي مسلم يقدم على أن يقرأ كلام الله برأيه ويتبع وسم المصحف من غير سماع خصوصا هؤلاء الأئمة الأعلام الواقفين على دقائق الكلام ، وهو يظن أن القرآن يقرأ بالرأي كما ذهب إليه بعض الجهلة مع أنه ليس بصحيح لأنهم فرقوا بين المضاف الذي يعمل وغيره فإن الثاني يفصل فيه بالظرت والأوّل إذا كان مصدراً ونحوه يفصل بمعموله مطلقاً لأن إضافته في نية الانفصال ، ومعموله مؤخر رتبة ففصله كلا فصل فلذا ساغ فيه ، ولم يخص بالشعر كغيره كما صرّج به ابن مالك ، وخطأ الزمخشري لعدم فرقه بينهما وظنه أنه ضرورة مطلقا ، وأما ادعاء حذف المضاف إليه من الأوّل والمضاف من الثاني كما ذهب إليه السكاكيّ فتكلف نحن في غنى عنه ، وكلام الله أحق أن تجري عليه القواعد ، وترجع إليه لا أن يرجع إلى كيره ، والعجب ممن أثبت تلك القواعد برواية واحد عن جاهليّ من العرب فإذا جاء إلى النظم توقف في الإثبات به ، ولابن القاصح في كتاب الطرق هنا كلام نفيس ، وهو أنه ذكر أن حمزة رحمه الله رأى رب العزة مزتين قال يا حمزة اقرأ كلامي فقرأ فقال! له : على من قرأت ، قال : على فلان ، قال : صدق هو كلامي إلى أن قال قرأ جبريل عليه الصلاة والسلام قال : صدق قرأ كلامي فلما انتهى إلى الله ، قال له : من قرأ سكت تأذبا قال له : قل أنت وقص القصة ، قال : ومنها علم أن من كذب أحداً من القرّاء فقد كذب الله فنعوذ باللّه ونسأله أن ينفعنا بكلامه ، وببركة نقلته ونحن بحمد الله لا نشك في ذلك وقد شاهدناه رأى العين. قوله : ( فزججتها الخ ) بنصب القلوص وجز أبي والزج والدفع والمزجة بكسر الميم رمح قصير ، وأبو مزادة كنية رجل والقلوص الفتية من النوق وضمير زججتها للكتيبة ، وروي زج القلوص بالجرّ والتقدير قلوص أبي مزادة ، فحذف من الثاني وعليه فلا شاهد ، وهذا البيت لا يعرف قائله قيل ليس في هذا الشعر ضرورة لاستقامة الوزن والقافية بالإضافة إلى القلوص ورفع أبي مزادة وليس بشيء لأنّ المختار عندهم في تعريف الضرورة ، أنها ما وقع في الشعر لا ما يكون عنه فدوحة والا فما من ضرورة إلا ، ويمكن تغييرها مع بقاء الوزن إلا نادراً ، وقوله : بإضمار فعل دلّ عليه زين فهو على حذ قوله : ليبك يزيد ضارع لخصومة وهو مشهور. قوله : ( وليخلطوا مليهم الخ ( لما كان المشركون لا دين لهم أوّل قوله دينهم في الكشاف بثلاثة أوجه ، ففال ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل-ستن حتى زلوا عته إلى الشرك ، وقيل دينهم الذي وجب أن يكونوا مليه ، وقيل معناه وليوقعوهم في دين ملتبس ، وقوله ما وجب عليهم الخ معناه ما كان يجب
عليهم التدين به مما يوافق شريعة من الشرائع ، لا ما أحدثوه من عند أنفسهم وقيل المراد به دين الإسلام ، وتزيين القتل وان كان قبل البعثة لكنه فعل يبقى عليه نسلهم وقيل المراد بالدين في الوجهين دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام باعتبار الحال الأوّل والحال الثاني ، وكل هذا مستغنى عنه ، وقوله واللام للتعليل الخ ، لأنّ مقصود الشياطين من إغوائهم ليس إلا ذلك وأما السدنة فليس محط نظرهم ذلك لكنه عاقبته. قوله : ) ما فعلوه الخ ( المراد بقوله أو الفريقان أن الضمير راجع لجميع هؤلاء ، والضمير المفرد لفعل القبيلين بتاً ويله باسم الإشارة وقد تقدم وجهه ، ومن غفل عنه قال : لا حاجة إليه ، ولم يذكر الإرداء والتلبيس لأنه نتيجة ذلك ، وقوله افتراءهم الخ يعني ما مصدرية أو موصولة وهو ظاهر. قوله : ( إشارة إلى ما جعل لآلهتهم ( السابق وما بينهما كالاعتراض نإن قلت كيف يعطف عليه قوله وأنعام حرّمت ظهورها ، قلت أدخلت فيها لأنّ السوائب بزعمهم تعتق وتعفى لأجل الآلهة(4/127)
ج4ص128
أو أنها خبر مبتدأ مقدر وقوله يستوي الخ بيان لوصف الأنعام ، وكونه مضيقا باعتبار أنه مغ منها وبزعمهم من الحكاية وكذا افتراء على الله ، وقوله لا يذكرون اسم الله عليها فهو كناية ، وترأ الجمهور حجر بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم ، وروي بضم الحاء وسكون الجيم ، وقرئ أيضا بفتح الحاء وسكون الجيم وبضم الحاء والجيم معا ومادّته تدلّ على المنع والحصر ، وهو في الأصل مصدر مذكر ويفرد مطلقا وجوّز في المضموم الحاء والجيم أن يكون مصدرا كالحلم وأن يكون جمعا كسقف ورهن. قوله : ( نصب على المصمر الخ ( إنما نصبه قالوا لأنّ تعلق عليه وبزعمهم به صيره بمعنى افتروا كما أشار إليه بقوله لأنّ الخ وأما جعله الجارّ متعلقا بقالوا مع بعده فقيل في وجهه إنّ المصدر إذا وقع مفعولاً مطلقا لا يعمل لعدم تقديره ، بأن والفعلى ، وفيه نظر لأنّ تأويله بذلك ليس بلازم لتعلق الجارّ به كما
صرّحوأ بنظيره في تقدمه ، فإن قلت استشهادهم للفصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله فزججتها الخ ينافيه لأن زج مفعول مطلق لزججتها وقد نصب القلوص قلت قد أجاب عنه الرضي بأنّ المصدر العامل ليس مفعولاً مطلفا في الحقيقة بل المفعول المطلق محذوف تقديره زجا مثل زج القلوص ، وقوله بمحذوف تقديره كائنا وعلى جعله مفعولاً له أي قالوا : ما تقدم لأجل الافتراء على الباري تعالى وهو بعيد معنى ، وقوله أو بدله يشير إلى أن الباء للمقابلة والعوضية كما في اشتريت بكذا. قوله : ( وتأنيث الخالصة للمعنى ( ثم راعى لفظها ، وقال العراقي في الإنصاف ليس في القرآن آية حمل فيها أوّلاً على المعنى ، ثم على اللفظ ئانيا غير هذه لا آية يعني إذا لم تكن خالصة مصدواً ، ورد بأنّ له نظائر في كلام العرب كثيرة وفي القرآن في مواضع كآية : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } [ سورة الإسراء ، الآية : 38 ] إذ أنث ضمير كل مراعاة للمعنى ثم ذكر حملآ على لفظها وآيات أخر وهي ثلاثة أخر كما في الدرّ المصون فانظره ، ثم إنه غير مسلم هاهنا ، فإنه حمل على اللفظ أوّلاً لأنّ صلة ما جارّ ومجرور تقدير متعلقه استقز لا استقرّت فقد روعي اللفظ فيه أوّلاً كذا قيل ولا وجه له لأنّ المتعلق والضمير المستتر فيه لا يعلم تذكيره وتأنيثه حتى يكون مراعاة لأحد الجانبين ، وراوية بمعنى راو أي كثير الرواية وقيده بقوله رواية الشعر لئلا يتوهم أنه بمعنى المزادة والتاء فيه للمبالغة ، وقوله : ) أو هو مصدر ) ذكره الفرّاء لكن مجيء المصدر بوزن فاعل وفاعلة قليل وهو حينئذ إمّا للمبالغة ، أو بتقدير ذو وهذا مستفيض في لسان العرب تقول فلان خالصشي أي ذو خلوصي قال الشاعر :
كنت أميني وكنت خالصتي وليس كل امرئ بمؤتمن
قوله : ( أو حال من الضمير الذي في الظرف الخ ( في الكشاف ويجوز أن تكون التاء للمبالغة مثلها في راوية الشعر ، وأن تكون مصدراً وقع موقع الخالص كالعاقبة أي ذو خالصة ، ويدل عليه قراءة من قرأ خالصة بالنصب على أنّ قوله لذكورنا هو الخبر وخالصة مصدر مؤكد ولا يجوز أن يكون حالاً متقدمة لأنّ المجرور لا يتقدم عليه حاله فقيل وجه دلالة النصب على كون خالصة بمعنى المصدر أنها لو كانت بمعنى اسم الفاعل لكانت حالاً من ذكورنا فيلزم تقدم الحال على المجرور ، أو من الضمير في الظرف الواقع خبراً فيلزم تقدمه على العامل المعنوي وهو الجارّ والمجرور ، ويمكن أن يتكلف في تطبيق عبارته على الأمرين وأما جعلها حالاً من الظرف الواقع صلة فلا معنى له عند التأمّل الصادق ، فإن أريد أنها في حال الخلوص من البطون والخروج عنها تكون للذكور فهو معنى كونه حالاً من ضمير الخبر لا الصلة ، وقيل فيه حث فان الملازمة المستفادة من قوله لو كانت الخ ممنوعة لم لا يجوز أن تكون خالصة اسم
فاعل وخبراً لما والتأنيث باعتبار كون ما بمعنى الأجنة كما اختاره المصنف رحمه الله أو تكون حالأ من هذه الأنعام بأن يكون المعنى س أ في بطون هذه الأنعام دو! ، سائرها لذكورنا ، وأما قوله ويمكن أن يتكلف الخ ففيه تسامح لأن عبارته نص في الأمر الأوّل وإنما يحتاج إلى التكلف في تطبيقها على الأمر الثاني بأن يقال المراد بالمجرور الجاز والمجرور ، واقتصر عليه لظهور انتفاء الفصل ) قلت ( هذا ليس بشيء لأنه يريد أن يجعل معنى قوله حالاً من المجرور بمعنى أنه شامل للحال من المجرور من الضمير المستتر في الجار والمجرور ، ولا شبهة في أنّ أخذهما(4/128)
ج4ص129
معاً من هذا التعبير تكلف فهو لم يفهم مراده ، قال : وأمّا قوله فلا معنى له فوجهه أنّ تقييد كون الشيء في البطن وحصوله فيه بالخلوص مما لا يفيد أصلاً ، اهـ ورذ بأنه كقراءة الإضافة بمعنى جيدة وهو الخارج حيا فما ذكره ليس نتيجة التأمل الصادق ، وهذا بعينه كلام القطب في شرحه وقد اعترض عليه بأنه لا يصح لأنّ اعتبار كونه حياً أو ميتا في حال استقراره في البطون لا وجه له ولك أن تقول تقديره ما كان في بطون هذه الأنعام أو تجعلها حالأ مقدرة ، وكل هذا تعسف وضيق عطف ، وتد أشار المصنف رحمه الله تعالى إلى دفعه لأن المراد بخالصة ما ولد حيا بقرينة مقابلته بأن يكن ميتة وليس خالصة بمعنى صرفا وصافية بل بمعنى سالمة كما يقولون خلصت من الشذة ونحوه إذا سلمت منها وهذا مما لا غبار عليه. قوله : ( لأنها لا تتقدّم الخ ( فيه لف ونشر ، والعامل المعنوي الجارّ والمجرور وأسم الإشارة وها التي للتنبيه سميت بذلك ، وان كانت لفظاً لأنها عملت بما تضمنته من معنى الفعل والتغليب ظاهر إلا أنه لا يحتاج إليه إذا نصب ميتة لرجوع الضمير إلى ما. قوله : ( وقرئ خالص الخ ( تفصيل القرا آت ونسبتها مفصل في فنه لكن الزمخشري قال : وقرأ أهل مكة وان تكن ميتة بالتأنيث والرفع وفي الدرّ المصون إنها قراءة ابن عامر رحمه الله فإن عنى بأهل مكة ابن كثير وما أظنه عناه فليس كذلك وإن عنى غيره فصحيح ويجورّ أن ابن كثير روى عنه ذلك لكنه لم يشتهر انتهى ، وبعض الناس تبجج بتخطئته هنا ، وافتخر افتخار الخصي فلذا نقلناه. قوله : ( من توله وتصف السنتهم الكذب ) وهذا من بليغ الكلام وبديعه فإنهم يقولون وصف كلامه الكذب إذا كذب وعينه تصف السحر أي ساحرة وقده يصف الرشاقة بمعنى رشيق مبالغة حتى كان من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له قال المعرّي :
سرى برق المعرة بعدوهن فبات برامة يصف الكلالا
وقوله جزاء إشارة إلى أنه واقع موقع مصدر سنجزيهم بتقدير مضاف. قوله : ( لخفة
عقلهم الخ ) تفسير للسفه فكان الظاهر تقديمه كما في بعض النسخ وأشار باللام إلى أنه مفعول له وجوّز فيه الحالية والمصدرية وجهلهم تفسير لقوله بغير علم ، وعطفه عليه ، وان كان حالأ أو صفة إشارة إلى أنّ له مدخلا في التعليل فتأمّل وقوله وما كانوا مهتدين بعد قوله قد ضلوا للمبالغة في نفي الهداية عنهم لأنّ صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال بعد إن لم يكن فلذا أردف بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال ، وإنما ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض. قوله : ( معروشات الخ ) التعريش رفعه على العريش ، وهو معروف وقيل المعروش الكرم ، وغيره ما ينبطح على الأرض كالبطيخ والبراري جمع برية معروف. قوله : ( والضمير الخ ) ذكروا فيه وجوها أن يرجع إلى أحدهما على التعيين ويعلم الاخر بالمقايسة إليه ، أو إلى ءلل واحد على البدل أو إلى الجميع والضمير بمعنى اسم الإشارة كما مرّ ، وأورد عليه أبو حيان افى الضمير لا يجوز إفراده مع العطف بالواو زاد وجهاً آخر وهو إنّ في الكلام مضافا مقدراً والضمير راجع إليه أي ثمر جنات ، وهذه الوجوه تجري في ضمير ثمره كما أشار إليه المصنف رحمه الله ، وقوله في الهيئة والكيفية متعلق بقوله مختلفاً. قوله : ( وإن لم يدرك ) أي ينضج ويتم !ني فائدة التقييد به إباحة ا!ل قبله ، وعلى الثاني لا حاجة إلى هذا القيد ويينع بياءين من كاب علم وضرب والياء الثانية ثابتة على كل تقدير. قوله : ( والأمر بإيتائها يوم الحصاد الخ ) !ي إذا أربد به الزكاة ، وأما على الوجه الأوّل فهو باق على ظاهره ، وأما إذا أريد الزكاة !الحصاد وقت الوجوب في الذمّة لا وجوب الأداء فأشار المصنف رحمه الله بأنه للمبالغة في
الأمر بالمبادرة إليه حتى كأنه مؤدّي قبل وقته ، والأمر لما دل على الحدث بماذته والوجوب بهيئته صح أن يقيد باعتبار كل منهما ، قيل ولو تعلق بالحق لم يحتج إلى تأويل مصدر حصد الحصد ، وعدل إلى الحصاد بفتح الحاء وكسرها وبهما قرئ لما أريد دلالته على حصد خاص إذا انتهى ، وجاء زمانه كما صرّج به سيبويه رحمه الله ، والمراد بالتنقية تخليصه من القشر ونحوه ، وما ذكره المصنف رحمه الله مبني على الفرق بين نفس الوجوب ووجوب الأداء وهو خلاف المشهور عند الشافعية. قوله : ) في التمدّق ) قال النحرير : لو علقه(4/129)
ج4ص130
بالأكل والصدقة بقرينة الإطلاق لكان أقرب ، وأفا إذا أريد بالحق الزكاة المفروضة فهي مقدرة لا تحتمل الإسراف من حيث هي زكاة لأن ما زاد لا يسمى زكاة فلا وجه لما قيل إن التقدير لا ينافي الإسراف إذ يحتمل أن يزيد على المقدار المعين على وجه التنفل. قوله : ) عطف على جنات الخ ) والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بهما ، وقوله وما يفرس للذبح أي يبسط فعلى الوجهين الأوّلين الفرس بمعنى المفروش ، وعلى الثالث الكلام على التشبيه. قوله : ( كلوا مما أحل لكم منه ) إشارة إلى أنّ الرزق شامل للحلال والحرام ، فإن كنت من تبعيضية فهو ظاهر ، وان كانت ابتدائية فكذلك لأنه ليس فيه ما يدلّ على تناول جميعه ، والمعتزلة خصوه بالحلال ، واستدلوا بهذه الآية بجعلها إحدى مقدمتي شكل منطقي أجزاؤه سهلة الحصول ، وتقديره الحرام ليس بمأكول شرعا وهو ظاهر ، والرزق ما يؤكل شرعا لقوله تعالى : { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } [ سورة الأنعام الآية : 142 ] فالحرام ليس برزق ، وهذا إنما يفيد لو صدق كل رزق مأكول شرعا والآية لا تدل عليه فلذا لم يلتفت المصنف رحمه الله إلى دليلهم ، وفسر خطوات الشيطان بالتحليل والتحريم لاقتضاء المقام له وقوله ظاهر العداوة إشارة إلى أنه من أبان اللازم. قوله : ( بدل من حمولة وفرشاً الخ ( في الدرّ المصون حمولة وفرشا منصوبان عطفا على جنات والحمولة ما أطاق الحمل من الإبل والفرش صغارها وقال الزجاج رحمه الله : أجمع أهل اللغة على أنّ الفرس صغار الإبل ، قال أبو زيد : يحتمل أنه سمي بالمصدر لأنه في الأصل مصدر ، وهو مشترك بين معان منها ما تقدم ومتاع البيت والفضاء الواسع ، واتساع خف البعير قليلا والأرض الملساء ، وقيل ما يحمل عليه من الدواب والفرس ما اتخذ من صوفه ووبره ليفرش اهـ فقول المصنف رحمه الله إنه بدل على أحد التفاسير للحمولة والفرس ، بحيث يشمل الأزواج الثمانية
فإن خصت بالإبل فالبدل مشكل أما إذا فسرت الحمولة بكبارها كالإبل والبقر والغنم والفرش بصغارها فهو ظاهر. قوله : ) أو مفعول كلوا ( يعني كلوا الذي قبله وتقديره كلوا لحم ثمانية أزواج ولا تتبعوا جملة معترضة وقول أبي البقاء رحمه الله : ولا تسرفوا معترضة سهو. قوله : ( أو فعل دل عليه الخ ) وهو مجرور معطوف على كلوا والفعل الدال عليه إمّا كلوا أو خلق أو أنشأ أو نحوه ، وإذا كان حالاً فتقديره مختلفة وإنما أوّل به ليكون بياناً للهيئة وعند من اشترط في الحال أن يكون مشتقاً أو مؤوّلاً فهو ظاهر وصاحب الحال الأنعام ، عاملها متعلق الجاز والمجرور قوله : ) والزوج الخ ) إشارة إلى أنّ الزوج يطلق على كل واحد من القرينين ويدلّ عليه قوله ثمانية أزواج إذ لولاه كانت أربعة ، ولذا قال والمراد الأوّل ويطلق على مجموعهما كما !له الراغب : وسمع من العرب وهذا مما أخطأ فيه الحريري في درّته. قوله : ( وهو بدل من لمائية ) قال النحرير : الظاهر أنّ من الضأن بدل من الأنعام واثنين من حمولة وفرشاً أو من ثمانية ازواج إن جوّزنا أن يكون للبدل بدل او أعرب مفعولاً والبدل اثنين ، ومن الضأن حال من !رة قدمت عليها وهو بدل بعض من كل أو مع ما عطف عليه بدل كل من كل أو من الضأن يدل كما مرّ ، واثنان إذا رفع مبتدأ خبره الجارّ والمجرور ، والجملة بيانية لا محل لها من الاعراب ، وضثين فعيل كعبيد جمع أو اسم جمع ومعزى اسم جمع معز أيضا ، وقوله : أنثييهما إ!ارة إلى أنّ الألف واللام للعهد أو بدل من الإضافة ، وأما مركبة من أم وما الموصولة. قوله : ( والمعنى إنكار أن الله حرّم ( لما كان المنكر هو التحريم ، والجاري في الاستعمال إنّ ما أنكر يلي الهمزة قالوا إنه عدل عنه لأنّ هذا أبلغ فيه وبيانه ما قال السكاكي رحمه الله إن إثبات
التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فإذا انتفى محله ، وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني كأنه وضع موضع من سلم أنّ ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محله كي يتبين كذبه ، ويفتضح عند المخالفة ومنه تعلم أنّ المطلوب بلى الهمزة ، وقد يعدل عنه لنكتة وبه يجمع بين كلامهم فتأمّله. قوله : ( إذ أنتم لا تؤمنون ) يعني أنهم ذهبوا إلى أنّ الله حرّم هذا والعلم بذلك إما بأن بعث الله رسولاً أخبرهم به ، وإما بأن شاهدو! الله تعالى وسمعوا كلامه في التحريم ، والأوّل مناف لما هم عليه لأنهم ما كانوا يؤمنون برسول فتعين المشاهدة والسماع وهو محال فقد تهكم الله بهم بذلك ، ثم بين ظلمهم بقوله فمن أظلم الخ ، ثم أعلمهم بقوله : { قُل لاَّ أَجِدُ } الخ(4/130)
ج4ص131
أن التحريم والتحليل بالوحي لا بالتشهي والهوى. قوله : ( والمراد الخ ) اقتصر في الكشاف على الأثر الثاني ، لأنّ عمرو بن لحيئ هو الذي بحر البحائر ، وسيب السوائب فهو الذي تعمد الكذب ، وأما من تابعه من كبرائهم فيحتمل إنه أخطا في تقليده فلا يكون متعمدا للكذب فلا ينبغي التفسير به ، ولذا قال في تفسيره بعض المتأخرين افترى كذباً ، كاذبا لا مخطئا في ظنه فإنّ فيه مندوحة عن الكذب فليس فيهن خطأ ومخالفة للجمهور في الكذب ولا مخالفة لما قاله الزمخشرقي : إلا في جعله كذبا حالاً بمعنى كاذباً ، وان جوّز فيه أن يكون مصدرأ من غير لفظ الفعل ، فمن قالط إنه أخطأ في الإعراب وغفل عن قيد التعمد في معنى الافتراء لم يفهم كلامه. قوله : ( ليضل الناس بغير علم ( أي عمل عمل القاصد إضلالهم من أجل دعائهم إلى ما فيه الضلال وإن لم يقصد الإضلال ولذلك قال بغير علم كذا قيل يعني إنّ اللام للعاقبة ، ويؤيده قوله بغير علم إن كان حالاً من فاعل يضل ولا يضره احتمال كونه حالاً من الناس وان صح ، لأنّ الأوّل أظهر وأبلغ في الذتم لكون المقتدى به جاهلاً فكيف المقتدي ، ومن غفل عنه خطأه فيه. قوله : ( لا يهدي القوم الظالمين ) أي إلى طريق الحق وقيل إلى دار الثواب لاستحقاقهم العقاب ، ولا يعد فيه كما توهم وإذا لم يهتد الظالم فالأظلم أولى بعدم الهداية. قوله : ( قل لا أجد فيما أوحى إلئ محرّماً الخ ) كني بعدم الوجدان عن عدم الوجود ومبني هذه الكناية على أنّ طريق التحريم التنصيص منه تعالى وتفسيره بمطلق الوحي أستظهروه ولذا قال : أوحى ولم يقل انزل ، وقوله : ( وفيه تنبيه الخ ( قد مرّ ما يشير إليه وأيضا أن الآية لو لم تدل على الحصر ، وقد وردت للردّ على المشركين في تحريم ما لم. يحرّمه الله يعني لم يوح إليّ تحريم ما حرّمتموه وإنما الموحي تحريم ما ذكر ، ولو لم يكن ذلك مقصودا لم تفذ ما ذكر ، وقوله لا بالهوى إشارة إلى أنّ القصر إضافيّ فلا ينافي الاجتهاد ، وفسر المحرّم بالطعام لدلالة ما بعده عليه.
قوله : ( 1 لا أن يكون ميتة الخ ) فسر الزمخشري محرّماً بطعاماً محرّما من المطاعم التي حرّمتموها ، وإنما قيده بذلك لدفع توهم ما يرد من أنّ في النظم حصر المحرّمات فيما ذكر ، ولا شك أنّ لنا محرّمات غيرها فلذا جعل الاستثناء منقطعاً أي لا أجد ما حرّمتموه لكن أجد الأربعة محرّمة ، وهذا لا دلالة فيه على الحصر إذ الاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر وهذا مما ينبغي التنبيه له والمصنف لم يقيده بما ذكر لأنّ الأصل الاتصال وعدم التقييد ، وأشار إلى دفع ذلك بقوله فيما سيأتي والآية محكمة الخ قيل وحينئذ يكون الاستثناء من أعتم الأوقات أو أعنم الأحوال مفرّغاً بمعنى لا أجد شيئاً من المطاعم المحرّمات في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة فاني أجد حينئذ محرّما ، فالمصدر للزمان أو الهيئة وفيه أنه لا يناسب قول المصنف رحمه الله إلا وجود الخ فانه ناطق بخلافه إلا بتكلف ، مع أن المصدر المؤوّل من أن ، والفعل لا ينصب على الظرفية عند الجمهور ، ولا يقع حالاً لأنه مجرفة. قوله : ( لى عطف على أن الخ ( أي على قراءة الرفع كما يدلّ عليه قوله إلا وجود ميتة فإنه على قراءة النصب يكون التقدير على وجوده ميتة ، وعطفه حيمئذ على ميتة أقرب لفظاً ومعنى ، وإنما بين هذه القراءة رذاً على أبي البقاء حيث قال وقرئ برفع ميتة على أن تكون تاقة ، وهو ضعيف لأن المعطوف منصوب فلا حاجة إلى ما قيل إنه جعله كذلك لاطراده على القراءتين. قوله : ( أي إلا وجود ميتة ) الظاهر أنه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة فإن يكون في النظم بمعنى اسم الفاعل كذا أفاده خاتمة المدققين فلا يريد ما قال النحرير : إنّ في جعل الاستثناء متصلا تكلفاً في اللفظ أي إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من محرّما والجواب عن صحة الحصر أنه قد ورد حصر المحزمات في الأربعة لقوله : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } الخ فناسب أن تحمل هذه الآية على ذلك ، ويدفع الأشكال بأنّ المعنى لا أجد عند تبليغ هذه الآية سواها ، أو هي مخصصة بالخبر وليس نسخاً ا هـ وفيه نظر ، والمراد بالميتة ما لم يذبح ذبحا شرعيا فيتناول المنخنقة ونحوها. قوله : ( لا كالكبد والطحال ( إشارة إلى أنهما دمان متجمدان كما ذكره الأطباء ، وجاء في الحديث : " أحلث لنا ميتنان السمك والجراد ، ودمان الكبد والطحال " ) 1 ( وما
عداهما من الدماء حرام مطلقا كما ذهب إليه(4/131)
ج4ص132
الشافعيّ رحمه الله ولو ما قل ، وتلطخ به القدر واللحم ، وتوصيف طاعم بيطعمه كقوله طائر يطير قطعا للمجاز ولا دلالة فيه على أنّ جلد الميتة قبل الدباغ يحرم لأنه يشوى ويؤكل وإذا دبغ لا يقبل ا!ل كما قيل. قوله : ( فإنّ الخنزير ) قيل الظاهر أنه راجع إلى اللحم لأنه المحدث عنه ، وقال ابن حزم : هو عائد على خنزير لقربه وذكر اللحم فيه لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى وبين وجه الحرمة بأنه خبيث في نفسه ، ومخبث بأكله الخبائث كالعذرة وهو معنى قوله مخبث ، ويحتمل أنه تأكيد كليل أليل وقوله : عطف على لحم خنزير هو على قول. قوله : ( ويجوز أن يكون فسقا الخ ) تال أبو حيان : هذا إعراب متكلف جدا والنظم عليه خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة رفع ميتة لأنّ ضمير به ليس له ما يعود إليه ولا يجوز أن يتكلف له موصوف محذوف يعود عليه الضمير أي شيء أهل لغير الله به لأنّ حذف الموصوف والصفة جملة لا يجوز إلا إذا كان بعض مجرور بمن أو في قبله نحو منا ظعن ، وفينا أقام أي فريق ظعن وفريق أقام فإن لم يكن كذلك اختص بالضرورة لكن هذا غير متفق عليه عند النحاة ، فإنّ منهم من أجازه مطلقاً فلعل المصنف رحمه الله يرى رأيه ، وأما منعه من حيث رفع الميتة فغير مسلم لأنه يعود على ما كان عائدا عليه في النصب إذ لا مانع منه. قوله : ( والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون ) خطأه بعضهم فيه بأنّ الجار والمجرور قائم مقام الفاعل فليس فيه ضمير ، والصواب ما في الكشاف إنّ ضمير به يرجع إلى ما يرجع إليه المستتر في يكون ، والقول بأن فيه ضميرا وان أهل بمعنى ذبح منفردا به لغير الله تكلف وتعسف وأصل الإهلال رفع الصوت والمراد هنا ما ذكر عليه غير اسم الله ، واضطر افتعال من الضرورة وعاد بمعنى متجاوز. قوله : ( لا يؤاخذه ( لما كان كونه غفورأ رحيما أمراً ثابتا متقدما على الاضطرار تأوّله بأنه وقع جزاء باعتبار لازم معناه ولا حاجة إلى تقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ، ومعنى عدم المؤاخذة به الإباحة لأنه لو يكن مباحا وقعت المؤاخذة به فلا يرد ما قيل ظاهره ترك المؤاخذة على أكل الحرام بناء على المغفرة والرحمة من الله والاضطرار من العبد ، وقوله في الآية الأخرى : { إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [ سورة الأنعام ، الآية : 119 ] بعد ذكر المحرّمات ظاهرة
الإباحة. قوله : ( والآية محكمة ) الشافعي لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة مطلقا وقد نقض مذهبه بهذه الآية فأجاب بأنّ الآية دالة على التوقيت بقرينة أوحى بعني إلى الآن لم أجد ذلك فلا ينافي ما حرّم بعدها أو هي عامّة واثبات محرّم آخر تخصحيص لا نسخ عندهم ، وقوله ولا على حل الأشياء الخ يعني أنها لا تدلّ على ذلك بل الدال عليه استصحاب الأصل إذ الأصل الحل عنده فالاستثناء في كلامه منقطع. قوله : ( كل ما له أصبع ) ظاهره إنّ أحد فلقتي خف البعير تسمى إصبعا والظاهر أنه ليى حقيقيا وإنما جعل المسبب تعميم التحريم لأنّ بعضه كان حراماً ، والثروب جمع ثرب بالثاء المثلثة والراء المهملة والموحدة هو شحم رقيق على الأمعاء والكرش ، والكلى بضم الكاف جمع كلية معروف. قوله : ) والإضانة لزيادة الربط ) يعني بعد قوله من البقر والغنم لا يحتاج إلى إضافة الشحوم إليهما بل يكفي أن يقال الشحوم لكنه قد يضاف لزيادة الربط ، والتأكيد كما يقال أخذت من زيد ماله وهو متعارف وهذا إن تعلق من البقر بحرّمنا بعده ، وأما من جعله معطوفا على كل ذي ظفر فيؤوّله بعض ويجعل حرّمنا عليهم شحومهما تبيينا للمحرّم فيهما فالإضافة للربط المحتاج إليه لكنه خلاف الظاهر ، وما قيل إنه غير صحيح لأنه استدراك لدخول الغنم والبقر تحت ذوات الظفر أي لكن ما حرّمنا منهما إلا شحومهما فغير مسلم عند من أعرب هذا الإعراب فتأمّل. قوله : ) 1 لا ما حملت ظهورهما الخ ( قال أبو حنيفة رحمه الله لو حلف لا يأكل شحما يحنث بشحم البطن فقط ، وقالا يحنث بشحم الظهر أيضاً لأنه شحم وفيه خاصية الذوب بالنار ولهذا استثنى في الآية وله أنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم ويستعمل كاللحم في اتخاذ الطعام والقلايا وبؤكل كاللحم ولا يفعل ذلك بالشحم ، ولهذا يحنث بأكله لو حلف لا يأكل لحما وبائعه يسمى لحاماً لا شحاماً فالاستثناء في الآية منقطع بدليل استثناء الحوايا ، وتأويله بما حمله الحوايا من شحم خلاف الظاهر. قوله : ( أو ما اشتمل على الإمعاء الخ ( قال النحرير : يفهم منه أنّ الحوايا عطف على(4/132)
ج4ص133
ظهورهما أي ما حملت الحوايا لكن الأنسب عطفها على ما حملت بتقديره مضاف أي شحوم الحوايا وقوله : ( مما اشتمل ) بيان لذلك ، ويحتمل عندي أن يكون ما اشتمل تفسيراً للحوايا لأنه من حواه بمعنى اشتمل عليه فيطلق على الشحم الملتف على الأمعاء ، وان كان المشهور أنها نفس الأمعاء ، وهو على هذا معطوف على المستثنى داخل في حكمه يعني حزمنا جميع شحومهما إلا هذه الثلاثة فكان المناسب هو الواو دون أو لأنّ المخرج جميعها لا أحدها ، وأجيب بأنّ الاستثناء من الإثبات نفي وأوفى النفي تفيد العموم لكونه بمنزلة النكرة في سياق النفي فيصير المعنى لم
يحرّم واحد منهما على التعيين وذلك ينفي المجموع ضرورة ، وفيه أن الاستثناء إنما يقتضي نفي الحكم عن المستثنى بمنزلة قولك انتفى التحريم عن هذا أو ذاك ، فالوجه أن يقال أو في العطف على المستثنى من قبيل جالس الحسن أو ابن سيرين ، كما ذكره في العطف على المستثنى منه يعني أنها الإفادة التساوي في الحكم فيحرم الكلم وسيأتي البحث فيه. قوله : ( جمع حاوية أو حاوياء الخ ) إختلف أهل اللغة في معناها فمنهم من فسره بما مرّ ، وقيل : هي المباعر وقيل : المصارين والإمعاء ، وقيل : كل ما يحويه البطن فاجتمع واستدار ، وقيل : هي الدوارة التي في بطن الشاة ثم اختلف في مفردها فقيل حاوية بوزن فاعلة ، وقيل : تحوية كظريفة وقيل : حاوياء بالمد كقاصعاء ، وجوّز الفارسي أن يكون جمعا لكل واحد من هذه الثلاثة ، وقد سمع في مفردها ذلك فحاوية وحوايا كزاوية وزوايا ووزن جمعه فواعل والأصل حواوي فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة ، لأنها ثاني حرفي لين اكتنفاء مذة فواعل ، ثم قلبت الهمزة المكسورة ياء لثقلها ، ثم فتحت لثقل الكسرة على الياء فقلبت الياء الأخيرة ألفاً لتحرّكها بعد فتحة فصارت حوايا أو قلبت الواو همزة مفتوحة ، ثم الياء الأخيرة ألفا ثم الهمزة ياء لوقوعها بين ألفين كما فعل بخطايا ، وكذلك إن قلنا إنّ مفردها حاوياء وزن الجمع فواعل كقاصعاء وقواصع واعلاله كالذي قبله ، فإن كان مفردها حوية فوزنه فعائل كظريفة وظرائف ، وأصله حوائي فقلبت الهمزة ياء مفتوحة والياء التي هي لام ألفا فصار حوايا فاللفظ متحد والعمل مختلف ، وما وقع في القاموس والصحاح هنا غير محرر ، وعلى ما ذكرناه ينزل كلام المصنف رحمه الله. قوله : ( وقيل هو عطف على شحومهما ) هذا على على مقدر أي وهو معطوف على ما قبله ، وقيل الخ أو على معنى ما قبله فعلى الأوّل يكون معطوفاً على المستثنى يعني حرّمنا شحومهما إلا هذه الثلاثة ، وعلى هذا هو معطوف على غير المستثنى فتكون محرّمة ، قيل : ولقائل أن يقول إمّا أن يحرّم عليهم ما اشتمل على الأمعاء فعلى تقدير عطف الحوايا على ظهورهما يلزم أن تكون حلالآ أو لا يحرّم فعلى تقدير عطفه على شحومهما ، يلزم أن يكون حراما هذا خلف وأيضا يمنعه قوله أو ما اختلط فإنه معطوف على المستثنى بلا شبهة وليس بشيء لأن هذين القولين منقولان عن السلف ، وأكثرهم ذهب إلى الأوّل ومن ذهب إلى الثاني ، قال بتحريمه : وتحريم ما اختلط ومن ذهب إلى الأوّل خالفه فيه فلا وجه لما ذكره. قوله : ( وأو بمعنى الواو ) هذا إمّا على الوجهين كما نقلناه عن النحرير أو على الأخير كما ذهب إليه العلامة ، وكلام المصنف يحتملهما وقال النحرير : أو هاهنا مثلها في جالس الحسن أو ابن سيرين أي لإفادة التساوي في الحكم فيحرم الكل ، وقيل هي للتفصيل وهو قريب منه ، وقد يحمل على ظاهره ويقال معناه حرّمنا عليهم شحومهما أو حرّمنا عليهيم الحوايا أو حرّمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز له ترك أكل أيها كان وأكل الآخرين ، ورذ بأن الظاهر إن مثل هذا وإن كان جائزا فليس من الشرع أن يحرّم أو يحلل واحد مبهم من أمور معينة ، وإنما ذلك في الواجب فقط وقيل فيه بحث لأنه المعلوم من شرعنا لا من شرع اليهود ، وهذا كله ليس بشيء
فإنّ الحرام المخير والمباح المخير صرح به الفقهاء وأهل الأصول قاطبة ، والعجب من النحرير كيف ينكره مع اشتهاده ، قال السبكي رحمه اللّه : في الأشياء مسألة يجوز أن يحزم واحد من أشياء مبهمة خلافاً للمعتزلة ونقل المسألة عن القرافي وأطال في تقريرها ، ثم قال : ويفرض ذلك في مضطر وجد سمكاً ولبناً فإن جمع بينهما فعلاً وتركا كان آثماً ، ومثل له بمثال آخر فإن أردته فراجعه ، وقد ذكره ابن الهمام في تحريره أيضا ، ثم إنكاره الإباحة أغرب فإنك إذا قلت لأحد انكح هنداً أو زينب وهما أختان فقد أبحت له واحدة(4/133)
ج4ص134
مبهمة شرعا وهذا مما لا شبهة فيه ، وقد قيل أيضاً إنه مثال للتحريم المبهم ، ثم إني تأمّلت ما ذكر. السعد من إنكاره الحرام المخير مع أنه مصرّج به في كتب الأصول كما رأيت فتعجبت منه لجلالة قدره ، ثم رأيت في شرح التمهيد أنّ العلامة قال : في شرح أصول ابن الحاجب إن ما ذكره الأصوليون فيه نظر ولم يبين وجهه وقال : كان وجهه إنه لا يتعين ترك أحدهما إذ له ترك الجميع ، وكلا منا فيما يحرم لذاته لا لعارض! فالإشكال باق ، وكلمة أو في النهي نحو لا تطع منهم آثماً أو كفوراً للنهي عن واحد لا بعينه ، والنهي عن الجمع من دليل آخر اهـ ( أقول ) فهاهنا أمور في المخير فعلهما وتركهما ، وفعل أحدهما وترك الآخر في الإثبات والنفي فهذه ست وجوه ، ثم لنا أيضا وجوب وحرمة وتخيير واباحة والكلام في الأمرين فالوجوب المخير إنما يتحقق إذا وجب أحدهما وامتنع ئركهما وفعلهما كالكفارة ، فإنه إذا فعلها كان الآخر تطوّعا لا كفارة وإنما الكلام في المحزم كنكاح إحدى الأختين ونحوه مما ذكروه فإن كان هذا مراد النحرير كان له وجه فأمعن النظر
قوله : ( هو شحم الإلية ( ومنهم من فسره بالمخ لكن قال السرخسي : في الإيمان إنه لا
كول أحد لمخ العظم شحم ، وأما قولهم إن الآية نوع ثالث لا يستعمل استعمال اللحوم والشحوم فقال ابن الهمام فيه نظر والعصعص بالإهمال كقنفد وعليط وزرنب منبت الذنب. رله : ) ذلك التحريم أو الجزاء ) جزى يتعذى بالباء وبنفسه كما ذكره الراغب وغيره ، وفي ذلك هنا وجوه ككونه خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره ما بعده والعائد محذوف ، وكونه شصوبا على المصدر وهو ظاهر كلام الشيخين هنا لكن ابن مالك قال : لا يشار إلى المصدر إلا إذا أتغ به نحو قمت ذلك القيام ولو قلت ذلك فقط لم يجز لكن أبو حيان رذه وقال : إنه ول ئز أيضاً ونقله عن النحاة مع شواهده وكلام ابن مالك في كتبه متناقض فيه والحق جوازه فما !ل إنهما مفعولان منصوبان بنزع الخافض فيه ما فيه وقيل إنه مفعول به مقدم ، وكلام المصنف حتمله. قوله : ( أو الوعد والوعيد ) هو مستفاد من السياق أو التحريم لتضمنه عقاب اله هـ تكب ل وثواب المجتنب ، ومعنى الصدق فيه قد تقدم تفصيله وهو رذ على من جوّز خلف الوعيد
كما بين في الكلام ، وفيه نظر وقوله : واسعة على المطيعين التخصيص يؤخذ من مقابلته بلزوم عذاب المجرمين ولازب ولازم بمعنى ووقوع ما أخبر ألله به من المغيبات من وجو. الإعجاز لكلامه وليس الإعجاز به فقط كما في قول ضعيف. قوله : ) أي لو شاء خلاف ذلك الخ ) رذ على الزمششريّ حيث قال : سيقول الذين أشركوا أخبار بما سوف يقولونه ولما قالوه قال :
{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } [ سورة النحل ، الآية : 35 ] ، يعنون بكفرهم وتمرّدهم أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله بمشيئة الله تعالى وإرادته ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك كمذهب المجبرة بعينه ، قال النحرير : نعم هو كمذهبهم في كون كل كائن بمشيئة الله لكن الكفرة يحتجون بذلك على حقية الإشراك وتحريم الحلال وسائر ما يرتكبون من القبائح ، وكونها ليست بمعص! لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى الأمر على ما هو مذهب القدرية من عدم التفرقة بين المأمور والمراد وأن كل ما هو مرادا لله فهو ليس بمعصية منهيّ عنها ، والمجبرة وان اعتقدوا أن الكل بمشيئة الله لكنهم يعتقدون أنّ الشرك وجميع القبائح معصية ، ومخالفة الأمر يلحقها العذاب بحكم الوعيد ويعفو عن بعضها بحكم الوعد فهم في ذلك يصدقون الله فيما دل عليه العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما يشاء ، والكفرة يكذبونه في لحوق الوعيد على ما هو بمشيئته تعالى إلى أن قال وحاصل ما قال الإمام هو أن في كلام المشركين مقدمتين إحداهما أنّ الكفر بمشيئة الله تعالى ، والثانية أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبيّ !يو ، وما ورد من الذمّ والتوبيخ إنما هو على الثانية إذ الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان ويعذبه على خلافه ، ويبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى دار السلام وان كان لا يهدي إلا من يشاء. قوله : ( لا الاعتذار الخ ( قيل عليه أنت خبير بأنه إذا أريد الاعتذار لا ينهض ذتهم دليلأ لهم أيضا لإثبات الكسب والاختيار ، فإن قيل المراد ذثهم على ما ذكروا من مقدمتهم قلنا كلامه إنما يدل على أنّ الذتم بالاعتذإر فتأمّله قلت هو لا يضرّ المصنف رحمه الله تعالى لأن المعتزلة لما جعلوه اعتذارأ ، واستدلوا به(4/134)
ج4ص135
أبطله من أصله ولا يضرّ دفعه بوجه آخر فذمّهم عند المصنف لدعوى الرضا لا لدعوى المشيئة. قوله : ) ويؤيد ذلك الخ ( وجه التأييد أنه لا تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى أنه لو شاء الله مشيئة إلجاء ، وقسر عدم الشرك ما أشركفا لأنّ الرسول
صلى الله عليه وسلم لا يدعي-ءفه و! !ا ا!كل يب في أنّ الرسول لمجي!ه يمنع كون ذلك مرضيا له تعالى فتكون دعواهم أنّ أفعالهم بمشيئة مرضية قيل ، ولعله قال : يؤيد دون يدل! لأنّ في الاعتذار تكذيباً أيضا فتأمّل ، وقوله : ( عطف الخ ) بيان لوجه عطف الظاهر على الضمير المرفوع المتصل بدون تأكيد لأنه يكفي أفي فاصل فيه وتد فصل بلا والكوفيون لا يشترطون في ذلك شيئاً ، واستدلوا بهذه الآية ونحوها وهم أجابوا بما مرّ ، وفيه نظر لأنّ الفصل ينبغي أن يتقدم حرف العطف ليدفع الهجنة ، والمصنف رحمه الله تبع في هذا بعض النحاة بناء على أنه يكفي الفصل بين المعطوف ، وإن لم يفصل حرف العطف وقد توقف فيه أبو عليّ رحمه الله فتأمّل وفسر العلم بمعلوم خاص بسبب اقتضاء المقام وأوّل الإخراج بالإظهار لاختصاصه بالمحسوس. قوله : ( وفيه دليل الخ ) أي اتباع الظن لمجرّد التشهي والهوى لأنه ذمّهم به وهو ظن مخصوص فاسد من بعض الظن ، ولذا قيل لا حاجة إلى قوله ولعل ذلك الخ ، والبالغة القوية ومنه أيمان بالغة أي مؤكدة ، وقوله بلغ بها صاحبها فهي كعيشة راضية في الوجهين ، والحج بمعنى القصد أو النلبة. قوله : ( من الحج ) المشهور أنها بمعنى الغلبة وقوله كأنها تقصد الخ فهي من إسناد الشيء لسببه. قوله : ( وفعل يؤنث ويجمع ) ترك التثنية لعلمها بالقياس أو أراد بالجمع ما فوق الواحد فيشملها ، وهذا بناء على ما اشتهر من أنّ اتصال هذه العلامات من خصائص الأفعال ، واذعى أبو عليّ الفارسي أنّ ليس حرف ، واتصلت به الضمائر في لست ولستما ولستم لشبهه ، لفعل لكونه على ثلاثة أحرف ، وبمعنى ما كان كما لحق الضمير هاني وهاتيا وهاتوا مع كونه اسم فعل لقوّة مناسبته للأفعال فعلى هذا القول يكون اسم فعل مطلقاً كما في شرح التسهيل ، رمليه الرضي فإنه قال وبنو تميم يصرفونه فيذكرونه ويؤنثونه ويجمعونه نظراً إلى أصله ومن لم مف على الخلاف في هذه المسألة نقل كلام الرضي معترضا به على المصنف رحه 4 الله. رله : ( وأصله الخ ) حذف الألف لأنّ أصله المم فاللام ساكنة بحسب الأصل ، وأما استبعاد
المصنف رحه الله فدفع بما نقله الرضي عن الكوفيين من أنّ أصل هل أمّ هلا أمّ وهلا كلمة استعجال بمعنى أسرع ، فغير إلى هل لتخفيف التركيب ، ونقلت ضمت الهمزة إلى اللام وحذفت كما هو القياس في نحو قد أفلح إلا أنه ألزم هذا التخفيف هنا لثقل التركيب. قوله : ) ويكون متعذّيا ) بمعنى احضروأت ، ولازما بمعنى أقبل كقوله هلمّ إلينا ، واعترض عليه بأنه فسرها في سورة الأحزاب بقرب نفسك إلينا ، فجعله متعديا وقدر مفعوله فبين كلاميه تناف ، وهو مع كونه مناقشة في المثال ليس بوارد لأنه بنى كلامه هنا على الظاهر المتبادر ، وأبدى ثمة احتمالاً من عنده مع أنه قيل إنه تحقيق لمعنى اللزوم وإلا قال قربوا غيركم فتأفله. قوله : ( يعني قدوتهم فيه الخ ) أي المراد بالشهداء كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم ، والمقصود من إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم فلذا فرّع عليه قوله فإن شهدوا ، وقوله ولذلك قيد الشهداء بالإضافة أي قال شهداءكم ولم يقل : شهداء لأنّ المراد بالشهداء الشهداء المعروفون بالباطل فلذا إضافة للدلالة على ذلك وفرّع عليه ما بعده وعبر عنهم بالموصول لما مرّ من أنّ الصلة يجب أن تكون معلومة ، وعلم من كلامه هنا أن الصفة لا يجب فيها أن تكون معلومة ، بل أن تكون ثابتة للموصوف فقط فلا حاجة إلى التوفيق بينهما ، كما وقع لكثير فتكلفوا ما تكلفوا والا لم يكن فرق بين الذين يشهدون وشهداء يشهدون. قوله : ( فلا تصدقهم الخ ( فلا تشهد استعارة تبعية وقيل : مجاز مرسل من ذكر اللازم وارادة الملزوم لأنّ الشهادة من لوازم التسليم ، وقيل كناية وقيل : مشاكلة وزاد قوله وبين لهم فساده لأنّ السكوت قد يشعر بالرضا. قوله : ( للدلالة الخ ( كذا في الكشاف وقد قيل عليه إنه لا دلالة للإضافة على الحصر ، وغاية التوب أنّ اتباع الهوى مطلقا ممنوع ، فلما أضافه إليهم في مقام المنع عن اتباع الهوى علم أنّ صاحب الهوى ليس إلا مكذب الآيات ولا يخفى ما فيه ، وقيل وجهه إن الاتباع منحصر في الهوى(4/135)
ج4ص136
والحجة وانّ متبع أحدهما لا يكون متبعا للآخر للمنافاة بينهما وضمير بها للأيات ، وقوله فاتسع فيه يعني استعمل المقيد في المطلق مجازا وهو ظاهر ، وقوله الخبرية هو مقابل الاستفهامية فهي موصولة أو موصوفة ، والعائد محذوف حينئذ. قوله : ( وأصله أن يقوله من كان في علو ) ي!ضمل أنه هنا
على الأصل تعريضا لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقول ترقوا إلى ذروة العلم وقمة العز. قوله : ( لأنه بمعنى أقل ا لما كان أتل بمعنى أقل صح أن يعمل في الجملة بناء على المذهب الكوفي من أنه يحكي الجمل بكل ما تضمن معنى القول ، وغيرهم يقدّر فيه قائلاً ونحوه فمن اعترض بأن الناصب للجملة إنما هو الماذة المخصوصة لا ما يكون من أقسامها فإن التلاوة والأمر والنهي تنصب المفرد مع كونها من باب القول لم يصب واسم الاستفهام معمول حرّم تقدّم عليه لا أتل لئلا تبطل صدارته والمعنى أقل لكم وأبين جواب هذا الاستفهام. قوله : ( أي لا تشركوا الخ ) أي أنّ إن هنا تفسيرية لا مصدرية فلذا عبر بأي التفسيرية لاستيفاء شرطها وهو تقدّم ما فيه معنى القول دون حروفه. قال النحرير : نظم الكلام لا يخلو عن خفاء لأنّ إن إمّا مصدرية أو مفسرة فمان جعلت مصدرية كانت بيانا للمحرّم بدلاً من ما أو عائده المحذوف ، وظاهر أنّ المحرّم هو الإشراك لا نفيه وان الأوامر بعده معطوفة على لا تشركوا فيه عطف الطلبي على الخبري ، وجعل الواجب المأمور به محرّماً فاحتيج إلى تكلف كجعل لا مزيدة وعطف الأوامر على المحرّمات باعتبار حرمة أضدادها ، وتضمين الخبر معنى الطلب وأما جعل لا ناهية وصلة لأن المصدرية كما جوزه سيبويه رحمه الله إذ عمل الجازم في الفعل وألناصب في لا مع الفعل ، فلا سبيل إليه هنا لأن زيادة لا الناهية لم يقلى به أحد ولم يرد ، فإن جعلت مفسرة ولا ناهية والنواهي بيان لتلاوة المحرّمات أشكل عطف ، وانّ هذا صراطي مستقيماً الخ على أن لا تشركوا مع أنه لا معنى لعطفه على أن المفسرة مع الفعل وعطف الأوامر المذكورة على النواهي ، فإنها لا تصلح بياناً لتلاوة المحرّمات بل الواجبات ، والزمخشري اختار كونها مفسرة ، وعطف الأوامر لأنها معنى نواه ة ولا سبيل حينئذ لجعل إق مصدرية لما مرّ وأجاب عن الإشكال الأوّل بأنّ هذا صراطي تعليل للاتباع متعلق باتبعوه على حذف اللام وجاز عود ضمير اتبعوه إلى الصراط لتقدمه في اللفظ ، فإن قيل فعلى هذا يكون اتبعوه عطفا على لا تشركوا ويصير التقدير وفاتبعوا صراطي لأنه مستقيم ، وفيه جمع بين حرفي عطف أعني الواو والفاء وليس بمستقيم ، وان جعلنا الواو استئنافية اعتراضية قلنا ورود الواو مع الفاء عند تقديم المعمول فصلاً بينهما شائع في الكلام مثل : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } [ سورة المدثر ، الآية : 3 ، و { أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ سورة الجن ، الآية : 118 فإن أثبت الجمع البتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقاً بمحذوف والمذكور بالفاء عطفاً عليه مثل عظم فكبروا دعوا الله فلا تدعوا مع الله وآثروه فاتبعوه ، وعن الإشكال الثاني بان عطف الأوامر على النواهي الوأقعة بعد أن المفسرة لتلاوة المحرّمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرّما دل على أن التحريم راجع إلى أضدادها بمعنى أن الأوامر قصد لوازمها حتى كأنه قيل لا تسبوأ الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا تتركوا العدل ولا تنكثوا العهد ، ومثله وان
لم يجز بحسب الأصل ربما يجوز بطريق العطف انئهى ، واختار أبو حيان رحمه الله إن في الكلام مقدّرا وأصله اتل ما حرّم وما أوجب والتفسير لهما ، وقال : إنه أقرب مما ذكروه. قوله : ( تعليق الفعل المفسر بما حرّم ) أي جعله عاملاً فيه وهو معنى التعليق إذا تعدى بالباء لا بعن والمراد بالفعل المفسر بفتح السين اتل لا بكسرها كما توهم ومن فسر تعليق المفسر بجعله تفسيراً لما حرّم فقد وهم ، وقوله : ( إلى أضدادها ) مرّ تفسيره. قوله : ( ومن جعل أن ناصبه الخ ) فهو اسم فعل بمعنى الزموا وما قيل إن انتصاب أن لا تشركوا بعليكم يأباه عطف الأوامر ، إلا أن تجعل لا ناهية وأن المصدرية موصولة بالأوامر والنواهي على ما جوّزه الزمخشري نقلاً عن سيبويه ، تكلف! لا حاجة إليه لجواز العطف على العامل أعني عليكم لأنه بمعنى الزموا. قوله : ( أو بالبدل من ما أو من عائده المحذوف ) قيل لا يجوز أن يكون بدلاً من المحذوف والمبدل منه في حكم التنحية ، والسقوط بواسطة كونه غير مقصود(4/136)
ج4ص137
بالنسبة فلو حذف لفظاً أيضا لم يبق له اعتبار اً صلاً ، والعجب من النحرير إنه جوّز ذلك هنا وقد أشار في المطول إلى ما حققناه في حواشيه وهو تحيل لا وجه له وقد مرّ ما فيه ، وقيل إن جعلت إن مصدرية فلا إمّا زائدة أو ناهية أو نافية وكلها باطلة لعطف الأوامر فلو كانت زائدة لكان المأمور به محرّما لأن التقدير حينئذ حرّم أن تشركوا وأن تحسنوا وعلى النهي يجتمع ناصب وجازم على فعل واحد وهو غير جائز وعلى النفي يلزم عطف الطلب على الخبر إلا أن يقال الخبر متضمن للطلب إذ هو في معنى النهي ، ورد بأن المعاني الواجبة تجعل محرّمة باعتبار أضدادها كما مرّ وأما جعل لا ناهية وان جوّز اجتماع الناصب والجازم فلا سبيل إليه كما مرّ ، وتضمن الخبر معنى الطلب تكلف ، وقيل الإنشاء هنا مؤوّل بمفرد فيجوز أن يعطف على الخبر المؤوّل به ، وقيل إنه على هذا الأوامر معطوفة على تعالوا لا على لا تشركوا حتى يلزم ما ذكر وعلى تقدير اللام فالجواب عن عطف الأوامر ما مرّ ، وقوله : ( أو المحرّم أن تشركوا ) إشارة إلى زيادة لا في هذا الوجه وقوله يحتمل المصدر فيكون معناه إشراكا ما وعلى المفعولية شريكا ما. قوله : ( وضعه موضع النهي الخ ) جعله كناية عن ذلك لتتناسب المعطوفات ، ولأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ولأنّ الإحسان إذا لم تترك معه الإساءة لا يعتد به كما قال أبو الطيب :
إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى ~ فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقيا
وإن قال في مقام آخر :
أنا لفي زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان واجمال
قوله : ( ومن خشيتة الخ ) إشارة إلى أنّ الآية شاملة لقتل الأولاد للفقر الحاصل بالفعل أو لخشية الفقر في المستقبل ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وقيل : إن الخطاب في كل آية لصنف منهم ، وليس خطابا واحدا فالمخاطب بقوله : { مِّنْ إمْلاَقٍ } من ابتلى بالفقر وبقوله : ( خثية إملاق ) من لا فقر له ولكنه يخشى الفقر ولهذا قدم رزقهم هنا فقيل : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } وقدّم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } وهو كلام حسن. قوله : ( أو الزنا ) فجمع الفواحش للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر منه ورجح بعضهم هذا التفسير ، وقوله كالقود مما أجازه الشرع كدفع الصائل وغيره. قوله : ) فإنّ كمال العقل هو الرشدا لما كان أصل العقل ثابتا لهم أوّله بما ذكر وهو ظاهر ، وقال : هنا تعقلون وفيما بعده تذكرون مع التفنن بالتعبير بالأمر والنهي لأنّ المنهيات كالشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس كانت العرب لا تستنكف منها ، وأما إحسان الوالدين وايفاء الكيل وصدق القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه فلذا أمروا بالثبات عليه وتذكره فتدبره. قوله : ( حتى يصير بالغاً الخ ) يعني المراد به هنا البلوغ لا أن يبلغ ثلاثة وثلاثين أو أربعين فإنه وان كان معنى له لكنه ليس بمراد هنا بل في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ } [ سورة الأحقاف ، الآية : 15 ] سنة ، وهو من الشدة أي القوّة أو الارتفاع من شذ النهار إذا ارتفع ، واختلف فيه على خمسة أقوال فقيل هو جمع لا واحد له ، وهو قول الفراء وقيل : هو مفرد وأفعل ورد مفرداً نادراً كآنك ، وقيل هو جمع شدة كنعمة وأنعم وقدّر فيه زيادة الهاء لكثرة جمع فعل على أفعل كقدح وأقدح ، وقال ابن الأنباري : إنه جمع شد بضم الشين كود ، وأودّ وقيل جمع شد بفتحها وهو هنا غاية من حيث المعنى لا من حيث التركيب اللفظي ، ومعناه احفظوا على اليتيم ماله إلى بلوغ أشذه فادفعوه إليه قاله أبو حيان رحمه الله : وآنك بالمذ وضمم النون إلا سرب ولم يأت في المفردات على هذا الوزن
غيرهما كما في القاموس وتوله : ( ما يسعها ) إشارة إلى أنّ فعلا بمعنى فاعل ، وقوله وذكره لما كان فيه حرج مع كثرة وقوعه رخص فيما خرج عن طاقتهم ويحتمل رجوعه إلى ما تقدم أي جميع ما كلفناكم ممكن ونحن لا نكلف ما لا يطاق ، وقوله : ( يعني ما عهد الخ ) يحتمل أيضاً أنّ المراد ما عاهدتم الله عليه من إيمانكم ونذركم ، وتخفيف تذكرون بحذف إحدى التاءين. قوله : ( الإشارة فيه الخ ( أي باعتبار أكثره وقيل المشار إليه من قوله : ( تعالوا إلى هنا ) وقيل المشار إليه شرعه صلى الله عليه وسلم ويلائمه قوله ولا تتبعوا السبل ، وإذا كان تعليلا مقدما فيه جمع حرفي عطف وقد مرّ توجيهه. قوله : ) فتفرقكم الخ ( إشارة إلى أن الباء للتعدية وأصل تتفزق وهو منصوب(4/137)
ج4ص138
في جواب للنهي. قوله : ) وصاكم به ) قيل لما كان في الوصية معنى الاهتمام والمحافظة زيادة على معنى الطلب استعيرت للأمر المؤكد والموصى به نفس ما ذكر لا حفظه لما عرفت إن معنى الحفظ ينتظم معنى الوصية ، وقيل عليه إن الوصية قد تكون بالإتلاف كبذل المال وذبح القرابين والإعتاق فتأقلى. قوله : ( عطف على وصاكم ( فيه تسمح أي على جملة ذلكم وصاكم وفيه إشارة إلى أنّ الاسمية التي خبرها فعليه في معنى الفعلية فلذا حسن عطف الفعلية عليها. قوله : ( وثم للتراخي في الإخبار الخ ( الترتيب الإخباري في نحو بلغني ما صنعت اليوم ، ثم ما صنعت أمس أعجب ذكره الفراء ، وقال ابن عصفور أنه ليس بشيء لأنّ ثم تقتضي تأخير الثاني عن الأوّل بمهلة ولا مهلة بين الإخبارين يعني أنه لا بذ من الرجوع إلى أنها انسلخ عنها معنى الترتيب أو أنه ترتيب رتبي كما يشير إليه قوله أعجب في المثال ، وقول المصنف هنا أعظم وعلى هذا فهي لفصل الخطاب الثاني عن الأوّل ، وفصل ا!خطاب هو التفاوت الرتبي بعينه فمن قال : لا يبعد أن تكون ثم للإشارة إلى الانتقال من كلام إلى آخر فتكون بمنزلة فصل الخطاب ، وكنا كثيرا نسمعه من أهل التدويون فوجدنا أصله هنا والتراخي في الإخبار إنما يكون
لو كان ثم آتينا متراخيا في الإنزال لم يأت بشيء من عنده مع أنّ الألفاظ المنقضية تنزل منزلة البعيد كما مرّ في ذلك الكتاب فلا حاجة إلى أنّ التراخي في الإخبار باعتبار توسط جملة لعلكم تتقون بينهما ، وأما الترتيب الرتبي فأن يكون الثاني أعظم من الأوّل لأنّ التوراة المشتملة على الأحكام والمنافع الجمة أعظم من هذه الوصية المشهورة على الألسنة فاندفع إنّ إنزال التوراة تقدّم على هذه الوصية القرآنية ، وقوله قديماً وحديثا إشارة إلى عدم الترتيب الزماني وان صح التراخي باعتبار ابتدائها كما في سائر الأمور الممتدّة فلا يرد أنّ إنزال التوراة أعلى حالاً من الوصية الواقعة هنا ، وفي الكشاف هذه التوصية قديمة لم تزل توصاها كل أمّة على لسان نبيهم. ( قبل فيه بحث ) لأنّ المراد بالموصى بها إما مطلق بني آدم وخطاب وصاكم لهم أو الكفار المعاصرون له صلى الله عليه وسلم والخطاب لهم لا سبيل إلى الأوّل لأنّ الخطاب السابق واللاحق للمعاصرين كما لا يخفى ، ولا إلى الثاني لأنّ الوجه المذكور لصحة عطف الإيتاء على التوصية بثم لا يكون حينئذ مستقيما لأنّ الإيتاء حينئذ قبل التوصية بدهر طويل ، فظهر أن حمل ، ثم على التراخي الزماني بعيد ولعل المصنف تركه لهذا ، وليس بشيء مع التأمّل الصادق. قوله : ( للكرامة والنعمة ) قيل إشارة إلى أنه في موقع المفعول له وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتماما ويحتمل أنه مصدر لقوله آتينا من معناه لأنّ إيتاء الكتاب إتمام للنعمة كأنه قيل أتممنا النعمة إتماما فتمام بمعنى إتمام كنبات في قوله تعالى : { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } [ سورة نوح ، الآية : 17 ، وقوله للكرامة مفعوله أو أصله إيتاء تمام أو هو حال كما سيأتي. قوله : ( على من أحسن القيام الخ ) هذا محصل ما في الكشاف بلا فرق قال النحرير يريد اًنّ الذي أحسن إقا للجنس أو للعهد والمعهود أما موسى عخي! ففاعل أحسن ضمير موسى صلى الله عليه وسلم ومفعوله محذوف يعود إلى الموصول ، وتماما على هذا حال من الكتاب وأما على قراءة أحسن بالرقع فخبر مبتدأ محذوف والذي وصف للدين أو للوجه الذي يكون عليه الكتب وتماماً على الوجهين حال من الكتاب ، وعلى الذي في الوجه الأوّل متعلق به ، وهو بمعناه المصدري وفي الثاني مستقز حال بعد حال وتماماً بمعنى تافا أي حال كون الكتاب تامّاً كائنا على أحسن ما يكون والأحسنية بالنسبة إلى غير دين الإسلام ، وغير ما عليه القرآن لقوله بعده وهذا كتاب الخ وقوله أي زيادة بيان لحاصل المعنى وليس لتضمين الزيادة حتى يتعذى بعلى لأنّ الإتمام يتعذى بها أيضاً نحو وأتممت عليكم. قوله : ( ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر ( قيل قوله للكرامة يأبى
المصدرية وفيه نظر ثم إنه فسر قوله تفصيلاً بتفصيل ما يحتاج إليه في الدين فقيل إن فيه دلالة على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى صلى الله عليه وسلم وقد ورد مثله في صفة القرآن كقوله تعالى في سورة يوسف : { تَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ } [ سورة يوسف ، الآية : 11 ا ] فلو صح ما ذكره لم يكن في شريعتنا اجتهاد أيضا ، وقوله : ( لعل بني إسرائيل ا لم يجوّز عوده على الذي بناء على الجنسية لأنه لا يناسب بربهم يؤمنون. قوله : ( كراهة أن تقولوا الخ ا لما كان هذا بحسب الظاهر لا يصلح(4/138)
ج4ص139
للعلية لأنزلنا المذكور أوّلوه بتقدير المضاف أو حذف لا كما عرفت في أمثاله كذا قيل ، وقيل فيه إنّ العامل فيه أنزلنا مقدراً مدلولأ عليه بنفس أنزلناه ولا جائز أن يعمل فيه أنزلناه الملفوظ به لئلا يلزم الفصل بين العامل ، ومعموله بأجنبي وذلك إنّ مبارك إمّا صفة وإما خبر وهو أجنبي على كل من التقديرين والذي منعه هو قول الكسائيّ رحمه الله وقيل لا حاجة إلى التقدير بأن تجعل اللام لام العاقبة وأما كون القول في المستقبل علة لإنزاله باعثا عليه فلا يغني عما ذكر فتأمّل. قوله : ( ولعل الاختصاص الخ ا لا شبهة في أن الزبور معروف مشهورا إلا أنه لا أحكام فيه فأل في الكتاب للعهد ومنه يعلم إنه لا كتاب للمجوس.
قوله : ( وإنه ) كذا قدره الزمخشري ، وليس مراده تقدير معمول للمخففة كما صرّج به السفاقسي بل لما بين إنّ أصلها الثقيلة أتى معها بالضمير لأنها لا تكون إلا عاملة فلا يتوهم إنه ذهب إلى أعمال الخفيفة ، وكذا من قدرها بانا كنا فلا يرد قول أبي حيان رحمه الله إنّ المخففة من الثقيلة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها ووليها الناسخ فهي مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر ثابت ولا محذوف ، فهذا مخالف الكلام النحاة وكذا تبعه في المغني والدرّ المصون ، ولا حاجة إلى الاعتذار بأنّ الزمخشري لا يسلم ذلك ، وقال ابن الحاجب في أماليه إنما لم نحكم بتقدير ضمير الشأن في المخففة المكسورة لما ثبت إعمالها في مثل قوله تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } [ سورة هود ، الآية : 11 ا ] فإن قيل فليقدر إذا لم تعمل في نحو إن زيد قائم قيل إنه لو قدّر لوجب امتناع العمل لتعذر أن يكون لها اسمان وتد جاز العمل
بإجماع البصريين ، وهذا إنما يتم لو قيل بتقديره دائماً ولو ظهر عملها ولا داعي إليه فليقدر إذا لم يظهر عملها ، وقوله لا ندري ما هي لأنا أميون أو لأنها ليست بلغتنا ، والثقابة بمثلثة وقاف وموحدة النفوذ والحدة ، ويروى بالفاء بدل الموحدة من قولهم غلام ثقف لقف أي ذو فطنة وذكاء ، والتلقف التلقي بسرعة وقوله حجة واضحة تعرفونها لظهورها وكونها بلسانكم ، وقوله بعد أن الخ تقسيم لهم فان منهم العارف ومنهم المتمكن من المعرفة. قوله : ( أعرض أو صد ( يعني هو إما لازم بمعنى أعرض أو متعد بمعنى صدّه عن الأمر منعه وصد وان ورد لازماً لكن أكثر فيه التعدي ، ولذا لم يقيده بمفعول لشهرته ، وقوله فضل ناظر إلى التفسير الأوّل وأضل إلى الثاني ووقع في نسخة أو بدل الواو فيهما وهي للتقسم كالكلمة اسم أو فعل أو حرف فهما بمعنى ولا اعترإض عليه كما توهم. قوله : ( أي ما ي!ظرون الخ ) قيل جعل الاستفهام للإنكار وأنكر الرضي كون هل للاستفهام الإنكاري فالأظهر إنه تقريري ( قلت ) الرضي بعد ما ذكر إنها لا تكون للإنكار قال : إنها تكون للتقرير في الإثبات كقوله هل ثوّب الكفار أي لم يثوّبوا وافادتها فائدة النافي حتى جاز أن يجيء بعدها إلا وهو مراد المصنف رحمه الله إلا أنه لما اقتضى وقوعه أشار بقوله شبهوا بالمنتظرين إلى أنه فرضي وهو دقيق فالانتظار استعارة وليس على كل أحد أن يقلد الرضي ، وقد صرّج في المغني بأنّ هل تكون للإنكار. قوله : ( أي أمره بالعذاب الخ ) وتفسير. بكل الآيات ليقابله بعضها قيل ، ولو حمل على حقيقته لابتنائه على اعتقاد الكفرة ، كقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ } اسورة البقرة ، الآية : 215 ] لم يبعد والحق أنه بعيد بل باطل لأنّ في قوله إنا منتظرون تقريراً وتجويزاً كما أفاده بعض الفضلاء. قوله : ( وعن حذيفة الخ ) ( 1 ) إنما هو معروف من حديث حذيفة بن أسد كما في صحيح مسلم ، كذا قاله العراقي ، وجزيرة العرب بلادهم وهي كما قال أبو عبيد : صقع من الأرض ما بين خرق أبي موسى الأشعري رضي الله عنه إلى أقصى اليمن في الطول وما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة في العرض ، قال الأزهري : سميت جزيرة لأنّ بحر فارس وبحر
السودان أحاط بجانبينا وأحاط بجانب الشمال دجلة والفرات وسياتي تفسير الدخان والنار المذكورة بأن تطرد الناس إلى محشرهم وقيل غير ذلك. قوله : ( يوم يأتي بعض آيات ربك الخ ) قال خاتمة المفسرين وتبعه غيره يعني الآية المذكورة في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم : " ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً لىلمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في للمانها خبرا طلوع الشمس من منربها والدجال ودابة الآرض " ) 1 ) وفي الصحيحين : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها(4/139)
ج4ص140
الناس آمنوا أجمعون ، وذلك حين لا ينفع نفساً لىلمانها " ( 2 ( ثم قرأ الآية فبعد هذا التعيين منه صلى الله عليه وسلم للمراد من الآية في القرآن كيف تفسر بغير ما عينه كيف ، ونزول عيسى صلى الله عليه وسلم الدعوة الخلق إلى دين الحق بعد خروج الدجال له ، قيل فيجوز أن يكون عدم القبول ممن عاين الخروج لا من كل أحد مطلقا كما قالوا نظيره في طلوع الشمس من مغربها ( أقول ) هذا مسبوق إليه وسيأتي تفصيله وقال القاضي عياض رحمه الله الحكمة في هذا إنه أوّل ابتداء قيام الساعة يتغير العالم العلوي ، فإذا شوهد حصل العلم الضروري بالمعاينة وارتفع الإيمان بالغيب فهو كالإيمان عند الغرغرة ، وهذا معنى قول المصنف رحمه الله كالمحتضر إذا صار الأمر عيانا وليس المراد تفسير بعض الآيات بما يشاهده المحتضر من الملائكة فهو تنظير وتمثيل له ، ويحتمل أن يريد التعميم لما يشمل المذكور وغيره ففيه إشارة خفية إلى تفسير بعض الآيات الثاني بما يصير به الأمر عيانا وذلك إنما يكون بطلوع الشمس من مغربها كمشاهدة ملائكة الموت وفسره فيما مضى بالإشراط مطلقا ، وقولهم المعرفة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأولى ليس على إطلاقه بل إذا كان الظاهر الإضمار وعدل عنه إلى الإظهار قد يقتضي ذلك تغايرهما كما في شرح التلخيص ، وعدل عن تفسير الزمخشري هنا له بالإشراط لمخالفته الأحاديث الصحيحة وما عليه لمحققون ، وكذا ما قيل لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ، فقد قال ابن حجر رحمه الله تعالى : إنّ فيه نظرا لأن خروج عيسى صلى الله عليه وسلم بعد خروج الدجال ، وهو يقبل الإيمان إلا أن يقال إنها كلها في يوم واحد ونصوص الأحاديث ناطقة بخلافه ومن غفل عن إنّ هذا الحديث معارض! لما هو أصح منه تثبث به هنا فالحق إنه يجب أن يكون المراد ببعض الآيات التي لا ينفع الإيمان بعدها طلوع الشمس من مغربها كما هو الموافق للأحاديث الواردة في عدم قبول التوبة ، فقول
المصنف رحمه الله تعالى يعني إشراط الساعة تفسير للآيات أو نقول المراد ببعض الآيات في قوله يوم يأتي بعض آيات ربك طلوع الشمس من مغربها لا مطلق الإشراط ، وفي الزواجر مقتضى الأحاديث إنه لا يقبل بعد ذلك أبداً لكن الظاهر قبول ما وقع بعد ذلك من غير تقصير كمن جن ، وأفاق بعد ذلك أو أسلم بتبعية أبويه وسيأتي ما يؤيده.
تنبيه : روى العراقي في شرح التقريب لفظ حديث صحيح اتفق عليه الشيخ ، وبعض أصحاب السنن لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك معنى قول الله لا ينفع نفسا إيمانها وهو يدل على أنّ عدم قبول الإيمان والتوبة مخصوص بطلوع الشمس من مغربها ويخالفه ما في مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عته مرفوعا : " ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساًللمانها طلوع الشمس من منربها والدجال ودابة الأرض " ( 9 ( ، وفي رواية : " إحدى ثلاث " وفي بعضها : " يأجوج ومأجوج " وهذا يعارض الأحاديث الأولى المعينة لطلوع الشمس من مغربها وهي الصحيحة رواية ودراية وعليها المفسرون والمحذثون قال وفي ثبوت ذلك بخروج الدجال إشكال فإنّ نزول عيسى صلى الله عليه وسلم بعده وفي زمنه خير كنير دنيوي ، وأخروي والظاهر قبول التوبة وهو المصرح به قال ابن عطية رحمه الله : ويؤيده منع الغرغرة من القبول وإذا أخبر النبيّ جم!رو بتخصيص مانع القبول بالطلوع في الحديث الصحيح لم يجز العدول عنه وتعين إنه معنى الآية فلا ينفع إيمان كافر ولا توبة عاص فيبقى كل أحد على الحال التي هو عليها وسببه إنه إذا شوهد تغير العالم العلوي يحصل الإيمان الضروري وهم مكلفون بالإيمان بالغيب ، وقال البلقيني رحمه اللّه : إنه إذا تراخى الحال بعد طلوعها وطال العهد حتى نسي قبل الإيمان والتوبة لزوال الآية الملجئة ، وقال العراقي وحمه الله : فيه نظر لأن الظاهر إنه لا يطول العهد حتى ينسى ولا دليل له فيما اذعاه ا هـ ( أقول ) ما اعترض به على البلقيني غير متجه لما رواه القرطبي رحمه الله تعالى في تذكرته عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إن الناس يبقون بعد طلوع الشمس من منربها مائة وعشرين سنة " ( 2 ( ونقله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري وقال إنه نص في ردّ ما قالوه ، وفي سوق العروس لابن الجوزي أن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم(4/140)
ج4ص141
يقال لها ارجعي من مطلعك فتلخص من هذا إنّ الآية المانعة من قبول الإيمان والتوبة إنما هي طلوع الشمس من مغربها ، وهو الصحيح عند المفسرين والمحذثين والأحاديث الأخر غير منافية لها أمّا من جعلها عدة آيات فهي آخرها المتحقق بها ذلك ، وأما كونها إحدى آيات فهي محمولة على المعينة في الحديث لأنها أعظمها وإنما أخفاها الله كما أخفى علم الساعة حثا لهم على تقديم التوبة كما أخفى ساعة الإجابة وليلة القدر ، وأما كون التوبة تقيل
بعدها إذا تراخى العهد فهو حق كما قبل إيمان أبوى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الغرغرة ، ومشاهدة أهوال البرزخ وإن توقف فيه بعض مشايخنا وإنما ذكرنا هذا مع طوله لأنه من أنفس الذخائر التي يجب حفظها في كنوز الدفاتر. قوله : ( والإيمان برهانئ ) أي عيني ليعمّ التقليد وقرينة المجاز مقابلته بالعياني ، وعبر عنه بالبرهاني لأنّ حقه أن يكون كذلك واعلم أنّ الآيات المذكورة منها ما هو موجود كالدجال والدابة والخسف والنار ، ومنها ما هو ممكن غير خارق للعادة فعلم وجه اختصاصها بطلوع الشمس من مغربها فاعرفه. قوله : ( وقرئ تنفع بالتاء الخ ) قال اً هل العربية المضاف يكتسب من المضاف إليه أمورا منها التذكير والتأنيث لكن في المغني شرط هذه المسألة صلاحية المضاف للاستغناء عنه ، ومن تمت ردّ ابن مالك رحمه الله في التوضيح قول أبي الفتح بن جني في توجيه قراءة أبي العالية لا تنفع نفسا إيمانها بتأنيث الفعل إنه من باب قطعت بعض أصابعه لأنّ المضاف لو سقط هنا لقيل نفسا لا تنفع بتقديم المفعول ليرجع إليه الضمير المستتر المرفوع الذي ناب عن الإيمان في الفاعلية ، ويلزم من ذلك تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهره نحو زيداً ظلم تريد أنه ظلم نفسه وذلك لا يجوز اهـ.
( أقول ) هذا عجيب منه فإنه أخذ الضاز من كلامه وترك النافع منه فإنه قال بعد هذا وقد
يصحح قول ابن جني بأن يجعل لسريان التأنيث من المضاف إليه إلى المضاف سبب آخر وهو كون المضاف شبيهاً بما يستغنى عنه ، فالإيمان وان لم يستغن عنه في لا ينفع نفسا إيمانها يستغنى عنه في سرتني إيمان الجارية فيسري التأنيث إليه لوجود الشبه كما يسري إليه بصحة الاسنغناء عنه ، ويؤيده قول ابن عباس رضي الله عنهما : اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم فسرى تأنيث البطون والقلوب إلى الشحم والفقه مع أنهما لا يستغنى عنهما بما أضيف إليهما لكنهما شبيهان بما يستغنى عنه في نحوأعجبتني شحم بطون الغنم ، ونفعت الرجال فقه قلوبهم وقد يكون تأنيث كثيرة وقليلة بتأويل كتاويل الشحم بالشحوم والفقه بالفهوم ، اهـ فالمراد بالاستغناء الاستغناء حقيقة أو حكما مع أنه على تقدير السقوط لا يلزم إجراء أحكام السقوط بالفعل ، كما مرّ في أنّ المبدل منه قد يكون ضميرا رابطا وأمّا قول النحرير : إنهم عنوا بالبعض ما يكون أعمّ من أجزاء الذات وصفاتها القائمة بها ، فكأنه عنى هذا وإلا فلا يخفى ما فيه وقال أبو حيان : إنه أنث بتأويل الإيمان بالعقيدة والمعرفة مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة وتبعه من قال : أريد بالإيمان المعرفة ، ويرشدك إليه قراءة لا تنفع بالتاء وبكسب الخير الإذعان والقبول ، ونحن معاشر أهل السنة نقول بموجبه من أنّ الإيمان النافع مجموع الأمرين فلا حجة فيه للمخالف لأنّ مبناه على حمل الإيمان على المعنى الاصطلاحي المخترع بعد نزول القرآن ، وتخصيص الخير بما يكون بالجوارح ، وكل منهما
خلاف الأصل ، وفيه نظر. قوله : ( وهو دليل الخ ) قالت المعتزلة : الآية دالة على عدم الفرق بين النفس الكافرة إذا آمنت عند ظهور أشراط الساعة ، وبين النفس التي آمنت من قبلها ، ولم تكسب خيرا يعني إنّ مجزد الإيمان بدون العمل لا ينفع والاعتراض بأنّ أحد الأمرين في سياق النفي يفيد العموم كالنكرة على ما ذكر في قوله تعالى : { وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } [ سورة الإنسان ، الآية : 24 ] فعدم النفع يكون للنفس التي لم يكن منها الإيمان ولا كسب الخير مدفوع بأنه لا يستقيم هنا لأنه إذا انتفى الإيمان انتفى كسب الخير في الإيمان ، والحاصل أنّ أو إذا وردت في النفي فهو لنفي أحد الأمرين فإن اعتبر عطف أحد الأمرين على الاخر ثم سلط النفي عليه يفيد شمول العدم عند الإطلاق إلا إذا قامت قرينة حالية اً و مقالية على أنه لا يقاع أحد المعينين فحينئذ يفيد الشمول كما في هذه الآية لأنّ اشتراط أحد الأمرين(4/141)
ج4ص142
إنما يحسن إذا تحقق كل منهما بدون الآخر ، ولأنه إذا انتفى الإيمان انتفى كسب الخير في الإيمان بالضرورة فيكون ذكره لغواً من الكلام ، أو يؤوّل بأنّ المراد أنهما معا شرطان في النفع والعدول إلى هذه العبارة لتفيد المبالغة في أنهما سيان وإنما يستحسن إذا كان الأوّل أعرف بالشرطية كالإيمان والكسب في هذه الآية ومنه علم الجواب عن الأؤل ، وقد أجيب عن اللغوية بأنه لما كان النفع مشروطا بأحد الأمرين سبق الإيمان أو الكسب المذكور ، وان كان تحقق أحدهما مستلزما للآخر ظهر وجه عدم الإيمان لنفس خلت عنهما ولا يضر بالمقصود كون الخلوّ عن سبق الإيمان مستلزما للخلوّ عن الكسب لأن غرضنا بيان عدم نفع إيمان نفس خلت عنهما وهذا حق بسبب اشتراط النفع بأحدهما فلا يضرّنا كون الخلو عن واحد مستلزماً للخلو عن الآخر ، ولا حاجة إلى ما تكلف في الاشتراط بأحد الأمرين من أنه يجب اعتبار العمل الصالح سابقاً بأن يقال النافع هو العمل الصالح في الإيمان فإن لم يوجد فالإيمان ولا يجوز أن يقال النافع هو الإيمان فإن لم يوجد فالعمل الصالح في الإيمان لأنّ الإيمان إذا انتفى انتقى العمل الصالح عنه بالضرورة وقال بعض المحققين لا يخفى إنّ استدلال المعتزلة لا يخلو عن قوّة ، وقد أجاب عنه أهل السنة تارة بأنّ المراد بالخير الإخلاص وبالإيمان ظاهره من القول والعمل وفيه بعد ، وتارة بأنّ الآية من اللف التقديري أي لا ينفع نفساً إيمانها وكسبها الخير في الإيمان فتتوافق الآيات والأحاديث الشاهدة بأنّ مجرّد الإيمان نافع ويلائم مقصود الآية وهو تحسير الذين أخلفوا ما وعدوا من الرسوخ في الهداية عند إنزال الكتاب حيث كذبوا وصدفوا عنه وفيه إنه ذكر في الخلاصة وغيرها إن توبة اليأس مقبولة وان لم يكن إيمانه مفبولاً ، لكن وقع في جامع المضمرات خلافه.
( قلت ) هو الصحيح الوارد في الأحاديث الصحيحة كما مرّ ثم قال والأظهر في الجواب
أن يقال المراد بالنفع كما له أي الوصول إلى رفيع الدرجات والخلاص عن الدركات بالكلية ، ويرد على المعتزلة أنّ الخير نكرة في سياق النفي فيعمّ ويلزم أن يكون نفع الإيمان لمجرّد الخير
ولو واحداً وليس كذلك فإنّ جميع الأعمال الصالحة داخلة في الخير عندهم وهو لا يرد على المصنف رحمه الله لأنه ناقل لكلامهم. قوله : ( وللمعتبر تخصيص هذا الحكم بذلك اليوم ) أي لتخصيصه بالذكر ولتقديمه فعدم اعتبار الإيمان المجرّد عن العمل مخصوص بمن أدرك ذلك اليوم بغير عمل فلا تثبت الآية مدعاكم وهو جواب جدلي لا يخفى ضعفه وإلا فالإيمان المتقدّم على ذلك نافع مطلقأ عندنا ، وقوله حمل الترديد الخ محصله كما مرّ عموم النفي لا نفي العموم. نوله : ( والعطف على لم يكن الخ ) وأو على هذا بمعنى الواو ، وإذا لم ينفع الإيمان الحادث من غير تقدّم مع كسب الخير فعدم نفعه بدونه بطريق الأولى واليه أشار بقوله وإن كسبت فيه خيرا كذا قيل فعليه إن بكسر الهمزة وصلية وقيل إنها بالفتح مصدرية والأوّل أولى. قوله : ) فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ) قيل هذا لا يلائم قوله وكانوا شيعا إلا أن يجعل صفة أخرى ، ووصف الأمم السالفة بأنها في الهاوية إلا فرقة يعني قبل نسخ دينهم ، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذقي وصححه وابن ماجه وابن حبان وصححه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ( 1 ( . قوله : ( من السؤال الخ ) منهم حال لأنه صفة نكرة قدمت عليها ، وفسره بليس عليك شيء من السؤال الخ أو من عقابهم أو أنه بريء منهم أو أمره بتركهم ، وكله ظاهر.
قوله : ( أي عشر حسنات أمثالها ) ولما كان المثل مذكراً كان الظاهر عشرة فأجيب بأنّ المعدود محذوف أقيمت صفته مقامه وقيل إنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه ، وقوله أقل ما وعد الخ مرّ تحقيقه في سورة البقرة ، وقوله من الله لا بطريق الوجوب عليه تعالى فهو قيد لأصل الإثابة وزيادتها وقضية للعدل تعليل للجزاء ، وكونه بالمثال ولو زيد أيضاً لم يخرج عن العدل على مذهبنا. قوله : ( بنقص! الثواب ورّيادة العقاب ) أي ليس نقص الثواب ، وزيادة العقاب ظلما لأنّ له تعالى أن يعذب المطيع ويعفو عن المسيء إذ لا إيجاب عندنا فليس هذا مذهب المعتزلة ، وقيل الظلم بمعناه اللغوي وفيه نظر. قوله : ( بدل الخ ( ما ذكره في إعرابه ظاهر ، والمضمر إما هداني أو نحوه كأعطاني وعرّفني لأنّ الهداية تستلزم المعرفة. قوله : ( وهو أبلع من المستقيم الخ ) في نسخة من القائم ، والزنة الهيئة(4/142)
ج4ص143
والصيغة مجموع المادّة والهيئة ، وكونه أبلغ لدلالته على الثبوت دون الحدوث ، وأبلغية المستقيم باعتبار زيادة الحروف ، وفيه ما مرّ الكلام فيه في الرحمن الرحيم ، وقيل لأنّ السين للطلب فيفيد طلب القيام واقتضاءه والقيم الثابت المقوّم لأمر المعاس والمعاد والظاهر أنّ المستقيم هنا من استقام الأمر بمعنى ثبت والا فلو اختلف معناهما لا يتأتى ما ذكره المصنف ، وقوله : ( فاعل لإعلال فعله ( وهو قام كما في نحو عياذ فقيم مصدر كالصغر والكبر ، وفعله قام يقوم فأعلوه لإعلال فعله ولولا ذلك لصح كعوض ، وحول لأنهم لم يجروه يعني لم يقع على بناء يشبه بناء الفعل حتى يعل بالحمل عليه لأنّ أصل الإعلال للأفعال ويعل من الأسماء ما شابهها وزنا لكنه مصدر تبع فعله في الإعلال كما هو القياس كما فصل في المفصل وشروحه وجعلت الملة عطف بيان لتوضيحه ، وهذا بناء على جواز تخالفهما تعريفا وتنكيراً كما في المغني أو منصوب بتقدير أعني. قوله : ( حتيفاً حأل ) قال النحرير : حنيفا حال من المضاف إليه للإطباق على جواز كذلك إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه أو بمنزلة الجزء حيث يصح قيامه مقامه نحو اتبعوا إبراهيم إذا اتبعوا ملته ورأيت هنداً إذا رأيت وجهها بخلاف رأيت غلام هند قائمة ، واختلفوا في عامل مثل هذه الحال فقيل معنى الإضافة
لما فيه من معنى الفعل المشعر به حرف الجز كأنه قيل ملة نسبت لإبراهيم حنيفاً والصحيح إنّ عاملها عامل المضاف لما بينهما من الاتحاد بالوجه المذكور وأمّا مثل أعجبني ضرب زيد راكبا فلا كلام في جوازه وكون عامله هو المضاف نفسه اهـ ، وأورد عليه أنه إذا كان العامل معنى الإضافة بتلك الطريق فلا معنى لتخصيص ، ذلك بما إذا كان المضاف جزءا أو كجزء ، فيلزم تجويزها من كل مضاف إليه ، وهو باطل ولك أن تقول النسبة خصوصا غير التامّة عامل ضعيف فلما كانت نسبة الجزء ، وشبهه أقوى من غيرها خصت بالعمل فهذا قياس مع الفارق ، ومثله يكفي في العلل النحوية. قوله : ( وما أنا عليه الخ ) يريد أنّ المحعى والممات ، أريد بهما مجازاً ما يقارنهما ويكون معهما من الإيمان والعمل الصالح لأنه المناسب لوصفه بالخلوص لله. قوله : ( وقرأ نافع الخ ) وفيها الجمع بين ساكنين ، ولذا طعن بعضهم إنه رجع عن هذه القراءة حتى قال أبو شامة رحمه الله لا يحل نقلها عنه ، وفي رواية إنه كسر الياء كقراءة حمزة وصرّج بالكسر وستأتي ، وقرأ الجحدري محي بقلب الألف ياء وهي لغة هذيل.
( أقول ) ما قاله أبو شامة مردود فإنّ هذه القراءة ثابتة عنه ، وقوله في التيسير الياء موقوفة ولم
يقل ساكنة إشارة إلى توجيه هذه القراءة بأنه نوى فيها الوقف فلذا جاز فيها التقاء الساكنين وبها قرأ مشايخنا. قوله : ( خالصة ) يحتمل أنه بيان لمتعلق خاص أو لمعنى اللام أو لحاصل الكلام لأنّ لله ولوجه إلله يدلّ على ذلك ، وقوله : ( لا أشرك فيه غيرا ) بيان له بحسب المقام ، وقوله وبذلك القول فيكون أمره بقل المذكور لا بقول آخر وعلى الثاني يحتمل إنه أمر آخر. وقوله : لآن إسلام كل نبي متقدّم على إسلام أمّته واليه الإشارة بقوله في الحديث : " أوّل ما خلق الله نوري " ( 1 ) . قوله : ( فأشركه في عبادته الخ ) قيل تقديم غير الله لا يصح أن يكون للاختصاص لأنه حينئذ ليس إشراكا للغير بل توحيد ، فنبه بقوله فأشركه على أنّ التقديم ليس للاختصاص بل لأنّ الإنكار ليس في بغية الرب بل في بغية الغير ، ولا يبعد أن يقال ذكر في رذ دعوته إلى الغير رذ
الاختصاص تنبيهاً على أنّ إشراك الغير ينافي بغية الله إذ لا بغية له إلا بتوحيده ثم إنّ نفي البغية والطلب أيضاً أبلغ في نفي العبادة ، وقال العلامة : أغير الله أبغي ربا جواب لأن التقديم فيه لحصر إنكار الربوبية في غير الله وكل حصر فيه جوأب عما أخطأ فيه السامع ، ولهذا قال ولا تكسب كل نفس إلا عليها الخ جواب وفي الكشف الاختصاص نشأ من التقديم أو من أداة الحصر ، وهو يقتضي سوق الكلام مع منكر وهو دقيق يحتاج إلى تأنل. قوله : ( فلا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه ) جعله من حملة الجواب عن دعائهم إلى عبادة ا-لهتهم يعني لو أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه لم أكن معذوراً بأنكم سبقتموني إليه ، وقد فعلته متابعة لكم ومطاوعة فلا يفيدني ذلك شيئا ولا ينجيني من الله لأنّ كسب كل أحد وعمله عائد إليه ، ولا يرد أنّ الكسب وان قارن على بمعنى المنفقة لمقابلته لقوله ولا تزو الخ إذ هو للمضرة فالمعنى ولا تكسب كل نفس منفعة إلا أن تكون تلك المنفعة(4/143)
ج4ص144
محمولة عليها لا على غيرها فالمنفعة التي تزعمونها في اتخاذ غير الله إلها لا تنفعني كما توهم ، وغير المصنف جعله جوابا لقوله : { اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [ سورة العنكبوت ، الآية : 2 ا ] لأنّ ما كسبته كل نفس من الخطايا محمول عليها لا على غيرها وقوله ولا تزر وازرة تأكيد له لكن المصنف رحمه الله رأى التأسيس أولى ففسره به. قوله : ( على أنّ الخطاب للمؤمنين ) أو لأمّة الدعوة ، وقوله : ( لأنّ ما هو آت قريب ) بيان لأنه أريد به عقاب الآخرة ولو أريد به عقاب الدنيا لم يحتج إليه أي الموعود سريع الوصول ، فإنّ سرعة العقاب تستدعي سرعة إنجاز الوعد. قوله : ( وصف العقاب الخ ) يعني جعل الخبر في الأولى سريع الذي هو صفة العقاب ولم يجعل العقاب نفسه صفة له بأن يقول إنّ ربك معاقب ، كما قال : غفور رحيم دمان كان حمل صفة العقاب حملاً له في المعنى ومعنى كونه غفوراً بالذات أنّ مغفرته ورحمته لا تتوقف على شيء كما في الحديث القدسي : " سبقت رحمتي غضبي " ( 1 ( وعقابه لا
يكون إلا بعد ما صدر من العبد ذنب يستحق به ذلك ، وهو معنى كونه بالعرض. قوله : ( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت علئ سورة الأنعام جملة واحدة الخ ) ( 1 ) قال ابن حجر رحمه اللّه : هذا الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية ، وفي رجاله ضعف ، وقال غيره : إنه موضوع وسئلى عنه النوويّ رحمه الله تعالى فقال أنه لم يثبت ، وأما قوله فمن قرأ الخ فمن الحديث الموضوع الذي أسندو. إلى أبيّ بن كعب في فضائل السورة كما غللرخاتمة الحفاظ السيوقي رحمه الله وزجل بالزاي المعجمة والجيم واللام بمعنى صوت بالتسبيح والتحميد لأنّ السورة أنزلت لبيان التوحيد مفصلا لكن قوله في الحديث جملة واحدة ينافيه قوله في أوّل السورة إنها مكية غير ست آيات أو ثلاث آيات من قوله ، قل تعالوا الخ وما سيجيء من قوله في آخر سورة براءة ما نزل القرآن عليّ إلا آية آية وحرفاً حرفا ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد ، ولا يقال لعل سورة الأنعام لم تنزل إلا بعد ما قال ذلك الحديث لأنا نقول سورة براءة مدنية وسورة الأنعام مكية وكونها نزلت مرّتين بالمدينة ومكة دفعة وتدريجا خلاف الظاهر ، وكذا الجمع بين الحديثين بتقييد كل منهما بقيد حتى لا ينافي الآخر اللهمّ كما يسرت لنا إتمام التشرّف بسورة الأنعام يسر لنا الإتمام وأجر ما عوّدتنا من بدائع الأنعام ، في مطلع كل ابتداء ومقطع كل اختتام ، وأهدمنا لنبيك محمد جمتن أفضل صلاة وسلام ، ومثل ذلك لا له وصحبه الكرام على مدى الليالي والأيام ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كلما ذكرك الذاكرون ، وغفل عن ذكره الغافلون ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
سورة الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : ( مكية الخ ) قال الداني رحمه الله في كتاب البيان لعدد آي القرآن قال مجاهد وقتادة
هي مكية إلا قوله ، واسألهم عن القرية الآية فإنها نزلت بالمدينة وكلماتها ثلاثة آلاف وثلثمائة وخمس وعشرون كلمة وحروفها أربعة عشر ألفاً وثلثمائة وعشرة أحرف وهي مائتان وخمس آيات في البصريّ ، والشاميّ وست في المدنيّ والكوفيّ. قوله : ( المص سبق الكلام في مثله ) وبيان ما فيه وبيان إعرابه وعدمه فلا حاجة إلى إعادته هنا ، وقوله في إعراب كتاب خبر مبتدأ محذوف الخ مبني الأوّل على المختار من كون ألفاظ التهجمي على نمط التعديد فإذا كان المص اسم السورة فظاهر أنه المبتدأ ثم ضمير هو عائد إلى المؤلف من الحروف أو إلى السورة باعتبار حضورها في العلم ، والتذكير باعتبار الخبر ولو جعل المقدر اسم إشارة موافقا لقوله الم ذلك الكتاب لم يبعد وكان ميله إلى الثاني ولذا حمل الكتاب على السورة والا فالكلام على أسلوب قوله تعالى ذلك الكتاب وقد حمله على الكتاب الصالح للهداية والإنذار والتذكير مع أنّ مثل هذه الكلمات لو جعل للبعض الذي هو السورة كان أبلغ فكأنه بنى التفرقة على التعريف والتنكير ، وإنما لم يجعل كتاب أنزل مبتدأ أو خبراً على معنى كتاب وأي كتاب لكونه خلاف الأصل وشيوع حذف المبتدأ كذا أفاده النحرير : وكلام المصنف رحمه الله موافق للزمخشريّ في بعض ما ذكره. قوله : ( أنزل إليك صفتة ) فإن كان القرآن عبارة عن القدر المشترك بين الكل والجزء فالتوصيف بالماضي ظاهر ، وان كان(4/144)
ج4ص145
المجموع فلتحققه جعل كالماضي ، وإذا أريد السورة فالكتاب إن أطلق على البعض ، كما في قولهم ثبت بالكتاب فواضح والا فهو مبالغة لحمل الكل عليه بادعاء أنه لاستجماعه كمالاته كأنه هو. قوله : ( أي شك فإن الشاك حرج الصدر الخ ) في الكشاف سمي الشك حرجاً لأنّ الشاك ضيق الصدر حرجه كما أنّ المتيقن منشرح الصدر منفسحه ، قال ابن المنير رحمه الله يشهد له قوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ سورة البقرة ، الآية : 147 ] وقال النحرير الظاهر أنه مجاز علاقته اللزوم والقرينة المانعة هو امتناع حقيقة الحرج والضيق من الكتاب وان جوّزتها فهو كناية ( قلت ) في الأساس ضاق المكان وتضايق ومن المجاز وقع في مضيق من أمره ، وضاق عليه صدره فلا وجه للتردّد في كونه
مجازاً لكته شاع في ذلك ، وصار حقيقة عرفية فيه ، وحينئذ فمان نظر إلى المتبادر كان مجازاً لأنّ الكتاب لا يحصل منه في نفسه ضيق صدر وان قطع النظر عن ذلك ولوحظ أنه يضيق الصدر منه باعتبار عوراضه كان كناية عن الثك ، وليس المراد أنه ممن يصدر الشك منه كما سيأتي تحقيقه في تقرير النهي. قوله : ( أو ضيق قلب من تبلينه ( فضيق الصدر على حقيقته لكن في الكلام مضاف مقدّر كخوف عدم القبول والتكذيب كما في قوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } [ سورة هود ، الآية : 2 ا ] قيل منع في الكشف كون الحرج كناية عن الخوف لأنّ ضيق الصدر من الأذى مستفاد من الخوف لا أنّ الخوف من الأذى ، كأنه يريد تسليم صحة الحقيقة ومغ صحة الكناية لاستدعاء المعنى كون الخوف من الأذى ، وليس فليس ولك أن تمنع فساده فإنه قد يوقع الخوف على سبب المكروه لا عليه كما تقول أخاف من مجيئي إليك لمن أوعدك بالضرب فإن أوّلته بما اً ناله من قبل المجيء ، أو مما يفضي إليه فكذا في الآية إذ التأويل ليس أولى من التأويل ، ثم على تقدير كون الحرج حقيقة كما في الوجه الثاني تكون الجملة كناية عن عدم المبالاة لإعداء كما في الكشاف وكلام المصنف رحمه الله خليّ عنه فتأمّله. قوله : ( وتوجيه النهي إليه للمبالغة ) قيل توجيه النهي عن الشيء ، وهو مما يوهم إمكان صدور المنهيّ عنه من المنهي إمّا للمبالغة في النهي فإن وقوع الشك في صدره-جير سبب لاتصافه به ، والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفي له عن أصله بالمرّة ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } [ سورة المائدة ، الآية : 2 ] وليس هذا من قبيل لا أرينك هاهنا فإنّ النهي هناك وارد على المسبب مراد به النهي عن السبب فالمآل نهيه عما يورث الحرج ، ا هـ وما ذكره المصنف رحمه الله إشارة إلى ما في الكشاف وتقريره ، كما قيل إنّ قوله تعالى : { فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } نهي للحرج عن الكون في الصدر والحرج مما لا ينهي ، فأجاب بأنّ المراد نهي المخاطب عن التعرّض للحرج بطريق الكنابة كما في قوله لا أرينك هاهنا ، فإنه نهي المتكلم عن رؤية المخاطب والمراد نهي المخاطب أي لا تكونن هاهنا فإنّ رؤيتي إياك مستلزمة لكونك هاهنا فعدم كونك هاهنا مستلزم لعدم رؤيتي إياك فأطلق اللازم وهو عدم الرؤية وأراد الملزوم ، وهو عدم الكون هاهنا فكذا في الآية عدم كون الحرج في صدره من لوازم عدم كونه متعرّضا للحرج ، فإطلاق نهي الحرج على نهيه عنه كناية ومثله في الأمر وليجدوا فيكم غلظة ظاهره أمر المشركين ، والمعنى على أنه أمر المؤمنين بأن يغلظوا على المشركيت ففي قوله فلا يكن في صدرك حرج كناية مترتبة على كناية ، وقيل عليه الظاهر أنه مجاز لا كناية لأنّ الكناية لا تنافي الحقيقة ، وهو الفارق بينها وبين المجاز وهنا يمتنع إرادة حقيقة نهي الإنسان نفسه نعم يجوز جعل كون الحرج في الصدر كناية عن كونه حرج الصدر فلك أن تعتبره كذلك ، ثم تسلط النهي عليه فيحتمل أنهم أرادوا ذلك وسموا النهي أيضاً كناية تبعاً.
( أقول ) استعمال الملزوم ، وإرادة اللازم والتصرف هنا لا يخلو إمّا أن يكون في النهي ،
أو المنهي أو المنهى عته ، وليس المراد الأوّل لأنّ النهي باق بحاله لم يتجوّز فيه ، ولم يكن به عن شيء إذ معنى لا أرينك لا تحضر ومعنى الآية لا تحم حول حمى الحرج وكذا المنهي ، وهو المخاطب والحرج لم يقصد به شيء آخر يتعلق به النهي فتعين أنّ المراد المنهيّ عنه ، وهو رؤيته له إذ كني بها عن حضوره لاستلزام أحدهما للأخر وكذا كونه حرجا كني به عن تعاطي ما يؤدّي إليه ، والمعنى الحقيقي هنا تجوز إرادته قبل دخول النهي قطعاً(4/145)
ج4ص146
إذ لو قيل أنت حرج أو لا أراك صح بل هو مراد فلذا ذهب عامّة الشراح ، وغيرهم إلى أنه كناية نعم بعد دخول النهي لا يصح إرادته فلذا جوّز فيه النحرير : أن يكون مجازا لأن النهي سواء كان طلب الترك ، أو الكف لم يقصد من الإنسان لنفسه ولا من الحرج لأنه لا يعقل حتى ينهي فالمعترض أوّلاً إن أراد الفرق بين ما نحن فيه والمثال باعتبار أنّ المراد في أحدهما النهي عن السبب ، والمراد المسبب ، وفي الآخر بالعكس فلا ضير فيه ، ولذا عبر العلامة باللزوم دون السببية وان أراد أنه ليس من الكناية أصلا فباطل وكذا إنكار الآخر للكناية لما عرفت نعم قوله وسموا النهي أيضا كناية تبعا أجاد فيه لكونه قرب من المراد مرّة وبعد عنه أخرى ، ومثله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ سورة آل عمران ، الآية : 102 ] كما مر فتدبر وفي الكشاف أنه صلى الله عليه وسلم كان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم يعني أنّ الحرج في هذا الوجه ، وان كان على حقيقته ، فالجملة مجاز أو كناية عن عدم المبالاة بالإعداء فتوهم بعضهم أنها فائدة أهملها المصنف رحمه الله وليس كما توهموا ، فإنّ قوله مخافة أن تكذب فيه صريح في عدم المبالاة بهم. قوله : ( والفاء تحتمل العطف والجواب الخ ) في العطف قيل إنه معطوف على مقدر أي بلغه ( فلا يكن في صدرك ) الخ وقيل إنه معطوف على ما قبله بتأويل الخبر بالإنشاء ، أو عكسه أي تحقق إنزاله من الله إليك أو لا ينبغي لك الحرج والفراء قال : إنّ الفاء اعتراضية لا عاطفة ولا يختص كونها للجواب بتعلق لتنذر بأنزل كما يوهمه قوله إذا أنزل إليك لتنذر* قوله : ( متعلق بأنزل الخ ) ذكر في متعلق اللام وجوها أحدها تعلقه بأنزل ، وهو قول الفراء قال اللام في لتنذر منظوم مع قوله أنزل على التقديم ، والتأخير على تقدير كتاب أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في الخ قال المعرب : فجملة النهي معترضة بين العلة ، ومعلولها وهو الذي عناه الفراء بقوله على التقديم والتأخير ، وهذا مما ينبغي التنبه له فإنّ المتقدمين يجعلون الاعتراض على التقديم والتأخير لتخلله بين كلام واحد وليس مرادهم أنّ في الكلام قلبا كما سنبينه في أوّل الكهف ، والثاني أنها متعلقة بمتعلق الخبر أي لا يكن الحرج مستقرّاً في صدرك لأجل الإنذار كذا قاله ابن الأنباري ، الثالث أنها متعلقة بالكون وهو مسلك غير ابن الأنباري ، وقول الزمخشري : إنه متعلق بالنهي قيل ظاهره أنه متعلق بفعل النهي وهو الكون بناء على جواز تعلق الجارّ بكان وهو الصحيح ويحتمل أنه يريد بما تضمنه معنى النهي كما قيل ، وقال النحرير : إنه
معمول للطلب أو المطلوب أعني انتفاء الحرج وهذا أظهر لا للمنهى عنه أي الفعل الداخل عليه النهي لفساد المعنى ، وقيل عليه إنه متعاق بأنزل أو بلا يكن على الثاني لكونه علة للمطلوب لا للطلب لأنه بدون الامتثال لا يوجب التمكن من الإنذار ولا للمنهتي ، لفساد المعنى قيل ، ويجوز ذلك على معنى أنّ الحرج للإنذار والضيق له لا ينبغي أن يكون ولا يخفى أنّ كلمة منه تخدشه وفيه تأمّل ، ثم وجه توسيط المفرّع بين العلة والمعلل إذا تعلق بأنزل أما على أوّل تفسيري الحرج فظاهر لترتبه على نفس الإنزال لا على الإنزال للإنذار ، وأما على ثانيهما فهو الاهتمام به مع ما فيه من الإشارة إلى كفاية واحد من الإنزال والإنذار في نفي الحرج أما كفاية الثاني فظاهرة وأما كفاية الأوّل فلأنّ كون الكتاب المؤلف من جنس هذه الحروف البالغ إلى غاية الكمال منزلاً عليه خاصة من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقتضي كونه رحيب الصدر غير مبال بالباطل وأهله. قوله : الأنه إذا أيقن الخ ) إشارة إلى الوجهين السابقين في قوله فلا يكون في صدرك حرج على الترتيب والزمخشري عكسه إشارة إلى أنّ الثاني أظهر وأولى. قوله : ( يحتمل النصب الخ ) عن الزمخشرفي أنه قال : لم أجعله معطوفا على محل لتنذر لأنّ المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحدا حتى يجوز حذف اللام منه ، وفيه كلام لا حاجة إليه هنا ، وقوله على محل تنذر لأنه مصدر تأويلاً وفي نسخة لتنذر ، والصحيح الأولى لما في هذه من المسامحة ، وقوله : ( أو خبر المحذوف ) أي هو ذكرى والمعنى على الأوّل أنه جامع بين الوصفين وعلى هذا أنه موصوف بكل منهما استقلالاً. قوله : ( يعم القرآن والسنة الخ ) فليس ما أنزل من وضع الظاهر موضع المضمر ولذا جمع الضمير ، وفي جعل الوحي مطلقاً منزلاً من الله تجوّز حينئذ بأن يراد به مطلق الوحي كما يشير إليه ما بعده ، وقوله وما ينطق عن الهوى بناء(4/146)
ج4ص147
على عمومه المتبادر فلا ينافيه أنه فسره في سورة النجم بقوله ما يصدر نطقه بالقرآن عن الهوى المقتضى لتخصيصه بغير السنة. قوله : ( ولا تتبعوا من دونه أولياء ) أي لا تتخذوا ولياً غيره فيضلكم وإذا جعل الضمير لما أنزل قدر ومن أولياء لأنه لا يحسن وصف المنزل بكونه دونهم ، فقوله من دونه متعلق بالفعل تبله والمعنى لا تعدلوا عنه إلى غيره من الشياطين والكهان ، أو بمحذوف لأنه حال فالضمير في من دونه يحتمل أن يعود على ربكم ، وهو تفسير المصنف رحمه الله الأوّل ، وأن يعود على ما الموصولة أو الكتاب ، والمعنى لا تعدلوا عنه إلى الكتب المنسوخة ، وجوّز كون الضمير للمصمدر أي لا تتبعوا أولياء اتباعا من
دون اتباع ما أنزل إليكم ، وقرأ مجاهد تبتغوا بالغين المعجمة من الابتغاء ، وقوله : وقرئ أي اعتراض أو استئناف. قوله : ( أي تذكرا قليلأ أو زماناً قليلاَ الخ ) يعني هو نعت مصدر محذوف أقيم مقامه ، أو نعت زمان محذوف كذلك ، ونصبه بالفعل بعده وما مزيدة للتوكيد ، وأجيز أن يكون نعت مصدر لتتبعوا قيل ويضعفه أنه لا معنى حينئذ لقوله تدّكرون ، وأما النهي عن الاتباع القليل فلا يضرّ لأنه يفهم منه غيره بالطريق البرهاني ، وجوّز في ما أن تكون موصولة ومصدرية ، فيكون المصدر أو الموصول مبتدأ ، وزمانا قليلا خبره ، وتد قيل إنها نافية وهو بعيد ، لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ولأنه يصير المعنى ما تذكرون قليلاً ، ولا طائل فيه وقيل إنه مردود با! الكوفيين جوّزوا العمل ، والمعنى ما تذكرون قليلاً فكيف تذكرون الكثير ، وفيه نظر. قوله : ( حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره ) هذا جار على الوجهين في مرجع ضمير من دونه ، ولا اختصاص له بالأخير كما يتخايل من قوله دين الله فإنّ الأوّل تمهيد لذلك ولذا أردفه المصنف رحمه الله تعالى بقوله وتتبعون غيره إشارة إلى عدم اختصاصه بأحدهما ، وتتبعون بالعين المهملة والإعجام خلاف الظاهر وإن صح. قوله : ) وما مزيدة لتثيد القلة ا لأنها تفيد القلة في نحو أكلت أكلاً ما فهي هنا قلة على قلة. قوله : ( وإن جعلت مصدرية الخ ) لأنّ معمول المصدر لا يتقدمه فيكون له إعراب آخر كما مرّ ، وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى : لا يجوز أن تكون مصدرية لأنّ قليلاً لا يبقى له ناصب وردّه يعلم مما مز ، وكلام المصنف رحمه الله محتمل لما قاله أبو البقاء ، ولا يجوز أن تكون ما المصدرية أو الموصولة فاعل قليلا كما جوز في { كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [ سورة الذاريات ، الآية : 17 ] لأنّ قليلاَ لا ينصبه تتبعوا وجعله حالاً من فاعله لا طائل تحت معناه. قوله : ( بحذف التاء الخ ) المذكور في كتب القرا آت إنّ حمزة الكسائيّ ، وحفصاً قرؤوا تذكرون بتاء واحدة وذال مخففة وقرأ ابن عامر يتذكرون بياء تحتية ، ومثناة فوقية وذال مخففة وفي طريق شاذة للأخفش عن ابن عامر بتاءين فوقيتين ، والباقون بتاء فوقية وذال مشدّدة ، وهذا هو الصحيح الذي به يقرأ وهذا هو الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى فقوله وقرأ حمزة والكسائيّ ، وحفص عن عاصم تذكرون بحذف التاء أي الأولى وابقاء تاء مثناة فوقية وذال مفتوحة مخففة ، وقوله وابن عامر يتذكرون أي بمثناة تحتية مفتوحة ومثناة فوقية مفتوحة ، وذال معجمة مفتوحة مخففة ، والباقون بتاء الخطاب وتشديد الذال ، وقوله : ( على أن الخطاب بعد مع النبئ صلى الله عليه وسلم ) بعد مبنيّ على الضم أي في جميع ما تقدم قبله في قوله : ( لتنذر ) وفي محل المقدر قبل قوله اتبعوا ومن لم يفهم كلام المصنف رحمه الله خطأه في قوله بعد وخطأ. غيره من أرباب الحواشي لعدم اتقانه للفن فلا حاجة إلى ذكره. قوله : ( وكثيرا من القرى ) إشارة إلى أنّ كم خبرية للتكثبر ومن بعدها زائدة ، وأما في قوله من القرى
فهي بيانية ومحل كم رفع على الابتداء والجملة بعدها خبر أو نصب على الاشتغال. قوله : ( أردنا إهلاك أهلها الخ ( لما كانت الفاء للتعقيب والهلاك بعد مجيء البأس بحسب الظاهر أولوا النظم بوجوه أحدها أن أهلكنا مجاز بمعنى أردنا إهلاكها كما في : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } [ سورة المائدة ، الآية : 6 ] الثاني أن المراد بالإهلاك الخذلان وعدم التوفيق فهو استعارة أو من إطلاق المسبب على السبب أو المراد حكمنا بإهلاكها وقيل الفاء تفسيرية نحو توضا فغسل وجهه الخ ، وقيل للترتيب الذكري ، وقيل إنه من القلب ، وقيل الفاء بمعنى الواو أو المراد فظهر مجيء بأسنا واشتهر ، وقدر المصنف رحمه الله تعالى هنا مضافاً مع أنّ القرية تتصف بالهلاك ، وهو الخراب وجوّز حمله على الاستخدام(4/147)
ج4ص148
لأنّ القرية تطلق على أهلها مجازاً ، وما ذكره المصنف رحمه الله يرد عليه ما قاله بعض المدققين في تفسيره حيث قال فيه إشكال أصولي وهو أنّ الإرادة إن كانت باعتبار تعلقها التنجيزي فمجيء البأس مقارن لها لا متعقب لها وبعدها ، وان لم يرد ذلك فهي قديمة فإن كان البأس يعقبها لزم قدم العالم فإن تأخر عنها لزم أن يعطف بثم ، فإن قلت الإرادة القديمة مستمرّة إلى حين مجيء البأس فعدم مجيء البأس عقب آخر مدتها قلت لو قلت قام زيد فأكرمته لم يلزم أن يكون الإكرام بعد كمال القيام بل قد يكون قبل كماله ، وأجاب ابن عصفور بأنّ المراد أهلكناها إهلاكا من غير استئصال فجاءهم إهلاك استئصال ، وقال ابنه شام أجيب أيضاً بأنها للترتيب الذكري ، وقال ابن عطية : معناه أهلكناها بخذلان أهلها وهو اعتزاليئ فالصواب أن يقال معناه خلقنا في أهلها الفسق والمخالفة ؤجاءها بأسنا ، فإن قلت في الآية تقديم وتأخير أي أهلكناها أو هم قائلون فجاءها بأسنا فالإهلاك في الدنيا ، ومجيء البأس في الآخرة فيشمل عذاب الدارين ، قلت يأباه قوله : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا } [ سورة الأعراف ، الآية : 50 ] فإنه يدلّ على أنه في الدنيا اهـ ( وأنا أ!دول ) دفع هدّا الإشكال على طرف التمام فالمراد تعلقه التنجيزي قبل وقوعه أي قصدنا إهلاكها فافهم. قوله : ( بياناً ( هو في الأصل مصدر بات يبيت بيتا وبيتة وبياتاً وبيتوتة ، قال الليث : البيتوتة الدخول في الليل ونصبه على الحال بتأويله ببائتين وجوّز أن يكون على الظرفية ، لأنه فسر بليلاً والأوّل هو الظاهر ، ولذا اقتصروا عليه. قوله : ( أو هم قائلون ) أو للتنويع أي أتاهم تارة ليلاً كقوم لوط عليه الصلاة والسلام ، وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب-ك! ، والقيلولة من قال يقيل فهو قائل وهي الراحة والدعة وسط النهار ، وان لم يكن معها نوم وقال الليث هي نومة نصف النهار واستدل للأوّل بقوله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا } [ سورة الفرقان ، الآية : 24 ] والجنة لا نوم فيها ودفع بأنه مجاز والأمر فيه سهل. قوله : ( وإنما حذفت واو الحال استثقالاً ( كذا في الكشاف واعترض عليه باًن الضمير يكفي في الربط وإنما يحتاج إلى الواو عند عدمه كما اشتهر في النحو ، وهو قد جوّز في قوله تعالى { اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ سورة البقرة ، الآية : 36 ] الحالية بدون واو فكيف يكون ممتنعا ، أو غير فصيح وقد نص الزجاج وأبو
حيان على خلافه مع أنه لو سلم هدّا فإنه في ابتداء الحال ، وأما الحال المعطوفة فلا تقترن بواو الحال ، واذعاء حذفها صريح في أنه لا بذ منها حتى تكون مقدرة إذا لم يلفظ بها فلا تكون نسبا منسياً لكنه مذهب بعضهم ، وهل هو مطلق أو فيه تفصيل سنقصه عليك قريبا مع ماله وعليه. قوله : ( فإنها واو عطف استعيرت للوصل ) تبع فيه السكافي ومن نحا نحوه وقد ردّه أبو حيان وصاحب الانتصاف بما لا وجه له فذهب إلى أنها موضوعة لربط الحال ابتداء وليست منقولة من العطف والأمر فيه سهل. قوله : ( لا اكتفاء بالضمير فإنه غير فصيح ) هذا مذهب الزمخشرقي ، وقد تبع فيه الفراء وابن الأنباري ، وظاهرة أنه كذلك مطلقا قال في البديع الاسمبة الحالية لا تخلو من أن تكون من سببيّ ذي الحال أو أجنبية فإن كانت من سببية لزمها العائد والواو تقول جاءني زيد وأبوه منطلق ، وخرج عمرو ويده على رأسه إلا ما شذ قالوا كلمته فوه إلى فيّ ، وان كانت أجنبية لزمتها الواو ونابت عن العائد وقد يجمع بينهما نحو قدم عمرو ، وبشر قام إليه وقد جاءت بلا واو ولا ضميرقال :
ثم انتصبنا جبال الصفد معرضة عن اليسار وعن إيماننا جدد
فجبال الصفد معرضة حال ا هـ ، وقد عرفت أنه مذهب النحاة من غير تفصيل فيه وقد صرّح
به الثيخ عبد القاهر أيضأ لكنه جعله على قسمين ما تلزمه الواو ومطلقأ وهو ما إذا صدر بضمير ذي الحال نحو جاء زيد وهو يسرع لأنّ إعادة ضميره تقتضي إن الجملة مستأنفة لئلا تلغو الإعادة فاذا لم يقصد الاستئناف فلا بد من الواو ، وما عداه يلزمه الواو في الفصيح إلا على طريق التشبيه بالمفرد والتأويل فإنه حننئذ قد تترك الواو جوازا ، ولم يجعله فصيحا فلا معارضة بين أوّل كلامه وآخره كما توهم ، وأما قوله تعالى : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ سورة البقرة ، الآية : 36 ] فقيل الأظهر فيه أنه استئناف لا سيما إذا أريد معاداة بني آدم بعضهم لبعض ، وهو الراجح عند الزمخشرقي وأما إرادة معاداة آدم حواء مع إبليس ، والحية وجعل الجملة حالية بتأويل متعادين فابداه على سبيل(4/148)
ج4ص149
الاحتمال كما هو دأبه لا أنه مختاره ، وتأويل الجملة بالمفرد يصار إليه إذا انتزع المفرد من جملة أجزائها لا من الخبر كمتعادين هنا ، ولى " من غيره والا فما من حال إلا وهي في معنى مفرد ، وما قيل : من أنّ الضابط نيه أنه إذا كان المبتدأ ضمير ذي الحال تجب الواو والا فإن كان الضمير فيما صدر به الجملة سواء كان مبتدأ نحو فوه إلى فيّ وبعضكم لبعض عدوّ أو خبراً نحوه :
وجدته حاضراه الجود والكرم
فلا يحكم بضعفه لكون الرابط في أوّل الجملة ، والا فضعيف قليل كقوله :
نصف النهار الماء غامره
في رواية فكلام مخالف للمذهبين ، والذي غرّه فيه ظاهر كلام الشيخ وفيه نظر ( بقي هنا
أمران ) يجب التنبيه لهما الأوّل أنهم أطلقوا الحكم هنا ، وقد قال ابن مالك في شرح الألفية إن
كانت الجملة الاسمية مؤكدة لزم الضمير ، وترك الواو نحو هو الحق لا شبهة فيه ، وذلك الكتاب لا ريب فيه وتبعه ابن هشام ، ونقله الطيبي هنا عن السكاكي فلا يعدل عنه إلا لنكتة الثاني أنّ ظاهر كلامهم هنا أنّ الواو الحالية يصح أن تقع بعد العاطف نحو سبح الله وأنت راكع أو وأنت ساجد بل يلزم ذلك لكنها تحذف للتخفيف ، ولئلا يجتمع عاطفان صورة وبه صرّح الفراء كما نقله المعرب وارتضاه صاحب الانتصاف وقد منع ذلك أبو حيان ولم يحك فيه خلافا فقال نص النحويون على أنّ الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتغ دخول واو الحال عليها للمشابهة اللفظية ، وهو من الفوأئد البديعة فاحفظه. قوله : ( وفي التعبيرين مبالغة في غفلتهم الخ ) حيث عبر في الأولى بالمصدر وجعلها عين البيات مبالغة ، وفي الثانية بالجملة الاسمية المفيدة للثبوت مع تقديم المسند إليه المفيد للتقوّى قيل ، والمبالغة ظاهرة لا تحتاج إلى البيان ، وإنما المحتاج إليه كونها في غفلتهم وأمنهم من العذاب فاستدل عليه بقوله ، ولذلك خص الوقتين اللذين فيهما كمال الغفلة عن العذاب ثم عطف عليه قوله ولأنهما وقت دعة واستراحة يعني أنّ تخصيصهما لأجل الغفلة وكونهما وقت الاستراحة ، ثم قال : فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع ، وأراد أن تخصيص الوقتين المعلل بما ذكر معلل بذلك هذا هو التحقيق ، ومن قال : إنما المبالغة في التعبير لا اختصاص له بالوقتين لم يحم حول المراد ا هـ ولا يخفى أنّ البيتوتة والقيلولة تقتضي الغفلة والأمن إذ لولاهما لم يبيتوا ولم يقيلوا فالمبالغة فيهما مبالغة في مقتضاهما ، فلأجل ذلك خص الوقتان بذلك ومحصله ذمّهم بالغفلة عما هم بصدده فلذا قالوا وباتوا ولم يحذروا غضب الله والنكتة الأخرى أنه تعالى أنزل العذاب عليهم في هذين الوقتين ، لأنه أشد وأنكى فخص مجازاتهم بهما لتكميل استحقاقهم لها فيهما ، والدعة بفتح الدال والتخفيف الخفض والاستراحة ، وإنما خولف بين العبارتين وبنيت الحال الثانية على تقوّي الحكم ، والدلالة على قوّة أمرهم فيما أسند إليهم لأنّ القيلولة أظهر في إرادة الدعة ، وخفض العيش فإنها من دأب المترفين ، والتنعمين دون من اعتاد الكدج ، والتعب وفيه إشارة إلى أنهم كانوا أرباب أشر وبطر. قوله : ( أي دعاؤهم الخ ) الدعوى المعروف فيها أنها بمعنى الادّعاء وتكون بمعنى المدّعي أيضاً وقد وردت بمعنى الدعاء والاستغاثة قال تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ } [ سورة يونس ، الآية : 10 ] وحكى الخليل عن العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أي في صالح دعائهم ، والى المعنيين أشار المصنف أي لم يكن عاقبة دعائهم واستغاثتهم أو ما ادّعوه إلا هذا الاعتراف وجعله عين ذلك مبالغة على حد قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
وجوّزوا فيه أن يكون دعواهم اسم كان وأن قالوا خبرها ، والعكس والثاني أولى لأنه أعرف ولأنه المصرّح به في غير هذه الآية ، وأورد عليه أنّ الاسم والخبر إذا كانا معرفتين واعرابهما مقدّر لا يجوز تقديم أحدهما على الآخر فيتعين الأوّل وقد أجيب عنه بأنه عند عدم القرينة والقرينة هنا كون الثاني أعرف وترك التأنيث وأيضاً هذا إذا لم يكن حصر فإن كان يلاحظ ما يقتضيه فتأمّل. قوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } الخ قال الطيبي رحمه اللّه : هذا السؤال واقع في الحشر وقوله : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } وارد في الدنيا لتعقبه لقوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ سورة الأعراف ، الآية : 4 ] الخ فالفاء في فلنسألن فصحيحة كأنه قيل فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا في الدنيا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فقطعنا دابرهم ، ثم لنحشرنهم فلنسألنهم ، وفي الكشف لعل الأوجه أن يجعل فلنسألن متعلقا بقوله اتبعوا ولا تتبعوا ، وقوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ } معترض حثا(4/149)
ج4ص150
على الاعتبار بحال السابقين ليستمروا في الاتباع ، وقوله عن قبول الرسالة الخ أي لقوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [ سورة القصص ، الآية : 65 ] وأيضا سؤال المرسل والمرسل إليه قرينة على ذلك. قوله : ( والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة الخ ) ولما ذكر السؤال هنا ونفي في آية أخرى جمع بينهما بأنّ المثبت سؤال التوبيخ والمنفي سؤال الاستعلام أو أن هذا في موقف وذاك في آخر ، وقال الإمام رحمه الله : إنهم لا يسألون عن الأعمال أي ما فعلتم ، ولكن يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال والصوارف التي صرفتهم عنها أي لم كان كذا ، قيل ولا حاجة إلى التوفيق فإن المنفي هو السؤال عن الذنب لا مطلق السؤال ، وردّ بأنّ عدم قبول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ذنب ، وأفي ذنب فسؤالهم عنه ينافيه فالحاجة باقية ، وفيه نظر. قوله : ( على الرسل حين يقولون الخ ) أي في جواب قولهم ماذا أجبتم كما مرّ في سورة المائدة تفصيله ، ثم لما وكلوا الأمر علمه قص عليهم ما أحبوا أو جميع أحوالهم ، وقوله عالمين بظواهرهم ، وبواطنهم مستفاد من ترك المفعول ، والباء للملابسة والجارّ والمجرور حال من فاعل نقص وقوله أو بمعلومنا فالباء متعلقة بنقص وما كنا غائبين حال أو استئناف لتأكيد ما قبله ، وهو عبارة عن الإحاطة التاقة بأحوالهم وأفعالهم. قوله : ( والورّن أي القضاء الخ ا لما كانت الأعمال أعراضاً لا يوزن وقد ورد ذكر وزنها في القرآن والأحاديث اختلفوأ فيه فمنهم من أوّل الوزن بأنه بمعنى القضاء ،
والحكم العدل أو مقابلتها بجزائها من قولهم وازنة إذا عاد له ، وهو إما كناية أو استعارة بتشبيه ذلك بالوزن المتصف بالخفة ، والثقل بمعنى الكثرة والقلة والمشهور من مذهب أهل السنة أنه حقيقة بمعناه المعروف ، ثم قيل توزن صحف الأعمال ، وقيل أصحابنا فيخف بعضهم ويثقل آخر باعتبار عمله ، وقيل إنّ الأعمال تجسم وتوزن. قوله : ( إظهارا للمعدلة وقطعاً للمعذرة ) بيان لحكمة الوزن وجواب عما يقال إنه لا حاجة إليه والأوّل بالنظر إلى الخلائق المطلعين على ذلك ، والثاني بالنسبة إلى صاحب العمل فقط ، وهذه حكم لا يلزم الاطلاع على حقيقتها حتى يقال إن انكشفت الأحوال يومئذ فلا حاجة للوزن ، ويكفي قول الله أو الملائكة هذا غلبت حسناته ، ونحوه والا فلا فائدة فيه مع أنّ الفائدة أن يسرّ المؤمن المتقي ، ويغتم خلافه كما في السؤال وشهادة الجوارح. قوله : ( أنّ الرجل يؤتى به الخ ) ( 1 ) هذا الحديث أخرجه الترمذيّ وابن ماجه وابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بنحوه ، والسجل الكتاب ، وقيل إنه معرّب وأصل معناه الكاتب ، وسجل عليه بكذا شهره ، ورسمه قاله الزمخشريّ : في شرح مقاماته ، ومذ البصر وقع في هذا الحديث ، وفي صحيح مسلم 9 نظرت إلى مد بصري " ( 2 ( ، قال النووي : في شرحه كذا هو في جميع النسخ وهو صحيح ومعناه منتهى بصري وأنكره بعض أهل اللغة ، وقال الصواب مدى بصري وليس بمنكر بل هما لغتان والمدى أشهر اهـ وقوله : ( بطاقة ) بكسر الباء رقعة صغيرة وتطلق على حمام تعلق في جناحه وليست مولدة كما قيل فإنها وردت في هذا الحديث ، وغيره وفي فقه اللغة أنها معرّبة من الرومية وفي المحكم البطاقة الرقعة الصغيرة تكون في الثوب وفيها رقم ثمنه حكاه شمر وقال لأنها بطاقة من الثوب قيل ، وهو خطأ لأنه يقتضي أنّ الباء حرف جرّ والصحيح ما تقدم كما حكاه الهروي. قوله : ( قيها كلمتا الشهادة الخ ) قال القرطبي في تذكرته في هذا الحديث : " فيخرج له بطاقة فيها
أشهد أن لا إله إلا الله " وليست هذه شهادة التوحيد لأنّ الميزان يوضع في كفته شيء وفي الأخرى ضده فتوضع الحسنات في كفة ، والسيئات في أخرى ومن المستحيل أن يؤتى لعبد واحد بكفر وايمان معا فلذا استحال أن توضع شهادة التوحيد في الميزان أما بعد إيمانه فيكون تلفظه بشهادة أن لا إله إلا الله حسنة توضحع في ميزانه كسائر حسناته قاله الترمذفي : ويدلّ عليه قوله : أن لك عندي حسنة دون أن يقول إيمانا ، وقد سئل النبيّ ىلمجحر عن لا إله إلا الله أهي من الحسنات فقال : " من أعظم الحسنات " ) 1 ( ويجوز أن يكون المراد هذه الكلمة إذا كانت آخر كلامه في الدنيا ، اهـ ويؤيده حديث البخارفي 9 كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان وهما كلمتا الشهادة " ( 2 ( ولك أن تقول المراد بها كلمة التوحيد فتأمّل ، والكفة بفتح فتشديد كل مستدير وبه سميت كفة(4/150)
ج4ص151
الميزان المعروفة ، وقوله : ( لما روي الخ ) ) 3 ( أخرجه البخارفي ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قوله : ( يومئذ خبر الميتدأ الخ ) أي الوزن مبتدأ والظرف خبره أي الوزن كائن يوم إذ تسئل الرسل والمرسل إليهم فحذف الجملة وعوّض عنها التنوين ، وهذا مذهب الجمهور ، والحق نعت للوزن قيل ولم يلتفت إلى كونه خبراً ويومئذ متعلق بالوزن لأنّ المعنى يكون حينئذ الوزن في ذلك اليوم هو الحق لا غيره أو لا الباطل ، والأوّل غير صحيح ، والثاني غير مراد بل المعنى الإخبار بأنّ الوزن الحق وتمييز الأعمال يقع في ذلك اليوم لا في أيام الدنيا ألا ترى قوله : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ سورة الأنبياء ، الآية : 47 ] والفصل بين الصفة والموصوف بالخبر كثير لا سيما إذا كان ظرفاً ، وأما كونه بدلاً من الضمير المستتر في الظرف كما ذكره مكيّ ، وتبعه صاحب اللباب فقالوا إنه غريب بعيد ( قلت ) ما جعله مانعا موجود في جعله خبر مبتدأ محذوف لأنه ضمير الوزن ، ومعناه الوزن الحق لا غيره أو لا الباطل فكيف يعد مانعا إلا أن يلتزم ذلك ويقال إنّ هذا الوجه غير مقبول لكنه ذكره بيانا لوجوه الإعراب التي ذكرها المفسرون فتأمّل ، والسوقي عطف تفسيريّ للعدل. قوله : ) حسناته أو ما يوزن به الخ ا لما كان الظاهر أنّ الميزان مطلقا واحداً وميزان كل شخص واحد وان جاز أن يكون لكل عمل ميزان وقد جمع في النظم فأمّا أن يراد الحسنات الموزونات على أنها جمع موزون واضافته للعهد لترتب الفلاح عليه فجمعه ظاهر وإما أن يراد الميزان وجمعها باعتبار
تعدّد أوزانها وموزوناتها وفي الكلام مضاف مقدّر أي كفة موازينه ، وقوله وجمعه بصيغة المصدر أو الماضي أي جعله جمعا ، وقوله فهو جمع موزون الخ لف ونشر مرتب للتفسيرين وهذا الوزن للمسلمين عند الأكثر ، وأما الكفار فتحبط أعمالهم على أحد الوجهين في تفسير توله تعالى : { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [ سورة الكهف ، الآية : 105 ] وقيل إنها توزن أيضا وان لم تكن راجحة ليخفف بها لهم العذاب عنهم ، وهو ظاهر النظم وكلام المصنف رحمه الله هنا لذكر الفطرة وهي الإسلام والتصديق والتكذيب المتبادر منه الإيمان والكفر وان أمكن التعميم لما يشمله الإسلام من الأعمال الصالحة وجعل عدم العمل تكذيباً فتأمّله ، وبقي من تساوت حسناته وسيئاته مسكوتا عنه ، وهم أهل الأعراف على قول وقد يدرج في القسم الأوّل لقوله : { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ سورة التوبة ، الآية : 52 ا ] وعسى من الله تحقيق ما صرّحوا به.
وأعلم أنّ الحافظ له تأليف مستقل في الميزان قال فيه إنهم اختلفوا في تعدد الميزان ، وعدمه والصحيح الثاني والوزن بعد الحساب ، وأعمال الكفرة يخفف بها عذابهم كما ورد في حق أبي طالب وهو الصحيح كما قاله القرطبي ، وقال السخاوي : المعتمد أنه مخصوص بأبي طالب والمعتمد ما قاله القرطبيّ ، فلا وجه للتردد فيه. قوله : ) بتضييع الفطرة السليمة الخ ) قيل المراد بها فطرة الإسلام لقوله في الحديث : " ما من مولود يولد على الفطرة الخ " ) 1 ( ويحتمل أن المراد الخير الذي هو أصل الجبلة فما بعده تفسير له فتأمل. قوله : ( فيكذبون بدل التصديق ) ما مصدرية والباء جوّز فيها التعلق بخسروا وبيظلمون ، وقدم عليه للفاصلة وعدى الظلم بالباء لتضمنه معنى التكذيب نحو كذبوا بآياتنا أو الجحد نحو جحدوا بها ، وكلام المصنف يحتملهما فالفاء إما تفسيرية أو تعقيبية فمن قال إنه غفل عن معنى التضمين لم يصب وكذا من عين إرادته. قوله : ( مكناكم من سكناها الخ ( مكنا إن كان على ظاهره وحقيقته فمعناه جعلنا لكم فيها مكانا ، وسكنى وقراراً واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله من سكناها ، ويجوز أن يكنى به عن أقدرناكم على التصرف فيها بالملك أو الزراعة ، وأسباب التعيش ولما كانت الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة أدرج المصنف رحمه الله الثاني في الأوّل وصاحب الكشاف جعلهما وجهين متغايرين ، ولما كانت الحقيقة أولى وأنسب بهذا المقام ، وما عطف عليه قدمها فتدبر. قوله :
( أسباباً تعيشون بها الخ ) معايش جمع معيشة ووزنها مفعلة ، وهي اسم لما يعاش به أي يحيي فهي في الأصل مصدر عاس يعيش عيشاً وعيشة ومعاشاً ومعيشا ومعيشة ، والجمهور على التصريح بالياء فيها ، وروي عن نافع " معائش " بالهمزة فقال النحويون : إنه غلط لأنه لا يهمز عندهم بعد ألف الجمع إلا الياء الزائدة ، كصحيفة وصحائف وأما معايش فياؤه أصلية هي عين الكلمة لأنها من العيش حتى قال أبو عثمان : إنّ نافعاً رحمه الله لم يكن يدري العربية(4/151)
ج4ص152
وردّ هذا بأنّ العرب قد تشبه الأصلي بالزائد لكونه على صورته ، وقد سمع عنهم هذا في مصايب ومناير ومعايش ، فالمغلط هو الغالط والقراءة وان كانت شاذة غير متواترة مأخوذة عن الفصحاء الثقات ، وأما قول سيبويه رحمه الله إنها غلط فإنه عنى أنها خارجة عن الجادة والقياس ، وهو كثيراً ما يستعمل الغلط في كتابه بهذا المعنى وإلى ما ذكر أشار المصنف رحمه الله ، وقليلا ما تشكرون تقدم الكلام فيه ، وصنعت بمعنى أحسنت من الصنيعة وكأنه قال : فيما صنعت ولم يقل ما صنعت إشارة إلى تعذر الشكر لإفراد نعمه. قوله : ( أي خلقنا أب كم آدم طيناً الخ ا لما كان أمر الملائكة بالسجود مقدما على خلقنا ، وتصويرنا وقد عطف عليه بثم اقتضى تأويله فأوّلوه بوجوه ، منها أنّ المراد خلق آدم عليه الصلاة والسلام وتصويره ولكنه لما كان مبدأ لنا جعل خلقه خلقا لنا ونزل منزلته فالتجوّز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم كجميع الخلق لتفرعهم عنه ، أو في الإسناد إذ أسند ما لآدم الذي هو الأصل والسبب إلى ما تفرّع عنه وتسبب وليس هذا من تقدير المضاف الذي ذهب إليه بعضهم لأنّ قوله نزل خلقه الخ يأباه ، وذهب الإمام رحمه الله إلى أن خلقنا وتصويرنا كناية عن خلق آدم صلى الله عليه وسلم وتصويره ، قيل وكلام المصنف رحمه الله يحتمله وليس بظاهر. قوله : ( أو ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم ) بأن خلقنا آدم ثم صوّرناه فالتجوّز في الفعل فالمراد بخلق الجنس ابتداء خلقه وابتداء خلق كل جنس بإيجاد أوّل أفراده ، وهو آدم-سح! الذي هو أصل البشر ، فهو كقوله : { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ } [ سورة السجدة ، الآية : 7 ] وعلى هذين الوجهين يظهر العطف بثم والترتيب ثم أشار إلى جواب آخر استضعفه ، وهو أنّ ثم لترتيب الأخبار لا الترتيب الزمانيّ حتى يحتاج إلى توجيه والمعنى خلقناكم يا بني آدم مضغا كير مصوّرة ثم صوّرناكم ، ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة الخ ، وقيل إنه للتراخي في الرتبة لأنّ كون أبينا مسجودا للملائكة أرفع درجة من خلقنا ثم تصويرنا. قوله : ( ثم قلنا للملافكة اسجدوا لآدم ) قيل الظاهر أن يقول ثم أمرن الملائكة بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم ، وإنما عدل عته لأنّ الأمر بالسجدة كان قبل خلق آدم على ما نطق به قوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ سورة ص ، الآية : 72 ] والواقع بعد تصويره إنما هو قوله تعالى اسجدوا لآدم لتعيين وقت السجدة المأمور بها قبل هذا يعني أنه أمرهم أوّلاً أمراً معلقاً ثم أمرهم ثانياً أمرا منجزا مطابقا للأمر السابق فلذا جعله حكاية له فما قيل إنه يقتضي أنّ هذا ليس أمرا بالسجود وهو مما لا يتفوّه به عاقل ليس بشيء ينظر فيه. قوله : ( لم يكن من الساجدين ممن سجد لآدم ) عليه الصلاة والسلام فيه إشارة إلى أنّ أل موصولة واسم الفاعل بمعنى الماضي وأنّ المنفيّ سجوده لآدم لا للّه ، وفائدة هذه الجملة التكميل ودفع احتمال أن يكون معنى إلا إبليس لم يبادر إلى السجود كما بادرت الملائكة فيحتمل أنه سجد بعد ذلك فأتى بهذه الجملة للاحتراس مع المبالغة والإشارة إلى أنه لو صدر منه ذلك لم يعد سجود العدم انقياده باطناً وامتثاله حقيقة. قوله : ( ولا صلة الخ ) أي زائدة فإنه يعبر عن الزائد في القرآن بالصلة تأدّبا لأنّ المنع إنما هو عن السجود لا عن تركه قال النحرير : هي مزيدة إلا إذا حمل ما منعك على ما حملك وما دعاك على ما قرره صاحب المفتاح ، ثم لا بد في إفادة لا تأكيد معنى الفعل وتحقيقه من بيان ، ولم أرهم حاموا حوله اهـ وما أشار إليه حقيق بالبيان فإنّ لا النافية كيف تؤكد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه ، والذي ظهر لي أنها لا تؤكده مطلقا بل إذا صحب نفيا مقدّماً أو مؤخرا صريحا أو غير صريح كما في غير المغصوب عليهم ولا الضالين وكما هنا فإنها تؤكد تعلق المنع به واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله : الموبخ عليه ترك السجود فتأقل. قوله : ( وقيل الممنوع عن الشيء مضطرّ إلى خلافه فكأنه الخ ) هذا عطف على ما قبله بحسب المعنى إذ مآله أنها زائدة أو غير زائدة بأن يكون المنع مجازا عن الإلجاء والاضطرار فمعناه ما اضطرّك إلى أن لا تسجد وهذا قريب من تول السكاكي
أنه بمعنى الحامل والداعي لكنه أبلغ منه ، ويحتمل التضمين أيضا وقال الراغب : المنع ضد العطية وقد يقال : في الحماية فقوله ما منعك أن لا تسجد معناه ما حماك عن عدم السجود. فوله : ( دليل على أنّ مطلق الآمر للوجوب والفورا لأنّ ترتب اللوم والتوبيخ على مخالفته يقتضي الوجوب ، وجعله في وقت الأمر الدال(4/152)
ج4ص153
عليه إذ يدلّ على الفور دلالة ظاهرة كما بين في الأصول ، وقد أجابوا عنه بأنه ليس من صيغة الأمر بل من قوله فقعوا له ساجدين إلا أنّ بعضهم قد مغ دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ ، وهذا المنع يتجه على قول المصنف ، ولذلك أمر الملائكة بسجوده لما بين لهم أنه أعلم منهم الخ ، والا فظاهر. يخالف قوله : { فَقَعُواْ لَهُ } ليتأمل وردّ بأنّ الاستدلال بترتب اللوم على مخالفة الأمر المطلق حيث قال إذ أمرتك ولم يقل إذ قيل : { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } وليس القول بالفور مذهب الشافعية كما ذكره المصنف رحمه الله في منهاجه والكلام على هذه المسألة
مبسوط في الأصول. قوله : ( جواب من حيث المعنى ) لأنّ الظاهر فيه منعني كذا وكذا وهذا إنما هو جواب عن أيكما خير فهو من الأسلوب الأحمق كما مرّ في قصة نمروذ ، وقوله كأنه قال الخ بيان لتضمنه الجواب بقياس استدلاليّ ، وهو أني مخلوق من عنصر علوي نير فأصلي أشرف وأنا كذلك والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه فالدلالة على التكبر ظاهرة ، وكذا على القول بالحسن العقلي الذي أخذه من شرف العنصر وضده من ضده ، وقد بين المصنف رحمه الله غلطه بأنّ الشيء كما يشرف بمادّته يشرف بفاعله وغايته وصورته ، وهي في آدم مجقي! دونه كما بينه لكن قوله بغير واسطة أي واسطة توالد وتناسل يقتضي أنّ إبليس كذلك ولم ينقل ، وقوله : { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } لا دخل له في الصورة فكأنه ذكره توطئة لقوله : ( لذلك الخ ) . قوله : ( والآية دليل الكون والفساد ) الكون الخروج من العدم إلى الوجود والفساد عكسه ، وهذا بحكم اللزوم لا أنها تدلّ على المصطلح بين أهل الفلسفة إذ لا دلالة عليه كما لا يخفى ، ثم إنّ دلالتها على الكون ظاهرة لخلق آدم وابليس ، وايجادهما وأما على لفساد فتوقف فيه بعضهم والظاهر أنه باعتبار الطين والنار فإنهما استحالاً عما كانا عليه من الطينية والنارية لما تركبت منهما الأجساد وهو ظاهر أيضاً لا داعي للتوقف فيه ، والملاك بفتح الميم وكسرها قوامه الذي يملك به ، وقوله أجسام كائنة أي حادثة لا أرواح قديمة وكون الأجسام من العناصر الأربعة أمر مقرّر في الحكمة فإضافته إلى أحدها باعتبار أغلبيته وهو ظاهر. قوله : ( من السماء أو الجنة ) فيه اختلاف بين المفسرين واقتصر المصمنف رحمه الله على هذين القولين لاشتهارهما ، وقيل : الجنة روضحة بعدن ، وقيل : إنه أخرح من الأرض إلى الجزائر وأمر أن لا يدخلها إلا-ضفية ، وقيل إنه بذلت صورته البهية بأخرى ، وقوله : ( التكبر لا يليق بأهل الجنة ) فكما يمنع من القرار
فيها يمنع من دخولها بعد ذلك وقوله : ( من تواضع لله الخ ) الحديث ) 1 ) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، وقوله : فإنها مرجعه مرجع منها ولو ثني كان أظهر. قوله : ( أمهلني إلى يوم القيامة ) قال في الحجر : أراد أن يجد فسحة في الإغواء ونجاة من الموت إذ لا موت بعد وقت البعث فاجابه إلى الأوّل دون الثاني ، يعني قوله إلى يوم الوقت المعلوم ، وهو يوم النفخة الأولى الذي ينقطع بها التكليف ثم مراده يتوقف على أمرين عدم الإماتة وتاخير العذاب ، ولذا قيل كان الظاهر ولا تعجل عقوبتي بالواو فتأمّل. قوله : ( يقتضي الإجاية إلى ما سأله الخ ) في البزازية عن الإمام البرسنفيني لا يجوز أن يقال دعاء الكافر مستجاب لأنه لا يعرف الله ليدعوه ، وقال الدبوسي يجوز ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : " دعوة المظلوم مستجابة وإن كان كانرا " ( 2 ( وقيل أراد كفران النعمة لا كفران الدين ، والفتوى على أنّ دعاء الكافر قد يستجاب استدراجا كما هنا إذ أستجيب بعض دعائه لأكله لأنه تمنى عدم الموت إذ لا موت بعد البعث ا هـ ، وأما احتمال أن يكون إخبارا عن كونه من المنظرين في قضاء الله من غير ترتب على دعائه ، فخلاف المتبادر من النظم فإنه يدل على أنّ الغاية ما طلبه وحده فقوله : يوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم واحد لكن في سورة ص ما يخالفه وجوّز في الحجر كون المراد بيوم الوقت المعلوم يوم يبعثون لا يوم النفخة الأولى لكنه قال : ولا يلزم أن لا يموت فلعله يموت أوّل اليوم ويبعث مع الخلق في تضاعيفه لأنّ كل شيء هالك إلا وجهه ، وقوله أو وقت يعلم الله انتهاء أجله فيه أراد أنه معلوم لله وقد أخفى عنا ، قيل لكن يجب أن يكون قبل انقطاع
أيام التكليف فيكون قبل النفخة الثانية ، وقوله : لكنه محمول الخ على الاحتمال الأوّل ، وأما إن كان مراد.(4/153)
ج4ص154
تأخير العقوبة فالظاهر أنه أجيب لذلك. قوله : ( وفي إسعافه إليه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته ) ضمير إليه أمّا لما سأله أو ليوم الوقت المعلوم ، وهو دفع لما يخطر بالبال من أنه أجابه لسؤاله مع ما فيه من إفساد خلقه ، وقد تبع فيه الزمخشرفي وهو كما قال النحرير : كغيره مبنيّ على تعليل أفعاله بالإغراض وعدم إسناد القبائح والشرور إليه مع أنه ليس بشيء لأنّ حقيقة الابتلاء في حقه تعالى محال ومجازه وهو أن في الإنظار منه ابتلاء امتحانا لا يدفع السؤال ولأنّ ما في متابعته من ألم العقاب أضعاف ما في مخالفته من عظيم الثواب ، بل لو لم يكن له الأنظار والتمكين لم يكن من العباد إلا الطاعات وترك المعاصي فلم يكن إلا الثواب كما للملائكة والأولى أن لا يخوض العبد في أمثال هذه الأسرار ، ويفوّض حقيقتها إلى الحكيم المختار.
( أقول ) الظاهر أنّ الابتلاء هنا بمعنى جعلهم ذابلية ومشقة فليست حقيقته محالاً عليه
تعالى إذ ليس المراد الاختيار وكون أفعاله تعالى فيها حكم ومصالح مما لا ينكر ، فالظاهر عدم وروده على المصنف رحمه الله تعالى ، وان ورد على الكشاف فلا تكن من الغافلين. قوله : ( أي بعد أن أمهلتني لأجتهدن في إغوائهم الخ ( بعدية الإمهال مأخوذة من الفاء والاجتهاد من قوله لأقعدنّ لهم الخ كما سيأتي ، وقوله : ) بسبب إغوائك ) إشارة إلى أنّ الباء للسببية وما مصدرية ، ولما أسند الإغواء وهو إيقاع ألغيّ أي الاعتقاد الباطل في القلب إلى الله والمعتزلة لا تجوّز إسناد القبائح إليه تعالى أوّلوه فتارة قالوا إنه قول الشيطان فليس بحجة ، وتارة بأن الإغواء بمعنى النسبة إلى الغيّ كأكفره إذا نسبه إلى الكفر ، أو المراد التسبب في الغيّ بما أمره به من السجود فهذه التأويلات المذكورة مذهبهم كما صرّح به في محل آخر ، فكان ينبغي أن لا يتبعهم هنا ويفسره بخلق الغيّ فيه أو يذكره أيضاً ليكون على لمذاهب ، وقد قيل في دفعه إنه فهم هذا من السياق لأنّ المذكور هو الأمر بما يفضي إليه أو يجعل الإغواء بمعنى الترغيب لما فيه من الغواية ، والأمر هو لا يجوز من الله كما هو مراد اللعين من قوله لأغوينهم. قوله : ( تسمية ) المراد به الوصف والنسبة كما مر ، وقوله أو حملاً أي خلق فيه من الأشياء ما حمله عليه أو تكليفا بما غويت وهو الأمر بالسجود فمعنى الإغواء إحداث سبب الغيّ وايقاعه فالتجوّز في المسند لا في الإسناد. قوله : ( متعلقة بفعل القسم ( أي بسبب إغوائك أقسم بك أو بعزتك لأقعدنّ الخ ، فإن كان هو قسما أوّل بتكليفك إياي حتى يكون القسم به صفة من صفات الأفعال ، وهو مما يقسم به في العرف وان لم تجر الفقهاء عليه أحكام اليمين فيكون القسم تكرّر منه فتارة أقسم بهذا وتارة بالعزة ، وصدر لام القسم منعها عن عمل ما بعدها فيما قبلها
لأنها لها الصدر على الصحيح ، وأما جعل ما استفهامية لم تحذف ألفها وتعلق الباء بأغويتني فلا يخفى ضعفه وان قيل به. قوله : ( ترصدا بهم ) الظاهر أنه أراد أنه كناية عن ترصده لهم ، ويحتمل التمثيل أيضا ، ولما كان الصراط ظرف مكان مختص ومثله لا ينتصب على الظرفية إلا في شذوذ ذهب بعضهم إلى أنه مفعول به بتضمين أقعدن معنى ألزمن وآخرون على أنه على نزع الخافض ، وهو على أو منصوب على الظرفية شذوذا كما في الشعر المذكور وهو من قصيدة لساعدة بن جؤبة أوّلها :
هجرت غضوب وحبّ من تتجنب وعدت عواد دون وليك تشعب
شإب الغراب ولا فؤادك تارك ذكر الغضوب ولا عتابك يعتب
ومنها في وصف رمح :
لدق بهزالكص يعسل متنه فيه كماعسل الطريق الثعلب
ومعنى لدن لين والعسلان الاهتزاز والاضطراب وبه يوصف مثى الذئب والثعلب ، إذا أسرع ، وض! مير فيه للكف أو للهز ، وأعلم أنّ المشهور أنّ الطريق ظرف محدود لا ينصب على الظرفية ، وذهب بعض شرّاح الكتاب إلى أنه غير محدود ينصب قياساً وقال : إنه مراد سيبويه رحمه الله وقد يجمع بينهما بأنه بحسب وضعه عاثم معناه كل أرض تطرق أي يمشي عليها ثم خص بما يسلكه الناس من ممرّ السابلة دون الجبال والوهاد. قوله : ( أي من جميع الجهات الأربع مثل قصده الخ ) يعني هذه استعارة تمثيلية شبه حال وسوستة لبني آدم بقدر الإمكان بحال إتيان العدّ ولمن يعاديه من أقي جهة أمكنته ، ولذا لم يذكر الفرق(4/154)
ج4ص155
والتحت إذ لا إتيان منهما ، فقوله من جميع الجهات أي جميع الجهات التي يؤتى منها ، كما صرّح به بقوله من أي وجه يمكنه فلا ينافي قوله ولذلك لم يقل الخ والتسويل تحسين الشيء وتزيينه للإنسان ليفعله ، وقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } ترشيح لهذه الاستعارة. قوله : ( وقيل لم يقل من فوقهم الخ ) عطف على قوله ولذلك لم يقل الخ فإن كان مبنيا على التمثيل أيضاً فالفرق بينهما أنّ ترك هاتين الجهتين على الأوّل لعدمهما في الممثل به وعلى الثاني لعدمهما في الممثل ، وان كان مبناه على أنه لا تمثيل قيل ، وهو الأظهر فالفرق واضح فلا يرد أنه إذا بنى الكلام على التمثيل لا
حاجة إلى الاعتذار عن تركهما. قوله : ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما من بين أيديهم من قبل الآخرة ) هكذا أخرجه ابن أبي حاتم فعلى هذا ليس الكلام كله تمثيلا واحداً بل مجازات أو استعارات أو كنايات فما بين أيديهم الآخرة لأنها مستقبلة آتية ، وما هو كذلك كأنه بين اليدين ، ومن فسره بالدنيا فلأنها حاضرة مشاهدة وما خلفهم الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة مخلفة ومن فسره بالآخرة فلأنها مغيبة عنهم وتفسير الأيمان بالحسنات والشمائل بالسيئات لأنهم يجعلون المحبوب في جهة اليمين وغيره في جهة الشمال كما قال :
أبيني أفي يمني يديك جعلتني فافرج أم صيرتني في شمالك
قوله : ( ويحتمل أن يقال من بين أيديهم الخ ) فيكون المراد بما بين أيديهم ما يعلمونه لأنّ
ما هو كذلك محسوس مشاهد ، وضحدّه ما كان خلفاً وما كان بجانب اليمين والشمال يسهل أخذه وتناوله فلذا عبر به عما ذكر ، وقال بعض حكماء الإسلام إنه إشارة إلى القوى الأربع فما بين أيديهم وما خلفهم إشارة إلى القوّة المودعة في مقدّم الدماغ والمودعة في مؤخره وما بين أيديهم إشارة إلى الشهوة المودعة في الكبد وهو في اليمين وما خلفهم إلى الغضب في القلب وهو في اليسار. قوله : ( وإنما عدّى الفعل إلى الآوّلين بحرف الابتداء لخ ) هذا ما حققه الزمخشرقي وهو من أسرار العربية لأنّ اختلاف حروف التعدية مع المفعول به ، وفيه لقصد معان لاحظوها ينبغي التيقظ لها فإنه كما قال : لغة تؤخذ ولا تقاس وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط فلما سمعناهم يقولون جلس عن يميته وعلى يمينه وعن شماله وعلى شماله قلنا معنى على يمينه أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى عن يميته أنه جل!بى متجافياً عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونحوه من المفعول به نحو رميت عن القوس وعلى لقوس ومن القوس لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضحع على كبدها للرمي ، ويبتدأ الرمي منها وكذلك قالوا جلس بين يديه وخلفه يعني في لأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأنّ الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول جثتة من الليل تريد بعض الليل ، ولا مخالفة بينهما إلا في جعل من ابتدائية ، والزمخشريّ جعلها تبعيضية وأشار إلى أنّ فيها معنى الابتداء أيضا وقيل خص اليمين والشمال بعن كا! ثمة
ملكين يقتضيان التجاوز عن ذلك. قوله : ( مطيعين الخ ا لشمول الشكر لأعمال الجوارح ، ووجد إن كان معنى صادف نصف مفعولاً واحداً وبمعنى علم بنصب مفعولين فإن نصب مفعولين فشاكرين هو الثاني والا فهو حال والجملة مستانفة أو معطوفة على المقسم عليه ، وقوله قال ذلك ظناً أي قال ذلك لما رآه من الإمارات على طريق الظن ، وقوله لقوله باللام دليل لا تشبيه ، وفي نسخة كقوله بالكاف ، ومبدأ الشرّ القوّة الشهوية والغضبية ، ومبدأ الخير ألعقل ، وقوله سمعه من الملائكة فيكون علماً لا ظنا وهذا إشارة إلى تأثير إغوائه في غير القليل الذين قال الله فيهم : { فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ
} [ سورة سبأ ، الآية : 20 ] ولم يفرّعه لأنه بمقتضى الجبلة لا بمجرّد إغوائه. قوله : ( مذؤما مذموماً من ذأمه الخ ) مذؤما حال وكذا مدحورا أو هو صفة ، وفسر مذؤما بمعنى مذموما وفسره الليث بمحقراً ، وفي فعله لغتان ذأمه يذأمه بالهمزة كرامه يرأمه وذامه يذيمه بالألف كباعه يبيعه ومصدر المهموز أم كرأس ومصدر المعتل ذام كقال وبهما روي المثل إن تعدم الحسناء ذاماً ، والذأم العيب وقال ابن قتيبة : الذم والقراءة المشهورة مذؤماً بالهمز كمسؤلاً من ذأمه ، وقرئ مذوما بذال مضمومة وواو ساكنة وهي تحتمل أن تكون مخففة(4/155)
ج4ص156
من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها ، وأن تكون من المعتل وكان قياسه مذيم كبيع إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حذ قولهم مكول في مكيل مع أنه من الكيل ، والدحر الطرد وضمير منها للسماء كما في قوله : { اهْبِطْ مِنْهَا } [ سررة الأعراف ، الآية : 13 ، وقيل هو للجنة وهو الأصح عند الأكثر. قوله : ( اللام فيه لتوطئة القسم وجوابه الخ ( في الكشاف واللام في لمن تبعك موطثة للقسم ولأملأنّ جوابه وهو ساد مسد جواب الشرط منكم بمعنى منك ومنهم فغلب ضمير المخاطب كما في توله : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ سورة الأعراف ، الآية : 138 ] وروي عصمة عن عاصم رحمه الله لمن تبعك بكسر اللام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد ، وهو قوله لأملأن جهنم منكم أجمعين على أنّ لأملأنّ في محل الابتداء ولمن تبعك خبره اهـ وفي الدرّ المصون في من وجهان أظهرهما أنها دخل عليها لام موطئة وتسمى موذنة جواب قسم محذوف ، ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ولأملأنّ جواب قسم ساد مسد جواب الشرط الثاني أنّ اللام لام ابتداء ومن موصولة صلتها تبعك في محل رفع بالابتداء خبرها لأملأنّ وقرئ شاذاً عن عاصم لمن بكسر اللام على أنها متعلقة بقوله لأملأنّ ورد بأنّ لام القسم
لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، والثاني أنها متعلقة بالذأم والدحر على التنازع واعمال الثاني أي اخرج بهاتين الصفتين لأجل اتباعك ، الثالث أنّ الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يقدر مؤخراً أي لمن تبعك هذا الوعيد الدال عليه قوله : لأملأنّ الخ لأنّ القسم وجوابه وعيد ، وهو مراد الزمخشريّ بقوله على أنّ لأملأن في محل الابتداء ولمن تبعك خبره فقول أبي حيان رحمه الله : إن أراد ظاهره فهو خطأ لأن قوله لأملأنّ جملة جواب قسم محذوف فمن حيث كونها جملة لا يجوز أن تكون مبتدأ ومن حيث كونها جواب قسم يمتنع أيضا لأنها لا موضمع لها ومن حيث كونها مبتدأ لها موضع ويمتنع في شيء واحد أن يكون له موضع ، ولا موضع له وهو محال ، وهذا بعد قول الزمخشري إنّ معناه لمن تبعك منهم هذا الوعيد وهو لأملأنّ كيف يتردّد بعد هذا مع تصريحه بمراده وتأويله ، وأمّا قوله على أنّ لأملأنّ في محل الابتداء فإنما قاله لأنه دال على الوعيد الذي هو في محل ابتداء فنسب إلى الدال ما نسب للمدلول معنى ، وقول الشيخ ومن حيث كونها جواب قسم الخ تحامل عليه لأنه لا يريد جملة الجواب فقط البتة إنما أراد الجملة القسمية برمّتها وإنما استغنى بذكرها عن ذكر قسمها لأنها ملفوظ بها وقد تقدم ما يشبه هذا ، وقوله ويمتنع في شيء واحد أن يكون له موضعولا موضع له جوابه ظاهر ( أقول ( ذهب إلى أنه محكيّ هنا ورد بأن الحكاية تقتضي تقدم الوعيد ، وليس كذلك ولا يخفى ما في هذا كله من التعسف من غير داع له فتدبر. قوله : ( أي وقلنا يا آدم ( لم يعطفه على ما بعد قال : أي قال يا إبليس أخرج ، ويا آدم اسكن لأنّ ذلك في مقام الاستئناف والجزاء لما حلف عليه إبليس من القعود على الصراط الخ ، وهذا من تتمة الامتنان على بني آدم والكرامة لأبيهم وإنما لم يجعل عطفا على ما بعد قلنا لأنه يؤول إلى قلنا للملائكة يا آدم فقدر قلنا لتكون الجملة عطفاً على قلنا للملائكة ، وهذا هو الذي يقتضيه انتظام السياق كما قرّره النحرير ، وما قيل إن الترتيب يقتضي عطفه على ما بعد قال فإنّ هذا الأمر لهما ليس إلا بعد الأمر له بالخروج جزاء لما حلف عليه بعد المقابلة أي قال له اخرج غضبا عليه ، ولذلك أسكن تكريما له على تلوين الخطاب مع ما فيه من القرب فخلاف الظاهر ، وان كان له وجه والكلام في أسكن أنت وعطفه مرّ تحقيقه في سورة البقرة. قوله : ( وهو الآصل لتصغيره على ذيا ( يعني أصله ذي والهاء عوض عن الياء المحذوفة لا هاء سكت بدليل تصغيره فإنه يدل على ذلك ، قال ابن جني رحمه الله : يدل على أنّ الأصل هو الياء قولهم في المذكر ذا والألف بدل من الياء إذ الأصل ذيّ بالتشديد بدليل تحقيره على ذيا ، وإنما يحقر الثلاثي دون الثنائي كما ومن فحذفت إحدى الياءين تخفيفا ثم أبدلت الأخرى ألفا كراهة أن يشبه آخره آخر كي. ثوله : ( فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم
الخ ) يعني كان بمعنى صار وأل موصولة ومفعول ظالمين مقدر وهو أنفسهم لأنهما بالأكل إنما ظلما أنفسهما ، ومن الظالمين أبلغ من ظالمين كما مرّ ، والجزم والنصب بعطفه على تقرباً وجعله جواب النهي ظاهر. قوله : ( أي فعل الوسوسة لأجلهما الخ ) فالفرق بين وسوس له ، ووسوس إليه أن وسوس(4/156)
ج4ص157
له بمعنى لأجله فاللام ليست صلة ، وقال الجوهرفي : إنها لة بمعنى إلى ومعناه ألقى إليه الوسوسة والوسوسة الصوت الخفيّ المكرّر ، ولذا قيل الصوت الحلي وسوسة أيضا كما قال :
قالوا كلامك وسواس هذيت به وقد يقال لصوت الحلي وسواس
وفعللة تكثر في الأصوات كهينمة وهمهمة للصوت الخفيّ ، وخشخشة للصوت الحاصل
من تحريك سلاح ونحوه ، ووسوس لازم ويقال رجل موسوس بكسر الواو ولا تفتح كما قاله ابن الأعرابي : وقال غيره يقال موسوس له وموسوس إليه فيكون موسوس بالفتح على الحذف والإيصال ، والوسوسة أيضا حديث النفس ، وقال الأزهريّ : وسوس ووزوز بمعنى. قوله : ( واللام للعاقبة أو للغرض الخ ) من ذصب إلى أنها للعاقبة لأنه لم يعلم صدوره منهما ومن ذهب إلى أنها للتعليل لأنه الأصل فيها ويجوز قصد ذلك بناء على حدسه أو علمه بطريق من الطرق كما سبق في قوله : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ سورة الأعراف ، الآية : 17 ] وقوله ولذلك أي لكون كشف الفرج بسوء صاحبه سمته العرب. سوأة ، وقوله وفيه دليل الخ وجه الدلالة أنّ ذلك قصد به الإساءة إليهما فلولا أنه كدّلك لم تكن إساءة وليس هذا مبنياً على الحسن والقبح العقليين الذي هو مذهب المعتزلة ولذلك لما ذكره الزمخشرفي ميلاً لمذهبه قال النحرير رحمه الله : إن أراد أنّ القبح يكون مذموماً في حكم الله سواء ورد به الشرع أولاً فلا دلالة للنظم عليه أو بمعنى كراهة الطبع ، وعدم ملاءمة العقول السليمة فلا نزاع ولا خلاف في أنّ مثله لا يتوقف على الشرع. قوله : ( وكانا لا يريانها الخ ) بيان لكونها مغطاة عنهما وجمع العورات على حد صغت قلوبكما. قوله : ( وإنما لم تقلب الواو المضمومة الخ ) ووري بواوين ماضي واري
المجهول كضارب وضورب أبدلت ألفه واواً قالوا والأولى فاء الكلمة والثانية زائدة وقرئ أورى بالهمزة لأنّ القاعدة إذا اجتمع واوان في أول كلمة فإن تحركت الثانية أو كان لها نظير متحرّك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفاً مثال الأوّل أو يصل وأواصل في تصغير واصل وتكسيره ، ومثال الثاني أولى أصله وولى فأبدلت لما تحركت الثانية في الجمع وهو أول فإن لم تتحرّك بالفعل أو القوّة جاز الإبدال كما هنا ، كذا قرّره النحاة فلا وجه لتردّد النحرير فيه : ومعنى المواراة الستر ، وقرئ سوأتهما بالإفراد والهمز على الأصل وبإبدال الهمزة واواً وإدغامها ، وقرئ بالجمع على الأصل وبطرح حركة الهمزة على ما قبلها وحذفها وبقلبها واواً وادغامها ، وهي إمّا من وضع الجمع موضع التثنية أو لإدخال الدبر في السوأة وقوله وبقلبها أي قرئ بقلب الهمزة واوا وادغامها فيصير اللفظ سوّآتهما بتشديد الواو فليس في كلامه خلل كما توهم. قوله : ( 1!راهة أن تكونا ) يعني أنه استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفي ليكون علة كما عرف في أمثاله ، وأمّا عدم التقدير على أنه سبب بعيد فخلاف الظاهر المشهور. قوله : ( الذين لا يموتون أو يخلدون الخ ) أي المراد من الخلود عدم الموت اصلا أو الخلود العارض بعد الموت بدخول الجنة ، واستدل بهذه الآية على فضل الملائكة على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وفي الكشاف على البشر ووجهه أنه لما قال : أن تصير ملكا أو تكون في مرتبة الملك كما لا قرّر ذلك ولم ينكر عليه وأبضاً ارتكب آدم عليه الصلاة والسلام المنهي عنه طمعا في ذلك ، فلولا أنه أفضل لم يرتكبه فليس الاسندلال بمجرّد قول إبليس وإنما قال الزمخشريّ على البشر لأنه لم يكن نبياً في الجنة والمصنف رحمه الله تعالى نظر إلى ما يؤول إليه. قوله : ( وجوابه الخ ) هو ظاهر لأنه قد يكون في المفضول ما ليس في الفاضل فلا ي!ل على التفضيل من كل الوجوه ، وأيضا إن رغبتهما كانت في الخلود فقط وقيل على قوله إنّ الحقائق لا تنقلب إنه لا مانع منه عند الأشاعرة لتجانس الأجسام فإما أن يكون هذا مختاره أو إلزاما لهم على مذهبهم فتأمّل. قوله : ( وأخرجه على رنة المفاعلة الخ ا لما كان القسم من جانب واحد ، والمفاعلة تقتضي صدوره من الجانبين قيل إنه بمعنى أقسم وإنما عبر بالمفاعلة للمبالغة لأنّ من يباري أحداً في فعل يجد فيه فاستعمل في لازمه ، أو أنه وقع من الجانبين ولكنه اختلف متعلقه فهو أقسم على النصح وهما على القبول ، وفي الانتصاف في إنما يتم لو لم يذكر المقسم عليه ، وهو النصيحة أمّا إذا ذكر فلا يتم إلا إذا سمي(4/157)
ج4ص158
قبول النصح نصحاً لمقابلته له كما قيل في وواعدنا موسى أو أنه تجوز المفاعلة ، وان لم يتحد المتعلق لكن كونه
حقيقة بعيد. قوله : ( وقيل أقسماً الخ ) قيل فيكون فيه لف لأنّ آدم وحواء لا يقسمان بلفظ التكلم بل بلفظ الخطاب ، وقيل إنه إلى التغليب أقرب ، وقيل إنه لا حاجة إليه بأن يكون المعنى حلفا عليه بأن يقول لهما إني لكما لمن الناصحين. قوله : ( فنزلهما الخ ) أي أنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبه المعصية بسبب تغريرهما بقسمه من دلي الدلو في البئر ، وعن الأزهريّ أنّ معناه أطمعهما وأصله من تدلية العطشان شيئا من البئر فلا يجد فيها ما يشفي غليله وقيل من الدلّ وهو الجراءة أي فجرّأهما كما قال :
أظن الحلم دلّ عليّ قومي وقد!جيل الرجل الحليم
فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء. قوله : ) بما غرّهما به من القسم الخ ( يعني الباء للمصاحبة أو الملابسة وهو حال من الفاعل أو المفعول ولا حاجة إلى جعل الغرور مجازا عن القسم لأنه سبب له كما قيل. قوله : ( فلما وجدا طعمهما آخذين في ا!ل الخ ا لما كان الذوق وجود الطعم بالفم وقد يعبر به عن ا!ل اليسير فسره بهذا لأنه وقع في آية أخرى مصرحاً بالأكل فيها ، والتهافت التساقط ويخص بما يكره ، والسنبلة من الحنطة معروفة ، وقوله : ( ظفرا ) أي شيئا كالظفر ساتراً لبدنهما. قوله : ) أخذا يرقعان الخ ( إشارة إلى أنّ طفق من أفعال الشروع الدالة على الأخذ في الفعل ، ولذا لا تدخل أن على خبرها وهي بكسر الفاء في الأفصح وقد تفتح واً صل معنى الخصف الخرز في طاقات النعال ، ونحوها بإلصاق بعضها ببعض فالمراد يلصقان بها ، ولهذه القصة عنى العباس رضي الله عنه الجنة في قوله يمدح النبيّ يرو :
من قبلهاطبت في الظلال وفي مستوح حيث يخصف الورق
والمعنى يخصفان على سوآتهما ، أو على بدنهما لما تقرّر في العربية أنه لا يتعدى فعل الظاهر أو المضمر إلى ضميره بواسطة أو بدونها فأما أن يكون في الكلام مضاف مقدر أو يكون ضمير عليهما عائدا على السوأتين كما قاله أبو حيان. قوله : ( وقرئ يخصفان من أخصف أي
يخصفان أنفسهما ) قال الجاربردي لما نقل خصف إلى أخصف للتعدية ضمن الفعل معنى التصيير فصار الفاعل في المعنى مفعولاً لتصيير فاعلاً لأصل الفعل فيكون التقدير يخصفان أنفسهما عليهما من ورق الجنة فحذف مفعول التصيير ومن للتبعيض اهـ وقد جوز فيه أن يكون خصف وأخصف بمعنى ، ويخصفان من خصف المشدد بفتح الخاء على الأصل ، وقد ضمت اتباعا للياء وهي قراءة عسرة النطق ، ويخصفان بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد من الافتعال وأصله يختصفان سكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين ونظيره يهدي ، ويخصمون وفتح الخاء يعقوب رحمه الله. قوله : ( عتاب على مخالفة النهي ) هو من قوله ألم أنهكما وتوبيخ على الاغترار بقول العدوّ من توله وأقل لكما إنّ الشيطان الخ وقوله : ( وفيه دليل على أنّ مطلق النهي للتحريم ) أي النهي إذا ورد مطلقا من غير تقييد بتحريم صريحا أو تلويحا يدل على ذلك كقوله أنهكما هنا إذ لم يقل نهي تحريم ، والدليل على إرادة التحريم منه اللوم الشديد عليه وندمهما واستغفارهما من ذلك فلذلك استدل به على عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والصحيح خلافه ، وقد أجاب المصنف رحمه الله عنه في البقرة بأنه للتنزبه وأنّ ندمهما واستغفارهما لترك الأولى فكيف ذكر هنا أنه دليل على التحريم مع احتمال التنزيه ، والجواب عنه أنه لم يقل النهي للتحريم بل مطلق النهي وهو ما لم يكن معه قرينة حالية أو مقالية تدل على خلافه ، ولذا قيل إنّ قوله وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدوّ مبين مقارن للنهي فليس مطلقا. قوله : ( وإن لم تففر لنا الآية ) هذا شرط حذف جوابه لدلالة جواب القسم المقدر عليه فإن قبل حرف الشرط لام توطئة مقدرة كما في قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ سورة المائدة ، الآية : 73 ] ويدل على ذلك ورود لام التوطئة قبل أداة الشرط في كلامهم كذا قاله المعرب ومنه يعلم أنّ قول المصنفين في تراكيبهم والا لكان كذا كلام صحيح لأنّ لام التوطئة يطرد حذفها فلا عبرة بما قيل إنه خطأ فتأمل. قوله : ( دليل على أن الصغائر الخ ) قيل عليه إنه يحتمل أن يكون قول آدم صلى الله عليه وسلم مبنياً على ظن أنّ ما فعله كبيرة كما يوهمه ظاهر المؤاخذة فلا دلالة فيه على ما ذكر.
( قلت ) الفرق بيته وبين ما ذكره(4/158)
ج4ص159
المصنف رحمه الله يسير فهو كالصيد من المقلي فتدبر. قوله : ( الخطاب لآدم وحواء وفوّيتهما الخ ) هذا على عادته كصاحب الكشاف إنه إذا كان في
النظم تفاسير أو احتمالات ذكر بعضها في موضع ، وبعضها في آخر مع التنبيه على المختار وتركه فلا يرد عليه إنه قال في سورة البقرة إن الخطاب لآدم وحواء لقوله فاهبطا ، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر فكأنهم هم ، ولك أن تقول هو عين ما ذكر لأنّ ذريتهم لم تكن موجودة حال الخطاب فتامّل ، وقوله : ( وكرّر الخ ) يعني إبليس أخرج أولاً وأمره هنا ثانيا إشارة إلى عدم انفكاكه عن جنسهما في الدنيا ، وقد قيل إنه أخرج منها ثانيا بعدما كان يدخلها للوسوسة أو من السماء ، وقوله : ( أو اخبر الخ ( حاصله أنّ الأمر وقع مفرقا وهذا نقل له بالمعنى واجمال له. توله : ( في موقع الحال أي متعادين ) قد مرّ تفصيله في قوله أو هم قائلون ، وقد قيل عليه إنه ينافي ما سبق من قوله وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث لا يقال هنا أوّل الجملة بمفرد حيث قال : أي متعادين كما أن قولهم كلمته فوه إلى فيّ في معنى مشافها ، فلا يحتاج إلى الواو ، لأنا نقول لو صح هذا التأويل لجرى في جميع الجمل الاسمية فيقال هم قائلون في تقدير قائلين ، وهو فارس في تقدير فارسا فالوجه أن يحمل قوله بعضكم لبعض عدوّ على الاستئناف كأنهم لما أمروا بالهبوط سألوا كيف يكون حالنا فأجيبوا بأنّ بعضكم لبعض عدوّ ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين ، ورد كما مرّ تحقيقه بأنه إشارةءلى تنزيل الجملة الاسمية الحالية منزلة المفرد ليحسن ترك الواو وفسر المعاداة على وجه لا يوهم معاداة آدم عليه الصلاة والسلام لحواء ، وبالعكس وليس كقولك جاءني زيد وهو فارس في معنى جاءني فارسأ لما أشار إليه الثيخ عبد القاهر من الفرق بين جاء زيد كذلك ، وجاء وهو كذلك بأنّ لهذا نوع ابتداء واستئناف ( قلت ) هو كما قال : وقد فصله السبكيّ في أشباهه ، وقال : إنّ المفرد يقتضي تجذد المقارنة والجملة لا تقتضي ذلك فكأنه استئناف لبيان ما هو عليه من الحال فلو قال لله عليّ أن أعتكف وأنا صائم أو صائما وفي نذره في الأولى بالاعتكاف في رمضان بخلاف الثاني وقد ذكره النحرير : هنا بطريق البحث وهو مما صرّح به غيره ولشيخ مشايخنا ابن قاسم فيه بحث ، وقوله استقرار الخ أي هو مصدر ميمي أو اسم مكان كما مرّ. قوله : ( إلى تقضي آجالكم ) وفي البقرة تفسيره بالقيامة أيضا لأنه متعلق بما تعلق به الظرف الواقع خبرا فإن نظر إلى كونه مستقرا كانت الغاية القيامة وان نظر إلى التمتع أو المجموع كانت الموت ، ويجوز اعتبار كل منهما على كلا الوجهين وقد مرّ تحقيقه هناك. قوله : ( وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان ومنها تخرجون ) بفتح التاء وضم الراء هنا وفي الزخرف قرئت في مواضع مبنية للفاعل ، وفي أخرى للمفعول وتفصيله في كتب القراآت ، وفي الدر المصون فائدة هنا في قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ سورة الأعراف ، الآية : 23 ] إنه حذف حرف النداء لتعظيم المنادى وتنزيهه قال مكيّ :
كثر نداء الرب بحذف يا منه في القرآن وعلة ذلك أنّ في حذف يا من نداء الرب معنى التعظيم والتنزبه ، وذلك أنّ النداء فيه طرف من معنى الأمر لأنك إذا قلت يا زيد فمعناه تعال فحذفت لتزول صورة الأمر وهذه نكتة جليلة. قوله : ( أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية الخ ) قال ابن فارس في فقه اللغة الضاحي معناه خلقنا لأنّ الأنعام لا تقوم إلا بالنبات ، والنبات لا يقوم إلا بالماء والله تعالى ينزل الماء من السماء ، ومثله : { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } [ سورة الأعراف ، الآية : 26 ] وهو تعالى إنما أنزل الماء لكن اللباس من القطن ، وهو لا يكون إلا بالماء ا! وهذا التفسير منقول عن الحسن رحمه الله وما ذكره هنا هو حاصل ما قال في سورة الزمر في تفسير قوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ سورة الزمر ، الآية : 6 ] وقضى أو قسم لكم فإنّ قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ أو أحدث لكم بأسباب نازلة منها كأشعة الكواكب والأمطار اهـ ، والتجوز الظاهر أنه في المسند ، ويحتمل أن يكون في اللباس أو الإسناد ويواري ترشيح في بعضها وقوله التي قصد الشيطان الخ يريد أن إبداء سوآتهما موجب لإبداء سوآتنا فهو كالقاصد لذلك ولو لم يخلق الله اللباس لتحقق ما أراده ، وقوله : ( روي أنّ العرب الخ ) أخرجه المحدثون وهو في صجح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقيل إنهم كانوا يفعلونه تفاؤلاً(4/159)
ج4ص160
بالتعرّي عن الذنوب والآثام ، وفي السير أنهم كانوا يلبسون ثياب قريش فمن لم يجدها طاف عريانا. قوله : ( ولباساً تتجملون به الخ ) فعطفه إمّا من عطف الصفات فوصف اللباس بثيئين مواراة السوأة والزينة فالريش بمعنى الزينة لأنه زينة الطير فاستعير منه ويحتمل أنه من عطف الشيء على غيره أي أنزلنا لباسين لباص مواراة ولباس زينة فيكون مما حذف فيه الموصوف أي لباساً ريشاً أي ذا ريش والريش مشترك بين الاسم والمصدر ، وقرئ رياشا وهو مصدر كاللباس أو جمع رائش. قوله : ) خثية الله الخ ) ففي الوجهين الأوّلين مجازاً ومشاكلة وفي الأخير حقيقة. قوله : ( ورفعه بالابتداء وخبره ذلك خير ) أي الجملة خبره والرابط اسم الإشارة لأنه يكون رابطا كالضمير أو خير خبر ، وذلك صفة لباس
التقوى كما قاله الزمخشري : وقد سبقه إليه الزجاج وابن الأنباري وغيره ، واعترض عليه الحوفي بأن الأسماء المبهمة أعرف من المعرف باللام ومما أضيف إليه ، والنعت لا بد أن يساوي المنعوت في رتبة التعريف أو يكون أقل منه ولا يجوز أن يكون أعرف منه كما صرّح به النحاة ، فلذا قيل إنه بدل أو بيان لا نعت ، وأجاب عنه المعرب بأنه غير متفق عليه فإنّ تعريف اسم الإشارة لكونه بالإشارة الحسية الخارجية عن الوضع قيل إنه أنقص من ذي اللام ، والمصنف رحمه الله أشار إلى جواب وهو أنه بمعنى المعرف باللام فيكون في مرتبته ، وقد قيل إنّ ال موصولة فتتساوى رتبتهما وفيه نظر ، وقد قيل إنّ ذلك لا محل له من الإعراب وهو فصل كالضمير ، وهو غريب قيل لم يسبق إليه وقد سبقه له أبو عليّ في الحجة والإشارة بالبعيد للتعظيم بتنزيل البعد الرتبي منزلة الحسيّ ، ثم إن كانت الإشارة للباس المواري فلباس التقوى حقيقة والإضافة لأدنى ملابسة وإن كانت للباس التقوى فهو استعارة مكنية وتخييلية بأن يتوهم للتقوى حالة شبيهة باللباس تشتمل على جميع بدنه بحسب الورع والخشية من الله اشتمال اللباس على اللابس ليست حال خارجية بل صورة وهمية كما في قوله تعالى : { فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } أسورة النحل ، الآية : 112 ] قاله العلامة : أو من قبيل لجين الماء وعلى قراءة النصب يكون اللباس المنزل ثلاثة أو يفسر لباس التقوى بلباس الحرب فقط أو يجعل الإنزال مشاكلة فتأمّل. قوله : ( أي إنزال اللباس ) المتقدم كله أو الأخير لقربه وقوله فيعرفون عطف على يذكرون ويتعظون عطف عليه ويتورّعون مفرّع على يتعظون أو فيعرفون تفريع على يذكرون مشاراً إلى يرفعه فقوله فيتورّعون تفريع على يتعظون في مقابلة فيعرفون نعمته فتأئل ، وقوله الدالة على فضله ورحمته إشارة إلى أنّ الآيات هنا بمعنى الأدلة. قوله : ( لا يمحننكم ) تقدم أنّ الفتنة معناها التخليص من الغش وأنها تطلق على الابتلاء والإضلال ، وهو المراد وهذا نهي للشيطان في الصورة والمراد نهي المخاطبين عن متابعته وفعل ما يقود إلى فتنته كما تقدم تحقيقه في قوله : { فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } [ سورة الأعراف ، الآية : 2 ] والقراءة المشهورة بفتح حرف المضارعة وقرئ بضمها من أفتنة حمله على الفتنة وقرئ بغير توكيد أيضا. قوله : ( كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها الخ ) يعني أنّ قوله كما أخرج وضعموضع كما فتن وضعاً للسبب موضحع المسبب أي أوقعهما في المحن والبلاء بسبب الإخراج ويجوز أن يكون التقدير لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم ولا منافاة بين كون الهبوط عقاباً على تلك الزلة وكونه لجعله خليفة لأنّ من العقاب ما يترتب عليه
الأنعام فتأمّل. قوله : ( حال من أبويكم أو من فاعل أخرج ا لاشتماله على ضميريهما وكل منهما صحيح معنى والصناعة مساعدة عليه ولفظ المضارع قالوا إنه لحكاية الحال الماضية لأنها قد تقضت وانقطعت ، وردّ بأنه ليس على حكاية الحال الماضية على ما توهم وان كان الأمر كذلك يعني أنه يقارن الإخراج في البقاء ، وهو كاف في مقارنة الحال لعاملها وليس بوارد لأن النزع السلب وهو ماض بالنسبة إلى الإخراج وإنما الباقي عريهما والإسناد إليه مجازي لكونه سببا في ذلك إذ لم ينزعه عنهما وهو ظاهر ، وقوله : ( تعليل للنهي ) كما هو معروف في الجملة المصدرة بأنّ في أمثاله ، وتأكيد للتحذير لأنّ العدوّ إذا أتى من حيث لا يرى كان أشد وأخوف. قوله : ( ورؤيتهم إيانا الخ ) ردّ على الزمخشري وغيره من المعتزلة المنكرين لرؤية الجن لرقة أجسامهم ولطافتها(4/160)
ج4ص161
لمان كانوا يروننا لكثافة أجسامنا ، وقد ثبتت رؤيتهم بالأحاديث الصحيحة المشهورة وهي لا تعارض نص القرآن هنا كما قالوا لأنّ المنفيّ فيه رؤيتهم إذا لم يتمثلوا لنا كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى ، وهو تأكيد للضمير المستتر ، وقبيله في قراءة الرفع معطوف عليه لا على البارز لأنه لا يصح للتأكيد ، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ولا حاجة إلى القول بأنه عطف على محل اسم أنّ ، وعلى قراءة النصب فهو عطف على اسم إن والضمير لا يلبس لا للشأن كما في الكشاف لأنه لا يصح العطف عليه ولا يتبع بتابع ، أو الواو واو مع ، والقبيل الجماعة ، فإن كانوا من أب واحد فهم قبيلة ، ومن لابتداء الغاية وحيث ظرف لمكان انتفاء الرؤية وجملة لا ترونهم في محل جرّ بالإضافة ، ونقل عن أبي إسحاق أنّ حيث موصولة وما بعدها صلة لها ورده أبو عليّ الفارسيّ بأنه لم يقل به أحد غيره إلا أن يريد أنه كالموصول والصلة وهذه القضية عامّة مطلقة لا دائمة فلا تدل على ما ذكره المعتزلة. قوله : ( بما أوجدنا بينهم الخ ) أي الموالاة عبارة عما يتسبب عن هذا إذ لا موالاة بينهم حقيقة ، وقوله مقصود القصة أي السابقة على هذه فهي جملة مستأنفة ويجوز أن يقصد بها التعليل أيضا والفذلكة الإجمال كما مرّ. قوله : ( اعتذروا واحتجوا الخ ) أعرض عن الأوّل لأنه غنيّ عن الرذ والمراد أعرض! عن التصريح بردّه ، والا فقوله إنّ الله لا يأمر بالفحشاء متضمن لرذه لأنه إذا أمر بمحاسن الأفعال فكيف يترك أمره لمجرّد اتباع الآباء فيما هو قبيح عقلا فلا ينافي هذا قوله فيما سيأتي وعلى الوجهين يمتنع التقليد ، وقال الإمام ة لم يذكر جوابا عن حجتهم الأولى لأنها
إشارة إلى محض التقليد ، وقد تقرّر في المعقول إنه طريقة فاسدة لأنّ التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد حقا لزم القول بحقية الأديان المتناقضة فلما كان فساده ظاهراً لم يذكره الله. قوله : ( لأنّ عادته سبحانه وتعالى جرت الخ ) أي عادة الله جرت على الأمر بمحاسنها وهو اللاق بالحكمة المقتضية أن لا يتخلف فلا يتوهم أنه لا يستلزم نفي أمره بالفحشاء حتى يتم الاستدلال فالأولى أن يقول وعادته جرت الخ ، وقوله : ( ولا دلالة الخ ) يعني لا دلالة على القبح العقلي بالمعنى المتنازع فيه ، وهو كون الشيء متعلق الذمّ قبل ورود النهي عنه بل بمعنى نفرة الطبع السليم ولا نزاع فيه كما حقق في الأصول ، وقوله والله أمرنا بها أي أمر آباءنا ففيه مضاف مقدر فلا يقال الظاهر أمرهم بها والعدول عن الظاهر إشارة إلى ادّعاء أنّ أمر آبائهم أمر لهم. قوله : ( وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل الخ ) أي على تقدير كونه جوابا أو جوابين أما على الأوّل فلأنهم قلدوهم فيما أمر الله بخلافه وكذا على الثاني ، فلا دلالة في الآية على المنع من التقليد مطلقا ، ولا على عدم صحة إيمان انمقلد. قوله : ( إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله تعالى ) لأنّ الافتراء تعمد الكذب فإذا أنكر القول من غير علم فإنكار ما علم خلافه يثبت بالطريق الأولى والإنكار إمّا بمعنى إنه لا ينبغي ذلك أو لم يكن والأوّل ظاهر والظاهر المراد منه النهي عنه ، ولا دليل في الآية لمن نفى القياس بناء على أنّ ما يثبت به مظنون لا معلوم ، لأنه مخصوص من عمومها بإجماع الصحابة ، ومن يعتد به أو بدليل آخر ، وقيل المراد بالعلم ما يشمل الظن وتفصيله في الأصول. قوله : ( بالعدل الخ ) تفسير للقسط ومنه القسطاس للميزان ، وقوله : وتوجهوا إلى عبادته أي إقامة الوجه كناية عن التوجه إليه دون غيره. قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ } فيه وجهان فقيل إنه معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع إن أي بأن اقسطوا ، والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر كما نقله المعرب ، وقول الزمشخريّ : وقل أقيموا وجوهكم أي اقصدوا عبادته يحتمل أنّ قل مقدر غير الملفوظ به فيكون أقيموا مقولاً له ، وأن يكون معطوفا على أمر ربي المقول لقل الملفوظ بها ، وقال النحرير : قدره لأنه لو عطف على أمر ربي لكان ظاهره عطف الإنشاء على الخبر وان كان
على سبيل الحكاية وتأويل مثله شائع ، ولو لم يقدّر لا وهم أنّ مقول قل هو مجموع أمر ربي وأقيموا وفيه نظر ، ويجوز أن يكون معطوفا على محذوف تقديره قل اقبلوا وأقيموا ، وتال الجرجاني : الأمر معطوف على الخبر ، لأنّ المقصود لفظه ، أو لأنه إنشاء معنى. قوله : ( في وقت كل سجود أو مكانه الخ ) يعني أنّ مسجداً هنا يحتمل أن يكون مكانا أو زمانا(4/161)
ج4ص162
وكان من حق مسجد فتح العين لضمها في المضارع ، وله أخوات في الشذوذ مذكورة في التصريف ويحتمل أنه إشارة إلى أنه مصدر ميمي ، والوقت مقدر أو اسم مكان كني به عن الصلاة واليه الإشارة بقوله وهو الصلاة ، وقيل : إنه إشارة إلى أنّ عند بمعنى في والمسجد اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي وهو أي السجود على الوجهين مجاز عن الصلاة لا إلى أنه مصدر ميمي والوقت مقدر قبله كما توهم. قوله : ( أو في أيّ مسجد حضرتكم الصلاة الخ ) عطف على قوله في كل وقت سجود والمسجد بالمعنى المصطلح ، ففيه ثلاثة وجوه ويكون الأمر للوجوب على الأوّلين وللندب على الثالث وهو لا يناسب المقام ، وقوله واعبدوه إشارة إلى أنّ الدعاء بمعنى العبادة لتضمنها له ، والدين بمعناه اللغوي وهو الطاعة ، وقوله فإنّ إليه مصيركم أي رجوعكم مأخوذ من قوله تعودون بعده وبيان لارتباطه به وأنه مذكور للتعليل. قوله : ( كما أنشثم ابتداء تعودون بإعادته الخ ) إنما قال تعودون ولم يقل نعيدكم إشارة إلى أنّ الإعادة دون البدء من غير مادّة ولذا فسر بدأكم بأنشأكم حتى كأنه عاد بنفسه بحيث لو تصوّر الاستغناء عن الفاعل لكان في الإعادة دون البدء فهو كقوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ سورة الروم ، الآية : 27 ] سواء كانت الإعادة الإيجاد بعد الإعدام بالكلية أو بجمع متفرّق الأجزاء ، وقول المصنف باعادته بيان للواقع ورتب المجازاة عليه إشارة إلى أنه المقصود من ذلك ليرتبط بما قبله وما بعده. قوله : ( وإنما شبه الإعادة بالإبداء الخ ) وجه التقرير والتحقيق ما مر من أنّ الإعادة بالنسبة إلى المخلوقين أسهل من الإبداء فذكر على المتعارف ، وغر لا بغين معجمة وراء مهملة تقدم معناه. قوله : ( وقيل كما بدكم مؤمناً وكافرا ) هذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما فيكون كقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ } ويكون ما بعده تفسيراً وتفصيلا له ، قيل وهو أنسب بالسياق لأنهم أمرهم بالإخلاص وأشار إلى أنه لا يتيسر له ذلك إلا من قدر له السعادة فإنه قضى بالسعادة والشقاوة ، وتوله مؤمناً وكافراً فيه تسمح أي فريقاً مؤمنا وفريقاً كافراً والمعنى خلقكم منقسمين إلى ذلك. قوله : ( بمقتضى القضاء السابق الخ ( أي بينت الهداية
والضلالة بمقتضى القضاء الأزلي ، وهو عندنا إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على ها هي عليه فيما لا يزال ، وعند الفلاسفة علمه بما ينبغي أن تكون عليه الأشياء وعدل عن تفسير الزمخشريّ فإنهم ينكرون القضاء في أفعال العباد الاختياربة ويثبتون علمه بها وتحقيقه في أصول الدين. قوله : ( وانتصابه بفعل يفسره ما بعده ) أي انتصاب فريقا الثاني وانتصاب الأوّل بهدي وقدّم عليه للتخصيص فالمناسب تقدير العامل في الثاني مؤخرا أيضاً والجملتان حال بتقدير قد أو مستأنفة ، ويجوز نصبهما على الحال من ضمير تعودون والجملتان بعدهما صفتان لهما ويؤيده قراءة أبيّ رضي الله عنه تعودون فريقين فريقاً هدي وفريقا الخ والمنصوب بدل أو منصوب بأعني مقدراً. قوله : ( أي وخذل ) تبع فيه الزمخشريّ وقد قيل عليه لا ضرورة في تفسير الهداية بالتوفيق للإيمان ، وأما جعل المضمر المفسر خذل دون أضل مع أنه الظاهر الملائم لهدي وحقت عليهم الضلالة فاعتزال ، ولك أن تقول أنّ المصنف رحمه الله لم يرد ما قصده الزمخشريّ فإن التوفيق للإيمان هداية ومن أضله الله فهو مخذوف والخذلان ترك النصر فلما اتخذوا الشياطين أولياء يستندون إليهم وكلهم الله إليهم ولم ينصرهم ، وإنما فسره به لدلالة ما بعده عليه فتأمّله. قوله : ( تعليل لخذلانهم ) إشارة إلى ما حققناه ، ويؤيده أنه قرئ إنهم بالفتح وهي نص في التعليل فلذا اختاره المصنف رحمه الله ، وقوله : ( أو تحقيق لضلالهم ( أي تأكيد له لأنّ الخذلان يستلزم الضلالة والجملة مستأنفة ولم يسند الإضلال إليه تعالى وان كان هو الفاعل له تعليماً للأدب. قوله : ( يدل على أنّ الكاقر المخطئ الخ ) وجه الدلالة أنه ذكر أوّلاً من وإلى الشياطين عادلاً عن الله وهم المعاندون ثم ذمّ من ظن منهم أنّ ما هو عليه حق وهدى ، وهو المخطئ ، فلا يرد عليه أنّ من حسب أنه مهتد كيف يكون معاندا فيتكلف جوابه ، وقيل إن من حقت عليه الضلالة في مقابلة من هداه الله وهو شامل للمعاند والمخطئ فقوله ويحسبون الخ من قبيل بنو فلان قتلوا قتيلاً. قوله : ( وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر ) قيل(4/162)
ج4ص163
إنّ معناه أنّ من فرق بين الكافر المخطئ والمعاند في استحقاق الذمّ بقول المراد بالضمير في أنهم اتخذوا الكافر المقصر في النظر وهم الذين حق عليهم الضلالة وأما الذين اجتهدوا وبذلوا الوسع فمعذورون كما هو مذهب البعض ، وقيل إنه يعني أنه يحمل قوله ويحسبون على المقصر في النظر تقليدا صرفا غير مبالغ في النظر فإنّ خلافه ليس إلا المجتهد المبالغ فيه ، وفيه إن الاختلاف إنما هو في خلوده في النار ، وفي استلزام الذمّ المذكور إياه فليحرّر. قوله : ( ثيابكم لمواراة عورتكم ) وفي نسخة عوراتكم بالجمع يعني المراد بالزينة ما يستر العورة لأنه
اللازم المأمور به ، ولذا قال ومن السنة بيانا لوجه تفسيره به دون لباس التجمل المتبادر منه لأنّ المستفاد من خذوا هو وجوب الأخذ ولباس التجمل مسنون ، ولا يصح أن يكون مراده أن هذا الأمر يحتمل الندب لأنّ قوله وفيه دليل الخ ينافيه ، وقيل إنّ الآية لما دلت على وجوب أخذ الزينة بستر العورة في الصلاة فهم منها في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال فيها ولهذا قال : ومن السنة الخ وهذا يؤخذ من تعبيره بالزينة ، وقوله : عند كل مسجد لا يأتي على الحمل على وجوب المواراة عند الطواف لأنه مخصوص بالمسجد الحرام حتى يحمل عمومه على كل بقعة منه كما قيل وقوله روي الخ بيان لوجه ذكر الأكل والشرب هنا ، وقوله بتحريم الحلال هو المناسب لسبب النزول المذكور فالإسراف تجاوز عن الحد مطلقا سواء كان في فعل أو ترك والشره بالراء المهملة الحرص. قوله : ( وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخ ( حديث صحيح أخرجه ابن أبي شيبة وغيره ، وقوله كل ما شئت والبس ما شئت أي مما هو حلال وهذا لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء إنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس كما قيل :
نصيحة نصب قالت بها ا!ياس
كل ما اوثم!تهيت والبسن ها تثتهيه ا!اس
فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس وهذا الإباحة كل ما اعتادوه ، والمخيلة الكبر وما دوامية زمانية ، وأخطأتك من قولهم أخطأ فلان كذا إذا عدمه ، وفي الأساس من المجاز لن يخطئك ما كتب لك ، وأخطأ المطر الأرض لم يصبها وتخطأت النبل تجاوزته. قوله : ( قد جمع الله الطب في نصف آية الخ ) في الكشاف يحكي أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعليّ بن الحسين بن واقد رضي الله عنهم ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه قال وما هي قال
قوله تعالى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } فقال النصراني ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب فقال قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم في ألفاظ يسيرة قال وما هي قال قوله صلى الله عليه وسلم : " المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأعط كل بدن ما عوّدته " فقال النصراني ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا وترك المصنف رحمه الله تمام القصة لأنّ في ثبوت هذا الحديث كلاما للمحدّثين وفي شعب الإيمان للبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم " وقد شرحه الطيبي فإن أردته فراجعه وفسر المحبة بالارتضاء لما مرّ وقوله من النبات الخ عمم في تفسيره لأنّ تخصيصه يغني عنه ما مرّ والمستلذات تفسير للطيبات وفسرت بالحلال أيضا ، وقوله من المآكل والمشارب تفسير للرزق وكون الأصل في الأشياء الحل أو الحرمة مما اختلف فيه في أصول الفقه ووجه الدلالة ظاهر وقوله للإنكار أي لإنكار تحريمها على وجه بليغ لأنّ إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه. قوله : ( والكفرة و! ! شاركوهم الخ ) بيان لوجه الاختصاص المستفاد من اللام مع أنها أحلت للكفرة أيضاً كما يدل عليه خالصة يوم القيامة فإنه يشعر بالمشاركة في الدنيا ، وقيل إنه متعلق بآمنوا فلا يحتاج إلى توجيه. قوله : ( وانتصابها على الحال الخ ) هو حال من الضمير المستتر في الجارّ والمجرور والعامل فيه متعلقه ، وعلى قراءة الرفع هو خبر بعد خبر أو هو الخبر وللذين متعلق به قدم لتأكيد الخلوص ، والاختصاص وقوله كتفصيلنا الخ ويجوز أن يكون على حدّ قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أسورة البفرة ، الآية : 143 ] كما مرّ تحقيقه. قوله :(4/163)
ج4ص164
( ما تزايد قبحه الخ ) يعني الفحش زيادة القبح وما يتعلق بالفروج هو الزنا أو يعمّ الملامسة والمعانقة ، وقوله : جهرها وسرّها روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يكرهون الزنا علانية ويفعلونه سرّاً فنهاهم الله مطلقاً ، وقال الضحاك : ما ظهر الخمر وما بطن الزنا ، وقيل الفواحش الكبائر مطلقاً. قوله : ( وما يوجب الإثم تعميم بعد تخصيص وقيل شرب الخمر ) أصل معنى الإثم الذم فأطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب وذكره للتعميم بعد التخصيص بما مرّ من معنى الفواحش ، وقيل إن الإثم هو الخمر قال الثاعر :
نهانا ريسول الله أن نقر الزنا وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا
وهو منقول عن ابن عباس رضمي الله عنهما والحسن البصري ، وذكره أهل اللغة
كالأصمعي وغيره قال! الحسن : ويصدّقه قوله تعالى : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ سورة البقرة ، الآية : 219 ] وقال ابن الأنباري : لم تسم العرب الخمر إثما في جاهلية ولا إسلام والشعر المذكور موضوع ، وردّ بأنه مجاز لأنها سببه ، وقال أبو حيان رحمه الله : إنّ هذا لتفسير غير صحيح هنا أيضا لأن السورة مكية ، ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وقد سبقه إلى هذا غيره وأيضا الحصر حيحئذ يحتاج إلى التأويل. قوله : ( الظلم أو الكبر ) أفرده بالذكر للمبالغة بناء على التعميم فيما قبله أو دخوله في الفواحش لأن تخصيصه بالذكر يقتضي أنه تميز من بينها حتى عد نوعا مستقلاً. قوله : ( متعلق بالبني مؤكد له ا لأن البغي لا يكون إلا بغير حق أو حال مؤكدة لأن الحال يتعلق معناها بصاحبها لأنها صفة معنى وقوله معنى راجع إلى قوله مؤكد ، ويصح صرفه لما قبله من التعلق والتأكيد. قوله : ( تهكم بالمشركين الخ ا لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره ، قيل في الانتصاف قياسه أن يكون كقوله :
على لا حب لا يهتدي بمناره
( قلت ) هذا هو الحق لأن المعنى حرّم ربي أن يشركوا به شركاء لا ثبوت لها وما أنزل الله لإشراكها سلطاناً فبالغ في نفي الشريك بنفي لازمه لينتفي ملزومه بالطريق البرهاني ، ا هـ ورد بأنّ التهكم إنما جاء من حيث إنه يوهم أنه لو كان عليه سلطان لم يكن محرّما دلالة على تقليدهم في الغي والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على الوجه الأبلغ على أسلوب ولا ترى الضب بها ينحجر.
كما صرّحوا به في تفسير قوله تعالى : { بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } [ سورة آل عمران ، الآية : 51 ا ] ومنه يظهر أن لا منع من الجمع يعني بين التهكم والأسلوب المذكور كما توهمه ذلك القائل ومنه تعلم أن الكلام التهكمي لا يلزم أن يكون من استعارة التضادّ كما توهم ، وفي قوله وتنبيه نظر. قوله : ( بالإلحاد في صفاته ) أي العدول عما وصف به من الوحدة إلى غيره من اتخاذ الشريك كما يدل عليه ما قبله. قوله : ( مدّة أو وقت لنزول العذاب الخ ) أي الأجل المدة المعينة للشيء كالدين والموت وآخر تلك المدة وقد اشتهر في المدة المضروبة لحياة الإنسان والمراد هنا مدة أمهلوها لنزول العذاب أو وقت نزوله المعين له ، كما نقل عن الحسن وابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل ، وذهب بعضهم إلى أنه وقت الموت والتقدير ولكل أحد من أمّة وعلى الأول لا حاجة إلى تقدير فيه لأن المراد لكل أمة زمان معين
لإهلاكهم وانقراضهم فإنه ليس المراد بالأجل فيه العمر والا لقال لكل واحد بل أجل عذاب الاستثصال فإنه تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين إذا جاء ذلك الوقت نزل بهم العذاب ، ولذلك تال إنه وعيد لأهل مكة ، وقال ابن جني : قراءة الجمع على الظاهر لأن لكل إنسان أجلاً وأما إفراده فلقصد الجنسية والجنس من قبيل المصدر وأيضا حسن الإفراد لإضافته إلى الجماعة ومعلوم أنّ لكل إنسان أجلاً ، وقوله انقرضت مدّتهم أي انقطعت وتمت مدة إمهالهم بمجيء آخرها فمجيء الأجل مجاز عن تمامه وهو على تفسيره بالمدة أو جاء بمعنى حان أي قرب وجاء حينه والأجل وقت نزول العذاب على التف ير الثاني ولإضافة في قوله وقتهم لأدنى ملابسة. قوله : ( أي لا يتأخرون ولا يتقدّمون أقصر وقت الخ ( لما كان الظاهر عطف لا يستقدمون على لا يستأخرون كما أعربه الحوفي وغيره أورد عليه أنه فاسد لأنّ إذا إنما يترتب عليها الأمور المستقبلة له الماضية والاستقدام حينئذ بالنسبة إلى محل الأجل متقدم عليه فكيف يترتب عليه ما تقدمه ويصير من باب الإخبار بالضروري الذي لا فائدة فيه كقولك إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك(4/164)
ج4ص165
فيما مضى ، وأجاب عنه الواحدي بأنه على المقاربة والعرب تقول جاء الثتاء إذ قرب فالمعنى أنها إذا أقربت لا تتقدم على وقتها المعين ولا تتأخر عته إلا أنه ليس تحته طائل وقيل إن جملة ولا يستقدمون مستأنفة ، وقيل إنها معطوفة على الشرط وجوابه أو على القيد والمقيد ، وقيل إنّ المقصود المبالغة في انتفاء التأخير يعني أنّ التأخير مساو للتقديم في الاستحالة ولذا نظمه معه في سلك أو أن مجموع لا يستأخرون ولا يستقدمون كناية عن أنهم لا يستطيعون تغييره ، ويؤخذ من قوله لشدة الهول أنهم لذهولهم لم يفرقوا بين طلب المحال وغيره ، فهو عبارة عن ذهولهم عن الطلب مطلقا وهو جواب آخر مع الإشارة إلى أن الاستفعال بمعنى التفعل أو على ظاهره ونفي طلبه أبلغ من نفيه ، وقال النحرير : في شرح المفتاح القيد إذا جعل جزءاً من المعطوف عليه لم يشاركه المعطوف فيه كما هنا فإنّ الظرف مخصوص بالمعطوف عليه إذ لا معنى لقولهم : { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } ا! وقد ذكروا أنه إذا عطف شيء على شيء وسبقه قيد يشارك المعطوف المعطوف عليه في ذلك القيد لا محالة وأما إذا عطف على ما لحقه قيد فالشركة محتملة فالعطف على المقيد له اعتبار أن أحدهما أن يكون القيد سابقا في الاعتبار والعطف لاحقا في الاعتبار ، والثاني أن يكون العطف سابقا والقيد لاحقا فعلى الأوّل لا يلزم اشتراك المعطوفين في القيد المذكور إذ القيد جزء من أجزاء المعطوف عليه وعلى الثاني يجب الاشتراك إذ هو حكم من أحكام الأوّل يجب فيه الاشتراك وقوله أقصر وقت إشارة إلى أنّ الساعة ليست عبارة عن التحديد حتى يجوز أن يتأخروا أقل منها بل عبارة عن أقل مدة مطلقا وتد وقع هذا التركيب في مواضع ودخلت الفاء فيه على إذا إلا في سورة يونس والموضع موضع الفاء فليتأمل. قوله : ( ذكره بحرف الشك الخ )
إرسال الرسل لهداية البشر واقع وليس بواجب عندنا ، وقالت الفلاسفة إنه واجب على الله لأنه يجب عليه تعالى أن يفعل الأصلح ، وهم يسمون أهل التعليم ، والمراد ببني آدم جميع الأمم وهو حكاية لما وقع مع كل قوم وليس المراد بالرسل نبينا صلى الله عليه وسلم وببني آدم أمته كما قيل فإنه خلاف الظاهر. قوله : ( وضمت إليها ما الخ ) ما مزيدة للتأكيد وقيل إنها تفيد العموم أيضا فمعنى أما تفعلن إن اتفق منك فعل بوجه من الوجوه ، وإذا زيدت إلى أنّ الشرطية فهل يلزم تأكيد الفعل بعدها أولاً فيه خلاف فقال الزجاج : والمبرد وتبعهما الزمخشري إنها لازمة لا تحذف إلا ضرورة ورد بكثرة سماع خلافه كقوله :
فأمّا تريني ولي لمة فإنّ الحوادث أودى بها
ولذا لم يصرح المصنف رحمه الله تعالى به ، فقيل لزوم التأكيد لئلا تنحط رتبة فعل الشرط عن حرفه ، ثم إنه قيل إنّ المذكور في النحو أن نون التوكيد لا تدخل الفعل المستقبل المحض إلا بعد أن يدخل على أول الفعل ما يدل على التأكيد كلام القسم نحو والله لأضربن أو ما المزيدة نحو أما تفعلن ليكون ذلك توطئة لدخول اكأكيد فعلى هذا يكون أمر الاستتباع عكس ما قاله المصنف رحمه الله تعالى ، وليس كما قال فإنها تدخل في النهي والتخضيض والعرض والتمني ، وقوله : ( فمن اتقى ) جوايه ومن إما شرطية أو موصولة وإلى الثاني ذهب المصنف رحمه الله لعطف الموصول عليه ، وأشار بقوله اتقي التكذيب إلى تقدير المفعول ، وتقدير منكم ليرتبط الجواب بالشرط معنى. قوله : ( وإدخال الفاء في الخبر الآول الخ ) في نسخة الجزاء بدل الخبر ، فمن أما موصولة وبؤيده عدم الفاء فيما بعده أو شرطية والاسمية بعدها معطوفة على الشرطية الجوابية ، والمعنى لا خوف عليهم من العقاب ، ولا هم يحزنون لفوات الثواب ولا ينافيه أهوال القيامة ، ووجه المبالغة في الوعد لعدم تخلفه جعله مسببا عن التقوى ، والعمل الصالح المشعر بأنه لا ينفك عنه إذ المعلول لا يتخلف عن العلة غالبا بخلاف الوعيد فإنه يجوز تخلفه ، ومن في فمن أظلم للاستفهام الإنكاري والتقول تعمد الكذب مطلقا. قوله : ) مما كتب لهم من الأرزاق والآجال الخ ) أي من ظلمهم وافترائهم وتكذيبهم لا يحرمون ما قدر لهم من الرزق والعمر إلى انقضاء آجالهم ، وقوله مما كتب أي قدروا الكتاب بمعنى المكتوب فليس فيه مجاز فإن كان الكتاب بمعنى المكتوب فنه وهو اللوح(4/165)
ج4ص166
المحفوظ ففيه مجاز عقلي أو لغوي ،
ومن لابتداء الغاية وجوز فيها التبيين والتبعيض ، وقوله : يتوفون أرواحهم لأن التوفي تناول الشيء وقبضه وافياً والتوفي يضاف إلى الله كقوله : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [ سورة الزمر ، الآية : 42 ] ويضاف إلى الملائكة ، وهو المراد بالرسل عليهم الصلاة والسلام. قوله : ( وحتى غاية لنيلهم الخ ) أي غاية للنيل وحرف ابتداء أي غير جارّة بل داخلة على الجملة كما في قوله :
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وقيل إنها جارة وقيل لا دلالة لها على الغاية والصحيح ما قدمناه وتفصيله في الدر المصون. قوله : ( وما صلت بأين الخ ) أي رسمت في المصحف العثماني ، وهي اسم موصولة لا صلة زائدة حتى تتصل به في الخط لكنه على خلاف القياس ، وفي قوله الفصل وموصولة لطف لصنعة الطباق البديعية ومعنى تدعون تستغيثون بهم في المهمات. قوله : ( غابوا عنا ) جواب بحسب المعنى إذ مآله لا ندري أين هم أو هو ليس بجواب إذ السؤال غير حقيقي بل للتوبيخ فلا جواب وما ذكر إنما هو للتحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران. قوله : ( وشهدوا على أنفسهم الخ ) شهدوا يحتمل أن يكون معطوفا على قالوا فيكون من جملة جواب السؤال ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بإقرارهم على أنفسهم بالكفر كذا في البحر ، وأورد عليه أنه إذا عطف على قالوا لا يكون جوابا إذ لو كان جوابا لكان من مقولهم ولو عطف على المقول كان تقديره قالوا شهدنا على أنفسنا إلا أن يكون ذكراً له بمعناه فتأمل ولا تعارض بين هذا ، وبين قوله والله ربنا ما كنا مشركين لأنه من طوائف مختلفة أو في مواقف وأوقات مختلفة أو أنه لحيرتهم كما مز في الأنعام ، وأوّل الشهادة بالاعتراف لأنها إما للغير أو على الغير لكنها التلفظ بما يتحققه الشاهد فتجوز به عن ذلك وليس في النظم ما يدل على أنّ اعترافهم بلفظ الشهادة ، وقوله ضالين تفسير له بحسب المعنى لأنّ الكافر ضال مع مناسبته لقوله ضلوا عنا. قوله : ( أي قال الله تعالى لهم الخ ) التفسير الأوّل بناء على جواز أنه تعالى يكلمهم بغير واسطة والثاني على خلافه. قوله : ( أي كائنين في جملة أمم مصاحبين دهم ( قيل لو قال حال أو مصاحبين كان أولى لأنّ في للظرفية ، وتجيء بمعنى مع نحو فادخلي في
عبادي فلا وجه للجمع وليس بشيء لأنه إشارة إلى أنّ الطرفية مجازية معناها المصاحبة ولذا جمع في الكشاف بينهما فهو بيان لمحصل المعنى ، وقوله كائنين إشارة إلى أنه حال لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى بمتعلق واحد حتى يحمل الثاني على البدلية أو أنه صفة أمم ، وقوله من النوعين يدل على أنّ الجن يثابون ويعاقبون لأنهم مكلفون كالإنس. قوله : ( التي ضلت بالاقتداء بها ) أي كلما دخلت أمة تابعة أو متبوعة لعنت التابعة المتبوعة التي أضلتها ، والمتبوعة التابعة التي زادت في ضلالها على ما أشار إليه في الكشاف في تفسير قوله لكل ضعف فلا يلزم التسلسل كما توهم. قوله : ( ادّاركوا فيها جميعاً أي تداركوا ) غاية لما قبله أي يدخلون فوجا فوجا عنا بعضهم بعضاً إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار ، وقول المصنف رحمه الله تداركوا تفسير له ببيان أصله إذ أصله تداركوا فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالاً وتسكينها ثم إجتلبت همزة الوصل ، وقوله تلاحقوا بيان لمعناه أي لحق بعضهم بعضاً وأدركه وعن أبي عمرو رحمه الله أنه قرأ ادّراكوا بقطع ألف الوصل قال ابن جني : وهو مشكل لأنه إنما يجيء شاذاً في ضرورة الشعر في الاسم أيضا لكنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع وهو تنبيه حسن. قوله : ( أخراهم دخولاً أو منزلة ) قال المعرب؟ أخرى وأولى يحتمل أن يكونا فعلى أنثى أفعل التفضيل والمعنى أخراهم منزلة وهم الأتباع والسفلة لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء وهو الوجه الثاني في كلام المصنف رحمه الله الذي بينه بقوله منزلة ، ويحتمل أن يكونا أنثى آخر بكسر الخاء بمعنى آخر المقابل للأوّل وليس للمفاضلة والفرق بينه وبين ذاك أن الثاني يدل على الانتهاء دون الأوّل ولا يجوز فيه أن يكون بمعنى غير والي الوجه الثاني أشار المصنف رحمه الله بقوله دخو لاً قيل والثاني أرجح لأنّ تقدم أحد الفريقين على الآخر في الدخول يحتاج إلى إثبات ( قلت ) هو مرويّ عن مقاتل رحمه الله وكفى به سنداً. قوله : ( أي لأجل أولاهم ) أي اللام للتعليل لا للتبليغ كما في قولك قلت لزيد افعل كذا لأنّ خطابهم مع الله تعالى لا معهم(4/166)
ج4ص167
قال الزجاج رحمه الله المعنى وقالت أخراهم يا ربنا هؤلاء أضلونا لأجل أولاهم وأما لام أولاهم لأخراهم فيجوز فيها أن تكون للتبليغ لأن خطابهم معهم بدليل قوله : { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ سورة الأعراف ، الآية : 39 ] قاله المعرب. قوله : ( سنوا فا الضلال فاقتدينا بهم ) فسره بأنهم سنوا لهم الضلال ليشمل الجميع لأنّ حقيقة الإضلال الدعوة إلى الضلال وهو يقتضي ملاقاتهم لهم وليس بلازم ومن فسره بدعونا إلى الضلال وأمرونا به أراد هذا أيضاً لأن من سن سنة سيئة فقد دعا إليها وأمر بها في التقديو ، وكذا قوله : { إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا } [ سورة سبأ ، الآية : 33 ] وقيل إنه قول البعض وله
وجه. قوله : ( مضاعفاً لآنهم ضلوا وأضلوا ) قال أبو عبيد الضعف مثل الشيء مرّة واحدة وقال الأزهري : ما قاله هو ما تستعمله الناس في مجاز كلامهم ، وقال الشافعي رضي الله عنه قريبا منه فيما لو أوصى بضعف ما لولده والوصايا جارية على عرف الاستعمال ، وأما كلام الله تعالى فيرذ إلى كلام العرب ، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد ولا يقتصر على مثلين بل هو غير محصور ، ولذا فسروه هنا بمضاعف وقد مرّ له تفصيل وضعفا صفة لعذابا ، ويجوز أن يكون بدلاً منه ومن النار صفة العذاب أو الضعف. قوله : ) أما القادة فبكفرهم الخ ) القادة جمع قائد أي الرئيس المتبوع وهو في الجمع كسادة وفيه كلام في النحو ، وقوله بكفرهم وتقليدهم في الكشاف لأنّ كلا من القادة والأتباع كانوا ضالين مضلين ، أما الأوّل فظاهر ، وأما الثاني فلأنّ القادة زادوا باتباعهم لهم طغيانا وثباتا على الضلال وقوّة على الإضلال كما قال تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ سورة الجن ، الآية : 6 ] قيل ولا يخفى عدم اطراده فإن اتباع كثير من الأتباع غير معلوم للقادة إلا أن يقال إنه مخصوص ببعضهم ولذا قيل الأحسن أن يقال إنّ ضعف الأتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولى الرؤساء والمتبوعين لينالوا عرض! الدنيا اتباعا للهوى ويدل عليه قوله تعالى : { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ } [ سورة سبأ ، الآية : 32 ] وفيه نظر وكلام المصنف رحمه الله يحتمل أن يكون التقليد في الهوى ضلالاً آخر يستحقون به المضاعفة فلا يرد عليه ما ذكر. قوله : ( ما لكم أو ما لكل فريق وقرأ عاصم رحمه الله بالياء على الانفصال ) الظاهر أنّ المراد من الانفصال انفصال هذا الكلام عما قبله بأن يكون تذييلا لم يقصد به إدارجه في الجواب حتى يكون خطابا لهم وقيل معناه انفصال القادة من الاتباع بخلاف قراءة التاء فإنها للفريقين بتغليب المخاطبين الذين هم الاتباع على الغيب الذين هم القادة إذ على قراءة عاصم لا يمكن القول بالتغليب إذ لا يغلب الغائب على المخاطب ، وفيه أنّ قول المصنف لا يعلمون مالكم إشارة إلى أنّ الخطاب للاتباع من غير تغليب ، وقوله أو ما لكل فريق إشارة إلى التغليب فتأمل قيل لكن ، ولا تعلمون من جملة مقول القول ، ولكل ضعف يلقى إلى الاتباع لأنه جواب قولهم فآتهم الخ فإذا قرىء لا تعلمون بالخطاب يكون موجها إليهم ، وإذا قرئ بالغيبة يكون منفصلاً غير ملقى إليهم وهذا ما أشرنا إليه أوّلاً وتضعيف العذاب للضلال والإضلال فلا يكون زيادة على ما استحقوه حتى يكون ظلما مع أنه لا يسئل عما يفعل. قوله : ( عطفوا كلامهم على جواب الله الخ ) المراد بالعطف في كلامه العطف الواقع بالفاء في قوله فما كان الخ ، ولذا قال شراح الكشاف : إنّ معناه ترتيبه عليه لا العطف الاصطلاحي فقوله ورتبوه تفسير له لأنه جواب
شرط مقدّر لأنهم رتبوا كلامهم على كلام الله تعالى على وجه التسبب لأن إخبار الله تعالى بقوله لكل ضعف سبب لعلمهم بالمساواة حملهم على أن يقولوا وإذا كان كذلك فقد ثبت أنه لا فضل لكم علينا في استحقاق الضعف وقيل إنها عاطفة على مقدّر أي دعوتم الله فسوّى بيننا وبينكم فما كان الخ وفيه تأمّل. قوله : ) من قول القادة أو من قول الفريقين ) كذا في أكثر النسخ وفي بعضها ، أو من قول الله للفريقين وهي أظهر من الأولى لأنه إذا قالته الأولى للأخرى على سبيل التشفي يكون من مقول ، القول الأخير وهو تثف بأنّ دعاءهم عاد عليهم ضررة ، ولم يختص بمن دعوا عليه وإذا كان من كلام الله تعالى لهما يكون توبيخا وأما إذا كان من مقول الفريقين فيحتاج إلى تقدير أي قالت كل فرقة للأخرى ذوقوأ الخ والباء(4/167)
ج4ص168
سببية ، وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وأشار بقوله عن الإبمان بها إلى أنّ الاستكئار عنها الإباء عن الإيمان بها مجازاً. قوله : ( لا دعيتهم وأعمالهم الخ ) كون السماء لها أبواب وانها تفتح للدعاء الصالح وللأعمال الصاعدة وللأرواح ، وارد في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية فلا حاجة إلى تأويل وفسر فتح أبوابها بإنزال البركة والأمطار والرحمة عليهم أيضا والتضعيف لتكثير المفعول لا الفعل لعدم مناسبة المقام ، واسناد الفتح إلى الآيات مجاز لأنها سبب ذلك. قوله : ( أي حتى يدخل ما هو مثل في عظم الخ ) سمّ الخياط ثقب الإبرة لأن السم بتثليث السين الثقب الصغير مطلقاً ، وقيل أصله ما كان في عضو كأنف وأذن ، والخياط فعال ما يخاط به كالمخيط بكسر الميم وفتحها وهذا دفع لما قيل إنه لا يناسب الجمل خرق الإبرة ، فلذا فسر بالحبل العظيم لمناسبته للمقام يعني أنّ الجمل يضرب به المثل في عظم الجسم قديما كما قال :
جسم الجمال وأحلام العصافير
وخرق الإبرة يضرب به المثل أيضا في الضيق فيكون قد علق دخولهم الجنة على دخول
أعظم الأجرام في أضيق المنافذ كقوله :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وهو معروف في كلام العرب ، ولذلك قال الشاعر :
ولوأنّ ما بي من جوى وصبابة على جمل لم يدخل الناركافر
وقوله وقرئ الجمل الخ أي بضم الجيم وفتح الميم المشددة ، وبفتحها مخففة كنغر بضم
النون وفتح الغين المعجمة والراء المهملة وهو نوع من كبار العصافير أحمر المنقار ، والنصب بضم النون والصاد والقنب بكر القاف وضمها وتشديد النون المفتوحة والباء الموحدة نوع من غليظ الكتان تتخذ منه الحبال ، وحبل السفينة يكون منه ومن الليف ، وقوله : ( وستم ) معطوف على الجمل أي وقرئ سم وكذا قوله وفي سم المخيط معطوف عليه وهو بكسر الميم وفتحها كما ذكره المعرب ، وهي قراءة شاذة وقوله وهو الحبل تفسير للغات الخمسة. قوله : ( ومثل ذلك الجزاء الفظيع الخ ) إشارة إلى أنّ الجار والمجرور نعت مصدر محذوف والفظيع الثنغ وهو الخلود في النار كما يفسره ما بعده ، وتفسير الكواشي للاربعة الأخيرة بالبعير ليس بشيء كما قاله بعض الفضلاء وجملة لهم الخ إمّا مستأنفة أو حالية ومهاد كفراش لفظا ومعنى فاعل الظرف أو مبتدأ ومن جهنم حال من مهاد لتقدّمه. قوله : ( غواش الخ ) جمع غاشية وهي ما يغشى به ومنه غاشية السرج المعروفة ، وللنحاة في مثله خلاف فقيل هو غير منصرف لأنه على صيغة منتهى المجموع والتنوين عوض! عن الحرف المحذوف أو حركته والكسرة ليست للإعراب ، وهذا لا يختص بصيغة الجمع بل يجري في كل منقوص غير منصرف كيعيل تصغيريعلى ، وبعض العرب يعربه بالحركات الظاهرة على ما قبل الياء لجعلها محذوف نسيا منسيا ، ولذا قرئ غواس برفع الشين وله الجوار المنشآت بضم الراء. قوله : ( عبر عنهم بالمجرمين تارة الخ ) يعني ذكر الخاص الذي هو الظلم بعد ذكر الجرم العام ، وذكر معه التعذيب بالنار الذي هو أشد من الحرمان من الجنة لما ذكر ووضع الظالمين موضع ضمير المجرمين ، وهما بمعنى للتنبيه على جمع الصفتين ، وقد قيل بتغايرهما أيضا. قوله : ) على عادته سبحانه وتعالى الخ ( يشفع بمعنى يقرنه به ويجعله به شفعا ، ولا نكلف معترضة وهو الظاهر وقيل إنها خبر بتقدير العائد أي منهم
وقوله في اكتساب النعيم النعيم مأخوذ من الجنة ، لأن لهم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، والاكتساب إشارة إلى أنّ العمل الصالح سبب في الجملة ، وإن لم يكن بطريق الإيجاب ، والدليل على أنّ اكتسابه بذاك أنه رتب الحكم على الموصول والصلة سيما مع توسط اسم الإشارة ، وإذا علم أن مبني التكليف على الوسع زادت الرغبة في ذلك الاكتساب لحصوله بما فيه يسر لا عسر لكنه نبه على أنه مع يسره لا يحصل إلا بالهداية والتوفيق وقوله : ( يسهل ) إشارة إلى ما قاله الإمام ونقله عن معاذ بن جبل رضي الله عنه من أنّ الوسع ما يقدر عليه الإنسان بسهولة ويستمرّ فإن أقص الطاعة يسمى جهدا لا وسعا وغلط من ظن أنّ الوسع بذل المجهود. قوله : ( نخرج من قلوبهم أسباب الغل أو نطهرها منه الخ ) وفي نسخة ونطهرها بالواو وهي النسخة التي صححها بعض أرباب الحواشي لأنّ المراد(4/168)
ج4ص169
منه ما يحصل لأهل الجنة من تصفية الطباع عن كدورات الدنيا ونزع الأحقاد الكامنة فيها ، وقيل المراد بتطهير قلوبهم حفظها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الرفيعة لإزالة الشهوات ، وقد جوّزه في الحجر ولك أن تحمله عليه فتأمل.
قوله : ) وعن علئ كرم الله وجهه أتي الخ ) هذا يدلّ على أنه كان ذلك بمقتضى الطباع البشرية فيهم لكته نزع بتوفيق الله ، وقيل الأولى أن يراد عدم اتصافهم بذلك من أوّل الأمر ، وما وقع إنما كان عن اجتهاد لإعلاء كلمة الله وخص هؤلاء لما جرى في خلافة عثمان رضي الله عنه بينهما ومحاربة طلحة والزبير رضي الله عنهما في وقعة الجمل ، وهذا حديث أخرجه ابن سعد والطبرفي من رواية معمر عن قتادة كلاهما عن عليّ رضي الله عته بسند منقطع وأخرجه ابن أبي شيبة عن ربعيّ بسند متصل كما قاله ابن حجر رحمه اللّه. قوله : ( لما جزاؤه هذا الخ ( ليس تقدير إعراب بل بيان لحاصل المعنى ، وان كان قوله في الكشاف لموجب هذا يحتملهما والمراد أن في الكلام تجوزا عقليا أو لغويا بجعل الهداية لما أدى إليها هداية له. قوله : ( واللام لتوكيد النفي الخ ) هذه هي اللام التي تسمى لام الجحود وتزاد بعد كان المنفية للتأكيد ، وتفصيلها مذكور في النحو ، ولم يجعل الجواب ما قبله لامتناع تقدمه على الصحيح ، والواو حالية أو استئنافية ، وعلى قراءة إسقاط الواو فالجملة بيانية ، وهو ظاهر. قوله : ) يقولون ذلك اغتباطاً وتبجحا الخ ) أي من قوله الحمد لله إلى هنا فلا يرد عليه ما قيل إنه لا يلائم قوله
فاهتدينا بإرشادهم فإنّ المقصود بالجملة القسمية على هذا بيان صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في وعدهم بالجنة لا تعليل الاهتداء فتأمل ، والاغتباط بالغين المعجمة السرور وأن يصير الشخص بحال يغتبط فيها كما في تاج المصادر والتبجح بتقديم الجيم على الحاء المهملة الفرج فليس قولهم ذلك إلا لإظهار ما ذكر لا للتعبد والتقرب لأنّ الجنة ليست دار تكليف وعبادة كما قيل. قوله : " ذا رأوها من بعيد أو بعد الخ ) يعني الإشارة بتلك الموضوعة للإشارة إلى البعيد لها قبل دخولها والنداء للإعلام بأنها موروثة لهم وبعد الدخرل المشار إليه كونها موروثة لهم وتلكم توطئة لذلك والا فلا حاجة إلى الإشارة إلى مكان حل فيه أحد كما أنه لا حاجة إلى كون التقدير تلكم الجنة التي وعدتم بها في الدنيا هي هذه فيكون المشار إليه غائباً بعيدا فتلكم خبر مبتدأ محذوف أي هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبل ، أو تلكم مبتدأ حذف خبره أي تلكم الجنة التي أخبرتم عنها أو وعدتم بها في الدنيا هي هذه ، وقوله والمنادى مبتدأ خبره أورثتموها ، وقوله : ( بالذات ) أي ما نودي به وتصد إعلامه كونها موروثة وان كان بحسب الظاهر تلكم الجنة. قوله : ) أي أعطيتموها بسبب أعمالكم الخ ) يعني أنّ الميراث مجاز عن الإعطاء وتجوّز به عته إشارة إلى أنّ السبب فيه ليس موجباً وان كان سببا بحسب الظاهر كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلا سببا له ، فلا يرد على قوله بسبب أعمالكم إنه يعارض! قوله : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " إ أ ( إذ المراد بسبب عمله السبب التام ، فلا يحتاج إلى الجواب عنه ولا أن يقال الباء للعوض لا للسبب وفيه تفصيل لعل التوبة تفضي إليه ، وهذا تنجيز للوعد بإثابة المطيع لا بالاستحقاق والاستيجاب بل هو بمحض فضله تعالى كالإرث. قوله : ( وأن في المواقع الخمسة هي المخففة الخ ( هي أن تلكم وأن وجدنا وأن لعنة الله وأن سلام عليكم ، وأن أفيضوا وإذا كانت مخففة فحرف الجر مقدر أي بأن واسمها ضمير شأن مقدر أي بأنه تلكم كذا قدره الزمخشري ، وفيه إشارة كما صرحوا به إلى أن ضمير الشأن لا يجب أن يؤنث إذا كان المسند إليه في الجملة المفسرة مؤنثاً وبه صرح ابن الحاجب وابن مالك فهو أمر استحسانيّ ، فلا عبرة بما وقع في التلخيص مما يخالفه وقوله لأنّ المناداة الخ يؤخذ منه شرط ، أن المفسرة وهي سبق ما فيه معنى القول دون حروفه. قوله : ( إنما قالوه تبجحاً
بحالهم وشماتة الخ ) التبجح الافتخار والشماتة الفرج بمصيبة العدوّ والتحسير الإيقاع في الحسرة والندم ، ويصح إعجامه أي نسبتهم إلى الخسار. قوله : ( د إنما لم يقل ما وعدكم الخ ) في الكشاف حذف ذلك تخفيفاً لدلالة وعدنا عليه ، ولقائل أن يقال أطلق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب(4/169)
ج4ص170
والعقاب وسائر أحوال القيامة لأنهم كانوا مكذبين بذلك أجمع ، ولأن الموعود كله مما ساءهم وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم فأطلق لذلك يعني لم يذكر مفعولاه لأنّ المراد مطلق الموعود به سواء كان لهم أو لغيرهم فليس القصد إلى تخصيص موعود ولا موعود به ولو قيل كذلك لتقيد بما وعدوا به فلا يرد عليه ما قيل إنه لو ذكر المفعول على حسب ذكره في الأوّل فقيل فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا لكان الفعل مطلقا أيضا باعتبار الموعود به لأنه لم يذكر فيتناول كل موعود به من البعث والحساب والعقاب التي هي أنواع من جملتها التحسر على نعيم أهل الجنة فليس ذلك خاصاً بحذف المفعول الواقع على الموعودين فالوجه أن حذفه تخفيفا وايجازا واستغناء عنه بالأول ولا ما قيل إن الجواب لا يطابق سؤاله لأن المدعي حذف المفعول الأول وهو ضمير المخاطبين والجواب وقع بالمفعول الثاني الذي هو الحساب والعقاب وسائر الأحوال فهو إنما يناسب لو سئل عن حذف المفعول الثاني لا الأول. قوله : ( لأنّ ما ساءهم من الموعود الخ ( قيل لا خفاء في كون أصحاب الجنة مصدقين بالكل والكل مما يسرّهم فكان ينبغي أن يطلق وعدهم أيضاً فلا بد من حمله على الاكتفاء بالسابق لا على الإطلاق. قوله : ( وهما لنتان ( ولا عبرة بمن أنكر الكسر مع القراءة به واثبات أهل اللغة له ، وصاحب الصور إسرافيل عليه الصلاة والسلام وقوله بين الفريقين لا بين القائلين نعم كما قيل ، ولا يرد أن الظاهر أن يقال بينهما لأنه غير متعين والكسر على إرادة القول مذهب البصريين بالتضمين أو التقدير ، وعلى الحكاية بإذن لأنه في معنى القول فيجري مجراه مذهب الكوفيين ، والتأذين المراد به النداء وهو إعلام بلعنة الله لهم أو ابتداء لعن. قوله : ( صفة للظالمين مقرّرة ( فلا يوقف بينهما وعلى القطع يصح الوقف ، وإنما كانت صفة مقرّرة لأنّ الصدّ عن سبيل الله بمعنى الإعراض عنه لا منع الغير ، وطلب ميلة لازم لكل ظالم شتكون الصفة مقرّرة مؤكدة بخلاف الصد بمعنى منع الغير ، ولذا قيل صده عن كذا صرفه ، ومنعه عنه
أي يمنعون الناس عن دين الله بالنهي عنه وادخال الشبه في دلائله ويبغونها عوجا أي يطلبون لها تأويلا وامالة إلى الباطل وصد عنه صدوداً أعرض! أي يصدون بأنفسهم عن دين الله ويعرضون عنه ويبغونها عوجا يطلبون إعوجاجها ويذئونها فلا يؤمنون بها ، فعلى الأوّل يكون العوج بمعنى التعويج والإمالة ، وعلى الثاني يكون على أصله وهو الميل والأوّل مختار النسفي ، والثاني مختار القرطبي وهو الأظهر واليه ذهب المصنف رحمه الله تعالى فافهمه والفرق بين العوج والعوج يأتي تحقيقه في سورة الكهف وما لأهل اللغة فيه من الكلام ووجه الفرق بينهما. قوله : ( أي بين الفريقين الخ ( لأنّ الآية الأخرى تفسرها ولكنه لا يتعين وأثراهما سموم النار وروج الجنة. قوله : ( أعراف الحجاب ) أي أعاليه المراد شرا فإنه تشبيهاً لها بعرف الدابة والديك وهو معروف. وفي التفسير الآخر معناه أعلى موضع منه لأنه أشرف وأعرف مما انخفض منه وظاهر كلامه أنه حقيقة في هذا الوجه. قوله : ( وهو السور الخ ( للمفسرين في أصحاب الأعراف أقوال منها ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى وأشهرها الأوّل وقيل : هم أصحاب الفترة الذين لم يبذلوا دينهم ، وقيل : أطفال المشركين. وفي النسخ هنا اختلاف ففي بعضها بأو في الجميع ، وفي بعضها بالواو فيها وفي بعضها بأو في بعضها ، والواو في بعض ، وخيار المؤمنين وعلماؤهم بالرفع والجر. وقوله يرون في صورة الرجال لتوجيه إطلاق الرجال على الملائكة ، وهم لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة. قوله : ( بعلامتهم التي أعلمهم الله بها ) أي جعلهم معلمين بها من العلامة. ويصح أن يكون من العلم والسيما العلامة من سام أو وسم فيعرفون أن من فيه سمة كذا من أهل الجنة ، وغيره من أهل النار ، والظاهر أنّ هذا قبل دخولهم الجنة أو النار إذ لا حاجة بعده للعلامة. وأما النداء والصرف فبعده ، لكن ظاهر كلام المصنف فيما سيجيء أنّ الكل بعده ، وأنّ قوله كبياض الوجه إشارة إلى قوله تعالى { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } . قوله : ( وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملالكة ) أي أن كذا علامة الجنة ، وكذا علامة النار ، كما مرّ قيل وفي الحصر نظر وباء بسيماهم للملابسة. قوله : ( أي إذا نظروا
الخ ) بيان الحاصل المعنى لا أن في(4/170)
ج4ص171
الكلام شرطاً مقدراً وفي الدرّ المصون أنه إشارة إلى أنه جزاء شرط محذوف ، والداعي له مراعاة قوله وإذا صرفت أبصارهم. قوله : ( حال من الواو ) وفي الكشاف استئناف أو صفة رجال وضعف بالفصل. وقوله : ( على الوجه الأوّل ) أي في تفسير رجال الأعراف بمن حبس بين الجنة والنار. وأما على بقية الوجوه فهو حال من أصحاب الجنة لأنه لا يناسب قوله لم يدخلوها وهم يطمعون إلا أنه قيل إن يطمعون بمعنى يعلمون ويتيقنون وهو بهذا المعنى منقول عن أهل اللغة ، وبه فسر قوله والذي أطمع أن يغفر لي أي أعلم أو يحرصون. وأمّا جملة وهم يطمعون فحال من واو لم يدخلوها بعد تسليط النفي أي كانوأ طامعين حال دخولهم الجنة لا قبله ، فتأمل وتلقاء في الأصل مصدر وليس في المصادر تفعال بكسر التاء غير تلقاء وتبيان ، ثم أستعمل ظرف مكان بمعنى جهة اللقاء والمقابلة فنصب على الظرفية. وفي قوله صرفت إشارة إلى أنهم لم يلتفتوا إلى جهة النار إلا مجبورين على ذلك لا باختيارهم ، لأنّ مكان الشرّ محذور ، ولذا استعاذوا منه وقوله من رؤساء الكفرة كأبي جهل بيان لقوله رجالاً. وما في ما أغنى استفهامية للتقريع والتوبيخ ويجوز أن تكون نافية ، والجمع بمعنى الكثرة استعمال له في كماله ، وعلى الثاني هو مصدر مفعوله مقدر وهو أنسب لعدم تكريره مع ما بعده. وما في ما كنتم مصدربة لعطفه على المصدر. قوله : ( من تتمة قولهم الخ ) فهو في محل نصب مفعول القول أيضا أي قالوا ما أغنى وقالوا أهؤلاء الخ. وجوّز فيه أن يكون جملة مستقلة غير داخلة في حيز القول ، والمشار إليه على الأوّل هم أهل الجنة. والقائلون هم أهل الأعراف والمقول لهم أهل النار ، والمعنى قال أهل الأعراف لأهل النار أهؤلاء الذين في الجنة اليوم هم الذين كنتم تحلفون أنهم لا يدخلونها وادخلوا الجنة بمعنى قالوا لهم أو قيل لهم ادخلوا الجنة وعلى الاستئناف اختلف في المشار إليه فقيل هم أهل الأعراف ، والقائل ملك مأمور بذلك ، والمقول له أهل النار وقيل المشار إليه أهل الجنة والقائل الملائكة والمقول له أهل النار ، وقيل المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم القائلون أيضا والمقول لهم الكفار وادخلوا الجنة من قول أهل الأعراف أيضا أي يرجعون فيخاطب بعضهم بعضا ولا ينالهم الخ جواب القسم. قوله : ( أي فالتفتوا إلى أصحاب الجنة الخ ( أي ومعنى ادخلوا دوموا فيها غير خائفين ولا محزونين ، وقوله وهو أوفق للوجوه إلا خيرة هي تفسير
رجال بقوم علت درجاتهم الخ. لا بالمحبوسين في الأعراف لأنّ المناسب إدخالهم أنفسهم الجنة لا أمرهم غيرهم بالدخول فيها ، وقيل موافقته للأول بتأويل ادخلوا نجدوموا على الدخول ، ويحتمل أن يكون كونهم على الأعراف قبل دخول بعض أهل الجنة الجنة ، وفيه تأمّل. وقوله : ( بعد ) متعلق بقيل ، وقوله : ( وقالوا لهم ما قالوا ) أي من الاستعاذة والسلام. قوله : ( وقيل لما عيروا الخ ) عطف بحسب المعنى على قوله من تتمة قولهم ، أي لما عير أصحاب الأعراف أصحاب النار أقسم أصحاب النار أنّ أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة ، فقال الله تعالى أو بعض الملائكة خطابا لأهل النار أهؤلاء الذين أقسمتم بالله مشيرا إلى أصحاب الأعراف ، ثم وجه الله تعالى خطابه إلى أصحاب الأعراف فقال ادخلوا الخ. فيكون هؤلاء متأنفا لا من تتمة قولهم للرجال وهو على الوجه الأوّل في تفسير رجال ولذا قابله به. قوله : ( وقرئ ادخلوا ودخلوا ) أي بالمزيد المجهول أو المجرّد المعلوم وحينئذ كان الظاهر لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فلذا قدر أنه مقول قول محذوف هو حال ليتجه الخطاب ويرتبط الكلام ، وقرئ ادخلوا بامر المزيد للملائكة أيضا. قوله : ( أي صبوه ) فإن أصل معنى الفيض صبّ المائعات وقوله وهو دليل الخ أي لظاهر النظم ولفظ على وليس دليلاً قطعيا حتى يبحث فيه ، وقوله من سائر الأشربة كاللبن فسره به ليتعلق به الإفاضة من غير تأوبل فإن فسر بالطعام يقدر للثاني عامل أو يؤول الأوّل بما يعمهما كألقوا أو يضمن ما يعمل في الثاني أو يجعل من المشاكلة كما عرف في العربية ، وقوله : ( علفتنا تبناً وماء باردا ) تمامه :
حتى شتت همالة عيناها
قوله : ( منعهما عنهم منع المحرم عن المكلف ) يعني أنّ التحريم بمعنى المنع كما في
قوله :
حرام على عينيّ أن يطعما الكرى
لأنّ الدار ليست بدار تكليف فهو استعارة(4/171)
ج4ص172
كما صرح به المصنف رحمه الله تعالى ، ولو
جعل من قبيل المشعر جاز ، ولكن الأوّل أبلغ والتصدية التصفيق كما مرّ والفرق بين اللهو واللعب مر تفصيله في الأنعام ، فإن أردت فانظره. قوله : ( نفعل بهم فعل الناسين ) يعني أنه تمثيل فشبه معاملته تعالى مع هؤلاء بالمعاملة مع من لا يعتد به ويلتفت إليه ، فينسى لأنّ النسيان لا يجوز على الله تعالى والنسيان يستعمل بمعنى الترك كثيراً في لسان العرب ويصح هنا أيضاً فيكون استعارة تحقيقية أو مجازاً مرسلاً ، وكذا نسيانهم لقاء الله أيضا ، لأنهم لم يكونوا ذاكري الله حتى ينسوه ، فشبه عدم إخطارهم لقاء الله والقيامة ببالهم وقلة مبالاتهم بحال من عرف شيئاً ثم نسيه ، وليست الكاف للتشبيه بل للتعليل ، ولا مانع من التشبيه أيضا إلا قوله ما كانوا بآياتنا الخ. وقوله من العقائد الخ ، أدرج القصص في المواعظ لأنّ السعيد من اتعظ بغيره. قوله : ( عالمين بوجه تفصيله الخ ) إشارة إلى انّ على علم وتنكيره للتعظيم حال من الفاعل وأنه يقتضي أنّ ما فعله محكما متقنا كما يفعل العالم بما يفعله ، وحينئذ يقتضي أنه تعالى يعلم بصفة زائدة على الذات وهي صفة العلم لا عين ذاته كما يقوله الفلاسفة ومن ضاهاهم في ذلك ، أو حال من المفعول. وقوله : ) وقرئ فضلناه ( أي بالضاد المعجمة وهي قراءة ابن محيصن ، وقوله : ( في هذه القراءة عالمين ( إشارة إلى أنه حال من الفاعل على هذه القراءة لأنه أنسب وان جاز أن يكون حالأ من المفعول أيضا وفيه نظر فلعله اكتفى بأحد الوجهين ليعلم الآخر بالمقايسة ، فتدبر. قوله : ( حال من الهاء ) وجوّز فيه أن يكون مفعولاً لأجله ، وجوّز فيه أن يكون حالاً من الكتاب لتخصيصه بالوصف ، وقرئ بالجرّ على البدلية من علم والرفع على إضمار المبتدأ. قوله : ( يممظرون الخ ( يعني النظر هنا بمعنى الانتظار لا بمعنى الرؤية ، وقوله ما يؤول إليه أمره إشارة إلى أنّ التأويل بمعنى العاقبة وما يقع في الخارج ، وهو أصل معناه ويطلق على التفسير أيضاً ، والمعنى أنهم قبل وقوع ما هو محقق كالمنتظرين له لأنّ كل آت قريب فهم على شرف ملاقات ما وعدوا به فلا يقال كيف ينتظرونه مع جحدهم فإنهم وان جحدو. إلا أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم من حيث أنّ تلك الأحوال تأتيهم لا محالة ، وما يقال إق
فيهم أقواما يشكون ويتوقعون ، قيل يأباه تخصيص التبين بالصدق إلا أن يقال أنّ الذي تبين لهم ذلك وقوله : ( تركوه ترك الناسي ) إشارلاة إلى ما مرّ تحقيقه. قوله : ) أي قد تبين أنهم الخ ) فسره به لاً نه يترتب عليه طلب الشفاعة ولأنه هو الواقع فيه ، وتوله أو هل نردّ إشارة إلى أنه معطوف على الجملة الاسمية ، أو الظرفية ومن مزيدة في المبتدأ أو في الفاعل بالظرف وقراءة النصب عطف على يشفعوا المنصوب في جواب الاستفهام أو أنّ أو بمعنى إلى أن أو حتى أنّ على ما اختاره الزمخشريّ. وقوله فعلى الأوّل أي قراءة الرفع لعطفه على ما قبله المسؤول أحد الأمرين الشفاعة أو الردّ إلى الدنيا ودار التكليف ليتلافوا ما فات ، وعلى الثاني أي النصب بأن يكون لهم شفعاء في الخلاص مما هم فيه ، أما بالشفاعة في العفو عنهم ، أو الرد فالشفاعة لأحد الأمرين إن كانت أو عاطفة لاً لأمر واحد إذا كانت بمعنى إلى إذ معناه يشفعون إلى الردّ وبهذا اندفع ما قيل إنّ المقابلة بين الشفاعة بغير الردّ وبين الردّ غير ظاهرة لأنه أثر الشفاعة ونتيجتها ، فالوجه أن تكون الشفاعة حينئذ كناية عن المغفرة ، والمعنى فتغفر بالشفاعة أو تردّ. قوله : ( جواب الاستفهام الثاني الخ ) الثاني صفة جواب أو الاستفهام أي في أحد الوجوه وهو رفع نردّ بالعطف فإنه في حكم استفهام ثان أو نصبه بالعطف على تردّ مسبب عنه وأما قراءة الرفع فعلى لوجوه كلها ، وضل بمعنى غاب وفقد ، والمراد هنا أنه بطل ولم يفدهم شيئا. قوله : ( أي قي ستة أوقات ) اليوم في اللغة مطلق الوقت ، فإن أريد هذا فالمعنى ما ذكر ، دمان أريد المتعارف فاليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسماوات فيقدّر فيه مضاف ، أي مقدار ستة أيام ، وقوله دليل للاختيار ظاهر لأنه لو كان بالإيجاب لصدر دفعة واحدة ، وقيل لأنّ عدوله إلى التدريج مع القدرة على خلافه يقتضي ذلك ، وقيل إنّ في دلالته عليه خفاء ، وأما كون الفعل موجبا مشروطا مما يوجد وقتاً فوقتا فقيل مآله إلى التسلسل أو ثبوت الاختيار ، واعتبار النظار بناء غلى تقدم خلق الملائكة عليها ، أو المراد أصحاب النظر والبصيرة من العقلاء(4/172)
ج4ص173
المعترفين بالشرع إذا سمعوه. قوله : ( استوى أمره أو استولى الخ ) في الكلام الاستواء من الصفات
المختلف فيها فقيل المراد استوى أمره فالإسناد مجازيّ أو فيه تقدير ، ولا يضرّ حذف الفاعل إذا قام ما أضيف إليه مقامه ، وقيل الاستواء بمعنى الاستيلاء كما في قوله :
قد استوى بشر على العراق
فعلى الأوّل ليس من صفاته تعالى ، وعلى الثاني يرجع إلى صفة القدرة ، وفي أحد قولي الأشعريّ إنه صفة مستقلة غير الثمانية ، واليه أشار المصنف رحمه الله ، وقيل بالتوقف فيه وأنه ليس كاستواء الأجسام وحمله المجسم على ظاهره. قوله : ( والعرش الخ ( أي هو فلك الأفلاك ، أما حقيقة لأنه بمعنى المرتفع أو استعارة من عرس الملك وهو سريره ، ومنه رفع أبويه على العرس ، أو بمعنى الملك بضم الميم وسكون اللام ومنه ثل عرشه إذا انتقض ملكه واختل. قوله : ( ولم يذكر عكسه للعلم به الخ ) أشار بقوله يغطيه أي يغطي الله النهار بالليل ، إلى أنّ الفاعل هو الله وإسناده إلى الليل مجاز ولما كان المغطي يجتمع مع المغطي وجوداً ولا يتصوّر هنا قال المصنف رحمه الله في سورة الرعد يلبسه مكانه فيصير الجوّ مظلماً بعدما كان مضيئاً يعني المغطى حقيقة هو المكان ، وأسند إليه للملابسة بينهما ، وجوّز جعل الليل والنهار مغشي على الاستعارة بأن يجعل غشيان مكان النهار واظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه ، فكأنه لف عليه لف الغشاء أو شبه تغيب كل منهما بطريانه عليه بستر اللباس للابسه ، وكون الجوّ مكانهما بمعنى مكان ضيائهما وظلمتهما والا فليس للزمان مكان فتدبر. قوله : ) أو لآنّ اللفظ يحتملهما الخ ) يعني معنى ما ذكره أوّلاً من تغطية النهار بالليل وعكسه تغطية الليل بالنهار ، فيكون موافقا للقراءة المشهورة. وقال ألنحرير : إنه يعني أن يغشى الليل النهار محتمل لمعنى جعل الليل لاحقا بالنهار ، بأن يحمل على تقديم المفعول الثاني وهو الليل ولمعنى جعل النهار لاحقا بالليل بأن يكون المفعول الثاني هو النهار ، إلا أنه قيل ولا يراد منه إلا أحد المعنيين على التعيين فوجب المصير إلى الجواب الأوّل ، واحتمال أنّ في أحد المعنيين إشارة إلى الآخر لا يخفى بعده ، ورذه أبو حيان بأنه لا يجوز أن يكون الليل مفعولاً ثانيا من حيث المعنى لأنّ المنصوبين إذا تعدى إليهما فعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى يلزم أن يكون هو الأوّل منهما ، كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمراً ، ورتبة التقديم هي الموضحة لأنه الفاعل معنى ، كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى بخلاف أعطيت زيداً درهما فإن تعين المفعول الأوّل لا يتوقف على التقديم ، وفي القاعدة المذكورة كلام سيأتي في سورة مريم. وعندي أن مراده أنّ الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمرّ الاستبدال فيدذ على تغيير كل
منهما بالآخر من غير تكلف ومخالفة لقواعد العربية فتدبره فإنه دقيق ، وبالتأمّل حقيق ، وقوله : ( ولذلك قرئ الخ ( فإنّ هذه القراءة تدلّ على العكس ، وسيأتي لهذا تحقيق في سورة الرعد وي! إن شاء الله تعالى. قوله : ( يعقبه سريعاً كالطالب الخ ( أي الليل لأنه المحدّث عنه ، والحث الإعجال والسرعة في الحمل على فعل الشيء كالحض ، يقال حثثته فهو حثيث ومحثوث. قوله : ( بقضائه وتصريفه ) تفسير للأمر ، وفي الكشاف بمشيئته وتصريفه وسماه أمرا على التشبيه ، أي على سبيل الاستعارة إذ جعل هذه الأشياء لكونها تابعة لتدبيره وتصريفه كما يشاء ، كأنهن مأمورات منقادة لأمره ، ويصح حمله على ظاهره كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ سورة يس ، الآية : 82 ] على تفسير أي هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة مذللة منقادة لإرادته ، وقوله وقرأ ابن عامر رحمه الله كلها لو قال وقرأها كلها كان أحسن ، وفي القراءة الأولى جوّز تقدير جعل ونصبها به ، ومسخرات مفعول ثان. قوله : ) فإنه الموجد والمتصرف ( إشارة إلى الحصر المستفاد من تقديم الظرف ، وفيه لف ونثر مرتب ، فالموجد للخلق والمتصرت للأمر ، والفاء للتفريع أو التفسير. قوله : ( تبارك الله ( قال الإمام رحمه الله البركة لها تفسيران أحدهما البقاء والثبات ، والثاني كثرة الآثار الفاضلة ، فإن حملته على الأوّل فالثابت الدائم هو اللّه ، وإن حملته على الثاني فكل الخيرات والكمالات من الله ، فلهذا لا يليق هذا الثناء إلا بحضرته ، وقوله : ) بالوحدانية ( قيل أخذه مما قبله ، لأنه لما اختص الخلق والتصرف به تعالى لزم انحصار الألوهية والربوبية(4/173)
ج4ص174
فيه ، ولا حاجة إليه فإته مصرج به في قوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ } [ سورة الأعراف ، الآية : 54 ] الخ وهذا ختام ملاحظ فيه مطلعه ، فلله دز المصنف رحمه الله تعالى في دقة نظره.
قوله : ) وتحقيق الآية الخ ( قال الإمام رحمه الله شرح خلق السماوات بقوله فقضاهن سبع سموات في يومين ، ثم قال وأوحى في كل سماء أمرها ، فدل على أنه خص كل فلك بلطيفة نورانية من عالم الأمر ، فكذلك قال في هذه الآية بعد خلق السماوات والأرض! والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، فهو دالّ على أنّ كل واحد من الشمس والقمر والنجوم مخصوص بشيء روحاني من عالم الأمر ، ثم قال : { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } إشارة إلى أنّ كل ما سوى الله
إما من عالم الخلق ، والملك وهو عالم الأجسام والجسمانيات ، أو من عالم الأمر والملكوت ، وهو كل ما كان مجرّدا عن الحجمية والمقدار إلى آخر ما فصله ، فقوله المستحق للربوبية واحد مأخوذ من قوله إنّ ربكم وما وصف به ، وقوله : ( لأنه الذي الخ ) إشارة إلى أن الصفات أجريت للتعليل ، وقوله : ( فإنه سبحانه وتعالى خلق العالم ) الخ بيان لدليل الانحصار ، وقوله : ( فأباع الآفلاك ( إشارة إلى تقدم خلق السماء على الأرض كما مرّ ، وقوله : ) جسما تابلاَ للصور ( هو الهيولي وسماها جسماً لأنها مادّته ، وقوله : ( ثم قسمها ( إشارة إلى العناصر الأربعة وما يتكوّن منها ويتولد منها وهي المواليد الثلاثة ، أي الحيوان والنبات والمعدن ، وقوله : ( لقوله الخ ( استدل به على أن الأربعة الأيام مع اليومين الأوّلين ، وقوله : ( ثم لتا تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره ) فيكون قوله ثم استوى على العرس استعارة تمثيلية. قوله : ( أي ذوي تضرّع الخ ( فهو حال من الفاعل بتقدير مضاف ، ويجوز نصبهما على المصدرية أيضا ، وقوله نبه به الخ ، إشارة إلى أن معنى التجاوز في الدعاء طلب ما لا يليق به ، فإنه تعذ عن حدّه المناسب له ، وقوله وقيل هو الصياح في الدعاء والإسهاب الخ ، الإسهاب معناه الإفراط في التطويل ، وفي رفع الصوت بالدعاء اختلاف ، منهم من كرهه مطلقا ، ومنهم من قبله مطلقاً ، ومنهم من فصل فقال : عند خوف الرياء الإخفاء أفضل فإن لم يخفه فالإظهار أفضل ، وفي الانتصاف حسبك في
تعين الأسرار في الدعاء اقترانه بالتضرّع في الآية فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء ، وانّ دعاء لا تضرع ولا خشوع فيه لقليل الجدوى ، وكذا ما لا يصحبه الوقار ، وكثيرأ ما نرى الناس يعتمدون الصياح في الدعاء ، خصوصا في الجوامع ، ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وفي المسجد ، وربما حصلت للعوام حينئذ رقة لا تحصل مع الخفض ، وهي شبيهة بالرقة الحاصلة للنساء والأطفال ، خارجة عن السنة ، وسمة السلف الواردة في الآثار ، والتضرّع بمعنى التذلل من الضراعة ، وحمل التضرّع والخفية هنا على معنيين متقاربين ، وهما التذلل مع الإخفاء ، وفسرهما في الأنعام بمعلنين ومسرين ، فجعل التضرّع مقابلا للخفية ، قيل لأنّ المراد هناك حكاية دعائهم لا الأمر به. قوله : ( وعن النبئ يكتيرو الخ ) ) 1 ( رواه أبو داود وأحمد في مسنده. قوله : ( ولا تفسدوا في الأرض ) قال أبو حيان رحمه الله : هذا نهي عن وقوع الفساد في الأرض ، وادخال ماهيته في الوجود بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأموا أط والأنساب والعقول والأديان ، ومعنى بعد إصلاحها بعد أن أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين ، اهـ وهو معنى كلام المصنف. قوله : ( ذوي خوف من الرذ لقصور أعمالكم الخ ) أي هما حالان بمعنى خائفين وطامعين ، ويجوز أن يكونا مفعولين لأجلهما ، وسيأتي تفصيله في قوله : { يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا } [ سورة الرعد ، الآية : 12 ] وقوله ترجيح للطمع الخ لأنّ المؤمن بين الرجاء والخوف ، ولكنه إذا رأى سعة رحمته وسبقها غلب الرجاء عليه ، وما يتوسل به إلى الإجابة هو الإحسان في القول والعمل ، وهو يؤخذ من التعليق بالمشتق كما مرّ. قوله : ) وتذكير قريب الخ ) توجيه لتذكيره مع أنه خبر عن مؤنث ، ولهم في تأويله وجوه تبلغ خمسة عشر وجها ، منها ما ذكره المصنف انّ الرحمة بمعنى الرحم بضم الراء وسكون الحاء وضمهما بمعنى الرحمة ، قال
تعالى : { وَأَقْرَبَ رُحْمًا } [ سورة الكهف ، الآية : 81 ] وفي نسخة بمعنى الترحم كما ذكره غيره أيضا ، أو الخبر محذوف وهذا صفته أي أمر قريب ، أو حمل فعيل بمعنى فاعل كما هنا على فعيل بمعنى مفعول الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث عند أمن اللبس ، وقال الكرماني أنه بمعنى مفعول أي مقربة وضعف بأنه لا ينقاس خصوصا من غير الثلاثي ، أو هو محمول على فعيل الوارد(4/174)
ج4ص175
في المصادر ، فإنه للمذكر والمؤنث أيضا كالنقيض بالنون والقاف والضاد المعجمة ، وهو صوت الرحل ونحوه ، وقيل إنه للفرق بين قريب في يالنسب وغيره ، وهو قول الفراء فإنه قال فلانة قريبة مني لا غير ، وفي المكان وغيره يجوز الوجهان ، وقال الزجاج : إنه خطأ ، وقيل إنّ فعيلا للنسب كلابن وتامر وهو ضعيف ، وتفصيله في الأشبا. والنظائر النحوية ، وقراءة الريح على الوحدة مع جمع نشراً لأنه اسم جنس صادق على الكثير فهو في المعنى جمع. قوله : ( جمع نشور بمعنى ناشر الخ ) أي نشرا بضم النون والشين جمع نشور بفتح النون ، بمعنى ناشر وفعول بمعنى فاعل ، بطرد جمعه عليه كصبور وصبر ، ولم يقل إنه جمع ناشز كبازل وبزل ، لأنّ جمع فاعل على فعل شاذ ، وناشر اختلف في معناه هنا ، فقيل هو على النسبط ، إما على أنّ النشر ضد الطي ، واما على أنّ النشر بمعنى الإحياء لأنّ الريح توصف بالموت والحياة كقوله :
إني لأرجوأن تموت الريح فأقعد اليوم وأستريح
كما يصفها المتأخرون بالعلة والمرض ، ولقد تلطف القائل في شدة الحرّ :
أظن نسيم الروض! مات لأنه له زمن في الروض! وهو عليل
وقيل هو فاعل من نشر مطاوع أنشر الله الميت فنشر وهو ناشر كقوله :
حتى يقول الناس ممارأوا ياهـ اللميت ا!اشر
وقيل ناشر بمعنى منشر أي محعى ، وقيل فعول هنا بمعنى مفعول كرسول ورسل ، إلا أنه
نادر مفرده وجمعه ، وقراءة ابن عامر بضم النون وسكون الشين بعدما كانث مضمومة للتخفيف المطرد في فعل بضمتين. قوله : ) بفتح النون ) أي وسكون الشين مصدر بمعنى ناشرات ، وفي الكشاف بمعنى منتشرات ، لما مرّ من معاني نشر أو نصبه على الحالية ، أو هو مفعول مطلق لأرسل من معناه ، كجلس قعوداً ورجع القهقرى. قوله : ) وعاصم بشرا الخ ( أي بضم الموحدة وسكون الشين ، وأصلها الضم جمع بشير كنذير ونذر ثم خفف بالتسكين ، وهي بمعنى يرسل
الرياج مبشرات لينشرها بالمطر ، وقد روي بضمهما أيضا وهي مروية عن عاصم رحمه الله وقوله مصدر بشره أي بالتخفيف ، بمعنى بشره المشدد ، وباشرات بمعنى مبشرات ، وقوله وبشري أي وقرئ بشري كرجعي وهو مصدر أيضا من البشارة ، وقوله قدّام رحمته تقدم تحقيقه وفسر الرحمة بالمطر ، كما أثبته بعض أهل اللغة ، ولا يلتفت إلى قول ابن هشام في بعض رسائله إنه لم يثبت مجيء الرحمة بمعنى المطر ، وقوله : ( تدزه ) بالدال المهملة أي تنزل مطره من الدر بمعنى اللبن مجازاً. قوله : ) حملت واشتقاقه من القلة ) وفي نسخة حملته وحقيقة أقله جعله قليلاً أو وجده قليلا ، والمراد به ظنه قليلاً كأكذبه إذا جعله كاذباً في زعمه ، ثم استعمل بمعنى حمله لأنّ الحامل يستقل ما يحمله ، ومنه القلة والمقل بمعنى الحامل ، وقوله يستقله أي يعده قليلا ، وحتى غاية لقوله : يرسل والسحاب اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع ، وأهل اللغة تسمية جمعاً فلذا روعي فيه الوجهين في وصفه وضميره. قوله : ( لآجله أو لأحيائه أو لسقيه الخ ) قال أبو حيان رحمه الله اللام في لبلد لام التبليغ ، كما في قلت لك ، وفرق بين قولك سقت لك مالاً وسقت لأجلك مالاً فإنّ الأؤل معناه أوصلته لك أو أبلغتكه ، والثاني لا يلزم منه وصوله إليه وقوله : ( لإحيائه ) الخ اللام فيهما أيضاً للتعليل ، وميت قرئ مشدداً ومخففا كما ذكره المصنف. قوله : ) بالبلد أو بالسحاب الخ ( أي يجوز في الضميرين المذكورين أن يعودا على كل مما ذكر قبلهما صريحا أو ضمنا ، وجعله الباء للإلصاق لأنّ الإنزال ليس في البلد بل المنزل ، ولذا جوّز فيه الظرفية كما في رميت الصيد بالحرم ، والسببية شاملة للسبب القريب والبعيد ، وعود الضمير على الماء لقربه ، ولا يضره تفكيك الضمائر لأنه مع القرينة حسن. قوله : ( من كل أنواعها ا لما كان الاستغراق غير مراد ولا واقع ، وكان المراد التكثير ، وقيل أنّ الاستغراق عرفي. قوله : ( 1 لإشارة فيه إلى إخراج الثمرات ) قيل فيه إشارة إلى طريقتي القائلين بالمعاد الجسماني في إيجاد البدن ثم إحيائه بعد انعدامه ، أو ضم بعض أجزائه إلى بعضها(4/175)
ج4ص176
على النمط السابق بعد تفرقها ثم
إحيائه ، ففيه رذ على منكريه ، والأوّل أظهر لأنّ المتبادر من الآية كون التشبيه بين الإخراجين من كتم العدم ، والثاني يحتاج إلى تمحل تقدير الأحياء واعتبار جمع الأجزاء مع أنه غير معتبر في جانب المشبه به ، قلت قوله بردّ النفوس إلى موادّ أبدانها بعد جمعها يأبى حمله على الأوّل ، وهو المذهب الحق الذي اختاره المصنف فتأمّل ، تطريتها من المنقوص بمعنى تجديدها ، وموادّ بالتشديد جمع ماذة وقوله : ( فتعلمون ) بيان للمقصود من تذكر ذلك وتدبره بمقتضى المقام ، وقوله : ( بالقوى ) أي بسبب القوى أو بإظهار آثار القوى فلا يرد عليه أنّ القوى موجودة وان لم تتعلق النفس بها ، فالوجه أن يقال بعد جمع أبدانها وتهيئتها لتعلق النفس وصلوحها للقوى والحواس فتدبر. قوله : ( 1 لأرض الكريمة التربة ( إشارة إلى أنّ البلد بمعنى الأرض! مطلقاً كما في قوله :
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة للجن بالليل في حافاتها زجل
وأمّا استعمالها بمعنى القرية فعرف طار ، والكريمة التربة تفسير للطيب ، وكرمها كونها
منبتة لاسباخا. قوله : ( بمشيئته وتيسيره ) هذا معنى إذن الله كما مرّ. قوله : ( عبر به عن كثرة النبات وحسنه الخ ) أي المراد من كونه طيبا أن يكون حسنا وافياً لكونه واقعاً في مقابلة نكدا ، فالمطابقة معنوية ، وفي صحاح الجوهري نكدت الركية قل ماؤها ، ورجل نكد عسر ، وقيل : إنّ في الكلام حالاً محذوفة ، أي يخرج واقياً حسنا بقرينة مقابله ، والغرارة بفتح الغين والزاي المعجمتين والراء المهملة الكثرة ، والحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء المهملة أرض ذات حجارة سود ، والسبخة بكسر الباء أرض ذات ملح معروف. قوله : ( قليلأ عديم النفع الخ ) تفسير نكد بالكسر ، لأنه يقال عطاء نكد أي قليل لا خير فيه ، وكذا رجل نكد قال :
فأعط ما أعطيته طيبا لاخيرفي المنكودوالناكد
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن أعطيت أعطيت تافها نكدا
ونصبه على الحال أو صفة مصدر محذوف أو معطوف على الطيب فيكون البلد عاماً ، ويخرج أصله يخرج نباته كما قدره المصنف رحمه الله تعالى ، أو التقدير وبنات الذي خبث الخ وقال الطيبي : والذي خبث إشارة إلى أنّ أصل الأرض! أن تكون طيبة منبتة ، وخلافه طار لعارض! ، كما أنه مثال للإنسان الذي الأصل فيه أن يكون على الفطرة ، وقوله : ( ونكدا ) على المصدر أي قرئ نكداً بفتحتين على زنة المصدر ، والنصب أيضا على أنه مصدر أي خروجاً
نكداً كما ذكره المعرب ، وقيل أراد به تصحيح اللفظ لا أنه منصوب على المصدر ، فإنه حال بحذف المضاف واقامة المضاف إليه مقامه ، وتوله : ( يخرجه البلدا لم يجعل الضمير لله لتكلفه ، ونردّدها ونكرّرها تفسير لنصرف ، لأنّ التصريف تبديل حال بحال ، ومنه تصريف الرياح. قوله : ( لقوم يشكرون نعمة الله الخ ) أو مثل ما مرّ في القرآن من تفصيله وتبيينه نفصل ونكرر سائر آياته لمن شكر نعمة الله التي من جملتها هذا التفصيل ، وشكرها بالتفكر فيها والاعتبار بها وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون به وإن عم ، وإنما فسر الشكر بما ذكر لأنه المناسب لما قبله ، ولو أبقى على ظاهره لكان أظهر. قوله : ( والآية مثل لمن تدبر الآيات الخ ) أي قوله : ( والبلد الطيب ) الخ استطراد واقع على أثر ذكر المطر الذي هو توطئة لقوله : { كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى } الخ أي هو تمثيل وتقريره أنا بينا تلك الآيات الدالة على القدرة والعلم لعلكم تتفكرون فيها ، فتعلمون أنكم إلينا ترجعون ، لكن لا تنجع تلك الآيات إلا فيمن شرح الله صدره ، فيخرج نبات فكره طيباً ، ومن جعل صدره ضيقا لا يخرج نبات فكره إلا حبينا ، فلا يرفع لها رأساً ، كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ، وهذا كما في حديث الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء قأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجاذب أمسكت الماء ، فنقع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان ) 1 ( لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه الله بما بعثني به فعلم وعلم(4/176)
ج4ص177
ومثل من لم يرفع لذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت له " ) 2 ( . وقوله : ( لم يرفع رأساً ( استعارة لعدم الانتفاع والقبول ، والظاهر أنه كناية ، وفي كلام المصنف رحمه الله تعالى إشارة إلى هذا الحديث. قوله : ) جواب قسم محذوف الخ ( أي هو جواب قسم محذوف تقديره والله لقد أرسلنا ، وفي الكشاف فإن قلت ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد ، وقل عنهم نحو قوله :
حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموافما إن من حديث ولا صالي
قلت : إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لا تساق ، إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي
هي جوابها فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم ، وتبعه المصنف رحمه الله لكن غيره من النحاة قالوا إذا كان جواب القسم ماضيأ مثبتاً متصرفاً
فإما أن يكون قريبا من الحال فيؤتى بقد ، وإلا أتيت باللام وحدها ، فجؤزوا الوجهين باعتبارين ، وقال هنا : لقد بدون عاطف ، وفي هود والمؤمنين بعاطف قال الكرماني لتقدم ذكره صريحاً في هود وفي المؤمنين ضمناً في قوله : { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } [ سورة المؤمنون ، الآية : 22 ] لأنه أوّل من صنعها بخلاف ما هنا. قوله : ( لأنها مظنة التوقع ( هو معنى كلا ا الكشاف الذي قررناه ، ولا فرق بينهما كما توهم ، وفي شرح التسهيل بسط لهذه المسألة والاعتراض بقوله تعالى : { وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ } وهم لأنّ الكلام في الماضي ، والمراد بالتوقع توقع الأعلام به لأنه ماض. قوله : ( ونوح ابن لملك الخ ( لملك بفتحتين ولأمك كهاجر أبو نوج عليه الصلاة والسلام ، ومتوشلح بوزن المفعول في المشهور ، وقيل هو بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشددة وسكون الواو وشين معجمة ولام مفتوحة ثم خاء معجمة. قوله : ( أوّل نبتي الخ ) اعترض عليه بأنه يقتضي أنه أوّل الرسل ، وقد كان قبله شيث وإدرش! عليهما الصلاة والسلام ، وهو من خواص نبينا محمد!ت ، وأجيب عنه بأنّ عموم الرسالة للثقلين ، وبقاء دعوته إلى يوم القيامة ، وأيضا إنه بعد الطوفان لم يكن في الأرض غير قومه ، وتفصيله في شرح البخارقي لابن حجر. قوله : ( أي اعبدوه وحده ) فسره به لدلالة ما بعده عليه لأنّ الإله المعبود ، ولأنهم معترفون بعبادته ، وهي مع التشريك كلا عبادة ، وغيره قرئ بالحركات الثلاث ، بالنصب على الاستثناء ، والجر على النعت أو البدل من إله ، والرفع باعتبار محله. قوله : ) إن لم تؤمنوا ( كان الظاهر إن لم تعبدوا ، لكن لما كانت عبادته تستلزم الإيمان به قدر ذلك ، وكون المراد باليوم يوم الطوفان لأنه أعلم بوقوعه إن لم يؤمنوا. قوله : ( أي الإشراف الخ ) الرواء بضم الراء المهملة والمذ حسن المنظر ، وملء العيون مجاز عن زيادة حسنهم في النظر ، وقيل لأنهم ملوّن قادرون على ما يراد منهم من كفاية الأمور ، أو يملؤون المجال! باتباعهم. توله : ) أي شيء من الضلال بالغ في النفي الخ ) في الكشاف الضلالة أخص من الضلال ، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه ، كأنه قال ليس بي شيء من الضلال ، كما لو قيل لك ألك تمر فقلت ما لي تمرة ، وفي المثل السائر الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي يفوق بينها وبين واحدها بتاء
التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ، ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ ، كما في هذه الآية ، وليس الضلالة مصدرا كالضلال بل هي عبارة عن المزة الواحدة ، فإذا نفى نوح عليه الصلاة والسلام عن نفسه المرة الواحدة من الضلال فقد نفى ما فوق ذلك ، وقد اشتهر الاعتراض على ذلك بوجوه منها ما قيل إنه غير مستقيم لأنّ نفي الأخص أعم من نفي الأعم ، فلا يستلزمه ضرورة ، أنّ الأعم لا يستلزم الأخص بخلاف العكس ، ألا تراك إذا قلت هذا ليس بإنسان لم يلزم أن لا يكون حيوانا ، ولو قلت هذا حيوان لا يستلزم أن يكون إنسانا ، فنفي الأعم كما ترى أبلغ من نفي الأخص ، وأيضاً جعل التاء للوحدة كتاء تمرة ، وقد قال في المجمل الضلال والضلالة بمعنى واحد ، وأيضاً لو قيل ما عندي تمرة بمعنى تمرة واحدة ، وعندي تمر كثير صح ، كما لو أظهر ذلك فقال ليس عندي تمرة واحدة بل تمرات حتى لا يعد مثله تناقضا ، فقول نوج صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } ليس نفياً لضلالات مختلفة الأنواع ، وردّ بأنهما وأن جاآ في اللغة بمعنى واحد كالملال والملالة إلا أن مقابلة الضلال بالضلالة ونفيها عند قصد المبالغة في الهداية ، يدل أن المراد به المرة ، والتاء للوحدة فيكون بعضاً من جنس الضلال وفرداً واحدا منه ، ويؤول(4/177)
ج4ص178
معناه إلى أقل ما يطلق عليه اسم الضلال ، وهذا معنى كونه أخص! ، ولا يبعد تفسيره بالأقل فردا وظاهر ، أنّ نفيه أبلغ من نفي الجنس المحتمل للكثرة ، أو الانصراف إلى الكمال ، كما يحتمل نفس الماهية ، ولا كذلك احتمال رجوع النفي في المرة إلى الوحدة ، بمعنى ليس بي ضلالة بل ضلالات ، كما في جاءني رجل بل رجلان لأنه مضمحل ، في هذا المقام لا مجال للوهم فيه فسقط ما أورد على ذلك برمته ، وأغنى عما وقع هنا للشراح من القيل والقال ، واليه أشار المصنف رحمه الله تعالى بقوله شيء من الضلال فتدبر ، وقوله بالغ في النفي حيث نفى عن نفسه ملابسة ضلالة واحدة ، وبالغوا في الإثبات حيث أكدوا كلامهم بأنّ واللام ، وجعلوا الضلال ظرفا له ، وقوله وعرض لهم به لأنّ تقديم المقيد لاختصاص النفي به يقتضي أنه ثابت لهم ، وهو المراد بالتعريض لأنه من عرض الكلام ومفهومه. قوله : ( استدراك باعتبار ما يلزمه الخ ) في الكشاف فإن قلت كيف وقع قوله ولكني رسول استدراكاً للانتفاء عن الضلالة ، قلت كونه رسولاً من الله مبلغا رسالاته ناصحا في معنى كونه على الصراط المستقيم فصح لذلك أن يكون استدراكا للانتفاء عن الضلالة ، فقيل عليه معنى الاستدراك أن يقع للمخاطب في الجملة السابقة وهم فيتدارك ذلك الوهم بإزالته ، فلما نفى الضلالة عن نفسه فربما يتوهم المخاطب انتفاء الرسالة أيضاً كما انتفى الضلالة فاستدركه بلكن ، كما في قولك زيد ليس بفقيه ، لكنه طبيب ، وأما جوابه بأن إثبات الرسالة في معنى الاهتداء واثبات الاهتداء استدراك لنفي الضلالة ففيه بعد ، لأنه لما نفى الضلالة لم يذهب وهم واهم إلى نفي الاهتداء أيضاً حتى يحتاج إلى تداركه ، ويمكن أن يقال إذا لم يسلك طريقا فلا
اهتداء ولا ضلال ، وقال النحرير : متعقبا له إن كان القصد إلى مجرّد كون لكن يتوسط بين كلامين متغايرين نفيا واثباتاً فوجه السؤال والجواب ظاهر ، وأمّ إذا أريد بالاستدراك رفع التوهم الناشئ من الكلام السابق على ما هو المشهور ، وعلى ما قاله المصنف رحمه الله تعالى معنى الاستدراك أنّ الجملة التي يسوقها أولأ يقع فيها وهم للمخاطب فيتدارك ذلك الوهم بإزالته ، كقولك زيد ليس بفقيه ولكته طبيب ، ففي الكلام إشكال لأن نفي الضلالة ليس مما يقع فيه نفي كونه رسولأ ، وعلى صراط مستقيم ، وما في الكتاب غير واف بحله بل ترك ما ذكره من التأويل أولى ، إذ يمكن أن يقال ربما يتوهم المخاطب عند نفي الضلالة انتفاء الرسالة أيضاً ، لكن توهم انتفاء الهداية مما لا وجه له إذ من البعيد أن يقال نفي الضلالة ، ربما يوهم نفي سلوك الطريق المستقيم ، وحيث لا سلوك لا هداية ، كما لا ضلالة والظاهر أن المصنف رحمه الله تعالى لم يقصد سوى أنه عند نفي أحد المتقابلين قد سبق الوهم إلى انتفاء المقابل الآخر ، لا إلى انتفاء الأمور التي لا تعلق لها به ، فأول ما وقع في معرض الاستدراك بما يقابل الضلال مثلا يقال زيد ليس بقائم لكنه قاعد ، ولا يقال لكنه شارب إلا بعد التأويل بأن الشارب يكون قاعدآ ، وقد قيل : إنّ القوم لما أثبتوا له الضلالة أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة ، فهو حين نفي الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه ، وترك دعوى الرسالة ، فوقع الأخبار بأنه رسول ، وثابت على الصراط المستقيم أستدراكا لذلك ، ولا خفاء في أن هذا ليس كلام الكتاب ، اهـ وما ذكره تحقيق بديع لكن المذكور في العربية كما نقله صاحب المغني أنّ للنحاة في الاستدراك ولزومه لها قولين : فقيل الاستدراك أن تنسب لما بعدها حكما مخالفاً لما قبلها سواء تغايرا إثباتا ونفياً أولاً ، وقيل هو رفع ما يتوهم ثبوته ، وهو التحقيق كما يشهد به من تتبع موارد الاستعمال ، وما ذكره أوّلاً مخالف للقولين إلا أن يرجع إليه بضرب من التأويل ، وقال بعض المتأخرين من علماء الروم : النظر الصائب في الاستدراك هنا أن يكون مثل قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
الخ وقوله :
سوى أنه الضرغام لكنه الوبل
أي ليس بي ضلالة وعيب ، لكني رسول من رب العالمين فليتأفل ، ومحصل كلام المصنف رحمه الله تعالى أنها واقعة بين متغايرين بحسب التأويل ، وهي تفيد التأكيد في مثله ، كما صرح به النحاة فلا يرد السؤال الذي أورده بعضهم هنا ، وهو فإن قيل لا فائدة في الاستدراك لأنّ نفي الضلالة يستلزم الهدي ، قلنا المراد من الهدي الهداية الكاملة ، ونفي الضلالة لا يستلزمها. قوله : ( صفات لرسول أو استئناف ) قيل إذا كانت الجملة صفات جاز فيها التكلم لأنها خبر(4/178)
ج4ص179
المتكلم كقوله :
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
والقياس سمته لكنه حمل على المعنى لا من اللبس ، وهو مع ذلك قبيح حتى قال المازنيّ رحمه الله تعالى لولا شهرته لرددته ، فينبغي الحمل على الاستثناء إذ لا وجه للحمل على الضعيف مع وجود القوي ، قلت لا وجه لهذا لأنّ ما ذكره المازني في صلة الموصول لا في وصف النكرة فإنه وارد في القرآن مثل : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أسورة النمل ، الآية : 55 ] مصرج بحسنه في كتب النحو والمعاني ، مع أنّ ما ذكره المازني وتبعه ابن جني حتى استرذل قول المتنبي :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
ردّه النحاة وقال في الانتصاف أنه حسن في الاستعمال ، وهذا إذا لم يكن الضمير مؤخراً
نحو الذي قرى الضيوف أنا أو كان للتشبيه نحو أنا في الشجاعة الذي قتل مرحبا ، وقوله بالتخفيف أي تسكين الباء وتخفيف اللام لا تشديدها ، وقوله : ( على الوجهين ) أي ألاستئناف والوصفية ، فهي فيهما بيان للرسول بأنه الذي يبلغ عن الله الخ. قوله : ( وجمع الرسالات الخ ) أي رسالة كل نبيّ واحدة وهي مصدر الأصل فيه أن لا يجمع ، فجمع هنا لاختلاف أوقاتها فكل وقت له إرسال ، أو تنوّع معاني ما أرسل به ، أو أنه أريد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقوله : ( للدلالة على إمحاض النصح ) بناء على أنّ اللام فيه للاختصاص لا زائدة للدلالة على أنّ الغرضى ليس غير النصح ، وليس النصح لغيرهم كما قيل ، والمراد بكون النصح ليس لغيرهم أن نفعه يعود عليهم لا عليه كقوله : { مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ } وهذا هو المستفاد من اللام بواسطة الاختصاص ، وأمّا كونه لا غرض له غير النصح في تبليغه ، فإمّا من ذكر النصح بعده أو لأن معناه كما قال الراغب : يتضمن الخلوص عما يخالفه من قولهم عسل ناصح أي خالص ، فلا يرد على الأوّل أن دلالة اللام عليه غير ظاهرة ، وعلى الثاني أنه لا وجه للحصر فيهم لا سيما ودعوة نوح عليه الصلاة والسلام عامة لمن في عصره ، فتدبر ووجه التقرير لأنّ سعة علمه تقتضي تصديقه فيما أخبرهم به. قوله : ( من قدرته الخ ) فمن بيانية لما مقدمة عليه وفيه مضاف فقدر ، وعلى الوجه الثاني من ابتدائية ولا تقدير فيه ،
والاستفهام للإنكار بمعنى لم كان ذلك ولا داعي له ، والكلام في تقدير المعطوف وعدمه معلوم مما مر ، وتفصيله في أول المغني وان جاءكم بتقدير من لتعديته بها ، وفسر الذكر بما أرسل به كما قيل للقرآن ذكراً وبالمواعظة لأنها تذكير وقدراسان في قوله على رجل المتعلق بجاء لأنه لا يقال جاء عليه بل جاء على يده أو على لسانه ، يعني بواسطته وقيل على بمعنى مع فلا حاجة إلى التقدير ، وقيل تعلق به لأنّ معناه أنزل أو لأنه ضمن معناه ، وقوله من جملنكم أو من جنسكم إشارة إلى أنّ من تبعيضية أو بيانية. وقوله : ( نإنهم الخ ) على الوجهين بيان للتعجب من كونه جاء على لسان رجل ، وليس مخصوصا بالثاني كما توهم ، وقوله من إرسال البشر أي من دعواه ، وعاقبة الكفر والمعاصي العذاب والعقاب ، وضمير منهما للكفر والمعاصي. قوله : ( بسبب لإنذار الخ ) أراد أنه سبب في نفسه لا أنّ الكلام دال عليه ، وكذا فيما بعده فلا يرد الاعتراض عليه بأنه لم يعتبر السببية ، والا لقيل فتنقوا مع أنه تابعه قيما بعده فورد عليه ما ورد فتأمّل. وقوله وفائدة حرف الترجي الخ وقيل هو جار على عبادة العظماء في وعدهم بلعل. قوله تعالى { فَأَنجَيْنَاهُ } الخ الفاء للسببية باعتبار الإعراق لا فصيحة ، وفي الشعراء ثم أغرقنا لأنّ الإنجاء ثمة من قصدهم له كما ذكره هناك وقوله وهم من آمن به خصه بالبشر لمقابلته بإغراق المكذبين وإن كان معه بعض الحيوإنات وقوله : ( وكانوا أربعين ) الخ أي الناجون فلا يخالفه ما هو في هود من أن من آمن به تسعة وسبعون. قوله : ( متعلق بمعه الخ ) أي يجوز أن يتعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة ، كما يجوز أن يكون صلة ومعه متعلق به ، أو متعلق بأنجينا وفي ظرفية أو سببية أو حال من الموصول متعلق بمقدر أي كائنين فيها ، أو حال من الضمير المستتر في الظرف ، والفرق بينه وبين الأول لفظا أن له متعلقا مقدراً على هذا ، ومعنى التصريح بالغية هذا بعد ما كانت ضمنا وفيه نظر. وقوله عمي القلوب بضم العين وسكون الميم جمع أعمى ، وبفتح العين وكسر الميم على أنه مفرد أو جمع سقطت نونه للإضافة. قوله : ( والأوّل أبلغ الخ ) فرق بين عم وعامى بأن عم صفة مشبهة تدل على الثبوت كفرح بخلاف عام فهو أبلغ ، وقيل عم لعمي البصيرة ، وعام لأعمى البصر(4/179)
ج4ص180
وقيل هما سواء فيهما. قوله : ( عطف على نوحاً إلى
قومه ) أي عطف المجموع على المجموع وغير الأسلوب لأجل ضمير أخاهم ، إذ لو أتى به على سنن الأول عاد الضمير إلى متأخر لفظ ، ورتبة وهوداً عطف بيان أو بدل وعاد اسم أبيهم سميت به القبيلة أو الحيّ ، فيجوز صرفه وعدمه كثمود كما ذكره سيبويه وأمّا هودءلمج!ر فاشتهر أنه عربي ، وظاهر كلام سيبويه رحمه الله أنه أعجمي ويشهد له ما قيل إنّ أول العرب بعرب ، ومعنى أخاهم إنه منهم نسبا وهو قول للنسابين ، ومن لا يقول به يقول إن المراد صاحبهم وواحد في جملتهم ، كما تقول يا أخا العرب ، وبين حكمة كون النبيّ صلى الله عليه وسلم يبعث من قومه لأنهم أفهم لقوله من قول غيره ، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله. قوله : ( استأنف به ولم يعطف الخ ) أي لم يعطف هذا ولا قال الآتي في جوابهم لجعله جواب سؤال مقدر ، بخلاف ما مرّ في قصة نوج صلى الله عليه وسلم ، فغاير بينهما تفنناً كما ذكره الزمخشريّ. وقيل عليه إنه غير كاف في الفرق فإنّ الرسالة كما هي مظنة السؤال هنا ، كذلك هي مظنة السؤال ثمة فالأولى أن يقال كان نوح يك!يرو مواظبا على دعوتهم غير مؤخر لجواب شبههم لحظة واحدة ، وأما هود صلى الله عليه وسلم فما كان مبالغا إلى هذا الحد فلذا جاء التعقيب في كلام نوح عليه السلام ، وقيل إنه يصلح عذر الترك الفاء لا لترك الوصل والكلام فيه ، وقيل إنّ تتمة هذا الجواب أنّ قصة نوج عليه السلام ابتداء كلام فليست مظنة سؤال بخلاف قصة هود صلى الله عليه وسلم فإنها معطوفة على قصة نوح عليه السلام ، فكانت مظنة أن يقال أقال هود مثل ما قال نوج أم لا ، وقيل عليه إنه تغيير للتقرير بتقرير آخر وليس بشيء. قوله : ( وكأن قومه كانوا أقرب من قوم نوح عليه السلام ولذلك قال الخ ) أي كانوا أقرب إلى قبول الحق واجابة الدعوة من قوم نوج صلى الله عليه وسلم ، ولذلك أطلق الملأ المعاندين من قوم نوح وقيده هنا بمن كفر منهم ، وفيه إشارة إلى وجه قوله هنا أفلا تتقون ، وقوله هناك : { إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ سورة الأعراف ، الآية : 59 ] فإنه أشدّ من التخويف وقيل في وجهه إنها أوّل وقعة عظيمة بخلاف هذه فتدبر. قوله : ( إذ كان من إشرافهم من آمن الخ ) فلم يكن من أشراف قوم نوح عليه الصلاة والسلام مؤمن ، فعلى هذا ما ورد في سورة المؤمنين : { فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } [ سورة المؤمنون ، الآية : 24 ] الخ في وصف نوج يكتنرو محمول على أنه هناك للذمّ لا للتمييز وإنما لم يذمّ هاهنا للإشارة إلى التفرقة بين قوم نوج
وقوم هود عليهما الصلاة والسلام ولو حمل الوصف على الذمّ هنا ، وفرق بأنّ مقتضى المقام ذمّ قوم هود لشدة عنادهم لقولهم إنا لنراك في سفاهة مع كونه معروفا بينهم بالحلم والرشد ، وذم قوم نوح في سورة المؤمنين لعنادهم بقولهم : { مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ، إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } [ سورة المؤمنون ، الآية : 24-25 ] لما فيه من فرط العناد ، ثم إنه قيل إنّ الظاهر أن ما نقل هنا عن قوم نوج صلى الله عليه وسلم مقالتهم في مجلس أو مقالة بعضهم ، وما نقل في سورة المؤمنين مقالتهم في مجلس آخر ، أو مقالة بعض آخر ، فروعي في المقامين مقتضى كل من المقالتين ، ثم إن شذة عناد من عاند من قوم هود صلى الله عليه وسلم لا تنافي قرب جملتهم من جملة قوم نوج ، حيث آمن بعض أشرافهم دون أشراف قوم نوجء!ر ، فإن قلت قوله إذ كان من أشراف قومه من آمن يقتضي أنّ قوم نوج عليه الصلاة والسلام ليسوا كذلك ، وهو ينافي قوله في تفسير قوله والذين آمنوا معه أنه آمن معه أربعون رجلاً وأربعون امرأة ، وقوله تعالى : { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ سورة هود ، الآية : 36 ] قلت هؤلاء لم يكونوا من السادات كما هو المعتاد في اتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وفيل إنه وقت مخاطبة نوح جمز لقومه لم يكونوا آمنوا ، بخلاف قوم هود ، ومثله يحتاج إلى النقل. قوله : ( متمكناً في خفة عقل راسخا فيها ( حيث لم يقل سفيها ، وجعله متمكنا فيها تمكن الظرف في المظروف ، ففيه استعارة تبعية مع أن واللام المؤكدة لذلك ، وقوله حيث فارقت الخ تعليل لذلك. وقوله ولكني رسول مرّ تحقيق الكلام فيه. قوله : ( وفي إجابة الآنبياء عليهم الصلاة والسلام الكفرة الخ ( توصيفه الكلمات بالحماقة مبالغة ، والمعنى الأحمق قائلها فهو مجاز ، وقوله عن مقابلتهم أي(4/180)
ج4ص181
بالتسفه والتكذيب وهضم النفس من قوله على رجل منكم ، وقوله تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين النصح والأمانة ، فليس من حقه أن يتهم بالكذب ونحوه ، وذكر هذا في الكشاف ، ثم قال وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه ، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه ، وفي الكشف الفرق بين الوجهين بحسب تقدير المتعلق للنصح والأمانة وجعلهما من قبيل المهجور ذكر متعلقه ، والثاني يفيد أنه أوحدي فيه موجد للحقيقتين كأنه صناعته ، فلذلك قال عرفت فيما بينكم ، وقال الطيبي وحمه الله إنه على الأوّل اعتراض ، وعلى الثاني حال ، كما مرّ في قوله تعالى : { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } [ سورة البقرة ، الآية : 51 ] وهذا كله من العدول عن الفعلية إلى الاسمية المفيدة للتحقق
والثبوت ، ووقع في نسخة هنا وقرأ أبو عمرو أبلغكم بالتخفيف يعني من الأفعال والباقون بالتشديد في الموضعين ، وفي الأحقاف والتضعيف والهمزة للتعدية. قوله : ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء ) إذ ظرف منصوب بآلاء المحذوف هنا بقرينة ما بعده لتضمته معنى الفعل ، والذي اختاره الزمخشريّ أنه مفعول اذكروا ، أي اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسام ، كما مرج تفصيله في البقرة ، وهو أقرب مما مرّ لكنه مبنيّ على الاتساع في الظرف ، أو أنه غير لازم للظرفية ، والمشهور في النحو أنّ إذ وإذا لازمان للظرفية ، وفي الخلق يحتمل أنه بمعنى المخلوقين ، أي زداكم في الناس على أمثالكم بسطة أي قوّة ، وزيادة جسم لأنه روي أن أقصرهم كان ستين ذراعا ، وعالج موضع مشهور بكثرة الرمل ، وعمان بالضم والتخفيف بلد ينسب إليه البحر ، ووقع في نسخة شجر بشين معجمة وحاء مهملة ، وهو ساحل له ينسب إليه العنبر ، وعلى أن المراد الملك الإسناد إليهم مجاز لكونه من بعضهم ، وقوله خوفهم من عقاب الله هو من قوله تتقون كما فسره والنعم ظاهرة. قوله : ( آلاء الله ( هي نعمه جمع إلي بكسر الهمزة وسكون اللام ، كحمل وأحمال ، أو إلى بضم فسكون كقفل وأقفال ، أو إلى بكسر ففتح مقصوراً كعنب وأعناب ، أو بفتحتين مقصوراً كقفا وأقفاء ، وبهما ينشد قول الأعشى :
أبيض لا يرهب الهزال ولا يقطع رحمي ولا يخون إلى
وقوله تعميم الخ أي مطلق آلاء الله لا قوله زادكم كما توهم. قوله : ( لكي يفضي الخ (
لما كان الفلاج لا يترتب على مجرّد ذكر النعم جعل ذكرها عبارة عما يلزمها من شكرها الذي من جملته عمل الأركان ، ولطاعة فالشكر عرفيّ وهو كناية. قوله : ) استبعدوا اختصاص الخ ) الاستبعاد مستفاد من الاستفهام وسوق الكلام والانهماك الإكثار والتقيد بالشيء ، وألفوه من الألف والمحبة ، وفي نسخة ألفوه بسكون اللام أي وجدوه. قوله : ) ومعنى المجيء الخ ( لما كان بين أظهرهم وفيهم أوّل بأنه كان في مكان معتزلاً عنهم للعبادة أو لئلا يرى سوء صنيعهم ، فجاءهم حقيقة لينذرهم ، أو أن المراد به أجئتنا ونزلت علينا من السماء ، تهكما بناء على زعمهم أنّ المرسل من الله لا يكون إلا ملكأ ، أو مجاز عن القصد إلى شيء ، والشروع فيه فإنّ
جاء وقام وقعد وذهب تستعمله العرب كذلك تصويراً للحال ، فتقول قعد يفعل كذا وقام يشتمني ، وذهب يسبني قال :
فاليوم إذ قمت تهجوني وتشتمني
كما فصله المرزوقي في شرح الحماسة. قوله : ( قد وجب أو حق أو نزل الخ ) يعني استعمال وقع المخصوص بنزول الأجسام في الرجس ، والغضب مجاز عن الوجوب بمعنى اللزوم من إطلاق السبب على المسبب ، كما أنّ الوجوب الشرعي كان بمعنى الوقوع فتجوّز به عما ذكر ، ويجوز أن يكون استعارة تبعية شبه تعلق ذلك بهم بنزول جسم من علو ، وهو المراد بقوله نزل عليكم كذا قيل والظاهر أنه يريد أنّ وقع بمعنى قضى وقدر ، لأنّ المقدرات تضاف إلى السماء ، وما قيل إنّ التجوّز في كلمة على لأنّ العذاب لقوّة الثبوت كأنه استعلاء ، أو لأنّ أكثر العذاب ينزل من صوب السماء ، فضمن معنى النزول فلا وجه له ، وقوله : ( على أنّ المتوقع ( وجه للتعبير بالمضيّ عما سيقع ولا يخفى لطف ، كالواقع هنا لقوله في النظم وقع ، فالتجوّز إما في المادة أو الهيئة ، والارتجاس والارتجاز بمعنى حتى قيل أنّ أحدهما مبدل من الآخر ، وأصل معنا. الاضطراب ، ثم شاع في العذاب لاضطراب من حل به ، وفسر الغضب بالغضب الإلهي وارادة الانتقام كما مرّ تحقيقه في الفاتحة لئلا يتكرّر مع ذكر العذاب قبله. قوله :(4/181)
ج4ص182
( في أشياء سميتموها آلهة الخ ) جعل الأسماء عبارة عن الأصنام الباطلة ، كما يقال لما لا يليق ما هو إلا مجرّد اسم ، فالمعنى أتجادلونني في مسميات لها أسماء لا تليق بها ، فتوجه الدمّ للتسمية الخالية عن المعنى ، والضمير حينئذ راجع لأسماء وهي المفعول الأوّل للتسمية ، والثاني آلهة ولو عكس لزم الاستخدام ، وقوله ما نزل الله بها من سلطان أي حجة ودليل تهكم كما مرّ في قوله : { أَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } فهو تعليق بالمحال ، واليه يثير قوله
أنها لو اسنحقت أي استحقت العبادة ، وكون الاسم غير المسمى أو عينه تقدّم الكلام عليه في أوّل الكتاب ، واللغات هل لي توقيفية أم لا ، واضعها الله أو العرب ، والكلام فيه والاستدلال مفصل في أصول الفقه ، ووجه ضعفها يعلم من تقرير كلام المصنف رحمه الله؟ كما بيناه لك فلا نطيل بغير طائل ، وقوله لما وضح ما مصدرية وهو تعليل لنزول العذاب ، ونزول العذاب مفعول انتظروا وهو بيان !موقع الفاء في النظم ، وقوله في الدين إشارة إلى أن المعية مجاز عن المتابعة. قوله : ( أي استأصلناهم ( يعني أن قطع الدابر كناية عن الاستئصال إلى إهلاك الجميع لأنّ المعتاد في الآفة إذا أصابت الآخر أن تمرّ على غيره ، والشيء إذا امتد أصله أخذ برمته ، والدابر بمعنى الآخر. قوله : ( تعريض بمن آمن منهم الخ ) قال الطيبي رحمه الله يعني إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أنّ سبب النجاة هو الإيمان لا غير تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده. قوله : ( روي أنهم كانوا يعبدون الآصنام الخ ( إمساك القطر عدم المطر ، وجهدهم البلاء ، بمعنى شق عليهم ، وأذاهم من الجهد ، وقيل بفتح القاف وسكون الياء علم ومعنا. السيد الذي يسمع قوله وأصله قبول فأعل إعلال ميت وأطلق على كل ملك من حمير
وكونهم أخوال معاوية بن بكر لأنّ أمّه من قبيلتهم كما ذكره البغويّ ، والفينة الجارية مطلقاً ويراد بها المغنية ، وهو المراد هنا وكان اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة ، فقيل لهما جرادتان على التغليب ، وقوله أهمه ذلك أي أورثه غما واستحياه أي من ضيوفه لئلا يظنوا أنه ملهم ، فذكر ذلك للجاريتين فقالا له : قل شعرا يذكرهما بما قدما له لنغنيهم به فيفطنوا لذلك من غير علم بأنه منك فقال ذلك : وويحك ترحم وهينم أمر من الهينمة وهي الصوت الخفيّ ، والمراد اح ، وقد امسوا بنقل حركة الهمزة للدال الساكنة وما يبينون الكلاما أي ضعفوا ومرضوا من القحط وقال من قال مرثد لأنه كان مؤمنا يكتم إيمانه ، وقوله ما كنت تسقيهم ما موصولة وكونها نافية بعيد ، وقوله فأنشأ الله أي خلق وأظهر ، وقوله ناداه مناد من السماء الخ. قيل كان كذلك يفعل الله بمن دعاه إذ ذاك وسود السحاب أغزر ماء كما هو معروف ، وقوله : ( وادي المنيث ) بوزن الفاعل من الغيث اسم واد لهم مشهور عندهم وريح عقيم لا مطر معها وهذا لمعاوية وبعده :
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما
والقصة طويلة مذكورة في السير ، وعاد المذكورة عاد الأولى ونسلهم عاد الآخرة. قوله :
( سموا باسم أبيهم ا!بر الخ ) يعني أنّ القبيلة سميت باسم الجد ، كما يقال تميم أو سميت بمنقول من ثمد الماء إذا قل وبعد التسمية به ورد فيه الصرف وعدمه ، أما الثاني فلأنه اسم القبيلة ففيه العلمية والتأنيث ، وأتا الأوّل فلأنه اسم للحيّ أو لأنه لما كان اسمها الجد أو القليل من الماء كان مصروفا لأنه علم مذكر أو اسم جنس ، فبعد النقل حكى أصله ، والحجر بكسر الحاء اسم أرض معروف ، وفي قوله ابن ثمود بيان لأنّ الأخوة نسبية. قوله : امعجزة ظاهرة الدلالة ) بيان لوجه إطلاقها عليها ومن ربكم متعلق بجاءتكم أو صفة بينة ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض ، إن قدر من بينات ربكم وليس بلازم على تقدير الوصفية ما قيل. قوله : ( استئناف لبيانها الخ ( أي لبيان البينة والمعجزة ، أي استئناف نحويّ ، وجوّز أن يكون استثنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر ، تقديره أين هي ما لا هي حتى ينافي القصة وأنهم سألوها ، ويقال أن الظاهر حينئذ أن يقال هي ناقة الله ، وجوّز في هذه الجملة أن تكون بدلاً من بينة بدل جملة من مفرد للتفسير. قوله : ( وآية نصب على الحال الخ ) وهي حال مؤكدة وكون العامل فيها معنى الإشارة لأنه فعل معنى أي أشير ، ولذا سماه النحاة العامل المعنوي ، وتحقيقه مرّت الإشارة إليه ، وقوله
ولكم(4/182)
ج4ص183
بيان كما في سقيا له فيتعلق بمقدر لا غير ، وإذا كان لكم خبرا فآية حال من الضمير المستتر فيه والعامل هو أو متعلقة كما تقرّر في النحو ، وإضافتها إلى الله حقيقة وهي تفيد التعظيم إذ ليس كل إضافة تشريفية لأدنى ملابسة كما ذكره العلامة ، أو لأنها ليست بواسطة إنتاج ولذلك كانت آية كما أن خلقها ليس تدريجياً كذلك. وقوله : ( العشب ) بيان لمفعوله المقدر لأنه معلوم وتأكل بالجزم جواب الأمر ، وقرئ بالرفع فالجملة حالية ، وفي أرض الله يجوز تعلقه بتأكل والأمر فهو من التنازع. قوله : ( نهي عن المس الذي هو مقدّمة الإصابة الخ ) فهو كقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ } [ سورة الأنعام ، الآية : 52 ا ] إذ المعنى لا تجعلوا الأذى ما سالها ، ولا يلزم من المجاورة والمس التأثير ، ألا ترى أنه لا يلزم من مس السكين الجرح والقطع ، وبلزم من عدم المس عدمه بالطريق الأولى ، فلا وجه لما قيل إنّ عليه منعا ظاهراً ، فإنّ المنهي عنه ليس مطلق المس بل هو المقيد بمقارنة السو ، كالنهي في قوله : { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } [ سورة النساء ، الآية : 43 ] إلا أن يجعل بسوء حالاً من الفاعل ، والمعنى ولا تمسوها مع قصد السوء بها فضلاً عن الإصابة. قوله : ( جواب للنهي ( أي منصوب في جوابه والمعنى لا تجمعوا بين المس وأخذ العذاب إياكم ، وأخذ العذاب وان لم يكن من صنيعهم لكنهم تعاطوا أسبابه ، وقوله من بعد عاد لم يقل خلفاء عاد مع أنه أخصر إشارة إلى أنّ بينهما زمانا طويلاً ، وبوّأكم بمعنى أنزلكم ، والمباءة المنزل. قوله : ( أي تبنون في سهولها الخ ) فمن بمعنى في كما في قوله تعالى : { نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } [ سورة الجمعة ، الآية : 9 ] والسهل خلاف الحزن ، وهو موضع الحجارة والجبال ، أو من ابتدائية أو تبعيضية أي تعملون القصور من مادّ مأخوذة من السهل وهي الطين واللبن بكسر الباء الموحدة الطوب الذي لم يحرق ، والآجرّ بالمد وتشديد الراء ما أحرق منه. قوله : ( وتنحتون الجبال بيوتا الخ ) النحت معروف في كل صلب ومضارعه مكسور الحاء ، وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق ، وقرئ تنحاتون بالإشباع كينباع ، وبيوتا حال مقدّرة لأنها حال النحت لم تكن بيوتا كخطت الثوب جبة والحالية باعتبار أنها بمعنى مسكونة أن قيل بالاشتقاق فيها وتقديره من الجبال ونصبه بنزع الخافض يرجحه أنه وقع في آية أخرى كذلك ، ولا يعينه كما توهم ، وإذا ضمن نحت معنى
اتخذ نصب مفعولين ، وعنا بمعنى أفسد فمفسدين حال مؤكدة كولوا مدبرين ، واستضعفوهم واستذلوهم بمعنى عدوهم ضعفاء وأذلاء. قوله : ( بدل من الذين الخ ) ما ذكره هو الظاهر وأن قيل إنّ كون الضمير لقومه لا يوجب ذلك البتة ، إذ لا يخفى احتمال أن يكون بدل بعض ، وعلى كونه بدل بعض يكون المستضعفون قسمين مؤمنين وكافرين ، وعلى كونه بدل كل يكون الاستضعاف مقصوراً على المؤمنين ويكون الذين استضعفوا قسماً واحداً ، ومن آمن تفسير للمستضعفين من قومه ، وجعل الاستفهام للاستهزاء لأنهم يعلمون بأنهم عالمون بذلك ، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر بل عدلوا عنه كما سترى. قوله : ) عدلوا به عن الجواب الخ ( أي هذا من الأسلوب الحكيم ، وهو تلقي السائل والمخاطب بخلاف ما يترقب تنبيهاً له على أنه هو الذي ينبغي أن يسأل عنه ، فهنا كأنهم قالوا لا ينبغي أن يسأل عن إرساله فإنه ظاهر لا يسأل عنه عاقل بل يسأل عمن اتبعه ، وفاز بالاقتداء به ولذلك قال على المقابلة الخ أي مقتضى الظاهر سلوك طريق المجاراة ، وسوق الكلام على وفق اعتقادهم والا ففي قولهم : { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } تسليم للرسالة فكيف يكون أصل كلامهم ، ولذا قال في الانتصاف إنهم لم يقولوه حذراً مما في ظاهره من إثبات رسالته وهم يجحدونها ، وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم كقول فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ سورة الشعراء ، الآية : 27 ] وليس هذا موضع التهكم فإن الغرض إخبار كل من الفريقين عن حاله فلذا قال هنا كافرون والمقابلة بالعدول عن الظاهر كما عدلوا لأنهم جعلوا الإرسال مسلما فتركوه كما عدلوا عن قولهم نعم لأنّ إرساله لا شك فيه. قوله : ( أسند إلى جميعهم فعل بعضهم للملابسة الخ ( يعني الإسناد مجازي لملابسة الكل لذلك الفعل لكونه بين أظهرهم ، وهم متفقون على الضلال والكفر أو لرضاهم أو لأمرهم لقوله تعالى : { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } !سورة القمر ، الآية : 29 ] وليس المراد أنّ العقر مجاز لغوي عن الرضا بالنسبة إلى غير فاعله لتكلفه ، وقيل لأنه لا يلزم أن لا يذكر العقر بالفعل وهو المقصود وفيه نظر. قوله : ( واستكبروا عن امتثاله الخ(4/183)
ج4ص184
( اختار أحد وجهين في الكشاف لأنه جوّز في الأمر أن يكون واحد الأمور أو الأوامر ، والمصنف
رحمه الله اقتصر على الثاني لأنه إذا كان واحد الأوامر فعتوا إمّا مضمن لمعنى التولي فالمعنى تولوا واستكبروا عن امتثال أمره عاتين ، أو مضمن معنى الإصدار أي صدر عتوّهم عن أمر ربهم ، وبسببه فلولا ذلك الأمر وهو قوله ذروها الخ. ما ترتب العتوّ وان كان الثاني فالمعنى تولوا واستكبروا عن شأن الله أي دينه وهو بعيد ، والداعي إلى التأويل بتولوا أو صدر أنّ عتا لا يتعدى بعن فتعديته به لتضمينه ذلك ، كما في قوله : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } والمصنف رحمه الله ذهب إلى تضمينه استكبر لأنه ثبت عنده تعديته بعن ، وقوله : { ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } أمر للاستعجال لأنهم يعتقدون أنه لا يتأتى ذلك ولذا قالوا إن كتت من المرسلين.
قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } الخ وقع في نسخة تفسير هذه الآية مقدماً وفي بعضها مؤخراً ، والأمر فيه سهل وطعن بعض الملاحدة بأن هذه القصة ذكر فيها هنا أخذتهم الرجفة ، وفي موضع آخر الصحيحة ، وفي آخر بالطاغية ، والقصة واحدة ، ظن أنّ بين ذلك منافاة ، وليس كما زعم فإن الصيحة العظيمة الخارقة للعادة حصل منها الرجفة لقلوبهم ، وأما الإهلاك بذلك فسببه طغيانهم ، وهو معنى قوله بالطاغية والى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله فأتتهم صيحة الخ ، وفسر جاثمين في نسخة بخامدين ميتين لأنّ الجثوم معناه اللصوق بالأرض ، وقوله فتقطعت قلوبهم تفسير للرجفة بأنها خفقان القلب واضطرابه حتى ينقطع ، وفسرها بعضهم بالزلزلة ، وجعل الصيحة من السماء ، ويخالفه ما سيأتي في هود والحجر من أنها كان من تحتهم. قوله : ( روي أنهم بعد عاد الخ ) عمروا بتخفيف الميم من العمارة ، ولا يجوز تشديدها إلا إذا كانت
من العمر ، وخلفوهم بتخفيف فتح اللام أي صاروا خلفا عنهم ، وعمروا مجهول مشدد الميم من العمر ، ولا تفي بها إلا بينة أي فيهدم قبل أن يموت أحدهم ما بناه ، والخصب بكسر الخاء كثرة النبات والثمار ، وسعة أي سعة رزق ، وقوله : اخرج معنا إلى عيدنا أي مصلى عيدنا ، وقوله : ( منفردة ) أي منفصلة عن الجبل ، ) ومخترجة ) بضم الميم وخاء معجمة ساكنة ، وفتح التاء والراء والجيم أخرجت على خلقة الجمل ، وقيل تشاكل البخت ( وجوفاء ) عظيمة البطن ووبراء كثيرة الوبر ، ولتؤمنُنَّ بضم النون الأولى لأنه للجمع وتمخضت بالمعجمة أي تحرّكت ، وتمخض النتوج أي كحركة الحامل بولدها ، وعشراء كعلماء التي أتى عليها عشرة أشهر بعد طروق الفحل ، ونتجت مبني للمفعول وأصله أن يتعدى لمفعولين ، تقول نتجت الناقة فصيلا إذا ولدت نتاجا فإذا بني للمجهول يقام المفعول الأوّل ، أو الثاني مقام الفاعل ، وكون ولدها مثلها معجزة أيضا ، وقوله غبا أي يوما بعد يوم ، وتتفحج بفاء ثم حاء مهملة مشددة ثم جيم أي تفرج ما بين رجليها للحلب ، وهرب الدوالت فزعاً من عظمها ، وزينت أي ذكرته وحسنته هاتان المرأتان ، والسقب ولد الناقة الذكر ، والرغاء صوت ذوات الخف ، وأنفجت بتشديد الجيم بعد الفاء أي انشقت ، فقال أي صالح صلى الله عليه وسلم تصبح أي تدخل قي الصباج أو تصير ، وفلسطين بالفاء مدينة بأرض! الشأم ، وتحنطوا من الحنوط وهو ما يطيب به الميت ، والصبر بكسر الباء صمغ مرّ ، وإنما تحنطوا به لئلا تأكلهم الهوامّ والسباع ، والإنطاع جمع تطع بكسر النون وفتح الطاء وقد تسكن أديم معروف. قوله : ) ظاهره أنّ توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين ) أي ميتين وإنما قال ظاهره لأنه يجوز عطفه على قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } [ سررة الأعراف ، الآية : 78 ] فيكون لخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك لا بع!ه ، وعلى المتبادر فالخطاب إما كخطاب النبيّ لمجب! لقتلى المشركين حين ألقوا في قليب بدر أي بئره فوقف عليهم ونادى : " يا فلان يا قلان بأسمائهم إنا وجدنا " ) 1 ( الخ كما رواه البخاري وغيره بناء على أن الله يرذ أرواحهم إليهم فيسمعون مقاله ، ويكون مما خص به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو أنه
ذكره للتحسر والتحزن كما تخاطب الديار والأطلال ، وقوله : أي وأرسلنا لوطا أي هو منصوب بأرسلنا المقدم لا بآخر مقدر. قوله : ( وقت قوله لهم أو واذكر الخ ) على الأوّل هو متعلق بأرسلنا ، ولذا قيل عليه أنّ الإرسال قبل وقت القول لا فيه ، ودفع بأنه يعتبر الظرف ممتداً كما يقال زيد في أرض الروم فهو ظرف غير حقيقي يكفي وقوع المظروف في بعض أجزائه ، وقوله أو واذكر لوط فيكون من عطف القصة(4/184)
ج4ص185
على القصة ، واذ بدل اشتمال بناء على أنها لا تلزم الظرفية أو المعنى اذكر وقت إذ قال لقومه ، وقيل العامل فيه على تقدير اذكر مقدر تقديره ، واذكر رسالة لوط إذ قال فإذ منصوب برسالة قاله أبو البقاء رحمه الله. قوله : ( توييخ وتقريع الخ ) معنى قوله المتمادية في القبح أي التي بلغت أقصى القبح ، وغايته يعني إنها أقبح الأفعال ، قال في الأساس فلان لا يماديه أحد لا يجاريه إلى مدى. قوله : ( ما فعلها قبلكم أحد الخ ) فسره به لأنّ عدم السبق في فعل معناه ذلك ، وإن كان يحتمل مساواة الغير فيها وقوله قط إشارة إلى استغراق النفي في الماضي الذي أفاده النظم ، وكون اختراع السوء وسن السيئة أسوأ ظاهر إذ لا مجال للاعتذار عنه ، وإن كان قبيحا كما هو عادتهم بقولهم إنا وجدنا فتأمل ، وقوله والباء للتعدية في الكشاف ، والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " سبقك بها عكاشة " ( 1 ) قال أبو حيان رحمه الله التعدية هاهنا قلقة جدا لأنّ الباء المعدية في الفعل المتعدي لواحد تجعل المفعول الأوّل يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء كالهمزة ، فإذا قلت صكت الحجر بالحجر كان معناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر ، وكذلك دفعت زيدأ بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيداً عمراً ، عن خالد أي جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد فللمفعول الأوّل تاً ثير في الثاني ، ولا يصح هذا المعنى هنا إذا لا يصح أسبقت زيد الكرة أي جعلت زيداً يسبق الكرة إلا بتكلف ، وهو أن تجعل ضربك الكرة أوّل ضربة قد سبقها وتقدمها في الزمان فلم يجتمعا ، فالظاهر أنّ الباء للمصاحبة أي ما سبقكم أحد مصاحبا ، وملتبسا بها ، وليس بشيء بل المعنى على التعدية ، ومعنى سبقته بالكرة أسبقت كرتي كرته لأنّ السبق بينهما لا بين الشخصين أو الضربين وكذا في الآية ، ومثله يفهم من غير تكلف ، ولذا قيل في معناه سبقت ضربه الكرة بضربي الكرة أي حعلت ضربي الكرة سابقا على
ضربه الكرة ، وهذا معنى قوله إذا ضربتها فتدبر وقوله ومن الأولى لتأكيد النفي أي زائدة له. قوله : ( والجملة استئناف ) أي استثناف نحوقي أو بيانيّ كما في الكشاف كأنه قيل له لم لا نأتيها فقال ما سبقتكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا إليه من المنكرات لأنه أشد ، ولا يتوهم أن سبب إنكار الفاحشة كونها مخترعة ، ولولاه لما أنكر إذ لا مجال له بعد كونها فاحشة ، ولم يجعل من قبيل :
ولقد أمرّ على اللنيم يسبني
لتعين الفاحشة لكنه جوّز فيها الحالية من الفاعل أو المفعول. قوله : ) بيان لقوله أتأتون الفاحشة الخ ) ظاهره اختصاص البيان بقراءته بالاستفهام وقد صرّج المعرب بخلافه ولا مانع منه ، وكونه أبلغ لما سيأتي في وجه التقييد ، ولتأكيده بأن واللام والإتيان هنا بمعنى الجماع ، ومن دون النساء حال من الرجال أي تأتونهم منفردين عن النساء وصفة شهوة وتعلقه به بعيد ، والاستئناف هنا يحتمل النحوي والبياني أيضا. قوله : ) وشهوة مفعول له ) أي لأجل الاشتهاء لا غير ومشتهين ، أو هو مصدر ناصبه تأتون لأنه بمعنى تشتهون. قوله : ) وفي التقييد بها ) أي على الوجهين لا على أحدهما كما توهم لأنّ الجماع لما لم ينفك عن الشهوة كان التقييد بها دليلا على قصدها دون غيرها فتأمّل. قوله : ( إضراب عن الإنكار الخ ) أي إضراب انتقالي إلى ما أدى إلى ذلك أو إلى بيان استجماعهم للعيوب كلها ، والإضراب إمّا عما ذكر قبله أو عن غير مذكور وهو ما توهموه عذرهم فيه. قوله : ) أي ما جاؤوا بما يكون جواباً الخ ( أشار إلى أن النظم من قبيل :
تحية بينهم ضرب وجيع ولاعيب فيهم غيرأنّ سيوفهم
والقصد منه إلى نفي الجواب على أبلغ وجه فلا يقال التفير لا يوافق المفسر لأنه أثبت الجواب وقد نفاه. قوله : ( والاستهزاء بهم ) في الكشاف إنه سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش
وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم أبعدوا عنا هذا المتقشف ، وأريحونا من هذا المتزهد. قوله : ( من أمن به الخ ) أي ليس المراد بالأهل الأقارب بل من اتبعه من المؤمنين كما صرح به في رواية أخرى ، وقوله وأهلة وفي نسخة واغلة اسم امرأته ، وقوله : ( فإنها الخ ) تعليل لعدم نجاتها. قوله : ( من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا الخ ) هذا إحدى الروايتين لأنه روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت أحد منهم إلا هي فالتفتت فأصابها(4/185)
ج4ص186
الحجر وهلكت ، وروي أنه خلفها مع قومها وسيأتي تفصيله ، وللغابر معنيان كما ذكره أهل اللغة المقيم وعليه قول الهذلي :
فغبرت بعدهم بعيش ناصب
أي أقمت ويكون بمعنى الماضي والذأهب ، وعليه قول الأعشى :
في أمّة في الزمن الغابر
فهو مشترك ويكون بمعنى الهالك أيضا ، وعلى الوجه الأوّل إنها كانت مع القوم الغابرين
فلا تغليب ، أو كانت بعضا منهم فيكون تغليباً ، كما في قوله : { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } أسورة التحريم ، الآية : 12 ] كما مرّ. قوله : ( أي نوعاً من المطر عجيباً الخ ( أي التنكير للتعظيم والنوعية فلا منافاة بينهما ، وسجيل معرّب معناه طين متحجر وفي الكشاف في الفرق بين مطر وأمطر مطرتهم أصابتهم بالمطر كغاثتهم وأمطرت عليهم كذا بمعنى أرسلته عليهم إرسال المطر ، فأمطر علينا حجارة من السماء وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ، ومعنى وأمطرنا عليهم مطراً وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيباً يعني الحجارة ألا ترى إلى قوله : { فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ } [ سورة النمل ، الآية : 58 ] وفي الانتصاف مقصوده الردّ على من يقول مطرت السماء في الخير وأمطرت في الشر ، ويتوهم أنها تفرقة وضعية فبين أن معنى أمطرت أرسلت شيئا على نحو المطر ، وان لم يكن إياه حتى لو أرسل الله من السماء أنواعاً من الخيرات والأرزاق ، مثلاً كالمن والسلوى ، جاز أن يقال فيه أمطرت السماء خيرات أي أرسلتها إرسال المطر ، فليس للشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية ، ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئاً سوى المطر ، وكان عذاباً فظن أنّ الواقع اتفاقا مقصود في الواقع فنبه المصنف رحمه الله على تحقيق الأمر فيه وأحسن وأجمل ، ومنه يعلم أنّ ما نقل عن أبي عبيد وغيره من أن أمطر في العذاب ، ومطر في الرحمة مؤوّل وأن ردّ بقوله عارض ممطرنا فإنه عنى به الرحمة ، وظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى أنّ مطرا مفعول مطلق ، وقيل أمطرنا هنا ضمن معنى أرسلنا ، ولذا عدى بعلى ومطراً مفعول به ، وقيل
الممطور كبريت ونار وسيأتي فيه أقوال أخر. قوله : ( روي الخ ) الأردن بضم الهمزة وسكون الراء المهملة وضم الدال المهملة وتشديد النون قال بعض الفصلاء وقوله في القاموس ، وتشديد الدال سهو منه ( وسدوم ) بفتح السين والدال مهملة ومعجمة كما ذكره الأزهري وغيره قرية قوم لوط سميت باسم رجل ، وفي المثل أجور من قاضي سدوم ، وخسف مبنيّ للمجهول ، وقوله وقي الخ مرضه لأن ظاهر النظم يخالفه. قوله : ( وأرسلنا الخ ) إشارة إلى عطفه كما مرّ ، وشعيب مفعول أرسلنا وهم أولاد مدين جملة معترضة ، وهذا بناء على أنّ مدين علم لابن إبراهيم ، ومنع صرفه للعلمية والعجمة ، ثم سميت به القبيلة ، وقيل هو عربيّ اسم بلد ، ومنع صرفه للعلمية والتأنيث فلا بد من تقدير مضاف حينئذ ، أي أهل مدين أو المجاز ، وهو على هذا شاذ إذ القياس إعلاله كمقام فشد كمريم ومكوزة ، وليس بشاذ عند المبرد قيل وهو الحق لجريانه على الفعل ، وشعيب تصغير شعب أو شعب ، قيل والصواب أنه وضع مرتجلا هكذا وليس مصغرا لأنّ أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز تصغيرها ، وفيه نظر لأن الممنوع التصغير بعد الوضع لا المقارن له كما هنا. قوله : ( وكان يقال له خطيب الآنبياء عليهم الصلاة والسلام الخ ( أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله لمجي! إذا ذكر شعيبا يقول : " ذاك خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه " ( 1 ( والمراجعة مفاعلة من الرجوع وهي مجاز عن المحاورة ، يقال راجعه القول وإنما عتى النبيّ كي! ما ذكر في هذه السورة ما يعلم بالتأمّل فيه. قوله : ) يريد المعجزة الخ ( أي المراد بالبينة ذلك لأنه لا بذ لكل نبيئ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من معجزة ، قال بعضهم قال الزجاج : لم يكن لشعيب عليه الصلاة والسلام معجزة ، وهو غلط لأنه قال تعالى : { قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ } [ سورة الأعرأف ، الآية : 85 ] فجاء بالفاء بعد مجيء البينة ، ولو اذعى مدع النبوّة بغير آية لم تقبل منه ، لكن الله لم يذكرها ، فلا يدل على عدمها يعني أنّ الفاء سببية فالمعنى قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوّني أوجبت عليكم الإيمان بها ، والأخذ بما
أمرتكم به فأوفوا فلا وجه لما قيل أنّ البينة نفس شعيب عليه الصلاة والسلام. قوله : ( وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام الخ ) مبتدأ خبره قوله فمتأخر الخ. وهو ردّ لقول الزمخشري ومن معجزات شعيب عليه الصلاة والسلام ما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام للتنين الخ. فلا يجوز أن يراد هنا لأنه(4/186)
ج4ص187
متأخر عن المقاولة ، فلا يصح تفريع الإيفاء عليه ولأنه يحتمل أنه كرامة لموسى عليه الصلاة والسلام أو إرهاص لنبوّته ، وقيل إنه متعين وإن أدركه موسى لعدم مقارنة التحدي. قال الإمام رحمه الله كلام الكشات مبني على أصل مختلف فيه لأنّ عندنا إنه إرهاص ، وهو أن يظهر الله على يد من سيصير نبينا خوارق للعادة ، وعند المعتزلة هو غير جائز. قال الطيبيب رحمه الله وفيه نظر لأنه قال في آل عمران في تكليم الملائكة عليهم الصلاة والسلام لمريم إنه معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام ، أو إرهاص لنبوّة عيسى عليه الصلاة والسلام. قوله : ( وولادة الغنم التي دفعها ) أي سلمها شعيب لموسى عليهما الصحلاة والسلام ليسقيها ، والدرع بضم الدال المهملة وسكون الراء والعين المهملتين جمع أدرع أو درعاء وهي ما اسوذ رأسه وابيض سائره من الغنم والخيل ، وقوله : ( وكانت الموعودة له ) أي وعده أنّ ما كان منها فهو له. قوله : ( أي آ!ة الكيل على الإضمار ( أي تقدير المضاف أو الكيل بمعنى ما يكال به مجارّاً كالعيش بمعنى ما يعاش به وإنما دعاه لهذا عطف الميزان عليه ، وهو شائع في الآلة دون المصدر ، ولذا قال لقوله وقوله : ( كما قال في سورة هود ) تأييد لأنّ الكيل بمعنى المكيال لأنه قال فيها المكيال والميزان ، أو يؤول الثاني بتقدير مضاف هو مصدر معطوف على مثله ، أو يجعل الميزان مصدرا ميه ياً بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد وان كان قليلا. قوله : ( ولا تنقصموهم حقوقهم الخ ( البخس بمعنى النقص وكون الشيء عامّا واضح فعبر بما يفيد العموم لأجل أن ينبهوا على تجاوزهم عن شعيب عليه الصلاة والسلام ، أو لينبهنا الله على ما كانوا عليه من ذلك ، والأمر فيه سهل ، فما قيل حق الكلام فإنهم يبخسون الجليل الخ لأنّ المقام للتعليل دون التنبيه ، وغاية توجيهه أن مبنى المفاعيل لأجلها على اللام فتجعل اللام المقدرة فيها للعاقبة الخ. ما أطال به من غير طائل لا
داعي له ثم أنّ النهي عن النقص يوجب الأمر بالإيفاء ، فقيل في فائدة التصريح بالمنهي عنه بيان لقبحه ، وقيل غير ذلك مما يعين تفسيره على وجه أعم منه فتدبر ، والمكس كان دراهم تؤخذ ممن يبيع في السوق في الجاهلية ، فيصبح أن يراد بالبخس كلا من المعنيين والحيف الجور. قوله : ( بعدما أصلح أمرها الخ ) أي هو على حذف المضاف وهو الأمر أو الأهل أو إضافة المصدر إلى الفاعل على الإسناد المجازي إلى المكان ، وقوله أو أصلحوا فيها بيان لحقيقة ذلك الإسناد وملابسته في الوجه الثاني تبل ذكره ، ويصح أن يكون مراده أنه إضافة إلى المفعول ، والتجوز في النسبة الإيقاعية لأنّ إصلاح ما في الأرض إصلاح لها ، والتمثيل لمطلق التجوّز في الإسناد فإن قلت ما المانع من حمله على الحقيقة لأنّ الإصلاح يتعلق بالأرض نفسها كتعميرها واصلاح طرقها وجسورها إلى غير ذلك ، قلت قوله : { لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } يأباه ، ولذا صح جعل الإضافة على معنى في لكنه لا يصح تفسير كلام الشيخين به كما وهم فيه بعض شراح الكشاف. توله : ( إشارة إلى العمل بما أمرهم به الخ ( في الكشاف إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض ، أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ، أي هو إشارة إلى المذكور وإن تعدد أو إلى العمل بما ذكر ، وهو واحد فهما وجهان لإفراد اسم الإشارة وتذكيره ، فما قيل إنه لم يذكر الثاني لاتحادهما معنى وكون هذا أخص! غفلة عن مراده ، والعمل بما نهى عنه الانتهاء عنه وتركه. قوله : ( ومعنى الخيرية أمّا الزيادة مطلقا الخ ) لأنّ المتبادر منه التفضيل ، وقيل خير هنا ليس على بابه من التفضيل بل بمعنى نافع ، وفي الكشاف يعني الخيرية في الإنسانية وحسن الأحدوثة ، وما تطلبونه من التكسب والتربح لأنّ الناس أرغب في متجارتكم إذا عرفوا منكم الإماتة والسوية إن كنتم مؤمنين مصدقين لي في قولي ذلكم خير لكم ، اهـ فحمل الإيمان على معناه اللغوي وهو التصديق بما ذكره لا على مقابل الكفر ، ولذا خص الخيرية بأمر الدنيا ، لكنه جوّز في هو حمله على معناه المعهود وتبعه المصنف رحمه الله تعالى قال : لأنهم وان سلموا بالامتثال عن تبعة البخس والتطفيف في الدنيا إلا أن استتباع الثواب مع النجاة مثروط بالإيمان به ، فإن حمل قول المصنف رحمه الله هنا مطلقاً على ذلك ، فالأمر ظاهر وان كان معناه في الدنيا والآخرة بناء على أن الكفار يعذبون على المعاصي كما يعذبون على الكفر فتركها خير لهم أيضا ، قيل والمراد الثاني لأنه(4/187)
ج4ص188
فسر الفساد بالكفر ، وليس لتعليق تركه على الإيمان معنى ويطلب الغرق في تجويزهما هناك لا هنا ثم إنّ تعليق الخير على تصديقه بتأويل العلم بالخيرية ، والا فهو خير مطلقا إذ حينئذث شوقف تحقيق الخيرية في الإنسانية على تصديقهم ، وليس كذلك ، ولذا قيل ليس شرطا للخبرية بل
لفعلهم كأنه قيل فأتوا به إن كنتم صادقين كذا قال الرازي ويرذه كلام الكشاف ، وقال الخيالي الأظهر أنّ ذلكم خير لكم معترضة والشرط متعلق بما سبق من الأوامر والنواهي ، وفيه نظر قال الطيبي رحمه الله ومثل هذا الشرط إنما يجاء به في آخر الكلام للتوكيد فعلم منه أنّ شعيبا عليه الصلاة والسلام كان مشهوراً عندهم بالصدق والأمانة ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قومه يدعى بالأمين ( قلت ) الفرق أنه ذكر عقيبه قوله : { أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء } [ سورة هود ، الآية : 87 ] وهو يقتضي أنه أراد بالإيمان مقابل الكفر وتفسيره به له حسن ثمة إذ به يتخلص عن التكرار فتأمّل. والأحدوثة هنا الذكر الجميل ، وقد ورد ذلك في كلام العرب وان قال الرضي إنها تختص بما لا يحسن كما بيناه في حواشيه. قوله : ( بكل طريق من طرق الدين كالشيطان الخ ) يعني أن القعود على الصراط تمثيل كما مز فيما حكى من قول الشيطان لأقعدن لهم صراطك المستقيم ، إذ مثل إغواؤهم عن دين الحق بكل ما يمكن من الحيل بمن يريد أن يقطع الطريق على السابلة فيكمن لهم من حيث لا يدرون ، وهذا نحوه في التمثيل فلذا قال كالشيطان. وقوله وصراط الحق توجيه للكلية ، والمعارف جمع معرفة والمراد بها معرفة الله وصفاته. قوله : ( وقيل كانوا يجلسون على المراصد الخ ( معطوف على ما قبله بحسب المعنى ، وعلى هذا لا يكون الكلام تمثيلا ، ولا يكون سبيل الله من وضع الظاهر موضع المضمر ، ويكون ضمير به لله وهل يكون توعدون ، وما عطف عليه حالاً فقيل لا بل استئنافاً والأظهر الحالية ، وقوله : ( ويوعدون من آمن به ) تقدير للمفعول المحذوف لا دلالة على أعمال الفعل الأوّل ، والا كان المختار تصدونهم. قوله : ( وقيل كانوا يقطعون الطريق الخ ( ضعفه وأخره لعدم ملاءمة توعدون وتصدون له إذ لا يظهر تقييد قطع الطريق به ، وترك كونهم عشارين المذكور في الكشاف لتكرّره مع قوله ولا تبخسوا على تفسيره. قوله : ( يعني الذي قعدوا عليه الخ ) إن كان على القول الأوّل فالقعود استعارة ، قيل ويجوز أن يكون على الثاني فيراد بسبيل الله الدين الحق ، ولا يكون من وضع الظاهر موضع المضمر. قوله : ( أو الإيمان باللّه ) بالنصب عطف على الدّي قعدوا ، وقوله : على الأوّل أي تفسير كل صراط بطرق الذين بخلاف الوجهين الآخرين. قوله : ( أي بالله ا للعلم به أو لكل صراط على تفسيره الأوّل ، أو بسبيل الله لأنّ السبيل يذكر ويؤنث ، قيل تركه المصنف رحمه الله مع أنه أقرب لفظا ، ومعنى
ليصح الكلام أيضا على تفسير سبيل الله بالإيمان باللّه ، وفيه نظر. قوله : ( ومن مفعول تصذّون على أعمال الآقرب الخ ) يعني أنه لو كان كذلك لكان من التنازع واعمال الأوّل فيلزم إظهار ضمير الثاني عند الجمهور إذ لا يجوز حذفه عندهم إلا في ضرورة الشعر ، وهذا ردّ على الزمخشريّ ، لكن مرّ أنّ مراده بيان محصل المعنى لا إعمال الأوّل ، والحذف من الثاني حتى يرد عليه ما ذكر ، أو يجعل تصدون بمعنى تعرضون لازما فلا يكون مما نحن فيه. قوله : ( وتطلبون لسبيل الله عوجاً الخ ) إشارة إلى أنه على الحذف والإيصال والعوج الذي طلبوه شبههم أو وصفهم لها بما ينقصها وألا فلا عوج فيها ولذا جوّز فيه التهكم في الكشاف ، وعلى التفسير الأخير عوجها عدم أمنها ، والعدد بالفتح معروف ، وبالضم جمع عذة وهو ما يعدّ للنوائب من مال وسلاح وغيره ، وقيل إن قليلا بمعنى مقلين أي فقراء ، وإذ مفعول اذكروا أو ظرف لمقدّر كالحادث أو النعم ، وقوله : ) في النسل أو المال ا لف ونشر مر تب للعدد والعدد ، وفي نسخة والمال والأولى أولى. قوله : ( بين الفريقين الخ ) أي الضمير للفريقين تغليبا ولذا أضيف إليه بين فلا حاجة إلى تقدير وبينكم ، وخطاب اصبروا للمؤمنين ، ويجوز أن يكون للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار ، والكفار على ما يسوءهم من إيمانهم أو للكافرين أي تربصوا لتروا حكم الله بيننا وبينكم ، وكلام المصنف رحمه الله محتمل لذلك. قوله : ( وهو خير الحاكمين إذ لا معقب لحكمه ولا(4/188)
ج4ص189
حيف فيه ( سيأتي الكلام على هذا التفضيل في أحسن الخالقين ، ولا معقب لحكمه أي لا أحد يتعقبه ويبحث عن فعله من قولهم عقب الحاكم على حكم من قبله إذا تتبعه ، وكونه كذلك يقتضي سداده ، وخيرية الحكم إنما هي باعتباره فلا وجه لما قيل إنه يقتضي قوّته لا خيريته ، وهو غنيّ عن الرذ وان ظنه شيئا.
قوله : ( أي ليكونن أحد الأمرين ) بيان لمعنى أو وما قيل إنه جواب أن يقال كيف يصح وقوع لتعودنّ جواباً للقسم ، والعود ليس فعل المقسم يعني أنّ جواب أحد الأمرين وهو في وسعه يقتضي أنّ القسم لا يكون على فعل الغير ، ولم يقل أحد به فإنه يقال والله ليضربن زيد من غير
نكير. قوله : ( وشعيب عليه الصلاة والسلام لم يكن في ملتهم قط ) دفع لما يقال أنّ العود الرجوع إلى ما كان عليه قبل ، وشعيب عتئ نبيّ معصوم عن الدّنوب فضلاً عن الكفر ، فأشار المصنف رحمه ألله إلى أنه من باب التغليب فغلبوا عليه ، والعائد منهم دونه كما غلب هو عليهم في الخطاب ففي الآية تغليبان أو تعود بمعنى تصير يعمل عمل كان كما أثبته بعض النحاة واللغويين ، وسيأتي أنّ المصنف رحمه الله جوّزه في سورة إبراهيم ، وحينئذ فلا تغليب إلا أنه قيل إنه لا يلائم قوله بعد إذ نجانا الله منها إلا أن يقال بالتغليب فيه ، أو يقال التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه ، ألا ترى إلى قوله : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } [ سورة الأعرأف ، الآية : 83 ] وأمثاله أو أنّ هذأ القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم ، أو هو صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس وايهاما لأنه كان على دينهم وما صدر عن شعيب عليه الصلاة والسلام على طريق المشاكلة ، وقيل إنه جار على نهج قوله : { اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [ سورة البقرة ، الآية : 257 ] والإخراج يستدعي دخولاً سابقا فيما وقع الإخراج منه ، ونحن نعلم أنّ المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر ، ولا كان فيها وكذلك الكافر الأصلي لم يدخل قط في نور الإيمان ولا كان فيه ، ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد ميسراً لكل واحد منها متمكناً منه ، لو أراده عبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله عنه إلى الإيمان اختياراً بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من الله له ولطفاً به ، والعكس في حق الكافر وقد مضى تطبيق هذا النظر عند قوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى } [ سورة البقرة ، الآية : 16 ] وهو من المجاز المعبر فيه عن المسبب بالسبب ، وفائدة اختياره في هذا الموضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة الله على عباده ، وهاهنا احتمال وهو أنّ الظاهر أنّ العود المقابل للخروج إلى ما خرج منه وهو القرية ، والجار والمجرور حال أي ليكن+ منكم الخروج من قريتنا ، أو العود إليها كائنين في ملتنا ، فلا تغليب وعدى عاد بفي كان الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم. قوله : ( أي كيف نعود الخ ) في الكشاف الهمزة للاستفهام والواو والحال تقديره أتعيدوننا في ملتكم حال كراهتنا ، قيل ليست هذه واو الحال بل واو العطف عطفت هذه الحال على حال مقدرة كقوله عتئ : " ردّوا السائل ولو بظلف محرق " ) 1 ( إذ ليس
المعنى رذوه حال الصدقة بظلف محرق بل معناه رذوه مصحوبا بالصدقة ولو مصحوباً بظلف محرق. ) قلت ) وقد تقدّمت هذه المسألة وإنه يصح أن تسمى واو الحال وواو العطف ، ولولا خشية التكرار لذكرته. وقال أبو البقاء رحمه الله : لو هنا بمعنى إن لأنها للمستقبل ، وفسر الهمزة بكيف لأنها أظهر في التعجب وأنسب بالمقام ، وخصه بالوجه الأوّل لأنّ التعجب يناسب العود دون الإعادة ، وجعل الواو للحال لأنه المعروف في أمثاله وخصه بالعود دون الإخراج لدلالة قوله إن عدنا عليه ، وان فسره في التيسير بقوله أتخرجوننا من قريتنا من غير ذنب ونحن كارهون لمفارقة الأوطان ، وقد وجه بأنّ العود مفروغ منه لا يتصوّر من عاقل فلا يكون إلا الإخراج فتأمّل. قوله : ( شرط جوابه محذوف دليله قد افترينا الخ ) في الكشاف أنه إخبار مقيد بالشرط وفيه وجهان أحدهما أن يكون كلاما مستأنفا فيه معنى التعجب ، كأنهم قالوا ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأنّ المرتد أبلغ في الافترأء الخ والثاني أن يكون قسما على تقدير حذف اللام بمعنى والله لقد افترينا على الله كذبا. قال النحرير : كأنّ أصل السؤال والجواب تمهيد لما يبنى عليه من(4/189)
ج4ص190
الوجهين ، والا فظاهر أنه إخبار مقيد بالشرط ، فإن قيل فهلا حمل الكلام على ظاهره قلنا لا لأن إن لا تقلب الماضي المصدر بقد ، ولا المقدم على الشرط ، فكيف إذا اجتمع الأمران فظاهر أن الافتراء الماضي لا تعلق له بالعود ، ولا سبيل إلى الحمل على إن عدنا ظهر أنا قد أفترينا البتة لإيهامه أن المانع ظهور الافتراء لا هو نفسه ، لأن المقيد بالعود هو الافتراء نفسه لا ظهوره ، وكذا قيل وفيه نظر لوروده على الوجه الثاني ، أعني جعل قد افترينا جواب القسم بحذف اللام فإنه مقيد بالشرط ، ولاندفاعه بجعل الماضي بمعنى المستقبل ، تنزيلا له منزلة الواقع ، ومقرّبا إلى الحال حتى كأنه قيل تد افترينا الآن أن هممنا بالعود كما ذكره أبو البقاء رحمه الله. وبالجملة فاستقامة ظاهر الكلام على تقدير القسم وعدمها بدونه محل نظر وردّ ، بأن حاصل سؤال الزمخشري كما قرّر في الكشف أن الظاهر في مثله أن لا يتعلق بالشرط نفس الجزاء ، بل ظهوره والعلم به ، على عكس ما قرّره النحرير ، كما في نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس ، ونحو : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ } [ سورة التوبة ، الآية : 40 ] وهاهنا المقصود تقييد نفس ألافتراء بالعود ، ولفظ قد وصيغة المضيّ يمنعانه ، وحاصل الجواب أنه أخرج لا على مقتضى الظاهر إذ المعنى على تقيد الافتراء كما آثره القاضي وأبو البقاء رحمهما الله ، ولفظة قد مع صيغة الماضي تدل على التأكيد فيستاد منها نفي التعجب ، أو كونه جواب قسم بقرينة المقام ، وهذا مما لا غبار عليه ، وقوله نزعم أن لله تعالى نداً بيان لمعنى الافتراء. قوله : ( وقيل إنه جواب قسم الخ )
فحذف القسم ولام الجواب مقدرة فيه أيضأ ، وجوّز في البحر تبعاً لابن عطية رحمه الله أن يكون الفعل المذكور قسما ، كما يقال برئت من الله إن فعلت كذا قال الشاعر :
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة لم يخل يوماً من نهاب نفوس
قوله : ( وما يصح لنا الخ ) كان تامة بمعنى وجد ، وصح بمعنى وجد أيضاً ، ولا يكون في استعمال العرب بمعنى لا يصح ولا يقع وتارة بمعنى لا ينبغي ولا يليق كما صرحوا به. قوله : ( خذلاننا وارتدادنا الخ ) في الكشاف معنى قوله : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ } إلا أن يشاء خذلاننا ومنعنا الألطاف لعلمه أنها لا تنفع فينا ، وتكون عبثأ ، والعبث قبيح لا يفعله الحكيم ، والدليل عليه قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } أي هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون ، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل وقلوبهم كيف تتقلب ، وكيف تقسو بعد الرقة وتمرض بعد الصحة وترجع إلى الكفر بعد الإيمان ، وقد ردّ عليه المصنف رحمه الله بزيادة الارتداد ، وجعله مراد الله ووجهه. كما قال بعض المدققين إنّ معنى : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } إنه يعلم كل حكمة ومصبحة ومشيئته على موجب الحكمة ، فلو تحقق مشيئته للعود والارتداد لم يكن خاليا من الحكمة فلا يستبعد وهذا معنى لطيف فلا وجه لأن يقال لو أريد إلا أن يشاء الله عودنا لما كان لذكر سعة العلم بعده كبير معنى بل كان المناسب ذكر شمول الإرادة ، وأنّ الحوادث كلها بمشيئة الله كما قرّره النحرير. قوله : ( وقيل أراد به حسم طمعهم الخ ) الحسم القطع ، وهذا رد على الزمخشرفي فيما تبع فيه الزجاج ، بأنّ المراد من { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ } التأبيد لأنه تعالى لا يشاء الكفر نحو حتى يبيض القار ويشيب الغراب ، وهو مخالف للنصوص القرآنية والعقلية ، من أن جميع الكائنات تابعة لمشيئة الله وقوعا وعدما ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا يلائمه أيضا قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } وما قيل إن مآل الكلام إلى شرطية وصدقها لا يقتضي تحقق طرفها ولا إمكانه ، ولم يتحقق هنا ، والقصر في الآية في شعيب ع!ه والمؤمنين فجاز أن يكون كفر غيرهم بدون مشيئة كلام واه فإنه لا معنى للتعليق بالمشيئة ، إلا أن وقوعه وعدمه منوط بإرادة الله تعالى ، سواء وقع أو لا ، ولذا لما لم ير الزمخشرفي منه محيصاً تعلق تارة بقوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } وأخرى بجعله من التعليق بالمحال. قوله : ( أي أحاط علمه بكل شيء الخ ) فيقع ذلك بإرادته الجارية على وفق علمه بما فيه من الحكمة والمصلحة من الرذة والثبات على الإيمان ، فلا دليل فيه على أنّ المعنى إلا أن يشاء الله خذلاننا ، ومنع الألطاف عنا كما قاله الزمخشريّ بناء على مذهبه. قوله : ( احكم بيننا
الخ ) يعني الفتح بمعنى الحكم ، وهي(4/190)
ج4ص191
لغة لحمير ، أو لمراد والفتاحة بالضم عندهم الحكومة ، وبيننا منصوب على الظرفية أو هو مجاز بمعنى أظهر وبين ، ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيهاً له بفتح الباب وازالة الأغلاق حتى يوصل إلى ما خلفها ، قيل فبيننا مفعول به بتقدير ما بيننا على هذا الوجه ، وقوله : ( على المعنيين ) أي خير الحاكمين أو خير المظهرين. قوله : ( لاستبدالكم الخ ) فهو استعارة وفيما بعده حقيقة ، وقوله سادّ مسدّ جواب الشرط والقسم أي جواب للقسم بدليلى عدم اقترانه بالفاء ومغن عن جواب الشرط ، فكأنه جواب لإفادته معناه وسده مسده لا إنه جواب لهما معا فإنه مع مخالفته القواعد النحوية يلزم فيه أن يكون جملة واحدة لها محل من الإعراب ، ولا محل لها وأن جاز باعتبارين كما تقدم. قوله له : ( الرجفة الزلزلة وفي سورة الحجر الخ ) هذا توفيق بينهما كما مرّ أو أنّ شعيباً عليه الصلاة والسلام بعث إلى أمتين ، فالقصة غير واحدة إلا أنه سهو قاله المحشي لأنه في سورة هود لا الحجر والذي ذكر فيه الصيحة في الحجر قوم صالح.
فائدة : إذا حرف جواب وجزاء وقد وقع لبعضهم هنا أنها إذا الظرفية الاستقبالية وا! الجملة المضاف إليها حذفت وعوّض عنها التنوين ، كما في إذ ورذه أبو حيان رحمه الله بأنه لم يقله أحد من النحاة ولم نره في غير هذه الآية ، وقال المعرب : إنه يجوز في إنا إذا الظالمون ، وقد سبقه إليه القرافي رحمه الله ، وخرّج عليه قوله عشي! في بغ الرطب بالتمر : " فلا إذا " ) 1 ( أي إذا ج! قال وقد تعجبت منه لما رأيته ثم وقفت على ما هنا. قوله : ) كأن لم يننوا فيها ) أي استؤصلوا كأن لم يقيموا وغنى بالمكان يغني أقام به دهراً طويلاً وقيده بعضهم بالإقامة في عيش رغد وقال ابن الأنباري كغيره أنه من الغنى ضد الفقر كما في قوله :
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى فكلا سقاناه بكأسهما الدهر
فالمعنى كان لم يعيشوا فيها مستغنين ورذ الراغب رحمة الله غنى بمعنى أقام إلى هذا
المعنى فقال غنى في المكان طال مقامه فيه مستغنياً به عن غيره ، واستؤصلوا بمعنى أهلكوا بيان لحاصل المعنى. قوله : ( لا الذين صدّقوه واتبعوه الخ ) رذ عليهم ما زعموه في الآية السابقة من أنّ من تبع شعيبا عليه الصلاة والسلام خاسر ، والحصر مستفاد من تعريف الطرفين مع ضمير الفصل ، وأن القصر للقلب ولما لم يلزم من عدم الخسران الربح زاد قوله : ( فإنهم الرابحون ( إشارة إلى المراد ، وترك القصر في الجملة الأولى المذكورة في الكشاف لابتنانه على أنّ نحو الله يستهزئ بهم يفيده ، والمصنف رحمه الله تعالى لا يقول به ، أو على أنّ بناء الخبر على الموصول يفيد علية الصلة ، وينتفي الحكم بانتفائها وهو غير تام لما يأتي ، وقال النحرير إنّ في هذا الابتداء معنى الاختصاص على رأيه في مثل { اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ } [ سررة الرعد ، الآية : 26 ] من غير فرق بين المضمر والمظهر المنكر والمعرّف الموصول وغيره وهنا وإن توسط بين المبتدأ والخبر لفظ كان المخففة فالخبر بعد فعل المبتدأ ، وقد يقال مراده بهذا الابتداء كون المبتدأ موصولاً فإنه يشعر بعلية الصلة فينتفي الحكم عند انتفائها وهو معنى الاختصاص ، وقيل عليه إن أراد أن رأيه في مثل هذا التركيب أنه للتخصيص البتة فليس كذلك ، وقد صرح هو أيضا في المطوّل بأن صاحب الكشاف يوافق الشيخ عبد القاهر في كون تقديم المسند إليه إذا لم يل حرف النفي مفيداً للتقوّى تارة وللتخصيص أخرى ، وان أراد أنه يجوز أن يفيد التخصيص فلا بد من بيان قرينة في هذا المقام تدل على إرادة التخصيص والظاهر الثاني ، والقرينة أنه لما ذكر هلاك الكافرين الذين نصحوا المؤمنين بعد سبق ذكرهما جميعاً ولم يذكر هلاك المؤمنين ، ثم ابتدأ وصرج بهلاك المكذبين صار ذلك قرينة على الاختصاص ، واليه أشار بقوله أوّلاً إنّ في هذا الابتداء معنى الاختصاص وثانيا لأنّ الذين اتبعوا شعيباً عليه الصلاة والسلام قد أنجاهم الله ، وأمّا ما أورد على قوله ، وقد يقال الخ من أنّ انتفاء العلة المعينة لا يستلزم انتفاء المعلول لجواز أن يتحقق بعلة أخرى ، إلا أن يقال لما استفيد علية الصلة للحكم ، فينتفي إذا انتفت في المقام الخطابي إلى أن يقام دليل على وجود علة أخرى فغفلة عما حققه قبيله في قوله : { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً } [ سورة الأعراف ، الآية : 81 ] من أنّ الظاهر من تعليل الفعل ببعض الأغراض! والدواعي أنه نفي لما سواه لا سيما إذا كان ذلك مما لا يكون الفعل بدونه في الجملة فذكره لا يكون(4/191)
ج4ص192
لإثباته بل لنفي غيره ومثل العلة في هذا السبب ومنه تعلم وجه إفادة الحصر في قوله فيما نقضهم ميثاقهم وأنه لا غبار عليه ، وان غفلوا عنه ثمة فاحفظه فإنه من النفائس المذخرة. قوله : ( وللتنبيه على هذا والمبالنة فيه كرّر الموصول واستأنف الخ ( في الكشاف وفي هذا الاستئناف والابتداء وهذا التكرير مبالغة في ردج مقال الملأ لأشياعهم ، وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم ، فقوله : على هذا الخ أي لأنّ القصد
الرد عليهم في أنّ من اتبع شعيبا عليه الصلاة والسلام خاسر بأن الخاسر إنما هو هم لأنّ لهم الخسران الديني والدنيوي على أبلغ وجه كرّر الموصول من غير عطف لأنه بين أوّلاً هلاكهم حتى كأنهم لم ينزلوا قط في ديارهم ، وأنهم خسروا خسرانا عظيما وسفه رأيهم بأن الخسران في تكذيبه لا في اتباعه كما زعموا ، واستهزأ بأن ما جعلوه نصيحة صار فضيحة أثرها في الدنيا كالعقبى ، ومن عادة العرب الاستئناف من غير عطف في الذم والتوبيخ فيقولون أخوك الذي نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا فتأمل. قوله : ( ثم أنكر على نفسه الخ ( أي جرّد من نفسه شخصاً وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه كما فعل امرؤ القيس في قوله :
تطاول ليلك بالإثمد ونام الخليّ ولم ترقد
وكان من حق الظاهر وكيف يشتد حزنك لقوله : ( ثنم أنكر على نفسه ا لكنه التفت وقال :
كيف يشتد حزني ، وإذا كان مع غيره فلا يكون من التجريد كذا قال الطيبي رحمه الله ( قلت ( الظاهر أنه ليس من الالتفانت ولا التجريد في شيء فإنّ قوله قال يقتضي صيغة التكلم وصيغة التكلم تنافي التجريد فما ذكره لا وجه له وإنما هو نوع من البديع يسمى الرجوع لأنه إذا كان قوله قد أبلغتكم تأسفا ينافي ما بعده فكأنه بدا له ورجع عن التأسف منكرا لفعله الأوّل ومثله كثير في الإشعار والنكتة فيه الإشعار بالتوله والذهول لشذة الحيرة لعظم الأمر ، بحيث لا يفرق بين ما هو كالمتناقض من الكلام وغيره وقد صرح به أصحاب البديع ، والحاصل أنّ فيه وجهين فالوجه الأوّل أنه حزن واشتد حزنه على حال القوم ، ثم أنكر ذلك على نفسه ، والثاني أنه لا حزن عليهم لأنهم لم يقبلوا النصيحة فليسوا أحقاء بالحزن ، وقراءة إيسي بكسر الهمزة وقلب الألف ياء على لغة من يكسر حرف المضارعة ، وامالة الألف الثانية وفي قوله : بإمالتين تغليب وتسمح وإلا فالأوّل كسر وقلب صريح ، وقوله : ( فلم تصدقوا ) روي بالتاء والياء.
تنبيه : في تاريخ ابن كثير رحمه الله تعالى أنّ شعيباً عليه الصلاة والسلام نبيّ أهل مدين ومدين قبيلة من العرب سميت بهم المدينة ، وشعيب عليه الصلاة والسلام ابن يشجر بن لاوى ابن يعقوب ، وقيل غير ذلك في نسبه وقيل إنّ شعيبا وبلعم آمنا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام وفي الاستيعاب أنّ شعيبا صهر موسى عليهما الصلاة والسلام من قبيلة من العرب تسمى عنزة ، وعنزة ابن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وبينه وبين من تقدم دهر طويل فهم غير أهل مدين ، وشعيب اثنان اهـ. قوله : ( بالبؤس والضر ) أي الفقر والمرض لتفسير. الحسنة يالسعة
والسلامة ، وبه فسو ابن عباس رضي أدلّه عنهحا وإلا أخذنا اسنثناء هفرّغ وأخذنا في محل لى الحال ، وتقديره وما أ!سلنا إلا آخذين والفعل الماض!ي يقع ب!عد إلا بأحد شرطين إما عل كما هنا وإما مح قد نحو ما!يد إلا قد قام ولا يجولى ما زيد إلا ضحرب ، والنبيّ والرسول سيأتي أنّ الزمخشريّ فرق بينهحا بأنّ النبي من أوح! إليه والوسول من أوحى إليه وأمر بالتبليخ ، وبأنّ الرسول من جمح إلى المعجزة كتابا منزلاً عليه ، والنبيّ غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب وإنحا أمر بمتابعة من ق!بله وأورد عليه !لادة عدد الرسل على حدد الكتب فلذا قال في السمقاصد الرسول من له كتاب أو نسخ لبعضى أحكام الشريعة السابقة ، وقال القاضي : من له شريعة مجددة ، وأورد عليه! أنّ القاضمي رحمه أدلّه ذكر في قوله تعإل! ف! إسحعيل : { لى الحال ، وتقديره وما أ!سلنا إلا آخذين والفعل الماض!ي يقع ب!عد إلا بأحد شرطين إما عل كما هنا وإما مح قد نحو ما!يد إلا قد قام ولا يجولى ما زيد إلا ضحرب ، والنبيّ والرسول سيأتي أنّ الزمخشريّ فرق بينهحا بأنّ النبي من أوح! إليه والوسول من أوحى إليه وأمر بالتبليخ ، وبأنّ الرسول من جمح إلى المعجزة كتابا منزلاً عليه ، والنبيّ غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب وإنحا أمر بمتابعة من ق!بله وأورد عليه !لادة عدد الرسل على حدد الكتب فلذا قال في السمقاصد الرسول من له كتاب أو نسخ لبعضى أحكام الشريعة السابقة ، وقال القاضي : من له شريعة مجددة ، وأورد عليه! أنّ القاضمي رحمه أدلّه ذكر في قوله تعإل! ف! إسحعيل : { وكان رسولاً نجيآ } [ سورة مريم ، الآية : 51 ] انه يدل على أنّ الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة ، فإذ أولاد إبراه!يم صلى الله عليه وسلم كانوا على شريعته فيبطل تعريفاً هما فالحق أذ لا يعتبر التعريفط الأوّل بل يدفح السؤالى بأنّ حديث عدد الكتب والرسل من الآحاد(4/192)
ج4ص193
الغير المفيدة في الاعتقاديات على أن حصر الرسل عليهم الصلاة والح!علام يخالف ظاهر قوله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [ سورة الأعرأف ، الآية : 78 ] وفيه نظر لأنّ عدم ذكر فصعصحهم لا ينافي عددهم إجمالاً وسيأتي الكلام فيه مفصلاً ثحة لكن الفاضحل الخيالى ذكره هنا فتبعناه. قوله : ( حس! شضرعوأ هشذللوأ ) هشوبوا عن ذنوبهم ، وقال الشريف في تفسير قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } إنّ لعل عند الحعتؤلة مجار عن الإرادة ، ولحا لم يصحح عند الأشاعرة لاستلزامه وقوع الحواد ولا التعليل عند من يغفي تعليل أفعاله بالاغراض مطلقاً وإن جوره بعض أهل السنة ف! الإغرأض! الرإجعة للعبد وجحب! أذ يجعلى مجازاً عن الطلب الذي لا يستلؤم حصحول المطلوب ، أو عن توتب النجاة على ما هي ثحرة له كما فسو هنا بحتى فإن أفعاله تعال! يتفرع عليها حكم ومصحالح متقنة هي ثمراتها وإن لا تكن عللاَ غائية لها بحيث لولاها لم يقدر الفاعل عليها كحا حقق ف! موضعه ، وقال : ف! حاشية العضد وأما الغر ضفهو ما لأجله إقدام الفاعلى على الفعل ، ويس!حى علة غائية له ولا توجد في أفعاله تعال! وإن جص!ا فوائدها ، وما قيل من إنّ المقصود يسحى!ضحاً إذا لم يمكن لفإحل خصعيله إلا بذلك الفعل فاصطلاح جديد لم يعرف له مستند لا عقلاً ولا نقلا فأورد عليه أنّ بين كلاميه مدافعة ظاهوة لأنه اعتبر في العللى ا!خائية كونها بحيث لولاها لم يقدلى الفاعل عليها ، وقد وافقهم في شوح المواقف في اعتبار هذا القيد فيها حيث استدل على نفي وجوب التعليل في أفعاله تعال! بأنه فاعل لجميح الأفعال أبتداء فلا يكون شيء من الكائنات إلا فعلا له لا غوض!اً لفعل آخعر لا يحصحل إلا به فيصلح غرض!اً لذلك الفعل فكيف أنكر على ذلك القائل ، وجعله اصطلاحا جديدا ، وقد قدّمنا تفص! يل هذا في أوّل سورة البقرة. قوله : ( أي
أعيد!ناصاً بدل مما كانوا فيه الخ ) قيل في مكاذ وجهان اظهرهحا أنه مفعول به لا ظرف والحعنى بدّلنا مكاذ الحال السسيئة الحال الحسنة فالحسنة ه! الحأخوذة الحاصلة في مكان السيئة
المتروكة ، وهو الذي تصحبه الباء في نحو بدلت ذيدا بعحرو فزيداً مأخوذ وعمرو متووك كحا مرّ والثاني إنه منصوب عل! الظرفسية إلا أنه مردود لأنه لا بذ له من مفعولين ، أحدهما على إسقاط الباء وف! كلام المصعنف لى حمه الله ما يدفعه فإنه جعل بدل متضمناً معنى أعطى الناصب لمفعولين احدهحا ض!حيرهم والثاني الحسنة ، وتلك الحسنة في مكان السيئة وكونها في مكانها كناية عن كونها بدلاً عنها ولا محذور فيه كما توهم ، وقوله : ( ابتلاء! اً ) بالأمرين أي هعاهله معها كحعاملة الحختبر بالإساءة والإحسان. قوله : ( يسقالط عفا النبمات إذا كثر وهف إعفاء اللحى ) ال!لحى جحح لحية ، هدجور في لام اللحى الضم والكسر كما في كتاب العين ، وهو إشارة إلى ما وقح في حديث السنن : " أحفوا الشوا!ب وأعفوا اللحى " ( 1 ) والإحفاء الاستقصاء والنهك فححله أكثر على القص بدليل التصريح به في روأية وبعضهم على الحلق وهو لى واية عن أب! حنيفة رححه الله تعالى أي قللوا شعر الشوارب وكثروا شعر اللحى بتركه على حاله. قوله : ( كفرانأ لنععة إدفه الخ ) معنى قوله يعاقب يجعل كلاَ منهما عقب الآخر ويداولها فيتعاوران ، وفي ال!كشاف ف! قفسير مثلى هذه الآية فتحنا ع!ليهم أبواب كل شيء من الصحة والحعععة وصنوف النعمة ليزاوج عليهم بعن توبتي الضرّاء والسرّاء كحا يفعل الوالد المشفق بولده ، ويخاشنه تارة ويلاطفه أخرى طلباً لص!لاحه فقيل عليه إنه قححل الاعتزال ، وتنكب عن ظاهر الحقال ، ولا ينبغي أن يخفى على أحد أنّ هذا استدراج واستهلاك عند غاية الفرج والسرور وأنفتاج أبوأب الأماني والمطالب جسميعا ليكوذ الأخذ والهلاك أشدّ وأفظع وليس من قبيل ال!تنقيف والتأديب ، والبلاء بالحسنات والسيئات ، وف! الكشف قيل الظاهر أنه استدراج لا تنقيف وتأديب كحا في ال!كشاف.
( أقول ) أما إنه تسعالى يفعل ذلك بعباده ملاطفة فغير منكر!قوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ سورة الأعراف ، الآية : 168 ] وأما سياق هذه الآية فلا ينافي ما ذكره لأنّ الملاطفة بعينها تصحير استدراجاً فيحا بعد ، وأما الأثر الحروي : " إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه ما يحب فإنحا هو استدراج " ( 3 ) وتلا الآية فلا يرد ها ذكره لأنه صلى الله عليه وسلم أخذه من قوله : { حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ } [ سورة الأنعام ، الآية : ، ، ] وقد سبق الى الملاطفة تصحير استدراجا ، وقيل على كلى
من الثلاثة أشكال أما كلام الكشاف فلأنّ(4/193)
ج4ص194
الآية السابقة في سورة الأنعام وهي قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ } [ سورة الأنعام ، الآية : 2 ، ] كهذه الآية في السباق والسيإق
والأسلوب لا مغايرة بينهحا إلا في لفظة : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أسو!ة الأنعام ، الآية : ، 4 ] وهي لا توجب كبير فرق بينهما فكيف جعلها ملاطفة ، ومزاوجة في السابقة وأستدراجا ف! هذه ، والدليل على جعلها أسندراجا هنا قوله فيما بعد ومكر الله اسنعارة لأخذه العبد من حيعث لا يشعر ولاستدراجه فعلى العاقلى أن يكون في خوفه من هكر الله الخ مح ترتب أفأمنوا مكر الله على القصة المذكورة ، وأما كلام النحرير فلأنّ صإحب الكشاف لو كان ممن يزعم أنّ الاستدراج منا! لحذهب الاعتزال فكيف فسر مكر الله بالاستدراح فيعا بعد ، وأما كلام الكشف فلأنّ المقصحود من الاستدراج كون الهلاك أفظح والأخذ أشذ ومن الحلاطفة الإصلاح والتأديب ، وإذ كان التعذي!ب بعدها أفظع لكن فرق بين مجرّد ترتب الشيء على الشيء ، وبين كونه مقصحودا منه سيحا عند من يقول! بالغر ضفي أفعاله تعالى والاستدراج هو الثاني فتأمّلى.
فوله : ( ظخذظ ! بش!تة ) عطيف على مجحوع عفواً ، وقالوا أو على قالوا لأنه العسبب عنه وقوله : لا يشعروذ بنزول العذأب قيل المراد بعدم الشعولى عدم تصعديقهم بإخبار الرسل به لا خلوّ أذهانهم عنه ، ولا عن وقته لقوله تعال! : { ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [ سو!ة الأنعام ، الآية : 131 ] وفيه نظر لأنّ هذه حالط مؤكدة لمعنى البغتة كعا قاله فمعناه أنهم غير هنتظوين لوقتها فليس له!م شعور به. قوله : ( يضي القرى ألمحدلول ع!ايها الخ ) فاللام للعهد الذكري ، والقوية وإن كانت مفردة لكنها ف! سياق النفي فتساوي القرى وإذا أهلد مكة وما حولها فهي للعهد الخارجي ، وجوّز في الكشاف أن تكودط للجنس فقال في الكشف فعليه يتناول قوى ألى سل إليها نبيّ وأخذ أهلها وغيرها ، وقيل عليه كيف يتنإول قرى لم يرسل إليها نبيّ وآخو الآية : { وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وإلى أدة وقع التكذلمجط والأخذ فيحا بينهم بعيدة فإلظاهر أنه يتناول جنس القرى المرسلى إلى أهلها من الحذكورة وغيرها ، ولحا كانت إلى ادة مكة غير ظاهرة من السياق أخره المصحنف رححه الله تعالى وهرض!ه ووجهه أنه تعالى لحا أخبر عن القوى الهعالكة بتكذيب الرسل وأنهم لو آمنوا سلحوا وغنموأ انتقل إلى إنذا! أهلى مكة مما وقح بإلأمم والقرى السالفة. قوله : ( لوسعنا عليهم أ!ير هس! رظ ه الخ ) يعني فتحن! استعإرة تبعية ، وفي ذكر الأبواب في الكشاف إشعالى بأنها تحثيلعة جمث اعتبر في فتح الأبوأب الأحوالى ، وقد يقإل لا حاجة إليه لأنه شبه تيمنمير البوكات عليهم بفتح الأبوأب في س!هولة التناول وجإء اعتبار الاستغلاق من ضوورة الفتح ، وقوله : من كلى جانب يعني أنّ ذكر السماء والأرض
لضعميم الجهات لا لتبيين ما فيه من البركات كحا هو!أي من فسرها بالمطر والغبات والبركات عامّة ، في هذا دون الآخر وهو الفرق بينهحا ، هلجور أن يكون الفتح مجازاً مرسلا في لارمه
وهو التيسير قيل وفي الآية إشكال وهو أنه يفهم بح!سا الظاهر منها أنه يفتح عليهم بركات من الصعحاء والأرض! إن آمنوا وفي الأنعام : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ }
[ سورة الأنعام ، الآية : 44 ] ويدل على أنه ف!تح عليها بركات من السماء والأرض وهو معنى قوله أبواب كل شيء لأنّ الحراد منهما الخصب والرفاء والصعح!ة والعافية لمقابلة { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء } [ سو!ة الأنعام ، الآية : 42 ] وحملى فتح البركات على إدامته أو ديادته عدول على الظاهر غعر ملائاً لتفسيره بتيسعر البركات ولا بالحطر والنبات ، وأجيب عنه بأنه ينبغي أذ يراد بالبوكات غير الحسنة وما يربى عليها أو يراد آمنوا من أوّل الأمو فنجوا من البأساء والضرّاء كحا هو الظاهر ، والحراد في سو!ة الأنعام بالفتح ما أهلد بالحسنة هاهنا فلا يتوهم الإشكال وفيه بحث فتدبر. قوله : ( ظخذن!ا! ) الظاهر أنّ هذا الأخذ والسابق في { أخذناهم وهم لا يشعرون } واحد وححل أحدهما على الأخذ الأخروي والآخر على الدنيوي بعيد. قوله : ( عطف عل! قوله ظخذظ ! الخ ) وفي الكشاف ف! بياذ عطف هذه بالفاء والأخرى بالواو المعطوف عليه قوله. { فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً } وقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى } إلى { يكسبون } [ سورة الأعراف ، 1 لآية : 96 ] وقع اعترأض!أ بين الحعطوف والمعطوف عليه وإنحا عطف بالفاء لأنّ المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبسعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بيانا وآمنوا أن يأتيهاً بأسن! ض!حى ، ثم قال : إنه !جح فعطف بالفاء قوله : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ } [ سووة الأعراف ، الآية : 99 ] لأنه(4/194)
ج4ص195
تكرير لقوله أفأمن أهل القرى يري!د أنّ القص!د إلى إنكار أن يقح بعد أخذ قوم شعيب عليه الص!لاة والسلام أمن أهل القرى أن يجيئهم البأس بياتا ويجينهم البأس ض!حى من غير اعتبا! ترتيب بينهحا فبالضرورة ك!اذ عطف الجحلة الأولى بالفاء والثانية بالواو ودخلت الهحزة لإفادة إنكالى أن يقع بعد ذلك الأخذ هذاذ الأمران ومع وضحوح معنى الكلام ، وصويح لفظه سبق إلى بعض الأوهام ، أنّ الحواد أنّ إلا من الأوّل عقحط أخذ الأوّلين بخلاف الثاني فإنّ إنعكإره مع إنكار الأوّل لا بعده ، فإن قيل : هلا جعل المعطوف عليه { فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وهو أقرب ، قلنا : لأنّ مساق ولو أنّ أهل القرى إلى قوله يكسبون مساق التكرار والتأكيد بخلاف ما قبله ، فإنه لبيان حال القرى وقصحة هلاكها قصمدا فالعطف عليه أنس!ب وإن كان هذا أقوب وهذا على تقدير أن يراد بالقرى القرى الحدلول عليها بفا سبق وأما إذا أديد بها مكة وما حولها فوجهه ظاهر لأنّ منشأ الإنكالى الأما السالفة لا ما أصاب أهل مكة ومن حولها من القحط وض!يق الحال. قوله : ( وها بي!نهحا أعتوأغم! الخ ) في الكشف وأهل القرى هن! أهل مكة وما حواليها محن بعث إليه نبينا مححد صلى الله عليه وسلم ، وأما وجه وقوع الاعتراض فبين لأنه يؤكد ما ذكره من أن الأخذ بغتة يترتب على أضحداد
الإيمان والتقوى ، ولو عكس لانعك!س الأمو ، ومنه يظهر أنّ جعل اللام للجنس هغالك أولى ليؤكد الحعطوف عليه ويشحلهما شمولاً سوأء. قوله : ( لى المحنى أبحد ذلك أهن أمل القرى ) إشارة إلى أنّ الفاء للتعقيب وأنّ الإنكعار منصبّ عليه أي كيف يعقمب ما رأوه الأمن من عذاب اللّه ، وهذا مح ظهوره خفي حلى من فال : كأنه لم يجعل الفاء للتعقيب لأنّ الأهنين الحنكرين لم يكونا عقيب هلاك القوم ولا للسببية ، ثاً أطال في تقريوه من غير طائلى ، وجعل يقدم رجلاً هلؤخر أخرى ، وقد تركناه لع!دم جدوأه. قوله : ( تج!ييتاً أو وقت ب!يان الخ ) أي هو مصد!يات أو بيت ونصعبه على الطرفية بتقدير هضاف أي وقت أو هفعول مطلق ليأتيهم من غير لفظه أي تبييتاً أو حال من الفاحل بمعنى مبيتاً بالكسر أو من المفعول بحعنى مبيتين بالفتح ، وجوّز في غير هذا المحل أذ يكوذ من المفعول بحعنى بائنين أي داخلين ف! الليلى ، وف! الدرّ المص!وذ فيه وجوه أحده! أنه منصوب على الحال ، وهو في الأصل مصدلى ، وجوّر أذ ، ؟ !يكعوذ مفعولاً له ، وقول الواحدي بياتاً ظاهره أنه ظرف إلا أذ يكوذ تفسيراً للحعنى وإذا جعل وهم نائحون حالاً من الضمير المستتر ف! بياتاً فلقأهلله بإلص!فة كحا مرّ وهو حال متداخلة حينئذ ، وفوله على التوديد أي توديد بين أذ يأتيهأ في هذا الوقت أو ف! هذا الوتعتا أي هو لأحد الشيئين. قوله : ( ضحوة النهار ) أصل هعنى الضحى أرتفإع الشمس أو شروق!ها وقت ارتفاع!ه! كما في قوله تعالى : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } [ سو!ة الضحى ، الآية : ا ] ثم استعحل للوقت الواقح فيه ذلك هلكون منصحرفاً إذ لم يرد به وقت من ي!وم بعينه وغير منص!رف إن أهلد به ض!حوة يوم معين فيلزم النصب على الظوفية وهو مقص!و! فإذ فتح مد والضحى يذكر هلؤنث ، وفوله : يلهون إشادة إلى أنّ اللعب مجار عن الليهو والغفلة أو إلاشتغال بما لا نفح فيه على التشبيه. قوله : ( تحوير قول! أظهن أهل القرى الخ ) وفي نسخة تقريو أي تكرير لما سبق على طريقة الجحح بعد التقسيم قص! داً إلى!لإدة التحذير والإنذار ، ولهذا لم يجعل ضححيرا فأمنوا لجحيح أهل القرى الهالكة المشإلى إليهم بقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى } [ سورة الأعراف ، الآية : 96 ] والبافية المبعوث إليهم نبينا صلى الله عليه وسلم المشار إليهم بقوله أفأمن أهل القرى ولو جعل لذلك لجار إلا أنه لما جعل تهديدا للحوجودين كاذ الأنسب التخص!يص كذا في شروح الكشاف وقعل عليه كعف يصعح جعله تكريرا للحجحوع والحال أنّ إنكا! الأمنين ليعقبهح! مشاهدة هلا! الأوّلين كما قرّره وإنكار أمن القوى السابقة ليس كذلك إذ لا معنى لإنكار الأمن من الهالكين وتقدير معطوف عليه آخر هرتعبا عليه
أمن الجميح تعسف ظاهر فتدبر. قوله : ( ومكر أدلّه اسضعمارة لاشدراج إب الخ ) فشبه استد!اج الله للعاصي حتى يهلكه في غفلته بالعكو والخداع ، فلذا صح إطلاقه عليه تعال! من غيو مشاكلة لكن يناقض هذأ قول المصحنف ر حمه أدلّه في تفسيو قوله تعإلى : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ } [ سورة آل عحرأن ، الآية : 54 ] أنه لا يجور إطلاق ال!عكو على ألله إلا بطريق المشاكلة فتأمّل ، ثم إنّ توتب هذا الكلام أعني فوله أفأمنوا الخ على قصة أهل(4/195)
ج4ص196
القرى يدلّ على أنّ تبديل السيئة بالحسنة مغكر واستدرأج ، وقد مرّ مثل هذا النظم في الأنعام فجعله في الكشإف ملاطفة ومزاوجة ورجحه المصحنف رححه الله أيضأ حيعسا قدمه ه!ناك فهو تحكم بحت كما قرّ!ه الأستاذ و!ذه النحرير المدقق بأنه يحكن أن يقال بعد تمسليم أن ليس الحواد الإشالى ة في المقامين إل! التوجيهين فقوله تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ } يرجح الححلى على الملاطفة فتتئم وجوه الإرشاد والححل على ترك الكفر حتى يكوذ الكفر حينئذ أ!يد في القبح والشناعة حيث قطع دابرهم لأجله وححد عليه.
تنبيه : الأمن من مكر الئه كبيرة عند الشافعية وهو الاسنرسال في الحعاصي اتكالاً على
عفو الله كما في جحح الجوأمع ، وقال الحنفية : إنه كفر كاليأس لقوله تعال! : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ سو!ة يوسف ، الآية : 87 ] { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } واستدلّ الشافعية بحديث ابن مسعود رضي الله عنه من الكبائر إلا من مكر ألله وما ورد من أنه كفر مححول على التغليظ ، وفيه تفصيل ليس هذ ا محله فقول المصحنف رححه الله الذين خسروا بالكفر إشا!ة لهذا فتأمّله. قوله : ( أي يخلفون من خلا!م الخ ) أي الإرث هنا مجا! عحا ذكر وهو ظاهر وجعله يهد بمعنى يبين وإذ كاذ هدى يتعدى بسنفسه ، وباللام وبإلى لأنّ ذلك في الحفعول الثاني لا في الأوّل كحا هنا فهذا استعحال آخو ، وقيل لك أن تحمل اللام على ا!زيافى ة كح! في ردف لكم ، والحراد بالذي!ن أهل مكة ومن حولها كحا نقلى عن أبن عباس !ضعي ألله عنهح!. قوله : ( لأفه بععن! يبين ا لضا بطريق المجار أو ال!تضحين وقوله : ( هلوثون دي!ما!هم ) يقتضي أنّ الأوّل على ظاهره ولو كان عطف بأو فتأمّل ، وقوله أن الشأذ إشارة إلى أنّ أن مخففة من الثقيلة واسحها ض!حير شأدن هقد! ، وخبره جملة لو نشاء ، وفي اللباب تخصيص هذا بكونه مفعولاً كحا في قراءة النون و جعلها مصددىلة والفعل بعد لو في تأثلل المصدر كحا في قراءة ألياًء ، وفيه نظر لاً نه يحتاج إلى إثبات دخول المصددية على لو الشرطية مح أنّ أن المفتوحة مصددرية أيضا فتأمّل ، وقوله : ( بجزاء ذنوبهم ) يعني أنه على تقدير مضاف أو تضمين
أصبنا معنى أهلكنا فلا حاجة إلى التقدير ، وقوله وهو فاعل يهد يعني المصدر المؤوّل فاعله ، وجوّز أيضاً أن يكون الفاعل ضمير الله ، ويؤيده قراءة النون وأن يكون ضميراً عائدأ على ما يفهم مما قبله أي أو لم يهد ما جرى للأمم السابقة. قوله : ( ومن قرأه بالنون جعله مفعولاً ) هي قراءة مجاهد قال النحرير : الظاهر أنّ اعتبار قضمين معنى نبين إنما هو على قراءة النون حيث ذكر المفعول الثاني ، وأما على قراءة الياء فهو من قبيل التنزيل منزلة اللازم ولا حاجة إلى تقدير المفعول الثاني أي أو لم يبين لهم هذا الشأن الطريق المستقيم ، أو مآلهم وعاقبة أمرهم ، واعترض عليه بأنّ التنزيل منزلة اللازم يكون بالنسبة إلى أحد المفعولين مع ذكر المفعول الآخر كما يكون بالنسبة إلى المفعولين والصريح كغير الصريح كما صرّح به الشريف في قوله تعالى :
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } [ سورة العلق ، الآية : ا ] فالقراءتان متساويتان في اعتبار التضمين والتنزيل دمان صرّح الزمخشرفي بلفظ أو لم نبين في قراءة النون دون الياء وعكس القاضي فقيل يمكن أن يقال قصد التعلق إلى المفعول دليل ظاهر على القصد إلى المفعول لا سيما عند ذكر ما يصلح أن يكون مفعولاً أوّل أعني للذين يرثون وجعل اللام للتعليل وصف ظاهر بخلاف قراءة الياء إذ لا قصد حينئذ إلى التعلق بشيء أصلاً ، والحق أنّ التضمين أولى من التنزيل لأنّ لام للذين إن حمل على التعدية فلا تنزيل ، وان حمل على التعليل ففيه نوع تعسف كما لا يخفى اهـ وفيه بحث إذ الظاهر أنّ الاعتراض! وارد إذ على التنزيل وألاقتصار على المفعول الأوّل لا بذ من ذلك إذ هدى لا يتعذى إلى المفعول الأوّل باللام كما ذكره النحرير وغيره إلا أن يجعل قاصراً على المفعولين أي أو لم تكن منا هداية للوارثين فتأمّل ولبعض الناس هنا كلام غير مهذب. قوله : ) عطف على ما دلّ عليه أو لم يهد الخ ( هذا يحتمل أن يكون تقديراً للمعطوف عليه بدلالة ما قبله وهو الظاهر ، ويحتمل أن يريد أنه معطوف على جمله ، أو لم يهد لأنها وان كانت إنشائية فالمقصود منها الإخبار بغفلتهم فلا يرد عليهم ما قيل إنه إضمار من غير حاجة ، وترك المصنف رحمه الله عطفه على يرثون الذي جوّزه في الكشاف لما قيل عليه إنه صلة ، والمعطوف على الصلة صلة ففيه الفصل بين أبعاض الصلة(4/196)
ج4ص197
بأجنبيّ وهو أن لو نشاء سواء كان فاعلا أو مفعولاً. قوله : ( أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع ) فهي جملة مستأنفة كما يشهد له تقدير المبتدا لأنهم التزموه في الاستئناف دران خفى وجهه كما مرّ في سورة آل عمران ويحتمل أن تكون معترضة تذييلية أيضا ، أي ونحن من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلب من لم نرد منه الإيمان حتى لا يتعظ بأحوال من قبله ولا يلتفت إلى الأدلة ، وليس معناه إنه معطوف على جملة أو لم نهد كما يوهم. قوله : ( ولا يجورّ عطفه على أصبناهم الخ ) قوله لأنه في سياقة جواب لو تعليل لجعله بمعنى الماضي لأنّ المعطوف على الجواب له حكم الجواب ، وهي تختص بالماضي وقوله لإفضائه الخ تعليل لقوله لا يجوز ، وقد تبع المصنف رحمه الله تعالى
هذا الزمخشريّ ، وقد قيل عليه إنه يجوز عطفه عليه ولا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولا بد ، فهم وان كانوا كفاراً ومقترفين للذنوب ليس الطبع من لوازمهم إذ الطبع هو التمادي على الكفر ، والإصرار عليه حتى يكون مأيوسا من قبوله للحق ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المثابة بل إنّ الكافر يهدد لتماديه على كفره بأن يطبع على قلبه فلا يؤمن أبداً وهو مقتضى العطف على أصبناهم فيكون في الآية قد هذد بأمرين إصابته بذنبه والطبع على تلبه والثاني أشدّ من الأوّل ، وهو نوع من الإصابة بالذنب والعقوبة أنكى فهو كقوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [ سورة التوبة ، الآية : 25 ا ] وإنما الزمخشريّ فرّ من دخوله تحت المشيئة على مذهبه لأنه قبيح واللّه تعالى متعال عنه فلا ينبغي للمصنف رحمه الله تعالى أن يتابعه عليه والحق أنّ منعه له ليس بناء على أنه لا يوافق رأيهم فقط بل لأنّ النظم لا يقتضيه ، وهو الذي جنح إليه المصنف رحمه الله تعالى لأنه يستلزم انتفاء كونهم مطبوعا على قلوبهم لمستفيده كلمة لو من انتفاء جملتيها واللازم باطل لقوله : { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي يصرّون على عدم القبول وقوله : { كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ } [ سورة يون! ، الآية : 74 ] العامّ لأهل القرى الوارثين والموروثين وقوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } لدلالته على أنّ حالتهم منافية للإيمان وأنه لا يجيء منهم البتة ، وبهذا يندفع الاعتراض ، وهذا هو الحق الحقيق بالقبول كما ارتضاه المحققون من شراح الكشاف إلا أنه أورد على قولهم اللازم باطل لقوله فهم لا يسمعون إنّ الطبع إذا دخل في حكم المشيئة كان عدم السماع كذلك ، وبكون المعنى لو شئنا لاستمرّ منهم عدم السماع ، وهو لا ينافي عدم السماع بالفعل ، وقيل إنه يمكن أن يقال دخول نفي السماع في حيز لو يقتضي تأويل الاسمية بالماضوية فلا ينافي اعتبار استمرار غير حاصل ، ورذ قوله أنّ نطبع على قلوب الكافرين عامّ بأنهم أهل القرى وهي موروثة لا وارثة كما صرّح به فلا وجه للاستدلال به وفيه تأمّل وذهب ابن الأنباري رحمه الله إلى أنّ لو بمعنى أن وأصبنا بمعنى نصيب. قوله : ( سماع تفهم واعتبار ) هذا مما يقتضيه تفريعه على الطبع ، وأمّا تفسير. بلا يجيبون كما في سمع الله لمن حمده فغير مناسب. قوله : ( حال إن جعل القرى خبرا وتكون إفادته بالتقييد الخ ) قيل لاخفاء أن الكلام فيما إذا أريد الجنس لا تلك القرى المعلوم حالها وقصتها أو تلك القرى الكاملة في شأنها مثل ذلك الكتاب ، فإنّ ذلك بمنزلة الموصوف واعترض! بأنّ الحال راجع إلى تقييد المبتدأ لأنّ العامل فيه ما في اسم الإشارة من معنى الفعل ، ولو سلم فالسؤال إنما يندفع على تمدير كون نقص حالاً لا خبراً بعد خبر ، والقول بأنّ حصول الفائدة بانضمام الخبر الثاني الذي هو بمنزلة الخبر على طريقة هذا حلو حامض ظاهر ، والسؤال إنما هو على تقدير الحالية فإنّ الحال فضلة ربما يتوهم عدم حصول الفائدة بها ليس بشيء لظهور أنّ هذا ليس من قبيل حلو حامض
بمعنى من بل كل من الخبرين مستقل اص.
( قلت ) وكذلك ما قيل في الجواب عنه بأنه لما اشترك الخبران في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما مما لا وجه له ، وقد سبق النحرير إلى ما ذكر صاحب الكشف ، والجواب أنا نسلم أن العامل فيه ما في المبتدأ من معنى الفعل ، وإنه قيد له لكنه في المعنى وصف لذي الحال فيصير الخبر كالموصوف المقصود منه صفته كما في أنت رجل كريم هو في غاية الظهور ، والسؤال مندفع على تقدير كونه حالاً بما ذكر ، وعلى تقدير كونه خبراً بعد خبر بأنّ التعريف لا يكون للجنس بل للعهد أو للدلالة على كمالها في جنسها حتى كأنها هو ، وترك التنبيه عليه لظهوره وكم له أمثال في كلامهم ، واليه أشار المدقق(4/197)
ج4ص198
في الكشف بقوله المعنى على التقديرين مختلف لأنه إذا جعل حالأ يكون المقصود تقييده بالحال كما ذكره الزجاج في هذا زيد قائماً إذا جعل قيدا للخبر إذ الكلام إنما يكون مع من يعلم إنه زيد والا جاء الإحالة لأنه زيد قائما كان أولاً وأما إذا جعل خبراً بعد خبر فتلك القرى على أسلوب ذلك الكتاب على أحد الوجوه ونقص خبر ثان تفخيم على تفخيم حيث نبه على أنّ لها قصصاً وأحوالاً أخر مطوية ، وهذا معلوم للشارح في كتابه فكثيراً ما يرسل الأوجه ويفرّع على واحد ، ثم إنه علم منه أن الخبر يشترط فيه الإفادة بالذات أو بواسطة قيد له كصفة وحال وقد قال ابن هشام إنّ هذا يشكل على أبي عليّ رحمه الله تعالى في مسألة حكاها عن الأخفش وهي إنه امتنع من إجازة أحق الناس بمال أبيه ابنه لأنه ليس في الخبر إلا ما في المبتدأ ، ثم قال فإن قلت أحق الناس بمال أبيه ابنه البارّ به أو النافع له أو نحوه كانت المسألة بحالها في الفساد لأنّ الخبر نفسه غير مفيد ولا ينفعه مجيء الصفة بعده لأنّ وضع الخبر على تناول الفائدة منه لا من غيره ، وردّه بأنه إذا جاز للحال أن تحصل الفائدة المقصودة نحو فما لهم عن التذكرة معرضين إذ السؤال إنما هو في المعنى عن الحال فجوازه في الصفة أجدر فتأمّل ، يعني أنّ قوله يعني قرى الأمم المارّ ذكرهم ظاهر في جعل اللام للعهد فلا حاجة إلى التقييد بالحال إلا أن يجعل ذلك بياناً للمشار إليه لا تفسيراً للقرى كما قيل. قوله : ( بما كذبوه من فبل الرسل الخ ) يعني ما موصولة وقدر عائدها كذبوه لا كذبوا به لأنه لا يجوز حذفه لاختلاف المتعلق كما ذكره المعرب ، وفسره في يونس بقوله بسبب تعوّدهم تكذيب الحق ، وتمرّنهم عليه قبل بعثة الرسل أي أنهم كانوا قبل البعثة جاهلية مكذبين للحق فلم تقدهم البعثة فالباء سببية ، وقال الزجاح فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك
المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها يعني أوّل ما جاؤهم فاجؤوهم بالتكذيب فاتوا بالمعجزات فأصرّوا على التكذيب وهو معنى قول المصنف رحمه الله مدة عمرهم الخ ، وقال الطيبي رحمه الله أعلم أنه تعالى جعل عدم إيمانهم بسبب تكذيبهم المقيد بقوله من قبل فالفعل المضارع وهو قوله ليؤمنوا إمّا على ظاهره فيكون المعنى ما كانوا ليؤمنوا الآن أي عند مجيء الرسل لما سبق منهم التكذيب قبل مجيئهم ، واما أن يحمل على الاستمرار فالمعنى أنهم لم يؤمنوا قط ، واستمرّ تكذيبهم لما حصل منهم التكذيب حين مجيء الرسل ، ولما اشتمل الفعل على معنى الاستمرار في الحالات المتعاقبة صح أن يقال بما كذبوا به أوّلاً والوجه الأوّل مناسب لأصول المعتزلة يعني إنما لم يؤمنوا بالرسل بما خالفوا قبل مجيئهم عقلهم الهادي فلما أبطلوا استعدادهم لم ينفعهم مجيء الرسل ، والثاني موافق لمذهب أهل السنة لأنّ العقل غير مستقل فلا بد معه من انضمام الرسل والبعثة فهؤلاء لما كذبوا الرسل والآيات ، ولم تؤثر فيهم دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة لم يؤمنوا إلى آخر عمرهم ، وهذا أنسب من الأوّل بقوله كذلك يطبع الله يوضع المظهر موضع المضمر وعن مجاهد رحمه الله إنه كقوله.ـ تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ سورة الأنعام ، الآية : 28 ] فالمعنى ما كانوا لو أهلكناهم ، ثم أحييناهم ليؤمنوا ففيه إيجاز لكن لخفائه تركه المصنف رحمه الله وفيها وجوه أخر وقوله واللام لتأكيد النفي يعني أنها لام الجحود ، وقد مرّ شرحها. قوله : ( والدلالة على أنهم ما صلحوا الخ ) بيان للتأكيد الذي تفيده لام الجحود ويعطيه التركيب ، وقوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ } بيان لعدم صلاحهم للإيمان ويصح فيه التشبيه والتعظيم للطبع كما في قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [ سورة البقرة ، الآية : 43 ا ] وقوله فلا تلين شكيمتهم أي لا ينقادون للحق وأصل معنى الشكيمة حديدة اللجام التي في فم الفرس. قوله : ( كثر الناس والآية اعتراض الخ ) يعني وما وجدنا إلى فاسقين اعتراض! إن كان الضمير للناس لأنه لا اختصاص له بما قبله لكن لعمومه يؤكده ، ومرجع الضمير معلوم لشهرته فإن كان للأمم المذكورين يكون من تتمة الكلام السابق فهو تعميم لا اعتراض كذا قرره شراح الكشاف فلا معنى لما قيل كيف يكون اعتراضا مع شموله للأمم ، ومن في من عهد زائدة ، ووجد هذه متعدية لواحد وجوّز فيها أن تكون علمية و!ثرهم متعلق به أو حال. قوله : ( وفاء عهد الخ ) يعني أنه على تقدير مضاف لأنّ عهدهم وجد على الوجهين والعهد أما ما عهده الله إليهم ببعثة الرسل ونحوها ، أو في عالم الذرّ أو ما عاهدوا الله عليه في نزول الشدة بهم ، والحجج(4/198)
ج4ص199
الدلائل الدالة على الله ، وفسره ابن مسعود رضي الله عنه بالإيمان كما في قوله : { اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } [ سورة مريم ، الآية : 78 ] وقيل العهد بمعنى البقاء.
قوله : ( علمناهم الخ ) يعني إن وجد هنا بمعنى علم فهي من الأفعال النواسخ الناصبة للمبتدأ والخبر لدخول أن المخففة عليها ، وهي لا تدخل إلا على المبتدأ أو على الأفعال الناسخة عند الجمهور خلافا للأخفش رحمه الله فإنه جوّز دخولها على غيرها ، وهذه اللام هي اللام الفارقة بين المخففة وغيرها ، وأن هذه بعد التخفيف ملغاة لا عمل لها على المشهور كما تقدم تفصيله ، وقوله : ذا الحفاظ أي صاحب الحفاظ ، وهو المحافظة والمراقبة ، ويقال إنه لذو حفاظ ومحافظة إذا كان له أنفة وقوله الضمير للرسل أي في قوله : { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } [ سورة الأعراف ، الآية : 103 ] ، أو للأمم المدخول عليه بتلك القرى ، والأوّل أولى. قوله : ( بأن كفروا بها مكان الإيمان الخ ) الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وهو متعد بنفسه لا بالباء فلذا وجه تعديه هنا بوجوه منها أنه لما كان الكفر والظلم من واد واحد عدّى تعديته أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا أو هو مضمن معنى التكذيب أو الباء سببية ، ومفعوله محذوف أي ظلموا أنفسهم أو الناس بسببها ، وكلام المصنف رحمه الله ظاهر في التضمين أي كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه يعني إنما أوتي موسى الآيات والمعجزات لتكون موجبة للإيمان بما جاء به فعكسوا حيث كفروا فوضعوا الشيء في غير موضمعه ، ويحتمل أن يريد التجوّز. قوله : ) وفرعون لقب لمن ملك مصر الخ ) يعني إنه علم شخص ، ثم صار لقبا لكل من ملك مصر ككسرى لمن ملك فارس والنجاشي لمن ملك الحبشة وقيصر لمن ملك الروم ، وقيل هي أعلام أيضا لأنها لا تنصرف وليست من علما الجنس لجمعها على فراعنة وقياصرة وعلم الجنس لا يجمع ، فلا بد من القول بوضع خاص لكل من يطلق عليه وليس بشيء لأنّ الذي غرّه قول الرضي إنّ علم الجنس لا يجمع لأنه كالنكرة شامل للقليل والكثير لوضعه للماهية ، فلا حاجة لجمعه وقد صرح النحاة بخلافه وممن ذكر جمعه السهيليّ رحمه الله في الروض! الأنف فكأنّ مراد الرضي أنه لا يطرد جمعه ، وما ذكره تعسف نحن في غنى عنه ، وقوله وكان اسمه الخ المذكور في التواريخ أنّ أحدهما اسم فرعون موسى والآخر اسم فرعون يوسف. قوله : ( لعله جواب لتكذيبه إياه الخ ) في هذه الآية قراآت عليّ بجر على لياء المتكلم ، وهي قراءة نافع
رحمه الله والقراءة المشهورة على أن لا أقول بجر على لأن المصدرية ، وصلتها وهي مشكلة لأنّ الظاهر أنّ عدم ترك قوله للحق حقيق عليه لا أنه حقيق على عدم ترك قوله للحق لأنّ حقيق بمعنى جدير ويتعدى بالباء ، وبمعنى واجب ولازم ويتعدى بعلى ، وهو المراد هنا فلذا ذهب المفسرون في تأويلها إلى وجوه ستة ستراها ، وجعل المصنف رحمه الله قوله : { وَقَالَ مُوسَى } [ صورة يونس ، الآية : 84 ] جوابا لفرعون إذ كذبه المدلول عليه بما قبله. قوله : ( وكأنّ أصله الخ ) بناه على القراءة المشهورة واستغنى بشهرتها عن التصريح بها هذا هو الوجه الأول وهو أن في الكلام قلباً وهو على قسمين أن يكون بقلب المعنى والألفاظ بتقديمها وتأخيرها نحو خرق الثوب المسمار أو بقلب المعنى فقط كما هنا فإنّ ياء المتكلم لا وجود لها حتى تؤخر وتزال عن مكانها ، وفيه بعد اشتراط أمن اللبس ثلاثة مذاهب مشهورة القبول مطلقا ، والمنع مطلقا والتفصيل بين ما تضمن اعتباراً لطيفا وغيره ، فيقبل الأول دون الثاني ، ولذا ضعفوه هنا ، والإغراق وجه آخر لا يدعى أنه المحسن هنا فتأقل ، والظاهر أنّ الإسناد والإغراق حقيقة باعتبار أصله والا لم يكن قلبا ، وفي الانتصاف أطلق عليه أنه مجاز فإن أراد ظاهره كان مشكلا فتدبر. قوله : ( وتشقى الرماج الخ ) هو من شعر لخراش بن زهير وقبله :
كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا قوادم حرب لا تلين ولا تمرى
وتلحق خيل لا هوادة بينها وتشقى الرماج بالضياطرة الحمر
وتمرى من أمرت الناقة درّ لبنها وهو استعارة هنا ، والهوادة الصلح والميل ورجل ضيطر وضيطار كبيطار ضخم لا غناء عنده ، فلذا يطلق على الخدم والسفلة ، وهو المراد هنا وهاء ضياطرة عوض عن المد كبياطرة إذ القياس فيه ضحياطير أو هي لتأنيث الجمع ، والحمر جمع أحمر كناية عندهم عن العجم لغلبة(4/199)
ج4ص200
الحمرة على ألوانهم ، فلذا يستعملونه في الذم ، وأصله تشقى الضياطرة بالرماح إلا أنّ الثاعر جعل الرماح شقيت بهم لتكسرها من كثرة الطعن فيهم كما قال أبو الطيب :
طوال الردينيات يقصفها دمي وبيض السريجيات يقطعها لحمي
وأفصح عن هذا المعنى في قوله :
والسيف يشقى كماتشقى الضلوع به وللسيوف كعا للناس آجال
قوله : ( أو لأنّ ما لزمك فقد لزمته ) عطف على ما قبله بحسب المعنى لأنّ المعنى وإنما
قال حقيق علي أن لا أقول لأنّ أصله ولأنّ الخ ، وهذا هو الجواب الثاني أي كما أن قول الحق
لازم له فهو لازم لقو الحق أيضاً ، واعترض! عليه بأنّ اللزوم قد يكون من أحد الطرفين دون الآخر كما هنا ، فليس كل ما لزمك لزمته ، وأجيب عنه بأنه إشارة إلى أنه من الكناية الإيمائية كقوله البحتري :
أو مارأيت الجود ألقى رحله في آل !ة ثم لم يتحوّل
وقول ابن هانئ :
فما جازه جود ولا حل دونه ولكن يسير الجود حيث يسير
يعني بلغت الملازمة بين الجود والممدوج بحيث وجب وحق على الجود أن لا يفارق ساحته فيسير حيث سار وهو المراد ، وقيل عليه بل معناه أنّ بين الواجب ومن يجب عليه ملازمة فعبر عن لزومه للواجب بوجوبه على الواجب كما استفيد من العكس ، وليس من الكناية الإيمائية في شيء بل هو تجوّز فيه مبالغة حسنة. قوله : ( أو للأكراق في الوصف بالصدق الخ ) الإغراق المبالغة من قولهم أغرق الرامي في النزع وهو نوع في البديع معروف فقد جعل قول الحق بمنزلة رجل يجب عليه شيء ، ثم جعل نفسه أي قابليته لقول الحق وقيامه به بمنزلة الواجب على قول الحق فيكون استعارة مكنية وتخييلية ، فالمكنية في قول الحق إذ شبه برجل ، والتخييلية في حقيق أي بالغ في وصف نفسه بالصدق فيقول أنا واجب على الحق أن يسعى في أن أكون أنا قائله فكيف يتصوّر مني الكذب ، جعل الحق كأنه عاقل يجب عليه أن يجتهد في أن يكون هو القائم به ، وقيل عليه هذا إنما يتم لو كان اللفظ هو حقيق على قول الحق ، وليس كذلك بل على قولي الحق ، وجعل قوله الحق يجب عليه أن يسعى في أن يكون هو قائله ليس له كبير معنى ، وهذا مما ذكره النحرير ، ولم يجب عنه وأجاب عنه بعض المتأخرين بما لا حاصل له وهو ظاهر الورود ، ويمكن دفعه بأن مبناه على أنّ المصدر المؤوّل معرفة لا بد من إضافته إلى ما كان مرفوعأ له ، وليس بمسلم فإنه قد يقطع النظر عن ذلك ، وصرّح بعض النحاة بأنه قد يكون نكرة كقوله : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى } [ سورة يونس ، الآية : 37 ] أي افتراء وهنا قطع النظر فيه عن الفاعل إذ المعنى حقيق عليّ قول الحق وهو محصل مجموع الكلام فلا إشكالط فيه ، وما ذكره يليق بالتدقيقات الرياضية لا التراكيب العربية فتدبر. وقوله : إلا بمثلي في أكثر النسخ وهو ظاهر ، وفي بعضها بمثله على عدم الحكاية وهي بمعنى الأولى والنسخة الأولى أصح. قوله : ( أو ضمن حقيق معنى حريص الخ ( هذا هو الجواب الرابع وهو ظاهر ، وعلى جعل على بمعنى الباء كما تكون الباء أيضا بمعنى على فحقيق بمعنى جدير ، وبقي جواب سادس ذكره ابن مقسم ، وقال : إنه أولى وقد أهملوه وهو أنه متعلق برسول إن قلنا
بجواز أعمال الصهفة إذا وصفت ، فإن لم نقل به وهو المشهور فهو متعلق بفعل يدلّ عليه ، أي أرسلت على أن لا أقول إلا الحق ، وقراءة حقيق أن لا أقول بتقدير الجارّ وهو على أو الباء أو يقدر علي بياء مشدّدة ، وتفسيره ما مر في القرا آت المشهورة. قوله : ( فخلهم الخ ( الظاهر أنه معنى حقيقيّ للإرسال قال الراغب : الإرسال يقال في الإنسان وفي الأشياء المحبوبة والمكروهة ، وقد يكون ذلك بالتسخير كإرسال الرياج والمطر ، وقد يكون ذلك بالتخلية وترك المنع نحو : { أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ سورة مريم ، الآية : 83 ] ويقابله الإمساك فأشار المصنف رحمه الله تعالى إلى أنّ المراد به الأخير ، وما قيل إنه استعارة من إرسال الطير من القفص تمثيلية أو تبعية لا أصل له ، وهذا إشارة إلى ما في الكشاف من أنّ يوسف عليه الصلاة والسلام لما توفي وانقرضت الأسباط غلب فرعون على نسلهم واستعبدهم ، فأنقذهم الله بموسى ع! ، وكان بين(4/200)
ج4ص201
اليوم الذي دخل فيه يوسف عليه الصلاة والسلام مصر ، واليوم الذي دخل فيه موسى-شي! أربعمائة عام. قوله : ( فأحضرهما عندي ليثبت بها صدقك ا لما كان ظاهر الكلام طلب حصول الشيء على تقدير الحصول أشار إلى بيان المغايرة بين الشرط والجزاء ، وكون جواب الشرط الثاني ما يدل عليه الشرط المتقدم وجوابه أمر آخر ، وقوله : ليثبت بها صدقك إشارة إلى أنّ الشرط الثاني مقدم في الاعتبار على قاعدة تكرّر الشرطين فتدبر. قوله : ( ظاهر أمره ) تفسير لمبين ، وقوله : صارت ثعبانا
إشارة إلى أنه صيرورة حقيقية لا تخييلية ، وأشعر بمعنى كثير الشعر ، وفي نسخة أشعرانيا وهو بمعناه ، وفاغراً بالفاء والغين المعجمة والراء المهملة بمعنى فاتح ، وسور القصر بمعنى أعلى حائطه ، وأحدث أي استطلقت بطنه في مكانه لخوفه ، وقوله فمات أي للخوف ، ووطء بعضهم بعضاً. وقوله : أنشدك بالذي الخ ، أي
أقسم عليك به. قوله : ) من جيبه أو من تحت إبطه الخ ( لقوله : { أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } أسورة النمل ، الآية : 12 ] وقوله : { اضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } [ سورة طه ، الآية : 22 ، والجمع بينهما ممكن في زمان واحد. وقوله : ( بياضاً خارجاً عن العادة ( لأنه روي أنه أضاء له ما بين السماء والأرض وقوله : أو للنظار أي لأجلهم. وقوله : ( لا أنها كانت بيضاء في جبلتها ( أي أصل خلقتها لأنه كان آدم شديد الأدمة وهي السمرة ، وأصله " دم بهمزتين أفعل ، وكونه كذلك مروفي في الحديث الصحيح. قوله : ( قيل قاله هو وأشراف قومه الخ ) يعني أنه وقع في سورة الشعراء قال! : { لِلْمَلَإِ } وهنا قال : { الْمَلإِ } والقصة واحدة فكيف يختلف القائل في الموضحعين. وفي الكشاف قاله : هو ، وقالوه : هم فحكى قوله ثمة وقولهم هنا أو قاله : ابتداء فتلقنه منه الملأ فقالوه لأعقابهم ، أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ ، كما يفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصة ، ثم تبلغه الخاصة العامة ، والدليل عليه أنهم أجابوه بقولهم : ) أرجئه وأخاه ( فأشار إلى ترجيح أنّ الملأ قالوه عن فرعون بطريق التبليغ إلى القوم ، بأنّ القوم أجابوا فرعون وخاطبوه بقولهم : ) أرجئه وأخاه ) فلو لم يكن الكلام تبليغا من فرعون إليهم لما كان لهذا الجواب والخطاب وجه إذ لا يناسب قول الملأ ابتداء إلا أن يقدر في الكلام ، إذ المناسب حينئذ ارجعوا وأرسلوا ، ولا يناسب النقل بطريق الحكاية لأنه حينئذ لا تكون مشاورة ، فلا يتجه جوابهم أصلاً أو أن الجواب وهو أرجئه الخ في الشعراء من كلام الملا لفرعون ، وهنا من كلام سائر القوم فلا منافاة بينهما لتطابق الجوابين ، ثم اختلفوا في قوله : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } فقيل إنه من تتمة كلام الملا وهو الظاهر ، وقيل كلام الملا تنم عند قوله : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ } ثم قال فرعون مجيبا لهم { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } قالوا : { أَرْجِهْ } وحينئذ يحتمل أن يكون كلام الملا مع فرعون ، وخطاب الجمع في يخرجكم لتفخيمه أو لما جرت به العادة ، وأن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه قيل : وإنما التزموا هذا التعسف ليطابق ما في الشعراء في قوله : { مَاذَا تَأْمُرُونَ } فإنه من كلام فرعون. وقوله : { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } كلام الملا لفرعون لكن ما اندفعت المخالفة بالمرّة لأنّ قوله : { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم } كلام فرعون للملا ، وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملا لفرعون ، ولعلهم يحيلونه على أنه قال لهم مرّة ، وقالوا له أخرى. قوله : ( تشيرون في أن نفعل ) يعني أنه من الأمر بمعنى المشاورة وهو المروقي عن ابن عباس رضي الله عنهما يقال : أمرته فأمرني أي شاورته فاشار عليّ برأي ، وليس هو الأمر المعهود وان قيل به. وأمّا قوله في العصا هنا : { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ } وفي محل آخر { كَأَنَّهَا جَانٌّ } [ سورة النمل ، الآية : 10 ، فلا معارضة
بينهما كما سيأتي { حَاشِرِينَ } جمع حاشر وهو من يجمعهم. وقوله : كأنه الخ من تتمة التوفيق كما مرّ. قوله : ) والإرجاء التأخير الخ ) هذا هو الأصح لغة لا أنه بمعنى الحبس ، وقيل لأنه لم يثبت منه الحبس ، وقيل : الأمر به لا يوجب وقوعه ، وقيل : إنه لم يكن قادرا على حبسه بعد ما هاله منه ، وقوله : { لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ سورة الشعراء ، الآية : 29 ] في الشعراء كان قبل هذا وقال أبو منصور : الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر وهو الهئم بقتله فقالوا أخره ليتبين حاله للناس. قوله : ( وأصله أرجئه الخ ) يعني بالهمز وفيه هنا وفي الشعراء ست قرا آت متواترة لا التفات لمن أنكر بعضها ، كما ستراه ثلاث مع الهمزة أرجثه وبهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو الأشباع ، وأرجئه(4/201)
ج4ص202
بضم دون واو ، وأرجئه بهمزة ساكنة وهاء مكسورة من غير صلة ، وثلاث بدونها أرجه بسكون الياء والهاء وصلا ووقفا ، وأرجهي بهاء مكسورة بعدها ياء ، وأرجه بهاء مكسورة بدون ياء فضم الهاء وكسرها ، والهمز وعدمه لغتان مشهورتان وهل هما مادّتان ، أو الياء بدل من الهمزة كتوضأت وتوضيت قولان ، وقد طعن في قراءة ابن ذكوان رحمه الله فقال أبو عليّ الفارسي ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز غيره ، وكسرها غلط لأنّ الهاء لا تكسر إلا بعد ياء ساكنة أو كسرة. وقال الحوفي : ليست بجيدة ، وأجيب عنه بوجهين أحدهما أنّ الهمزة ساكنة والحرف الساكن حاجز غير حصين ، فكان الهاء وليت الجيم المكسورة فلذا كسرت ، والثاني أنّ الهمزة عرضة للتغيير كثيرا بالحذف وابدالها ياء إذا سكنت بعد كسرة ، فكأنها وليت ياء ساكنة فلذا كسرت وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله. وأورد عليه أبو شامة رحمه الله أنّ الهمزة تعد حاجزاً ، وأنّ الهمزة لو كانت ياء كان المختار الضم نظرا لأصلها وليس بشيء ، لأنها كما قال المعرب : لغة ثابتة عن العرب. وقوله : جه وأي لفظ جه بكسر الهاء غير مشبعة مع واو العطف كابل بكسرتين فيجوز تسكينه للتخفيف ، والمنفصل والمتصل المراد به ما كان من الكلمة وغيره لا في الخط ، كما قيل وقوله : فلا يرتضيه النحاة الأولى تركه. وسحار صيغة مبالغة وهي تناسب عليم ، فلذا اتفق عليها في الشعراء. قوله : ( بعدما أرسل الشرط في طلبهم ) الشرط بشين معجمة مضمومة وراء مهملة مفتوحة ، وطاء مهملة أعوان الولاة لأنهم يجعل لهم علامة ، وفي القاموس الشرط بضم وسكون ما اشترطت يقال :
خذ شرطتك وواحده الشرط كصرد ، وهم أوّل كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت ، وطائفة من أعوان الولاة معروفة ، وهو شرطيّ كتركيّ وجهنيّ. وفيه أنه قال في الأساس الصواب في الشرطيّ سكون الراء نسبة للشرطة ، والتحريك خطأ لأنه نسب إلى الشرط الذي هو جمع فتأمّل. قوله : ( استأنف به الخ ) أي استئنافاً بيانيا ولذا لم يعطف ، وقيل : إنه حال من فاعل جاء وهذا أولى منه. وقراءة أنّ إمّا على الأخبار ، وامّ على حذف همزة الاستفهام لتتوافق القراءتان ، ولأنّ الظاهر عدم جزمهم به ، ولذا رجحه الواحديّ رحمه الله بناء على اطراد حذفها. وقوله : وايجاب الأجر تفسير للأخبار أي ليس المراد بالأخبار ظاهرة إذ لا وجه له فيحمل على إيجابه عليه واشتراطه ، كأنهم قالوا يشرط أن تجعل لنا أجراً ، وما قيل : إنه لا طلاوة له لا طلاوة له ، وقوله : ( والتنكير للتعظيم ) مثل له في الكشاف بأنّ له لا بلا فقال النحرير : مثل لتنكير التعظيم بتنكير التكثير للقرب بينهما. قوله : ( وإنكم لمن المقرّبين عطف الخ ) في الكشاف هو معطوف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب ، كأنه قال : إيجاباً لقولهم إنّ لنا لأجراً نعم إنّ لكم لأجراً هانكم لمن المقرّبين أراد أني لا أقتصر بكم على الثواب وحده ، وأنّ لكم مع الثواب ما يقل معه الثواب وهو التقريب والتعظيم ، لأنّ المثاب إنما يتهنأ بما يصل إليه ويغتبط به إذا نال معه الكرامة والرفعة ، وروي أنه قال لهم : تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج.
) قلت ) هذا هو عطف التلقين ، وقد عرف من هذا تحقيقه بأنه عطف على مقدّر هو عين الكلام السابق قبله ، فمن قال إنه عطف عليه أراد هذا لأنه لما كان عينه جعل هو المعطوف عليه ، ومن إعادته على وجه القبول أفاد تحقيق ما قبله ، وتقريره للقطع به فماعادته بحرف الجواب أفصح وأوضح فاحفظه ، فإنهم لم ينبهوا عليه هنا وبه يجمع بين الأقوال السابقة في سورة البقرة. وقوله : التحريضهم ( يعني بالزيادة المذكورة. توله : ( خيروا موسى عليه الصلاة والسلام مراعاة للأب ) قال المشايخ : ولمراعاتهم للأدب رزقوا السعادة الأبدية وأن نلقي وأن نكون جوّز فيه النصب بتقدير اختر ونحوه ، والرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أو خبر مبتدأ محذوف وهو ظاهر أي أمرك الإلقاء ، واظهار الجلادة إذ لم يبالوا بتقدمه وتأخره ، وقد قيل إنه مخالف لقولهم قبله إن كنا الخ فإمّا أن تكون حالهم تغيرت ، أو وقت المبارزة محل إظهاو القوّة. قوله : ( فنبهوا عليها بتنيير النظم الخ ) تغيير النظم إذ لم يقولوا وأمّا أن نلقي والظاهر أنه وقع في المحكيّ كذلك بما يرادفه
فلا يرد عليه شيء ووجه كونه أبلغ تكرير الإسناد ، وتعريف الخبر بالجرّ عطف على ما هو أبلغ ، وقيل إنه تفسير له وقيل إنه(4/202)
ج4ص203
معطوف على تغيير النظم والأوّل أولى وقوله : أو تأكيد ضميرهم المتصل يعني المستتر في يكون لأنه في حكمه بل أشد ، وهو معطوف على توسيط الفصل والاعتراض بأنّ الجمع بين الفصل والتأكيد لا يمكن لأنّ لأحدهما محلاً من الإعراب دون الآخر وهم ظاهر ، فإن قلت ما الفرق بين أن يكون الضمير مؤكدا وبين أن يكون فصلاً ، قلت قال الطيبي رحمه الله : التكرير يرفع التجوّز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر أي نحن نفعل الإلقاء البتة لا غيرنا والفصل لتخصيص الإلقاء بهم لأنه لتخصيص المسند بالمسند إليه فيعرى عن التوكيد ، وقال الفاضل اليمني : قد ذكر علماء المعاني أنّ ضمير الفصل يفيد التخصيص وكذا تعريف الخبر فعلى هذا إذا أجتمعا هل يكونان جميعا مفيدين للتخصيص كما تفيد أن ، واللام التأكيد إذا اجتمعتا أو يكون حاصلا بأحدهما فقط فإن جعلناه بتعريف الخبر يكون إنما جيء به للفرق بين الخبر والنعت اهـ ، وله تفصيل ليس هذا محله. قوله : ( كرماً وتسامحاً أو ازدراء الخ ) التسامح تفاعل من السماحة ، وهي قرينة من الكرم أو المراد به عدم المبالاة فيقرب من الازدراء وهو إفتعال من الزراية وهي التحقير ، وهو جوأب عما يقال إنّ إلقاءهم الحبال والعصيّ معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر ، والأمر بالكفر كفر فكيف أمرهم به ، والجواب أنّ السحرة إنما جاؤوا لإلقاء الحبال والعصيّ ، وقد علم موسى-لج!ه أنهم لا بد ، وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير كما صرّج به في الآية الأخرى أوّل من ألقى فجوّز لهم التقديم لا لإباحة فعلهم بل لتحقيرهم ، وقلة مبالاته بهم وللوثوق بالتأييد الإلهيّ وأنه لن يغلب سحر معجزة فقط ، وهذا لا دلالة له على الرضا بتلك المعارضة ، وأيضا أذن لهم ليبطل سخرهم فهو إبطال للكفر بالآخرة وتحقيق لمعجزته ، وقوله ووثوقاً على شأنه ضمن الوثوق معنى الاعتماد فلذا عدّاه بعلى والا فهو يتعدى بالباء. قوله : ( بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه ) فسره بذلك لقوله : { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ } وهو كقوله تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ سورة طه ، الآية : 66 ] وقد روي أنهم لو نوها وجعلوا فيها زئبقا فلما أثر تسخين الشمس فيها تحرّكت والتوى بعضها ببعض فتخيل الناس ذلك وليس في هذا إبطالاً للسحر مع أنه ثابت بالنصوص لكن المعتزلة تنكره كما تنكر الجن فالأولى تركه كما قيل بل لأن القرآن ناطق بخلافه إذ جعله كيداً وتخيلا ، ولذا لم يلتفتوا لاعتراضه هنا. قوله : ( وأرهبوهم إرهاباً شديداً الخ ) يعني أنّ الاسترهاب بمعنى الإرهاب البليغ فالطلب مجاز في المبالغة والزيادة لأنّ المطلوب من شانه أن يهتم به ويبالغ فيه ، واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله كأنهم الخ فلا يرد عليه ، ما قيل إنه بمعنى الأفعال ل! للطلب كما قال الزمخشريّ : لعدم ظهوره هنا إذ لا يلزم منه حصول
المستدعي والمطلوب. قوله : ( عظيم في فنه الخ ) يعني أنّ عظمته بالنسبة لغيره من السحر ، ولما هو في زعمهم ، وأن ألق أن فيه تفسيرية لتقدّم ما فيه معنى لقول دون حروفه أو مصدرية فهي مفعول الإيحاء وقوله فألقاها الخ يشير إلى أن الفاء المذكورة والمحذوفة فصيحة وقد مرّ ما فيه. قوله : ( ما يزؤرونه من الإفك الخ ) الإفك بفتح الهمزة مصدر أفكه بمعنى قلبه ، وهو أصل معناه وإطلاقه على الكذب لكونه مقلوباً عن وجهه لكنه اشتهر فيه حتى صار حقيقة ، وقد فسره به ابن عبامى رضي الله عنهما هنا أيضا ، وما موصولة وهو معلوم من تقديره العائد أو مصدرية ، والإفك بمعنى المأفوك لأنه المتلقف وترأ حفص تلقف بالتخفيف وغيره تلقف بالتشديد وحذف إحدى التاءين وتلقف بمعنى تأخذ وتبتلع. قوله : ( فثبت لظهور أمره ) يعني استعير الوقوع للثبوت والحصول أو للثبات والدوام لأنه في مقابلة بطل فان الباطل زائل ، وفائدة الاستعاوة الدلالة على التأثير لأنّ الواقع يستعمل في الأجسام وهو كقوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ } [ سورة الأنبياء ، الآية : 118 إذ استعير القذف لا يراد الحق على الباطل والدمغ لإذهاب الباطل ومن فسر الواقع بالتأثير أراد هذا ، وقال الفراء : معناه تبين الحق من السحر. قوله : ( أي صاروا أذلاء مبهوتين الخ ) أي الانقلاب مجاز عن الصيرورة لظهور المناسبة بينهما أو بمعنى الرجوع فصاغرين حال ، وقوله والضمير الخ أي الضمير واجع لفرعون وقومه والسحرة على الاحتمال الأوّل ، وعلى الاحتمال الثاني لفرعون(4/203)
ج4ص204
وقومه لا عليهما لأنّ السحرة لا ذلة لهم إلا أن يحمل على الخوف من فرعون ، أو على ما قبل الإيمان وظاهر النظم يخالفه ، فإن قلت قوله مبهوتين من أين أخذه قلت أخذه من قوله انقلبوا لما اختير على قلبوا فتأمّل.
قوله : ( جعلهم ملقين على وجوههم الخ ) يعني كان الظاهر خرّوا ساجدين إذ لا إلقاء هنا
لكنه تجوّز به عنه لأنّ ظهور الحق ألجأهم إلى ذلك واضطرّهم إليه حتى كان آخر دفعهم فألقاهم فهو استعارة وبهرهم بمعنى غلبهم أو أنّ الله ألقاهم بمالهامهم لذلك فالملقي هو الله لينعكس أمر فرعون ، أو المراد أسرعوا كالذي يلقيه غيره ، والاستعارة تبعية أو هو تمثيل ، ويصح أن يكون مشاكلة لما معه من إلقاء كما ذكره في الشعراء. قوله : ( أبدلوا الثاني من الأوّل الخ ( أي أبدلوا لفظ رب الثاني المضاف لهما لدفع هذا التوهم ، ولم يقتصروا على موسىءك! إذ ربما يبقى للتوهم رائحة لأنه كان ربي موسى عليه الصلاة والسلام في صغره ولذا قدم في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سناً منه ، وقدم موسى لشرفه أو للفاصلة ، وما وقع في شرح المفتاح للسعد من أنه قدم موسى عليه الصلاة والسلام لأنه كان أكبر سنا منه إمّا سهو أو رواية غير مشهورة ، وأمّا كون الفواصل في كلام الله تعالى لا في كلامهم فلا يضرّ كما توهم وروي أنهم لما قالوا آمنا برلت العالمين قال أنا رلث العالمين فقالوا : رذا عليه رلت موسى وهرون. قوله : ( باللّه أو بموسى ( أمّا الأوّل فلقوله رلت العالمين ، وأمّا الثاني فلقوله في آية أخرى آمنتم له فإنّ الضمير لموسىءكي! لقوله إنه لكبيركم الخ. قوله : ( 1 لاستفهام فيه للإنكار الخ ) قرأ القرّاء آمنتم بحرف الاستفهام إلا حفصا فإنه قرأها على الأخبار وفيها أيضاً معنى التوبيخ كما في الاستفهام لأنّ الخبر إذا لم يقصد به فائدته ولا لازمها تولد منه بحسب المقام ما يناسبه ، وهنا لما خاطبهم بما فعلوه مخبراً لهم بذلك أفاد التوبيخ والتقريع ، ويجوز أن يقدر في الهمزة بناء على جوازه والاستفهام للإنكار بمعنى أنه لا ينبغي ذلك وفي القراءة هنا وجوه مبسوطة في محلها. قوله : ( إن هذا الصنيع لحيلة الخ ( قاله تمويهاً على القبط يريهم أنهم ما غلبوا ولا انقطعت حجتهم ، وكذا قوله قبل أن آذن لكم ، وقوله في مصر أي التعريف عهدقي ، والميعاد أي ميعاد اجتماعهم ، وعاقبة ما فعلتم مفعول تعلمون المقدر وقوله تعالى قبل أن آذن لكم لا يقتضي وقوع الإذن فإذا قلت جاء زيد قبل عمرو ولا يدل على مجيء عمرو كما ذكره بعض المفسرين إلا أنه لا بد من جعله مقدرا ، وتقديره بمنزلة وقوعه وقد وقع في مواضع من القرآن وهو شائع في الاستعمال ، وقوله من كل شق طرفاً أي من كل جانب عوضا مغايرا للآخر كاليد من أحدهما والرجل من الآخر ، ومن خلاف حال أي مختلفة ، وقيل من تعليلية متعلقة بالفعل أي لأجل خلافكم وهو بعيد. قوله :
( فشرعه الله للقطاع ) جمع قاطع وهو من يقطع الطريق لعظم جرمهم وقوله : ( ولذلك سماه ) أي سمى قطع الطريق محاربة الله في قوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا } [ سورة المائدة ، الآية : 33 ] الآية والمعنى يحاربون أولياء الله أو عباده لأنّ أحداً لا يحارب الله إلا أنّ المسافر في أمان الله وحفظه فالمتعرّض له كأنه يحارب الله ، وقوله على التعاقب هو مذهبه وإلا فقد يجمع بين بعضها وبعض كما يعلم من كتب الفقه فتدبر. قوله : ( بالموت لا محالة الخ ( قد جاءت هذه القصة مفصلة في الشعراء مجملة هنا فحملت هذه على تلك إذ قال فيها : { لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ، إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [ سورة الشعراء ، الآية : 51 ] عللوا عدم المبالاة الذي يعطيه لا ضير بالانقلاب إلى الله والطمع في الثواب فلذا فسرت بوجوه ، الأوّل إنا لا نبالي بالموت الذي نلاقي به رحمة الله ونخلص منك والضمير للسحرة فقط ، والثاني إنا ننقلب إلى الله فيثيبنا على ما عذبتنا به وما فعلت بنا نافع لنا لتكفيره الخطايا ونيل الثواب العظيم والضمير لهم أيضا والثالث ، إنا جميعا ننقلب إلى الله فيحكم بيننا وينتقم لنا منك ويثيبنا على ما قاسيناه والضمير لهم وفرعون ، والرابع إنا ولا بذ ميتون فلا ضير فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته ومن لم يمت بالسيف مات بغيره والضمير فيه يحتمل السحرة والجميع والمصنف رحمه الله جعله ثلاثة لأن الأخير والأوّل في المعنى واحد ، وقوله : ( شغفا ( بغين معجمة وفاء أي محبة ، وضمنه معنى الحرص فعداه(4/204)
ج4ص205
بعلى. قوله : ( وما تئكر منا الخ ( أي نقم بمعنى عاب وأنكر ، وأن آمنا مفعول به وما أنكرته وعبته هو أعظم محاسننا فهو على حدّ قوله :
ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم تعاب بنسيان الأحبة والوطن
كما أشار إليه المصنف رحمه الله فإن كان نقم بمعنى عذب من النقمة فإن آمنا مفعول له وقوله فزعوا إلى الله أي التجؤوا وتضرعوا من فزع إليه إذا التجأ إليه ليزيل فزعه وخوفه وأصل معنى الفزع الخوف وتفصيله في كامل المبرد. قوله : ) أفض علينا صبراً يغمرنا الخ ( فأفرغ استعارة تبعية تصريحية وصبراً قرينتها أي هب لنا صبراً تاما كثيراً ، وعلى الثاني صبراً أصلية مكنية وأفرغ تخييلية وقيل الأول أيضا كذلك إلا أنّ الجامع الغمر ، وهاهنا التطهير. قوله : ( ثابتين على الإسلام ) فسره به لسبق إسلامهم وسجودهم. قوله : ( بتغيير الناس عليك الخ ) أي
المراد بالإفساد ما يشمل الديني والدنيوي ، ويفسدوا حذف مفعوله للتعميم ، أو نزل منزلة اللازم أو يقدر يفسدوا الناس بدعوتهم إلى دينهم. قوله : ( عطف على يفسدوا الخ ) فيه قرا آت فقراءة العامّة بياء الغيبة ونصب الراء أمّا عطف على يفسدوا أو منصوب في جواب الاستفهام كما ينصب بعد الفاء ، والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى عليه السلام وقومه مفسدين وبين تركهم إياك وعبادة آلهتك أي لا يمكن وقوع ذلك. قوله : ( كقول الحطيئة ( هو شاعر أموي معروف وهو من قصيدة أوّلها :
ألا قالت إمامة قد تحزي فقلت أمام قدغلب العزاء
ومنها :
ألا أبلغ بني عوف بن كعب فهل قوم هلى خلق سواء
ألم أك نائما فتوعدوني فجاءني المواعد والرجاء
ألم أك جاركم ويكون بيني وبينكم المودّة والإخاء
والشاهد فيه على هذه القراءة وكونها شائعة سائغة في كلام العرب. قوله : ( وقرئ بالرفع
الخ ) قرأ بها الحسن وغيره ، وهو إمّا عطف على مقدر أو استئناف أو حال بحذف المبتدأ أي وهو يذرك لأنّ الجملة المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح ، وهي على الأوّل معترضة مقزرة لما سبق ، وعلى الثاني مقرّرة لجهة الإنكار. قوله : ( وقرئ بالسكون الخ ) أي بالجزم وهو عطف على التوهم أي توهم جزم يفسدوا في جواب الاستفهام كقوله فأصدق وأكن لتوهم جزم أصدق في جواب التحضيض ، وقال ابن جني رحمه الله : بل تركت الضمة للتخفيف كقراءة أبي عمرو يأمركم بإسكان الراء استثقالاً للضمة عند توالي الحركات ، وقيل : إنّ المصنف رحمه الله عبر بالسكون دون الجزم إيماء إلى هذا. توله : ( كأنه قيل تفسدوا الخ ) أي عطف على المعنى ، ويقال له في غير القرآن عطف التوهم لأن جواب الاستفهام يجزم بدون الفاء فقدر عدمها هنا كذلك وعطف عليه يذرك بالجزم كما عطف أكن المجزوم على أصدق المنصوب بتنزيله منزلة المجزوم ، وقيل إنه معطوف على محل الفاء وما بعدها كما في { مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } ويذرهم بالجزم وقد ردّه في المغني. قوله : ( معبودا!لك الخ ) تفسير للقراءة المشهورة إذ الآلهة
جمع إله بمعنى معبود ، وقوله تيل الخ توجيه لجمع الآلهة وإضافتها إليه مع أن المشهور أنه كان يدعي الألوهية ويعبد ولا يعبد فأمّا لأنه كان يعبد الكواكب فهي آلهة وكان يعتقد أنها المرتبة للعالم السفلي مطلقا وهو رلث النوع الإنساني أو أنه اتخذ أصناما تعبد لتقربهم إليه كما قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وهذا كما قالت الجاهلية : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ } [ سورة الزمر ، الآية : 3 ] . توله : ( وقرئ إلا هتك ( كعبادتك لفظا ومعنى فهو مصدر ، وقيل إنها اسم للشمس وكان يعبدها ونقل ابن الأنباري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ينكر قراءة العامة بالجمع ويقرؤ إلاهتك بالمصدر بمعنى عبادتك ويقول إنّ فرعون كان يعبد ولا يعبد ، ألا ترى قوله ما علصت لكم من إله غيري ، وقيل إنه كان دهريا منكراً للصانع. قوله : ( كما كنا نفعل الخ ا لما كان ذلك وقع منهم قبل ذلك فسره بذلك ليكون المعنى إنا مستمرون على القهر والغلبة دفعا لوهم القبط لما قيل في شأن المولود وهو موسى غ!ي!(4/205)
ج4ص206
كما هو مشهور من قصته ، والاستحياء مرّ تفسيره في البقرة ، وقوله غالبون الخ إشارة إلى أن الفوقية مجاز عن الغلبة كما مرّ تحقيقه في تفسير قوله تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ سورة الأنعام ، الآية : 18 ] . قوله : الما سمعوا قول فرعون الخ ( يعني أنه من الأسلوب الحكيم أي ليس كما قال فرعون إنا فوقهم قاهرون فإن القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله ولمن وعده الله توريثه الأرض وأنا ذلك الموعود الذي وعدكم الله النصرة به وقهر الاعداء وتوريث أرضهم. قوله : ( والتثبت في الأمر ) مجرور معطوف على الاستعانة أي هذه الجملة تسلية لهم بالكناية عن أن ملك القبط سينقل إليهم وتقرير للأمر بالاستعانة به تعالى ، والتثبت من الصبر والأمر الأوّل المصطلح عليه ، والثاني واحد الأمور وإذا كانت اللام في الأرض للعهد فالمراد مصر ، وما يملكه القبط ، وقوله بإعادته قيل جعل وعده بمنزلة فعله لكونه جبارا. قوله : ( تصريحاً بما كنى عنه أوّلاً الخ ( يشير إلى أن في إلنظم كنايتين
وتصريحاً الأولى إنّ الأرض لله يورثها من يشاء لأنه كناية عن أن سيورثكم أرضهم ولذا قالوا إنه أطماع لهم وهو معنى الإرث ، والثانية أنّ العاقبة للمتقين لأنه تقرير لما وعدهم وأنّ العاقبة المحمودة والنصرة لهم لأنهم المتقون والتصريح في قوله : { عَسَى رَبُّكُمْ } لأنّ عسى في مثله قطع في إنجاز الموعود والفوز بالمطلوب أو عبر بها لعدم الجزم كما ذكره المصنف رحمه الله أو تأدّبا وإن كان بوحي واعلام من الله وقد تجعل الكنايتان واحدة ، وقوله : { فَيَنظُرَ } أي يرى أو يعلم وفيه إشارة إلى ما وقع منهم بعد ذلك. قوله : ( بالجدوب لقلة الأمطار الخ ) السنة بمعنى العام وغلبت حتى صارت كالعلم الزمان القحط ولامها واو أو هاء يقال اسنى القوم إذ البثوا سنة وأسنتوا إذا أصابهم الجدب فقلبت لأمه تاء للفرق بينهما ، قال المازنيّ رحمه اللّه : وهو شاذ لا يقاس عليه ، وقال الفراء : توهموا أنّ الهاء أصلية إذ وجدوها ثابتة فقلبوها تاء. قوله : ( غلبت ) أي صارت كالعلم بالغلبة فإذا أطلقت تبادر منها ذلك حتى يجعلونها تاربخا فيقولون فمن سنة كذا للجدب العامّ المشهور بينهم ، وقوله لكثرة العاهات أي عاهات الثمار. قوله : ( لكي يتنبهوا على أنّ ذلك بشؤم كفرهم الخ ) يعني التذكر إما بمعنى الاتعاظ لأنهم إذا تنبهوا لما نزل بهم بسبب عصيانهم اتعظوا بذلك أو بمعنى الذكر أي يذكرون الله فيتضرعون له ، ويلجؤون إليه رغبة فيما عنده ، وقوله يتنبهوا أو ترق بيان لسبب كل من المعنيين المأخوذ مما قبله ، ومن المقام فلا يرد عليه ما قيل أن ترق قلوبهم عطف على كي يتنبهوا فكل منهما حال كونه معينا بشيء تعليل للتذكر المفسر بالتفكر ، فإن قلت لم لا يحمل كلامه على كون الاتعاظ تفسيراً للتذكر وذكر التنبيه لتوقف الاتعاظ عليه ، قلت لأنه حينئذ إما أن يعطف أو ترق على يتنبهوا أو على يتعظوا فعلى الأوّل يلزم أن يفسر التذكر بالفزع وعلى الثاني يلزم أن يفسر بالرقة وليس كذلك ، وقس عليه حال كون التنبيه تفسيراً للتذكر والاتعاظ تقريباً وبالجملة كلامه لا يخلو عن تشويش فلو قال لكي يتنبهوا أنّ ذلك بسوء كفرهم الخ أو يتعظوا فترق قلوبهم فيفزعوا الخ حتى يكون إشارة إلى معنيي التذكر كان أولى اهـ. قوله : ( من الخصبط والسعة ( تيل إنه تمثير فلا ينافي أنها للجنس وفيه نظر. قوله : ( لآجلنا ونحن مستحقوها ) أي اللام لام الأجل ومعنى كونها
لأجلهم أنهم أهل لها مستحقون بيمن الذات لأنواع الحسنات حتى أنها إذا لم تصبهم كان ذلك بشؤم غيرهم وبه يأخدّ الكلام بعضه بحجز بعض ويلتئم أشد التثام ، وقيل نحن مستحقوها بيان لوجه كون الحسنة لأجلهم ولو قال أو نحن الخ إشارة إلى معنى آخر للام كان أولى ، وفي الكشاف أي هذه مختصة بنا ونحن مستحقوها والتخصيص فيه من التقديم ويحتمل أيضا أنه بيان لمعنى اللام ، ونحن مستحقوها بيان لوجه الاختصاص ، وقيل دلت اللام على الاستحقاق والاختصاص مستفاد من تقديم الخبر. قوله : ( يتشاءموا يهم الخ ) سموا التشاؤم تطيرا وأصله ما ذكره الأزهري رحمه الله أنّ العرب كانوا إذا خرجوا لقصد وطار طائر ذات اليسار تشاءموا به وكذا بنعيق الغربان ونحوه فسمي الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيرا والطائر يطلق على الحظ ، والنصيب سواء أكان خيراً أو شرا وقد يخص بالتشاؤم والإغراق المبالغة وتذلل العرائك أي تسهل وتلين الطبائع وترققها يقال فلان لين العريكة أي سلس الخلق منكسر النخوة(4/206)
ج4ص207
وقوله وتزيل التماسك تفاعل من الإمساك والمراد أنها تدفع التصلب والصبر ، وقوله سيما بدون لا قيل إنه غير عربيّ ولا مقدرة معه وقد تقدم ما فيه مراراً وعتوّاً بمعنى استكبارا. قوله : ) وإنما عرف الحسنة وذكرها مع أداة التحقبق الخ ( قال في الكشاف : فإن قلت كيف قيل فإذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة وان تصبهم سيئة بأن وتنكير السيئة قلت لأنّ جنس الحسنة ، وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأمّا السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها ، واختلف شراحه في مراده بالجنس فقيل إنه أراد العهد الذهني ، وهو الحسنة التي في ضمن فرد من أفراد الخصب والرفاهية وغيرها وهو المراد بقوله وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه ولما ورد أنه كالنكرة فلا فرق بينه وبين سيئة حينئذ قال : والتعيين بحسب الذهن والشيوع بحسب الوجود فيفيد تعريفه الاعتناء بشأن الحقيقة إمّا لعظمها أو لأنّ الحاجة ماسة إليها أو لأنّ أسباب نشأتها متاخرة فهي لذلك بمنزلة الحاضر بخلاف النكرة فإنها غير ملتفت إليها ، وقيل المراد العهد الخارجي التقديري ولذا فسر الحسنة بالخصب والرخاء بدليل ذكره في مقابلة : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ } [ سورة الأعرأف ، الآية : 130 ] وقوله لأنّ جنس الحسنة الخ أي جنس الخصب والرخاء وفيه مبالغة لأنه لكثرة الوتوع ، كالجنس كله واجب الوقوع ، ولذا لا يزال يتكاثر حتى يستغرق الجنس ، ومقابلته بقوله : وأما السيئة الخ دليل على إرادة ذلك فلا تخالف بين كلاميه ، ولم يرد بالجنس العهد الذهني ، وهذا مراد صاحب المفتاح به ويندفع ما توهمه صاحب الإيضاج فافهمه فإنه من المضايق ، وفي هذا المقام كلام لأهل المعاني من أراده فعليه بشروح المفتاح. قوله : ( لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بإحداثها باللذات ) بدلالة تعريف الجنس
الدال على الكثرة ، وتعلق الإرادة بها بالذات لأنّ العناية الإلهية اقتضت سبق الرحمة ، وعموم النعمة قبل حصول الأعمال والنقمة إنما استحقوها بأعمالهم بعد ذلك ، ألا ترى رزق الطيور ونحوها بدون عمل ، فقوله بالذات في مقابلة بالتبع لما عملوه كما يفصح عنه ما عقبه به في تفسير الطائر. قوله : ( أي سبب خيرهم وشرّهم الخ ) كذا في الكشاف وقد قيل عليه إنه فسره تارة بسبب الخير والشر ، وأخرى بسبب الشؤم ، والتطير التثاؤم عند جميع المفسرين والطير الشئم لا سببه فلا وجه لتفسيره به ، وقد مر عن الأزهري رحمه الله وأهل اللغة ما يخالفه ، وليس بوارد لأنّ الداعي لتفسيرهم هدّا قوله عند الله لأن الذي عنده تعالى تقدير ذلك وليس ما ذكره الأزهري بمتفق عليه فقد قيل : إنّ أصل التطير تفريق المال وتطييره بين القوم فيطير لكل أحد نصيبه من خير أو شر ثم غلب في الشرّ قال :
يطير غداً يد الإشراك شفعا ووتص اً والزعامة للغلام
فمعنى طائرهم حظهم وما طار إليهم من القضاء والقدر بسبب شؤمهم عند الله وما نزل
بهم ، فقوله أو سبب شؤمهم نظرا إلى الغلبة ، وما يسوءهم ما أصابهم من بلاء الدنيا. قوله : ( وهو اسم الجمع وقيل هو جمع ) القول الأوّل هو الصحيح لأنه على أوزان المفردات والثاني قول الأخفش وقد ردّه الزمخشري 0 قوله : ( أصلها ما الشرطية الخ ( اختلف في مهما هل هي بسيطة ، أو مركبة من ما وأبدلت الألف هاء أو من مه اسم فعل للكف باقية على معناها أو مجردة عنه أقوال للنحاة أسلمها البساطة ، وهي اسم شرط لا حرف على الصحيح ، وتكون مبتدأ وخبرها الشرط أو الجزاء أو هما على الخلاف وتكون مفعولاً به لا ظرفا خلافاً لبعضهم ، وقد شذد الإنكار عليه في الكشاف وخالفه ابن مالك فيه ، وقال : إنه مسموع عن العرب ، ولها استعمال آخر فتكون اسم استفهام كقوله :
مهما لي الليل مهما ليه
وقوله : ( يصوّت به ) أي اسم فعل ، وهو يطلق عليه اسم صوت والكاف بتشديد الفاء
أي طالب الكف ، وقوله : ( وما الجزائية ) أي الشرطية لأنهم يسمون الشرط جزاء. قوله : ( ومحلها الرفع على الابتداء أو النصب الخ ) وتقدّم الكلام على أنها قد تكون ظرفية في كلام
العرب كقوله :
وانك مهما تعط بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
ويوافقه استعمال المنطقيين لها بمعنى كلما وجعلها سور الكلية فإنها تفيد التعميم كما صرحوا به وليس(4/207)
ج4ص208
من مخترعاتهم كما توهم ، وقوله أيما شيء تحضرنا يشير إلى أنه من الإضمار على شريطة التفسير والمضمر موافق له معنى كما في زيد أمررت به وقدره مؤخراً لأنّ اسم الشرط له صدر الكلام وتأتنا عطف بيان وتفسير له حينئذ ولذا جزم ، وقوله والضمير في به وبها الخ يعني راجع لمهما باعتبار لفظه ، ولها باعتبار معناه لا لآية لأنها مسوقة للبيان ، فالأولى رجوع الضمير على المفسر المقصود بالذات وفي المغني الأولى عوده إلى آية والأولى ما مرّ نعم تبيينه به يحسن رعاية معناه كما قاله الطيبي رحمه الله تعالى ولا مانع منه كما قيل ، وهي لا تفيد التكم ار دائما كما قاله الإمام في كلما تزوّجتك فأنت طالق وقد تفيده كما في هذه قاله بعضهم ، وقوله والضمير في به وبها لمهما قيل في نسخة لما وهو تصحيف وليس كذلك فتأمّل ، وقوله وإنما سموها آية الخ جواب سؤال وهو إنهم ينكرون كونها آية وتسميتها سحرا ينافي كونها آية أيضاً. قوله : ( ما طاف بهم وغشي أماكنهم الخ ) يعني هو فعلان اسم جنس من الطواف ، وقيل إنه في الأصل مصدر كنقصان وهو اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم كالماء الكثير ، والقتل الذريع والموت الجارف قاله أبو إسحق : وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تفسيره بالموت لكنه اشتهر في طوفان الماء وهو معروف ، وقيل : هو اسم جنس واحده طوفانة والموتان بضم الميم ، وقد تفتح موت في الماشية وأمّا الموتان بفتحان فخلاف الحيوان ، ولذا حرك حملاَ عليه والطاعون معروف ويقابل ما قبله لخصوصه بالإنسان ، وتفسيره بالجدري لأنه كان عاما فيهم. قوله : ( والجراد والقمل ) الجراد معروف واحده جرادة سمي به لجرده ما على الأرض والقمل بضم القاف وتشديد الميم واختلف فيه أهل اللغة على أقوال ، منها ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى والقردان بكسر القاف وسكون الراء المهملة جمع القراد المعروف وتفسيره بصغار الجراد وهي تسمى دبي ، ولا تسمى جراد إلا بعد نبات أجنحتها فلا يتكرر مع الجراد كما قيل ، وقيل : هي صغار الذر ، وقيل هو بمعنى القمل بفتح فسكون كما قرئ به أيضا. قوله : ) روي أنهم مطروا ثمانية أيام الخ ) قاموا فيه أي في الماء لأنّ من جلس غرق
والتراقي جمع ترقوة أعلى الصدر أي واصلا إلى تراقيهم ، وقوله مشتبكة بمعنى مختطة ، وركد بمعنى دام والكلأ مهموز النبات ، وقوله فأشار بعصاه وقيل جاءت ريح فألقتها في البحر ، وقوله القمل الخ هو بتفسيره الآخر ، وبه علم الجواب عن التكرار السابق ، وقوله : ( يثب ) بالمثلثة والموحدة من الوثوب وهو معروف والرعاف بالضم سيلان الدم من الأنف وهو مرض! قد يهلك. قوله : ( نصب على الحال الخ ) أي من تلك الأشياء المتقدمة ومعنى مفصلات مميز بعضها عن بعض مفصلة بالزمان ليعلم هل يستمرّوا على عهدهم أم لا أو مبين أنها آيات إلاهية لا سحر كما يزعمون ، وقوله : على مهل بفتحتين أي بغير عجلة ، وعصى موسى عليه الصلاة والسلام هي عصى آدم عليه الصلاة والسلام أتاه بها ملك كما في الدر المنثور. قوله : ( يعني العذاب المفصل ( ولما لا تنافي التفصيل والتكرير فلا يرد أنه كان المناسب على هذا كلما ، وقوله أو الطاعون أرسله الله عليهم بعد ذلك يعني لا السابق المفسر بالطوفان ، والرجز بالكسر والضم لغة فيه بمعنى العذاب وقد ورد إطلاقه على الطاعون في الحديث الصحيح ، وهو الطاعون بقية وجزءاً وعذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل كما في الترمذي وغيره ، وتد
فسره به هنا سعيد بن جبيررضي الله عنه فلا وجه لما قيل إنه لم يجر له ذكر فالحمل على العذاب المفصل أولى لأنّ التفسير بالمأثور أولى. قوله : ( بعهده عندك ) وهو النبوّة فما مصدرية وسميت النبوّة عهداً لأنّ الله عهد إكرام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بها ، وعهدوا إليه تحمل أعبائها أو لأن لها حقوقا تحفظ كما تحفظ العهود أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله. قوله : ( أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به الخ ) فهي موصولة وان تدعوه بدل من ضمير عهده أو بتقدير اللام ، وقوله وهو صلة أي الجار والمجرور ، والباء إمّا للإلصاق أو للسببية أو للقسم الاستعطافي أو الحقيقي. قوله : ( أو متعلق بفعل محذوف الخ ) فيه تأمل لأنّ الباء في القسم للسؤال مثل بحياتك أجرني ، وعلى هذا فلا تتعلق لفظاً بقوله أسعفنا بل هو جواب القسم السؤالي فتتعلق به معنى ، ولا شك أنّ قوله يصلح جواباً لذلك القسم فأي حاجة إلى اعتبار الحذف ، ولو تعلق لفظاً فليتعلق باح أيضا كذا قيل فلو ترك لفظ حق الظاهر في القسم سلم مما ذكر فتدبر ، وقوله أو قسم أي حقيقي لا استعطافي وقوله : ( أي أقسمنا ) الخ تفسير للوجه الأخير واللام موطئة للقسم المذكور أو المقدر. قوله : ( إلى حد من الزمان هم بالغوه الخ ا لما كان كشفنا بمعنى أنجيناهم(4/208)
ج4ص209
منه صح تعلق الغاية به للاستمرار فيه بغير تكلف ، والمراد بالأجل الحد الذي ضرب له فيحصل العذاب أو الهلاك بالغرق أو المراد بالأجل معناه المشهور أو أجل عينوه لإيمانهم أي عينا لعذابهم زماناً لا بد أن يبلغوه وهم وتت الغرق أو الموت وإن أمهلناهم وكشفنا عنهم العذاب إلى عين ذلك الأجل بسبب الدعاء وقوله فلما كشفنا فاجؤوا النكث كذا في الكشاف فقال العلامة : فجواب لما في الحقيقة هذا الفعل المقدر وكلا الاسمين أعني لما وإذا معمول له لما ظرفه وإذا مفعول به وقال النحرير : إنه محافظة على ما ذهبوا إليه من أن ما يلي كلمة لما من الفعلين يجب أن يكون ماضياً لفظا أو معنى إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذ وإذا المفاجأة في موقع المفعول به للفعل المتضمنين هما إياه أن يكون التقدير فاجؤوا زمان النكث أو مكانه وهذا كله يقتضي أنّ لما لا تجاب بإذا المفاجأة الداخلة على الاسمية وقد صرحوا بخلافه فالظاهر أنّ مرادهم بيان إنها فجائية وقعت جواب لما من غير حاجة إلى ما ذكروه من التكلف فتدبر ، والنكث النقض وأصله نكث الوصف المغزول ليغزله ثانياً فاستعير
لنقض العهد بعد إبرامه وهي استعارة فصيحة كما شبه بعكسه ، وقوله من غير توقف تأمل وبيان للمراد بالمفاجأة هنا.
قوله : ( فأردنا الانتقام ا لما كان الانتقام عين الإغراق أو له به ليتفرع عليه أو الفاء مفسرة
له عند من أثبتها. قوله : ( في اليم أي في البحر ) اختلف فيه فقيل هو عربيّ ، وقيل معرب وهل هو مطلق البحر أو لجته أوالذي لا يدرك قعره ، وأمّا القول بأنه اسم البحر الذي غرق فيه فرعون فضعيف. قوله : ( أي كان إكراقهم بسبب تكذيبهم الخ ) يعني أنّ سبب الإغراق ، وما استوجبوا به ذلك العقاب هو التكذيب بها وهو الذي اقتضى تعلق إرادة الله تعالى به تعلقاً تنجيزياً وهو لا ينافي تفريع الإرادة على النكث لأنّ التكذيب هو العلة الأخيرة والسبب القريب ، ولا مانع من تعدد الأسباب وترتب بعضها على بعض. قوله : ) حتى صاروا كالغافلين عنها ) يعني أنّ الغفلة مجاز عن عدم الفكر والمبالاة إذ المكذب بأمر لا يكون غافلا عنه لتنافيهما وفيه إشارة إلى أن من شاهد مثلها لا ينبغي له أن يكذب بها مع علمه بها. قوله : ( وقيل الضمير للتقمة الخ ( هذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأراد بالنقمة الغرق كما يدل عليه ما قبله فيجوز كون الجملة حالية بتقدير قد وما قيل : كأنّ القائل به تخيل أن الغفلة عن الآيات عذر لهم لأنها ليست كسبية وللجمهور أن يقولوا بل تعاطوا أسبابها ذموا بها كما يذم الناسي على نسيانه لتعاطي أسبابه إنما يتأتى لو حملها على حقيقتها أما لو جعلت مجازا عما مر فلا فتدبر. قوله : ) باستعبادهم ( أي استضعافهم وتذليلهم بجعلهم عبيداً وقتل أبنائهم ومن مستضعفيهم بكسر العين بيان لمن صدر منه ذلك. قوله : ( يعني أرض الشأم الخ ( وروي أنها أرض! مصر وهو المناسب لذكر الفراعنة لأنهم ملوك مصر كما مر ، وقيل : إنّ المصنف رحمه الله تعالى تركه لأنه لم يجزم بأنهم وأولادهم تملكوها أو لأنّ السوق يقتضي ذكر ما تمكنوا فيه !ل ما ملكوه ، وفسر لبركة بالخصب والسعة وقد فسرت بكونها مساكن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء ، والصالحين العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوج كالعماليق. قوله : ( ومضت عليهم واتصلت بالانجاز الخ ( ومعنى المراد بالكلمة وعده تعالى لهم بقوله ونريد ان
نمن الخ ، وتمامه مجاز عن سبق ذلك وانجازه ، وقيل المراد بالكلمة علمه الأزليّ والمعنى مضى واستمرّ عليهم ما كان مقدّراً من إهلاك عدوّهم وتوريثهم الأرض أو التفت من التكلم إلى الخطاب في قوله ربك لأنّ ما قبله من القصص كان غنر معلوم له ، وأما كونه منجز لما وعد ومجريا لما قضى وقدر فهو معلوم له ، وقيل : إنه رمز إلى أنه سيتم نعمته عليه بما وعده أيضاً وقراءة كلمات بالجمع لأنها مواعيد ، ووصفها بالحسنى لتأويلها بالجماعة ، وكذا يجوز وصف كل جمع بمفرد مؤنث إلا أنّ الشائع في مثله التأنيث بالتاء ، وقد يؤنث بالألف كما في قوله مآرب أخرى. قوله : ( وخرّبنا ما كان يصنع فرعون الخ ) أي التدمير التخريب والإهلاك وهو متعد ، وقوله دمر الله عليهم حذف مفعوله أي منازلهم وجوّز في اسم كان أن يكون ضميراً مستترا وفرعون فاعل يصنع وهو الظاهر وأن يكون فرعون اسمها ويصنع خبرها والتقدير بصنعه ، وأورد عليه أنه لا يجوز في نحو يقوم زيد أن يكون(4/209)
ج4ص210
مبتدأ لالتباسه بالفاعل ، وفيه نظر. قوله : ( من الجنات أو ما كانوا يرفعون الخ ) يعني العرض! إمّا عروس الكروم أو بمعنى الرفع والضم والكسر في رائه لغتان ، وقرىء في الشواذ يغرسون بالغين المعجمة ، وفي الكشاف إنها تصحيف ولذا تركها المصنف رحمه الله تعالى وهي شاذة. قوله : ( وجاوزنا الخ ) معنى جاوزنا قطعنا يقال جاوز الوادي وجازه إذا قطعه ، والبحر بحر القلزم وأخطأن قال إنه نيل مصر كما في البحر وقوله تسلية الخ أي عما رآه لمجز من اليهود بالمدينة فإنهم جروا على دأب أسلافهم مع موسى صلى الله عليه وسلم ، وقوله وايقاظا الخ أي بنو إسرائيل وقعوا فيما وقعوا فيه للغفلة عما من الله به عليهم فنزل بهم ما نزل فليحذر المؤمن من الغفلة وليحاسب نفسه في كل لحظة. قوله : ( بعد مهلك فرعون ) أي هلاكه أو زمان هلاكه ، ويجوز تراءته على صيغة ال! فعول قيل : يحتمل أن تكون البعدية رتبيه فإنّ عبور الجم الغفير البحر العميق من غير أن يبتل فدم أحد أعظم آية من هلاك فرعون وقومه ، وهو دفع لما ورد عليه وعلى الكشاف من أنه وقع في سورة الشعراء { وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } [ سورة الشعراء ، الآية : 66 ] وهو صريح في أنّ عبور موسى صلى الله عليه وسلم وقومه قبل هلاك فرعون ، وكلام المصنف رحمه الله في سورة البقرة
يدل عليه ، ولذا قيل : إنّ عبور موسى عليه الصلاة والسلام ، وقومه البحر وقع مرتين مرّة قبله ومرّة بعده ونتأمّل. قوله : ) وقيل من لخم ) هو باللام والخاء المعجمة حيّ من اليمن كانت ملوك العرب منهم في الجاهلية وعن الزمخشريّ إنه قبيلة بحضر موت والذي صححه ابن عبد البرّ في كتاب النسب إنّ لخما وجذاما أخوان ابنا عدي بن عمرو بن سبا اقتتلا فجذم لخم أخاه فسمى جذاما ولطمه الآخر فسمي لخما لأنّ اللخمة اللطمة وقوله : وما كافة الخ ولذا وقع بعدها الجملة الاسمية ، ويجوز فيها أن تكون موصولة ولهم صلة وآلهة بدل من الضمير المستتر فيه أو مصدرية ولهم متعلقه فعل أي كما ثبت لهم والمصنف رحمه الله اقتصر على الأظهر. قول! : ( وصفهم بالجهل المطلق ) إذ لم يذكر له متعلقاً ومفعولا لتنزيله منزلة اللازم أو لأنّ حذفه يدل على عمومه أي تجهلون كل شيء ويدخل فيه الجهل بالربوبية بالطريق الأولى فلا يقال إنّ المناسب بالمقام أن يقدر شأن الألوهية والتفاوت بينها وبين ما عبدوه. قوله : ( واكده ) أي بأنّ وتوسيط قوم وجعل ما هو المقصود بالإخبار وصفاً له ليكون كالمتحقق المعلوم كما قاله النحرير : وهذه نكتة سرية في الخبر الموطىء لادّعاء أنّ الخبر لظهور أمر. وقيام الدليل عليه كأنه معلوم متحقق فيفيد تأكيده وتقريره ولولاه لم يكن لتوسيط الموصوف وجه من البلاغة ، وقوله متبر مكسر من الكسر ، وهو محرّف في النسخ ومتبر بالتفعيل والإفعال من التبار وهو كالدمار الهلاك ، وقوله : ( ويجعلها رضاضا ) أي فتاتاً مكسراً وكل شيء كسرته فقد رضضته ، ويحطم من الحطم وهو الكسر أيضاً ، وفسر الباطل بالمضمحل الذي لا يزال لأنه المناسب لا خلاف الحق لأنه معلوم ثابت قبل ذلك. قوله : ( وإنما بالغ في هذا الكلام الخ ) بين بعض الفضلاء المبالغة بإفادته قصر ما هم فيه على التبار وما عملوا على البطلان في كلام واحد بطريقين بتقديم الخبر على المبتد! فإنه يفيد القصر المذكور مع قطع النظر عن جعل هؤلاء اسم إنّ من حيث إنّ الإشارة بها إلى قوم موصوفين بالعكوف على أصنام لهم فيدل عليه الوصف للمسند ، ويفيد القصر ولو أخر خبر المبتدأ اهـ وقال الطيبي رحمه الله تعالى : إنّ في تخصيص اسم الإشارة بالذكر الدلال على أن أولئك القوم محفوفون بالدمار لأجل إنصافهم بالعكوف على عبادة الأصنام ثم في توكيد مضمون الجملة بأنّ مزيد دلال على ذلك وأشار بقوله وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرّضون للتبار وليس تركيب المصنف للقصر إذ لا موجب لأن يقال
إنهم متبرون دون غيرهم بل هو مبتدأ فيفيد تقوى الحكم وفائدة تقديم الخبر بأنهم لا يتجاوزون عن الدمار إلى ما يضادّه من الفوز والنجاة على القصر القلبي ، وأما قوله إنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضرب لازب فمن الكناية لأنه إذا لم يتجاوز عن الدمار إلى النجاة فيلزمهم الدمار ضربة لازب ، وموجب هذه المبالغات إيقاع الجملة تعليلاً لإثبات الجهل المؤكد للقوم لاقتراحهم أن يجعل لهم إلها وأبلغ من ذلك أنّ المذكور ليس جوابا بل مقدمة ، ونمهيد وإنما الجواب قوله أغير الله الخ. قوله : ( وتقديم الخبرين ) أي(4/210)
ج4ص211
متبر وباطل قال النحرير : هو مبنيّ على أنّ ما هم فيه مبتدأ أو متبر خبر له ، وان كان يحتمل إحتمالاً مساويا أو راجحا أن يكون ما هم فيه فاعل متبر لاعتماده على المسند إليه وذلك لاقتضاء المقام الحصر المستفاد من التقديم أي متبر لا ثابت وباطل لاحق ولم يتعرّض في تقريره لهذا الحصر لظهوره ا هـ لكن المصنف رحمه الله تعرض له بقوله لاحق لما هم فيه لا محالة ولا زب لما مضى عنهم. قوله : ( للتنبيه على أنّ الدمار لاحق لما هم فيه الخ ) قال : وذلك لأن جعل المسند إليه اسم إشارة مع إفادته كمال التمييز ينبه عند تعقيب المشار إليه بأوصاف على أنه جدير بما يرد بعد اسم الإشارة لأجل تلك الأوصاف فيكون خبره لازبا لا يعدوه البتة ، ويختص به كاختصاص العلة حيث لم يتعرض لاثباته لغيره اهـ وفيه بحث ، ولهذا سكت المصنف رحمه الله عن قصر الاختصاص ولازب بمعنى لازم. قوله : ( تعالى قال أغير الله الخ ) أعاب لفظ قال : مع اتحادّ ما بين القائلين لأنّ هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام. قوله : ( أطلب لكم معبود الخ ) فسره بأطلب كغيره من أهل اللغة فيتعدى لمفعول ويكون أبغيكم على الحذف والإيصال وغير لله إما صفة إلها قدم عليه فانتصب على الحال أو مفعول أبغى والها حال أو تمييز ، وفي الجوهري بغيتك الشيء طلبته لك وظاهره أنه متعد لمفعولين ، وقد مرّ أنّ مثله لاختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكار الاختصاص ، وذلك من تقديم المفعول أو الحال وقد يكون لإنكار الاختصاص إن اقتضاه المقام ، وفي الكشاف أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبودا واعتبار العبادة نظرا إلى أنه من لوازم الذات أو إلى حال الاسم قبل العلمية واعتبره لأنه أدخل في الإنكار وتركه المصنف رحمه الله. قوله : ( والحال أنه خصكم الخ ) هذا الاختصاص ماخوذ من معنى الكلام إذ ليس فيه ما يفيد القصر لكن كونهم أفضل من جميع العالمين ، أو من عالمي رمانهم يقتضي قصر التفضيل عليهم قصرا حقيقيا أو إضافياً ، وأما تقديم الضمير على الخبر هنا فلا يقتضيه ولو اقتضاه كما ذهب إليه الزمخشري يكون المعنى وهو
المخصوص بأنه فضلكم على من سواكم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام خارجون عن المفضل عليهم بقرينة عقلية ، وأدخل الباء على المقصور وهو جائز بطريق الحقيقة أو المجاز وان كان الأصل دخولها على المقصور عليه كما مرّ ، وإذا كان المزاد تفضيلهم على جميع العالمين فالمراد تفضيلهم بتلك الآيات لا مطلقا حتى يلزم تفضيلهم على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه الجملة حالية مقرّرة لوجه الإنكار وقيل إنها مستأنفة ، وقوله سوء مقابلتهم بالقاف والباء بدليل ما بعده أي إيقاعهم له في مقام الإيمان والشكر ، وليس تصحيفاً من المعاملة بالعين المهملة والميم كما توهم ، وأخس شيء هو الأصنام. قوله : ( واذكروا صنيعه في هذا الوقت ) الصنيع الإحسان وظاهره أنّ إذ ظرفية ومفعوله محذوف لأنّ إذ لا تخرج عن الظرفية عنده كما صرّج به في سورة البقرة ، ومن جوّزه جعله مفعولاً به وجعل ذكر الوقت كناية عن ذكر ما فيه ، وعلى هذه القراءة فالظاهر أنه من كلام الله تتميما لكلام موسى صلى الله عليه وسلم كالذي بعده والمصنف رحمه الله لما رجح كونه من مقول موسى صلى الله عليه وسلم ليوافق القراءة الأخرى بدليل قوله بعده { وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } ولئلا ينفكك النظم فسره بقوله صنيعه الخ فكأنه جعله التفاتا من الغيبة إلى التكلم لأنه ينطق بما أوحاه الله إليه وهو بعيد ، ولذا قيل عليه حق التعبير أن يقال واذكروا صنيعنا معكم وهذا إنما يلائم قراءة ابن عامر فإنه عليها من مقول موسى صلى الله عليه وسلم ، وأمّا احتمال أن يكون ضمير أنجينا لموسى وأخيه أولهما ولمن معهما فخلاف الظاهر. قوله : ( استئناف لبيان الخ ) أي بيانيّ في جواب سؤال وهو ما فعل بهم أو مم أنجاهم ، وقوله : ) أو حال الخ ا لاشتماله على ضميريهما وقوله بدل منه ويحتمل الاستئناف أيضاً. قوله : ( ئعمة أو محنة ( لأنّ البلاء بمعنى الابتلاء والاختبار ، وهو يكون بكل منهما ، وفيه لف ونشر مرتب قيل : ويحتمل أن يراد ما يشملهما. قوله : ( وواعدنا موسى ثلانين ليلة ) ذكر في الكشاف وشرحه هنا سؤالان لأن أحدهما على تفصيل الأربعين هنا إلى ثلاثين وعشر والاقتصار على الأربعين في البقرة ، والآخر ذكر أربعين مع أنه من المعلوم أن ثلاثين وعشرا أربعون وأجابوا بأنّ(4/211)
ج4ص212
الثلاثين للعبادة والعشر لإزالة الخلوف ، أو أنّ الثلاثين للتقرب والعشر لإنزال التوراة ، ولما كان الوعد في ثلاثين والإتمام بعشر مطلقاً يحتمل أن يكون تعيينهما بتعيين الله أو بإرادة موسى أفاد قوله فتمّ ميقات ريه الخ أن المراد الأوّل أو إنّ إتمام الثلاثين بعشر يحتمل المعنى المتبادر ، ويحتمل أنها كانت عشرين تحت بعشر ثلاثين فذكر لدفع هذا التوهم ، وأما المفاعلة في المواعدة وتفسيرها بأنه وعده الله الوحي ووعده موسى ع!ي! المجيء فتقدّم تحقيقه في سورة البقرة. قوله : ( بالغاً أربعين الخ )
اليمقات الوقت بمعنى وقد فرق بينهما بأنّ الوقت مطلق ، والميقات وقت قدر فيه عمل من الأعمال ، وفي نصب أربعين وجوه منها ما في الكشاف من أنه حال وتقديره بالغاً أربعين الني كما ذكره المصنف رحمه الله ، وردّ بأنه لا يكون حالاً بل معمول للحال المحذوف وأجيب بأن النحويين يطلقون الحكم الذي للعامل لمعموله القائيم مقامه فيقولون في زيد في الدار إنّ الجارّ والمجرور خبر والخبر إنما هو متعلقه ، وقيل عليه إن الذي ذكره النحاة في الظرف دون غيره ، فالأحسن أنه حال بتقدير معدود أو فيه نظر ، وقيل إنه مفعول به بتضمين تئم معنى بلغ وكلام المصنف رحمه الله يحتمله ، وقيل إنه منصوب على الظرفية وأورد عليه أنه كيف يكون ظرفاً للتمام والتمام إنما هو بآخرها إلا أن يتجوّز فيه ، وقيل هو تمييز ، وقيل تنم من الأفعال الناقصة في مثل تمّ الشهور ثلاثين فهذا خبرها ، وقوله : ( سأل ربه ) أي سأل ربه الكتاب وسأل قد يتعدى لمفعولين ، وخلوف فيه بضم الخاء تغير رائحة الفم لأنّ الرائحة الثانية تخلف الأولى ، وفي الحديث الصحيح لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، ولذا كره بعضهم السواك بعد الزوال للصائم ، وقوله فأمره الله أي تكفيراً لفعله ومنه يعلم ما مرّ من وجه التفصيل ، وقوله ثم أنزل عليه التوراة إشارة إلى الوجه الآخر. توله : ( تعالى وقال موسى لأخيه هارون ) يفتح النون بالجر بدلاً أو بيانا لأخيه أو النصب بتقدير أعني وقرىء شاذاً بالضم على النداء أو هو خبر مبتدأ مقدّر ، وقوله كن خليفتي يقال خلف فلان فلانا صار خليفته ، واستخلاف النبيّ آخر وان كان نبيا لا بأس به ولذا وقع في الحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى. قوله : ( وأصلح ما يجب أن يصلح الخ ) يعني إما مفعوله مقدّر بما ذكره وفيه إشارة إلى أنّ المراد إصلاح أمور دينهم لا دنياهم ، أو هو منزل منزلة اللازم من غير تقدير مفعول وهو يفيد التعميم أو معناه ليكن منك إصلاج وليس المراد به أيّ إصلاح كان بل إصلاج تاتم عامّ لأنه نكرة في سياق النفي ، وقيل إنه لا يناسب المقام ، وقوله : ( ولا تتبع من سلك الإفساد ( كأنه إشارة إلى أنه جعل الإفساد كالطريق المسلوك لهم كما يقال هذه طريقة فلان ، ولا تطع من دعاك إليه كالتفسير له أو لبيان أنه نهاه عن اتباعهم بدعوة وبدونها. قوله : ( واللام للاختصاص ( كما في قوله : { لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [ سورة الإسراء ، الآية : 78 ] وليست بمعنى عند كما ذهب إليه بعض
النحاة ، وقوله لوقتنا الذي وقتناه أي لتمام الأربعين. قوله : ( من غير وسط كما يكلم الملاتكة ( لما لم يمكن المعتزلة إنكار كونه متكلما ذهبوا إلى أنه متكلم بمعنى موجد للأصواب والحروف في محالها أو بإيجاد أشكال الكتابة في اللوح المحفوظ وان لم تقرأ على اختلاف بينهم ، وقد ردّ بأنّ المتحرّك من قامت به الحركة لا من أوجدها وألا لصح اتصاف الباري بالاعراض المخلوقة له تعالى عن ذلك علوا كبيرا على ما حقق وفصل في علم الكلام ، ونحن معاشر أهل السنة نثبت الكلام لله والقائم بذاته هو الكلام النفسي وقال الشهرستاني : بل اللفظي القديم على ما حقق في شرح المواقف فعليه الله متكلم له أن يكلم مخلوقاته بكلام لفظي من غير واسطة ، وعلى الأوّل أيضا كذلك بأن يخلق فيه قوّة يسمع بها ذلك من غير صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة من غير كمّ ولا كيف وكلام المصنف رحمه الله مجمل اقتصر فيه على المرتبة المتيقنة فكأنه قال كلمه بالذات كما يكلم الملائكة ، ولذا اختص! موسى صلى الله عليه وسلم باسم الكليم والمراد بالسماع من كل جهة عدم اختصاص ما سمعه بجهة من الجهات ، وكذا قوله تنبيه على أنّ سماع كلامه القديم الخ اقتصر فيه على المقدار المتفق عليه بين أهل السنة ، ولعمري لقد سلك المحجة الواضحة. قوله : ( أرني نفسك الخ ) فيه إشارة إلى أنّ المفعول محذوف لأنه معلوم ولم يصرّج به تأدبا ، ولما كانت(4/212)
ج4ص213
الرؤية سببة عن النظر متأخرة لأنّ النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماساً لرؤيته والرؤية الإدراك بالباصرة بعد النور خطر بالبال أنه كيف جعل النظر جواباً لأمر الرؤية مسببا عنه فيكون متأخراً عنها وهي مقارنة له بالزمان ، وان كانت متقدمة بالذات فأشار إلى توجيهه بأنّ المراد بالإراءة لش! إيجاد الرؤية بل التمكن منها مطلقا ، أو التجلي وهو الظهور وهو مقدم على النظر وسبب له كما أشار إليه بقوله فأنظر ، وهذا بطريق الكناية إذ ذكرها وأراد لازمها من التمكين أو التجلي إذ لو كان بيانا لطريقها كما قيل لم يندفع المحذور فتدبر. قوله : ( وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة ) يعني بقطع النظر عن الدنيا والآخرة لأنّ طلب المستحيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام محال لأنه إن علم باسنحالته فطلبه عبث ، وان لم يعلم فجهل وكلاهما غير لائق بمنصب النبوّة ، وقد قالوا نختار أنّ موسى ع!ير لم يعلم امتناع رؤيته ولا يضرّ ذلك ، لأنّ النبوّة لا تتوقف على العلم بجميع العقائد الحقة وجميع ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز بل على ما يتوقف عليه الغرض من البعثة والدعوة إلى الله تعالى وهو وحدانيته وتكليف عباده بأوامر ونواه ليحرضهم على النعيم المقيم ، ولا نسلم أنّ امتناع الرؤية من هذا القبيل ، أو نختار أنه يعلم امتناعها وسؤاله لغرض ، أو هو محرّم ارتكبه لأنه صغيرة وردّ بأنه يلزمهم أن يكون الكليم يث!يرو دون آحاد المعتزلة علما ودون من حصل طرفاً من الكلام في
معرفة ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز ، وهذه كلمة حمقاء ، وطريقة عوجاء لا يسلكها أحد من العقلاء ولا شك أنا نعتقد أنّ علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بذاته وصفاته أكمل من علم ما عداهم ، وان أردت تحرير هذا فعليك بمطوّلات الكلام ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد. قوله : ( ولذلك ) أي لكونها جائزة قال ما ذكر دون لن أرى لأنه يدلّ على امتناع الرؤية مطلقاً أو إن أريك لأنه يقتضي أنّ المانع من جهته ، ولن تنظر إليّ إن كان بصيغة المجهول كما قيل فظاهر والا فلأنّ النظر لا يتوقف على معد وإنما المتوقف عليه الرؤية والإدراك وذلك المعدّ قوّة يخلقها الله فيه بحيث ينكشف له انكشافا تامّا وهل يختص بالآخرة أولأ فيه خلاف ينظر في محله. قوله : ( وجعل السؤال لتبكيت قومه الخ ) إشارة إلى قولهم إق موسى صلى الله عليه وسلم لم يسأل الرؤية لنفسه بل لقومه القائلين أرنا الله جهرة وإنما أضافها إلى نفسه ليمنع عنها فيعلم قومه أنها بالنسبة إليهم أبعد وأشد في الاستحالة ، وهو أبلغ من إضافتها إليهم وأدعى لقبولهم ، ولذا لم يقل وأرهم ينطروا إليك ، وفي شرح المواقف إنه خلاف الظاهر فلا بد له من دليل وما ذكروه من أنّ الدليل أخذ الصعقة ليس بشيء واليه أشار المصنف رحمه الله يعني لو كان كذلك كان عليه أن يزيل يث!بهتهم ولا يحتج إلى ما هم فيه من الآراء الفاسدة ، وقوله إذ لا يدل الإخبار الخ وكلمة لن تدل على تأكيد النفي دون تأييده على الصحيح ولو سلم فبالنسبة إلى الدنيا. وقوله : ( أو أن لا يراه الخ ) جواب جدليئ. قوله : ( ودعوى الضرورة فيه مكابرة ) إذ ليس انتفاء ذلك بديهي والا لم يختلف فيه العقلاء ، أو هو جهالة بحقيقة الرؤية لأنه لا نزاع في جواز الإنكشاف العلمي التامّ ولا في ارتسام صورة من المرئي في العين أو اتصال الشعاع الخارج من العين بالمرئيّ أو حالة إدراكية مستلزمة لذلك إنما النزاع أنا إذا أبصرنا الشمس مثلا ثم غمضت العين نجد في الأوّل حالة زائدة على الثاني ، وكذا إذا علمنا شيئاً علما جليا ثم أبصرناه نجد في الثاني أمراً زائداً على الأوّل ، وهو الذي نسميه بالرؤية ولا يتعلق في العادة إلا بما هو في جهة ومقابلة فمثل هذه الحالة الإدراكية هل يصح أن تكون مقارنة للمقابلة والجهة وأن تتعلق بالذات المقدسة أم لا والى الأوّل ذهب الأشاعرة والمخالف فيه اشترط فيه ذلك ، ولذا قال السهروردي : قد يحقق بأيسر نظر أنّ الرائي غير العضو المخصوص ، وهو قوّة حالة فيه وبه
ل
يرتفع الإشكال لأنّ القوم لما اعترفوا بأنّ العين لا تبقى على هذه الصفة بل يخلق الله فيها استعداداً لرؤيته تعالى ، وخصومهم أنكروا الرؤية والعين هذه العين بمشخصاتها أجمع فالصلح
فمن لي بالعين التي كنت ناظرا إليّ بها قبل القطيعة والصد
قوله : ( يريد أن يبين به أنه لا يطيقه الخ ) يعني ليس المقصود نفي الرؤية بل نفي لطاقته
لها في هذه الدار(4/213)
ج4ص214
الدنيا ، ثم إنّ قولهم المعلق على الممكن ممكن قالوا عليه : منع ظاهر إذ الممكن ربما يستلزم المحال وان كان بحسب الغير لا بحسب ذاته فإن عدم المعلول الأوّل يستلزم عدم الواجب لأنّ عدم المعلول لا يكون إلا بعدم علته ففي هذه الصورة لا يلزم من تعليق اللازم على الملزوم الممكن إمكان صدق الملزوم بدون اللازم لأن الملزوم ليس هو الممكن من حيث ذاته بل من حيث هو مأخوذ مع الغير ، وهو من هذه الحيثية ممتنع فإنّ عدم المعلول الأوّل إذأ اعتبر في نفسه فعدمه ممكن ، ولا يستلزم عدم الواجب من هذه الحيثية وان اعتبر من حيث إنّ وجوده واجب بالعلة فعدمه ممتنع بها ومستلزم لعدمها ، ولكن ليس عدمه ممكناً بالذات من هذه الحيثية حتى يلزم إمكان لازمه ، وامكان صدق الملزوم بدون اللازم على تقدير كون اللازم محالاً إذ لا يلزم من إمكان العدم نظرا إلى ذاته إمكان العدم الممتنع بالغير أبداً بالنظر إليه ولا يلزم من ذلك كونه واجباً لذاته ، وإنما يلزم أن لو امتنع نسبة العدم إليه لذاته فإذا كان المعلق عليه هنا استقرار الجبل من حيث هو يلزم من إمكانه مكان المعلق أما إذا كان استقرار. مع ملاحظة الغير الذي يمتنع الاستقرار عنده فلا يلزم من إمكانه إمكان الرؤية فللمعتزليئ أن يقول إنّ المعلق عليه استقرار الجبل عقيب النظر أي استقرار الجبل مع كون الجبل مقيداً بالحركة فيه فإن استقرار الجبل وان كان ممكناً في نفسه عقيب النظر إلا أنه بحسب تقييده بما ينافيه من الحركة ممتنع بالغير في ذلك الوقت فجاز أن يستلزم المحال ، وتعلق عليه الرؤية من تلك الحيثية وحينئذ لا يرد أن يقال إنّ استقرار الجبل ممكن في نفسه في جميع الأوقات بدلاً من الحركة فإن قيل الظاهر أنه علق على استقرار الجبل من حيث هو وان كان ذلك في الاستقبال ، وكونه ممتنعا بالغير في ذلك الوقت من جهة تقييده بالحركة فيه لا يستلزم أن يوجد المعلق عليه بتلك الجهة ، ولا ينافي أن يكون الظاهر ما ذكرنا قلنا المتبادر لا يدفع إحتمال الغير المنافي لليقين وان كان ذلك الاحتمال احتمالاً مرجوحاً فان قلت المتبادر يجب أن يصار إليه إذا لم يدل دليل على خلافه بملاحظته يكون ما ذكر مفيداً لليقين قلت فحيمئذ يمنع من اللفظ الملقى إلى موسى ىلمجز حين الإلقاء إليه ، ويحتمل أن يكون حين القائه إليه قرينة حالية أو مقالية دالة على التعليق باستقرار الجبل المقيد بالحركة ولا تكون تلك القرائن منقولة إلينا ، ومجملات كتاب الله من هذا القبيل كما حققه بعض علماء الروم.
قوله : ( جبل زبير ) بزاي معجمة مفتوحة وباء موحدة مكسورة وراء مهملة بوزن أمير اسم
هذا الجبل كما في القاموس والمشهور أنه الطور. قوله : ( طهر له عظمته ) قيل عليه إنّ ظهور عظمة الله للجبل تستدعي أن بكون له إدراك وهو مستلزم للحياة فيكون التفاوت بيته وبين القول الآخر غير ظاهر ، وقال الطيبي رحمه اللّه : إنه مثل لظهور اقتداره وتعلق إرادته بدك الجبل لا أنّ ثمة تجلياً كما في قوله : { كُن فَيَكُونُ } [ سورة يس ، الآية : 82 ] وقال الإمام المقصود : إنّ موسى صلى الله عليه وسلم لن يطيق رؤيته بدليل أنّ الجبل لما رآه اندك ويجوز أن يخلق الله له حياة وسمعاً وبصراً كما جعله محلا لخطابه في قوله : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } [ سورة سبأ ، الآية : 0 ا ] ونقل هذا عن الأشعري رحمه الله وكان المصنف رحمه الله أشار إلى هذا بقوله وتصدى له اقتداره وأمره. قوله : ( مدكوكاً مفتتا الخ ) أي هو مفعول به بمعنى اسم المفعول والدك بمعنى التفتيت والتكسير ، وقيل : هو التسوية بالأرض وقوله أخوان أي بينهما اشتقاق اً كبر كالشك بمعنى الطعن كما يقال منه شككت بالرمح ، وهو قريب من الثق معنى وقراءة دكاء بالمدّ إما لأنه صفة أرض! وهي مؤنثة أو مستعار من قولهم ناقة دكاء إذا لم يرتفع سنامها ودكا بضم الدال والتنوين جمع دكاء كحمراء ، وحمر أي قطعا دكا فهو صفة جمع وهو قطع جمع قطعة ، وفي شرح التسهيل لأبي حيان أنه أجرى مجرى الأسماء فأجرى على المذكر وهو جواب آخر. قوله : ( مغشياً عليه من هول ما رأى ) خرّ بمعنى سقط ، وقيل : هو سقوط له صوت كالخرير وصعقا بمعنى صاعقاً وصائحا من الصعقة ، وقيل لو كان هذا معنى النظم لعطف بالفاء وعطفه بالواو ويقتضي ترتبه على التجلي.
( قلت ( المراد بالهول هول التجلي وعظمته فلذا عطف بالواو لأنه لو عطف بالفاء أوهم
أنه يترتب على الدك مع أنّ مثله قد يعطف بالواو عند السكاكي كما في قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ } [ سورة النمل ، الآية : 5 ا ] كما صرّح(4/214)
ج4ص215
به الطيبي رحمه الله فيما سيأتي ، وقوله من غير إذن أو في غير محله وزمانه ، وقوله مرّ تفسيره أي في سورة الأنعام بأنّ إسلام كل نبي سابق على أمّته ، وقوله لا ترى في الدنيا فيه خلاف كرؤية المنام عند القائلين بالرؤية وكأنّ المصنف رحمه الله تعالى اختار خلافه ، وفي الكشاف فانظر إلى إعظام الله أمر الرؤية في هذه الآية وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكا وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه
صلى الله عليه وسلم من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر وكيف سبح ربه ملتجئاً إليه وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً ولا يغرّنك تسترهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم ، والقول ما قال بعض العدلية فيهم :
لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمرلعمري موكفه
قد شبهوه بخلقه وتخوّفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفه
وهذا من غلوّه وقد أشار المصنف رحمه الله بما ذكره إلى ردّه وهذا الشعر الذي هجا به
أهل السنة رضي الله عنهم أجابه عنه شعراؤهم بأشعار كثيرة كقول الشيخ تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى :
عجبا لقوم ظالمين تلقبوا بالعدل مافيهم لعمري معرفه
قدجاءهم من حيث لايدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفه وتلقبواعدلية قلنانعم عدلوابربهم فحبهم سفه
والبلكفة نحت كالبسملة أي القائلين بأنّ الرؤية بلا كيف ، وفي بعض حواشي الكشاف القائلين بل كفى في إمكان الرؤية تعليقها بالممكن ، وقوله اصطفيتك اخترتك لأنه افتعال من الصفوة وهو الخيار. قوله : ( أي الموجودين في زمانك الخ ) قيده به لأن الاصطفاء لا يخصه ، ولما ورد هرون أشار إلى قيد يخرجه بأنّ المراد اصطفاه بأمرين الرسالة والتكليم فخرج هرون ، فإن قلت على هذا لا يحتاج إلى القيد لأن التكليم بغير واسطة في الدنيا مخصوص به ولا يلزم تفضيله من كل الوجوه على غيره كنبينا صلى الله عليه وسلم وهو المقصود بالتكليم الموجه إليه الخطاب المأمور بتبليغه من سواه فلا يرد أنه كان معه سبعون كلهم سمعوا الخطاب أيضاً وبالناس خرج الملائكة رأسا.
( قلت ) المصنف رحمه الله تبع الزمخشرفي في هذا ووجهه أنّ الرسالة والتكليم بغير وسط
وجد لنبينا صلى الله عليه وسلم فلزم أن يكون مختارا عليه وهو النبيّ المختار فلا يرد ما ذكر كما قيل. قوله : ( وبتكليمي لىساك ) أو على تقدير مضاف أي سماع كلامي ، وقوله : ( مما يحتاجون إليه من أمر الدين ) تال الإمام : لا شبهة في أنه ليس على العموم لأنّ المراد كل شيء كانوا محتاجين إليه من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح ثم فصله. قوله : ( بدل من الجارّ والمجرور الخ ا لو جعلت من تبعيضية لأنّ كل شيء من الموإعظ بعض كل شيء على الإطلاق اتجه وسلم من
زيادة من في الإثبات إلا أنّ قوله كتبنا له كل شيء يشعر بأنّ من مزيدة لا تبعيضية ولم يجعلها ابتدائية حالاً من موعظة وموعظة مفعول به لأنه ليس له كبير معنى ، ولم تجعل موعظة مفعولاً له ، وان استوفى شرائطه لأنّ الظاهر عطف تفصيلا على موعظة كما أشار إليه بقوله من المواعظ ، وتفصيل الأحكام وظاهر أنه لا معنى لقولك كتبنا له من كل شيء لتفصيل كل شيء ، وأما جعله عطفاً على محل الجارّ والمجرور فبعيد من جهة اللفظ والمعنى. قوله : ( واختلف في أنّ الألواح الخ ) أي اختلفت الرواية فيه وزمرد بضم الزاي المعجمة والميم والراء المهملة وعن الأزهريّ فتح الراء وبالذال المعجمة آخره ، وهو غير الزبرجد كما هو معلوم عند أهله وسقفها بسين مهملة وقاف وفاء أي جعلها سقائف والسقائف الألواج واحدها سقيفة وروي شققها بشين معجمة وقافين وهو بمعناه أيضا وليس تصحيفا كما توهم ، وفي بعض النسخ عطف سقفها بأو وفي بعضها بالواو ، وهي أظهر. قوله : ( على إضمار القول عطفاً على كتبنا ) أي فقلنا خذها وحذف القول كثير مطرد قال العلامة هانما قدّر لا لعطفه الإنشاء على الخبر لأنه يجوز بإلغاء لأنّ قوله كتبنا له على الغيبة فقدر فقلنا له ليناسبه في الغيبة ، ولو قيل كتبنا لك لم يحتج إلى تقدير ، وأما جعله بدلاً من فخذ ما الخ فقد ضعف لما فيه من الفصل(4/215)
ج4ص216
بأجنبيّ وهو جملة كتبنا المعطوفة على جملة قال وهو تفكيك للنظم. قوله : ( والهاء للألواح أو لكل شيء ) على تقدير القول والعطف على كتبنا ، وقوله : ( فإنه بمعنى الأشياءا لأن العموم لا يكفي في عود ضمير الجماعة بدون تأويله بالجمع ، وجوّز الزمخشرفي عوده على التوراة بقرينة السياق ، وقوله أو للرّسالات على البدلية كما في شروح الكشاف والتعيين موكول إلى القرينة العقلية ، وقوله بقوّة أي بعزيمة وجدّ فهو حال من الفاعل أي ملتبسا بقوّة وجوّز أن يكون من المفعول أي ملتبسة بقوّة براهينها والأوّل أوضح أو صفة مفعول مطلق أي أخذا بقوّة. قوله تعالى : { يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } الظاهر جزمه في جواب الأمر فيحتاج إلى تأويل لأنه لا يلزم من أمرهم أحدهم ، ولذا قيل تقدير لام الأمر فيه بناء على جوازه بعد أمر-ت القول أو ما هو بمعناه كما هنا ، وبأحسنها حال ومفعول يأخذوا محذوف أي ما ينفعهم أو هو مفعول والباء زائدة كما في لا يقرأن بالسور. قوله : ( أي بأحسن ما فيها كالصبر الخ ) إضافة أفعل التفضيل إما إلى المفضل عليه نحو زيد أحسن الناس أو إلى غيره والأولى مختلف فيها كما ذكره الفاضل اليمني في قوله
تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ } [ سررة البقرة ، الآية : 96 ] فالمشهور أنها محضة على معنى اللام ، وقيل إنها لفظية وغيرها اختصاصية بلا نزاع والظاهر أنّ هذه من الأوّل لأنّ المعنى بأحسن الإجراء التي فيها مشتملة على تلك المعاني أو بأحسن أحكامها كقولك أحسن زيد وجهه فمن قال إنه إشارة إلى أن الإضافة على معنى في فقدوهم والذي غر. وجود في في اللفظ وقال النحرير وغيره : إنه ينافي ما سبق من أنّ المكتوب على بني إسرائيل هو القصاص قطعاً ، والجواب بأنه مثال للحسن والأحسن لا لكونه في التوراة بعيد جذاً ، وقوله على طريقة الندب متعلق بلفظ وأمر في النظم والمعنى أن يأخذوا به على طريق الندب والأحسن لا الوجوب ، وأما صدور الأمر من موسى عليه الصلاة والسلام فيحتمل الوجوب والندب ، وقوله أو بواجباتها هو كالأوّل وإنما الفرق بينهما أنّ المراد بأحسن أحكامها ما يندب إليه أو ما يلزم ويجب لأنّ الواجب أحسن من المندوب والمباج فليست الإضافة فيه لأدنى ملابسة كما قيل. قوله : ( ويجوز ان يراد بالأحسن البالغ في الحسن الخ ( قال العلامة في سورة مريم في قوله تعالى : { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا } [ سورة مريم ، الآية : 76 ] إن هذا من وجيز كلامهم يقولون الصيف أحر من الثتاء أي أبلغ في حره من الشتاء في برده ، وتحقيقه أن تفضيل حرارة الصيف على حرارة الشتاء غير مراد بلا شبهة بل هو راجع إلى تفضيل كثرة الحرارة أو قوّتها على كثرة البرودة أو قوّتها أو باعتبار الإحساس وذلك لأن معنى أحرّ وأبلغ حرّاً متقاربان ولذا توصل في الممتنع بنحوه ففيه مجاز وايجاز وتفصيله ، ما قال بعض النحاة إن لأفعل أربع حالات إحداها وهي الحالة الأصلية أن يدل على ثلاثة أمور ، أحدها اتصاف من هو له بالحدث الذي اشتق منه وبهذا كان وصفا ، الثاني مشاركة مصحوبة في تلك الصفة ، الثالث مزية موصوفه على مصحوبه فيها ، وبكل من هذين المعنيين فارق غيره من الصفات الحالة الثانية أن يخلع عنه ما امتاز به من الصفات ويتحرّ للمعنى الوضعي ، الحالة الثالثة أن تبقى عليه معانيه الثلاثة ، ولكن يخلع عنه قيد المعنى الثاني ويخلفه قيد آخر وذلك أنّ المعنى الثاني وهو الاشتراك كان مقيدآ بتلك الصفة التي هي المعنى الأوّل فيصير مقيداً بالزيادة التي هي المعنى الثالث ألا ترى أن المعنى في قولهم العسل أحلى من الخل أن للعسل حلاوة ، وان تلك الحلاوة ذات زيادة ، وان زيادة حلاوة العسل أكثر من زيادة حموضة الخل قاله ابن هشام في حواشي التسهيل وهو بديع جداً الحالة الرابعة أن يخلع عنه المعنى الثاني ، وهو المشاركة وقيد المعنى الثالث وهو كون الزيادة على مصاحبه فيكون للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى زيادة مطلقة لا مقيدة وذلك في نحو يوسف أحسن إخوته ، وقوله : لا بالإضافة أي ليس حسنة بالإضافة إلى ما أضيف إليه بل مبالغته وزيادته بالإضافة إلى مبالغة ما أضيف إليه ، فلا يرد عليه ما قيل الأظهر حينئذ تشبيهه بقوله الأشج والناقص أعد لابني مروان وقي البحر يمكن الاشتراك فيها في الحسن ، فيكون المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه ويكون المنهيّ عنه حسنا باعتبار الملاذ
والشهوة ، فيكون بينهما قدر مشترك في الحسن ، وان(4/216)
ج4ص217
اختلفا متعلقاً. قوله : ( دار فرعون وقومه بمصر الخ ( إشارة إلى أنه تأكيد للأمر بالأخذ بالأحسن وبعث عليه لوضع الإراءة موضع الاعتبار إقامة للسبب مقام مسببه مبالغة ، وفي وضع دار الفاسقين موضع أرض مصر تحذير لهم عن اتباع أثرهم ، واليه الإشارة بقوله فلا تفسقوا الخ ، وفيه التفات لأنّ المراد سأريهم فلا يفرطوا فيما أمروا به ، وجوّز فيه التغليب أيضاً ، وفي قراءة سأوريكم تغليب لأنّ المراد سأوريك ، وقومك فالجملة استئنافية لتعليل الأمر وعلى المشهورة الخطاب مخصوص بالقوم لأنّ المعنى لتعتبروا ولا تفسقوا ، وقوله : ( أو منازل الخ ) هو قول لبعضهم ولذا أدخل فيه ، أو وإلا فلا مانع من الجمع. قوله : ( وقرئ سأوريكم ) بضم الهمزة وواو ساكنة وراء خفيفة مكسورة ، وهي قراءة الحسن البصري ، وهي لغة فاشية بالحجاز فيها تخريجان أحدهما أنها من أوريت الزند لأنّ المعنى سأنوره وأبينه ، والثاني وهو الأظهر الذي اختاره ابن جني أنه على الإشباع كقوله :
من حيثما سلكوا أتوا فانظوروا
ورأى بصرية وجوز فيها أن تكون علمية على جواز حذف المفعول الثالث. قوله :
( بالطبع على قلوبهم الخ ) متعلق بقوله سأصرف أي صرفها عنهم لأنه علم أنهم لا ينتفعون بها لطبع الله على قلوبهم ، وقضائه الأزليّ بالشقاوة عليهم. قوله : ( سأصرفهم عن إبطالها الخ ) فالكلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متصل بما سبق من قصصهم وهو أو لم يهد الخ وايراد قصة موسى وفرعون للاعتبار ، ولذا قال كما فعل فرعون ، وقيل : إنه على هذا اعتراض قال الطيبي فقوله وان يروا كل آية الخ عطف على قوله يتكبرون في الأرض وعلى الأوّل الآية عامة ، وعطف وان يروا على سأصرف للتعليل على منوال قوله : { وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ } [ سورة النمل ، الاية : 15 ] على رأي صاحب المفتاح ، وقوله : ( فعاد عليه ) أي عاد عليه فعله بعكس ما أراد وهو إعلاء آيات الله واظهارها واهلاكهم وتدميرهم ، وقوله : ( بماهلاكهم ) معطوف على إعلائها ، ويصح ضبطه بالنون والإعلان الإظهار أيضا ، وقيل إنه معطوف على قوله بالطبع أي سأصرفهم عن إبطالها بإهلاكهم. قوله : ( صلة يتكبرون الخ ا لما كان التكبر لا يكون بحق أصلاً أوّلوه بوجهين الأوّل على جعله متعلقاً بالفعل ، والتكبر بمعنى التعزز أي يتعززون بالباطل ، وبما يؤديهم إلى الذل والهوان ، ولا يرفعون للحق رأسا فقوله وان
يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وما عطف عليه مناسب لهذا الوجع فعلى هذا يصح أن يكون هذا مراد المصنف رحمه الله بقوله يؤيد الوجه الأوّل ، ولذا قدمه وعكس ما في الكشاف والثاني واليه أشار المصنف رحمه الله ، بقوله أو حال من فاعله أي غير محقين لأنّ التكبر بحق ليس إلا لله كما في الحديث القدسي الذي رواه أبو داود : " والكبرياء ردائي ، والعظمة إرّاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار " ) 1 ( وفيه معان دقيقة تعرف بالمشاهدة مع استعارات بديعة وايماء غريب وأمّا أنّ التكبر يكون بحق كما في الأثر التكبر على المتكبر صدقة فالتحقيق أنه صورة تكبر لا تكبر فتدبر. قوله : ( منزلة ) من آيات القرآن من التنزيل ، أو الإنزال أو معجزة بالجر أو النصب أي منزلة كانت أو معجزة دون المنصوبة في الأنفس والآفاق لئلا يتوهم الدور وتكذيبهم بذلك وكفرهم لعنادهم ، وخلل عقولهم وانغماسهم في الهوى والضلال الناشئ عن ختم الله وطبعه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم بحيث صاروا كالحيوانات العجم ، وهو الذي صرفهم عن النظر في الآفاق والأنفس بلا خفاء فهذا هو السيب القريب له ، والطبع البعيد فلا وجه لما قيل الصرف ليس بمسبب عن التكذيب بل العكس ، وسبب الصرف علم من ترتب الحكم على الموصول ولا حاجة إلى جعل ذلك إشارة إلى التكبر وان صح. قوله : ( ويجورّ أن ينصب الخ ) عطف على المعنى لأنه على الأوّل مرفوع والجار والمجرور خبره ، وعلى هذا مفعول مطلق والباء متعلقة بمحذوف والعامل فيه أصرف المقدم لأنّ الجار والمجرور صلة والموصول مفعوله ، وما بعده صلته ومعطوف عليها فلا فصل بأجنبيّ كما توهم ، ولا يقال إنّ هذا الصرف المقدر محقق وذاك غير محقق وبتكلف ما لا حاجة إليه. قوله : ( أي ولقائهم الدار الآخرة الخ ) يعني أنه من إضافة المصدر إلى المفعول(4/217)
ج4ص218
وحذف الفاعل أو إلى الظرف على التوسع ، وتقدير المفعول وهو ما وعدهم الله كما مرّ تحقيقه في مالك يوم الدين ، فقول النحرير : إنه على الأوّل مضاف إلى المفعول به على الحقيقة وبالنظر إلى المعنى ، والا فعلى تقدير الإضافة إلى الظرف
هو أيضا منزل منزلة المفعول به ليس كما ينبغي. قوله : ( لا يممفعون ) تحقيق لمعنى الإحباط لأنّ الأعمال أعراض لا تحبط حقيقة ، وهذه الجملة خبر الذين وهل يجزون مستأنفة أو خبر وهذه حال بإضمار قد ، وقوله الأجزاء أعمالهـ م لأنّ المجزي ليس نفسر العمل ، وهو ظاهر. قوله : ( من بعد ذهابه للميقات الخ ) من هذه ابندائية والتي بعدها تبعيضص جمة أو ابتدائية أيضا على حد أكلت من بستانك من العنب أو متعلقة بمقدر على أنه حال ، وقوله بعد ذهابه إما بيان للمعنى أو إشارة إلى تقدير مضاف. قوله : ( التي استعاروا من القبط حين هموا بالخروج الخ ) وقيل ألقاها البحر على الساحل بعد غرقهم قال الإمام رحمه الله " روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون وقومه لعلمه أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى صلى الله عليه وسلم بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم لأجل المال أو لتبقى أموالهم قي أيديهم " فقيل عليه إنه مشكل لكونه أمرا بأخذ مال الغير بغير حق ، وإنما يكون غنيمة بعدما هلكوا مع أنّ الغنائم لم تكن حلالهم لقوله عشيي! : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أحلت لي الغنائم " ) 1 ( الخ وقد قال المفسرون في قوله تعالى فيئ سورة طه : { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ( 95 ) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } [ سورة طه ، الآية : 87 ] أراد بالأوزار أنها كانت تبعات وآثاماً لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب فلا يحل لهم أخذ مالهم مع أنّ الغنائم لم تكن تحل لهم ، وهذا مخالف لما ذكرنا ، وقد أشار بعضهم إلى دفعه بما لا طائل تحته فتدبره ، ولك أن تقول أنهم لما استعبدوهم بغير حق واستخدموهم وأخذوا أموالهم وقتلوا أولادهم ملكهم الله أرضهم ، وما فيها فالأرض! دلّه يورثها من يشاء من عباده ، وكان ذلك بوحي من الله تعالى لا على طريق الغنيمة ، وفي كلام الكشاف إشارة إليه ويكون ذلك على خلاف القياس وكم في الشرائع مثله ، وقوله بالاتباع أي اتباع الحاء للام وهو ظاهر. قوله : ( بدنا ذا لحم ودم الخ ) هذا أحد التفاسير للجسد في اللغة وقد أعربوه بدلاً وعطف بيان ونعتا بالتأويل ، وكون تراب أثر فرس جبريل عليه الصلاة والسلام يقتضي الحياة لم يظهر لي وجهه ، والحيل هي أن جعل في جوفه أنابيب مقابلة لمهب الريح فإذا دخلت فيه سمع له صوت شديد قيل وهذا ليس بشيء لمنافاته لما صرّح به في قوله تعالى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ( 95 ) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } [ سورة طه ، الآية : 95 ] الخ. قوله : ( وإنما نسب ) 1 ( أخرجه البخاري 335 و 3122 ومسلم 521 والنسائي 1 / 209- 1 21 والدارمي 1 / 322 وأحمد 3 / 304 من حديث جابر بأتم منه 0
الاتخاذ إليهم وهو فعله ) واتخاذه أي السامريّ فالمراد بالاتخاذ العمل ولكونهم راضين به وواقعاً بين أظهرهم نسب إلى الجميع وأسند إليهم إسناداً مجازيا كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم وكون الرضا شرطاً في مثله ليس بكلي كما مرّ. قوله : ( أو لأنّ المراد اتخاذهم إياه إلها ) هو في الوجه الأوّل بمعنى صنع متعد لواحد ، وفي هذا متعدّ لاثنين والمعنى صيروه إلهاً وعبدوه كلهم فلا تجوّز فيه ، وعلى الأوّل لا بد من تقدير جملة ، وهي يعبدوه ليكون ذلك مصب الإنكار لأنّ حرمة التصوير حدثت في شرعنا على المشهور ، ولأنّ المقصود إنكار عبادته ، والخوار بضم الخاء المعجمة والواو المفتوحة صوت البقر والجواز بضم الجيم والهمزة الصوت الشديد. قوله : ( تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر الخ ) يعني أنهم لم يقتصروا على عدم النظر في أمره حتى تجاوزوا ذلك إلى جعله إلها خالقا فعبدوه ، وقوله اتخذوه إلها بيان لحاصل المعنى مع الميل إلى الوجه الثاني في جعل اتخذ متعديا لمفعولين كما مرّ ، وقوله : كآحاد البشر تمثيل للمنفي والقدر يضم ففتح جمع قدرة. قوله : ( تكرير للذمّ ) أي تكرير لتأكيد الذتم بذلك وأشار إلى أنه متعد لمفعولين ، وقدر الثاني كما ترى ، وقوله : وكانوا ظالمين ما استئنافية أو الواو اعتراضية للإخبار بأن وضع الأشياء في غير موضعها دأبهم وعادتهم قبل ذلك فلا ينكر هذا منهم ، أو حالية أي اتخذوه في هذه الحالة المستقرة لهم ، وهذا فرق بين الجملة المعترضة والحالية بحسب المعنى ، وهو دقيق جداً. قوله : ( كناية من أن اشتد ندمهم الخ ا لم يجعله عبارة عن الندم لأنّ السقوط في اليد إنما يكون عند شدّته(4/218)
ج4ص219
وجعله كناية لا مجازاً لعدم المانع عن الحقيقة ، وجعل الفاعل في قراءة المبنيّ للفاعل العض لا الفم لأنه أقرب إلى المقصود ولأنّ كونه كناية عن الندم إنما هو حيث يكون سقوط الفم على وجه العص ، ثم الأيدي على هذا حقيقة وعلى تفسير الزجاج الذي أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله وقيل الخ استعارة بالكناية وهل في الكلام دلالة إيمائية لا دلالة فيه عليها ، إلا أن يقال أنّ سقوط الندم في القلب أو النفس كناية عن ثبوته للشخص ، وإنما اعتبر التشبيه فيما يحصل لا في اليد ليكون استعارة تصريحية لأنه لا معنى لتشبيه اليد بالقلب إلا بهذا الاعتبار ، وقيل : إنه على تفسير الزجاج استعارة تمثلية لأنه شبه حال الندم في القلب مجال الشيء في اليد في التحقيق
والظهور ، ثم عبر عنه بالسقوط في اليد ، وقال الواحديّ تحصل من كلام المفسرين وأهل اللغة أنّ معنى سقط في يده ندم فأما وجهه فلم يوضحوه إلا أنّ الزجاح قال إنه بمعنى ندموا ولم يسمع هذا قبل نزول القرآن ، ولم تعرفه العرب ولم يوجد في أشعارهم وكلامهم فلذا خفي عليهم فقال أبو نواس :
ونشوة سقطت منها في يدي
فأخطأ في استعماله وهو العالم النحرير وقال أبو حاتم فسقط فلان في يده بمعنى ندم فأخطأ أيضاً ، وذكر اليد لأنه يقال لما يحصل وأن لم يكن في اليد وقع في يده وحصل في يده مكروه فشبه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين ، وخصت اليد لأنّ مباشرة الأمور بها كقوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [ سورة الحج ، الآية : 0 ا ] أو لأنّ الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد كعضها وضرب إحدى يديه على الأخرى ، كقوله تعالى في النادم فأصبح : { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ سررة الكهف ، الآية : 42 ] { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } [ سورة الفرقان ، الآية : 27 ] فلذا أضيف إليها لأنه الذي يظهر منه كاهتزاز المسرور وضحكه وما يجري مجراه ، وقيل من عادة النادم أن يطأطىء رأسه يوضع ذقنه على يده بحيث لو أزالها سقط على وجهه ، فكأن اليد مسقوط فيها ، وفي بمعنى على وقيل : هو من السقاط وهو كثرة الخطأ قال : كيف يرجون سقاطي بعدما لفع الرأس بياض! وصلع
وقيل مأخوذ من سقيط الجلد ، والفراء لعدم ثباته مثل لمن لم يحصل من سعيه على
طائل وسقط مدة بعضهم من الأفعال التي لا تتصرّف كنعم وبئس ، وقرأ أبو السميفع سقط معلوماً أي الندم كما قال الزجاج : أو العض كما قال الزمخشرفي أو الخسران كما قاله ابن عطية وكله تمثيل ، وقرأ ابن أبي عبلة أسقط رباقي مجهول وهي لغة نقلها الفراء والزجاج.
قوله : ( وقيل معناه سقط الندم في أنفسهم ) قد مر أنه قول الزجاج والواحديّ ، وهل هو استعارة تمثيلية أو مكنية أو كناية ، قد نقلنا لك ما قال القوم فيه فعليك بالاختيار ، وحسن الاختيار. قوله : ( وعلموا الخ ) في الكشاف وتبينوا ضلالهم تبينا كأنهم أبصروه بعيونهم ، وإنما جعلها بصرية مجازاً عن انكشاف ذلك لهم انكشافا تاما كأنه محسوس ، ولم يقصر المسافة فيجعلها علمية ليسلم الكلام من القلب الذي توهمه بعض المفسرين لأنّ الندم إنما يحصل لهم بعد تبين الضلال لأنه هان كان كذلك لكنه بعده ينكشف انكشافاً تاما لا يمكن إخفاؤه ، فلا حاجة إلى ما قيل فإن قلت تبين الضلالة يكون سابقاً على الندم فلم تأخر عنه ، قلت الانتقال من الجزم بالشيء إلى تبين الجزم بالنقيض لا يكون دفعياً في الأغلب بل إلى الشك ، ثم الظن
بالنقيض ، ثم الجزم بالنقيض ، ثم تبينه والقوم كانوا جازمين بأنّ ما هم عليه صواب والندم عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فقد تأخر تبين الضلال عنه لمن يتبين ، وقوله : ( وقرأهما ( أي ترحم وتغفر. قوله : ( شديد الغضب وقيل حزيناً ) هما حالان مترادفتان أو متداخلتان إن قلنا الثانية حال من المستتر في غضبان أو بدل كل لا بعض كما توهم ، والأسف إما شدة الغضب أو الحزن. قوله : ( فعلتم بعدي حيث عبدتم العجل والخطاب للعبدة ا لما كانت الخلافة أن يقوم الخليفة مقام من خلفه ، وينوب عنه في أفعاله ، وهي لا تكون بحضرته وإنما تكون بعده جعل خلفتم مستعملاً في لازم معناه ، وهو مطلق الفعل لثلا يتكرّر قوله بعدي معه والفعل المذموم بعده إنما هو للعبدة ، فلذا خصوا بالخطاب على هذا. قوله : ) أو قمتم مقامي فلم تكفوا العبدة والخطاب لهرون والمؤمنين ) وإنما خصوا لأنهم الذين قاموا مقامه في ذلك ، والذم ليس للخلافة نفسها بل لعدم الجري على مقتضاها حينئذ. قوله : ( وما(4/219)
ج4ص220
نكرة موصوفة الخ ) فما في محل نصب تمييز مفسر للضمير المستتر في بض وهذا مذهب الفارسيّ ، وخالفه غيره من النحاة فيه كما في فصل في النحو ، فقوله خلافة بالنصب تفسير لما وخلافتكم هو المخصوص بالذم. قوله : ( ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي الخ ( تركه الزمخشريّ لأنّ قوله خلفتموني يدل عليه ، والتأسيس خير من التأكيد وكون خلفتموني يدل على بعدية مطلقة ، وهذه خاصة قليل الجدوى. قوله : ( أو من بعد ما رأيتم مني من التوحيد ) فالبعدية بالنسبة إلى الأحوال التي كانوا عليها. قوله : ( والحمل عليه والكف عما ينافيه ) هذا ناظراً إلى كون الخطاب لهرون والمؤمنين ، وما عطف عليه ناظر إلى كونه للعبدة فلذا قالوا الظاهر عطفه بأو كما في الكشاف لكن المصنف رحمه الله لما رآه وجها واحداً صالحاً لكل لم يعطفه بأو ، وهو ظاهر فتدبر. قوله : ( أتركتموه غير تام الخ ا لما كان المعروف تعدى عجل بعن لا بنفسه لأنه يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تمّ عليه ، وأعجله عنه غيره جعلوه هنا مضمنا معنى سبق معدى تعديته وذهب يعقوب إلى أنه معنى حقيقيّ له من غير تضمين أي عجلتم عمأ أمركم به ، وهو انتظار موسى صلى الله عليه وسلم حال كونهم حافظين لعهده ، والسبق كناية عن الترك كما أشار إليه المصنف رحمه الله ولم يجعل ابتداء بمعناه لخفاء المناسبة بينهما ، وعدم حسنها والأمر على هذا واحد الأوامر وعلى
قوله : { مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ } [ سورة الأعراف ، الآية : 44 ] واحد الأمور ، وهو الفرق بينهما قال الطيبي رحمه الله وهذا الميعاد غير ميعاد الله موسى ستي في قوله : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً } [ سورة الأعراف ، الآية : 142 ] لضرب ميعاد موسى صلى الله عليه وسلم قبل مضيه إلى الطور ، لقوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } [ سورة الأعراف ، الآية : 142 ] وميعاد القوم عند مضيه لقوله : { بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } وسيأتي تفصيله عن قريب. قوله : ( طرحها من شدّة الغضب الخ ) في قوله حمية للدين اعتذار عما يتوهم من سوء الأدب ، وقوله روي الخ كذا في البغوي لكن هذا ينافي ما روي عن الربيع بن أن! رضي الله عنه إنّ التوراة نزلت سبعين وقرأ يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم الصلاة والسلام قال الطيبي رحمه الله : وهو من قلة ضبط الرواة في الإعصار الخالية ، ولذا قيل إنه ينافي قوله بعده أخذ الألواج فإنّ الظاهر منه العهد ، وأجيب بأنه رفع ما فيها من الخط دون ألواحها وقيل كان فيها إخبار عن المغيبات فرفع ذلك وبقي الأحكام والمواعظ والله أعلم بذلك ، ومثل هذا لا يقال بالرأي فلا وجه لما قيل من أن القرآن لا يدل عليه فلعل المراد وضعها على الأرض ليأخذ برأس أخيه. قوله : ( بشعر رأسه ا لأنه الذي يمسك ويؤخذ ، وهو لا ينافي أخذه بلحيته كما وقع في سورة طه أو أدخل فيه تغليباً ، وقوله يجرّه حال من موسى أو من رأس بتأويله بالعضو فلا يقال لا رابط فيه ، أو من أخيه لأنّ المضاف جزء منه وهو أحد ما يجوز فيه ذلك ، وقوله حمولاً لينا بيان لتحمله ما صدر منه ، وقوله أحب إلى بني إسرائيل أي من موسى صلى الله عليه وسلم وتركه هنا حسن. قوله : ) ذكر الأمّ ليرققه عليه ) أي ليحصل له رحمة ورقة قلب له وإلا فهما أخوان لأب وأمّ على الأصح ، وقيل ذكر أمه لأنها قامت في تربيته وتخليصه بأمور عظيمة فلذا نسبه إليها ، وفي ابن أثم هنا قرا آت وهي لغات فيه وفي ابن عم ، وقوله زيادة في التخفيف بالحذف والفتح وعلى ما بعده هي حركة بناء. قوله : ( إزاحة لتوهم التقصير ) بالنصب مفعول له أي قاله لذلك أو بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هذا إزاحة أي
إزالة. قوله : ( فلا ثفعل بي ما يشمتون بي لأجله الخ ) هذا على القراءة المشهورة بضم التاء وكسر الميم ، وإنما فسره به لأنه لم يقصد إشماتهم ، وإنما فعل ما يترتب عليه ذلك ، وهو مجاز أو كناية عما ذكر وقرئ بفتح التاء وضم الميم ، وهو كناية عن هذا المعنى أيضا على حد لا أرينك هاهنا والشماتة سرور الأعداء بما يصيب المرء. قوله : ( معدودا في عدادهم الخ ) فعلى الأوّل هو جعل حقيقيّ ، وعلى الثاني من الجعل في الظن والاعتقاد على طريقة وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا. قوله : ( إن فرط في كفهم ) أي قصر في منعهم وعدل عن قول الزمخشريّ : أن عسى فرّط لما فيه مما ليس هذا محله ، وقوله ترضية له أي طلبا لرضاه بتطييب خاطره ، ودفعا للشماتة بطلب(4/220)
ج4ص221
المرضاة وتلاتي ما فات ، وعد ما فرط منه كأنه ذنب لعدم استحقاقه وان كان ذلك ليس ممنوعاً عليه كما ذهب إليه القائلون بعدم العصمة. قوله : ( بمزيد الأنعام علينا ا لأن مقابلته بالمغفرة تدل على أنها رحمة إنعام لا عفو ، وترك المتعلق من المنعم به والدارين وجعل الرحمة محيطة بهم إحاطة الظرف لانغماسهم فيها يقتضي المزيد ، وقوله منا على أنفسنا لدخولهم في الراحمين دخولاً أوّليا وفيه إشارة إلى أنه استجاب دعاءه. قوله : ( وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم ) وصيغة الخطاب لأنه وقع ذلك ولا يتعين أن يكون حكاية لما قاله موسى صلى الله عليه وسلم كما قيل : وقوله وهي خروجهم من ديارهم فيكون مخصوصا بالذين أتخذوا العجل وعلى تفسيره بالجزية ، يكون المراد بالذين اتخذوا العجل قوم موسىء صلى الله عليه وسلم مطلقاً ليشمل أولادهم لأنّ الجزية لم تضرب عليهم إلا في الإسلام كذا قيل ، وهو مناف لقول المصنف رحمه الله إنّ بختنصر ضربها وكانوا يؤذونها للمجوس ، ويكون من تعيير الأبناء بما فعله الآباء ، ولذا فسره بعضهم ببني قريظة والنضير وفسر الغضب بالجلاء والذلة بالجزية. قوله : ( ولا فرية أعظم من فريتهم هذا الهكم واله موسى ) جملة هذا الهكم الخ تفسير لفريتهم أو معمول له لتضمينه معنى القول ونسبها لهم ، ولم يخصها بالسامري كما في الكشاف لمتابعتهم له ورضاهم بما فعل. قوله : ( من الكفر والععاصي ) عممه لعموم المغفرة ولأنه لا داعي للتخصيص ولذا فسر آمنوا بما يناسبه ، وقوله وما هو مقتضاه أدخله في الإيمان لأن تمام الإيمان
به وقيل إنه ذهب إلى تقديره لاقتضاء المقام له ، وقوله من بعد التوبة لم يقل والإيمان لأنّ التوبة لا تقبل بدونه ولم يجعله للسيئات لأنها لا حاجة له مع قوله : { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا } لا لأنه يحتاج إلى حذف مضاف ومعطوف أي من عملها ، والتوبة عنها لأنه لا معنى لكونها بعدها إلا ذلك وقوله ورمنوا سواء كان حالاً أو معطوفا من ذكر الخاص بعد العام للاعتناء به لأنّ التوبة عن الكفر هي الإيمان فلا يقال التوبة بعد الإيمان فكيف جاءت قبله. قوله : ( سكن وقد قرئ به ) قرأ به معاوية بن قرة والسكوت ، والسكات قطع الكلام وهو هنا استعارة بديعية ، وفي الكشاف هذا مثل كان الغضب كان يغريه على ما فعل ، ويقول له قل لقومك كذا و { أَلْقَى الألْوَاحَ } وجرّ برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك وقطع الإغراء ، ولم يستحسن هذه الكلمة ، ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة والا فما القراءة معاوية بن قرة ولما سكن عن موسى الغضب لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة ، وطرفا من تلك الروعة يعني أنه شبه الغضب بشخص آمرناه ، فهو استعارة مكنية ، وأثبت له السكوت على طريق التخييل ، وقال السكاكي إنه استعارة تبعية شبه سكون الغضب ، وذهاب حدته بسكوت الآمر الناهي والغضب قرينتها ، وقيل مراد الزمخشري تمثيل حال سكون الغضب بحال سكوت الناطق الآمر الناهي ، ومرجعه إلى كون الغضب استعارة بالكناية عن الشخص الناطق ، والسكون استعارة تصريحية لسكون هيجانه ، وغليانه فتكون مكنية قرينتها تصريحية لا تخييلية ، وبحتمل أن تكون تبعية بناء على جوازه عنده كما مرّ ، وقال الزجاج : مصدر سكت الغضب السكتة ومصدر سكت الرجل السكوت ، وهذا يقتضي أن يكون سكت الغضب فعلاً على حدته ، وقيل هذا من القلب ، وتقديره سكت موسى صلى الله عليه وسلم عن الغضب ، ولا وجه له وكلام المصنف رحمه الله محتمل لوجوه الاستعارة وقوله وقرئ سكت أي بمجهول مشدد للتعدية. قوله : ( التي ألقاها ) يعني أنّ تعويفه للعهد ، وهو ينافي الرواية السابقة ظاهراً في أنه رفع منها ستة كما ينافيه قوله من الألواح المنكسرة وتقدم جوابه. قوله : ( وفيما نسخ فيها الخ ) حاصله أنّ
نسخة فعله بمعنى مفعولة أي منسوخة ، والنسخ له في اللغة معنيان الكتابة والنقل فعلى الأوّل هو بمعنى المكتوب والإضافة بيانية ، أو على معنى في وعلى الثاني بمعنى لمنقول من الألواح المنكسرة ، وقيل معنى منسوخة ما نسخ فيها من اللوح المحفوظ ، ولفظ فعلة يجوز صرفه ، وعدمه على ما فصله الرضي والكلام في كونها علم جنس ، وتحقيقه مع ما فيه وعليه مفصل في العربية وقوله دخلت اللام الخ هذه لام التقوية الداخلة على المعمول المقدّم ومعمول الصفة القوعية في العمل ، أو هي للتعليل ومفعوله محذوف ، ومعنى(4/221)
ج4ص222
لربهم أي ليس لرياء وسمعة. قوله : ( فحذف الجار وأوصل الفعل ) وهو مسموع في اختار وأمر فصيح وهذا هو الظاهر ، وقيل إنه مفعول وسبعين بدل منه بدل بعض من كل ، والتقدير سبعين منهم ، وقيل عطف بيان. قوله : ( سبعين رجلاَ لميقاتنا ) اختلفت الرواية والمفسرون هنا في هذا الميقات هل هو ميقات ربه الذي واعده ، أو هو غيره وهو ميقات آخر للاعتذار عن عبادة العجل ، وأقوى ما يحتجون به أنه تعالى ذكر قصة الكلام وأتبعها قصة العجل ، ثم ذكر هذه القصة وذكر بعض قصة والانتقال منه إلى قصة أخرى ، ثم إتمام تلك القصة يوجب اضطرابا في الكلام ، وقيل عليه الخروج للاعتذار إن كان بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة فلا معنى للاعتذار ، دمان كان قبل قتلهم فأيّ وجه للاعتذار ، وثمرته القتل ولا ريب أنّ قصة واحدة تكرّر في القرآن فيئ سور لا مانع من تكرّرها في سورة واحدة ، وهو الظاهر الذي عليه كثير من شراح الكشاف ، والإمام ذهب إلى الأوّل وارتضاه وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله ، وقوله : وذهب مع الباقين أي موسى صلى الله عليه وسلم ، وقوله فتشاجروا أي تنازعوا وتضايقوا ، وقوله : غشيه أي عرض له ، وفسرت الرجفة بالصاعقة أي الصوت الشديد أو رجفة الجبل وزلزلته ، وأما قوله صعقوا فقيل معناه ماتوا من الصاعقة ، وقيل معناه غشي عليهم. قوله : ( تمنى هلاكهم وهلاكه الخ ) تستعمل لو للتمني وهل هو معنى وضمي لها أو مجازيّ ، وهي شرطية تدل على الامتناع والتمني في الممتنعات فتدل عليه بقرينة السياق والأكثر حينئذ أن لا يذكر لها جواب ، وذكر بعض النحاة أنه قد يذكر جوابها كما هنا والمصنف رحمه الله تبع الزمخشرفي في هذا ، وقيل عليه إنه ذهب إليه ليوافق ما أسس عليه مذهبه يعني في امتناع الرؤية ، وهو خلاف الظاهر لأنّ لو للامتناع وإنما يتولد معنى التمني إذا اقتضاه المقام ، والمقام هنا يقتضي أن لا يهلكهم حينئذ لقوله : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا كما
أشار إليه محيي السنة فلا وجه لما قيل إنه جعل المعنى على التمني لخلوّه بدونه عن الإفادة ، ولكن لا تجعل لو للتمني والا لم تحتج إلى الجواب بل بمعونة المقام ، ثم جعل ذلك على وجهين كون هلاكهم الذي تمناه بدون السبب ، وبالسبب ولا بأس فيه وقوله أو عنى معطوف على تمنى إذ المقصود به الترحم عليهم ليرحمهم الله كما رحمهم ، أو لا جريا على مقتضى كرمه ، وإنما قال : واياي تسليما منه وتواضعا. قوله : ( أو بسبب آخر ) عطف على ما قبله بحسب المعنى لأن محصلة تمنى هلاكهم بسبب محبة أن لا يرى ما رأى من مخالفتهم له ، ونحوه أو بسبب آخر فاندفع ما قيل إنّ أو لا يظهر صحة موقعه ، ولذا قيل قوله بسبب الخ متعلق بتمنى فعطفه على ما تبله باعتبار المعنى يعني تمنى ذلك بسبب ما رأى من الرجفة أو بسبب آخر مثل الجراءة على طلب الرؤية لقومه ، والمراد إهلاكهم جميعاً ولذا قال واياي بعد إهلاك خيارهم كما روي عن مقاتل رحمه الله فلا يرد ما قيل إنه يأباه قوله أتهلكنا الخ. قوله : ( وكان ذلك قاله بعضهم الخ ( قيل الداعي له على ذلك ما فيه من التضجر الذي لا يليق بمقام النبؤة ، ولكن لا يخفى أنه لا قرينة عليه مع أنّ ما قبله مقول موسى صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يكون على ظاهره وأن يكون بمعنى النفي أي ما تهلك من لم يذنب بذنب غيره ، وعن المبرد أنه سؤال استعطاف. قوله : ( وقيل المراد بما فعل السفهاء الخ ) يعني فعل السفهاء عبادة العجل ، والذين خاف هلاكهم من ذكر وهذا بناء على تعذد الميقات وعلى هذا فهو من قول موسى مجتيب أيضا ، وعن السدي أن السبعين ماتوا من تلك الرجفة ، وعن عليّ كرم الله وجهه أنّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبل فنام هرون فتوفاه الله فلما رجع موسى صلى الله عليه وسلم قالوا له قتلته فاختار سبعين منهم وذهبوا إلى هرون فأحياه الله ، وقال ما قتلني أحد فأخذتهم الرجفة هنال. توله : ( ابتلاؤك الخ ) قد مز أنّ هذا حقيقة الفتنة ، وقوله : فزاغوا أي مالوا عن عبادة الله تعالى إلى عبادة العجل ، وقوله : من تشاء ضلاله عدول عما في الكشاف من تأويله لأن الله لا يخلق الضلال القبيح عنده ، وقو!ه بالتجاوز عن حده ناظر إلى الطمع في الرؤية واتباع المخايل أي الظنون بما يظهر من العلامات من خوار العجل ناظر إلى توله أوجدت في العجل خوارا وهما أيضا ناظران إلى تفسير ما فعل السفهاء كما مرّ على اللف والنشر المرتب ، وقوله هداه إشارة إلى مفعوله المقدر(4/222)
ج4ص223
بقرينة المقام وضمير هي للفتنة المعلومة من السياق أي إن الفتنة إلا فتنتك وان نافية ، وقيل يعود على مسألة الإراءة المفهومة من قوله أرنا الله جهرة. قوله : ( القاذم بأمرنا ) تفسير للولي لأنه من يلي الأمور ويقوم بها ، ومن شأنه دفع الضر وجلب النفع فلذا فرّع عليه قوله فاغفر لنا الخ مع تقديم التخلية على التحلية ، وقوله : ( تنفر السيئة وتبدلها بالحسنة ) لأنّ من تمام العفو اتباعه بالإحسان ، وفسره به ليكون تذييلاً لاغفروا رحم معاً. قوله : ( حسن معيشة الخ ) يعني أنّ حسنة الدنيا شاملة للدين والدنيا ، وقوله الجنة تفسير لحسنة الآخرة لا للأخرة لأنه اكتفاء وتقديره ، وفي الآخرة حسنة وقوله : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } تعليل لطلب المغفرة والرحمة. قوله : ) من هاد يهود الخ ( قراءة العامة بضم الهاء من هاد يهود بمعنى رجع وتاب كما قال :
إني امرؤ مما جنيت هائد
ومن كلام بعضهم :
يا راكب الذنب هدهد وا.!جد!أنك هدهد
وقيل معناه مال ، وقرأ زيد بن عليّ وأبو وجرة هدنا بكسر الهاء من هاد يهيد بمعنى حرك وأجاز الزمخشريّ على الضم والكسر بناءه للفاعل والمفعول بمعنى ملنا أو أمالنا غيرنا أو حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا ، وقيل عليه إنه متى التب! وجب أن يؤتى بحركة تزيل اللبس فيقال عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط ، أو الإشمام إلا أن سيبويه جوّز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز وقد تابعه الزمخشرفي ، والمصنف رحمه الله فقوله ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل والمفعول أي هدنا بالكسر يحتملهما لاتحاد الصيغة وصحة المعنى وان اختلف التقدير ، وقوله : ) ويجوز أن يكون المضموم ( أي هدنا بضم الهاء كالمكسور مبنيا للمفعول منه أي من هاد يهيد ، وقوله : ) في الدنيا ) الإخراج رحمة الآخرة لأنها تخص المؤمنين ، وقو!ه من أشار قرئ أساء بالمهملة ونسبت هذه القراءة لزيد بن عليّ ، وقال الداني : إنّ هذه القراءة لم تصح ولهذا تركها المصنف رحمه الله. قوله : ( فسأثبتها في الآخرة أو فسثتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل ) بفتح السين للاستقبال والمراد إثباتها في الآخرة لمؤمني هذه الأمّة وغيرهم أو للتأكيد إن كان
المراد تقديرها وللاستقبال إن كان المراد إثباتها لمن آمن من بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وسلم فقوله : ( منكم يا بني إسرائيل ) متعلق بقوله للذين يتقون مقدم عليه ومن تبعيضية لا للبيان لأنهم بعض المخاطبين لا أنفسهم ، وهو حال! من الذين يتقون كما تاله النحرير : وقيل إنها بيانية ، وقوله : خصها بالذكر لإنافتها أي لعلوها وشرفها من ناف وأناف على الشيء أشرف عليه ، أو لأنها أشق فذكرها لئلا يفرطوا فيها والمراد بتخصيصها بالذكر أنه أفرد بالتصريح بها مع دخولها في التقوى ، وعلى تخصيص المصنف رحمه الله التقوى باتقاء الكفر والمعاصي إذا أريد بالمعاصي المنهيات من الأفعال دون التروك فالتخصيص على ظاهره ، دمان عم فالمراد ما مرّ وفي كونها منيفة على الصلاة التي هي عماد الدين نظر إلا أن يراد بالنسبة إلى المالية فتدبر. قوله : ( فلا يكفرون بشيء منها الخ ) عموم الآيات يفيده الجمع المضاف وقوله : ( فلا يكفرون بشيء منها ( تفسير له أو المراد ويدومون على الإيمان بعد إحداثه لا كقوم موسى صلى الله عليه وسلم فلذا عطفه بالفاء التفسيرية أو المعقبة للدوام على أصل الإيمان فلا يرد عليه أنّ حقه أن يعطف بالواو كما قيل ، وأما تقديم بآياتنا فهو يفيد اختصاص إيمانهم بجميع الآيات لأنّ بعض أمّة موسى ع! لم يؤمنوا ببعضها. قوله : ( مبتدأ خبره يأمرهم الخ ( في إعراب الذين وجوه الجرّ على أنه بدل من الذين يتقون أو نعت له ، والنصب على القطع والرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر أو على أنه مبتدأ خبره جملة يأمرهم كما قاله المصنف رحمه الله تبعا لأبي البقاء ، أو أولئك هم المفلحون ، وفيه بعد وأورد على الأوّل أنه من تتمة وصف الرسولءلمجي! أو معمول للوجدان فكيف يكون خبراً ، وليس بشيء لأنه ليس من تتمة إذا جعل خبرا ومعناه ظاهر ، نعم هو خلاف المتبادر من النظم وإذا كان بدل بعض فالذين يتقون عام ، وفيه ضمير مقدر أي منهم وإذا جعل بدل كل جعل الذين يتقون هؤلاء المعهودين ، وقوله : ( والمراد ) بيان لمحصل المعنى على الوجهين ويصح أن يكون(4/223)
ج4ص224
تفسيرا للذين يتقون الأوّل ومنهم إشارة إلى التقدير ، وللذين يتقون على الثاني ، ويأمرهم إن لم يكن خبراً فهو حال أو مستأنف ، وفيه وجوه أخر.
قوله : ) وإنما سماه رسولاً بالإضافة إلى الله الخ ( في الكشاف هنا تفسير الرسول بالذي يوحى إليه كتاب ، والنبيّ بالذي له معجزة فقال النحرير : هو إشارة إلى الفرق بين النبيئ والرسول بأن الرسول من يكون له كتاب خاص ، والنبيّ أعم وان كان مفهوم الرسالة أيضا أعم كالمرسل ، وفاقا بدليل إن إسماعيل ولوطا والياس ويونس عليهم الصلاة والسلام من المرسلين وليس لهم كتاب خاص ، ويعني أنّ الفرق المذكور مع تغاير المفهومين على كل حال من عرف الشرع والاستعمال وأما الوضع والحقيقة اللغوية فهما عامان ، وقد ورد في القرآن بالاستعمالين ، فلا تعارض بينهما ، ولا يرد أنّ ذكر النبيّ العام بعد الخاص لا يفيد والمعروف في مثله
العكس ، واندفع ما في الكشف من أن ما ذكره الكشاف غير سديد لأن أكثر الرسل لم يكونوا أصحاب كتاب مستقل كيف ، وقد نص تعالى على أنّ إسماعيل ولوطا والياس ويونس من المرسلين ولا كتاب لهم وكم وكم ، والتحقيق أن النبيّ هو الذي ينبىء عن ذاته وصفاته ، وما لا تستقل العقول بروايته ابتداء بلا واسطة بشر ، والرسول هو المأمور مع ذلك باصلاج النبوّة فالنبوّة نظر فيها إلى الأنباء عن الله تعالى ، والرسالة إلى المبعوث إليهم عكس ما ذكره المصنف رحمه الله والثاني ، دهان كان أخص وجود إلا أنهما مفهومان مفترقان ، ولهذا لم يكن رسولاً نبيا مثل إنسان حيوان اهـ ، والمصنف رحمه الله فرق بينهما بفرق آخر ، وهو أن الرسول من أرسله الله لتبليغ أحكامه والنبيّ من أنبأ الخلق عن الله فالأوّل يعتبر فيه الإضافة إلى الله ، ولذا قدم عليه لتقدّم إرسال الله له على تبليغه وشرفه ، والثاني يعتبر فيه الإضافة إلى الخلق فلذا أخر والنبيّ فعيل بمعنى اسم الفاعل ، ويشهد له أن الجاري في الاستعمال نبينا ورسول الله العكس قليل ، ولذا قيل إن المصنف أشار إلى أنهما هنا على معناهما اللغوي لإجرائهما على ذات واحدة كما إنهما كذلك في قوله : { وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا } [ سورة مريم ، الآية : 54 ] ولذا قال ثمة أرسله إلى الخلق فأنبأهم فلم يفرق بينهما ، ولما تعددت الذوات وقوبل بينهما في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } [ سورة الحج ، الآية : 52 ] في الحج احتاج إلى الفزق المشهور فقال الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبيّ يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق فلا يرد عليه النقض بإسماعيل صلى الله عليه وسلم ونحوه لحمله على معناه اللغوي وبهذا اندفع كل ما أوردوه هنا. قوله : ) الذي لا يكتب ولا يقرأ الخ ) كونه-لمجيه لا يكتب ولا يقرأ أمر مقرّر مشهور ، وهل صدر عنه ذلك في كتابة صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور أو أنه لم يكتب وإنما أسند إليه مجازاً ، وقيل إنه صدر منه ذلك على سبيل المعجزة وتفصيله في فتح الباري ، وهو نسبة إلى أفة العرب لأن الغالب عليهم كأن ذلك ، كما في الحديث : إ إنا أمّة أئية لا نكتب ولا نحسب " ) 1 ( ، وأما نسبته إلى أتم القرى فلأنّ أهلها كانوا كذلك أو إلى اً ته كاً نه على الحالة التي ولدته أقه عليها ، وقيل إنه منسوب إلى الأئم بفتح الهمزة بمعنى القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب ، ويؤيده قراءة يعقوب الأمي بفتح الهمزة وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضأ ، وقوله وصفه به الخ يعني أن هذه الصفة فيها مدح وعلؤ كعب لأنها معجزة كما في البردة كفاك بالعلم في الأقيّ معجزة كما أنّ صفة التكبر دته مادحة وفي غيره ذاتة.
قوله : ( ويحل لهم الطيبات الخ ) في تفسير الطيبات والخبائث قولان ، أحدهما أنها الأشياء التي يستطيبها ويستخبثها الطبع فتكون الآية دالة على أنّ الأصل في كل ما تستطيبه النفس ، ويستلذه الطبع الحل وفي كل ما يستخبثه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل ، والثاني ما طاب في حكم الشرع وما خبث فيه ، قيل ولا شك أنّ معناه حينئذ ما حكم الشرع بحله أو حكم بحرمته ، وحينئذ يرجع الكلام إلى أنه يحل ما يحكم بحله ويحرّم ما يحكم بحرمته ولا فائدة فيه وردّوه بأنه يفيد فائدة وأيّ فائدة لأنّ معناه أنّ الحل والحرمة يحكم الشرع لا بالعقل والرأي كتحريم بني إسرائيل للشحوم كما يشير إليه قوله مما حرّم عليهم كالشحوم ، قيل إنه قيده لاقتضاء التحليل سبق التحريم ، ولذا لم يفسره بما طاب في الشريعة كما في الكشاف ، وجوّز كون الخبائث(4/224)
ج4ص225
ما يستخبث طبعاً أو ما خبث فيها ، وجعل مثل الدم والربا مما حرّم لأنّ الأصل في الأشياء الحل ولا يرد عليه أحل الله البيع وحرّم الربا لأنه ردّ لقولهم : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } [ سورة البقرة ، الآية : 275 ] أو لأن المراد ابقاه على حله لمقابلته بتحريم الربا وبه اندفع ما مرّ من أنه لا فائدة فيه ، وقوله : ( كالدم الخ ) إشارة إلى القولين في الخبيث كما مرّ وفي قوله : { فَسَأَكْتُبُهَا } [ سورة الأعراف ، الآية : 156 ] تخلص حسن جداً كما في المثل السائر فانظره. قوله : ( ويخفف عنهم ما كلفوا به الخ ) يعني أن الوضع والإصر والأغلال كل منها استعارة لما ذكر ، ويصح جعل بعضها استعارة والآخر ترشيح ، والمجموع استعارة تمثيلية ولم يبين لكل مثالاً على حدة لأنه يصلح لكل منها ، والأصر الحمل والثقل وقرىء بالفتح على المصدر وبالضم على الجمعية وهو ظاهر ، وقرض! موضمع النجاسة قيل إنه من الثوب والبدن ، وقد أورد عليه أنه ينافي ما ذكره في قوله : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } من تفسيره بالعفو عن القصاص على طريقة الندب ، وجمع بأنه كان مأموراً به في الألواح أولاً ، ثم تعين عليهم القصاص تشديداً عليهم جزاء لما صدر عنهم والحراك بحاء مكسورة وراء مهملة الحركة. قوله : ( وعظموه بالتقوية ) هذا حقيقة معناه لغة قال الراغب : في مفرداته التعزير النصرة مع التعظيم والتعزير الذي هو دون الحد يرجع إليه لأنه تأديب والتأديب نصرة لأن أخلاق السوء عدو ، ولذا قال : في الحديث " انصر أخاك ظالماً أو مظلوما ققيل كيف أنصره ظالماً فقال ثكفه عن الظلم ) ) 1 ( ومن غفل عنه قال : وجه لتقييد التعظيم بالتقوية لأنّ كلاً منهما معنى مستقل له مع أنه يتكرّر مع قوله
نصروه وهو غفلة عن قول المصنف رحمه الله ونصروه لي أي قصدوا بنصره وجه الله واعلاء كلمته. قوله : ( أي مع نبوّته يعني القرآن ( أي المراد بالنور القرآن لأن حقيقة النور ومحصل معناه ما كان ظاهراً بنفسه مظهرا لغيره ، وهو كذلك لظهوره في نفسه بإعجازه واظهاره لغيره من الأحكام واثبات النبوّة فهو استعارة فإن فهمت فهو نور على نور وقدر نبوته لأنه لم ينزل معه ، وإنما أنزل مع جبريل عليه الصلاة والسلام فأشار إلى تقرير مضاف إذا تعلق بأنزل لأنّ استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعاً به ، فإن تعلق باتبعوا فالمعنى اتبعوا القرآن مع إتباع النبي ىكييه فيكون أمراً بالعمل بالكتاب والسنة ، أو هو حال أي اتبعوا القرآن مصاحبين له في إتباعه؟ وقيل مع بمعنى على وهو بعيد وجوز أن يكون حالاً مقدرة من نائب لاعل أنزل. قوله : ( ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلى الله عليه وسلم ) يعني من قوله قال عذابي إلى هنا وفيه طيّ لما في الكشاف من السؤال والجواب عن تطابقهما ، ودعاؤه قوله فاغفر الخ. قوله : ( الخطاب عامّ الخ ) إشارة إلى أنّ التعريف للاستغراق بدليل قوله جميعا ، وهو ردّ على اليهود ومن قال إنه مبعوث للعرب ولذا أدرج فيه الجن لأنّ المعنى للناس جميعا لا للعرب فلا ينافيه دخولهم وان قلنا بالمفهوم فتأفل ، وقوله حال من إليكم أي من الضمير المجرور قيل : ولا حاجة إلى ذكره ، ورذ بأنه دفع لتوهم أنه حال من الناس وقوله : ( إلى كافة الثقلين ( لا يرد عليه أن كافة يلزم نصبه على الحالية ، وغيره لحن لأنه غير مسلم كما فصلناه في شرح درة الغواص. قوله : ( صفة لله تعالى وإن حيل بينهما الخ ) ردّ على أبي البقاء رحمه الله إذ استضعف النعت ، والبدل بالفصل لأنه ليس بأجنبيّ ، ولأنه لكونه معمول المضاف إليه أي إلى الله وهو رسول المضاف في نية التقديم فكأنه لا فصل فيه ، وقيل : فيه إشارة إلى ترجيحه وان رجح الزمخشريّ خلافه لأنه أقحم معنى وأسهل لفظاً ، وجعله مبتدأ قيل هو مع ظهوره في المقام نبوة عنه. قوله : ( وهو على الوجوه الآول ) هي ما عدا كونه مبتدأ وكذا في الكشاف جعله بيانا للجملة قبله مع قوله إنه بدل من الصلة ، وفي الكشف فيه دلالة بينة على أنّ البدل يكون بياناً كما نص عليه سيبويه ، ووجه البيان أنّ من ملك العالم هو الإله فبينهما تلازم يصحح جعل الثانية مبينة للأولى والبيان ليس المراد به الإثبات بالدليل حتى يقال الظاهر العكس لأنّ الدليل على تفرده بالألوهية ملكه للسموات والأرض مع
أنه يصح أن يجعل دليلاً عليه أيضاً ، لأن الدليل على أنه المالك المتصرف فيهما وما فيهما انحصار الألوهية فيه إذ لو كان إله غيره لكان له ذلك وهو ظاهر ، وأما اعتراض أبي حبان(4/225)
ج4ص226
رحمه الله بأنّ الجمل التي لا محل لها من الإعراب لا يجري فيها تبعية الإبدال فليس بشيء لأنّ أهل المعاني ذكروه ، وأما تعريف التابع بكل ثان أعرب لإعراب سابقه فليس بلكيّ كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. قوله : ( مزيد تقرير لاختصاصه بالآلوهية ) قيل عليه منع ، وهو أنه إنما يدلّ على ثبوتها له تعالى لا على اختصاصها إلا أن يقال بناء على تقدير مبتدأ وافادته الحصر ، وليس بشيء لأنه لم يقل لا يحمص ويميت غيره. قوله : ( ما انزل عليه الخ ) وكأنه عبر عنها بالكلمات لأنها بالنسبة إلى ما لو كان البحر مدادا له لم تنفذ كلماته وقوله : أو عيسى صلى الله عليه وسلم هو على قراءة الوحدة وتسميته كلمة لأنه خلق بقوله : كن من غير نطفة ، والعدول عن التكلم حيث لم يقل فآمنوا بي لأنه قصد توصيفه بما ذكر والضمير لا يوصف وأجريت عليه الأوصاف التي تقتضي اتجاعه ، وفي الكشاف ولما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة ، وليعلم أنّ الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا المتصف بما ذكر كائنا من كان إظهارا للنصفة وتمادياً من العصبية لنفسه ، وقد أومأ إلى ذلك المصنف رحمه الله بقوله الداعية الخ فرآه مندرجا فيما ذكره ، ولو صرّج به لكان أولى. قوله : ( رجاء الاهتداء أثر الأمرين ) أي الإيمان بما ذكر واتباعه ، وخطط بالكسر جمع خطة بكسرها أيضا وهي المنزل والدار من قولهم اختلط الدار إذا ضرب حدودها وهذه خطة بني فلان وخططهم ، فقوله : في خطط الضلالة أي نازل ومتمكن فيها كما يقال هو في ضلال وفي هدى. توله : ( يهدون الناس محقين الخ ) يعني الجار والمجرور في محل نصب على الحالية والباء للملابسة ، أو لغو والباء للآلة ، وقوله : ( من أهل زمانه ) أي زمان موسى صلى الله عليه وسلم ، وتعارض! الخير والشر أي وقوع كل منهما مقابلا للأخر ، وقوله : وقيل قوم وراء الصين الخ أي من بني إسرائيل ، وفي الكشاف إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم
وبين إخوانهم ، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض ، فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين ، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا ، وذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ جبريل عليه الصلاة والسلام ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبريل عليه الصلاة والسلام : هل تعرفون من تكلمون قالوا لا قال هذا محمد النبي الأميّ فآمنوا به ، وقالوا : يا رسول الله إن موسى فئ أوصانا من أدرك منكم أحمد صلى الله عليه وسلم فليقرأ عليه مني السلام فردّ محمد على موسى عليهما السلام السلام ، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ، ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة ، وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم !ي!ه أن يجمعوا ويتركوا السبت ) 1 ( . قوله : ( وصيرناهم قطعاً متميزا بعضهم الخ ) جوّزوا في قطع أن يتعذى لواحد وأن يضمن معنى صير فيتعدى لإثنين فاثنتي عشرة حال أو مفعول ثان كما ذكره المصنف رحمه الله لكن تفسيره بهذا ظاهره أنه جار على الوجهين فقطعا حال أو مفعول ثان أيضا وتصريحه بالتصيير يابى الوجه الأوّل إلا أن يقال إنه إذا تعدى لواحد فيه معنى الصيرورة أيضا لأنه من لوازم التعدي ، أو اقتصر على أحد الوجهين في صدر الكلام لرجحانه عنده. قوله : ( وثأنيثه للحمل على الأمّة أو القطعة ( أي تأنيث اثنتي ومعدود مذكر وهو انسبط ، وما قبل الثلاثة يجري على أصل التأنيث والتذكير إما لأنّ بعده أمما فراعى تأنيثه أو لأنّ كل سبط قطعة منهم فأنث لتأنيث السبط به أو لتأويله بفرقة. قوله : ( بدل منه ولذلك جمع الخ ) قال ابن الحاجب : في شرح المفصل أسباطا منصوب على البدلية من اثنتي عشرة ولو كان تمييزاً لكانوا ستة وثلاثين على هذا النحو لأن مميز اثنتي عشرة واحد من اثنتي عشرة فإذا كان ثلاثة كانت الثلاثة واحداً من اثنتي عشرة فيكونون ستة وثلاثين قطعاً ، اهـ فهذا هو الذي جنح إليه المصنف وهو جار على الوجهين في قطعناهم والتمييز على هذا محذوف أي فرقة ، أو التقدير قرقا اثنتي عشرة فلا تمييز له ، والداعي لهذا أنّ(4/226)
ج4ص227
تمييز العدد المركب من أحد عشر إلى تسعة عشر مفرد منصوب وهذا جمع ، وقال : الحوفيّ إنّ صفة التمييز أقيمت مقامه وأصله فرقة أسباطا فليس جمعاً في الحقيقة. قوله : ( أو تمييز له على أن كل واحدة الخ ( يعني أنّ السبط مفرد بمعنى ولد كالحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استعمل في كل جماعة من بني إسرائيل بمعنى القبيلة في العرب تسمية لهم باسم أصلهم كتميم ، وقد يطلق على كل قبيلة منهم أسباط أيضاً كما غلب الأنصار على جمع مخصوص فيكون مفرداً تأويلا لأنه بمعنى الحيّ والقبيلة فلذا وقع موقع المفرد في التمييز كما يثني الجمع في نحو قوله :
بين رماحي مالك ونهشل
إذ عد كل طائف ونوع منها واحداً ، ثم ثناه كما يثنى المفرد وهذا بخلاف ثلثمائة سنين بالإضافة فإنه يتمّ المراد فيه بثلثمائة سنة ، وقرأ الأعمش وغيره عشرة بكسر الشين وروي عنه فتحها أيضا والكسر لغة تميم والسكون لغة الحجاز وقد تقدم. قوله : ( على الآوّل بدل بعد بدل الخ ) المراد بالأوّل كون أسباطا بدلاً فيكون بدلاً من اثنتي عشرة لأنه لا يبدل من البدل كما سيأتي ، أو نعته وعلى كونه تمييزاً يكون بدلاً منه ولا مانع من كونه نعتا أيضاً فانظر لم تركه المصنف. قوله : ( وحذفه للإيماء على أنّ موسى صلى الله عليه وسلم الخ ( ضمن الإيماء معنى الدلالة فعد 51 بعلى وهو كثيرا ما يتسامح في الصلات يعني أنّ هذه الفاء فصيحة وحذف المعطوف عليه لعدم الإلباس وللإشارة إلى سرعة الامتثال حتى كأن الإيحاء وضربه أمر واحد وانّ الإنجباس وهو انفجار الماء بأمر الله حتى كأن فعل موسى صلى الله عليه وسلم لا دخل له فيه ، وقد مرّ تحقيق الفاء الفصيحة في سورة البقرة ، وما ذكر من الإيماء قيل عليه إنّ الفاء التعقيبية تدل عليه ، وأجيب بأنّ الحذف أدلّ منها ، ووجهه أنه توهم أنّ الإنجباس اتصل بالأمر من غير فصل فتأمل. قوله. ( كل سبط ) أي قبيل كما مرّ واقتصر عليه لأنه الأشهر والأرجح عنده لشهرته ، وقد تقدم الكلام على أناس وأنّ فعالاً هل هو جمع أو اسم جمع ، وا! أهل اللغة يسمون اسم الجمع جمعا كما ذكره النحرير هنا وقدروا القول قبل كلوا للرّبط أي قلنا أو قائلين. قوله : ( سبق تفسيره الخ ) مرّ أن أصله فظلموا بأن كفروا بهذه النعم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بالكفر إذ لا يتخطاهم ، ومرّ الكلام عليه وفسر القرية ببيت المقدس وهو الراجح وقيل أريحاء وقيل قرية أخرى. قوله : ( غير أنّ قوله فكلوا الخ ) يعني أنّ القصة واحدة والتعبير فيها مختلف وله تفصيل في الكشاف ، يعني إذا تفرّع المسبب على السبب اجتمعا في الوجود فيصح الإتيان بالفاء والواو إلا أنه قيل الواو أدل على جودة ذهن السامع وأنه مستغن عن التصريح بالترتيب ، وفي اللباب
أتى بالفاء في البقرة لأنه قال : ادخلوا فحسن ذكر التعقيب معه ، وهنا قال : اسكنوا والسكنى أمر ممتد واكل معه لا بعده وذكر رغداً هناك لأنه في أوّل الدخول يكون ألذ وبعد السكنى واعتياده لا يكون كذلك وهو حسن جدا. قوله : ( وعد بالغفران أو الزيادة عليه بالإثابة ( إشارة إلى أن مفعول سنزيد محذوف تقديره ثوابا ، وقوله وإنما أخرج الثاني أي قوله سنزيد المحسنين وليس هذا غفولاً عن الواو والجامعة بينهما في البقرة الدالة على التشريك في المقابلة ، كما قيل ، لأن المراد أنّ امتثالهم جازاه الله بالغفران وزاد عليه ، وتلك الزيادة محض فضل منه فقد يدخل في الجزاء صورة لترتبه على فعلهم وقد يخرج عنه لأنه زيدة على ما استحقوه كما أنه إذا أقرض أحد عشرة فقضاه خمسة عشر فإنه يقال إنّ الخمسة عشر قضاء أو العشر قضاء والخمسة فضل واحسان ولذا قرئه بالسين الدالة على أنه وعد وتفضل ، وقد أشار إليه المصنف رحمه الله هناك أيضا فتدبر ، ثم إنه إن كان المراد بالاستئناف ترك مالعاطف فوجهه ما ذكر وان كان المراد رفعه ، وترك جزمه وتجريده من السين فلا يرد ما ذكر رأساً. قوله : ( مضى تفسيره فيها ( أي في البقرة وهو بدلوا بما أمروا به من التوبة والاستغفار طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا ، والرجز العذاب أو الطاعون وقد مرّ تحقيقه. قوله : ) واسألهم للتقرير والتقريع ) الضمير لمن بحضرة الرسول ع!ي! من نسلهم وهذا الفعل معطوف على اذكر المقدر عند قوله واذ قيل كما قاله الطيبي رحمه الله : والتقرير بمعنى الحمل على الإقرار سواء(4/227)
ج4ص228
كان بالاستفهام أو بنحو أسألكم عن كذا والمراد إعلامهم بذلك لأنهم كانوا يخفونه ، وقوله بتعليم أي ممن أسلم منهم ، أو وحي إن كان قبل إسلامهم أو المراد أنه لا يعلم إلا بتعليم أو بوحي ولا تعليم فتعين الوحي ، وقوله لتكون متعلق بالوحي وقوله معجزة عليهم أي شاهدة عليهم. قوله : ( عن خبرها وما وقع أهلها ( يعني السؤال عن حال القرية المراد بهما يعمّ السؤال عنها نفسها وعن الأهل أو هو إشارة إلى تقدير مضاف ويجوز فيه التحوّز وضمير يعدون للأهل المقدّر أو المعلوم من الكلام ، وقيل إنه استخدام. قوله : ( قريبة منه الخ ) فالمراد بالحضور القرب ، وقيل إنه من الحضارة أي أنها حضر معمور من بين قرىء ذلك البحر ، وقوله قرية بين مدين والطور تقدم تفسير مدين وطبرية
بالشأم ، وقوله بالصيد يوم السبت ظاهره إنّ السبت هنا اليوم لا المصدر كما في الكشاف. قوله : ( وإذ ظرف لكانت الخ ( المراد بالمضاف المقدر أهل وعلى البدلية فإن قيل إذ من الظروف المتصرفة فلا كلام فيه وإلا أشكل عليه أن البدل على نية تكرار العامل ، وهو لا يجرّ بعن فلا بد أن يكون هذا على القول الآخر وان لم يكن مرضيه سرد للأقوال والاحتمالات. قوله : ( ظرف ليعدون الخ ( جعله بدلاً بعد بدل لأنّ الإبدال من البدل فيه كلام سيأتي والإعداد إحضار العذة وتهيئتها ، وسبتت اليهود عظمت يوم السبت بترك العمل فيه ونحوه ، وقوله والإضافة أي إضافة سبت لضميرهم وشرّعا جمع شارع. قوله : ( ويؤيد الأوّل ) أي المصدرية أنه قرىء به من المزيد ولفظ قوله مرفوع أي يؤيده قوله لا يسبتون لأنّ النفي يقابل الإثبات ، وهو يوم السبت وأسبت بمعنى دخل في السبت كأصبح وقوله : ( لا يدخلون في السبت ( بالبناء للمجهول إشارة إلى أنّ الهمزة للتعدية فيه ، وما قيل إنه لم يثبت أسبته بمعنى أدخله في السبت لا وجه له مع القراءة به. قوله : ) مثل ذلك البلاء الخ ) يحتمل أنّ الإشارة إلى الامتلاء السابق أو المذكور بعده كما في قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [ سورة البقرة ، الآية : 143 ] كما مرّ وإذا كان متصلا بما قبله فالمعنى لا تأتيهم كذلك الإتيان في يوم السبت ووقع في نسخة بعده والباء متعلقة بيعدون وسقط من بعضها ، وكأنه جعل إذ يعدون متعلقا بنبلوهم وبما كانوا متعلقاً به والمعنى نبلوهم وقت التعدي بالفسق وليس هذا بمتعين ولذا اعترض عليه بأنه ما المانع من تعلقه بنبلوهم مع قربه والعدول عنه لا وجه له فتأمّل. قوله : ( عطف على إذ يعدون ) لا على إذ تأتيهم وان كان أقرب لفظا لأنه إتا ظرف أو بدل فيلزم أن يدخل هؤلاء في حكم أهل العدوان وليسوا كذلك ، قيل : أمّا على تقدير انتصابه فظاهر وأفا على تقدير ابداله فلأنّ البدل أقرب إلى الاستقلال وأيضا عطفه عليه يشعر أو يوهم أنّ القائلين من العادين في السبت لا من مطلق أهل القرية ، والظاهر أن وجهه أنّ زمان القول بعد زمان العدوان ومغاير له وأفا
كونه زماناً ممتداً كسنة يقع فيه ذلك كله فتكلف من غير مقتض والإيهام المذكور لا وجه له ولا يخص العطف مع أنه قول للمفسرين في الطائفة القائلة كما ستراه فتأمّل. قوله : ( مخترمهم ) أي مهلكهم ومستأصلهم من قولهم اخترمته المنية إذا قطعت حيانه وتقدير في الآخرة ، قالوا : إنه تخصيص من غير مخصص ، وبقية الآية تدل على خلافه وسننبهك عليه قريبا وعطف بعض أرباب الحواشي عليه قوله ، ومستأصلهم تفسيراً له لدفع توهم الإعتزال الذي قصده الزمخشريّ ، وقوله تقاول بينهم بالإضافة والتنوين أي الصلحاء الواعظين قالوه بعضهم لبعض أي لم تشتغلون بما لا يفيد أو قاله من انتهى عن الموعظة ليأسه لمن لم ينته منهم ، أو قاله المعتدون تهكما بالناصحين هم المخوّفين لهم بالنكال في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وحينئذ يكون قولهم ولعلهم يتقون التفاتا أو مشاكلة لتعبيرهم عن أنفسهم بقوم ، وأمّا لجعله باعتبار غير الطائفة القائلين وارعوى بمعنى انتهى ، وانكف ووجهه المبالغة أنه إذا لم يؤالاً عن السبب كان الظاهر لا تعظوا أو اتعظون فعدل عنه إلى السؤال عن سببه لاستغرابه لأنّ الأمر العجيب لا يدري سببه ، وان كان سؤالاً عن العلة فهو ظاهر. قوله : ( جواب للسؤال أي موعظتنا الخ ) إشارة إلى أنه خبر مبتدأ مقدر على قراءة الرفع وقراءة النصب إما على أنه مفعول لأجله أي وعظناهم لأجل المعذرة ، وعدّاه بإلى لتضمينه معنى الإنهاء والإبلاع أو مفعول مطلق لفعل مقدر أو مفعول به(4/228)
ج4ص229
للقول وهو وإن كان مفردا في معنى الجملة لأنه الكلام الذي يعتذر به ، والمعذرة في الأصل بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب ، وقال الأزهري إنه بمعنى الاعتذار ، وهو على القولين الأوّلين ظاهر ، وعلى الأخير قيل إنه من تلقى السائل بغير ما يترقب فهو من الأسلوب الحكيم ، وقوله : إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك أي اليأس المحقق فلا ينافي قوله : حتى أيسوا من اتعاظهم أو المراد حتى قاربوا اليأس كما يقال قد قامت الصلاة.
قوله : ( تركوا ترك الناسي ) يعني أنه مجاز عن الترك والظاهر منه أنه استعارة شبه الترك بالنسيان والجامع بينهما عدم المبالاة به أو هو مجاز مرسل لعلاقة السببية ، ولم يحمل على ظاهره لأنه غير واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه إنجاء الناهين إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزم تذكيرهم ، وما موصولة وجوّز فيها
المصدرية وهو خلاف الظاهر. قوله : ( فعيل من بؤس الخ ) البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أنّ البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية قاله الراغب : وفيه قراآت بلغت ستاً وعشرين فمنها بئيس بالهمز على وزن فعيل ومعناه شديد فهو وصف أو مصدر كالنكير وصف به ، ومنها بيئس بفتح الباء وسكون الياء التحتية المثناة والهمزة المفتوحة كضيغم وصيقل وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسما أو صفة كصقل وصيقل كما قاله المرزوقي : وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد ، ولذا قالوا في قراءة عاصم ، وفي رواية عنه بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويحققها أن المهموز أخو المعتل. قوله : ( وابن عامر بئس الخ ) فأصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة وقراءة نافع رحمه الله مخرجة على ذلك إلا أنه قلب الهمزة ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها أو هذان القراءتان مخرجتان على أن أصلها بئس التي هي فعل ذم جعلت اسماً كما في قيل وقال : والمعنى عذاب مذموم مكروه ، وقوله : كما قرىء الخ أي قرىء به بالكسر على الأصل وقوله أو على إنه راجع للقراءتين لا للثانية فقط وكان الظاهر جعله اسما فوصف به كما قيل وفيه نظر. قوله : ( وقرىء بيس كريس ) هذه قراءة نصر بن عاصم ولهما تخريجان أحدهما أنها من البوس بالواو وأصلها بيوس كميوت فاعل أعلاله ، والثاني ما ذكره المصنف رحمه الله ورش! ككيس سيد القوم ولذا يطلقه الناس على صاحب السفينة وأصله على ما قاله رشس لا رئيس كما يتبادر إلى الذهن لأنّ إعلاله أقيس وباض بزنة اسم الفاعل أي ذو بأس وشدة وقوله بسبب فسقهم إشارة إلى أنّ ما مصدرية فالفسق كما أنه سبب للابتلاء سبب للهلاك إذا أصر عليه ، أو المراد به إصرارهم على فسقهم أو مخالفتهم الأمر وعدم امتثال النصح. قوله : ( تكبروا عن ترك ما نهوا عنه الخ ) قدر المضاف أعني ترك إذا التكبر والإباء عن نفس المنهى عته لا يذم كما في قوله : { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أي عن امتثاله وهو مثال لتقدير المضاف مطلقا لاقتضاء المعنى له مع المناسبة بين الأمر والنهي وان لم تكن مقصودة بالذات. قوله : ( كقوله إنما قولنا لشيء الخ ) تقدم تفسيرها في البقرة ، وخسأ الكلب كمنع طرده والكلب بعد ، وقوله إنما قولنا الخ سيأتي في تفسير سورة
النحل يعني أنّ الأمر تكويني لا تكليفي لأنه ليس في وسعهم حتى يؤمروا به وفي الكلام استعارة تخييلية شبه تأثير قدرته تعالى في المراد من غير توقف ، ومن غير مزاولة عمل واستعمال آلة بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به من غير توقف وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله وسيأتي تحقيقه إن شاء اللّه. توله : ( والظاهر يقتضي أنّ الله تعالى الخ ) أي أوقع لهم نكالاً في الدنيا غير المسخ لكنه لم يبين وهذا يناسب أن لا يقيد العذاب الشديد بقوله في الآخرة كما نبهناك عليه ، وقوله : ( ويجورّ الخ ) فيكون العذاب البئيس هو المسخ ، وهذه الآية تفصيل لما قبلها ، وقوله مطروق أي جعل طريقاً يدخل منه وأنسباء كاصدقاء جمع نسيب وهو القريب ومسخ القلوب أن لا يوفقوا الفهم الحق. قوله : ( أي اعلم الخ ) معنى تأذن تفعل من الإذن وهو بمعنى آذن أي أعلم والتفعل يجيء بمعنى الأفعال كالتوعد والإبعاد. قوله : ( أو عزم لأنّ العازم الخ ) يعني أنه عبر به عن العزم لأنّ العازم على الأمر يشاور نفسه في الفعل(4/229)
ج4ص230
والترك ثم بجزم فهو يطلب من النفس الإذن فيه فجعل كناية عن العزم أو مجازاً عته ولما كان العازم جازما كان معنى عزم جزم ، وقضى فأفادا التأكيد فلذا أجرى مجرى القسم ، وأجيب بما يجاب به وهو قوله ليبعثن هنا ، وفي كلام عمر رضي الله عنه عزمت عليك لتفعلن كذا ، وقد صرّح به أهل اللغة والنحو فإن قلت مقتضى هذا أنه يصح أن يقالط عزم الله على كذا والظاهر خلافه ، وقد صرّح النحرير بمنعه في غير هذا المحل من شرح الكشاف ، قلت ليس الأمر كما ذكر فإنه ورد في حديث في صحيح مسلم رحمه الله وفي تهذيب الأزهري عن ابن شميل أنه ورد " عزمة من عزمات الله " ) 1 ( أي حق من حقوق الله وواجب مما أوجب الله. قوله : ( إلى آخر
الدهر ) هذا لا ينافيه نزول عيسى عليه الصلاة والسلام ورفع الجزية لأنه من أشراط الساعة الملحقة بأمور الآخرة وفسر العقاب بعقاب الدنيا لقوله سريع ، فإنّ ظاهره أنه عقاب عاجل لا آجل ، وقوله : { لِّمَن تَابَ وَآمَنَ } [ سورة طه ، الآية : 82 ] قيده به لاقتضاء المقام وليس على مذهب المعتزلة لأنه لم ينف العفو عمن لم يتب ، وقوله وقطعناهم الخ من مغيبات القرآن لأنهم كذلك لا ديار لهم ولا سلطان يخصهم ، والشوكة القوّة والقهر وقوله مفعول ثان أو حال إشارة إلى. القولين السابقين في كون قطع مضمنا معنى صبرا ولا لكن تفسيره بفرقناهم يناسب الحالية وقد مرّ مثله ، وقوله : ( بحيث لا يكاد الخ ) أخدّه من الأرض والتقطيع. قوله : ( صفة أو بدل منه الخ ) أي من أمما على الوجهين أما الوصفية فظاهرة ، وأما البدلية فقد خصها المعرب بالحالية وتكون هذه الجملة حالاً مبدلة من الحال أي حال كونهم منهم الصالحون ، وجوّزه غيره على المفعولية بجعل الجملة صفة موصوف مقدر هو البدل في الحقيقة أي قوما منهم الصالحون الخ والصالحون مبتدأ أو فاعل للظرف ، وقوله : ) وهم الذين آمنوا بالمدينة ) قيل إنه خلاف الظاهر لتفريع قوله فخلف من بعدهم خلف عليهم وضم المصنف رحمه الله إليه نظراءهم ليخف الإشكال ، وقيل هم الذين وراء الصين. قوله : ( تقديره ومنهم ناس دون ذلك الخ ) إشارة إلى القاعدة المشهورة بين النحاة وهو أنّ الموصوف بظرف أو جملة إنما يطرد حذفه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه كما في منا ظعن ومنا أقام ، وغيره ممنوع عندهم على المشهور ، فما قيل إنه شاع في الاستعمال وقوع المبتدأ والخبر ظرفين واستمرّ النحاة على جعل الأوّل خبرا والثاني مبتدأ بتقدير موصوف دون العكس ، وان كان أبعد من جهة المعنى والتأخير بالخبر أحرى وكأنهم يرون المصير إلى الحذف في أوانه أولى مخالف لما قرّروه لكن الذي جنح إليه أنّ مغزي المعنى يقتضي أنّ المتأخر خبر وهو الأصل إذ معنى منا ظعن بعضنا ظاعن وبعضنا مقيم ومحط النظر ، والمقصود بالإفادة الظعن والإقامة وليس القصد إلى أنّ الظاعن والمقيم محقق ولكن لم يعلم أنه منهم ، وقس عليه ما في النظم وهو كما قال لكن نور القوم أدق لأنّ محل الفائدة كونهم منقسمين إلى قسمين ، ويعينه مقابلته بقوله منهم الصالحون فإنه لا يصح فيه إن يكون الظرف صفة للمبتدأ لما فيه من الإخبار عن النكرة بالمعرفة أو تقدير المتعلق معرفة وكلاهما خلاف الظاهر فالمعنى أنّ هؤلاء منقسمون إلى قسمين ولا حاجة إلى ما اعتذر به فتدبره. قوله : ( منحطون عن الصلاح وهم كفرتهم وفسقتهم ) يعني أنّ المراد بدون من انحط
عنهم ولم يبلغ منزلتهم في الصلاح كما في قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } [ سورة آل عمران ، الآية : 18 ا ] كما قاله الراغب ومن فسره بغيره فقد تسمح فإن أريد بالصلاج الإيمان فمن دونهم الكفرة وان أريد ظاهره فهم الفسقة وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه أراد ما يشملهما وجعل ذلك إشارة إلى الصلاح لإفراده قيل ولا بد فيه من تقدير مضاف ، وهو أهل فإن أشير به إلى الصالحين لم يحتج إلى تقدير وقد ذكر النحويون أنّ اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع ، وقوله بالنعم والنقم لأنهما مما يختبر بهما ، وقوله ينتهون وقع في نسخة ينتبهون. قوله : ( مصدر نعت به الخ ) هذا هو الصحيح لأنه يوصف به المفرد وغيره ولذا رذ القول بأنه جمع ، وأمّا ردّه بأنه ليس من أبنية الجمع فغيروا رد لأنّ القائل بأنه جمع أراد أنه اسم جمع لأنّ أهل اللغة يسمون اسم الجمع جمعاً كما صرّح به ابن مالك في شرح الألفية ونقله النحرير وأمّا الخلف والخلف بالفتح والسكون هل هما بمعنى واحد أو بينهما فرق فقيل هما بمعنى ، وهو من يخلف(4/230)
ج4ص231
غيره صالحا كان أو طالحاً وقيل ساكن اللام يختص بالطالح ومفتوحها بالصالح ، وفي المثل سكت الفا ونطق خلفا ، ويؤيد الأوّل قوله :
وبقيت في خلف كجلد الاجرب
وقال بعض اللغويين : قد يجيء خلف بالسكون للصالح وخلف بالفتح لغيره ، وقال البصريون : يجوز التحريك والسكون في الرديء وأما الجيد فبالتحريك فقط ووافقهم أهل اللغة إلا الفراء وأبا عبيد ، واشتقاقه أما من الخلافة أو من الخلوف وهو الفساد والتغير ، وقالط أبو حاتم : الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد والجمع فيه سواء والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غريباً. قوله : ( والمراد به الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فلا يصح تفسير الصالحين بمن آمن به كما مرّ ، وقوله يقرؤونها الخ إشارة إلى أنّ الوراثة مجاز عن كونها في أيديهم واقفون عليها بعد آبائهم كما كان الإرث ، وقرأ الحسن ورثوا بالضم والتشديد مبنياً لما لم يسم فاعله. قوله : ( حطام هذا الشيء الأدنى الخ ) الحط م بالضم المتكسر من اليبس والمراد حقارته وعرضه للزوال فإن العرض! بفتح الراء ما لا ثبات له ومنه استعار المتكلمون العرض لمقابل الجوهر ، وقال أبو عبيد العرض! بالفتح جميع متاع الدنيا غير النقدين وبالسكون المال والقيم ، ومنه الدنيا عرض حاضر بأكل منها البر والفاجر وقدر موصوف الأدنى الشيء توجيهاً لتذكيره مع أن المراد به الدنيا ، وهو
والدنيا من الدنو لقربها بالنسبة إلى الآخرة وأما كونها من الدناءة ، فخلاف الظاهر لأنه مهموز ولذا تركه الجوهريّ وأخره المصنف رحمه الله والرشا بضم الراء وكسرها جمع رشوة وكون الجملة حالية ظاهر ويكفي مقارنته لبعض زمانه الوراثة لامتداده. قوله : ( وهو يحتمل العطف والحال الخ ) الثاني خلاف الظاهر لاحتياجه إلى تقدير مبتدأ من غير حاجة وذكر في نائب الفاعل وجهان ظاهر إن والأوّل أولى وأظهر. قوله : ( من الضمير في لنا الخ ) هكذا أعربها الزمخشرقي ولم يبين أنها حال من ضمير لنا أو يقولون فقيل مراده الثاني ، والقول بمعنى الاعتقاد والظن ، ولذا قال يرجون المعفرة مصرين وقيل إنما تاله للغرض الذي ذكره وهو أن الغفران شرطه التوبة وهو مذهب المعتزلة وأما أهل السنة فلا يشترطونها ولا يرد عليه أنّ جملة الشرط لا تقع حالاً لأنّ ذلك جائز كما قاله السفاقسي ، والظاهر أنّ هذه الجملة مستأنفة ( قلت ) وان كانت نزغة اعتزالية لكن الحالية أبلغ لأنّ رجاءهم المغفرة في حال يضاذها أوفق بالإنكار عليهم ، واعترض! على المصنف رحمه الله بأنّ الظاهر أنه حال من فاعل يقولون كما يدل عليه سياق كلامه وسيجيء في الكشاف ما يقرب منه في قوله تعالى في التوبة { وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ سورة التوبة ، الآية : 42 ] ولم يتابعه المصنف رحمه الله هناك ، ورذ بأنّ تقييد القول بذلك لا يستلزم تقييد المغفرة به ، والمطلوب الثاني لأنه يحتمل حينئذ أن يقولوا ذلك حال أخذهم الرشا إذا ظفروا به ويكون اعتبارهم الغفران وبتهم به بشرط الرجوع والإنابة بخلاف ما إذا كان حالأ من ضمير لنا فإنّ المعنى حينئذ يجزمون بمغفرتهم مع عدم التوبة وفي نظر فتأمل. قوله : ) يرجون المغفرة ( قيل ليس المراد بالرجاء ما يحتمل عدم الوقوع فإنهم يقطعون بالمغفرة لما سيصرّح به قريبا ، وقوله مصرين بيان للحال والجملة الحالية من كلام الله لا من المحكيّ ، حتى يؤوّل ضمير يأتهم بالغيبة كما قيل. قوله : ( أي في الكتاب ) هو أما بيان لحاصل المعنى ، والإضافة اختصاصية على معنى اللام أو إشارة كما قاله الطيبي رحمه الله إلى أنّ الإضافة على معنى في أي الميثاق المذكور في الكتاب. قوله : ( عطف بيان للميثاق الخ ) وقيل إنه بدل منه وقيل إنه مفعول لأجله وأن مصدرية ، وقيل مفسرة لميثاق الكتاب لأنه بمعنى القول ولا ناهية جازمة وعلى الأوّل هي نافية. قوله : ) أو متعلق به ) أي يقدر قبله حرف جر هو متعلق بالميثاق لأنه عهد به لهم ، وقوله والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة أي القطع بها هذا رذ على الزمخشري في جعله معتقد اليهود مذهب أهل السنة فإنهم لا يجزمون بالمغفرة للمطيع فضلأ عن العاصي ، بل يجوّزون تعذيب المطيع كمغفرة العاصي المصر ولو أنصف لكان مدّهبه في البت بمغفرة التائب أقرب إلى مذهبهم ، وهو من
التعصب الذي حمله على التعسف بأمثاله والتجائه إلى نقل من التوراة لم يثبت مع أنه منسوخ محرف أو مخصوص بهم لو ثبت ولذا(4/231)
ج4ص232
تركنا تفصيله لما فيه ، وقوله والمراد توبيخهم إشارة إلى أنه ناظراً إلى مقولهم هذا قيل والحق أنه ناظر إليه والى قوله : ( يأخذون عرض ) الخ ، وقوله : ( والدلالة ( بالرفع معطوف على توبيخهم ، وقوله البت بالمغفرة هو الداعي إلى تاويل الر-بء بما تقدم ، وهو يقتضي اًن السين للاستقبال مع التأكيد وعلى كل حال ففي المقام كدر ما فتدبر. قوله : ( من حيث المعنى ( وان اختلفا خبراً وإنشاء إذ المعنى أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا وجوّز بعضهم كونه معطوفا على لم يؤخذ ودخول الاستفهام عليهما ، وهو خلاف الظاهر وان عطف على ورثوا فجملة ألم يؤخذ معترضة وما قبلها حالية وجعل بعضهم المجموع معترضاً ولا مانع منه وقيل إنها حال بإضمار قد ، وقد قرأ الجحدري أن لا تقولوا بالخطاب على الالتفات وقرأ عليّ والسلمي اذارسوا بتشديد الدال ، وأصله تدارسوا فصرف كتصريف ادارأتم كما مرّ ، وقوله مما يأخذ هؤلاء أي من عرض الدنيا السابق. قوله : ( فيعلموا ذلك ( تفريع أو تفسير كما مز نظيره ، وقوله على التلوين أي تلوين الخطاب وهو جعله لونا بعد لون والمراد الالتفات ، وإن كان التلوين أعم منه كما يعلم من شرح المفتاح قيل هذا على تقدير كون الخطاب للمأخوذ عليهم الميثاق فلو كان للمؤمنين فلا التفات فيه ، ولك أن تقول إنه المراد بالتلوين ، وقوله اعتراض والاعتراض قد يقترن بالفاء نحو :
فاعلم فعلم المرء ينفعه
وكذا قوله أنا لا نضيع الخ كما في الكشاف قيل وهو مبني على أنّ الاعتراض يكون في
آخر الكلام وفيه نظر. قوله : ) على تقدير منهم الخ ( وقيل الرابط العموم الذي فيه وقيل أل عوض عن الضمير وأصله مصلحيهم وقوله تنبيها على أنّ الإصلاج كالمانع من التضييع لاًق التعليق بالمشتق يفيد علة مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل لا نضيع أرجهم لإصلاحهم ، وقوله وإفراد الإقامة أي تخصيصها بالتصريح بها مع دخولها في التمسك بالكتاب لانافتها أي لثرفها لأنها عماد الدين ، وقيل إنّ خبر المبتدأ محذوف كمأجورون ونحوه. قوله : ( قلعناه ورفعناه الخ ) إذا
كان معناه الجذب كما قاله المصنف رحمه الله يضمن معنى الرفع ، وأما القلع فإنه من لوازمه ليطابق قوله ورفعنا فوقهم الطور ، واختلفت عبارات أهل اللغة فيه ففسره بعضهم بالقلع وبعضهم بالجذب وبعضهم بالرفع وعليه فلا حاجة إلى التضمين ، وقوله سقيفة سره به مع أنه كل ما علا وأظل لأجل حرف التشبيه إذ لولاه لم يكن لدخولها وجه ، وفسر الظن باليقين لأنه لا يثبت في الجوّ ، وقيل إنه على أصله وهو المناسب لقوله لأنه لم يقع متعلقه لأنه إذا لم يقع متعلقه كيف يتحقق التيقن ، ولذا قيل مراده باليقين الاعتقاد الراجح الذي يكاد أن يكون جازما وهو الظاهر كما قال العلامة : قال المفسرون معناه علموا وتيقنوا ، وقال أهل المعاني قوي في نفوسهم أنه واقع بهم إن خالفوا ، وهذا هو الأظهر في معنى الظن وسيأتي ما فيه ، وقوله : ( ساقط عليهم ) إشارة إلى أنّ الباء بمعنى على كما في أن تأمنه بقنطار وهو أحد معانيها وقوله : لأنهم كانوا يوعدون به أي بشرط عدم القبول كما سيصرّج به فسقط ما قيل إنّ المنقول في القصة إن تبلتم ما فيها والا ليقعن عليكم لا يقتضي تيقنهم بوقوع الجبل عليهم لإمكان خلافه بالقبول ، وكذا عدم ثبوت الجبل في الجؤ لا يقتضيه لأنه على جري العادة وأما على خرقها فلا بعد فيه كرفعه فوقهم ووقوفه فيه وقد ردّ بأن المتيقن لهم وقوع الجبل عليهم إن لم يقبلوا ما في التوراة لكونه معلقا عليه ، ولا يقدح فيه عدم وقوعه إذا قبلوا ، ولاحتمال ثبوته على خرق العادة ألا ترى إلى أنه يتيقن احتراق ما وقع في النار مع إمكان عدمه كما في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. قوله : ( وإنما أطلق الظن الخ ) أي المراد هنا اليقين أي الاعتقاد الجازم بأنهم إن لم يقبلوا وقع ، وهو لا يقتضي الوقوع بدون شرطه فلم سمي ظناً أجاب عنه بأنه لما لم يكن متعلقه أي مفعوله واقعاً لعدم شرطه أشبه المظنون الذي قد يتخلف فسمي ظناً ، والا فهو يقين لإخبار الصادق الذي لا يتخلف ما أخبر به ، والعجب ممن قال : بعدما حقق ما سمعته فيه إنه حينئذ يكون جهلاً لا يقيناً ، وبهذا عرفت أن كلام المصنف رحمه الله لا غبار عليه ، وأنّ تأويله الظن باليقين لا يرد عليه شيء مما مرّ ، فإن قلت كلام المصنف رحمه الله لا يخلو من إشكال لأنه فسر الظن باليقين وعلله بأنه لم يقع متعلقه أي ما علق عليه الوقوع ، وهو عدم قبول أحكام التوراة فإذا لم يقبلوها وقع عليهم قلت تيقنهم ذلك بناء(4/232)
ج4ص233
على ما شاهدوه وعلى ما في أنفسهم من عدم القدرة على القبول فلما كبر عليهم ذلك قبلوه وسجدوا على جباههم ، وأخذوا ذلك كما رواه ابن حبان فانّ الجبل لم يقع عليهم ، وعلى تقدير قائلين قبل خذوا فهو حال وهذا التقدير لا بدّ منه ليرتبط النظم ، وقوله حال بتأويل مجدين. قوله : ( بالعمل به ) يعني أن الذكر
كناية عزا العمل به أو مجاز وهو ظاهر قوله كالمنسيّ وليى إشارة إلى أنه يجوز حمله على حقيقته كما قيل ، وقوله قبائح الأعمال إشارة إلى مفعوله المقدر. قوله : ( أي أخرج الخ ) أي أنّ الكلام محمول على ما يتبادر منه وأخذ استعارة بمعنى أخرج وأوجد لأنّ الأخذ لشيء يخرجه من مقرّه ، وقوله بدل البعض هو أحسن من جعله بدل اشتمال ورجحه السفاقسيّ ، وفيه نظر. قوله : ( ونصب لهم دلائل ربوبيتة الخ ) يعني أنه استعارة تمثيلية شبه فيها مركب بمركب ، وعدل عن قول الزمخشريّ إنه من باب التمثب ل والتخييل لأنه ربما ينوهم منه أنّ فيه استعارة تخييلية ، وليى كذلك لا لما قيل إنّ إطلاق التمثيل على كلامه تعالى جائز ، وأما إطلاق التخييل فغير جائز لأنّ كلام الله وارد على أساليب كلام العرب فلا مغ في إجرائه مجرى كلامهم حتى يطلق عليه مثله كالإلتفات ونحوه مما منعه بعض الظاهرية والمراد بالتخييل الإيقاع في الخيال وتصوير المعقول بصورة المحسوس لأنّ ألف العامّة بالمحسوس أتم وأكمل ، وإدراكهم له أعمّ وأشمل وقد تبع في كونه تمثيلاً الزمخشرفي وغيره ، واعلم أنّ ما ذكره الزمخشري هنا معناه أنه شبه من أوح الله فيه عقلا يدرك به ما نصب لهم من دلائل هديهم للإيمان به بذوات ذراريهم التي أشهدها على أنفسها فأقرّت إلا أنّ المعتزلة يشترطون في الإدراك البنية ، كما نقله ابن المنير في تفسيره فالمشبه أمر محقق والمشبه به أمر مفروض متخيل لا حقيقة له في الخارج فهو من قبيل ما يحكى عن الحيوان والجماد عليه قوله تعالى : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ سورة فصلت ، الآية : 11 ، ولذا جعله تخييلا وليس المراد به الاستعارة التخييلية المشهورة فإن قلت كل الناس يصدق عليهم بنو آدم وذريته فمن المخرج والمخرج منه والكل واحد ، قلت هذا مما استشكلوه والزمخشريّ تخلص منه بحمل بني آدم على قدماء اليهود القائلين عزيز ابن الله ، والذرّية على المعاصرين للنبيّ ىلمجي!ه كما في البحر الكبير. قوله : ( ويدل عليه قوله قالوا بلى الخ ) أي يدل على أنه تمثيل لا على ظاهره بقية الآية من هنا إلى آخرها لأنه لو أريد حقيقة الإشهاد والاعترات ، وقد أنساهم الله تلك الحالة بحكمته لم يصح أن يقولوا يوم القيامة { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } ويلي جواب ألست قال ابن عباس رضي الله عنهما لو قالوا نعم لكفروا لأن النفي إذا أجيب بنعم كان تصديقا له فكأنهم قالوا : ألست بربنا ، وتيل عليه إن صح ذلك عنه ففيه أنّ النفي صار إثباتا في تقدير التقرير فكيف يكون كفراً ، وإنما المانع من جهة اللغة وهو أن النفي إذا قصد إيجابه أجيب ببلى ، وإن كان مقرّرا بسبب دخول الاستفهام عليه تغليبا لجانب اللفظ ، ولا
يراعى المعنى إلا شذوذا كقوله :
أليس الليل يجمع أمّ عمرو وءا!انا فذاك بنا!ل انى
نعم وأرى الهلال كما تراه ويعلوها النهاركما علانى
فأجاب أليس بنعم مراعاة للمعنى لأنه إيجاب وفيه نظر ، وقوله شهدنا من كلام الئبما فضميرنا لله أو من كلام الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو من كلام الذرية. قوله : ( كراهة أن تقولوا ) هذا تأويل البصريين في مثله ، والكوفيون يقدرون فيه لا النافية أي لئلا تقولوا أي هو مفعول لأجله وعامله أشهدهم أو مقدّر يدل عليه ، وقوله لم ننبه بصيغة المجهول تفسير للغفلة ، وقراءة أبي عمرو بالغيبة لقوله أشهدهم وقراءة الخطاب لهم لقوله ربكم. قوله : ( لأنّ التقليد عند قيام الدليل الخ ) تعليل لمضمون الكلام ، وما فهم منه أي كره ذلك ولم يقبله لأنّ تقليد الآباء الخ وقوله المبطلين صفة آباءهم وفي بعض النسخ بالرفع على القطع. قوله : ( وقيل لما خلق الله آدم الخ ) هذا حديث صحيح أخرجه مالك في الموطأ وكثير من المحدثين عن مسلم بن يسار أنّ عمر رضي الله عنه سأل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عنها فقال : " إنّ الله تعالى خلق آدم ثم مح ظهره بيمينه فاستخرج منه رية فقال خلقت هؤلاء للجنة(4/233)
ج4ص234
وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار ، ويعمل أهل النار يعملون فقال ائرجل يا رسول الله ففيم العمل فقال إنّ الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة ، وإذا خلق الله العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار " ( 1 ( وللمفسرين والمحدثين ومثايخ الصوفية هنا كلام طويل الذيل ، والحديث ناطق بأنّ هذا معنى الآية لأنه ساقه مساق التفسير لها واطباق المعتزلة على أنّ القرآن لا يفسر بالحديث مخالف لإجماع من يعتد به ، وكذا قول الإمام إنّ ظاهر الآية يدل على إخراج الذرّية من ظهر بني آدم
وليس فيها ما يدل على أنهم أخرجوا من صلب آدم ، ولا ما يدل على نفيه إلا أنّ الخبر دل عليه فيثبت خروجهم من آدم بالحديث ، ومن بني آدم بالآية لا يطابق سياق الحديث مع جواز أن يراد ببني آدم هذا النوع الشامل لآدم عليه الصلاة والسلام كما هو مشهور في الاستعمال ، ولذا قيل : الواجب على المفسر أن لا يفسر القرآن برأيه إذا وجد النقل عن السلف فكيف بالنص القاطع من حضرة الرسالة فإنّ الصحابيّ سأله عما أشكل عليه من معنى الآية وكذا فهم الفاروق رضي الله عنه ، وقال الكسائيّ : لم يذكر ظهر آدم لأنّ الله أخرج بعضهم من بعض على الترتيب في التوالد ، واستغنى عن ذكر آدم عليه الصلاة والسلام لعلمه ، وأما قولهم إنّ هذا الإقرار عن اضطرار فيلزم أن لا يكونوا محجوجين يوم القيامة فدفع بأنهم قالوا شهدنا يومئذ فلما زال العلم الضرورفي ، ووكلوا إلى رأيهم نصبت الأدلة وأرسلت الرسل ليتيقظوا عن سنة الغفلة ، ولا يغيب عنهم ما أخذ عليهم من العهد فإن قالوا أيدنا يوم الإقرار بالتوفيق والعصمة ، وحرمناهما بعده فمشترك الإلزام لأنه إذا قيل لهم ألم نمنحكم إ أحقول والبصائر لهم أن يقولوا حرمنا اللطف والتوفيق ، فأفي منفعة لنا بذلك وبهذا سقط ما تشبث به بعض شراح المصابيح هنا ، وأما كيفية هذا الإخراج وأنه من المسامّ وأنّ الله خلق فيهم عقلا كنملة سليمان صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك مما يسأل عنه فالحق أنه من العلوم المسكوت عنها المحتاجة إلى كشف الغطاء ، وفيض العطاء وأنشد هنا بعض العارفين :
لويسمعون كما سمعت كلامها حض والعزة ركعا وسجودا
وقال الإمام السهروردفي في عوارف المعارف قيل لما خاطب الله السماوات والأرض بقوله : { اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ سورة فصلت ، الآية : 111 نطق من الأرض وأجاب موضع الكعبة ومن السماء ما يحاذيها ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرّة الأرض بمكة فقال بعض العلماء وهذا يشعر بأنّ أوّل ما أجاب من الأرض ذرّة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن موضع الكعبة دحيت الأرض! فصار رسول الله لمجي! هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له والى هذا أشار رسول الله مجخي! بقوله : " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " ) 1 ( وفي رواية بين : " الروح والجسد " ) 2 ( وقيل بذلك سمي أمّيا لأنّ مكة أمّ القرى ،
وذرّته أمّ الخليقة وتربة الشخص مدفنه ، وكان يقتضي ذلك أن يكون مدفنه ئيخير بمكة حيث كانت تربته منها ، ولكن قيل الماء لما تموّج رمي الزبد إلى النواحي فوقعت جوهرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ما يحاذي تربته بالمدينة ، والإشارة إلى ما ذكرناه من ذرّة رسول الله عقرو هو ما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } [ سورة الأعراف ، الآية : 172 ] ، الآية وورد في الحديث : " إنّ الله تعالى مسح ظهر آئم وأخرج ذزيته منه كهيئة دز واستخرج الذز من مسام الشعر فخرج الذر كخروج العرق " ( 1 ( وقيل كان المسح من بعض الملائكة عليهم الصلاة والسلام فأضاف الفعل إلى المسبب ، وقيل معنى القول بأنه مسح إنه أحصى كما تحصى الأرض المساحة وكان ببطن نعمان واذ بجنب عرفة بين مكة والطائف فلما خاطب الذر وأجابوا ببلى كتب العهد في رق أبيض ، وأشهد عليه الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، وألقم الحجر الأسود فكانت ذرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المجيبة من الأرض اهـ. قوله : ( وتد حققت الكلام فيه في شرحي لكتاب المصابيح ) قال فيه وظاهر الحديث لا يساعد ظاهر الآية فإنه تعالى(4/234)
ج4ص235
لو أراد أن يذكر أنّ استخراج الذرّية من صلب آدم دفعة واحدة لا على توليد بعضهم من بعض على مرّ الزمان لقال وإذ أخذ ربك من ظهر آم ذرّيته ، والتوفيق بينهما أن يقال المراد من بني آدم في الآية آدم ك! وأولاده فكانه صار اسماً للنوع كالإنسان والبشر ، والمراد من الإخراج توليد بعضهم من بعض على مرّ الزمان ، واقتصر في الحديث على ذكر آدم صلى الله عليه وسلم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع ا هـ ، وقد علم ما فيه مما مرّ. قوله : ( والمقصود من إيراد هذا الكلام الخ ) يشير إلى الردّ على الزمخشرقي إذ خصه ببني إسرائيل فإن حمله على العموم أكثر فائدة ، ويكفي دخولهم في العموم دخولاً أوّليا ومبناه على التمثيل الذي اختاره تبعا للزمخشريّ ، وجزم به في شرح المصابيح وقوله : { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } معطوف على مقدر أي ليظهر الحق ، ولعلهم الخ وقيل الواو زائدة. توله : ( هو أحد علماء بني إسرائيل الخ ( وهو بلعام بن باعوراء أيضا فإنه من بني إسرائيل في رواية ابن عباس رضي الله عنهما ، وفي رواية غيره إنه من الكنعانيين. قوله : ( أو أمية الخ ) هو عبد الفه بن أبي
ربيعة بن عوف الثقفيّ شاعر جاهلي كان أوّل أمره على الإيمان ، ثم أضله الله تعالى لأنه كان يظن أنه يبعث إليه وقال ابن كثير رحمه الله إنه لقي النبيّ لمجيرو ولم يؤمن به ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :
إنّ يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الوليد يوماثقيلا
قال آمن شعره وكفر قلبه ، وقوله : ( أوتي علم بعض كتب الله ( أو الاسم الأعظم. قوله :
( أن يكون هو ) أي أن يكون هو ذلك الرسول ، فخبر كان محذوف أو استعير الضمير المرفوع للمنصوب ، وحقيقة السلخ كشط الجلد وازالته بالكلية عن المسلوخ عنه ، ويقال لكل شيء فارق شيئاً بالكلية انسلخ منه كما قال الإمام. قوله : ( حتى لحقه وقيل استتبعه ( قال الجوهرقي ، وأتبعت القوم على أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم ، وقال الراغب يقال أتبعه إذا لحقه ، وكذا فسره به الزمخشرقي وعدل عنه المصنف رحمه الله فقيل إنه ذهب إلى أن أتبع بمعنى تبع لكنه اعتبر فيه معنى اللحوق فهو ردّ لتفسيره بنفس اللحوق من غير اعتبار معنى آخر ولا يخفى ما فيه ، واستتبعه بمعنى جعله تابعا له قيل وهو على هذا هو متعد لمفعولين حذف ثانيهما ، وقدره في الكشاف خطواته لأنه صرّج به في غير هذه الآية ، وفي الكشف في كونه بمعنى اللحوق كأنّ المعنى فجعلتهم تابعين لي بعدما كنت تابعاً لهم مبالغة في اللحوق ، وهو بمعنى قوله في البحر فيه مبالغة إذ جعل كأنه إمام للشيطان يتبعه فتأمّل فلا يرد عليه ما قيل فيه بحث ، والظاهر أنّ المعنى أنّ الشيطان كان وراءه طالباً لإضلاله ، وهو لسبقه بالإيمان والطاعة لا يدركه ، ثم لما انسلخ من الآيات أدركه. قوله : ( روي أنّ قومه سألوه الخ ) وتتمته كما قال الإمام أنه قصد بلدة وغزاهم وكانوا كفاراً فطلبوا منه الدعاء عليه وألحوا عليه حتى دعا عليه فاستجيب له ، ووقع موسى صلى الله عليه وسلم وبنو إسرائيل في التيه بدعائه ، فقال موسى-شي! يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه فقال : بدعاء بلعم فقال : كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه ثم دعا موسى ش!م عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان ، ولذا رذ القول بأنّ بلعم كان نبياً ، وقيل إنه لا ينبغي التفوّه به لأنه لا يجوز عليهم الكفر بعد البعثة عند أحد من العقلاء وقوله إلى منازل الأبرار إشارة إلى أنه رفع رتبة وضمير رفعناه للذي ، وقيل إنه للكفر أي لا زلنا الكفر بالآيات فالرفع من قولهم رفع الظالم عنا وهو خلاف الظاهر وإن روي عن مجاهد وحمه الله. قوله : ( بسبب تلك الآيات ( أي الباء سببية والضمير المجرور للآيات لا للمعصية كما قيل ، وقوله
وملازمتها بيان للمراد من الرفع بالايات بأنه بملازمتها أي العمل بما فيها. قوله : ( مال إلى الدنيا ) تفسير للإخلاد بالميل لأنّ أصل معناه السكنى واللزوم للمكان من الخلود قال ابن نويرة : بأبناء حيئ من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخددوا
ولما في اللزوم من الميل إلى المنزل أريد منه ، وقال الراغب : معناه ركن إليها ظاناً أنه مخلد فيها ، وقوله أو إلى السفالة ، يعني المراد بالأرض! الدنيا أو السفالة قال الطيبي الرواية فيه فتح السين ، وفي الصحاح السفالة بالضم نقيض العلوّ وبالفتح النذالة. قوله : ( وإنما علق رفعه بمشيئة الله الخ ( ردّ على الزمخشري فإنه أوّل قوله(4/235)
ج4ص236
ولو شئنا فقال المراد بالمشيئة ما هي تابعة له ، ومسببة عنه كأنه قال ولو لزمها لرفعناه الخ قال النحرير : لما كان ظاهر الآية مخالفا لمذهبه دالاً على وقوع الكائنات بمشيئة الله تعالى أخلد إلى التأويل بجعل مشيئة الله مجازاً عن سببها وهو لزوم العمل بالآيات بقرينة الاستدراك بما هو فعله المقابل للزوم الآيات وهو الإخلاد إلى الأرض والميل إلى الدليا لكنه ذهب عن أنّ هذا مصير إلى المجاز قبل أو أنه لجواز أن يكون ، ولو شئنا على حقيقته وأخلد إلى الأرض مجازاً عن سببه الذي هو عدم مشيئة الرفع بل الإخلاد وإنما ترك التعويل على عكازته في مثل هذا المقام ، وهو حمل المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء لأنّ الاستدراك بقوله ، ولكنه أخلد لا يلائمه لفوت المقابلة. قوله : ( فأوقع موقعه أخلد إلى الأرض واتبع هواه مبالغة ) فإنّ الإخلاد إلى الأرض كناية عن الإعراض عن الآيات والكناية أبلغ من التصريح ، وقوله حب الدنيا رأس كل خطيئة أي أصل لها ، ووقع لبعض الناس تصحيف حسن فيه وهو حب الدينار بمعناه المعروف أي كل خطيئة أي أصلها. قوله : ( فصفته التي هي مثل في الخسة ( قال أبو حيان : المثل مشترك بين الوصف وما يضرب والمراد هنا الوصف العجيب المستغرب ، وأشار المصنف إلى أن استعماله في تلك الصفة لأنها يتمثل بها وقد مرّ تحقيقه في البقرة ، وقوله وهو راجع لأخ! أحواله أو للصفة لكونها بمعنى الوصف. قوله : ) واللهث إذ لاع اللسان ) بالدال والعين المهملتين أي إخراجه متتابعأ مع نفس عال لشدة
خفقان القلب الناشئ عن ضعفه ، والمثل كما مز الصفة لا الحال والقصة ليقطع بأنه من تشبيه المركب بالمركب بل الظاهر أنه تشبيه لصفته بصفة الكلب ، أو لنفسه بنفس في غاية الخسة والذلة ، وذكر اللهث في كل حال لاختصاصه به ولأنه حال مستبشعة مكروهة لكن قد يفهم من جعل الشرطية حالاً من الكلب قيداً في التشبيه به أنّ التشبيه مركب ، وكذا قول المصنف رحمه الله التمثيل قد يشير إليه. قوله : ( والشرطية في موضع الحال الخ ) قد مرّ على السفاقسيّ أن الشرطية تقع حالاً مطلقا لكن في الضوء أنّ الشرطية لا تكاد تقع بتمامها حالاً ، فإذا أريد ذلك جعلت خبراً عن ضمير ذي الحال نحو جاءني زيد وهو أن تسأله يعطك فتجعل جملة اسمية مع الواو ، لأنّ الشرط لصدارته لا يكاد يرتبط بما قبله إلا أن يكون هناك فضل قوّة ، نعم يجوز إذا خرجت عن حقيقتها بأن عطف عليه نقيضه أو لم يعطف ، ولا بذ في الأوّل من حذف الوأو نحو آتيك إن تأتني ، أو لم تأتني لأنه يحول إلى معنى التسوية كالاستفهام ، وأما الثاني فلا بد فيه من الواو نحو آتيتك وان لم تأتني إذ لو حذفت التبس بالشرط الحقيقي ، وقال الطيبي : إنّ الآية من القسم الأوّل ولذا تركت الواو لأنّ المعنى حمل عليه أو لم يحمل ( قلت ( المعروف فيه ترك الجواب ، وقيل الظاهر جعل الشرطية بياناً وتفسيراً للمثل كقوله : { كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ سورة آل عمران ، الاية : 59 ] وفيه نظر لأنّ التمثيل في الخسة لا في اللهث وعدمه فتدبر. قوله : ( والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الخ ) المراد بالتمثيل مطلق التشبيه بالمعنى اللغوي ، ويحتمل أن يراد معناه المعروف والمراد بلازم التركيب أنه لم يرفع بل أذل وأهين لازم الشيء يدل عليه بطريق البرهان ، ويبينه أتم بيان فلذا قال للمبالغة والبيان ولأنّ التمثيل بالنسبة إلى أصل المعنى كناية وهي أبلغ من التصريح ، والبيان لكونه تصويراً للمعقول بالمحسوس ، ولذا قيل أراد بلازم التركيب ما هو بمنزلة نتيجته فإنّ مآله إلى صورة قياس استثنائي استثنى فيه نقيض المقدم وليس المراد به الاستدلال بانتفاء المقدّم على انتفاء التالي ، حتى يقال إنه غير منتج لأنّ المقدم ملزوم للتالي ، ولا يلزم من نفي الملزوم نفي اللازم بل المراد الإخبار بأنّ سبب انتفاء التالي في الخارج هو انتفاء المقدم فيه ، ونظيره ما قيل في قوله النحاة لو لانتفاء الثاني لانتفاء الأوّل. قوله : ) وقيل لما دعا على موسى صلى الله عليه وسلم خرج لسانه الخ ) ذكر فيه ثلاثة أوجه في الكشاف الأوّل تشبيهه بالكلب في الخسة تشبيه مفرد بمفرد الثاني تشبيهه به في استواء الحالتين في النقصان ، وأنه ضال وعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث حمل عليه أو لم يحمل والظاهر انه تشبيه مركب في هذا الوجه ، والثالث التشبيه في اللهث ، وهذا هو الوجه الذي ذكره المصنف رحمه الله فوجه التشبيه في الأوّلين عقليّ وفي الثالث حسيّ. قوله : ( فاقصص القصص الخ )(4/236)
ج4ص237
ذلك إشارة إلى وصف الكلب أو إلى المنسلخ من
الآيات ، وقوله : ( فإنها نحو قصصهم ) فإن بلعم بعدما أوتي آيات الله انسلخ منها ومال إلى الدنيا حتى صار كالكلب كذلك اليهود بعدما أوتوا التوراة المشتملة على نعت رسول الله-لمجيم وذكر القرآن المعجز وبشروا الناس باقتراب مبعثه صلى الله عليه وسلم وكانوا يستفتحون به انسلخوا عما اعتقدوا في حقه صلى الله عليه وسلم وكذبوه وحرفوا اسمه. قوله : ( أي مثل القوم الخ ( ساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر ومثلا تمييز مفسر له ، وششغني بتذكيره وجمعه وغير ذلك عن فعل ذلك بضميره كما بين في النحو ، وأصل ساء التعدي لواحد والمخصوص بالذم لا يكون إلا من جن! التمييز المفسر للضمير فيلزم صدق الفاعل ، والتمييز والمخصوص على شيء واحد والقوم مغاير للمثل هنا فلزم تقدير محذوف من التمييز أو المخصوص أي ساؤوا أهل مثل أو مثل القوم ، وقرئ بإضافة مثل بفتحتين ومثل بكسر فسكون للقوم ورفعه فساء للتعجب ، وتقديرها على فعل بالضم كقضو الرجل ومثل القوم فاعل أي ما أسوأهم والموصول في محل جر صفة القوم أو هي بمعنى بئس ومثل القوم فاعل والموصول هو المخصوص في محل رفع بتقدير مضاف أي مثل الذين الخ ، وقدّر أبو حيان رحمه الله في هذه القراءة تمييزا ورد بأنه لا يحتاج إلى التمييز إذا كان الفاعل ظاهراً حتى جعلوا الجمع بينهما ضرورة على ثلاثة مذاهب فيه المنع مطلقا والجواز مطلقا ، والتفصيل فإن كان مغايرا جاز نحو نعم الرجل شجاعا زيد والا امتنع فمراد المصنف رحمه الله أنّ تقديره ساء مثل القوم الذين كذبوا مثلهم إلا أنّ قوله تعالى : { ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } لا يساعده كما قيل أو مثل الذين وقيل التقدير ساء مثلاً القوم هو فتدبر. قوله : ( إما أن يكون داخلاَ في الصلة ( أي لا محل لهذه الجملة لأنها إما معطوفة على الصلة ، أو مستأنفة للتذييل والتأكيد للجملة التي قبلها ، وقوله في الوجه الثاني وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم قيل إنه إشارة إلى أنه على هذا الوجه يكون التقديم للتخصيص ، وأنّ سبب ظلمهم أنفسهم هو التكذيب بخلافه على الوجه الأوّل فإنّ التقديم فيه لرعاية الفاصلة ، وسبب الظلم غيره فتأمّل. قوله : ( تصريح بأنّ الهدي والضلال من الله الخ ) كله ظاهر إلا قوله مستلزمة للاهتداء فإنه مبنيّ على تفسير الهداية بالدلالة الموصلة لا الدلالة على ما يوصل والكلام فيه مشهور أو أنها بمعنى الدلالة على الموصل وأريد بها هنا فردها الكامل لإسنادها إلى الله ولتفريع الاهتداء عليها ومقابلتها بالضلال وما معه ، وقوله : ( والإفراد
في الأوّل ) أي إفراد الضمير وخبره رعاية للفظ من وجمعه رعاية لمعناها ، ووجهه ما ذكره من أنّ الحق واحد والضلال طرق متشعبة. قوله : ( والاقتصار في الأخبار الخ ) يعني أنه إذا أريد بالهداية الدلالة الموصلة كما مرّ لزمها الاهتداء فيكون كالإخبار عن الشيء بنفسه ، وجعل الجزاء عين الشرط على حد شعري شعري ، ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومثله يفيد التعظيم والتفخيم وأنه في الشهرة غنيّ عن التوصيف والتعريف وكاف في نيل كل شرف ، والعنوان من عنوان الكتاب وهو ما يعلم به ما فيه ووزنه فعوال من عن له كذا إذا اعترض والفعل عنونت ، ويقال عننت ويقال له علوان من علن أي ظهر وفعله علونت أو فعلان من العلو وعنيان لغة فيه ، لأنه يعلم به ما يعني من الكتاب ولا تكون نونه أصلية لأنه ليس في الكلام فعيال وروي بكسر العين في جميعها كما قاله المرزوقي في شرح الفصيح وهو مرفوع معطوف على المستلزم وضمير لها للنعم. قوله : ( ذرأنا خلقنا ) والذرء مهموز الخلق ولام لجهنم لام العاقبة كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ سورة الذاريات ، الآية : 56 ] وقال ابن عطية إنها للتعليل ، وقوله : ( يعني المصرّين ) خصه به لاقتضاء ما بعده له وكأنه زاد قوله في علمه تعالى ليشمل من ارتد وقت موته ومن نافق ، وقوله : ( إذ لا يلقونها ) الخ يعني أنّ ذلك ليس لقصور الفطرة حتى لا يذموا بها كالبهائم وقيد السمع والبصر بما ذكر ليفيد ولو أطلق لتنزيله منزلة العدم اتجه. قوله : ( في عدم الفقه الخ ) أي الفهم يريد أنّ وجه الشبه أمور مدركه مما قبله فهي كالتأكيد لها ، ولذا فصلت عنها ، وقوله ما يمكن الخ سقط من بعض النسخ ومن في المنافع تبعيضية أو بيانية ويدرك معلوم أو مجهول ، وقوله الكاملون الخ لصحة الحصر إذ الغفلة في كثير ممن عداهم لكنها كلا غفلة(4/237)
ج4ص238
بالنسبة إلى غفلتهم ، وكمال غفلتهم يعلم مما أحلفه من عدم الإدراك. قوله : ( فإنها تدرك ( يعني جهة المبالغة في الضلال ليست جهة الشبيه حتى يؤذي إلى كذب أحد الخبرين وتنافيهما فافهم.
قوله : ( لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني ) إشارة إلى أنّ الحسنى تأنيث الأحسن للتفضيل ، وعدل عن تعليل الزمخشريّ لأنه غير تام ، وقوله والمراد بها الألفاظ أي المراد بالأسماء الألفاظ التي تطلق عليه تعالى مطلقا ، أو المراد لله الأوصاف الحسنى فيكون كقولهم طار اسم فلان في البلاد أي اشتهر نعته وصفته كما في الكشف. قوله : ( فسموه بتلك الأسماء ( أي المراد بالدعوة التسمية كقولهم دعوته زيدا وبزيد أي سميته ، وقيل معناه نادوه بها من الدعاء. قوله : ( واتركوا تسمية الزائنين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف فيه ) تفسير لمعناه واشارة إلى أنّ فيه مضافا مقدراً وهو تسمية بقرينة المقام والزيغ أي الميل تفسير للإلحاد لأنه يقال لحد وألحد بمعنى مال ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح فإنه في وسطه ، وقيل ألحد بمعنى جادل ولحد مال ، وكون أسماء الله تعالى توقيفية مطلقا هو المشهور ، وفيها أقوال أخر فقيل التوقيف في الأسماء دون الصفات ، وقيل يجوز مطلقاً ما لم توهم نقصا ، وقيل يكفي ورود ماذته في لسان الشارع والصحيح الأوّل ، قال الطيبي رحمه الله : فإن قلت أليس العجم يسمون الله باسم غير وارد والأمة قد اتفقوا على صحته ، قلت اتفاقهم على صحته يدل على أنه وارد يعني أنّ المراد بالشارع نبي من الأنبياء فتأمل ، وقوله : ( أو بما يوهم ( إشارة إلى القول الآخر والإيهام في أبي المكارم للأبوة وفيما بعده للتجسيم ، وهذا مما يقوله أهل البادية وجهلة العرب كما في الكشاف. قوله : ( أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمي به نفسه ( لأنّ العرب لما سمعوا اسمه الرحمن أنكروه ، وكانوا يسمون مسيلمة رحمن اليمامة تعنتاً في كفرهم ، وفي الانتصاف في هذا الوجه بعد لأنّ ترك الدعاء ببعض الأسماء لا يطلق عليه إلحاد في العرف ، وإنما يطلق على فعل لا ترك ، وأجيب بأنّ إنكار بعض الأسماء الحاد لأنه تصرف فيها بالنقص ، كما أنّ الزيادة إلحاد للتصرف بالزيادة ، ولم يجعل إلحاد باعتبار إطلاقه على غيره تعالى لأنه يرجع للوجه الذي بعده ، وهو لا ينفي البعد. قوله : ( أو وذروهم وإلحادهم فيها الخ ( قيل هذا هو الصواب ، والواو في والحادهم عاطفة أو للمعية والآية عايه منسوخة بآية القتال قيل لم يقل تسميتهم الأصنام إلهة كما في الكشاف لعدم كون الإلحاد في أسمائه لأنّ لفظ الإله يطلق على المعبود مطلقاً ، لكن أورد على فوله ، واشتقاق أسمائها منها أنّ الإلحاد في المشتق دون المشتق منه ، وفيه نظر. قوله : ) أو أعرضوا عنهم فإن الله مجارّيهم ) فالآية وعيد كقوله : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } [ سورة الحجر ، الآية : 3 ] وليست منسوخة وهو
وجه مستقل ، وفي نسخة بالواو فهو من تتمة ما قبله ، وقوله بالفتح أي فتح الياء والحاء لأنّ عينه حرف حلق والقصد الطريق المستقيم أو بحعنى المصدر. قوله : ( للدلالة الخ ( متعلق بذكر وبيانه أنه خلق للنار ظاهر وكونهم ضالين ملحدين عن الحق من مجموع الكلام إذ لم ينظروا في دليل الحق ، ولم يعتبروا لا من قوله يلحدون في أسمائه فقط حتى يرد عليه إنه مخصوص في النظم ، وقيل إنه يشير إلى تقدير في النظم بقرينة مقابلته أي وممن خلقنا للجنة ، وفي لفظ ممن إشارة إلى قلتهم بالنسبة لمن خلق للنار. قوله : ( واستدل به على صحة الإجماع لأن المراد منه الخ ) أي استدل بهذه الآية على أنه حجة في كل عصر سواء عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم وغيره ، واستدل به أيضا على أنه لا يخلو عصر عن مجتهد إلى قيام الساعة لأن المجتهدين هم أرباب الإجماع ، ونظيره الاستدلال على إرادة الاستغراق من اللام بعدم إمكانه على العهد الخارجي أو الذهني والمستدل الجبائي ، قيل : وهو مخالف لما روي من أنه " لا تقوم الساعة إلا على أشرار الخلق " ) 1 ( " ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض! الله " ( 2 ( ولا مرضه المصنف رحمه الله فتأمل ، وقوله : ( فإنه معلوم ) قيل فيه إنه معلوم من جهة الشارع كما في قوله : ) خير القرون قرني ( ) 3 ( وفيه نظر. قوله : ( لقوله عليه الصلاة والسلام لا نزال من أمتي طائفة الخ ) ) 4 ( أخرجه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، وقد قاله في تفسير الآية وقوله : ( إذ لو اختص! ( تعليل له أي قاله مع عدم ما يدل على العموم كذا قيل وفيه نظر. قوله : ) سنستدنيهم الخ ) وفي نسخة
سندنيهم(4/238)
ج4ص239
قال النحرير الاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعادأ ، أو بالعكس فيكون استنزالاً وقد استعمله الأعشى في قوله : ليستدرجنك القول حتى تهزه
في مطلق معناه ، وليس من استعمال المشترك في معنييه أي نقر بهم إلى الهلاك بإمهالهم وادرار النعم عليهم حتى يأتيهم وهم غافلون لاشتغالهم بالترفه ، ولذا قيل إذا رأيت الله أنعم على عبده وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج. قوله : ( حتى يحق عليهم كلمة العذاب ( أي يجب عليهم كلمة العذاب وهي أمره به كقوله تعالى : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } [ سورة الحاقة ، الآية : 30 ] وهذا إن أريد بالعذاب عذاب الآخرة وقيل هو نكال الدنيا كالقتل. قوله : ( عطف على سنستدرجهم الخ ) وفي نسخة على نستدرجهم فهو داخل في حكم الاستقبال وحكم السين ، وليس المراد بعطفه عليه إلا ذلك إذ لا يعطف على جزء كلمة حقيقة أو حكما ، وقيل إنه مستأنف أي وأنا أملي لهم وفيه حينئذ خروج من ضمير المتكلم مع الغير المعظم نفسه إلى ضمير المتكلم المفرد ، وهو شبيه بالالتفات كما قاله المعرب والظاهر أنه من التلوين. قوله : ( إنّ أخذي شديدا لأن المتانة الشدة والقوّة ومنه المتن للظهر ، وقوله : ( سماه كيدا ( قد قيل عليه إنه لا يخفى أنّ الأخذ وهو العذاب ليس بإحسان بل الذي ظاهره إحسان هو استدراجهم وامهالهم ليس إلا ، فالظاهر أن يقول سماه كيداً لنزوله بهم من حيث لا يشعرون ، ويمكن أن يقال الكيد ليس هو الأخذ بل الأنعام عليهم وامهالهم مع عصيانهم حتى يستحقوا العذاب ، وأخذهم أشذ أخذ فمقدمته إحسان ، وعاقبته إهلاك بعد خذلان فإضافة أخذي للعهد أي هذا الأخذ لمن هو غافل منهمك في لذته كذلك فتدبر. قوله : ) روي الخ ( ( 1 ( هذا الحديث أخرجه ابن جرير وغيره عن قتادة بلفظ يصوّت ويموّت بمعناه ، وكذا يهيت أيضا وأصله حكاية صوت ، وهو أن يقول ياه ياه وهو نداء الداعي من بعد ، وقوله : فخذا فخذا أي قوما بعد قوم يا بني فلان يا بني فلان كما ورد التصريح به فيه ، وهو بعد نزوله قوله : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [ سورة الشعراء ، الآية : 214 ، والفخذ من العشائر وأوّلها الشعب ، ثم القبيلة ، ثم الفصيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، وقوله : ( جنون ( إشارة إلى أن الجنة مصدر كالجلسة بمعنى
الجنون ، وليس المراد به الجن كما في قوله تعالى : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } [ سورة الناس ، الآية : 6 ، لأنه يحتاج إلى تقدير مضاف أي مس جنة أو تخبطها وما نافية ، وقيل استفهامية والفعل معلق عنها وقيل موصولة والمعنى أو لم يتفكروا في الذي بصاحبهم من جنة على زعمهم ، والقائل هو أبو لهب وكون هذا سبب النزول أحد قولين فيه ، وقيل إنهم كانوا إذا رأوا ما يعرض له-ك!ه من برحاء الوحي قالوا : إنه جن فنزلت. قوله : ( موضح إنذاره بحيث لا يخفى على ناظر الخ ( أي من اً بان المتعذي ومفعوله ما ذكر ، وقال : على ناظر دون سامع لقوله أو لم ينظروا ولأنه أبلغ لجعله بمنزلة المحسوس المشاهد ، ولما كان هذا تقريراً لما قبله من رسالته وتكذيبهم فيما قالوه وأمر النبوة مفزع على التوحيد ذكر ما يدل على التوحيد فقال : { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ثم قال : { وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ } والمقصود التنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير مقصورة على السماوات والأرض! بل كل ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده : وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
وهذا معنى كلام المصنف رحمه الله وهو ملخص كلام الإمام ، وقوله ليظهر تعليل للتعليل. قوله : ( عطف على ملكوت الخ ( الملكوت الملك الأعظم قيل فيكون هذا معمولاً لينظروا لكن لا يعتبر فيه بالنظر إليه أنه للاستدلال إذ قيد المعطوف عليه لا يلزم ملاحظته في المعطوف ، وكون أن مصدرية قاله أبو البقاء : لكن النجاة قالوا : إن أن المصدرية لا توصل إلا بالفعل المتصرّف ، وعسى غير متصزف وهو لا مصدر له فلذا مغ من دخولها عليه ، ولم يدخل بعده اللام الفارقة لعدم اللبس فالأحسن أنها مخففة من الثقيلة ، قيل ووقوع الجملة الإنشائية خبر ضمير الشأن مما يناقش فيه والمصنف رحمه الله يستمر عليه ، واسم يكون ضمير الشأن على كل تقدير ، وكان المانع من حمل هذا على التنازع أنه خلاف الأصل لما فيه من الإضمار قبل الذكر ، وعنه غني لكن الثأن في ضمير الشأن فإنه من هذا القبيل مع التكرار هنا أي أن الثأن عسى أن(4/239)
ج4ص240
يكون الشأن.
) قلت ( كله على طرف الثمام فإن خبر ضمير الشأن لا يشترط فيه الخبرية ولا يحتاج إلى لتأويل ، كما صزج به في الكشف ووجهه ظاهر والإضمار قبل الذكر في التنازع والشأن مما
صرّحوا بحسنه وجوازه ، والتكرار أمر سهل ولعلهم لم يلتفتوا إليه لأن تنازع كان وخبرها مما لم يعهد فيما هو كالشيء الواحد ، ومغافصة الموت بالغين المعجمة والفاء والصاد المهملة مفاجأته على غرّة ، ومنه وقاك الله غوافص الدهر أي حوادثه. قوله : ( إذا لم يؤمنوا به وهو النهاية الخ ( فيكون مرجع الضمير معلوماً من السياق ، وقيل إنه يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم بتقديره مضاف أي بعد حديثه أو المراد بعد هذا الحديث ، أو المراد بعد الأجل أي كيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم. قوله : ( وقيل هو متعلق بقوله صسى ( معطوف على قوله كأنه إخبار ، وقائله الزمخشرقي قال : فإن قلت بم تعلق قوله : ) فبأيّ حديث بعده يؤمنون ) قلت بقوله : { عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ } كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الموت ، وماذا ينتظرون بعد وضوج الحق ، وبأقي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا ، يريد التعلق المعنوي والارتباط بما قبله بالتسبب عنه لا الصناعي فإنه متعلق بيؤمنون ، وقوله : ) فما بالهم ( توضيح للمقصود ، لا تقدير أي ليس بعده ما ينتظر ، وجعل الفاء جزائية في فبأفي حديث ، وقوله : ) أحق منه ( تأويل بعده. قوله : ) كالتقرير والتعليل له ( قيل إنه على المعنى الأوّل ، وقيل : المتبادر منه أنه كذلك على المعنى الذي نقله فقط ، وليسى كذلك فإنه على المعنى الأوّل كذلك أيضاً ، ولو قال للسابق بدل توله للتعليل له لكان أحسن ، وقوله أحد غيره خصه به لأنّ المعنى عليه ، والعمه التردد في الضلال والتحير أو أن لا يعرت حجة. قوله : ( بالرفع على الاسئشاف ( قرئ بالياء والنون بالجزم والرفع فيهما فالرفع على الاستئناف أي ونحن أو هو والسكون عطف على محل الجملة الاسمية لأنها جواب الشرط أو بالتسكين للتخفيف ، كما قرئ يشعركم وينصركم ، والغيبة جريا على اسم الله والتكلم على الالتفات. قوله : ) أي عن القيامة وهي من الآسماء الغالبة الخ ( الساعة في اللغة مقدار قليل من الزمان غير معين ، وفي عرف الشرع يوم القيامة ، وفي عرف المعذلين جزء من أربعة وعثرين جزءاً من الليل والنهار ، واطلاقها على يوم القيامة إمّا لمجيئها بغتة من غير أن يعلمها أحد ، ولا يخفى عدم المناسبة فيه لمعناها الأصلي إلا أن يكون ذلك معتبراً في معناها اللغوي ، كما في قوله : { تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } [ سررة يوسف ، الآية : 07 أ ] أو لأنها تدهش من تأتيهم فتقل عندهم أو تقلل ما قبلها ، وقيل
إنه يعني بقوله بغتة لا على التدريج فإنها اسم لزمان قيام الساعة بالنفخة وهو قدر يسير لكن ذلك القيام مستمرّ إلى الأبد. قوله : ( أو لسرعة حسابها ) فأطلقت على ذلك اليوم بهذا الاعتبارل ، وقال الزمخشرفي : إنها سميت باسم ضدها تمليحا فإنها في غاية الطول كما يسمى الأسود كافورا. قوله : ( أو لأنها على طولها الخ ( أي سميت بها لذلك وفرق بين الوجوه بأن مبني الأوّل أنها اسم لزمان قيام الناس لا للزمان المديد ومبني غيره على أنها اسم لزمان ممتد. قوله : ( متى إرساؤها أي إثباتها ( يقال رسا الشيء يرسو ثبت وأرساه غيره ، ومنه الجبال الراسية لكن الرسو يستعمل في الأجسام الثقيلة وإطلاقه على الساعة تشبيه للمعاني بالأجسام ، وجعل المرسي مصدراً ميميا بمعنى الإرساء ، وفسر أيان بمتى لقربها منها وإن كانت متى أعمّ وجوّز بعضهم أن يكون اسم زمان ولا يرد عليه أنه يلزم أن يكون للزمان زمان لأنه يؤؤل بمتى وقوعه كما في أيان يوم القيامة. قوله : ( واشتقاق أيان من أيّ الخ ( قال ابن جني رحمه الله : الاشتقاق في غير الأسماء المتصرفة مما يأبوه ، وأيان بفتح الهمزة فعلان وتكسر في لغة فهي فعلان والنون زائدة جريا على الأكثر ولم يجعل فعلاً لا من أين لأنّ أيان ظرف زمان ، وأين ظرف مكان ، ولا أنّ أصله أفي أو أن أو أقي لتكلفه وأقي من أويت بمعنى رجعت لأن باب طويت أكثر من باب عييت ، ولقربه معنى لا! البعض آو إلى الكل ومستند إليه ، وأصلها على هذا أوى ثم قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصارت أي كطيّ وشيّ ، وهذا أمر قدروه للامتحان وليعلم حكمها إذا سمي بها فلا ينافي التحقيق من أنها بسيطة مرتجلة ، ولا ينافي ما ذكره الزمخشري في سورة النمل من أنه لو سمي به لكان فعلان من آن يئين ، ولا يصرف فالحاصل أنه يجوز فيه الصرف وعلمه كما في حمار قبان ، وليس الاشتقاق هنا بمعنى الأخذ كما توهم وآو بالمد اسم فاعل. قوله : )(4/240)
ج4ص241
استأثره به الخ ( متعلق بمحذوف أي اختاره مختصاً به فلا يطلع عليه غيره من ملك مقرب أو نبي ، فلا يرد أن استأثر إن كان بمعنى اختار تعدى بنفسه ، وإن كان بمعنى انفرد تعدى بالباء فلا يصح الجمع بينهما ، أو هو بمعنى اختصه الله به أي بنفسه ، وقيل في الصحاح : استأثر فلان بالشيء أي استبد به فكان حق العبارة استأثر الله به أو بعلمه ، ويطلع من الاطلاع وهو التوقيف عليه بالمشاهدة كما في تاج المصادر. قوله : الا يظهر أمرها في وقتها الخ ( اللام في قوله لوقتها هي لام التأقيت ، واختلف النحاة فيها كما في شرح التسهيل فقيل هي بمعنى في ، وقال ابن جني : بمعنى عند ، وقال الرضي : هي اللام المفيدة للاختصاص ، والاحتصاص على ثلاثة أضرب أمّا أن يختص الفعل بالزمان لوقوعه فيه نحو كتبت لغرّة ، وكذا أو يختص به
لوقوعه بعده نحو لخمس خلون ، أو يختص به لوقوعه قبله نحو لليلة بقيت ، فمع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه فيه ومع قرينة قبله أو بعده فلا منافاة بين جعل المصنف لها بمعنى في هنا ، وقوله بعده إنها للتأقيت ، ومعنى التأقيت أنها حد معين لما تعلقت به فغاية عدم إظهارها وقت وقوعها ، ولذا أتى بإلى في تفسيره ، كما يقال لحدود الحرم مواقيت لا أنها بمعنى وقت كما توهم ، حتى يقال يلزم هنا تكرار الوقت فالوجه أنها بمعنى في والعجب منه أنه فسره بفي أوّلاً فإنه من قلة التدبر. قوله : ( والمعنى أن الخفاء بها مستمرّ الخ ) هذا يحتمل أن يكون معنى قوله : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } وهو الظاهر لأنه إذا لم يظهرها لأحد قبل وقوعها استمزت خفية إلى ذلك الوقت ، وقيل إنه معنى قوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } . قوله : ) عظمت على أهلها الخ ( في الكشاف ثقلت في السماوات والأرض أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة وبوذه أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها وثقل عليه ، أو ثقلت فيها لأن أهلها يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها أو لأن كل شيء لى* يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيها ، قال النحرير : يريد أن ثقلت على الأوّلين مجاز عن شقت ، والكلام على حذف مضاف من الساعة ومن السماوات أي ثقل على أهل السماوات والأرض! خفاؤها ، وعدم العلم بأهوالها أو توقعها وخوف شدائدها وأهوالها وعلى الأخير الكل على ظاهره ، أي ثقلت عند الوقوع على السماوات حتى انشقت وعلى الأرض! حتى انهدت ، وعلى الوجوه كلمة في استعارة منبهة على تمكن الفعل فيها وهو رذي من خصه بالأخير ، والمصنف رحمه الله تعالى اختار الوجه الأوّل لأنه المناسب للسياق ، والسياق إذ المخفي عنهم علمها ومن تبغتهم من فيها لا هي نفسها ، فالثقل بالنسبة اليهم لكن الأخير يفيد الثقل عليهم بالطريق الأظهر لأنه إذا لم تطقها هذه ، وهي أعظم الإجرام فما ظنك بمن عداها. قوله : ) وكأئه إشارة إلى الحكمة في إخفائها ( يعني لما فيها من الأهوال والأمور العظيمة الشاقة أخفى الله علمها عن الخلق ليعلم من يخافه بالغيب ، ولعمارة الكون وإلا لترك كثير أمور دنياه. قوله : ( إنّ الساعة الخ ( ) 1 ( أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير من مرسل قتادة وهو في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه وتهيج بمعنى تتحرك والمراد به تقوم ، وقيام الساعة مجاز عن قيام أهلها. قوله :
( عالم بها فعيل من حفى عن الشيء الخ ( قال المعرب : الحفاوة أصل معناها الاستقصاء في الأمر للاعتناء به قال :
فإن تسألوا عني فيارث سائل حقيّ عن الأعشى به حيث أصعدا
ومنه إحفاء الشارب ، والحفاوة أيضاً البر واللطف قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } [ سورة مريم ، الآية : 47 ، وقال الراغب : الإحفاء الإلحاج في السؤال أو البحث عن تعرف الحال ، ويقال حفيت بفلان وتحفيت به إذا اعتنيت بكرامته ، والحفيّ العالم بالشيء ا!. وأشار المصنف رحمه الله تعالى إلى أن المعنى الأخير مجاز متفرّع على لأوّل لأن من بحث عن شيء وسأل عنه استحكم علمه به فأريد به لازم معناه مجازاً أو كناية ، فحاصله كأنك عالم بها وجملة كأنك الخ حال من مفعول يسألونك ، فما قيل ظاهره أن معنى حفيئ عنها سائل عنها إلا أن المذكور في سورة القتال وهو المصزج به في اللغة أنه بمعنى المبالغة وبلوغ الغاية فقط ، فمعنى السؤال فيه بطريق التضمين بقرينة عن الخ ، ما ذكره مما لا محصل له ، وقوله : ( ولذلك عدّ! بعن ( أي باعتبار أصل معناه وهو السؤال فإنه يتعذى بعن ولولا ذلك لعدى بالباء ، يقال عالم به وحفيئ به ولذا قيل إن عن بمعنى الباء ، وقيل إنه(4/241)
ج4ص242
ضمن معنى كاشف. قوله : ( وقيل هي صلة يسالونك ) فصلة حفيئ محذوفة والتقدير كأنك حفيّ بها أي معتن بشأنها حتى علمت حقيقتها ووقت مجيئها ، أو كأنك حفيّ بهم أي معتن بأمرهم بزعمهم أن علمها عندك وحفي لا يتعدى بعن كذا في البحر. قيل : وكلام المصنف رحمه الله يقتضي أن حفي يتعدى بعن وفي الأساس من المجاز أحفي في السؤال ، الحف وهو حفيّ في الأمر بليغ في السؤال عنه كأنك حفيّ عنها الخ ، وليس بمعارض له لأنه باعتبار معناه المجازي كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى فلا فرق بينهما. قوله : ( وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة الخ ) معطوف على قوله من حفي عن الشيء إذا سأل عنه الخ ، فحفي من الحفاوة بمعنى اللطف والشفقة ، وهو يتعدى بالباء كما أشار إليه بقوله تتحفى بهم ، وعن على هذا متعلق بالسؤال فهو مبنيّ على ما قبله أيضا ، أو هو متعلق بمحذوف كتخبرهم وتكشف لهم عنها ، والمعنى عليه أنهم يظنون أن عندك علمها لكن تكتمه فلشفقتك عليهم طلبوا منك أن تخصهم به. قوله : ) وقيل معناه كأنك حفتي بالسؤال عنها ( فعن متعلقة بحفيّ لتضمنه معنى السؤال ، وقوله : ) تحبه ( تفسير لكأنك حفيّ بلازمه لأن من أحب شيئاً سأل وبحث عنه ، ولكن تكره ذلك لأنه من المغيبات التي لا يجب البحث عنها ، ومرله : ( تكثره ( هذا هو الصحيح ، وفي نسخة نكره وهو من تحريف الكتبة ، وقيل صرابه تؤثره ،
وعبارة الكشاف يعني أنك تكره السؤال عنها لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به ا!. ولا وجه له كما مرّ. وقوله : ( استأثره الله بعلمه ) قيل حق العبارة استأثر الله بعلمه وقد مرّ بيانه ، فالوجوه ثلاثة الأوّل إنه بمعنى عالم ، والثاني بمعنى الشفقة ، والثالث بمعنى المحبة ، وقد علمت تعلقه مما مز. قوله : ) كرره لتكرير يسألونك لما نيط به الخ ) أي لما علق به من زيادة قوله كأنك حفيّ أو زيادة قوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } وللمبالغة معطوف على قوله لما نيط به ، والمبالغة من هذه الزيادة أيضا لأنّ قوله : كأنك عالم بها استبعاد لعلمه بها وهو الحبيب اكرم جميد فما حال من سواه ، ويجوز عطفه على قوله لتكرير. قوله : ( جلب نفع ولا دفع ضرّ الخ ) وقع التبري بالياء في النسخ وكان الظاهر التبرؤ بالهمزة لكنه أبدل الهمزة ياء وعامله معاملة المعتل ، كما يقال توضي في التوضؤ ، وقوله : من ذلك إشارة إلى أن الاستثناء متصل لا منقطع كما قيل. قال النحرير : هو استثناء متصل أو منقطع واتصاله بالتأويل والتأويل ما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى ، وفي البحر الاستثناء متصل أي إلا ما شاء الله من تمكيني منه فإني أملكه بمشيئته تعالى ، وقيل الظاهر الانقطاع لأنّ المالكية بمعنى القدرة لأن ما يدل على نفي خلق الأعمال يدل على نفي وقوعها إلا أن يقال إنه بناء على الظاهر ، وفيه نظر ، وذلك إشارة للضرّ والنفع ، وقوله : ما أنا إلا عبد مرسل أي لا قادر على الضرّ والنفع فالقصر إضافي. قوله : ) من ادعاء العلم بالغيوب ( وجه إظهار العبودية ظاهر لا! عدم المالكية من شأنه ، والتبري من ادعاء العلم بالغيوب لأنه لو علم الأمور الآتية المغيبة ضارّها ونافعها ، قبل الوقوع ربما تيسرت له تهيئة أسبابها ودفع أسباب الضرر ، فحيث لم يكن ذلك علم عدم علمه بها في الجملة ، ويكفي مثله في الأمور المسلمة من الخطابات كما يصرّج به قوله بعده : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ } الخ فسقط ما قيل لا يلزم من عدم تملك النفع والضرر عدم علم الغيب ، فإنّ بعض الملائكة عليهم الصلاة والسلام عالم ببعض الغيوب ، ولا يملك ضرّه ولا نفعه فإن أريد جميع الغيوب فمع قلة جدوه وعدم القرينة عليه من الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لا يدعيه. توله : ( ولو كنت أعلم الغيب الخ ) فإن قيل العلم بالشيء لا يلزم منه القدرة عليه كما لا يخفى ، قيل استلزام الشرط للجزاء لا يلزم أن يكون عقليا وكليا ، بل يكفي أن يكون عاديا في البعض كما مرّ. قوله : ( فإنهم المنتفعون بهما الخ ) مبني الأوّل على تخصيص البشارة والإنذار
بالمؤمنين والثاني على تخصيص الإنذار بالكفرة والبشارة بالمؤمنين وقوله : ) متعلق النذير محذوف ( أي للكافرين وحذف ليطهر اللسان منهم ، وفي نسخة محذوفا بالنصب وهو ظاهر. قوله : ( وهو آدم ) عليه الصلاة والسلام توطئة لما سيأتي من الجري على المعنى ، وما قيل إنه للإشارة إلى أنّ الإنسان ليس هو الهيكل المركب من اللحم ، ولذا قدر في منها من جسدها في غاية البعد. قوله : ( من جسدها من ضلع من أضلاعها الخ ( والظاهر أن من تبعيضية ، وجوّز فيها أن تكون ابتدائية ، وعلى الثاني من ابتدائية ، واستشهد له بالآية لتعين أنّ الأزواج(4/242)
ج4ص243
من جنسهم لا من أبدانهم ، وقوله من ضلع من أضلاعها بدل بعض من قوله من جسدها ، وليس على حد أكلت من بستانك من العنب ، كما قيل وكونها خلقت من ضلعه مصرّج به الحديث على ما يعلم الخالق سبحانه وتعالى حقيقته. قوله : ( ليأنى بها ويطمئئ إليها الخ ) يعني إنه من السكن ، وهو الإن! أو من السكون ، والمراد به الاطمئنان ومثل للسكون للجزء بالسكون للولد ، وأما السكون إلى الجنس فظاهر لأنّ كل شيء إلى جنسه أميل بالطبع ، والوجهان مبنيان على التفسيرين الاثنين ، فالأوّل على الأوّل ، والثاني على الثاني. قوله : ) وإنما ذكر الضمير ذهابا إلى المعنى ليناسب قلما تغشاها ) يعني ضمير يسكن المذكر للنفس المؤنثة سماعا لأن المراد منها آدم عختن ، فلو أنث على الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى ، والمقصود خلافه. وقال الزمخشري أنّ التذكير أحسن طباقاً للمعنى ، وان كان التأنيث أوفق باللفظ ولا خفاء في أنّ رعاية جانب المعنى أولى ، ووجه الأحسنية الإيماء إلى أنّ الذكر هو الذي يميل في غالب الأمر إلى الأنثى ، وأيضا خلق الذكر أوّلاً وجعل منه زوجه إزالة لاستيحاشه فكان نسبة المؤانسة إليه أولى ، ولأنّ التغشي بمعنى المجامعة المخصوصة بالذكر فتفريعها عليه أن!سب بتذكيره فيرجح جانب المعنى ، وهو معنى قول المصنف رحمه الله ليناسب الخ. قوله : ( خف عليها الخ ( المشهور أنّ الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على شجر ، والحمل بالكسر خلافه وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح ، وهو هنا إما مصدر فينتصب مفعولاً مطلقا أو الجنين المحمول فيكون مفعولاً به ، وخفته إما عدم التأذي به كالحوامل أو على الحقيقة في ابتدائه ، وكونه نطفة لا تثقل البطن. قوله : ( فاستمرّت به وقامت وقعدت الخ ( قرأها الجمهور بتشديد الراء ومعناه استمزت به كما قرئ به في قراءة الضحاك وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ولا وجه لما قيل ) نه قلب
أي استمرّ بها حملها ، وقرأ أبو العالية وغيره مرت بتخفيف الراء فقيل أصلها المشذدة فحففت ، كما قيل ظلت في ظللت ، وقيل : إنها من المرية أي الشك أي شكت في كونه حملا بإنسان أو مرضاً أو غيره ، وقرأ عبد الله بن عمر والجحدري فمارت من مار يمور إذا جاء وذهب فهي بمعنى المشهورة ، أو هي من المرية ، فوزنه فاعلت وحذفت لامه للساكنين ، وقوله : فظنت الحمل أي ظنت الحمل مرضا أو غير إنسان كما سيأتي. قوله : ( صارت ذات ثقل الخ ( أي الهمزة فيه للصيرورة ، كقولهم أتمرو اللبن صار ذا تمر ولبن ، وقيل : إنها للدخول في الفعل أي دخلت في زمان الثقل كأصبح دخل في الصباج ، وفي قراءة المجهول الهمزة للتعدية ، وهذا ناظر بحسب الظاهر إلى الوجه الثاني في الخفة ، وقد ينطبق عليهما. قوله : ( ولدا سوياً الخ ( أي المراد بالصلاج عدم فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء وعلة ونحوه ، وقوله على هذه النعمة المجذدة خصه بها لأنه الذي يتسبب عن الإيتاء فلا يقال لو حمله على جميع النعم ، ويدخل فيه هذه كان أولى. قوله : ( جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما الخ ا لما كان المراد من النفس الواحدة وقرينتها آدم عليه الصلاة والسلام وحوّاء وهما بريئان من الشرك ، وظاهر النظم يقتضيه ذهبوا فيه إلى وجوه ، ذهب إلى كل منها قوم من السلف ، فأوّل أوّلاً بتقدير مضاف في موضعين أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما ، إنما قدروه في موضعين هان كفى تقديره في الأوّل ، واعادة الضمير على المقدر أوّلاً تقليلا للتقدير واستغناء عن إقامة الظاهر مقام المضمر ، لأنّ الحذف هنا لم يقم عليه قرينة ظاهرة فهو كالمعدوم فلا يحسن عود الضمير عليه ، وافراد ضمير سموه باعتبار لفظ ما ، أو المراد سموا كل واحد على البدل ، فما عبارة عن أولاد أولادهما ، والمعنى جعلوا الأصنام شركاء له في أولادهم بإضافتهم العبودية إليها ، وأورد عليه أنّ هذا من لازم اتخاذ هذه الأصنام آلهة ومتفرّع عليه لا أمر حدث عنهم لم يكن قبل فينبغي أن يكون التوبيخ على هذا دون ذلك ، وليس بوارد لأنّ المقام يقتضي التوبيخ على هذا لأنه لما ذكر ما أنعم به عليهم من الخلق من نفس واحدة ، وتناسلهم وبخهم على جهلهم ، واضافتهم تلك النعم إلى غير معطيها وإسنادها إلى من لا قدرة له على شيء ، ولم يذكر أوّلاً أمراً من أمور الألوهية قصداً حتى يوبخوا على اتخاذ الآلهة ، وقيل عليه أيضا إشراك أولادهما لم يكن حين آتاهما الله صالحاً بل بعده بأزمنة متطاولة ، وأجيب بأن كلمة لما ليست للزمان المتضايق بل الممتذ ، فلا يلزم أن يقع الشرط والجزاء في يوم واحد أو شهر أو سنة ، بل يختلف ذلك باختلاف(4/243)
ج4ص244
الأمور ، كما يقال لما ظهر الإسلام طهرت البلاد من الكفر والإلحاد ، والمضاف المقدّر أولاد في الموضعين فقام المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه.
قوله : ( ويدل عليه قوله فتعالى الله عما يشركون ( إذ جمع الضمير ولم يسبق جمع فيقتضي تقدير جمع وهو الأولاد ، وأما احتمال كونه انتقالاً لتوبيخ المشركين حقيقة تفريعا على التوبيخ على مشبه الشرك ، أو كون ضمير الجمع للمثنى فخلاف الظاهر. قوله : ) وقيل لما حملت حوّاء الخ ) هذا هو الوجه الثاني بحمل الكلام على ظاهره ، وتأويل الشرك لأنه لم يقصد أنّ الحرث رب له ، والعبد لا يلزم أن يكون بمعنى المملوك أو المخلوق ، بل إنه لما كان سببا لنجاته ونجاة أمّه جعله كالعبد له مع أن الإعلام لا يلزم قصد معانيها الأصلية ، وأما ما صدر عن الأولاد فشرك لأنهم قصدوا معانيها الأصلية بدليل عبادتهم لها ، لكن لعلو مقامهما لا يناسبهما ما يوهم الإشراك في الاسم ، وقوله : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ابتداء كلام لتوبيخ المشركين بعد إنكار ما يشبهه مما صدر عنهما ، وقد استضعفه المصنف رحمه الله ، لكنه كما قالوا مقتبس من مشكاة النبوّة ، فإنه أخرجه أحمد والترمذقي وحسنه الحاكم وصححه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما ولدت حؤاء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته بذلك فعاس فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره " ) 1 ( وهو قول السلف كابن عباس ومجاهد وسعيد بن المسيب وغيرهم وما قيل إنه آحاد وليس في معرض تفسير الآية وبيانها ليس بشيء. قوله : ) ويحتمل أن يكون الخطاب في خلقكم لآل قصي الخ ( فعلى هذا الخطاب لقريش والنفس الواحدة قصيئ ، ومعنى كون زوجها منها أنها
من جنسها كما مرّ ، وقد استبعد هذا الوجه بأن المخاطبين لم يخلقوا من نفس قصيّ كلهم ولأجلهم ، وإنما هو مجمع قريش ، ولم تكن زوجة قرشية بل بنت سيد مكة من خزاعة ، وقريش إذ ذاك متفرّقون وهذا مبنيئ على اختلاف يعلم من التواريخ والأنساب كما في السير ، ولا يقال من أين علم أنه صدر منهما لأنه بإعلام الله إن كان هو معنى النظم ، فقوله زوج قرشية غير مسلم ، وقوله عبد مناف الخ مناف اسم صنم ، وأضاف الآخر إلى شمس ، وفي الكشاف عبد العزى ، وأضاف أحدهم إلى نفسه ، والآخر إلى الدار ، وهي دار الندوة المعروفة. قوله : ( ويكون الضمير في يشركون لهما ولأعقابهما الخ ( لاجتماعهم في الشرك بخلافه في الوجه الأوّل ، والتأوبل الرابع وهو أبعدها ، وان قال في الانتصاف إنه أحسن وأقرب أن يكون المراد بالنفسين جنسي الذكر والأنثى لا يقصد به إلى معين ، والمعنى خلقكم جنساً واحداً وجعل أزواجكم منكم أيضا ، لتسكنوا إليهن فلما تغشى الجنس الذكر الجنس الآخر الذي هو أنثى جرى منهما كيت وكيت ، ونسب إلى الجنسين ما صدر من بعضهم على حذ بنو فلان قتلوا قتيلا. قوله : ( وقرأ نافع وأبو بكر شركاً الخ ( أي بصيغة المصدر ، والمعنى جعلا له شركة فيما خلقه أو جعلا الأصنام ذوي شرك له فيقدر مضاف ، وهو على الأوّل متعذ لواحد ، وعلى الثاني لاثنين والفرق بينهما ظاهر ، وقوله : وهم ضمير إنما ذكره لأنه يختص بالعقلاء ، فبين أنه جاء على زعمهم. قوله : ( أي لعبدتهم ( تفسير معنى لا تقدير مضاف لأن الضمير للمشركين وهم العبدة ، وقوله : فيدفعون الخ يعني أن النصر عبارة عن دفع الضرر مجازاً في لازم معناه أو مشاكلة. قوله : ( أي المشركين ( يعني ضمير تدعوا للنبيّ ك! والمؤمنين أوله وجمع للتعظيم على ما فيه ، وضمير المفعول للمشركين ، وإن كان الخطاب للمشركين فهو التفات بدليل ما بعده من قوله : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ } . قوله : ( إلى الإسلام ( جعل الهدى اسما لما يهتدى به وهو الإسلام ، وقوله في تفسيره إن تدعوهم إلى أن يهدوكم يقتضي أنه بمعناه المصدري ، وهو الدلالة ، وقد وقع مثله في الكشاف إشارة إلى جواز الوجهين ، وقال النحرير في شرحه : أي يجوز أن يراد بالهدي ما صار بمنزلة الاسم ، كما يقال فلان على هدي ورشاد ، وأن يراد حقيقة معناه المصدري وهي الدلالة على الطريق المستقيم أو على البغية ، ومعنى لا يتبعوكم على جعل الخطاب للمؤمنين لم يحصلوا ذلك منكم ، ولم يتصفوا به واليه أشار المصنف رحمه الله
بقوله : لا يتبعوكم إلى مرادكم ومعناه على جعل الخطاب للمشركين لا يجيبوكم ، ولا يقدرون على ذلك واليه أشار بقوله ولا يجيبوكم(4/244)
ج4ص245
ففي كلامه لف ونشر مرتب على التفسيرين. قوله : ( وإنما لم يقل الخ ( يعني القياس الشائع في الاستعمال بعد همزة التسوية وأختها هو الفعل لتأويله بالمصدر ، ولكنه عدل عنه هنا لأن المستويين فيه إحداث الدعاء ، واستمرار الصمت لا إحداثه ، والفرق بين الوجهين اللذين ذكرهما المصنف رحمه الله مع قربهما وقرب معنى الثبات ، والاستمرار إنّ استمرار الصمت على الأوّل تقديري ، وعلى الثاني تحقيقي ، فإن مبني الأوّل على وقوع الدعاء منهم وفرض! عدمه ، ومبني الثاني على عدم وقوعه وفرض! وقوعه ، والظاهر أن المبالغة على الوجهين في جعل الضمير للأصنام أو للمشركين ، كما تقدم ، وأنّ الأوّل مبنيّ على كون الضمير للمشركين ، والثاني مبني على كونه للأصنام في قوله : أ وأن تدعوهم! ولا منافاة لأن الأوّل مطلق الدعاء ، وهذا الدعاء في الحوائج والشدائد ، وقيل : إن الاسمية بمعنى الفعلية ، وإنما عدل عنها لأنها رأس فاصلة وفيه أنه لو قيل يصمتون تم المراد ، والصمات بضم الصاد مصدر بمعنى الصصت ، وفعال مصدر الأصوات كالصراخ وهذا محمول على ضده. قوله : ( تعبدونهم وتسمونهم ا-لهة الخ ( يعني أنّ الدعاء إقا بمعنى العبادة تسمية لها بجزئها ، أو بمعنى التسمية كدعوته زيداً ومفعولاه محذوفان ، ولو قال أو تسمونهم كان أولى ، وبتفسيره بما ذكر انتفت منافاته للوجه الثاني في قوله : { أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ } . قوله : ( من حيث إنها مملوكة مسخرة ( أي مملوكة لله مسخرة له ، وقوله ويحتمل الخ ، عطف على قوله من حيث إنها مملوكة الخ ، فتكون المثلية في الحيوانية ، والعقل على الفرض ، والتقدير لكونها بصورتها ، وقصارى بضم القاف بمعنى غاية. قوله : ) ثم عاد عليه بالنقض ( أي عاد على الفرض! المبنيّ عليه المثلية بالإبطال فقال ألهم الخ ، وعلى الأوّل لما جعلهم مثلهم كرّ على المثلية بالنقض لأنهم أدون منهم ، وعبادة الشخص منهو مثله لا تليق فكيف من هو دونه ، وليس المراد إن من لم يكن له هذه لا يستحق الألوهية ، وإنما يستحقها من كانت له ذهب إليه بعض المجسمة واستدل به على مذعاه. قوله : ( وقرئ أن الذين بتخفيف إن ونصب عباد الخ ) هذه قراءة سعيد
ابن جبير ، وخرجها ابن جني على أنها نافية عملت عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائيّ وبعض الكوفيين ، لكن قيل : إنه يقتضي نفي كونهم عباداً أمثالهم ، والمشهورة تثبته فتتناقض القراءتان ، وأجيب بأنه لا تناقض لأن المشهورة تثبت المثلية من بعض الوجوه وهذه تنفيها من كل الوجوه أو من وجه آخر ، وقيل : إنها إن المخففة من الثقيلة ، وانها على لغة من نصب بها الجزأين كقوله :
إنّ حراسنا أسدا
وأعمال المخففة ونصب جزأيها كلاهما قليل ضعيف ، فلذا جعل عبادأ حالاً ، وأمثالكم
هو الخبر في القراءة برفعه والخبر محذوف وهو الناصب للمذكور. قوله : ) ولم يثبت مثله ( القائل به يمنع ذلك ، ويقول إنه ثابت في كلام العرب كقوله :
إن هومستولياعلى أحد إلا على أضعف المجانين
وضتم طاء يبطش وكسرها لغتان وبهما قرئ والبطش الأخذ بقوّة. قوله؟ ( واستعينوا بهم
الخ ) أي دعوتهم لذلك بقرينة ما بعده ، والأمر للتعجيز ، وقوله من مكر وهي أنتم وشركاؤكم أي الضمير لهم جميعا ، وفي نسخة من مكر أنتم وشركاؤكم. قوله : ( الوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه ) أي لاعتمادي ولذا عذاه بعلى وهو إشارة إلى أنّ الجملة التي بعده للتعليل ، وليس تقدير الشيء فإنّ ما بعده يفيده ، وأل في الكتاب للعهد ، فلذا فسره بالقرآن. قوله : ) أي ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين الخ ( إشارة إلى أنّ قوله : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } تذييل وتقرير لما سبق ، وتعريض لمن فقد الصلاج بالخذلان والمحق ، والمعنى أنّ وليي الذي نزل الكتاب المشهور الذي تعرفون حقيته ، ومثله يتولى الصالحين ويخذل غيرهم ، والذين تدعون من دونه الآيتين ، كالمقابل له وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله : ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين ، هنا ما أراد يوسف عليه الصلاة والسلام بقوله : { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ سورة يوسف ، الآية : 101 ] ففضلا في محزه. قوله : ) من تمام التعليل لعدم مبالاته الخ ( اللام صلة التعليل وهو دفع لتوهم التكرار لسبق مثله ، ولذا قيل ما مرّ للفرق بين من تجوز عبادته وغيره ، وهذا جواب ورد لتخويفهم له بآلهتهم. قوله : ( يشبهون الناظرين إليك الخ )(4/245)
ج4ص246
أي الأصنام قال
الإمام رحمه الله : إن حملنا هذه الصفات على الأصنام فالمراد من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجوهها أوجه القوم ، وان حملناها على المشركين فالمعنى أنهم وإن كانوا ينظرون إليك فإنهم لا ينتفعون بالنظر والرؤية فصاروا كأنهم عمي ، وقيل يشبهون من باب الأفعال أي يشابهونهم ففيه إشارة إلى أنه استعارة تصريحية تبعية بأن يشبه مالهم من الهيثة بالنظر فتطلق عليه أو مكنية ، ولا يجب أن تكون قرينة المكنية التخييلية ، وفيه بحث وخطاب تراهم للنبيّ-يخت أو لكل واقف عليه والرؤية بصرية أو علمية. قوله : ( خذ ما عفا لك الخ ( أي العفو صدر عفا بمعنى سهل ، وتيسر وأريد به ما يتيسر وخذ بمعنى أقبل وأرض مجازاً أي أرض منهم ما تيسر من أعمالهم ، ولا تدقق وتشدد والجهد بمعنى المشقة أو المراد بالعفو ظاهره أي اعف عمن أذنب ، وفيه استعارة مكنية إذ شبه العفو بأمر محسوس يطلب فيؤخذ. قوله : ( أو الفضل وما يسهل الخ ( أي المراد أن يأخذ من صدقاتهم ما عفا أي سهل عليهم وهو الفضل أي الزائد عن نفقتهم ولوازمهم والمتبادر من الأخذ أخذ المال ونحوه ، والإمام ليس مأمورأ بأخذ الصدقات ليصرفها في مصارفها بل بأخذ الزكاة فدل ذلك بالقرينة العقلية على أنه كان ذلك بمنزلة الزكاة فيكون قبل وجوبها فلا يقال إنه تقييد من غير دليل بعينه ، وقال الجوهريّ : العفو ما فضل عن النفقة من المال. قوله : ( فلا تمارهم ولا تكافئهم الخ ) المماراة المجادلة والمكافأة أن تفعل به كما فعل بك أو تنتقم منه ، وكون الآية جامعة لمكارم الأخلاق ظاهر ، وقد فسر هذا في الحديث القدسي لما سأل النبئ صلى الله عليه وسلم عنها جبريل عليه الصلاة والسلام فسأل رب العزة ثم رجع فقال يا محمد آنّ ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ، وعن جعفر الصادق أمر الله نبيه ىشي! بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها ، وفي الحديث " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وكان خلقه عخي! القرآن : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ سورة القلم ، الآية : 4 ] فقيل إن زبدة الحديث مفسرة لزبدة الآية فإن زبدتها تحرّي حسن المعاشرة مع الناس ، وتوخي بذل المجهود في الإحسان إليهم والمداراة معهم والإغضاء عن مساويهم لكن القرآن مادّته عائة ، والحديث القدسي ماذته خاصة ، وقد علم كل أناس مشربهم فافهم. قوله : ( يتخسنك منه نخس ) إشارة إلى أن الإسناد مجازي لجعل المصدر فاعلا كجد جذه وقيل النزع بمعنى النازغ فالتجوّز في الطرف والأوّل أبلغ وأولى ، وفيه مجاز آخر سيجيء ، وقوله تحملك على خلاف ما أمرت بيان لارتباط الآية بما قبلها ، وجعل النزغ والنسغ بالسين المهملة ، والعين
المعجمة والنخس مترادفة وفسرها بالغرز بغين معجمة وراء مهملة وزاي معجمة ، وهو إدخال الإبرة ، وطرف العصا وما يشبهه في الجلد كما يفعله السائق لحث الدواب ، وقوله : كاعتراء غضب أي عروضه والمراد بالفكرة ما يعرض للفكر مما يمنع ذلك بتخييل محذور فيه. قوله : ( شبه وسوسته للناس إغراء الخ ( فهو استعارة تبعية فأصلية لتشبيه الإغراء بالغرز المذكور كما أنّ فيه إسنادا مجازيا ، وقوله للناس بيان لمعنى مطلق النزغ العائم في الناس غيره صلى الله عليه وسلم ، وأما نزغ الشيطان له فهو الغضب والفكر كما مرّ ، وهو داخل في الإزعاج لأن المراد به كل ما يقلق النفس ، وهو وجه الشبه بين النزغ والوسوسة وهو لا يخالف ما في الكشاف كما توهم ففيه استعارة تبعية. قوله : ( يسمع استعاذتك الخ ) المراد بالسماع ظاهره ، وخصه لمقتضى المقام أو القبول والإجابة للدعاء بالاستعاذة ، وقوله فيحملك يعني المراد من علمه بذلك وهو بكل شيء عليم إنه يوفقه له ويحمله عليه كما أن المراد من علمه بأفعالهم مجازاتهم عليها ، ومشايعة بشين معجمة وياء تحتية مثناة وعين مهملة متابعته في الغضب ، ونحوه لأن التابع من شيعة المتبوع. قوله : ( لمة منه وهو اسم فاعل الخ ( اللمة بفتح اللام من لم به إذا جاءه ، ومنه إلمام الزيارة والمراد وسوسته ، وهو على هذه القراءة اسم فاعل من طات بالشيء إذا دار حوله وجعل تلك اللمة طائفا لأنها وان جعلها مساً لا تؤثر فيهم فكأنها طافت حولهم ولم تصل إليهم ، فلا يرد عليه ما قيل إنّ مسهم يدل على الإصابة ، أو هي من طاف طيف الخيال إذا عرض لفكره فالمراد بالطائف الخاطر ، وقراءة طيف على المصدرية أو هو مخفف طيف من طاف يطيف(4/246)
ج4ص247
كلان يلين فهو لين ، ثم لين أو من طاف يطوف فهو طيف ، ثم طيف وتمثيله بهما إشارة لهذين الاحتمالين وقوله ، ولذلك جمع ضمميره أي في قوله وإخوانهم يمدونهم أو المراد الجنس لا إبليس فقط ، وهو تقرير لما قبله من ا3 مر بالاستعاذة عند نزغ الشيطان. قوله : ( وإخوان الشياطين الذين لم يتقوا الخ ) الذين لم يتقوا صفة لإخوان مبينة لمعنى الأخوة بينهم ، ويمدهم الشياطين بمعنى يعاونونهم والتقدير إخوان الشياطين يمدهم الشياطين فالخبر جار على غير من
هو له لأن الضمير فيه للشياطين لا لإخوان الذي هو مبتدأ وفيه كلام في أنه هل يجب إبراز الضمير أو لا يجب في الفعل كالصفة المختلف فيها بين أهل القريتين. قوله : ( يمدّهم الثياطين في الغي بالتزيين والحمل عليه الخ ( أي المدد الإعانة ، وهي بالتزيين والحمل عليه وقوله كأنهم الخ بيان لمعنى المفاعلة المجازية على حد ما مرّ في وواعدنا موسى ، والمراد بالتسهيل تهوين المعاصي عليه أو تهيئة أسبابه ، وقيل المعنى واخوان الشياطين يمذون الشياطين بالاتباع والامتثال فيكون الخبر جارياً على ما هو له.
تنبيه : قال أبو علي رحمه اللّه : في الحجة قرأ نافع يمذونهم بضم الياء وكسر الميم ، والباقون بفتح الياء وضم الميم وعامّة ما جاء في التنزيل مما يستحب أمددت على أفعلت كقوله : { أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [ سورة المؤمنون ، الآية : 55 ، وما كان على خلافه يجيء على مددت قال تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ سورة البقرة ، الآية : 15 ، وقال أبو زيد : أمددت القائد بالجند ، وأمددت القوم بمال ورجال وقال أبو عبيدة : يمدّونهم في الغيّ يزينون لهم يقال مد له في غيه ، وهكذا يتكلمون فهذا مما يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر ووجه قراءة نافع أنه بمنزلة فبشرهم بعذاب أليم ا!. قوله : ( لا يمسكون عن إغوائهم الخ ) يقصرون من أقصر إذا أقلع وأمسك قال :
سما لك شوق بعدما كان أقصر
وقرئ يقصرون من قصر وهو مجاز عن الإمساك أيضا ، وقوله حتى يردوهم كذا في نسخة وفي أخرى يردونهم قيل فيه بحث أما في اللفظ ففي إثبات النون ، وأفا في المعنى فلأنّ إخوان الشياطين ليسوا على صلاح الأمر حتى يردوا عنه ، اهـ وفيه أن إثبات النون ليس في النسخة الصحيحة ، ولو كان أيضا فله وجه وأمّا الصلاح الذي ذكره فلا صلاج له لأنّ المحنى لا يمسكون عن إغوائهم حتى يردونهم إلى مرادهم ، وهو فساد على فساد فلا توجه للبحث. قوله : ) ويجوز أن يكون الضمير للإخوان الخ ( أي ضمير يقصرون وما قبله جار على ما قرره ، وفسره بقوله ولا يتقون كالمتقين أي كما يتقي المتقون ويقصرون عن الفيّ وفي نسخة لا يكفون عن الفيّ ، وهو ظاهر. قوله : ) ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين ( أي إخوان الجاهلين وهم الشياطين أي الشياطين يمدون الجاهلين في الغيّ فالخبر جار على من هو له ، وقوله ويرجع الضمير أي مفعول يمذون ويقصرون إلى الجاهلين في قوله ، وأعرض! عن الجاهلين وفي الكشاف والأوّل أوجه لأنّ إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا. قوله : ( هلا جمعتها ( أي لولا
للتحضيض كهلاً ، واجتبى له معنيان جمع كجباه تقول جبى كذا لنفسه كجمعه ، واجتمعه والآخر بمعنى أخذ يقال جبى له كذا فاجتباه أي أخذه ، والآية فسرت بآيات القرآن التي لم تنزل على مرادهم أو بالخوارق التي اقترحوها ، فعلى الأوّل يكون معنى قولهم هلا جمعها ولفقها من عند نفسه افتراء كما أتى به ، أوّلاً فإنه على زعمهم كذلك وعلى الثاني معناه هلا أخذها من الله بطلب منه ، وهو مجاز على الثاني علاقته السببية وفي الدر المصون جبى الشيء جمعه مختارآ ، ولذا غلب اجتبيته بمعنى اخترته وهو تهكم من الكفار كما قاله الطيبي رحمه الله : ففي كلامه لف ونشر مرتب كما في قوله : ( لست بمختلق ) والتقول والاختلاق الكذب ، ونصب وأنصت بمعنى وقد جاء أنصت بمعنى أسكت متعديا قال الكميت :
أبوك الذي أجدى عليك بنصرة فانصت عني بعده كل قائل
قوله : ( هذا القرآن بصائر للقلوب الخ ) على طريق التشبيه البليغ أو سبب البصائر فهو
مجاز مرسل أو هو استعارة لإرشاده وجمع خبر المفرد لاشتماله على آيات وسور جعل كل منها بصيرة. قوله : ) نزلت في الصلاة كأنوا يتكلمون فيها الخ ) اختلف في سبب نزولها على وجه ينبني عليه معناها ، فقال الجصاص : سببها كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبتي صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة وقرأ معه أصحابه(4/247)
ج4ص248
فخلطوا عليه فنزلت وكذا روى الشعبي وغيره ، وهي تدل للحنفية في أنه لا يقرأ في سرية ولا جهرية لأنها تقتضي وجوب الاستماع عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها ، وقد قام الدليل في غيرها على جواز الاستماع وتركه فبقي فيها على حاله في الإنصات للجهر ، وكذا في الإخفاء لعلمنا بأنه يقرأ وإن لم نسمعه ، وقال مالك رحمه الله تعالى ينصب في الجهرية ويقرأ في السرية لأنه لا يقال له مستمع ، وقال الشافعيئ رضي الله تعالى عنه يقرأ في الجهرية والسرية في رواية المزنيّ ، وفي رواية البويطي إنه يقرأ في السرية أتم القرآن ويضم السورة في الأوليين ، ويقرأ في الجهرية أم القرآن فقط ، وسبب نزول الآية كما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت فالنهي إنما هو عن التكلم لا عن القراءة وهو معنى قوله نزلت الخ وكون الاستماع خارج الصلاة مستحبا متفق عليه ، وقوله فأمروا باستماع الخ ظاهره أنه لا يقرأ وهو مخالف لمذهبه إلا أن يكون مراده أنه يستحب للإمام في الجهرية سكتتان سكتة بعد التكبير لدعاء الافتتاح ، وسكتة بعد الفاتحة ليقرأ المقتدي كما نقل في الأحكام ، وسيشير إليه المصنف رحمه الله ، والوجه أن مراده أنها وردت في ترك الكلام لا في القراءة فلذا لم يتعرض! لها فلا يرد عليه ما ذكر ، وقوله : ( واحتج به من لا يرى الخ ( وجه
الاحتجاج ما سمعته ولا ضعف فيه بل ظاهر النظم معه ، والكلام عليه وما فيه مفصل في الفروع. قوله : ( عامّ في الآذكار الخ ( أي هو عاتم لكل ذكر ، أو هو مخصوص بالقرآن والمراد به قراءة المقتدي سراً بعد فراغ الإمام عن قراءة الفاتحة ، وأورد عليه أنه يكون قوله : { وَدُونَ الْجَهْرِ } تكرار والعطف يقتضي المغايرة ، وفي كلام الإمام ما يدفعه حيث قال : المراد بالذكر في نفسه أن يكون عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضر الصفات الكمال والغز والعظمة والجلال ، وذلك لا! الذكر باللسان عارياً عن الذكر بالقلب كأنه عديم الفائدة فتأفل. قوله : ( متضرّعاً وخائفاً ( أي هو حال بتأويله باسم الفاعل ، أو بتقدير مضاف أي إذا تضرّع وخيفة ، وأما كونه مفعولاً لأجله فلا يناسبه ، وأصل خيفة خوفة. قوله : ) ومتكلماً كلاما الخ ( أي هو صفة لمعمول حال محذوفة لأنّ دون لا تتصزف على المشهور وهو معطوف على تضرّعا وقيل إنه معطوف على قوله في نفسك أي اذكره ذكراً في نفسك ، وذكراً بلسانك دون الجهر الخ. قوله : ) فوق السر ودون الجهر ( قيل إنه احتراز عن الكلام النفسي ، لا المخافتة ، فالسز هو القلبي لا القولي ، وقيل المراد بالسر تصحيح الحروف ، وهو أدنى مرتبة المخافة فيتناول نوعا من كل منهما وذلك أدخل في الخشوع والإخلاص أو أراد به مطلق المخافتة ، وبالجهر المفرط منه فيكون المأمور به ما فوق المخافتة ، وما دون الجهر المفرط فيختص بنوع من الجهر ، قال الإمام المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [ سورة الإسراء ، الآية : 110 ] . قوله : ) بأوقات الغدوّ والعشيات الخ ا لما كان الظاهر جمعهما أو إفرادهما أشار إلى أن الغدوّ مصدر ، ولذا لم يجمع ولكنه عبر به عن الزمان كما في آتيك خفوق النجم وطلوع الشمس ، وأنه يقدر فيه مضاف مجموع ليتطابقا لكن ، في القاموس أن الغدوة تجمع على غدوّ فتحصل المطابقة ، وفي الصحاح الغدوّ نقيض الرواح وقد غدا يغدو غدوّا وقوله تعالى : { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } أي بالغدوات فعبر بالفعل عن الوقت كما يقال جئتك طلوع الشمس أي وقت طلوعها. قوله : ( وقرئ والإيصال الخ ( أي بالأفعال بالكسر مصدر أصل ، إذا دخل في وقت الأصيل وهو والعشي آخر النهار ، وهذه قراءة أبي مجلز واسمه لاحق بن حميد السدوسي البصري ، وهي شاذة والآصال جمع أصل وأصل جمع أصيل فهو جمع الجمع وليس للقلة وليس جمعا لأصيل ، لأنّ فعيلا لا يجمع على أفعال وقيل أنه جمع له لأنه قد يجمع عليه كيمين وأيمان ،
وقيل إنه جمع لأصل مفرداً كعنق ويجمع على أصلان أيضا ، وقوله مطابق للغدوّ أي في الإفراد والمصدرية لأنه مصدر آصل إذا دخل في الأصيل ، وقوله يعني ملائكة الملأ الأعلى ، فالمراد بالعندية القرب من الله بالزلفى والرضا لا المكانية أو المراد عند عرس ربك. قوله : ( ويخصونه بالعبادة الخ ) اعتبر العبادة فيه لأنّ السجود عبادة ولأنه تعريض بمن عبد غيره ، وجعل التقديم للتخصيص الإضافي ليفيد التعريض المقصود ، وقيل إنه للفاصلة والتخصيص من المقام وكذا(4/248)
ج4ص249
التعريض لأنه تعليل لما قبله أي ائتوا بما أمرتم به والا فأنا مستغن عنكم وعن عبادتكم لأن لي عباداً مكرمين من شأنهم ذلك. قوله : ( ولذلك شرع السجود لقراءته ) أي لإرغام من أبي ممن عرّض له كما يدلّ عليه ما بعده فالتعريض ليس لعدم سجودهم بل لعدم تخصيصهم له به ، والسجدة لاية أمر فيها بالسجود للأمر أو حكى فيها استنكاف الكفرة عنه مخالفة لهم أو حكى فيها سجود نحو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأسيا بهم ، وهذا من القسم الثاني باعتبار التعريض أو من القسم الأخير باعتبار التصريح. قوله : ( وعن النبئ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ابن آم الخ ) ) 1 ( هذا الحديث أخرجه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقوله السجدة أي آية السجدة ، وقوله : ( يا ويله ) تحسر كقوله : ( يا حسرتا ) . قوله : ( وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الآعراف الخ ) ) 2 ( حديث موضوع ولا عبرة برواية الثعلبي له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ) وهذا آخر ما أردنا تعليقه ) على سورة الأعراف اللهم يسر لنا الإتمام ببركة خاتم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وا لسلام.
سورة الأنفال
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : ( مدنية ) قيل إلا قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ سورة الأنفال ، الآية : 30 ] والآية وجمع بعضهم بينهما بأنا إن قلنا الهجرة من حين خروجه عتحر من مكة فهي مدنية لأنها نزلت عليه لمجي! ليلة خروجه منها وإن قلنا إنها بعد استقراره في مقصده فهي مكية ، وهذا مسلك غير مشهور في المكي والمدني ، وقوله ست وسبعون في الكوفي خمس وسبعون كما قاله الداني في كتاب العدد. قوله : ( أي الغنائم يعني حكمها الخ ) أصل معنى النفل بالفتح واحد الأنفال كما قال لبيد :
إنّ تقوى ربنا خير نفل
الزيادة ولذا قيل للتطوع نافل ولولد الولد ، ثم صار حقيقة في العطية لأنها لكونها تبرعاً
غير لازم كأنها زيادة وتسمى به الغنيمة أيضا وما يزاد ويعين لبعض الجيش على حصته الشائعة واطلاقه على الغنيمة باعتبار أنها منحة من الله من غير وجوب ، وقال الإمام رحمه الله : لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم ، وقيل لأنه زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله وحماية حوزة الإسلام فإن اعتبر كونه مظفوراً به سمي غنيمة ومنهم من فرق بينهما من حيث العموم والخصوص فقال الغنيمة ما حصل مستغنمأ سواء كان يبعث أولاً باستحقاق أو لا قبل الظفر أو بعده والنفل ما قبل الغنيمة ، وما كان بغير قتال وهو الفيء ، وقيل ما يفضل عن القسمة ، ثم السؤال إفا لاستدعاء معرفة ، أو ما يؤذي إليها وإمّا لاستدعاء جداء أو ما يؤذي إليه واستدعاء المعرفة جوابه باللسان ، وينوب عنه اليد بالكتابة أو الإشارة ، واستدعاء الجداء جوابه باليد وينوب عنه اللسان موعداً ورذاً وإذا كان للتعزف يعدى بنفسه ، وعن والباء وإذا كان لاستدعاء جداء يعذى بنفسه أو بمن وقد يتعذى لمفعولين كأعطى واختار وقد يكون الثاني جملة استفهامية نحو : { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } [ سورة البقرة ، الآية : 211 ] قاله أبو عليّ رحمه الله تعالى واختلف في الأنفال هنا فذهب كثير من المفسرين إلى أنّ المراد بها الغنائم ، وهو المنقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وطائفة من الصحابة رضي الله عنهم ، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله تعالى وذكر وجه التسمية كما فصلناه ، ثم أشار إلى أنه يطلق على ما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه لرأي يراه سواء كان لشخص معين ، او لغير معين كمن قتل قتيلا فله سلبه ، والمقتحم الذي يرمي بنفسه للشدائد والمهالك ، والخطر
الأمر العظيم. وقوله : ( يعني حكمها ( بيان للمراد من السؤال عنها لا تقديره كما سيذكره في سبب النزول ، ويجوز أن يريد تقديره. قوله : ( أي امرها مختص! بهما الخ ( فسره به لأنها لو كانت مختصة بهما اقتضى أن لا يكون لغيرهم منها شيء فبين أنّ المختص بهما الأمر والحكم فيقسمها النبي !ي! كما يأمره الله ، ولا مخالفة فيه لظاهر سبب النزول ، ولا لآية الأخماس حتى يقال هذا توفيق من المصنف رحمه ألله تعالى ، أو هي منسوخة(4/249)
ج4ص250
كما قيل ، ووجه الجمع بين الله ورسوله هنا لأنه علم من كلامه إنه اختصاص الله بالأمر والرسول-شي! بالامتثال ، وقد أشار في الكشاف إلى أنه لتعظيم شأن الرسول مج!ه وايذان بأنّ طاعته طاعته ، وكأن المصنف رحمه الله رأى أنه لا حاجة إليه فتأمّل. قوله : ( وسبب ئزوله الخ ) ) 1 ( أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، وسبب اختلاف المسلمين وهو رحمة أنها أؤل غنيمة لهم ، وقوله : ( المهاجرون منهم أو الأنصار ) على تقدير الاستفهام أي أيقسمها المهاجرون أو الأنصار ، ووقع في نسخة إثباته هكذا المهاجرون الخ. قوله : ( وقيل شرط رسول الله !كتي! ( ) 2 ( كما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم ، وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي هذا هو سبب النزول لاختلافهم فيه قال النحرير : مبنيئ الأوّل على كون النفل بمعنى الغنيمة ، ومبنى هذا على كون المراد منه ما يعطاه الغازي زائدأ على سهمه ، وعلى الوجهين السؤال استعلام لتعديه بعن وعلى قراءة يسألونك الأنفال استعطاء كما في سألتك درهما ، وقد جعل بعض المفسرين السؤال مطلقا هنا بمعنى الاستعطاء وادّعى زيادة عن ولا داعي إليه ، قيل : وينبغي أن يحمل قراءة إسقاط عن على إرادتها لأنّ حذف الحرف وهو مرد معنى أسهل من زيادته للتأكيد وفيه نظر ( والغناء ) بفتح الغين المعجمة والمد النفع ، وشبان جمع شاب ، والوجوه السادات ،
والردء براء مهملة مكسورة ودال مهملة ساكنة وهمزة العون والظاهر أنّ المراد به هنا الملجأ ، وتنحازون أي تنضمون إليها إذا رجعتم ، وأصل الانحياز الانتقال من حيز الى حيز ، ومنه قوله تعالى : { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } [ سورة الأنفال ، الآية : 6 ا ] وقوله ولهذا قيل الخ ضعفه لأنه يحتمل أنه من نسخ السنة قبل تقرّرها بالكتاب كما قيل. قوله : ) وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عته الخ ) ( 1 ( عمير مصفر وهذا الحديث أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وقال أبو عبيد هكذا وقع فيه سعيد بن العاص ، والمحفوظ عندنا العاصي ابن سعيد والقبض بفتحتين المقبوض من الغنائم بقاف وباء موحدة وضاد معجمة ، ووقع في تفسير ابن عطية بقاف وفاء وصاد مهملة قال : وهو المحل الذي توضعفيه الغنائم ، اهـ. وقوله : ( وبي ما لا يعلمه إلا الله ( أي وجد في نفسه شيئا وقال : يعطاه اليوم من لم يبل بلائي ، قيل وهذ يحتمل أن يكون سبباً ثالثا للنزول كما في بعض التفاسير لكن صيغة الجمع في وأصلحوا ذات بينكم تأباه ظاهراً ، ولذا لم يقل المصنف رحمه الله وقيل. قوله : ( وقرىء يسألونك الخ ( القراءة الأولى قراءة ابن محيصن ، والثانية لعلي بن الحسين وغيره والإدغام للاعتداد بالحركة العارضة وفي قوله يسألك الشبان الخ إشارة إلى أنه سؤال استعطاء لما شرط أي بالنسبة لهم. قوله : ( في الاختلاف والمشاجرة ( أي المخاصمة ، وقوله الحال التي بينكم إشارة إلى أنّ ذات بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف أي أحوالاً ذات افتراقكم ، أو ذات وصلكم ، أو ذات المكان المتصل بكم ، فبين إمّا بمعنى الفراق أو الوصل أو ظرف ، وعلى الأخير بنى المصنف رحمه الله تعالى كلامه ، وقال الزجاج : وغيره إن ذات هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بينه ابن عطية وعليه استعمال المتكلمين ، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول اسقني ذا إنائك أي ما فيه جعل كأنه صاحبه.
قوله : ( فإن الإيمان يقتضي الخ ( ذلك إشارة إلى الخصال الثلاث أي الإيمان بمعنى التصديق يقتضي ما ذكر فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم ، وهو يكفي في التعليق بالشرط ، وهذا بناء على أن الأعمال غير داخلة فيه ، وما بعده مبني على أن المراد بالإيمان الكامل فيدل على الأعمال لأنها شرط أو شطر ، ولعل مراده باقتضائه له إنه من شأنه ذلك لا إنه لازم له حقيقة لحصول القطع بأن نفس الإيمان لا يتوقف على ذلك كله لا سيما والمراد به التصديق الحقيقي ، ولما رأى الزمخشري أنّ أصل الإيمان لا يستلزمه قال : وقد جعل التقوى واصلاج ذات البين ، وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته ليعلمهم إنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ، ومن لم يفهم مراده قال إنه خلط بين الوجهين وجعلهما وجها واحداً فتدبر ، وقوله طاعة الأوامر الخ على اللف والنشر المشوش ، وقيل : ولا يخفى أن إصلاج ذات البين داخل في طاعة(4/250)
ج4ص251
الأوامر ، وما في الآية تعميم بعد تخصيص ، وإنما قدم ما يدلّ على الاحتراز لذكر الأنفال التي هي مظنة الغلول ، ثم الإصلاج لمناسبته للقصة. قوله : ( أي الكاملون في الإيمان ( إنما قيده وفسره به للحصر إذ لو لم يذكر اقتضى إن من ليس كذلك لا يكون مؤمنا وليس كذلك وعلى الوجه الأوّل لا يكون عين النكرة فإنها إذا أعيدت معرفة لا يلزم أن تكون عينها لأنه أغلبي ، وعلى الثاني فهي عينها ، وقال النحرير : جعل اللام إشارة إليهم جرياً على ما هو الأصل في اللام ، وهو العهد سيما وقد انضم إليه قرينة لاحقة من قوله : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } بلفظ أولئك الصريح في الإشارة إليهم وتعريف الخبر وتوسيط الفصل مع القطع با! أصل الإيمان لا ينحصر في المذكورين. قوله : ( فزعت لذكره ( أي خافت من الله كلما ذكر ، أو خافت إذا أرادت معصية فذكرت الله وعقابه ، وانتهت عما همت به فهو على الأوّل عامّ وعلى هذا خاص وقوله يهتم بكسر الهاء من الهم بالشيء أي العزم عليه ، وينزع مضارع نزع نزوعا إذا انتهى ، وك! وأصله بمعنى القلع وفي نسخة فيفرغ من الفراغ والمراد به ذلك أيضا ، ووجل بالفتح يجل لغة والأخرى وجل بالكسر يوجل بالفتح وفي مضارعه لغات ، والفرق بمعنى الخوف معروف ، وقال أهل الحقيقة الخوف على قسمين خوف العقاب وهو للعصاة وخوف الجلال والعظمة فإن العبد الذليل إذا حضر عند ملك عظيم يهابه وهذا الخوف لا يزول عن قلب أحد ، والمصنف رحمه الله حمله في الآية على القسمين معا فإن قلت جعل ذكر الآيات مقتضيا للوجل ، والإضطراب وفي قوله : { أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } اسورة الرعد ، الآية : 28 ] ما يخالفه قلت قد فرقوا بين الذكرين فإنّ أحدهما ذكر رحمة والآخر ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما. قوله : ( لزيادة المؤمن به الخ ( اختلف في الإيمان هل يزيد وينقص أو
لا على أقوال فقيل لا يزيد ولا ينقص ، وقيل يزيد وينقص لأنّ الأعمال داخلة فيه فيقبل ذلك بحسبها ، وقيل نفس التصديق يقبل الزيادة قوّة وضعفا ، ولما ذكر في الآية زيادته نزلها على الأقوال فمن قال لا يزيد ولا ينقص ، قال إنّ ذلك باعتبار متعلقه ، وهو المؤمن به على بناء المفعول ، ومن قال إنّ اليقين نفسه يقبل ذلك قال لقوّة الأدلة ورسوخه ولا شك أنّ إيمان أحد العوام ليس كإيمان الصذيقين ، ولذا قال عليّ كزم الله وجهه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ، وقد رجح هذا النحرير والعلامة ، ومن قال إنّ الأعمال داخلة فيه فهو ظاهر فقوله ، وهو قول الخ راجع للقول الأخير وهو العمل. قوله : ( يفوّضون إليه أمورهم الخ ( الأمور المفوّضة إلى الله إمّا أمور ترجى ، أو أمور تخشى فلذا عطف عليه قوله ولا يخشون الخ ، والحصر المذكور من تقديم المتعلق على عامله ، وهو ظاهر. قوله : الأنهم حققوا إيمانهم الخ ( لما كانت الإشارة بأولئك إلى الموصوفين بالصفات المذكورة بعد إنما إلى هنا ، وقد تضمن ذلك وصفهم بخمسة أوصاف ثلاثة منها تتعلق بالباطن ، والقلب الخوف من الله والإنقياد لطاعته المشار إليه بالإخلاص وأن لا يتوكل إلا عليه ، واثنان منهما تتعلق بالظاهر الصلاة والصدقة ، ثم رتب على ذلك حقية إيمانهم واستحقاقهم لمنازل الجنان بين المصنف رحمه الله ذلك وأشار إلى وجه الاقتصار عليها لأنها مكارم إفعال القلوب ، ومحاسن أعمال الجوارح فتدل على غيرها فالخشية من قوله وجلت قلوبهم والإخلاص من حصر التوكل ، وفي جعل تلك مكارم لأنها من كرم النفس وجودتها وهذه محاسن لتزين ظاهر المرء بها ، وقوله حققوا إشارة إلى أن حقاً مصدر حق بمعنى ثبت وتحقيقه إثباته وقوله العيار من عاير المكاييل إذا قدرها ونظر ما بينها من التفاوت ، والعيار على كذا بمعنى الدليل والشاهد عليه لأنه يعلم به أمر غيره كما يعرف بمعايرة المكاييل زيادتها ونقصها. قوله : ( وحقا صفة مصدر محذوف الخ ( أي إيمانا حقاً فالعامل فيه المؤمنون لا حق مقدراً كما قيل ، أو هو مؤكد لمضمون الجملة فالعامل فيه حق مقدرا ، وقيل إنه يجوز أن يكون لمضمون الجملة التي بعده أي لهم درجات حقا فهو ابتداء كلام وهذا مع أنه خلاف الظاهر إنما يتجه على القول بجواز تقديم المصدر المؤكد لمضمون الجملة عليها ، والظاهر منعه كالتأكيد وقد ذكر الزمخشرقي هنا أنه تعلق بهذه الآية من يستثنى في الإيمان ، وكان أبو حنيفة رحمه الله ممن لا يستثنى فيه ، وهي مسألة الموافاة المشهورة ، ولكونه متعلقآ بهذه الآية وجه بعيد ، ولذا أنكره العلامة(4/251)
ج4ص252
في شرحه ، ولذا لم يتعرّض لها المصنف رحمه الله هنا
وتحقيقها أن الاستثناء أعني إن شاء الله إن كان للتبرك وتفويض الأمور إلى مشيئته تعالى ، أو للشك في الخاتمة أو في الإيمان المنجي الذي يترتب عليه دخول الجنة أو لتعليق الإيمان الكامل الذي يدخل فيه الأعمال جاز ، وبالجملة ليس للشك في حصول الإيمان في الحال فيرتفع النزاع ، ويتبين أنه لفظي كما ذهب إليه شراح الكشاف بأسرهم ، وقد تقدم تفصيله. قوله : ( كرامة وعلوّ منزلة الخ ( يعني المراد بالدرجات العلوّ المعنوي ، أو الحسي في الجنة وجمعها على الأوّل ظاهر باعتبار تعددها وتنوّعها ، وفي الثاني هي متعددة حقيقة ، وقوله لما فرط بالتخفيف أي سبق ولم يذكروا لتوسط المغفرة ، والظاهر تقديمها هنا نكتة فلتنظر ، ومعنى قوله رزق كريم أن رازقه كريم ، فلذا دذ على الكثرة وعدم الانقطاع إذ من عادة الكريم أن يجزل العطاء ، ولا يقطعه فكيف بأكرم الأكرمين وجعل الرزق نفسه كريما على الإسناد المجازي للمبالغة. قوله : ( خبر مبتدأ محذوف الخ ا لما كان الكلام يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج ، وهو غير مصرّح به ومحتاج للبيان ذكروا في بيانه ، واعرابه وجوهاً بلغت عشرين فمنها ما اختاره الزمخشري ، وتبعه المصنف رحمه الله إنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه أي حالهم هذه في كراهة التنفيل كحال إخراجك من بيتك في كراهتهم له ، كما سيأتي في تفصيل القصة فالمشبه حال والمشبه به حال أخرى ووجه الشبه كراهتهم الخ ، وهذا هو قول الفرّاء فإنه قال الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها مع أنها أولى بحالهم واخراجك مضاف للمفعول ، وقوله في كراهتهم له أي الحال ، وذكره باعتبار المضاف أو لكونه بمعنى الشأن والظاهر أنّ المراد بالكراهة الكراهة الطبيعية التي لا تدخل تحت القدرة ، والاختيار فلا يرد أنها لا تليق بمنصب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وقوله تعالى : { مِن بَيْتِكَ } أراد بيته بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مثواه واضافة الإخراج إلى الرب إشارة إلى أنه كان بوحي منه. قوله : ( أو صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله للّه ( قال ابن الشجري في الأمالي الوجه هو الأوّل ، وهذا ضعيف لتباعد ما بينهما وأيضا جعله داخلاً في حيز قل ليس يحسن في الانتظام ، وقال أبو حيان : إنه ليس فيه كبير معنى ولا يظهر للتشبيه فيه وجه وأيضاً لم يعهد مصدر لمتعلق الجاز ، وتأكيده ولذا قدر بعضهم قبل هذا ما يدلّ عليه ذلك والاعتذار با! الفاصل كالاعتراض لا يخلو من الاعتراض! ، وقيل تقديره وأصلحوا
ذات بينكم كما أخرجك وقد التفت من خطاب جماعة إلى خطاب واحد وتيل وأطيعوا الله ورسوله كما أخرجك إخراجا لا مرية فيه ، وقيل يتوكلون توكلاً كما أخرجك ، وقيل إنهم لكارهون كراهة ثابتة كإخراجك ، وقيل الكاف بمعنى إذ وهو مع بعده لم يثبت وقيل الكات للقسم ، ولم يثبت أيضا وان نقل عن أبي عبيد ، وجعل يجادلونك الجواب مع خلوّه عن اللام والتأكيد ، وقيل الكاف بمعنى على وما موصولة ، ولا يخفى ما فيه وقيل الكاف مبتدأ خبره مقدر وهو ركيك جذاً ، وقيل إنها في حل رفع خبر مبتدأ أي وعده حق كما أخرجك ، وقيل تقديره قسمتك حق كإخراجك وقيل ذلكم خير لكم كإخراجك ، وقيل تقديره إخراجك من مكة لحكم كإخراجك هذا ، وقيل هو متعلق باضربوا وهو كما تقول لعبدك رتبتك افعل كذا ، وقال أبو حيان : إنّ الكاف للتعليل كما في قوله لا تشتم الناس كما لا تشتم والتقدير أعزل الله بنصره وأمدك بجنوده ، لأنه الذي أخرجك وهم كارهون وبعد اللتيا والتي في النفس شيء من أكثر هذه التخريجات. قوله : ( في موقع الحال أي أخرجك الخ ( أي حال كونهم كارهين للحرب لعدم الاستعداد له أو للميل للغنيمة ، والحال مقدرة لأنّ الكراهة وقعت بعد الخروج بوادي دقران كما ستراه في القصة ، أو يعتبر ذلك ممتداً. قوله : ( وذلك أنّ عير قريش الخ ( هذه الجملة مبينة لما قبلها وإن دخلتها الواو وذلك إشارة إلى أن الإخراج في حال الكراهة ، وقوله عمرو بن هشام قال : الفاضل المحشي هو أبو جهل ، ولم يكن في العير بل في النفير والعير بكسر العين الإبل
التي تحمل المتاع والنجاء النجاء أي بادكأوا النجاء ، وهو بالفتح والمد الإسراع ، وقوله في كل صعب وذلول أي على كل مركوب صعب ، لا ينقاد وذلول منقاد للركوب والمراد عدم التربص واختيار ما يركب ، وقوله : ( أموالكم ) بدل من(4/252)
ج4ص253
عيركم أو خبره إن رفع وإن نصب فتقديره أدركوا ، وقوله وقد رأت جملة حالية وهو من رؤيا المنام وملكاً بفتح اللام ، وقوله : ) حلق ( بمعنى ارتفع وأصله من تحليق الطائر ، وهو استدارته في الهواء وضمن حلق معنى رمى أي راميأ بها ، وقوله : ( يتنبؤوا ( أي يدعوا النبوّة يعني به بني هاشم ، وفي نسخة ترضى بالتأنيث ، ورجالهم بالنصب على التنازع في نساؤهم وبدر اسم رجل حفر تلك البئر واستنبط ماءها فسمي به وقيل بجميع أهل مكة مبالغة وإلا فهم لم يخرجوا كلهم ، ودقران بدال مهملة وقاف وراء مهملة واد قريب من الصحراء ، وقوله نتأهب أي نستعدّ ونتدارك ، وقوله : ) إنا خرجنا ( تعليل وبيان لسبب عدم تأهبهم واحدى الطائفتين إمّا العير ، وامّا القوم فإنّ الطائفة لا تختص بالعقلاء ، وقوله فاحسنا أي أحسنا الكلام في إتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله : ) انظر أمرك ) أي ما تريد وافعل فنحن لا نخالفك ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخشى مخالفة الأنصار لأنهم شرطوا عليه في بيعة العقبة أن ينصروه على من أتاه وهو بالمدينة كما سيأتي ، وقوله : ( إلى عدن أبين ( أي إلى أقصى اليمن وأبين بفتح الهمزة وعن سيبويه أنها مكسورة أسم رجل عدن بها أي أقام فسميت به ، وقال الفاضل اليمني وهو أعرف ببلاده : أبين اسم قصبة بينها وبين عدن ثلاثة فراسخ أضيفت إليها الأدنى ملابسة ، وقيل إنه يجوز أن يكون مثل سبأ فتأفل ، وقوله : ( كانوا عددهم ) جمع عذة بضم العين ، والمراد ما أعذ للمعاونة ، وقوله برآء بالمذ ويجوز براء من ذمامه أي من ذمته وعهده بالنصرة حتى يصل أي العدوّ إلى ديارهم ، وقيل حتى يصل النبيّ غشت ولا وجه له ، وقوله فتخوف إنما تخوّف رسول اللّهء!ز مع ما مز من قول سعد بن عبادة له ، وهو سيد الأنصار لأنه سيد الخزرج فأراد أن يعلم اتفاقهم على رأيه وقوله : ( دهمه ( بالإهمال أي هجم عليه ، وقيل ساءه وفي نسخة همه وهي تحريف ، وقوله : ( على ذلك ) للتعليل أو المراد عهودنا على ذلك ، وقوله لو استعرضت بنا هذا البحر أي لو عبرته عرضاً وهو أشق من طوله ، وقيل معناه طلبت من البحر عرض ما عنده من الأمواج والأهوال وأنت فيه ، والباء تحتمل التعدية والمصاحبة والأخير أنسب بقوله معك ، وتوله : ( تلقى بنا ( الباء للتعدية أو
للمصاحبة ، وقوله صبر وصدق بضمتين جمع صبور وصدوق ، وقيل صبر بضم الصاد وتشديد الباء جمع صابر وصدق بضمتين مخففا جمع صدق كضرب من قولهم رجل صدق اللقاء وتقرّ بفتح التاء والقاف أي يسرّك ومصارع القوم أي المحالّ التي فيها جثث قتلاهم والوثاق ما يوثق ويربط به لأنه اً سر في بدر ، وقوله لا يصلح أي لا يصلح لك هذا الرأي ، وهو قول القائل عليك بالعير. قوله : ( فكره بغضهم قوله ) قال المحشي أي قول رسول اللّهءكرو والفاء للتفريغ أي إذا تبين أنّ القصة هكذا ، فقد تبين أنّ بعض الصحابة كره قول النبي ك!ه كلهم فقد تمت القصة بنقل كلام العباس رضي الله تعالى عنه والقصد بهذا تفسير قوله تعالى : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } [ سورة الأنفال ، الآية : 5 ] لكن في كلامه الباس لايهامه أنّ ضمير قوله للعباس رضي الله عنه. قوله : ( يجادلونك في الحق الخ ) هذه الجملة إمّا حالية أو مستأنفة ، وقوله : ( في إيئارك الجهاد ( أي أختيار النبي كيئ الجهاد وتلقي النفير بسبب أنه مظهر للحق ، ومعل للدين وليست الباء في موضع اللام حذراً من تكرارها في قوله لإيثارهم كما قيل. قوله : ( إنهم ينصرون الخ ( فاعل تبين ضمير الحق من غير شبهة ، وهذا تفسير للمراد منه لأنه ما آثر الجهاد إلا بعد علمه بالنصر لإعلام الله له به فلا يرد عليه أنه مخالف للظاهر. قوله : ( أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ) وقوله وهو يشاهد أسبابه إشارة إلى أنّ مفعول ينظرون هو أسباب الموت ومقدماته ، وهو تقدير معنى ويجوز أن يكون تقدير إعراب ومضاف بأن يكون جملة كأنما الخ صفة مصدر لكارهون بتقدير مضاف أي كارهون كرأهة ككراهة من سيق للموت ، وقد شاهد علاماته ومنهم من جعل الجملة حالية. قوله : ( وكان ذلك لقل عددهم الخ ) اعتذار عن مخالفتهم للنبيّ-لمجرو لأنهم كانوا ثلثمائة وتسعة عشر رجلاً فيهم فاوسان ، وقيل فارس واحد والمشركون ألف ذو عدة وعذة ، ورجالة بفتح وتشديد جمع راجل وهو(4/253)
ج4ص254
الماشي ، والفارسان هما المقداد بن الأسود والزبير بن العوام رضي الله عنهما وفي مسند أحمد عن عليّ كرم الله وجهه ما كان منا فارس يوم بدر إلا
ا المقداد ابن الأسود ، وقوله ( وفيه ) أي في قوله كأنما يساقون إلى الموت لأن من هذه حاله يكود
كذلك. قوله : ) على إضمار اذكر ) على أنه مفعوله إن كانت متصزفة أو التقدير أذكر الحادث إذ الخ كما مز ، واحدى أي لفظ إحدى مفعول بعد لأنه يتعدّى بنفسه وبالباء إلى الثاني ، والنفير اسم جمع أي القوم النافرون للحرب وفي المثل لا في العير ولا في النفير ، وأوّل من قاله أبو سفيان بن حرب لبني زهرة كما فصل في الأمثال. قوله : ) والثوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك ( المعروف استعيرت للشدة والحذة وللسلاح أيضأ ، ويقال منه رجل شائك للسلاج وشاك كغاز كقوله :
لدي أسد شاكي السلاج مقذف
والكلام فيه مشهور. قوله : ( أي يثبته ويعليه ( يشير إلى أنه من حق بمعنى ثبت فأحقه
ثبته ، وإعلاؤه إظهاره على غيره وهو تفسير للحق لأن الحق حق في نفسه لا يحتاج إلى إحقاق كما أنّ الباطل باطل في حذ ذاته لا يحتاج إلى إبطال فالمراد بإحقاق الحق ، وابطال الباطل إظهار كونه حقاً وباطلاً لئلا يلزم تحصيل الحاصل ، وما قيل الإعلاء من لوازم الإثبات لا معنى له. قوله : ( الموحى بها ني هذه الحال الخ ( أي المراد بالكلمات كلماته الموحى بها في هذه القصة أو أوامره للملائكة بالإمداد ونحوها ، وقراءة بكلمته لجعلها كالشيء الواحد أو هي كلمة كن التي هي عبارة عن القضاء والتكوين كما مرّ. قوله : ( ويستأصلهم ( أي يهلكهم جملة من أصلهم لأنه لا يفني الآخر إلا بعد فناء الأوّل ، ومنه سمي الهلاك دبارا. قوله : ( والمعنى أنكم تريدون الخ ) هذا محصل النظم من قوله ، وتودّون إلى هنا فقوله تريدون أن تصيبوا ما لا هو معنى قوله تودّون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ، وقوله والله يريد الخ معنى قوله ويريد الله الخ. قوله : ( وليس بتكر-لر الخ ا لما كان يتراءى منه أنه تكرار كقولك أريد أن أكرم زيداً لإكرامه ، وهو لغو وليس هذا بناء على تعلقه بيحق أو يريد كما يتوهم بل هو مما يقتضيه الكلام لأنّ فعل الشيء لأجل شيء آخر يقتضي إرادة ذلك الشيء الآخر منه فيؤول معناه إلى ما ذكر ، أجيب بأنّ قوله { يُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ } لبيان الفرق بين إرادته تعالى وارادة القوم بأنه يريد إثبات الحق وما هو من معالي الأمور ، وهم الفائدة العاجلة ، وما هو من سفسافها ، وقوله ليحق
الحق لبيان أنه فعل ما فعل من نصرة المؤمنين وخذلان المشركين لهذا الفرض الصحيح والحكمة الباهرة وهو إثبات الحق وابطال الباطل فالحاصل أنّ الأوّل بيان إرادة الله مطلقا وهذه لإرادة خاصة ، وفيه مبالغة وتأكيد للمعنى بذكره مطلقأ ومقيدا كانه قيل من شأن إرادة الله ذلك فلذا فعل ما فعلى هنا فلا يرد عليه ما قيل إنه لا يخفى أنّ بيان أنه تعالى أراد أن يحق الحق ، ويبطل الباطل في قوّة أنه أراده بما فعله فبعد تسليم أنّ مثل هذا لا يعد تكراراً لا محيص عن حصول الغنية بالأوّل عن الثاني أما على ما ذهب إليه الزمخشريّ من تقدير المتعلق مؤخراً ليفيد التخصيص ، فيكون مصب الفائدة هو الحصر في ذلك وبه يتم الفرق فكان على المصنف رحمه الله أن يذكره. قوله : ( ولو كره المجرمون ) أي المشركون لا من كره الذهاب إلى النفير لأنه جرم منهم كما قيل. قوله : ( بدل من إذ يعدكم الخ ) وان كان زمان الوعد غير زمان الاستغاثة لأنه بتأويل أنّ الوعد ، والاستغاثة وقعا في زمان واسع كما تقول لقيته سنة كذا كما مرّ مثله في آل عمران ، قيل وهو يحتمل بدل الكل إن جعلا متسعين وبدل البعض إن جعل الأوّل متسعا ، والثاني معياراً. قوله : ( أو متعلق بفوله ليحق الحق ( فإن قلت يحق مستقبل لنصبه بأن واذ للزمان الماضي فكيف تعمل فيه قيل إنه على ما ذهب إليه بعض النحاة كابن مالك من أنها تكون بمعنى إذا للمستقبل كما في قوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ } [ سررة غافر ، الآية : 71 ، وقد يجعل من التعبير عنه بالماضي لتحققه فتأفل. قوله : ) واستغاثتهم الخ ) الاستغاثة طلب الغوث وهو التخليص من الشذة والنقمة والعون ، وهو متعد بنفسه ولم يقع في القرآن إلا كذلك ، وقد يتعدى بالحرف كقوله :
حتى استغاث بماء لارشاء له من الأباطح في حافاته البرك(4/254)
ج4ص255
وكذا استعمله سيبويه رحمه الله فلا عبرة بتخطئة ابن مالك رحمه الله للنحاة في قولهم المستغاث له أو به أو من أجله ، ولا محيص بمعنى لإخلاص ، وأي حرف نداء وآلعصابة كالعصبة الجماعة من الناس ، وسقوط ردائه عخي! من توجهه في الدعاء وانجذابه له والمناشدة الطلب ، قيل وكلام أبي بكر رضي الله عنه يقتضي أن المستغيث النبيّ صلى الله عليه وسلم فالجمع للتعظيم ،
وقوله : ( وعن عمر رضي الله عنه الخ ( ) 1 ( أخرجه مسلم والترمذي. قوله : ( بأتي ممدّكم الخ ( يعني أنه حذف الجارّ لأنه مقيس مع أنّ وان وقراءة الكسر بتقدير القول أو لأنه يدل على معنى القول فيجري مجراه في الحكاية على المذهبين في مثله ، وقوله : ( من القول ) أي من جنس القول. قوله : ( متبعين المؤمنين الخ ) الإرداف الاتباع والإركاب وراءك ، وقال الزجاج أردفت الرجل إذا جئت بعده ، ويقال ردف وأردف بمعنى وهو أن يركبه أو يجيء خلفه ، وقيل بينهما فرق فردفت الرجل ركبت خلفه وأردفته أركبته خلفي ، وقال شمر : ردفت وأردفت إذ فعلت ذلك بنفسك فإذا فعلته بغيرك فأردفت لا غير هذا محصل كلام اللغويين فيه ومحصل كلام الزمخشريّ هنا على تطويل فيه وتشويش أن اتغ مشدداً يتعدى إلى واحد وأتبع مخففا يتعدى إلى اثنين بمعنى الإلحاق وان نقل في التاج أنه يكون بمعنى اللحاق متعديا لواحد أيضا وأردف أتى بمعناهما ، ومفعول اتبع محذوف ومفعولاً اتبع محذوفان فيقدر ما يصح به المعنى ويقتضيه فقول المصنف رحمه الله أوّلاً : ( متبعين المؤمنين ( بالتشديد ، وقوله ثانياً : ) ومتبعين بعضهم بعضا ) بالتخفيف وذكر فيه على تعديه لواحد احتمالين في موصوفه ومفعوله فإفا أن يكون موصوفه جملة الملائكة ، ومفعوله المقدر المؤمنين ، والمعنى اتبع الملائكة المؤمنين أي جاؤوا خلفهم ، أو موصوفه بعض الملائكة ، ومفعوله المقدر المؤمنين ، والمعنى اتبع الملائكة المؤمنين أي جاؤوا خلفهم ، أو موصوفه بعض الملائكة ومفعوله بعض آخر ، والمعنى تبع بعض الملائكة بعضا منهم كرسلهم ، وأشار إلى أنّ المعنيين على التعدية الواحد بمعنى اتبع المشدّد بقوله من أردفته إذا جئت بعده ، ثم ذكر له على تعديه لمفعولين وكونه بمعنى متبعين المخفف ثلاثة معان على أنه صفة للملائكة كلهم ومفعولاه بعضهم بعضا أي هذين اللفظين بأن يكونوا جعلوا بعضهم يتبع بعضاً وياتي بعده أو مفعوله الأوّل بعضهم ، والثاني المؤمنين أي اتبعوا بعضهم المؤمنين فجعلوا بعضا منهم خلفهم ، أو مفعولاه أنفسهم والمؤمنين أي اتبعوا أنفسهم وجملتهم المؤمنين فجعلوا أنفسهم خلفهم فالاحتمالات خمسة والتقادير كما عرفت ، هذا تحقيق مراد المصنف رحمه الله بما لا يحتاج إلى غيره. قوله : ) مردفين بفتح الدال اي متبعين أو متبعين ) الأوّل بالتشديد متعد لواحد والثاني بالتخفيف متعد لاثنين وهما بصيغة المفعول فهو على الأوّل مقدمة الجيش لأنها متبعة ، والمتبع لهم المؤمنون وعلى الثاني ساقته لأنهم متبعون أي جاعلون أنفسهم تابعة لهم. قوله : ( وقرئ مردفين بكسر الراء وضمها الخ )
أصله على هذه القراءة مرتدفين فأبدلت التاء دالاً لقرب مخرجهما وأدغمت في مثلها ويجوز في رائه حينئذ الحركات الثلاث الفتح وهي القراءة التي حكاها الخليل رحمه الله عن بعض المكيين ، وفتحها بنقل حركة التاء أو للتخفيف والكسر على أصل التقاء الساكنين ، أو لاتباع الدال ، والضم لاتباع الميم والكل شاذ وظاهر ما نقل عن الخليل أن القراءة بالفتح ، والآخرين يجوز أن بحسب العربية كما يجوز كسر الميم أيضاً ، فلو ذكر المصنف رحمه الله تعالى الفتح كان أولى ولم يذكر في معناه كونه من الارتداف بمعنى ركوب أحدهم خلف آخر كما في بعض التفاسير لأنّ أبا عبيد أنكره وأييده بعضهم. قوله : ( وقرئ بآلاف ليوافق الخ ا لأنه وقع في سورة أخرى بثلاثة آلاف وبخمسة آلاف ، وهنا بألف فقراءة الجمع بآلاف كأصحاب جمع ألف كفلس توافق ما وقع في محل آخر وعلى قراءة الإفراد فالتوفيق ما ذكره المصنف رحمه الله والاختلاف في أنهم قاتلوا معهم ، أو لم يقاتلوا ، وإنما كثروا سوادهم تقوية وتوهينا لأعدائهم مفصل في الكشاف. قوله : ( أي الإمداد ) يعني مرجع الضمير المصدر المنسبك على قراءة الفتح ، والمصدر المفهوم منه على الكسر ولم يجعله له باعتبار أنه قول لتكلفه ، وقوله : ( 1 لا بشارة ) إشارة إلى أنه مصدر منصوب على أنه مفعول له ، وجعل متعد لواحد وليطمئن معطوف عليه ، وأظهرت اللام لفقد شرط النصب ، وظاهر كونه بشرى أنّ النبيّء صلى الله عليه وسلم(4/255)
ج4ص256
أخبرهم به ، والمراد بالذلة الانكسار من الفزع والا فالعزة دلّه ولرسوله والمؤمنين. قوله : ) وإمداد الملائكة وكثرة العدد ) بضم العين جمع عدة وهي ما يعد للحرب ، وغيره كالسلاح والأهب جمع أهبة بمعناه فهو عطف تفسير وتأكيد أو بفتحتين وهو ظاهر ، وفي الكشاف يريد ولا تحسبوا النصر من الملائكة عليهم الصلاة والسلام فإنّ الناصر هو الله لكم للملائكة أو وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله ، والمنصور من نصره الله ، والفرق بينهما أنه على الأوّل لا دخل للملائكة في النصر ، والثاني أنّ لهم دخلا إلا أنهم ليسوا بسبب مستقل ، ولتقارب الوجهين أدرجهما المصنف رحمه الله تعالى في كلامه وأما ما قيل إنه ترك لقلة مساسه بالمقام ، فلا مساس له بالمقام. قوله : ( بدل ثان من إذ يعدكم الخ ) وهذا بناء على جواز تعدد البدل ، والنعمة الثالثة أنّ الخوف كان يمنعهم النوم فلما طمن الله قلوبهم نعسوا ، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة وسوسة من لشيطان وضعف تعلقه
بالنصر ، بأن فيه إعمال المصدر المعرف بأل وفيه خلاف للكوفيين ، والفصل بين المصدر ومعموله ، وعمل ما قبل إلا فيما بعدها ، وتعلقه بما في الظرف من معنى الفعل لتقدير ثابت ، ونحوه قيل عليه إنه يلزم تقييد استقرار النصر من الله بهذا الوقت ولا تقيد له به ، وردّ بأنّ المراد به نصر خاص فلا محذور في تقييده فتأمّل ، وفي تعلقه بجعل فصل بينهما ، وفيه وجوه أخر ووجه القراآت ظاهر. قوله : ( أمنا من الله ) يعني الأمنة هنا مصدر بمعنى الأمن كالمنعة ، وان كان قد يكون وصفة بمعنى أمين كما ذكره الراغب وفي نصبه وجوه ، منها ما ذكره المصنف رحمه الله ، وهو أنه مفعول له ولما كان من شرطه أن يتحد فاعله وفاعل الفعل العامل فيه ، وفاعله هم الصحابة رضي الله تعالى عنهم الآمنون ، وفاعل يغشى على هذه القراءة الله ، وعلى الأخرى النعاس ، أجاب ) بأن يغشيكم النعاس ) يلزمه معنى تنعسون ، فجعل كناية عنه ، وهذا مفعول له باعتبار المعنى الكناتي ، فقوله متضمن بمعنى مستتبع ومستلزم له حخى كأنه في ضمنه ويغشاكم النعاس مؤوّل بتنعسون لأنه بمعناه ، وقوله : ( والأمنة ) فعل لفاعله أي لفاعل تنعسون الذي دل عليه الكلام. قوله : ) ويجوز أن يراد بها الإيمان ) أي يراد الإيمان بمعناه اللغوي ، وهو جعل الغير آمنا بمعنى الأمان فيكون مصدر آمنه ، وهو بعيد في اللغة كما قاله النحرير ، بناء على أنه مصدر المزيد بحذف الزوائد ولك أن تقول ليس مراده هذا بل منه لما كان صفة آمنة ومآل معنى الأمنة الكائنة من الله التأمين فباعتباره جعل مفعولاً له ، واتحدا فاعلا ، والحاصل أنه إمّا أن يؤوّل الفعل أو المصدر فتدبر ، ومع هذا فعلى قراءة يغشيكم ظاهر لأنّ فاعل التغشية ، والأمان هو الله وأما على الأخرى وهي يغشاكم فلا يتأتى هذا بل يؤوّل بما مرّ ، ويجوز في هذه القراءة وجه آخر وهو أن يجعل إلا من صفة النعاس لا صفة أصحابه وهو أنّ النوم كأنه كان يخاف أن يأتيهم لئلا يمسه ما مسهم ، أو أنه التمس منهم الأمنة فلما أمن أتاهيم كما في البيت المذكور ، وهو معنى لطيف ، وان قيل : إنه تخيل يليق بالشعر لا بالقرآن ، ثم إن وجهه كما قيل إنه استعارة بالكناية شبه النعاس بشخص من شأنه أن يأتيهم في وقت الأمن دون الخوف وقرينته إثبات الأمن له ، وقيل : إنه جعل الأمنة فعل النعاس على الإسناد المجازي لكونه من ملابسات أصحاب الأمن أو على تشبيه حاله مجال إنسان شأنه الأمن والخوف ، وان حصل له من الله تعالى الأمنة من الكفار في مثل ذلك الوقت المخوف فلذلك غشيكم وأنامكم ، فيكون الكلام
تمثيلا وتخييلاً للمقصود بإبراز المعقول في صورة المحسوس ، فإن قلت : كيف يكون إسنادا مجازيا كما في الكشاف ، وشروحه واسناد يغشاكم إلى النعاس لا شبهة في كونه حقيقة على كل حال والأمن لم يذكر له فاعل حتى يكون الإسناد فيه مجازيا والمصدر لا يضمر فيه فهل مراده بالإسناد النسبة التي بين الفعل والمفعول له ، قلت المراد الإسناد المقدر في الأمن لأنه لما جعل صفة للنعاس فكأنه قيل أمن النعاس فغشيهم ، ومنه تعلم أنّ الإسناد المجازي قد يكون مذكورأ ، وقد يكون مقدرا وهو شبيه بالاستعارة المكنية ، فتنبه له ، ثم إن الوجه الأوّل هو الذي ذكروه في قوله تعالى : { يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا } [ سورة الرعد ، الآية : 12 ] لأنه تعالى إذا أراهم البرق رأوه(4/256)
ج4ص257
فكانوا فاعلين معنى وسيأتي تحقيقه إلا أنه قيل إن فاعل تغشية النعاس ، هو الله تعالى ، وهو فاعل الأمنة أيضا لأنه خالقها ، وحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة ويندفع السؤال على قواعد أهل السنة ، ولا يخفى أنّ المعتبر الفاعل اللغوي ، وهو المتصل بالفعل ، وهو تعالى غير متصف بالأمن ولا يقال له آمن والعبد هو الفاعل لغة وإن كان تعالى هو الفاعل حقيقة ، وحينئذ يفتقر السؤال إلى دفعه بما مرّ ، فإن قلت لم اقتصر على أنه مفعول !ه هنا وجعله في آل عمران تارة حالاً وأخرى مفعولاً به ومفعولاً له ، قلت قالوا إنّ ذلك المقام اقتضى الاهتمام بشأن الأمن ، ولذلك قدمه وبسط الكلام في الأمن وازالة الخوف ، ألا ترى إلى سياق الآية وهو قوله : { فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } [ سررة آل عمران ، الآية : 153 ] ، وسباقها وهو قوله يغشى طائفة الخ حيث جعله صفة لنعاسا وختم الكلام بقوله لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم كيف جعل الكلام كله في الأمن والخوف بخلافه هنا لأنه مقام تعداد النعم فجيء بالقصة مختصرة بالرمز. قوله : ( يهاب النوم أن ينشى عيونا تهابك فهو نفار شرود ) هذا من قصيدة للزمخشركا في ديوانه وتهاب بمعنى تخاف ، ونفار صيغة مبالغة كنفور من النفور والشرود وهما بمعنى ، وقراءة أمنة بالسكون لغة فيه. قوله : ( من الحديث والجنابة الخ ) على هذا يصير تفسير الرجز بالجنابة مكرّرأ فالتفسير هو الثاني كما قيل وقد أشار المصنف رحمه الله إلى دفع التكرار بأنّ الجملة الثانية تعليل للأولى والمعنى طهركم منها لأنها من رجز الشيطان ، وتخييله والكثيب ما اجتمع من الرمل ، والا عفر بعين مهملة وفاء وراء مهملة رمل أبيض يخالطه حمرة ، وتسوخ
فيه أي تغوص وتنزل فيه الإقدام للينه وهذا الحديث أخرجه ) 1 ( أبو نعيم في الدلائل ، وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وليس فيه فاحتلم أكثرهم ، وقوله : ( على عدوته ) بضم العين أي جانبه والركاب الإبل اسم جمع لا واحد له من لفظه أو واحده ركوبة ، وقوله : ( تلبد ) أي التصق بعضه ببعض ، وذهب تخلخه فسهل المشي عليه ، وقوله وزالت الوسوسة أي بسبب زوال ما وسوس به ، وأشفقوا بمعنى حزنوا. قوله : ( بالوثوق على لطف الله تعالى لخ ( يقال رابط القلب ورابط الجأس للصبور الجريء وكل من صبر على أمر فقد ربط قلبه عليه والأصل ليربط قلوبكم ، ثم على قلوبكم فعند الاستعلاء كأنّ قلوبهم امتلأت منه حتى علا عليها فأفاد التمكن فيه ، وقوله حتى تثبت في المعركة أي حتى تثبت القلوب في المعركة ولا تجبن فيفرّوا أو حتى تثبت الإقدام لأنّ ثباتها تابع لقوّة القلوب ، لا بالمطر لتقدم زمان المطر على زمان الوحي لأنه وقت القتال وذلك قبله لأنّ التثبت بالمطر باق إلى زمانه أو يعتبر زمان الأول متسعا قد وقعا فيه كما مرّ ، وقوله في إعانتهم وتثبيتهم أي إعانة المؤمنين وتثبيتهم ، ذكره لأنّ توله أني معكم لإزالة الخوف كما في توله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } [ سورة التربة ، الآية : 40 ] ولما ورد عليه أن الملائكة ، لا يخافون من الكفرة فما وجه خطابهم به دفعه بأن المراد أني معكم أي معينكم على تثبيت المؤمنين والكسر على تقدير القول أي قائلا إني معكم ، أو لكونه متضمناً لمعنى القول حكيت به الجمل على المذهبين في أمثاله ، واجراء بالجرّ عطفا على إرادة وجوّز نصبه عطفاً على محله ولا حاجة إليه. قوله : ( بالبشارة أو بتكثير سوادهم الخ ( البشارة إنا بأن يخبروا الرسول جمح أو بأن يلهموا قلوب المؤمنين ذلك ، أو بأن يظهروا لهم في صورة بشرية يعرفونها ، ويعدونهم النصر والتمكن كما روي أنّ تكثير السواد كان كذلك. قوله : ( فيكون قوله سألقي الخ ( أي على الاحتمال الأخير وهو المحاربة يعني الخطاب مع الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، والجملتان مفسرتان الخبرية للخبرية والطلبية للطلبية فسألقي الخ تفسير لأني معكم في إعانتهم بإلقاء الرعب واضربوا ، تفسير لثبتوا ويكون تثبيتهم قولهم لهم أبشروا بالنصر ونحوه ، هالقاء الرعب بقو!هم للمشركين إنهم إن حملوا عليكم انهزمتم ونحوه ، ووجه الاستدلال به على تسليم التفسير ظاهر
ولأنّ خطاب ثبتوا للملائكة فالظاهر أن اضربوا كذلك ، وهو أحد قولين للمفسرين كما مرّ. قوله : ( ومن مفع ذلك جعل الخطاب الخ ( أي من منع قتال الملائكة ، جعل الخطاب اًي المخاطبة فيه أي في فاضربوا ، أو الكلام المخاطب به في هذا النظم مع المؤمنين إما على التلوين وتغيير الخطاب من خطاب الملائكة إلى خطاب المؤمنين ، أو يكون كلاما تلقينيا(4/257)
ج4ص258
للملائكة بتقدير القول لكنه حكى فيه ما قاله الله بلفظه والا فكان الظاهر سيلقي الله الرعب فاضربوا الخ واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله تولي هذا. قوله : ( أعاليها التي هي المذابح ) يعني فوق الإعناق إما على ظاهره ، والمراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق فالمراد اضربوا رؤوسهم كقوله :
وأضرب هامة البطل المشيح
أو المراد أعالي الإعناق التي هي نحرها ومقطعها الذي تطير بضربه الرؤوس وفوق باقية
على ظرفيتها لأنها لا تتصرّف ، وقيل إنه إذا كان عبارة عن الرأس فهو مفعول به قيل وتفسيره بالأعالي ناظر إليه ، وقيل فوق هنا بمعنى على ، والمفعول محذوف أي اضربوهم على الأعناق وقيل زائدة. قوله : ( أصابع أي حزوا رقابهم الخ ( اختلف أهل اللغة في البنان فقيل هو الأصابع واحده بنانة ، وقيل إطلاته عليها مجاز من تسمية الكل بالجزء ، وقيل هي المفاصل ، وقيل هي مخصوصة باليد وقيل نعم اليد والرجل ، ويقال بنام بالميم وأشار المصنف رحمه الله بقوله اقطعوا أطرافهم إلى أن المراد بالبنان مجازأ مطلق الأطراف لوقوعه في مقابلة الأعناق ، والمقاتل إذ المراد اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها وإنما خصت لأن بها المدافعة. قوله : ( إشارة إلى الضرب الخ ( أو الإشارة إلى جميع ما مرّ والخطاب لأفراده أو لكل من ذكر قبل من الملائكة والمؤمنين على البدل أو لأنّ الكاف تفرد مع تعذد من خوطب بها ، وليست كالضمير كما صرّحوا به. قوله : ( بسبب مشاقتهم لهما ( أي عداوتهم وإنما سميت العداوة مشاقة من شق العصا ، وهي المخالفة أو لأنّ كلاً من المتعادين يكون في شق غير شق الآخر كما أن العداوة سميت عداوة لأنّ كلا منهما في عدوة بالضم أي جانب ، وكما أن المخاصمة من الخصم بالضم وهو الجانب كما بينه أهل الاشتقاق ، وقوله : ) هو الجانب ( تفسير للخصم أوله ولما
قبله. قوله : ( تقرير للتعليل الخ ( أراد بالتعليل السببية في قوله بأنهم شاقوا الله الخ وهذا بيان له بطريق البرهان أي ما أصابهم بسبب المشاقة لله ورسوله ، ومن يشاقق الله ووسوله فهو مستحق للعقاب ، ولذا قال تقرير ولم يقل تأكيد ، ويحتمل أن يريد التأكيد هذا إن أريد بالعقاب ما وقع في الدنيا فإن كان الأخروي فهو وعيد وبيان لخسرانهم في الدارين ، ويحتمل أن يريد أنّ هذا تقرير لما قبله لأجل ما فيه من بيان العلة والمعنى استحقوا ما ذكر بسبب تلك المشاقة لأنهم شاقوا من هو شديد العقاب سريع الانتقام ، وقوله : { حَاقَ بِهِم } [ سورة هود ، الآية : 8 ] أي أصابهم وأحاط بهم. قوله : ( الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات الخ ( والالتفات من الغيبة في شاقوا إلى الخطاب ، قال النحرير : إشارة إلى أن الخطاب المعتبر في الالتفات أعثم من أن يكون بالاسم كما هو المشهور نحو : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أو بالحرف كما في ذلك بثرط أن يكون خطابا لمن وقع الغائب عبارة عنه ، وفيه بحث ، وأشار في الرفع إلى وجهين أن يكون مبتدأ أو خبراً. قوله : ) أو نصب بفعل دل عليه فذوقوه ( أي من باب الاشتغال ، وقيل عليه إنه لا يجوز لأن الاشتغال إنما يصح لو جؤزنا صحة الابتداء في ذلكم ، وما بعده الفاء لا يكون خبراً إلا إذا كان المبتدأ موصولاً أو نكرة موصوفة ، ورذ بأنه ليس متفقاً عليه فإن الأخفش جوّزه مطلقاً ، وقوله : ( أو غيره ( بالجرّ عطف على فعل ، وقوله : التكون الفاء عاطفة ) إشارة إلى أنها زائدة على الأوّل أو جزائية ، كما في زيداً فأضربه على كلام فيه ، وقوله أو عليكم أي اسم فعل بمعنى ألزموا ، قال النحرير : ومرجعه إلى ذوقوا العذاب إلا أنه عدل في المقدر عن المجاز ، وقال أبو حيان : إنه لا يجوز هذا التقدير لأن عليكم من أسماء الأفعال وأسماء الأفعال لا يجوز حذفها ، وعملها محذوفة وليس ما قاله بمسلم فإن من النحاة من أجازه ، وأما كونه عدل عن تقدير المجاز فمع كونه لا وجه له ، وان تبع فيه الفاضل اليمني لا يصلح جوابا عن اعتراض أبى حيان : كما توهم لأنه ينبغي أن يقدر الزموا. قوله : ) عطف على ذلكم ( ظاهره وان كان مطلقا إلا أن يريد إذا كان مرفوعا كما قيده به الزمخشريمما ، وتركه لظهوره ، وفي بعض الحواشي أنه جعله خبر مبتدأ محذوف أو عكسه ، ولذا لما ذكر نصبه جعله مفعولاً معه لأنه لا يخفى ما في تقدير باشروا أو عليكم أو ذوقوا أنّ للكافرين عذاب النار مما يأباه للذوق ، ولذا قال العلامة :(4/258)
ج4ص259
إنه لا معنى له ، وأما المعية فلا يرد عليها شيء لأن تقديره ذوقوا ذلك مع أن لكم زيادة عليه عذاب النار ، ولا ركاكة فيه كما توهم ، و- على أنه فاعل فعل مقدر أي وقع إ " لا دلالة في
كلامه عليه لكن في جواز نصب المصدر المؤوّل على أنه مفعول معه نظر ، والظاهر هو للكافرين وضع موضع لكم ، وقوله للدلالة الخ لأنه يقتضي علية مأخذ الاشتقاق كما مرّ تحقيقه ، وقوله : أو الجمع إشارة إلى كونه مفعولاً معه وله إعراب آخر وهو نصبه باعلموا أو جعله خبر مبتدأ محذوف ، وعلى قراءة الكسرة فالجملة تذييل واللام للجنس والواو للاستئنات. قوله : ( كثيرا بحيث يرى لكثرتهم الخ ( يعني أن الزحف مصدر زحف على عجزه ، ثم
أطلق على الكثير لأنه يشبه بالزاحف لما ذكر ، وقال الراغب : الزحف إنبعاث مع جز الرجل كإنبعاث الصبي قبل أن يمشي ، والبعير المعي والعسكر إذا كثر تعسر إنبعاثه ، وجمع على زحوف لأنه خرج عن المصدرية وهو حال إما من الفاعل أو المفعول أو منهما ، وقيل إنه مصدر لفعل وقع حالاً. قوله : ( بالانهزام فضلأ الخ ( هذا بناء على المتبادر من أن زحفا حال من المفعول وأنه بمعنى كثير ، وكثرتهم بالنسبة إليهم فإذا نهوا عن الإنهزام ممن هو أكثر منهم ففي غيره بطريق الأولى ، وقيد بالإنهزام وإن شمل غيره لأنه المتبادر منه عند الإطلاق ، ولقوله : ( فقد باء بغضب ) الخ. قوله : ( والأظهر أنها محكمة ( أي ليست منسوخة بآية التخفيف كما سيأتي ، وقيل إنها منسوخة بها ، وهذا بناء على أن التخصيص بمنفصل ليس بنسخ عند الشافعية فلا يرد عليه ، أن المحكم ما ليس بمنسوخ ولا مخصص ، وقوله ويجوز الخ فيكونون موصوفين بالكثرة فلا يحتاج إلى تخصيص ، ولما ورد عليهم أنهم لم يكونوا ببدر كذلك قال : إنه عبارة عما وقع لهم يوم حنين ، والرمي المذكور إنما كان فيه على ما عليه المحدثون وسيأتي ما فيه وعدل عن لفظ الظهور إلى الإدبار تقبيحا للإنهزام وتنفيراً عنه. قوله : ( يريد الكرّ بعد الفرّ الخ ( الكرّ من كز على العدوّ إذا حمل عليه والفرّ الرجوع ، قال : امرؤ القيس :
مكز مفزمقبل مدبر معاً
قوله : ) فإثه من مكايد الحرب ( لأنه يغرّه بصورة انهزامه ، وقوله : منحاز أيءنصمأ وملحقا بهم وكونه على القرب يفهم منه بناء على المتعارف ، وقيل إنه لا يختص به بناء على
مفهومه اللغوي. قوله : ( روي الخ ( ) 1 ( السرية عسكر دون الجيش ، وهذا الحديث رواه أبو داود الترمذفي وحسنه لكن بمعناه مع مخالفة في بعض ألفاظه ، والعكار الذي يفز إلى من هو أمامه ليستعين به ، ولا يقصد الفرار ، وفي النهاية العكارون الكزارون إلى الحرب والعطافون نحوها يقال للرجل الذي يفرّ عن الحرب ثم يكرّ راجعا إليها عكر واعتكر ، ويحتمل أن تسميتهم عكارين تسلية لهم وتطييبا لقلوبهم. قوله : ادإلا لغو لا عمل له ( لا عمل تفسير للغو وأنه المراد به لا الزائد ولم يعمل لأنه استثناء مفرغ من أعمّ الأحوال ، ولولا التفريغ لكانت عاملة أو واسطة في العمل على ما ذكر في النحو ، والاستثناء المفرغ شرطه أن يكون في النفي أو صحة عموم المستثنى منه نحو قرأت إلا يوم كذا الصحة أن تقرأ في جميع الأيام ، ومن هذا القبيل ما نحن فيه ، ويصح أن يكون من الأوّل لأن يولي يمعنى لا يقبل على القتال ، وعلى الاستثناء من المولين المعنى المولون إلا المنحرفين والمتحيزين لهم ما ذكر من الغضب ، وقوله رجلاً بيان للمعنى لا تقدير إذ لا حاجة له لكن الأصل في الصفة اًن تجرى على موصوف. قوله : ) ووزن متحيز متفيعل الخ ( قال النحرير : جعل في المفصل تدبرآ من باب التفعل فاعترض عليه بأن حقه تدور لأنه واوقي فهو تفعيل ، وقد ذكره له بعض تلامذته فأذعن له ، وذكر الإمام المرزوقي أن تديرا تفعل نظراً إلى شيوع ديار بالياء وعلى هذا يجوز أن يكون تحيز تفعل نظراً إلى شيوع الحيز بالياء فلهذا لم يجىء تدوّر ولا تحؤز ) قلت ( ما ذكره الإمام المرزوقي أيده بعض النحاة وذكر ابن جني في إعراب الحماسة إنه هو الحق وأنهم قد يعدون المنقلب كالأصلي ، ويجرون عليه أحكامه كثيراً ، وفي قوله إنهم لم يقولوا تحؤز نظر فإن أهل اللغة قالوا تحوّز وتحيز كما نقله في القاموس ، وقال : ابن تيمية تحؤز تفعل وتحيز تفيعل ، وهذه الماذة معناها في كلام العرب يتضمن العدول من جهة إلى أخرى من الحيز وهو فناء الدار ومرافقها ، ثم قيل لكل ناحية فالمستقز في موضعه كالجبل لا يقال له متحيز ، ويراد بالمتحيز عند العرب ما يحيط به حيز موجود ، وهو أعثم من هذا والمتكلمون يريدون به الأعثم ، وهو كل ما أشير(4/259)
ج4ص260
إليه فالعالم كله متحيز. قوله : ( هذا إذا لم يزد العدد على الضعف الخ ( كما مرّ أنها مخصوصة
بما في غيرها من الآيات ، وأما تخصيصها بأهل بدر وبجيش فيه النبيّءكتن فلأن الواقعة المذكورة في النظم تخصص بالمعونة ، وهذا منقول عن أبي سعيد الخدرفي رضي الله عنه أما أهل بدر فإنه أوّل جهاد وقع في الإصلام ، ولذا تهيبوه ولو لم يثبتوا فيه لزم مفاسد عظيمة ولا ينافيه أنه ! يكن لهم فئة ينحازون إليها لأن النظم لا يوجب وجودها ، وأما إذا كان النبيّ عتي! معهم فإن الله قد وعده بالنصر ، كذا قيل وقال الجصاص : إنه غير سديد لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يخرجوا لأنهم لم يعلموا بالنفير وظنوها العير فقط ، والإنحياز عن النبيئ-لمجيه غير جائز لعصمته ولأن الله نصره فكان فئة لهم وقيل عليه إق الإشارة بيومئذ إلى يوم بدر ولا تكاد تصح لأنه في سياق الشرط ، وهو مستقبل فالآية إن كانت نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فيوم بدر فرد من أفراد أيام اللقاء فيكون عاتا فيه لا خاصاً به ، وإن نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم بعده ، ويومئذ إشارة إلى يوم اللقاء ، ويدفع بأن المراد أنها نزلت يوم بدر ، وقد قامت قرينة على تخصيصها كمامرّ ولا بعد فيه ، وباء بمعنى رجع وضمير معه للنبي لمجي! ، وقوله : ) ينصركم ( إشارة إلى أن إسناد القتل إلى الله مجاز ، والفرار عن الزحف بغير نية الكز ، والإنحياز إلى فئة المسلمين كبيرة ما لم يكن الجيش قليلاً لا يقدر على المقاومة ، ولذا قال محمد بن الحسن رحمه الله إذا كانوا اثني عشر ألفا لم يجز لأنهم لا يغلبون عن قلة كما في الحديث. قوله : ( روي أئه لما طلعت قريش الخ ( ) 1 ( قال السيوطي : هذ الحديث أخرجه ابن جرير بن عروة ومرسلا ، وليس فيه أمر جبريل عليه الصلاة والسلام بذلك ، وروى ابن جرير وابن مردوية أمر جبريل له بذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولم يقف عليه الطيبي فقال : لم يذكر أحد من أئمة الحديث أن هذه الرمية كانت يوم بدر إنما هي يوم حنين واغتر به من قال : المحدثون على أن الرمية لم تكن إلا يوم حنين وليس كما قالا والطيبي رحمه الله لم يبلغ درجة الحفاظ ، ومنتهى نظره الكتب الستة وكثيراً ما يقصر في التخريج اهـ وقد سبقه الحافظ بن حجر إلى هذا وخرج الرمي في بدر من طرق عديدة وذكر ما في حنين في هذه القصة من غير قرينة بعيد جدا والعقنقل بعين مهملة مفتوحة وقاف مفتوح ونون ساكنة وقاف ولام ، ووزنه فعنعل الكثيب العظيم من الرمل والمراد به محل مخصوص ، وشاهت الوجوه بمعنى صارت مشوهة أي قبيحة ، والخيلاء بوزن العلماء بمعنى الكبر ، وتناول كفآ
كان المناول له عليا رضي الله عنه ، وشغل بالبناء للمجهول بمعنى اشتغل ، وردفهم بمعنى تبعهم كما مرّ ، وضمير انصرفوا وأقبلوا للمسلمين. قوله : ) والفاء جواب شرط محذوف الخ ( قال أبو حيان رحمه الله : ليست هذه الفاء جواب شرط محذوف وإنما هي للربط بين الجمل لأنه قال : { فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ سورة الأنفال ، الآية : 12 ] وان كان امتثال ما أمروا به سببا للقتل فقيل : فلم تقتلوهم أي لستم مستبذين بالقتل لأن الأقدار عليه ، والخلق له إنما هو لله تعالى ، قال السفاقسيّ ، وهذا أوى من دعوى الحذف ، وقال ابن هشام يردّه انّ الجواب المنفي لا تدخل عليه الفاء وهو غير وارد على الزمخشرفي لأن الجملة عنده اسمية وتقديره فأنتم لم تقتلوهم كما صزح به ومن غفل عن هذا قال : إنه علة الجزاء أقيمت مقامه والأصل إن افتخرتم بقتلهم فلا تفتخروا به فأنكم لم تقتلوهم ، ونظائره كثيرة ولم يقدر المبتدأ كما في الكشاف ، لأن الكلام على نفي الفاعل دون الفعل لعدم الحاجة إليه والغنية عنه بقوله : { وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } مع أن الأصل في الجزاء الفعلية دون الاسمية وكذا قول النحرير : يشبه أن يكون هذا المبتدأ مقدراً لأنه على نفي الفعل دون الفعل ، والدليل عليه قوله ولكن الله رمى الخ ورذه معلوم مما أسلفناه. قوله : ( وما رميت يا محمد رمياً توصله الخ ) كذا في بعض النسخ ، وفي أخرى توصلها أي الحصباء أو الكف من التراب والعائد محذوف أي به أو أنث الرمي لتأويله بالرمية ، وقد استدل بهذه الآية والتي قبلها على أنّ أفعال العباد بخلقه تعالى حيث نفى القتل والرمي والمعنى ، إذ رميت أو باشرت صرف الآلات ، والحاصل ما رميت خلقاً إذ رميت كبا ، وأجيب بأن الإسناد إليه تعالى لأنه(4/260)
ج4ص261
بتأييده ونصره ، وبأن معناه الإماتة وهي فعله تعالى وإنما فعل العبد الجرج وبأنّ إسناد الرمي إليه تعالى لأن إيصال تراب قليل إلى عيون كثيرة لم يكن إلا فعله تعالى ، وبأن المراد الرمي المقرون بالقاء الرعب ، وهو منه تعالى ، وكلها خلاف الظاهر كذا قيل ، وأورد عليه أن المدعي وان كان حقا لكن لا دلالة في الآية عليه لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادىء النظر مدفوع بأن المراد ما رميت رميا تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون ، وإن رميت حقيقة وصورة وهذا مراد من قال : ما رميت حقيقة إذ رميت صورة فالمنفيّ هو الرمي الكامل ، والمثبت أصليما وقدر منه فالإثبات والنفي لم يردا على شيء واحد حتى يقال : المنفي على وجه الخلق ، والمثبت على وجه المباشرة ولو كان المقصود هذا لما ثبت المطلوب بها الذي هو سبب النزول من أنه أثبت له الرمي لصدوره عنه ونفي عنه لأن أثره ليس في طاقة البشر ، ولذا عدت معجزة له حتى كأنه لا مدخل له فيها أصلا فمبني الكلام على المبالغة ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع لأن معناه الحقيقيئ غير مقصود ، وهذا مراد الزمخشرقي هكذا ينبغي أن يفهم هذ المقام إذ لو كان المراد ما ذكر لم يكن مخصوصا يهذا الرمي لأنّ جميع أفعال العباد كذلك بمباسرتهم وخلق الله ) قلت ( هذا ليس بشيء لأن وجه الدلالة ينافي ما ذكره لأن المراد به الأمر الكامل الذي لا تطيق البشر أن تفعله ويصدر عنه
هذا الأثر لأنه إن كان بإيجاد الله تتم الدست إذ لا قائل بالفرق ، وان كان بتمكينه ، وهو من إيجاد العبد نافاه قوله : ( ولكن الله قتلهم ) ولكن الله رمى والتأويل مخالف للظاهر ، وقد قيل إن علامة المجاز أن يصدق نفيه ، حيث يصدق ثبوته ألا تراك تقول للبليد حمار ، ثم تقول ليس بحمار فلما أثبث الفعل للخلق ، ونفاه عنهم دل على أن نفيه على الحقيقة ، وثبوته على المجاز بلا شبهة ، فإن قلت إن أهل المعاني جعلوه من تنزيل الشيء منزلة عدمه وفسروه بما رميت حقيقة إذ رميت صورة والرمي الصورفي ، موجود منه ، والحقيقي ما وجد منه فلا تنزيل فيه كما ذكروا ، قلت الصورفي مع وجود الحقيقي كالعدم كاضمحلال ثور الشمع مع شعشعة الشمس ، ولذا أتى بنفيه مطلقاً كإثباته وما ذكروه بيان لتصحيح المعنى في نفس الأمر ، وهو لا ينافي النكتة المبنية على الظاهر ، ولذا قال في شرح المفتاح : النفي والإثبات وارد إن على شيء واحد باعتبارين فالمنفيئ هو الرمي باعتبار الحقيقة كما أن المثبت هو الرمي باعتبار الصورة فتدبر فإنه وقع فيه خبط لبعضهم. قوله : ) أتى بما هو غاية الرمي قأوصلها الخ ) فالحاصل أن الرمي مطلق أريد فرده الكامل المؤثر ذلك التأثير كما يطلق المؤمن ، ويراد به الكامل وفيه نظر لأن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل لتبادره منه وأما ما جرى على خلاف العادة وخرج عن طوق البشر فلا يتبادر حتى ينصرف إليه بل ليس من أفراده فتأقل. قوله ة ) وقيل معناه ما رميت بالرعب الخ ( هذا أحد التاً ويلات ممن يقول أفعال العباد غير مخلوقة دلّه كما مرّ ، وقوله وقيل الخ هكذا أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب والزهرفي ويخور بمعنى يصيح ويخرج نفسه بشدة. قوله : ) أو رمية سهم الخ ( أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جبير ، وكنانة بكاف ونونين ، وفي نسخة لبابة بلام وباءين موحدتين ، والحقيق مصغر يهودفي من يهود المدينة ، وقوله والجمهور على الأوّل أي على أنه رمى بتراب لا بسهم ، ونحوه لأنه يصير أجنبيا وتد نزلت الآية في بدر 0 قوله : ) ولينعم عليهم نعمة عظيمة الخ ( هذا هو معنى ما في الكشاف من تفسير البلاء بالعطاء ، وقال الطيبي رحمه الله : الظاهر تفسيره بالإيلاء في الحرب بدليل ما بعده ، وقيل إنه يرجع لما ذكر وهو تكلف ، والبلا يستعمل فيما يصيب الإنسان خيراً أو شرّاً كقول زهير :
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلى
وقولهم أبلى فلان بلاء حسنا أي قاتل قتالاً شديدا ، أو صبر صبراً عظيما في الحرب
سمي به ذلك الفعل لأنه مما يخبر به المرء فيظهر جلادته وحسن أثره ، وقيل البلاء يكون بمعنى العطاء أيضا لأنه يخبر به يقال أبلاه إذا أنعم عليه وبلاه إذا امتحنه. قوله : ( فعل ما فعل الخ ( يعني أن لام التعليل لها متعلق محذوف تقديره ما ذكر ، وقيل هو عطف على مقدر أي ليمحق الكافرين وليبلي المؤمنين منه بلاة حسناً قيل وقدر المتعلق مؤخراً لا لقصد الاختصاص إذ لا حاجة إليه بل لكونه(4/261)
ج4ص262
أحسن من تقديمه وفيه نظر. قوله : " شارة إلى البلاء الحسن الخ ( أو إلى الجميع بتأويله بما ذكر ، وقوله أي المقصود على الوجه الأوّل في إشارة وما بعده على الأخيرين ويجوز جعله مبتدأ محذوف الخبر ومنصوبا بفعل مقدر. قوله : ( معطوف ( أي عطف مفرد على مفرد أو جملة على جملة ، وقوله أي المقصود اقتصر عليه لأنه يعلم منه الآخر بالمقايسة ، وقيل إنه إشارة إلى ترجيح جعل ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن لكن لا يخفى أنّ جزالة المعنى تقتضي أن يكون العطف باعتبار الإشارة إلى القتل أو الرمي ، والتوهين التضعيف. قوله : " ن تستفتحوا الخ ) أي لا تطلبوا الفتح وتدعوا به أو تطلبوا أن يحكم الله بينكم من الفتاحة والتهكم في قوله جاءكم الفتح لأنّ الذي جاءهم الهلاك والذلة ، والمراد بالجندين جندهم وجند المسلمين. قوله : ) من الاغناء أو المضاز ( هو على الأوّل مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق ، وعلى الثاني مفعول به ومن قرأ يفتح إن قدر قبله اللام أو جعله خبر مبتدأ ، والرغبة لتعديه بعن بمعنى الإعراض مجرور عطفاً على التكاسل ، وأوّل المؤمنين على هذا
التفسير بالكاملين إيماناً لأنهم مؤمنون أيضاوهو ظاهر وقراءة الكسر أظهر وهو تذييل لقوله وان تعودوا نعد ، وقوله إن تعودوا أي إلى ما ذكر من التكاسل وما بعده. قوله : ( فإن المراد ) اعتذار عن إفراد الضمير وارجاعه للرسول صلى الله عليه وسلم بأنّ المقصود طاعة الرسول ، وذكر طاعة الله توطئة لطاعة الرسول ، وطاعة الرسول ع!ت مستلزمة لطاعة الله لأنه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إليهما ، وعلى رجوعه للأمر أو للجهاد لا يحتاج إلى تأويل ، وجؤز رجوعه للطاعة لتأويله بأن والفعلى وعلى الأخير فالسماع على ظاهره فإن كان الضمير للرسول عشي! فالسماع مجاز عن التصديق ، أو سماع كلامه من المواعظ ، والقرآن كما أشار إليه المصنف رحمه الله ، والأمر في كلام المصنف إن كان بمعناه المتبادر منه فهو اكتفاء ، أو بمعنى مطلق الطلب فيشمل النهي ، وان كان المراد به واحد الأمور فظاهر والأوّل هو الظاهر ، وإذا كان الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فالتولي حقيقة وإن كان للأمر فجاز ، وقوله دل عليه الطاعة أي في ضمن أطيعوا لأنه أمر خاص. قوله : ) سماعاً ينتفعون به ) يعني أن المنفيئ سماع خاص لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا بجعل سماعهم بمنزلة العدم. قوله : ) شرّ ما يدب على الأرض الخ ( يعني المراد بالدابة معناها اللغوي أو العرفي ، وقوله عذهم من البهائم اختار الثاني لأنه أشهر قيل ظاهر كلامه أنه عمم في الدابة حتى يشمل ما تطلق عليه حقيقة أو تشبيها فتأمل ، وما ميزوا به هو العقل لأنه المميز للإنسان عن غيره وقد نفى عنهم. قوله : ( سعادة كتبت لهم أو انتفاعاً بالآيات الخ ( في الكشاف ، ولو علم الله في هؤلاء الصمّ البكم خيراً أي انتفاعا باللطف لأسمعهم للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين ، ومن ثم قال : { لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } يعني لو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه أو ولو لطف بهم فصذقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا فقال الشارح النحرير : يعني أن قوله لتولوا في مفى عدم انتفاعهم باللطف ، فلا يرد ما قيل إن قوله : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ } يدل على عدم التولي وهو خير فيناقض ما سبق من أنه تعالى لم يعلم فيهم الخير فإنه يستلزم الخير ضرورة أن علم الله مطابق لكن لا يخفى أنّ الإشكال بحاله بل أظهر لأنّ قوله لما نفع فيهم اللطف يوجب
بمقتضى أصل ، لو أن يكون قد نفع فيهم اللطف ، وهذا خير كل الخير فلا محيص إلا بجعله من قبيل لو لم يخف الله لم يعصه ، أي لا ينفع فيهم اللطف ، ويكون التولي على تقدير الإسماع فعلى تقدير عدمه بطريق الأولى وأيضاً لا نسلم أن عدم التولي لعدم الإسماع خير ، وإنما الخير أن يسمعوا ويحصل منهم التصديق لا الإعراض ، واعلم أن سوق الشرطية الأولى هو أنه تعالى لو علم فيهم خيرا لأسمعهم لكن لا يعلم فلم يسمعهم ، والثانية أنه لو أسمعهم لكان منهم الإعراض لا التصديق فكيف على تقدير عدمه وقد يتوهم أنهما مقدمتا قياس اقترانيئ هكذا لو علم فيهم خيراً لأسمعهم ، ولو أسمعهم لتولوا ينتج لو علم فيهم خيراً لتولوا وفساده بين وأجيب بأنه إنما يلزم النتيجة الفاسدة لو كانت الثانية كلية ، وهو ممنوع وهذا المنع وان صح في قانون النظر إلا أنه خطأ في تفسير الآية لابتنائه على أن المذكور قياس مفقود(4/262)
ج4ص263
شرائط الإنتاج ولا مساغ لحمل كلام الله عليه ، وقيل عليه أن كلمة لو لانتفاء الثاني لانتفاء الأوّل لا لعكسه وأما استعارتها للاستدلال بانتفاء الثاني على انتفاء الأوّل كما في آية التمانع فبمعزل عما نحن فيه مع أنه تطويل بغير طائل ، وما رذ به على القائل المذكور غير وارد لأنّ مراده منع كون القصد إلى ترتيب قياس لانتفاء شرط لا أنه قياس فقد شرطه كما أنه يمنع منه عدم تكرار الوسطي أيضا وإنما المقصود من المقدمة الثانية تأكيد الأولى إذ مآله إلى أنه انتفى الإسماع لعدم الخيرية فيهم ، ولو وقع الإسماع لا تحصل الخيرية فيهم لعدم قابلية المحل فتدبر. قوله : ( لأسمعهم سماع تفهم ( قيده به لا! أصل السماع حاصل لهم ، ثم إنه قيل كون نفي الإسماع المذكور معلولاً لنفي الخيرية المفسرة بالسعادة المكتوبة أي المقدرة ظاهر لا سترة عليه ، وأما على تقدير كونها مفسرة بالانتفاع بالآيات فلا بل الأمر بالعكس ، فالأولى أن يقتصر على التفسير الأول وليس بشيء لأنّ سماع التفهم لم يرتب على الانتفاع بل على علم الله بالانتفاع بالآيات ولا شبهة في ترتبه عليه ومثله غنيّ عن البيان ، وقيده بما ذكر وأطلق في الثاني إشارة إلى أنه ليس القصد إلى ترتيب القياس لاختلاف الوسط ، ومنه تعلم أنّ ما وقع في بعض النسخ بعد قوله لأسمعهم من قوله سماع فهم ، وتصديق لا يناسب إلا تفسير التولي بالارتداد. قوله : ( أو ارتدّوا بعد التصديق والقبول ( يعني أنّ التولي إمّ الابتداء أو في البقاء لأن التصديق إذا لم يدم كلا تصديق ، وأفاد بعض المدققين هنا أنه لما أرود أنّ الآية قياس اقتراني من شرطيتين ونتيجة غير صحيحة أشار المصنف رحمه الله إلى جوابه أوّلأ بمنع القصد إلى القياس فيه لفقد كلية الكبرى ، وثانيا بمنع فساد النتيجة إذ اللازم لو علم فيهم خيراً في وقت لتولوا بعده ومنه تعلم ما في كلام النحرير هنا وفي المطوّل فهم. قوله : ( لعنادهم الخ ) قيده به لأنه لما فسر قوله لأسمعهم بسماع الفهم والتصديق لم يكن ذلك التولي إلا للعناد
وهذه الحال مؤكدة مع اقترانها بالواو وقوله يشهد بالغيبة أي قصيّ ونؤمن بصيغة المتكلم مع الغير. قوله : ( وحد الضمير فيه لما سبق ) يعني قوله إن الإجابة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وذكر الله توطئة أو لأنّ طاعة الله في طاعة الرسولءلمجي! وزاد وجها آحض وهو أنّ الرسول تحب ور!خ عن الله! ! د!اهم فتتحد الدعوة ولهذا أفرد الضمير. قوله : ( وروي الخ ( أبيّ هو أبيّ بن كعب رضي الله عنه ، وهذا الحديث أخرجه الترمذفي والنسائيّ ، عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث صحيح وتمامه " لأعلمنك سورة أعظم سورة في القرآن الحمد دلّه رب العالمين هي السغ المثانى " ( 1 ( وقوله : ( واختلف فيه ) أي في جواز قطع الصلاة لإجابة رسول الله ىلمجب ففي قول للشافعيّ إنّ الكلام في الصلاة لإجابته صلى الله عليه وسلم لا يقطع الصلاة ولا يبطلها لأنه فرض أني في الصلاة فلا يبطلها عنده ، وقوله : ( فإن الصلاة أيضاً إجابة ا لأنه أمر بها ففعلها إجابة لأمره ، وجوابه كذلك فلا يبطلها ، وحكى الروياني وجها آخر أنها لا تجب وتبطل الصلاة ، وقيل إنه يقطعها ولكنه إذا كان الأمر يفوت بالتأخير يجوز قطع الصلاة له كما إذا رأى أعمى وصل إلى بئر ولو لم يحذره لهلك وقوله ، وظاهر الحديث الخ فيه نظر لأنه لا دلالة فيه على أن إجابته لا تقطع الصلاة فتأمّل. قوله : ( من العلوم الدينية الخ ) أي أطلقت الحياة على العلم كما يطلق الموت على الجهل وهو استعارة معروفة ذكرها الأدباء وأهل المعاني ، والبيت المذكور للزمخشريّ ، كما قرأته في ديوانه من قصيدة مدح بها المؤتمن بالله الخليفة وأوّلها :
حدث إلى أين مرت الظعن فعندهن الفؤاد مرتهن
ومنها :
لاتعجبن الجهول حلته فذاك ميت وثوبه كفن. وقد ألم فيه بقول أبي الطيب من قصيدته التي أوّلها :
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهمّ اخلاهم من الفطن
ومنها :
لاتعجبن مضيماً حسن بزته وهل تروق دفيناً جودة الكفن
والعجب من النحرير في شرح قول الكشاف ولبعضهم لا تعجبن الخ حيث قال : هذا كما
هو عادته إذا أنشد شعرا لنفسه أن يقول لبعضهم والبيت لأبي الطيب : وهذا من عدم التتبع لكن خلطه بين بيتين من(4/263)
ج4ص264
بحرين أعجب مع تصريح الإمام الطيبي به ، والحلة معروفة ومنهم من رواه حليته ، وجوّز فيه البدلية من الجهول بدل اشتمال فقد حرفه كما يدريه من يدري المعاني الشعرية.
قوله : ( أو مما يورثكم الحياة الأبدية الخ ( هذا إمّا استعارة أو مجاز مرسل بإطلاق السبب
على المسبب ، وكذا إطلاقه على الجهاد وهو كقوله : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [ سورة البقرة ، الآية : 179 ] وأما إطلاقها على الشهادة فمجاز أيضا ، ويجوز أن يكون حقيقة والإسناد مجاز على كل حال. قوله : ( تمثيل لغاية قربه من العبد الخ ) أصل الحوال كما قال الراغب : تغير الشيء وانفصاله عن غيره وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول وباعتبار الانفصال قيل حال بينهما كذا فحقيقة كون الله حال بين المرء وقلبه أنه فصل بينهما ، ومعناه الحقيقي غير متصوّر هنا فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأنّ من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما ، وانفصال أحدهما عن الآخر ، هو إمّا استعارة تبعية ، فمعنى يحول يقرب ، أو استعارة تمثيلية ، وقيل إن الأنسب أن يكون مجازاً مركباً مرسلا لاستعماله في لازم معناه ، وهو القرب وليس ببعيد. قوله : ( وتنبيه على أنه مطلع الخ ا لأنه أقرب إليها من صاحبها كما مرّ. قوله : ( ما عسى ينفل عنه صاحبها ) ما موصولة عبارة عن المكنونات والضمائر وضمير عنه لما باعتبار لفظه وضمير صاحبها للقلوب أي المكنونات التي قد يغفل عنها صاحب القلوب ، ولا تعزب عن علام الغيوب ، وجملة يغفل صلته ، وعسى مقحمة بين الموصول وصلته وكون عسى تقحم بين الشرط والجملة الشرطية ، والموصول وصلته ، وكثير في كلام المصنفين ، وقد وقع في مواضع من الكشاف والهداية وتال أبو حيان رحمه الله : إنه تركيب أعجمي لا عربيّ لأنّ عسى لا تكون صلة ولا شرطا ولا استعمالها بغير اسم ولا خبر كقول الزمخشريّ في الأعراف إن عسى فرّط في حسن الخلافة ، وقال الفاضل المرتضى اليمني هذا التركيب مشكل لأنه لم يرد على القياس الملتئب في استعمال عسى لأن لها استعمالين.
أحدهما : أن يكون لها اسم وخبر وخبرها هو أن مع الفعل المضارع.
وثانيهما : أن يكون اسمها أن مع الفعل وشمتغني إذ ذاك عن الخبر فإتا أن تكون زائدة
ككان إذا زيدت لأنها قد تضمن معنى كان كما نص عليه سيبويه فيجوز حينئذ أن تجري مجراها في الزيادة والإقحام لتأكيد الشرط ونحوه ، وامّا أن يكون التقدير عسى ان يكون فرط واسم عسى ضمير يرجع إلى أخيه فحذف أن يكون لأنّ حذف خبر عسى جائز كما في الإيضاح وأفا إن عسى معترضة بين إن وفعل الشرط ، واسمها ضمير التفريط المدلول عليه بالفعل ، وخبرها محذوف وتقديره عسى التفريط أن يكون حاصلا.
( قلت ا لا حاجة في زيادتها إلى تضمين معنى ، كان لأن الفرّاء أجاز زيادة جميع أفعال
هذا الباب ، وقد تبعه النحرير في سورة الأعراف فاحفظه. قوله : ( أو حث على الميادرة الخ ) يعني أن قوله اعلموا الخ المقصود منه الحث على ما ذكر فمعنى يحول بينه وبين قلبه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة إدوائه ، وعلله وردّه سليما كما يريده الله فاغتنموا هذه الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب وأخلصوها لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه. قوله : ( أو تصوير وتخييلا لخ ) يعني أنه استعارة تمثيلية لتمكنه من قلوب العباد فيصرفها كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها شبه بمن حال بين شخص ، ومتاعه فإنه يقدر على التصرّف فيه دونه كما في الحديث : " ما من آدمئ إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أرّاغ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا يا مقلب القلوب " ) 1 ( وقوله : ) أراد في الآوّل وقض بعده ) إشارة إلى أنه فطر على السعادة وأما الكفر فبقضاء منه فقوله أراد سعادته أي ثبوتها ، فتأمّل ، وقراءة بين المرّ بتشديد الراء بعد نقل حركة الهمزة إليها على لغة من يقف على الحروف بالتشديد مع إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقوله بينه وبين الكفر الخ ردّ على الزمخشريّ ، وقوله وأنه إليه تحشرون أنسب بالوجه الأوّل ، ولذا خالف
الزمخشريّ في تقديمه وضمير أنه دلّه أو للشأن. قوله : ( دّنبنا يعمكم أثره الخ ) قد فسرت الفتنة هنا بمعنيبن أحدهما الذنب والمراد بالذنب أمّا تقرير المنكرين واما اختلاف كلمة الدين ، وثانيهما العذاب فإن أريد(4/264)
ج4ص265
الذنب ف!صابته بماصابة أثره ، وان أريد العذاب فأصابته بنفسه ، واختلفوا في لأهل هي ناهية أو نافية كما سيأتي تفصيله ، وقد قيل إنها دعائية ومن إمّا بيانية أو تبعيضية فحصل بالضرب وجوه بعضها صحيح مراد كما ستراه فأشار بقوله ذنبا إلى اختبار الشق الأوّل ، وقوله أثره إشارة إلى أنّ المصيب على هذا التفسير هو الأثر فإمّا أن يقدر أو يتجوّز في إصابته ، والمراد بأثره شآمته ووباله وعقابه ، وقوله كإقرار المنكر أي تمكين الفعل المنكر بين المسلمين من قولهم أقرّه في مكانه فاستقرّ ، وقوله : ( بين أظهرهم ) أي بينهم ، وظهر مقحم كما مرّ والمداهنة أن يظهر خلاف ما يضمر مصانعة ، ومداراة ، ومثل للذنب بأمور خمسة وأتى بالكاف إشارة إلى أنه غير مخصوص بها. قوله : ( على أنّ قوله لا تصيبن إمّا جواب الأمر الخ ) ولا نافية حينئذ والإصابة لا تخص الظالم بل تعمه وغيره ، واعترض عليه ابن الحاجب رحمه الله بأنه غير مستقيم إذ جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنى الأمر المطهر لا من جنس الجواب كما ذكره المصنف رحمه الله تبعا لغيره فيقدر أن تتقوا لا تصيب الظالمين خاصة ، ويفسد المعنى لأنه يصير الاتقاء سببا لانتفاء الإصابة عن الظالم وأجيب بأنه محمول على اللفظ ، وأصل الكلام اتقوا فتنة لا تصيبنكم فإن أصابتكم لا تصيبن الذين ظلموا خاصة بل عمتكم فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر في جواب الأمر لتسببه عنه وسمي جواب الأمر لأنّ المعاملة معه لفظاً وهذا وجه وجيه ، والفتنة على هذا إقرار المنكرين الخ ، ومن تبعيضية وردّ بأنه من البين أنّ عموم إصابة الفتنة ليس مسبباً عن عدم الإصابة ولا عن الأمر ، وهذا إنما يرد لو جعل الضمير في قوله لشببه ، لجواب الشرط الثاني ، أما لو جعل لجواب الشرط المقدّر والمقدّر صفة الجواب لا الشرط فيكون جواب الشرط الأوّل على أنّ مراده إنه قدر جواب الشرط الأوّل هكذا لأنه المتسبب عنه لا هذا لم يرد عليه شيء ، وهو المناسب لدقة نظره ، وقيل إنه على رأي الكوفيين حيث يقدّرون ما يناسب الكلام ، ولا يلتزمون أن يكون المقدر من جنس الملفوظ ففي مثل لا تدن من الأسد يأكلك المقدر الإثبات أي إن تدن يأكلك ، وهنا النفي أي إن لم تتقوا تصبكم ، والمصنف رحمه الله قدّر شرطاً يستقيم به المعنى لا مضمون الأمر ولا نقيضه فلا يتبين به كون المذكور جواب الأمر فقيل مراده أنّ التقدير إن لم تتقوا أصابتكم وان أصابتكم لا تخص الظالمين ، وقيل عليه إنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة بل يكفي إن لم تتقوا لا تصيب الظالمين خاصة ، وقيل مراد من قدر إنّ أصابتكم إن لم تتقوا على مذهب الكسائي رحمه الله في تقدير النفي لكنه عبر عنه بأن أصابتكم لتلازمهما فلا يرد حديث الواسطة ، وارتضاه بعض المتأخرين ( وهاهنا بحث ) وهو أنّ من جعله مجزوما في جواب الشرط يحتمل أنه يفسر الفتنة بالذنب ويريد به ارتكاب المعاصي لا الإقرار والمداهنة ليصح أن تتقوا لا
تصيبن الظالمين خاصة بل تعمّ لأنه لا يكفي اتقاؤه بل لا بدّ من دفع المجاهرين به إذا قدر على المنع فمحصل النظم حينثذ اتقوا المعاصي بالذات ، وامنعوا من ارتكبها منكم ، ولذا قال ابن العربي كما نقله القرطبي : فإن قيل قد قال تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ونحوه مما يوجب أن لا يؤاخذ أحد بذنب غيره فالجواب أن الناس إذا تجاهروا بالمنكر فمن الفرض على من رآه أن يغيره فإن سكت عليه فكلهم عاص هذا بفعله وهذا برضاه ، وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة وصح الكلام من غير تكلف. قوله : ( وفيه أنّ جواب الشرط متردد فلا يليق به النون الخ ( جواب عن أن لا يؤكد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط إلا أنهم اختلفوا في المنفيّ بلا فقيل يجوز تأكيده لإجرائه مجرى النهي ، وقيل إنه مخصوص بالضرورة ، والفزاء قال إنه جاز هنا لما فيه من معنى الجزاء ، والمصنف رحمه الله تبعا للكشاف قال : إنّ فيه معنى النهي لأنّ المعنى لا تتعرّضوا لها فمأخذ الاشتقاق مطلوب عدمه كما في النهي ، وما ذكره بيان لوجه عدم تأكيده بأنه متردّد بين الوقوع وعدمه غير مجزوم به فيه ، والتأكيد يقتضي دفع التردّد ، فأجاب بأنه طلبيئ معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي ، وهو لا !اشه التردّد في وقوعه لأنه لا تردد في طلبه ، على أنه قيل إنه لا تردّد فيه على تقدير وقوع الشرط فالتردّد في الحقيقة إنما هو في وقوع الشرط لا فيه ، وقد علصت أنّ الفرّاء يجوّز تأكيد الجزاء(4/265)
ج4ص266
مطلقا فما ذكره هنا على مذهبه وعلى ما رجحه ابن جني من أنّ المنفيّ بلا يؤكد لشبهه بالنهي كما في قوله تعالى : { ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ } [ سورة النمل ، الآية : 8 ا ] وقد اعترض عليه بأنه منع ما جوّزه هنا في سورة النمل لأنّ النون لا تدخله في السعة فكأنه نسي هناك ما جوّزه هنا وقد يوفق بيتهما فتدبر. قوله : ( وفيه شذوذ الخ ) قد عرفت أن ابن جني وبعض النحاة جوّزوه وقد ارتضاه ابن مالك في التسهيل لكن ما ذكره كلام الجمهور. قوله : ( أو للنهي على إرادة القول ( أي لا ناهية والجملة صفة فتنة أيضا لكن لما كان الطلب لا يقع صفة لأنه قائم بالمتكلم وليس حالاً من أحوال الموصوف فقولك مررت برجل اضربه لا يصح إلا باعتبار تعلقه به لكونه مقولاً فيه ذلك ، وليس المقصود بالمقولية الحكاية بل استحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه ، وجوّز وصفه به باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول كما قيل ، وان اشتهر ذلك كما في شرح المغني فتامّل. قوله : ( حتى إذا جن الظلام الخ ) هذا رجز لا يعرف قائله ، وفي كامل المبرّد رحمه الله العرب تختصر التشبيه وربما أومأت إليه ، كما قال أحد الرجاز :
بتنا بحسان ومعزاه تبط فا زلت أسعى بينهم وألتبط
حتى إذا كاد الظلام يختلط جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط
يقول إنه في لون الذئب لأنّ اللبن إذأ خلط بالماء ضرب إلى الغبرة ، والمذف بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وقاف اللبن الممزوج بالماء ، وقط لاستيعاب الزمان الماضي وهي مشددة لكنها مخففة للوقف عليها وما رواه المصنف رحمهه الله مخالف لرواية المبرّد في المحراع الأوّل ، واختلط بالخاء المعجمة أي اختلط ما فيه لشدة ظلمته ، ويصح إهماله أي بالغ في ظلمته يعني أن رائي اللبن يخطر بباله لون الذئب لشدة شبهه ، فإنّ هذا اللبن يشبه لونه وهو من بديع التشبيه كما في قول بعض المتأخرين :
قام يقط شمعة فهل رأيت البدرقط
قوله : ( وأما جواب قسم الخ ) فيظهر تأكيده ويؤيده القراءة الأخرى ، وهي قراءة عليّ
وزيد بن ثابت وأبيّ وابن مسعود رضي الله عنهم ، وإنما قال : وان اختلفا في المعنى لأنّ إحداهما إثبات والأخرى نفي ردّاً على من جعلهما بمعنى فمنهم من قال لتصيبن أصله لا تصيبن حذفت ألفه ، ومنهم من قال لا تصيبن أصله لتصيبن فطول ألفه ، وهو ضعيف والإصابة على الأوّل عامّة وعلى هذا خاصة ، ومن لم يعرف مراده قال لا حاجة لذكر هذا مع وضوحه. قوله : ( ويحتمل أن يكون نهياً بعد الآمر الخ ) أي يكون نهيا مستأنفاً لتقرير الأمر وتوكيده ومعناه لا تتعرّضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة لأنه سببها فالإصابة خاصة على هذا وإنما أوّل بلا تتعرّضوا لأنّ الفتنة لا تنهى فهو من باب الكناية كما مرّ في قوله : { فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [ سورة الأعراف ، الآية : 2 ] واليه يشير بقوله عن التعرّض وأشار بقوله خاصة إلى أنه خاص على هذا كما مرّ. قوله : ) فإنّ وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه ( بيان للمعنى على النهي كما مرّ ، وقيل إنه تعليل للنهي عن التعزض للظلم فإذا اختص! وباله بالظالم لم يؤول نفيه إلى نفي الإصابة رأساً ولا إلى نفي الخصوص واثبات العموم ، كما في الوجوه المتقدمة وفيه نظر. قوله : ( ومن في منكم على الوجوه الأوّل للتبعيض الخ ( وفي نسخة على الوجه الأوّل والصحيح في الحواشي الأولى ، وفي الكشاف معنى من التبعيض على الوجه الأوّل والتبيين على الثاني لأنّ المعنى لا تصيبنكم خاصة على ظلمكم لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس فقيل في تخصيص التبعيض بالأوّل والتبيين بالثاني حزازة ، وفيل في بيانه إنّ مراده بالأوّل النفي ، وهي
فيه تبعيضية لأنّ المعنى أن الفتنة لا تختص بالظالمين منكم فيكون منكم غير ظالمين تعمهم أيضاً ، والثاني النهي ومن فيه بيانية لأنه نهي للمخاطبين عن الظلم الذي هو سبب إصابة الفتنة ، وقد عبر عن المخاطبين باعتبار الظلم بالذين ظلموا فيكون منكم بيانا للذين ظلموا واليه أشار ، بقوله لا تصيبنكم خاصة أي لا تتعرّضوا فتصيبنكم الفتنة معشر الظالمين خاصة على ظلمكم ، لأنّ الظلم أقبح منكم من سائر الناس ، ومن سائر الناس في محل النصب على الحال من الضمير في أقبح ، ومن المستعمل مع أفعل التفضيل محذوف ، والتقدير الظلم منكم أقبح من الظلم(4/266)
ج4ص267
من سائر الناس نحو زيد قائما أحسن منه قاعداً ، وقيل الوجه الأوّل أن يكون جوابا للأمر ومحله نصب على أنه بدل من الذين ظلموا ، والثاني أن يكون صفة أو نهياً ومن بيانية إلى هذا ذهب القاضي أيضا لأنه إذا كان المراد ، واتقوا فتنة لا تصيبنكم العقاب خاصة على ظلمكم كان منكم تفسيرا للذين ظلموا أي لا تصيبن الظالم الذي هو أنتم أي لا ينبغي أن تختصوا بالفتنة ، وأنتم عظماء الصحابة فإذا حققت النظر علصت أن المخاطبين في الأوّل كل الأمّة ، وراكب الفتنة بعضهم فلا محالة تكون من تبعيضية ، والمخاطبين في الثاني بعض الأمّة الذين باشروا الفتنة فلا محيد عن كون من بيانية ، وقال النحرير : معنى من التبعيض على الوجه الأوّل أي كون لا تصيبن جواب الأمر لأن الذين ظلموا بعض من كل الأمّة المخاطبين بقوله اتقوا والتبيين على الوجه الثاني ، وهو كون لا تصيبن نهيا سواء اعتبر مستقلاً أو صفة لأنّ المعنى لا تتعرّضوا للظلم فتصيب الفتنة الظالمين الذين هم أنتم بناء على ظلمكم ، وإنما أصابتهم على ظلمهم خاصة دون سائر الناس لأنّ الظلم منهم أقبح من الظلم من سائر الناس ، فقوله منكم في موقع الحال من ضمير أقبح ، وقوله من سائر الناس على حذف مضاف أي من ظلم سائر الناس ، والقياس في مثله التقديم مثل الظلم منكم أقبح من الظلم من سائر الناس ، إذا عرفت هذا فقول المصنف رحمه الله على النسخة المشهورة الوجوه الأول الظاهر أن المراد منه الثلاثة من الخمسة الأوجه وهي كونها نافية وجواب الأمر ، أو نافية وهي صفة فتنة أو ناهية وهي صفة فتنة بالتأويل المشهور والأخيرين كونها نافية جواب قسم ، أو ناهية والجملة مستأنفة وقد أورد عليه أنه لا فرق بين الوجه الثالث والخامس ، وأنها إذا كانت قسم فلا نافية فمن تبعيضية كما في الوجه الأوّل من غير فرق ، وأما على نسخة الإفراد وأنّ مراده ما في الكشاف بعينه كما صرّج به الطيبي وتبعه بعض أرباب الحواشي على تصحيحها فلا إشكال في كلامه ، وبعد اللتيا والتي ففي المقام نظر لم يدفع بسلامة الأمير. قوله : ( وقيل للعرب كاقة ) مسلمهم وكافرهم وهذا وإن نقل عن وهب بعيد لا يناسب المقام مع أن فارس لم تحكم على جميع العرب لكن السيوطي ، رواه في الدرّ المنثور أيضا. قوله : ( كفار قريث! أو من عداهم الخ ( قيل إنهما ناظران إلى كون الخطاب للمهاجرين ، ومن عداهم أي غير قريش من العرب ولو أرجع الأوّل إلى تفسيره
بالمهاجرين ، ومن عداهم إلى تفسيره بالعرب أي عادى العرب غيرهم لم يبعد ومعادين مخفف مفاعلة من العداوة ، ومضاذين بالتشديد والضاد المعجمة بمعناه. قوله : ( فآواكم إلى المدينة ) ناظر إلى تفسيره بالمهاجرين ، وما بعده إلى تفسيره بالعرب كافة ، وقوله على الكفار بناء على أنّ الخطاب للمسلمين كافة والكفار ما يقابلهم مطلقا ، وقوله أو بمظاهرة الأنصار بناء على أن الخطاب للمهاجرين ، وقوله بإمداد الملائكة ، وهو على عموم الخطاب أيضاً ، ويوم بدر ظرف له ، وفسر الطيبات بالغنائم لأنها لم تطب إلا لهم ولأنه أنسب بالمقام ، والامتنان به أظهر هنا. قوله : ( بتعطيل الفرائض والسنن الخ ) يعني المراد بالخيانة لهما عدم العمل بما أمرا به ، أو بالنفاق أو الغلول في المغانم أي السرقة منها لأنّ الغلول بالمعجمة معناه السرقة من المغنم. قوله : ( وروي الخ ) إشارة إلى وجه آخر بعلم من سبب النزول ، وهذا الحديث أخرجه البيهقيّ في الدلائل وفيه أنه صلى الله عليه وسلم حاصرهم خمسا وعشرين ليلة ( 1 ( ، وأبو لبابة رفاعة بن عبد المنذر لا مروان بن المنذر ، كما في الكشاف فإنه يخالف ما صحح في أسماء الرجال وهو صحابيّ معروف ، وروى ابن المسيب أنه رضي الله عنه تصدق بثلث ماله ، وتاب فلم ير منه بعد ذلك إلا الخير حتى فارق الدنيا. قوله : ( فأشار إلى حلقه أنه الذبح ) أي أشار بيده إلى حلقه يعني بإشارته أنّ حكم سعد فيكم هو الذبح والقتل فلا تختاروه. قوله : ( فشدّ نفسه على سارية ) أي عمود من عمده ، وقد اختلف في الفعل الذي أوجب فعل أبي لبابة رضي الله عنه هذا بنفسه كما في الاستيعاب فقيل هو ما ذكره المصنف رحمه الله ، وقيل إنه تخلف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة
تبوك فربط نفسه الخ ، وقال ابن عبد البرّ إنه أحسن أي رواية ، وقوله أنخلع من مالي أي أتركه لله ، وقوله أن يتصدق به بدل من الثلث أو بتقدير لأن يتصدق به. قوله : ( وأصل الخون النقص الخ ) أي أصل معناه النقص والخائن بنقص(4/267)
ج4ص268
المخون شيئاً مما خانه فيه وهو ضد الأمانة ، وقوله لتضمنه أي ضد الأمانة إياه أي النقص ، واعتبر الراغب في الخيانة أن تكون سراً ، وقوله فيما بينكم أي لا تقع منكم الخيانة لله ورسوله ولا يخونن بعضكم بعضاً وأماناتكم على حذف مضاف أي أصحاب أماناتكم ويجوز أن تجعل الأمانة نفسها مخونة. قوله : ( وهو مجزوم الخ ) أي يجوز فيه أن يكون منصوبا بإضمار أي في جواب النهي كقوله :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
أي لا تجمعوا بين الخيانتين أو مجزوم بالعطف على ما قبله وهو أولى ولذا قدمه المصنف رحمه الله تعالى لأنّ فيه النهي عن كل واحد على حدته بخلاف النصب ، فإنه نهي عن الجمع بينهما ولا يلزم منه النهي عن كل واحد على حدته وروي عن أبي عمر ، وأمانتكم بالتوحيد وهو معنى القراءة الأخرى ، وقوله : ( بالواو ) متعلق بالجواب لأنّ نصبه بأن مقدرة. قوله : ( أنكم تخونون الخ ) يعني أنّ الفعل متعد له مفعول مقدر بقرينة المقام كأنكم تخونون ونحوه ، أو هو منزل منزلة اللازم واليه أشار بقوله أو وأنتم علماء لأنّ ذلك من العالم أقبح منه بن غيره ، وليس المراد بما ذكر التقييد على كل حال ، وتميزون بالخطاب والغيبة. قوله : ( لأنهم سبب الوقوع الخ ) إشارة إلى معنى الفتنة كما مرّ فإنه إما الإثم والعقاب فتكون أطلقت عليهم لأنهم سببها ، أو الاختبار فالمعنى أنّ الله رزقكم الأولاد والأموال ليختبركم وقوله : ( كأبي لبابة رضي الله عنه ( إشارة إلى أنه نزل في حقه أو ليس في حقه ، ولكنه مناسب لسبب نزول ما قبله ولذا عقب به وقوله : ( لمن آثر ) أي اختاره وقدمه عليهم وأنيطوا بمعنى علقوا وهو مجاز حسن ، والمعنى اهتموا به وتقيدوا. قوله : ( هداية الخ ( ذكروا للفرقان هنا معاني كلها
ترجع إلى الفرد بين أمرين ، وقال الطيبي رحمه الله يجوز الجمع بينها فأو للتخيير ، ولما فسره بالظهور مع خفائه بين وجهه بأنّ الفرقان ورد في كلام العرب إطلاقه على الصبح ، وهو يعرف بالظهور كقوله :
أظلم الليل لم يحر فرقانا
ومن لم يعرف مراده قال لو قال : بدله أبين من فرق الصبح كان أولى. قوله : ( ويسترها
الخ ) أي في الدنيا التكفير حقيقته لغة الستر فلذا فسره به لئلا يتكرّر مع قوله يغفر لكم ، ثم أشار
إلى أنه يجوز تغايرهما بتغاير المتعلق بأن يراد بأحدهما الصغائر أو ما تقدم وبالآخر الكبائر أو
ما تأخر ، وفيه إشارة إلى أنّ مفعول يغفر لكم ذنوبكم فلا يرد عليه أنه كان عليه أن يفسر التكفير
بالإبطال فإنه غفلة عن مراده فلا تكن من الغافلين ، وقوله كالسيد الخ مثال لعدم الإيجاب.
قوله : ( تذكار لما مكر قريش الخ ) يعني إنه ذكر هنا تذكيراً له بما كان في أوّل الإسلام وقوله
واذكر إذ يمكرون بك الخ مرّ تحقيقه ، والوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به ويشذ به فالمراد
بالتثبيت هو جعله ثابتا في مكانه إما لكونه مربوطا فيه أو محبوسا ، أو مثخنا بالجراج حتى لا
يقدر على الحركة منه ، ولا يلزم أن يذكر في القصة الآتية لأنه قد يكون رأي من لا يعتذ برأيه
فلم يذكر فسقط أنّ الإثخان إن كان بدون قتل فلا ذكر له في القصة ، وان كان بالقتل يتكرّر
والحراك الحركة ، والبراج مصدر برج مكانه زال عنه فنفيه يدل على الثبوت ، والبيات الهجوم
على العدوّ ليلا ، ودار الندوة دار بناها قصيّ ليجتمعوا فيها للمشاورة والمهمات من نداً بالمكان
اجتمع فيه ، ومنه النادي ، ولن تعدموا من عدم يعدم وهو ظاهر ، وليس من الإعدام كما توهم
وهذا الحديث أخرجه كذلك ابن هشام في سيرته وأبو نعيم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله
عنهما فقال الطيبي رحمه الله إنه في مسند أحمد رحمه الله وليس فيه ذكر إبليس من عدم
الاطلاع كما قاله خاتمة الحفاظ رحمه الله ، وهذه القصة وقصة الغار مفصلة في السير. قوله :
( بردّ مكرهم عليهم الخ ) المكر لما كان معناه حيلة يجلب بها مضرّة إلى غيره وهو مما لا يجوز في حقه تعالى أشار إلى تأويله هنا بوجوه أولها أنّ المراد بمكر الله ردّ مكرهم أي عاقبته ووخامته عليهم فأطلق على الرذ المذكور مكراً لمشابهته له في ترتب أثره عليه فيكون استعارة تبعية ، والمشار إليه بقوله برذ مكرهم عليهم وثانيها أن المراد مجازاتهم على مكرهم بجنسه واطلاق المكر على المجازاة مجاز مرسل بعلاقة السببية والمشاكلة تزيده حسنا على حسن كما في شرح المفتاح ويصح فيه الاستعارة أيضا لأنهم لما أخرجوه عحنن أخرجهم الله فإذا كان المجازاة من جنس العمل كان بينهما مشابهة أيضا ، وهو المشار إليه بقوله أو بمجازاتهم(4/268)
ج4ص269
عليه ، وثالثها أن يكون استعارة تمثيلية بتشبيه حالة تقليلهم في أعينهم الحامل لهم على هلاكهم بمعاملة الماكر المحتال !اظهار خلاف ما يضمر واليه الإشارة بقوله أو بمعاملة الخ أو إنه مشاكلة صرفة فالوجوه أربعة. قوله : ( إذ لا يؤبه بمكرهم الخ ) يؤبه ويعبأ به بمعنى يعتد به ، وقوله دون مكره أي عند مكره والمزاوجة بمعنى المشاكلة كالازدواج ، وقوله لأنّ مكره أنفذ من مكرهم وأبلغ تأثيراً ، وهذا معنى الخيرية والتفضيل في النظم قال النحرير إطلاق خير الماكرين عليه تعالى إذا جعل باعتبار أن مكره أنفذ وأبلغ تأثيراً فالإضافة للتفضيل على المضاف لأنّ لمكر الغير أيضا نفوذاً وتأثيرا في الجملة ، وهذا معنى أصل فعل الخير فتحصل المشاركة فيه وإذا جعل باعتبار أنه لا ينزل إلا الحق ، ولا يصيب إلا بما استوجبه الممكور به فلا شركة لمكر الغير فيه فالإضافة حينئذ للاختصاص كما في أعد لابني مروان لانتفاء المشاركة ، وقيل هو من قبيل الصيف أحرّ من الشتاء بمعنى أنّ مكره في خيريته أبلغ من مكر الغير في شريته وكلام المصنف رحمه الله يمكن تنزيله على هذا فتدبر. قوله : ( وإسنادا مثال هذا إنما يحسن للمزاوجة الخ ) قد سبق مثله في سورة آل عمران ، وهو يقتضي أنّ المكر لا يطلق عليه تعالى دود مشاكلة ، واعترض عليه بقوله تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ سورة الأعراف ، الآية : 99 ] وقد أجيب عنه بأنّ المشاكلة إما تحقيقية أو تقديرية والآية التي أوردوها من قبيل الثاني على ما ذكر في قوله تعالى : { صِبْغَةَ اللّهِ } لأنّ ما قبله يدل على
معاملتهم بالحيلة والمكر وفيه نظر. قوله : ( هو قول النضر بن الحرث الخ ) النضر بن الحرث كان معروفا بينهم بالفطنة والدهاء فكانوا يتبعون ما يقوله وأشار إلى أنه من إسناد فعل البعض إلى الجميع لأنّ القائل واحد منهم ، وأشار إلى أنّ وجه التجوّز في إسناده أنه كان كبيرهم الذي يعلمهم الباطل إذ علم منه ، ومما مرّ في أماكن أن إسناد فعل البعض إلى الكل إما لكثرة من صدر منه ، أو لرضا الباقين به أو لأنّ القائل رئي! متبع أو لغير ذلك من النكت وأنه لا ينحصر في الرضا كما توهم ، والقاص بتشديد الصاد المهملة من يقص لهم القصص ووقع في بعض النسخ قاضيهم بضاد معجمة بعدها ياء أي حاكمهم الذي يفصل القضايا فيهم ولها وجه وليست بأولى كما قيل ، وأتمروا بمعنى تشاوروا ، والمكابرة أصل معناها فاعلة من الكبر ، والمراد بها فرط العناد فعطفه عليها تفسريّ.
قوله : ( أن يشاؤوا ) بتقدير حرف الجر أي من أن يشاؤوا أو عن أن يشاؤوا ، والأنفة بفتحتين ، والاستنكاف الامتناع عن شيء تكبرا ، والتحدّي طلب المعارضة ، وأصله في الحاديين يتناظران في الحد إثم عم والتقريع والتعبير والتوبيخ وبين قرّعهم وقارعهم تجنيس ، وقوله : ( فلم يعار!وا سواه ) أي اختاروا معارضة السيف على معارضة الكلام لفرط عجزهم عنه ، ووقع في نسخة فلم يعارضوه بسورة وهي ظاهرة ، وقوله خصوصا في باب البيان لأنهم فرسانه المالكون لازمته وغاية ابتهاجهم به ، ومن قال : حتى علقوا السبعة على باب الكعبة متحذين بها لم يدر أنه لا أصل له دمان اشتهر. قوله : ( ما سطره الأوّلون من القصص ) أصل معنى السطر الصف من الكتابة والشجر ونحوه ، وكذا السطر بالفتح إلا أن جمع سطر بالسكون أسطر وسطور وجمع سطر أسطار وأساطير ، وقال المبرد : أساطير جمع أسطورة كأحدوثة وأحاديث ومعناه ما سطر وكتب ، والقصص بكسر القاف جمع قصة وبفتحها القصة نفسها والمصدر. قوله : ( هذا أيضاً في كلام ذاك القائل أبلغ في الجحود الخ ) وجه أبلغيته أنه عذ حقيته محالاً فلذا علق عليه طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ، ولو كان ممكنا لفر من تعليقه عليه ، وهذا أسلوب من الجحود بليغ قال العلامة فإن قلت إن للخلو عن الجزم فكيف استعمل في صورة الجزم قلت إن لعدم الجزم بوقوع الشرط ، ومتى جزم بعدم وقوعه عدم الجزم بوقوعه وهذا كقوله : { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ } [ سورة البقرة ، الآية : 23 ، والخطاب مع المرتابين إبراز لارتيابهم
في صورة المحال للأدلة القاطعة للارتياب ففرض كما يفرض المحال ، وقيل عليه إنه تعليق بالمحال كأن كان الباطل حقا على فرض المحال غير قطعي ليصح تعليق شيء به بكلمة ، إن الموضوعة للشك الخالية عن الجزم بالوقوع وعدمه فيصير كالتنبيه على انتفاء ذلك الشيء ، وأما ما قاله هذا القائل فإنما نشأ توهمه من الاقتصار في بعض الكتب على أنها لعدم الجزم بالوقوع من غير تعرض! لجانب اللاوقوع تصداً إلى التفرقة(4/269)
ج4ص270
بينها وبين إذا فإنّ عدم الجزم باللاوقوع مشترك بينهما ، وهو كما قال : فإنه لو جزم باللاوقوع لم يكن الوقوع مشكوكا بل مجزوم الانتفاء فيكون المحل محل لو دون أن فتدبر. قوله : ( والمعنى إن كان هذا القرآن حقاً منزلاً فأمطر الخ ) نكر حقاً مع تعريفه في النظم فقيل إنه إشارة إلى ما ذكره الزمخشري من أنّ التخصيص والتعيين وقع على سبيل المجازاة لقولهم إنه هو الحق لا على قصد الحصر وإلا كان المنكر انحصار الحقية فيه لا حقيته من أصلها وليس مراده ، بل مراده أن حقيقته محال من أصلها فلذا نكره ، وترك الفصل في بيان المعنى وتقريره ليدل على عدم قصده للحصر ، ( وعرف الحجارة ( إشارة إلى أنها معروفة وهي السجيل ، وقوله : ( وفائدة التعريف ) أي على هذه القراءة لأنه ليس المقصود به المجازاة فيها ، وتيل إنّ هذا بحسب النظرة الأولى ، والتحقيق أنّ مراده أنّ تعريف الحق عهديّ خارجيّ لا جنسيّ كما في الكشاف أي الحق المعهود المنزل من عند الله هذا لا أساطير الأوّلين كما يدلّ عليه قوله للنضر فأفاد تخصيص المسند إليه بالمسند فإنه يأتي له أيضاً وأكده الفصل كما حقق في قولهم { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ } [ سورة البقرة ، الآية : 12 ] وقوله : ( حقاً منزلاً شاهد له ) وقائم مقام تعريفه ، وكذا قوله روي الخ فقوله ، وفائدة التعريف جار على الوجهين وإنما عدل عن مسلك الكشاف لعدم ثبوت قول قائل أوّلاً على وجه التخصيص ، ولا يخفى أنه ليس في كلامه ما يدل على العهد ، ولا على الحصر ، وقوله منزلاً ليس إشارة لذلك بل بيان لقوله من عندك وأما ما تمسك به من أنه لم يثت قول قائل على وجه التخصيص فليس بشيء فإنّ قول النبيّ ىلمج! إنه كلام الله ليس معناه إلا ذلك عند التأقل ، وكون الزمخشرقي قال إنّ التعريف للجنس لا وجه له بل ظاهر كلامه أنه للعهد إذ المجازاة تقتضيه فما اختاره تعسف ظاهر ، وقوله بعذاب أليم سواه يؤخذ من المقابلة ، ويصح أن يكون من عطف العامّ على الخاص. قوله : ( والمراد منه التهكم وإظهار اليقين الخ ) عطف عليه للتفسير له لأنه ليس اليقين المصطلح عليه إذ لم يطابق الواقع ، والتهكم في إطلاق الحق عليه وجعله من عند الله ، وفائدة قوله من السماء كما في الكشاف إنه صفة مبينة إذ المراد أمطر علينا السححل والحجارة المسوّمة للعذاب وأمطر استعارة أو مجاز لأنزل. قوله : ( وقرئ الحق بالرفع الخ ) قراءة العامّة النصب وقراءة الأعمش وزيد بن عليّ بالرفع. قوله : ( وفائدة التعريف فبه الخ ) ا!
الحقية المعلق عليها الشرط ليست مط لمقة إذ هي لم تنكر بل- قية مخصوصة ، وهي كونها منزلة من عند الله ، والظاهر منه أنّ التعريف عهدقي ، وأنه مراد به مطلقا ومعنى العهد فيه أنه الحق الذي ادعاه النبيّ !يلى وهو أنه كلام الله المنزل عليه على النمط المخصو ص ، ومن عندك إن سلم دلالته عليه فهو للتأكيد فلا يرد عليه ما قيل إنّ قوله من عندك يدل على كونه حقا بالوجه المذكور من غير احتياج إلى التعريف. قوله : ) بيان لما كان الموجب لإمهالهم الخ ) والمراد بدعاء الكفار قولهم { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء } [ سورة الأنفال ، الآية : 32 ] الخ ولا ينافي كونه دعاء قصد التهكم حتى يقال المراد بالدعاء ما هو صورته. قوله : ( واللام لتثيد النفي الخ ) هذه هي التي تسمى لام الجحود ولام النفي لاختصاصها بمنفيّ كان الماضية لفظاً أو معنى وهي تفيد التأكيد باتفاق النحاة أما لأنها زائدة للتأكيد وأصل الكلام ما كان الله يعذبهم أو لأنها غير زائدة والخبر محذوف أي ما كان الله مريداً وقاصداً لتعذيبهم ، ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه ، وأما ما قيل في وجهه إنّ هذه اللام هي التي في قولهم أنت لهذه الخطة أي مناسب لها وهي تليق بك ونفي اللياقة أبلغ من نفي أصل الفعل فتكلف لا حاجة إليه بعدما بينه النحاة في وجهه. قوله : ( عذاب استئصال ) أي يعمهم بهلاكه ويأخذهم من أصلهم ، قيل عليه إنه لا دليل على هذا التقييد مع أنه لا يلائم المقام ، وقيل الدليل عليه إنه وقع عليهم العذاب ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم كالقحط فعلم أنّ المراد به عذاب استئصال ، والقرينة عليه تأكيد النفي الذي يصرفه إلى أعظمه. قوله : ( والمراد باستغفارهم الخ ) ذكر فيه ثلاثة أوجه ، الأوّل أنّ المراد استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين ، قال الطيبي : وهذا الوجه أبلغ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة ، وهو المرويّ عن ابن عباس رضي الله عنهما(4/270)
ج4ص271
في كتاب الأحكام ، والثاني أنّ المراد به دعاء الكفرة بالمغفرة ، وقولهم غفرانك فيكون مجرّد طلب المغفرة منه تعالى مانعا من عذابه ولو من الكفرة ، والثالث أنّ المراد بالاستغفار التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره ، وهو منقول عن قتادة والسدفي ، ومجاهد رحمهم الله فيكون القيد منفياً في هذا ثابتاً في الوجهين الأوّلين ومبني الاختلاف فيها ما نقل عن السلف في تفسيره ، والقاعدة المقرّرة وهي أنّ الحال بعد الفعل المنفيّ ، وكذا جميع القيود قد يكون راجعا إلى النفي قيداً له دون المنفيّ ، وقد يكون راجعا
إلى ما دخله النفي وعلى الثاني فله معنيان.
أحدهما : وهو الأكثر أن يكون النفي راجعاً إلى القيد فقط ويثبت أصل الفعل.
وثانيهما : أن يقصد نفي الفعل ، والقيد معا بمعنى انتفاء كل من الأمرين ، والمعنى انتفاء
الفعل من غير اعتبار لنفي القيد واثباته.
والحاصل أن القيد في الكلام المنفيّ قد يكون لتقييد النفي ، وقد يكون لنفي المقيد بمعنى إنتفاء كل من الفعل والقيد أو القيد فقط ، أو الفعل فقط كما قرّره النحرير في سورة آل عمران ، وقد مز تفصيله وتحقيقه في سورة البقرة ، وأما قول الشارح النحرير هنا أنّ الداذ على انتفاء الاستغفار هنا على الوجه الأخير القرينة والمقام لأنفس الكلام وإلا لكان معنى ، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم نفي كونه فيهم ، فإن قيل الحال قيد والنفي في الكلام راجع إلى القيد قلنا وأنت فيهم حال أيضا فإن قيل الاستغفار من الكفر ينافي التعذيب ، وقد ثبت أنهم يعذبون بمفارقة النبيّ ع!حر ، وبقوله : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ } الله فينتفي الاستغفار قلنا وكذلك كونه فيهم ينافي بحكم العادة وقضية الحكمة تعذيبهم وقد بين أنهم يعذبون ، فإن قيل كونه فيهم ليس مما يستمرّ بل يزول البتة فيحدث التعذيب قلنا الاستغفار عن الكفر يحتمل ذلك غايته ، إنه احتمال بعيد ويمكن أن يقال هم يستغفرون للاستمرار فينتفي بالتعذيب ، ولو بعد حين بخلاف أنت فيهم فإنه لمجرّد الثبوت ، وهو متحقق ما لم يفارقهم ، ولم يصبهم العذاب ، وهذا إنما يتم إذا جعل وأهلها مصلحون للاستمرار والدوام دون الثبوت ، اهـ فلا يخفى ما فيه من التطويل ، وما بين كلاميه من التنافي ولبعض الناس هنا خبط تركه أولى من ذكره ، وعلى الوجه الأوّل المستغفرون هم المسلمون ، والاستغفار طلب المغفرة والتوفيق للثبات على الإيمان ، والضمير للجميع لوقوعه فيما بينهم ، ولجعل ما صدر عن البعض بمنزلة الصادر عن الكل فلا يلزم تفكيك الضمائر كما قيل. قوله : ( مما يمنع تعذيبهم الخ ( هذا تفسير معنى لا تفسير إعراب وفي الكشاف ، وما لهم ألا يعذبهم الله وأفي شيء لهم في انتفاء العذاب يعني لا حظ لهم في ذلك ، وهم معذبون لا محالة ، وكيف لا يعذبون الخ ولما كان العدم لا يحتاج إلى علة موجبة بل يكفي فيه عدم علة الوجود كما حققوه أشار إلى أنّ المراد طلب ما يمنع التعذيب ولما لم يكف في وجود شيء عدم المانع بل لا بذ من الموجب ، أشار إلى وجوده بقوله وهم يصدون وما استفهامية ، وقيل إنها نافية أي ليس ينتفي عنهم العذاب مع تلبسهم بهذه الحالة. قوله : ) متى زال ذلك ) أي الاستغفار ، وكونه فيهم لدفع المنافاة بين الاثنين وقد دفع أيضا بأنّ العذاب السابق عذاب الاستئصال لعلم الله بأنّ فيهم من يسلم ، ومن ذرّيتهم من يهتدي والثاني قتل بعضهم ، وعن الحسن أنّ هذه نسخت ما قبلها ، وقال النسفيّ أن نزول { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ } وهو كوو بمكة ، ثم خرج من بين أظهرهم فاستغفر من بها من المسلمين فنزل { وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أسررة الأنفال ، الآية : 33 ] أي وفيهم أحد من المسلمين فخرح المستغفرون من مكة فنزل وما لهم ألا يعذبهم الله الخ ، وأذن له في فتح مكة وينافيه ما تقدم في أوّل السورة. قوله : ( وحالهم ذلك الخ ) إشارة إلى أن الجملة حالية وأورد على قوله وإحصارهم عام الحديبية ، إنّ إحصارهم كان بعد قتل النضر ونظرائه فلا ينتظم مع ما سيق له الكلام ، وأجيب عنه با! القائل إن كان هذا هو الحق الخ وان كان النضر ، ومن تبعه لكن الحكم بالتعذيب بعد مفارقة النبيّ صلى الله عليه وسلم يعمّ الكل بسبب صدّ سيكون منهم ، ولو صدر من غير النضر واضرابه بعد هلاكهم فتأمل. قوله : ( مستحقين ولاية أمره مع شركهم الخ ) فالضمير إن للمسجد الحرام ، ولما كانوا متولين له وقت نزولها بين أنه نفى لاستحقاق ذلك فإن كان الضمير دلّه لا يحتاج إلى تأويل ، وقوله المتقون من الشرك إشارة إلى شموله لجميع(4/271)
ج4ص272
المسلمين وأنّ التقوى هنا اتقاء الكفر وهي المرتبة الأولى للتقوى كما مرّ وعلى جعل الضمير لله فالمتقون أخص من المسلمين ، وجعله الزمخشرقي على الأوّل مخصوصا أيضا لأنهم المستحقون في الحقيقة. قوله : ( كأنه نبه بالأكثر الخ ) لأنّ منهم من يعلمه ولكن يجحده عناداً أو المراد به الكل لأنّ للأكثر حكم الكل في كثير من الأحكام كما أن الأقل لا يعتبر فينزل منزلة العدم. قوله : ( أي دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة الخ ) قال الراغب في تفسير الآية وما كان صلاتهم الخ تنبيه على إبطال صلاتهم وأنّ فعلهم ذلك لا اعتداد به بل هم في ذلك كطيور تمكو وتصدى فالمراد بالصلاة إن كان حقيقتها ، وهو الدعاء أو الفعل المعروف فحمل المكاء والتصدية بتأويله بأنه لا فائدة فيه ولا معنى له كصفير الطيور وتصفيق اللعب ، أو المراد أنهم وضعوا المكاء موضع الصلاة على حذ :
تحية بينهم ضرب وجيع
ومن لم يفهم كلامه قال : ذكر ثلاثة وجوه ليصح حمل المكاء والتصدية ، ولا يخفى أنّ
أوّل الوجوه لا يصلح أن يكون وجهاً إلا أن يصار إلى أحد الأخيرين فلا تبقى حاجة إليه ، وثانيها يحتاج إلى وقوع هذه التسمية منهم ، وسيجيء أنهم يرون أنهم يصلون فتأمل. قوله : ) فعال من مكا يمكو إذا صفر ) وأسماء الأصوات تجيء على فعال إلا ما شذ كالنداء ، والبكاء ممدوداً ومقصورا بمعنى وقد فرق المبرد بينهما فقال الممدود اسم الصوت والمقصور الدموع.
قوله : ( تصفيقاً الخ ) قال ابن يعيش في شرح المفصل التصدية التصفيق ، والصوت وفعله صددت أصد ومنه ، قوله تعالى : { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [ سورة الزخرت ، الآية : 57 ] أي يصيحون ، ويعجون فحول إحدى الدالين ياء كما في تقضي البازي لتقضضه ، وهذا قول أبي عبيدة وأنكر عليه ، وقيل إنما هو من الصدى ، وهو غير ممتنع لوقوع يصدون على الصوت أو ضرب منه ا هـ والصدى معروف ، وهو ما يسمع من رجع الصوت عند جبل ونحوه ، والتصفيق ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت ، وإذا كان من الصد فالمراد صدّهم عن القراءة أو عن الدين أو البيت الحرام أو الصد بمعنى الصيحة كما مرّ عن ابن يعيش. قوله : ( وقرئ صلاتهم بالنصب الخ ) وفي هذه القراءة الإخبار عن النكرة بالمعرفة ، وهو من القلب عند السكاكي رحمه الله تعالى ، وعن ابن جني على أصله وأنّ المعرفة قد تقرب من النكرة معنى فيصح فيها ذلك ، وأنه يغتفر في النواسخ لا سيما إذا نفيت ، وتفصيله في كتب النحو والمعاني ، وقوله ومساق الكلام الخ أي هذه الجملة إمّا معطوفة على وهم يصذون فيكون لتقرير استحقاقهم للعذاب أو على قوله : { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } فيكون تقرير العدم استحقاقهم لولايته ، وقوله : ( يرون بضم الياء ) أي يرون الناس إنهم في صلاة أيضا ، أو يحاكون أفعال المسلمين استهزاء أو بفتحها أي يعتقدون ذلك. قوله : ( واللام يحتمل أن تكون للعهد ( أي للعهد الذكر! من غير تعيين فلا وجه لما قيل إنه القتل أو الأسر ، على هذا فينبغي تقديمه على عذاب الآخرة وعلى تفسيره بعذاب الآخرة الفاء للسببية لا للتعقيب ، وهي والباء تفيد أنّ كون الأفعال المذكورة سبباً للعذاب إنما هو لكفرهم ، وأنّ مثله من أعمال الكفر. قوله : ( اعتقادا وعملآ ) وفي نسخة ، أو عملاً يعني المراد بالكفر ما يشمل الاعتقاد والعمل ، كما أنّ الإيمان في العرف يطلق على ذلك فلا جمع فيه بين الحقيقة ، وغيرها كما قيل ، والمطعمون اثنا عشر منهم ، وهم أبو جهل وعقبة ونبيه ومنبه وأبو البحتري والنضر وحكيم بن حزام وأبو زمعة والحرث والعباس وغيرهم ، والجزر بضمتين جمع جزور وهي من الإبل مطلقا أو الناقة المجزورة ، وفي النهاية الجزور البعير ذكرا
كان أو أنثى إلا أنه مؤنث لفظيّ وجمعه جزر وجزرات وجزائر ، واستجاس بمعنى أتاه من الجيش من يطلبه ، والثأر قتل القاتل يقال ثأرته به والأوقية بالضم ، ويقال وقية بالضم أيضاً أفعولة من وقى أو فعلية من الأوق ، وهو الثقل وهي أربعون درهما على ما في كتب اللغة وعند الأطباء ، وهو المتعارف عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم وذكر الزمخشرقي ، أنها اثنان وأربعون درهماً في سورة النساء وهنا اثنان وأربعون مثقالاً ، واللام في ليصذوا لام الصيرورة ، ويصح أن تكون للتعليل لأنّ غرضهم الصدّ عما هو سبيل الله بحسب الواقع ، وان لم يكن كذلك في اعتقادهم ، وسبيل الله طريقه ، وهو عبارة عن دينه واتباع رسولهءكيعه. قوله : ( فسينفقونها بتمامها ولعل الأؤل أخبار عن إنفاقهم الخ ا لما تضمن الموصول معنى الشرط ، والخبر بمنزلة(4/272)
ج4ص273
الجزاء ، وهو فسينفقونها اقترن بالفاء وينفقون إمّا حال أو بدل من كفروا ، أو بيان له ، وفي تضمن الجزاء من معنى الأعلام والإخبار التوبيخ على الإنفاق والإنكار عليه كما في قوله : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } [ سورة النحل ، الآية : 53 ] وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط ، والجزاء الدلالة على كمال سوء الإنفاق كما في قوله : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ سورة آل عمران ، الآية : 92 ا ] وقولهم من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى ، والمعنى الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله والصد عن اتباع رسول الله تخت عن قريب سوء مغبة ذلك الإنفاق ، وانقلابه إلى أشد الخسران من القتل والأسر في الدنيا والنكال في العقبى :
إذا البذل لم يرزق خلاصاً من الأذى فلا الأجر مكسوبا ولا المال باقيا
وهو الوجه الأخير في كلام المصنف رحمه الله ، وهو أبلغها فقوله بتمامها إشارة إلى وجه التغاير ، وهو أنّ المنفق الأوّل بعضه والثاني كله ومآله إلى أنه يفنى ويزول أو الأوّل إنفاق في بدر والثاني في أحد فينفقون لحكاية الحال الماضية ، والثاني على معناه الاستقبالي ، ولما كان إنفاق الطائفة الأولى سبباً لإنفاق الثانية أتى بالفاء لابتنائه عليه والآية نزلت بعد الوقعتين. قوله : ( ويحتمل أن يواد بهما واحد ) قد مرّ تحقيقه ، ودفع تكراره وان لم يلاحظ ما بعده ، وقوله : ( وإنه لم يقع بعد ) أي إن الاستقبال فيهما على ظاهره خصوصاً في الجزاء الدال على العاقبة ، وبما قزرناه اندفع ما قيل ، إنه يأتي زيادة التبيين في الثاني وترتيبه بالفاء على الأوّل من غير تكلف ، والحاصل أنّ هنا قولين هل نزلت في الإنفاق يوم بدر ، أو يوم أحد وعلى هذا فهما واحد والأوّل لبيان غرض الإنفاق ، والثاني لبيان عاقبته ، وقوله : { يُنفِقُونَ } خبر ، وقوله : فيسنفقونها متفرع عليه ، والفعلان مستقبلان وإن حمل ينفقون على الحال فلا بد من تغاير الإنفاقين. قوله : ( لفواتها من غير مقصود ( أما في بدر فظاهر وأما في أحد فلأنّ المقصود لهم
لم يتح بعد ذلك فكان كالفائت. قوله : ( جعل ذاتها تصير حسرة الخ ) أي ندما وتأسفا قيل إنه يريد أنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة إنفاقها ندماً بكون ذاتها ندما ، ولا مانع من جعله حقيقة بتقدير مضافين أو بجعل التجوّز في الإسناد فتدبر ، وقيل : إنها أطلقت بطريق التجوّز على الإنفاق مبالغة. قوله : ( ثم ينلبون آخر الأمر ) يعني أنّ المراد بالغلبة الغلبة التي استقرّ عليها الأمر ، فإن قلت غلبة المسلمين متقدمة على تحسرهم بالزمان فلم أخرت بالذكر قلت المراد أنهم يغلبون في مواطن أخر بعد ذلك ، وقوله وان كان الحرب بينهم سجالاً جمع سجل ، وهو الدلو العظيم والمراد به نوبة السقي ، ولذا جمع أي يكون مرّة لهم ومرّة عليهم كما قال :
فيوم عليناويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
والعاقبة للمتقين وهذا استعارة شبه المتحاربين بالمستقيين على بئر واحدة ، ودلو واحد
وأوّل من قاله أبو سفيان رضي الله عنه. قوله : ( أي الذين ثبتوا على الكفر الخ ) خصه بهم بقرينة ما بعده ، وأذا فسر الخبيث ، والطيب بالكافر والمؤمن أو الفساد والصلاح تعلق بيحشرون فإن فسر بالمالين تعلق بتكون عليهم حسرة إذ لا معنى لتعليل كون أموالهم حسرة بتمييز الكفار من المؤمنين ، كما أنه لا وجه لتعليل حشرهم بتمييز المال الخبيث من الطيب ، وأولئك على هذا أي على تقدير كون الخبيث والطيب هو المال إشارة إلى الذين كفروا ، وهو ظاهر وكون التمييز أبلغ من الميز لزيادة حروفه على المشهور يقال ميزته فتميز ومزته فإنماز وقد قرئ شاذا وانمازوا اليوم ، والمراد أنّ الذين كفروا ليس هو الأوّل حتى يلزم التكرار وليس المراد أن كفروا بمعنى ثبتوا حتى يرد أنّ الفعل لا يدل على الثبوت فيجاب بأنه ثبوت تجددقي كما قيل. قوله : ( فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض الخ ) من قولهم سحاب مركوم ، ومتراكم من الركام ، وهو ما يلقى بعضه على بعض ، ويوصف به الرمل والجيش فإن كان الفريق الخبيث الكفرة ، والفريق الطيب المؤمنين فالمراد به ازدحامهم في المحشر ، وإن كان المراد الصلاج والفساد فالمراد أنه يضم كل صنف بعضه إلى بعض في الحشر ، وجعله في جهنم بجعل أصحابه فيها ، وإن كان المراد المال فظاهر لقوله تعالى : { فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ } [ سورة التربة ، الآية : 35 ، الآية والمعنى
أنه يكون حسرة وبلاء لهم في الدنيا والآخرة. قوله : ( إشارة إلى الخبيث لأنه مقدّر بالفريق(4/273)
ج4ص274
الخ ( توجيه لجمعه مع إفراد المشار إليه وإذا كان للمنفقين الذين بقوا على الكفر فظاهر ، وبين الخاسرين بالكاملين ليصح الحصر ، وبين وجه الكمال بما ذكره وهذا بناء على أنّ مراده به الكافر.
قوله : ( يعني أبا سفيان وأصحابه الخ ) فالتعريف فيه للعهد ، وفد حمل أيضا على الجنس فيدخل هؤلاء فيهم دخولاً أوّليا وجعل اللام لام التعليل لا للتبليغ وهي صلة القول لأنه كان الظاهر حينئذ إن تنتهوا بالخطاب كما قرىء به لكن يجوز أن يكون للتبليغ ، وأنه أمر أن يقول لهم هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية سواء قاله بهذه العبارة أو غيرها كما اختاره في البحر. قوله : ( وقرىء بالتاء الخ ) على أنّ الخطاب لهم واللام للتبليغ ، وقوله وإن يعودوا إلى قتاله لم يفسره بالعود إلى المعاداة لأنها باقية على حالها ، ولو فسره به لكان المعنى إن داموا عليها. قوله : ( الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الخ ) تحزبوا بمعنى تجمعوا أحزاباً والتدمير الهلاك وقد ذكر الزمخشرقي هذا ، وجوّز تفسيره بالذين حاق بهم مكرهم يوم بدر والمصنف رحمه الله يذكره ، لأنه داخل فيما ذكره ولأنّ السنة تقتضي التكرّر فيقتضي تفسيره بأمر آخر عامّ ، وفي البحر إنّ قوله فقد مضت سنت الأوّلين لا يصح أن يكون جوابا بل هو دليل الجواب والتقدير أن يعودوا انتقمنا منهم فقد مضت سنة الأولين ، وقوله : ( فيجازيهم ( إشارة إلى أنه أقيم مقام الجزاء أو جعل مجازاً عن الجزاء ، أو كناية لمالا فكونه تعالى بصيراً أمر ثابت قبله وبعده ليس معلقاً على شيء ، وعلى قراءة الخطاب هو للمسلمين المجاهدين ، وجزاؤهم ليس " حلقاً على انتهاء من قاتلوه فلذا وجهه بقوله ويكون تعليقه الخ يعني أنّ ثوابهم بمباشرة القتال وتسببهم لإثابة مقاتليهم ، وفي العبارة كدر.
تنبيه : قال النحرير المراد بالذين كفروا هو الكفر الأصلي ، وما سلف ما مضى في حال
الكفر فاحتجاج أبي حنيفة رحمه الله على أنّ من عصى طول العمر ، ثم ارتد ثم أسلم لم يبق عليه ذنب في غاية الضعف ، اهـ وهذا ليس بشيء فإنّ أبا حنيفة رحمه الله ومالكا أبقيا الآية على عمومها لحديث : " الإسلام يهدم ما قبله " ) 1 ( وقالا إنه يلزمه حقوقه الآدميين دون حقوق الله كما في كتاب أحكام القرآن لابن عبد الحق وخالفهما الشافعيّ رحمه الله ، وقال يلزمه جميع الحقوق. قوله : ( أي الذي أخذتموه الخ ( يعني أنّ ما موصولة ، وكان حقها أن تكون مفصولة وهذا تعريف للغنيمة في الشرع ، وفي الهداية إذا دخل الإثنان أو الواحد دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذا شيئاً لم يخمس لأنّ الغنيمة هو المأخوذ قهراً ، وغلب لا اختلاساً وسرقة الخمس ، وظيفتها لكن الشافعيّ يخمسه وان لم يسمّ غنيمة عنده لإلحاقه بها ، وقوله حتى الخيط كناية عما قل مطلقاً ، وقد أجيز فيما هذه أن تكون شرطية. قوله : ( مبتدأ خبره محذوف الخ ) يعني المصدر المؤوّل من أنّ المفتوحة مع ما في حيزها مبتدأ ، وقدر خبره مقدما لأنّ المطرد في خبرها إذا ذكر تقديمه لئلا يتوهم أنها مكسورة فأجرى على المعتاد فيه ، ومنهم من أعربه خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم إن الخ ، وقد رجحت هذه القراءة بأنها آكد لدلالتها على إثبات الخمس وأنه لا سبيل لتركه مع احتمال الخبر لتقديرات كلازم ، وحق وواجب ونحوه وفيه نظر. قوله : ( والجمهور على ان ذكر الله للتعظيم ) وهو معنى قول عطاء ، والشعبيّ خمس الله وخمس الرسول صلى الله عليه وسلم واحد ، وخمس الله مفتاح الكلام ، واختلف في ذكر الله هنا هل هو لكونه له سهم أم لا فعلى الثاني ذكره إما لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الآية المذكور أو بيانا لأنه لا بد في الخمسة من إخلاصها لله ، ويكون ما بعده تفصيلاً له وقسم بوزن ضرب مصدر بمعنى تقسيمه ، وقيل المراد بالتعظيم تعظيم المصارف الخمسة كما يدل عليه قوله وانّ المراد الخ وليس المراد تعظيم ا ) هـ سول صلى الله عليه وسلم كما في الكشاف لعدم الاقتصار عليه ، ولذا تركه المصنف وحمه الله لعدم ارتضائه له ولاتحاده مع الثالث بحسب المآل ولا يخفى فساده لأنّ تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينافي عدم الاقتصار على ذكره ، ولا معنى لتعظيم المسكين وابن السبيل وإنما يقال فيه شفقة وترحم مع أنّ عاد اللام تجعل الأقسام في حكم الاستقلال ، ويصير التنظير بهذه
الآية ضائعا لكن قوله فكأنه الخ يقتضي أنه لتعظيم الأقسام الخمسة لاختصاصها به تعالى إن كان ضمير به لله(4/274)
ج4ص275
وأخصيتهم به أمّ الرسول-سيرو والقربى فظاهر وأما اليتامى من المسلمين وما بعدهم فلعناية الله بهم وشفقته عليهم لمان كان الضمير للخمس أو للصرف أو للقسم فهو ظاهر ، والحق أنه مراده ويكون ترك الوجه الثاني لعدم ارتضائه له لأنّ ذكر الله للتعظيم ، وقع في مواضع عديدة وبكون قوله وللرسول معطوفا على لله كم في الآية فإنه مزيد للتعظيم ، وان كان بياناً للإخلاص لوجه الله يكون قوله وللرسول بتقدير مبتدأ أي وهو للرسول الخ والضمير للخمس. قوله : ( وحكمه بعد باق ) أي حكم المصرف باق إلى الآن ، وهو مذهب الشافعيئ رحمه الله وسيأتي ذكر من خالف فيه لكن سهم الرسول لمجي! فيه خلاف عندهم فقيل يعطي للإمام وقيل يوزع على الأصناف الأربعة وقيل يصرف لما كان يصرف إليه في حياته ! من مصالح المسلمين كما ذكر المصنف رحمه الله. قوله : ) وقال أبو حتيفة رضي الله تعالى عنه الخ ا لأنه بوفاته صلى الله عليه وسلم فات مصرفه ولأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قسموا الخمس على ثلاثة أسهم لأنه صلى الله عليه وسلم علق استحقاق ذوي القربى بالنصرة إذ قال لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام فدل على أنّ المراد بالقرب قرب النصرة لا قرب النسب. قوله : ) وعن مالك رضي الله تعالى عته الأمر فيه مفوّض! إلى رأي الإمام الخ ( مالك رضي الله عنه لا يرى ذكر الوجوه المذكورة لبيان أنه لا يصرف فيما سواها ، وليس للتحديد بل الأمر موكول عنده إلى نظر الإمام فيصرف الخمس في مصالح المسلمين ، ومن جملتها قرابته !ت ولا تحديد عنده فالمراد بذكر الله عنده أنّ الخمس يصرف في وجوه القربات لله تعالى ، والمذكور بعده ليس للتخصيص بل لتفضيلهم على غيرهم ولا يرفع حكم العموم. قوله : ( وذهب أبو العالية وحمه الله الخ ( كما أنّ هذا المذهب مذهب أبي العالية فالرواية المذكورة هو الذي رواها ، ولذا قال في الكشاف ، وعنه الخ فيصح أن يقرأ روي معلوماً ومجهولآ لأن الحديث المذكور ) 1 ( رواه أبو داود في المراسيل ، وابن جرير عن أبي العالية أيضاً. قوله : ( ويصرف سهم الله إلى الكعبة ( أي إن كانت قريبة والا فإلى مسجد كل بلدة
وقع فيها الخمس كما قاله ابن الهمام رحمه الله. قوله : ( وذووا القرى بنو هاشم الخ ا لا بنو عبد شمس وبنو نوفل ، وقوله هؤلاء مبتدأ واخوتك بدل منه وبنو هاشم عطف بيان ، وقوله : ( لا ننكر الخ ) خبر ، وقوله لمكانك أي لمكانك منهم الذي هو شرف لهم ، وقيل :
إنّ هذا التركيب من قبيل أنا الذي سمتني أمي حيدره
وكان مقتضى الظاهر جعله الله ، وهو لا يصح إلا إذا كان بدلاً من ضمير المخاطب ، والظاهر أنّ المكان عبارة عن قرابته منهم وأنّ العائد محذوف أي الذي جعلك الله به أو فيه ، وليس مما ذكره في شيء ، وفي نسخة وصفك الله فيهم لأنه لمجرو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وعثمان رضي الله عنه ابن عفان بن العاص بن أسد بن عبد شمس بن عبد مناف وجبير بن مطعم بن عدفي بن نوفل بن عبد مناف ، وكان لعبد مناف خمس بنين هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب وأبو عمرو وكلهم أعقبوا إلا أبا عمرو ، وقوله : ( أرأيت الخ ( أي أخبرني لم أعطيتهم وحرمتنا ، وقوله بمنزلة واحدة أي في النسب. قوله : الما روي الخ ) هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه عن جبير بن مطعم وفي الصحيحين بعضه ، وقوله جميب لم يفارقونا الخ إشارة ة لى توجيه ما فعله بالنصرة كما مرّ وتشبيكه كأسبيه بين أصابعه إشارة إلى اختلاطهم به ، وعدم مفارقتهم له وقوله وقيل بنو هاشم وحدهم أي ذوو القربى ، هؤلاء لا غيرهم من قريش. قوله : ) وقيل جميع قريش الخ ( فيقسم بينهم { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } اسورة النساء ، الآية : أ ا ] وهو مذهب الشافعيّ رضي الله عنه وعند أبي حنيفة رحمه الله أنهم كانوا كذلك لكن سقط بعده !ه ، ويعطى لمن كان منهم داخلا في الأقسام الثلاثة وبسط الأقوال وأدلتها في كتب الفروع. قوله : ) كسهم ابن السبيل ) فإنه مخصوص بالفقير فاقترانه به يدل على أنه مثله في الجملة في اشتراط الفقر ، وان كان فقر ابن السبيل أن لا يكون معه مال ، وان كان له مال وفقر هؤلاء أن لا يكون لهم مال ، ولذا قيل كان عليه أن يقول كاليتامى ، وقوله : ) كله لهم ( أي لذوي القربى ، ومنهم أي القربى وقوله للتخصيص أي لتخصيص ذوي القربى بالأصناف الثلاثة ، وقوله : ( وقيل الخمس كان الخ ) فتكون الآية(4/275)
ج4ص276
نزلت بعد بدر ، وفينقاع
بفتح القاف وتثليث النون شعب من اليهود كانوا بالمدينة ، وقوله على رأس الخ المراد بالرأس هنا الطرف والآخر كما في حديث بعثه الله على رأس أربعين سنة فهو مجاز من إستعمال المقيد في المطلق. قوله : ( متعلق بمحذوف الخ ( أي جزاؤه ومحذوف ، والمراد التعلق المعنوي وليس جوابه ما قبله لأنه لا يصح تقدم الجزاء على الشرط على الصمحيح عند أهل العربية ، وإنما قدر فاعلموا ، ثم بين أن المراد بالعلم العمل لأن المطرد في أمثاله أن يقدر ما يدل ما قبله عليه فيقدر من جنسه ، فلا يقال إنه كان المناسب أن يقدر العمل أوّلاً تصرا للمسافة كما فعله النسفيّ رحمه الله. قوله : ( من الآيات والملايكة والنصر ( يعني أنّ المفعول محذوف ، ولا قرينة تعينه فيعمّ كل ما نزل ، والموصول من صنيع العموم وليس فيه جمع بين الحقيقة والمجاز ولا شبهة كما قيل إذ المراد بالمنزل ما جاءه من الله سواء كان جسما أو غيره ، ولو سلم فالمجاز والحقيقة في الإسناد لا مانع من الجمع بينهما فتدبر ، وعبد بضمتين جمع عبد ، وقيل اسم جمع له. قوله : ( يوم بدر الخ ) فالفرقان بمعناه اللغوي والإضافة فيه للعهد ، ويوم التقى الجمعان بدل منه أو متعلق بالفرقان وقوله فيقدر الخ إشارة إلى دخول ما ذكر فيه بقرينة المقام ، وتعريف الجمعان للعهد ، دماذ بدل أيضا أو معمول لا ذكر مقدراً. قوله : ( والعدوة بالحركات الئلاث الخ ) أي في العين ، وأصل معنى العدو والتجاوز فالمراد به هنا الجانب المتجاوز عن القرب وهو معنى قول المصنف رحمه الله تعالى شط الوادي أي جانبه البعيد من شط بمعنى بعد ، وقراءة الفتح شاذة قرأ بها الحسن ، وزيد بن عليّ وغيرهما وهي كلها لغات بمعنى ولا عبرة بانكار بعضها. قوله : ( البعدى من المدينة الخ ) فهو تأنيث أقصى بمعنى أبعد وفعلى من ذوات الواو إذا كان اسماً تبدل لأمه ياء نحو دنيا ، وقصوى بحسب الأصل صفة فلذا لم تبدل للفرق بين الاسم والصفة وهي قاعدة مقزرة عند بعض التصريفين فإن اعتبر غلبتها ، وأنها جرت مجرى الأسماء الجامدة قيل قصيا وهي لغة تميم ، والأولى لغة أهل الحجاز ، ومن أهل التصريف من قال : إنّ اللغة العالية العكس فإن كانت صفة أبدلت نحو العليا ، وان كانت اسما أقرّت نحو حزرى فعلى هذا
القصوى شاذة ، والقياس قصيا وهي لغة قرأ بها زيد بن عليّ ، وعنوا بالشذوذ مخالفة القياس لا الاستعمال فلا تنافي الفصاحة كذا في الدر المصون ، ومنه تعلم أنّ لإهل الصرف فيه مذهبين ، ولو قيل : إنه مبنيّ على اللغتين لم يبعد فما قيل إنّ دنيا من دنا يدنو قرب وقصوى من قصا يقصو بعد ، وهما وان كانا صفتين إلا أنهما ألحقا بسبب الاستعمال بالأسماء فلذا كان القياس قلب الواو ياء والا فقد تقرّر في موضعه أن هذا القياس إنما هو في الأسماء دون الصفات ليس بمسلم لأنه مذهب آخر كما عرفت. قوله : ( تفرقة بين الاسم والصفة ) ولم يعكس وان حصل به الفرق لأنّ الصف أثقل فأبقيت على الأصل الأخف لثقل الانتقال من الضمة إلى الياء ، ومن عكس أعطى الأصل للأصل وهو الاسم وغير في الفرع للفرق ، وقوله كالقود فإنه كان القياس فيه قلب الواو وألفاً لكنها لم تقلب فهي موافقة للاستعمال دون القياس. قوله : ( أي العير أو قوّادها ) جمع قائد والمراد أصحابها والركب اسم جمع راكب لا جمع على الصحيح فعلى الأوّل هو تغليب أو مجاز وعلى الثاني حقيقة والواو الداخلة عليه حالية أو عاطفة وأسفل منصوب على الظرفية لأنه في الأصل صفة للظرف أي في مكان أسفل وأجاز الفرّاء والأخفش رفعه على الاتساع أو بتقدير موضع الركب أسفل الخ. قوله : ( في مكان أسفل من مكانكم الخ ) إشارة إلى أنه صفة ظرف المكان المنصوب بتقدير في فلذلك انتصب انتصابه وقام مقامه ، وقوله : ( من مكانكم ) إشارة إلى أنه أفعل تفضيل لم ينسلخ عن الوصفية فيصير بمعنى مكان كما توهم وفسره بساحل البحر بيانا للواقع ، وقوله والجملة حال من الظرف قبله أي من الضمير المستتر في الجارّ والمجرور. قوله : ( وفائدتها الدلالة على فوّة العدوّ الخ ) ما ذكره من الفائدة جعله في الكشاف فائدة للتقييد بالأمور المذكورة من قوله إذ أنتم الخ فقول المصنف رحمه الله وفائدتها أي فائدة هذه الحال ، وتقييد ما قبلها به مع ذكر ما قبله أيضاً كما سيصرّح به في قوله ، وكذا ذكر مراكز وتقديره ، كما قيل إنّ قوله إذا أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم لا تفيد الحكم(4/276)
ج4ص277
ولا لازمه لأنهم يعلمونها ويعلمون أنه تعالى عليم بها وليس بسديد لأنه تعالى ذكرهم بهذه الأحوال والعلم يحصل من التذكير وان لم يكن ابتداء ، وهو كاف في فائدة الخبر ، والدّي يسأل عنه فائدة التذكير وهي هنا تصوير تدبيره تعالى إذ سبب الأسباب حتى اجتمعوا للحرب والامتنان على المؤمنين بتأييدهم مع ضعفهم وقوّة عدوّهم من جهات عديدة ، وقوله واستظهارهم بالركب أي تقويهم بهم لقربه منهم ، وقوله على المقاتلة عنها أي ال كلدافعة عنها وتوطين نفوسهم أي جعلها ثابتة عليه قارّة كما يقز المرء في وطنه ، وقوله أن لا يخلوا
مراكزهم من الإخلاء أي لا يجعلوها خالية منهم ، ولو كان من الخلل كان مراكزهم منصوبا بنزع الخافض! ، أو مضمنا معنى ما يتعدّى بنفسه والأوّل أولى ، وضعف شأن المسلمين كما في الكشاف معلوم من الواقع لقلة عددهم وعددهم المعلوم من إثباته للعدوّ دونهم ، فلا يقال إن في دلالة الآية عليه كلاماً. قوله : ( والتباث أمرهم ( أي صعوبته والتباسه عليهم من قولهم التاثت عليه الأمور والبست واختلطت ، واستبعاد غلبتهم لما مرّ ، وتوله : تسوخ فيها الأرجل أي تغيب وتزلّ. توله : ( أي لو تواعدتم أنتم وهم الخ ) جعل الضمير الأوّل شاملا للجمعين تغليباً والثاني خاصاً بالمسلمين ، وخالف الزمخشريّ فيهما إذ جعله فيهما شاملاً للفريقين لتكون الضمائر على وتيرة واحدة من غير تفكيك وإذ فسره بقوله لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلميق الخ لأنه غير مناسب للمقام إذ القصد فيه إلى بيان ضعف المسلمين ونصرة الله لهم مع ذلك وقوله ليتحققوا الخ متعلق بالدلالة أو بمقدر أي ذكر ما ذكر ليتحققوا الخ. قوله : ) ولكن ليقضي الله أمرا الخ ( أي ولكن تلاقيتم على غير موعد ليقضي الخ فهو متعلق بمقدر كما أشار إليه المصنف رحمه الله ، وقوله حقيقاً بأن يفعل الخ تأويل له لأن القضاء قبل فعله لا بعد ما كان مفعولاً ، ولذا فسره الزمخشريّ بقوله كان واجباً أن يفعل لأنّ تحققه ووجوبه مقرّر قبل ذلك ، وقيل : كان بمعنى صار الدالة على التحوّل أي صار مفعولا بعد أن لم يكن ، وقيل : إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى. قوله : ( بدل منه أو متعلق بقوله مفعولا الخ ( وقيل : إنه متعلق بيقضي ، وقد قيل عليه إنّ علة القضاء كون المقضي حقيقا بأن يفعل الذي يفيده كان مفعولاً ، وقوله ليهلك إنا علة للجمع فيكون بدلاً متعلقأ به أو لكونه حقيقا أو لنفس أن يفعل فيكون متعلقاً بمفعولاً لا بالقضاء ، وليس بشيء لأنه إذا تعلق به ، كان المعنى ليظهر ويقع ما ذكر وهو ظاهر. قوله : ( والمعنى ليموت من يموت عن بينة الخ ) المراد بالبينة الحجة الظاهرة أي ليظهر الحجة بعد هذا
فلا يبقى محل للتعليل بالأعذار ، وقوله أو ليصدر الني فالمراد بالحياة الإيمان وبالموت الكفر استعارة أو مجازاً مرسلاً والبينة إظهار كمال القدرة الدال على الحجة الدامغة ليحق الحق ويبطل الباطل. قوله : ( والمراد بمن هلك ومن حئ المشرف للهلاك والحياة الخ ( المشارفة للهلاك ظاهرة ، وأما مشارفة الحياة فقيل المراد الاستمرار على الحياة بعد وقعة بدر فيظهر صحة اعتبار معنى المشارفة في الحياة أيضاً ، وإنما قال : المراد ذلك لأنّ من حيّ مقابل لمن هلك ، والظاهر أن عن بمعنى بعد كقوله تعالى : { عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [ سورة المؤمنون ، الآية : 40 ] وقيل : لما لم يتصوّر أن يهلك في الاستقبال من هلك في الماضي حمل من هلك على المشارفة فيرجع إلى الاستقبال ، ولذا قال في بيان المعنى ليموت الخ ، وكذا لما لم يتصوّر أن يتصف بالحياة المستقبلة من اتصف بها في الماضي حمل على المشارفة ليكون مستقبلا أيضا لكن يلزم منه أن يختص بمن لمن يكن حياً إذ ذاك فيحمل على دوام الحياة دون الاتصاف بأصلها ، فالمعنى لتدوم حياة من أشرف لدوامها كما أشار إليه المصنف بقوله ، ويعيش من يعيش الخ ، ولا يجوز أن يكون المعنى لتدوم حياة من حيّ في الماضي لأن من حيئ حينئذ يصدق على من هلك فلا تحصل المقابلة ، ولقائل أن يقول : لما كان نزول هذه الآية بعد بدر صح التعبير بالماضي لحصول هلاك من هلك ، وتبقية من بقي وقت النزول والاستقبال بالنظر إلى الجمع لتأخرهما عنه فلا حاجة إلى التأويل بالإشراف فتأمّل. قوله : ) أو من هذا حاله في علم الله وقضائه ) حاصله اعتبار المعنى باعتبار علم الله وقضائه وبه يندفع المحذور السابق ، وهذا عبارة عما ذكر(4/277)
ج4ص278
من الحياة والهلاك. قوله : ( وقرىء ليهلك بالفتح ) قرأها الأعمش ، وعصمة عن أبي بكر عن عاصم ، وقياس ماضيه هلك بالكسر والمشهور فيه الفتح كقوله : { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ } [ صورة النساء ، الآية : 176 ] وقد سمع في فعله هلك يهلك كضرب يضرب ومنع وعلم كما في القاموس ، وقال ابن جني في المحتسب : إنها شاذة مرغوب عنها لأن ماضيه هلك بالفتح ولا يأتي فعل يفعل إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام فهو من اللغة المتداخلة ، وقد تبعه الزمخشريّ في سورة الأحقاف. قوله : ( للحمل على المستقبل ) أي المضارع قال أبو البقاء : حيئ يقرأ بتشديد الياء وهو الأصل لتماثل الحرفين كشد ومد ، ويقرأ بالإظهار ، وفيه وجهان أحدهما أنّ حيّ حمل على المستقبل وهو يحيا فلما لم يدغم فيه لم يدغم في الماضي ، وليس كذلك شدّ ومذ لإدغامه فيهما ، والثاني أن حركة الحرفين مختلفة فالأولى مكسورة والثانية مفتوحة ، واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين ، ولذا أجازوا في
الاختيار ضبب البلد إذا كثر ضبابه ، أو لأنّ الحركة الثانية عارضة تزول في نحو حييت ، وهذا في الماضي ، أما إذا كانت حركة الثاني حركة إعراب فالإظهار فقط. قوله : ( بكفر من كفر وعقابه ) المراد بالأمرين الإيمان والكفر واشتمالهما على الاعتقاد واشتمال الإيمان على القول ظاهر لاشنراط إجراء الأحكام بكلمتي الشهادة ، واشتمال الكفر على القول بناء على المعتاد فيه أيضا ، وليس الأمر على التوزيع كما توهم ، وقيل : المراد بالأمرين الهلاك والحياة فإن الحيّ له قول واعتقاد ، كما أنّ المشرف على الحياة كذلك وليس بشيء. قوله : ( مقدّر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان الخ ( معنى تقديره باذكر أنه ظرف له أو مفعول كما مرّ ، ولذا لم يقل نصب باذكر ليصدق على المذهبين وتعلقه بعليم لا يخفى ما فيه ، وقوله : ( في عينك في رؤياك الخ ) في رؤياك يحتمل الحالية والبدلية ، والرؤية مصدر رأي البصرية في اليقظة ، والرؤيا مصدر رأي الحلمية وهو المراد هنا. فيكون أي أثر إخباره ، وقوله : ( لجبتتم ) من الجبن مضموم العين لأنه من أفعال السجايا ، والفشل بمعنى الجبن ، وفي الكشاف وعن الحسن في منامك في عينك لأنها مكان النوم كما قيل للقطيفة المنامة لأنه ينام فيها : وهذا تفسير فيه تعسف ، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته ، ولهذا تركها المصنف رحمه الله. ووجه التعسف أنّ المنام شاع بمعنى النوم مصدر ميمي لا في المحل الذي ينام فيه الشخص النائم ، فالحمل على خلافه تعسف ، ولا نكتة فيه وما قيل : أنّ فائدة العدول الدلالة على الأمن الواقع فيه لما غشيهم النعاس فليس بشيء لأنّ التقييد بذلك النوم في تلك الحالة لا دليل عليه ، فهو تجوّز بعيد خال عن الفائدة مع شهرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رآه في المنام وقصه على أصحابه رضي الله عنهم ، فلا يعارضحه كون العين مكان النوم نظراً إلى الظاهر. قوله : ( وهو أن تخبر الخ ( كان الظاهر وهي أي المصالح ، ولكنه راعى فيه الخبر أي المصالح ما! منها إخبارك لهم فلا تقدير فيه ولا إشكال كما قيل. قوله : ( تعالى لفشلتم ) جمع ضممير الخطاب في الجزاء مع إفراده في الشرط إشارة إلى أنّ الجبن معرض لهم لا لهءسي! إن كان الخطاب للأصحاب فقط ، وان كان للكل فيكون من إسناد ما للأكثر للكل. قوله : ( يعلم ما سيكون فيها الخ ) قيل : قيده بالمستقبل لأنه تعليل لأمور مستقبلة من الجبن والتسليم ونحوه ، وقوله : فيها إشارة إلى أنّ معنى ذات الصدور ما فيها من الخواطر التي جعلت كأنها مالكة للصدور. وقوله :
وقليلا حال الخ أخره ليعلم به حال ما قبله من قليل وكثير. قوله : ( وإنما فللهم الخ ( تثبيتأ علة للتقليل في المرأى وكذا تصديقا ، وأكلة جزور ومثل في القلة كآلكة رأس أي أنهم لقلتهم يكفيهم ذلك وآكلة بوزن كتبة جمع أكل بوزن فاعل والجزور الناقة. قوله : ( وقللهم في أعينهم الخ ) يعني حكمه تقليل الكفرة في أعين المؤمنين ما مرّ ، وتقليلهم في أعين الكفار كان في ابتداء الأمر لجترؤوا أي تحصل لهم الجراءة عليهم ، ويتركوا الاستعداد والاستمداد ، والتحام القتال بالحاء المهملة دخول بعض القوم في بعض كلحمة الثوب ، ثم بعد ذلك رأوهم كثيراً لتفجأهم الكثرة ، وفي نسخة لتفاجئهم أي لتقع لهم فجأة وبغتة فيكون لهم بهتة وتحير وضعف قلوب وضمير يرونهم للمؤمنين وضمير مثليهم للمؤمنين أو للكافرين ، والظاهر الثاني. قوله : ( وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة الخ ( إشارة إلى أنّ(4/278)
ج4ص279
الرؤية وسائر الادراكات بمحض خلقه تعالى ، ولا يجب وقوعها عند تحقق ما يجعله الحكماء شرطا ، ولا يمتنع عند فقد بعضها ، وفي الانتصاف وهي مبطلة لمذهب منكري الرؤية لفقد شرطها ، وهو التجسم ونحوه لكنه قيل في الحصر المذكور نظر لاحتمال أن يحدث الله في عيونهم ما يستقلون له الكثير كما أحدث في عيون الحوّل ما يرون له الواحد اثنين كما في الكشاف ، ولا يلزم أن يكون منامه على الخلاف الواقع لأنه في مقام التعبير ، والقلة معبرة بالمغلوبية ، والواقعة منها ما يقع بعينه ، ومنها ما يعبر ويؤوّل ، وقيل ما ذكر من التعليل مناسب لتقليل الكثير لا لتكثير القليل ، وأنت خبير بأن تكثير القليل بكون الملائكة عليهم الصلاة والسلام معهم ومن جانب الكفرة حقيقة فلا يحتاج إلى توجيه فيهما ، وإنما المحتاج إليه تقليل الكثير ولذا اقتصر عليه ، وترك الوجه الثاني لأنه في التكثير ، وبه يتضح وجه الحصر ، والاقتصار فافهم.
قوله : ( لاختلاف الفعل المعلل به ( وهو في الأوّل اجتماعهم بلا ميعاد ، وهنا تقليلهم ، ثم تكثيرهم. قوله : ( حاربتم جماعة الخ ( فسر اللقاء بالحرب لغلبته عليه كما ذكره ، ولم يصف
الفئة بأنها كافرة لأنه معلوم غير محتاج إلى ذكره ، وقيل ليشمل قتال البغاة ولا ينافيه خصوص سبب النزول ، وقوله : ( للقائهم ) اللام للتوقيت أي في وقت لقائهم أي قتالهم ، ومن الكلمات الواهية هنا ما قيل على المصنف إنّ الانقطاع معتبر في معنى الفئة لأنها من فاوتته رايته أي قطعته ، والمنقطع عن المؤمنين إما كفار أو بغاة ، ثم قال : مستسمنا ذا ورم ومن لم يقف على هذه الدقيقة الأنيقة قال لم يصفها لأنّ المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار ، وهذا مما لا حاجة إلى ردّه ، وكذا ما قيل الأولى حذف قوله مما لأنّ له نظار مشهورة كالنزال. قوله : ( في مواطن الحرب داعين له الخ ) وهذا يقتضي استحباب الدعاء والذكر في القتال ، ومنه التكبير ، وقيل يستحب إخفاؤه ولذا قيل المراد بذكره أخطاره بالقلب وتوقع نصره ، وفي الحديث : " لا تمنوا لقاء العدوّ اسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله كثيرا فإن أجلبوا وضجوا فعليكم بالصمت ( ) 1 ( ، وهذا من عدم الوقوف على كتب السنة ، وفي كتاب الدعوات للبيهقي أدعية مأثورة في القتال كقوله : " اللهم أنت ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم ييدك فاقتلهم واهزمهم " وأحاديث أخر في معناه ، وقوله : بشراشره : أي بجملته وكليته وبقيته ، وهو جمع شرشرة بمعنى طرف فهو كقو لهم برّمته وأسره. قوله : ( جواب النهي ( أي منصوب بأن مقدرة في جوابه ، أو هو معطوف عليه فيكون مجزوماً وما يدل عليه قراءة عيسى بن عمر ويذهب بباء الغيبة والجزم كما في الكشاف ، ولعدم مدخلية القراءة بالياء في الدلالة على العطف اقتصر المصنف على الجزم ، وقيل كان عليه ترك قيل لأنه على هذه القراءة مجزوم عند الكل لا عند البعض ومراده بقيل على غير قراءة الجزم لأنه في توجيه قراءة الجمهور. قوله : ( والريح مستعارة للدولة ) يعني استعير الريح للدولة لشبهها به في نفود أمرها ، وتمشيته فيقال هبت رياج فلان إذا كانت له دولة قال الشاعر :
إذاهبت رياحك فاغتنمها فإنّ لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون
وقيل في وجه الشبه إنه عدم ثباتها. قوله : ( وقيل المراد بها الحقيقة الخ ) يعني أن علامة النصر أن تهب ربح من جانب المقاتلين في وجوه الأعداء فيكون الريح لنصرة من تهب من جانبه ، ولعدمه لمن قابلتة ، وهذا مروقي عن قتادة كما ذكره الطيبي رحمه الله تال : لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدوّ ، وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن عليّ رضي الله عنهما وهو مشهور الآن بين الناس فيكون حقيقة ، أو كناية عن النصر ، وكان النبيّ ع!ي! إذا لم يقاتل أوّل النهار انتظر حتى تميل الشمس ، ومنهم من توهمه مطلقأ فينا في إهلاك عاد بالدبور فقال إهلاكهم كان نصرة لهود علي الصلاة والسلام ، والصبا ريح تهبّ في المستوى من مطلع الشمس ويقابلها الدبور ، والكلاءة بالمذ كالحراسة لفظاً ومعنى. قوله : ( وفي الحديث نصرت بالصبا الخ ( ) 1 ( أخرجه البخاريّ ، ومسلم عن ابن(4/279)
ج4ص280
عباس رضي الله عنهما. قوله : ( بطرا فخراً وأشراً الخ ( البطر والأشر بفتحتين النشاط للنعمة ، والفرج بها ومقابلة النعمة بالتكبر ، والخيلاء والفخر بها. قوله : ( ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة الخ ) جوّز في نصب بطراً وما عطف عليه أن يكون على أنه مفعول له ، وأن يكون حالاً بتأويل بطرين مرائين ، وكلامه هنا ظاهر في الأوّل! ، وما قيل إنّ الوجه أن يقال كما في بعض التفاسير إنهم خرجوا لنصرة العير بالقيان ، والمعازف فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثل هؤلاء بطرين طربين مرائين بأعمالهم لا ما ذكره المصنف رحمه الله فإنه لا يصلح وجهاً لخروجهم من مكة بطرين مرائين ، ولا مخالفة بينهما ، والأمر فيه سهل فلا حاجة إلى التطويل بغير طائل ، وقوله تعزف من العزف بعين مهملة مفتوحة وزاي معجمة ساكنة وفاء ، وهو الطرق ، والضرب بالدفوف ، والقينات جمع قينة ، وهي الجارية مطلقأ والمراد بها المغنية وقوله فوافوها أي فجاؤوا بدرأ ، وسقوا كأس المنايا أي بدل الخمور ، وناحت عليهم النوائح أي بدل المغنيات ، وكانت أموالهم غنائم بدلاً عن بذلها وكون
الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه محل الكلام عليه بالأصول ، وقوله : ( من حيث الخ ( للتعليل فإنّ حيث في عباراتهم للإطلاق والتقييد والتعليل كما مرّ. قوله : ( معطوف على بطرا الخ ( أما إن كان حالاً بتأويل اسم الفاعل أو بجعله مصدر فعل هو حال فالعطف ظاهر لأن الجملة تقع حالاً من غير تأويل ، وأما إن كان مفعولأ له والجملة لا تقع مفعولاً له فيحتاج إلى تكلف ، وهو أن يكون أصله أن تصدوا فلما حذفت أن المصدرية ارتفع الفعل مع القصد إلى معنى المصدرية بدون سابك كقوله :
ألا أيهذا الراجزي أحضر الوغا
وهو شاذ ولم يذكره النحاة فالأولى جعله على هذا مستأنفا ، ونكتة التعبير بالاسم أوّلاً ،
ثم الفعل أنّ البطر والرياء دأبهم بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوّة. قوله : ) مقدّر باذكر ( قيل الظاهر اذكروا لأنه معطوف على لا تكونوا وليس هذا بأمر لازم وأجيب بأنه بيان لنوع العامل لا هذا بخصوصه أي يقدر فعل من هذه الماذة ، وهو اذكروا وقد مرّ الكلام عليه مفصلاً. قوله : ) بأن وسوس الخ ) ذكر الزمخشرقي في التزيين هنا وجهين ، الأوّل أنّ الشيطان وسوس لهم من غير تمثيل في صورة إنسان فالقول على هذا مجاز عن الوسوسة والنكوص ، وهو الرجوع استعارة لبطلان كيده ، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه اللّه ، ولذا قدمه ، والثاني أنه ظهر في صورة إنسان لأنهم لما أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني كنانة لأنهم كانوا قتلوا منهم رجلا ، وهم يطلبون دمه فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم فتمثل إبليس اللعين في صورة سراقة الكناني ، وقال أنا جاركم من بني كنانة فلا يصل إليكم مكروه منهم فقوله وقال أنا جاركم على الحقيقة وسيأتي هذا الوجه ، وقال الإمام : معنى الجار هنا الدافع للضرر عن صاحبه كما يدفع الجار عن جاره ، والعرب تقول أنا جار لك من فلان أي حافظ لك مانع منه ، ولذا قال : مقالة نفسانية أي بالوسوسة ، وعند من نفى الكلام النفسيّ كالزمخشريّ فالكلام تمثيل كما قيل ، وفيه نظر والروع بضم المهملة القلب أو سويداؤه ، وقوله وأوهمهم الخ أي ليس قوله إني جار على الحقيقة ، ولكم خبر لأنه لو تعلق به كان مطؤلاً فينتصب لشبهه بالمضاف ، وقد أجاز البغداديون فتحه فعلى هذا يصح تعلقه به ومن الناس حال من ضمير لكم لا من المستتر في غالب لما ذكرنا وجملة إني جار لكم تحتمل العطف والحالية ،
وقوله مجير لهم إشارة إلى أنه من قبيلى الإسناد إلى السبب الداعي ، وإذا كان صفة فالخبر محذوف أي لا غالب كائنا لكم موجود ، وصلته بمعنى متعلق به. قوله : ( تلاقي الفريقان ( فالترائي كناية عن التلاقي لأنّ النكوص عنده لا عند الرؤية ، وقوله : ( رجع القهقرى ( هو معنى النكوص ، وعلى عقبيه حال مؤكدة ، وقيل إنه مطلق الرجوع فتكون مؤسسة وقوله أجما بطل كيده يعني أنه استعارة تمثيلية شبه بطلان كيده بعد تزيينه بمن رجع القهقرى عما يخافه وقوله وعاد ما خيل إليهم مجهولاً ، وعاد بمعنى صار أي انقلب إلى عكس ما تخيلوا. قوله : ( تبرّأمنهم وخاف عليهم الخ ) جعل قوله إني بريء الخ عبارة عن التبري منهم لأنه ليس منه قول حقيقة أما على القول الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلما سيأتي في بيانه ، والتبري منهم إمّا بتركهم أو بترك الوسوسة لهم ، وقال خاف عليهم قيل لأنه لا يخاف على نفسه لأنه من المنظرين وفيه نظر لما سيأتي ، وقوله : ( وقيل ( عطف على قوله مقالة(4/280)
ج4ص281
نفسانية ، والأحنة بالكسر للهمزة وحاء مهملة ونون معناها الحقد كما مرّ ، وقوله يثنيهم أي يصرفهم للرجوع عن قصدهم ، وقوله : أتخذ لنا أي تترك معاونتنا. قوله : ( وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله الخ ) أصل قوله يصيبني مكروها يصيبني الله بمكروه فمكروهأ منصوب على نزع الخافض ، وليس تفعيلا منه كما قيل والحامل له عليه تعديته ، وليس في اللغة تفعيل منه ، واعترض على قوله أو يهلكني الخ بأنه لا اختصاص له بالتفسير الثاني ، ولا بقوله إذ رأى الخ لظهور تمشيته على التفسير الأول ، ولا يخفى أن قال على الأول بمعنى وسوس وهر لا يوسوس إليهم بخوفه على نفسه بل عليهم ، ولذا قال : في الأول خاف عليهم وهو ظاهر ، وقوله : إذ رأى فيه ما لم ير قبله كما في حديث الموطأ رحم الله مؤلفه : " ما رؤكط الشيطان يوماً هو فيه أصغر ، وأدحر ولا أحقر وأغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاورّ الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر لما رأى جبريل والملائكة عليهم
الصلاة والسلام معه " ( ا! ( ومن العجيب ( ما في كتاب التيجان أن إبليس قتل ببدر وابن بحر هو الجاحظ. قوله : ) وأن يكون مستانفاً ) قيل الظاهر أنه من كلامه إذ على كونه مستأنفا يكون تقريرا لمعذرته ، ولا يقتضيه المقام فيكون فضلة من الكلام ، وهو غير وارد لأنه بيان لسبب خوفه لأنه يعلم ذلك ، وهذا على الوجه الأوّل وكونه من كلامه على الثاني فتدبر. قوله : ( والذين لم يطمئنوا الخ ( تفسير للذين في قلوبهم مرض فالمرض مجاز عن الشبهة ، وهم المؤلفة قلوبهم ، وعلى ما بعده المرض الكفر أو النفاق. قوله : ) والعطف لتغاير الوصفين ( قيل يجوز أن يكون صفة المنافقين ، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف لأن هذه صفة للمنافقين لا تنفك عنهم قال تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أو تكون الواو داخلة بين المفسر والمفسر نحو أعجبني زيد وكرمه ، وقيل في الرذ عليه العطف باعتبار تغاير الوصفين أي يقول الجامعون بين صفتي النفاق ومرض القلوب ، وجعل الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف أو من قبيل أعجبني زيد وكرمه وهم.
( قلت ( جعله وهما تحامل منه ، فإنه لا مانع منه صناعة ولا معنى ، وقد ذكره القائل على
وجه التجويز بناء على مذهب الزمخشرقي فانظر وجه الوهم فيه ، فإن كان وجهه أنّ المنافقين جار على موصوف مقدر أي القوم المنافقون ، فلا نسلم أنه متعين ، ولأنه قد يقول إنه أجرى هنا مجرى الأسماء ، مع أن الصفة لا مانع من أن توصف. قوله : ) حين تعرّضوا لما لا يدي لهم الخ ) يدي مثنى يد بمعنى القدرة أي لا طاقة لهم به ، وهذا التركيب سمع من العرب بهذا المعنى ، وحذفت نون التثنية منه كما أثبتت الألف في لا أباً لك لتقدير الإضافة فيه ، وبه احتج يونس على أنه بمنزلة المضات كما فصل في مطوّلات كتب النحو ، وزهاء بضم الزاي المعجمة والمد بمعنى قريب سواء كانوا أقل أو أكثر ، والمراد بما يستبعده العقل نصرة قوم قليلي العدد والعدد على من تم لهم ذلك ، وفسره به لاقتضاء المقام له. قوله : ( ولو ترى ولو رأيت فإنّ لو تجعل المضارع الخ ( قال النحرير : لا بد أن يحمل معنى المضيّ هنا على الفرض! ، والتقدير كأنه قيل قد مضى هذا المعنى ، ولم تره ولو رأيته لرأيت أمراً فظيعا والا فظاهر أنه ليس المعنى
هاهنا على حقيقة المضيّ قيل والنكتة فيه القصد إلى تصوير أنّ رؤية المخاطب حال الكفار وقت ذلك مستمرّة الامتناع في الماضي استمرارا تجددياً وقتاً بعد وقت فالقصد إلى استمرار امتناع الرؤية وتجدده ( وفيه بحث ا لأنه لا مانع من كون الرؤية في الماضي لأنه ليس المراد بها رؤية واقعة حتى يتأتى ما ذكروه ، والمضيّ في الحقيقة للرؤية الممتنعة بل لامتناع الرؤية الماضية في الدنيا فما الداعي إلى هذه التكلفات فتأمّل. قوله : ( والملائكة فاعل يتوفى ) ولم يؤنث لأنه غير حقيقيّ التأنيث وحسنه الفصل بينهما ، وقوله : ( الفاعل ضمير الله ) أي فاعلى يتوفى والملائكة على هذا مبتدأ خبره جملة يضربون والجملة الاسمية مستأنفة ، وعند المصنف رحمه الله حالية واعترض عليه بأنه ذكر في أوّل الأعراف أنه لا بد في الاسمية من الواو وتركها ضعيف ، وقد مرّ الكلام فيه. قوله : ( وهو على الأوّل الخ ) أي يضربون ويحتمل الاستئناف أيضاً والمراد بالأوّل الوجه الأوّل ، وهو كون الملائكة فاعل يتوفى ، وهو إئا حال من الفاعل أو المفعول أو منهما لاشتماله على ضميريهما ، وهي مضارعية يكتفي فيها بالضمير. قوله : ( ظهورهم وأستاههم ) يعني الدبر ما أدبر وهي كل الظهر أو بعضه(4/281)
ج4ص282
كما اختص به في عرف اللغة ، ولعل المراد بذكرهما التخصيص بما لأنه أشد نكالاً واهانة كما ذكره الزمخشرفي ، أو المراد التعميم على حد قوله : { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [ سورة الأعراف ، الآية : 205 ] لأنه أقوى ألما. قوله : ( بإضمار القول أي ويقولون ذوقوا الخ أليس التقدير لمجرّد الفرار من عطف الإنشاء على الخبر بل لأنّ المعنى يقتضيه لأنه من قول الملائكة قطعا قيل ، ويحتمل أن يكون من كلام الله عز وجل ، كما مرّ في آل عمران ونقول ذوقوا عذاب الحريق فقول البحر قطعاً فيه نظر ، وعندي أنه لا وجه له فإنّ السياق يعين ما قاله ، وبينهما وبين تلك الآية فرق ظاهر ، وجعل بشارة لأنّ المراد به عذاب الآخرة فإن أريد به ما أحرقوا به حالة الضرب فهو للتوبيخ وقوله بشارة تهكم إشارة إلى أن قوله ذوقوا من التهكم لأنّ الذوق يكون في المطعومات المستلذة غالبا وفيه نكتة أخرى ، وأنه قليل من كثير يعقبه ، وأنه مقدمة كأنموذج الذائق ، وبهذا الاعتبار يكون فيه المبالغة وإن أشعر الذوق بقلته. قوله : ( وجواب لو محذوف لتفظيع الأمر وتهويله ) إشارة إلى أنه يقدّر لرأيت أمراً فظيعا كما اشتهر تقديره به ، وقدره الطيبي رحمه الله لرأيت قوّة أوليائه ونصرهم على
أعدائه. قوله : ( بسبب ما كسبتم الخ ) إشارة إلى أن الباء سببية وأق تقديم الأيدي مجاز عن الكسب ، والفعل وقوله عطف على ما فهي موصولة والعائد محذوف. قوله : ( للدلا لة على أن السببية مقيدة الخ ) جعل في الكشاف كلاً منهما سبباً بناء على مذهبه في وجوب الأصلح ، ولذا عدل عنه المصنف رحمه الله وأشار إلى ردّه بأنّ السبب هو الأوّل وهذا قيد له وضميمة بها يتم ، ووجه كونه ضميمة بقوله إذ لولاه الخ فقوله لا أن لا يعذبهم بذنوبهم معطوت على قوله أن يعذبهم ، والمعنى أن سبب هذا القيد دفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن عقلاً وشرعا فقوله للدلالة على أنّ السببية وفي نسخة سببيته الخ أي تعيينه للسببية إنما يحصل بهذا التقييد إذ بإمكان تعذيبهم بغير ذنب ، يحتمل أن يكون سبب الت!ذيب إرادة العذاب بلا ذنب فحاصل معنى الآية أنّ عذابكم له إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر فلا يرد عليه ما قيل كون تعذيب الله العباد بغير ذنب ظلماً لا يوافق مذهب أهل السنة ، لا يقال هذا يخالف ما قاله في سورة آل عمران من أنّ سببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضى إثابة المحسن ، ومعاقبة المسيء ، لأنا نقول لنفي الظلم معنيان ، أحدهما ما ذكر من آثابة المحسن الخ والآخر عدم التعذيب بلا ذنب ، وكل منهما يؤول إلى معنى العدل فلا تدافع بين كلاميه كما قيل ، وأما جعله هناك سببا وهنا قيداً للسبب فلا يوجب التدافع أيضا فإن المراد بالسبب الوسيلة المحضة ، فهو وسيلة سواء اعتبر سببا مستقلا أو قيداً للسبب ، ومنه تعلم سقوط ما قيل على المصنف رحمه الله أنّ إمكان تعذيبه تعالى لعبده بغير ذنب ، بل وقوعه لا ينافي تعذيب هؤلاء الكفرة المعينة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه لعدم الاطلاع على مراده ، ثم قال : لو كان المذعي أنّ جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك ، وهذا أيضا من عدم الوقوف على مراده فإن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتبكيت المخاطبين في الاعتراف بتقصيرهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم فالقول بالاحتياج في صورة عموم الخطاب لجميع المعذبين ، وبعدمه في صورة خصوصه ركيك جداً ، وقيل في بيانه إنه يريد أنّ سببية الذنوب للعذاب تتوقف على انتفاء الظلم منه تعالى ، فإنه لو جاز صدوره عنه لأمكن أن يعذب عبيده بغير ذنوبهم ، فلا يصلح أن يكون الذنب سبباً للعذاب لا في هذه الصورة ولا في غيرها ، فان قلت لا يلزم من هذا إلا نفي انحصار السبب للعذاب في الذنوب ، لا نفي سببيتها له والكلام فيه إذ يجوز أن يقع العذاب في الصورة المفروضة بسبب غير الذنوب ، ولا ينافي هذا كونها سببا له في غير هذه الصورة كما في أهل بدر فلا يتم الترتيب ، قلت السبب المفروض! في الصورة المذكورة ، إن أوجب استحقاق العذاب يكون ذنبا لا محالة والمفروض خلافه ، وان لم يوجبه فلا يتصوّر أن يكون سبباً إذ لا معنى لكون شيء سبباً إلا كونه مقتضياً لاستحقاقه فإذا انتفى هذا ينتفي ذلك ،
وبالجملة فمآل كون التعذيب من غير ذنب إلى كونه بدون السبب لانحصار السبب فيه ا!.
وردّ بأنّ قوله وان لم يوجبه فلا يتصوّر أن يكون سبباً ممنوع فإن(4/282)
ج4ص283
السبب الموجب ما
يكون مؤثراً في حصول شيء سواه كان عن استحقاق أو لا ، ألا ترى أنّ الضرب والقتل بظلم سبب للإيلام والموت مع أنه ليس عن استحقاق ، فاعتراض! السائل واقع في موقعه ، ولا يمكن التقصي عنه إلا بما قرّرنا. من أنّ معنى الآية ذلك العذاب بكسب أيديكم لا لشيء آخر من إرادة التعذيب بلا ذنب فانه تعالى ليس بظلام فالمقام مقام تعيين السببية ، وتخصيصها للذنوب وذلك لا يحصل إلا بنفي صدور العذاب بلا ذنب منه تعالى ، ومن هنا علم أنّ قوله وبالجملة الخ ليس بسديد فإنّ مبناه كون الاستحقاق شرطا للسببية ، وقد مرّ ما فيه لمختار أجلة المفسرين من كون نفي الظلم سبباً آخر للتعذيب لأنّ سببية نفي الظلم موقوفة على إمكان إرادة التعذيب بلا ذنب ، وكونها سبباً للعذاب فكيف يكون مآل كون التعذيب بلا ذنب كونه بدون سبب فتأمّل. قوله : ( ينتهض الخ ) قيل هذا ينافي ما ذكر في آل عمران ، وقد علصت جوابه ، وقيل إنه قد يتحقق بالعفو إذ ليسا بطرفي نقيض عندنا فلا يتم ما ذكره ، وقد عرفت ما فيه ، ثم إنه قيل ما في آل عمران ظاهر البطلان فإنّ ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلاً لينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب ، ومنشؤه عدم الفرق بين السبب ، والعلة الموجبة والفرق واضح ، فإن السبب وسيلة غير موجبة لحصول المسبب بخلاف العلة ، والعدل اللازم من نفي الظلم سبب العذاب المستحق ، وإن لم توجبه فالاستدلال بعدم الإيجاب على عدم المسبب فاسد ، ولبعض أهل العصر فيه كلام تركناه خوف الإطالة ثم إن قول المصنف رحمه الله ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم لا ينتهض على المعتزلة إلا أن يقال إنه كلام تحقيقي وان لم يسلموه فتأمل. قوله : ( وظلام للتكثير الخ ) جواب ما قيل إنّ نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ونفي الكثرة لا ينفي أصله بل ربما يشعر بوجوده ، ورجوع النفي للقيد بأنه نفي لأصل الظلم ، وكثرته باعتبار آحاد من ظلم كأنه قيل ظالم لفلان ، ولفلان وهلمّ جزاً فلما%!مع هؤلاء عدل إلى ظلام لذلك أي لكثرة الكمية فيه ، وقد أجيب بوجوه منها أنه إذا انتقى الظلم الكثير انتفى الظلم القليل لاًنّ من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم ، فإذا ترك كثيره مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع ، والضر كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا وبأنّ ظلام للنسب كعطار أي لا ينسب إليه الظلم أصلا وبأنّ كل صفة له تعالى في أكمل المراتب فلو كان تعالى ظالماً كان ظلاما فنفي اللازم لنفي الملزوم ، وبأنّ نفي الظلام لنفي الظالم ضرورة أنه إذا انتفى الظلم انتفى كماله فجعل نفي المبالغة كناية عن نفي أصله انتقالأ من اللازم إلى الملزوم ، فإن قلت لا يلزم من كون صفاته تعالى في أقصى مراتب الكمال كون المفروض ثبوته كذلك بل الأصل في صفات النقص على تقدير ثبوتها أن تكون ناقصة ، قلت إذا فرض! ثبوت صفة له تعالى يفرض! بما يلزمها من الكمال ، والقول بأنّ هذا في صفات الكمال إنما يوجب عدم ثبوتها لا ثبوتها ناقصة ، وأجيب
أيضا بأنّ استحقاقهم العذاب بلغ الغاية بحيث لولاه لكان تعذيبهم غاية الظلم ، وهو الذي ارتضاه في الكشاف وأيده في الكشف وأيضاً لو عذب تعالى عبيده بدون استحقاق ، وسبب لكان ظلماً عظيما لصدوره عن العدل الرحيم. قوله : ( أي دأب هؤلاء الخ ) الدأب إدامة السير ، والدأب العادة المسمرة ، وهو المراد هنا كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى وأشار إلى أنه خبر مبتدأ مقدر وهو دأب هؤلاء وتفسير الكاف بمثل لا يقتضي أنها اسم كما قيل. قوله : ( تفسير لدأبهم ) أي للدأب المشبه ، والمشبه به لأنه لبيان وجه الشبه كما سيأتي فتكون الجملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب ، وقيل إنها مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانياً ، وقيل حالية بتقدير قد. قوله : ) كما أخذ هؤلاء ) المقصود بيان اشتراكهما في الأخذ لا التشبيه حتى يقال إنه تشبيه مقلوب. قوله : ( لا يغلبه في دفعه شيء ) تفسير للقوى المضموم إليه شديد العقاب أي لا يغلبه غالب فيدفع عقابه عمن أراد معاقبته وما حل بهم هو الانتقام بتعذيبهم ، وقوله مبدلاً إشارة إلى أنه تغيير خاص بتبديل إلى ضدّه فإنّ التغيير شامل لغيره ، وقوله ما بهم إشارة إلى أنّ المراد بالأنفس الذوات. قوله : ( 1 لى حال أسوأ كتغيير قريش الخ ) في الكشاف في دفع السؤال بأنهم لم يكن لهم حال مرضية غيروها إلى حال مسخوطة إنه كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها ، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم(4/283)
ج4ص284
كفرة عبدة أصنام فلما بعث-لمجي! إليهم الآيات البينات فكذبوه وعادوه ، وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال ، وعاجلهم بالعذاب ، والمصنف رحمه الله اختصر كلامه فورد عليه أن أسوأ لا حاجة إليه فإن صلة الرحم والكف عن تعرض! الآيات والرسل ليست بحال سيئة ، وهي التي غيروها إلا أن يقال قوله في صلة الرحم ، والكف ليس بياناً للحال بل الحال هي الكفر ولكن لاقترانها بما ذكر لم تكن أسوأ بل سيئة ، وقيل إنهم لما كانوا متمكنين من الإيمان ، ثم لم يؤمنوا كان ذلك كأنه حاصل لهم فغيروه كما قيل في قوله أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وهو وجه حسن.
قوله : ( وليس السبب عدم تنيير الله ما أنعم الخ ( لما كان منطوق الآية أنّ سبب ما حل
بهم عدم تغيير ما أنعم الله به على قوم حتى يغيروا وانتفاء تغيير الله حتى يغيروا لا يقتضي تحقق
تغييره إذا غيروا ، والعدم ليس سببا للوجود هنا وأيضا عدم التغيير صارف عما حل بهم لا مر جب له بحسب الظاهر أشار إلى أنّ السبب ليس منطوق الآية بل مفهومها ، وهو تغيير نعمة من غير ، وإنما آثر التعبير بذلك لأنّ الأصل عدم التغيير من الله لسبق إنعامه ورحمته لأنّ الأصل فيهم الفطرة ، وأما جعله عادة جارية فبيان لما استقرّ عليه الحال من ذلك لا أنّ كونه عادة له دخل في السببية فتدبر. قوله : ( وأصل يك الخ ) شبه النون بحروف العلة أنها من الزوائد وحروف العلة تحذف من آخر المجزوم فلذا حذفت هذه ، وهو مختص بهذا الفعل لكثرة استعماله. قوله : ( تكرير للتثيد ولما نيط به الخ ) أي لم علق بالثاني تعليقا معنو أي ذكر معه ، والحاصل أنّ الدأب المشبه والمشبه به هنا فأما الأوّل أو مغاير له فعلى الأوّل يكون تكريراً للتأكيد وليس تكريراً صرفا لما فيه من الزيادة ، والتغيير لأنه يدلّ على أنهم كفروا نعمه ، وهو مربيهم المنعم عليهم بجميع النعم كما يدل عليه لفظ الرب ، ولذا لم يقل كذبوا ولا بآياته وفيه بيان للأخذ بالإهلاك والإغراق وقيل لأنّ الآيات نعم فتكذيبها كفران بها وأيضاً الرب مفيض النعم فتكذيب آياته كفران لنعمه والأوّل أولى فتدبر. قوله : ( وقيل الآوّل لتشبيه الكفر والأخذ الخ ) فيتغاير التشبيهان ولا يكون تأكيداً ، قال في الفرائد هذا ليس بتكرير لأنّ معنى الأوّل حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر فأخذهم ، وآتاهم العذاب ومعنى الثاني حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم ، وتغيير الله حالهم بسبب ذلك التغيير ، وهو أنه أغرقهم بدليل ما قبله ، وقيل إن النظم يأباه لأنّ وجه التشبيه في الأوّل كفرهم المترتب عليه العقاب فينبغي أن يكون وجهه في الثاني قوله كذبوا الخ لأنه مثله إذ كل منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه صالحة لأن تكون وجه الشبه فتحمل عليه ، كقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ سورة آل عمران ، الآية : 59 ] وأما قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً } [ سورة الأنفال ، الآية : 53 ] الخ فكالتعليل لحلول النكال معترض بين التشبيهين غير مختص بقوم فجعله وجا للتشبيه بعيد عن الفصاحة ، وهذا وجه تمريضه فتأمّل. قوله : ( وكل من الفرق المكذبة الخ ) يعني المراد كل من كفر وكذب بآيات الله أو المراد به آل فرعون وكفار تريش لأنّ ما قبله في تشبيه دأب كفرة قريش بدأب آل فرعون صريحاً وتعييناً ، ويكفي مثله قرينة لذلك فلا يرد ما قيل إنه لا وجه للتخصيص مع أنّ السياق يقتضي شموله للمشبه والمشبه به ، أو للمشبه به ، وهم آل
فرعون ومن قبلهم فتأمّل ، وقوله أنفسهم إشارة إلى تقدير المفعول ، ولو عممه لكان له وجه. قوله : ( أصروا على الكفر الخ ( فسره به لأنّ مجرّد الكفر لا يخبر عن المتصف به بأنه لا يؤمن. قوله : ( ولعله إخبار عن قوم مطبوعين الخ ) تبع الزمخشري أوّلا في تفسير لا يؤمنون بلا يتوقع منهم الإيمان ، ثم ذكر وجها آخر ، وهو أن معنى لا يؤمنون أنهم مطبوعون على الكفر مصرون عليه ، ولا يظهر الفرق بينهما ، وقوله والفاء للعطف على الوجهين ، ووجه التنبيه المذكور جعله مترتباً ترتب المسبب على سببه ولو جعل من تتمة الثاني لترتب عدم الإيمان على الطبع لا على الإصرار لأنه عينه كان أوجه. قوله : ( بدل من الذين كفروا الخ ) جوّزوا في هذا الموصول الرفع على البدلية من الموصول قبله أو على النعت له فيخص الموصول الأوّل وحينئذ يصح أن يكون بدل كل أيضا ما قيل إنه لا وجه له غير صحيح أو عطف البيان والرفع على الابتداء ، والخبر والنصب على الذمّ ، ومعنى يمالؤوا يعاونوا(4/284)
ج4ص285
ويساعدوا وأصل معناه يصيرون من ملئهم وقومهم ، وقوله كعب بن الأشرف قيل المعاهد إنما هو كعب بن أسد سيد بني قريظة ، وهذا منقول عن البغوي وخطأ ما وقع هنا ، وحالفهم بالحاء المهملة أي عاهدهم على حربه ع!ب!. قوله : ) ومن لتضمن المعاهدة معنى الأخذ ) وفي نسخة لتضمين وهو التضمين المصطلح أي عاهدت آخذاً منهم والا فالمعاهد متعذية بنفسها ، وقيل المعنى إنه في ضمنه لاشتهار أخذ عليه عهداً فلكونه من لوازمه جعل متضمنا له ولا حاجة إليه ، وقال أبو حيان رحمه الله من تبعيضية وقيل زائدة على كون المراد بالمرّة مرة المعاهدة المراد التي بعدها ، وعلى كون المراد المحاربة يكون النقض واقعا فيها. قوله : ( سبة الغدو ) السبة بضم السين المهملة وباء موحد مشددة العار الذي يسب به ، والمغبة بالفتح العاقبة من الغب بالإعجام ، والغدر نقض العهد وضمير فيه لنقض العهد. قوله : ( فإما تصادفنهم وتظفرن بهم ) الثقف يفسر الإدراك والمصادفة وبالظفر والظفر إنما يكون بعد الملاقاة فأشار إلى أن المراد به الظفر المترتب على الملاقاة لأنه الذي يترتب عليه التشريد ، وفلا يقال حق التعبير أو الفاصلة لتغاير المعنيين كما في كتب اللغة ، وقوله عن مناصبتك بالصاد المهملة والباء الموحدة أي معاداتك ومحاربتك ، ومنه الناصبة ونكل بالتشديد
بمعنى أوقع النكال وبقتلهم تناعه فرق ، ونكل وقوله على اضطراب أي مع إزعاج. قوله : ( وقرىء شرذ بالذال المعجمة ) وهو بمعنى المهملة ، واختلف في هذه الماذة فقال ابن جني إنها مهملة لا توجد في كلام العرب فلذا قيل إنه إبدال لتقارب مخرجيهما ، وقيل : إنه قلب من شذر ومنه شذر مذر للمتفرق ، وذهب بعض أهل اللغة إلى أنها موجودة ومعناها التنكيل ومعنى المهمل التفريق كما قاله قطرب لكنها نادرة ، وقوله ومن خلفهم أي قرىء من خلفهم بكسر الميم ، وهي من الجارّة. قوله : ( والمعنى واحد ) أي في قراءتي الكسر والفتح ، وهو منزل منزلة اللازم كما أشار إليه بقوله فعل التشريد وجعل الوراء ظرفا فالتقارب معنى من وفي تقول اضرب زيدا من وراء عمرو ووراء عمرو بمعنى في ورائه ، وليس هذا من قبيل يجرح في عراقيبها إذ ليس الظرف مفعولاً به في الأصل إلا في مجرّد تنزيله منزلة اللازم والحاصل أنّ التشريد وراءهم كناية عن تشريدهم في الوراء فتوافق القراءتان وقوله لعل المشرّدين بصيغة المفعول وهم من صادفهم أو هم من خلفهم. قوله : ( معاهدين الخ ) المعاهدة تؤخذ من الخيانة والنبذ الطرج وهو مجاز عن إعلامهم بأن لا عهد بعد اليوم فشبه العهد بالشيء الذي يرمي لعدم الرغبة فيه ، وأثبت النبذ له تخييلا ومفعوله محذوف وهو عهدهم. قوله : ( على عدل وطريق قصد الخ ) على سواء إمّا حال من الفاعل أي أنبذها وأنت على طريق قصد أي مستقيم أي ثابتا على عهدك فلا تبغتهم بالقتال بل أعلمهم به ، وإمّا حال من الفاعل أو المفعول بالواسطة أو منهما معاً أي كائنين على استواء أي مساواة في العلم بذلك أو في العداوة ، وسواء صفة موصوت محذوف أي على طريق سواء والطريق مجاز عن الحال التي هم عليها ، وقوله ولا تناجزهم أي تعاجلهم في المحاربة بأن تحاربهم قبل أن تظهر إليهم نبذ العهد ، وقوله على الوجه الأوّل أي كونه بمعنى عدل ، وقوله أو منه أي النابذ ولزوم ذلك إذا لم تنقض مدة العهد أو يظهر نقضهم للعهد ، ولذلك غز النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل مكة من غير نبذ ولم يعلمهم لأنهم كانوا انقضوا العهد بمعاونتهم بني كنانة على قتل خزاعة حلفاء النبيّ كيرو كما ذكره الجصاص ( قلت ) وقوله تخافن صريح فيه أي والسواء ورد في كلامهم بمعنى العدل كقوله :
حتى يجيبوك إلى السواء
والمراد بالخوف خوف إيقاع الحرب ونقض العهد فلا وجه لما قيل إن الأولى تركه.
قوله : ) تعليل للأمر بالنبذ الخ ) ويحتمل أن يكون طعناً في الخائنين الذين عاهدهم الرسول لمجح وعلى طريقة الاستئناف متعلق بقوله تعليل. قوله : ( خطاب للنبئ صلى الله عليه وسلم ) أو لكل سامع والذين كفروا سبقوا مفعولاه على قراءة الخطاب وهي ظاهرة وأمّا القراءة با اسياء للغيبة فضعفها الزمخشرفي ، وقال : إنّ القراءة التي تفرد بها حمزة غير نيرة أي واضحة ، وقد ردوا عليه ذلك بوجهين الأوّل أنّ حمزة لم ينفرد بها بل ترأها حمزة وحفص وغيرهما ، واليه أشار المصشف رحمه الله(4/285)
ج4ص286
الثاني أنّ قوله إنها غير واضحة ليس كما زعم فإنها أنور من الشمس في وسط النهار لأنّ فاعل يحسبن ضمير أي لا يحسبن هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو الحاسب أو من خلفهم أو أحد لأنه معلوم من الكلام فلا يرد عليه أنه لم يسبق له ذكر ، وأمّا حذف الفاعل فلا يخطر بالبال كما توهم ، وعليه فمفعولاه الذين كفروا سبقوا ، وقيل الفعل مسند إلى الذين كفروا والمفعول الأوّل محذوف ، وسبقوا هو الثاني أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين وإلى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله أنفسهم أي مفعوله المقدر أو أنّ التقدير لا يحسبنهم لكنه ليس بتقدير مضاف لأنّ أفعال القلوب يجوز أن يتحد فيها الفاعل والمفعول وحذف أحد مفعوليها جوزه الزمخشريّ في غير موضع ولا يضرّ الإضمار قبل الذكر لتأخر رتبته ، وقيل تقديره أن سبقوا وأن وما بعدها ساد مسد المفعولين ، ويؤيده قراءة أنهم سبقوا ولا يخفى ما فيه ، وقيل سبقوا حال وأنهم لا يعجزون ساد مسد المفعولين في قراءة من قرأ بالفتح ، ولا على هذا مزيدة وقوله للتكرار أي لكونه عين الفاعل ، وقوله : الأنّ أن المصدرية الخ ) قد أجيب عن قول المصنف رحمه الله أن المصدرية الخ بأن أن قد يقال إنها ليست مصدرية بل مخففة ، ومراده بالمصدرية التي تنصب الفعل لأنها المتبادرة عند الإطلاق ، فلا يرد عليه أنه لا مانع من أن يريد المصنف بأن المصدرية المخففة لأنها مصدرية كما صرّج به النحاة نعم إطراد حذفها غير مسلم ، وقوله فلا تحذف أي حذفا مطرداً فإنه نادر أو شاذ في غير المواضع المعروفة كما في قوله تسمع بالمعيدي ونحوه ، وقول النحرير : الوجوه لا تخلو من تمحل لا ينبغي من مثله إلا أن يريد بيان ما في الكشاف. قوله : ( بالفتح على قراءة ابن عامر ) ردّ على الزمخشري حيث ذكره في توجيه قراءة حمزة وتفرده ، ومثله في تفسير الفراء والزجاج والتخصيص بالذكر لا يفيد الحصر ، ، قوله صلة أي زائدة لأنّ الزائد يسمى صلة في القرآن تأدّباً لأنه صلة لتزيين اللفظ ، وتقويته ويؤيده أنه قرىء بحذفها ، وقوله مفلتين أي هاربين. قوله : ( والأظهر أنه تعليل للنهي
الخ ) أي على هذه القراءة هو تعليل بتقدير اللام المطرد حذفها في مثله ، وأفلت وتفلت خلص ، وأعجز. الشيء فإنه ، وأعجزت الرجل وجدته عاجزا ، واليهما أشار المصنف رحمه الله تعالى وقوله : ( أو لا يجدون ) بأو ووقع في نسخة بالواو والصحيح هو الأوّل لأنهما معنيان متغايران ، وقوله : ( استئناف ) أي نحوي أو بيانيّ. قوله : ( ولعل الآية إزاحة لما يحذر به الخ ) أي الآية لإزالة ما يحذر به المؤمنون من أنّ في نبذ العهد إيقاظ الأعداء ، وتحريك الشر فمن بيانية أو صلة يحذر ، ونبذ مصدر ، وفل بفتح الفاء وتشديد اللام المنهزم يقع على الواحد وغيره ، وقوله لنا قضي العهد الذي يقتضيه السياق أو للكفار مطلقا كما يقتضيه ما بعده ، وقوله ما يتقوى به في الحرب أي فأطلق عليه القوّة مبالغة ، وإنما ذكر لأنه لم يكن لهم في بدر استعداد تامّ فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل مكان. قوله : ( وعن عقبة بن عامر رضي الله عته ) أخرجه مسلم أي الرمي بالنشاب والقسيّ فحص بالذكر لأنه أقوى ما يتقوى به كقوله الحج غرفة والمراد خصه الله به على تفسيره به أو خصه النبىّ - صلى الله عليه وسلم - بتسميته قوّة فلا يرد عليه أنه يخالف ما سيذكر في عطف الرباط على القوة مع أنّ الرباط منها لأن فضله على غيره في القوّة ، ويحتاج إلى الجواب بأنه أقوى بالنسبة لما عدا الرباط من آلات الحرب وكونه أفضل وأقوى بالنسبة إلى الكل. قوله : ( اسم للخيل التي تربط الخ ) قيل يلزم عليه إضافة الشيء لنفسه حينئذ ، وردّ بأن المراد أنّ الرباط بمعنى المربوط مطلقاً إلا أنه استعمل في الخيل ، وخص بها فالإضافة اعتبار عموم المفهوم الأصلي ، وقيل إنّ قوله اسم للخيل التي تربط تفسير لمجموع رباط الخيل لا للرباط وحده فلا يحتاج إلى توجيه وهذا بالآخرة يرجع إلى ما ذكره المجيب ، وليس غيره كما توهم ، وقيل الرباط مشترك بين معان آخر كانتظار الصلاة وغيره فإضافته لأحد معانيه للبيان كعين الشمس ، ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركاً وإذا كان من إضافة المطلق للمقيد فهو على معنى من التبعيضية وفيه ما مرّ وقوله : ( مصدر الخ ) يعني هو مصدر للثلاثي أو للمفاعل سمي به المفعول ، وخصه الزمخشرفي بالثاني لأنه المقيس فيه فعال. قوله : ( وعطفها على القوّة الخ ) أي على معناها الأصلي(4/286)
ج4ص287
وتفسيره الأوّل على تفسيره بالرمي وقيل إنه
جزم به ، والزمخشرفي جوزه لأنه ذكر للقوّة معاني ، ما يتقوى به والرمي والحصون ، وكونه كذلك على الأوّل فقط والمصنف رحمه الله لم يذكر الحصون وأوّل الرمي بكونه الأقوى فلذا جزم به ، وقيل المطابق للرمي أن يكون الرباط مصدرأ وعلى تفسير القوّة بالحصون يتم التناسب بينه وبين رباط الخيل لأنّ العرب سمت الخيل حصونا وهي الحصون التي لا تحاصر كما في قوله :
ولقد علمت على تجنبي الردى
أنّ الحصون الخيل لا مدر القرى
وحصني من الأحداث ظهر حصاني
ومنه أخذ المتنبي قوله :
أعز مكان في الدنيا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
قوله : ( تخوفون به الخ ) هذه الجملة حال من أعدوا وفيه إشارة إلى عدم تعين القتال لأنه
قد يكون لضرب الجزية ونحوه ، وقوله من غيرهم فسرها بغير لأنها ليست للظرفية الحقيقية. قوله : ( لا تعرفونهم بأعيانهم ) جعل العلم بمعنى المعرفة لتعديه لواحد ، وقد جوز أن يكون على أصله ومفعوله الثاني محذوف أي لا تعلمونهم محاربين لكم أو معادين وهو تكلف ، وقال بأعيانهم لأنّ المعرف تتعلق بالذوات ، وقوله يعرفهم أطلق العلم على الله ، وهو بمعنى المعرفة والمعرفة لا يجوز إطلاقها على الله على ما عليه الأكثر ولا حاجة إلى أن يقال إنه للمشاكلة لما قبله فلا يرد ما اعترض به عليه وان ذهب إليه في الدر المصون مع أنه وقع إطلاق العارف على الله في نهج البلاغة ، ووجهه ابن أبي الحديد في شرحه كما مرّ ، وقوله يوف إليكم أي يؤذي بتمامه والمؤذي جزاؤه لا هو فلذا ذكره المصنف رحمه الله إشارة إلى التقدير ، أو التجوّز في الإسناد وتضييع العمل إحباطه وعدم الثواب به يعني أنّ الظلم عبارة عما ذكره وان كان له ذلك فإنه يفعل ما يشاء فله تعذيب المطيع فضلاً عما ذكر فتدبر ، وقوله ومنه الجناح أي سمي به لأنه يتحرك ويميل ، والسلم له معان منها الاستسلام للطاعة. قوله : ( وتأنيث الضمير لحمل السلم
على نقيضها فيه ) المراد بالنقيض الضد وهو الحرب لأنها مؤنثة سماعية ، وقوله فيه أي في التأنيث. قوله : ( السلم تأخذ الخ ( لم أر من عزاه ، ومعناه أن السلم أمر مرضيّ ينبغي الاستكثار منه ، وأمّا المحاربة فتجتنب الإلداع فتدخل على مقدار الحاجة ، وشبهها بمشرب غير طيب يكتفي بقليله لدفع العطش ، وأنفاس جمع نفس بفتحتين وأصله من التنفس ، وهو إخراج الهواء من الجوف ، والمراد به مجازا المزة من الشرب كما في قول جرير :
تعلل وهي ساغته بفيها بأنفاس من الشبم القراج
وجرع بالراء والعين المهملتين جمع جرعة بتثليث أوله ، وهي حسوة من ماء وهو من المجاز كما يقال تجرع الغيظ كما ذكره في الأساس فمن ظنه جمع جزعة بكسر الجيم ، وضمها والزاي المعجمة وهي القليل من الماء وقال : إنه صحح في النسخ فقد أساء الرواية والدراية ، وقراءة فاجنح بضم النون على أنه من جنح يجنح كقعد يقعد ، وهي لغة قيس قراءة شاذة قرأها الأشهب العقيلي والفتح لغة تميم وهي الفصحى ، وقوله خداعا أي في السلم والصلح. قوله : ) والآية مخصوصة بأهل الكتاب الخ ( أهل الكتاب هم يهود بني قريظة ، وهم المعنيون بقوله الذين عاهدت إلى هنا إن كان قوله وأعدّوا لهم لنا قضي العهد كما مر أحد الوجهين فقوله لاتصالها مبنيّ عليه فان كان للكفار مطلقا تكون هذه الآية عامّة منسوخة بآية السيف لأنّ مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام ، أو السيف بخلاف غيرهم فإنه يقبل منهم الجزية فالقولان راجعان للتفسيرين على اللف والنشر المرتب وقيل إنه عليهما واتصال بقصتهم لأن ما بينهما اعتراض! في حكم المتأخر. قوله : ( محسبك وكافيك ) يعني أنه صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل ، وقال الزجاج : إنه اسم فعل بمعنى كفاك فالكاف في محل نصب ، وعلى الأوّل في محل جرّ وخطأه فيه أبو حيان لدخول العوامل عليه واعرابه في نحو بحسبك درهم ولا يكون اسم فعل هكذا ، ولم يثبت في موضع كونه اسم فعل. قوله : ( قال جرير الخ ( تبع فيه الكشاف وشراحه فإنهم قالوا إنه من قصيدة لجرير وأنشدوه هكذا :
إني وجدت من المكارم حسبكم أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا(4/287)
ج4ص288
واذا تذكرت المكارم صزة في مجلس أنتم به فتقنعوا
لكن المذكور في شرح شواهد الكتاب أن هذين البيتين لعبد الرحمن بن حسان ، وقيل لسعد بن عبد الرحمن بن حسان ورواه أني رأيت من المكارم الخ وجعل أن تلبسوا أحد مفعولي رأيت وحسبكم المفعول الثاني ، وكانت بنو أمية بن عمرو بن س!د بن العاصي لما زوّجوا أختهم من سليمان بن عبد الملك وحملوها إلى الشأم ، وهو معهم وعدوه بالقيام بأمره
فقصروا فقال : الشعر يهجوهم ، ومعنى الشعر أني نظرت في أحوالكم فوجدتكم اكتفيتم من المكارم باللبس واكل ولا همة لكم تدعوكم إلى الكرم ومعالي الأمور فإن وقع في مجلس المذاكرة في المكارم فغطوا رؤوسكم واستتروا لأنكم لستم من أهلها وليس فيكم رائحة من المكارم التي عدوها ، وحرّ بالحاء المهملة المضمومة والراء المهملة بمعنى أحسنها والحز من كل شيء ما يختار منه ، ويروى خز بخاء معجمة مفتوحة وزاي معجمة والخز الإبريسم ، وقيل إنه يطلق على الصوف أيضاً ، والمعروف الأوّل. توله : ( مع ما فيهم من العصبية الخ ) العصبية بمعنى التعصب والضغينة كالضغن الحقد ، وتوله حتى صاروا كنفس واحد متعلق بألف يعني أن العرب ناس لشدة أنفتهم وتعصبهم ولما ركز في طباعهم من الحقد قلما تصفو قلوبهم وتخلص مودّتهم فتأليفه لهم ، وجعلهم متصافين لا كدر بينهم من آياته مجقيرو كما في الكشاف ، وضعف القول بأنّ المراد بهم الأوس والخزرج لما كان بينهم في الجاهلية لأنه ليس في السياق قرينة عليه. قوله : ( لو أنفق منفق الخ ) يعني أن الخطاب لغير معين بل لكل واقع عليه لأنه لا مبالغة في انتفائه من منفق معين ، وذات البين العداوة وقوله والإصلاج أي إصلاج ذات البين ، وقوله المالك للقلوب إشارة إلى حديث قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. قوله : ( لا يعصى عليه ما يريده ) أي لا يتخلف شيء عن إرادته ولا يقع شيء بدون إرادته وهو استعارة تبعية أو تمثيلية. قوله : ( يعلم أنه كيف ينبغي أن يفعل ما يريده الخ ( أي يعلم ما يليق بتعلق الإرادة به فيوجده بمفتضى حكمته ، واحن بالمهملة بوزن عنب جمع أحنة ، وهي الحقد ، وقوله : ( وصاروا أنصارا ) أي طائفة واحدة متناصرين مسمين بذلك متبعين على قلب واحد في نصرة النبىّ - صلى الله عليه وسلم - ودينه. قوله : ( إما في محل النصب على المفعول معه اليئ ( وقال الفراء إنه يقدر نصبه على موضع الكاف أيضاً واختاره ابن عطية وردّه السفاقسي بأن إضافته حقيقية لا لفظية فلا محل له ، اللهم إلا أن يكون من عطف التوهم ، وكونه مفعولا معه ذكره الزجاح : فقول أبي حيان رحمه الله إنه مخالف لكلام سيبويه رحمه الله فإن جعل زيداً في قولهم
حسبك وزيداً درهم منصوباً بفعل مقدر أي ، وكفى زيداً درهم ، وهو من عطف الجمل عنده لا يضرنا وذكره الفراء في تفسيره. قوله : ( فحسبك والضحاك سيف مهند ) أوله :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا
وفي رواية واشتجر القنا وانشقاق العصا عبارة عن التفرّق والعداوة ، واشتجار القنا بمعنى اشتباك الرماج والمراد به التحام الحرب أي إذا كان الحرب والتحم القتال أو وقع الخلاف بينكم فحسبك مع الضحاك سيف هندي ، وقال ابن يسعون في شرح شواهد الإيضاح. إن الضحاك يروي بالنصب والرفع والجرّ ، فالرفع على أنه مبتدأ خبره سيف ، وخبر حسبك محذوف لدلالة الكلام عليه أو لا خبر له لأنه في معنى الأمر اي فلتكتف والضحاك سيفك الأوثق ، والنصب على أنه مفعول ، وحسبك متبدأ وسيف خبره أي كافيك سيف مع صحبة الضحاك أي حضوره ، وحضور هذا السف مغن عما سواه ، والجرّ على أن الواو واو القسم أو بالعطف على الكاف والمعنى ليس عليه ، والهيجاء الحرب. قوله : ( أو الجر عطفاً على المكني الخ ) أي محلة الجرّ بالعطف على المكني أي الضمير لأنه مكني به وتسميه النحاة كناية والعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ منعه البصريون ، وأجازه الكوفيون وحجة المانعين أنه كجزء الكلمة فلا يعطف عليه. قوله : ( أو الرفع الخ ) عطفا على فاعل الصفة ، وضعف في الهدى النبوي رفعه عطفا على اسم الله ، وقال : إنما هو عطف على الكاف فإنّ المعنى عليه ، ولا وجه له فإن الفراء والكسائي رجحاه وما قبله وما بعده يؤيده ، وقوله : ( كفاك الخ ) بيان لحاصل المعنى لا أنه بمعنى(4/288)
ج4ص289
الفعل حتى يكون اسم فعل كما قيل ، وقوله نزلت بالبيداء أي في الصحراء في سفره عحلى والقرآن منه سفرقي وحضرفي ، وهل هو مكي أو مدنيّ أو واسطة الكلام فيه مشهور ، وعلى القول بأنها نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه تكون هذه الآية وحدها مكية فإنه قد يكون في السور المدنية آيات مكية ويكون في قوله في أوّل السورة مدنية تغليبا فإن كان المراد بمن اتبعك هو فمن تبعيضية ، وعلى غيره هي بيانية ، وقد جوّز فيه أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أي كذلك أو خبر مبتدأ محذوف.
قوله : ( بالغ في حثهم عليه الخ ) حرض بمعنى حض وحث فهو بمعنى الحث لا المبالغة
فيه والمبالغة ذكرها الزجاج إذ قال تأويل التحريض في اللغة أن يحث الإنسان على شيء حتى يعلم منه أنه حارض أي مقارب للهلاك ، وفي الدرّ المصون أنه مستبعد منه ، وقد تبعه
الزمخشري والمصنف رحمه اللّه ، وقال الراغب الحرض يقال لما أشرف على الهلاك والتحريض الحث على الشيء بكثرة التزيين ، وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض نحو قذيته أزلت عنه القذى ، وأحرضته أفسدته نحو أقذيته إذا جعلت فيه القذى ، ومنه تعلم وجه المبالغة فيه ونهكه المرض بمعنى أضعفه وأضناه ، ويشفي مضارع أشفى على كذا إذا أشرف عليه وقاربه ، وقرئ حزص من الحرص المهملى وهو ظاهر. قوله تعالى : إلى { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ } [ 4 / 290 { صابِرُونَ } الخ في البحر انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيداً في الجملة الأولى ، وهو صابرون وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت قيداً في الثانية ، وهو من الذين كفروا وحذفه من الأولى ، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف ، وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ، ثم ختم بقوله : { وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } مبالغة في شدة المطلوبية ، ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر اكتفاء بما قبله ( قلت ) هذا نوع من البديع يسمى الاحتباك ، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف بإذن الله وهو قيد لهما ، وقوله والله مع الصابرين إشارة إلى تأييدهم وأنهم منصورون حتما لأنّ من كان الله معه لا يغلب ، وبقي فيها لطائف فلله درّ التنزيل ما أحلى ماء فصاحته ، وأنضر رونق بلاغته. قوله : ( شرط في معنى الأمر الخ ( أي هذه الجملة الخبرية لفظا إنشائية معنى لأن المراد ليصبرنّ الواحد لعشرة ، ولذا وقع النسخ فيه لأن النسخ في الخبر فيه كلام في الأصول ، وخالف الزمخشرقي إذ جعلها خبراً ووعدا لهم ، فالظاهر أن يقول المصنف رحمه الله أو الوعد فإنه على الخبر كما صرّج به الشارح ، وقال الإمام : الدليل على كونه بمعنى الأمر أنه لو كان خبر الزم أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ، وليس كذلك بدليل قوله : والله مع الصابرين ، فإنه ترغيب على الثبات في الجهاد ، وقيل عليه إنّ التعليق الشرطي يكفي فيه ترتيب الجزاء على الشرط في بعض الزمان لا في كله ، ولولا ذلك لزم تحلف وعده بذلك لانتفاء الكلية ، وقوله : { وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } لا يقتضي الإنشائية.
( وفيه بحث الأن تعليق الغلبة على الصبر وجعله سببا لها يقتضي وجودها كلما وجد ، والترغيب في الشيء يقتضي أنه قد يتخلف عنه ولذا ركب فيه وهذا أمر خطابي يكتفي فيه بمثله ، ثم أن العلامة قال في الآية إشارة إلى علة غلبة المؤمنين عشرة أمثالهم من الكفار ، وهي أمران أحدهما جهلهم بالمعاد حتى يقاتلون من غير احتساب كالبهائم بخلاف المؤمنين فإنهم يؤمنون بالمعاد فيقدمون على الجهاد على بصيرة طلبا للثواب ، ويقاتلون بعزم صحيح وقلب قويّ ، فلذا كفي القليل منهم الكثير ، والثاني جهلهم بالمبدأ فيعولون على شوكتهم وقوّتهم ، والمؤمنون يستعينون بالله فيستوجبون نصرته فيغلبونهم لا محالة ، فأشار إلى الأوّل بقوله يقاتلون على غير احتساب ، والى الثاني بقوله ويعزمون باللّه اهـ. وقد أشار المصنف رحمه الله إلى
جهلهم بالمبدأ بقوله جهلة بالله ، وبالمعاد بقوله وباليوم الآخر فلا وجه لما قيل أنّ المصنف رحمه الله اكتفى بذكر المعاد لاستلزامه للمبدأ ، وترك قوله في الكشاف كالبهائم وهو في غاية الحسن فإنّ الجزار لا يضره كثرة الغنم ، وقوله بعون الله وتأييده هو معنى قوله بإذن الله إشارة إلى أنّ الأوّل مقيد به أيضا كما مرّ ، وقوله تكن بالتاء في الآيتين اعتبار التأنيث اللفظي والبصريان أبو عمرو ويعقوب قرآ فإن تكن في الآية الثانية بالتأنيث لقوّته بالوصف المؤنث بقوله صابرة ، وإما أن يكن منكم عشرون فبالتذكير عند الجميع إلا في قراءة شاذة عن الأعرج ، فقول المصنف رحمه الله وان تكن سهو في التلاوة لأنّ أبا عمرو قرأها في قوله : { وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ } بالفاء. قوله : ( بسبب إنهم جهلة باللّه الخ ( فقه بمعنى فهم وعلم ، والمعنى أنهم لا يعتقدون أمور الآخرة فإنّ من اعتقدها وعلم أنه على الحق هان عليه الموت ، كما قال عليّ كرم الله وجهه لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليّ ، وقوله : ( رجاء الثواب ) مفعول له علة لثبات المؤمنين ، وقوله قتلوا أو قتلوا أي إن قتلوا رجوا ثواب الغزو ، وان قتلوا رجوا منازل الشهداء وثوابهم ، ولأنّ من أنكر الآخرة ولم يعلم إلا هذه الدار شح بنفسه غاية الشح فجبن ، ومن علم انتقاله إلى أعلى منها هانت عليه نفسه وأحب لقاء الله ، وقوله : ( ولا يستحقون ) عطف على لا يثبتون أي لجهلهم بالله لا يثبتون ، ولا يستحقون إلا الخذلان وعدم النصرة والظفر. قوله : ( لما أوجب على الواحد مقاومة العشرة الخ ) الجمهور على انّ هذه الآية ناسخة للتي قبلها ، وذهب مكيّ إلى أنها مخففة لا ناسخة كتخفيف الفطر للمسافر ، وثمرة الخلاف أنه لو قاتل واحد عشرة فقتل هل يأثم أو لا ، فعلى الأوّل يأثم ، وعلى الثاني لا يأثم ، وكلام المصنف رحمه الله محتمل لهما ، وعلى النسخ نزول هذه الآية متراخ عن نزول الأولى ، قال النحرير : تقييد التخفيف بقوله الآن ظاهر ، وأما تقييد علم الله ففيه خفاء ، وتوضيحه أنّ علم الله متعلق بقوله الآن ، أما قبل وقوعه فبأنه سيقع ، وحال الوقوع بأنه يقع ، وبعد الوقوع بأنه وقع ، وقال الطيبي رحمه الله : معناه الآن خفف الله عنكم لما ظهر متعلق علمه تعالى أي كثرتكم الموجبة لضعفكم بعد ظهور قلتكم وقوّتكم. قوله : ( وقيل كان فيهم قلة فأمروا بذلك ثم لما كثروا خفف عنهم ) تغاير الوجهين بتغاير سبب التخفيف فإن قلت كيف يستقيم هذا مع قوله : { الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } فإنّ التحويل من القلة إلى الكثرة يزيد القوّة لا الضعف ، قلت لما كان موجب القوّة اعتمادهم على الله وتوكلهم عليه لا على الكثرة كما في بدر أوجب أن يقاوم واحد منهم عشرة ، ولذا علل مقابله بقوله بأنهم لا يفقهون كما عرفت ، ثم لما كثروا
اعتمدوا على كثرتهم بعض اعتماد كما في حنين فخفف الله عنهم بعض ذلك ، وقال الإمام الكفار إنما يعوّلون على قوّتهم وشوكتهم ، والمسلمون يستعينون بالدعاء والتضرّع ، فلذا حق لهم النصر والظفر ، وعن النصر أباذي أنّ هذا التخفيف كان للأمّة دون الرسول عشب! ، وهو الذي يقول بك أصول وبك أجول ، ومن كان كذا لا يثقل عليه شيء حتى يخفف. قوله : ( وتكرير المعنى الواحد الخ ) أي وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأوّل ، وثبات الواحد للاثنين في الثاني ، فكفاية عشرين لمائتين تغني عن كفاية مائة لألف ، وكفاية مائة لمائتين تغني عن كفاية ألف لألفين ، ووجهه بأنه للدلالة على عدم تفاوت القلة والكثرة فإن العشرين قد لا تغلب المائتين ، وتغلب المائة الألف وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم أكثر على الترتيب الطبيعي ، فلا يرد عليه أنه لو عكس الترتيب في الآية لما كان لما ذكر وجه كما قيل. قوله : ( بذكر الأعداد المتناسبة ) الأعداد المتناسبة عند الحساب والمهندسين هي التي يكون الأوّل منها للثاني ، والثالث للرابع أضعافاً متساوية أو جزءاً أو أجزاء بعينها وهو المراد هنا. قوله : ( والضعف ضعف البدن الخ ) يعني الضعف الطارئ عليهم بالكثرة الموجب للتخفيف عدم القوّة البدنية على الحرب لأنّ منهم الشيخ والعاجز ونحوه ، فلو أوجب ذلك عليهم جميعا لم يتيسر لهم بخلافهم قبل ذلك ، ف!نهم كانوا طائفة منحصرة معلومة قوّتهم وجلادتهم ، أو المراد ضعف البصيرة والاستقامة وتفويض النصرة إلى الله فإن فيهم قوما حديث عهدهم بالإسلام ليسوا كذلك ، وهذا مبني على أن الضعف بالفتح والضم بمعنى واحد فيكونان في الرأي والبدن ، وقيل بينهما فرق فبالفتح في الرأي والعقل ، وبالضم في البدن ، وهو منقول عن الخليل بن أحمد رحمه الله وقد قرئ بهما وهو يؤيد كونهما بمعنى ، وقرئ ضعفاء بصيغة الجمع ، وقوله : بالنصر والمعونة يعني المراد بصحبته صحبة نصره وتأييده وإلا فهو معكم أينما كنتم. قوله : ( ما كان لنبئ الخ ) التنكير قراءة الجمهور والتعريف قراءة أبي الدرداء رضي الله عنه ، وأبي حيوة والمراد على كل حال نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإنما نكر تلطفاً به صلى الله عليه وسلم حتى لا يواجه بالعتاب ، ولذا قيل إنه على تقدير مضاف أي أصحاب النبيّءتج!ه(4/289)
ج4ص291
صفحة ناقصة(4/290)
ج4ص291
بدليل قوله تعالى : { تُرِيدُونَ } ولو قصد بخصوصه لقيل تريد ، ولأنّ الأمور الواقعة في القصة كما سيأتي صدرت منهم لا منه صلى الله عليه وسلم ، وكلام المصنف رحمه الله صريح في أنه المراد لأنه سيذكر الاستدلال بها على اجتهاد النبيّ لمجر وهو يقتضي ذلك ، وتأنيث تكون لتأنيث الجمع ، وقرئ أسارى تشبيها لفعيل بفعلان ككسلان وكسالى ، أو
هو جمع أسرى فيكون جمع الجمع. قوله : ( بكثر القتل ويبالغ فيه الخ ( أصل معنى الثخانة الغلط والكثافة في الأجسام ، ثم استعير للمبالغة في القتل والجراحة لأنها لمنعها من الحركة صيرته كالثخين الذي لا يسيل ، والحطام بالضم ما تكسر من يبسه كالهشيم من الحطم وهو الكسر ، وهو يستعمل للمحقرات والعرض! ما لا ثبات له ولو جسما ، ويقال الدنيا عرض حاضر أي لا ثبات لها ومنه استعار المتكلمون العرض المقابل للجوهر ، ويطلق على مقابل النقد من المتاع وليس بمراد هنا ، وقوله : في الأرض للتعميم. قوله تعالى : { وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } المراد بالإرادة هنا الرضا وعبر به للمشاكلة فلا يرد أنّ الآية تدل على عدم وقوع مراد الله تعالى ، وهو خلاف مذهب أهل السنة. قوله : ) يريد لكم ثواب الآخرة الخ ( زاد لفظ لكم لأنه المراد وجعله مما حذف فيه المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه ، وسبب نيل الآخرة التقوى والطاعة ، وذكر نيل لتوضيحه لا لتقدير مضافين. قوله : ) وقرئ بجر الآخرة ) قرأها سليمان بن جماز المدني ، وخرجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جره ، وقدروه عرض! الآخرة فقيل إنه لا يحسن لأنّ أمور الآخرة دائمة مستمرة ، فلا يطلق عليها العرض ، فإن جعل مجازاً عن مطلق ما فيها فتكلف ، ودفعه الزمخشرقي بأنه قدر كذلك لمشاكلة عرض الدنيا ، والمراد ما قدره بعضهم من أعمال أو ثواب وهو أحد التأويلين في البيت وقيل- : إنه من العطف على معمولي عاملين مختلفين. قوله :
) قوله أكل مرئ تحسبين امرأ وشار توقد بالليل نارا )
اختلف في قائله فقيل هو أبو داود وقيل حارثة ابن حمران الأيادي من أبيات منها :
ودار يقول لها الرائدون ويلمّ دار الحذاقيئ دارا
يصف أيام تغذيه بالنعم ئم مصيره إلى حال أنكرت عليه امرأته فأنباً ها بجهلها بمكانه ، وأنه لا
ينبغي أن تغتر بأمر من غير امتحانه ، لكن قال : اين يعيش سيبويه رحمه الله يحمل قوله ونار على حذف مضاف تقديره وكل نارأ لا أنه حذف وقدر موجودا ، وأبو الحسن يحمله على العطف على معمول عاملين فيخفض ناراً بالعطف على امرئ المخفوض بإضافة كل ، وينصب ناراً بالعطف على امرأ المنصوب ، وهذا من أوكد شواهده ، وروي وناراً الأول بالنصب فلا شاهد فيه ، وفي كامل المبرد نسبة هذا البيت إلى عدقي بن زيد ، وتحسبين خطاب لامرأته لا لنفسه كما قيل ، وأصل توقد تتوقد. قوله : ) يغلب أولياءه الخ ( من التغليب أو الغلبة لأن القوقي العزيز يكون كذلك من اتبعه فجعله كناية عن هذا المعنى بقرينة المقام ، وقوله : ويخصه بها أي ما يليق بالحال اللائقة له.
فإنّ للزند حليا ليس للعنق
وقوله : ( وخير بيته وبين المن ( حيث قال ة { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } [ سورة محمد ،
الآية : 4 ] وقوله : ( فاستشار فيهم ) أي شاور أصحابه ، وفيه دليل على جواز الاجتهاد بحضرته عحييه ، وقول أبي بكر رضي الله عنه قومك وأهلك بالنصب على الاشتغال ، أو بتقدير ارحم ، وقول عمر رضي الله عنه أئمة الكفر أي رؤساء الكفر ، وقوله : ( مكني ( أي خلج بيني وبينه ، ويقال مكنته من الشيء وأمكنته منه إذا أقدرته عليه فتمكن واستمكن ، والمراد الإذن والرخصة ، وقوله : ( لنسيب ) أي قريب النسب منه ، وقوله : ( فلم يهو ذلك ) أي لم يرضه ويحبه ، وقوله : ( ألين من اللين ( تمثيل لطيف وفيه إشارة إلى أنه لين خير ورحمة لألين ضعف ، وفي قوله : ( أشدّ ( دون أقسى لطف لا يخفى ، وقوله : ( قال الخ ( بيان لوجه الشبه على حذ ، وقوله : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ سورة آل عمران ، الآية : 59 ] وفي قوله : { لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [ سورة نوح ، الآية : 26 ] دقيقة وهي الإشارة إلى ما وقع في خلافته من تطهير أرض الحجاز من الكفرة ، وقوله : ( أدنى من هذه الشجرة ) أي أقرب منها يراه ويشاهده ، قيل والمراد به ما وقع بأحد واستشهد منهم سبعون ، كما وقع في الحديث : " إن شئتم فأديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم " ) 1 ( كما في
الكشاف(4/291)
ج4ص292
وهذا الحديث أخرجه ) 1 ( أحمد وابن جرير وابن مردوية عن ابن مسعود رضي الله عنه ومسلم عن ابن عباس ) 2 ( رضي الله عنهما بنحوه. قوله : ) والآية دليل الخ ) قيل إنما تدل عليه لو لم يقدر في ما كان لنبيّ لأصحاب نبيّ ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر مع أن الإذن لهم فيما اجتهدوا فيه اجتهاد منه ، إذ لا يمكن أن يكون تقليداً ، لأنه لا يجوز له التقليد ، وأما إنها إنما تدل على اجتهاد النبيئ-لمج! لا اجتهاد غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قيل ، فليس بوارد لأنه إذا جاز له فلغيره بالطريق الأولى ، ووجه كونه خطأ وأنه لم يقرّ عليه ظاهر من هذه القصة. قوله : ( لولا حكم من الله سبق الخ ) يعني المراد بالكتاب الحكم ، وأنّ إطلاقه عليه لأنه مكتوب في اللوح ، وذلك الحكم هو ما ذكره ، وقيل : المراد لولا حكم الله بغلبتكم ونصركم لمسكم عذاب عظيم من أعدائكم بغلبتهم لكم وتسليطهم عليكم يقتلون ويأسرون وينهبون ، وفيه نظر. قوله : ( أو أن لا يعذب أهل بدر الخ ( استشكل هذا الإمام بأنه يقتضي عدم كونهم ممنوعين عن الكفر والمعاصي ، وعدم كونهم مهددين بترتب العقاب عليه ، وهل هذا إلا قول بسقوط التكليف عنهم ولا يتفوّه به عاقل اص. وهذا غريب منه فإنّ هذا بعينه في حديث البخاري لا إنّ الله اطلع على أهل بدر فقال : يا أهل بدر اصنعوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ) 3 ( وأما ما ذكره من سقوط التكليف فلا يصدر إلا عمن سقط عنه التيهليف ، لأن معناه - 9402 من طرق عن عبيدة السلماني مرسلاَ ، وهو أصح من الموصول ، لمجيئه من طرق.
وله علة أخرى فهناك اضطراب في المتن في ألفاظه فتارة يذكر فيه جبريل ، وتارة لا يذكر.
وقد قال العلامة التوربشتي كما فيإ شرح المشكاة " 4 / 251 هذا الحديث مشكل جدأ لمخالفة ما يدل
على ظاهر التنزيل ، ولما صح من الأحاديث أن أخذ الفداء يوم بدر كان رأياً رأوه فعوتبوأ عليه ، ولو
كان هناك تخيير بوحي سماوي لم تتوجه المعاتبة عليه في هذه الآية اهـ باختصار. وانظر مزيد الكلام
على ذلك في تفسير ابن كثير بتجريجي عند هذه الآية.
ا! من حضرها من المؤمنين يغفر الله له ذنبه ويوفقه لطاعته ، لأنها أوّل وقعة أعر الله بها الإسلام ، وفاتحة للفتوج ، والنصر من الله عليه بأن غفر له ما يصدر عنه من المعاصي لو صدرت ، وملأ صدره إيمانا ووهبه ثباته إلى الموافاة ، فكيف يتوهم ما ذكره ، وأغرب منه ما قيل في دفعه إن هذا معنى الآية مع احتمال المعاني الأخر التي ذكروها فهو غير مقطوع به ، ونظيره احتمال المغفرة بدون التوبة فكما أنّ احتمال هذه لا يوجب كونهم غير ممنوعين عن المعاصي ، ولا عدم تهديدهم بالوعيد عليها كذلك احتمال هذا ، وليت شعري لو كان فيما ارتكبه معنى يساوي عناءه. قوله : ( أو أنّ الفدية التي أخذوها ستحل ( أي تصير حلالاً لهم ، وفي نسخة سيحل لهم ما استحقوا به العذاب ، وما استحقوا به العذاب أخذ بالفدية قبل أن يحل لهم ثم عفى لأنه سيحل عن قريب ولم ينهوا عنه قبل ذلك ، وإن كانت الفدية تعذ من الغنائم وهي لم قحل لأحد قبل ، وإنما كانت توضع في مكان فما قبل منها نزلت نار من السماء أحرفته ، وقوله لنا لكم أي وقع بكم. قوله : ( روي الخ ( أخرجه ابن جرير عن محمد بن إسحق بلفظ : " لو أنزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بق معاد لقوله : كان الإثخان في القتل أحبّ إيي " ) 1 ( وأخرجه ابن مردوية عن ابن عمر لكن لم يذكر فيه سعد بن معاذ ، وهذا يدذ على أن المراد بالعذاب عذاب في الدنيا غير القتل مما لم يعهد ، لقوله : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء } وأما أنهم يستشهد منهم بعدتهم فالشهادة لا تسمى عذإبأ. قوله : ( وقيل امسكوا عن الغنائم فنزلت ( أي امتنعوا من الأكل والصرف منها تزهداً لا ظنأ لحرمتها ، حتى يقال إنه علم حلها مما مرّ في قوله : { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم } أسورة الأنفال ، الآية : 41 ] الخ ولذا قيل إنه لتأكيد حلها واندراج مال الفداء في عمومها ، فما غنمتم هنا إما الفدية لأنها غنيمة أو مطلق الغنائم ، والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية ، وجعل الفاء عاطفة على سبب مقدر قد يستغنى عنه بعطفه على ما قبله لأنه بمعناه ، أي لا أؤاخذكم بما أخذ من الفداء فكلوه هنيئأ مريا. قوله : ) وبنحوه تشبث الخ ( أي تمسك والتعبير بالتشبث الذي هو بمعنى التعلق يشعر بضعفه لأن الإباحة ثبتت هنا بقرينة أن الأكل إنما أمر به لمنفعتهم ، فلا ينبغي أن يثبت على وجه تتقلب المنفعة مضرة ، أي يجب عليهم فيشق. قوله :
( حال من المغنوم ( أي هو حال من ما الموصولة أو من عائدها المحذوف ، ولذا قال من المغنوم ليشملهما ، ومن قال إنه حال من العائد المحذوف فقد ضيق ما اتسع إذ لا مانع منهما ، وقوله : ) وفائدته ( أي فائدة التقييد بقوله حلالاً ، وقوله : ) أو حرمتها ) عطف على تلك المعاتبة ، والأوّلين جمع أوّل والمراد بهم من قبلنا من الأمم هانما كان سبباً لإمساكهم لاحتمال انها حرمت ثانيا ، أو أنها مكروهة لهم ، فلا يقال بعدط- أحلت صريحا كيف يتوهم شيء آخر حتى يزاج. !!
تنبيه : قوله عز وجل : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ } اختلف فيه على أقوال : أحدها أنه لا يعذب قوما قبل تقديم ما يبين لهم(4/292)
ج4ص293
أمرأ أو نهيا ، الثاني أنه عهد أن لا يعذبهم ومحمد لمج! فيهم ، الثالث أنه سبق في علمه تعالى حل الغنائم لهم ، لكنهم استعجلوا قبل بيانه ، فإن قلت هذه أؤل غزاة لرسول الله كج ، فكيف يقال إنّ الغنائم أحلت لهم ، وما في علم الله قبل البيان لا دليل فيه ، قلت قال : في كتاب الأحكام أؤل غنيمة في الإسلام حين أرسل رسول الله !لى عبد الفه ابن جحش رضي الله تعالى عنه لبدر الأولى ومعه ثمانية رهط من المهاجرين رضي الله عنهم ، فأخذوا عيراً لقريش وقدموا بها على النبيئ ك!رو ، فاقتسموها واً قزهم على ذلك. قوله : ) أنها نزلت في العباس رضي الله عنه الخ ( ) 1 ( أخرجه الحاكم عن عائشة رضي الله تعالى عنها وصححه وقيل إنها نزلت في جملة الأسارى ، وهو أقرب لكونه بصيغة الجمع ، وإن قيل سبب نزول الآية العباس رضي الله عنه لكنه عام ، فلذا جمع لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ،
وقوله : ( تركتني ) أي صيرتني فقيراً أتكفف أي أسأل الناس وأمذ كفي إليهم ، وكان فداء كل أسير عشرين وقية من الذهب كما فصل في الكشاف ، وقوله : ( ما بقيت ( أي إلى آخر عمري ، وأمّ الفضل زوجته كنيت بابن لها ، وقوله : ( في وجهي ( أي في توجهي هذا ، وعبد الله ومن بعده أولاده ، وسواد الليل ظلمته الشديدة المانعة من الرؤية ، وقول العباس رضي الله عنه : فأبدلني الله خيراً من ذلك إشارة إلى ما في قلبه من الخير وأنّ الله حقق ما وعد ، وقوله. اليضرب ) أي يتجر من ضرب في الأرض. قوله : ( نقض ما عاهدوك الخ ) هو إعطاء الفدية أو أن لا يعودوا لمحاربته ع!فه ولا إلى معاضدة المشركين وجعل الزمخشري المعهود هنا هو الإسلام ونقضه الكفر لأنها قسيم لما قبلها ، والخير فيها بمعنى الإيمان كما مرّ ، فالخيانة الكفر والارتداد بقرينة التقابل ، وقوله : ( المأخوذ بالعقل ( الميثاق المأخوذ بالعقل هو ما سبق في قوله : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } [ سورة الأعراف ، الآية : 172 ] على أحد الوجهين فيها ، وفي نسخة بالعقد بالدال بدل اللام ، والأولى أصح وان كان تأويل الثانية ما ذكر. قوله : ( فأمكنك منهم ( أي أقدرك عليهم ، وأشار إلى أنّ مفعوله محذوف تقديره ما ذكر ولا التفات فيه ، وقوله : ( فإن أعادوا ( الخ بيان لحاصل المعنى ، واشارة إلى أن قوله فقد خانوا لازم للجزاء ، وأقيم مقامه والجواب فيسمكنك منهم في الحقيقة. قوله : ( أوطانهم الخ ( وهم المهاجرون الأوّلون ومن يعدهم هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله لله ، وفيها مع ذلك بذل المال والضياع والدور والكراع بالضم ، الخيل والمحاويج جمع محووج بمعنى محتاج ومفرده مقدر. قوله : ( في الميراث الخ ( قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : آخى الرسول عشي! بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فكان المهاجريّ يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجرقي ، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجرفي ، واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ، ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة ، والولي القريب والناصر ، لأن أصله في القرب المكاني ، ثم جعل للمعنوي كالنسب والدين والنصرة ، فقد جعل صلى الله عليه وسلم في أوّل الإسلام التناصر الديني أخوّة ، وأثبت لها أحكام الأخوّة الحقيقية من التوارث ، فلا وجه لما قيل إنّ هذا التفسير لا تساعده اللغة ، فالولاية على هذا الوراثة المسببة عن القرابة الحكمية. قوله : ( أو بالنصرة والمظاهرة ) عطف
على قوله في الميراث أي الولاية في الميراث كما مرّ ، فتكون منسوخة أو الولاية بالنصرة ، والمظاهرة أي المعاونة فتكون محكمة. قوله : ( اي من توليتهم في الميراث ( لم يجز هنا حمله على النصرة والمظاهرة لأنها لازمة لكل حال لكلا الفريقين ، كما قال الله تعالى : { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [ سورة الأنفال ، الآية : 72 ] وبهذا ظهر أنّ التفسير في الآية السابقة هو هذا ، ولذا قدمه المصنف رحمه الله تعالى. قوله : ( وقرأ حمزة ولا يتهم بالكسر الخ ( جاء في اللغة الولاية مصدراً بالفتح والكسر فقيل هما لغتان فيه بمعنى واحد ، وهو القرب الحسي والمعنوي ، وقيل بينهما فرق فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه ، والكسر ولاية السلطان قاله أبو عبيدة ، وقيل : الفتح من النصرة والنسب ، والكسر من الإمارة قاله الزجاج ، وخطأ الأصمعي قراءة الكسر وهو المخطئ لتواترها ، واختلفوا في ترجيح إحدى القراءتين ، ولما قال المحققون من أهل اللغة إنّ فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ويجعل فيه كاللفافة والعمامة ، وفي المصادر يكون(4/293)
ج4ص294
في الصناعات ، وما يزاول بالأعمال كالكتابة والخياطة ذهب الزجاج وتبعه غيره إلى أنّ الولاية لاحتياجها إلى تمرد وتدوب شبهت بالصناعة ، فلذا جاء فيها الكسر كالإمارة ، وهذا يحتمل أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك فتكون حقيقة ، ويحتمل كما في بعض شروح الكشاف أن تكون استعارة ، كما سموا الطب صناعة لكنها وان كان التصرف فيها في الهيئة لا في المادة استعارة أصلية لوقوعها في المصدر دون المشتق ، ومنه يعلم أن الاستعارة الأصلية قسمان ما يكون التجوّز في مادته وما يكون في هيئته ، وقوله : كأنه بتوليه الخ ، أي كأنّ صاحبه يزاول عملاً بتوليه أي يحاوله ويعالجه ، وضمير كأنه للولي أو للشأن. قوله : ( فواجب عليكم الخ ) فسره به لأنّ على تدل عليه وهو مبتدأ أو خبر ، وقوله وهو بمفهومه الخ لدلالة تعليق الحكم بالوصف ، على أن موالاة بعض الكفار إنما تليق بالكفار ، فعلى المؤمنين أن لا يوالوا إلا المؤمنين. قوله : ( ألا تفعلوا ما أمرتم به الخ ( وقيل : الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو النصر أو الإرث ، وعوده على جميعها أولى كما ذكره المصنف رحمه الله ، وقيل إنه للاستنصار المفهوم من الفعل ، وهو تكلف وتكن تامّة فاعلة فتنة ، والفتنة إهمال المؤمنين المستنصرين بنا حتى يسلط عليهم الكفار وفيه وهن للدين ،
وقراءة كثير بالمثلثة مروية عن الكسائي. قوله : ( لما قسم المؤمنين الخ ) أي إلى من آمن وهاجر ، ومن لم يهاجر وأنصار ، والذين حققوا الخ هم المهاجرون ، والذين وقع منهم بذل المال ونصرة الحق هم الأنصار ، وقوله ووعد لهم عطف على بين ، وضمنه معنى ذكر فلذا عداه باللام. قوله : ( لا تبعة له الخ ) بيان لكرمه بأنه لا يطالب فيه ولا يمن ، والإلحاق يشعر بأنهم دونهم رتبة ، وهو كذلك ، واختلف في قوله : ( من بعد ) فقيل بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية ، وقيل بعد نزول هذه الآية ، وقيل بعد بدر ، والأصح أنّ المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى ، وقوله : ( من الأجانب ( متعلق بقوله بأولى ، وهي من التفضيلية. قوله : ( في حكمه أو في اللوح الخ ) لأنّ كتاب الله يطلق على كل منها ، وليس المراد بالقرآن آية المواريث ، لأنه لا يناسب ما بعده ، بل المراد هذه الاية وفيه تأمل. قوله : ( واستدل به على توريث ذوي الأرحام ) لأنّ هذه الآية نسخ بها التوارث بالهجرة ، ولم يفرق بين العصبات وغيرهم ، فهو حجة في إثبات ميراث ذوي الأرحام الذين لا قسمة لهم ولا تعصيب ، وبها أيضا احتج ابن مسعود رضي الله عنه على أنّ ذوي الأرحام أولى من مولى العتاقة ، وخالفه سائر الصحابة رضوان الله عليهم ، وإنما يصح الاستدلال إذا لم يكن المراد بكتاب الله تعالى آيات المواريث السابقة في سورة النساء ، ولذا أشار المصنف رحمه الله إلى ضعف الاستدلال المذكور. قوله : ( من الموارث والحكمة في إناطتها بنسبة الإسلام ) المراد أخوة المهاجرة التي كان بها التوارث ، واعتبار القرابة ثانياً ، أي نسخ ذلك ثم حصر التوارث في اننسب الحقيقي. قوله : ( من قرأ سورة الأنفال الخ ) ( 1 ) هذا الحديث موضوع من جملة الحديث المشهور الذي ثبت وضعه ، ( تتم ) تعليقنا على سورة الأنفال ، اللهم اجعلنا ببركتها ممن غنم رضاك ، وفاز بجزيل عطاياك ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سورة براءة
قوله : ( مدنية ) أي الاتفاق إلا الآيتين المذكورتين وفي كتاب العدد للداني ما يخالفه. قوله : ( وهي آخر ما نزل الخ ) كما اختلف في أوّل نازل اختلف في آخره أيضا ، فقيل هو هذه السورة ، وقيل سورة المائدة ، وآخر آية نزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } [ سورة النساء ، الآية : 176 ] وفي كونها آخراً مع تعلقها بالموت اتفاق عجيب ، وقوله : أسماء أخر أي غير سورة براءة ، وأسماؤها كلها بصيغة الفاعل إلا البحوث بفتح الباء ، فإنه صيغة مبالغة بمعنى اسم الفاعل ، وقد ذكر المصنف رحمه الله معناها ، ووجه التسمية بها على اللف والنشر بقوله- لما فيها الخ ، وسكت عن التصريح بتعليل التسمية بالمبعثرة كما قيل وليس كذلك لأنها بمعنى المثيرة كما يشير إليه كلامه من تدبر ، وعن المنقرة والتسمية بسورة العذاب لفهم الأؤل من تعليل التسمية بالبحوث والمثيرة ، والثاني من تعليلها بالمدمدمة. قوله : ( لما فيها من التوبة الخ ) بيان لوجه التسمية بما ذكر ، وأشار بما فيها من التوبة إلى(4/294)
ج4ص295
قوله تعالى : { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } إلى قوله : { عَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ } [ سورة التوبة ، الآية : 118 ] والقشقشة معناها التبرئة وهي مبرئة من النفاق ، وهو وجه تسميتها بالمقشقشة ، ولو قال التبرئة وأطلقها لكان أظهر وأولى ، والبحث التفتيش وهو وجه تسميتها بالبحوث ، والمنقرة أيضاً لأنّ التنقير في اللغة البحث والتفتيش ، واثارتها أي إخراج تلك الحال من الخفاء إلى الظهور وهو وجه تسميتها مبعثرة ومثيرة ، وقوله : ( والحفر عنها ) بمغنى البحث عنها إنجازاً وهو وجه تسميتها الحافرة ، وما يخزيهم بالخاء المعجمة والزاي ، وما يفضحهم وجه تسميتها المخزية والفاضحة ، وينكلهم أي يعاقبهم ويشرد بهم ، أي يطردهم ويفرقهم وجه المنكلة والمشردة ويدمدم عليهم أي يهلكهم وجه المدمدمة ، وعلم منه أو من التنكيل وجه تسميتها سورة العذاب ، وليس في السور أكثر أسماء منها ، ومن الفاتحة. قوله : ( وإنما تركت التسمية فيها لأنها نزلت لرفع الأمان الخ ) أشار إلى وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها دون غيرها ، وللسلف فيه أقوال ثلاثة : أصحها هذا ، ولذا قدمه ولم يصدره بقيل ، وقيل : لأنها مع الأنفال سورة واحدة ، والبسملة لا تكتب في خلال السور ، وقيل : لأنه لم
يعين محلها ولم يبين أنها سورة مستقلة ، واختلفت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في ذلك ، كما سيأتي ووجه ما اختاره أمّا رواية فلأنه مرويّ عن عليّ رضي الله عنه ، وأما دراية فلأنّ تسميتها بما مرّ يقتضي أنها سورة مستقلة ، وتعليل التسمية لا ينافي ا! التسمية توقيفية لأنه بيان لوجه التوقيف ، ولأنّ ترتيب السور والآيات ثابت بالوحي. قوله : ( وقيل كان النبتي صلى الله عليه وسلم ) ( 1 ( هكذا رواه أبو داود وحسنه والنسائيّ وابن حبان ، وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وفي الكشاف سأل عن ذلك ابن عباس رضي الله عنهما عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية ، قال : " اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا ) ( 2 ( وتوفي رسول اللهءلجيييه ولم يبين لنا أين نضعها ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فلذلك قرنت بينهما وكانتا تدعيان القرينتين يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يبين موضع السورة ولم يبين ههنا ، وكانت القصتان متشابهتين فلم يعلم أنّ هذه كالآيات من الأنفال فتوصل بها ، كالآية بالآية أو سورة مغايرة لها ليفصل بينهما بالتسمية ، فقرن بينهما بلا تسمية ، كما تقرن الآية بالآية وهذا يقتضي أنّ ترتيب السور توقيفي كما قيل. قوله : ( وقيل لما اختلقت الصحابة رضي الله عنهم الخ ) فترتيبها على هذا القول معلوم بتوقيف منه تج!ييه ، ولكن التردّد في كونها سورة أو بعض سورة فروعي الجانبان بالفصل بينهما وترك إثبات البسملة ، وهذا هو الفرق بينه وبين ما قبله ، ولم يذكر القول بأنها سورة واحدة جزما كما في الكشاف ، إذ يلزم ترك الفرجة بينهما والطول بالضم كصرد وهي من البقرة إلى الأعراف ، والسابعة سورة يونس أو الأنفال وبراءة على القول بأنهما سورة واحدة كذا في القاموس ، ووقع في نسخة الطوال والمصحح هو الأوّل. ( أقول ( هذا زبدة ما في الحواشي ، وقال السخاوي رحمه الله في جمال القراء : إنه اشتهر تركها في أوّل براءة ، وروي عن عاصم رحمه الله التسمية في أوّلها وهو القياس لأنّ إسقاطها إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة ، بل من الأنفال ولا يتم الأوّل لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ، ونحن إنما نسمي للتبرك ألا ترى أنه يجوز بالاتفاق بسم الله الرحمن الرحيم وقاتلوا المشركين الآية ونحوها ، فإن كان الترك لأنها
ليست مستقلة فالتسمية في أوّل الأجزاء جائزة ، وروي ثبوتها في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه فليس مخالفاً للمصاحف ، وذهب ابن منادر إلى قراءتها وفي الإقناع جوازها ، فقول الجعبري رحمه الله : إن كان ما قال السخاوي نقلا فمسلم والا فلا الخ لا وجه له ، والمعول عليه الأوّل إلا أنه لم يفهم المراد منه لأنّ المراد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أن ينادي بها فهي كالأوامر الشرعية ، ومثله لا يبدأ بها ، وأما حكمها شرعا فهو استحباب تركها ، وأما القول بحرمتها ووجوب تركها كما قاله بعض مشايخ الشافعية فالظاهر خلافه. قوله : ( ابتدائية متعلقة بمحذوف الخ ) أما كونها ابتدائية فلمقابلتها بإلى ، وأما تعلقها بمحذوف وكونها غير صلة لبراءة فلفساد المعنى فيه والتبري من الله ورسوله !ه ، ومن جوّزه هنا فقد وهم وقدّروا صلة(4/295)
ج4ص296
دون حاصله لتقليل التقدير لأنه يتعلق به إلى هنا أيضاً ، ومن غفل عنه قال : يجوز أن يكؤفى ظرفاً مستقزاً بتقدير حاصلة ، وعلى كون إلى الذين خبرا يقدر له متعلق آخر ، وقراءة النصب قرأ بها عيسى بن عمر وهي منصوبة باسمعوا أو بالزموا على الإغراء ، وقوله برئا الخ إشارة إلى أن فيه معنى التجدّد والحدوث ، وفي الكشاف وقرأ أهل نجران من الله بكسر النون ، والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته اهـ وقوله والوجه الفتح حقه أن يقول والقراءة لأنّ اله!مر لالتقاء الساكنين أو لاتباع الميم قراءة شاذة. قوله : ( وإنما علقت البراءة الخ ( لما كان حق البراءة أن تنسب إلى المعاهد قال في الكشاف : فإن قلت لم علقت بالبراءة بالله ورسوله ، والمعاهدة بالمسلمين ، قلت قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلاً ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما تجدّد من ذلك ، فقيل لهم اعلموا أن الله ورسوله لمجر قد برئا مما عاهدتم به المشركين. اهـ وحاصله كمافي الكشف إن عاهدتم إخبار عن سابق صدر من الرسول ىلمج! والجماعة ، فنسب إلى الكل كما هو الواقع ، وان كان بإذن من الله أيضاً لقوله { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } [ سورة الأنفال ، الآية : 61 ] والثاني إخبار عن حادث فكيف ينسب إليهم وهم لم يحدثوه بعد وإنما يسند إلى من أحدثه ، وفي الانتصاف أن سر ذلك أنّ نسبة العهد إلى الله ورسوله جميد في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين لا يحسن أدبا ألا ترى إلى وصية رسول الله عشحر لأمراء السرايا إذا قال لهم : " إذا نزلتم بحصن فطلبوا النزول على حكم الله فانزلوهم على حكمكم فاثكم لا تدرون أصادفتم حكم الله فيهم أو لا ، وإن طلبوا ذمة اللّه ، فأنزلوهم على دينكم فلأن تخفر
ذمتكم خير من أن تخفروا ذمة الله " ( 1 ( فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع ، فتوقير عهد الله وقد تحقق من المشركين النكث ، وقد تبرأ منه الله ورسوله بأن لا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر ، وفلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه هذا وجه التخصيص الذي في الكشاف وشروحه ، وأما ما ذكره المصنف رحمه الله فقيل عليه إنه لم يعلم منه وجه تعليق المعاهدة بالمسلمين ، ويجوز أن يجاب بأنّ تعليقها بهم لا يحتاج إلى ذكر وجه لظهور صدورها منهم ، وإنما المحتاج إليه تعليق البراءة بالله ورسوله ، وان كانت الواو في قوله والمعاهدة بالمسلمين للحال دون العطف فلا غبار عليه ، ويجوز أن يقال يستفاد وجهه أيضا من قوله وان كانت صادرة بإذن الله حيث دذ على أنّ المعاهدة لم تكن واجبة بل مباحة مأذونة فنسبت إليهم بخلاف البراءة فإنها واجبة لإيهابه تعالى ، فلذا نسبت للشارع وكلام المصنف رحمه الله ظاهر في هذا فتدبر. وقيل : ذكر الله للتمهيد كقوله : { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ سورة الحجرات ، الآية : ا ] تعظيما لشأنه صلى الله عليه وسلم ولولا قصد التمهيد لأعيدت من كما في قوله : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } وإنما نسبت البراءة إلى الرسولءكييه والمعاهدة لهم لشركتهم في الثانية دون الأولى ، ولا يخفى ما فيه فإنّ من برىء منه الرسول صلى الله عليه وسلم تبرأ منه المؤمنون ، وما ذكره من إعادة الجار ليس بلازم ، وما ذكره من التمهيد لا يناسب المقام ، ولك أن تقول أنه إنما أضاف العهد إلى المسلمين لأنّ الله علم أن لا عهد لهم ، وأعلم به رسوله مجفلذا لم يضف العهد إليه لبراءته منهم ومن عهدهم في الأزل ، وهذا نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية وان قيل إنها إنشائية للبراءة منهم ، ولذا دلت على التجدد فتأمّل. قوله. ( وذلك أنهم عاهدوا الخ ( فالمعاهدة عامة وقيل إنها خاصة ببعض القبائل ، وقوله : ( وأمهل المشركين ) عدل عن الإضمار الواقع في الكشاف ، لأن تلك المهلة كانت عامة للناكثين وغيرهم كما قيل ، وقوله : ( ليسيروا أين شاؤوا ( التعميم مأخوذ من السياحة ، وأصلها جريان الماء وانبساطه ثم استعملت للسير كما قال طرفة :
لوخفت هذامنك ماتنثني حتى ترى خيلا أهامي تسيح
قوله : ( شوّال ) جره على البدلية من أشهر ، وقيل على المجاورة الأولى نصبه بيان لأربعة
أشهر وفيه اختلاف ، فقيل إن براءة نزلت في شوّال فتكون تلك الأربعة من شوّال إلى المحرّم ،
وقيل إنها وان نزلت(4/296)
ج4ص297
في شوّال إلا أنّ تبليغها في زمن الحج فتكون الأربعة من عشر ذي القعدة ، وقوله : ( فسيحوا ) بتقدير القول أي فقل لهم سيحوا أو بدونه وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والمقصود أمنهم من القتل في تلك المدّة وتفكرهم واحتياطهم ، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف ، وليعلموا قوّة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم ، وقوله : ( لما روي الخ ) قال الحفاظ : إنه ملفق من عدة أحاديث ، بعضها في مسند أحمد عن علي رضي الله عنه ( 1 ( ، وبعضها في الصحيحين عن أبي هريرة ( 2 ( رضي الله عنه ، وبعضها في دلائل البيهقي عن ابن عباس ( 3 ( رضي الله عنهما ، وبعضها في تفسير ابن مردوية عن أبي سعيد الخدري ) 4 ( رضي الله عنه ، والعضباء بعين مهملة وضاد معجمة وباء موحدة ممدود من النوق المشقوفة الأذن ، ومن الشيا. المشقوقة الأذن أو المكسورة القرن ، وهو لقب ناقة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولم تكن عضباء كما في شروح الكشاف. وإنما أرسله صلى الله عليه وسلم على ناقته ليحقق أن رسالته منه ، والموسم زمان الحج وأمير الموسم أمير الحاج المنصوب من قبل الأمام ، وقوله : ( رجل مني ( أي قريب مني نسباً ،
وذلك بوحي كما في حديث في الدر جرياً على عادة العرب ، وقوله : فلما دنا أي قرب من أبي بكر رضي الله عنه ، والرغاء بالمد صوت الإبل ، وقوله : ( أمير أو مأمور ) رأى أرسلك النبيئ كير لتكون أميراً مكاني أو لأنك مأمور بأمر آخر ، والتروية سقي الماء بقدر ما يزيل العطش ، ويكون بمعنى التفكر ، ولذا قيل : إنه سمي به اليوم الثامن من ذي الحجة لأنهم كانوا يسقون إبلهم قيه ، ولأنّ إبراهيم كي! تروّى وتفكر فيه في ذبح إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، والآيات التي قرأها عليّ رضي الله عنه من أوّل هذه السورة. قوله ة ( أمرت بأربع الخ ) أي بأن أخبر بها منادياً ، وكأن العلم بأنه لا يدخل الجنة كافر لم يكن حاصلاً للمشركين قبل ذلك ، أو المراد أنه لا يقبل منهم بعد ذلك إلا الإيمان أو السيف ، قال الطيبي رحمه الله : فهو من باب لا أرينك ههنا ، أي أمرت بأن أنادي بأن يتصفوا بما يستعدوا به أن يكونوا أهلا للجنة إذ لا يقبل منهم سوى هذا أو إخبارهم بأنّ عداوة المؤمنين للكفرة ومفارقتهم لهم ثابتة في الدنيا والآخرة وأن يتم مجهول ، وتمام العهد تكميل زمانه كما في قوله تعالى : { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } . قوله : ( ولعل قوله صلى الله عليه وسلم لا يؤذي عني إلا رجل مني ( أي لا يبلغ عني نبذ العهد إلا رجل من أقربائي جواب عن استدلال الرافضة بهذا على إمامة عليئ كرّم الله وجهه وتقديمه على أبي بكر رضي الله عنه بأنه جار على عادة العرب في ذلك لئلا يحتجوا وهل كان ذلك بوحي جاء به جبريل عليه الصلاة والسلام ، أولاً فيه قولان وتقدم ما فيه ، وقوله : ( ويدل الخ ا لأنه خصه بالعهد المشار إليه بهذا وعشيرة الرجل نسله ورهطه الأدنون ، وأخرج هذه الرواية أحمد والترمذي عن أنس ( 1 ( رضي الله عنه وحسنه ، وقوله : ( لا تفوتونه ) مر بيانه ، وقوله : ( بمعنى الأفعال ( أي ا لإيذان ، وقوله : ) على
الوجهين ) أي خبر مبتدأ أو مبتدأ ومتعلق من كما مرّ أيضاً. قوله : ) يوم الحج اكبر ) منصوب بما تعلق به إلى الناس لا بأذان لأنّ المصدر الموصوف لا يعمل. قوله : ( يوم العيد الخ ) بيان لوجه التسمية ووصفه بأنه أكبر ، ومعظم أفعاله الحلق والرمي والطواف ، وهذا وجه المعقول والمنقول أنّ الأعلام كان فيه ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صرّج بتسميته به كما سيأتي ، وهو حديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والبيهقي عن عبد الرحمن بن يعمر ) 1 ( ولكونه أقوى رواية ودراية قدمه وهذا أكثر باعتبار الكمية ، ووقوف عرفة باعتبار الكيفية لأنه أعظم أركانه التي لا تتم بدونه فلا منافاة بينه وبين ما سيأتي ، وقوله : ( الحج عرفة ) ( 2 ( حديث صحيح أي معظمه وقوف عرفة. قوله : ( ووصف الحج باكبر الخ ( أي اتصافه بالأكبرية إمّا بالنسبة لغير أعماله كما مما مرّ أو بالنسبة إلى العمرة لأنها الحج الأصغر وهما على الوجهين ، وقوله : ( أو لآنّ ذلك الحج الخ ) فيكون التفضيل مخصوصاً بتلك السنة ، وعلى ما قبله شاملى لكل عامّ ، وكذا في الوجه الذي بعده مختص بذلك العامّ ، وأمّا تسمية الحج الموافق يوم عرفة فيه ليوم الجمعة باكبر فلم يذكروه ، وان كان ثوابه زيادة على غير. كما نقله السيوطي في بعض رسائله ، وقال بعض علماء العصر في الحج الأكبر أقوال أحدها أنه كان يوم عرفة يوم جمعة ، والثاني أنه القرآن ، والثالث أنه الحج مطلقا ، والأصغر العمرة ،(4/297)
ج4ص298
ولا تعارض! بين الأقوال لأنهما أمران نسبيان فلا وجه لإنكاره. توله : ( أي بأنّ الخ ) هذا على قراءة الفتح يكون بتقدير حرف جرّ لاطراد حذفه مع أنّ وأن والجارّ والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة المصدر أو به نفسه لأنه المعلم به ، ورسوله بالرفع عطف على الضمير المستتر في برىء للفصل بينهما أو
مبتدأ محذوف الخبر أي ورسوله كذلك. قوله : ( في قراءة من كسرها الخ ) لأنّ المكسورة لما لم تغير المعنى جاز أن تهقدر ، كالعدم فيعطف على محل ما عملت فيه أي على محل كان له قبل دخولها لأنه كان مبتدأ هذا في القراءة الشاذة بالكسر ، وأما على فتحها في قراءة العامّة فغير جائز لأن المفتوحة لها موضع غير الابتداء بخلاف المكسورة ، وقال ابن الحاجب : إن المفتوحة على قسمين ما يجوز فيه العطف على محلها ، وما لا يجوز فالذي يجوز أن تكون في معنى المكسورة كالتي بعد أفعال القلوب نحو علصت أن زيداً قائم وعمرو لأنها لاختصاصها بالدخول على الجمل في معنى إنّ زيداً قائم وعمر ، وفي علمي ، ولذا وجب الكسر في نحو علصت أنّ زيداً لقائم ، والأذان بمعنى العلم فيدخل على الجمل أيضاً كعلم ، وفي غير ذلك لا يجوز نحو أعجبني أنّ زيداً كريم وعمرو فلا يجوز فيه إلا النصب لأنها ليست مكسورة ولا في حكمها ، والنحويون لم يتنبهوا لهذا الفرق ، والمصنف رحمه الله بنى كلامه على المشهور ، فلذا قيد العطف على المحل بقراءة الكسر وهي قراءة الحسن والأعراح ، والمحل قد يجعل لاسم إنّ لأنها في حكم العدم ولأنّ المعرب هو الاسم ، وقد يجعل المحل لها مع اسمها وكلاهما واقع في كلام النحاة ولكل وجهة. قوله : ( إجراء للأذان مجرى القول ا لأنه في معناه فيحكي به الجمل ، وهو أحد مذهبين مشهورين ، والآخر يقدر القول فيه ، وفي أمثاله لاختصاص الحكاية به وقراءة النصب بالعطف على اسم أنّ وهو الظاهر أو جعله مفعولا له والواو بمعنى مع. قوله : ( ولا تكرير فيه ) أي لا تكرير في ذكر براءة الله ورسوله مع ذكرها أوّلاً لأنّ تلك إخبار بثبوت البراءة ، بمعنى هذه براءة ثابتة من الله ورسوله في علمه تعالى ، فأخبرهم بثبوت ذلك في علمه ، وقوله : ( وأذان الخ ) إخبار منه تعالى لأولئك المخاطبين واجب التبليغ لقوله : { فَانبِذْ إِلَيْهِمْ } [ سورة الأنفال ، الآية : 58 ] فوجب تبليغه لكافة الناس في ذلك اليوم المخصوص بما ثبت في حكمه تعالى من تلك البراءة ، ولذا خص الأوّل المعاهدين وعم هذا سائر الناس ، وقوله من الكفر والغدر بنقض العهد ، وقوله : ) فالتوب ( أي الضمير للمصدر المفهوم من تبتم كاعدلوا هو ، وفوله عن التوبة أي إن كان متعلق التولي التوبة فظاهر ، وان كان الإسلام ووفاء العهد والتولي عنه كان منهم قبل ذلك ، فالمراد بتوليتم ثبتم على التولي. قوله : ( لا يفوتونه طلباً الخ ( طلباً وهربا منصوب بنزع الخافض أي في طلبه ، وفي هربكم أو حال بمعنى طالبين وهاربين ،
وأعجزه كما مرّ في الأنفال بمعنى فاته وسبقه ، وبمعنى وجده عاجزاً وإلى المعنيين أشار المصنف رحمه الله ، فإلى الأوّل أشار بقوله لا يفوتونه طلبا ، هالى الثاني بقوله ولا تعجزونه هرباً أي لا تجدونه عاجزاً عن ادراككم إذا هربتم ، وقيده بقوله في الدنيا لمقابلته بعذاب الآخرة المذكور بعده وقوله : وبشر الخ تهكم ، وترك المصنف رحمه الله قراءة الجرّ في ورسوله المنسوبة إلى الحسن فإنها لم تصح ، وأن وجهت بأنّ الجرّ لثجوار أو الواو والقسم وقصة الأعرابي ورفعها إلى عمر رضي الله عنه تقتضي عدم صحتها. قوله : ( استئناء من المشركين الخ ) اختلفوا في هذا الاستثناء هل هو منقطع أو متصل من المشركين الأوّل أو الثاني ، أو من مقدّر تقديره اقتلوا المشركين إلا المعاهدين منهم ، أو من قوله : ( فسيحوا ( وهو الذي اختاره الزمخشريّ لما سيأتي ، وقول المصنف رحمه الله استثناء من المشركين إشارة إلى الأوّل لكنه مبهم ، وقوله أو استدرك أي استثناء منقطع إشارة إلى الوجه الآخر ، وسما. استدراكا لأنه يقدر بلكن ، قيل : إذا جعل في محل نصب على أنه استثناء من المشركين لزم أن لا يكون الله ورسوله بريآن من هؤلاء المشركين الذين لم ينقضوا عهودهم حتى أمر المسلمون أن يتموا عهودهم ، وهو على ظاهره غير مستقيم لأن الله ورسوله بريآن من المشركين نقضوا عهودهم أو لم ينقضوا ، فالوجه أن يكون استثناء من قوله فسيحوا لأنّ المعنى براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين ، فقولوا لهم سيحوا في الأرض أربعة أشهر فقط ، إلا الذين عاهدتموهم ولم ينقضوا عهدهم فاتموا إليهم عهدهم ، والحاصل أنّ هنا جملتين يمكن أن يعلق بهما(4/298)
ج4ص299
الاستثناء جملة البراءة ، وجملة الإمهال ، لكن تعليق الاستثناء بجملة البراءة يستلزم البراءة عن بعض المشركين ، فتعين تعلقه بجملة الإمهال أربعة أشهر لأنهم يمهلون وان زادت مدّتهم على أربعة أشهر ، والذي يفهم من كلام الزمخشري أن الاستثناء منقطع بمعنى لكن حملا للذين عاهدتم على المشركين ولا ضرورة فيه ، بل اللفظ عام والاستثناء مخصص له بهم اهـ.
وهذا وارد على ما اختاره المصنف رحمه الله مع ما فيه من تخلل الأجنبي بين المستثنى والمستثنى منه أيضا ، وأجيب عنه بأنّ مراده أنه استثناء من المشركين ، الثاني دون الأوّل ولا يلزم تخلل الفاصل الأجنبيّ وهو ظاهر ، وحديث المنافاة لا وجه له ، لأنّ المراد بالبراءة البراءة عن عهودهم كما صرّح به المصنف رحمه الله لا عن أنفسهم ، ولا كلام في أنّ المعاهدين الغير الناكثين ليس الله ورسوله بريئين من عهودهم ، وان برئا عن أنفسهم ، وليس هنا ما ينافي هذا فيكون هذا قرينة على أن البراءة الأولى عن العهود مقيدة لا مطلقة فتأثل. قوله : ( أو استدراك وكأنه قيل لهم الخ ) أي استثناء منقطع قيل فيكون قوله من المشركين في الموضعين عمل عمومه ثم يخص بالاستدراك ، وبكون الذين مبتدأ ، وقوله فأتموا خبره والفاء لتضمنه معنى الشرط لا جواب شرط مقدّر ، وأورد على المصنف رحمه الله أمران ، الأوّل أن المراد بالذين عاهدتم الناكثون كما صرّح به المصنف رحمه الله ، فكيف يجوز أن يكون الاستثناء متصلاَ من
المشركين وهو السرّ في جعله استثناء من قوله : { فَسِيحُواْ } وتخصيصه في الأوّل دون الثاني خلاف الظاهر ، الثاني أنّ المراد به ناس بأعيانهم فلا يكون عاماً حتى يشبه الشرط ، وتدخل الفاء في خبره وأجيب بأنا لا نسلم أنه خاص وكلام المصنف رحمه الله غير صريح فيه ، لقوله : وأمهل المشركين فإنه صريح في العموم كما مرّ ، وبأنّ زيادة الفاء في خبره على مذهب الأخفش فإنه لا يشترط ما ذكر. قوله : ) من شروط العهد الخ ( الجمهور على قراءة ينقصوكم بالصاد المهملة وهو متعدّ لواحد فشيئا مصدر أي شيئا من النقصان لا قليلاً ولا كثيراً ، وقرأها عطاء وغيره بالضاد المعجمة على تقدير مضاف أي ينقضوا عهدكم ، قال الكرماني رحمه الله : وهي مناسبة للعهد إلا أنّ قراءة العامّة أوقع لمقابلة التمام ، ومن تبعيضية ويجوز أن تكون بيانية ، وقوله : ولم ينكثوه يناسب قراءة الأعجام ، ويظاهروا بمعنى يعاونوا ، وقوله قط إشارة إلى عموم شيئاً. قوله : ( تعليل وتنبيه الخ ) يعني أن قوله إنّ الله يحب المتقين وارد على سبيل التعليل لأن التقوى وصف مرتب على الحكمين ، أعني قوله : { فَسِيحُواْ } وقوله : { فَأَتِمُّواْ } ومضمونها عدم التسوية بين الغادر والوافي. وقوله : إلى تمام مدتهم إشارة إلى تقدير مضات لأنّ مدتهم لا يصح أن تكون غاية ، بل الغاية آخرها وهو المراد بالتمام ، لأنه ما يتم به الشيء وهو جزؤه الأخير ، وقيل المدة بمعنى آخرها وهو تكلف ، وأتموا بمعنى أدّوا ولذا عدى بإلى. قوله : ( 1 نقضى وأصل الانسلاخ الخ ) قال أبو الهيثم : يقال أهللنا شهر كذا أي دخلنا فيه فنحن نزداد كل ليلة منه لباسا إلى نصفه ، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً جزءاً حتى ينقضي فينسلخ وهي استعارة حسنة وأنشد :
إذا ما سلخت الشهرأهللت مثله كفى قاتلاً سلخ الشهور واهلالي
ومثل انسلخ انجرد وسنة جرداء تامّة ، والسلخ يستعمل تارة بمعنى الكشط كسلخت الإهاب عن الشاة أي نزعته عنها ، وأخرى بمعنى الإخراج كسلخت الشاة عن الإهاب أي أخرجتها منه واطلاق الانسلاخ على الأشهر استعارة من المعنى الأوّل ، فإن الزمان ظرف محيط بالأشياء كالإهاب ، والمصنف رحمه الله جعله من الثاني كأنه لما انقضى أخرج من الأشياء الموجودة كذا قيل. قوله : ) التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها الخ ( في الدر المصون يجوز أن تكون الألف واللام للعهد ، فالمراد بهذه الأشهر الأربعة المتقدمة ، والعرب إذا ذكرت نكرة ثم
أرادت ذكرها ثانيا أتت بالضمير أو باللفظ معرفا بأل ، ولا يجوز أن تصفه حينئذ بصفة تشعر بالمغايرة ، فلو قيل رأيت رجلا فأكرمت الرجل الطويل لم ترد بألثاني الأوّل ، وان وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز ، كقولك فأكرمت الرجل المذكور ، ومنه هذه الآية فإنّ الأشهر قد وصفت بالحرم ، وهو صفة مفهومة من فحوى الكلام فلا تقتضي المغايرة ، ويجوز أن يراد بها غير الأشهر الحرم المتقدّمة(4/299)
ج4ص300
فلا تكون أل للعهد والوجهان منقولان في التفسير ا هـ والمصنف رحمه الله اختار القول الأوّل ، ويكون ذكر فيه حكم الناكثين بعد التنبيه على إتمام مدة من لم ينكث ، فلا يرد عليه ما قيل إنها تسعة أشهر لبني كنانة وأربعة أشهر لسائر المعاهدين المذكورة في قوله تعالى : { فَسِيحُواْ } الخ ومن قال هي التي أبيح للناكثين الخ ، فقد غفل لعموم الحكم لبني كنانة. قوله : ( وهذا مخل بالنظم مخالف للأجماع الخ ( لأنه يأباه ترتبه عليه بالفاء فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر ، ومخالفته للإجماع لأنه قام على أنّ الأشهر الحرم يحل فيها إلقتال ، وأن حرمتها نسخت ، وعلى تفسير بها يقتضي بقاء حرمتها ، ولم ينزل بعدما ينسخها ورد بأنه لا يلزم أن ينسخ الكتاب بالكتاب بل قد ينسخ بالسنة كما تقرّر في الأصول ، وعلى تقدير لزومه كما هو مذهب الشافعيّ رضي الله عنه يحتمل أن يكون ناسخة من الكتاب منسوخ التلاوة ، ولا يخفى أن هذا الاحتمال لا يفيد ولا يسمع لأنه لو كان كذلك لنقل والنسخ لا يكفي فيه الاحتمال ، وقيل إنّ الإجماع إذا قام على أنها منسوخة كفى ذلك من غير حاجة إلى نقل سنده إلينا ، وقد صح أنه-لمجييه حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم ، وكما أنّ ذلك كاف في نسخها يكفي لنسخ ما وقع في الحديث الصحيح ، وهو : " إنّ الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والآرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب " ) 1 ( ، فلا يقال إنه يشكل علينا لعدم علم ما ينسخه كما توهم ، فإن قلت هل نسخ القرآن بالإجماع قلت نعم ، قال : في النهاية شرح الهداية تجوز الزيادد على الكتاب بالإجماع صزج به الإمام السرخسيّ. وقال فخر الإسلام إن النسخ بالإجماع جوّزه بعض أصحابنا بطريق أن الإجماع يوجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت به النسخ والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور ، ويجوز النسخ بالخبر المشهور فبالإجماع أولى ، وأمّا اشتراط حياة النبىّ - صلى الله عليه وسلم - في جواز النسخ فغير مشروط على قول ذلك البعض اهـ وأنت تعلم أن فيه اختلافاً عندنا فلا يصح جوابا عن كلام الشافعية كما قيل ، إلا إذا نقل عنهم القول به مع أن في الإجماع كلاما ولم يعتد بمن خالف في بقاء حرمتها هنا فلا يخالف ما سيذكره من أن نسخ حرمتها مذهب
الجمهور ، ولك أن تقول مغ القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة لا يقتض ي منعه في كل ما شابهها بل هو مسكوت عنه فلا يخالف الإجماع ، ويكون حله معلوما من دليل آخر. قوله : ( وأسروهم الخ ) قيل المراد بالأسر الربط لا الاسترقاق فإن مشركي العرب لا يسترقون ، ولذا لم يفسر الحصر بالتقييد كما في الكشاف لئلا يتكرّر ، وقيل المراد إمهالهم للتخيير بين القتل والإسلام ، وقيل : هو عبارة عن أذيتهم بكل طريق ممكن ، وقوله : يتبسطوا في البلاد أي ينتشروا في البلاد ويخلصوا منكم. قوله : ( وانتصابه على الظرف الخ ( قيل ذكر هذا الزجاج وتبعه غيره ، وتد رذه أبو عليّ رحمه الله بأنّ المرصد المكان الذي يرصد فيه العدوّ فهو مكان مخصوص لا يجوز حذف في منه ، ونصبه على الظرفية إلا سماعا ، وردّه أبو حيان رحمه الله بأنه يصح انتصابه على الظرفية لأن اقعدوا ليس المراد به حقيقة القعود بل المراد به ترقبهم وترصدهم ، فالمعنى ارصدوهم كل مرصد يرصد فيه ، والظرف مطلقاً ينصبه بإسقاط في فعل من لفظه أو معناه نحو جلست وقعدت مجلس الأمير ، والمقصور على السماع ما لم يكن كذلك وكل ، وان لم تكن ظرفاً لكن لها حكم ما تضاف إليه لأنها عبارة عنه ، وجوّز في الانتصاف أن يكون مرصداً مصدراً ميميا فهو مفعول مطلق وهو بعيد ، وقيل إنه منصوب على نزع الخافض ، وأصله على كل مرصد أو بكل مرصد فلما حذف على أو الباء انتصب ، وهو غير مقيس خصوصا على فإنه يقل حذفها حتى قيل إنه مخصوص بالشعر كما قاله أبو حيان. قوله : ( فدعوهم ولا تتعرّضوا لهم بشيء ( أي القتل وما معه ، وهذا على جميع ما مرّ من تفسيره ، وجعله في الكشاف كناية عن الإطلاق على تفسير الحصر بالتقييد أو عدم التعرّض إن فسر بالحيلولة بينهم وبين المسجد الحرام ، وتخلية السبيل في كلام العرب كناية عن الترك كما في قول جرير :
خل السبيل لمن يبني المنار به
ثم يراد منه في كل مقام ما يليق به. قوله : ( وفيه دليل على أنّ تارك الصلاة الخ ) قد أجاد المصنف رحمه الله هنا كل الإجادة إذ ساق كلامه(4/300)
ج4ص301
على وجه يشمل مذهب الشافعيّ رضي الله عنه في قتل تارك الصلاة ، ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في حبسه ، وان كان جعله قرين الزكاة يقرب مذهب أبي حنيفة ، ولعل المصنف رحمه الله إنما سلك هذا المسلك لأن في قتله
كلاماً في مذهبهم ، وقال الشافعيئ رضي الله عنه إنه تعالى أباج دماء الكفار بجميع الطرق والأحوال ، ثم حرّمها عند التوبة عن الكفر وإقام الصلاة وايتاء الزكاة فما لم يوجد هذا المجموع يبقى إباحة الدم على الأصل فتارك الصلاة يقتل ، ولعل أبا بكر رضي الله عنه استدل بهذه الآية على قتال مانعي الزكاة ، وإنما خصا من بين الفرائض لأن إظهارهما لازم ، وما عداهما بعسر الاطلاع عليه ، وقد أورد المزني رحمه الله من الشافعية على قتل تارك الصلاة تشكيكا تحيروا في دفعه كما قاله السبكي في طبقاته فقال إنه لا يتصوّر لأنه إما أن يكون على ترك صلاة قد مضت أو لم تأت ، والأوّل باطل لأن المقضية لا يقتل بتركها ، والثاني كذلك لأنه ما لم يخرج الوقت فله التأخير فعلام يقتل ، وسلكوا في الجواب عنه مسالك الأوّل إنه وارد على القول بالتعزير والضرب والحبس فالجواب الجواب ، وهو جدليّ ، الثاني أنه على الماضية لأنه تركها بلا عذر ورذ بأن القضاء لا يجب على الفور ، وبانّ الشافعي رضي الله عنه قد نص على أنه لا يقتل بالمقضية مطلقا ، ومذهب أصحابه أنه لا يقتل بالامتناع عن القضاء والثالث أنه يقتل للمؤداة في آخر وقتها ، ويلزمه أنّ المبادرة إلى قتل تارك الصلاة تكون أحق منها إلى المرتد إذ هو يستتاب ، وهذا لا يستتاب ولا يمهل إذ لو أمهل صارت مقضية ، وهو محل كلام فلا حاجة إلى أن يجاب من طرف أبي حنيفة رحمه الله ، كما قيل بأنّ استدلال الشافعيّ رحمه الله مبنيّ على القول بمفهوم الشرط ونحن لا نقول به ولو سلم ، والتخلية الإطلاق عن جميع ما مز فلا يخلي ، ويكفي له أن يحبس على أنه منقوض بمانع الزكاة عنده ، وأيضاً يجوز أن يرد بإقامتها التزامهما وإذا لم يلتزمهما كان كافراً ولذا فسره النسفي به فتأمل. قوله : ( استأمنك وطلب منك جوارك ) أي مجاورتك وكسر جيمه أفصح من ضمها والاستئمان طلب الأمان والاستجارة بمعناه كما يقال أنا جار لك وقد موّ تحقيقه ، وقوله ويتدبره إشارة إلى أنه ليس المراد منه ومجرّد السماع ولا حجة للمعتزلة في الآية على نفي الكلام النفسي كما في شرح الكشاف للعلامة ، وحتى يصح أن تكون للغاية أي إلى أن يسمعه ويصح أن تكون للتعليل ، وهي متعلقة في الحالتين بأجره وليس من التنازع في شيء. قوله : ( موضع أمنه ) يعني أنه اسم مكان لا مصدر ميمي بتقدير مضاف وهو موضع ، وان احتمله كلامه إذ الأصل عدم التقدير. قوله : ( لأنّ إن من عوامل الفعل ) تعمل فيه الجزم لفظا أو محلاً فلذا اختصت به لأنها تعمل دائما عملاً يختص به فلا يصح دخولها على الأسماء ، فلا وجه لما قيل الأولى أن يقول من دواخل الفعل لأنّ عملها يختص بالمضارع دون الماضي ، وهي تدخل عليه. قوله : ( ريثما يسمعون ويتدبرون ) أي بمقدار زمان يسع السماع والتدبر ، والريث في الأصل
مصدر راث بمعنى أبطأ إلا أنهم أجروه ظرفا كما أجروا مقدم الحاج ، وخفوق النجم كذلك قال أبو علي رحمه الله في الشيرازيات هذا المصدر خاصة لما أضيف إلى الفعل في كلامهم في نحو قول السلولي :
لا يمسك الخير إلا ريث يرسله
صار مثل الحين والساعة ونحوهما من أسماء الزمان ، وما زائدة فيه بدليل صحة المعنى بدونها ألا ترى أنّ قولهم ما وقفت عنده إلا ريث قال كذا وريثما قال كذا سواء وقد جاء الاستعمالان في كلامهم قال الراعي :
وما ثوائي إلا ريث ارتحل
وقال معن :
قلبت له ظهر المجن فلم أدم على ذاك إلاريثما أتحول
وكثر ما يستعمل مستثنى في كلام منفي ، وحق ما أن تكتب موصولة بريث لضعفها من حيث الزيادة وكونها غير مستقلة بنفسها ، ويجوز كون ما مصدربة. قوله : ( بمعنى الإنكار والاستبعاد الخ ا لما كان عهدهم واقعا لا يتصوّر إنكاره أشار إلى أن المنكر عهد ثابت لا ينكث ، أو عهد ثان لا مطلق العهد والوغرة شدة توقد الحرّ ، ومنه قيل في صدره عليّ وغر بالتسكين أي ضغن وعداوة وتوقد من الغيظ فوغرة بفتح فسكون أو بفتح فكسر والأوّل أولى ، وقوله : ( ولا ينكثوه ) وقع في نسخة ولأن يثبتوه ، وقوله : أو لاًن يفي الخ(4/301)
ج4ص302
فيكون العهد عهد الله ورسوله وهو معنى كونه عندهما ومعنى كونه للمشركين إنه معهم ومتعلق بهم فسقط ما قيل إنّ هذا معنى فولنا كيف يكون لله ورسوله عهد عند المشركين لا معنى ما وقع في النظم. قوله : ( وخبر يكون كيف الخ ) وهو واجب التقديم لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ، وللمشركين على هذا متعلق بيكون إن قلنا به أو هي صفة لعهد قدمت فصارت حالاً وعند إما متعلقه بيكون أو بعهد لأنه مصدر أو صفة له متعلق بمقدر أو الخبر للمشركين ، وعند فيها إلا وجه المتقدّمة ، ويجوز أيضا تعلقه بالاستقرار الذي تعلق به للمشركين أو الخبر عند الله وللمشركين إمّا تبيين كما في سقيا لك فيتعلق بمقدر مثل أقول هذا الاستبعاد لهم ، أو متعلق بيكون ، واما حال من عهد أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر ويغتفر تقدم معمول الخبر لكونه جاراً ومجروراً ، وكيف على الوجهين الأخيرين شبهة بالظرف أو بالحال ويجوز أن تكون تامّة ، والاستفهام هنا
بمعنى النفي ، ولذا وقع بعده الاستثناء. قوله : ( ومحله النصب على الاستثناء الخ ) أي هو استثناء متصل لدخولهم في المشركين ، ومحله النصب على الاستثناء أو الجرّ على البدل لأن الاستفهام في معنى النفي ، وهذا على التفسيرين السابقين ، وأما إذا كان منقطعاً فهو مبتدأ خبره مقدّراً وجملة فما استقاموا خبره ، وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله. قوله : ( أي فتربصوا أمرهم الخ ) أي انتظروا أمرهم ، وهو بيان لحاصل المعنى لا تقدير ، وقو!ه غير أنه مطلق أي قوله فأتموا مطلق ، وهذا مقيد بالاستقامة والدوام على العهد فيحمل المطلق عليه ، فإن قلت تفريعه على قوله : { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا } ولم يظاهروا عليكم أحداً يفيد تقييده بعدم النكث فهما سواء فيه ، قلت قد دفع هذا بأنّ عدم النقض المستفاد منه مغيي بوقت التبليغ أو بتمام الأربعة الأشهر ، وأمّا بعد تمامها فالآية ساكتة عنه وإن كان لا بد منه في وجوب إتمام المدّة ولا يخفى ما فيه. قوله : ( وما ثحتمل الشرطية والمصدرية ( على المصدرية هي ظرف في محل نصب على ذلك أي استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم على الشرطية يجوز فيها أن تكون في محل نصب على الظرفية أيضاً أي في أيّ زمان استقاموا لكم استقيموا لهم ، أو في محل رفع على الابتداء وفي خبرها الخلاف المشهور ، وقوله فاستقيموا جواب الشرط والفاء واقعة في الجواب وعلى المصدرية مزيدة للتأكيد. قوله : ( تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد الخ ) يعني أنّ الفعل المحذوف بعدها إن كان ما تقدّم فهو تكرار للتأكيد والتقدير كيف يكون لهم عهد ، أي يثبتون عليه كما مرّ أنه المراد منه وهذا على التفسير الأوّل ، أو المراد استبعاد بقاء الحكم وهو وفاء الله والرسول لهم به وترك قتالهم ونحوه وهو على التفسير الثاني ، والتنبيه على العلة مأخوذ من قوله وإن يظهروا الخ أي علة استبعاد ذلك وانكاره ، وهي إنّ الله علم وقد دلت الإمارات على ذلك أنّ عهودهم إنما هي لعدم ظفرهم بكم ولو ظفروا لم يبقوا ولم يذروا فمن كان أسير الفرصة مترقبا لها كيف يرجى منه دوام عهد فتدبر. قوله : ( وحذف الفعل للعلم به ) أي المستفهم عنه يحذف مع كيف كثيراً ويدل عليه بجملة خالية بعده ، وتقديره كيف يكون لهم عهداً وكيف لا تقاتلونهم ونحوه. قوله : ( وخبرثماني الخ ) هو من مرثية لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار وقبله :
لعمركما أن البعيد الذي مضى وإن الذي يأتي غدا لقريب
وخبرتماني إنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وقليب
ومنها :
وداع دعايا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
ففلت اح أخرى وارفع الصوت جهرة لعل أبي المغوار منك قريب
ومعنى البيت قلتما لي إنّ من سكن القرى لحقه الموت لكثرة الوباء بها فكيف مات أخي
في برية هي هذه وذكر الهضبة وهي الجبل المنبسط على الأرض ، والقليب أي البئر شارة إلى أنها مفازة فيها ذلك ، وقيل هما جبل وبئر معينان عند قبر أخيه وهاتا اسم إشارة للمؤنث يقال تا وني وليس مثنى حذفت نونه كما توهم. قوله : ( 1 لا حلفا وقيل قرابة الخ ( الحلف كتكتف القسم قيل ، وقد صحح هنا كذلك والحلف بكسر(4/302)
ج4ص303
فسكون العهد والعبارة محتملة له ، ولا يضر تفسير الذمّة به لأنه غير متعين وكونه مؤكداً أو تفسيراً يأباه إعادة إلا ظاهراً ، وقد اختلف في معنى الألّ بكسر الهمزة وقد تفتح على أقوال منها ما ذكره المصنف رحمه الله ، وأشار إلى أنّ منها ما يحتمل أن يكون مجازاً وهذا كله منقول عن أئمة اللغة ، والمفسرين فالمناقشة فيه ليست من دأب المحصلين. قوله : ( لعمرك الخ ) من شعر لحسان رضي الله عنه يهجو به أبا سفيان رضي الله عنه يقول له : إن عذك من قريش مع ما فيك كما يعذ بعض الناس النعام من الإبل كما قيل في المثل إنه قيل للنعامة طيري فقالت أنا جمل فقيل لها احملي فقالت : أنا طائر ، ولذا تضاف إلى الإبل في غير لغة العرب ، والسقب ولد الناقة ، والرأل بالهمزة ولد النعام ، والجؤار بضم الجيم وفتح الهمزة والراء المهملة الصراخ وصوت البقر ، وقوله : ثم استعير أي من العهد للقرابة لأن بين النسبتين عقد أشد من عقد التحالف ، وكونه أشد لا ينافي كونه مشبهاً لأنّ الحلف يصرح به ويلفظ فهو أقوى من وجه آخر ، وليس التشبيه من المقلوب كما توهم ، وقوله : ( من ألل الشيء إذا حدّده ) وفي تلك الأمور حذة ونفاذ ، وكونه من أل البرق لظهور ذلك ، وعلى كونه بمعنى الإله فالمعنى لا تخافون الله ولا تراقبونه في نقض عهدكم ، وقد ضعف هذا بأنه لم يسمع في كلام العرب الّ بمعنى إله ، ولذا ذكر المصنف رحمه الله أنه عبرفي ، وأيده بأنه قرئ أيلا وهو بمعنى الإله عندهم. قوله : ( عهدا أو حقاً بعاب على إغفاله (
أي تركه وسمي به العهد أيضاً لأنّ نقضه يوجب الذم وقولهم في ذمتي كذا سمي بها محل الالتزام ، ومن الفقهاء من قال هو معنى يصير به الآدميّ على الخصوص أهلاً لوجوب الحقوق عليه ، وقد يفسر بالأمان والضمان وهي متقاربة. قوله : ( ولا يجوز جعله حالاً من فاعل لا يرقبوا الخ ا لأن الحال تقتضي المقارنة ، وهم في حال عدم المراعاة فإن حملت على ما يشمل مراعاتها ظاهرا وباطناً صح مقارنتها لإرضائهم في الجملة لكن عدم المراعاة الواقع جزاء لظهورهم وظفرهم متأخر عنه لتسببه وترتبه عليه ، والإرضاء المذكور مقدم على الظهور فيلزم تقدّمه على المراعاة التي هي جزاء له ، وهو المانع في هذا الوجه ، وهذا رد على جعلها حالأ منه كما ذهب إليه بعض المفسرين ، ونقله أبو البقاء رحمه الله وأشار إلى رذه وأما احتمال نفي القيد فتكلف لا داعي له. قوله : ( ولأن المراد إثبات إرضائهم الخ ( فالاستبطان الإخفاء في الباطن ، وهو من قوله وتأتي قلوبهم يعني أنّ بين الحالتين منافاة ظاهرة لأنّ حال الإرضاء بالأفواه فقط حالة إخفاء للكفر ، والبغض مداراة لهم ، وهذه حالة مجاهرة بالعداوة مناقضة لهذه الحال فلا وجه لتقييد إحداهما بالأخرى ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن المانع في الأوّل التقدم اللازم من الشرط ، والحالية تقتضي المقارنة والمانع في هذا أنّ بين الحالتين تضاذاً يأبى اجتماعهما وتقييد إحداهما بالأخرى لأنّ المراد بعدم المراعاة أنهم لا يبقون عليهم أي لا يرحمونهم ولا يرقون لهم في إيقاع المكروه بهم وهذه مجاهرة تنافي معنى تلك الحال فالمانع في نفس ما جعل الحال منه لا من خارج وهو الشرط فاعرفه فإن الفرق بين الوجهين خفيّ ، وقد وقع للمحشي هنا كلام معقد لم ينتج شيئا فتركته لقلة جدواه. قوله : ( متمرّدون لا عقيدة تزعهم الخ ( إشارة إلى دفع ما يقال أنّ الكفر أقبح من الفسق فما معنى وصف الكفار في مقام الذم به ، وان الكفر فسق فما وجه إخراج البعض بقوله أكثرهم ، با! المراد بالفسق التمزد وارتكاب ما لا يليق بالمروءة مما يقبح حتى عند الكفرة ويجرّ المذمة ويجعل صاحبه أحدوثة كالغر والكذب ونحوه مما يتجنبه بعض الكفرة أيضا فلذا وصف به أكثرهم بعد تقرر كفرهم ، وتزعهم بالزاي المعجمة والعين المهملة بمعنى تكفهم وتمنعهم والرح قريب منه ، والتفادي التحامي والتباعد والأحدوثة ما يتحذث به من القبائح مما اشتهر. قوله : ( استبدلوا بالقرآن الخ ) يعني أنه استعارة تبعية تصريحية ، ويتبعها مكنية وهي تشبيه الآيات بالمبتاع ، أو مجاز مرسل
باستعمال المقيد وهو الاشتراء في المطلق وهو الاستبدال كالمرسن ، ولذا تعذى إلى الثمنية بنفسه وأدخلت الباء على ما وقع في مقابلته وقد مرّ الكلام فيه مفصلاً ، وقوله : ( بالقرآن ) قيل أو التوراة إن أراد بالذين كفروا اليهود وكان ينبغي له ذكره لما سيأتي قريبا. قوله : ( بحصر الحجاج ) أي بحبسهم ومنعهم(4/303)
ج4ص304
والحجاج جمع حاج والعمار جمع عامر ، وهو الذي يأتي بالعمرة ويصح أن يريد به المجاورين بالحرم ، والذين يعمرونه مطلقاً دمان أريد بالسبيل الدين فهو مجاز وإن أريد به سبيل البيت فهو حقيقة ، وفي الكلام مضاف مقدر أو النسبة الإضافية متجوّز فيها ، وفي قوله الحجاج والعمار إشارة إلى أن صذ بمعنى مغ متعذ يقال صذه عن كذا إذا صرفه وقد يكون لازمأ بمعنى أعرض.
قوله : ( ساء ما كانوا يعملون عملهم هذا الخ ) يجوز في ساء أن تكون على بابها من التعدي ، ومفعولها محذوف أي ساءهم عملهم الذي كانوا يعملونه وأن تكون جارية مجرى بض فتحوّل إلى فعل بالضم ويمتنع تصرفها وتصير للذم ، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً وكلام المصنف رحمه الله ظاهر في الثاني فالمخصوص محذوف أي ساء العمل ما كانوا يعملون واليه الإشارة بقوله عملهم ، أو هو تفسير لقوله ما كانوا يعملون والمراد بيان محصل المعنى لا إن ما مصدرية فإنها تحتمل الموصولية والمصدرية ، وعليهما فالمراد به ما مضى من صدهم عن سبيل الله وما معه واليه الإشارة بقوله هذا أو المراد به ما تضمنته الجملة المذكورة بعده فتكون لأجل التفسير فلا تكون مكرّرة. قوله : ( قهو تفسير لا تكرير الخ ( بخلافه على الأوّل فإنه تكرير للتأكيد أو ليس بتكرير لما سيذكره بقوله ، وقيل الخ ولما في التفسير إلا آخر من خلاف الظاهر وتفكيك الضمائر لكون السوابق واللواحق للمشركين الناقضين آخره ، وفي المدارك ولا تكرار لأن الأوّل على الخصوص لقوله فيكم ، والثاني على العموم لقوله في مؤمن لشموله لمن سيؤمن من بعد نزول الآية ، وقوله : ) في الناقضين ) أي الناكثين للعهد والإعراب الذين جمعهم أبو سفيان رضي الله عنه للاستعانة بهم على حرب النبيّء!ييه فالثمن القليل لمقام أبي سفيان رضي الله عنه ، وقوله عن الكفر لم يقل ونقض العهد لاستلزامه له. قوله : ( اعتراض للحث الخ ) أي جملة معترضة بين فإن تابوا وان نكثوا للتأكيد لما اعترضت فيه ، ويعلمون منزل منزلة اللازم ، أو مفعوله مقدر أي يعلمون ما فصلناه ، وفي قوله ( على تأمل الخ ( إشارة لأنّ
العلم كناية عن التفكر والتدبر أو بجاز بعلاقة السببية لأنّ المقصمود حثهم على التفكر في تأمل آيات الله وتدبرها ، وقوله وخصال التائبين وقع في بعض النسخ أو بد! الواو والأولى أولى. قوله : ( وإن نكثوا ما بايعوا عليه الخ ( يعني أن النكث شامل للرذة ونقض العهد فيجوز أن يفسر بكل منهما كما ذهب إليه بعض المفسرين وصاحب الكشاف جمع بينهما ، وله وجه ورجح ما فعله المصنف رحمه الله بأن كلأ منهما سبب للقتل ولا حاجة إلى ضمهما. قوله : ) وطعنوا في دينكم بصريح التكذيب الخ ( إنما اشترط صريح التكذيب والتقبيح لأنّ كل كافر أصليّ أو مرتد لا يخلو من تكذيب له وتقبيح ، لكن الذي يوجب قتله إكلانه بذلك لأنّ ابن المنير رحمه الله قال في تفسيره لو طعن الذمي في ديننا مع أهل دينه وتستر فإذا بلغنا ذلك كان نقضا للعهد ، وهذا أحسن من قولهم يقتل للطعن لأنه نقض العهد وجاهر به وهو مخالف لما قاله المصنف رحمه الله إلا أن يعمم التصريح بما يشمل تصريحه لأهل دينه ، فإن قلت كان الظاهر أو طعنوا لأنّ ما قبله على التفسيرين كاف للقتل والقتال ، قلت : النقض بالقول ولا بد منه حتى يباج القتل وتخصيص الإظهار ربما كان قوليا ليعلم منه ما كان بالفعل بالطريق الأولى ، ولما كان السياق لبيان نقض العهد قولاً وفعلاً لم يكن في الآية دلالة على أنّ الذمي إذا طعن في الدين ، ومن الطعن في الدين سب النبيّ ىلمج!رو ينتقض عهده ويباج قتله ، وأيضا صريح الآية أنه إذا وجد منه نقض العهد أو الرذة مع الطعن قتل ، فكيف تدل على القتل بمجرّد الطعن ، وقال الجصاص في أحكام القرآن إنّ الآية تدل على أن أهل الذمة ممنوعون من إظهار الطعن في دين الإسلام وهو يشهد لقول من قال من الفقهاء إنّ من أظهر شتم النبيئ !ي! من أهل الذمة فقد نقض عهده ووجب قتله ، وقال أصحابنا يعزر ولا يقتل ، وهو قول الثوري والمنقول عن مالك والشافعيّ ، وهو قول الليث قتله وأفتى به ابن الهمام رضي الله عنه كما في شرح الهداية وفيه كلام مفصل في الفروع ، والحاصل أنه كان الظاهر أن يقول أو طعنوا لأن كلاً منهما كاف في استحقاق القتل والقتال ، وكون الواو بمعنى أو يفيد أنّ الطعن نقض العهد فهو من عطف الخاص(4/304)
ج4ص305
على العامّ ، ولا يكون إلا بالواو واعلم أنّ للطعن موقعا لطيفاً مع القتال وبه اقتديت بقولي من قصيدة : ولطعن ذبا موقع لم يصل له سواعد مدتها الوغى بيد السمر
قوله : ( فوضع أئمة الكفر الخ ) يعني المراد بأئمة الكفر مطلق المشركين ، ووضع فيه الظاهر موضع الضمير وسموا أئمة الكفر لأنهم صاروا بكفرهم رؤساء متقدميين على غيرهم في زعمهم ، والتقدم بالجر معطوف على الرياسة ، وأحقاء منصوب خبر بعد خبر لصار ، أو المراد
رؤساء الكفر وتخصيصهم لأنهم أهئم لا لأنه لا يقتل غيرهم. قوله : ( أو للمنع من مراقبتهم ( فيه نظر وقيل المراد مراقبة الآذ والذمة ، وأنّ قوله للمنع عطف بحسب المعنى على المفهوم من الكلام أي لرياستهم أو للمنع الخ ، أو على قوله : لأن قتلهم أهمّ ، والأوّل أولى معنى ، والثاني أنسب لفظاً ، وتخصيص القتل بالرؤساء لا ينافي وجوب قتل غيرهم كما أشار إليه المصنف رحمه الله. والظاهر أنه يشير إلى ما في الكشاف ، يعني أن تخصيص المقاتلة بهم لأنّ قتلهم أهم أو ليمتنعوا عما هم عليه ويرجعوا إلى الحق. قال في تفسيره : أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من ا إحظائم أن تكون المقاتلة سب جما في انتهائهم عما هم عليه وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد اهـ فهو معطوف على قوله لأن من غير احتمال لغيره ، أو هو راجع إلى تفسير النكث بالردّة ، والمراد أنه لا يقبل توبتهم فتدبر. قوله : ) بتحقيق الهمزتين على الأصل والتصريح بالياء لحن ( تبع فيه الزمخشري وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بهمزتين ثانيهما بين بين ولا ألف بينهما ، والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عارم بتحقيقهما من غير إدخال ألف ، وهشام كذلك إلا أنه أدخل بينهما ألفاً هذا هو المشهور بين القراء السبعة ، ونقل أبو حيان عن نافع المد بين الهمزة والياء فأما قراءة التحقيق وبين بين فضعفها جماعة من النحويين الفارسي ، ومنهم من أنكر التسهيل بين بين وقرأ بياء خفيفة الكسرة ، وأما القراءة بالياء فارتضاها الفارسي وجماعة ، والزمخشرقي جعلها الحنا ، وخطأه أبو حيان رحمه الله فيه لأنها قراءة رأس النحاة والقراء أبي عمرو وقراءة ابن كثير ونافع ، وأما الاعتذار عنه بأن مراده أنها غير ما عند البصريين ولا حرج على الناقل ، فلا وجه له لأنه مع القراءة بها من يكون البصري أو الكوفي فإنها صحيحة رواية ودراية ، وأما الاعتذار بأن مراده بكونها لحنا أنه لم يقرأ بها في السبعة كما ذكره في التيسير ، فلا يناقض كلامه في الكشاف قوله : في المفصل إذا اجتمعت همزتان في كلمة ، فالوجه قلب الثانية حرف لين كما في آدم وأيمة ، لأنه حكاية قول النحويين لا القراء فخطأ أيضاً ، لما عرفت أنه مذهب صحيح للقراء ولا يضر كونه لم يثبت من طريق التيسير. ووزن أئمة أفعلة كحمار وأحمرة وأصله أئممة فنقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت ، ولما ثقل اجتماع الهمزتين فرّوا منه بإبدالها أو تخفيفها ، أو إدخال ألف للفصل بينهما ففيها خمس قرا آت اتفق عليها الأربعة عشر تحقيق الهمزتين ، وجعل الثانية بين بين بلا إدخال ألف وبه ، والخامسة بياء صريحة وكلها صحيحة لا وجه لإنكارها وتفصيلها في النشر. قوله : ( على الحقيقة الخ أليس المراد بالحقيقة ما يقابل بل المجاز بل المراد معناه اللغوي ، وهو ما تحقق وثبت أي ليست جبلتهم وما خلقوا عليه أمراً ثابتا لأنهم نقضوها ولم يفوا بها ، وان كانت يمينا في الشرع عند الشافعية ، وعند أبي حنيفة يمين الكافر ليست يمينا معتداً بها شرعا ، فالنفي عنده على الحقيقة بمعناه المتبادر منها ، وثمرة الخلاف إنه
لو أسلم بعد يمين انعقدت في كفره ثم حنث هل تلزمه ا. رة فعند أبي حنيفة لا تلزمه الكفارة ، وعند الشافعيّ رضي الله تعالى عنه تلزمه ، واستدلّ بأنه تعالى وصفها بالنكث بقوله : { وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم } والنكث لا يكون حيث لا يمين ، والجواب بأنّ ذلك باعتبار اعتقادهم أنه يمين ليس بشيء لأنّ الإخبار من الله والخطاب للمؤمنين ، فإن قيل الاستدلال بالنكث على اليمين إشارة أو اقتضاء ، ولا أيمان لهم عبارة فتترجح قيل : بل يؤوّل جمعأ بين الأدلة وفيه نظر لأنه إذا كان لا بذ من التأويل في أحد الجانبين فتأويل غير الصريح أولى ، وبما قرّرنا به كلامه سقط ما قيل في تقريره إنه أراد ففي الاعتداد بها لا نفي أصلها ، وان كان هو المتبادر بخلاف كلام الزمخشري فإنه لنفي أصلها فكان(4/305)
ج4ص306
الأولى أن يعبر بما هو صريح في مراده ليوافق استدلاله الآتي. توله : ( وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده ) قد مرّ الكلام فيه ، وقد قيل عليه إنه ليس في محله ، ومحله بعد قوله : { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } وفي الدلالة على كل حال بحث ( قلت ) هنا ناشئ من عدم تدبر كلامه فإنه لا يتم الاستدلال إلا بعد بيان أن أيمانهم لا يعتد بها من جهة عدم الوفاء إذ لو وفوا بها لم يكن منهم طعن ولا نقض للعهد ، وهو يفيد تلازمهما بحيث يكون الطعن نقضاً للعهد فيصير سببا مستقلا ، ولولاه لم تدل على ذلك لأنها تدلّ على أنها بمجموعها سبب لا كل واحد منهما وبه سقط بحثه من حيث لا يدري فتدبر. وفي قوله : والا لما طعنوا دخل لأنه أدخل اللام في جواب إن الشرطية وهو خطأ لكنه مشهور في عبارات المصنفين كما في شرح المغني ( وعندي ) أنه ليس بخطأ لأنّ المراد والا فلو كان لهم أيمان لما طعنوا الخ كما هو المعروف في تمهيد الاستدلال فاللام واقعة في جواب لو المحذوفة للاختصار ولا ضير فيه ، وقوله : واستشهد به الحنفية الخ مرّ تحقيقه ، وقوله : الوثوق عليها ضمته معنى الاعتماد ولذا عداه بعلى. قوله : ) وقرأ ابن عامر لا إيمان الخ ( أي قرأه بكسر الهمزة فإما أن يكون بمعنى الإيمان المرادف للإسلام ، أو بمعنى الأمان على أنه مصدر آمنه إيمانا بمعنى أعطاه الأمان ، فاستعمل المصدر بمعنى الحاصل بالمصدر وهو الأمان ، ولو أبقى على أصل معناه صح أيضا ، وإنما نفى عنهم لأن مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام أو السيف. قوله : ( وتشبث به الخ ) أي تمسك به ووجه التمسك إنه نفي إيمان من نكث والمرتد ناكث ، ونفيه مع أنه يقع منه نفي للاعتداد به وصحته ، ووجه ضعفه أنه ليس نصا فيما ذكر لاحتمال معان أخر ، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال لأنه يحتمل نفي الأمان عن المشركين حتى يسلموا أو نفي قوم معينين في المستقبل ، وأنه طبع على قلوبهم فلا يصدر منهم إيمان
أصلا ، أو يكون المراد أن المشركين لا إيمان لهم حتى يراقبوا ويمهلوا لأجله ، يعني أنّ المانع من قتلهم أحد أمرين إما العهد وقد نقضوه ، أو الإيمان وقد حرموه ، وبهذا سقط ما قيل أن وصف أئمة الكفر بأنهم لا إسلام لهم أو لا إيمان تكرار مستغنى عنه. وقوله : اليكن الخ ( مز تقريره وإيصال الأذية افتعال أو إفعال مضمن معنى إلصاق 0 وقوله : ليكن غرضكم الخ إشارة إلى أن الترجي من المخاطبين لا من اللّه. قوله : ( تحريض على القتال لأنّ الهمزة دخلت على النفي للأنكار الخ ) في نسخة المبالغة في الفعل ، وفي نسخة في القتال ، وهما بمعنى لأنّ مقصوده أن الاستفهام فيه للإنكار ، والاستفهام الإنكاري في معنى النفي ، ونفي النفي إثبات على أبلغ وجه ، وآكده لأنه إذا كان الترك مستقبحا منكراً أفاد بطريق برهاني إنّ إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه فيفيد الحث والتحريض عليه ، وعدل عن قوله في الكشاف دخلت الهمزة على لا تقاتلون تقريراً بانتفاء المقاتلة ، ومعناه الحض عليها على سبيل المبالغة لأنه قيل عليه إنّ التقرير له معنيان الحمل على الإقرار ويتعدى بالباء كما في الصحاح ، والتثبيت بمعنى جعله قاراً ثابتأ في قراره ، ويتعدى باللام ، والظاهر هنا الثاني لكن تعديته بالباء تقتضي خلافه ، ودفع بأنا لا نسلم أنّ المعنى على الثاني لأنّ المراد الحمل على الإقرار بأنهم لا يقاتلون قصداً إلى التحريض على القتال ، ومنهم من قال أنّ الباء لتقرير معنى التصديق ولا يخفى سماجته ، ومنهم من قال : أنّ التقرير بمعنى التثبيت يتعذى بالباء أيضا يقال : فز بالمكان ورد بأنه لا نزاع في أنه يستعمل بالباء وهي بمعنى في لكنها تدخل على موضعه ، ومحل الاستقرار لا على المستقرّ كما هنا فتأمّل. وبكر حلفاء قريش ، وخزاعة حلفاء النبيئ ع!ييه. قوله : ) حين تشاوروا في أمره بدار الندوة الخ ) قد مرّت القصة مفصلة ، والواقع فيها الهتم بالإخراج لا الإخراج ، وإنما خرج بنفسه !اذن الله له ، فإن قيل : إن أريد ما وقع في دار الندوة من الهم فهو بالإخراج أو الحبس أو القتل فليس الهئم فيها بالإخراج فقط ، والذي استقز رأيهم عليه هو القتل لا الإخراج فما وجه التخصيص ، قلت تخصيصه لأنه هو الذي وقع في الخارج ما يضاهيه مما يترتب على همهم وان لم يكن بفعل منهم ، بل من الله لحكمة ومن عداه لغو ، فخص بالذكر لأنه هو المقتضي للتحريض لا غيره مما لم يظهر له أثر ، وقيل : إنه اقتصر على الأدنى ليعلم غيره بطريق أولى ولا يرد عليه إنه ليس بأدنى من الحبس كما توهم لأن بقاءه(4/306)
ج4ص307
موثقا في يد عدوّه المقتضي للتبريح بالجوع والتهديد أشد منه بلا شبهة ، وكونهم اليهود يأباه السياق وعدم القرينة عليه ، ولذا
مرضه. قوله : ( بالمعاداة والمقاتلة ) قال الإمام : يعني بالقتال يوم بدر لأنهم حين سمع العرب بالخروج للعير ، قالوا : لا نرجع حتى نستأصل محمدأ أو ندمغه ، أو قتال حلفاء خزاعة وهذا قول الأكثرين ، وتركه المصنف رحمه الله لما فيه من التكرار. قوله : ( أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم الخ ) يعني أنه أقيم فيه السبب مقام المسبب والعلة مقام المعلول لأن المنكر في الحقيقة ترك القتال لخوف العدوّ ، والله أحق أن تخشوه ، في إعرابه وجوه فقيل الله أحق مبتدأ وخبر ، وأن تخشوه بدل من الجلالة ، أو بتقدير حرف جر أي بأن تخشوه ، وقيل : أن تخشوه مبتدأ خبره أحق والجملة خبر اللّه. قوله : ( فإن قضية الإيمان أن لا يخشى إلا منه ( القضية هنا بمعنى المقتضي أي مقتضي إيمان المؤمن الذي يتحقق أنه لا ضاز ولا نافع إلا الله ، ولا يقدر أحد على مضرّة ونفع إلا بمشيئة الله أن لا يخاف إلا من الله ، ومن خاف الله خاف منه كل شيء ، والحصر من حذف متعلق أحق المقتضي للعموم ، أي أحق من كل شيء بالخشية فلا ينبغي أن يخشى سواء. قوله : ( أمر بالقتال بعد بيان موجبه ) وهو كل واحد من الأمور الثلاثة فكيف بها إذا اجتمعت ، والتوبيخ من قوله : ألا تقاتلون وأتخشونهم ، والتوعيد من قوله : { فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } لأنّ معناه لا تتركوا أمره كما مرّ ، وقدم النصر وان تأخر لفظا لتوقفهما عليه. قوله : ( والتمكن من قتلهم وإذلالهم ) إشارة إلى أنّ اللازم للمقاتلة ذلك ، ويحتمل أنه إشارة إلى أنّ إسناده إلى الله مجاز لأنه الذي مكنهم منه وأقدرهم عليه ، وقيل إنّ قوله : بأيديكم كالتصريح بأنّ مثل هذه الأفعال التي تصلح للباري فعل له ، وإنما للعبد الكسب بصرف القوى والآلات وليس الحمل على الإسناد المجازي بمرضيّ عند العارف بأساليب الكلام ، ولا الإلزام بالاتفاق على امتناع كتب الله بأيديكم ، وكذب الله بألسنة الكفار بوارد لما مرّ مراراً أن مجرّد خلق الفعل لا يصحح إسناده إلى الخالق ما لم يصلح محلاً له ، وامتناع ما ذكر احتراز عن شناعة العبارة إذ لا يقال يا خالق ألفاذورات ولا المقدر للزنا والممكن منه ، ولا يخفى ما فيه فإنه تعالى لا يصلح محلاً للقتل ولا للضرب ونحوه مما قصد بالإذلال ، وإنما هو خالق له ، والفعل لا يسند حقيقة إلى خالقه وان كان هو الفاعل الحقيقي للفرق بينه وبين الفاعل اللغوي : إذ لا يقال كتب الله بيد زيد على أنه حقيقة بلا شبهة مع أنه لا شناعة فيه ، لقوله : كتب الله فما ذكره غير مسلم. قوله : ( يعني بني خزاعة الخ ( هم حلف رسول الله لمجب! الذين عاهدوا قريثاً عام الحديبية على أن
لا يعيثوا عليهم بني بكر ، وكان فيهم قوم مؤمنون ، وقوله : وقيل بطوناً هو منصوب بيعني مقدّراً ، والبطن فرقة من القبيلة كما مرّ ، وسبأ مهموز كجبل يصرف ، ولا يصرف اسم بلدة بلقيس ، ولقب عبد شمس بن يعرب مجمع قبائل اليمن ، وهذا بناء على أن المراد بقوم مؤمنين قوم بأعيانهم ، ولو حمل على العموم صح لأنّ كل مؤمن يسرّ بقتل الكفار. وقوله : أبشروا من الإبشار بمعنى التبشير والفرج القريب فتح مكة ، ويدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنهما إنّ قوله تعالى { أَلاَ تُقَاتِلُونَ } الخ ترغيب في فتح مكة وأورد عليه أن هذه السورة نزلت بعد الفتح فكيف يكون هذا تركيباً في فتحها.
وأجيب بأنّ أوّلها نزل بعد الفتح وهذا قبله ، وفائدة عرض البراءة مت عهدهم مع أنه
معلوم من قتال الفتح ، وما وقع فيه الدلالة على عمومه لكل المشركين ومنعهم من البيت وقوله : ( والآية من المعجزات ( أي لما فيها من الأخبار عن الغيب فهي من إعجاز القرآن الدال على تصديق النبيّ عش!ر ، ولو قال فالآية لكان أولى. قوله : ( ابتداء إخبار الخ ) أي بعض المشركين يتوب الله عليه فيترك كفره كما وقع ذلك ، وقراءة النصب بإضمار أن ونصبه في جواب الأمر وهذه قراءة أبي عمرو في رواية عنه ويعقوب ، قال الزجاج : وتوبة الله على من يشاء واقعة قاتلوا أو لم يقاتلوا ، والمنصوب في جواب الأمر مسبب عنه فلا وجه لإدخال التوبة في جوابه ، فلذا قال بعضهم : إنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم فإذا قاتلوا جرى قتالهم مجرى التوبة من تلك الكراهية ، فيصير المعنى إن تقاتلوهم يعذبهم الله ويتب عليكم(4/307)
ج4ص308
من كراهة قتالهم ، والذي يظهر أنّ التوبة للكفار والمعنى أن قتالهم كان سبباً لإسلام كثير منهم لما رأوا من نصر المؤمنين وعز الإسلام من غير تكلف واليه أشار المصنف رحمه الله فلا حاجة إلى ما قاله ابن جني من أنه كقولك إن تزرني أحسن إليك وأعط زيداً كذا ، على أن المسبب عن ذلك جمع الأمرين لا أن كل واحد مسبب باستقلاله فإنه تعسف ، والمعنى الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى هو الذي في قوله تعالى : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( 1 ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ( 2 ) فَسَبِّحْ } [ سورة الفتح ، الآية : أ- 2 ، وقوله من جملة ما أجيب به الأمر ، أي بإجراء المنصوب مجرى المجزوم على عكس فأصدق وأكن ، لأن جواب الأمر كما يجزم ينصب بعد الفاء فيعطف منصوب على مجزوم ، وعكسه على الفرض! والتقدير وهو
المسمى بعطف التوهم ، وما قيل إنّ قراءة الرفع على مراعاة المعنى حيث ذكر مضارع مرفوع بعد مجزوم هو جواب الأمر ، ففهعم منه أنّ المعنى { وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء } على تقدير المقاتلة لما يرون من ثباتكم وضعف حالهم ، وعلى قراءة النصب فمراعاة للفظ إذ عطف على المجزوم منصوب بتقدير نصبه فهو مما لا وجه له ، ولا ينبغي أن يصدر عنه فإنه على الرفع مستأنف لا تعلق له بما قبله. قوله : ( خطاب للمؤمنين الخ ( الشاملين لهلمخلصمين والمنافقين لكراهة بعض منهم ذلك المنافقين وإنما عممه ليناسب ما بعده ، وأم المنقطعة بمعنى بل والهمزة والإضراب فيها للانتقال من أمر إلى آخر ، وجعل الأوّل كأنه لم يذكر ، والحسبان بكسر الحاء مصدر حسبه بمعنى ظنه ، وبضمها مصدر حسب بمعنى عد ، والإضراب هنا عن أمرهم بالقتال إلى توبيخهم على الجبن ، وقوله ومعنى الهمزة أي المقدّرة مع بل. قوله : ( ولم يتبين الخلص منكم ( إشارة إلى أنّ لما كلم نافية ، وبينهما فرق مذكور في النحو ، وهذا بيان لمعنى النظم كما في الكشاف بعينه ، وفي الكشف إنه يخالف بظاهره أوّله آخره لدلالة أوّله ، على أن العلم مجاز عن التمييز ، والتبيين يعني مجازا مرسلا باستعماله في لازم معناه ، وآخره على أنه كناية عن نفي المعلوم ، أي لم يوجد ذلك إذ لو وجد كان معلوماً له تعالى فهو نفي له بطريق برهاني بليغ ، وأجاب بأنه إشارة إلى أنه استعمل لنفي الوجود مبالغة في نفي التبيين ، وما ذكره أوّلاً حاصل المعنى وذلك لأنه خطاب للمؤمنين إلهابا لهم وحثا على ما حضهم عليه ، بقوله : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ } فإذا وبخوا على حسبان أن يتركوا ، ولم يوجد فيما بينهم مجاهد مخلص دذ على أنهم إن لم يقاتلوا لم يكونوا مخلصين ، وأن الإخلاص إذا لم يظهر أثره بالجهاد في سبيل الله ومضاذة الكفار كلا أخلاص ، ولو فسر العلم بالتبيين مجازاً لم يفد هذه المبالغة ، اهـ ولذا قيل : لم يرد به تفسير الآية على أن يكون الخلص منصوبا مفعولاً ليتبين ، فإنه يتعذى كبين تقول : بينت الأمر فتبين أي عرفته لمنافاته ما سيجيء ، ومن غيرهم متعلق به لتضمنه معنى الامتياز. قوله : ( من حيث أن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه ) قيل : قوله في الكشاف المعنى أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلص منكم ، يقتضي أن تصرف المبالغة إلى الثبوت ، يعني أن المعنى على التوبيخ والإنكار ، فنفى العلم في التحقيق إثبات له على وجه الإنكار ، وإذا أريد بالعلم المعلوم يكون مبالغة في ثبوت المعلوم لأنّ العلم كالبرهان على المعلوم من حيث أن قوله مستلزم على صيغة الفاعل ، وأما إذا حمل المبالغة على المبالغة في النفي ، فظاهره غير مستقيم لأنّ انتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء اللازم إلا بعد المساواة وحينئذ هو لازم فلا وجه للتعبير بالملزوم إلا أن يقرأ مستلزم بفتح الزاي ، لكنه خلات الظاهو ،
والمعروف في الاستعمال وقد تابعه من بعده وقد قيل أيضاً : إنّ مراد المصنف رحمه الله تعايى إن نفي العلم دليل على عدمه ، والمذكور هو الأوّل وعلى هذا فالوجه أن يقال : من حيث أن نفي علم الله مستلزم لعدمه ، إذ لو لم يكن معدوماً وجب علم الله به لإحاطة علمه بجميع الأشياء اهـ ( وعندي ( أن هذا كله تعسف غير محتاج إديه ، أنّ قول صاحب الكشاف ليس إشارة إلى أنّ المبالغة في الإثبات ، بل إشارة إلى أن منفي لما متوقع على شرف الوقوع كما صزج به ، وأمّا ما استصعبوه فأمر هين لأنّ معنى كلامه أنه نفي العلم في الآية ، وأريد نفي المعلوم فمعناه لم يجاهدوا على أبلغ وجه ، لأنه برهاني إذ لو وقع جهادهم علمه الله إذ تعلق علم الله بشيء يقتضي وقوعه ويستلزمه ، والا لم يطابق علمه الواقع وهو محال كما(4/308)
ج4ص309
أنّ عدم علمه به واقعاً يقتضي عدم وقوعه إذ لو وقع وقع في الكون ما لا يعلمه وهو محال أيضاً ، وهو من باب الكناية واللزوم فيها معلوم فما الداعي إلى تحريف العبارة وتغييرها فتدبر.
قوله : ) عطف على جاهدوا ( وجوّز فيه الحالة أيضاً وفسر الوليجة بالبطانة لأنها من الولوج
وهو الدخول ، وكل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة ، ويكون للمفرد وغيره بلفظ واحد وقد يجمع على ولائج ، وما موصولة مبتدأ وفي لما صلته ومن بيان له وشبه خبره ، وافادة لما توتع الوقوع معروف في العربية. قوله : ( يعلم غرضكم منه الخ ) ضمير منه إمّا للجهاد أو لما ذكر وكونه يعلم الغرض منه يعلم من صيغة المبالغة ، ومقام التوعد والا فليس في النظم ما يدلّ عليه ، وما يتوهم من الآية هو أنه لا يعلم الأشياء قبل وقوعها كما ذهب إليه هشام ، واستدل بقوله : ( ولما يعلا الله ( ووجه الأزاحة أنّ تعملون مستقبل فيدل على خلاف ما ذكره وما كان نفيه يستعمل لنفي الصحة ، والجواز ونفي اللياقة كلا ينبغي ، وفسره به ليطابق الواقع فإنهم عمروها ولذا قدره بعضهم بأن يعمروا بحق ، وهو مشهور بهذا المعنى حتى صار حقيقة فيه فلا وجه لحمله على ظاهره كما قيل. قوله : ( شيئاً من المساجد الخ ) يعني أنه جمع مضاف فيعم في سياق النفي ويدخل فيه المسجد الحرام دخولاً أوّليا إذا نفى الجمع يدل على النفي عن كل فرد فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية ، وما مرّ في البقرة من أنّ الكتاب أكثر من الكتب مبنيّ على أنّ استغراق المفرد أشمل وقد مز ما فيه. قوله : ( وقيل هو المراد الخ ( يعني المراد من مساجد الله المسجد الحرام ، وعبر عنه بالجمع لما ذكر أو لأنّ كل موضع منه مسجد ، ولم يحمل على العموم والجنس لأنّ الكلام فيه. وقوله : ( وإمامها ( بكسر الهمزة
جعل المسجد الحرام كالإمام للمساجد لتوجه محاريبها إليه توجه المقتدي لجهة إمامه فيكون التعبير عنه بالجمع مجازأ علاقته ما ذكر ، وأما فتح همزة أمامها فركيك مفوّت للمبالغة ، والمعنى الذي قصده المصنف رحمه الله فلا تغتر بمن قال : إن معناهما واحد. قوله : ( بإظهار الشرك وتكذيب الرسول لمجرو ( يعني أنّ شهادتهم على أنفسهم مجاز عن الإظهار ، لأنّ من أظهر فعلآ فكأنه شهد به على نفسه وأثبته لها ، وقوله : ) حال من الواو ) أي في يعمروا ، وقوله : بين أمرين متنافيين لأن عمارة المتعبدين تصديق للمعبود بعبادته فينافيه الكفر بذلك. وقيل : إن الشهادة على ظاهرها والمراد قولهم كفرنا بما جاء به ونحوه ، والمصنف رحمه الله لما رأى أن حقيقة الشهادة بما تكون على الغير وهذا الوجه أبلغ وأدق اقتصر عليه. وقوله : ( روي أنه لما أسر الخ ( ) 1 ( أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقوله : ) نحجب الكعبة ( أي نخدمها ونكون بوابين لها وليس المراد نكسوها كما قيل ، لا! الحاجب اشتهر بمعنى البوّاب وجمعه حجبة. والحجيج جمع أو اسم جمع للحاج وفك العاني بمعنى إطلاق الأسير وفك الرقبة اعتاقها وقوله فنزلت أي الآية ما كان للمشركين الخ. وهذا يقتضي أنّ العباس رضي الله عنه لم يكن حينئذ مسلما وفيه كلام. وقوله : بما قارنها متعلق بحبطت ، وجملة { وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } عطف على جملة ( حبطت ) على أنه خبر آخر لأولئك وهم فصل يفيد الحصر فيهم دون عصاة المؤمنين. وقوله : لأجله أي لأجل الشرك لأنه سبب الخلود فيها وفيه رذ على الزمخشري في جعله الأعمال بمعنى الكبائر على الاعتزال. قوله : ( إنما تستقيم عمارتها الخ ( تستقيم بمعنى تصح فإن الذي تصح منه ويمكن من العمارة سواء كانت بالمكث فيه للعبادة أو بالبناء ، والفرش رنحوه من حاز الكمال العلمي والعملي وهو كناية عن الإيمان الظاهر ، فإنه يكون بالتصديق
بما ذكر واظهاره وتحققه شرعا بإقامة واجباته ، فلا يقال إن توقفه على الإيمان بالله واليوم الآخر ظاهر ، وأما توقفه على ما بعده خصوصاً الزكاة فغير ظاهر ، ويتكلف له بأنّ مقيم الصلاة يحضرها فتحصل به العمارة ، ومن لا يبذل المال للزكاة الواجبة لا يبذله لعمارتها ، وأنّ الفقراء يحضرون المساجد للزكاة فتعمر بهم فإنه تكلف نحن في غنية عنه : والصيانة ترك ما لا يليق بها كالحديث في المسجد فإنه مكروه ، ولا يرد عليه أن التصذق في المسجد مكروه لأنه لا يلزم من حضورهم فيه لأخذها أداؤها فيه.- قوله : ( وعن النبئ صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى الخ ( ) 1 ( هو حديث قدسيّ روي بمعناه من طرق ، لكن قال : ابن حجر رحمه الله : إنه لم يجده(4/309)
ج4ص310
هكذا في كتب الحديث وفي الطبرانيّ عن سلمان رضي الله عنه عن النبيءسفه " من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى إلى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره ، ) 2 ( وكان أصحاب النبيئ ىيخ!ه يقولون إنّ بيوت الله في الأرض المساجد وان حقا على الله أن يكرم من زاره فيها وله شواهد أخر. قوله : ( وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم الخ ( يعني كان الظاهر أن يقال : من آمن بالئه ورسوله-يخييه لكنه ترك للمبالغة في ذكر الإيمان بالرسالة دلالة على أنهما كشيء واحد إذا ذكر أحدهما فهم الآخر على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى الإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، ومن جملته رسالته ع!ز كما في فوله تعالى : { آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ } فليس رأى من ظن أن في الكلام دلالة على ذكره وليس فيه بيان الفائد في طيئ ذكره كما ظن في أنه لم يذكر فائدة الطي ، وقرينه مبتدأ خبره الإيمان ودلالته على ما ذكر بطريق الكناية. قوله : ( ولدلالة قوله وأقام الصلاة الخ ( فإن المفهوم المقصود منهما ليس إلا الأعمال التي أتى بها رسول الله ع!ه والإتيان بتلك الأعمال يستلزم الإيمان به إذ هي لا تتلقى إلا منه ، كما أن الإيمان بالمبدأ والمعاد كذلك فلا غبار عليه. قوله : ( أي في أبواب الدين الخ ( الخشية كالخوف وقد يفرق بينهما. والمحاذ يرجع محذور ، وقوله : فإن الخشية تعليل للتخصيص بأبواب الدين وجواب للسؤال الذي أورده في الكشاف فقال : فإن قلت كيف قيل ولم يخش إلا الله والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها ، قلت : هي الخشية ، والتقوى في أبواب الدين وأن لا يختار على رضا الله تعالى رضا غيره لتوقع مخوف ، ف!ذا اعترضه أمران أحدهما حق الله ، والآخر حق نفسه ، فحقه أن يخاف الله فيؤثر حق الله على حق نفسه ، وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم ، يعني
الششية المقصورة على الله هي الخشية في أمر الدين ، وعدم اختيار رضا الغير على رضا الله ، وقوله : بتمالك عنها أي يقدر على الامتناع عنها. قوله : ( ذكره بصيغة التوقع الخ ) قال النحرير : يعني أنّ المؤمنين وان ذكروا باسم الإشارة بعد التهذيب بأوصاف مرضية ترجب أن يكونوا من المهتدين إلا أنّ توسط كلمة عسى في هذا المقام يناسب أن تكون لحسم اً طماع الكافرين وعدم اتكال المؤمنين لا للأطماع وسلوك سنن الملوك مع كون القصد إلى الوجوب ، وقيل عليه الأوصاف المذكورة وان أوجبت الإهتداء ، ولكن الثبات عليه مما لا يعلمه غير الله والعبرة للعاقبة ، فإن وإن عد في الشرع اهتداء لكن قد يطرأ عليه العدم ، فكلمة التوقع يجوز أن تكون لهذا ، وما ذكره في فائدتها من قطع أطماع المشركين في حيز المنع وبيانه بأن هؤلاء مع كمالهم الخ. غير مسلم عندهم لزعمهم أنهم على الحق وغيره على الباطل. ( قلت ( ما ارتضاه وجهاً هو معنى قول المصنف رحمه الله ومنعا للمؤمنين الخ ، والنظر إلى العاقبة هنا لا يناسب المقام الذين يقتضي تفضيل المؤمنين عليهم في الحال ، ولذا لم يجعله المصنف رحمه الله وجهاً مستقلا بل ضميمة ، وأما زعم الكفرة أنهم محقون فلا التفات إليه بعد ظهور الحق ، فجعل إنكارهم بمنزلة العدم وبنى الكلام على الحقيقة كما في قوله : ( لا ريب فيه ) فتدبر. قوله : ( مصدر أسقي وعمر ) بالتخفيف لأن عمر المشدد إنما يقال في عمر الإنسان لا في العمارة وتشبيه المعنى بالجثة لا يحسن هنا فلذا احتيج إلى تقدير في الأوّل أو في الثاني ، وقوله ويؤيد الأوّل قراءة من قرأ سقاة بضم السين جمع ساق وعمرة بفتحتين جمع عامر فإنّ فيها تشبيه ذات بذات كما في الوجه الأوّل ، ويؤيده أيضا ضمير يستوون إذ على غيره يحتاج إلى تقدير لا يستوون في أعمالهم فيرجع إلى نفي المساواة بين الأعمال نفسها. قوله : ) والمعنى إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة الخ ) أشار إلى وجهي التقدير بالجمع بينهما ، وأنّ كلاً منهما مستلزم للأخر فلذا لم يعطف بأو ، وإن قيل إنها أولى وما ذكره بناء على الصحيح المختار من أنّ المفاضلة بين المسلمين والكفار كما يشهد له ظاهر النظم ، ومنهم من جعل المفاضلة بين المسلمين كما وقع في صحيح مسلم إنّ الآية نزلت في الصحابة رضي الله عنهم إذ قال بكلضهم لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج وآخر لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمر
المسجد الحرام ، وقال : آخر بعد الجهاد إلا أنه قيل إن قوله أعظم درجة(4/310)
ج4ص311
يؤيده لكن سيأتي ما يدفعه. قوله : ( أي الكفرة ظلمة الخ ) في قوله هداهم الله ووفقهم للحق إشارة إلى أنّ الهداية ليست مطلقة الدلالة لأنه لا يناسب المقام ، وقوله وقيل : المراد الخ لا يخفى ضعفه فإن من يسوّي إن لم يكن مسلماً فهو عين التفسير الأوّل ، وان كان مسلماً فلا معنى لصدور ذللث منه. قوله : ( اعلى رتبة وأكثر كرامة الخ ( يعني أنه إما استطراد لتفضيل من اتصف بهذه الصفات على غيره من المسلمين ، أو لضفضيلهم على أهل السقاية والعمارة ، وهم وان لم يكن لهم درجة عند الله جاء على زعمهم ومدعاهم ، وقوله : ) دونكم جار ( على الوجهين. قوله : ) نعيم مؤجمم دائم ( يعني أنّ المقيم استعارة للدائم قال أبو حيان رحمه اللّه : لما وصف الله المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة الرحمة والرضوان والجنة وبدأ بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه ولأنها أعم النعم وأسبقها ، كما أن الإيمان هو السابق ، وثنى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال ، ثم ثلث بالجنات في مقابلة الهجرة ، وترك الأوطان إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها بدلهم بدار الكفر الجنان والدار التي هي في جواره ، وفي الحديث الصحيح : " يقول الله سبحانه : يا أهل الجنة هل رضيتم فيقولون : كيف لا نرضى ، وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا ج!ك فيقول : لكم عندي أفضل من ذلك فيقولون ، وما أفضل من ذلك فيقو! أحل لكم رضاي فلا أمخط عليكم بعدها " ( 1 ( وقرأ حمزة يبثر بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين وا!فيف من الثلاثي وقوله وراء التعيين والتعريف يعني أنه للتعظيم ووجه دلالة التنكير على التعظيم ما ذكره ولا يخفى حسن تعبيره بأنه وراء ذلك ، وجعل المبشر هو الله فيه من اللطف بهم ما لا يخفى. قوله : ) أكد الخلود الخ ( يعني أنّ التأكيد هنا لدفع التجوّز لأن الخلود حقيقة طول المكث كما
قيل ، وقوله يستحقر دونه أي بالنسبة إليه عملهم الذي استحقوه به أو يستحقر عنده ما في الدنيا من النعيم. قوله : ( نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة الخ ) كذا أخرجه الثعلبيّ عن ابن عباص رضي الله عنهما أنه كان قبل فتح مكة لا يتم الإيمان إلا بالهجرة ، ومصارمة الأقارب الكفرة ، وقطع موالاتهم فشق ذلك عليهم فلما نزلت هذه الآية هاجروأ وجعل الرجل يأتيه أبوه أو أخوه أو ابنه فلا ينزله ولا يلتفت إليه ، ثم رخص لهم بعد ذلك ، وهذا يقتضي أنّ هذه الآية نزلت قبل الفتح ولا ينافي كون السورة نزلت بعد الفتح لأنّ المراد معظمها وصدرها فلا يرد قول الإمام الصحيح أن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكر ، وقال أبو حيان : لم يذكر الأبناء هنا لأنّ الأولياء أهل الرأي والمشورة والأبناء تبع ليسوا كذلك ، وذكروا في الآية الآتية لأنها في ذكر المحبة وهم أحب إلى كل أحد ، وقوله نزلت نهيا عن موالاة التسعة هذا مرويّ عن مقاتل ، وذكرهم في السير فإن قلت سبيل الله الجهاد فيصير المعنى جاهدوا في الجهاد قلت وجه بأنه ليس حقيقة فيه ، وقد يراد به غير ذلك كمخلصين وهو المراد. قوله : ( يمنعونكم عن الإيمان الخ ) تعليل للنهي ، وقوله لقوله : { إَنِ اسْتَحَبُّواْ } الخ بيان لوجه التفسير الثاني لأنه يشعر بالرذة بحسب الظاهر ، وقوله : ( اختاروه ) إشارة إلى أن تعدى استحب بعلى لتضمنه معنى ما ذكر مما يتعدّى بها وحرضوا بالضاد المعجمة من التحريض ، وهو الحت وبالصاد المهملة من الحرص وقع كل منهما في النسخ وهما متقاربان معنى والأولى أولى. قوله : ( بوضعهم الموالاة في غير موضعها ) هذا هو معنى الظلم لغة وهو صادق على المعنى الشرعي ، فإن كان المراد ومن يتولهم بعد النهي ، والتنبيه على قبحه فالظلم بمعنى التعدي والتجاوز عما أمر الله به وإن كان قبل ذلك أو مطلقا فهو بمعناه اللغوي ، ووجه وضعه في غير موضمعه تركه أخوانه في الدين إلى أعدائه ، وان كانوا أقرباء. قوله : ) أقرباؤكم الخ ) فذكره للتعميم والشمول وكون العشيرة من العشرة لأنها من شأنهم ، وأما كونها من العشرة فلكمالهم والعشرة عدد كامل أو لأن بينهم عقد نسب كعقد العشرة ، فإنه عقد من العقود ، وهو معنى بعيد لكن المصنف رحمه الله مسبوق إليه ، ونفاقها بفتح النون بمعنى رواجها والرواج ضد
الكساد. قوله : ( الحب الاختياري دون الطبيعي الخ ) المراد بالحب الاختياري هو إيثارهم وتقديم طاعتهم لا ميل الطبع فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه ولا يؤاخذ عليه ، ولا يكلف(4/311)
ج4ص312
لإنسان بالتحفظ عنه أي بالامتناع عنه ، وفي هذه الآية وعيد وتشديد لأنّ كل أحد قلما يخلص منها فلذا فيل إنها أشد آية نعت على الناس كما فصله في الكشاف. قوله : ( مواقعها ) بقاف بعدها عين مهملة أي موضع المحاربة التي تقع فيه ، وفي نسخة مواقفها بقاف بعدها فاء أي محل مصاف الحروب والوقوف لها وهما متقاربان. قوله : ( وموطن يوم حتين الخ ( تبع في هذا ما وقع في الكشاف من أنّ ظرف الزمان لا يعطف على المكان ولا عكسه لأنّ كلا منهما يتعلق بالفعل بلا واسطة ، وظاهر كلامه منعه مطلقاً ، وظاهر كلام أبي على الفارسي ومن تبعه جوازه مطلقا كما في قوله : { وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ سورة هود ، الآية : 99 ] وقيل لا منع من نسق زمان على مكان وبالعكس إلا أنّ الأحسن أن يترك العاطف في مثله فقد علّمت أنّ للنحاة فيه ثلاثة مذاهب ، وقال ابن المنير في البحر إنّ النحاة لم يعللوه وعلته أنّ الواو تقتضي الاشتراك في العامل ، وفي جهة البعدي لأن جهة بعدي الزمان غير جهة بعدي المكان ونسبتهما مختلفة ، وما قيل إنّ مراد الزمخشري إنه لا يجوز عطفه هنا لأنّ مواطن مجرورة بفي ، ويوم منصوب على الظرفية فلو كان معطوفاً عليه لجر مدفوع بأنّ العطف هنا على المحل لا على اللفظ فوجود في لا يضرّ ، وكذا كون ظرف الزمان ينتصب على الظرفية مطلقا ، وظرف المكان يشترط فيه الإبهام لا دخل له في منع العطف وان توهمه بعضهم ، فإن قلت كيف يقال زرتك في الدار- في يوم الخميس ، ولا يجوز تعلق حر في جرّ بعامل واحد بمعنى واحد بدون تبعية فضلا عن أن يحسن قلت إذا اعتبر التغاير الاعتباري في العامل بالاطلاق والتقييد كما مرّ في كلما رزقوا منها من ثمرة فاعتبار التغاير الحقيقي في الطرفين أولى بالجواز ، وهذه فائدة لم يذكروها في تلك المسألة ، وقال النحرير : ليس المراد أنه ليس بينهما مناسبة مصححة للعطف فإنه ظاهر الفساد بل إن كلا منهما يتعلق بالفعل بلا توسط عاطف كسائر المتعلقات لا يعطف بعضها على بعض ، وإنما يعطف على البعض ما هو من جنسه ، ولا يتعلق به استقلالاً نحو ضربت زيداً وعمرا وصمت يوم الجمعة ويوم الخميس ونحوه ، فلذا جعل من عطف المكان على المكان أو الزمان على الزمان بتقدير مضاف ، أو بجعل المواطن اسم زمان قياسا وان بعد عن الفهم ، ثم إنه في الكشاف أوجب انتصاب يوم حنين بمضمر ، وهو نصركم وأنه من عطف الجمل لا! إذ بدل من يوم حنين فيلزم كون زمان الإعجاب بالكثرة ظرف النصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لإيجاد الفعل ، وليقيد المعطوف بما يقيد به المعطوف عليه ، وبالعكس بحسب
الظاهر كاعجبني قيام زيد يوم الجمعة وقيام عمرو وعكسه ، ويوم حنين متقيد بزمان الإعجاب بالكثرة لأنّ العامل ينسحب على البدل ، والمبدل منه جميعا فكذا المواطن ، واللازم باطل إذ لا إعجاب بالكثرة في المواطن فاندفع ما قيل إنما يلزم لو كان المبدل منه في حكم النتيجة مع العاطف ليؤول إلى نصركم في مواطن كثيرة إذ أعجبتكم ، وليس كذلك إذ ما-له نصركم في مواطن واذ أعجبتكم ، ثم إنه على ما في الكشاف منع ظاهر مرجعه إلى أن الفعل في المتعاطفين لا يلزم أن يكون واحدا بحيث لا يكون له تعدد أفراد كضربت زيد اليوم ، وعمرا قبله وأضربه حين يقوم وحين يقعد إلى غير ذلك فلا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق المعطوف عليه بذلك ، ولا نسلم إنّ هذا هو الأصل حتى يفتقر غيره إلى دليل ، وأما ما يقال إنّ هذه النكتة تدفع أصل السؤال أيضا لأنّ الزمان إنما لم يعطف على المكان لو كان ذلك الفعل واحدا وليس بلازم لجواز تغاير الفعلين ففيه نظر اهـ وكله كلام منقح ، وهو زبدة ما في شرح الكشاف إلا دفعه الإيراد المذكور بجعل البدل قيدا للمبدل منه فإنه لا وجه له ، وهو تحامل على السائل غير مسموع. قوله : ( ويجوز أن يقدّر في أيام مواطن ( هكذا هو في صحيح النسخ ، ووقع في كثير منها ، ويجوز أن يقدر مواطن أيام وهو سهو من الناسخ فيكون عطف يوم حنين على منوال ملائكته وجبريل كأنه قيل نصركم الله في أوقات كثيرة وفي وقت إعجابكم بكثرتكم الخ ، ولا يرد عليه ما قيل إن المقام لا يساعد عليه لأنه غير وارد لتفضيل بعض الوقائع على بعض ، ولم يذكر المواطن توطئة ليوم حنين كالملائكة إذ ليس يوم حنين بأفضل من يوم بدر وهو فتح الفتوح وسيد(4/312)
ج4ص313
الواقعات وبه نالوا القدج المعلى ، والدرجات العلى لأنّ القصد في مثله إلى أن ذلك الفرد فيه من المزية ما صيره مغايرا لجنسه لأن المزية ليس المراد بها الشرف ، وكثرة الثواب فقط حتى يتوهم هذا بل ما يشمل كون شأنه عجيباً ، وما وقع فيه غريبا للظفر بعد اليأس والفرج بعد الشدة إلى غير ذلك من المزايا فإن قلت لم منعه هنا ، ولم يمنعه في سورة هود في قوله : { فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ سورة هود ، الآية : 99 ] قلت فسرهما هناك بالدارين إشارة إلى أنهما ظرفا مكان تاويلا وهذا لا يتأتى هنا فتدبر. قوله :
( ولا يمنع إبدال قوله إذا أعجبتكاً الخ ) هذا رذ على ما ذهب إليه في الكشاف من أنه مانع على تقدير جواز عطف أحد الظرفين على الآخر إلا أن يقدر منصوبا باذكر مقدراً ، وقد علمت أنه لا وجه له وما أراد المنصف رحمه الله ، وتحقيقه ويعلم مما قدمناه وقوله : ( فيما أضيف إليه ) المعطوف يعني الإعجاب بالكثرة ، والمضاف إليه إذ ولكونه بدلاً مقصوداً بالنسبة جعله معصوفا أو المراد بالإضافة التقييد. قوله : ( وحنين واد بين مكة والطائف ) على ثلاثة أميال من مكة
والطلقاء جمع طليق ، وهو المطلق من أسر ونحوه وغلب على الذين من عليهم النبيّ لمجلى بالإطلاق يوم الفتح ، وقوله : ( هوازن وثقيف ( قبيلتان معروفتان والظاهر أنه مفعول حارب والفاعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله والمسلمون بالرفع لكن كان الظاهر وثقيفا بالنصب لأنه منصرف فقيل إنه منعه من الصرف لمشاكلة هوازن ، ولا يخفى أنه اسم لقبيلة فيصرف لأنه بمعنى حيّ ويمتنع لأنه بمعنى قبيلة فلا وجه للتردد فيه. قوله : ( قال النبئ صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين ) ) 1 ( وهو سلمة بن سلامة قال الإمام إسناده إلى النبيئ لمجر بعيد لقطع نظره صلى الله عليه وسلم عن كل شيء سوى الله ، وكونه غيرهـ منصوص عليه رواية كما في الدر ، وقوله : ( لن نغلب ) مجهول ، ) ومن قلة ) أي غلبة بسبب القلة ناشئة عنها ، والمراد إثبات الغلبة بالكثرة كناية واعجابا بكثرتهم أي فالوا لما أعجبتهم كثرتهم فأدركهم غرور بذلك ، وان كان من بعضهم لأن القوم يؤخذون بفعل بعضهم قيل ، والحكمة أنّ الله أراد أن يظهر أن غلبتهم بتأييد الهيّ لا بقلة وكثرة ، وقوله : ( فأدرك المسلمين إعجابهم ) أي شآمته ووخامته ، والفل بفتح وتشديد المنهزم يقع على الواحد وغيره ، وقوله : ( في مركزه ( أي مقره ومحله الأوّل. قوله : ( ليس معه إلا عمه العباس رضي الله عنه آخذا بلجامه الخ ( هذه رواية لكنه قيل الصحيح ما في رواية أخرى من أن طلقاء أهل مكة فرّوا قصد الإلقاء الهزيمة في المسلمين والنبيّ مجش!ه على دلدل ، وهي بغلته الشهباء لا يتخلخل ، ومعه العباس رضي الله عنه آخذاً بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر وعليّ بن أبي طالب وربيعة بن الحرث والفضل بن العباس ، وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وهو قتل بين يدي النبيّءش!ه وهؤلاء من أهل بيته ، وثبت معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فكانوا عشرة رجال ، ولذا قال العباس رضي الله تعالى عنه :
نصرنارسول الله في الحرب تسعة وقد فرّمن قد فر منهم واقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه بما مسه في الله لايتوجع
ولذا قيل إنّ المصنف رحمه الله لم يصب فيما ذكره. قوله : ) وناهيك بهذا شهادة الخ )
فانّ الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أنه مج!ن! كان أشجع الناس ، وكانوا إذا اشتذ الحرب اتقوا برسول الله لمج! ، وشزف وكرّم وناهيك بمعنى يكفيك وحسبك به دليلا عليه تقول هذا
جل ناهيك من رجل ، ونهيك من رجل ونهاك من رجل يستوي فيه المفرد المذكر وغيره ، والمراد به المدح كأنه ينهاك عن تطلب غيره ، وهو مبتدأ أو الباء زائدة وركوبه مج!ييه البغلة أيضا إظهارأ لثباته ، وأنه لم يخطر بباله مفارقة القتال ، وقوله : ( صيتا ) بالتشديد أي جهوريّ الصوت شديده ، وهو بيان لسبب تخصيصه بالأمر ، وقوله : ( يا أصحاب الشجرة ) أي يا أصحاب بيعة الرضوان المذكورين في قوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [ سررة الفتح ، الآية : 8 ] وتوله : ( يا أصحاب سورة البقرة ) قيل : هم المذكورون في قوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ }
[ سورة البقرة ، الآية : 285 ] وقيل : الذين أنزل عليهم سورة البقرة ، وقيل : المراد الذين حفظوها(4/313)
ج4ص314
فإنهم عظماء الصحابة رضي الله عنهم. قوله : ( فكروا عنقاً واحداً ) أي رجعوا جماعة واحدة أو دفعة واحدة من قوله : { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ سورة الشعراء ، الآية : 4 ] أي رؤساؤهم وجماعاتهم فهو بضم العين والنون ، وتسكن ويجوز فتحهما بمعنى مسرعين. قوله : ( حمى الوطيس ) أصل معنى الوطيس التنور وهذه استعارة بليغة ومعناها اشتدّ الحرب ، وفيه نكتة أخرى قل من تنبه لها وهي ما قاله ياقوت في معجم البلدان إنّ أوطاس واد في ديار هوازن وبه كانت وقعة حنين ، وفيها قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " حمى الوطيس " وذلك حين استعرت الحرب وهو أوّل من قالها ، واسم الوادي أوطاس وهو منقول من جمع وطيس كيمين وأيمان ففيه تورية فانظر لفصاحته صلى الله عليه وسلم ، ومقاصده في البلاغة ورميه بسهام البراعة إلى أغراضها ، وهو التنور وقيل نقرة في حجر يوقد فيها النار ويطبخ اللحم ، ويقال وطست الشيء وطساً إذا كدرته وأثرت فيه ، وأخذه التراب ورميه تقدم الكلام عليه ، ورب الكعبة قسم ، وقوله : ( انهزموا ( خبر وتبشير للمؤمنين. قوله : ) شيئاً من الإغناء ) يعني شيئا نصبه إما على أنه مفعول مطلق إن أريد الإغناء أو مفعول به على تضمنه معنى الإعطاء أي لم تعط شيئاً يدفع حاجتكم أو لم تكفكم شيثا من أمر العدوّ. قوله : ( برحبها أي سعتها الخ ) أي ما مصدرية ، والباء للملابسة والمصاحبة أي ضاقت مع سعتها عليكم ، وهو استعارة تبعية إما لعدم وجدان مكان يقرون به آمنين مطمئنين ، أو أنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق. قوله : ( وليتم الكفار ظهوركم ( قال الراغب في مفرداته : وليت سمعي كذا ووليت عيني كذا أقبلت به عليه قال تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وإذا عدى بعن لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإعراض ، وترك قربه ا هـ فجعله في الأصل متعدياً إلى مفعولين ، وتعديته بعن لتضمنه معنى الإعراض! ، وهو غير مراد هنا وأما الإقبال فإنما جاء من كون الوجه مفعولاً فقد عرفت وجه ما ذكره فإنه إنما يعتمد في اللغة عليه ، ومن لم يقف على مراده اعترض! عليه ، وقال : ولي تولية أدبر كما في القاموس فلا حاجة إلى تقدير مفعولين ، وتبعه من قال : إن ما ذكره المصنف رحمه الله لا وجه له ، والتضمين خلاف الأصل ، وكيف يتوهم ما ذكروه مع قوله : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ } [ سورة الأنفال ، الآية : 15 ] وغير. من الآيات التي وقع فيها متعد بالمفعولين وإنما غرهم كلام القاموس ، وليس بعمدة في مثله. قوله : ( إلى خلف ( إشارة إلى اشتقاق الأدبار. قوله : ) رحمته التي سكنوا بها وأمنوا ) وهي النصر وانهزام الكفار ، واطمئنان قلوبهم للكرّ بعد الفرّ ونحوه ولا حاجة إلى تخصيص الرحمة مع شمولها لكل رحمة في ذلك الموطن. قوله : ( على رسوله وعلى المؤمنين الذين انهزموا الخ ا لما كان الأصل عدم إعادة الجارّ في مثله إشارة إلى نكتة ، وهي بيان التفاوت بينهما فإنهم قلقوا واضطربوا حتى فروا فكانت سكينتهم اطمئنان قلوبهم ، وهو لمجج ، ومن معه ثبتوا من غير اضطراب فسكينتهم بمعاينة الرسول ع!فه الملائكة ، وظهور علامات ذلك لمن معه ، وقوله : وقيل الخ يعني المراد بالمؤمنين قيل ولو أخر نكتة إعادة الجا ار عن هذا لكان أولى لجريها فيهما ، وفيه نظر ، ثم إنه على الوجه الأوّل كلمة ، ثم في محلها فلذا اختاروه ، وعلى الوجه الآخر يكون التراخي في الإخبار أو باعتبار المجموع لأنّ إنزال الملائكة بعد الانهزام لا التراخي الرتبي لبعده. قوله : ( بأعينكم ( يعني أنّ الرؤية بصرية ، وا! المراد نفي الرؤية حقيقة لا أنهم رأوها هم أو المشركون وأنّ المراد لم يروا مثلها قبل ذلك ، وكما اختلف في عددهم اختلف أيضا هل قاتلوا أم لا. قوله : ( وكانوا خمسة الخ ( قيل ونجه الاختلاف في العدد أنه تعالى قال : { أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ } [ سورة آل عمران ، الآية : 124 ، ثم قال : { وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ } [ سررة آل عمران ، الآية : 125 ] فأضاف الخمسة للثلاثة فصارت ثمانية ، ومن أدخل الثلاثة فيها قال إنها خمسة فجعلهم
نهاية ما وعد به الصابرين ومن قال : ستة عشر جعلهم بعدد العسكرين اثني عشر وأربعة وهو كلام حسن ، وقوله في الدنيا تنازع فيه كفر وجزاء ودلّ عليه قوله ، ثم يتوب الخ وفسر التوبة بالتوفيق للإسلام منهم وهي من
،
الله قبوله ذلك ولا ينفك عنه أما التوفيق المذكور فقد يكون ، وقد لا يكون فهو المعلق بالمشيئة لا قبوله كما يتبادر من النظم فأشار المصنف رحمه الله إلى دفعه ، وقوله : ( ويتفضل عليهم ) إشارة إلى أنه ليس بطريق الوجوب كما تقول(4/314)
ج4ص315
المعتزلة. قوله : ( روي أنّ ناساً منهم الخ ) ( 1 ( هذا الحديث في رواية للبخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم بنحوه ، وقوله : ) ما كنا نعدل بالأحساب ( أي لا نسوي بها شيئاً بل نختارها ونقدمها على غيرها والحسب ما يعذ من المفاخر وأرادوا أن اختيارهم ذلك مفخرة ومنقبة لهم ، وقوله : ( وقد سبى الخ ) جملة حالية معترضة بين أثناء صلامهم ، وسبايا جمع سبية بمعنى مسبية أي مأسورة والذراري جمع ذرية ، وقوله : ( فشأنه ) أي فليلزم شأنه وهو ما اختاره ، وقوله : ) ومن لا ) أي من لم تطب نفسه ، وقرله : ( وليكن قرضاً ( أي بمنزلته ولا مانع من حمله على حقيقته ، والعرفاء جمع عريف وهو من يؤمر على فرقة من العسكر ليعرف أحوالهم كالنقيب وقوله فليرفعوا إلينا أي يعلمونا به من قولهم رفعت القصة للأمير ، وقوله فرفعوا أنهم قد رضوا أي رفعوه إلى النبىّ - صلى الله عليه وسلم - وأعلموه به. قوله : ( لخبث باطنهم الخ ) نجس بالفتح مصدر فيحتاج إلى تقدير مضاف أو تجوّز وان كان صفة كما ذكره الجوهري فلا بذ من تقدير موصوف مفرد لفظا مجموع معنى ليصح الإخبار به عن لجمع أي جن! نجس ونحوه ، وقوله لخبث باطنهم أي هو مجاز عن خبث الباطن ، وفساد العقيدة فهو استعارة لذلك أو لأنهم يجتنبون كما يجتنب النجس فلا وجه لما قيل إن المناسب تقديم الوجه الثالث على الثاني لاشتراكه مع الأوّل في عدم كون الكلام على التشبيه للمبالغة ، والوجوب أمّا للمبالغة في اجتنابهم أو المراد وجوبه في الجملة كما في الحرم فلا يرد ما قيل كان عليه ترك الوجوب ، وعلى كون المراد ملابستهم النجاسة كالخمر والخنزير ونحوه فهو حقيقة حينئذ أو تغليب. قوله : ) وفيه دليل على أنّ ما الغالب نجاستة نجس ( أي متنجس كالبط والدجاج المخلى إذا جعل رأسه
في ماء نجسه حملاً على غالب أحواله. قوله : ( عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ) فالنجاسة عنده حقيقة ذاتية لكن الذي ذهبوا إليه خلافه ، وقوله وأكثر ما جاء تابعا لرجس لأنّ هذه القراءة وهي قراءة أبي حيوة دلت على أنه أكثرقي لا أنه لا يجوز بغير اتباع كما نقل عن الفراء ، وتبعه الحريري في درّته وعلى قول الفراء هو اتباع كحسن بسن ، ثم إنّ المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما مال إليه الرازي وعليه فلا يحل الشرب من أوانيهم ومؤاكلتهم ونحوه ، لكنه قد صح عن النبيئ لمجن! والسلف خلافه ، واحتمال كونه قبل نزول الآية فهو منسوخ بعيد لأنّ الأصل الطهارة ، والحل ما لم يقم دليل على خلافه ، وقوله : وأكثر ما جاء تابعا كقولهم اً كثر شربي السويق ملتوتا. قوله : ( لنجاستهم وإنما نهى عن الاقنراب للمبالغة الخ ) وكون العلة نجاستهم إن لم نقل بأنها ذاتية لا تقتضي جواز دخول من اغتسل ، ولب! ثيابا طاهرة لأن خصوص العلة لا يخصص الحكم كما في الاستبراء ، ووجه المبالغة أن المراد دخوله فالمنع عن قربه أبلغ ، وإذا كان للمنع عن الحرم يكون المنع من قرب نفس المسجد الحرام على ظاهره ، وبالظاهر أخذ أبو حنيفة رحمه الله إذ صرف المنع عن دخول الحرم للحج والعمرة بدليل قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم ، وهو ظاهر ونداء عليئ كرم الله وجهه بقوله : ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك بأمر النبيّ ىشي! يعينه فلا يقال إنّ منطوق الآية يخالفه. قوله : ( وفيه دليل على أنّ الكفار الخ ) وجه الدلالة نهيهم والنهي من الأحكام وكونهم لا ينزجرون به لا يضرّ بعد معرفته معنى مخاطبتهم بها والمخالف فيه يقول النهي بحسب الظاهر لهم ، ولكنه كناية عن نهي المؤمنين عن تمكينهم من ذلك كما في نحو لا أرينك هاهنا بدليل أن ما قبله وما بعده خطاب للمؤمنين لا للكفار ، وسنة براءة سنة نزولها وقراءتها عليهم وسنة حجة الوداع هي العاشرة من الهجرة. قوله : ( فقراً بسبب منعهم الخ ( لأنهما لما منعوا شق ذلك عليهم لأنهم كانوا يأتون في الموسم بالميرة والمتاجر لهم والإرفاق جمع رفق وهو المنفعة ، وفي نسخة الإرزاق وهما بمعنى ، والعيلة من عال بمعنى افتقر. قوله : ( من عطائه أو بتفضله بوجه آخر الخ ) يعني الفضل
بمعنى العطاء أو التفضل فعلى الأوّل من ابتدائية أو تبعيضية وعلى الثاني سببية ولذا عبر عنها بالباء ، وقيل إنها نزلت على الوجهين للأصل وهو خلاف الظاهر وقوله : { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا } [ سورة الأنعام ، الآية : 6 ] كثير الأمطار ، وتبالة بفتح التاء المثناة الفوقية والباء الموحدة بلدة من(4/315)
ج4ص316
بلاد اليمن ولما تولى عملها الحجاج استحقرها ورجع فقيل في المثل أهون من تبالة على الحجاج ، وجرس بضم الجيم وفتح الراء المهملة ، والشين المعجمة مخلاف من مخاليف اليمن أي ناحية منه ، والمخلاف في إليمن كالرستاق بالعراق ، وامتاروا أي جلبوا له الميرة بالكسر وهي الطعام أو جلبه. قوله : ( وقرئ عائلة على أنها مصدر الخ ) يعني إنه إما مصدر بوزن فاعلة كالعافية أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أي حالاً عائلة أي مفقرة ، فقوله أو حال يعني أو صفة حال ، وفي نسخة أو حالاً بالنصب أي أو تقديره خفتم حالاً عائلة ففي كلامه تعقيد وايجاز مخل لكته اختصر كلام ابن جني رحمه الله تعالى وهو هذه من المصادر التي جاءت على فاعلة كالعاقبة ، والعافية ومنه قوله تعالى : { لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً } [ سورة الغاشية ، الآية : 11 ، أي لغوا ومنه قولهم مررت به خاصة أي خصوصا ، وأمّ قوله تعالى : { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } [ سورة المائدة ، الآية : 13 ] فيجوز أن يكون مصدرا أي خيانة وأن يكون على تقدير نية أو عقيدة خائنة ، وكذا هاهنا يقدر إن خفتم حالاً عائلة ، ا هـ وما قيل إنه إلغاز لأنه أراد بالحال معنى الصفة فإنه مفعول به سواء أكان مصدرا أو اسم فاعل فأطلق الحال وأراد به الصفة فإنّ المعنى ، وان خفتم حالاً عائلة على الإسناد المجازي فحذف الحال ، وأقيمت الصفة مقامه لا يخفى حاله. قوله : ( قيده بالمشيئة الخ ) يعني أنّ التعليق بالمشيئة قد يتوهم أنه لا يناسب المقام وسبب النزول ، وهو خوفهم الفقر فإنّ دفعه بالوعد بإغنائهم من غير تردد أولى والشرط يقتضي التردد فأشار إلى أنه لم يذكر للتردد بل لبيان إنه بإرادته لا سبب له غيرها فانقطعوا إليه ، وقطعوا النظر عن غيره ، ولينبه على أنه متفضل به لا واجب عليه لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى الإرادة فلا يقال إنّ هذا لا حاجة إلى أخذه من الشرط مع قوله من فضله لأن من فضله يفيد أنه عطاء واحسان ، وهذا يفيد أنه بغير إيجاب وشتان بينهما ، وكونه غير عامّ لكل إنسان وعام يفهم من التعليق ، وقيل إنه للتنبيه على أنه بإرادته لا يسعى المرء وحيلته :
لوكان بالحيل الغني لوجدتني بنجوم أقطار السماء تعلقي
قوله : ( أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي الخ ( لما كانت الآية في حق أهل الكتاب ، وهم يؤمنون بالله واليوم الآخر نبه على أن إيمانهم لما كان على ما لا ينبغي نزل منزلة العدم فإنه كلا
إيمان لأنهم يقولون لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ، وانّ النار لم تمسهم إلا أياما معدودات واعتقادهم في نعيم الجنة أنه ليس كما تقول كما مر في تفسير قوله : { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أسورة البقرة ، الآية : 4 ] في البقرة وقوله فإيمانهم الخ في نسخة فإنّ إيمانهم ، وعليهما فلا غبار على كلامه كما توهم لقلة التدبر. قوله : ( ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة الخ ا لما كان كل ما حرّمه الله حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم وبالعكس فسره بالكتاب والسنة ليسلم من التكرير. قوله : ( هو الذي يزعمون الخ ) يعني المراد نبيهم كموسى ع!ي! ف!نهم بدلوا شريعته وأحلوا وحرّموا من عند أنفسهم اتباعا لأهوائهم فيكون المراد لا يتبعون شريعتنا ، ولا شريعتهم ومجموع الأمرين سبب لقتالهم وان كان التحريف بعد النسخ ليس علة مستقلة ، وقوله اعتقاداً وعملا تمييز قيد ليخالفون لا للنسخ. قوله : ( الذي هو ناسخ سائر الأديان ( في نسخة ناسخ الأديان وهما بمعنى لأنّ أل فيه للاستغراق وهذا مأخوذ من توله الحق لأنه يفهم إنّ غيره ليس بحق ، وكون الشرائع حقا مما لا شبهة فيه فيصرف إلى نسخها وابطال العمل بها فيكون بمنطوقه مفيدا لأنه ثابت لا ينسخ ، وبمفهومه أنه ناسخ لما عداه فلا حاجة إلى ما قيل إنّ ثبات الدين يتوقف على عدم المنسوخية لا على ثبوت الناسخية لغيره فيجاب بأنّ المراد ناسخيته لغيره ، وهي تستلزم ثبوته ودين الحق من إضافة الموصوف للصفة أو المراد بالحق الله تعالى. قوله : ( مشتق من جرى دينه إذا قضاه ) معنى الجزية معروف لكنه اختلف في مأخذها فقيل من الجزاء بمعنى القضاء يقال جزيته بما فعل أي جازيته ، أو أصلها الهمز من الجزء والتجزئة لأنها طائفة من المال يعطي ، وقيل إنها معرب كزيت وهو الجزية بالفارسية ، وفي الهداية أنها جزاء الكفر فهي من المجازاة. قوله : ( حال من الضمير ) وهو فاعل يعطوا ومؤاتية بالمثناة الفوقية من المؤاتاة ، وهي الموافقة وعدم الامتناع والطاعة واليد هنا إما يد المعطي أو يد الآخذ ، وفي الكشاف معناه على إرادة يد المعطي(4/316)
ج4ص317
حتى يعطوها عن يد أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ولذلك قالوا أعطى يده إذا انقاد وأصحب ، ألا ترى إلى قولهم نزع يده عن الطاعة كما يقال خلع ربقة الطاعة عن عنقه ، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة لا مبعوثا على يد أحد ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ ، وأما على إرادة يد الأخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية ، وعن إنعام عليهم لأنّ قبولها منهم ، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم ، وقيل عليه إنه لا تقريب فيه ولا يصلح بياناً لعلاقة المجاز لأنّ أعطى يده وبيده بزيادة الباء ، أو تعدية الإعطاء بالباء وبنفسه كما في الأساس ظاهر الدلالة على معنى
الإطاعة والانقياد بخلاف أعطى عن يد فإنه مبعد لجعل عن مزيدة أو بمعنى الباء ، ورذ با! القصد إلى معنى السببية أي صادرا عن يد لإفادة من وعن والباء ذلك كما صرح به في قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } في قراءة عكرمة ، وأما على كونها يد الآخذ فاستعمال اليد في القدرة أو النعمة شائع فاعتراضه في التقريب بأنه لا دلالة على هذه الإضمارات ليس بشيء ، والعجب ممن قال : بعد سماع ما ذكر من بيان مراد ا!زمخشري ، وردّ ما أورد عليه عندي أنّ معنى عن يد صادرا عن انقياد بسببه فاليد بمعنى الانقياد والاستسلام كما صرّح به صاحب القاموس بعده في معانيها ، وعن للسببية لأنّ صاحب المغني والزمخشري جعلاه ص معانيها فتبين أنه لا حاجة إلى ما تكلفه الزمخشري فإنه مع كونه مستغنى عنه بما قرّرناه يرد عليه اعتراض! صاحب التقريب فلم يدر أن ما قاله بعينه كلام الزمخشري فقد أتعب نفسه من غير فائدة. قوله : ( أو عن يدهم بمعنى مسلمين ) يعني المراد به تسليمها بنفسه ، من غير أن يبعث بها على يد وكيل أو رسول لأنّ القصد فيها التحقير وهذا ينافيه فلذا منع من التوكيل شرعا ، وخالف الزمخشريّ في جعله مع أنه نقد غير نسيئة ، وجهاً واحدا لما فيه من الجمع بين المعنى الحقيقيّ ، وغيره فسلم مما يرد عليه. قوله : ( أو عن غنى ( لأنّ اليد تكون مجازا عن القدرة المستلزمة للغنى ، وهذا لم يذكره الزمخشري صريحا. قوله : ) أو عن يد قاهرة ( على أن يكون المراد باليد يد الآخذ يعني أنّ المراد باليد القهر والقوّة فلو صرّج به لكان أظهر وأخصر ، والمراد بالذلة في قوله إذلاء الذلة الظاهرة كوجء العنق والأخذ باللبب ، ونحوه فلا يرد عليه إنه تكرار مع قوله وهم صاغرون كما قيل ، وقوله : ) عاجزين أذلاء ( توضيح للحالية من الفاعل. قوله : ( أو عن إنعام عليهم الخ ( فاليد بمعنى الإنعام وتكون بمعنى النعمة أيضاً وابقاؤهم بالجزية أي عدم قتلهم والاكتفاء بالجزية نعمة عظيمة فاليد الآخذ ، وهي عبارة عن إنعامه لا عن قدرته واستيلائه لما مرّ في قوله أو عن يد قاهرة ، وفي بعض النسخ قوله أو عن إنعام مقدم على قوله أو من الجزية وهو أولى من تأخيره الواقع في بعضها فإنّ قوله أو عن إنعام الخ ، مبني على أن يكون المراد باليد يد الآخذ كما في قوله أو عن يد قاهرة قيل ويجوز في الوجوه الأول كونه حالاً عن الجزية أي مقرونة بالانقياد ، ومسلمة بأيديهم وصادرة عن غنى ومقرونة بالذلة وكائنة عن إنعام عليهم وبجوز في الأخير الحالية عن الضمير أي مسلمين نقداً ، وقوله من الجزية معطوف على قوله من الضمير وجعله الزمخشري مع الثاني وجها واحدا وقد مرّ تحقيقه. قوله : ( أذلاء الخ ) وجأه بالجيم والهمزة ضربه ، ومجوس هجر مجوس توطنوا هجر بالتحريك وهي
بلدة باليمن يجوز صرفها ، وعدمه وهذا من الزيادة على الكتاب والسنة وشبههم بأهل الكتاب لزعمهم أنّ لهم نبياً اسمه زرادشت ، وقوله : ( ويؤيده أنّ عمر رضي الله تعالى عنه الخ ) أخرجه البخاري ) 1 ( ، وقوله : ( فلا تؤاخذ منهم الجزية ) هو مذهب الشافعي لأنّ قتال الكفرة واجب ، وقد عرفنا تركه في أهل الكتاب بالكتاب ، وفي المجوس بالخبر فبقي غيرهم على الأصل ولأبي حنيفة رحمه الله ما رواه الزهرقي ولأنه لما جاز استرقاقهم جاز ضرب الجزية عليهم ، وتتمته في كتب الفقه ، وقوله : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ( 2 ( أي اسلكوا بهم طريقتهم ، واجعلوهم مثلهم ، وهو حديث أخرجه مالك في الموطأ والشافعي في الأم وما روي عن الزهري أخرجه عبد الرزاق عن معمر. قوله : ( وأقلها في كل سنة دينار ) هو مذهب الشافعيّ رحمه الله ، ومذهب أبي حنيفة ما ذكره والغنى هو الذي يملك أكثر من عشرة آلاف درهم(4/317)
ج4ص318
والفقير الذي لا يملك مائتي درهم ، والكسوب بفتح الكاف القادر على الكسب وان لم يكن له حرفة والفقير الغير المكسوب كالأعمى والمقعد والشيخ الكبير ، وهذا إذا ابتدأ الإمام وضعها أمّا إذا وضعت بالتراضي والصلح فبحسب ما يتفق عليه وعليه حمل ما استدل به الشافعي رحمه الله تعالى. فائدة : يجب التنبيه لها قال الإمام الجصاص في أحكام القرآن : اقتضى وجوب قتلهم إلى
أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة أنه لا يكون لهم ذمّة إذا تسلطوا على المسلمين بالولاية ونفاذ الأمر والنهي ، إذ كان الله إنما جعل لهم الذمّة بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغصب وأخذ الضرائب بالظلم ، وان كان السلطان ولاه ذلك هان فعله بغير إذنه وأمره فهو أولى وهذا يدل على أنّ هؤلاء النصارى ،
واليهود الذين يتولون أعمال السلطان ، ويظهر منهم الظلم والاستعلاء على المسلمين وأخذ الضرائب لا ذمة لهم ، وأن دماءهم مباحة ولو قصد مسلم مسلما لأخذ ماله فقد أبيح له قتله في بعض الوجوه فما بالك بهؤلاء ، وقد أفتى فقهاؤنا بحرمة تواليهم الأعمال لثبوته بالنص كما في البحر الرائق ، وقد ابتلى السلاطين بهذا حتى احتاج الناس إلى مراجعتهم وتقببل أياديهم كما كان في زمن السلطان مرأد حتى وقع بسبب ذلك فتنة عظيمة لا يفي البيان بها ، وقد قلت في ذلك : ويح ناس قوما يهودا تولوا وتولوا عن قول رب تعالى
حسبوا الطب والأمانة فيهم فاستباحوا الأرواج والأموالا
يقتلون البغاة من غير حرب وكفى الله المؤمنين القتالا
وبسط الكلام فيه ابن القيم رحمه الله. قوله : ( إنما قاله بعضهم من متقدّميهم الخ ( من
بيانية أو تبعيضية وهو الظاهر ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل مما شاع كما مرّ تحقيقه ، وقوله والدليل الخ قيل ما الحاجة إلى دليل ، وقد صرّج به في النظم فهذا كإيقاد الشمعة وسط النهار المشمس ، وأجيب بأنّ مدلوله صدوره منهم ، ولا خفاء فيه والذي أثبت بما ذكر أنه معروف بينهم غير منكر منهم ولذا أسند إلى جميعهم ، وقيل ضمير فيهم ليهود المدينة ، وهو استدلال على القول الثاني ولا دلالة في الآية عليه بخصوصه فتأمّل ، وتهالكهم حرصهم عليه حتى يكادوا أن يهلكهم الحرص. قوله : ( عزير بالتنوين الخ ) قرأ عاصم والكسائي بتنوين عزيز والباتون بترك التنوين ، فالأوّل على أنه اسم عرب وابن خبره ، وقال أبو عبيد أنه أعجمي لكنه صرف لخفته بالتصغير كنوج ، ولو طورد بأنه ليس بمصغر درانما هو أعجمي جاء على هيئة المصغر كسليمان ، وفيه نظر ، وأما حذف التنوين فقيل حذف لالتقاء الساكنين على غير القياس ، وهو مبتدأ وخبر أيضاً ، ولذا رسم في جميع المصاحف بالاً لف ، وقيل لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة ، وقيل لأنه موصوف بابن وسيأتي ما فيه ، وقوله : ( تشبيهاً للنون بحروف اللين ) فإنّ حروف اللين تحذف عند التقاء الساكنين والنون تحرّك لدفعه. قوله : ( أو لأنّ الابن وصف والخبر محذوف الخ ) من ذهب إلى هذا قطع بالانصراف لكونه عربيا كما ذكره الجوهري ، وقال الزمخشري : أنّ هذا القول تمحل عته مندوحة وذكر الشيخ في دلائل الإعجاز هذا القول وردّه حيث قال الإثم إذا وصف بصفة ، ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف تكذيبه إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلما فلو كان المقصود بالإنكار قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه
الإنكار إلى كونه معبوداً لهم ، وحصل تسليم كونه ابناً دلّه ، وذلك كفر وقال الإمام إنه ضعيف أمّا قوله إنّ من أخبر الخ فمسلم ، وأمّا قوله ويكون ذلك تسليماً للوصف فممنوع لأنه لا يلزم من كونه مكذبا لذلك الخبر كونه مصدقا لذلك الوصف إلا أن يقال تخصيص ذلك بالخبرية يدل على أنّ سواء لا يكذب ، وهو مبنيّ على دليل خطابي ضعيف ، وقيل هذا الكلام يحتمل أمراً آخر ، وهو أن يقال المراد من إجراء تلك الصفة على الموصوف بناء الخبر عليه فحينئذ يرجع التكذيب إلى جعل ذلك الوصف علة للخبر فبطل ذلك التمحل يعني الوصف للعلية فإنكار الحكم يتضمن إنكار علته ، ولو سلم فلا يستلزم تسليمها ، وقيل عليه إن إنكار الحكم قد يحتمل أن يكون بواسطة عدم الاقتضاء لا لأنّ الوصف كالأبنية مثلاً منتف ، وفي الإيضاج أن القول(4/318)
ج4ص319
بمعنى الوصف ، وارد أنه لا يحتاج إلى تقدير الخبر كما أنّ أحداً إذا قال مقالة ينكر منها البعض فحكيت منها المنكر فقط قال في الكشف ، وهو وجه آخر حسن في دفع التمحل لكنه خلاف الظاهر أيضا لا ترى إلى قوله تعالى : { ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ سورة التوبة ، الآية : 30 ] وما قيل إنه لا يدفع التمحل غير مسلم وأمّا ما قيل إن ما ذكره الشيخ ليس بمطرد لا في توجه الإنكار إلى الخبر ولا في كون الوصف مسلما كما إذا كان الخبر مسلماً للكل ، أو للحاكي والوصف غير مسلم فانه إذا قدّر الخبر في الآية نبينا أو حافظ التوراة لا يتوجه الإنكار إلى الخبر بل إلى الوصف ، ولا يبعد أن يكون حذف الخبر للإشارة إليه فيندفع المحذور إلا أنّ حمل كلام رب العزة عليه مخل ببلاغته فحبط ، وخلط غريب مع أنه مع إخلاله بالفصاحة والبلاغة كيف ينبغي ذكره ، وهل إخلاله إلا لما ذكروه بعينه مع أنه لم يزد على ما قاله الإمام إلا علاوة من الصخور في البراري.
قوله : ( مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف لآنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدّر ) قد تقدّم بيانه على أتم وجه ، قيل : كيف ينكر قولهم صاحبنا فالوجه الاقتصار على معبودنا كما في الكشاف ، أقول مقصوده أنّ قانون الاستعمال على إنكاره سواء كان منكراً في نفسه أو لا لأنه قد يتوهم في التقدير الأوّل إنّ الإنكار إنما استفيد من قيام الدليل على أنه لا معبود إلا الله ، وفيه ردّ على توهم بعض الأذهان القاصرة كما مرّ قبيلة إن الخبر إذا لم يكن منكراً توجه الانكار إلى الوصف المذكور فتنبه ، وههنا وجه آخر لا يرد عليه شيء مما ذكروه ، ولم يظهر لي وجه تركه مع ظهوره وأظنه من خبايا الزوايا ، وهو أن يكون عزير ابن الله والمسيح ابن الله خبرين عن مبتدأ محذوف أي صاحبنا عزير ابن اللّه ، والخبر إذا وصف توجه الانكار إلى وصفه نحو أهذا الرجل العاقل ، وهذا موافق لقانون البلاغة ، وجار على وفق العربية من غير تكلف ولا غبار عليه. قوله : ( استحاله لأن الخ ) من لم يكن إلها تنازعه ما قبله واذما لم
يقل من لم يكن ابن الله مع أنه المدعي ، ولذا قيل إنّ هذا لا يدل على كونه ابنا لأن ابن الإله لا يكون إلا إلها لاتحاد الماهية كذا قيل ، وقيل لما لم يكن عندهم مستقلا بالألوهية لزم كونه ابنا ، وفيه تأمل. قوله : ( تثيد لنسبة هذا القول إليهم الخ ا لم يرتض شراح الكشاف كونه تأكيد الدفع التجوّز عن الكتابة والإشارة أو كون القائل بعض أتباعهم ونحوها مثل كتبته بيدي ، وأبصرته بعيني لأنه غير مناسب ، ولذا حمله الزمخشري على وجهين الأوّل أنه مجزد لفظ لا معنى له معقول كالمهملات ، أو أنه رأى ومذهب لا أثر له في قلوبهم وإنما يتكلمون به جهلا أو عناداً ، ولكن إرادة المذهب من الفول مستدركة لأنّ كون القول بأفواههم لا بقلوبهم كاف في ذلك ترك المصنف رحمه الله تعالى الاحتمال الثاني ، ولما رأى المصنف أنّ كون المراد به التأكيد مع التعجيب من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة لا ينافيه المقام كما صرح به العلامة في شرح الكشاف لأنّ التأكيد لا ينافي اعتبار نكتة أخرى لم يلتفت إلى ما ذكر لأنه الشائع في أمثاله ولأنه لا تجوّز فيه ، وأما ما قيل إنّ المناسب حينئذ أن يقال ، وقالت الخ بأفواههم من غير تخلل قوله : { ذَلِكَ قَوْلُهُم } ولذا حمله بعضهم على دفع التجوّز في المسند دون الإسناد ، والقول قد ينسب إلى الأفواه والى الألسنة والأوّل أبلغ ولذا أسند إليها هنا فغير ظاهر ، والمراد بقوله في الأعيان في نفس الأمر فلا يرد عليه ما قيل المفهومات أمور معنوية لا وجود لها في الخارج لشيوع مثله في كلامهم من غير مبالاة به. قوله : ) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ) فانقلب مرفوعا أو هو تجوّز ، كقوله : { وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } أسورة يوسف ، الآية : 52 ] أي لا يهديهم في كيدهم فالمراد يضاهون في أقوالهم. قوله : ( والمراد قدماؤهم الخ ( فالمضاهي من كان في زمنه منهم لقدمائهم ، ومعناه عراقتهم في الكفر على الوجه الذي بعده هو شامل لهم كلهم وأما كون المضاهي النصارى ، ومن قبلهم اليهود فخلاف الظاهر مع أنّ مضاهاتهم علصت من صدر الآية ، ولذا أخره المصنف رحمه الله لكنه منقول عن قتادة. قوله : ( والمضاهاة المشابهة الخ ) فيقال ضاهيت وضاهأت كما قاله الجوهري : وقراءة العامة يضاهون بهاء مضمومة بعدها واو وقرأ عاصم بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة وهما بمعنى من المضاهاة وهي المشابهة وهما لغتان ، وقيل الياء فرع(4/319)
ج4ص320
عن الهمزة كما قالوا قربت وتوضيت وأخطيت ، وقيل الهمزة بدل من الياء لضمها ، ورذ بأنّ الياء لا نثبت في مثله حتى تقلب بل تحذف كيرامون من الرمي ، وقيل : إنه مأخود من قولهم إمرأة ضهيا بالقصر وهي التي لا ثدي
559
لها أو لا تحيض أو لا تحمل لمشابهتها الرجال ويقال امرأة ضهياء بالمذ كحمراء وضهياءة بالمد وتاء التأنيث وشذ فيه الجمع بين علامتي التأنيث ، قيل وهو خطأ لاختلاف الماذتين فإنّ الهمزة في ضهياء على لغاتها الثلاث زائدة ، وفي المضاهأة أصلية ولم يقولوا إنّ همزة ضهيأ أصلية وياؤها زائدة لأن فعيل لم يثبت في أبنيتهم ، ولم يقولوا وزنها فعلل كجعفر لأنه ثبت زيادة الهمز في ضهياء بالمذ فتتعين في اللغة الأخرى ، وفيه رذ على الزمخشري إذ جعل الهمزة مزيدة ، وقال : إنّ وزنه فعيل ولا محيص عنه سوى أن تجعل الواو بمعنى أو في كلامه ليكون إشارة إلى القول الآخر في همزتها ، وما يقال إنه يجوز أن يراد بكونه فعيلا مجرّد تعداد الحروف ، والا فوزنه فعلأ كما صرّح به الزجاج لا يناسب ما قصده من الاشتقاق ، وفيه كلام مفصل في سرّ الصناعة لابن جني. قوله : ( على فعيل ) يعارض ما قاله في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } [ سورة البقرة ، الاية : 87 ] من أنّ وزن مريم مفعل إذ لم يثبت فعيل. قوله : ) دعاء عليهم بالإهلاك الخ ( قال الراغب : المقاتلة المحاربة وقولهم قاتلهم الله تيل معناه لعنهم ، وقيل معناه قتلهم والصحيح أنه على المفاعلة والمعنى صار بحيث يتصذى لمحاربة الله فإنّ من قاتل الله فمقتول ومن غالبه فمغلوب ، انتهى. فعلى الأوّل هو دعاء عليهم بالإهلاك كما ذكره الرأغب ، وعلى الثاني المراد منه التعجب من شناعة قولهم فانها شاعت في ذلك حتى صارت تستعمل في المدح فيقال قاتله الله ما أفصحه فظهر الفرق بينهما وأنه لا وجه لما قيل إنه دعاء عليهم بالإهلاك ، ويفهم التعجب من السياق لأنها كلمة لا تقال إلا في موضع التعجب من شناعة فعل قوم ، أو قولهم مع أن تخصيصه بالشناعة شناعة أخرى ، ومما يتعجب منه ما قيل لا يظهر وجه الدعاء من الله فهو بتقدير قولوا قاتلهم الله والجمل الدعائية في القرآن كثيرة لكنها في كل مقام يراد منها ما يناسبه. قوله : ) بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله الخ ( هذا هو تفسير النبىّ - صلى الله عليه وسلم - فينبغي الاقتصار عليه لأنه لما أتاه عديّ بن حاتم وهو يقرؤها قال له : إنا لم نعبدهم فقال : ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم فهذه هي العبادة ، والناس يقولون فلأن يعبد فلأنا إذا أفرط في طاعته فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة ، وهي طاعة مخصوصة على مطلقها والأوّل أبلغ وعلى كونه بمعنى السجود يكون حقيقة. قوله : ( بأن جعلوه ابنا ( فسره به لأنّ سياق الآية يقتضيه فلا يرد ما قيل الأولى بأن عبدوه ليعمّ كل النصارى ، والمتخذون الأوّل بالكسر والثاني بالفخ على زنة
الفاعل والمفعول. قوله : ( فبكون كالدليل على بطلان الاتخاذ الخ ا لأن من عبدوه إذا لم يؤمر بغير عبادة ألله فهم بالطريق الأولى ، وإنما قال كالدليل لأنه ليس بدليل لاحتمال أنّ المعبودين اختصوا بذلك لكمالهم وعدم احتياجهم إلى الواسطة بخلاف من دونهم وان كان احتمالاً فاسدا ، وهذا على الثاني إذ هو على الأوّل إبطال لاتخاذهم لا دليل علي! ، ولذا خصه المصنف رحمه الله والزمششرفي به كما يشهد له التفريع فمن قال : إنه لا وجه له لا وجه له. قوله :
( ليطيعوا الخ ) فسر العبادة بمطلق الطاعة التي تندرج فيها العبادة لأنه أبلغ وأدل على إبطال فعلهم إذ المراد باتخاذهم أربابا إطاعتهم كما مرّ ، وهذا إذا كان المتخذ على زنة الفاعل ظاهر فإن كان وزن المفعول فلما مر أن غيرهم يعلم بالطريق الأولى ، وبهذا سقط ما قيل إنه لا حاجة إلى صرف العبادة عن معناها الظاهر إلى معنى الإطاعة حتى يحتاج إلى أن يقال طاعة الرسول لمج ، وكل من أمر الله بطاعته كطاعة الله في الحقيقة. قوله : ( مقزرة للتوحيد ) هو على الوجهين ، وفيه فائدة زائدة هو أنّ ما سبق يحتمل غير التوحيد بأن يؤمروا بعباد إله واحد من بين الآلهة فأذن وصف الماً مور بعبادته بأنه هو المنفرد بالألوهية ، وهو المراد ويجوز كونها مفسرة لواحد. قوله : ( حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه الخ ) فنور الله استعارة أصلية تصريحية لحجته أو القرآن أو للنبوّة لتشبيهها بالنور في الظهور والسطوع والإطفاء بأفواههم ترشيح ،(4/320)
ج4ص321
وقيل استعارة أخرى ، واضافته إلى الله قرينة أو تجريد ، وقوله بشركهم أو تكذيبهم متعلق بيطفئوا لا تفسير للأفواه ، وقوله إلا أن يتم نوره إن كان المراد به النور السابق فهو من إقامة الظاهر مقام المضمر دهان أريد كل نور له أعم من الأوّل فهو تتميم له وقوله : ( ، علاء التوحيد ) ناظر إلى الوجه الأوّل ، وما بعده لما بعده ، وقوله : ( عن أن يكون له شريك ) إشارة إلى أنّ ما مصدرية. قوله : ( وقيل إنه قمثيل لحالهم في طلبهم الخ ) هو معطوف بحسب المعنى على قوله حجته الخ أي هو استعارة تمثيلية والمستعار جملة الكلام لأنّ حالهم في محاولة إبطال نبوّته صلى الله عليه وسلم بالتكذيب هو المشبه المطوي ، والمشبه به حال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق أي منتشر المعنى بقوله : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } وقوله : { وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } ترشيح لأنّ إتمام النور زيادة في استنارته ، وفشوّ ضوئه فهو تفريع على الأصل المشبه به ، وقوله هو الذي أرسل وسوله بالهدى الخ تجريد وتفريع على الفرع وروعي في كل من المشبه ،
والمشبه به الإفراط والتفريط حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم ، ونسب النور إلى الله ومن شأن النور المضاف إليه أن يكون عظيماً فكيف يطفأ بنفخ الفم فلذا قال : عظيم منبث في الآفاق مع ما بين الكفر الذي هو ستر وازالة للظهور والاطفاء من المناسبة ، وقوله بنفخه متعلق بإطفاء ، والضمير المضاف إليه راجع لمن. قوله : ( وإنما صح الاستثناء المفرغ الخ ( يعني إن إلا أن يتمّ استثناء مفرغ وهو في محل نصب مفعول! به ، والاستثناء المفرغ في الأغلب يكون في النفي إلا أن يستقيم المعنى ، وهذا نفي في المعنى لأنه وقع في مقابلة يريدون ليطفؤوا نور الله فدل التقابل على أن معناه كما قال الزمخشرفي : لا يريد إلا تمام نوره ، وقال الزجاج : المستثنى منه محذوف تقديره ويكره الله كل شيء إلا إتمام نوره فالمعنى على العموم المصحح للتفريع عنده فللناس في توجيه التفريع هنا مسلكان ، والحاصل إنه أن أريد كل شيء يتعلق بنوره بقرينة السياق صح إرادة العموم ووقوع التفريع في الثابتات كما ذهب إليه الزجاج إذ ما من عام إلا وقد خص فكل عموم نسبي لكنه يكتفي به ، ويسمى عموماً ألا ترى أن مثالهم قرأت إلا يوم كذا قد قدروه كل يوم ، والمراد من أيام عمر. لا من أيام الدهر فإن نظر إلى الظاهر في أمثاله كان عاما ، واستغنى عن النفي وان نظر إلى نفس الأمر فهو ليس بعام فيؤوّل بالنفي ، والمعنى فيهما واحد وإنما أوّل به هنا عند من ذهب إلى تأويله لاقتضاء المقابلة له إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي ، فيلزمه جريان التفريغ في كل شيء ، وليس كذلك كما صرّج به الرضي ، ولذا قيل الاستثناء المفرغ وإن اختص بالنفي إلا أنه قد يمال مع المعنى بمعونة القرائن ، ومناسبة المقامات فيجري بعض ا!إيجابات مجرى النفي في صحة التفريغ معها ، كم! قيل في قوله تعالى : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ سورة البقرة ، الآية : 249 ] وهذا ما يقال لا يجري في الإثبات إلا أن يستقيم المعنى ولو اكتفى بمجرّد جعل المثبت بمعنى نفي مقابله الجري في كل مثبت ككرهت بمعنى ما أردت وأبغضت بمعنى ما أحببت وهكذا ، وإنما قدره المصنف رحمه الله لا يرضى ، ولم يقدر لا يريد كما قدره الزمخشرفي لأنّ المراد بإرادة إتمام نوره إرادة خاصة ، وهي الإرادة على وجه الرضا بقرينة قوله : { وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ سورة الصف ، الآية : 8 ] لا الإرادة المجامعة لعدم الرضا كما هو مذهبنا بخلاف من يسوّي بينهما فمن فسر كلام المصنف رحمه الله بكلام الزمخشرقي غفل عن إرادته ، ومن الناس من أورد هنا بحثاً وهو أنّ الغرض من إرجاع الإثبات إلى النفي بالتأويل تصحيح المعنى ، ولا يخفى أنه لا فرق هنا بين أن يؤولط بلا يرضى ، وعدمه في عدم صحة المعنى فإن عدم رضاه تعالى إتمام كل شيء غير نوره لا يصح فالآية مشكلة على كل حال! ، فإن قيل المعنى يأبى كل شيء يتعلق بنوره إلا إتمامه فالمعنى صحيح من غير تأويل بالنفي ، والحاصل أنه إن عم الأباء كل شيء فالنفي ، وعدمه سيان في بمدم صحة المعنى ، وان خص فلا حاجة إلى التأويل ، وقد علمت مما قرّرناه لك أنّ هذا البحث من عدم الوقوف على المراد ، وربما استصعبه من لم يعرف حقيقة الحال. قوله :
( محذوف الجواب ) وتقديره يتمّ نوره ، وقوله كالبيان لأنّ المراد من إتمام نوره إظهاره ، ولكونه بحسب المآل بمعناه ذيله بما ذيله به بعينه لكنه عبر عن الكافرين بالمشركين تفاديا عن صورة التكرار ، وظاهر كلامه أنه فسر(4/321)
ج4ص322
الكفر بالكفر بالرسول مجت!ر ، وتكذيبه والشرك تالبهفر بالله بقرينة التقابل ولا مانع منه فسقط ما قيل إنه ليس لهذا التكرير تسبب عن كونه كالبيان فالأولى أن يقال كرر للتأكيد وكيف يكون تأكيداً مع أنه بين تغايرهما ، وتفسير الجنس بسائر الأديان إشارة إلى أنّ المراد به الاستغراق لما عداه ، وهو على إرجاع الضمير للدين ، وقوله أو على أهلها على إرجاعه للرسول صلى الله عليه وسلم ففي الكلام حينئذ مضاف مقدر أي أهل الدين ، وخذلانهم عدم نصرهم ويصدون من الصد أو الصدود كما مرّ. قوله : ( يأخذونها بالرشا ) هي جمع رشوة ، والباء للملابسة أي يأخذونها ملتبسة بها ، ولو قال : الارتشاء كان أوضح والباء للسببية وقوله سمي أخذ المال أكلا الخ في الكشاف أنه على وجهين إمّا أن يستعار ا!ل للأخذ ألا ترى إلى قولهم أخذ الطعام وتناوله ، واما على أنّ الأموال يؤكل بها فهي سبب ل!ل ومنه قوله :
إنّ لنا أحمرة عجافا يأكلن كل ليلة اكافا
وقيل عليه لا طائل تحت هذه الاستعارة والاستشهاد بقولهم أخذ الطعام وتناوله سمج ، والوجه هو الثاني ، وما قاله القاضي سمي أخذ المال أكلا لأنه الغرض الأعظم منه ، وردّ بأنه استشهد بقولهم على أنّ بينهما شبها والا فهذا عكس المقصود ، وفائدة الاستعارة المبالغة في أنه أخذ بالباطل لأنّ اكل هو غاية الاستيلاء على الشيء ويصير قوله بالباطل على هذا زيادة مبالغة ، ولا كذلك لو قيل : يأخذون ، وعلى الوجه الآخر التجوّز كما قيل إما في ا!ل لأنه مجاز عن الأخذ لأنّ الأكل ملزوم للأخذ كما أنّ أخذ الطعام مجاز عن أكله لأنه لازم له ، وأما في الأموال فهي مجاز عن الأطعمة التي تؤكل بها للتعلق بين الأموال ، والأطعمة المختصة بها كما أنّ الاكاف مجاز عن العلف للتعلق بينهما بسبب اشترائه والمصنف رحمه الله اختار أنّ اكل مجاز مرسل عن الأخذ بعلاقة العلية ، والمعلولية وكونه مجازاً في الإسناد لا وجه له ، فلذا لم يلتفتوا إليه وفسر سبيل الله بدينه وقريب منه تفسيره بحكمه. قوله : ( ويجوز أن يراد به الكثير من الأحبار الخ ) يريد أن التعريف في الذين يكنزون للعهد ، والمعهود إما الأحبار
والرهبان ، وأمّا المسلمون لجري ذكر الفريقين ، والأولى حمله كما قال الطيبي رحمه الله على العموم فيدخل فيه الأحبار والرهبان دخولاً أولياء ، وقوله الكثير لبيان الواقع في أصدق الكلام لأنهم ليسوا كذلك جميعا ، والضن بكسر الضاد كالضنة شدة البخل ، والمبالغة من التعبير عن المنع بالكنر الذي أصل معناه الدفن في الأرض ، ويقتنون افتعال من القنية وهي معروفة. قوله : ( وأن يراد المسلمون الخ ) وجه الأول ذكره عقب ذمهم ووجه هذا أنّ قوله لا ينفقونها بشعر بأنهم ممن ينفق في سبيل الله لأنه المتبادر من النفي عرفا ، ووجه دلالة حديث عمر رضي الله عنه ( 1 ( عليه أنّ الصحابة رضي الله عنهم فهموا منها ذلك ، وهم أهل لسان فدل على ذلك والاستدلال بالنور إلى إرادة المشركين فقط لأنه المذكور في كلامه لا بالنسبة إلى تعميمه ، فإنه لا دلالة له على عدم العموم لدخولهم فيه ، ولذا قيل إن حديث عمر رضي الله عنه لا يدل على التخصيص بالمسلمين ، وقيل لو أريد بهم أهل الكتاب خاصة لقيل ، ويكنزون فلما قيل والذين يكنزون استئنافا علم أن المراد التعميم ، والتخصيص بالمسلمين ، وقد قيل المراد المسلمون ويدخل الأحبار والرهبان بطريق الأولى ، وفي التعميم غنيمة عن هذا كله ، وحديث عمر رضي الله عنه أخرجه أبو داود : " وما أذى زكاته فليس بكنز " ) 2 ( أخرجه الطبراني والبيهقي في سننه وغيرهما ، عن ابن عمر رضي الله عنهما وتفسيره الكنز بالكنز المتوعد عليه في الآية بيان لمراده صلى الله عليه وسلم . قوله : ( وأمّا قوله يكوو الخ ) ) 3 ( جواب عن السؤال بمعارضة ما ذكر لما مرّ من الحديث ،
وقيل إنه كان قبل أن تفرض الزكاة والشيخان حيث أطلقا عند المحدثين ص البخاري ومسلم ، وهو المراد الحديث : رواه الطبراني والبخاري في تاريخه ، وقوله : ( 1 لا إذا ( المستئنى فيه الجملة من الشرط وجوابه ، وتصفيحها بسطها ومدّها حتى تصير صفيحة وفسر العذاب بالكيّ بهما لأن يوم الخ تفسير له. قوله : ( أي يوم توقد النار ذات حمى الخ ) يعني أنّ أصله ما ذكر لكنه عدل عنه للمبالغة لأنّ النار في نفسها ذات حمى فإذا وصفت بأنها تحمي دلّ على شدة(4/322)
ج4ص323
توقدها ، ثم جعلت مستعلية على الكنوز فطوى ذكرها وحول الاسناد إلى الجار والمجرور فأفاد شدة حرّ الكنوز المكرى بها وقرىء تحمى بالتاء الفوقية بإسناده إلى النار كأصله وقراءته بالياء لأنّ الفاعل ظاهر والتأنيث غير حقيقي ، وبها فاصل. قوله : ( وإنما قال عليها والمذكور شيثان الخ ( أي الظاهر في هذه الضمائر والتثنية فلم أتى بضمير المؤنث فذكر أن وجهه أنه ليس المراد بهما مقدار معين منهما ، والجنس الصادق بالقليل والكثير منهما بل الكثير لأنه هو الذي يكون كنزا فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ولو ثنى احتمل خلافه وأيده بما روي عن علي كرّم الله وجهه كما رواه ابن حبان وابن حاتم موقوفا عليه ، والتوجيه الآخر أن الضمائر عائدة على الكنوز أو الأموال المفهومة من الكلام فيكون الكلام عاما ، ولذا عدل فيه عن الظاهر والتخصيص بالذكر لأنهما الأصل الغالب في الأموال لا للتخصيص والقانون لفظ روي معرّب جمعه قوانين ، وهو في الأصل بمعنى المسطر ، ثم استعمل بمعنى الأصل. قوله : ( أو للفضة الخ ) وجه آخر وهو أن الضمير للفضة واكتفى بها لأنها أكثر والناس إليها أحوج ولأنّ الذهب يعلم منها بالطريق الأولى مع قربها لفظا. قوله : ( لأنّ جمعهم وامساكهم الخ ) بيان لوجه تخصيص ما ذكر بالذكر كونه مكتوبا بأن غرضهم من جمعها طلب أن يكونوا عند الناس ذوي وجاهة أي رآسة بسبب الغنى من قولهم هو وجه القوم لسيدهم ، وليس المراد ما تعارفه الناس ،
وأن يتنعموا بالمطاعم الشهية التي تشتهب يا أنفسهم ، والملابس الب كية ذات البهاء ، وهو حسن المنظر فلو جاهتهم ورآستهم المعروفة بوجوههم كأنّ الكيّ بجباههم ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ولما لبسوه على ظهورهم كويت. قوله : ) أو لأنهم ازورّوا الخ ) وجه آخر والازوراء الانحراف عن السائل ، وهو بالوجه فيكون سبب كيّ الجباه ، والإعراض أن يولي عنه جانبه فهو مناسب لكيها وتولية الظهور في غاية الظهور ، وقوله : ( أو لأنها الخ ) يعني تخصيصها لاشتمالها على أشرف الأعضاء بالذات لأنها رئي! الأعضاء كما صرّح به الأطباء أو لأنها أصول الجهات الأربع فالمفاديم الإمام ، والمآخر الخلف والجنبان اليمين والشمال فيكون كناية عن جميع البدن ، قيل ولم يذكر نكتة لبيان الاقتصار على هذه الأربع من بين الجهات الست. قوله : ( على إرادة القول الخ ) أي يقال لهم هذا ، وقوله لمنفعتها إما إشارة إلى تقدير مضاف أو إلى محصل معنى الكلام ، واللام للتعليل ولم تجعل للملك لعدم جدواه ، وقوله : ( عين مضرتها ) إشارة إلى أنهم حصل لهم خلاف ما قدروه في العاقبة. قوله : ( وبال كنزكم ) يشير إلى أنّ ما مصدرية مؤوّلة بمصدر من جنس خبر كان لأنّ في كون الناقصة لها مصدر كلاً ما ولذا قال بعض النحاة لا مصدر إلا للتامة ، وهو الكون ولأن المقصود الخبر وكان إنما ذكر لاستحضار الصورة الماضية ، ولذا خالف الزمخشرقي في تقدير كونكم كانزين ، وقدر له مضافا وهو وبال بمعنى ألمه وشذته بالكيّ ، وقوله أو ما تكنزونه إشارة إلى موصوليتها وتقدير العائد ، وفي قوله ذوقوا ما الخ استعارة مكنية وتخييلية أو تبعية وكنز يكنز كضرب يضرب وقعد يقعد لغتان وبهما قرىء. قوله : ( أي مبلغ عددها الخ ا لما كانت العدّة مصدراً كالشركة ، واثنا عشر ليس عينها فلا يصح حمله عليها قدر الكلام بما يصححه ، والمبلغ المقدار الذي يبلغه ، وقيل إنما قدر المضاف مع عدم الحاجة إليه في تأدية المعنى لأنّ المقصود الردّ على المشركين في الزياد بالنسيء ، وهو إنما يحصل به لا بدونه وفيه نظر. قوله : ( معمول عدّة لأنها مصدر ) أي حالاً كما هو الظاهر ، وقيل بحسب الأصل وهو كاف للعمل في الظرف لأن العدد خرج عن المصدرية وهي بمعناه ، وهو تكلف لا حاجة إليه وعدة مبتدأ وعند الله معموله ، وفي كتاب الله صفة اثنا عشر ويوم معمول كتاب الله على مصدريته أو العامل فيه معنى الاستقرار وفي الإعراب
وجوه آخر مفصلة في محلها ، وشهرا تمييز مؤكد لأنه مع قوله : ( عذّة الشهور ) أي شهور السنة لو حذف استغنى عنه قيل ، وما يقال إنه لدفع الإيهام إذ لو قيل عذة الشهور عند الله أثنا عشر سنة لكان كلا ما مستقيما ليس بمستقيم ، وهو غير وارد لأنّ مراد القائل أنه يحتمل أن تكون تلك الشهور في ابتداء الدنيا كذلك كما في قوله : { وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ } [ سورة الحج ، الآبة : 47 ] ونحوه(4/323)
ج4ص324
ولا مانع منه فهو أحسن من الزيادة المحضة ، وفسر الكتاب باللوح وبالحكم لأنه يقال كتب الله كذا بمعنى حكم به ، أو قدره كما مرّ وقدم الأوّل لأنه أظهر وأسلم عن التكرار مع قوله عند الله.
قوله : ( متعلق بما فيه من معنى الثبوت الخ ) أي بما في قوله كتأ! الله من معنى الثبوت
الدال عليه بمنطوقه ، أو بمتعلقه أو بالكتاب إن كان مصدراً بمعنى الكتابة لا عيناً وجثة ، وإنما قال والمعنى الخ لأنّ كونها في اللوح أو في الحكم الإلهي أزلي قبل خلقهما فبين أن ا!مراد تقييده به باعتبار الوقوع ، ولما كان الوقوع مستمراً لا مقيدا بالخلق أشار بقوله مذ خلق إلى أنه بيان لابتدائه فلا ينافي استمراره ، وزاد الأزمنة لأن المراد بخلق السماوات والأرض! إيجادها ، وايجاد ما فيها من الجواهر والأعراضى والمعنى أنه في ابتداء إيجاد هذا لعالم كانت عذتها كذلك ، وهي على ما كانت عليه فاندفع ما قيل إن قوله في كتاب الله ليس بمعنى حكمه وقضائه وتقديره لأنّ ذلك قبل خلق السماوات والأرض ، ومنها أي من الاثني عشر. قوله : ( واحد فرد الخ ) قال النووي في شرح مسلم الأشهر الحرم أربعة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر أضيف لهم لأنّ بعض العرب وهي ربيعة كانوا يحرمون رمضان ويسمونه رجبا ، ولذا قال في الحديث : " رجب مضر الذين بين جمادى وشعبان " ) 1 ( بيانا له ، واختلف في ترتيبها فقيل أوّلها المحرم وآخرها ذو الحجة فهي من شهور عام وقيل أوّلها رجب فهي من عامين ، وقيل أوّلها ذو القعدة وهو الصحيح لتواليها ، وفي الحديث ثلاث متواليات ورجب مضر ، اهـ وأورد عليه ابن المنير في تفسيره أنه إنما يتمشى على أن أوّل السنة المحرّم ، وهو حدث في زمن عمر رضي الله عنه ، وكان يؤرخ قبله بعام الفيك ، ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأوّل فتأمّله ، وقوله وثلاثة سرد أي متوالية من سرد العدد تابعه ، والمحرّم لا يستعمل بغير أل لكونه علما بالغلبة. قوله : ( أي تحريم الأشهر الآربعة ( جعل الإشارة إليها لقربها ولا يضر كون ذلك للبعيد لأنّ الألفاظ لتقضيها في حكمه كما مرّ تحقيقه في ذلك الكتاب ، ولم يلتفت إلى جعلها لكون
العدّة كذلك الذي رجحه الإمام بأنّ كونها أربعة محرمة مسلم عند الكفار ، وإنما القصد الردّ عليهم في النسيء والزيادة على العدّة لأن التفريع الذي بعده يقتضيه فتأمّل. قوله : ( وارتكاب حرامها ا لك أن تفسر هتك حرمتها بالقتال فيها وارتكاب حرامها بارتكاب المحرّمات على تفسيري الظلم فيتغايران ، وأن تجعل الثاني تفسيراً له أي ارتكاب الحرام فيها فالإضافة على معنى في أو لأدنى ملابسة. قوله : ( والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة ) واختلف في الناسخ لها ، ولذا لم يذكره المصنف رحمه الله للاختلاف فيه مع أن الأصح النسخ ، وأن الظلم هنا مؤوّل بارتكاب المعاصي فيها وتخصيصها به مع أنه مطلق لتعظيمها وأن الإثم فيها أشذ من غيرها كما في الحرم وشهر رمضان وحال الإحرام ، وقوله : ( عن عطاء الخ ) هو عطاء بن أبي رباح ، وهو المراد حيث أطلق ، وقوله إلا أن يقاتلوا بصيغة المجهول والضمير للمسلمين أو المعلوم والضمير للكفار وإنما استثنى هذا لأنه للدفع فلا يمنع منه بالاتفاق أو لأنّ هتك حرمته ليس منهم بل من البادئ. قوله : ( ويؤيد الأوّل ) أي القول بالنسخ المقابل لقول عطاء وما ذكره من كون غزوة حنين في شوّال وذي القعدة رواية صحت عنده ، وقال محمد في الأصل إنه حاصر الطائف من مستهل المحرّم أربعين يوما ، وفتحها في صفر وهو يدل على النسخ أيضا ، ونقل النسفي عن الواقدي أنه خرج لها في سادس شوّال وهزمهم فهرب أميرهم مالك بن عوف مع بقيتهم وتحصنوا بالطائف فتبعهم صلى الله عليه وسلم ، ومعه المسلمون وحاصرهم بقية الشهر فلما دخل ذو القعدة وهو من الحرم انصرف فأتى الجعرانة ، وقسم السبي والأموال وأحرم بعمرة منها. قوله : ( جميعاً ) هذا هو المراد منه وهو في الأصل مصدر انتصب على الحال ، وهل يلزم النصب على الحال ، ولا يتصرف أولاً فيه كلام بسطناه في شرح الدرة وهو بمعنى المفعول لأنه مكفوف عن الزيادة ، ويجوز أن يكون اسم فاعل لأنه يكف عن التعرّض له ، أو التخلف عنه وهو حال إمّا من الفاعل أو المفعول أي لا يتخلف أحد منكم عن القتال أو لا تتبركوا قتال أحد منهم ، وقوله : ( بشارة الخ ) لأنّ الجند الذين معهم لا يشك في نضرتهم ، وقوله : ( بسبب تقواهم ( لأن التعليق بالمشتق يفيد عليه مأخذ(4/324)
ج4ص325
الاشتقاق كما مرّ مراراً.
فائدة : كان القتال في صدر الإسلام فرض! عين ، ثم نسخ وأنكره ابن عطية رحمه الله تعالى. قوله : ( تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر الخ ) جعله مصدراً على فعيل كالنذير والنكير
لأنه لا يحتاج إلى تقدير بخلاف ، ما إذا كان فعيلاً بمعنى مفعول صفة فإنه لا يخبر عنه بزيادة إلا بتأويل أي ذو زيادة أو إنساء التسيء زيادة ، وقوله : ( وهم محاربون ( أي عازمون على الحرب ، وقوله حتى رفضوا خصوص الأشهر أي تركوها واستبدلوا مكانها أشهراً أخر ، وربما زادوا في السنة شهرا لذلك ، وفي النسيء لغات بها قرئ أيضا كإبدال الهمزة ياء وإدغامها فالنسيّ ، كالنديّ وهي قراءة نافع ، وقوله وقرئ النسي بحذفها أي بحذف الهمزة وتسكين السين بوزن النهي كما في الكشاف ففي كلامه قصور والنسء ، كالمس وفي آخره همزة ، والنساء بالكسر والمد كالمساس. قوله : ) وثلاشها مصادر نسأه إذا أخره ) يعني النسي كالنهي والنسء كالبدء والنساء كالنداء ، وسكت عن النسيّ بوزن فعيل فإنه اختلف فيه فقيل هو مصدر كالنذير وقيل وصف كقتيل وجريح. قوله : ( لأنه ثحريم ما أحله الله الخ ) يعني أنهم لما توارثوه على أنه شريعة ، ثم استحلوه كان ذلك مما يعد كفرا ، وترك الوجه الآخر الذي ذكرهه الزمخشري من أنه معصية ، والكفر يزداد بالمعصية كما يزداد الإيمان بالطاعة لما يرد عليه من أن المعصية ليست من الكفر بخلاف الطاعة فإنها من الإيمان على رأي وإن أجيب عنه بما لا يصفو عن الكدر. قوله : ( ضلالاً زائداً الخ ) لاًنّ أصل الضلال ثابت لهم قبله فالمراد زيادته فيكون لهم زيادة كفر على كفر ، وضلال على ضملال فهم في ظلمات بعضها فوق بعض ، وهذا على كونه من الثلاثي المعلوم وعلى كونه من الإضلال معلوماً ومجهولاً الفاعل الله ، أو الشيطان وعلى المعلومية يصح أن يكون الذين فاعلا ومفعوله محذوف أي اتباعهم ورجح هذا على الأوّل. قوله : ( فيتركونه على حرمته ) فسر تحليله بتاخير الشهر الحرام ومعناه ثحريم شهر آخر مكانه ، وفسر تحريمه بإبقائه على حرمته القديمة وتحريم تأخيره ، وجنادة بضم الجيم والنون والدال المهملة علم ، والمراد بالمحرم في كلامه شهر المحرّم ، أو ما كان محرّما من الأشهر مطلقأ ، والقابل غلب في العرف على العام الذي بعد عامك ، وقوله : ( أو حال ) وعلى الأوّل لا محل لها من الإعراب قيل والوجهان سواء في تبيين الضلال وإنما الاختلاف في المحلية وعدمها.
قوله : ( واللام متعلقة بيحرّمونه الخ ) وإذا حرّموه لأجل موافقة ما حرّمه لزم أن لا يحرّموا بدله لمالا لزادت العدّة فلا يقال كان عليه أن ينبه على هذا ، كما قيل وجعله بعضهم من التنازع ، وما دل عليه المجموع هو فعلوا ذلك ونحوه. قوله : ( بمواطأة العدّة وحدها الخ ) يعني كان الواجب عليهم العدة ، والتخصيص فإذا تركوا التخصيص فقد استحلوا ما حرّم الله. قوله : ( وهو الله تعالى والمعنى خذلهم ( تفسير لتزيين الله لهم سوء أعمالهم لدلالة قراءة المبني للفاعل على أنّ المزين هو الله تعالى ، والا ففي كثير من المواضع يجعل المزين هو الشيطان ، وحينئذ لا يفسر التزيين بالخذلان بل بالوسوسة ، وقد مرّ تحقيقه ، وقوله : ( هداية موصلة الخ ) تفسير له وتقييد على القولين لأنه المنفي. قوله : ( تباطأتم الخ ( تفاعل من البطء ، وهو عدم السرعة إلى الجهاد ، وأصل إثاقلتم تثاقلتم كما قرئ به على الأصل فأدغصت التاء في الثاء ، واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن ، وإذا متعلق به أما على قراءة أثاقلتم بفتح الهمزة على أنها همزة استفهام وهمزة الوصف سقطت في الدرج فيكون العامل فيه فعلا دل عليه الكلام كملتم لأنّ الاستفهام له الصدر ، فلا يتقدم مفعوله عليه ، والاستفهام للتوبيخ في هذه القراءة ، وهو ظاهر. قوله : ( متعلق به الخ ا لما كان تثاقل يتعدّى ضمنه معنى الإخلاد ، وهو الميل وضمير بها للغزوة ووقت عسرة أي قحط وعدم عذة والقيظ شدة حرّ الصيف ، والشقة بالضم والكسر مسافة بعيدة يشق قطعها وقوله بدل يعني معنى من البدل ، وقوله في جنب الآخرة أي إذا قيست إليها ، وهذه تسمى في القياسية لأن المقيس يوضع بجنب ما يقاس به. قوله : ( مطيعين الخ ) ترك قول الزمخشري أطوع وخيراً منكم لأنه زيادة من غير حاجة مع أنه هو الواقع المناسب لعدم نفارهم ، وقوله : فإنه الغنيّ الخ إشارة إلى أن عدم الضرّ ليس مقيداً بالاسنبدال بل مع قطع النظر
عنه ، والضمير على هذا لله وفي الكلام مضاف مقدر وشيئا مفعول(4/325)
ج4ص326
به أو مفعول مطلق ، وقوله وعدله الخ أي وعداً سابقا على هذا الوعد ، وقوله فيقدر على التبديل هو من قوله يستبدل قوما غيركم وتغيير الأسباب أي أسباب النصرة ، وينصره بلا مدد ، وقوله كما قال الخ فيكون قوله : { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تتميما لما قبله وتوطئة لما بعده. قوله : ( فسينصره الله كما نصره الله الخ ا لما كان الجواب هنا ماضا والشرط جوابه مستقبل حتى إذا كان ماضيا قلبه مستقبلا ، وهنا لم ينقلب جعل الجواب فسينصره كما نصره أوّلاً ، وفي الكشاف فيه وجهان أحدهما ألا تنصروه فسينصرهـ من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد ، ولا أقل من الواحد فدل بقوله فقد نصره الله على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت ، والثاني أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلن يخذل من بعده والى هذين الجوابين أشار المصنف رحمه الله بما ذكره لكنه اعترض! عليه بأنّ مآلهما واحد فينبغي الاقتصار على أحدهما ، وقيل الوجهان متقاربان إلا أنّ الأوّل مبني على القياس ، والثاني على الاستصحاب فإنّ النصرة ثابتة في تلك الحالة فتكون ثابتة في الاستقبال إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان ، والحاصل أنه لما جعله دليلاً على الجواب أثبت الدلالة بوجهين والمآل واحد ، وقد يقال إنه على الوجه الأوّل يقدّر الجواب ، وعلى الثاني هو نصر مستمرّ فيصح ترتبه على المستقبل لشموله له ، وإنما قال كالدليل لأنه لا يلزم من إحدى النصرتين الأخرى إذ هو فعال لما يريد لكنه جرى على عوائد كرمه ، وأن الكريم لا يقطع إحسانه ، وتفسير الإبان لم لتبيين النفي لأنّ إلا في صورة الاستثنائية فلا يرد ما قيل إنه لا وجه له. قوله : ( وإسناد الإخراج إلى الكفرة الخ ) يعني أنه إسناد إلى السبب البعيد ، والحال عن ضمير نصره أو من أخرجه والأوّل أولى ، وقيل إنّ إسناده لهم حقيقة شرعية وفيه نظر ، وقوله إذ المراد به زمان متسع دفع لتوهم تغايرهما المانع من البدلية ، وقيل إنه ظرف لقوله ثاني اثنين ، دماذ يقول بدل منه ، وقوله والغار أي المذكور ، وقوله : ( في يمنى
مكة ) أي في الجهة اليمنى. قوله : ( وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه ) في الكشاف وقالوا : من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عته فقد كفر لإنكاره كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصمحابة رضي الله عنهم ، وقيل إنه ليس بمنصوص عليه فيها بل المنصوص عليه أنّ له ثانيا هو صاحبه فيه فمانكار ذلك يكون كفرا لا إنكار صحبته بخصوصه ، ولذا قال : قالوا فجعل العهدة فيه على غيره وفيه نظر ، وقوله : ( بالعصمة والمعونة ( يعني أنها معية مخصوصة والا فهو مع كل أحد ، وقوله : ( روي الخ ) ( 1 ( رواه البخاري ومسلم إلى قوله الله ثالثهما ، وما بعده رواه البزار والطبراني والبيهقي في الدلائل عن أنس رضي الله عته والمغيرة بن شعبة رضي الله عته ، وقوله : ( فأشفق ( أي حزن وخاف ، وقوله ما ظنك الخ أي أتظن بهما شرّاً وضرراً ويتردّدون بمعنى يجيؤون ويذهبون مراراً ، والكلام على السكينة وهي الطمأنينة قد مرّ. قوله : ( على النبئ صلى الله عليه وسلم أو على صاحبه رضي الله عنه وهو الأظهرا لأنّ النبيّءلمجرو لم ينزعج حتى يسكن ، ولا ينافيه تعين عود ضمير أيده على الرسول صلى الله عليه وسلم لعطفه على قد نصره لا على أنزل حتى تنفك الضمائر ، وقيل بل الأظهر الأوّل وهو العناسب للمقام ، وانزال السكينة لا يلزم أن يكون لدفع الانزعاج بل قد يكون لرفعته ، ونصره كما مرّ في قصة حنين والفاء للتعقيب الذكرى ، ا هـ وقوله فتكون الجملة الخ يعني على الوجه الثاني لأنه لو عطف على أنزل عليه يكون متعقباً على ما قبله وليس كذلك بخلافه على الأوّل فلا وجه لما قيل إنه على الوجهين ، والأولى ترك الفاء المقتضية لتفريعه على الثاني وقوله يعني الشرك الخ فالكلمة مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به ، وعلى الوجه الآخر بمعنى الكلام مطلقا ، وقابله بتفسير كلمة الله بالتوحيد أو دعوة الإسلام على اللف والنشر للتفسيرين. قوله. ( والمعنى وجعل ذلك الخ ) إشارة إلى ما تضمنه الكلام من إعلاء كلمته تعالى ، وتسفيل كلمتهم وكون التخليص سببا لذلك باعتبار أنه مبدأ الجعل المذكور ،
وهذا يقتضي كونهما في حيز الجعل وهو على قراءة النصب ، وسياق كلامه ليس فيها ودفع بأنهما داخلان فيه لا من حيث تسليط الجعل عليه بل من حيث كون جعل كلمة الذين كفروا سفلى يستلزم علوّ كلمة الله فهو لا ينافي قراءة الرفع ، وبتأييده عطف على بتخليصه ، وقوله : ) حيث(4/326)
ج4ص327
حضر ( بالمعجمة من الحضور. قوله : ( والرفع أبلغ لما قيه من الإشعار الخ ) أي أكثر بلاغة لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام ، والثبوت وإن الجعل لم يتطرق لها لأنها في نفسها عالية بخلاف علوّ غيرها فإنه غير ذاتيّ ، بل بجعل وتكلف فهو عرض زائل غير قار وان تراءى للعقول القاصرة خلافه ، وقيل : إنما الرفع أبلغ لما في النصب من إيهام التقييد بالظروفب السالفة إذ أخرجه وما بعده ، وهو وارد على قوله وأيده بجنود فالأولى التعليل بأن جعل كلمة الله في حيز الجعل والتصيير غير مناسب بل هو دائم ثابت ، ولا كذلك تسفيل كلمة الكفر الذي هو جعلها مقهورة منكوسة بين الناس ، وأما التعليل بأن جعل الله كلمة الله كأعتق زيد غلام زيد ، فمدفوع بأنّ هذا لا فائدة فيه ، وفي إضافة الكلمة إلى الله إعلاء لمكانها وتنويه لثأنها وفيه بحث. قوله : ) في أمره وتدبيره ( لف ونشر مرتب ، وفسر الخفة والثقل بوجوه خمسة مآلها إلى حال سهولة النفر وحال صعوبته ، ولذلك أسباب كنشاط الإنسان وعدمه لما فيه من المشقة أو لقلة العيال ، وكثرتهم أو لكونه له سلاج وعدمه أو لكونه صحيحا أو مريضاً ، وابن أمّ مكتوم من الصحابة رضوان الله عليهم ، وكان رضي الله عنه ضريراً وهذا يقتضي أنّ آية ليس على الأعمى حرج نزلت بعد هذه الآية وهو لا ينافي كون هذه السورة من آخر ما نزل أي مجموعها أو أكثرها ، وهذه الآية نزلت في النفير العائم وتفصيله في الفروع ، والجهاد فرض كفاية في الأصل. قوله : ) بما أمكن الخ ) يعني يجاهد بنفسه إن قدر والا فبإنفاقه ماله إن كان له مال فينفقه على السلاح ، وتزويد الغزاة ونحوه ، وقوله من تركه أي عندكم أو عند الله إن كان في تركه مرابطة ، وحفظ للعيال ونحوه. قوله : ) تعلمون الخير الخ ) يعني علم متعد لواحد بمعنى عرت تقليلأ
للتقدير أو مفعولاه ذلك خيراً فيتعذى لاثنين وجواب إن مقدّر هو علمتم أو بادروا ، وفسر العرض بالنفع الدنيوي كما مرّ وقربه عبارة عن سهولة تناوله ، وقاصداً من القصد ، وهو التوسط أي بين البعد والقرب ، وبعد يبعد كعلم يعلم لغة فيه لكنه اختص ببعد الموت غالبا ، ولا تبعد يستعمل في المصائب للتفجع والتحسر كما قال :
لا يبعد الله إخواناً لنا ذهبوا أفناهم حدثان الدهر والأبد
قوله : ( رجعت من تبوك ) أي من غزوة تبوك ، وهي معروفة في السير وتبوك محل سمي
بعين فيه ، وهي العين التي أمر النبيّء! أن لا يمسوا من مائها شيئآ فسبق إليها رجلان ، وفيها شيء قليل من ماء فجعلا يدخلان فيها سهماً ليكثر ماؤها فقال لهما رسول الله لمجير : " ما زلتما تبوكانها " ( 1 ( أي تحفرانها فسميت تبوك وهي غير مصروفة. قوله : ( يقولون لو كان لنا استطاعة العدّة أو البدن الخ ) بالله إمّا متعلق بسيحلفون وهو مختار المصنف رحمه الله أو من جملة كلامهم ولا بد من تقدير القول في الوجهين أي سيحلف المتخلفون عند رجوعك معتذرين يقولون بالله لو استطعنا أو سيحلفون بالته يقولون لو استطعنا ، وقوله لخرجنا فيه مذهبان أحدهما إن لخرجنا جواب القسم ، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم ، والشرط إذا تقدم القسم ؤهو اختيار ابن عصفور رحمه الله ، والآخران لخرجنا جواب لو وهي وجوابها جواب القسم ، وهو اختيار ابن مالك رحمه الله ، وأما كونه ساذا مسد جوابي القسم ، والشرط فقيل عليه إنه لم يذهب إليه أحد من أهل العربية ، وأجيب عنه بأنّ مراده إنه لما حذف جواب لو ودل عليه جواب القسم جعل كأنه سذ مسذ الجوابين ، وأما ما قيل لا حاجة إلى تقدير القول لأن الحلف من جن! القو! فهو أحد المذهبين المشهورين ، فلا يضر من وجهه على المذهب الآخر ، وقدره فعلا لا قائلين لأنه بيان لقوله سيحلفون فيقتضي الفعلية. قوله : ) وقرئ لو استطعنا بضم الواو الخ ( هي قراءة الحسن وقرئ بالفتح ففيه ئلاثةءوجه وقرا آت ، وقوله ساذ مسذ جوابي القسم مرّ تحقيقه أما على كونه من كلامهم فظاهر وأما على تعليقه بالفعل فلأن جملة القول مفسرة ، وبيان له فيتضمن معنى القسم وفيه تأمل. قوئه : ( وهو بدل من سيحلفون ( قيل إن الهلاك ليس مرادفأ للحلف ، ولا هو نوع منه ، ولأ يجوؤ أن يبدل فعك من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعا منه ، وفي كلام المصنف رحمه الله ما يد فيه وهو قوله لأنّ الحلف الخ
فهما مترادفان فإن اذعاء فيكون بدل كل من كل ، وقيل إنه بدل اشتمال لأنّ(4/327)
ج4ص328
الحلف سبب للإهلاك والمسبب ببدل من السبب لاشتماله عليه وله نظائر كثيرة وكلام المصنف رحمه الله يحتمله أيضا وعليه حمله بعض أرباب الحواشي. قوله : ( أو حال من فاعله ( أو استئناف وفي الكشاف يحتمل أن يكون حالاً من فاعل لخرجنا ، ولبعده لم يذكره المصنف رحمه الله تعالى لكن سبق منه ما يقاربه في الأعراف في قوله سيغفر لنا فراجعه ، وقوله لأنهم كانوا مستطيعين كذب الشرطية إما بكذب الملازمة بأن يقال لا يخرجون لو استطاعوا ، أو بتخلف الجزاء مع وجود الشرط ، وكذبها بأنهم استطاعوا ، وما خرجوا والثاني مستلزم للأوّل ، ولذا اختاره المصنف رحمه الله ، ولأن النظم دل عليه كقوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } [ سورة التوبة ، الآية : 46 ] . قوله : ( كناية عن خطئه ) تبع في هذا الزمخشرقي ، إذ قال في تفسيره أخطأت وبئسما فعلت ، وفي الانتصاف ليس يصح أن يفسره بهذا ، وهو بين أحد أمرين إمّا أن لا يكون مراداً لله أو يكون ولكن قد أجل نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم عن مخاطبته بصريح العتب ، ولطف به في الكناية عنه بما يلزم أن يقال عنده فما باله لم يتأدب بآداب الله خصوصاً في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم فعلى كلا التقديرين هو ذاهل عما يجب من حقه صلى الله عليه وسلم ، ولقد أحسن من قال في الآية إن من لطف الله بنبيه صلى الله عليه وسلم أن بدأه بالعفو قبل العتب ، وقال ابن الجهم للمتوكل :
عفا الله عنك ألا حرمة تجودبفضلك يا ابن الندى
وقال السخاوندي : هو تعليم لتعظيمه ع! ، ولولا تصدير العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب ، وهو يستعمل حيث لا ذنب كما تقول لمن تعظمه عفا الله عنك ما صنعت في أمري ، وفي الحديث عجبت من يوسف عليه الصلاة والسلام وصبره وكرمه ، والله يغفر له وفي الشفاء إنه افتتاح كلام بمنزلة أصلحك الله وأعزك ، ولقد اشمأز من هذه الكلمة كثير من أهل الورع ، وعدوها من قبيح سقطاته ، حتى أن البدر النابلسي رحمه الله صنف فيه مصنفاً سماه جنة الناظر وجنة المناظر ، وكان هذا سبباً لامتناع الإمام السبكي رحمه الله من إقراء الكشاف ، ولهذه السقطة نظائر فيه فكان على المصنف رحمه الله أن لا يتابعه في مثله فإنه إمّا ترك للأولى أو خطأ في الاجتهاد الذي به الثواب فلا متمسك فيها لمن جوّز صدور الخطيئة منهم عليهم الصلاة والسلام على ما فصل في الأصول ، وهذا على أنه إنشاء للدعاء ، وأما كونه إخباراً فهو يشعر بالذنب ، والخطأ فلذا جعل كناية عنه فلا يكون الإخبار عن العفو مقصودا أصلياً لأن العتاب والإنكار بعده بقوله لم أذنت لهم يكون مخالفا للظاهر ، وفيه نظر والزمخشرقي جعله كناية عن الجناية وحاول بعضهم توجيه كلامه بأنّ مراده أنّ الأصل فيه ذلك فأبدله بالعفو تعظيماً لشأنه ، ولذا قدم العفو على ما يوجب الجناية فلا خطا فيه ، ولو اتقى هو والموجه موضع التهم كان أولى وأحرى. قوله : ( واعتلوا بثاذيب ) أي بينوا علة للتخلف كاذبة ، وقوله : ( هلا توففت ) يشير إلى أن حتى غاية للتوقف المفهوم من الكلام لا للإذن لعدم صحة المعنى عليه ، وقيل
تقديره ما كان الإذن حتى يتبين. قوله : ( في الاعتذار الخ ( قيل لو أطلقه كان أولى أي يتبين الكاذب من الصادق والمخلص من المنافق لأنّ هذا يقتضي إن في هؤلاء ا!معتذرين من صدق في الاعتذار ، والنظم مصرّح بخلافه وبناؤه على الفرض ، والتقدير مما لا حاجة إليه. قوله : ( قيل إنما فعل رسول الله عنييه الخ ( قال زبدة المتأخرين قال مولانا مفتي الممالك شمس الدين أحمد بن كمال باشا في بيتي يوم الاثنين ثاني عشر محرّم الحرام لسنة ثمان وثلاثين وتسعمائة بمحضر مولانا عبد القادر قاضي العسكر ، وغيره من العلماء الحضر هذا الحصر ليس بصحيح فإنّ لهما ثالثا وهو المذكور في سورة التحريم ، يعني تحريم ما أحله الله ابتغاء لمرضاة أزواجه ، وقلت أنا بل رابعاً وخامسا إلى غيره ، أعني ما دكر في سورة عبس في قصة ابن أم مكتوم رضي الله عنه ، ولك أن تقول أشار المصنف رحمه الله بصيغة التمريض إلى ذلك ، ويجوز إصلاج كلامه بتقييد الشيئين بما يتعلق بأمر الجهاد ، والله وليّ الرشاد اهـ ، وقد قرأته بخطه الشريف رحمه الله ، وأخذه للفداء قد تقدم في قوله تعالى : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ } [ سورة الأنفال ، الآية : 68 ] وأذنه للمنافقين ما وقع هنا. قوله : ( أي ليس من عادة المؤمنين الخ ( نفي العادة مستفاد من نفي(4/328)
ج4ص329
الفعل المستقبل الدال على الاستمرأر نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم ، وقال النحرير حمله على نفي الاستمرار ولو حمله على استمرار النفي كما في أكثر المواضع أي عادتهم عدم الاستئذان لم يبعد وفي الانتصاف لا ينبغي لأحد أن يستأذن أخاه في فعل معروف ، ولا للمضيف أن يستأذن ضيفه في تقديم الطعام إليه وذلك أمارة التخلف ، ولذا قيل في وصف الخليل لمجز فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين لأنّ معنى راغ ذهب خفية وهذا مما يجب التأدب به ، وقوله : ( في أن يجاهدوا ) فهو متعلق بالاستقرار بتقدير في. قوله : ( أو أن يستأذنوك في التخلف الخ ( يعني أنّ متعلق الاستئذان محذوف ، وأن يجاهدوا مفعول لأجله بتقدير مضاف أي كراهة أن يجاهدوا ، والمعنى على نفي الاستئذان ، والكراهة معأ فإذا أمرتهم بشيء بادروا إليه ، وقيل تقديره في أن لا يجاهدوا كما مرّ نظيره ، وقوله : ) الخلص! ( جمع خالص ، وهو مستفاد من الجهاد بالمال والنفس فلا وجه لما قيل إنه ليس بمستفاد من الآية وإنما هو إلواقع منهم ،
وقوله : ( فضلاَ الخ ) يعلم من مفهومه لأنهم إذا لم يستأذنوه في الجهاد المطلوب ، فكيف في التخلف المذموم ، ولذا لم يقدر المصنف رحمه الله أن لا يجاهدوا كما قدره الإمام. قوله : ( شهادة لهم بالتقوى وعدة لهم بثوابه ) قيل أما ألشهادة فلوضعالمظهر موضع المضمر أو إرادة جنس المتقين ودخولهم فيه دخولاً أوّليا والا لم يناسب المقام ، وأما 11 لوعد فلأنّ الأعمال الصالحة تقتضي الوعد بالثواب ، كما أنّ الأعمال الفاسدة مقتضية للوعد بالعقاب ، ورد بأنّ الوعد بالثواب ليس من مجرّد اقتضاء الاتقاء حسن الثواب بل من جهة إن مثل قولنا أحسنت إليّ فأنا أعلم بالمحسنين ، وعدله بأجزل ما يمكن من الثواب كما أنّ قولك أسأت إليّ فأنا أعلم بالمسيء وعيد بأشد العقاب وعلى هذا فلتقس المواضع التي يقع فيها ذكر علم الله بما مرّ من ذلك. قوله : ( تخصيصر الإيمان بالله الخ ) يعني هنا وفي قوله : { يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } خصا بالذكر لأنهما الباعث على الجهاد والوازع بالزاي المعجمة والعين المهملة أي المانع عنه لأنّ من آمن بهما قاتل في سبيل دينه وتوحيده ، وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر ، وهما مستلزمان للإيمان بما عداهما ، وقوله يتحيرون يعني التردد مجاز أو كناية عن التحير لأن المتحير لا يقرّ في مكان وأصل معنى التردّد الذهاب والمجيء ، وقوله أهبة بهمزة مضمومة تليها هاء موحدة هي هنا ما يحتاج إليه المسافر كالزاد والراحلة. قوله : ( وقرئ عدّة بحذف التاء الخ ) يعني بضم العين وتشديد الدال والإضافة إلى الضمير الذي هو عوض عن تاء التأنيث المحذوفة فإن الإضافة قد تعوّض عنها إذا كانت لازمة كإقام الصلاة لأنّ التاء عوض عن محذوف كما في عدة بالتخفيف بمعنى الوعد في البيت فلا تحذف بغير عوض ، وقوله :
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى ، والخليط الأصدقاء المخالطون وانجردوا بمعنى ارتحلوا بأجمعهم وأسرعوا المسير ، والشاهد في عد بكسر العين وتخفيف الدال وأصله عدة قال السفاقسيّ : قرأ محمد بن مروان وابنه معاوية عدة بضم العين والهاء دون التاء فقال الفرّاء : سقطت كما في إقام الصلاة. وهو سماعي ، وفي اللوامح لما أضاف أناب الإضافة عن التاء فأسقطها قال أبو حاتم : هو جمع عدة كبرة وبرّ. قوله : ( استدراك عن مفهوم قوله ولو أرادوا الخ ( هذا دفع لسؤال تقديره إنّ قوله أراد الخروج معناه نفي إرادتهم للخروج وقوله كره ال!ه الخ نفي لإرادة الله الخروج فكيف استدرك نفي إرادتهم الخروج بنفي إرادة الله لهم الخروج
والاستدراك من النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي ، فلا انتظام لهذا الكلام أجاب عنه بأنّ قوله ، ولو أرادوا الخروج يستلزم نفي خروجهم والمراد بقوله كره الخ تثبيطهم عن الخروج ، لأنّ كراهة انبعاثهم سبب لتثبيطهم فأقيم السبب مقام المسبب فكأنه قيل ما خرجوا لكن تثبطوا عن الخروج فهو استدارك نفي الشيء بإثبات ضدّه كما يستدرك نفي الإحسان بإثبات الإساءة في قولك ما أحسن إليّ لكن أساء والتثبيط التعويق ، والصرف عما يريد فعله وهذا كلام في غاية الانتظام وكذا قرّره شراح الكشاف ، واعترض عليه بأن لكن تقع بين ضدين أو نقيضين أو مختلفين على قول ، وما نحن فيه بين متفقين على تقريرهم ، ولذا(4/329)
ج4ص330
قيل في صحة الاستدراك على ما قالوا بحث ، والظاهر أنّ لكن هنا للتأكيد كما أثبتوه ، ودفعه أنه له لما قال : ما خرجوا خطر بالبال أنه عرض! مانع عوّقهم عن الخروج فاستدرك بنفيه ، وقال : إنهم تثبطوا أي تكلفوا إظهار التثبط ، والعائق ولا أصل له وبين عدم الخروج المستلزم للعائق غالباً ، وعدم العائق تضادّ في الجملة ومن لم يتنبه لهذا قال : لم لم يعتبر نفي إرادتهم واعتبر لازمه من الخروج ، ولو جعل المعنى ما أرادوا الخروج ولكن تثبطوا ظهر معنى الاستدراك ولم يدر أنّ التعويق إنما يكون عما أريد فتدبر. قوله : ( تمثيل لالقاء الله كراهة الخروج الخ ) يعني إنه تعالى جعل خلق داعية القعود فيهم بمنزلة الأمر ، والقول الطالب كقوله تعالى : { فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } [ سررة البقرة ، الآية : 243 ] أي أماتهم ، وهو المراد بقوله جعل القاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمر بالقعود ، وقوله : ( أو وسوسة ) بالجرّ معطوف على القاء وبالأمر متعلق بتمثيل أي تشبيه لهذا أو لهذا به ، وقيل إنه مرفوع معطوف على تمثيل ، وبالأمر متعلق به ، والأوّل أوجه. قوله : ( أو حكاية قول بعضهم ) معطوف على تمثيل وأذن الرسول مجرور معطوف على قول بعضهم ، ويحتمل الرفع عطفا على تمثيل ، وعلى هذين فالقول على حقيقته. قوله : ( والقاعدين يحتمل المعذورين ) حكاه بلفظ الواقع في النظم ، وفي الكشاف إنه ذم لهم وتعجيز والحاق بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود ، والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ } [ سورة التوبة ، الآية : 87 ] يعني أنه أبلغ من أقعدوا ، وكونوا مع القاعدين لالحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفيز ، بالتخلف الموسومين بهذه السمة ، وهو من قبيل لأجعلنك من المسجونيبئ كما مرّ تحقيقه وفي كلام المصنف رحمه الله إجمال وابهام لأنه يحتمل أن يريد بالمعذورين هؤلاء ، وبغيرهم من سواهم فيكون مخالفاً لما في الكشاف ، ويحتمل أن يريد بالمعذورين الرجال الذين لهم عذر يمنعهم عن الخروج كالمرضي ، وبغيرهم من لا يحتاج إلى عذر في التخلف كالصبيان والنساء فيقرب مما في الكشاف ، وهو الذي ارتضاه بعض أرباب الحواشي مع قصور في بيانه ، وحوله : ( وعلى
الوجهين ) أي سواء أريد المعذورين أو غيرهم لا يخلو عن ذم لأنّ المراد بالأمر التخلية والتوبيخ لا حقيقته ، وقيل المراد بالوجهين أن يراد بالقول المجاز أو الحقيقة ، ولذا قيل : إنه على الأخير لا ذمّ فيه. قوله : ( ولا يستلزم ذلك ان يكون لهم خبال الخ ا لما!توهم أنّ زيادة الخبال تقتضي ثبوت أصله ، وليس فيهم ذلك جعل بعض المعربين الاسعثناء مفرّغاً منقطعا بتقدير ما زادوكم قوّة وخيراً لكن شرّا وخبالا دفعه المصنف رحمه الله تعالى تبعاً للزمخشركما بأنّ الاستثناء المفرغ يقدر المستثنى منه عاما أي زادوكم شيئا إلا خبالا على صلاحكم فلا يلزم ما ذكره مع أن الاستثناء المفرغ لا يكون إلا متصلاً فلا يصح صناعة ، وهذه من الفوائد التي لم يصرّح بها النحاة ، وقد التزم بعضهم صحته لأنه كان في تلك الغزوة منافقرن لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضاً واجتمعوا بهم زاد الخبال فلا فساد في ذلك الاستلزام ولو ثبت وكونه لا يكون مفرّغاً لأنه من أعم العام فيكون بعضه البتة. قوله : الآنه لا يكون مفرّكا ( يعني الاستثناء المنقطع لا يكون مفرّغا ) وفيه بحث ( لأنه لا مانع منه إذا دلت القرينة عليه كما إذا قيل ما أنيسك في البادية فقلت ما لي بها إلا اليعافير أي ما لي أني! إلا هذه. قوله : ( ولا سرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة الخ ( الإيضاع إسراع سير الإبل يقال وضعت الناقة تضع إذا أسرعت وأضعتها أنا ، والمراد الإسراع بالنمائم لأنّ الراكب أسرع من الماشي ، كما في الكشاف فقيل المفعول مقدر وهو النمائم فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها وأثبت لها الإيضاع ففيه تخييلية ومكنية ، وقيل : إنه استعارة تبعية شبه سرة إفسادهم لذات البين بالنميمة لسرعة سير الركائب ثم استعير لها الإيضاع وهو للإبل والتضريب الإفساد من قولهم ضرب البرد النبات ، إذ أسده والتخذيل إيقاع الخذلان وهو عدم النصرة ، وخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفاً بمعنى بين فإن قلت قول المصنف ولا وضحعوا ركائبهم ووضع البعير خطأ لقول الأخفش في كتاب المعاياة إنه لا يصح أن يقال أوضعت الركائب ولا وضع البعير ، وإنما يستعمل بدون قيد ، قلت : هذا غير متفق عليه كما ذكره نقلا(4/330)
ج4ص331
عن بعض أهل اللغة واستدل له بقوله :
فلم أرسعدي بعد يوم لقيتها غداة بها أحمالها صاج توضع
واعلم أنّ قوله ولا أوضعوا في الإمام مرسوم بألفين الثانية هي فتحة الهمزة والفتحة ترسم
لها ألف كما ذكره الدأني رحمه الله وتبعه الزمخشريّ هنا. قوله : ( يريدون أن يفتنوكم الخ ) يقال بغاه كذا وبغاله كذا بمعنى قلب ، وأراد والجملة خالية أي باغين لكم الفتنة ، وضعفة بفتحتين
جمع ضعيف واللام على التفسير الأوّل للتقوية كما في قوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ سورة هود ، الآية : 07 ا ] واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله يسمعون تولهم ففي الكلام مضاف مقدر وعلى الوجه الثاني اللام للتعليل ، وتوله والله عليم بالظالمين تقدم تحقيق دلالته على الوعيد قريبا. قوله : ( فإن ابن أبز رأس المنافقين الخ ) ثنية الوداع موضع معروف شامي المدينة ، وهو بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد الياء العقبة ، والوداع بفتح الواو سميت بها لأنه يوخ الخارج بها ، وقيل الوداع اسم واد خلفها وذو جدة مكان بقربه ، ولم أر له ضبطا وأظنه من تحريف النساخ وأنه ذو جسد وهو موضع بقرب المدينة فإنه ذكر في التواريخ ولم يذكروا غيره مع إحاطتهم ، وقصص المنافقين ومكايدهم مذكورة في السير. قوله : ( ودبروا لك المكايد والحيل الخ ) يعني الأمور المراد منها المكايد فتقليبها مجاز عن ثدبيرها أو الآراء فتقليبها تفتيشها واجالتها والآيتان هذه والتي قبلها وما ثبطهم لأجله هو أن حضورهم فيه ضرر دون نفع. قوله : ( تداركاً لما فوّت الرسول صلى الله عليه وسلم ) تعليل لما قبله ، وما فوته هو هتك أستارهم وبيان بطلان أعذارهم ، وهو دفع لما يقال إنّ خروج هؤلاء إن كان مصلحة فلم كرهه اللّه ، وان كان مفسدة !ما عوتب النبيّء صلى الله عليه وسلم بأنه مفسدة ، وإنما عوتب على عدم التأني فيه حتى يفتضحوا فكان الأولى التصفح عن كته ذلك ، والتأمّل فالعتاب على ترك الأولى نظراً للظاهر وحمل من ظاهره الإسلام على الصلاج والمقصود زيادة تبصيره وتدريبه فليس جناية كما زعمه الزمخشري. قوله : ( أي العصيان والمخالفة الخ ( لأنّ الفتنة تكون بمعنى الذنب كما مرّ والإشعار ظاهر وعلى الوجه الثاني الضرر ، وقوله : ( بنساء الروم ( لأنّ غزوة تبوك كانت للروم الذين بجهة الشأم ، وجد بن قيس من بني ، سلمة أحد المنافقين لعنهم الله تعالى ومولع بفتح اللام بمعنى كثير الشغف والمحبة يعني فأخشى العشق لهن ، أو مواقعتهن من غير حل وبنات الأصفر الروم كبني الأصفر ، وقيل
في وجه التسمية وجوه منها أنهم ملكهم بعض الحبشة فتولد بينهم نساء وأولاد ذهبية الألوان. قوله : ) أي أنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها الخ ( هذا التخصيص قيل : إنه مستفاد من تقديم الظرف على عامله والتصدير بأداة التنبيه فإنها تدلّ على تحقق ما بعدها ورذ بأنّ تقديم الظرف لا يفيد إلا تخصيص العامل لا بالعكس كما ذكر ، وأما التنبيه فيفيد مجرّد التحقق لا التخصيص فالأولى أن يقال لما كان قوله ألا في الفتنة رذأ لقوله ولا تفتني كان نفيا لتلك الفتنة ، وهي التخلف أو العيال أو بنات الأصفر واثباتا لهذه ، وهو معنى الحصر وقد يقال إنه بيان لمحصل المعنى وأنه لم يقعوا إلا في الفتنة لأن الفتنة هي التي سقطوا فيها لا غيرها فتدبر. قوله : ) جامعة لهم يوم القيامة الخ ( قال النحرير : فعلى الأوّل المجاز في محيطة حيث استعمل في الاستقبال ، وعلى الثاني في جهنم حيث استعمل في الأسباب أو الكلام تمثيل شبهت حالهم في إحاطة الأسباب بحالهم عند إحاطة النار وما ذكره بناء على أنّ اسم الفاعل حقيقة في الحال ، وقد حقق في محله فما قيل إنّ اسم الفاعل لا يدذ على شيء من الأزمنة وضعا فيستعمل لكل منه بحسب القرائن وأن جعل جهنم مجازاً بعيد عن الفهم ليس بشيء لمن عرف معنى كلام القوم. قوله : ( في بعض غزواتك ( قيده به لدلالة السياق عليه ، وقوله : ( كسر ( أي هزيمة لبعض جيشه يقال انكسر العسكر إذا انهزموا ، وهو حقيقة عرفية وأصله انشقاق الأجرام ، وتبجحوا بتقديم الجيم على الحاء المهملة بمعنى فرحوا وافتخروا ، واستحمدوا عدوه صوابا محمودأ والمتحذث بفتح الدال المشددة محل الاجتماع للحديث أي انصرفوا عن ذلك إلى أهليهم وخاصتهم ، أو تفرقوا وانصرفوا عنه !سيم ، فإن قلت فلم قابل الله تعالى هنا الحسنة بالمصيبة ولم يقابلها بالسيئة ، كما قال تعالى في سورة آل عمران { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } اسورة آل عمران ، الآية : 120 ](4/331)
ج4ص332
قلت لأن الخطاب هنا للنبيّ ! وهي في حقه مصيبة يثاب عليها لا سيئة يعاتب عليها ، والتي في آل عمران خطاب للمؤمنين. قوله : ) 1 لا ما اختصنا بإثباته الخ ) يعني إن كتب إما بمعنى قدر لنا ما لا بذ منه واللام للاختصاص أو بمعنى خطه واللوج فاللام للتعليل ، والأجل والمراد أنه لا يضرنا ما أنتم عليه فنحن راضون بما أراده الله ، ولم يرتض المعنى الثاني الزمخشرقي ، وغيره وقالوا إنه غير مناسب للمقام وان قوله هو مولانا لتأكيد ما سبق من
الاختصاص ، والدلالة على أنه المراد ، وقال الشارح رحمه الله : إنه دفع لما يقال إن المعنى إلا ما كتب الله في اللوح ، وجف به القلم فيدلّ على أنّ الحوادث كلها بقضاء الله تعالى ، والمصنف رحمه الله لم يعوّل على ذلك لأنه غير مسلم عنده فتدبر. قوله : ( وقرىء هل يصيبنا الخ ) جعل قراءة يصيبنا بتشديد الياء من صيب الذي وزنه فيعل لا فعل بالتضعيف لأنّ قياسه صوّب لأنه من الواوي فلا وجه لقلبها ياء بخلاف ما إذا كان صيوب على فيعل لأنه إذا اجتمعت الواو والياء ، والأوّل منهما ساكن قلبت الواو ياء وهذا قياس مطرد ، وقد مرّ تحقيقه في تخير وتدبر ومخالفة ابن جني رحمه الله في أمثاله ، وقوله : ( من بنات الواو ( أي الكلمات الواوية وبينه بأنه مشتق من الصواب لأنّ الإصابة وقوع الشيء فيما قصد به كما أن الصواب إصابة الحق ، ووقوعه في محله أو من الصوب وهو القصد أو النزول لأن المصيب يقصد ما أصابه وأما الصوب بمعنى الجهة ، كما في قولهم صوب الصواب فجاز كما في المصباج ، وهو مستعمل في كلام العرب وجوّز الزمخشرفي ، كونه من التفعيل على لغة من قال صاب يصيب. قوله : الأنّ حقهم أن لا يتوكلوا على غيره ( فيه إشارة إلى الحصر المأخوذ من تقديم الجاز والمجرور وتفريع التوكل على ما قبله يقتضي أنه لا ناصر ولا متولي لأمرهم غيره فقوله لأنّ الخ بيان لوجه الحصر أي انحصر التوكل عليه لأن حق المؤمن أن لا يتوكل على غيره ، وإنما كان حقه ذلك لأنه لا ناصر له ولا متولي لأمره سواه فاندفع ما قيل إنه لا وجه لتعليل المصنف رحمه الله والعلة ما قبله ، كما تفيده الفاء والتربص معناه الانتظار والتمهل ، وقوله : ( 1 لا إحدى العاقبتين الخ ( إشارة إلى وجه تأنيث الحسنى بأنه صفة لمؤنث ، وهو العاقبة ، وقوله : ( التي كل منها حسنى العواقب ( أي كل منهما أحسن من جميع العواقب غير الأخرى أو أحسن من جميع عواقب الكفرة ، أو كل منهما أحسن مما عداه من جهة فلا يرد عليه أنه يلزم أن يكون كل منهما أحسن من الآخر. قوله : ( النصرة والشهادة ( تفسير للحسنيين يعني ما ينتظرونه لا يخلو من أحد هذين وكل منهما حسن ، وقوله : ) إحدى السوأيين ( بهمزة وياءين تثنية سوأى مؤنث أسوأ كحسنى وأحسن وهو كحبليين تثنية حبلى ، وفي بعض النسخ السوأتين بتاء فوقية والأولى أولى لمقابلة الحسنيين. قوله : ( بقارعة من السماء ) القارعة الدا!ة والمميبة ونزو!ا من السماء كالصاعقة وريح عاد ، وهو في مقابلة بأيدينا فلذا فسر من عنده به ، وهو كناية عن كونه من الله
بلا مباشرة البشر ، وقوله أو بعذاب بأيدينا إشارة إلى أنه معطوف على صفة عذاب فهو صفة مثله لا أنه مقدر ، وفيد القتل بكونه على الكفر لأنه بدونه شهادة واشارة إلى أنهم لا يقتلون حتى يظهروا الكفر ويصروا عليه لأنهم منافقون والمنافق لا يقتل ابتداء كما هو معلوم من حكمه. قوله : ( أمر في معنى الخبر الخ ) كما أن الخبر يستعمل للأمر في نحو رحمه الله ويتربصن بأنفسهن كذلك الأمر يستعمل بمعنى الخبر كثيرا كما في قول كثير عزة :
أسيئي بنا أوأحسني لاملومة لدينا ولامقلية إن تقلت
وهو كما قال الزجاج : رحمه الله في معنى الشرط أي إن أحسنت وإن أسأت فلست
ملومة ولا مقلية وان تنفقوا طوعا أو كرها فلن ينقبل منكم فلا يتوهم أنه إذا أمر بالإنفاق كيف لا يقبله ، وهو استعارة تمثيلية شبهت حالهم في النفقة وعدم قبولها بوجه من الوجوه بحال من يؤمر بفعل ليمتحنه ويجز به فيظهر له عدم جدواه فلا يتوهم أن لفظه لفظ الأمر والتجوّز عن الأمر بالامتحان يقتضي بقاءه على الإنشائية والمبالغة جاءت من هذه الاستعارة ويمتحنوا بصيغة المعلوم أي يجرّبوا. قوله : ) وهو جواب قول جدّ بن قيس ( قال اين !سيد الناس رحمه الله تعالى في سيرته قال رسول لله مجتي! ذات يوم وهو(4/332)
ج4ص333
في جهازه يعني للعزاة للجد بن قيس أحد بني سلمة : " يا جدّ هل لك العام في جلاد بني الأصفر " فقال : يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشذ عجباً بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر فأعرض عنه رسول الله ىسي! وقال : " قد أذنت لك ففيه نزلت " ) 1 ( . قوله : ( ونفى التقبل يحتمل أمرين ) كل منهما يقع في الاستعمال فقبول الناس له أخذه وقبول الله سبحانه وتعالى ثوابه عليه ويجوز الجمع بينهما. قوله : ( إنكم كنتم قوما فاسقين ( في الكشاف المراد بالفسق التمرّد والعتو وهو دفع لما يقال كيف علل مع الكفر بالفسق الذي هو دونه ، وكيف صح ذلك مع التصريح بتعليله بالكفر وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا ودفعه المصنف رحمه الله تعالى بوجه آخر وهو أن المراد بالفسق ما هو الكامل وهو الكفر ولذا جعله بيانا
وتقريراً له ، والاستئناف نحوفي. قوله : ( وما منعهم قبول نفقاتهم الخ ) منع يتعذى إلى مفعولين بنفسه وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجز وهو من أوعن وهنا تعدى بنفسه إليهما كما أشار إليه وان كان حذف حرف الجرّ مع أنّ وأن مقيس مطرد ولذا قدره بعضهم هنا ، ولذا تعدى بحرف فيقال فيه منعه من حقه ومنع حقه منه لأنه يكون بمعنى الحيلولة بينهما ، والحماية ولا قلب فيه كما توهم ، وقال أبو البقاء رحمه الله : إن تقبل بدل اشتمال من هم في منعهم ولا حاجة إليه ، وفاعل منع أنهم كفروا كما أشار إليه المصنف رحمه الله وقيل ضمير الله وأنهم كفروا بتقدير لأنهم كفروا ، وقوله لأنّ تأنيث النفقات الخ وللفصل أيضا ، وقوله على أنّ الفعل لله أو للرسول صلى الله عليه وسلم إذا فسر القبول بالأخذ كما مرّ فإن قيل الكفر سبب مستقل لعدم القبول فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة ، وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر قلنا أجاب الإمام رحمه الله بأنه إنما يتوجه على قول المعتزلة القائلين بأن الكفر لكونه كفرا يؤثر في هذا الحكم ، وأما أهل السنة فإنهم يقولون هذه الأسباب معرّفات غير موجبة للثواب ولا للعقاب ، واجتماع المعرّفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز. قوله : ( لأنهم لا يرجون بهما ثواباً الخ ( أي بالصلاة والنفقة ، وفي الكشاف فإن قلت الكراهة خلاف الطواعية ، وقد جعلهم الله طائعين في قوله طوعاً ، ثم وصفهم بأنهم لاينفقون إلا وهم كارهون ، قلت المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من رؤسائهم وما طوعهم ذلك إلا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختيار يعني المراد بالكراهة هنا عدم الرغبة ، وهي لا تنافي الطوع كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى لكنه نوقش فيه بأنّ قوله طوعا أو كرها لا يدلّ على أنهم طائعون إذ غايته أنه ردد حالهم بين الأمرين وكون الترديد ينافي القطع كما قيل محل نظر كما إذا قلت إن أحسنت أو أسأت لا أزورك مع أنك لا تحسن. قوله : ( فلا تعجبك أموالهم الخ ) العجب ما يتعجب منه ، وما لم يعهد ويستعار للموفق الذي يروقك يقال أعجبني كذا أي راقني ومنه ما في هذه الآية ، وقوله ليعذبهم قيل هذه اللام زائدة ، وقيل المفعول محذوف ، وهذه تعليلية أي يريد إعطاهم لتعذيبهم ، وفيه تفصيل في محله ، وقوله يكابدون أي يقاسون فيها ما لم يقاسه لأنهم لعدم حصولهم على شيء غيرها أشد حرصا وتعباً. قوله : ( فيموتوا كافرين مشتنلين بالتمتع
الخ ا لما لم يصح تعليق الموت على الكفر بإرادته تعالى لتنزهه عن إرادة القبيح عند المعتزلة أوّله الزمخشريّ بأنّ مراد الله امهالهم ودوام النعمة عليهم إلى أن يموتوا على الكفر مشتغلين بما هم فيه عن النظر في العاقبة ، والقول بأنّ ما يؤدي إلى القبيح ويكون سببا له حكمه حكمه في القبح في حيز المنع وأجاب الجبائي بأنّ إرادة حال الكفر لا تستلزم إرادة الكفر كالمريض يريد المعالجة عند حدوث المرض والسلطان يريد المقاتلة عند هجوم العدوّ ولا يريد المرض والعدوّ ، ورذه الإمام رحمه الله بأنّ استلزام إرادة الشيء ما هو من ضرورياته ضروريّ ، وحصول الكفر من ضروريات الموت على الكفر بخلاف ما ذكره من الأمثلة فإنّ حاصل المعالجة إزالة المرض! ، ومريد زوال الشيء يمتنع أن يكون مريداً له وكذا مقاتلة العدوّ إزالة لهجومه ، واقدامه على الحرب وليست إرادة الموت على الكفر إرادة زواله ، وقيل عليه إنّ كون إرادة ضروريات الشيء من لوازم إرادته ليس بمسلم فكم من ضروريّ للشيء(4/333)
ج4ص334
لا يخطر بالبال عند إرادته فضلا عما ادعاه فقول المصنف رحمه الله فيموتوا إشارة إلى ترتبه على ما قبله من أشتغالهم بالدنيا حتى يأتيهم الموت من غير رجوع عن كفرهم ، وهذا يعلم من تأخيره وترك الفاء فيه اعتماداً على أنه يعلم من معنى الكلام كما مرّ عن السكاكيّ ، ولما كان الاستدلال بالآية على أنّ كفر الكافر بإرادة الله غير تامّ لما عرفت لم يتبع من استدلّ بها ، وفسرها بما ذكر مما هو متفق عليه عند أهل السنة والمعتزلة والشغل ضد الفراغ فإذا تعذى بعن كان بمعناه ، والتقية ما يظهر لأجل اتقاء الضرر وليس عن اعتقاد وقوله غير إنا جمع غار كثيران ونار تفسير لمغارات جمع مغاوة بمعنى الغار ، ومنهم من فرق بينهما بأنّ الغار في الجبل والمغارة في الأرض ، وقراءة الجمهور بفتح الميم وقرىء بضمها شاذاً.
قوله : ( نفقاً ينحجرون فيه الخ ( النفق بفتحتين سرب في الأرض! ، وهو الحجر وانحجر
دخل الحجر وهو معروف وهو مفتعل فأدغم بعد قلب تائه دالاً ، وقراءة يعقوب بفتح الميم اسم مكان من الثلاثي ، وقراءة مدخلاَ بضم الميم وفتح الخاء من المزيد لأنهم يدخلون أنفسهم أو يدخلهم الخوف فيه ، ومتدخلا اسم مكان من تدخل تفعل من الدخول ومندخلاً من اندخل وقد ورد في قول الكميت :
ولا يدي في حميت السمن تندخل
وأنكر أبو حاتم رحمه الله هذه القراءة ، وقال إنما هي بالتاء بناء على إنكار هذه اللغة والقراءة تبطله. قوله : ( لآقبلوا نحوه وهم يجمحون الخ ( أي لو وجدوا شيئاً من هذه الأمكنة
التي هي منفور عنها مستنكره لأتوه لشدة خوفهم ، وقيل لئلا يظن أنّ مساكنتهم لكم عن طيب نفس ، والفرس الجموح النفور الذي لا يردّه لجام ويجمزون قراءة أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ، فقيل له : يجمحون فقال : يجمحون ويجمزون ويشتدون بمعنى ، وليس مراده أنه يقرأ بالزاي كما توهم بل التفسير ، وردّ الإنكار وجمازة ناقة شديدة العدو. قوله : ( يلمزك يعيبك الخ ) ظاهره أنه مطلق العيب كالهمز ومنهم من فرق بينهما بأنّ اللمز في الوجه والهمز في الغيب ، وقد عكس أيضا وأصل معناه الدفع ، وضمم عينه لغة فيه والملامزة بمعنى اللمز. قوله : ) في قسمتها ( يحتمل أنه بيان للمعنى المراد ، أو تقدير المضاف وفي للظرفية أو التعليل. قوله : ( نزلت في أبي الجوّاظ المنافق الخ ) قال العراقي : لم أقف عليه في شيء كتب الحديث ، والجوّاظ بصيغة المبالغة والظاء لمعجمة كشداد الضخم المتكبر والكثير الكلام. قوله : ( وقيل في ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ) الذين خرجوا على عليّ كرم الله وجهه وقتله ، وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث ( 1 ( نحوه وعند مسلم ذي الخويصرة بدون ابن ، وهو الصحيح واسمه خرقوص وإذا الفجائية معلوم معناها وأحكامها في النحو وهي تسد مسدّ الفاء في الربط فلذا وقعت الاسمية هنا جواباً بدون فاء ، وغاير بين جوابي الجملتين إشارة إلى أن سخطهم ثابت لا يزول ولا ينفي بخلاف رضاهم. قوله : ( من الننيمة أو الصدقة ) عمم الحكم لهما وان كان ما بعده وما قبله في الصدقة لأنه أنسب ولأنّ الموصول من صيغ العموم ، وقوله : ( كفانا فضله ) إما بيان لحاصل المعنى أو تقدير المضاف لدلالة المعنى عليه والتصريح به بعد. ، وقوله : ( صدقة أو غنيمة ) مفعول يؤتينا أو خبر كان أي صدقة كان أو غنيمة أو بدل
من محل الجار والمجرور ، وأخرى صفة لكل منهما ، وقوله أكثر مما آتانا جعله أكثر لأنه المتبادر من جعله فضلا ، وأكثر تسلية فلا يقال إنه لا حاجة إليه بل يكفي أن يكون مثله لأنه لما كان سخطهم لقلة العطية ناسب أن يكون المعنى سيعطينا أكثر مما أوجب السخط وهذا بناء على أنّ معنى الآية ، ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ، وان قل فيكون معنى قوله فإن أعطوا منها أعطوا ما أرادوا وان لم يعطوه سخطوا لا إن لم يعطوا شيئاً ، وهذا أحد احتمالين للمفسرين ، ولذا قيل ظاهر هذه الآية أنهم لا يرضون بما أعطوا وهو خلاف ما يدل عليه ما قبله فإن حملت الآية الثانية على الغنيمة فلا إشكال إذ المعنى رضوا به ، وإن لم يعطوا غيره ، وان أريدت الصدقة فتحمل الآية الأولى على أنهم إن أعطوا بقدر طمعهم ، وقوله والجواب محذوف لا قالوا والواو زائدة كما قيل. قوله : ( ثم بين مصارف الصدقات تصويباً الخ ) يعني لما ذكر المنافقون وطعنهم وسخطهم بين أن فعله لإصلاح ع لدين ، وأهله لا لأغراض نفسانية كأغراضهم فانطبقت هذه الآية وما فيها من الحصر المستدعي لإثباته لم ذكر ونفيه عمن عداه يعني الذي ينبغي أن يقسم مال الله(4/334)
ج4ص335
عليه من اتصف بإحدى هذه الصفات دون غيره إذ القصد الصلاج والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فلا يستحقونه حسما لأطماعهم فظهر جواب أنه كيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين وقوله الزكوات تفسير للصدقات ليخرج غيرها من التطوع. قوله : ( وهو دليل على أن المراد باللمز الخ ( هذا إشارة إلى أن التفسير الأوّل وهو قوله قيل إنها نزلت في أبي الجوّاظ ، وأنه في الصدقات هو المرضيّ عنده. قوله : ( والفقير من لا مال له ولا كسب الخ ) هذا قول الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ، وما حكاه بقيل قول أبي حنيفة رحمه الله فعنده الفقير من له أدنى شيء ، وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير تائم ، وهو مستغرق في الحاجة والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته ، وما يواري بدنه ويحل له ذلك بخلاف الأوّل حيث لا تحل له المسألة فإنها لا تحل لمن يملك قوت يومه بعد ستر بدنه ، وعند بعضهم لا يحل لمن كان كسوبا أو يملك خمسين درهما ، ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيرا ، ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة بالحاجة ، ولذا قلنا يجوز للعالم وإن كان له كتب تساوي نصبا كثيرة إذا كان محتاجاً إليها للتدرش! ، ونحوه بخلاف العامّي ، وعلى هذا جميع آلات المحترفين ، ووجه كون الفقير أسوأ حالاً لقوله تعالى : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ سورة الكهف ، الآية : 79 ، إذ أثبت للمسكين سفينة.
وأجيب بأنها لم تكن لهم بل هم أجراء فيها أو عارية معهم أو قيل لهم مساكين ترحما ، وبقوله ع!ز : " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في رّمرة المساكين " ( 1 ( مع ما روي أنه صلى الله عليه وسلم تعوّذ من ا!قر ، وأجيب بأنّ الفقر المتعوّذ منه ليس إلا فقر النض لما روي أف ط ن صلى الله عليه وسلم يسأل العفاف والغنى ( 2 ( ، والمراد به غنى النفس لا كثرة الدنيا ، واستدل على أنّ الفقير أسوأ حالاً من المسكين بتقديمه في الآية ولا دليل فيه لأن التقديم له اعتبارات كثيرة في كلامهم ، وبأنّ الفقير بمعنى المفقور أي مكسور الفقار فكان أسوأ ، ومنع بجواز كونه من فقرت له فقرة من مالي إذا قطعتها فيكون له شيء ، وأما قوله تعالى : { مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } [ سورة البلد ، الآية : 6 ا ] أي ألصق جلده بالتراب في حفرة استتر بها مكان الأزار وألصق بطنه به لجوع فتمام الاستدلال به موقوف على أنّ الصفة كاشفة ، وهو خلاف الظاهر ، وقوله : يقع صفة كسب والفقار بفتح الفاء عظام الصلب ، وقوله أصيب فقاره أي كسر ورمى بمصيبته كقولهم ذكره إذا قطع ذكره ، وقوله لا يكفيه أي لنفسه وعيله وكفاية المال للسنة والكسب لليوم ، وقوله : ( كأنّ العجز أسكنه ( قيل إنه ملائم للعكس. قوله : ) وأنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل الخ ) إشارة إلى ما رواه الترمذي رحمه الله عن أنس رضي الله عنه وابن ماجه والحاكم عن أبي سعيد رضي الله عنه ، وصححوه : " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين " ) 3 ( وقوله : ( يتعوّذ من الفقر ) إشارة إلى ما رواه أبو داود عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بقوله : " اللهم إتي أعوذ بك من الكفر والفقر " ) 4 ( وأما ما اشتهر من أنّ الفقر فخرى فلا أصل له
كما يظنه بعضهم. قوله : ( الساعين في تحصيلها ) أي الذين يجبونها يعطي لهم مقدار كفايتهم إلا أن يستغرق المال فلا يزاد على النصف ، ولا تقدير فيه والشافعيّ رضي الله عنه قدره بالثمر. قوله : ( والمؤلفة الخ ( قال ابن الهمام المؤلفة كانوا ثلاثة أقسام قسم كفار كان رسول الله لمجييه يعطيهم ليتألفهم على الإسلام ، وقسم كان يعطيهم ليدفع شرّهم ، وقسم أسلموا وفيهم ضعف إسلام فكان يتألفهم ليقوي إيمانهم ، وفي الهداية انعقد إجماع الصحابة رضي الله عنهم على انقطاعهم بعده صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فإنّ عمر رضي الله تعالى عنه رذهم لما جاء عيينة والأقرع يطلبان أرضا من أبي بكررضي الله عنه فكتب خطاً فمزقه عمر رضي الله عنه ، وتال هذا شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألفكم على الإسلام ، والآن قد أعز الله الإسلام فأغنى عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف فرجعوا إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا الخليفة أنت أم عمر فقال : هو إن شاء ووافقه ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم مع احتمال أن فيه مفسدة ، كارتداد بعض منهم وإثارة ثائرة ، فإن قيل إنه لا إجماع فلا بد من دليل يفيد نسخه قبل وفاته أو يقيده بحياة النبيّ(4/335)
ج4ص336
صلى الله عليه وسلم أو يكون حكماً انتفى بانتفاء علمته وانتهائها ومجرّد الانتهاء لا يصلح دليلاً لنفي الحكم لأنّ بقاء الحكم لا يحتاج لبقاء علته ، كما في الاضطباع والرمل فلا بد من خصوص محل يقع فيه الانتفاء عند الانتفاء من دليل يدل على أنّ هذا الحكم مما شرع مقيداً ثبوته بثبوتها غير أنا لا يلزمنا تعيينه في محل الإجماع بل إن ظهروا لأوجب الحكم بأنه ثابت ، على أن الآية التي ذكرها عمر رضي الله عنه تصلح لذلك ، وهي قوله تعالى : { الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } [ سورة الكهف ، الآية : 29 ] كذا قيل وفيه نظر فإنه إنما يتم لو ثبت نزول هذه الآية بعد هذه وقوله عيينة ابن حصين بالتصغير كذا في النسخ وصوابه حصن مكبراً ، وقوله من خمس الخمس لأن إعطاء حق فقراء المسلمين لغيرهم مخالف للظاهر بخلاف حق نفسه ، وقوله وقيل الخ هو قول أبي حنيفة رحمه الله ، وقد مز تحقيقه وعدّ طائفة تؤلف على القتال منهم بأن يكونوا أقرب إلى العدوّ ونحوه ، وقال بعض الساقط سهم المؤلفة من الكفار دون المسلمين فالآية غير منسوخة وعلى القول بنسخها فهل الناسخ الإجماع على القول بأنه ينسخ أو أنه بانتهاء الحكم لانتهاء علته كما مرّ ، وفيه كلام في التفسير الكبير ومنهم من قال إنه تقرير لما كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه إعزاز
للدين ، وهو بعده يمنعهم فتأمّل. قوله : ( وللصرف في فك الرقاب الخ ) إشارة إلى تقدير متعلق الجار بمصروفة كما سيأتي ، وان في الكلام مضافا مقدرا بحسب الاقتضاء لأنها لا تصرف في الرقاب نفسها ، وإنما تصرف في فكها والنجوم جمع نجم وهو الكوكب ، ثم استعمل لزمان طلوعه ، ثم لكل زمان معين ثم لما يؤذي فيه وهو بدل الكتابة. قوله : ( والعدول عن اللام الخ ) في الكشاف إنه للإيذان بأنهم أرسخ في الاستحقاق لأنّ في للوعاء فجعل هؤلاء محلا له ، وفي الانتصاف إن له سرا آخر أظهر من هذا ، وهو أن الأصنات الأربعة الأوائل يملكون ما يدفع إليهم لأخذهم له تملكا ، والأواخر لا يملكونه بل يصرف في جهتهم ، ومصالحهم فمال المغاتب يأخذه سيده والغارم رب الدين وأما سبيل الله فواضح ، وابن السبيل مندرج في سبيل الله ، وإنما أفرد تنبيها على خصوصيته مع تجرّده عن الحرف فيمكن عطفه على كل منهما 4 ولكن عطفه على القريب أقرب ، ومتعلق الجار إما مصروفة للفقراء كقول مالك رحمه الله : أو مملوكة للفقراء كقول الشافعي رحمه الله الأوّل أولى لاطراده في الجميع لأنه يقال مصروفة لكذا وفي كذا بخلاف الثاني ، وهذا محصل ما ارتضاه المصنف رحمه الله لكنه أجمله ، وقوله الاستحقاق للجهة جعل الجهة نفسها مستحقة مجازاً ، وكناية عن نفي الاستحقاق أو اللام للأجل ، وقوله وتيل للإيذان الخ هو ما اختاره الزمخشرفي يعني أنهم جعلوا محلا له لتمكنه فيهم بشدة استحقاقهم له ، وهذا على أنّ اللام لمجرّد الاختصاص فأما إذا جعلت للملك فالوجه ما ذكره المصنف رحمه الله لأنه مقتضى مذهب الشافعي رحمه الله إذ عنده أنه لا بد من صرفها إلى جميع الأصناف لأنها على طريق التملك ولا يجوز صرف ملك أحد إلى غيره وعند غيره هي للاختصاص بهؤلاء الأصناف لا تتعداهم فيجوز أن يصرف لبعض دون بعضى وتفصيله في التلويح وكتب الأصول. قوله : ( المديونين لأنفسهم في غير معصية الخ ) احترز بقوله لأنفسهم عما بعده مما استدين لإصلاح ذات البين ، وبقوله في غير معصية عمن استدان للمعصية كالخمر والإسراف فيما لا يعنيه لكن قال النووي في المنهاج قلت الأصح أنه يعطي إذا تاب وصححه في الروضة ، والمانع مطلقا قال إنه قد يظهر التوبة للأخذ ، وهو الذي ارتضاه المصنف رحمه الله ، وقوله لم يكن لهم وفاء أي ما يوفون به دينهم فاضلاً عن حوائجهم ، ومن يعولونه والا فمجرد الوفاء لا يمنع من الاستحقاق وهذا أحد القولين عند الشافعية ، وهو الأظهر وقيل لا يشترط لعموم الآية وهل يشترط حلول الدين أولاً قولان لهم. قوله : ( أو لإصلاح ذات البين ( أي الحال التي بين القوم كأن يخاف فتنة بين قبيلتين تنازعا في قتيل لم يظهر قاتله أو ظهر فيعطي الدية تسكيناً للفتنة ، وهذا يعطي مع الغني مطلقا ، وقيل إن كان غنياً بنقد لا يعطي وهذا
الإطلاق هو المنقول في كتب الشافعية المعتمد عليها كشرح المنهاج فلا تغتر بما وقع في بعض الحواشي هنا. قوله : ( لا تحل الصدقة لفنئ الخ ( ( 1 ( هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله عنه فالغازي إذا لم يكن له فيء يعطي(4/336)
ج4ص337
وان كان غنياً وهم المتطوّعة وكذا الغارم لإصلاج ذات البين كما مرّ وكذا آخذ الصدقة بشراء أو هبة ممن تصدق عليه وكذا العامل على الصدقات يعطي ، وان كان غنيأ كما مز والمراد بالغني غير المزكي وكذا لو ورثها عن الفقير حلت له. قوله : ) وللصرف في الجهاد بالإنفاق الخ ( المتطوّعة هم الذين لا فيء لهم ، وكذا مذهب الشافعيئ رحمه الله ، وعن! أبي يوسف رحمه الله في سبيل الله معناه منقطع الغزاة وعند محمد رحمه الله منقطع الحاج والمراد الفقراء منهم واستش!صل مذهبهما بأنه إن كان له مال في وطنه فهو ابن سبيل والا فهو فقير فالعدد ناقص ، وأجيب بأنه فقير لكن زاد عليه بوصف انقطاعه فهو أهئم ولذا نص عليه وأورد عليه أنه يعتبر فيها قيوداً تجعلها متغايرة ، والتحقيق ما في كتاب الأحكام للجصاص إن من كان غنيا في بلده بداره ، وخدف وفرسه وله فضل دراهم حتى لا تحل الصدقة له ف!ذا عزم على سفر غزاة احتاج بعدة وسلاح لم يكن محتاجا له في إقامته فيجوز أن يعطي من الصدقة ، وان كان غنيا في مصره ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم الصدقة تحل للغازي الغنيّ انتهى ، وبهذا علم أنّ الآية يوافقها مذهبا الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى ، وكراع كغراب الخيل والقناطر جمع قنطرة وأمّا القناطير فجمع قنطار والمصانع جمع مصنع ومصنعة وهو مجرى الماء والحصن ، ويصح إرادة كل منهما هنا والظاهر الأوّل وقوله المنقطع عن ماله أي إن كان له مال ، وهو إشارة إلى أنّ شرطه أن لا يكون معه مال ، وإن كان له مال في وطنه فالسبيل بمعنى الطريق. قوله : ( مصدر الخ ( أي ناصبه مقدر مأخوذ من معنى الكلام ، وقيل إنه صفة بمعنى مفروضة ، ودخلته التاء لإلحاقه بالأسماء كنطيحة ، وقوله يضع الأشياء الخ تفسير لحكيم أولهما. قوله : ( وظاهر الآية يقتضي تخصيص
استحقاق الزكاة الخ ( كونه يقتضي التخصيص بهذه الأوصاف لا نزاع فيه ، وأما اقتضاؤ. وجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم والتسوية فلا دلالة للآية عليه لأنه تعالى جعل الصدقة لهؤلاء ، فأما وجوب ما ذكر فلا كما أنّ قوله في الغنيمة { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ } الآية يوجب القسم عليهم من غير توزيع بالاتفاق ، والحكم الثابت للمجموع لا يوجب ثبوته لكل جزء من أجزائه ، ولذا اختار بعض الشافعية ما قاله أبو حنيفة رحمه الله لقوّة منزعه في الأخذ ووالده عمر ابن محمد البيضاوي رحمه الله ، وهو مفتي الشافعية في عصره ، وتحقيق الدليل في التلويح وغيره فإن أردته فارجع إليه ، وقوله على أن الآية الخ ، إشارة لما مرّ. قوله : ( سمي بالجارحة للمبالنة كأنه من فرط استماعه الخ ) في المفتاح إنه مجاز مرسل كما يراد بالعين الرجل إذا كان ربيئة لأنّ العين هي المقصودة منه فصارت كأنها الشخص كله ، قال الشريف قدس سرّه : لم يرد بقوله كأنها الخ أن هناك تشبيهاً حتى يتوهم أنه استعارة ألا تراه لو حمل على ظاهره لم يكن استعارة إذ لم يطلق المشبه به على المشبه بل عكسه ، وما ذكره لا يتمشى في كلام المصنف رحمه الله تعالى لأنه جعل الكل كأنه الجزء فالتوهم فيه أقوى ، والظاهر أن مراده إطلاق الجزء على الكل للمبالغة كما قيل :
إذا ما بدت ليلى فكلي أعين وان حدثوا عنها فكلي مسامع
وقيل إنه مجاز عقليّ كرجل عدل وفيه نظر وليس بخطأ كما توهم ، والمبالغة في أنه يسمع كل قول باعتبار أنه يصدقه لا في مجزد السماع إذ لا مبالغة فيه ، وما قيل إن مرادهم بكونه أذنا تصديقه بكل ما سمع من غير فرق كما يرشد إليه قوله يصدقه فليس من قبيل إطلاق العين على الربيئة ، ولذا جعله بعضهم من قبيل التشبيه بالإذن في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل ليس بشيء يعتد به ، وقيل إنه على تقدير مضاف أي ذو أذن وهو مذهب لرونقه. قوله : ( أو اشتق له فعل ) بضمتين كعنق على أنه صفة مشبهة من أذن يأذن إذناً استمع كقوله :
وان ذكرت بشرّ عندهم أذنوا
وعلى هذا هو صفة بمعنى سميع ، ولا تجوّز فيه ففيه أربعة أوجه وأنف بضمتين روضة
لم ترع أو كأس لم تشرب قبل ، وشلل بوزنه وشين معجمة بمعنى مطرود وخفيف في الحاجة. قوله : ( روي أنهم قالوا محمد أذن سامعة الخ ) في سببه قولان قيل إنّ جماعة من المنافقين ذكروه صلى الله عليه وسلم بما لا يليق به وقالوا نخشى أن تبلغه مقالتنا فقال جلاس بن(4/337)
ج4ص338
سويد نقول ما شئنا ، ثم إن بلغه نحلف له فيقبل قولنا فإنه أذن ، وقيل إنّ رجلاً منهم قال : إن كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقاً فنحن شر من الحمر فقال ابن امرأته والله أنه لحق وانك لشر من حمارك فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له آخر منهم إنّ محمداً أذن فإن حلفت له ليصدقنك فنزلت ، وكلام المصنف رحمه الله يحتمل الروايتين لإجماله وما تأذى به !ك!ي! أمّا ما قالوه في حقه من ذلك فيكون قوله في الآية ، ويقولون غير ما تأذى به أو نفس قولهم هو أذن فيكون عطف تفسير كما في الكشاف والمصنف رحمه الله تعالى لم يفصله. قوله : ( تصديق لهم بأنه أذن الخ ) يعني أنه صدّقهم في كونه أذنا لكن لا على الوجه الذي أرادوه من أنه يسمع كل ما يلقى إليه من غير تمييز بل على وجه آخر وهو أنه أذن في الخير وأنّ استماعه خير كله فهو كما في الانتصاف أبلغ أسلوب في الردّ عليهم لأنّ فيه اجتماعاً في الموافقة على مدعاهم بالإبطال وهو كالقول بالموجب. قوله : ( من حيث إنه يسمع الخير ويقبله ) في الكشاف ، وأذن خير كقولك رجل صدق تريد الجودة والصلاح كأنه قيل نعم هو أذن ، ولكن نعم الأذن ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق ، وفيما يجب سماعه وقبوله ، وليس بأذن في غير ذلك ويدلّ عليه قراءة حمزة ورحمة بالجرّ عطفا عليه أي هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله يعني أنه من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة ، أو إضافته على معنى في بدليل قراءة حمزة لأنه لا يحسن ، وصف بالأذن بالرحمة ويحسن أن يفال أذن في الخير والرحمة والمصنف رحمه الله لم يتعرّض لشيء من الوجهين ، وفسره على وجه صادق عليهما وما قيل إنه اختار الثاني ، ولم يلتفت إلى الآخر وبنى عليه ما بنى تخيل لا وجه له سوى تكثير السواد. قوله : ( ثم فسر ذلك بقوله يؤمن بالله الخ ) إذ المراد بالأدلة الأدلة السمعية كالوحي والقرآن ولذا أدرجها في التفسير والمعنى هو أذن خير يسمع آيات لله ، ودلائله فيصدقها ويستمع للمؤمنين فيسلم لهم ما يقولون ويصدقهم ، وهو تعريض بأنّ المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله ولا يثقون بها ، ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه ، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع قولهم إلا شفقة عليهم لا أنه يقبله لعدم تمييزه كما زعموا ، وبهذا يصح وجه التفسير فتدبر. قوله : ( واللام مزيدة للتفرقة الخ ) يعني أنّ الإيمان بالله بمعنى
الاعتراف والتصديق يتعدى بالباء كما مز تحقيقه في سورة البقرة فلذا قال بالله ، والإيمان للمؤمنين بمعنى جعلهم في أمان من التكذيب بتصديقهم لهم لما علم من خلوصهم متعد بنفسه فاللام فيه مزيدة للتقوية هذا مراده رحمه الله تعالى ، والزمخشرفي قال في وجه التفرقة بينهما إنه قصد التصديق باللّه الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء التي يتعدى بها الكفر حملاً للنقيض على النقيض ، وتصد السماع من المؤمنين ، وإن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقهم لكونهم صادقين عنده فعدى باللام ألا ترى إلى قوله : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ سورة يوسف ، الآية : 17 ، فعدى باللام لأنه بمعنى التسليم لهم ومن فسر كلام المصنف بكلام الكشاف فقد خلط. قوله : ( لمن أظهر الإيمان الخ ( فسره بذلك لأنهم منافقون ، وقراءة حمزة بالجرّ عطفاً على المضاف إليه والفرق بينها وبين قراءة الرفع أنها تفيد استماع كلامهم دون الأولى ، وعلى قراءة النصب هو مفعول لة لفعل مقدر أي يأذن بمعنى يسمع أو عطف على آخر مقدر أي تصديقا لهم ورحمة لكم وقوله وقرئ أذن أي بالتنوين وخير صفة له بمعنى خير المشدد أو أفعل تفضيل أو مصدر وصف ، به مبالغة أو بالتأويل المشهور ولم يذكر الزمخشرقي ، كونه صفة فقيل لأنه ليس المعنى على أنه أذن خير لكم بل على أنه مع كونه أذنا خير لكم حيث يقبل معاذيركم ، وفيه نظر. قوله : ) بإيذائه ( أي أذيته والإيذاء مصدر آذاه ، وتد أثبته الراغب ولما لم يذكره الجوهري كما هو عادة أهل اللغة في ترك المصادر القياسية ظن صاحب القاموس أنه لم يسمع فقال وأذاه أذى ، ولا تقل إيذاء وهو خطأ منه كما ذكرناه في كتاب شفاء القليل ، وفيه إشارة إلى أن إيراد الموصول يفيد عليه الصلة للحكم ، وقوله تخلفوا أي عن الجهاد معطوف على قالوا وما مصدرية وما قالواة هو ما تقدم من قولهم إذن أو ما أذوه به ع!م على الروايتين ، وقيل يحلفون على أنهم منكم. قوله : الترضوا عنهم ) تعليل للتعليل أي حلفوا للإرضاء والإرضاء لأجل تحصيل رضاكم عنهم(4/338)
ج4ص339
أو تفسير للإرضاء بالرضا لأنه لازم له ومقصود منه لا مطلق فعل ما يرضى ، وإن لم يترتب عليه الرضا. توله : ( بالإرضاء بالطاعة الخ ( إشارة إلى أن أن يرضوه صلة أحق بتقدير الباء لا مبتدأ أحق خبره والمفضل عليه محذوف أي من غيره وقوله بالطاعة ، والوفاق أي الموافقة لأمره تفسير لإرضاء الله ورسوله. قوله : ( وتوحيد الضمير الخ ا لما كان الظاهر بعد العطف بالواو والتثنية ، وقد أفرد وجهوه بأنّ إرضاء الرسول !م لا ينفك عن إرضاء الله تعالى فلتلازمهما جعلا كشيء واحد فعاد عليهما الضمير المفرد ، وأحق على هذا خبر عنهما من غير تقدير. قوله : ) أو لأن الكلام في إيذاء
الرسول صلى الله عليه وسلم الخ ) فيكون ذكر الله تعظيما له وتمهيداً فلذا لم يخبر عنه ، وخص الخبر بالرسول وفيه تأمّل ، وقوله : ( أو لأنّ التقدير الخ ) جعل الخبر للأوّل لسبقه وخبر الثاني مقدر وهو كذلك وسيبويه جعله للثاني لأنه أقرب مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر كقوله :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض! والرأي هختلف
وقيل إنّ الضمير لهما بتأويل ما ذكر أو كل منهما ، وأنه لم يثن تأدّبأ لئلا يجمع بين الله
وغيره في ضمير تثنية وقد نهى عنه على كلام فيه ، وقوله : ( صدقا ) أي إيمانا صادقاً في الظاهر ، والباطن لا باللسان كإيمان المنافقين ، وجواب الشرط مقدر يدل عليه ما قبله ، وقراءة التاء على الالتفات للتوبيخ إن كان الخطاب لهم ، وقيل إنه للمؤمتين وفي قراءة ألم تعلم الخطاب للنبي مج!ي! ، أو لكل واقف عليه. قوله : ) يشاقق مفاعلة من الحد ( بمعنى الجهة والجانب كما أن المشاقة من الشق بمعناه أيضا فإن كل واحد من المتخالفين والمتعاديين في حذ وشق غير ما عليه صاحبه ، وهو الظاهر إذ المراد يخالف ويحتمل أن يكون الحد بمعنى المنع في كلامه. قوله : ( على حذف الخبر ( وهو حق وإن وما معها اسم تأويلاً مبتدأ وقدر لأن الفاء جواب الشرط وهو لا يكون إلا جملة ، وأن المفتوحة مع ما في حيزها مفرد تأويلاً وقدر مقدماً لأنها لا تقع في ابتداء الكلام كالمكسورة وجوّز أن يكون خبراً أي الأمر أن له الخ. قوله : ( أو على تكرير أنّ للتكيد ) في كتاب سيبويه بعدما ذكر ما يكرّر للتطرية ، ومما جاء من هذا الباب قوله تعالى : { أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ } [ سورة المؤمنون ، الآية : 35 ] فكأنه قال أيعدكم إنكم مخرجون إذا متم ولكته قدمت إن الأولى ليعلم بعد أيّ شيء الإخراج ، وزعم الخليل رحمه الله أن مثل ذلك قوله تعالى جذه { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } ، ولو قال فإنّ كانت عربية جيدة انتهى ، وقيل إنه يعني أنه تكرير لطول العهد ، وإفادة التأكيد كما في قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ سورة النحل ، الآية : 1119 وكقوله :
لقدعلم الحي اليمانون أنني إذا!لت أ!ا بعدفى-اني !ا
وليس من التأكيد الاصطلاحي وفي مثله لا بأس بالفصل سيما بما يكون من متعلقاته ، ثم
إنّ هذا المكرر لما كان محض مقحم هاعادة كان وجوده بمنزلة العدم فجاز الفصل به بين فاء الجزاء وما بعدها ، ومع هذا لا يخلو عن ضعف ، وأما إشكال نار جهنم فالحق أنه قوقي لأنّ أن لما كان تكراراً للأوّل لم يقتض إلا ما اقتضاه ، ولم يعمل إلا فيما عمل فيه من غير أن ينفرد بعمل ، وفي الجملة فجعل أن الثانية تكريراً للأولى مع أن لها منصوبا غير منصوبها ومرفوعا غير
مرفوعها ليس من قاعدة التكرير لبعد العهد ، والمجوز مكابر معاند لا ينبغي أن يصغي إليه ا هـ ، وما ذكره من الإشكال لصاحب التقريب ، والمجوز الذي أشار إليه العلامة فإنه قال هو وإن كان زائداً يجوز إعماله ، كما في كفى بالله شهيداً وهذا كله غير وارد لما عرفت أنه مذهب الخليل ، وهم ناقلون له كما نقله سيبويه ، وليس زعم تمريضا له لأنه عادته في كل ما نقله كما بينه شراحه ، وما قال إنه إشكال قويّ ليس بوارد عليه فالحق ما قاله العلامة. قوله. ( ويحتمل أن يكون معطوقاً الخ ( لا يخفى بعده مع أن أبا حيان رحمه الله قال إنه لا يصح لأنهم نصوا على أن حذف الجواب إنما يكون إذا كان فعل الشر! ماضيأ أو مضارعا مجزوما بلم ، وهذا ليس كذلك وليس ما ذكره متفقاً عليه وقد نص على خلافه في مغني اللبيب فكأنه شرط للأكثرية وعلى كل حال لا يرد اعتراضه وأما كون حقه العطف بالواو فليس بشيء لأن استحقاقه(4/339)
ج4ص340
النار بسبب المحادة بلا شبهة ، وقراءة الكسر لا تحتاج إلى توجيه لظهورها ، وقوله الإهلاك الدائم ثم جعل الإشارة إلى أنّ له النار فناسب تفسير الخزي بالإهلاك وعظمه بدوامه. قوله : ( وتهتك عليهم أستارهم ) تفسير لتنبئهم لأنه استعارة لإفشاء سرهم حتى كأنها تقول لهم في قلوبكم كيت وكيت ، وقوله ويجوز الخ لما فسر ضمير عليهم بالمؤمنين ، وكذا تنبئهم أيضا وما عد 51 للمنافقين لقوّة القرينة والدلالة عليه ومثله لا يضر إذ ليس تفكيك الضمائر بممنوع مطلقاً كما صرّج به الكشاف ، أشار إلى أنه يجوز أن تكون الضمائر كلها للمنافقين ، وكون السورة نازلة عليهم بمعنى مقروءة عليهم وفي حقهم إن كان الجار والمجرور متعلقا بتنزل فإن تعلق بمقدر أي تنزل سورة كائنة عليهم من قولهم هذا لك وهذا عليك فظاهر ، وهذا هو الداعي لترجيح الوجه الأوّل ، وإسناد الأنباء إلى السورة مجاز ، قيل : وكذا المسند على جعل الضمير للمنافقين ورد بأنه إذا كان الأنباء بمعنى الإخبار لا الإعلام لا يجوز ، والمقصود لازم فائدة الخبر ، وهو أنه لا يخفى على الرسول لمجيرو. قوله : ( وذلك يدل على ترددهم أيضاً ) أي كتردّد المؤمنين في كفرهم لعدم ظهورهم ، إذ لو ظهر قتلوا وكأنّ وجه الدلالة من وجه الدلالة من قوله تنبئهم لأنهم لو كانوا عالمين بها لم تكن معلمة لهم ، ولا لنا والظاهر أن يقول وفيه إشعار أو هو من قوله يحذر لأنهم لو كانوا كفرة لم يحذروا إلا أن يكون استهزاء. قوله : ( إنه خبر في معنى الآمر الخ ) معناه ليحذر المنافقون فوضع موضعه ، قال النحرير : إنه ينبو عنه قوله ما تحذرون نوع نبوة
إلا أن يراد ما يحذرون بموجب هذا الأمر ، وقوله كانوا يقولونه فيما بينهم استهزاء أي يقولون نحذر أن تنزل الخ على طريق الاستهزاء فعلى هذا لا دلالة فيها على تردّدهم في كفرهم ، وقوله لقوله لأنها تدل على أنه وقع منهم ا!شهزاء بهذه المقالة ، وعلى غير هذا الوجه فالمراد نافقوا لأنّ المنافق مستهزئ فكما جعل قولهم آمنا ، وما هم بمؤمنين مخادعة في البقرة جعل هنا استهزاء. قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } أي مبرزه كان الظاهر ، أن يقال إن الله منزل سورة كذلك أو منزل ما تحذرون لكنه عدل عنه للمبالغة إذ معناه مبرز ما تحذرونه من إنزال السورة أو لأنه أعمّ إذ المراد مظهر كل ما تحذرون ظهوره من قبائحكم ، واسناد الإخراج إلى الله إشارة إلى أنه يخرجه إخراجا لا مزيد عليه والمساوي ضد المحاسن جمع سوء على خلاف القياس ، وأصله الهمزة ، وقوله : روي الخ أخرجه ابن جرير عن قتادة. قوله : ) تحذرونه ) إشارة إلى أن حذر المخفف متعد فإنّ أن تنزل مفعوله لا على تقدير من لأنه تعدى بالتضعيف إلى مفعولين كقوله : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } [ سورة آل عمران ، الآية : 28 ] ويدل عليه أيضا ما أنثده سيبويه رحمه الله تعالى :
حذر أموراً لا تضير وآمن ما ليس ينجيه من الأقدار
وقيل : إنه مصنوع ، وقال المبرد إنه غير متعد لأنه من هيآت النفس كفزع ، ورد بأنه غير
لازم إذ من الهيآت ما يتعذى كخاف وخشى فعنده أن تنزل على إسقاط الجار. قوله : ( لا واللّه ما كنا في شيء من أمرك الخ ) يقتضي أنهم أنكروا القول رأسا ، وفي التفسير الكبير أنهم ما أنكروه بل تالوا قلناه ، وإنما نلعب ونلهي لتقصر مسافة السفر بالحديث ، والمداعبة وهو أوفق بظاهر النظم ، وقوله ليقصر من التفعيل. قوله : ) توبيخا على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به الخ ) يعني الاستفهام التوبيخي أولى المتعلق إيذانا بأن الاستهزاء وقع لا محالة لكن الخطأ في المستهزأ به فقد أخطأتم لوضعه في غير موضعه لأنّ تقديم المتعلق يستدعي حصول الفعل ، وانكار متعلقه كما قرّره السكاكيّ واليه أشار المصنف بقوله بمن لا يصح الخ ، والزام الحجة بإثبات ما أنكروه. قوله : ( ولا تعبأ ) ضبط بالخطاب للنبيّ لمجيه ، والجزم بلا الناهية وهو معطوف على قل وتعبأ من عبأت بفلان عبأ باليت واعتددت به ، واعتذارهم قولهم : { كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } وهو تفسير له لأنّ قول ذلك لهم بعد إنكارهم لعدم الاعتداد به. قوله : ( لا تشتغلوا
الخ ( يعني النهي عن الاشتغال به وادامته إذ أصله وقع ، وقوله أظهرتم الكفر لا أوجدتم أصله لسبقه في باطنهم ولذا فسر الإيمان بإظهاره ، وقوله : لتوبتهم وإخلاصهم فالخطاب لجميع المنافقين ، وعلى الوجه الآتي للمؤذنين والمستهزئين منهم والعفو فيه عن عقوبة الدنيا العاجلة ، وقوله مصرين على النفاق ناظر إلى(4/340)