وقال بعض العلماء : أصلها من الكل بمعنى الظهر وعليه فهي ما تركه الميت وراء ظهره ، واختلف في إعراب قوله كلالة. فقال بعض العلماء هي حال من نائب فاعل يورث على حذف مضاف. أي : يورث في حال كونه ذا كلالة أي قرابة غير الآباء والأبناء ، واختاره الزجاج وهو الأظهر ، وقيل هي مفعول له ، أي : يورث لأجل الكلالة أي القرابة ، وقيل هي خبر كان ، ويورث صفة لرجل ، أي : كان رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد ، وقيل غير ذلك والله تعالى أعلم. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 270}(20/389)
قوله تعالى {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أو دين}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد ، ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حق امرىء مسلم له مال يوصى به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده " فهذا الحديث أيضا يدل على الاطلاق في الوصية كيف أريد ، إلا أنا نقول : هذه العمومات مخصوصة من وجهين : الأول : في قدر الوصية ، فإنه لا يجوز الوصية بكل المال بدلالة القرآن والسنة ، أما القرآن فالآيات الدالة على الميراث مجملا ومفصلا ، أما المجمل فقوله تعالى : {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} [ النساء : 7 ] ومعلوم أن الوصية بكل المال تقتضي نسخ هذا النص ، وأما المفصل فهي آيات المواريث كقوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين} [ النساء : 11 ] ويدل عليه أيضا قوله تعالى : {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} [ النساء : 9 ] وأما السنة فهي الحديث المشهور في هذا الباب ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : " الثلث والثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ".
واعلم أن هذا الحديث يدل على أحكام :
أحدها : أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث ، وثانيها : أن الأولى النقصان عن الثلث لقوله : " والثلث كثير " وثالثها : أنه إذا ترك القليل من المال وورثته فقراء فالأفضل له أن لا يوصي بشيء لقوله عليه الصلاة والسلام : " إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " ورابعها : فيه دلالة على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث لأن المنع منه لأجل الورثة ، فعند عدمهم وجب الجواز.(20/390)
الوجه الثاني : تخصيص عموم هذه الآية في الموصى له ، وذلك لأنه لا يجوز الوصية لوارث ، قال عليه الصلاة والسلام : " ألا لا وصية لوارث ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 181 ـ 182}
فصل
قال الفخر :
قال الشافعي رحمة الله عليه : إذا أخر الزكاة والحج حتى مات يجب إخراجهما من التركة ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب ، حجة الشافعي : أن الزكاة الواجبة والحج الواجب دين فيجب اخراجه بهذه الآية ، وإنما قلنا إنه دين ، لأن اللغة تدل عليه ، والشرع أيضاً يدل عليه ، أما اللغة فهو أن الدين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد ، قيل في الدعوات المشهورة ؛ يا من دانت له الرقاب ، أي انقادت ، وأما الشرع فلأنه روي أن الخثعمية لما سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحج الذي كان على أبيها ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزىء ؟ فقالت نعم ، فقال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق أن يُقضى " إذا ثبت أنه دين وجب تقديمه على الميراث لقوله تعالى : {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قال أبو بكر الرازي : المذكور في الآية الدين المطلق ، والنبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج دينا لله ، والاسم المطلق لا يتناول المقيد.
قلنا : هذا في غاية الركاكة لأنه لما ثبت أن هذا دين ، وثبت بحكم الآية أن الدين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة ، وحديث الاطلاق والتقييد كلام مهمل لا يقدح في هذا المطلوب ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 182}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن قوله تعالى : {غَيْرَ مُضَارّ} نصب على الحال ، أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته.
واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه :
أحدها : أن يوصي بأكثر من الثلث.
وثانيها : أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي.(20/391)
وثالثها : أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة.
ورابعها : أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل إليه.
وخامسها : أن يبيع شيئاً بثمن بخمس أو يشتري شيئاً بثمن غال ، كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة.
وسادسها : أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة ، فهذا هو وجه الاضرار في الوصية.
واعلم أن العلماء قالوا : الأولى أن يوصي بأقل من الثلث ، قال علي : لأن أوصي بالخمس أحب إلى من الربع.
ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث.
وقال النخعي : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ، وقبض أبو بكر فوصى ، فإن أوصى الإنسان فحسن ، وإن لم يوص فحسن أيضا.
واعلم أن الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف ، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص ، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 182 ـ 183}
فصل
قال الآلوسى
{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ } أي من غير ضرار لورثته فلا يقر بحق ليس عليه ، ولا يوصى بأكثر من الثلث قاله ابن جبير فالدين هنا مقيد كالوصية ، وفي { يُوصِى } قراءتان سبعيتان في البناء للمفعول والبناء للفاعل ، و{ غَيْرِ } على القراءة الأولى حال من فاعل فعل مبني للفاعل مضمر يدل عليه المذكور ، وما حذف من المعطوف اعتماداً عليه ، ونظيره قوله تعالى : { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ } [ النور : 36 ، 37 ] على قراءة { يُسَبّحُ } بالبناء للمفعول ، وقول الشاعر :
( ليبك ) يزيد ضارع لخصومة...
ومختبط مما تطيح الطوائح(20/392)
وعلى القراءة الثانية حال من فاعل الفعل المذكور والمحذوف اكتفاءاً به ، ولا يلزم على هذا الفصل بين الحال وذيها بأجنبي كما لا يخفى ، أي يوصى بما ذكر من الوصية والدين حال كونه غير مضار ، ولا يجوز أن يكون حالا من الفاعل المحذوف في المجهول لأنه ترك بحيث لا يلتفت إليه فلا يصح مجيء الحال منه ، وجوز فيه أن يكون صفة مصدر أي إيصاء غير مضار ، واختار بعضهم جعله حالاً من وصية أو دين أي من بعد أداء وصية أو دين غير مضار ذلك الواحد ؛ وجعل التذكير للتغليب وليس بشيء ، وجوز هذا البعض أن يكون المعنى على ما تقدم غير مضر نفسه بأن يكون مرتكباً خلاف الشرع بالزيادة على الثلث وهو صحيح في نفسه إلا أن المتبادر الأول وعليه مجاهد وغيره.
ويحتمل كما قال جمع أن يكون المعنى غير قاصد الإضرار بل القربة ، وذكر عصام الملة أن المفهوم من الآية أن الإيصاء والإقرار بالدين لقصد الإضرار لا يستحق التنفيذ وهو كذلك إلا أن إثبات القصد مشكل إلا أن يعلم ذلك بإقراره ، والظاهر أن قصد الإضرار لا القربة بالوصية بالثلث فما دونه لا يمنع من التنفيذ ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال : إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حياتكم ، نعم ذاك محرم بلا شبهة وليس كل محرم غير منفذ فإن نحو العتق والوقف للرياء والسمعة محرم بالإجماع مع أنه نافذ ، ومن ادعى تخصيص ذلك بالوصية فعليه البيان وإقامة البرهان.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الإضرار بالوصية من الكبائر ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً(20/393)
" إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ". أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 231}
وقال ابن عاشور :
والإضرارُ منه ما حدّده الشرع ، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيّته ثلث ماله وقد حدّده النبي بقوله لسعد بن أبي وقّاص الثلثُ والثلث كثير.
ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الإضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيّته ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : غير مضار }.
ولمّا كانت نيَّة الموصي وقصدُه الإضرار لا يُطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربّه ، فإن ظهر ما يدلّ على قصده الإضرار دلالة واضحة ، فالوجه أن تكون تلك الوصيّة باطلة لأنّ قوله تعالى : { غير مضار } نهي عن الإضرار ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
ويتعيّن أن يكون هذا القيد مقيِّدا للمطلق في الآي الثلاث المتقدّمة من قوله { من بعد وصية } إلخ ، لأنّ هذه المطْلقات متّحدة الحكم والسبب.
فيحمِل المطْلَق منها على المقيّد كما تقرّر في الأصول.
وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيّته الإضرار بوارثه في الوصيّة وغيرها من العطايا ، والمسألة مفروضة في الوصيّة خاصّة.
وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أنّ قصد المضارّة في الثلث لا تردّ به الوصيّة لأنّ الثلث حقّ جعله الله له فهو على الإباحة في التصرّف فيه.
ونازعه ابن عرفة في التفسير بأنّ ما في الوصايا الثاني من "المدوّنة" ، صريح في أنّ قصد الإضرار يوجب ردّ الوصيّة وبحث ابن عرفة مكين.
ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية تردّ بقصد الإضرار إذا تبيّن القصد غير أنّ ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار.(20/394)
وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدوّنة أنّ قصد الإضرار بالوصيّة في أقلّ من الثلث لا يوهن الوصيّة على الصحيح.
وبه الفتوى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 53 ـ 54}
فصل
قال الفخر :
روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الإضرار في الوصية من الكبائر.
واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول ، أما القرآن فقوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} [ النساء : 13 ] قال ابن عباس في الوصية : {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} [ النساء : 14 ] قال في الوصية ، وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإضرار في الوصية من الكبائر " وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة " وقال عليه الصلاة والسلام : " من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة " ومعلوم أن الزيادة في الوصية قطع من الميراث ، وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى ، وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه ، وذلك من أكبر الكبائر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 183}
قوله تعالى {وَصِيَّةً مّنَ الله}
سؤال : لم جعل خاتمة الآية الأولى : {فَرِيضَةً مّنَ الله} وخاتمة هذه الآية {وَصِيَّةً مّنَ الله } ؟.
الجواب : أن لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية ، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة ، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل ، وان كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 183}(20/395)
قال تعالى {والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ}
قال الفخر :
أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته {حَلِيمٌ} على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 183}
وقال الآلوسى :
{ والله عَلِيمٌ } بالمضار وغيره ، وقيل : بما دبره بخلقه من الفرائض { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة فلا يغترن المضار بالإمهال أو لا يغترن من خالفه فيما بينه من الفرائض بذلك ، والإضمار في مقام الإظهار لإدخال الروعة وتربية المهابة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 232 ـ 233}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { والله عليم حليم } تذييل ، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أنّ الأحكام المتقدّمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية ، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعاً مثاره الجهل والقساوة.
فإنّ حرمان البنت والأخ للأمّ من الإرث جهل بأنّ صلة النسبة من جانب الأمّ مماثلة لصلة نسبة جانب الأب.
فهذا ونحوه جهل ، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 54}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقد بيّنت الآيات في هذه السورة الميراث وأنصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية ، وسكتت عمّا عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف ، وقد أشار قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأنفال ( 75 ) وقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأحزاب ( 6 ) إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام.(20/396)
وأشار قوله الآتي قريباً { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبيّنه ، وبَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم توريث العصبة بما رواه رواة أهل الصحيح عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألحِقُوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْلى رَجُللٍ ذَكَر " وما رواه الخمسة غير النسائي عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لمَوالي العصبة ومن ترك كَلا أو ضَياعا فأنا وليّه " وسنفصّل القول في ذلك في مواضعه المذكورة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 54}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : " وإن كان رجل يورث كلالة " اضْطَرَبَتْ أقوال العلماء في هذه ولا بُدَّ قبل التعرُّض للإعراب من ذكر معنى { الكلالة } واشتقاقها ، فإنَّ الإعراب متوقف على ذلك ، فتقول : اختلف الناس في معنى { الكلالة }
فقال جمهور اللغويين وغيرهم : إنَّه الميت الَّذي لا وَلَدَ لَهُ ولا والد ، وهو قول عليٍّ وابن مسعودٍ.
وقيل : الَّذي لا والد له فقط ، وهو قول عمر.
وقيل : الَّذي لا والد له فقط ، وهو قول عمر.
وقيل : الَّذي لا ولد له فقط.
وقيل : هو من لا يرثه أبٌ ولا أم ، وعلى هذه الأقوال كلِّها قالكلالةُ واقعة على الميت.
وقيل : الكَلاَلَةُ : الورثة ما عدا الأبوين والولد ، قاله قُطْرب ، وهو اختيار أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وسموا بذلك ؛ لأنَّ الميِّت بذهاب طرفيه تُكَلِّلُهُ الورثة ، أي : أحاطوا به من جميع نواحيه ، ويُؤَيَّدُ هذا القول بأنَّ الآية نزلت في جَابِرٍ ، ولم يَكُنْ له يَوْمَ نزلت أبٌ ولا ابن.(20/397)
وأيضاً يقال : كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحلم فلان على فلان ثمَّ كَلَّ عنه إذا تباعد ، فسميت القرابةُ البعيدةُ كلالة من هذا الوجه.
وأيضاً يقال : كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلاًّ وكَلاَلَةً : إذا أعيا وذهبت قوَّته ، فاستعاروا هذا اللفْظ عن القرابة الحاصلة ، من غير أولاد لبعدها.
وأيضاً فإنَّهُ تعالى قال { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } [ النساء : 176 ] وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكلالة من لا ولد له ولا والد ؛ لأنَّهُ شرط عدم الولد وَورَّثَ الأخت والأخ ، وهما لا يرِثان مع وجود الأب.
وروى جابر قال : مَرِضْتُ مَرَضاً شديداً أشرفتُ منه على الموت ، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ : يا رسول الله إنِّي رَجُلٌ لا يَرِثُنِي إلاَّ كَلاَلَة ، وَأرَادَ به أنَّهُ ليس له والد ولا ولد ، وهو قول سعيد بن جُبَيْرٍ وإليه ذهب أكثرُ الصَّحَابَةَ.
وروي عن عمر أيضاً أنَّهُ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيها ، ضرب بيده صدري وقال " يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ " ، وهي الآية الأخيرة من سورة النساء سميت بذلك ؛ لأنها نزلت في الصَّيْفِ ، ومات ولم يَفْهَمْهَا ولم يقل فيها شيئاً.
وقيل : { الكلالة } : المالُ الموروث ، وهو قول النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ.
وقيل : { الكلالة } القرابة ، وقيل : الوراثة.
فقد تلخص مما تقدم أنَّها [ إمَّا ] الميِّتُ الموروث أو الوارثُ ، أو المال الموروثُ ، أو الإرْث ، أو القرابة.
(20/398)
وأما اشتقاقها : فقيل : هي مشتقة من تَكَلَّلَهُ الشَّيء ، أي : أحاط به ، وذلك أنَّهُ إذا لم يترك ولداً ولا والداً فقط انقطع طَرَفَاهُ ، وهما عَمُودَا نَسَبِهِ وبقي مال الموروثُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ ، أي : يحيط به كالإكْليلِ.
ومنه " الروضة المكللة " أي : بالزَّهْرِ ، وعليه قول الفرزدق : [ الطويل ]
وَرِثْتُمْ قَنَاةَالمَجْدِ لاَ عَنْ كَلاَلَةٍ... عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ
وقيل : اشتقاقها من " الكلال " وهو الإعْيَاء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بَعْدِ إعياء.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : و" الكلالة " في الأصل : مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوَّةِ من الإعياء.
قال الأعشى : [ الطويل ]
فَآلَيْتَ لاَ أرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ... وَلاَ مِنْ وَحًى حَتَّى تُلاَقِيْ مُحَمَّداً
فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، ولأنَّهَا بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة ، وأجاز فيها أيضاً أن تكون صفة على وزن " فَعَالة " ، قال : " كالهَجَاجَةِ والفَقَاقَةِ للأحْمَقِ ".
ويقال : رجل كلالة ، وامرأةٌ كلالة ، وقوم كلالة ، لا يثنى ولا يجمع ؛ لأنَّهُ مصدر كالدّلالة والوَكَالة.
إذا تقرَّرَ هذا فَلْنَعد إلى الإعراب بعَوْنِ الله ، فتقول : يجوز في " كان " وجهان :
أحدهما : أن تكون ناقصة و" رجل " اسمها ، وفي الخبر احتمالان :
أحدهما : أنه " كلالة " إن قيل : إنها الميت ، وإن قيل : إنَّها الوارث ، أو غير ذلك ، فَتُقَدَّر حذف مضاف ، أي : ذَا كلالة ، و" يورث " حينئذٍ في محلَِّ رفع صفة لـ " رجل " وهو فِعْلٌ مبنيٌّ للمفعول ، ويتعدّى في الأصل لاثْنَيْنِ أقيم الأوَّلُ مقامَ الفاعلِ ، وهو ضمير الرَّجُلِ.(20/399)
والثَّاني : محذوف تقديره : يورث هو مَالَهُ ، وَهَلْ هذا الفِعلُ من " ورث " الثُّلاثي أو " أورث " الرُّبَاعيُّ ؟ .
فيه خلافٌ ، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا جَعَلَهٌُ مِنَ الثُّلاثي جعله يتعَدَّى إلى [ المفعول ] الأوَّلِ من المفعولين بـ " من " فإنَّهُ قال [ وإن كان رجل يورث من كلالة ] و" يورث " من وَرِثَ أي : يورث فيه يعني أنَّهُ في الأصْلِ يتعدَّى بـ " مِنْ ". [ قال : ] وقد تُحْذَفُ ، تقولُ : " وَرِثْتُ زَيْداً مَالَهُ " أي : مِنْ زَيْد ، ولَمّا جَعَلَهُ الرَّجُلَ وارثاً لا موروثاً ، فإنَّهُ قال : " فإنْ قلتَ : فإن جَعَلْتَ تُورَثُ على البناء للمفعول من " أورث " فما وَجْهُهُ ".
قلتُ : الرَّجُلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ ".
وقال أبُو حيَّان : إنَِّه من " أورث " الرُّباعِيِّ المبنيِّ للمفعول ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بالمعنى الذي قيده به الزَّمَخْشَرِيُّ.
الاحتمالُ الثَّاني : أن يكون الخبرُ الجملة من " يورث ".
وفي نَصْبِ { كَلاَلَةً } أربعةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ حال من الضمير في " يورث " ، إنْ أُرِيدَ بها الميِّتُ ، أو الوارثُ ، إلاَّ أنَّهُ يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضافٍ ، أي : يُورث ذا كَلاَلَةٍ ؛ لأنَّ الكلالة حينئذٍ ليست نفس الضَّمير المستكن في { يُورَثُ }.
قال أبُو البَقَاءِ : على جعلها بمعنى الميت ولو قُرِئَ " كلالةٌ " بالرَّفع على أنَّهَا صفةٌ أو بدلٌ من الضَّميرِ في { يُورَثُ } لجاز ، غير أنِّي لم أعرف أحداً قَرَأ به ، فلا يُقْرأنَّ إلا بما نُقِلَ. يعني بكونها صفةً : أنَّهَا صفةٌ لـ " رَجُل ".
الثَّاني : أنَّهَا مفعولٌ من أجله ، إنْ قيل : إنَّهَا بمعنى القرابة ، أي : يُوْرَثُ لأجل الكلالة.
(20/400)
الثَّالثُ : أنَّهُ مفعول ثَانٍ لـ { يُورَثُ } إن قيل : إنَّها بمعنى المال المَوْرُوثِ.
الرَّابعُ : أنَّها نعتٌ لمصدر محذوفٍ ، إن قيل : إنَّهَا بمعنى الوِرَاثَةِ ، أي : يُورَثُ وِرَاثَةَ كَلاَلَةٍ.
وقدَّرَ مَكِّيٌّ في هذا الوجه حَذْفَ مضافٍ تقديره : " ذَات كَلاَلَةٍ ".
الوجه الثَّاني من وجهي " كان " أن تكون تَامَّةً ، فيُكْتَفى بالمرفوع ، أي : وإن وُجِدَ رجل. و{ يُورَثُ } في محلِّ رفع صِفَةٍ لـ " رَجُل " و{ كَلاَلَةً } منصوبةٌ على ما تَقَدَّمَ من الحال ، أو المفعول من أجله أو المفعول به ، أو النَّعت لمصدرٍ محذوف عَلَى ما قُرِّرَ من معانيها ، وَيخُصُّ هذا وجه آخر ذكره مَكيٌّ ، وهو أن تَكُونَ { كَلاَلَةً } منصوبة على التمييزِ.
[ قال مَكِّيٌّ : " كان " أي : وقع ، و{ يُورَثُ } نعت للرَّجُل و" رجل " رفع بـ " كان " و{ كَلاَلَةً } نصب على التفسير ].
وقيا : هو نصبٌ على الحال على أنَّ الكَلاَلَةَ هو الميِّت على هذين الوجهين ، وفي جعلها تَفْسيراً - أي : تمييزاً - نظرٌ لا يَخْفى.
وقرأ الجمهور : { يُورَثُ } مبنيّاً للمفعولِ كما تَقَدَّمَ توجيهه.
وقرأ الحسن : يورث مبنيّاً للفاعل ، ونُقِلَ عنه أيضاً ، وعن أبي رَجَاءَ كذلك ، إلاّ أنَّهُما شدَّدا الراء ، وتوجيه القراءتين واضح مِمّا تقدَّم ، وذلك أنَّهُ إنْ أُريد بالكلالة الميِّتُ ، فيكون المفعولان محذوفين ، و{ كَلاَلَةً } نَصْبٌ على الحال ، أي : وَإنْ كان رجلٌ يُورِثُ وَارثَهُ ، أوْ أهْلَهُ مالَه في حال كَوْنِهِ كَلالَةً.
(20/401)
وَإِنْ أُرِيدَ بها القرابة ، فتكون منصوبةً على المفعول مِنْ أجْله ، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما تَقَدَّمَ تقريره ، وَإنْ أُرِيدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً ، والأوَّلُ محذوفٌ أي : يُورِثُ أهْلَهُ مَالَهُ ، وَإنْ أُريدَ بها الوارثُ فبالعكس ، أي : يُورِثُ مالَهُ أهلَه.
قوله : { أَو امرأة } عطف على { رَجُلٌ } وحُذِفَ منها ما أُثْبِتَ في المعطوف عليه للدلالة على ذلك ، التَّقديرُ : أو امرأةٌ تُورَثُ كَلاَلَةً ، وإنْ كان لا يَلْزَمُ من تقييد المعطوف عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس ، إلاّ أنَّهُ هو الظَّاهِرُ.
وقوله : { وَلَهُ أَخٌ } جملة مِنْ مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحال ، والواو الدَّاخلة عليها واوُ الحال ، وصاحبُ الحال إمَّا { رَجُلٌ } أي : إنْ كان { يُورَثُ } صفةً له ، وإمَّا الضَّميرُ المستتر في { يُورَثُ } وَوَحَّدَ الضمير في قوله : " وله " ؛ لأنَّ العطف بـ " أو " وما ورد على خلاف ذلك أوَّلَ عند الجمهور كقوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ].
فإن قيل : قوله تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة } ثم قال { وَلَهُ أَخٌ } فهي عن الرَّجُلِ ، وما هي عن المرأة ، فما السَّبَبُ فيه ؟ .
فالجوابُ : قال النُّحَاةُ : إذا تقدَّمَ متعاطفان بـ " أو " مذكر ومؤنَّث كنتَ بالخيار ، بَيْنَ أنْ تراعي المتقدم أو المتأخِّرَ ، فتقول : " زيدٌ أو هندُ قامَ " وَإنْ شئت : " قَامَتْ ".
وأجاب أبُو البَقَاءِ عن تذكيره بثلاثة أوجه :
أحدُها : أنَّهُ يعود على الرَّجُلِ وهو مذكر مبدوء به.
والثَّالِثُ : أنَّهُ يعود على الميِّت ، أو الموروثِ لِتَقَدُّمِ ما يدلُّ عليه ، والضَّمير في قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } فيه وجهان :
(20/402)
أحدُهُمَا : أنَّهُ يعود على الأخ والأخت.
والثَّانِي : أنَّهُ يعودُ على الرَّجُلِ ، وعلى أخيه وأخته ، إذا أُريدُ بالرَّجُلِ في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } أنَّهُ وارثٌ لا موروثٌ ، كما تَقَدَّمَتْ حكايته في قول الزَّمَخْشَرِيِّ.
قال الزَّمخشريُّ - بعد ما حكيناه عنه - : " فإن قلتَ : فالضَّمِيرُ في قوله : " فلكل واحد منهما " إلى مَنْ يرجعُ حينئذٍ ؟ .
قلت : على الرَّجُلِ ، وعلى أخيه ، أو أخته ، وعلى الأوَّل إليهما.
فإن قُلْتَ : إذا رجع الضَّمِيرُ إليهما أفاد استواءَهُمَا في حيازةِ السُّدُسِ من غير مُفَاضَلَةِ الذَّكر للأنثى ، فهلْ تبقى هذ الفائدةُ قائمةً في هذا الوجه ؟ .
قلتُ : نَعَمْ ، لأنك إذا قلتَ : السُّدس له أو لواحد مِن الأخِ أو الأخت على التخيير ، فقد سَوَّيْتَ بين الذَّكر والأنثى ". انتهى.
وأجمع المفسِّرونَ على أنَّ المراد بالأخ والأخت هاهنا الإخوة من الأمِّ ؛ لأنَّ ما في آخر السُّورة يدلُّ على ذلك ، وهو كون للأخت النّصف ، وللأختين الثُّلثان وللإخوة الذُّكور والإناث للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنثيين ، ولقراءة أبِي سَعِيدٍ. وقرأ أبيٌّ " أخ أو أخت من الأم ".
وقرأ سعد بن أبي وقاص " من أم " بغير أداة التَّعريف.
(20/403)
قوله : { فَإِن كانوا } الواو ضمير الإخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله : { أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } والمرادُ الذُّكورُ والإناث ، وأتى بضمير الذُّكور في قوله : { كانوا } وقوله : { خَلْفِهِمْ } تغليباً للمذكَّر على المؤنَّثِ ، و" ذلك " إشارةٌ إلى الواحد ، أي : أكثر من الواحد ، يعني : فإنْ كان مَنْ يَرِثُ زائداً على الواحد ؛ لأنَّهُ لا يَصِحُّ أن يقال : " هذا أكثرُ من واحد " بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد ، وإلاّ فالواحدُ لا كثرة فيه ، وتقدَّمَ إعراب " من بعد وصية يوصى بها ".
قوله : { غَيْرَ مُضَآرٍّ } " غير " نَصْبٌ على الحال من الفاعل في " يوصَى " ، وهو ضمير يعود على الرجل في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ } ، هذا إنْ أُريد بالرَّجل الموروث ، وإن أُرِيدَ به الوارثُ كما تَقَدَّمَ ، فيعود على الميِّت الموروث المدلول عليه بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام ، كما دلَّ عليه في قوله : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } ، أي : تَرَكَهُ الموروث ، فصار التقدير : يوصَى بها الموروثُ ، وهكذا أعْرَبَهُ الناس فجعلوه حالاً : الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره.
وَردَّهُ أبو حيَّان ، بأنَّهُ يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بينَ هذه الحال وعامِلها بأجنبيِّ منهما ، وذلك أنَّ العَامِلَ فيها { يوصى } كما تقرَّرَ.
وقوله : { أَوْ دَيْنٍ } أجنبي ؛ لأنَّهُ معطوف على { وَصِيَّةٍ } الموصوفة بالعامل في الحال.
قال : ولو كانَ على ما قالوه من الإعراب لكانَ التركيب : " من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين ".
(20/404)
وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين : أعني ناء الفعلِ للفاعل ، أو المفعول ، وتزيدُ عليه قراءة البناء للمفعول وَجْهاً آخَر ، وهو أن صاحب الحال غيرُ مذكور ؛ لأنَّهُ فاعِلٌ في الأصل ، حُذِفَ وأُقِيمَ المفعول مقامه ، ألا ترى أنَّكَ لو قلت : " ترسل الرياح مبشراً بها " بكسر الشين يعني " يرسل الله الرياح مبشراً بها " فحذفت الفاعل ، وأقمت المفعولَ مُقامَهُ ، وجئتَ بالحال من الفاعل لم يَجزْ ، فكذلك هذا ، ثم خَرَّجه على أحد وجهين :
إما بفعل يَدُّلُ عليه ما قبله من المعنى ؛ ويكون عاماً لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدِّيْن ، وتقديره : يلزمُ ذلك مالَهُ ، أو يوجبه [ فيه ] غَير مُضَارٍّ بورثته بذلك الإلزامِ أو الإيجاب.
وإمَّا بفعلٍ مَبْني للفاعل لدلالَةِ المبني للمفعول عليه ، أي : يوصي غير مُضارٍّ ، فيصيرُ نظير قوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [ النور : 36 ، 37 ] على قراءة من قرأ بفتح الباء.
قوله : { وَصِيَّةٍ } في نصبها أربعة أوجه :
أحدها : أنَّهُ مصدرٌ مؤكَّد ، أي : يوصيكم اللَّهُ [ بذلك ] وَصِيَّة.
الثَّاني : أنها مصدر في موضع الحال ، والعامل فيها { يُوصِيكُمُ الله } قاله ابنُ عَطِيَّةَ.
والثَّالِثُ : أنها منصوبةٌ على الخروج إمَّا مِنْ قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس } ، أو من قوله : { لِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث } ، وهذه عبارةٌ تشبه عبارة الكوفيين.
(20/405)
والرَّابعُ : أنَّها منصوبةٌ باسم الفاعل وهو { مُضَآرٍّ } والمُضَارَّة لا تقع بالوصيَّةِ بل بالورثة ، لكنَّه لَمَّا وّصَّى اللَّهُ - تعالى - بالورَثَة جَعَلَ المُضَارَّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصيّة مُبَالَغةً في ذلك ، وَيُؤيَّدُ هذا التخريج قراءة الحسن : { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله } بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز ، وَصَارَ نظير قولهم : " يا سارِقَ الليلةَ " ، التقدير : غير مضار في وصية من الله ، فاتُّسعَ في هذا إلى أنَّ عُدَّيَ بنفسه من غير واسطةٍ ، لما ذكرنا من قَصْد المبالغة ، وهذا أحْسَنُ تخريجاً من تخريج أبي البَقَاءِ فإنَّهُ ذكر في تخريج قراءة الحَسَنِ وجهين :
أحدهما : أنَّهُ على حذف " أهل " أو " ذي " أي : غير مضارِّ أهل وصيَّةٍ ، أو ذي وَصِيَّة.
والثَّاني : على حذف وقت ، أي : وقت وصيَّة ، قال وهو مِنْ إضافَةِ الصِّفة إلى الزَّمانِ ، ويقرب من ذلك قولهم : هو فارسُ حربٍ ، أي : فارس في الحرب ، وتقولُ : هو فارسُ زمانه ، أي : فارس في زمانه ، كذلك تقدير القراءة : غير مضارٍّ في وقت الوصيَّة.
ومفعول { مُضَآرٍّ } محذوفٌ إذا لم تُجعَلْ { وَصِيَّةً } مفعولةً ، أي : غير مضارٍّ وَرَثتِهِ بوصيَّةِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 223 ـ 231}. بتصرف.(20/406)
من فوائد العلامة أبى السعود فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم } من المال. شروعٌ في بيان أحكامِ القِسمِ الثاني من الورثة ، ووجهُ تقديمِ حكمِ ميراثِ الرجالِ مما لا حاجة إلى ذكره { إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ } أي ولدٌ وارثٌ من بطنها أو من صُلْب بنيها أو بني بنيها وإن سفَلَ ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو متعدداً لأن لفظ الولدِ ينتظِمُ الجميعَ منكم أو من غيركم ، والباقي لورثتهن من ذوي الفروضِ والعِصاباتِ أو غيرِهم ، ولبيت المالِ إن لم يكن لهن وارثٌ آخرُ أصلاً { فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ } على نحو ما فُصِّل والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذِكرَ تقديرِ عدمِ الولدِ وبيانِ حكمِه مستتبِعٌ لتقدير وجودِه وبيانِ حكمِه { فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ } من المال والباقي لباقي الورثةِ { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } متعلق بكلتا الصورتين لا بما يليه وحده { يُوصِينَ بِهَا } في محل الجرِّ على أنه صفةٌ لوصيةٍ ، وفائدتُها ما مر من ترغيب الميتِ في الوصية وحثِّ الورثةِ على تنفيذها { أَوْ دَيْنٍ } عطفٌ على وصيةٍ سواءٌ كان ثبوتُه بالبينة أو بالإقرار ، وإيثارُ { أَوْ } على الواو لما مر من الدِلالة على تساويهما في الوجوب والتقدمِ على القسمة ، وكذا تقديمُ الوصيةِ على الدين ذِكْراً من إبراز كمالِ العنايةِ بتنفيذها { وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ } على التفصيل المذكورِ آنفاً والباقي لبقية ورثتِكم من أصحاب الفروضِ والعصباتِ أو ذوي الأرحامِ إو لبيت المالِ إن لم يكن لكم وارثٌ آخرُ أصلاً { فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ } على النحو الذي فُصل { فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم } من المال والباقي للباقين { مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } الكلامُ فيه كما فُصِّل في نظيرَيْه ،(20/407)
فُرض للرجل بحق الزواجِ ضعفُ ما فرض للمرأة كما في النسب لمزيَّته عليها وشرفِه الظاهِرِ ، ولذلك اختُص بتشريف الخطابِ ، وهكذا قياسُ كلِّ رجلٍ وامرأةٍ اشتركا في الجهة والقُرب ، ولا يستثنى منه إلا أولادُ الأمِّ والمُعتِقُ والمعتقةُ ، وتستوي الواحدةُ والعددُ منهن في الربع والثمن.
(20/408)
{ وَإِن كَانَ رَجُلٌ } شروع في بيان أحكامِ القسمِ الثالثِ من الورثة المحتمِلِ للسقوط ، ووجهُ تأخيرِه عن الأولَيْن بيِّنٌ ، والمرادُ بالرجل الميتُ وقوله تعالى : { يُورَثُ } على البناء للمفعول من ورِث لا من أَوْرث ، خبر كان أي يورث منه { كلالة } الكلالةُ في الأصل مصدرٌ بمعنى الكَلالِ وهو ذهابُ القوةِ من الإعياء ، استُعيرت للقرابة من غير جهة الوالدِ والولدِ لضَعفهما بالإضافة إلى قرابتهما ، وتُطلق على من لم يخلِّفْ ولداً ولا والداً وعلى مَن ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة ، كما تطلق القَرابةُ على ذوي القرابة ، وقد جُوِّز كونُها صفةً كالهَجاجَة والفَقَاقة للأحمق ، فنصبُها إما على أنها مفعولٌ له أي يورثُ منه لأجل القرابةِ المذكورةِ أو على أنها حالٌ من ضمير يورث أي حالَ كونِه ذا كلالةٍ أو على أنها خبرٌ لكان ويورث صفةٌ لرجل أي إن كان رجلٌ موروثٌ ذا كلالةٍ ليس له والدٌ ولا ولدٌ وقرىء يُورِّثُ على البناء للفاعل مخففاً ومشدداً ، فانتصابُ كلالةً إما على أنها حالٌ من ضمير الفعلِ والمفعولُ محذوفٌ أي يُورِثُ وارثَه حال كونِه ذا كلالةً وإما على أنها مفعولٌ به أي يورِّث ذا كلالةً وإما على أنه مفعولٌ له أي يورَث لأجل الكلالة { أَو امرأة } عطف على رجلٌ مقيدٌ بما قُيِّد به أي أو امرأةٌ تورث كذلك ، ولعل فَصْلَ ذكرِها عن ذكره للإيذان بشرفه وأصالتِه في الأحكام { وَلَهُ } أي للرجل ففيه تأكيدٌ للإيذان المذكورِ حيث لم يتعرَّضْ لها بعد جَرَيانِ ذكرِها أيضاً ، وقيل : الضميرُ لكل منهما { أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي من الأم فحسب وقد قرىء كذلك فإن أحكامَ بني الأعيانِ والعَلاّتِ هي التي ذُكرت في آخر السورةِ الكريمةِ والجملةُ في محل النصبِ على أنها حالٌ من ضمير يورَث أو من رجلٌ على تقدير كونِ {(20/409)
يُورَثُ } صفةً ، وسيقت لتصوير المسألةِ ، وذكرُ الكَلالةِ لتحقيق جريانِ الحكمِ المذكورِ وإن كان مع مَنْ ذُكر ورَثةٌ أخرى بطريق الكلالة ، وأما جرَيانُه في صورة وجودِ الأمِّ أو الجدةِ مع أن قرابتَهما ليست بطريق الكَلالة فبإجماعٍ { فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا } من الأخ والأختِ { السدس } من غير تفضيلٍ للذكر على الأنثى لأن الإدلأَ إلى الميت بمحض الأنوثة.
(20/410)
{ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك } أي أكثرَ من الأخ أو الأختِ المنفردَيْن بواحد أو بأكثرَ ، والفاءُ لما مر أن ذكرَ احتمالِ الانفرادِ مستتبِعٌ لذكر احتمالِ التعدد { فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث } يقتسمونه بالسوية والباقي لبقية الورثةِ من أصحاب الفروضِ والعَصَباتِ. هذا وأما جوازُ أن يكون يُورَث في القراءة المشهورة مبنياً للمفعول من أورث على أن المرادَ به الوراثُ ، والمعنى وإن كان رجلٌ يجعل وارثاً لأجل الكلالةِ أو ذا كلالةٍ أي غيرَ والدٍ أو ولدٍ ، ولذلك الوارث أخٌ أو أختٌ فلكل واحدٍ من ذلك الوارثِ وأخيه أو أختِه السدسُ فإن كانوا أكثرَ من ذلك أي من الاثنين بأن كانوا ثلاثةً أو أكثرَ فهم شركاءُ في الثلث المُوزَّعِ للاثنين لا يزاد عليه شيءٌ فبمعزل من السَّداد ، أما أولاً : فلأن المعتبرَ على ذلك التقديرِ إنما هو الأخوةُ بين الوارثِ وبين شريكِه في الإرث من أخيه أو أختِه لا ما بينه وبين مورِّثه من الأخوة التي عليها يترتبُ حكمُ الإرثِ وبها يتِمُّ تصويرُ المسألةِ ، وإنما المعتبرُ بينهما الوراثةُ بطريق الكلالةِ وهي عامةٌ لجميع صورِ القَراباتِ التي لا تكون بالولادة فلا يكون نصيبُه ولا نصيبُ شريكِه مما ذكر بعينه ، ومن ادَّعى اختصاصَها بالإخوة لأمَ متمسكاً بالإجماع على أن المرادَ بالكلالة هاهنا أولادُ الأمِّ فقد اعترف ببطلان رأيه من حيث لا يحتسب ، كيف لا ومبناه إنما هو الإجماعُ على أن المرادَ بالإخوة في قوله تعالى : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } هو الإخوةُ لأم خاصةً حسبما شهِدت به القراءةُ المحْكيةُ والآيةُ الآتيةُ في آخر السورةِ الكريمةِ ، ولولا أن الرجلَ عبارةٌ عن الميت والأُخوّةُ معتبرةٌ بينه وبين ورثتِه لما أمكن كونُ الكلِّ أولادَ الأمِّ ، ثم إن الكلالةَ كما نبّهتُ عليه باقيةٌ على إطلاقها(20/411)
ليس فيها شائبةُ اختصاصٍ بأولاد الأمِّ فضلاً عن الإجماع على ذلك ، وإلا لاقتصر البيانُ على حكم صورةِ انحصارِ الورثةِ فيهم ، وإنما الإجماعُ فيما ذكر من أن المرادَ بالأخ والأختِ مَنْ كان لأمَ خاصةً ، وأنت خبير بأن ذلك في قوة الإجماعِ على أن يُورَثَ من ورِث لا من أَورَثَ فتدبر ، وأما ثانياً : فلأنه يقتضي أن يكون المعتبرُ في استحقاق الورثةِ في الفرض المذكورِ إخوةً بعضَهم لبعض من جهة الأمِّ فقط لما ذُكر من الإجماع مع ثبوت الاستحقاقِ على تقدير الأُخوةِ من الجهتين ، وأما ثالثاً : فلأن حُكمَ صورةِ انفرادِ الوارثِ عن الأخ والأختِ يبقى حينئذ غيرَ مُبيِّنٍ ، وليس من ضرورة كونِ حظِّ كلَ منهما السدسَ عند الإجماع كونُه كذلك عند الانفراد ، ألا يرى أن حظ كلَ من الأختين الثلثُ عند الاجتماعِ والنصفُ عند الانفراد ؟ وأما رابعاً : فلأن تخصيصَ أحدِ الورثةِ بالتوريث وجعلَ غيرِه تبعاً له فيه مع اتحادِ الكلِّ في الإدلاءِ إلى المُورِّث مما لا عهدَ به.(20/412)
{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } الكلامُ فيه كالذي مر في نظائره خلا أن الدَيْن هاهنا موصوفٌ بوصف الوصيةِ جرياً على قاعدة تقييدِ المعطوفِ مما قُيِّد به المعطوفُ عليه لاتفاق الجمهورِ على اعتبار عدمِ المُضارَّةِ فيه أيضاً وذلك إنما يتحقق فيما يكون ثبوتُه بالإقرار في المرض ، كأنه قيل أو دينٍ يوصى به { غَيْرَ مُضَارّ } حال من فاعل فعلٍ مُضمر يدل عليه المذكورُ وما حُذف من المعطوف اعتماداً عليه كما أنّ رجالٌ في قوله تعالى : { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ } على قراءة المبنيِّ للمفعول فاعل لفعل ينبىء عنه المذكورُ ومن فاعل الفعلِ المذكورِ والمحذوفِ اكتفاءً به على قراءة البناءِ للفاعل ، أي يوصى بما ذكر من الوصية والدَّيْن حالَ كونِه غيرَ مضارَ للورثة ، أي بأن يوصيَ بما زاد على الثلث أو تكونُ الوصية لقصد الإضرارِ بهم دون القُربةِ وبأن يُقِرَّ في المرض بدَين كاذباً ، وتخصيصُ هذا القيدِ بهذا المقام لما أن الورثةَ مَظِنةٌ لتفريط الميتِ في حقهم { وَصِيَّةً مّنَ الله } مصدرٌ مؤكدٌ لفعل محذوفٍ وتنوينُه للتفخيم ، ومن متعلقةٌ بمضمر وقع صفةً له مؤكدةً لفخامته الذاتية بالفخامة الإضافية ، أي يوصيكم بذلك وصيةً كائنةً من الله كقوله تعالى : { فَرِيضَةً مّنَ الله } ولعل السرَّ في تخصيص كلَ منهما بمحله الإشعارُ بما بين الأحكامِ المتعلقةِ بالأصول والفروعِ وبين الأحكامِ المتعلّقةِ بغيرهم من التفاوت حسب تفاوُتِ الفريضةِ والوصية وإن كانت كلتاهما واجبة المراعاةِ ، أو منصوبٌ بغيرَ مُضارَ على أنه مفعولٌ به فإنه اسمُ فاعلٍ معتمدٍ على ذي الحالِ ، أو منفيٌّ معنىً فيعمل في المفعول الصريحِ ، ويعضُده القراءةُ بالإضافة أي غيرَ مضارٍ لوصية اللَّهِ ، وعهدُه لا في شأن الأولادِ فقط كما قيل(20/413)
إذ لا تعلقَ لهم بالمقام بل في شأن الورثةِ المذكورةِ هاهنا ، فإن الأحكامَ المفصَّلةَ كلَّها مندرجةٌ تحت قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله } جاريةٌ مَجرى تفسيرِه وبيانه ، ومُضارّتُها الإخلالُ بحقوقهم ونقصُها بما ذُكر من الوصية بما زاد على الثلث والوصيةِ لقصد الإضرارِ دون القُربةِ والإقرارِ بالدين كاذباً ، وإيقاعُها على الوصية مع أنها واقعةٌ على الورثة حقيقةً كما في قوله :
يا سارقَ اللَّيلةِ أهلَ الدارِ... للمبالغة في الزجر عنها بإخراجها مُخرجَ مُضارَّةِ أمرِ اللَّهِ تعالى ومضادَّتهِ ، وجعلُ الوصيةِ عبارةً عن الوصية بالثلث فما دونه يقتضي أن يكونَ ( غيرَ مضارَ ) حالاً من ضمير الفعلِ المتعلقِ بالوصية فقط وذلك يؤدي إلى الفصل بين الحالِ وعاملِها بأجنبيَ هو المعطوفُ على وصية مع أنه لا تنحسِمُ به مادةُ المُضارّةِ لبقاء الإقرارِ بالدين عن إطلاقه { والله عَلِيمٌ } بالمُضارِّ وغيرِه { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة فلا يَغترَّ بالإمهال ، وإيرادُ الاسمِ الجليلِ مع كفاية الإضمارِ لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابة. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 151 ـ 153}
ومن فوائد العلامة السعدى فى الآية
قال عليه الرحمة :
قال تعالى : { وَلَكُمْ } أيها الأزواج { نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }.
ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه ، ولد(20/414)
الصلب أو ولد الابن الذكر والأنثى ، الواحد والمتعدد ، الذي من الزوج أو من غيره ، ويخرج عنه ولد البنات إجماعًا.
ثم قال تعالى : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي : من أم ، كما هي في بعض القراءات. وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأم ، فإذا كان يورث كلالة أي : ليس للميت والد ولا ولد أي : لا أب ولا جد ولا ابن ولا ابن ابن ولا بنت ولا بنت ابن وإن نزلوا. وهذه هي الكلالة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقد حصل على ذلك الاتفاق ولله الحمد.
{ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } أي : من الأخ والأخت { السُّدُسُ } ، { فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ } أي : من واحد { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أي : لا يزيدون على الثلث ولو زادوا عن اثنين. ودل قوله : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أن ذَكَرهم وأنثاهم سواء ، لأن لفظ "التشريك" يقتضي التسوية.
ودل لفظ { الْكَلالَةِ } على أن الفروع وإن نزلوا ، والأصولَ الذكور وإن علوا ، يُسقطون أولاد الأم ، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة ، فلو لم يكن يورث كلالة ، لم يرثوا منه شيئًا اتفاقًا.(20/415)
ودل قوله : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أن الإخوة الأشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية. وهى : زوج ، وأم ، وإخوة لأم ، وإخوة أشقاء. للزوج النصف ، وللأم السدس ، وللأخوة للأم الثلث ، ويسقط الأشقاء ، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأم ، فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرَّق الله حكمه. وأيضا فإن الإخوة للأم أصحاب فروض ، والأشقاء عصبات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : - "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" - وأهل الفروض هم الذين قدَّر الله أنصباءهم ، ففي هذه المسألة لا يبقى بعدهم شيء ، فيَسْقُط الأشقاء ، وهذا هو الصواب في ذلك.
وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب ، فمذكور في قوله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } الآية.
فالأخت الواحدة شقيقة أو لأب لها النصف ، والثنتان لهما الثلثان ، والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب أو الأخوات تأخذ النصف ، والباقي من الثلثين للأخت أو الأخوات لأب وهو السدس تكملة الثلثين. وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الأخوات للأب كما تقدم في البنات وبنات الابن. وإن كان الإخوة رجالا ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين.
فإن قيل : فهل يستفاد حكم ميراث القاتل ، والرقيق ، والمخالف في الدين ، والمبعض ، والخنثى ، والجد مع الإخوة لغير أم ، والعول ، والرد ، وذوي الأرحام ، وبقية العصبة ، والأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن من القرآن أم لا ؟
قيل : نعم ، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات. فأما (القاتل والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية في توزيع المال على الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي.(20/416)
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله : { لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } وقد عُلم أن القاتل قد سعى لمورثه بأعظم الضرر ، فلا ينتهض ما فيه من موجب الإرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي [ ص 169 ] رتب عليه الإرث. فعُلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث ، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه"
وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له ، وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث ، والمانعُ الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه ، فقوي المانع ومنع موجب الإرث الذي هو النسب ، فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية ، فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } إذا اتفقت أديانهم ، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة النسبية المجردة.
قال ابن القيم في "جلاء الأفهام" : وتأمل هذا المعنى في آية المواريث ، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة ، كما في قوله تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب ، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب ، فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين [انتهى].(20/417)
وأما ( الرقيق ) فإنه لا يرث ولا يورث ، أما كونه لا يورث فواضح ، لأنه ليس له مال يورث عنه ، بل كل ما معه فهو لسيده. وأما كونه لا يرث فلأنه لا يملك ، فإنه لو ملك لكان لسيده ، وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْن } { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } ونحوها لمن يتأتى منه التملك ، وأما الرقيق فلا يتأتى منه ذلك ، فعلم أنه لا ميراث له. وأما مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه. فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في المواريث ، لكون ما فيه من الحرية قابلا للتملك ، وما فيه من الرق فليس بقابل لذلك ، فإذا يكون المبعض ، يرث ويورث ، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما ، مثابا ومعاقبا ، بقدر ما فيه من موجبات ذلك ، فهذا كذلك. وأما ( الخنثى ) فلا يخلو إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته ، أو مشكلا. فإن كان واضحا فالأمر فيه واضح.
إن كان ذكرا فله حكم الذكور ، ويشمله النص الوارد فيهم.
وإن كان أنثى فله حكم الإناث ، ويشملها النص الوارد فيهن.
وإن كان مشكلا فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما -كالإخوة للأم- فالأمر فيه واضح ، وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته ، ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك ، لم نعطه أكثر التقديرين ، لاحتمال ظلم من معه من الورثة ، ولم نعطه الأقل ، لاحتمال ظلمنا له. فوجب التوسط بين الأمرين ، وسلوكُ أعدل الطريقين ، قال تعالى : { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور. و{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }(20/418)
وأما ( ميراث الجد ) مع الإخوة الأشقاء أو لأب ، وهل يرثون معه أم لا ؟ فقد دل كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وأن الجد يحجب الإخوة أشقاء أو لأب أو لأم ، كما يحجبهم الأب.
وبيان ذلك : أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى : { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } الآية. وقال يوسف عليه السلام : { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ }
فسمى الله الجد وجد الأب أبا ، فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب ، يرث ما يرثه الأب ، ويحجب من يحجبه.
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم من بني الإخوة والأعمام وبنيهم ، وسائر أحكام المواريث ، فينبغي أيضا أن يكون حكمُه حكمَه في حجب الإخوة لغير أم.
وإذا كان ابن الابن بمنزلة ابن الصلب فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب ؟ وإذا كان جد الأب مع ابن الأخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت أخاه ؟ فليس مع مَنْ يورِّث الإخوةَ مع الجد ، نص ولا إشارة ولا تنبيه ولا قياس صحيح.
وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن ، وذلك أن الله تعالى قد فرض وقدر لأهل المواريث أنصباء ، [ ص 170 ] وهم بين حالتين :
إما أن يحجب بعضهم بعضًا أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا ، فالمحجوب ساقط لا يزاحِم ولا يستحق شيئا ، وإن لم يحجب بعضهم بعضا فلا يخلو ، إما أن لا تستغرق الفروض التركة ، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص ، أو تزيد الفروض على التركة ، ففي الحالتين الأوليين كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فلا يخلو من حالين :(20/419)
إما أن ننقص بعضَ الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له ، ونكمل للباقين منهم فروضهم ، وهذا ترجيح بغير مرجح ، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر ، فتعينت الحال الثانية ، وهي : أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر الإمكان ، ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم ، ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول ، فعلم من هذا أن العول في الفرائض قد بينه الله في كتابه.
وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ( الرد ) فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق فروضُهم التركةَ وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ولا بعيد ، فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح ، وإعطاؤه غيرَهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل ، ومعارضة لقوله : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فتعين أن يُرَدَّ على أهل الفروض بقدر فروضهم.
ولما كان الزوجان ليسا من القرابة ، لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر [هذا عند من لا يورِّث الزوجين بالرد ، وهم جمهور القائلين بالرد ، فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا ، وعلى القول الآخر ، أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يُرَدُّ عليهما ؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان بالرد كغيرهما ، فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض ، فهذا هو الظاهر من دلالة الكتاب والسنة ، والقياس الصحيح ، والله أعلم] .
وبهذا يعلم أيضا ( ميراث ذوي الأرحام ) فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ولا عاصبا ، وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع الأجانب ، وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره ، فتعين توريث ذوي الأرحام.(20/420)
وإذا تعين توريثهم ، فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله. وأن بينهم وبين الميت وسائط ، صاروا بسببها من الأقارب. فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط. والله أعلم.
وأما ( ميراث بقية العصبة ) كالبنوة والأخوة وبنيهم ، والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر"وقال تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء ، لم يستحق العاصب شيئًا ، وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة ، وبحسب جهاتهم ودرجاتهم.
فإن جهات العصوبة خمس : البنوة ، ثم الأبوة ، ثم الأخوة وبنوهم ، ثم العمومة وبنوهم ، ثم الولاء ، فيقدم منهم الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة ، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى ، وهو الشقيق ، فإن تساووا من كل وجه اشتركوا. والله أعلم.
وأما كون الأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن عصبات ، يأخذن ما فضل عن فروضهن ، فلأنه ليس في القرآن ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات.
فإذا كان الأمر كذلك ، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن ، فإنه يعطى للأخوات ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن ، كابن الأخ والعم ، ومن هو أبعد منهم. والله أعلم. أ هـ {تفسير السعدى صـ 168 ـ 170}(20/421)
بحث جليل وقيم فى آيات الوصية للإمام السهيلى
قال عليه رحمة الله ما نصه :
الحكمة في الوصية بالأولاد
ثم إني نظرت فيما بينه الله سبحانه في كتابه من حلال وحرام وحدود وأحكام فلم نجده افتتح شيئا من ذلك بما افتتح به آية الفرائض ولا ختم شيئا من ذلك بما ختمها به فإنه قال في أولها يوضيكم الله في أولادكم فآخبر تعالى عن نفسه أنه موص تنبيها على حكمته فيما أوصى به وعلى عدله ورحمته أما حكمته فإنه علم سبحانه ما تضمنه أمره من المصلحة لعباده وما كان في فعلهم قبل هذا الأمر من الفساد حيث كانوا يورثون الكبار ولا يورثون الصغار ويورثون الذكور ولا يورثون الإناث ويقولون أنورث أموالنا من لا يركب الفرس ولا يضرب بالسيف ويسوق الغنم فلو وكلهم الله إلى آرائهم وتركهم مع أهوائهم لمالت بهم الأهوء عند الموت مع بعض البنين دون بعض فأدى ذلك إلى التشاجر والتباغض والجور وقلة النصفة فانتزع الوصية منهم وردها على نفسه دونهم ليرضي بعلمه وحكمه ولذلك قال تعالى حين ختم الآية وصية من
الله والله عليم حليم وقال قبل ذلك فريضة إن الله عن الله كان عليما حكيما
وأما عدله فإنه سبحانه سوى بين الذكور لأنهم سواء في أحكام الديات والعقول ورجاء المنفعة وان صغر السن لايبطل حق الولادة ولا معنى النسب وان كلا منهم فلق الأكباد وشجا الحساد ولذلك قال تعالى يوصيكم الله في أولادكم ولم يقل بأولادكم لأنه أراد العدل فيهم والتحذير من الجور عليهم وجاء باللفظ عاما غير مقصور على الميراث أو غيره ولذلك قال النبي عليه السلام إني لا أشهد على جور وذلك أيضا قاله في هبة فضل بها بشير بن سعد بعض ولده على بعض لأنه رأى الله(20/422)
تعالى قد أمر بالعدل فيهم أمرا غير مقصور على باب دون باب ولذلك رأى كثير من العلماء أن لا يفضل في الهبة والصدقة ابن على بنت إلا بما فضله الله به للذكر مثل حظ الأنثيين وهو قول أحمد ابن حنبل
وكانوا يستحبون العدل في البنين حتى في القبلة ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قاعدا فجاء طفل له فأقعده في حجره وجاءت بنت له صغيرة فأقعدها على الأرض فقال له عليه الصلاة والسلام أليست بولدك أو كما قال قال بلى قال فاعدل فيهما وهذا كله منتزع من قوله سبحانه يوصيكم الله في أولادكم
وأما ما تضمنته وصيته من الرحمة إلى ما ذكرنا من العدل والحكمة فإنه جعل للبنات حظا في أموال آبائهن رحمة منه لضعفهن وترغيبا في نكاحهن لأن المرأة تنكح لمالها وجمالها ولدينها فعليك بذات الدين قال صلى الله عليه وسلم اتقوا الله في الضعيفين يعني المرأة واليتيم فكان من رأفته بهن أن قسم
لهن مع الذكور وكان من عدله أن جعل للذكر مثل حظ الأنثيين لما يلزم الذكور من الإنفاق والصداق إذا بلغوا النكاح ولما أوجب عليهم من الجهاد للأعداء والذب عن النساء وجعل حظهم مثنى حظ الإناث كما جعل حظ الرجل مثل حظي الأنثى في الشهادات والديات لأنهن ناقصات عقل ودين للحيض المانع لهن في بعض الأوقات من الصيام والصلوات فجمع بين العدل والرحمة ونبه على العلم والحكمة
وانتبه أيها التالي لكتاب الله المأمور بتدبره كيف قال يوصيكم الله في أولادكم بلفظ الأولاد دون لفظ الأبناء لما سنذكره من الفرق بينهما إن شاء الله(20/423)
ثم أضاف الأولاد إليهم بقوله أولادكم ومعلوم أن الولد فلذة الكبد وذلك موجب للرحمة الشديدة فمع أنه أضاف الأولاد إليهم جعل الوصية لنفسه دونهم ليدل على أنه أرأف وأرحم بالأولاد من آبائهم ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول العبد لأخيه أوصيك في أولادك لأن أبا الولد أرحم بهم فكيف يوصيه غيره بهم وإنما المعروف أن يقول أوصيك بولدي خيرا فلما قال الله تبارك وتعالى يوصيكم الله في أولادكم علم أن رب الأولاد أرحم بالأولاد من الوالدين لهم حيث أوصى بهم وفيهم ولذلك قال عليه الصلاة
والسلام في امرأة رآها قد ألقت نفسها على ابنها في بعض المغانم الله أرحم بعبده المؤمن من هذه بولدها وكذلك قال في الحمرة التى أخذ فراخها فألقت نفسها عليهم حتى أطبق عليها الكساء معهم فقال عليه الصلاة والسلام أتعجبون من رحمة هذه بفراخها فالله أرحم بعبده المؤمن منها وحسبك بقوله سبحانه وهو أرحم الراحمين فالأبوان من الراحمين فالله تعالى أرحم منهما فلذلك أوصى الاباء بأولادهم وإن كان المعروف ألا يوصى والد بولده وإنما يوصي الإنسان غيره بولد نفسه إذا غاب عنه وأما أن يوصى والد بولد نفسه فغير معروف في العادة لأن للولد أن يقول أنا أرحم بولدي منك فكيف توصيني بهم فسبحان من هو أرحم الراحمين وأعدل الحاكمين
فصل
في أسرار قوله يوصيكم الله
وقال سبحانه يوصيكم بلفظ الفعل الدائم لا بلفظ الماضي كما قال في غير آية نحو قوله تعالى أنزلناها وفرضناها ونحو قوله فرض عليك القرآن ونحو قوله ذلكم وصاكم به ونحو قوله كتب عليكم الصيام وكتب عليكم القتال ولم يقل ههنا كذلك وإنما قال يوصيكم والحكمة في ذلك والله أعلم أن الآية ناسخة للوصية المكتوبة عليهم في قوله كتب عليكم إذا حضز أحدكم الموت الآية فلما نسخ الوصية الماضية واستأنف حكما(20/424)
آخر جاء بلفظ الفعل المستأنف تنبيها على نسخ ما مضى والشروع في حكم آخر فقال يوصيكم الله
وجاء بالاسم الظاهر ولم يقل أوصيكم ولا نوصيكم كما قال نتلو عليك ونقص عليك لأنه أراد تعظيم هذه الوصية والترهيب من إضاعتها كما قال يعظكم الله ويحذركم الله نفسه فمتى أراد تعظيم الأمر جاء بهذا الاسم ظاهرا لأنه أهيب أسمائه وأحقها بالتعظيم والله أعلم
فصل في سر اختيار لفظ الولد دون الابن
وقال في أولادكم ولم يقل في أبنائكم لأن لفظ الولادة هو الذي يليق بمسألة الميراث ففي تخصيص هذا اللفظ فقه وتنبيه أما الفقه فإن الأبناء من الرضاعة لا يرثون لأنهم ليسوا بأولاد وكذلك الابن المتبنى فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنى زيدا قبل النسخ للتبني فكان يقول أنا ابن محمد
ولا يقول أنا ولد محمد ولذلك قال سبحانه وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم لأن الولد لا يكون إلا من صلب أو بطن غير أن لفظ الأولاد يقع على الذكور والإناث حقيقة فلذلك عدل عنه إلى لفظ الأبناء في آية التحريم وأما في آية المواريث فجاء بلفظ الأولاد تنبيها على المعنى الذي يتعلق به حكم الميراث وهو التولد فالماء حياة البشر كما أن الماء حياة الشجر ولذلك عبر في الرؤيا بالماء عن المال وهو يسري من الأصل إلى الفرع المتولد منه أشد من سريان الماء من الفرع إلى الأصل ولذلك كان سبب الولد في الميراث أقوى من سبب الوالد لأن الولد فرع متولد فإليه يسري المال أقوى من سريانه إلى الأب وهذا المعنى بعينه مروي عن زيد بن ثابت حيت كلمه عمر رضي اله عنه في ميراث الجد مع الإخوة فضرب له المثل في الشجرة لها فرعان وفي الفرع الواحد غصنان فإن قطع أحد الغصنين سرت القوة والماء إلى الغصن الباقي(20/425)
فصل في الموازنة بين الجد والأخ وفي دلالة الولد
وإذا ثبت هذا فالجد إذا الأصل والأخ أقوى سببا لأنه يدلي
بولادة الأب له وقد تقدم أن الولادة أقوى الأسباب فإن قال الجد وأنا أيضا ولدت الميت قيل له إنما ولدت والده وولده قد ولد الإخوة فصار سببهم قويا وإنما لم يحجبوا الجد بهذه القوة لأن الجد أصل وولد الولد ولد غير أن الولد أحق منه ما دام حيا
وقد اختلف هل يقع على ولد الولد اسم الولد حقيقة أو مجازا والذي عندي أنه حقيقة ولكن الولد أقرب من ولد الولد وإن شاركه في الاسم لأن ولد الولد لم يكن ولدا للجد إلا بواسطة الوالد
فإن قيل فإن تصدق بصدقة على ولده أكان يشاركهم فيها ولد الولد
قلنا أما الصدقة فالغرض بها التمليك فلا يتناول ولد الولد إلا بتبيان من المتصدق مخصص عموم اللفظ بقرينة الغرض والمقصد بخلاف التحبيس فإن المقصد به التعقيب دون التمليك فتناول الولد وولد الولد ما تعاقبوا
فصل في الموازنة بين البنوة والولادة
فإذا فهمت هذا علمت أن لفظ البنوة أوسع من لفظ الولادة لأن المقصود بها الدعوة والنسب فإذا نسبت فقد تنسب إلى والد وغير والد ألا ترى إلى قوله تعالى وابن السبيل فنسب إلى السبيل وليس بوالده وكذلك قولهم ابن آوى وابن عرس وبنات أوبر للكمأة وبنات نعش في النجوم ولا يحسن في شيء من هذا لفظ الولد فمن هذا لم ير زيد رحمه الله حجة لمن قال من الصحابة إن الجد كالأب كما أن ابن الابن كالابن لقوله سبحانه يا بني آدم ويا بني إسرائيل ولقوله ملة أبيكم إبراهيم لأن هذا نسب وتعريف ولو ذكر الولادة لكان لهم فيها حجة ومتعلق لما قدمناه من المقصود بلفظ الولد ولفظ الابن وفرق ما بينهما والولد يقع على الذكر(20/426)
والأنثى والواحد والجمع بخلاف الابن لأنه على وزن فعل كالقبض والنفض والخلف وهو قابل لصورة الفعل من المفعولات فالولد مولود قابل لصورة الفعل الذي هو الولادة كما أن النفض من الورق قد قبل صورة الفعل الذي هو النفض فوقع على الواحد والجميع من أجل ذلك
غير أنه قال في الآية في أولادكم فجمع الولد لإضافته إلى ضمير الجمع ولو كان مضافا إلى ضمير الواحد لجاء بلفظ الإفراد وإن عنى الجمع لقوله عليه السلام أنا سيد ولد آدم ولا فخر ولم يقل أولاد آدم فافهمه
ومن الفوائد لفظ الولد دلالته على أن الجنين والسقط المستهل يرث لأنه ولد قد تولد وقلما يقال في مثله ابن فلان حتى يكبر فينسب إلى الأب لأن لفظ البنوة كما قدمنا موضوع للنسب بخلاف لفظ الولد ألا ترى أنهم يقولون في الأنساب ابن فلان بن فلان بن فلان
فصل في استنباط حكم العبد والكافر من الآية
وقوله في أولادكم للذكر تضمن أن لا يرث الولد العبد الأب الحر
لقوله في أولادكم بإضافة التعريف ولم يقل يوصيكم الله فيما ولدتم وعرف الأولاد بالإضافة إلى والديهم والعبد لا يعرف بالإضافة إلى والده إنما يقال فيه عبد فلان ومملوك فلان فيعرف بالإضافة إلى سيده ويقال في ولد الحر ولد فلان وابن فلان فدل ذلك على انقطاع الميراث بينهما
وتضمن هذا الفقه أيضا قوله للذكر بلام التمليك لأن لام الإضافة ههنا إنما هي لإضافة الملك والعبد لا يملك ملكا مطلقا لأن السيد له أن ينتزع ماله منه وأكثر العلماء يقولون لا يملك بحال من الأحوال فعلى كلا الوجهين لا يصح أن يدخل العبد في عموم هذا اللفظ أعني قوله للذكر ولا في قوله ولأبويه لكل واحد منهما السدس
وإذا منع الرق من الميراث فأحرى أن يمنع الكفر لأن الرق أثر الكفر والسباء الذي أوجبه الكفر فخرج من هذا أن لا يرث الكافر المسلم
فصل في استنباط حكم الذكر مطلقا(20/427)
وقوله للذكر بالألف واللام التي للجنس مع اللفظ المشتق من الذكورة
يدل على العموم وعلى تعليق الحكم بالصفحة التي من الذكورة فلو قال للذكر منهم مثل حظ الأنثيين لكان هذا الحكم مقصورا على الأولاد دون غيرهم فلما لم يقله دخل فيه الإخوة فكان للذكر منهم حظ الأنثيين إذا ورثوا وكذلك الأبوان للأم الثلث وللأب الثلثان إذا ورثا لعموم قوله للذكر مثل حظ الأنثيين
فإن قيل قد تقدم ذكر الأولاد فمن هناك استغنى عن أن يقول منهم
قلنا لو قال منهم لكان لفظا يخصص العموم تخصيصا أقوى من تخصيص ذلك المعنى لأن دليل اللفظ أقوى من دليل المعنى لأنه ليس من لفظ إلا وهو متضمن لمعنى فصار أقوى من معنى دون لفظ كما في صناعة النحو العامل اللفظي أقوى من المعنوي فافهم هذا في صناعة الأصول
واعلم أن خصوص أول الكلام لا يمنع من عموم آخره إذا كانت صيغته صيغة العموم مثل ما في هذا الموضع وهو قوله للذكر مثل حظ الأنثيين
فصل في نصيب البنتين
وقوله مثل حظ الأنثيين بلام التعريف التي للجنس دل على أن الأنثيين
قد استحقتا الثلثين إذ الأنثى الواحدة لها مع الذكر الثلث فإذا لم يكن ثم ذكر وكانت اثنتان فلهما الثلثان بهذا اللفظ القرآني فإذا ثبت هذا فمن ثم قال فإن كن نساء فوق اثنتين مبينا لحكم الثلاث وما هو أكثر منهن مستغنيا عن بيان حكم الاثنتين لأنه قد بينه بدلالة اللفظ كما تقدم
وظن كثير من الناس أن توريث الثلثين للبنتين إنما هو بالقياس على الأختين وقال بعضهم إنما عرف ذلك بالنسبة الواردة وقال بعضهم إنما عرف من الفحوى لا من اللفظ لأن الواحدة إذا كان لها الثلث مع الذكر فأحرى أن يكون لها الثلث مع عدم الذكر
والذي عندي أن اللفظ مغن عن هذا وكاف شاف لما قدمناه والحمد لله
فصل في مرجع الضمير في كن
وقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين(20/428)
قد يقال لم كنى بضمير الجمع المؤنث ولم يتقدم ما يعود عليه في اللفظ
قلنا لو تقدم ذكر جمع مؤنث في اللفظ لاستغنى أن يقول نساء ولقال فإن كن فوق اثنتين كما قال في الأخوات فإن كانتا اثنتين لأنه قد تقدم ذكر أخت ولم يتقدم هنا إلا ذكر الأولاد فقال الطبري حاكيا عن الكوفيين بعود الضمير على المتروكات كأنه قال المتروكات واختار هذا القول وضعف قول من قال يعود على الولد لأن الولد يجمع المذكر والمؤنث والمذكر يغلب على المؤنث في الجمع
والذي اختاره عندي غير صحيح لأنه فيه عود الضمير على ما ليس في اللفظ وترك اللفظ الظاهر وإنما كان يلزم تغليب المؤنث على المذكر لو عاد الضمير على جملة الأولاد وإنما يعود على البعض وذلك البعض هم النساء والاسم المضمر هو الظاهر والمتكلم لا يريد سوى ذلك الاسم وعنه يخبر وحكمه يريد أن يبين فلذلك قال كن كما قال وإن كانت واحدة فجاء بضمير الواحدة التي يريد
أن يبين حكمها وهي ولد كما أن النساء ولد وهذا بين
وقد حكى سيبويه من كانت أمك بالنصب فأنث الاسم الأول لأنه هو الأخير في المعنى وأعجب من هذا قولهم إنه قام زيد وإذا أخبروا عن المؤنث قالوا إنها قامت هند فأنثوا ليشاكل أول الكلام آخره وإن لم يكن الاسم الأول هو اثاني
فإن قلت إنما هو ضمير القصة
قلنا وإن كان ضمير القصة فقد اختاروه على ضمير الأمر في هذا الموضع للمشاكلة قال الله سبحانه فإنها لا تعمى الأبصار ولم يقل إنه وقال إنها إن تك مثقال حبة من خردل ونحو من الأول قولهم بحسبك زيد فأدخلوا الباء على حسب وهم يريدون زيدا لأنه هو ويعضد هذا قول الشاعر
أليس عجيبا بأن الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه
(20/429)
فأدخل الباء على اسم ليس وإنما موضعها الخبر لأنه هو وقول الراجز عن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتكل ... وكان حقه أن يقول من يتكل عليه فأدخل الحرف على الأول لأنه هو الثاني وكذلك جاء بضمير جماعة المؤنث عائدا على الأولاد لأنه لم يرد منهم إلا النساء والذي أضمر هو الذي أظهر ولا معنى لإنكار من أنكر
فصل في متعلق الجار في قوله تعالى من بعد وصية
وقوله فلهن ثلثا ما ترك يعني ما ترك المالك ولم يتقدم له ذكر ولكن لما كان الكلام في معرض البيان لقسم المواريث علم أن الضمير عائد إلى الموروث
وقوله ترك أي خلف وليس الترك ههنا بفعل وقد يكون الترك فعلا يثاب
عليه صاحبه أو يعاقب كترك الطاعة أو ترك المعصية لأنه لا جزاء إلا على فعل وأما ههنا فالترك عبارة عما خلف الميت أي يبقى بعد ارتحاله فعبر بالترك مجازا من مجاز التشبيه لشبه حاله بحال المسافر فإنه يترك ما يترك لأهله ويسير
وإذا ثبت هذا فلا يجوز أن يتعلق حرف الحر من قوله في آخر الآية من بعد وصية ب ترك وإن كان يليه في الفظ ظاهرا ولذا تعلقه بالاستقرار المضمر في قوله فلهن ثلثا أي استقر لهن الثلثان من بعد وصية أي من بعد إخراج وصية
ويمتنع أيضا تعلق حرف الجر بترك لوجه آخر نذكره في آخر المسألة إن شاء الله
فإن قيل ما فائدة هذا النحو في هذا الموضع وما فقهه تعلق بالترك أو لم يتعلق(20/430)
قلنا فقه ذلك أن الكفن وجهازالميت ليس للورثة فيه حق لأن حقهم لم يجب لهم إلا بعد موته وبعد إخراج الوصية والدين ولم جعلنا حرف الجر متعلقا ب ترك لكان المعنى مجملا غير مبين ولكان ما ترك بعد ما أوصى يدخل فيه الكفن وغيره لأن الوصية إنما هي قبل الموت ولو وجب لهم ذلك بأثر الوصية ومن بعد تركه لما ترك أن يوصى فيه كان الكفن لهم ولو كان لهم لم يجبروا على تكفينه ولكانوا بما كفنوا مأجورين على إحسانهم بها وليس الأمر على ذلك بإجماع ويدل على ذلك أيضا قوله يوصي ولم يقل يوصيها وذلك لأن الوصية
قول يقوله والوصية أيضا الشيء الذي وصى به وأن المعنى من بعد إخراج ما يوصي به لا من بعد تركه للإيصاء والوصية إذا تكون بمعنى المصدر وهو الإيصاء وتكون المال الموصى فيه تقول قبضت وصية وحمدت وصية أي حمد إيصاؤه وفعله والدين كذلك يكون مصدرا من دنت أدين وذلك قوله تداينتم بدين ويكون المال المأخوذ بالدين تقول قد قضى دينه واللهم اقض عنا الدين وهو هنا الاسم لا المصدر كما أن الوصية كذلك
فصل ثان في معلق من
ومما يمنع أن يتعلق الجار في قوله من بعد وصية بالترك ويوجب أن يتعلق بالفعل المضمر في قوله لهن أي وجب لهن
واستقر لهن أن حرف من إذا دخل على الظرف دل على ابتداء غاية ولم يدل على انتهاء تقول نحن في هذا البلد من يوم كذا ومن عام كذا فالمقام إذا في البلد مستمر فإذا جئت بفعل منقض غير مستمر قلت كلمته عام كذا وقبل كذا وبعد كذا بغير من فيكون الظرف محيطا بالفعل من طرفيه فإن جئت ب من لم تزل إلا على الطرف الواحد وهو الابتداء والترك ليس بفعل مستمر ولا هو أيضا فعل فيؤرخ ببعد أو قبل فثبت أن الحرف متعلق بما قلنا(20/431)
ومن شواهد ما قلنا في من وتعلقها قوله سبحانه خبرا عن أهل الجنة إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين لما ذكر الفعل المنقضي وهو الإشفاق فلما ذكر الدعاء قال إنا كنا من قبل ندعوه بزيادة من لأن دعاءهم مستمر يقول سبحانه دعواهم فيها سبحانك اللهم وقال ولهم فيها ما يدعون فدعواهم وافتقارهم إلى الله مستمر في الآخرة وبدؤه من قبل
ثم إن الترك لا يتصور إلا بعد خروج التارك عن داره ووطنه وما دام بين أهله لا يقال ترك لهم كذا فكذا الميت إذا خرج بأكفانه وما يحتاج إليه من جهازه وذلك كله من ماله وحرمته حيا كحرمته ميتا فيما يجب من ستر عورته ونحو ذلك فعند ذلك يقول الناس ما ترك وتقول الملائكة ما قدم
فصل في فائدة الصفة في قوله وصية يوصي بها
وقوله يوصي بها في موضع الصفة للوصية والصفة تقيد الموصوف وفائدة
هذا التقييد أن يعلم أن للميت أن يوصي ولو قال من بعد وصية لتوهم أنها وصية غيره أو وصية الله المذكورة في أول الآية
وقال يوصي بها ولم يقل من بعد وصيته ولا من بعد الوصية التي يوصي بها ليدل على أن الوصية ندب وليست بفرض قد وجب عليه لأنك تقول في الأعمال الواجبة التي قد عرف وجوبها يكون كذا من بعد صلاتنا أو من بعد الصلاة وفيما لم يعرف وجوبه افعل كذا أو كذا من بعد صلاة نصليها أو صوم تصومه أو صدقة تخرجها فيدل لفظ التنكير على عدم الوجوب ويدل لفظ التعريف على الفرض المعروف لاسيما وقد تقدم أن الوصية كانت مفروضة بقوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الآية
فصل في سر تقديم الوصية على الدين
وقوله من بعد وصية يوصي بها أو دين وإخراج الدين لا شك قبل إخراج
الوصية وبعد الكفن لأن الغرماء في حياته لم يكن لهم سبيل على كفنه وما يجهز به وبدئ به في العمل قبل الوصية لأن أداءه فرض والفرض مقدم على الندب
فإن قيل لم بدأ الله بالوصية قبل ذكر الدين(20/432)
قلنا في حكم البلاغة أن يقدم ما يجب الاعتناء بشرحه وبيانه وأداء الدين معلوم وأمره بين لأنه حق للغرماء ومنعهم منه ظلم ظاهر فبدأ بما يحتاج إلى بيانه وقد قال سيبويه إنه يقدم في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعني وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم
ووجه آخر وهو أن الوصية طاعة وخير وبر يفعله الميت والدين إنما هو لمنفعة نفسه وهو مذموم في غالب أحواله وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفر والدين فبدأ بالأفضل وما يقدم في ترتيب الكلام فقد يكون لقبلية الفضل نحو قوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحو قوله 6 من النبيين والصديقيين وقد يكون لقبلية الزمان نحو قوله نوحا وإبراهيم وقد يكون لقبلية الترتيب نحو تقديم اليهود على النصارى
في الذكر لأنهم كانوا مجاورين للمسلمين في الدار وقد يكون تقديمهم في اللفظ لقبلية الزمان لأن التوراة قبل الإنجيل وموسى قبل عيسى وقد يكون تقديم الصلاة قبل الزكاة من قبلية الرتبة لأنها حق البدن والزكاة حق المال والبدن في الرتبة قبل المال
ومن وجوه القبليات أيضا السبب والمسبب كالمرض والموت في حكم البلاغة كما روي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ والله حكيم عزيز والأعرابي لا يحفظ القرآن فقال الأعرابي ما أراها أنزلت كما تقول فقال القارئ والله عزيز حكيم فقال الأعرابي نعم عز فلما عز حكم
فاجعل هذه القبليات أصلا في معرفة الحكمة والإعجاز في كتاب الله فإنه لا تقدم فيه صفة على أخرى ولا شيء على شيء إلا بقبلية من هذه القبليات فترتب الألفاظ في اللسان على حسب ترتيب المعاني في الجنان فتدبره والله المستعان(20/433)
فصل في نصيب الذكر إذا انفرد
وقوله وإن كانت واحدة فلها النصف فيه نص ودليل أما النص فثبوت النصف للبنت الواحدة مع عدم الأخ وأما الدليل فلأن الذكر إذا انفرد ورث المال كله لأنه قال للذكر مثل حظ الأنثيين وللأنثى
النصف إذا كانت وحدها فللذكر النصفان وهو الكل إذا كان وحده
فصل في حكمة نصيب الأبوين مع الولد
وقوله ولأبويه ذكرهما بلفظ الأبوة دون لفظ الولادة كما قال وبالوالدين إحسانا لأن هذه الآية معرضها ومقصودها غير ذلك ولفظ الوالدين أوفى وأجلب للرحمة وأشكل بالوضع الذي يراد به الرفق بهما لأن لفظ الولادة يشعر بحال المولود وبرحمتهما له إذا ذاك ألا تراه يقول في آية الوالدين وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ولفظ الأبوين أوقر وإن كان الآخر أرق ألا تراهم لا يقولون في الكنية إلا يا أبا فلان ولا يقولون يا والد فلان فكان لفظ الأبوين ها هنا أشكل بهذا المقام الذي هو إعلام بحظ هذين اللذين ينسب إليهما الميت والأبوة في مقابلة البنوة والوالد في مقابلة الولد مع أن لفظ الأبوة هنا فقها وهو سريان الميراث من الأب إلى أبيه إذا عدم الأب لأن لفظ الأبوة يتناوله وقد قرنت معه ههنا الأم
بلفظ الأبوة ولا يقال لها أب ولا أبة إذا انفردت ولا يقال لها إلا والدة فلو ذكر بلفظ الولادة لسرى أيضا حق الميراث منها إلى والدها إذا عدمت هي كما سرى ذلك في الأب إلى الجد إذا عدم الأب وهذا دقيق فافهمه
وقد تقدم اللفظ بين حالتي اللفظين وما يشاكله من مقامات الكلام كل واحد من الاسمين وتنزيل الألفاظ في مواطنها وهو معنى البلاغة وهي الفصاحة ومن هنا يعلم الإعجاز في كلام الله العزيز والحمد لله(20/434)
وقوله لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد سوى الله بين الأبوين في هذه المسألة إذا كان للميت ولد ولم يفضلهما على الولد لأنه يقال للأب كما كنت تحب لابنك من الغنى والخير أكثر مما تحب لأبيك فكذلك حال ابنك مع ولده كحالك مع ولدك لأن الوالد أحب الناس غنى لابنه وأعزهم فقرا عليه كم قال الصديق لابنته عائشة رضي الله عنهما عند موته وكان أبوه حيا فقال لها ما من أحد أحب إلي غنى منك ولا أعز فقرا علي بعدي منك ولم يستثن أباه ولا غيره
ثم إن الولد يؤملون من النكاح والحياة وغيره بحداثة سنهم ما لا يؤمله الأبوان ثم قال الأب إن فريضتك لا تنقص بكثرة الورثة وان كان الولد عشرين وفريضة ولد ابنك الهالك قد تنقص بكثرة الأولاد حتى تكون أقل من العشر فيرضى الأبوان بقسم الله تعالى لهما ويريان العدل من الله بينا فيما قسم فإنه لم يحجب بالبنين فيعطي الأب نصفا ولا ثلثا ولا حجب بالأب فأعطاه عشرا ولا تسعا بل جعل له أوسط الفرائض وهو السدس ولا يزاد بقلة الولد ولا بنقص بكثرتهم والحمد لله
فصل في حكمة التسوية بين الأبوين مع وجود الولد
وسوى الله بين الأب والأم في هذا الموضع لأن الأب وإن كان يستوجب التفضيل بما كان ينفقه على الابن وبنصرته له وانتهاضه بالذب عنه صغيرا فالأم أيضا حملته كرها ووضعته كرها وكان بطنها له وعاء وثديها له سقاء وحجرها له قباء فتكافأت الحجتان من الأبوين فسوى الله بينهما فأعطاهما سدسا وذلك الثلث أبقى للبنتين الثلثين لما تقدم من الحكمة الموجبة لتفضيل الولد في الميراث على الأبوين
فصل في بيان حالات الأم مع الأب(20/435)
وللأم ثلاث حالات حالة تسوى فيها مع الأب وهي هذه وحالة يفضل الأب عليها فيكون له مثلا حظها وذلك مع عدم الولد لأنه حينئذ صاحب فرض وعاصب والمرأة لا تكون عاصبة فيزيد عليها حينئذ بالتعصيب فيكون لها الثلث وله الثلثان والحالة الثالثة تفضل فيها الأم على الأب وذلك ما دام حيا فإنه يؤمر بالبر بها والصلة لها بأكثر مما يلزمه الأب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة القشيري وقد قال له من أبر يا رسول الله قال أمك قال ثم من قال أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك ففضل الأم على الأب في البر
وقيل لشهاب بن خراش ما جعلت لأبيك من دعائك قال الثلثين ولأمي الثلث قيل له أليس كما يقال للأم ثلثا البر قال بلى ولكن أبي كان صابح شرطة لأنه كان على شرطة ابن هبيرة
وإنما استوجبت هذا ما دام الولد حيا من وجوه أحدها أنها أضعف والأضعف أحق بأن يرحم والثاني أنها أرق قلبا وأشد رحمة للابن والثالث أنها تحمل من مؤنة الحمل والنفاس والتربية ما لا يحمله الأب والرابع أن الأم تمت بسببين والأب بسبب واحد وهو الأبوة
وشرح هذا أن آدم يمت علينا بالأبوة وحواء تمت علينا بالأمومة والأخوة لأنها خلقت من ضلع آدم فخرجت منه فصارت أم البشر وأختا لهم
والخامس أن الرحم التي هي شجنة من الرحمن اشتق لها من اسمه وقال من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته هي في الأم حيث يتصور الولد قال الله سبحانه هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ثم قال واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام
فقرابة الأب تسمى رحما مجازا لأن الأب سبب وجود الابن في الرحم والشيء سمي بالشيء إذا كان سببا له
(20/436)
والرحم التي عاذت بالرحمن حين فرغ من الخلق وقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة كانت لها حينئذ حجنه كحجنة المغزل كما جاء في الحديث وكأنها إشارة إلى الحنو والعطف وذلك في معنى الرحمة ثم في تخصيص الله إياها بأن وضعها في الأم بعد أن اشتق لها اسما من الرحمة سر لطيف وحكمة بالغة وذلك أن الولد قبل أن يقع في الرحم نطفة جماد ولا يتصور رحمة للجمادات ونعني بالجماد ما لا روح له وإنما تقع الرحمة على من فيه الروح وأما النطفة والدم فلو وقع في الأرض وطئ بالرجل ما وجد في قلب أحد رحمة له فإذا صور ونفخ فيه الروح توجهت إليه الرحمة من الأبوين وغيرهما وذلك لا يكون إلا في بطن الأم فوضعت الرحم المشتقة من اسم الرحمن في الأم لهذه الحكمة دون الأب وقيل للقرابة من هذا الوجه ذوو رحم ولم يقل ذلك لقرابة الأب إلا مجازا كما تقدم وإن سمي الأعمام وبنو الأعمام ذوي رحم فجائز على المجاز وتسمية الشيء بما يؤل إليه ويكون سببا له والله المستعان
فصل في ميراث الأم الثلث
قوله فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث لم يجعل الله
لها الثلث إلا بشرطين أحدهما عدم الولد والآخر إحاطة الأبوين بالميراث ولذلك دخلت الواو ليعطف الشرط الثاني على الأول ولو لم تدخل الواو لأحاط الأبوان بالميراث عند عدم الولد ولم يرث معهما أحد هذا مقتضى قوله وورثه أبواه وافهم هذه النكتة من ألفاظ القرآن فإنك ستجد فائدة ما إذا ذكرنا ميراث الكلالة إن شاء الله(20/437)
وذلك أن لفظ ورث إذا وقع مطلقا اقتضى حوز الميراث عموما مثل أن تقول ورثت زيدا إذا ورثت ماله كله فإن كان معك وارث آخر لم يحسن أن تقول ورثته إنما تقول ورثت منه كذا تعني نصفا أو ثلثا لأن معنى ورثته ورثت ماله ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ولما قام مقامه في الإعراب قام مقامه في العموم من قولك ورثت ماله لسر من العربية لطيف ليس هذا موضع ذكره قال الله سبحانه ونرثه
ما يقول وقال يرثني ويرث من آل يعقوب ألا تراه قال من آل يعقوب بزيادة حرف التبعيض وقال يرثني بغير حرف لإحاطة الولد بميراث الأب وقال وورث سليمان داود وقال وهو يرثها عن لم يكن له ولد أي يحيط بميراثها
وإذا ثبت هذا فمعنى الكلام إذا إن لم يكن له ولد وأحاط الأبوان بميراثه فلأمه الثلث وسكت عن حظ الأب استغناء عن ذكره لأنه لا يبقى بعد الثلث إلا الثلثان ولا وارث إلا الأبوان وهذا بالغ في البيان
وتذكر ههنا الفريضتان الغراوان وهما امرأة تركت زوجها
وأبويها ورجل ترك امرأته وأبويه فللأم ههنا الثلث ما بقي وذلك السدس من رأس المال مع الزوج والربع من رأس المال مع الزوجة
وقد أبى من ذلك ابن عباس وقال لا أجعل لها إلا الثلث من رأس المال والزوج النصف ويبقى السدس للأب فأبى عليه زيد ابن ثابت وقال ليقسم هو كما رأى وأقسم أنا كما رأيت وهي إحدى المسائل الخمسة التي خالف فيها ابن عباس الصحابة
والعجب أن الله جعل لها الثلث كما جعل للزوج النصف وزيد ابن ثابت يقول بالعول خلافا لابن عباس ولم يجعلها عائلة ولا حط الأب فيكون خلافا لقوله للذكر مثل حظ الأثنيين فلا هو نقص الزوج مما جعل لها ولا هو سوى الأم معه فيعطيها من رأس المال كما أعطاه
ولكن قوله منتزع من كتاب الله انتزاعا تعضده الأصول وذلك أن الأم تقول لم حططتموني عن الثلث الذي جعل الله لي
(20/438)
فيقال لها ما أخرجت عن الثلث لأن ميراثك مع أحد الزوجين الثلث مما يبقى فلم تخرجي عن الثلث
فتقول الأم هلا أعطيتموني الثلث من رأس المال فيكون للزوج نصف ما بقي أو هلا جعلتموها عائلة فيدخل النقص عليه وعلى الأب كما دخل علي
فيقال لها إنما قال الله سبحانه فلأمه الثلث ولم يقل مما ترك
كما قال في الزوجين وفي الأخت والأختين وفي الأبوين مع وجود الولد ولفظ ما صيغة من صيغ العموم فأعطى الزوج فرضه من كل ما ترك الميت ولم تكوني أنت كذلك إلا مع عدم الزوجين وعند إحاطة الأبوين بالميراث
فتقول الأم أليس قوله سبحانه فلأمه الثلث معناه مما ترك الولد
فيقال لها صيغة العموم لا تؤخذ من المعنى وإنما تؤخذ من اللفظ وقد تقدم أن الدليل اللفظي أقوى من المعنوي لأنه معقول ومسموع فله مزية على المعقول غير المسموع وهذا أصل متفق عليه عند حذاق الأصوليين
وقد وفق الله زيد بن ثابت وفهمه عن الله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال وأفرضهم زيد بن ثابت
فتأمل هذا الأصل فقل من يفطن له وإنما المسألة عند الناس تقليدية لا برهانية وقد أوضحناها برهانيا والحمد لله
فهذا ما في المسألة من لفظ القرآن وأما ما فيها من الحكمة وبيان السر فإن الأب بعل الأم وقد قال عليه السلام لو أمرت أحدا بالسجود لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها وهو قوام عليها قال الله عز وجل الرجال قوامون على النساء وقال وللرجال عليهن درجة فكيف
يكون فوقها عقلا وشرعا ثم يكون تحتها في الميراث ولم يكن أيضا ليعال لها معه فيدخل عليه النقص في حظه وهو قيمها والمنفق عليها وإليها يؤول نفع حظه من الميراث
فإن قيل قد عيل لها معه في مسألة الولد إذا اجتمع أبوان وبنتان وزوج
(20/439)
قلت إن الله تعالى قال هناك لكل واحد منهما السدس مما ترك ولم يقل هنا مما ترك وقد بينا هناك الحكمة التي أوجبت المساواة لها مع الأب
فإن قيل فقد قال فإن كان له إخوة فلأمه السدس ولم يقل مما ترك وهي يعال لها مع الأختين والزوج
قلنا قد قال مما ترك في سدسه مع الابن والأب والابن أحق بالميراث من الأخ فكيف يكون لها السدس من كل ما ترك مع الابن الذي هو أحق ولا يكون ذلك لها مع الأخ فلذلك استغنى الكلام عن أن يقول فيه مما ترك أعني عند ذكر الأخوة اكتفاء بما
قاله عند ذكر الولد
فإن قيل فإن الأخوة للأم لهم الثلث ولم يقل في مسألتهم مما ترك
قالجواب أن قوله يورث كلالة يقتضي العموم في جميع المال لما قدمنا في معنى ورث وإذا كان كذلك لم يحتج إلى إعاده لفظ آخر للعموم فإن الأخ للأم من جملة الكلالة وقد قال يورث كلالة أي يحاط بجميع ماله فلإخوته لأمه الثلث ولا يحتاج إلى أن يقال مما ترك لتقدم العموم في قوله يورث وقد بينا شرح هذا فيما تقدم عند قوله وورث أبواه فافهمه وبالله التوفيق
فصل في دلالة الإخوة في الآية
قوله فإن كان له أخوة فلأمه السدس فلا تنقص الأم من السدس إلا أن تعول الفريضة ولا يقول ابن عباس بالعول وهي من مسائله الخمس ويقول إن الأخوة ههنا الثلاثة فما فوقهم وليس(20/440)
يقع لفظ الأخوة على الأخوين يقينا وهذه أيضا من مسائه الخمس وحجته بينة في بادئ الرأي وذلك أن الله سبحانه جعل الثلث للأم مع عدم الولد فهذا نص ويقينو اليقين لا يرفعه علا يقين مثله فعن كان له أخ واحد فهي على ثلثها يقينا لأن الأخ ليس بإخوة فإن كان له أخوان فيحتمل دخولهما في معنى العخوة ويحتمل أن لا يدخلا وأما لفظ العخوة فواقع على الجميع يقينا ولم يتصور شك في نقلها إلى السدس بالثلاثة فما فوقهم وتصور الشك في لفظ الأخوين أهما إخوة أم لا والشك لا يرفع اليقين المتقدم في شيء من أبواب الفقه فهي إذا على ثلثها حتى يكون له إخوة ثلاثة أو أكثر
وحجة الآخرين أن اليقين لا يرفعه شك كما ذكر وأن العموم لا يخصصه محتمل وأما الظاهر فيتخصص به العموم وتبنى عليه الأحكام يقينا كما تبنى على النصوص والمحتمل ليس كذلك ولفظ الأخوة ظاهر في الاثنين نص في الثلاثة مخصص به عموم قوله تعالى فلأمه الثلث لأنه لفظ عام في كل أم لا ولد لها وان كان ظاهر القول الخصوص من أجل قوله تعالى فلأمه ولكنه ضمير عائد على عام تقدم ذكره
فإن قيل كيف جعلتم لفظ الأخوة ظاهرا في الاثنين وللاثنين صيغة كما للجمع صيغة
قلنا ومعنى الجمع يشملهما لأن الاثنين جمع شيء إلى
مثله كما أن الجمع جمع شيء إلى أكثر منه فمن ههنا نشأ الخلاف وهو هل الأخوة لفظ ظاهر في الاثنين أم محتمل
والألفاظ أربعة نص يقطع على معناه وظاهر يحتمل أمرين وهو في أحدهما ظاهر وتتعلق به الأحكام ومحتمل لمعنيين ليس بأحدهما بأولى منه بالآخر وهذا لا يتعلق به حكم لأنه كالمجمل والمجمل ما افتقر إلى البيان وهو أشد استغلاقا من المحتمل والله المستعان إنصاف وتحقيق
(20/441)
ظاهر لفظ الأخوة الاختصاص بالجمع دون التثنية ولا يحمل معنى التثنية على الجمع إلا بدليل وهو الظاهر هو ظاهر بعرف اللغة والظاهر بعرف اللغة تتعلق به الأحكام
فللمفرد ظاهر أقوى منه وهو صيغة العموم فإذا قلت عندي دابة فلفظ اللغة تقتضي أنها من المركوب فإذا قلت ما فيها دابة اقتضت صيغة العموم نفي كل ما يدب من مركوب وغيره وفي التنزيل ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وكأين من دابة فهذا عموم في كل ما يدب وقال في الواجب غير المتعين ومن الناس والدواب لعدم صيغة العموم
وكذلك مسألة الأخوة فهي ظاهرة في الأخوة كما قال ابن عباس فلما ورد الشرط وهو من صيغ العموم اندرج تحتها كل اخوة والاثنان اخوة وإن لم يكن ظاهر لفظ الأخوة يتناولهما كما لم يكن لفظ الواحد يتناول كل ما يدب حتى ا درجه العموم تحت اللفظ الظاهر كذلك أدرج العموم في الآية تحت لفظ الإخوة ما قد يمكن أن يعبر عنه بإخوة وهما الاثنان فصار قوله تعالى إن كان له أخوة ظاهرا في التثنية والجمع وإن
كان صيغة عموم الإخوة في العرف للجمع ظاهرا فالعموم ظاهر أيضا في تناول الكل فتأمله فعنه بديع
وقوله من بعد وصية يوصى بها أو دين قد تقدم فهمه وبيانه وبأي شيء يتعلق الظرف والحمد لله
فصل في سر اختيار لفظ الابن وجمعه جمعا مكسرا
وقوله آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله فيه إشارة إلى ما تقدم من قولهم لا نورث إلا من
يركب الفرس ويضرب بالسيف فنبههم الله سبحانه على أنه أعلم منهم بالمصلحة وبوجه الحكمة وبالمنفعة الباطنة والظاهرة
وقال وأبناؤكم ولم يقل وأولادكم كما قال في أول الآية لأنه لم يرد المعنى الذي يختص بالميراث ويوجبه وهي الولادة وإنما أراد معنى هو أعم من المعنى المتقدم فلذلك جاء بلفظ الأبناء الذي هو أعم من لفظ الأولاد(20/442)
وقال وأبناؤكم ولم يقل بنوكم وقال بنو إسرائيل وبني آدم لأن لفظ الجمع المكسر وهو الأبناء أولى في الفصاحة إذا أضيف إلى جمع كما قلنا في أولادكم ولفظ الجمع المسلم لقربه من لفظ الواحد ومن معناه في القلة أولى إذا أضفت البنين إلى واحد هذا حكم البلاغة فتأمله في القرآن حيث وقع تجده كذلك ونحو منه ما ذكرناه في أولادكم وسيد ولد آدم
وقال فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما أي بعلمه وحكمته فرض هذا أو وصى به ولم يكلكم إلى علمكم ورأيكم لما علم في ذلك من الضرر لكم
فصل في حجب الأب للإخوة
ذكر عبد بن حميد الكشي عن بعض التابعين أن الأب حجب الأخوة وأخذ سهامهم لأنه يتولى نكاحهم والإنفاق عليهم دون الأم وذكره الطبري أيضا وقال محتمل أن تكون الحكمة فيه هذا أو يحتمل أن يكون هذا تعبدا من الله تعالى استأثر بعلم السر فيه والمصلحة دون العبادة فصل
سر تكرار من بعد وصية عقب ميراث الزوج والزوجة
وقوله ولكم نصف ما ترك أزواجكم الآية كلام بين لا إشكال فيه غير أنه قال بعد الفراغ من ميراث الزوج من بعد وصية وقال مثل ذلك بعد الفراغ من ميراث الزوجة مرة أخرى ولم يقل مثل هذا فيما تقدم إلا مرة واحدة وقد ذكر ميراث الأولاد وميراث الأبوين وميراث الأم مع الأخوة
والحكمة في ذلك أن ذكره لما تقدم يدور على موروث واحد وإن تغايرت الورثة لأن الضمائر كلها تعود على واحد من قوله ولأبويه ولأمه
و له إخوة ويوصي بها فالموروث في هذا كله واحد فلما فرغ من قصته قال من بعد وصية يوصي بها أو دين فالموروث في قصة الأزواج غير الموروث في قصة الزوجات وكذلك موروث الكلالة بعد هذا فتأمله والله المستعان فصل في حكمة التعبير بضمير الجمع في ولهن(20/443)
وقوله في الزوجات ولهن الربع ولهن الثمن أيضا يقتضي أن الثمن مشترك بين الزوجات وعن كن أربعا كما اقتضى اشتراك إخوة الكلالة في الثلث في قوله فهم شركاء في الثلث لأنه لفظ جمع ولو ذكر الزوجة على انفرادها لكان الثمن لها ثم يكون للضرة الأخرى ثمن آخر هكذا إلى الأربع ولكنه جاء بلفظ الجمع فلأربع زوجات الثمن بينهن
مسألة
يقال لها ذات الفروج
وهي امرأة وثت ميتا له سبعة عشر دينارا فجاءت لتأخذ فرضها فإذا ستة عشر امرأة سواها قد أخذن دينارا دينارا فلم يبق لها إلا واحد
شرح ذلك أن الميت له ثمان أخوات شقائق لهن الثلثان وأربع أخوات لأم لهن الثلث وله جدتان لهما السدس بينهما وله ثلاث زوجات لهن الربع أصل الفريضة من اثني عشر عالت إلى سبعة عشر أخذن دينارا دينارا والحمد لله فصل في معنى الكلالة
وقوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة الآية لفظ الكلالة من الإكليل المحيط بالرأس لأن الكلالة وراثة من لا أب له ولا ولد فتكللت العصبة أي أحاطت بالميت من كلا الطرفين وأصل هذه الكلمة مصدر مثل القرابة والصحابة ألا ترى أنها لما كانت في معنى القرابة جاءت على وزنها ثم سمى الورثة
الذين هم أقرباء الميت دون الولد والأب كلالة بالمصدر كما تقول هم قرابة أي ذوو قرابة وهم صحابة أي ذوو صحابة وأما صحبة بغير ألف فجمع صاحب مثل الكتبة جمع كاتب فإذا عنيت المصدر قلت ورثوه عن كلالة كما تقول فعلت ذلك عن كراهة قال الشاعر ورثتم قناة المجد لا عن كلال ... عن ابن مناف عبد شمس وهاشم
وإذا جعلت الكلالة عبارة عن الورثة فهو مجاز مستحسن في القياس والاستعمال قال الشاعر والمرء بجمع في الحيا ... ةوفي الكلالة ما يسيم
أي الورثة الذين هم ذوو كلالة ما يسيم من المال أي يرعاه
وقد روي أن جابرا قال للنبي عليه السلام كيف أصنع في مالي وليس يرثني إلا كلالة(20/444)
فهذه حقيقة الكلالة ومجازها ولا يصح قول من قال الكلالة المال ولا قول من قال إنها الميت وإن كان قد قال القدماء من المفسرين الكلالة من لا والد له ولا ولد ولكن لا حجة في هذا لأن القوم أشاروا إلى المعنى دون تفسير اللفظ ففهم عنهم أن من مات ولا ولد له فهو الموروث بالكلالة لا سيما وهم إنما فسروا قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة فقالوا هو من لا والد له ولا ولد يعنون الرجل الذي يورث كلالة والله أعلم فعلى هذا يكون إعراب الكلمة إما مفعولا ثانيا إن عنيت به الورثة والمفعول الأول مضمر في يورث كما تقول هو يلبس ثوبا ويطعم طعاما وإما حالا إن عنيت به المصدر فيكون التقدير يورث وراثة كلالة فلما حذف ذكر الورثة وصارت مضمرة معرفة عند المخاطب بما تقدم من اللفظ المشتق منها صارت صفتها حالا منها كما تقول سار به رويدا فرويدا حال من السير قاله سيبويه وضعفاء من النحويين يعربون مثل هذا نعتا لمصدر
محذوف والذي قدمناه هو الصواب وحسبك أنه مذهب صاحب الكتاب ووجه الحجة يطول
فصل في المراد بالإخوة وتساويهم رجالا ونساء
وإذا ثبت هذا فالأخوة في هذه الآية هم الأخوة لأم بلا خلاف وقد روي أن بعض الصحابة كان يقرؤها وهو أبي وله أخ أو أخت لأم إما أنه قالها على التفسير وإما أنها كانت قراءة فنسخت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبقي حكمها كما قيل في قراءة عائشة وحفصة رضي الله عنهما والصلاة الوسطى وصلاة العصر
وأما الكلالة المذكورة في آخر السورة وهي قوله إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فهي الشفيقة أو التي للأب إن عدمت الشقيقة بلا خلاف أيضا ففرض الله سبحانه للإخوة للأم الثلث وإن كثروا وللواحد منهم السدس
وقوله تعالى فهم شركاء في الثلث يدل على تساوي الذكر والأنثى(20/445)
في الحظ لأن لفظ الشركة إذا أطلق فإنما يتضمن التساوي حتى يقيد بنصيب مخصوص لو أن رجلا ابتاع سلعة فسأله رجل آخر أن يشركه فيها فقال له قد أشركتك فيها ثم قال بعد ذلك لم أرد نصفا وإنما أردت ثلثا أو ربعا لم ينفعه ذلك إلا أن يقيد لفظه في حين الشركة وإنما أخذ الفقهاء هذا من قوله تعالى فهم شركاء في الثلث أي للذكر مثل حظ الأنثى
ونكتة المسألة والله أعلم أن الأخوة للأم إنما ورثوا الميت بالرحم وحرمة الأم وأن الأم تحب لولدها ما تحب لنفسها ويشق عليها أن يحرموا من أخيهم وقد ارتكضوا معه في رحم واحدة فأعطوا الثلث ولم يزادوا عليه لأن الأم التي بها ورثوا لا تزاد عن الثلث وكأن هذه الفريضة من باب الصلة والبر والصدقة فمن ثم سوي الذكر مع الأنثى كما لو وصى بصدقة أو صلة لأهل بيت لشركوا فيها على السواء ذكورهم وإناثهم ألا ترى أن الثلث مشروع في الوصية التي يبتغي فيها ثواب الله العظيم قال النبي عليه السلام لسعد حين أراد أن يوصي بأكثر من الثلث الثلث والثلث كثير الحديث كأنه نظر عليه السلام إلى فرض الله
تعالى للأخوة بسبب الرحم وحرمة الأم وأنه لم يزدهم على الثلث وإن كثروا فكيف يزاد من هو أبعد منهم في حكم الوصية بل الثلث في حقهم كثير والقرآن والسنة نوران من مشكاة واحدة فينظر بعضه إلى بعض ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
فصل في ميراث الإخوة مع الكلالة
ومن العجائب أن الكلالة في هذه الآية لا يرث فيها الأخوة مع البنت وهو لم يقل فيها ليس له ولد كما قال في الآية الأخرى ألا ترى إلى قوله فيها إن امرؤ هلك ليس له ولد ثم ورثت فيها الأخوات مع البنت والبنت ولد وهذه التي لم يذكر فيها الولد لا يرث الأخوة مع ولد أصلا لا ذكرا ولا أنثى ويتعين الاعتناء بهذا السؤال والكشف عنه(20/446)
والجواب فيه من وجهين أحدهما أن الأخت الشقيقة والتي للأب ليس لها مع البنت فرض معلوم وإنما يرثن بالتعصب فيكون معنى قوله فلها نصف ما ترك فلأخته النصف فريضة إذا لم يكن ولد ذكر ولا أنثى فإن كانت بنتا فليس للأخت فريضة وإنما لها ما بقي والذي يبقى بعد البنت الواحدة نصف وبعد البنات ثلث وإن كان مع البنات من له فرض مسمى يحيط بالمال مع سهم البنات لم يكن للأخوة سهم فليس في توريث الأخوات مع البنت ما يعارض نص الآية على هذا
والجواب الثاني وهو التحقيق أن فرض الأخوة للأم إنما شرط فيه عدم البنت والابن جميعا لقوله وإن كان رجل يورث ولم يقل في الكلالة
الثانية يورث هذا اللفظ وقد قدمنا عند قوله وورثه أبواه أنه يقتضي الإحاطة بجميع المال ما لم يقيد بجزء مخصوص فتأمل الشواهد عليه هناك ثم تدبر قوله يورث كلالة تجد لفظا مغنيا عن أن يقول ليس له ولد كما قال في الكلالة الأخرى فمن هنا أجمعوا والله أعلم أنه لا ميراث لهم مع بنت ولا بنت ابن لأنه لا يقال من ترك بنتا يورث كلالة لأن الكلالة لم ترث إلا نصف المال ولا يقال ورثته إلا أن ترث المال كله في جيد الكلام وفصيحه ألا تراه يقول وهو يرثها إن لم يكن لها ولد أي يحيط بميراثها
فصل في ألفاظ ابني الكلالة
قوله أو امرأة وقال في الآية الأخرى إن امرؤ ولم يقل امرأة لأن لفظ المرء بتضمنها ويتضمن الكبير والصغير
كما قال أيريد المرء أن يؤتى مناه
وكما قال أوما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعدما هو ساطع وكما قال وما المرء ما دامت حشاشة نفسهأ
فالمرء في هذا كله لا يراد به ذكر دون أنثى ولا كبير دون صغير لأنه اسم للجنس ألا ترى أن قوله سبحانه ولحم الخنزير قد تضمن الذكر والأنثى والصغير والكبير لغة وشرعا فكذلك هذا
وأما آية الكلال فإنما احتيج إلى ذكر المرأة لأن لفظ الرجل لا يتضمنها(20/447)
فإن قيل إن لفظ الرجل لا يتضمن الصغير وقد كان لفظ المرء أعم من لفظ الرجل فما الحكمة وما الفرق بين هذه الآية والآية الأخرى التي ورد فيها لفظ المرء
قلنا وبالله التوفيق إن الرجل لا يقع علا على العاقل والمكلف ولم يقتصر في هذه الآية على بيان حكم الميراث فقط بل ذكر فيها حكم الوصية والدين والنهي عن المضارة بقوله غير مضار وهذه أحكام تختص بالكبير
فوردت الآية بلفظ الرجل ودخل الصغير في حكمه الذي هو الفريضة من جهة المعنى لا من جهة اللفظ وليس كل حكم يؤخذ من اللفظ بل أكثرها تؤخذ من جهة المعاني والاستنباط من النصوص بالعلة الجامعة بين الحكمين والله المستعان مسألة
من باب التنبيه على إعجاز الآية وأسرار بلاغتها والحكم المتضمنة فيها وهي إضافة النصف إلى ما بعده في قوله نصف ما ترك أزواجكم وفي قوله فلها نصف ما ترك ولم يقل في السهام كذلك وإنما قال الربع مما تركتم والسدس مما ترك والثمن مما تركتم بحرف الجر لا بالإضافة ونريد أن نختم الباب بشرح هذه المسألة ليكون الكتاب كله كأنه تفسير الآية وشرح لمضمنها وتنبيه على إعجازها والله المستعان
فصل في مصادر الفرائض من السنة
قد أتينا على ما تتضمنه الآية من أصول الفرائض وقال السلف من العلماء قد أبقى القرآن موضعا للسنة وأبقت السنة موضعا للاجتهاد والرأي ثم إن القرآن قد أحال على السنة بقوله وما آتاكم الرسول فخذوه الآية
وأحال الرسول عليه السلام بعد ما بين من أصول الفرائض ما بين على زيد بن ثابت بقوله في الحديث وأفرضهم زيد بن ثابت فصار قول زيد أصلا عول عليه الفقهاء واستقر العمل به ولذلك أضربنا عن كثير من أقوال الصحابة رضوان اله عليهم إذا لم يجر بها حكم عند فقهاء الأمصار(20/448)
فمما بينه الرسول عليه السلام من أصول الفرائض إلى ما في كتاب الله قوله ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر رواه ابن عباس
فوجب بهذا الحديث أن يحجب أهل الفرائض لمن سواهم من العصبة والأقارب وأن يحجب ا لأقرب من العصبة لمن دونه لقوله لأولى رجل وأن يحجب الشقيق من الإخوة للأخ من الأب وكذلك العم شقيق الأب لأخيه من الأب وكذلك ابن العم وابن الأخ على هذه الرتبة لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال إنكم لتقرءون من بعد وصية يوصي بها أو دين وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات الأخ للأب والأم يرث دون الأخ للأب
إلا أن هذا الحديث يرويه الحارث الأعور وهو الحارث بن يزيد يكنى أبا زهير وقد رماه الشعبي بالكذب والحديث ضعيف من أصله ولكن هذا متلقى من العمل والنقل المتواتر عن
زيد بن ثابت والصحابة لا من هذا الحديث لكن في الحديث قوة وزيادة بيان لما انعقد عليه إجماع العلماء الذين هم حجة على من سن عنهم وبالله التوقيف
ومن السنن الواردة في الفرائض أيضا حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وابنة ابن أن للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وهو صحيح
ومما جاء في الحديث أيضا من هذا الباب حديث طاوس عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث الخال
وقد اختلف في رفع هذا الحذيث وروى أيضا عن طريق المقدام بن معد يكرب ومعاد وغيره
ومن السنن حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث للجد السدس الآخر طعمة خرجه الترمذي وأبو داود
(20/449)
وقد قيل إن أول جد ورث في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه مات له ابن اسمه عاصم في خلافته وخلف ابنين ثم مات أحدهما بعده بيسير وهذا أيضا مما لا يصححه أهل العلم بالأثر ولا يعرفه أهل الأنساب والسير وعنما ا لمعروف عندهم أن عاصم بن عمر عاش بعد أبيه كثيرا ومات سنة سبعين فرثاه أخوه عبد الله بن عمر فقال فليت المنايا كن خلفن عاصما فعشنا جميعا أو ذهبن بنا معا
وعاصم هذا هو الذي خاصمت فيه جدته لعمر بن الخطاب واسمها الشموس بنت أبي عامر خاصمته فيه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقضى لها بالحضانة وذلك في خلافة أبي
بكر وعاصم يومئذ ابن أربع سنين وقيل ابن ثمان ولا يعرف له ابن اسمه عاصم غيره
وأما أول موروث في الإسلام فعدي بن نضلة بن عبد العزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي ورثه النعمان وهو القائل لعل أمير المؤمنين يوءه تنادمنا بالجوسق المتقادم فعزله عمر من أجل هذا البيت
وأما الجدة أم الأم فقد صح توريث رسول الله صلى الله عليه وسلم لها السدس فثبت لها ذلك بالنص وورث أبو بكر وعمر الجدة الأقوى وقالا أيكما خلت به فهو لها وإن اجتمعتما فهو بينكما فكان توريث الجدة أم الأب باجتهاد من الصديق رضي الله عنه مع موافقة الصحابة ولذلك يسقط حظ هذه الجدة إذا كانت أبعد من أم الأم فإن كانت أم الأم هي أبعد أو كانت أم الأب هي أقرب منها لم تحجبها لأن الجدة أم الأم ورثت بنص السنة الورادة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أصلا فلم تحجبها الأخرى بحال والله أعلم والبعدى هي أم أم الأب وأم أم الأم وأما أم أبي الأب فلا ترث في قول أكثرهم
وهذه رواية خارجة بن زيد عن أبيه وروى أهل العراق عن زيد خلاف هذا وسيأتي ذكره إن شاء الله
(20/450)
وروي أيضا أن أول جدة ورثها النبي عليه السلام جدة وابنها حي وقال به طائفة من الصحابة هذا والتابعين وقد اختلف في صحة هذا الحديث وتأويله والله أعلم
فصل في بيان معنى فلأولى رجل ذكر
وأما الحديث الصحيح الذي قدمناه وهو قوله عليه السلام ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر فهو أصل في الفرائض وقسم المواريث وتوريث العصبة الأدنى فالأدنى إلا أنه حديث فيه إشكال وتلقاه الناس أو أكثرهم على وجه لا تصح إضافته إلى النبي عليه السلام لأنه عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا وهو أخبر بهذا عن نفسه صلى الله عليه وسلم أعني قوله أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا أخرجه الدارقطني
والذي تأوله عليه الناس أن قوله لأولى رجل ذكر أي أقرب الرجال من الميت وأقعدهم وأن قوله ذكر نعت لرجل
وهذا التأويل لا يصح من ثلاثة أوجه
أحدهما عدم الفائدة في وصف رجل بذكر إذ لا يتصور أن يكون رجل إلا وهو ذكر ويجل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أن يتكلم بما هو حشو من الكلام ليس فيه فائدة ولا تحته فقه ولا يتعلق به حكم
الوجه الثاني أنه لو كان كما تأولوه لنقص فقه الحديث ولم يكن فيه بيان لحكم الطفل الرضيع الذي هو ليس برجل وقد علم أن الميراث يجب للأقعد وإن كان ابن ساعة ولا يقال في عرف اللغة رجل إلا للبالغ فما فائدة تخصيصه بالبيان دون الصغير
والوجه الثالث أن الحديث إنما ورد لبيان من يجب له الميراث من القرابة بعد أصحاب السهام فلو كان كما تأولوه لم يكن فيه بيان لقرابة الأم والتفرقة بينهم وبين قرابة الأب فبقي الحديث مجملا لا بفيد بيانا وإنما بعث عليه السلام ليبين للناس ما نزل إليهم
وإذا ثبت هذا فلنذكر معنى الحديث ثم نعطف على موضع الإشكال منه وبيان الغلط فنبينه بعون الله فنقول(20/451)
قوله أولى رجل ذكر يريد القريب الأقرب في النسب الذي قرابته من قبل رجل وصلب لا من قبل بطن ورحم فالأولى أولى الميت فهو مضاف إليه في المعنى دون اللفظ إضافة نسب وهو في اللفظ مضاف إلى السبب وهو الصلب وعبر عن الصلب بقوله أولى رجل لأن الصلب لا يكون ولدا ولا سيما حتى يكون رجلا
وأفاد قوله أولى رجل يريد القريب الأقرب نفي الميراث عن الأولى الذي هو من قبيل الأم كالخال لأن الخال أولى الميت ولاية بطن لا ولاية صلب
وأفاد بقوله ذكر نفي الميراث عن النساء وإن يكن من الأولين بالميت من قبل صلب لأنهن إناث فذكر نعت لأولى ولما كان مخفوضا في اللفظ حسب أنه نعت لرجل
ولو قلت من يرث هذا الميت بعد ذوي السهام لوجب أن يقال لك يرثه أولى رجل ذكر بالرفع لأنه نعت للفاعل
ولو قلت من يعطى المال لقيل لك أعطه أولى رجل ذكرا بالنصب لأنه نعت لأولى
فمن هنا دخل الإشكال
ومن وجه آخر هو أن أولى على وزن أفعل وهذا إذا أريد به التفضيل كان بعض ما يضاف إليه فإذا قلت هو أحسن رجل فمعناه أحسن الرجال وكذلك إذا قلت أعلم إنسان فمعناه أعلم الناس فتوهم أن قوله أولى رجل أي أولى الرجال وليس الأمر كذلك وإنما هو أولى الميت بإضافة النسب وأولى صلب بإضافة السبب كما تقول أخوك أخو الرخاء لا أخو الشدة وهم أقربوك أقارب الطمع وإخوان الضرورة والناس يقولون هم إخواني ولكن إخوان الضحك وكذلك يقال هو مولاي مولى عتق فالأولى في الحديث كالمولى
فإن قيل كيف يضاف إلى الواحد وليس بجزء منه
قلت إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته وإن لم
(20/452)
يكن جزءا منه قال عليه السلام أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك ولو أراد دنوا له لم يجز أن يقول أدناك كما لا تقول هو أفهمك ولا أعلمك وكذلك قول عمرو بن الأهتم عن الزبرقان هو مطاع أدنيه أي في قرابته وقول الشاعر وليس المال فاعلمه بمال وإن أنفقته إلا الذي أ تنال به العلاء وتصطفيه لأقرب أقربيك وللقصي
فهذا جائز في الأدنى والأولى والأقرب إذا أردت به معنى النسب والقرابة قال الله تعالى من الذين استحق عليهم الأوليان ولولا الأب والأم لأضاف فقال أولياؤه وإنما جاز هذا لمراعاة المعنى إذ معنى أولاك وأدناك كمعنى قريبك وأخيك ونسيبك ثم إذا
أردت أن تبين كيف هو نسيبك أو قريبك قلت قرابة صلب لا قرباة بطن وكذلك تقول هو أولاك وهو أولى المرأة المتوفاة أولى رجل وهذه المرأة هي الوليا وجمعها الولييات والولى فإن بينت النسب قلت هي وليا الميت وليا رجل أي ولاية صلب وإن شئت قلت هي أولاه كما تقول في الذكر هو أولاه ثم تبين السبب فتقول هي أولى رجل أي قرابتها من قبل رجل
فلولا قوله عليه السلام لورثت المرأة بهذه الولاية ولولا قوله أولى رجل لورث الخال لأنه ذكر فتأمل هذا التفسير والشواهد عليه وما يقتضيه لفظ الرسول عليه السلام إذا تؤول بهذا المعنى من السمانة والبلاغة والإيجاز مع كثرة المعاني تجد غيره من التأويلات ساقطا لأنه يخرج لفظ الرسول عليه السلام عن البلاغة إلى الكلام الغث واللفظ المسترث وحاشى له من ذلك ولو لم يكن في هذا المختصر إلا هذه الفائدة لكانت تنماوى وحله فالحمد لله الذي وفق إليها وأعان عليها بعد قرع طويل لبابها ومجاذبة للمغدف من حجابها ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له والحمد لله على ما فتح والحمد لله على ما شرح والحمد لله على ما منح حمدا كثيرا مباركا فيه(20/453)
فصل فيما إذا عدم العصبة
فهذا الحديث وما كان في معناه أصل في توريث العصبة من قبل الأب دون ذوي الأرحام وإنما استحقوا ذلك لأنهم ولاة دمة والذين يعقلون عنه ويغضبون له وبهم يكاثر الأعداء دون قرابة أمه لأن قرابة الأم دعوتهم إلى قوم آخرين وقول الله عز وجل وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض مخصوص بذوي السهام من القرابة خصصه الحديث المتقدم وقول النبي عليه السلام إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث فإذا عدم العصبة فما بقي بعد ذوي السهام فللمسلمين لأنهم يعقلون إذا عدم بنو العم
وقالت طائفة من أهل العلم ذوو الأرحام أولى من بيت مال المسلمين لأنهم يدلون إليه بالإسلام وبالرحم وغيرهم من المسلمين إنما يدلي بسبب واحد وهو الدين ويحتجون أيضا بحديث معاذ وحديث المقدام المتقدم وهو قوله عليه السلام الخال وارث من لا وارث له وقد قال بهذا القول جماعة من العلماء والله حسبنا ونعم الوكيل
باب معرفة أصول الفرائض وأصحاب السهام
باب
معرفة أصول الفرائض وأصحاب السهام
أصحاب الفرائض
السهام ستة نصف وثلث وثلثان وسدس وربع وثمن
وأصحاب السهام عشرة أب وأم وجد وجدة وأخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم وبنت وبنت ابن وزوج وزوجة
ومن أصحاب السهام من لا يرث أبدا إلا بالفرض ومنهم من يرث بالفرض تارة وبالتعصيب أخرى
فالذي يرث بالفرض وبالتعصيب الأخوات إذا انفردن فهن من أهل السهام فإذا كان معهن إخوة ذكور فهن من العصبة وكذلك البنات وأما بنات الابن فهن مع البنت الواحدة أهل سهم وهو السدس تكملة الثلثين وهن مع البنتين لا شيء لهن إلا أن يكون معهن ذكر مثلهن في القعود أو أبعد منهن فهن معه عصبة للميت للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كان أقرب للميت منهم حجبهن فلم يرثن شيئا(20/454)
وممن يرث بالفرض والتعصيب أيضا الجد فإنه مع الأخوة عاصب ما لم يكثروا حتى ينقصوه من الثلث فإن كان ذلك فرض الثلث فريضة ويفرض له السدس مع البنين وإن كثر أصحاب السهام لم ينقصه من السدس وإن قلوا حتى يعدموا فالمال له بالفرض والتعصيب معا وكذلك الأب له السدس مع الولد وله ما بقي مع عدم الولد بالفرض والتعصيب معا
وهذه مسألة اختلف في لفظها وفي التعبير عنها فلفظ ابن مسعود في امرأة تركت زوجها وأباها للزوج النصف وللأب السدس فريضة فما بقي فهو له يعني بالتعصيب ولفظ زيد بن ثابت للزوج النصف وما بقي للأب
فظاهر الاختلاف أنه يؤول إلى معنى واحد وإنما هو اختلاف عبارة ومن العجب أن هذا الاختلاف اختلف فيه أهو اختلاف في معنى أو هو اختلاف في عبارة فهو اختلاف في اختلاف
ومثل قول ابن مسعود قول فقهائنا فإنهم يقولون للأب السدس فريضة وما بقي فله بالتعصيب ومثل قول زيد قول أبي إسحاق الإسفراييني وبعض الشافعية فإنهم يقولون للأب ما بقي
ويجعلونه عاصبا في الكل إذا لم يكن وارث غيره وغيرهم من الفقهاء يجعلونه إذا انفرد وارثا السدس بالفرض ولسائر المال بالتعصيب فكأن هذا اختلاف لفظ والمعنى واحد وكذلك قال بعض أئمتنا منهم أبو عمر رحمه الله
وليس هو عندي إلا اختلاف بعيد معنى ويثير حكما وسنبين هذا الاختلاف وفائدته بعد الاحتجاج للقولين جميعا وتبيين أصل كل قول من الكتاب والسنة بعون الله تعالى
أما قول من قال إن الأب برث الكل بالتعصيب وأنه لا فرض له إلا مع الولد فحجتهم دليل الخطاب ومفهومه وهو أصل عند الشافعية ولا يلتفت إليه الحنفي ولا الظاهري ومالك رحمه الله يقول به على تفصيل يطول ذكره وقد صرح بالقول به في موطئه في غير موضع
(20/455)
ودليل الخطاب الذي تعلقوا به في هذه المسألة قوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فعلق حكم الفرض بوجود الولد وإذا تعلق الحكم بأخد الوصفين فهو منتف عند عدم الوصف فلا فرض له إذا عند عدم الولد وإنما هو عاصب
الجواب عن هذا أنا إذا سلمنا لهم دليل الخطاب فلقائل أن يقول عنما يتعلق الحكم في القول بدليل الخطاب إذا كان أحد الوصفين منطوقا به والآخر مسكوتا عنه كقولك أعط زيدا إن كان ذا عيال فههنا نص ودليل أما النص فووب العطاء وأما الدليل فيقتضي النهي عن العطاء مع عدم العيال وعدم العيال مسكوت عنه ولكنه مفهوم الخطاب فأما ما كان منطوقا به فلا يكون مفهوم الخطاب كقولك أعط زيدا إن كان ذا عيال دينارا وإن لم يكن ذا عيال فأعطه نصف دينار فغير جائز دليل الخطاب ههنا وقد علق بكل وصف حكما وكذلك الآية لأنه قال لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فهذا نص ثم عطف
على المسكوت عنه بالبيان فقال فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فحكمه كذا وكذا فصار معنى الكلام إن كان له ولد فله السدس وإن لم يكن له ولد فليزد على السدس كما تزاد الأم سدسا آخر فيكون لها الثلث وإذا بطل التعليق بدليل الخطاب في الآية رجعنا على حديث ابن عباس الصحيح وهو قوله عليه السلام ألحقوا الفرائض بأهلها الحديث والأب من أصحاب الفرائض فتناوله عموم اللفظ والعموم أقوى من دليل الخطاب لأنه لفظي ولأنه مجمع عليه عند الفقهاء وآنما توقف فيه أهل الكلام لسبب ليس هذا موضع ذكره
فإن قالوا ليس الأب من أهل الفرائض إلا مع وجود الولد فكيف يدخل في عموم قوله ألحقوا الفرائض بأهلها ونحن إنما كان كلامنا في الأب الذي ليس له ولد
فالجواب أن الأب قد جعل من أهل الفرائض لقوله سبحانه ولأبويه لكل
(20/456)
واحد منهما السدس فلما جعل مع وجود الولد من أهل الفرائض لم يخرج عن عموم اللفظ في قوله ألحقوا الفرائض بأهلها
فصل في فائدة هذا الخلاف
وأما فائدة هذا الخلاف وفقهه فإنما يظهر في مسائل من الوصايا مثل أن توصي امرأة لها زوج وأب بثلث ما يبقى من مالها بعد أخذ ذوي الفروض سهامهم فإن قلنا إنه يرث بالتعصيب فليس ثم ذو فرض إلا الزوج فتكون الوصية واقعة على ثلث النصف وهو السدس من الكل فيصير معنى كلامها قد تصدقت بثلث نصف مالي وهو السدس لأن النصف هو الباقي بعد فرض الزوج فأصل الفريضة من اثنين على هذا فتنقسم من اثني عشر فيكون السدس للموصى إليه وهو اثنان ويبقى عشرة للزوج النصف وللأب ما بقي وذلك خمسة لأنه لا ميراث إلا بعد إخراج الوصية
وعلى القول الثاني أنه يرث بالفرض والتعصيب معا أصل الفريضة من ستة وتنقسم من سبعة وعشرين لأن الباقي بعد السهام هو الثلث والذي أوصت به ثلث الثلث وهو التسع من الكل
فتضرب ثلاثة في تسعة من أجل التسع فذلك سبعة وعشرون للموصى إليه ثلاثة ويبقى للورثة أربعة وعشرون للزوج النصف وللأب السدس وهو أربعة وما بقي فهو له بالتعصيب لأن الفعل في فريضة الستة إذا أوصى الميت بالتسع أن يضاف إلى عدد الفريضة الثمن وثمن الستة كسر وللستة نصف كما للثمانية نصف وهو الأربعة فتضرب أربعة في ستة بأربعة وعشرين ثمنها ثلاثة فتزيد ثلاثة على أربعة وعشرين فيكون العدد تسعة أجزاء بغير كسر فيأخذ الموصى إليه التسع ويكون للورثة ما بقي(20/457)
فإن كان الهالك رجلا ترك امرأة وأبا فأصل الفريضة من أربعة إذا قلنا إن الأب يرث بالتعصيب وأنه لا سدس له فريضة فللزوجة ربع وللأب ما بقي فإن أوصى الزوج بثلث ما بقي فهو الربع من الكل فتضيف إلى الفريضة ثلثها ولا ثلث للأربعة فتضرب ثلاثة في أربعة بإثني عشر ثم تضيف إلى الاثني عشر ثلثها وذلك أربعة فينقسم المال من ستة عشر للموصى إليه الربع وللزوجة ربع ما بقي وهو ثلاثة وللأب بالتعصيب تسعة
وإن قلنا إن للأب السدس فريضة فأصل الفريضة من اثني عشر للزوجة الربع وهي ثلاثة وللأب السدس وهو اثنان وما بقي سبعة يأخذها بالتعصيب والهالك قد أوصى بثلث ما يبقى بعد الفرائض وذلك ثلث السبعة ونسبته إلى المال ثلث نصف وثلث سدس النصف
وتلخيصه سدس وسدس سدس بالإضافة إلى الكل فتضرب
ثلاثة في أصل الفريضة من أجل الثلث فذلك ستة وثلاثون سدسها ستة وسدس سدسها واحد فذلك سبعة للموصى إليه والباقي تسعة وعشرون وهي لا تنقسم إلي سدس وربع فتضرب ستة وثلاثون في ستة وذلك مائتان وستة عشر للموصى إليه منها اثنان وأربعون ويبقى عدد لا ربع له وله نصف فتضرب اثنين في مائتين وستة عشر فذلك أربعمائة واثنان وثلاثون وصار معنى الضرب إلى اثني عشر في ستة وثلاثين والاثنا عشر هي أصل الفريضة فحظ الموصى إليه سدس وسدس سدس وذلك أربعة وثمانون من أربعمائة واثنين وثلاثين والباقي ثلاثمائة وثمانية وأربعون للزوجة منها الربع وذلك سبعة وثمانون للأب السدس وذلك ثمانية وخمسون
فصل فيمن يرث بالفرض والتعصيب
وممن يرث بالفرض والتعصيب معا ابن العم إذا كان أخا لأم فإن له السدس بالفرض والباقي بالتعصيب فإن كان معه ابن عم ليس بأخ لأم فقد اختلف الصحابة في ذلك فمنهم من حجب ابن العم بالأخ(20/458)
للأم وحجتهم أنه يدلي بسببين فحجب من يدلي بسبب واحد كما يحجب الأخ الشقيق الأخ الذي للأب وكذلك سائر العصبات ومنهم من جعل السدس للأخ للأم وقسم الباقي بينهما وعليه العمل عند مالك وهو مذهب زيد بن ثابت
وكذلك اختلفوا في الأخوة للأم مع الإخوة للأب والأم إذا كان معهم زوج وأم وهي التي تسمى المشتركة واختلف فيها قول عمر وقول زيد بن ثابت وقد قيل إن كان صاحب تكلم فيها فقد اختلف عنه فيها إلا عليا فإنه لم يختلف عنه أنه لم يشركهم مع الإخوة للأم فللزوج النصف وللأم السدس وللإخوة للأم الثلث فريضة فلا يبقى للأشقاء شيء فمن العلماء من حجبهم لأنهم عصبة الميت وقد أحاطت الفرائض بالمال ولا شيء للعصبة إلا ما بقي بعد الفرائض وممن قال بهذا القول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إحدى الروايتين عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال به من فقهاء الأمصار جماعة والذي عليه مذهبنا أن الإخوة الأشقاء يشتركون مع الإخوة للأم في الثلث لأنهم كلهم يدلون بالأم ويقول الأشقاء هب أبانا كان حمارا أليست أمنا واحدة ولذلك سميت الحمارية لأنها لما نزلت في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال الإخوة
هذا القول فسميت الفريضة بذلك
وليس في النساء من يرث بالتعصيب على كل حال إلا مولاة النعمة وهي المعتقة
ولا يرث من النساء إلا سبع خمس بالنسب وواحدة بالصهر وهي الزوجة وواحدة بالولاء وهي المعتقة
ويرث من الرجال عشرة ثمانية بالنسب وواحد بالصهر وهو الزوج وواحد بالولاء وهو المعتق
فصل في أصول الفرائض وفي الفرائض العائلة
وأما أصول الفرائض فسبع فريضة من اثنين وفريضة من ثلاثة وفريضة من أربعة وفريضة من ستة وفريضة من ثمانية وفريضة من اثني عشر وفريضة من أربعة وعشرين(20/459)
فهذه أصول الفرائض لا عول فيها ثم يدخل العول في فريضة الستة فتعول إلى سبعة وإلى ثمانية وإلى تسعة وإلى عشرة
ويدخل العول في فريضة الاثني عشر فتعول إلى ثلاثة عشر وإلى
خمسة عشر وإلى سبعة عشر
ويدخل العول أيضا في فريضة الأربعة والعشرين فتعول إلى سبعة وعشرين
فجميع الفرائض العائة ثماني فرائض والفرائض التي لا عول فيها أربع فأصول الفرائض على هذا خمسة عشر ما بين عائلة وغير عائلة لأن فريضة الاثنين والثلاثة والأربعة والثمانية لا يدخلها عول البتة
ومعنى العول الميل وأكثر المفسرين قالوا في قوله تعالى ذلك أدنى ألا تعولوا معناه ألا تميلوا فكل فريضة عائلة قد مال فيها بعض السهام على بعض ونقص من كل سهم قدر ما يقتضيه التعديل والتقسيط
ولم يكن مذهب ابن عباس رضي الله عنه في الفرائض إذا عجز المال عنها أن يأخذ بالعول فيها واحتج بأن الله تعالى قد سمى لهم ما سمى فلا سبيل إلى التنقص منه ولكنه كان يسقط منهم من يرث في حال دون حال كالأخت والجد والجدة ولا يسقط من يرث على كل حال كالزوج والبنت وانفرد بهذا القول وهي من إحدى المسائل الخمس التي انفرد بها رضي الله عنه. أ هـ {الفرائض / للسهيلى صـ 27 ـ 102}(20/460)
قوله تعالى { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان فطم أنفسهم عن منع الأطفال والنساء شديداً عليهم لمرونهم عليه بمرور الدهور الطويلة على إطباقهم على فعله واستحسانهم له أتبعه سبحانه الترغيب والترهيب لئلا يغتر بوصف الحليم ، فقال معظماً للأمر بأداة البعد ومشيراً إلى جميع ما تقدم من أمر المواريث والنساء واليتامى وغيره : {تلك} أي هذه الحدود الجليلة النفع العظيمة الجدوى المذكورة من أول هذه السورة ، بل من أول القرآن {حدود الله} أي الملك الأعظم ، فمن راعاها - ولو لم يقصد طاعته ، بل رفعاً لنفسه عن دناءة الإخلاد إلى الفاني ومعرة الاستئثار على الضعيف المنبىء عن البخل وسفول الهمة - نال خيراً كبيراً ، فإنه يوشك أن يجره ذلك إلى أن يكون ممن يطيع الله {ومن يطع الله} الحائز لصفتي الجلال والإكرام {ورسوله} أي في جميع طاعاته هذه وغيرها ، بالإقبال عليها وترك ما سواها لأجله سبحانه ؛ قال الأصبهاني : " من " عام ووقوعه عقيب هذه التكاليف الخاصة لا يخصصه.
ولما تشوف السامع بكليته إلى الخبر التفت إليه تعظيماً للأمر - على قراءة نافع وابن عامر بالنون - فقال : {ندخله جنات} أي بساتين ، وقراءة الجماعة بالياء عظيمة أيضاً لبنائها على الاسم الأعظم وإن كانت هذه أشد تنشيطاً بلذة الالتفات {تجري من تحتها الأنهار} أي لأن أرضها معدن المياه ، ففي أي موضع أردت جرى نهر.
فهي لا تزال يانعة غضة ، وجمع الفائزين بدخول الجنة في قوله : {خالدين فيها} تبشيراً بكثرة الواقف عند هذه الحدود ، ولأن منادمة الإخوان من أعلى نعيم الجنان.(20/461)
ولما كان اختصاصهم بالإرث عن النساء والأطفال من الفوز عندهم ، بل لم يكن الفوز العظيم عندهم إلا الاحتواء على الأموال وبلوغ ما في البال منها من الآمال قال تعالى معظماً بأداة البعد : {وذلك} أي الأمر العالي المرتبة من الطاعة المندوب إليها {الفوز العظيم} أي لا غيره من الاحتواء على ما لم يأذن به الله ، وهذا أنسب شيء لتقديم الترغيب لتسمح نفوسهم بترك ما كانوا فيه مع ما فيه من التلطف بهذه الأمة والتبشير له صلى الله عليه وسلم بأنها مطيعة راشدة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 224 ـ 225}
فصل
قال الفخر :
قوله : {تِلْكَ} إشارة إلى ماذا ؟ فيه قولان : الأول : إنه إشارة إلى أحوال المواريث.
القول الثاني : إنه إشارة إلى كل ما ذكره من أول السورة إلى ههنا من بيان أموال الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث وهو قول الأصم ،
حجة القول الأول أن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات ، وحجة القول الثاني أن عوده إلى الأقرب إذا لم يمنع من عوده إلى الأبعد مانع يوجب عوده إلى الكل.
البحث الثاني : أن المراد بحدود الله المقدرات التي ذكرها وبينها ، وحد الشيء طرفه الذي يمتاز به عن غيره ، ومنه حدود الدار ، والقول الدال على حقيقة الشيء يسمى حداً له ، لأن ذلك القول يمنع غيره من الدخول فيه ، وغيره هو كل ما سواه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 184}
وقال الآلوسى :
{ تِلْكَ } أي الأحكام المذكورة في شؤون اليتامى والمواريث وغيرها ، واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على المواريث { حُدُودَ الله } أي شرائعه أو طاعته أو تفصيلاته أو شروطه ، وأطلقت عليها الحدود لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها.(20/462)
{ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض ، والإظهار في مقام الإضمار لما مرت الإشارة إليه { يُدْخِلْهُ جنات } نصب على الظرفية عند الجمهور ، وعلى المفعولية عند الأخفش.
{ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا } أي من تحت أشجارها وأبنيتها ، وقد مرّ الكلام في ذلك { الأنهار } أي ماؤها { خالدين فِيهَا } حال مقدرة من مفعول { يُدْخِلْهُ } لأن الخلود بعد الدخول فهو نظير قولك : مررت برجل معه صقر يصيد به غداً ، وصيغة الجمع لمراعاة معنى { مِنْ } كما أن إفراد الضمير لمراعاة لفظها { وَذَلِكَ } أي دخول الجنات على الوجه المذكور { الفوز } أي الفلاح والظفر بالخير { العظيم } في نفسه أو بالإضافة إلى حيازة التركة على ما قيل ؛ والجملة اعترض. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 233}
فائدة
قال النسفى :
{ حُدُودُ الله } سماها حدوداً لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزها. أ هـ {تفسير النسفى حـ 1 صـ 210}
فصل
قال الفخر :
قال بعضهم : قوله : {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} وقوله : {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} مختص بمن أطاع أو عصى في هذه التكاليف المذكورة في هذه السورة ، وقال المحققون : بل هو عام يدخل فيه هذا وغيره ، وذلك لأن اللفظ عام فوجب أن يتناول الكل.
أقصى ما في الباب أن هذا العام إنما ذكر عقيب تكاليف خاصة ، إلا أن هذا القدر لا يقتضي تخصيص العموم ، ألا ترى أن الوالد قد يقبل على ولده ويوبخه في أمر مخصوص ، ثم يقول : احذر مخالفتي ومعصيتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور ، فكذا ههنا والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 184}
فصل
قال الفخر :
قرأ نافع وابن عامر : ( ندخله جنات ) ( ندخله نارا ) بالنون في الحرفين ، والباقون بالياء.(20/463)
أما الأول : فعلى طريقة الالتفات كما في قوله : {بَلِ الله مولاكم} [ آل عمران : 150 ] ثم قال : {سَنُلْقِى} [ آل عمران : 151 ] بالنون.
وأما الثاني : فوجهه ظاهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 184}
سؤال
قال الفخر :
ههنا سؤال وهو أن قوله : {يُدْخِلْهُ جنات} إنما يليق بالواحد ثم قوله بعد ذلك {خالدين فِيهَا} إنما يليق بالجمع فكيف التوفيق بينهما ؟
الجواب : أن كلمة ( من ) في قوله : {وَمَن يُطِعِ الله} مفرد في اللفظ جمع في المعنى فلهذا صح الوجهان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 184}
فائدة
قال أبو حيان :
قال الراغب : ووصف الفوز بالعظم اعتبار بفوز الدّنيا الموصوف بقوله : { قل متاع الدنيا قليل } والصغير والقليل في وصفهما متقاربان. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 200}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { خَالِدِينَ } في نصبه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ حال من الضمير المنصوب في { يُدْخِلْهُ } وَلاَ يَضُرُّ تَغَايُرُ الحال وصاحبها من حيث كانت جمعاً وصاحِبُها مفرداً ، لما تقدَّم من اعتبار الَّلفْظِ والمَعْنَى وهي مقدّرة ؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول.
والثَّاني : أن يكون نَعْتاً لـ { جَنَّاتٍ } من باب ما جَرَى على موصوفه لَفْظاً ، وهو لغيره معنىً ، نحو : مررت برجُلٍ قائمةٍ أمُّه ، وبامرأة حَسَنٍ غُلامُها ، ف " قائمة " وحسن وإن كانا جَارِيينِ على ما قبلهما لَفْظاً فهما لِما بَعْدَهما معنىً ، وأجازَ ذلك في الآية الكريمة الزَّجَّاجُ وتبعه التبرِيزيُّ ، إلاَّ أنَّ الصِّفة إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وجب إبرازُ الضَّمير مطلقاً على مذهب البصريين ألْبسَ أو لم يُلْبَسْ.(20/464)
وَأمَّا الكوفيين فيفصِّلون ، فيقولون : إذا جرت الصِّفة على غير مَنْ هي له ، فإنْ ألْبسَ وَجَبَ إبرازُ الضمير ، كما هو مذهبُ البصريين ؛ نحو : " زيدٌ عمرو ضاربُه هو " ، إذا كان الضربُ واقعاً من زيد على عمرو ، فإن لم يُلْبسْ لم يَجِبِ الإبرازُ ، نحو : " زيدٌ هندُ ضاربُها " ، إذا تَقَرَّرَ هذا فَمذهَبُ الزَّجَّاجِ في الآية إنَّمَا يتمشَّى على رأي الكوفيين ، وهو مذهب حَسَنٌ.
واستدلَّ مَنْ نَصَرَ مذهب الكوفيين بالسَّمَاعِ ، فمنه قراءة مَنْ قرأ { إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الأحزاب : 53 ] بجر " غير " مع عدم بروز الضمير ، ولو أبْرَزَهُ لقال : غير ناظرين إناه أنتم.
ومنه قول الآخر : [ البسيط ]
قَوْمِي ذُرَا المَجْدِ بَانُوهَا وَقَدْ عَلِمَتْ... بِكُنْهِ ذَلِكَ عَدْنَانٌ وقَحْطَانُ
ولم يقل : بَانُوهَا هُمْ.
وقد خَرَّج بعضهمُ البيت على حذف مبتدأ ، تقديره : هم بتنوها ف " قومي " مبتدأ أوَّلٌ ، و" ذُرا " مبتدأ ثان ، و" هُمْ مبتدأ ثالث ، و" بانوها " خبر الثَّالث والثَّالِثُ وخبره خبر الثَّاني والثاني وخبره خبر الأوَّل.
وقد منع الزمخشريُّ كون " خَالِدينَ " و" خَالِداً " صفةٌ لـ " جَنَّاتِ " و" ناراً " ؟ قلت : لا لأنَّهما جَرَيَا على غير مَنْ هُمَا له ، فلا بُدَّ مِنَ الضَّميرِ في قولك : " خالدين هم فيها " ، و" خالداً هو فيها ".
ومنع أبُو البَقَاءِ ذلك أيضاً بعدم إبراز الضمير لكن مع " خالداً " ولم يتعرض لذلك مع " خالدين " ولا فرق بَيْنَهُما ، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين ، وهذا المنع على مذهب البصريين كما تقدَّمَ.
(20/465)
وقرأ نافعٌ وابنُ عَامِرٍ هنا " نُدْخِلْهُ " في الموضعين ، وفي سورة الفتح [ الآية 17 ] وفي سورة التغابن [ الآية 9 ] والطلاق [ الآية 11 ] بنون العظمة ، والباقون بالياء ، والضميرُ للَّه تعالى.
قوله : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } هذه الجملةُ في محل نصبِ صفةٍ لـ " جنات " ، وقد تقدم مراراً أن المنصوب بعد " دخل " من الظروف هل نَصْبُهُ نصبُ الظُّروف ، أو نَصْبُ المفعول به ؟
الأوَّل : قول الجمهور.
والثاني : قول الأخفش ، فكذلك { جَنَّاتٍ } ، و{ نَاراً }. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 232 ـ 234}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)}
حدوده : أوامره ونواهيه ، وما تعبَّد به عباده.
وأصل العبودية حفظ الحدود ، وصون العهود ، ومَنْ حَفظَ حَدَّه لم يُصِبْهُ مكروه ولا آفة ، وأصلُ كلِّ بلاء مجاوزة الحدود. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 319}(20/466)
قوله تعالى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أشربت القلوب الصافية ذوات الهمم العالية حب نيل هذا الفوز أتبعه الترهيب فطماً لها عن تلك الفوائد بالكلية فقال : {ومن يعص الله} أي الذي له العظمة كلها {ورسوله} أي في ذلك وغيره {ويتعد حدوده} أي التي حدها في هذه الأحكام وغيرها ، وأفرد العاصي في النيران في قوله : {يدخله ناراً خالداً فيها} لأن الانفراد المقتضي للوحشة من العذاب والهوان ، ولما كان منعهم للنساء والأطفال من الإرث استهانة بهم ختم الآية بقوله : {وله عذاب مهين }. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 225}
قال القرطبى :
وقوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } يريد في قسمة المواريث فلم يقسِمها ولم يعمل بها { وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } أي يخالف أمره { يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا }.
والعصيان إن أُريد به الكفر فالخلود على بابه ، وإن أُريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدّة ما.
كما تقول : خلّد الله ملكه.
وقال زهير :
ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا . . .
وقد تقدّم هذا المعنى في غير موضع. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 82}.
وقال أبو حيان :
{ ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } لما ذكر ثواب مراعي الحدود ذكر عقاب من يتعداها ، وغلظ في قسم المعاصي ، ولم يكتف بالعصيان بل أكد ذلك بقوله : ويتعدّ حدوده ، وناسب الختم بالعذاب المهين ، لأن العاصي المتعدّي للحدود برز في صورة من اغتر وتجاسر على معصية الله.
وقد تقل المبالاة بالشدائد ما لم ينضم إليها الهوان ، ولهذا قالوا : المنية ولا الدنية.
قيل : وأفرد خالداً هنا ، وجمع في خالدين فيها ، لأنّ أهل الطاعة أهل الشفاعة ، وإذا شفع في غير دخلها ، والعاصي لا يدخل النار به غيره ، فبقي وحيداً انتهى. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 200}(20/467)
فصل
قال الفخر :
قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن فساق أهل الصلاة يبقون مخلدين في النار.
وذلك لأن قوله : {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} إما أن يكون مخصوصا بمن تعدى في الحدود التي سبق ذكرها وهي حدود المواريث ، أو يدخل فيها ذلك وغيره ، وعلى التقديرين يلزم دخول من تعدى في المواريث في هذا الوعيد ، وذلك عام فيمن تعدى وهو من أهل الصلاة أو ليس من أهل الصلاة ، فدلت هذه الآية على القطع بالوعيد ، وعلى أن الوعيد مخلد ، ولا يقال : هذا الوعيد مختص بمن تعدى حدود الله ، وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر.
فإنه هو الذي تعدى جميع حدود الله ، فإنا نقول : هذا مدفوع من وجهين :
الأول : إنا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود الله خرجت الآية عن الفائدة لأن الله تعالى نهى عن اليهودية والنصرانية والمجوسية ، فتعدي جميع حدوده هو أن يترك جميع هذه النواهي ، وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والمجوسية والنصرانية معا وذلك محال ، فثبت أن تعدى جميع حدود الله محال فلو كان المراد من الآية ذلك لخرجت الآية عن كونها مفيدة ، فعلمنا أن المراد منه أي حد كان من حدود الله.
الثاني : هو أن هذه الآية مذكورة عقيب آيات قسمة المواريث ، فيكون المراد من قوله : {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} تعدى حدود الله في الأمور المذكورة في هذه الآيات.
وعلى هذا التقدير يسقط هذا السؤال.
هذا منتهى تقرير المعتزلة وقد ذكرنا هذه المسألة على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة.(20/468)
ولا بأس بأن نعيد طرفا منها في هذا الموضع فنقول : أجمعنا على أن هذا الوعيد مختص بعدم التوبة لأن الدليل دل على أنه إذا حصلت التوبة لم يبق هذا الوعيد ، فكذا يجوز أن يكون مشروطا بعدم العفو ، فإن بتقدير قيام الدلالة على حصول العفو امتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفو ، ونحن قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على حصول العفو ، ثم نقول : هذا العموم مخصوص بالكافر ، ويدل عليه وجهان : الأول : إنا إذا قلنا لكم : ما الدليل على أن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد العموم ؟ قلتم : الدليل عليه أنه يصح الاستثناء منه ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه ، فنقول : إن صح هذا الدليل فهو يدل على أن قوله : {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} مختص بالكافر : لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ فيقال : ومن يعص الله ورسوله إلا في الكفر ، والا في الفسق ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، فهذا يقتضي أن قوله : {وَمَن يَعْصِ الله} في جميع أنواع المعاصي والقبائح وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر ، وقوله : الإتيان بجميع المعاصي محال لأن الإتيان باليهودية والنصرانية معا محال ، فنقول : ظاهر اللفظ يقتضي العموم إلا إذا قام مخصص عقلي أو شرعي ، وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم ويقوي ما ذكرناه.
الوجه الثاني : في بيان أن هذه الآية مختصة بالكافر : أن قوله : {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} يفيد كونه فاعلا للمعصية والذنب ، وقوله : {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} لو كان المراد منه عين ذلك للزم التكرار ، وهو خلاف الأصل ، فوجب حمله على الكفر ، وقوله : بأنا نحمل هذه الآية على تعدي الحدود المذكورة في المواريث. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 184 ـ 185}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقولُه : { خالداً فيها } استُعمل الخلود في طول المدّة.(20/469)
أو أريد من عصيان الله ورسوله العصيان الأتمُّ وهو نبذ الإيمان ، لأنّ القوم يومئذ كانوا قد دخلوا في الإيمان ونبذوا الكفر ، فكانوا حريصين على العمل بوصايا الإسلام ، فما يخالف ذلك إلاّ من كان غير ثابت الإيمان إلاّ من تاب.
ولعلّ قوله : { وله عذاب مهين } تقسيم ، لأنّ العصيان أنواع : منه ما يوجب الخلود ، ومنه ما يوجب العذاب المهين ، وقرينة ذلك أنّ عطف { وله عذاب مهين } على الخلود في النار لا يُحتاج إليه إذا لم يكن مراداً به التقسيم ، فيضطرّ إلى جعله زيادةَ توكيد ، أو تقول إنّ محط العطف هو وصفه بالمهين لأنّ العرب أباة الضيم ، شمّ الأنوف ، فقد يحذرون الإهانة أكثر ممّا يحذرون عذاب النار ، ومن الأمثال المأثورة في حكاياتهم ( النار ولا العار ).
وفي كتاب "الآداب" في أعجاز أبياته "والحرّ يصبر خوف العار للنار". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 55}
سؤال : فإن قلت : كيف قطع للعاصي بالخلود في النار في هذه الآية وهل فيها دليل للمعتزلة على قولهم إن العصاة والفساق من أهل الإيمان يخلدون في النار ؟.
قلت : قال الضحاك المعصية هنا الشرك وروى عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية من لم يرض بقسمة الله ويتعد ما قال الله يدخله ناراً وقال الكلبي : يكفر بقسمة المواريث ويتعد حدود الله استحلالاً إذا ثبت ذلك فمن رد حكم الله ولم يرض بقسمته كفر بذلك وإذا كفر كان حكمه حكم الكفار في الخلود في النار إذا لم يتب قبل وفاته إذا مات وهو مصر على ذلك كان مخلداً في النار بكفره فلا دليل في الآية للمعتزلة والله أعلم. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 328 ـ 329}
وقال محمد بن أبى بكر الرازى :
فإن قيل : كيف قطع على العاصى بالخلود فى النار بقوله : {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ؟
قلنا : أراد به : من يعص الله برد أحكامه وجحودها ؛ وذلك كفر ؛ والكافر يستحق الخلود فى النار. أ هـ {تفسير الرازى صـ 78}(20/470)
سؤال : فإن قال قائل : أوَ مُخَلَّدٌ في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث ؟
قيل : نعم ، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكًّا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين ، أو علم ذلك فحادَّ الله ورسوله في أمرهما على ما ذكر ابن عباس من قول من قالَ حين نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) إلى تمام الآيتين : أيُورَّث من لا يركب الفرس ولا يقاتل العدوَّ ولا يحوز الغنيمة ، نصفَ المال أو جميع المال ؟ استنكارًا منهم قسمةَ الله ما قسم لصغار ولد الميت ونسائه وإناث ولده ممن خالف قسمةَ الله ما قسم من ميراث أهل الميراث بينهم على ما قسمه في كتابه ، وخالف حكمه في ذلك وحكم رسوله ، استنكارًا منه حكمهما ، كما استنكره الذين ذكر أمرَهم ابن عباس ممن كان بين أظهُر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين فيهم نزلت وفي أشكالهم هذه الآية فهو من أهل الخلود في النار ، لأنه باستنكاره حكمَ الله في تلك ، يصير بالله كافرًا ، ومن ملة الإسلام خارجًا. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 8 صـ 72 ـ 73}
فائدة
قال الشيخ السعدى :
{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي ، فلا يكون فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله. ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله ، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب.(20/471)
ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه ، دخل النار وخلد فيها ، ومن اجتمع فيه معصية وطاعة ، كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد ، غير مخلدين في النار ، فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها. أ هـ {تفسير السعدى صـ 171}
لطيفة
قال أبو السعود :
{ يُدْخِلْهُ } وقرىء بنون العظمةِ في الموضعين { نَارًا } أي عظيمةً هائلةً لا يقادَرُ قدرُها { خَالِداً فِيهَا } حال كما سبق ، ولعل إيثارَ الإفرادِ هاهنا نظراً إلى ظاهر اللفظِ ، واختيارُ الجمعِ هناك نظراً إلى المعنى للإيذان بأن الخلودَ في دار الثوابِ بصفة الاجتماعِ أجلبُ للأنس كما أن الخلودَ في دار العذاب بصفة الانفرادِ أشدُّ في استجلاب الوحشة. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 154}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض ، وقال ابن جريج : من لا يؤمن بما فصل سبحانه من المواريث ، وحكي مثله عن ابن جبير.(20/472)
{ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } التي جاء بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن جملتها ما قص لنا قبل ، أو يتعد حدوده في القسمة المذكورة استحلالاً كما حكي عن الكلبي { يُدْخِلْهُ } قرأ نافع وابن عامر بالنون في الموضعين { نَارًا } أي عظيمة هائلة { خالدا فِيهَا } حال كما سبق ، وأفرد هنا وجمع هناك لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة وإذا شفع أحدهم في غيره دخلها معه ، وأهل المعاصي لا يشفعون فلا يدخل بهم غيرهم فيبقون فرادى ، أو للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصفة الاجتماع الذي هو أجلب للأنس ، والخلود في دار العقاب بصفة الانفراد الذي هو أشد في استجلاب الوحشة ، وجوز الزجاج والتبريزي كون { خالدين } [ النساء : 13 ] هناك وخالداً هنا صفتين لجنات أو نار ، واعترض بأنه لو كان كذلك لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له ، وتعقبه أبو حيان بأن هذا على مذهب البصريين ، ومذهب الكوفيين جواز الوصفية في مثل ذلك ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذ لا لبس { وَلَهُ عَذَابٌ } أي عظيم لا يكتنه { مُّهِينٌ } أي مذل له والجملة حالية ، والمراد جمع أمرين للعصاة المعتدين عذاب جسماني وعذاب روحاني ، نسأل الله تعالى العافية.(20/473)
واستدل بالآية من زعم أن المؤمن العاصي مخلد في النار ، والجواب أنها لا تصدق عليه إما لأنها في الكافر على ما سمعت عن الكلبي وابن جبير وابن جريج وإما لأن المراد من حدود الله تعالى جميع حدوده لصحة الاستثناء والمؤمن العاصي واقف عند حد التوحيد ، وإما لأن ذلك مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط بعدم التوبة عند الزاعم ، وفي ختم آيات المواريث بهذه الآية إشارة إلى عظم أمر الميراث ولزوم الاحتياط والتحري وعدم الظلم فيه ، وقد أخرج ابن ماجه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قطع ميراثاً فرضه الله ورسوله قطع الله ميراثه من الجنة " وأخرج منصور عن سليمان بن موسى والبيهقي عن أبي هريرة نحو ذلك ، وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة عدو ، وكأن عدم القسم إما للتهاون في الدين وعدم المبالاة وكثرة الظلم بين الناس ، وإما لفشو الجهل وعدم من يعرف الفرائض ، فقد ورد عن أبي هريرة مرفوعاً " إن علم الفرائض أول ما ينزع من الأمة " ، وأخرج البيهقي ، والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الإثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها " ولعل الاحتمال الأول أظهر.
أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 233 ـ 234}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وتضمنت هذه الآيات من أصناف البديع : التفصيل في : الوارث والأنصباء بعد الإبهام في قوله : للرجال نصيب الآية.
والعدول من صيغة : يأمركم الله إلى يوصيكم ، لما في الوصية من التأكيد والحرص على اتباعها.(20/474)
والطباق في : للذكر مثل حظ الأنثيين ، وفي : من يطع ومن يعص ، وإعادة الضمير إلى غير مذكور لقوة الدلالة على ذلك في قوله : مما ترك أي : ترك الموروث.
والتكرار في : لفظ كان ، وفي فريضة من الله ، أن الله ، وفي : ولداً ، وأبواه ، وفي : من يعد وصية يوصي بها أو دين ، وفي : وصية من الله إن الله ، وفي : حدود الله ، وفي : الله ورسوله.
وتلوين الخطاب في : من قرأ ندخله بالنون.
والحذف في مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 200 ـ 201}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}
وإنما هما عقوبتان : معجلة ومؤجلة ، ويقترن بهما جميعاً الذُّلُّ ؛ فلو اجتهد الخلائق على إذلال المعاصي بمثل الذل الذي يلحقهم بارتكاب المعصية لم يقدموا عليها : لذلك قال قائلهم : من بات مُلِماً بذنب أصبح وعليه مذلته ، فقلت ومن أصبح مُبِرَّاً بِبِرٍ ظلَّ وعليه مهابته. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 319}.
تم الجزء العشرون من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الحادى والعشرون وأوله قوله تعالى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) }(20/475)