وقال الآلوسى :
فإن قلت : إن وعد الله تعالى واجب الوقوع لاستحالة الخلف في وعده سبحانه إجماعاً فكيف طلب القوم ما هو واقع لا محالة ؟
قلت أجيب بأن وعد الله تعالى لهم ليس بحسب ذواتهم بل بحسب أعمالهم ، فالمقصود من الدعاء التوفيق للأعمال التي يصيرون بها أهلا لحصول الموعود ، أو المقصود مجرد الاستكانة والتذلل لله تعالى بدليل قولهم : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } وبهذا يلتئم التذييل أتم التئام ، واختار هذا الجبائي وعلي بن عيسى ، أو الدعاء تعبدي لقوله سبحانه : { ادعونى } [ غافر : 60 ] فلا يضر كونه متعلقاً بواجب الوقوع ، وما يستحيل خلافه ، ومن ذلك { رَبّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] ، وقيل : إن الموعود به هو النصر لا غير ، والقوم قد علموا ذلك لكنهم لم يوقت لهم في الوعد ليعلموه فرغبوا إلى الله تعالى في تعجيل ذلك لما فيه من السرور بالظفر ، فالموعود غير مسؤول والمسؤول غير موعود ، فلا إشكال وإلى هذا ذهب الطبري وقال : إن الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستبطأوا النصر على أعدائهم بعد أن وعدوا به وقالوا : لا صبر لنا على أناتك وحلمك ، وقوى بما بعد من الآيات وكلام أبي القاسم البلخي يشير إلى هذا أيضاً وفيه كلام يعلم مما قدمنا ، وقيل : ليس هناك دعاء حقيقة بل الكلام مخرّج مخرج المسألة والمراد منه الخبر ولا يخفى أنه بمعزل عن التحقيق ، ويزيده وهناً على وهن قوله سبحانه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 167}
وقال ابن عاشور :
أجاب القرافي في الفرق بأنّهم سألوا ذلك لأنّ حصوله مشروط بالوفاة على الإيمان ، وقد يؤيّد هذا بأنّهم قدّموا قبله قولهم : { وتوقنا مع الأبرار } لكن هذا الجواب يقتضي قصر الموعود به على ثواب الآخرة ، وأعادوا سؤال النجاة من خزي يوم القيامة لشدّته عليهم.(19/146)
وقيل : إنّ الموعود الذي سألوه هو النصر على العدوّ خاصّة ، فالدعاء بقولهم : { وآتنا ما وعدتنا على رسلك } مقصود منه تعجيل ذلك لهم ، يعني أنّ الوعد كان لمجموع الأمّة ، فكلّ واحد إذا دعا بهذا فإنّما يعني أن يجعله الله ممَّن يرى مصداق وعد الله تعالى خشية أن يفوتهم.
وهذا كقول خبّاب بن الأرتّ : هاجرنا مع النبي نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمِنَّا مَن أيْنَعَتْ له ثمرته فهو يهدبُها ، ومنَّا من مات لم يأكُل من أجره شيئاً ، منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحُد ، فلم نجد له ما نكفّنه إلاّ بُردة" إلخ.
وقد ابتدأوا دعاءهم وخلّلوه بندائه تعالى : خمس مرات إظهار للحاجة إلى إقبال الله عليهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 312}. بتصرف.
فصل
قال الفخر :
الآية دلت على أنهم إنما طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق لأنهم قالوا : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، وفي آخر الكلام قالوا : {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} وهذا يدل على أن المقتضي لحصول منافع الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 120}
سؤال وجوابه
قال الفخر :
ههنا سؤال آخر : وهو أنه متى حصل الثواب كان اندفاع العقاب لازما لا محالة ، فقوله : {آتَِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} طلب للثواب ، فبعد طلب الثواب كيف طلب ترك العقاب ؟ وهو قوله : {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} بل لو طلب ترك العقاب أولا ثم طلب إيصال الثواب كان الكلام مستقيما.
والجواب من وجهين :
الأول : أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور فقوله : {أَتَِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} المراد منه المنافع ، وقوله : {وَلاَ تُخْزِنَا} المراد منه التعظيم ،(19/147)
الثاني : أنا قد بينا أن المقصود من هذه الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن المعصية ، وعلى هذا التقدير يحسن النظم كأنه قيل : وفقتنا للطاعات ، وإذا وفقنا لها فاعصمنا عما يبطلها ويزيلها ويوقعنا في الخزي والهلاك ، والحاصل كأنه قيل : وفقنا لطاعتك فإنا لا نقدر على شيء من الطاعات إلا بتوفيقك ، وإذا وفقت لفعلها فوفقنا لاستبقائها فإنا لا نقدر على استبقائها واستدامتها إلا بتوفيقك ، وهو إشارة إلى أن العبد لا يمكنه عمل من الأعمال ، ولا فعل من الأفعال ، ولا لمحة ولا حركة إلا بإعانة الله وتوفيقه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 120 ـ 121}
قوله : {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة}
قال الفخر :
قوله : {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} شبيه بقوله : {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [ الزمر : 47 ] فإنه ربما ظن الإنسان أنه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح ، ثم إنه يوم القيامة يظهر له أن اعتقاده كان ضلالا وعمله كان ذنبا ، فهناك تحصل الخجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد ، ثم قال حكماء الإسلام : وذلك هو العذاب الروحاني.
قالوا : وهذا العذاب أشد من العذاب الجسماني ، ومما يدل على هذا أنه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين أنهم طلبوا في هذا الدعاء أشياء فأول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسماني وهو قوله : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [ آل عمران : 191 ] وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحاني وهو قوله : {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} وذلك يدل على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 121}
قوله تعالى { إنك لا تخلف الميعاد }
قال أبو حيان :
{ إنك لا تخلف الميعاد } ظاهره أنه تعليل لقوله : { وآتنا ما وعدتنا }.(19/148)
وقال ابن عطية : إشارة إلى قوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } فهذا وعده تعالى ، وهو دال على أنّ الخزي إنما هو مع الخلود انتهى.
وانظر إلى حسن محاورة هؤلاء الذاكرين المتفكرين ، فإنهم خاطبوا الله تعالى بلفظة ربنا ، وهي إشارة إلى أنه ربهم أصلحهم وهيأهم للعباد ، فأخبروا أولاً بنتيجة الفكر وهو قولهم : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } ثم سألوه أن يقيهم النار بعد تنزيهه عن النقائص.
وأخبروا عن حال من يدخل النار وهم الظالمون الذين لا يذكرون الله ، ولا يتفكرون في مصنوعاته.
ثم ذكروا أيضاً ما أنتج لهم الفكر من إجابة الداعي إلى الإيمان ، إذ ذاك مترتب على أنه تعالى ما خلق هذا الخلق العجيب باطلاً.
ثم سألوا غفران ذنوبهم ووفاتهم على الإيمان الذي أخبروا به في قولهم : فآمنا.
ثم سألوا الله الجنة وأنْ لا يفضحهم يوم القيامة ، وذلك هو غاية ما سألوه.
وتكرر لفظ ربنا خمس مرات ، كلّ ذلك على سبيل الاستعطاف وتطلب رحمة الله تعالى بندائه بهذا الاسم الشريف الدال على التربية والملك والإصلاح.
وكذلك تكرر هذا الاسم في قصة آدم ونوح وغيرهما.
وفي تكرار ربنا ربنا دلالة على جواز الإلحاح في المسألة ، واعتماد كثرة الطلب من الله تعالى.
وفي الحديث : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " وقال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم.
وهذه مسألة أجمع عليها علماء الأمصار. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 149 ـ 150}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } في هذا الجارّ ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلق بـ " وعدتنا ".(19/149)
قال الزمخشريُّ : " على - هذه - صلة للوعد ، كما في قولك : وعد الله الْجَنَّةَ على الطَّاعَةِ ، والمعنى : ما وعدتنا مُنَزَّلاً على رسلك ، أو محمولاً على رسلك ؛ لأنَّ الرُّسُلَ مُحَمَّلون ذلك قال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } [ النور : 54 ].
وردَّ عليه أبو حيّان : بأنَّ الذي قدَّره محذوفاً كون مقيّد ، وقد عُلِم من القواعد أنَّ الظرفَ والجارَّ إذا وقعَا حالَيْن ، أو وَصْفَيْن ، أو خَبَرَيْن ، أو صِلَتَيْن تعلُّقاً بكون مطلق ، والجار - هنا - وقع حالاً ، فكيف يقدر متعلقه كوناً مقيَّداً ، وهو منزَّل ، أو محمول ؟
ثالثها : - ذكره أبو البقاء - أن يتعلق " على " بـ " آتِنَا " وقدر مضافاً ، فقال : على ألْسِنة رسُلك وهو حسن. وقرأ الأعمشُ : على رُسُلِكَ - بسكون السّينِ.
قوله : { يَوْمَ القيامة } فيه وجهان :
الأول : أنه منصوب بـ { وَلاَ تُخْزِنَ }.
والثَّاني : أنه أجاز أبو حيَّان أن يكونَ من باب الإعمالِ ؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً بـ { وَلاَ تُخْزِنَ } وب { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } إذا كان الموعود به الجنة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 122 ـ 123}. بتصرف يسير.
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ رَبَّنَا وَءاتِنَا } أي بعد التوفي { مَا وَعَدتَّنَا } أي به أو إياه ، والمراد بذلك الثواب { على رُسُلِكَ } إما متعلق بالوعد ، أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف وعلى التقديرين في الكلام مضاف محذوف والتقدير على التقدير الأول ، وعدتنا على تصديق أو امتثال رسلك وهو كما يقال وعد الله تعالى الجنة على الطاعة ، وعلى الثاني وعدتنا وعداً كائناً على ألسنة رسلك ، ويجوز أن يتعلق الجار على تقدير الألسنة بالوعد أيضاً فتخف مؤنة الحذف وتعلقه بآتنا كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر.(19/150)
وبعض المحققين جوز التعلق بكون مقيد هو حال من ( ما ) أي منزلا أو محمولاً { على رُسُلِكَ }.
واعترضه أبو حيان بأن القاعدة أن متعلق الظرف إذا كان كوناً مقيداً لا يجوز حذفه وإنما يحذف إذا كان كوناً مطلقاً ، وأيضاً الظرف هنا حال وهو إذا وقع حالاً أو خبراً أو صفة يتعلق بكون مطلق لا مقيد ، وأجيب بمنع انحصار التعلق في كون مطلق بل يجوز التعلق به أو بمقيد ، ويجوز حذفه إذا كان عليه دليل ولا يخفى متانة الجواب ، وأن إنكار أبي حيان ليس بشيء إلا أن تقدير كون مقيد فيما نحن فيه تعسف مستغنى عنه.
وزعم بعضهم جواز كون { على } بمعنى مع ، وأنه متعلق بآتنا ولا حذف لشيء أصلاً ، والمراد آتنا مع رسلك وشاركهم معنا في أجرنا فإن الدال على الخير كفاعله ، وفائدة طلب تشريكهم معهم أداء حقهم وتكثير فضيلهم ببركة مشاركتهم ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه ، بل ولا كلام أحد من فصحاء العرب ، وتكرير النداء لما مرّ غير مرة وجمع الرسل مع أن المنادى هو واحد الآحاد صلى الله عليه وسلم وحده لما أن دعوته لا سيما على منبر التوحيد ، وما أجمع عليه الكل من الشرائع منطوية على دعوة الكل فتصديقه صلى الله عليه وسلم تصديق لهم عليهم السلام ، وكذا الموعود على لسانه عليه الصلاة والسلام من الثواب موعود على لسانهم وإيثار الجمع على الأول لإظهار الرغبة في تيار فضل الله تعالى إذ من المعلوم أن الثواب على تصديق رسل أعظم من الثواب على تصديق رسول واحد ، وعلى الثاني لإظهار كمال الثقة بإنجاز الموعود بناءاً على كثرة الشهود وتأخير هذا الدعاء بناءاً على ما ذكرنا في تفسير الموصول ، ويكاد يكون مقطوعاً به ظاهر لأن الأمر أخروي.(19/151)
وأما إذا فسر بالنصر على الأعداء كما قيل فتأخيره عما قبله إما لأنه من باب التحلية والآخر من باب التخلية والتحلية متأخرة عن التخلية ، وإما لأن الأول مما يترتب على تحققه النجاة في العقبى وعلى عدمه الهلاك فيها ، والثاني ليس كذلك كما لا يخفى فيكون دونه فلهذا أخر عنه ، وأيد كون المراد النصر لا الثواب الأخروي تعقيب ذلك بقوله تعالى : (19/152)
{ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } لأن طلب الثواب يغني عن هذا الدعاء لأن الثواب متى حصل كان الخزي عنهم بمراحل ، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من الأول الدعاء بالنصر في الدنيا فإن عدم الإغناء عليه ظاهر بل في الجمع بين الدعاءين حينئذ لطافة إذ مآل الأول لا تخزنا في الدنيا بغلبة العدو علينا فكأنهم قالوا : لا تخزنا في الدنيا ولا تخزنا في الآخرة ، وغايروا في التعبير فعبروا في طلب كل من الأمرين بعبارة للاختلاف بين المطلوبين أنفسهما ، وأجيب بأن فائدة التعقيب على ذلك التقدير الإشارة إلى أنهم طلبوا ثواباً كاملاً لم يتقدمه خزي ووقوع في بلاء وكأنهم لما طلبوا ما هو المتمنى الأعظم وغاية ما يرجوه الراجون في ذلك اليوم الأيْوَم ، وهو الثواب التفتوا إلى طلب ما يعظم به أمره ويرتفع به في ذلك الموقف قدره وهو ترك العذاب بالمرة ، وفي الجمع بين الأمرين على هذا من اللطف ما لا يخفى وأيضاً يحتمل أن يقال : إنهم طلبوا الثواب أولاً باعتبار أنه يندفع به العذاب الجسماني ، ثم طلبوا دفع العذاب الروحاني بناءاً على أن الخزي الإهانة والتخجيل ، فيكون في الكلام ترق من الأدنى إلى الأعلى كأنهم قالوا : ربنا ادفع عنا العذاب الجسماني وادفع عنا ما هو أشدّ منه وهو العذاب الروحاني ، وإن أنت أبيت هذا وذاك وادعيت التلازم بين الثواب وترك الخزي فلنا أن نقول : إن القوم لمزيد حرصهم وفرط رغبتهم في النجاة في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال وتشيب فيه الأطفال لم يكتفوا بأحد الدعائين وإن استلزم الآخر بل جمعوا بينهما ليكون ذلك من الإلحاح والله تعالى يحب الملحين في الدعاء فهو أقرب إلى الإجابة ، وقدموا الأول لأنه أوفق بما قبله صيغة ومن الناس من يؤل هذا الدعاء بأنه طلب العصمة عما يقتضي الإخزاء ، وجعل ختم الأدعية ليكون ختامها مسكاً لأن
المطلوب فيه أمر عظيم ، والظرف متعلق بما عنده معنى ولفظاً ويجب ذلك قطعاً إن كان الكلام مؤلاً ، أو كان الموصول عبارة عن النصر ، ويترجح بل يكاد يجب أيضاً إذا كان الموصول عبارة عن الثواب واحتمال أنه مما تنازع فيه آتنا ولا تخزنا على ذلك التقدير هو كما ترى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 165 ـ 166}(19/153)
قوله تعالى { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تسبب عن هذا الدعاء الإجابة لتكمل شروطه وهي استحضار عظمته تعالى بعد معرفته بالدليل وإدامة ذكره والتفكر في بدائع صنعه وافتتاحه بالثناء عليه سبحانه وتنزيهه والإخلاص في سؤاله قال : {فاستجاب} أي فأوجد الإجابة حتماً {لهم} قال الأصفهاني : وعن جعفر الصادق : من حزبه أمر فقال خمس مرات " ربنا " أنجاه الله مما يخاف ، وأعطاه ما أراد - وقرأ هذه الآية.(19/154)
وأشار إلى أنها من منّه وفضله بقوله : {ربهم} أي المحسن إليهم المتفضل عليهم {إني لا أضيع عمل عامل منكم} كائناً من كان {من ذكر أو أنثى} وقوله معللاً : {بعضكم من بعض} التفات إلى قوله سبحانه {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} [ آل عمران : 59 ] الناظر إلى قوله {ذرية بعضها من بعض} [ آل عمران : 34 ] المفتتح بأن الله سبحانه وتعالى {اصطفى آدم ونوحاً} [ آل عمران : 33 ] المنادي بأن البشر كلهم في العبودية للواحد - الذي ليس كمثله شيء الحي القيوم - سواء من غير تفاوت في ذلك أصلاً ، والمراد أنهم إذا كانوا مثلهم في النسب فهم مثلهم في الأجر على العمل.
ولما أقر أعينهم بألإجابة ، وكان قد تقدم ذكر الأنصار عموماً في قوله : {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم - وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} [ آل عمران : 170-171 ] خص المهاجرين بياناً لفضلهم وزيادة شرفهم بتحقيقهم لكونهم معه ، لم يأنسوا بغيره ولم يركنوا لسواه من أهل ولا مال بقوله مسبباً عن الوعد المذكور ومفصلاً ومعظماً ومبجلاً : {فالذين هاجروا} أي صدقوا إيمانهم بمفارقة أحب الناس غليهم في الدين المؤدي إلى المقاطعة وأعز البلاد عليهم.
ولما كان للوطن من القلب منزل ليس لغيره نبه عليه بقوله : {وأخرجوا من ديارهم} أي وهي آثر المواطن عندهم بعد أن باعدوا أهلهم وهم أقرب الخلائق إليهم ، ولما كان الأذى مكروهاً لنفسه لا بالنسبة إلى معين بنى للمفعول قوله : {وأوذوا} أي بغير ذلك من أنواع الأذى {في سبيلي} أي بسبب ديني الذي نهجته ليسلك إليّ فيه ، وحكمت أنه لا وصول إلى رضائي بدونه {وقاتلوا} أي في سبيلي.(19/155)
ولما كان القتل نفسه هو المكروه ، لا بالنسبة إلى معين ؛ كان المدح على اقتحام موجباته ، فبنى للمفعول قوله : {وقتلوا} أي فيه فخرجوا بذلك عن مساكن أرواحهم بعد النزوح عن منازل أشباحهم ، وقراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول أبلغ معنى ، لأنها أشد ترغيباً في الإقدام على الأخصام ، لأن من استقتل أقدم على الغمرات إقدام الأسد فقتل أخص منه ولم يقف أحد أمامه ، فكأنه قيل : وأرادوا القتل ، هذا بالنظر إلى الإنسان نفسه ، ويجوز أن يكون الخطاب للمجموع فيكون المعنى : وقاتلوا بعد أن رأوا كثيراً من أصحابهم قد قتل {لأكفرن عنهم سيئاتهم} كما تقدم سؤالهم إياي في ذلك علماً منهم بأن أحداً لن يقدر على أن يقدر الله حق قدره وإن اجتهد {ولأدخلنهم} أي بفضلي {جنات تجري من تحتها الأنهار} كما سبق به الوعد {ثواباً} وهو وإن كان على أعمالهم فهو فضل منه ، وعظمه بقوله : {من عند الله} أي المنعوت بالأسماء الحسنى التي منها الكرم والرحمة لأن أعمالهم لا توازي أقل نعمه {والله} أي الذي له الجلال والإكرام ، ونبه على عظمة المحدث عنه بالعندية فقال : {عنده} أي في خزائن ملكوته التي هي في غاية العظمة {حسن الثواب} أي وهو ما لا شائبة كدر فيه ، لأنه شامل القدرة بخلاف غيره. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 199 ـ 200}
فصل
قال الفخر :(19/156)
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عرفوا الله بالدليل وهو قوله : {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض} [ آل عمران : 190 ] إلى قوله : {لأيات لأُوْلِى الألباب} [ آل عمران : 190 ] ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله : {الذين يَذْكُرُونَ الله قياما} وعلى التفكر وهو قوله : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض} ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على الله تعالى وهو قولهم : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا سبحانك} [ آل عمران : 191 ] ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء وهو من قولهم : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [ آل عمران : 191 ] إلى قوله : {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} [ آل عمران : 194 ] بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال : {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 121}
فصل
قال الآلوسى :
{ فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } الاستجابة الإجابة ، ونقل عن الفراء أن الإجابة تطلق على الجواب ولو بالرد ، والاستجابة الجواب بحصول المراد لأن زيادة السين تدل عليه إذ هو لطلب الجواب ، والمطلوب ما يوافق المراد لا ما يخالفه وتتعدى باللام وهو الشائع ، وقد تتعدى بنفسها كما في قوله :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا...
فلم يستجبه عند ذاك مجيب(19/157)
وهذا كما قال الشهاب وغيره : في التعدية إلى الداعي وأما إلى الدعاء فشائع بدون اللام مثل استجاب الله تعالى دعاءه ، ولهذا قيل : إن هذا البيت على حذف مضاف أي لم يستجب دعاءه ، والفاء للعطف وما بعده معطوف إما على الاستئناف المقدر في قوله سبحانه : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا } [ آل عمران : 191 ] ولا ضير في اختلافهما صيغة لما أن صيغة المستقبل هناك للدلالة على الاستمرار المناسب لمقام الدعاء ، وصيغة الماضي هنا للإيذان بتحقيق الاستجابة وتقررها ، ويجوز أن يكون معطوفاً على مقدر ينساق إليه الذهن أي دعوا بهذه الأدعية فاستجاب لهم الخ ، وإن قدر ذلك القول المقدر حالا فهو عطف على { يَتَفَكَّرُونَ } [ آل عمران : 191 ] باعتبار مقارنته لما وقع حالاً من فاعله أعني قوله سبحانه : { رَبَّنَا } [ آل عمران : 194 ] الخ ، فإن الاستجابة مترتبة على دعواتهم لا على مجرد تفكرهم ، وحيث كانت من أوصافهم الجميلة المترتبة على أعمالهم بالآخرة استحقت الانتظام في سلك محاسنهم المعدودة في أثناء مدحهم وأما على كون الموصول نعتاً لأولي الألباب فلا مساغ لهذا العطف لما عرفت سابقاً.
وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام.
والمشهور العطف على المنساق إلى الذهن وهو المنساق إليه الذهن ، وذكر الرب هنا مضافاً ما لا يخفى من اللطف.
وأخرج الترمذي والحاكم وخلق كثير عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله لا أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى : { فاستجاب لَهُمْ } إلى آخر الآية ، فقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا.
ولعل المراد أنها نزلت تتمة لما قبلها.
وأخرج ابن مردويه عنها أنها قالت : آخر آية نزلت هذه الآية : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ }. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 167 ـ 168}
فائدة
قال الخطيب الشربينى :
{فاستجاب لهم ربهم}
دعاءهم وهو أخص من أجاب؛ لأنه يفيد حصول جميع المطلوب لكثرة مبانيه؛ لأنّ كثرة المباني تدل على كثرة المعاني ويتعدّى بنفسه وباللام. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 431}(19/158)
فائدة
قال الفخر :
في الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور ، فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا ، لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 121}
فائدة
قال الفخر :
أني لا أضيع : قرىء بالفتح ، والتقدير : بأني لا أضيع ، وبالكسر على إرادة القول ، وقرىء {لاَ أُضِيعُ} بالتشديد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 122}
قال الآلوسى :
{ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } أي بأني ، وهكذا قرأ أبيّ ، واختلف في تخريجه فخرجه العلامة شيخ الإسلام على أن الباء للسببية كأنه قيل : فاستجاب لهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم أي سنته السنية مستمرة على ذلك وجعل التكلم في { إِنّى } والخطاب في { مّنكُمْ } من باب الالتفات ، والنكتة الخاصة فيه إظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين بشرف الخطاب والتعرض لبيان السبب لتأكيد الاستجابة ، والإشعار بأن مدارها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجرد الدعاء.(19/159)
وقال بعض المحققين : إنها صلة لمحذوف وقع حالاً إما من فاعل استجاب أو من الضمير المجرور في { لَهُمْ } والتقدير مخاطباً لهم بأني ، أو مخاطبين بأني الخ ، وقيل : إنها متعلقة باستجاب لأن فيها معنى القول وهو مذهب الكوفيين ويؤيد القولين أنه قرىء { إِنّى } بكسر الهمزة وفيها يتعين إرادة القول وموقعه الحال أي قائلاً إني أو مقولاً لهم إني الخ ، وتوافق القراءتين خير من تخالفهما ، وهذا التوافق ظاهر على ما ذهب إليه البعض وصاحب القيل وإن اختلف فيهما شدة وضعفاً ، وأما على ما ذكره العلامة فالظهور لا يكاد يظهر على أنه في نفسه غير ظاهر كما لا يخفى ، وقرىء { لاَ أُضِيعُ } بالتشديد ، وفي التعرض لوعد العاملين على العموم مع الرمز إلى وعيد المعرضين غاية اللطف بحال هؤلاء الداعين لا سيما وقد عبر هناك عن ترك الإثابة بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقة إذ الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها ولكن عبر بذلك تأكيداً لأمر الإثابة حتى كأنها واجبة عليه تعالى كذا قيل والمشهور أن الإضاعة في الأصل الإهلاك ومثلها التضييع ويقال : ضاع يضيع ضيعة وضياعاً بالفتح إذا هلك ، واستعملت هنا بمعنى الإبطال أي لا أبطل عمل عامل كائن منكم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 168}(19/160)
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل ، لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى ، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل ، والاضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله : {لاَ أُضِيعُ} نفي للنفي فيكون اثباتا ، فيصير المعنى : اني أوصل ثواب جميع أعمالهم إليكم ، إذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا ، والدليل عليه أنه بايمانه استحق ثوابا ، وبمعصيته استحق عقابا ، فلا بد من وصولهما إليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال ، فإما أن يقدم الثواب ثم ينقله إلى العقاب وهو باطل بالإجماع ، أو يقدم العقاب ثم ينقله إلى الثواب وهو المطلوب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 122}
فصل
قال الفخر :
جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الأعمال إليهم.
فإن قيل : القوم أولا طلبوا غفران الذنوب ، وثانيا إعطاء الثواب فقوله : {أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} إجابة لهم في إعطاء الثواب ، فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب ؟
قلنا : إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب ، لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله : {أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} اجابة لدعائهم في المطلوبين.
وعندي في الآية وجه آخر : وهو أن المراد من قوله : {أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} أني لا أضيع دعاءكم ، وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء ، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 122}
قوله تعالى : {مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى}
قال الفخر :(19/161)
المعنى : أنه لا تفاوت في الإجابة وفي الثواب بين الذكر والأنثى إذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية ، وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالأعمال ، لا بسائر صفات العاملين ، لأن كون بعضهم ذكرا أو أنثى ، أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب ، ومثله قوله تعالى : {لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} [ النساء : 123 ] وروي أن أم سلمة قالت : يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 122}
قوله تعالى : {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ}
ففيه وجوه : أحسنها أن يقال : {مِنْ} بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض ، ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
قال القفال : هذا من قولهم : فلان مني أي على خلقي وسيرتي ، قال تعالى : {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} [ البقرة : 249 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " من غشنا فليس منا " وقال : " ليس منا من حمل علينا السلاح " فقوله : {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه ؟ . أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 122}
قوله تعالى : {فالذين هاجروا وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وقاتلوا وَقُتِلُواْ}
قال الفخر :
(19/162)
والمراد من قوله : {فالذين هاجروا} الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد من الذين أُخرجوا من ديارهم الذين ألجأهم الكفار إلى الخروج ، ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لأنهم اختاروا خدمة الرسول عليه السلام وملازمته على الاختيار ، فكانوا أفضل وقوله : {وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى} أي من أجله وسببه {وقاتلوا وَقُتِلُواْ} لأن المقاتلة تكون قبل القتال ، قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو {وَقَاتِلُواْ} بالألف أولا {وَقُتّلُواْ} مخففة ، والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا ، وقرأ ابن كثير وابن عامر {وَقَاتِلُواْ} أولا {وَقُتّلُواْ} مشددة قيل : التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله : {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} [ ص : 50 ] وقيل : قطعوا عن الحسن ، وقرأ حمزة والكسائي {وَقُتّلُواْ} بغير ألف أولا {وَقَاتِلُواْ} بالألف بعده وفيه وجوه :
الأول : أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله : {واسجدى واركعى} [ آل عمران : 43 ] والثاني : على قولهم : قتلنا ورب الكعبة ، إذا ظهرت أمارات القتل ، أو إذا قتل قومه وعشائره.
والثالث : بإضمار "قد" أي قتلوا وقد قاتلوا.
(19/163)
ثم إن الله تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة : أولها : محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله : {لأُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم} وذلك هو الذي طلبوه بقولهم : {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا} [ آل عمران : 193 ] وثانيها إعطاء الثواب العظيم وهو قوله : {وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وهو الذي طلبوه بقولهم : وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، وثالثها : أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والاجلال وهو قوله : {مِنْ عِندِ الله} وهو الذي قالوه : {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} لأنه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته ، وإذا قال السلطان العظيم لعبده : إني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله : {ثَوَاباً} مصدر مؤكد ، والتقدير : لأثيبنهم ثوابا من عند الله ، أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند الله ، لأن قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم.
ثم قال : {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات ، عالما بكل المعلومات ، غنياً عن الحاجات ، كان لا محالة في غاية الكرم والجود والاحسان ، فكان عنده حسن الثواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 123}
وقال الآلوسى :
وقوله تعالى : { فالذين هاجروا } ضرب تفصيل لما أجمل في العمل وتعداد لبعض أحاسن أفراده مع المدح والتعظيم.(19/164)
وأصل المهاجرة من الهجرة وهو الترك وأكثر ما تستعمل في المهاجرة من أرض إلى أرض أي ترك الأولى للثانية مطلقاً أو للدين على ما هو الشائع في استعمال الشرع ، والمتبادر في الآية هو هذا المعنى وعليه يكون قوله تعالى : { وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم } عطف تفسير مع الإشارة إلى أن تلك المهاجرة كانت عن قسر واضطرار لأن المشركين آذوهم وظلموهم حتى اضطروا إلى الخروج ، ويحتمل أن يكون المراد هاجروا الشرك وتركوه وحينئذٍ يكون { وَأُخْرِجُواْ } الخ تأسيساً { وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى } أي بسبب طاعتي وعبادتي وديني وذلك سبيل الله تعالى ، والمراد من الإيذاء ما هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار ، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من قبل المشركين { وَقُتّلُواْ } أي الكفار في سبيل الله تعالى { وَقُتّلُواْ } استشهدوا في القتال.(19/165)
وقرأ حمزة والكسائي بالعكس ، ولا إشكال فيها لأن الواو لا توجب ترتيباً ، وقدم القتل لفضله بالشهادة هذا إذا كان القتل والمقاتلة من شخص واحد ، أما إذا كان المراد قتل بعض وقاتل بعض آخر ولم يضعفوا بقتل إخوانهم فاعتبار الترتيب فيها أيضاً لا يضر ، وصحح هذه الإرادة أن المعنى ليس على اتصاف كل فرد من أفراد الموصول المذكور بكل واحد مما ذكر في حيز الصلة بل على اتصاف الكل بالكل في الجملة سواء كان ذلك باتصاف كل فرد من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورة أو باثنين منها ، أو بأكثر فحينئذٍ يتأتى ما ذكر إما بطريق التوزيع أي منهم الذين قتلوا ومنهم الذين قاتلوا ، أو بطريق حذف بعض الموصولات من البين كما هو رأي الكوفيين أي والذين قتلوا والذين قاتلوا ، ويؤيد كون المعنى على اتصاف الكل بالكل في الجملة أنه لو كان المعنى على اتصاف كل فرد بالكل لكان قد أضيع عمل من اتصف بالبعض مع أن الأمر ليس كذلك ، والقول بأن المراد قتلوا وقد قاتلوا فقد مضمرة ، والجملة حالية مما لا ينبغي أن يخرّج عليه الكلام الجليل.
وقرأ ابن كثير وابن عامر { قاتلوا } بالتشديد للتكثير.
{ لأكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم } جواب قسم محذوف أي والله لأكفرن ، والجملة القسمية خبر للمبتدأ الذي هو الموصول.
وزعم ثعلب أن الجملة لا تقع خبراً ووجهه أن الخبر له محل وجواب القسم لا محل له وهو الثاني فإما أن يقال : إن له محلاً من جهة الخبرية ولا محل له من جهة الجوابية.
أو الذي لا محل له الجواب والخبر مجموع القسم وجوابه.(19/166)
ولا يضر كون الجملة إنشائية لتأويلها بالخبر ، أو بتقدير قول كما هو معروف في أمثاله والتكفير في الأصل الستر كما أشرنا إليه فيما مر ولاقتضائه بقاء الشيء المستور وهو ليس بمراد فسره هنا بعض المحققين بالمحو ، والمراد من محو السيئات محو آثارها من القلب ، أو من ديوان الحفظة وإثبات الطاعة مكانها كما قال سبحانه : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } [ الفرقان : 70 ] والمراد من السيئات فيما نحن فيه الصغائر لأنها التي تكفر بالقربات كما نقله ابن عبد البر عن العلماء لكن بشرط اجتناب الكبائر كما حكاه ابن عطية عن جمهور أهل السنة ، واستدلوا على ذلك بما في "الصحيحين" من قوله صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر ".(19/167)
{ ولأدخلنهم جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } إشارة إلى ما عبر عنه الداعون فيما قبل بقولهم { وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا علىرسلك } [ آل عمران : 194 ] على أحد القولين ، أو رمز إلى ما سألوه بقولهم { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 194 ] على القول الآخر { ثَوَاباً } مصدر مؤكد لما قبله لأن معنى الجملة لأثيبنهم بذلك فوضع ثواباً موضع الإثابة وإن كان في الأصل اسماً لما يثاب به كالعطاء لما يعطى ، وقيل : إنه تمييز أو حال من جنات لوصفها ، أو من ضمير المفعول أي مثاباً بها أو مثابين ، وقيل : إنه بدل من جنات ، وقال الكسائي : إنه منصوب على القطع ، وقوله تعالى : { مِنْ عِندِ الله } صفة لثواباً وهو وصف مؤكد لأن الثواب لا يكون إلا من عنده تعالى لكنه صرح به تعظيماً للثواب وتفخيماً لشأنه ، ولا يرد أن المصدر إذا وصف كيف يكون مؤكداً ، لما تقرر في موضعه أن الوصف المؤكد لا ينافي كون المصدر مؤكداً.
وقيل : إنه متعلق بثواباً باعتبار تأويله باسم المفعول.(19/168)
وقوله سبحانه : { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، والاسم الجليل مبتدأ خبره { عِندَهُ } و{ حُسْنُ الثواب } مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ ، أو هو مبتدأ ثان والظرف خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول ، والكلام مخرّج مخرج قول الرجل : عندي ما تريد يريد اختصاصه به وتملكه له ، وإن لم يكن عنده فليس معنى عنده حسن الثواب أن الثواب بحضرته وبالقرب منه على ما هو حقيقة لفظ عنده ، بل مثل هناك كونه بقدرته وفضله بحيث لا يقدر عليه غيره بحال الشيء يكون بحضرة أحد لا يدعيه لغيره ، والاختصاص مستفاد من هذا التمثيل حتى لو لم يجعل { حُسْنُ الثواب } مبتدأ مؤخراً كان الاختصاص بحاله ، وقد أفادت الآية مزيد فضل المهاجرين ورفعة شأنهم.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ثلاثة يدخلون الجنة الفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة فتأتى بزخرفتها وزينتها فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي أدخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك ما هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول : هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب " { سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } [ الرعد : 42 ]. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 168 ـ 171}. بتصرف يسير.(19/169)
وقال أبو حيان :
{ فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي } لما ذكر تعالى أنه لا يضيع عمل عاملٍ ، ذكرَ مَنْ عمل الأعمال السنية التي يستحق بها أن لا يضيع عمله ، وأن لا يترك جزاؤه.
فذكر أولاً الهجرة وهي : الخروج من الوطن الذي لا يمكن إقامة دينه فيه إلى المكان الذي يمكن ذلك فيه ، وهذا من أصعب شيء على الإنسان ، إذ هو مفارقة المكان الذي ربا فيه ونشأ مع أهله وعلى طريقتهم ، ولولا نوازع الغوى المربى على وازع النشأة ما أمكنه ذلك.
ألا ترى لقول الشاعر هما لابن الرومي :
وحبب أوطان الرجال إليهم . . .
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم . . .
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وقال ابن الصفي رفاعة بن عاصم الفقعسي :
أحب بلاد الله ما بين منعج . . .
إليّ وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي . . .
وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
بها طال تجراري ردائي حقبة . . .
وزينت ريّا الحجل درم كعابها
واسم الهجرة وفضلها الخاص قد انقطع بعد الفتح ، ولكنّ المعنى باق إلى يوم القيامة.
وقد تقدّم معنى المفاعلة في هاجر ، ثم ذكر الإخراج من الديار وهو : أنهم ألجئوا واضطروا إلى ذلك ، وفيه إلزام الذنب للكفار.
والمعنى : أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء عشرة الكفار وقبيح أفعالهم معهم ، كما قال تعالى : { وإخراج أهله منه أكبر عند الله } وإذا كان الخروج برأي الإنسان وقوة منه على الأعداء جاء الكلام بنسبة الخروج إليه ، فقيل : خرج فلان ، قال معناه : ابن عطية.
قال : فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده.
وردني إلى الله من طردته كل مطرّد . . .
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : " أنت طرّدتني كل مطرد " إنكاراً عليه.
ومن ذلك قول كعب بن زهير :
في عصبة من قريش قال قائلهم . . .(19/170)
ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال انكاس ولا كشف . . .
عند اللقاء ولا ميل معازيل انتهى.
ثم ذكر الإذابة في سبيل الله ، والمعنى : في دين الله.
وبدأ أولاً بالخاص وهي الهجرة وكانت تطلق على الهجرة إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثنى بما ينشأ عنه ما هو أعم من الهجرة وهو الإخراج من الديار.
فقد يخرج إلى الهجرة إلى المدينة أو إلى غيرها كخروج من خرج إلى الحبشة ، وكخروج أبي جندل إذ لم يترك يقيم بالمدينة.
وأتى ثالثاً بذكر الإذاية وهي أعم من أن تكون بإخراج من الديار أو غير ذلك من أنواع الأذى ، وارتقى بعد هذه الأوصاف السنية إلى رتبة جهاد من أخرجه ومقاومته واستشهاده في دين الله ، فجمع بين رتب هذه الأعمال من تنقيص أحواله في الحياة لأجل دين الله بالمهاجرة ، وإخراجه من داره وإذايته في الله ، ومآله أخيراً إلى إفنائه بالقتل في سبيل الله.
والظاهر : الإخبار عن مَن جمع هذه الأوصاف كلها بالخبر الذي بعد ، ويجوز أن يكون ذلك من عطف الصلاة.
والمعنى : اختلاف الموصول لا اتحاده ، فكأنه قيل : فالذين هاجروا ، والذين أخرجوا والذين أوذوا ، والذين قاتلوا ، والذين قتلوا ، ويكون الخبر عن كل من هؤلاء.
وقرأ جمهور السبعة : وقاتلوا وقتلوا ، وقرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا يبدآن بالمبني للمفعول ، ثم بالمبني للفاعل ، فتتخرج هذه القراءة على أن الواو لا تدل على الترتيب ، فيكون الثاني وقع أولاً ويجوز أن يكون ذلك على التوزيع فالمعنى : قتل بعضهم وقاتل باقيهم.
وقرأ عمر بن عبد العزيز : وقتلوا وقتلوا بغير ألف ، وبدأ ببناء الأول للفاعل ، وبناء الثاني للمفعول ، وهي قراءة حسنة في المعنى ، مستوفية للحالين على الترتيب المتعارف.
وقرأ محارب بن دثار : وقتلوا بفتح القاف وقاتلوا.
(19/171)
وقرأ طلحة بن مصرف : وقتلوا وقاتلوا بضم قاف الأولى ، وتشديد التاء ، وهي في التخريج كالقراءة الأولى.
وقرأ أبو رجاء والحسن :
{ وقاتلوا وقتلوا } بتشديد التاء والبناء للمفعول ، أي قطعوا في المعركة.
{ لأكفرنّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار } لأكفرن : جواب قسم محذوف ، والقسم وما تلقى به خبر عن قوله : { فالذين هاجروا } وفي هذه الآية ونظيرها من قوله : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم } { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } وقول الشاعر :
جشأت فقلت اللذ خشيت ليأتين . . .
وإذا أتاك فلات حين مناص
رد على أحمد بن يحيى ثعلب إذ زعم أن الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ لا تكون قسمية.
{ ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب } انتصب ثواباً على المصدر المؤكد ، وإن كان الثواب هو المثاب به ، كما كان العطاء هو المعطى.
واستعمل في بعض المواضع بمعنى المصدر الذي هو الإعطاء ، فوضع ثواباً موضع إثابة ، أو موضع تثويباً ، لأنَّ ما قبله في معنى لأثيبنهم.
ونظيره صنع الله ووعد الله.
وجوّز أن يكون حالاً من جنات أي : مثاباً بها ، أو من ضمير المفعول في : { ولأدخلنهم } أي مثابين.
وأن يكون بدلاً من جنات على تضمين ، ولأدخلنهم معنى : ولأعطينهم.
وأن يكون مفعولاً بفعل محذوف يدل عليه المعنى أي : يعطيهم ثواباً.
وقيل : انتصب على التمييز.
وقال الكسائي : هو منصوب على القطع ، ولا يتوجه لي معنى هذين القولين هنا.
ومعنى : من عند الله ، أي من جهة فضل الله ، وهو مختص به ، لا يثيبه غيره ، ولا يقدر عليه.
كما تقول عندي ما تريد ، تريد اختصاصك به وتملكه ، وإن لم يكن بحضرتك.
وأعربوا عنده حسن الثواب مبتدأ ، وخبراً في موضع خبر المبتدأ الأول.
(19/172)
والأحسن أن يرتفع حسن على الفاعلية ، إذ قد اعتمد الظرف بوقوعه خبراً فالتقدير : والله مستقر ، أو استقرّ عنده حسن الثواب.
قال الزمخشريّ : وهذا تعليم من الله كيف يدعى ، وكيف يبتهل إليه ويتضرّع ، وتكرير ربنا من باب الابتهال ، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة من احتمال المشاق في دين الله والصبر على صعوبة تكاليفه ، وقطع لأطماع الكسالى المتمنين عليه ، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولاً إليه بالعمل بالجهل والغباوة انتهى.
وآخر كلامه إشارة إلى مذهب المعتزلة وطعن على أهل السنة والجماعة. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 151 ـ 153}
لطيفة
قال ابن كثير :
وقوله : { ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أضافه إليه ونسبه إليه لِيدل على أنه عظيم ؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جَزيلا كثيرًا ، كما قال الشاعر :
إن يُعَذب يَكُن غَرامًا وإن يُعْطِ جَزيلا فإنَّه لا يُبَالي... أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 191}
لطيفة
قال الفخر :
روي عن جعفر الصادق أنه قال : من حزبه أمر فقال خمس مرات : ربنا ، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد ، وقرأ هذه الآية ، قال : لأن الله حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات : ربنا ، ثم أخبر أنه استجاب لهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 123}(19/173)
فصل
قال الآلوسى
وقالت المعتزلة : إن الصغائر تقع مكفرة بمجرد اجتناب الكبائر ولا دخل للقربات في تكفيرها ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم } [ النساء : 31 ] ، وحمله الجمهور على معنى نكفر عنكم سيئاتكم بحسناتكم وأوردوا على المعتزلة أنه قد ورد صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة ونحو ذلك من الأخبار كثير ، فإذا كان مجرد اجتناب الكبائر مكفراً فما الحاجة لمقاسات هذا الصوم مثلاً ؟ وإنما لم تحمل السيئات على ما يعم الكبائر لأنها لا بد لها من التوبة ولا تكفرها القربات أصلاً في المشهور لإجماعهم على أن التوبة فرض على الخاصة والعامة لقوله تعالى : { وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون } [ النور : 31 ] ويلزم من تكفير الكبائر بغيرها بطلان فرضيتها وهو خلاف النص.
وقال ابن الصلاح في "فتاويه".
قد يكفر بعض القربات كالصلاة مثلاً بعض الكبائر إذا لم يكن صغيرة ، وصرح النووي بأن الطاعات لا تكفر الكبائر لكن قد تخففها ، وقال بعضهم : إن القربة تمحو الخطيئة سواء كانت كبيرة أو صغيرة ، واستدل عليه بقوله تعالى : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 144 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : " أتبع السيئات الحسنة تمحها " وفيه بحث إذ الحسنة في الآية والحديث بمعنى التوبة إن أخذت السيئة عامة.(19/174)
ولا يمكن على ذلك التقدير حملها على الظاهر لما أن السيئة حينئذٍ تشمل حقوق العباد ، والإجماع على أن الحسنات لا تذهبها وإنما تذهبها التوبة بشروطها المعتبرة المعلومة ، وأيضاً لو أخذ بعموم الحكم لترتب عليه الفساد من عدم خوف في المعاد على أن في سبب النزول ما يرشد إلى تخصيص كل من الحسنة والسيئة فقد روى الشيخان عن ابن مسعود "أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل : هذه له خاصة يا رسول الله ؟ فقال : بل للناس عامة" ووجه الإرشاد إما إلى تخصيص الحسنة بالتوبة فهو أنه جاءه تائباً وليس في الحديث ما يدل على أنه صدر منه حسنة أخرى ، وإما على تخصيص السيئة بالصغيرة فلأن ما وقع منه كان كذلك لأن تقبيل الأجنبية من الصغائر كما صرحوا به ، وقال بعض أهل السنة : إن الحسنة تكفر الصغيرة ما لم يصر عليها سواء فعل الكبيرة أم لا مع القول الأصح بأن التوبة من الصغيرة واجبة أيضاً ولو لم يأت بكبيرة لجواز تعذيب الله سبحانه بها خلافاً للمعتزلة ، وقيل : الواجب الإتيان بالتوبة أو بمكفرها من الحسنة وفي المسألة كلام طويل ولعل التوبة إن شاء الله تعالى تفضي إلى إتمامه ، هذا وربما يقال : إن حمل السيئات هنا على ما يعم الكبائر سائغ بناءاً على أن المهاجرة ترك الشرك وهو إنما يكون بالإسلام والإسلام يجبّ ما قبله ، وحينئذٍ يعتبر في السيئات شبه التوزيع بأن يؤخذ من أنواع مدلولها مع كل وصف ما يناسبه ويكون هذا تصريحاً بوعد ما سأله الداعون من غفران الذنوب وتكفير السيئات بالخصوص بعدما وعد ذلك بالعموم ، واعترض بأن هذا على ما فيه مبني على أن الإسلام يجبّ ما قبله مطلقاً وفيه خلاف ، فقد قال الزركشي : إن الإسلام المقارن للندم إنما يكفر(19/175)
وزر الكفر لا غير ، وأما غيره من المعاصي فلا يكفر إلا بتوبة عنه بخصوصه كما ذكره البيهقي ، واستدل عليه بقوله صلى الله عليه وسلم : " إن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بالأول ولا بالآخر وإن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر " ولو كان الإسلام يكفر سائر المعاصي لم يؤاخذ بها إذا أسلم ، وأجيب بأنه مع اعتبار ما ذكر من شبه التوزيع يهون أمر الخلاف كما لا يخفى على أرباب الإنصاف فتدبر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 169 ـ 170}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
{ فاستجاب } بمعنى : أجَابَ ويتعدى بنفسه وباللام ، وتقدم تحقيقه في قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي }.
ونقل تاج القراء أن " أجَابَ " عام ، و" اسْتَجَابَ " خاص في حصول المطلوب.
قال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وقال جعفر الصادق : من حزبه أمرٌ فقال خمس مرات " ربَنا " نجّاه مما يخاف ، وأعطاه ما أراد ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال اقرءوا : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً } [ آل عمران : 191 ] إلى قوله : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } [ آل عمران : 194 ].
قوله تعالى : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ } الجمهور على فتح " أن " والأصل : بأني ، فيجيء فيها المذهبان ، وقل أن يأتي على هذا الأصل ، وقرأ عيسى بن عمر بالكسر ، وفيها وجهان :
أحدهما : على إضمار القول أي : فقال : إني.
والثاني : أنه على الحكاية بـ " استجاب " ؛ لأن فيه معنى القول ، وهو رأي الكوفيين.
قوله : " لا أضيع " الجمهور على " أضيع " من أضاع ، وقرئ بالتشديد والتضعيف ، والهمزة فيه للنقل كقوله : [ الطويل ]
كمُرْضِعَةٍ أوْلاَدَ أخْرَى وَضَيَّعَتْ... بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلالُ عَنِ الْقَصْدِ
قوله : " منكم " في موضع جر صفة لـ : " عامل " ، أي : كائناً منكم.
قوله : " من ذكر وأنثى " فيه خمسة أوجهٍ :(19/176)
أحدها : أن " مِنْ " لبيان الجنسِ ، بيِّن جنس العامل ، والتقدير : الذي هو ذكرٌ أو أنثى ، وإن كان بعضهم قد اشترطَ في البيانيةِ أن تدخلَ على معرَّفٍ بلامِ الجنسِ.
ثانيها : أنَّهَا زائدةٌ ، لتقدم النفي في الكلام ، وعلى هذا فيكون { مِّن ذَكَرٍ } بدلاً من نفس " عَامِلٍ " ، كأنه قيل : عامل ذكر أو أنثى ، ولكنْ فيه نظرٌ ؛ من حيثُ إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه " من ".
ثالثها : أنها متعلقة بمحذوف ؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكن في " مِنْكُمْ " ؛ لأنه لما وقع صفة تحمَّل ضميراً ، والعامل في الحال العامل في " مِنْكُمْ " أي : عامل كائن منكم كائناً من ذكر.
رابعها : أن يكون " مِنْ ذكرٍ " بدلاً من " مِنْكُمْ " ؛ قال أبو البقاء : " وهو بدلُ الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة ".
يعني فيكون بدلاً تفصيليًّا بإعادة العامل ، كقوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] وقوله : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] وفيه إشكالٌ من وجهينِ :
الأول : أنه بدل ظاهر من حاضر في بدل كل من كل ، وهو لا يجوز إلا عند الأخفش ، وقيَّد بعضُهم جوازه بأن يفيد إحاطة ، كقوله : [ الطويل ]
فَمَا بَرِحَتْ أقْدامُنَا فِي مَكَانِنَا... ثَلاَثَتُنَا حَتَّى أرينَا الْمَنَائِيَا
وقوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } [ المائدة : 114 ] فلما أفاد الإحاطةَ والتأكيدَ جاز ، واستدل الأخْفَش بقول الشَّاعرِ : [ البسيط ]
بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ... وَأمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا
وقول الآخرِ : [ الطويل ]
وَشَوْهَاءَ تَعْدُو بِي إلَى صَارِخِ الْوَغَى... بِمُسْتَلئِمٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُدَجَّلِ(19/177)
ف " قريش " بدلٌ من " كم " و" بمستلئم " بدل من " بي " بإعادة حرف الجر ، وايس ثَمَّ إحاطة ولا تأكيد ، فمذهبه يتمشى على رأي الأخفشِ دون الجمهورِ.
الثاني : أن البدلَ التفصيليّ لا يكون بـ " أو " إنما يكون بالواو ؛ لأنها للجمع.
كقولِ الشّاعرِ : [ الطويل ]
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيِنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
ويُمكن أن يجابَ عنه بأن " أو " قد تأتي بمعنى الواو.
كما في قول الشّاعرِ : [ الكامل ]
قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَتَهُمْ... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سَافِعِ
ف " أو " بمعنى الواو ، لأن " بين " لا تدخل إلا على متعدد ، وكذلك هنا لما كان " عامل " عاماً أبْدِلَ منه على سبيل التوكيدِ ، وعطف على أحد الجزأين ما لا بد له منه ؛ لأنه لا يؤكَّد العموم إلا بعموم مثله.
خامسها : أن يكون { مِّن ذَكَرٍ } صفة ثانية لِـ " عامل " قصد بها التوضيح ، فيتعلق بمحذوف كالتي قبلها.
قوله : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
الأولُ : أنَّ هذه الجملةَ استئنافيةٌ ، جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجالِ في الثَّواب الذي وَعَدَ الله به عباده العاملين ؛ لأنه روي في سبب النزولِ ، أنَّ أمَّ سلمة رضي الله عنها قالت : يَا رَسُولَ اللهِ إني لأسْمَع الله يذكر الرِّجَالَ في الهجرة ، ولا يذكر النَِّسَاءَ ، فنزلت الآية.
والمعنى : كما أنكم من أصلٍ واحدٍ ، وأن بعضكم مأخوذٌ من بعضٍ ، كذلك أنتم في ثواب العملِ ، لا يُثابُ عامل دون امرأةٍ عاملةٍ. وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بأنها جملة معترضة ، قال : " وهذه جملةٌ معترضةٌ ثبت بها شركة النساءِ مع الرّجال فيما وعد اللهُ عباده العاملينَ ".
(19/178)
ويعني بالاعتراض أنها جيء بها بين قوله : { عَمَلَ عَامِلٍ } وبين ما فُصِّل به عملُ العاملِ من قوله : { فالذين هَاجَرُواْ } ولذا قال الزمخشريُّ : { فالذين هَاجَرُواْ } تفصيل لعمل العاملِ منهم على سبيل التعظيمِ لَهُ.
الثاني : أنَّ هذه الجملَة صِفَةٌ.
الثالث : أنَّها حالٌ ، ذكرهما أبو البقاءِ ، ولم يُعيِّن الموصوف ولا ذا الحال ، وفيه نظرٌ.
قال الكلبي : " بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ " في الدين والنصرة والموالاة.
وقيل : كلكم من آدم وحوَّاء ، وقال الضّحّاك : [ رجالكم ] شكب نسائكم ، ونساؤكم شكل رجالِكم في الطاعات ؛ لقوله : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ].
وقيل : " مِنْ " بمعنى اللامِ ، أي : بعضكم لبعض ومثل بعض في الثّواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
قال القفَّالُ : هذا من قولكم : فرن مني ، أي : عَلَى خلقي وسيرتي. قال تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } [ البقرة : 249 ] وقال عليه السَّلامُ : " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا " فقوله : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي : بعضكم شبه بعض في استحقاق الثوابِ على الطَّاعة والعقاب على المعصية.
قوله : { فالذين هَاجَرُواْ } مبتدأ ، وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ } جواب قسم محذوف ، تقديره : والله لأكَفِّرَنَّ ، وهذا القسم وجوابه خبر لهذا المبتدأ. وفي هذه الآية ونظائرها من قوله تعالى : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وقولِ الشاعر : [ الكامل ]
جَشَأتْ فَقُلْتُ اللَّذْ جَشَأتِ لَيَأتِيَنْ... وَإذَا أتَاكِ فَلاَتَ حِينَ مَنَاصِ
رَدٌّ على ثعلبٍ ؛ حيث زعم أن الجملةَ القسميةَ لا تقع خبراً ، وله أن يقول : هذه معمولة لقول مُضْمَر هو الخبرُ - وله نظائر.(19/179)
والظاهرُ أن هذه الجُمَل - التي بعد الموصولِ - كُلَّها صِلات له ، فلا يكون الخبرُ إلا لمن جمع بين هذه الصفاتِ : المهاجرة ، والقَتْل ، والقتال.
ويجوز أن يكون ذلك على التنويع ، ويكون قد حَذف الموصولات لفَهْم المعنى وهو مذهب الكوفيين كما تقدم ، والتقدير : فالذين هاجروا والذين أخْرِجوا ، والذين قاتلوا : فيكون الخبر بقوله : { لأُكَفِّرَنَّ } عمن اتصف بواحدةٍ من هذه. وقرأ جمهورُ السبعة : " وَقَاتَلُوا وَقُتِلوا " ببناء للفاعلِ من المفاعَلةِ ، والثاني للمفعول ، وهي قراءة واضحة. وابنُ عامرٍ ، وابن كثيرٍ كذلك ، إلا أنهما شدَّدَا التاء من " قُتلوا " للتكثير ، وحمزة والكسائي بعكس هذا ، ببناء الأولِ للمفعول ، والثاني للفاعلِ ، وتوجيه هذه القراءة بأحدِ معنيينِ :
الأول : أنّ الواو لا تقتضي الترتيب ، كقوله : { واسجدي واركعي } [ آل عمران : 43 ] فلذلك قدم معها ما هو متأخرٌ عنها في المعنى ، هذا إن حَمَلْنا ذلك على اتحاد الأشخاصِ الذِينَ صدر منهم هذانِ الفعلانِ.
(19/180)
الثاني : أن تحمل ذلك على التوزيع ، أي : منهم مَنْ قُتِلَ ، ومنهم مِنْ قاتل كقولهم : قُتِلْنا ورَبِّ الكعبة إذا ظهرت أماراتُ القتلِ فيهم وهذه الآيةُ في المعنى كقوله : { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [ آل عمران : 146 ] والخلافُ في هذه كالخلافِ في قوله : { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ التوبة : 111 ] والتوجيهُ هناك كالتوجيهِ هنا. وقرأ عمر بن عبد العزيز وقَتَلوا وقُتِلوا - ببناء الأولِ للفاعل ، والثاني للمفعول - من " فعل " ثلاثياً ، وهي كقراءة الجماعة ، وقرأ محارب بن دثار : وقَتَلوا وقَاتَلُوا - ببنائهما للفاعل - وقرأ طلحة بن مُصرِّف : وقُتِّلوا وقاتلوا ، كقراءة حمزة والكسائي ، إلا أنه شدد التاء ، والتخريج كتخريج قراءتهما. ونقل أبو حيّان - عن الحسنِ وأبي رجاء - قاتلوا وقتّلوا ، بتشديد التاءِ من " قُتّلوا " وهذه هي قراءة ابن كثيرٍ وابن عامرٍ - كما تقدم - وكأنه لم يعرف أنها قراءتهما.
قوله : " ثواباً " في نصبه ثمانية أوجهٍ :
أحدها : أنه نصب على المصدر المؤكد ؛ لأن معنى الجملةِ قبله تقتضيه ، والتقدير : لأثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً ، فوضع " ثَوَاباً " موضع أحد هذينِ المصدرينِ ؛ لأن الثوابَ - في الأصل - اسم لما يُثَابُ به ، كالعطاء - اسم لما يُعْطَى - ثم قد يقعان موضع المصدر ، وهو نظير قوله : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] و{ وَعْدَ الله } [ القصص : 13 ] في كونهما مؤكدينِ.
ثانيهما : أن يكون حالاً من " جَنَّاتٍ " أي : مثاباً بها - وجاز ذلك وإن كانت نكرة ؛ لتخصصها بالصفة.
ثالثها : أنها حالٌ من ضمير المفعول ، أي : مثابين.
(19/181)
رابعها : أنه حالٌ من الضمير في " تَجْرِي " العائد على " جَنَّات " وخصَّص أبو البقاء كونه حالاً بجَعْله بمعنى الشيء المُثَاب بِهِ ، قال : وقد يقع بمعنى الشيء المثاب به ، كقولك : هذا الدرهم ثوابك ، فعلى هذا يجوز أن يكونَ حالاً من [ ضمير الجنّاتِ ، أي : مثاباً بها ، ويجوز أن يكون حالاً من ] ضمير المفعول به في " لأدْخِلَنَّهُم ".
خامسها : نصبه بفعل محذوف ، أي : نعطيهم ثواباً.
سادسها : أنه بدل من " جَنَّاتٍ " وقالوا : على تضمين " لأدْخِلَنَّهُمْ " لأعْطِيَنَّهُمْ ، لما رأوا أنَّ الثوابَ لا يصح أن ينسب إليه الدخولُ فيه ، احتاجوا إلى ذلك.
ولقائل أن يقول : جعل الثواب ظرفاً لهم ، مبالغة ، كما قيل في قوله : { تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ].
سابعها : أنه نصب على التمييز ، وهو مذهب الفرّاء.
ثامنها : أنه منصوبٌ على القطعِ ، وهو مذهبُ الكسائيّ ، إلا أن مكِّياً لما نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحالِ ، وعلى الجملة فهذانِ وجهانِ غريبانِ.
وقوله : { مِّن عِندِ الله } صفةٌ له ، وهذا يدل على كون ذلك الثَّوابِ في غايةِ الشرف ، كقول السلطانِ العظيم : أخلع عليك خلعة من عندِي.
قوله : { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } الأحسن أن يرتفع { حُسْنُ الثواب } على الفاعلية بالظرف قبله ؛ لاعتماده على المبتدأ قَبْله ، والتقدير : والله استقر عنده حُسْنُ الثَّوابِ.
ويجوز أن يكون مبتدأ ، والظرف قبله خبره ، والجملة خبرُ الأولِ.
وإنما كان الوجه الأول أحسنَ ؛ لأنّ فيه الإخبار بمفرد - وهو الأصل - بخلاف الثّانِي ، فإنَّ الإخبار فيه بجملة وهذا تأكيد لكونه ذلك الثوابِ في غايةِ الشرفِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 123 ـ 129}. بتصرف.(19/182)
فائدة
قال فى الأمثل :
ويستفاد من هذه الآية أن الإِنسان لابدّ أن يتطهّر من أدران الذنوب في ظل العمل الصالح أوّلا ، ثمّ يدخل في رحاب القرب الرّباني والنعيم يالإِلهي ، لأنّه سبحانه قال أوّلا : (لأُكفّرن عنهم سيئاتهم) ثمّ قال : (لأدخلنّهم جنّات).
وبعبارة أخرى : أنّ الجنّة مقام المتطهرين ، ولا طريق لمن لم يتطهر إِليها.
القيّمة المعنويّة للرّجل والمرأة :
إِن الآية الحاضرة ـ كبقية الآيات القرآنية الأخرى ـ تساوي بين الرجل
والمرأة عند الله ، وفي مسألة الوصول إِلى الدرجات المعنوية ، ولا تفرق بينهما بسبب اختلافهما في الجنس ، ولا تعتبر الفروق العضوية وما يلحقها من الفروق يفي المسؤوليات الاجتماعية دليلا على اختلافهما في إِمكانية الحصول على درجات التكامل الإِنساني وبلوغهما للمقامات المعنوية الرفيعة ، بل تعتبرهما في مستوى واحد ـ من هذه الجهة ـ ولذلك ذكرتهما معاً.
إِن اختلافهما في التكاليف وتوزيع المسؤوليات يشبه إِلى حد كبير الاختلاف الذي تقتضيه مسألة النظام والانضباط حيث يختار شخص كرئيس ، وآخر كمعاون ومساعد ، فإِنّه ينبغي أن يكون الرئيس أكثر حنكة وأوسع علماً ، وأكثر تجربة في مجال عمله ، ولكن هذا التفاوت والاختلاف في مراتب المسؤولية وسلم الوظائف لا يكون دليلا مطلقاً على أن شخصية الرئيس وقيمته الوجودية أكثرمن شخصية معاونيه ومساعديه ، وقيمتهم الوجودية.
إِنّ القرآن الكريم يقول بصراحة : (ومن عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فأُولئك يدخلون الجنّة ، يرزقون فيها بغير حساب).
ويقول في آية أخرى : (من عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).(19/183)
هذه الآيات وغيرها من الآيات القرآنية الأخرى نزلت في عصر كان المجتمع البشري فيه يشك في إِنسانية جنس المرأة أساساً ، بل ويعتقد أنها كائن ملعون ، وأنها منبع كل إِثم وانحراف وموت وفساد.
لقد كان الكثير من الشعوب الماضية تذهب في نظرتها السلبية تجاه المرأة إِلى درجة أنها تعتقد أحياناً إِنّ عبادة المرأة وما تقدمه في سبيل الله لا تقبل ، وكان الكثير من اليونانيين يعتقدون أنّ المرأة كائن نجس وشرير وأنّها من عمل الشّيطان ، وكان الرّوم وبعض اليونانيين يعتقدون أنّ المرأة ليست ذات روح إِنسانية أساساً ، وأن الرجل وحده هو الذي يحمل بين جنبيه مثل هذه الروح دون غيره.
والملفت للنظر أن العلماء المسيحيين في أسبانيا كانوا يبحثون ـ حتى إِلى الآونة الأخيرة ـ في أن المرأة هل تملك ـ مثل الرجل ـ روحاً إِنسانية أم لا ؟ وأن روحها هل تخلد بعد الموت أم لا ؟
وقد توصلوا ـ بعد مداولات طويلة ـ إِلى أن للمرأة روحاً برزخية ، وهي نوع متوسط بين الروح الإِنسانية والروح الحيوانية ، وأنه ليس هناك روح خالدة ـ بين أرواح النساء ـ إِلاّ روح مريم.
من هنا يتضح مدى ابتعاد بعض المغفلين عن الحقيقة حيث يتهمون الإِسلام أنّه دين الرجال دون النساء.
إِنّ بعض الاختلاف في نوع المسؤوليات الاجتماعية الذي يقتضيه اختلافات في التركيب العضوي والعاطفي لدى الرجل والمرأة لا يضرّ بالمرأة وقيمتها المعنوية أساساً ، ولهذا لا يختلف الرجل والمرأة من هذه الجهة ، فأبواب السعادة والتكامل الإِنساني مفتوحة في وجهيهما كليهما على السواء كما ذكرنا ذلك عند البحث في قوله تعالى : (بعضكم من بعض). أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 55 ـ 57}(19/184)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ}
كيف لا يستجيب لهم وهو الذي لَقَّنَهُم الدعاء ، وهو الذي ضمن لهم الإجابة ، ووَعْدُه جميل الثواب على الدعاء زائدٌ على ما يدعون لأَجْل الحوائج. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 307}(19/185)
قوله تعالى { لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)}
مناسبة الآيتين لما قبلهما
قال البقاعى :
ولما كانت هذه المواعدة آجلة ، وكان نظرهم إلى ما فيه الكفار من عاجل السعة ربما أثر في بعض النفوس أثراً يقدح في الإيمان بالغيب الذي هو شرط قبول الإيمان ؛ داواه سبحانه بأن تلا تبشير المجاهدين بإنذار الكفار المنافقين والمصارحين الذين أملى لهم بخذلانهم المؤمنين بالرجوع عن قتال أحد وغيره من أسباب الإملاء على وجه يصدق ما تقدم أول السورة من الوعد بأنهم سيغلبون ، وأن أموالهم إنما هي صورة ، لا حقائق لها ، عطفاً لآخرها على أولها ، وتأكيداً لاستجابة دعاء أوليائه آخر التي قبلها بقوله مخاطباً لأشرف عباده ، والمراد من يمكن ذلك عادة فيه ، لأن خطاب الرئيس أمكن في خطاب الأتباع - {لا يغرنك تقلب} أي لا تغترر بتصرف {الذين كفروا} تصرف من يقلب الأمور بالنظر في عواقبها لسلامتهم في تصرفهم وفوائدهم وجودة ما يقصدونه في الظاهر كجودة القلب في البدن {في البلاد} فإن تقلبهم {متاع قليل} أي لا يعبأ به ذو همة علية ، وعبر بأداة التراخي إشارة إلى أن تمتيعهم - وإن فرض أنه طال زمانه وعلا شأنه - تافه لزواله ثم عاقبته ، وإلى هول تلك العاقبة وتناهي عظمتها ، فقال : {ثم مأواهم} أي بعد التراخي إن قدر {جهنم} أي الكريهة المنظر الشديدة الأهوال ، العظيمة الأوجال ، لا مهاد لهم غيرها {وبئس المهاد} أي الفراش الذي يوطأ ويسهل للراحة والهدوء. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 200 ـ 201}
وقال الفخر : (19/186)
اعلم أنه تعالى لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم ، وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة ، والكفار كانوا في النعم ، ذكر الله تعالى هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة ، فقال : {لاَ يَغُرَّنَّكَ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 123}
فصل
قال الفخر :
المخاطب في قوله : {لاَ يَغُرَّنَّكَ} من هو ؟ فيه قولان : الأول : أنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن المراد هو الأمة.
قال قتادة : والله ما غروا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله ، والخطاب وإن كان له إلا أن المراد غيره ، ويمكن أن يقال : السبب لعدم إغرار الرسول عليه السلام بذلك هو تواتر هذه الآيات عليه ، كما قال : {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [ الإسراء : 74 ] فسقط قول قتادة ، ونظيره قوله : {وَلاَ تكن مِنَ الكافرين} [ هود : 42 ] {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [ الأنعام : 14 ] {وَلاَ تُطِعِ المكذبين} [ القلم : 8 ] والثاني : وهو أن هذا خطاب لكل من سمعه من المكلفين ، كأنه قيل : لا يغرنك أيها السامع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 124}(19/187)
وقال فى روح البيان :
{ لا يغرنك } الخطاب للنبى ـ عليه السلام ـ لأن العصمة لا تزيل النهى فإنه لو زال النهى عنه بذلك لبطلت العصمة فإن العصمة هى الحفظ من الخلاف وإذا زال النهى لم يكن خلاف فلا تكون عصمة فالمراد تثبيته على ما هو عليه من عدم التفاته على الدنيا أو الخطاب له والمراد أمته كما يخاطب سيد القوم ومقدمهم والمراد به كلهم كأنه قيل لا يغرنكم { تقلب الذين كفروا فى البلاد } والنهى فى المعنى للمخاطب وإنما جعل للتقلب تنزيلا للسبب وهو التقلب منزلة المسبب وهو اغترار المخاطب للمبالغة والمعنى لا تمدن عينيك ولا تستشرف نفسك إلى ما هم عليه من سعة الرزق وإصابة حظوظ الدنيا ولا تغتر بظاهر حالهم من التبسط فى الأرض والتصرف فى البلاد يتكسبون ويتجرون. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 188}
فصل
قال الفخر :
تقلب الذين كفروا في البلاد ، فيه وجهان :
الأول : نزلت في مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية.
والثاني : قال الفراء : كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية ، والمراد بتقلب الذين كفروا في البلاد ، تصرفهم في التجارات والمكاسب ، أي لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاؤا ، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محضورون ، فإن ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب.(19/188)
ثم قال تعالى : {متاع قَلِيلٌ} قيل : أي تقلبهم متاع قليل ، وقال الفراء : ذلك متاع قليل ، وقال الزجاج : ذلك الكسب والربح متاع قليل ، وإنما وصفه الله تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات والحسرات ، ثم إنه بالعاقبة ينقطع وينقضي ، وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن ، وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد ، فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي وهو الأزل والأبد ، كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل.
ثم قال تعالى : {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة ، وهو كقوله : {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [ آل عمران : 178 ] وقوله : {وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [ الأعراف : 183 ].
ثم قال : {وَبِئْسَ المهاد} أي الفراش ، والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى : {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [ الزمر : 16 ] فهم بين أطباق النيران ، ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 124}
سؤال : فإن قيل : فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه الاغترار فكيف خوطب بهذا ؟
فعنه جوابان :
أحدهما : أن الله عز وجل إنما قال له ذلك تأديباً وتحذيراً.
والثاني : أنه خطاب لكل من سمعه ، فكأنه قال : لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 444}
وقال الزمخشرى :
فإن قلت : كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى ينهي عن الاغترار به ؟(19/189)
قلت : فيه وجهان أحدهما أن مدرة القوم ومتقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً ، فكأنه قيل : لا يغرنكم والثاني : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه ، كقوله : { وَلاَ تَكُنْ مع الكافرين } [ هود : 42 ] ، { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] ، { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } [ القلم : 8 ] وهذا في النهي نظير قوله في الأمر { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] ، { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ } [ النساء : 36 ] وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب وهو في المعنى للمخاطب ، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب ، لأنّ التقلب لو غرّه لاغتر به ، فمنع السبب ليمتنع المسبب. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 486}
قال أبو حيان :
وملخص الوجهين اللذين ذكرهما : أن يكون الخطاب له والمراد أمّته ، أو له على جهة التأكيد والتنبيه ، وإن كان معصوماً من الوقوع فيه كما قيل :
قد يهزّ الحسام وهو حسام . . .
ويجب الجواد وهو جواد. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 154}
فصل
قال القرطبى :
في هذه الآية وأمثالها كقوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } [ آل عمران : 178 ] الآية.
{ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [ والقلم : 45 ].
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [ المؤمنون : 55 ].
{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] دليل على أن الكفار غير مُنْعَم عليهم في الدنيا ؛ لأن حقيقة النعمة الخلوصُ من شَوائب الضررِ العاجلة والآجلة ، ونعم الكفار مَشُوبَةٌ بالآلام والعقوبات ، فصار كمن قدّم بين يدي غيرهِ حلاوة من عسل فيها السُّمّ ، فهو وإن استلذّ آكله لا يُقال : أُنعِم عليه ؛ لأن فيه هلاك روحه.(19/190)
ذهب إلى هذا جماعة من العلماء ، وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعرِي.
وذهب جماعة منهم سيف السنة ولِسان الأمة القاضي أبو بكر : إلى أن الله أنعم عليهم في الدنيا.
قالوا : وأصل النَّعمة من النعمة بفتح النون ، وهي لين العيش ؛ ومنه قوله تعالى : { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } [ الدخان : 27 ].
يُقال : دقيق ناعم ، إذا بُولِغ في طحنهِ وأُجيد سحقه.
وهذا هو الصحيح ، والدليل عليه أن الله تعالى أوجب على الكفار أن يشكروه وعلى جميع المكلّفين فقال : { فاذكروا آلآءَ الله } [ الأعراف : 74 ].
{ واشكروا للَّهِ } [ البقرة : 172 ] والشكر لا يكون إلاَّ على نعمة.
وقال : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] وهذا خطاب لقارون.
وقال : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } [ النحل : 112 ] الآية.
فنبّه سبحانه أنه قد أنعم عليهم نِعمة دُنيْاوِية فجحدوها.
وقال : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } [ النحل : 83 ] وقال : { ياأيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } [ فاطر : 3 ].
وهذا عامّ في الكفار وغيرهم.
فأما إذا قدّم لغيره طعاماً فيه سمّ فقد رفق به في الحال ؛ إذْ لم يجرعه السمَّ بحتاً ، بل دَسّه في الحلاوة ، فلا يستبعد أن يُقال : قد أنعم عليه ، وإذا ثبت هذا فالنِّعَم ضربان : نِعَمُ نفْع وَنِعَمُ دفْع ؛ فنِعم النفعِ ما وصل إليهم من فنون اللذات ، ونِعم الدفعِ ما صرف عنهم من أنواع الآفات.
فعلى هذا قد أنعم على الكفار نِعم الدفع قولاً واحداً ؛ وهو ما زُوِيَ عنهم من الآلام والأسقام ، ولا خلاف بينهم في أنه لم يُنعم عليهم نَعمة دِينيه. والحمد لله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 320 ـ 321}(19/191)
فصل
قال السمرقندى فى معنى الآيتين :
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } يقول : لا يحزنك يا محمد ذهابهم ومجيئهم في تجاراتهم ومكاسبهم في الأرض.
ويقال : هذا الخطاب للمؤمنين ، ومعناه : لا يغرنكم تجارات الكفار وتصرفهم في أموالهم في البلاد ، لأن ذلك { متاع قَلِيلٌ } لأن الكفار كانوا في رخاء وعيش ، وكانت لهم رحلة الشتاء والصيف ، وكان المؤمنون في ضيق وشدة ، فأخبر الله تعالى بمرجع الكفار في الآخرة ، وبمرجع المؤمنين فقال تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ } أي ما هم فيه من العيش والسعة ، فإنما هو متاع أي يفنى بعد وقت قريب.
قوله : { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي مصيرهم إلى جهنم { وَبِئْسَ المهاد } بئس موضع القراء في النار ، وبئس المصير إليها ، فما ينفعهم تجاراتهم وأموالهم. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 301}(19/192)
وقال ابن عطية :
نزلت { لا يغرنك } في هذه الآية ، منزلة : لا تظن أن حال الكفار حسنة فتهتم لذلك ، وذلك أن المغتر فارح بالشىء الذي يغتر به ، فالكفار مغترون بتقلبهم والمؤمنون مهتمون به ، لكنه ربما يقع في نفس مؤمن أن هذا الإملاء للكفار إنما هو لخير لهم ، فيجىء هذا جنوحاً إلى حالهم ونوعاً من الاغترار فلذلك حسنت { لا يغرنك } ونظيره قول عمر لحفصة : لا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المعنى : لا تغتري بما يتم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك النبي صلى الله عليه وسلم ، والخطاب للنبي عليه السلام ، والمراد أمته وللكفار في ذلك حظ ، أي لا يغرنكم تقلبهم ، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب : " لا يغرنْك " بسكون النون خفيفة ، وكذلك " لا يصدنك ولا يصدنكم ولا يغرنكم " - وشبهه ، و" التقلب " : التصرف في التجارات والأرباح والحروب وسائر الأعمال ، ثم أخبر تعالى عن قلة ذلك المتاع ، لأنه منقض صائر إلى ذل وقل وعذاب.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : " لكنّ الذين " ، بشد النون ، وعلى أن { الذين } في موضع نصب اسماً ل " لكنّ " ، و{ نزلاً } : معناه تكرمة ، ونصبه على المصدر المؤكد ، وقرأ الحسن : " نزْلاً " ساكنة الزاي ، وقوله تعالى : { وما عند الله خير للأبرار } يحتمل أن يريد : خير مما هؤلاء فيه من التقلب والتنعم ، ويحتمل أن يريد : خير مما هم فيه في الدنيا ، وإلى هذا ذهب ابن مسعود فإنه قال : ما من مؤمن ولا كافر إلا والموت خير له ، أما الكافر فلئلا يزداد إثماً ، وأما المؤمن فلأن ما عند الله خير للأبرار.(19/193)
قال أبو محمد : وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " ، فقال القاضي ابن الطيب : هذا هو بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة ، فالدنيا على المؤمن المنعم سجن بالإضافة إلى الجنة ، والدنيا للكافر الفقير المضيق عليه في حاله صحته جنة بالإضافة إلى جهنم ، وقيل : المعنى أنها سجن المؤمن لأنها موضع تبعه في الطاعات وصومه وقيامه ، فهو فيها كالمعنت المنكل ، وينتظر الثواب في الأخرى التي هي جنته ، والدنيا جنة الكافر ، لأنها موضع ثوابه على ما عسى أن يعمل من خير ، وليس ينتظر في الآخرة ثواباً ، فهذه جنته ، وهذا القول عندي كالتفسير والشرح للأول. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 558 ـ 559}
وقال أبو السعود :
{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد } بيانٌ لقبح ما أوتي الكفرةُ من حظوظ الدنيا وكشفٌ عن حقارة شأنِها وسوءِ مَغَبَّتِها إثرَ بيانِ حُسنِ ما أوتيَ المؤمنون من الثواب ، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم على أن المرادَ تثبيتهُ على ما هو عليه كقوله تعالى : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } أو على أن المرادَ نهيُ المؤمنين كما يُوجَّهُ الخطابُ إلى مَدارِهِ القومِ ورؤسائِهِم ، والمرادُ أفناؤهم ، ولكل أحد ممن يصلُح للخطاب من المؤمنين والنهيُ للمخاطب ، وإنما جُعل للتقلب مبالغةً أي لا تنظُر إلى ما عليه الكفرةُ من السعة ووفورِ الحظِّ ولا تغترَّ بظاهر ما ترى منهم من التبسّط في المكاسب والمتاجرِ والمزارع. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 135}(19/194)
فصل
قال الآلوسى
{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد منه أمته ، وكثيراً ما يخاطب سيد القوم بشيء ويراد أتباعه فيقوم خطابه مقام خطابهم ، ويحتمل أن يكون عاماً للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره بطريق التغليب تطييباً لقلوب المخاطبين ، وقيل : إنه خطاب له عليه الصلاة والسلام على أن المراد تثبيته صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه كقوله تعالى : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } [ القلم : 8 ] وضعف بأنه عليه الصلاة والسلام لا يكون منه تزلزل حتى يؤمر بالثبات وفيه نظر لا يخفى والنهي في المعنى للمخاطب أي لا تغتر بما عليه الكفرة من التبسط في المكاسب والمتاجر والمزارع ووفور الحظ ، وإنما جعل النهي ظاهراً للتقلب تنزيلاً للسبب منزلة المسبب فإن تغرير التقلب للمخاطب سبب واغتراره به مسبب فمنع السبب بورود النهي عليه ليمتنع المسبب الذي هو اغترار المخاطب بذلك السبب على طريق برهاني وهو أبلغ من ورود النهي على المسبب من أول الأمر ، قالوا : وهذا على عكس قول القائل : لا أرينك هنا فإن فيه النهي عن المسبب وهو الرؤية ليمتنع السبب وهو حضور المخاطب.(19/195)
وأورد عليه أن الغارية والمغرورية متضايفان ، وقد صرحوا بأن القطع والانقطاع ونحو ذلك مثلاً متضايفان ، وحقق أن المتضايفين لا يصح أن يكون أحدهما سبباً للآخر بل هما معاً في درجة واحدة ، فالأولى أن يقال : علق النهي بكون التقلب غاراً ليفيد نهي المخاطب عن الاغترار لأن نفي أحد المتضايفين يستلزم نفي الآخر ، ولا يخفى أن هذا مبني على ما لم يقع الإجماع عليه ، ولعل النظر الصائب يقضي بخلافه ، وفسر الموصول بالمشركين من أهل مكة ، فقد ذكر الواحدي أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية ، وبعض فسره باليهود ، وحكي أنهم كانوا يضربون في الأرض ويصيبون الأموال والمؤمنون في عناء فنزلت ، وإلى ذلك ذهب الفراء ، والقول الأول أظهر ، وأياً مّا كان فالجملة مسوقة لتسلية المؤمنين وتصبيرهم ببيان قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا إثر بيان حسن ما سينالونه من الثواب الجزيل والنعيم المقيم ، وقرأ يعقوب برواية رويس وزيد { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم } بالنون الخفيفة.
{ متاع قَلِيلٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني تقلبهم متاع قليل ، وقلته إما باعتبار قصر مدته أو بالقياس إلى ما فاتهم مما أعد الله تعالى للمؤمنين من الثواب ، وفيما رواه مسلم مرفوعاً " ( والله ) ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه ( هذه وأشار يحيى بالسبابة ) ( 1 ) في اليم فلينظر بم ترجع " ، وقيل : إن وصف ذلك المتاع بالقلة بالقياس إلى مؤنة السعي وتحمل المشاق فضلاً عما يلحقه من الحساب والعقاب في دار الثواب ولا يخفى بعده { ثُمَّ } أي مصيرهم الذي يأوون إليه ويستقرون فيه بعد انتقالهم من الأماكن التي يتقلبون فيها.(19/196)
{ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } التي لا يوصف عذابها { وَبِئْسَ المهاد } أي بئس ما مهدوا لأنفسهم وفرشوا جهنم ، وفيه إشارة إلى أن مصيرهم إلى تلك الدار مما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 171 ـ 172}
وقال ابن عاشور :
{ لَا يَغُرَّنَّكَ}
اعتراض في أثناء هذه الخاتمة ، نشأ عن قوله : { فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم } [ آل عمران : 195 ] باعتبار ما يتضمّنه عدَمُ إضاعة العمل من الجزاء عليه جزاء كاملاً في الدنيا والآخرة ، وما يستلزمه ذلك من حرمان الذين لم يستجيبوا لداعي الإيمان وهم المشركون ، وهم المراد بالذين كَفَروا كَمَا هو مصطلح القرّاء.
والخطاب لغير معيّن ممّن يُتوهّم أن يغرّه حسن حال المشركين في الدنيا.
والغَرّ والغرور : الإطماع في أمر محبوب على نيّة عدم وقوعه ، أو إظهار الأمر المضرّ في صورة النافع ، وهو مشتقّ من الغرّة بكسر الغين وهي الغفلة ، ورجل غِرّ بكسر الغين إذا كان ينخدع لمن خادعه.
وفي الحديث : " المؤمن غرّ كريم " أي يظنّ الخير بأهل الشرّ إذا أظهروا له الخير.
وهو هنا مستعار لظهور الشيء في مظهر محبوب ، وهو في العاقبة مكروه.
وأسند فعل الغرور إلى التقلّب لأنّ التقلّب سببه ، فهو مجاز عقليّ ، والمعنى لا ينبغي أن يغرّك.
ونظيره : "لا يفتننّكم الشيطان".
و ( لا ) ناهية لأنّ نون التوكيد لا تجيء مع النفي.
وقرأ الجمهور : لا يَغُرّنَّك بتشديد الراء وتشديد النون وهي نون التوكيد الثقيلة ؛ وقرأها رويس عن يعقوب بنون ساكنة ، وهي نون التوكيد الخفيفة.
والتقلّب : تصرّف على حسب المشيئة في الحروب والتجارات والغرس ونحو ذلك ، قال تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلاّ الذين كفروا فلا يَغْرُرْك تَقَلُّبُهم في البلاد } [ غافر : 4 ].
والبلاد : الأرض.(19/197)
والمتاعُ : الشيء الذي يشتري للتمتّع به.
وجملة { متاع قليل } إلى آخرها بيان لجملة { لا يغرنك }.
والمتاع : المنفعة العاجلة ، قال تعالى : { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } [ آل عمران : 185 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 315 ـ 316}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : " مَتَاعٌ " خبر مبتدأ محذوف ، دَلَّ عليه الكلام ، تقديره : تقلبهم ، أو تصرفهم متاع قليل. والمخصوص بالذم محذوف ، أي : بئس المهاد جهنم. ومعنى " مَتَاعٌ قَلِيلٌ " أي : بُلْغة فانية ، ومُتْعة زائلة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 130}.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
قال عليه الرحمة :
{ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)}
لا تتداخلنك تهمة بأنَّ لهم عندنا قدراً وقيمة إنما هي أيام قلائل وأنفاس معدودة ، ثم بعدها حسرات مترادفة ، وأحزان متضاعفة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 308}(19/198)
قوله تعالى { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بين بآية المهاجرين أن النافع من الإيمان هو الموجب للثبات عند الامتحان.
وكانت تلك الشروط قد لا توجد ، ذكر وصف التقوى العام للأفراد الموجب للإسعاد ، فعقب تهديد الكافرين بما لأضدادهم المتقين الفائزين بما تقدم الدعاء إليه بقوله تعالى : {قل أأنبئكم بخير من ذلكم} [ آل عمران : 15 ] فقال تعالى : {لكن الذين اتقوا ربهم} أي أوقعوا الاتصاف بالتقوى بالائتمار بما أمرهم به المحسن إليهم والانتهاء عما نهاهم شكراً لإحسانه وخوفاً من عظم شأنه {لهم جنات} وإلى جنات ، ثم وصفها بقوله : {تجري من تحتها الأنهار} تعريفاً بدوام تنوعها وزهرتها وعظيم بهجتها.
ولما وصفها بضد ما عليه النار وصف تقلبهم فيها بضد ما عليه الكفار من كونهم في ضيافة الكريم الغفار فقال : {خالدين فيها} ولما كان النزل ما يعد للضيف عند نزوله قال معظماً ما لمن يرضيه : {نزلا} ولما كان الشيء يشرف بشرف من هو من عنده نبه على عظمته بقوله : {من عند الله} مضيفاً إلى الاسم الأعظم ، وأشار بجعل الجنات كلها نزلاً إلى التعريف بعظيم ما لهم بعد ذلك عنده سبحانه من النعيم الذي لا يمكن الآدميين وجه الاطلاع على حقيقة وصفه ، ولهذا قال معظماً - لأنه لو أضمر لظن الاختصاص بالنزل - {وما عند الله} أي الملك الأعظم من النزل وغيره {خير للأبرار} مما فيه الكفار ومن كل ما يمكن أن يخطر بالبال من النعيم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 201}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد بالنزل ، والنزل ما يهيأ للضيف وقوله : {لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ} يتناول جميع الطاعات ، لأنه يدخل في التقوى الاحتراز عن المنهيات ، وعن ترك المأمورات.(19/199)
واحتج بعض أصحابنا بهذه الآية على الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا ، فلا بد من الرؤية لتكون خلعة ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلاً} [ الكهف : 107 ] وقوله : {نُزُلاً} نصب على الحال من {جنات} لتخصيصها بالوصف ، والعامل اللام ، ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد ، لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها أو نزولهم ، وقال الفراء : هو نصب على التفسير كما تقول : هو لك هبة وبيعا وصدقة ثم قال : {وَمَا عِندَ الله} من الكثير الدائم {خَيْرٌ لّلأَبْرَارِ} مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل ، وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش {نُزُلاً} بسكون الزاي ، وقرأ يزيد بن القعقاع {لَكِنِ الذين اتقوا} بالتشديد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 125}
وقال أبو حيان :
{ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } لما تضمن ما تقدم أن ذلك التقلب والتصرف في البلاد هو متاع قليل ، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم ، فدل على قلّة ما متعوا به ، لأنّ ذلك منقض بانقضاء حياتهم ، ودلّ على استقرارهم في النار.
استدرك بلكن الأخبار عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين ، وذلك شيئان : أحدهما مكان استقرار وهي الجنات ، والثاني ذكر الخلود فيها وهو الإقامة دائماً والتمتع بنعيمها سرمداً.
فقابل جهنم بالجنات ، وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم ، فوقعت لكن هنا أحسن موقع ، لأنه آل معنى الجملتين إلى تكذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين ، فهي واقعة بين الضدين. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 154}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ الله } نُزُلاً مثل ثواباً عند البصريين ، وعند الكِسائي يكون مصدراً.
الفراء : هو مفسر.(19/200)
وقرأ الحسن والنخعِي { نُزُلاً } بتخفيف الزاي استِثقالاً لا لِضمتين ، وثقّله الباقون.
والنّزُولُ : ما يُهيأ للنزّيل.
والنزيل الضيف.
قال الشاعر :
نَزِيلُ القوْم أعظمُهُم حقوقاً . . .
وحَقُّ اللَّهِ في حقِّ النزيلِ
والجمع الأنزال.
وحظ نزِيل : مجتمِعٌ.
والنزل : أيضاً الرّيْع ؛ يُقال ؛ طعام كثير النزْل والنزُل.
قلت ؛ ولعل النزل والله أعلم.
ما جاء في صحيح مسلم من حديث ثَوْبَان مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم " في قصة الحِبَرْ الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم : أين يكون الناس يوم تبدّل الأرضُ غير الأرضِ والسموات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ "هم في الظلمة دون الجِسر" قال : فمن أوّل الناس إجازة ؟ قال : "فقراء المهاجِرين" قال اليهودي : فما تُحفَتُهم حين يدخلون الجنة ؟ قال "زيادة كبِد النون" قال : فما غذاؤهم على إثرها ؟ فقال : "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" قال : فما شرابهم عليه ؟ قال : "من عينٍ فيها تسمى سلسبِيلاً" " وذكر الحديث.
قال أهل اللغة : والتحفة ما يتحف به الإنسان من الفواكه.
والطُّرَف محاسِنه وملاطِفه ، وهذا مطابِق لما ذكرناه في النزل ، والله أعلم.
وزِيادة الكَبِد : قطعة منه كالأصبع.
قال الهروِيّ : { نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي ثواباً.
وقيل رِزقاً. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 321 ـ 322}. بتصرف يسير.
قوله تعالى { وما عند الله خير للأبرار }
قال أبو حيان :
ظاهره حوالة الصلة على ما تقدم من قوله : نزلاً من عند الله.
والمعنى : أن الذي أعده الله للأبرار في الآخرة خير لهم ، فيحتمل أن يكون المفضل عليه بالنسبة للأبرار أي خير لهم مما هم فيه في الدنيا ، وإليه ذهب : ابن مسعود.
(19/201)
وجاء " لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى الكفار ، أي : خير لهم مما يتقلب فيه الكفار من المتاع الزائل.
وقيل : خير هنا ليست للتفضيل ، كما أنها في قوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } والأظهر ما قدمناه.
وللأبرار متعلق بخير ، والأبرار هم المتقون الذين أخبر عنهم بأن لهم جنات.
وقيل : فيه تقديم وتأخير.
أي الذي عند الله للأبرار خير لهم ، وهذا ذهول عن قاعدة العربية من أن المجرور إذ ذاك يتعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة للموصول ، فيكون المجرور داخلاً في حيز الصلة ، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 55}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا } { لَكِنِ } للاستدراك عند النحاة(19/202)
وهو رفع توهم ناشىء من السابق وعند علماء المعاني لقصر القلب وردّ اعتقاد المخاطب ، وتوجيه الآية على الأول : أنه لما وصف الكفار بقلة نفع تقلبهم في التجارة وتصرفهم في البلاد لأجلها جاز أن يتوهم متوهم أن التجارة من حيث هي مقتضية لذلك فاستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يضرهم ذلك وأن لهم ما وعدوا به أو يقال إنه تعالى لما جعل تمتع المتقلبين قليلاً مع سعة حالهم أوهم ذلك أن المسلمين الذين لا يزالون في الجهد والجوع في متاع في كمال القلة فدفع بأن تمتعهم للاتقاء وللاجتناب عن الدنيا ولا تمتع من الدنيا فوقه لأنه وسيلة إلى نعمة عظيمة أبدية هي الخلود في الجنات ، وعلى الثاني : ردّ لاعتقاد الكفرة أنهم متمتعون من الحياة والمؤمنون في خسران عظيم ، وعلل بعض المحققين جعل التقوى في حيز الصلة بالإشعار بكون الخصال المذكورة من باب التقوى ، والمراد بها الاتقاء عن الشرك والمعاصي ؛ والموصول مبتدأ والظرف خبره ، وجنات مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ ، أو مرتفع بالابتداء ، والظرف خبره ، والجملة خبر المبتدأ ، وخالدين حال مقدرة من الضمير المجرور في لهم أو من جنات لتخصيصها بجملة الصفة ، والعامل ما في الظرف من معنى الاستقرار ، وقرأ أبو جعفر { لَكِنِ } بتشديد النون.
{ نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله } النزل بضمتين وكذا النزل بضم فسكون ما يعد للضيف أول نزوله من طعام وشراب وصلة ، قال الضبي :
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا...
جعلنا القنا والمرهفات له ( نزلاً )
ويستعمل بمعنى الزاد مطلقاً ، ويكون جمعاً بمعنى النازلين كما في قول الأعشى :
أو ينزلون فإنا معشر ( نزل )...(19/203)
وقد جوز ذلك أبو عليّ في الآية ، وكذا يجوز أن يكون مصدراً ، قيل : وأصل معنى النزل مفرداً الفضل والريع في الطعام ، ويستعار للحاصل عن الشيء ، ونصبه هنا إما على الحالية من جنات لتخصيصها بالوصف والعامل فيه ما في الظرف من معنى الاستقرار إن كان بمعنى ما يعد الخ ، وجعل الجنة حينئذٍ نفسها نزلاً من باب التجوز ، أو بتقدير مضاف أي ذات نزل ، وإما على الحالية من الضمير في خالدين إن كان جمعاً ، وإما على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف إن كان مصدراً وهو حينئذٍ بمعنى النزول أي نزلوها نزلاً ، وجوز على تقدير مصدريته أن يكون بمعنى المفعول فيكون حالاً من الضمير المجرور في فيها أي منزلة ، والظرف صفة نزلاً إن لم تجعله جمعاً وإن جعلته جمعاً ففيه كما قال أبو البقاء وجهان : أحدهما : أنه حال من المفعول المحذوف لأن التقدير ( نزلاً ) إياها ، والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ذلك من عند الله أي بفضله ، وذهب كثير من العلماء على أن النزل بالمعنى الأول وعليه تمسك بعضهم بالآية على رؤية الله تعالى لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلاً فلا بد من شيء آخر يكون أصلاً بالنسبة إليها وليس وراء الله تعالى شيء وهو كما ترى ، نعم فيه حينئذٍ إشارة إلى أن القوم ضيوف الله تعالى وفي ذلك كمال اللطف بهم.(19/204)
{ وَمَا عِندَ الله } من الأمور المذكورة الدائمة لكثرته ودوامه { خَيْرٌ لّلأبْرَارِ } مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل لقلته وزواله ، والتعبير عنهم بالأبرار ووضع الظاهر موضع الضمير كما قيل : للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر كما أنها من قبيل التقوى والجملة تذييل ، وزعم بعضهم أن هذا مما يحتمل أن يكون إشارة إلى الرؤية لأن فيه إيذاناً بمقام العندية والقرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة ، والموصول مبتدأ ، والظرف صلته ، وخير خبره ، وللأبرار صفة خير.
وجوز أن يكون للأبرار خبراً والنية به التقديم أي والذي عند الله مستقر للأبرار وخير على هذا خبر ثان ، وقيل : للأبرار حال من الضمير في الظرف ، وخير خبر المبتدأ ، وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحال لغيره والفصل بين الحال وصاحب الحال غير المبتدأ وذلك لا يجوز في الاختيار. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 172 ـ 173}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قرأ الجمهورُ بتخفيف " لكن " وأبو جعفر بتشديدها ، فعلى القراءة الأولى الموصول رفع بالابتداء ، وعند يونس يجوز إعمال المخففة ، وعلى الثانية في محل نصب.
ووقعت " لكِن " هنا أحسن موقع ؛ فإنها وقعت بين ضِدَّيْن ، وذلك أن معنى الجملتينِ - التي بعدها والتي قبلها - آيلٌ إلى تعذيب الكفار ، وتنعيم المؤمنين المتقين. ووجه الاستدراك أنه لما وصف الكفار بقلة نَفْع تقلبهم في التجارة ، وتصرُّفهم في البلاد لأجْلِها ، جاز أن يتوهَّم مُتَوَهِّمٌ أن التجارة - من حيث هي - متصفة بذلك ، فاستدرك أنَّ المتقينَ - وإن أخذوا في التجارة - لا يضرهم ذلك ، وأنَّ لهم ما وعدهم به.
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } هذه الجملة أجاز مكيٌّ فيها وجهينِ :
أحدهما : الرفع ، على النعت لِـ " جَنَّاتٌ ".(19/205)
والثاني : النصبُ ، على الحال من الضمير المستكن في " لَهُمْ " قال : " وإن شئت في موضع نصب على الحال من المضمر المرفوع في " لَهُمْ " إذْ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إن رفعت " جَنَّاتٌ " بالابتداء ، فإن رفعتها بالاستقرار لم يكن في " لَهُمْ " ضميرٌ مرفوعٌ ؛ إذ هو كالفعل المتقدِّم على فاعله ". يعني أنّ " جَنَّاتٌ " يجوز فيها رفعها من وجهين :
أحدهما : الابتداء ، والجار قبلها خبرها ، والجملة خبر " الَّذِينَ اتَّقوا ".
ثانيهما : الفاعلية ؛ لأن الجارَّ قبلها اعتمد بكونه خبراً لِـ " الَّذِينَ اتَّقَوْا ". وقد تقدم أن هذا أوْلَى ، لقُربه من المفرد.
فإنْ جعلنا رفعها بالابتداء جاز في { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } وجهان : وجهان : الرفع على النعت ، والنصب على الحال من الضمير المرفوع في " لَهُمْ " لتحمُّله - حينئذٍ - ضميراً.
وإن جعلنا رفعها بالفاعلية تعيَّن أن يكون الجملة بعدها في موضع رَفْع ؛ نعتاً لها ، ولا يجوز النصبُ على الحال ، لأن " لَهُمْ " ليس فيه - حيئذٍ - ضمير ؛ لرفعه الظاهر.
و " خَالِدِينَ " نُصِبَ على الحالِ من الضمير في " لَهُمْ " والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ.
قوله : " نُزُ لاً " النُّزُل : ما يُهَيَّأ للنزيل - وهو الضيف.
قال أبو العشراء الضبي : [ الطويل ]
وكُفَّا إذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا... جَعَلْنَا الْقَنَا والْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلا
هذا أصله ، ثم اتُّسِع فيه ، فأطلق على الرزق والغذاء - وإن لم يكن لضيف - ومنه قوله تعالى : { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [ الواقعة : 93 ] وفيه قولانِ ، هل هو مصدرٌ أو جمع نازل ، كقول الأعشى : [ البسيط ]
.............................. أو تَنْزِلُونَ فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
إذا تقرَّر هذا ففي نَصْبه سِتَّةُ أوجهٍ :
(19/206)
أحدهما : أنه منصوب على المصدر المؤكّد ، لأنه معنى " لَهُمْ جَنَّاتٌ " : نُنْزِلُهم جنات نزلاً ، وقدَّره الزمخشريُّ بقوله : " كأنه قيل : رزقاً ، أو عطاءً من عند اللهِ ".
ثانيها : نصبه بفعل مُضْمَر ، أي : جعلنا لهم نُزُلاً.
ثالثها : نَصبه على الحال من " جَنَّات " لأنها تخصَّصَت بالوَصْف.
رابعها : أن يكون حالاً من الضمير في " فِيهَا " أي مُنزّلةً - إذا قيل بأنّ " نُزلاً " مصدر بمنى المفعول نقله أبو البقاءِ.
خامسها : أنه حالٌ من الضمير المستكن في " خَالِدِينَ " - إذا قُلْنَا : إنه جمع نازل - قاله الفارسيُّ في التذكرة.
سادسها : وهو قول الفرّاء - نصبه على التفسير - أي التمييز - كما تقول : هو لك هبةً ، أو صدقةً وهذا هو القولُ بكونه حالاً.
والجمهور على ضم الزاي ، وقرأ الحسنُ ، والأعمشُ ، والنَّخَعِيُّ ، بسكونها ، وهي لغةٌ ، وعليها البيتُ المتقدم. وقد تقدم أن مثل هذا يكون فيه المسكَّن مخففاً من المثقل أو بالعكس ، والحق الأول.
قوله : { مِّنْ عِندِ الله } فيه ثلاثة أوجه ، لأنك إن جعلت " نُزُلاً " مصدراً ، كان الظرفُ صفةً له ، فيتعلق بمحذوف ، أي : نزلاً كائناً من عند اللهِ أي : على سبيلِ التكريمِ ، وإنْ جعلته جمعاً كان في الظرف وجهانِ :
أحدهما : جَعْله حالاً من الضمير المحذوفِ ، تقديره : نُزُلاً إياها.
ثانيهما : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : ذلك من عند الله ؛ نقل ذلك أبو البقاءِ.
قوله : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ } " ما " موصولة ، وموضعها رفع بالابتداء والخبر " خَيْرٌ " و" للأبْرَارِ " صفة لِـ " خير " فهو في محل رفع ، ويتعلق بمحذوفٍ ، وظاهر عبارة أبي حيّان أنه يتعلق بنفس " خَيْرٍ " فإنه قال : و" للأبرارِ " متعلق بـ " خَيْرٌ ".
(19/207)
وأجاز بعضهم أن يكون " لِلأبْرَارِ " هو الخبر ، و" خَيْرٌ " خبر ثانٍ ، قال أبو البقاء : " والثاني - أي : الوجه الثاني - : أن يكون الخبر " لِلأبْرَارِ " والنية به التقديمُ ، أي : والذي عند اللهِ مستقرٌّ للأبرارِ ، و" خَيْرٌ " - على هذا - خبرٌ ثانٍ ".
وفي ادِّعاء التقديمِ والتأخيرِ نظرٌ ؛ لأن الأصلَ في الإخبار أنْ يكونَ بالاسمِ الصريحِ ، فإذا اجتمعَ خبرٌ مفردٌ صريحٌ ، وخبرٌ مؤوَّلٌ به بُدِئَ بالصريحِ من غير عكس - كالصفة - فإذا وقعا في الآية على الترتيبِ المذكور ، فكيف يُدَّعَى فيها التقديمُ والتأخيرُ ؟ .
ونقل أبو البقاء - عن بعضهم - أنه جعل " لِلأبْرَارِ " حالاً من الضمير في الظرف ، " خّيْرٌ " خبر المبتدأ ، قال : " وهذا بعيدٌ ؛ لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحالٍ لغيره ، والفصلُ بين الحالِ وصاحب الحالِ بخبر المبتدأ ، وذلك لا يجوزُ في الاختيار ".
قال أبو حيّان : " وقيل : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي : الذي عند الله للأبرار خير لهم ، وهذا ذهولٌ عن قاعدةِ العربية من أن المجرور - إذ ذاك - يتعلق بما تعلَّق به الظرف الواقع صلة للموصوف ، فيكون المجرورُ داخلاً في حيِّز الصِّلَةِ ، ولا يُخْبَر عن الموصول إلا بعد استيفائه صِلته ومتعلقاتها ".
فإن عنى الشيخُ بالتقديم والتأخير على الوجه - أعني جعل " لِلأبْرَارِ " حالاً من الضمير في الظرف فصحيحٌ ، لأنَّ العاملَ في الحالِ - حينئذ - الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقع صِلةً ، فيلزم ما قاله ، وإن عنى به الوجهَ الأول - أعني : جعل " لِلأبْرَارِ " خبراً ، والنية به التقديم وب " خَيْرٌ " التأخير كما ذكر أبو البقاءِ ، فلا يلزم ما قال ؛ لأنّ " لِلأبْرَارِ " - حينئذٍ - يتعلَّق بمحذوفٍ آخرَ غير الذي تعلُّق به الظرفُ.
(19/208)
و " خَيْرٌ " - هنا - يجوز أن يكون للتفضيل ، وأن لا يكون ، فإن كان للتفضيل كان المعنى : وما عند الله خيرٌ للأبرار مما لهم في الدنيا ، أو خيرٌ لهم مما ينقلب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 130 ـ 133}. بتصرف.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}
الذين وسمناهم بذُلِّ الفرقة بئست حالتهم ، والذين رفعوا قَدَماً لأجلنا فنعمت الحالة والزلفة ؛ وصلوا إلى الثواب المقيم ، وبقوا في الوصلة والنعيم ، وما عند الله مما ادَّخرنا لهم خيرٌ مما أمَّلوه باختيارهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 308}(19/209)
قوله تعالى { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان للمؤمنين من أهل الكتابين - مع التشرف بما كانوا عليه من الدين الذي أصله حق - حظٌّ من الهجرة ، فكانوا قسماً ثانياً من المهاجرين ، وكان إنزال كثير من هذه السورة في مقاولة أهل الكتاب ومجادلتهم والتحذير من مخاتلتهم ومخادعتهم والإخبار - بأنهم يبغضون المؤمنين مع محبتهم لهم ، وأنهم لا يؤمنون بكتابهم ، وأنهم سيسمعون منهم أذى كثيراً إلى أن وقع الختم في أوصافهم بأنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً - ربما أيأس من إيمانهم ؛ أتبع ذلك مدح مؤمنيهم وغير الأسلوب عن أن يقال مثلاً : والذين آمنوا من أهل الكتاب - إطماعاً في موالاتهم بعد التدريب بالتحذير منهم على مناواتهم وملاواتهم فقال : {وإن من أهل الكتاب} أي اليهود والنصارى {لمن يؤمن بالله} أي الذي حاز صفات الكمال ، وأشار إلى الشرط المصحح لهذا الإيمان بقوله : {وما أنزل إليكم} أي من هذا القرآن {وما أنزل إليهم} أي كله ، فيذعن ملا يأمر منه باتباع هذا النبي العربي ، وإليه الإشارة بقوله جامعاً للنظر إلى معنى من تعظيماً لوصف الخشوع بالنسبة إلى مطلق الإيمان : {خاشعين لله} أي لأنه الملك الذي لا كفوء له ، غير مستنكفين عن نزل المألوف {لا يشترون بآيات الله} أي التي متى تأملوها علموا أنه لا يقدر عليها إلا من أحاط بالجلال والجمال ، الآمرة لهم بذلك {ثمناً قليلاً} بما هم عليه من الرئاسة ونفوذ الكلمة - كما تقدم قريباً في وصف معظمهم ، فهم يبينونها ويرشدون إليها ولا يحرفونها.
ولما أخبر تعالى عن حسن ترحمهم إليه أخبر عن جزائهم عنده بما يسر النفوس ويبعث الهمم فقال : {أولئك} أي العظيمو الرتبة {لهم أجرهم} أي الذي يؤملونه ثم زادهم فيه رغبة تشريفة بقوله : {عند ربهم} أي الذي رباهم ولم يقطع إحسانه لحظة عنهم ، كل ذلك تعظيماً له من حيث إن لهم الأجر مرتين.(19/210)
ولما اقتضت هذه التأكيدات المبشرات إنجاز الأجر وإتمامه وإحسانه ، وكان قد تقدم أنه تعالى يؤتي كل أحد من ذكر وأنثى أجره ، ولا يضيع شيئاً ، ويجازي المسيء والمحسن ، وكانت العادة قاضية بأن كثرة الخلق سبب لطول زمن الحساب ، وذلك سبب لطول الانتظار ، وذلك سبب لتعطيل الإنسان عن مهماته ولضيق صدره بتفرق عزمه وشتاته كان ذلك محل عجب يورث توهم ما لا ينبغي ، فأزال هذا التوهم بأن أمره تعالى على غير ذلك لأنه لا يشغله شأن عن شأن بقوله : {إن الله} أي بما له من الجلال والعظمة والكمال {سريع الحساب}. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 202 ـ 203}
فصل فى سبب نزول الآية
قال البغوى :
قال ابن عباس وجابر وأنس وقتادة : نزلت في النجاشي ملك الحبشة ، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أخرجوا فصلوا على أخٍ لكم مات بغير أرضكم النجاشي ، فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات ، واستغفر له فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية. (1)
____________
(1) قال ابن حجر : ذكره الثعلبي من قول ابن عباس وقتادة وذكره الواحدي بلا إسناد ورواه الطبري وابن عدي في ترجمة أبي بكر الهذلي واسمه سلمى وهو ضعيف عن قتادة عن سعيد ابن المسيب عن جابر دون قوله : ونظر إلى أرض الحبشة. وأخرجه الطبراني في الأوسط من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه . انظر الكافي الشاف ص (37). وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكبر عليه أربعا" رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال الطبراني رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد : 3 / 38 - 39 9 / 419. تفسير ابن كثير : 1 / 440. وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ثابتة في الصحيحين. انظر البخاري : 2 / 116 ومسلم : 2 / 656 - 657.(19/211)
وقال عطاء : نزلت في أهل نجران أربعين رجلا [من بني حارث بن كعب] اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 155 ـ 156}
قال الطبرى :
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد. وذلك أنّ الله جل ثناؤه عَمّ بقوله : "وإنّ من أهل الكتاب" أهلَ الكتاب جميعًا ، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود ، ولا اليهود دون النصارى. وإنما أخبر أن من"أهل الكتاب" من يؤمن بالله. وكلا الفريقين أعني اليهود والنصارى من أهل الكتاب. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 499}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار من قبل ، بأن مصيرهم إلى النار بين في هذه الآية أن من آمن منهم كان داخلا في صفة الذين اتقوا فقال : {وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب} واختلفوا في نزولها ، فقال ابن عباس وجابر وقتادة : نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال المنافقون : إنه يصلي على نصراني لم يره قط ، وقال ابن جريج وابن زيد : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقيل : نزلت في أربعين من أهل نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا.(19/212)
وقال مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ، وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب ، بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب.
واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات : أولها : الإيمان بالله ، وثانيها : الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
وثالثها : الإيمان بما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد عليه الصلاة والسلام.
ورابعها : كونهم خاشعين لله وهو حال من فاعل يُؤْمِنُ لأن مَن يُؤْمِنُ في معنى الجمع.
وخامسها : أنهم لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا كما يفعله أهل الكتاب ممن كان يكتم أمر الرسول وصحة نبوته.
ثم قال تعالى في صفتهم : {أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} والفائدة في كونه سريع الحساب كونه عالما بجميع المعلومات ، فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 125 ـ 126}
وقال الآلوسى :
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } أخرج ابن جرير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما مات النجاشي : "اخرجوا فصلوا على أخ لكم فخرج فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط" فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس وأنس وقتادة ، وعن عطاء أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران من بني الحرث بن كعب اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا جميعاً على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ وروي عن ابن جريج وابن زيد.(19/213)
وابن إسحاق أنها نزلت في جماعة من اليهود أسلموا ، منهم عبد الله بن سلام ومن معه ، وعن مجاهد أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ، وأشهر الروايات أنها نزلت في النجاشي وهو بفتح النون على المشهور كما قال الزركشي.
ونقل ابن السيد كسرها وعليه ابن دحية وفتح الجيم مخففة وتشديدها غلط وآخره ياء ساكنة وهو الأكثر رواية لأنها ليست للنسبة ، ونقل ابن الأثير تشديدها ، ومنهم من جعله غلطاً وهو لقب كل من ملك الحبشة واسمه أصحمة بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وحاء مهملة والحبشة يقولونه بالخاء المعجمة ، ومعناه عندهم عطية الصنم ، وذكر مقاتل في "نوادر التفسير" أن اسمه مكحول بن صعصعة ، والأول : هو المشهور ، وقد توفي في رجب سنة تسع ، والجملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك بل منهم من له مناقب جليلة ، وفيها أيضاً تعريض بالمنافقين الذين هم أقبح أصناف الكفار وبهذا يحصل ربط بين الآية وما قبلها من الآيات ، وإذا لاحظت اشتراك هؤلاء مع أولئك المؤمنين فيما عند الله تعالى من الثواب قويت المناسبة وإذا لاحظ أن فيما تقدم مدح المهاجرين وفي هذا مدحاً للمهاجر إليهم من حيث إن الهجرة الأولى كانت إليهم كان أمر المناسبة أقوى ، وإذا اعتبر تفسير الموصول في قوله تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ } [ آل عمران : 196 ] باليهود زادت قوة بعدُ ولام الابتداء داخلة على اسم إن وجاز ذلك لتقدم الخبر.(19/214)
{ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن العظيم الشأن { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } من الإنجيل والتوراة أو منهما وتأخير إيمانهم بذلك عن إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمر بالعكس في الوجود لما أن القرآن عيار ومهيمن عليهما فإن إيمانهم بذلك إنما يعتبر بتبعية إيمانهم بالقرآن إذ لا عبرة بما في الكتابين من الأحكام المنسوخة وما لم ينسخ إنما يعتبر من حيث ثبوته بالقرآن ولتعلق ما بعد بذلك ، وقيل : قدم الإيمان بما أنزل على المؤمنين تعجيلاً لإدخال المسرة عليهم ، والمراد من الإيمان بالثاني الإيمان به من غير تحريف ولا كتم كما هو شأن المحرفين والكاتمين واتباع كل من العامة { خاشعين للَّهِ } أي خاضعين له سبحانه ، وقال ابن زيد : خائفين متذللين ، وقال الحسن : الخشوع الخوف اللازم للقلب من الله تعالى وهو حال من فاعل يؤمن وجمع حملاً على المعنى بعد ما حمل على اللفظ أولاً ، وقيل : حال من ضمير { إِلَيْهِمُ } وهو أقرب لفظاً فقط ، وجيء بالحال تعريضاً بالمنافقين الذين يؤمنون خوفاً من القتل ، و{ لِلَّهِ } متعلق بخاشعين ، وقيل : هو متعلق بالفعل المنفي بعده وهو في نية التأخير كأنه قال سبحانه : { لاَ يَشْتَرُونَ بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً } لأجل الله تعالى ، والأول أولى ، وفي هذا النفي تصريح بمخالفتهم للمحرفين ، والجملة في موضع الحال أيضاً والمعنى لا يأخذون عوضاً يسيراً على تحريف الكتاب وكتمان الحق من الرشا والمآكل كما فعله غيره ممن وصفه سبحانه فيما تقدم ، ووصف الثمن بالقليل إما لأن كل ما يؤخذ على التحريف كذلك ولو كان ملء الخافقين ، وإما لمجرد التعريض بالآخذين ومدحهم بما ذكر ليس من حيث عدم الأخذ فقط بل لتضمن ذلك إظهار ما في الآيات من الهدى وشواهد نبوته صلى الله عليه وسلم.(19/215)
{ أولئك } أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة ، واختيار صيغة البعد للإيذان بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضيلة { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أي ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم والإضافة للعهد أي الأجر المختص بهم الموعود لهم بقوله سبحانه : { أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] وقوله تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف.
وفي الكلام أوجه من الإعراب فقد قالوا : إن أولئك مبتدأ والظرف خبره وأجرهم مرتفع بالظرف ، أو الظرف خبر مقدم ، وأجرهم مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر المبتدأ ، وعند ربهم نصب على الحالية من أجرهم.
وقيل : متعلق به بناءاً على أن التقدير لهم أن يؤجروا عند ربهم ، وجوز أن يكون أجرهم مبتدأ ؛ وعند ربهم خبره ، ولهم متعلق بما دل عليه الكلام من الاستقرار والثبوت لأنه في حكم الظرف ، والأَوجَه من هذه الأَوجُه هو الشائع على ألسنة المعربين.
{ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } إما كناية عن كمال علمه تعالى بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق وأنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي وقدر ما ينبغي وحينئذٍ تكون الجملة استئنافاً وارداً على سبيل التعليل لقوله تعالى : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أو تذييلاً لبيان علة الحكم المفاد بما ذكر ، وإما كناية عن قرب الأجر الموعود فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء ، وحينئذٍ تكون الجملة تكميلاً لما قبلها فإنه في معنى الوعد كأنه قيل : لهم أجر عند ربهم عن قريب ، وفصلت لأن الحكم بقرب الأجر مما يؤكد ثبوته. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 173 ـ 175}(19/216)
قال ابن عاشور :
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
عطف على جملة { لكن الذين اتقوا ربهم } [ آل عمران : 198 ] استكمالاً لذكر الفِرَق في تلقّي الإسلام : فهؤلاء فريق الذين آمنوا من أهل الكتاب ولم يظهروا إيمانهم لخوف قومهم مثل النجاشي أصحمة ، وأثنى الله عليهم بأنّهم لا يحرّفون الدين ، والآية مؤذنة بأنّهم لم يكونوا معروفين بذلك لأنّهم لو عرفوا بالإيمان لما كان من فائدة في وصفهم بأنّهم من أهل الكتاب ، وهذا الصنف بعكس حال المنافين.
وأكّد الخبر بأنّ وبلام الابتداء للردّ على المنافقين الذين قالوا لرسول الله لمّا صلّى على النجاشي : انظروا إليه يصلّي على نصراني ليس على دينه ولم يره قط.
على ما روي عن ابن عباس وبعض أصحابه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية.
ولعلّ وفاة النجاشي حصلت قبل غزوة أُحُد.
وقيل : أريد بهم هنا من أظهر إيمانه وتصديقه من اليهود مثل عبد الله بن سلام ومخيريق ، وكذا من آمن من نصارى نجران أي الذين أسلموا ورسول الله بمكّة إن صحّ خبر إسلامهم.
وجيء باسم الإشارة في قوله : { أولئك لهم أجرهم عند ربهم } للتنبيه على أنّ المشار إليهم به أحرياء بما سيرد من الإخبار عنهم لأجل ما تقدّم اسمَ الإشارة.
وأشار بقوله : { إن الله سريع الحساب } إلى أنّه يبادر لهم بأجرهم في الدنيا ويجعله لهم يوم القيامة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 317}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { لَمَن يُؤْمِنُ } اللام لام الابتداء ، دخلت على اسم " إنَّ " لتأخُّرهِ عنها ، و" مِنْ أهْلِ " خبرٌ مقدَّمٌ و" من " يجوز أن تكونَ موصولةً - وهو الأظهر - وموصوفة ، أي : لـ " قوماً " ، و" يؤمن " صلة - على الأول - فلا محلَّ له ، وصفة - على الثاني - فمحله النصب ، وأتى - هنا - بالصلة مستقبلة - وإن كان ذلك قد مضى - دلالة على الاستمرار والديمومة.(19/217)
والمعنى : إن من أهْلِ الكتابِ مَنْ يُؤمِن باللهِ وما أنْزِل إليكم ، وهو القرآنُ ، وما أنْزِلَ إلَيْهَم ، وهو التوراة والإنجيل.
قوله : { خَاشِعِينَ } فيه أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه حالٌ من الضمير في " يؤمن " وجَمَعَه ، حَمْلاً على معنى " مَنْ " كما جمع في قوله : " إلَيْهِمْ " وبدأ بالحمل على اللفظ في " يُؤْمِن " ثم بالحَمْلِ على المعنى ؛ لأنه الأولى.
ثانيها : أنه حال من الضمير في " إلَيْهِمْ " فالعامل فيه " أنْزِلَ ".
ثالثها : أنه حال من الضمير في " يَشْتَرُون " وتقديم ما في حيِّز " لا " عليها جائز على الصحيح وتقدم شيء من ذلك في الفاتحة.
رابعها : أنه صفة لِـ " من " إذا قيل بأنها نكرة موصوفة. وأما الأوجه الثلاثة السابقة فجائزة ، سواء كانت موصولةٌ ، أو نكرة موصوفة.
قوله : " للهِ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق بـ " خَاشِعِينَ " أي : لأجل الله.
ثانيهما : أنه متعلق بـ " لاَ يَشْتَرُونَ " ذكره أبو البقاء ، قال : " وهو في نية التأخير ، أي : لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله ".
قوله : { لاَ يَشْتَرُونَ } كقوله : { خَاشِعِينَ } إلا في الوجه الثالث ، لتعذره ، ويزيد عليها وجهاً آخر ، وهو أن يكون حالاً من الضمير المستكن في " خَاشِعينَ " أي : غير مشترين.
قوله : { أولئك لَهُمْ أَجْرُهُمْ } " أولئك " مبتدأ ، وأما " لَهُمْ أجْرُهُمْ " ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون " لَهُمْ " خبراً مقدَّماً ، و" أجْرُهُمْ " مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر الأول ، وعلى هذا فالظرفُ فيه وجهانِ :
الأول : أنه متعلق بـ " أجْرُهُمْ ".
الثاني : أنه حال من الضمير في " لَهُمْ " وهو ضمير الأجر ، لأنه واقع خبراً.
(19/218)
ثانيها : أن يرتفع " أجْرُهُمْ " بالجارِّ قبله ، وفي الظرف الوجهان ، إلا أنّ الحال من " أجْرُهُمْ " الظاهر ؛ لأن " لَهُمْ " لا ضمير فيه حينئذ.
ثالثها : أن الظرف هو خبر " أجْرُهُمْ " و" لَهُمْ " متعلق بما تعلَّق به من هذا الظرف من الثبوت والاستقرار. ومن هنا إلى آخر السورة تقدم إعراب نظائره. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 133 ـ 135}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)}
يريد منْ ساعَدَتْهم القسمةٌ بالحسنى فهم مع أولياء الله نعمةً كما كانوا معهم قسمةً. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 308}(19/219)
قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كثر في هذه الآيات الأمر بمقاساة الشدائد وتجرع مرارات الأذى واقتحام الحروب واستهانة عظائم الكروب ، والحث على المعارف الإلهية والآداب الشرعية من الأصول والفروع انخلاعاًَ من المألوفات إلى ما يأمر به سبحانه من الطاعات ، وختم بتجرع فرقة من أهل الكتاب لتلك المرارات كانت نتيجة ذلك لا محالة قوله تعالى منبهاً على عظمة ما يدعو إليه لأنه شامل لجميع الآداب : {يا أيها الذين آمنوا} أي بكل ما ذكرنا في هذه السورة {اصبروا} أي أوقعوا الصبر تصديقاً لإيمانكم على كل ما ينبغي الصبر عليه مما تكرهه النفوس مما دعتكم إليه الزهراوان {وصابروا} أي أوجدوا المصابرة للأعداء من الكفار والمنافقين وسائر العصاة ، فلا يكونن على باطلهم أصبر منكم على حقكم {ورابطوا} أي بأن تربطوا في الثغور خيلاً بإزاء ما لهم من الخيول إرهاباً لهم وحذراً منهم - هذا أصله ، ثم صار الرباط يطلق على المكث في الثغور لأجل الذب عن الدين ولو لم تكن خيول ، بل وتطلق على المحافظة على الطاعات ، ثم أمر بملاك ذلك كله فقال : {واتقوا الله} أي في جميع ذلك بأن تكونوا مراقبين له ، مستحضرين لجميع ما يمكنكم أن تعلموه من عظمته بنعمته ونقمته {لعلكم تفلحون} أي ليكون حالكم حال من يرجى فلاحه وظفره بما يريد من النصر على الأعداء والفوز بعيش الشهداء ، وهذه الآية - كما ترى - معلمة بشرط استجابة الدعاء بالنصرة على الكافرين ، المختتم به البقرة أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 203}(19/220)
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع ، أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما ، ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب ، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان : منها ما يتعلق به وحده ، ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره ، أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر ، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة.
أما الصبر فيندرج تحته أنواع : أولها : أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين.
وثانيها : أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات.
وثالثها : أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات.(19/221)
ورابعها : الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف ، فقوله : {اصبروا} يدخل تحته هذه الأقسام ، وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها ، وأما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير ، ويدخل فيه تحمل الاخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب ، ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء إليك كما قال : {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} [ الأعراف : 199 ] وقال : {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً} [ الفرقان : 72 ] ويدخل فيه الايثار على الغير كما قال : {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [ الحشر : 9 ] ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال : {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} [ البقرة : 237 ] ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن المقدم عليه ربما وصل إليه بسببه ضرر ، ويدخل فيه الجهاد فإنه تعريض النفس للهلاك ، ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين ، وحل شكوكهم والجواب عن شبههم ، والاحتيال في إزالة تلك الاباطيل عن قلوبهم ، فثبت أن قوله {اصبروا} تناول كل ما تعلق به وحده {وَصَابِرُواْ} تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره.(19/222)
واعلم أن الإنسان وإن تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص ، والانسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الإتيان بالصبر والمصابرة ، فلهذا قال : {وَرَابِطُواْ} ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للإنسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض ، وجب أن يكون للإنسان في هذه المجاهدة غرض وباعث ، وذلك هو تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح ، فلهذا قال : {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى ، فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة ، وذلك عبارة عن الإتيان بالافعال الحسنة ، والاحتراز عن الأفعال الذميمة ، ولما كانت الأفعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الأفعال الذميمة ، وذلك هو المراد بالمرابطة ، ثم ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات ، وذلك هو تقوى الله ، ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والأخلاق ، وهو الفلاح ، فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والأسرار الروحانية ، وانها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع فهذا ما عندي فيه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 126}
فصل
قال الفخر :
قال الحسن : اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع ، وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد ، وقال الفراء : اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم ، وقال الأصم : لما كثرت تكاليف الله في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها ، ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء.
وأما قوله : {وَرَابِطُواْ} ففيه قولان :(19/223)
الأول : أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضاً ، بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعداً لقتال الآخر ، قال تعالى : {وَمِن رّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} [ الأنفال : 60 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة "
الثاني : أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ويدل عليه وجهان :
الأول : ما روي عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه قال : لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة.
الثاني : ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال : " فذلكم الربا ط " ثلاث مرات.
واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل ، وأصل الرباط من الربط وهو الشد ، يقال : لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه ،
وقال آخرون : الربا ط هو اللزوم والثبات ، وهذا المعنى أيضاً راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس ، ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد ، ويجوز أن يكون على الصلاة والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 127}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
لما بين سبحانه في تضاعيف هذه السورة الكريمة ما بين من الحكم والأحكام وشرح أحوال المؤمنين والكافرين وما قاساه المؤمنون الكرام من أولئك اللئام من الآلام ختم السورة بما يضوع منه مسك التمسك بما مضى ، ويضيع بامتثال ما فيه مكايد الأعداء ولو ضاق لها الفضا(19/224)
بم فقال عز من قائل : { يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا } أي احبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها ، والظاهر أن المراد الأمر بما يعم أقسام الصبر الثلاثة المتفاوتة في الدرجة الواردة في الخبر ، وهو الصبر على المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية { وَصَابِرُواْ } أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله تعالى صبراً أكثر من صبرهم ، وذكره بعد الأمر بالصبر العام لأنه أشدّ فيكون أفضل ، فالعطف كعطف جبريل على الملائكة والصلاة الوسطى على الصلوات ، وهذا وإن آل إلى الأمر بالجهاد إلا أنه أبلغ منه.
{ وَرَابِطُواْ } أي أقيموا في الثغور رابطين خيولكم فيها حابسين لها مترصدين للغزو مستعدين له بالغين في ذلك المبلغ الأوفى أكثر من أعدائكم ، والمرابطة أيضاً نوع من الصبر ، فالعطف هنا كالعطف السابق.
وقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها " ، وأخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مات مرابطاً في سبيل الله تعالى أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله تعالى آمناً من الفزع " ، وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رابط يوماً في سبيل الله تعالى جعل الله تعالى بينه وبين النار سبع خنادق كل خندق كسبع سموات وسبع أرضين " ، وأخرج أبو الشيخ عن أنس مرفوعاً " الصلاة بأرض الرباط بألف ألفي صلاة " وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الرباط أفضل من الجهاد لأنه حقن دماء المسلمين والجهاد سفك دماء المشركين.(19/225)
{ واتقوا الله } في مخالفة أمره على الإطلاق فيندرج فيه جميع ما مرّ اندرجا أولياً.
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي لكي تظفروا وتفوزوا بنيل المنية ودرك البغية والوصول إلى النجح في الطلبة وذلك حقيقة الفلاح ، وهذه الآية على ما سمعت مشتملة على ما يرشد المؤمن إلى ما فيه مصلحة الدين والدنيا ويرقى به إلى الذروة العليا ، وقرر ذلك بعضهم بأن أحوال الإنسان قسمان : الأول : ما يتعلق به وحده ، والثاني : ما يتعلق به من حيث المشاركة مع أهل المنزل والمدينة ، وقد أمر سبحانه نظراً إلى الأول بالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر ، والاستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والاحتراز عن المنهيات والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها ، وأمر نظراً إلى الثاني بالمصابرة ويدخل فيها تحمل الأخلاق الردية من الأقارب والأجانب وترك الانتقام منهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد مع أعداء الدين باللسان والسنان ، ثم إنه لما كان تكليف الإنسان بما ذكر لا بد له من إصلاح القوى النفسانية الباعثة على أضداد ذلك أمره سبحانه بالمرابطة أعم من أن تكون مرابطة ثغر أو نفس ، ثم لما كانت ملاحظة الحق جل وعلا لا بدّ منها في جميع الأعمال والأقوال حتى يكون معتداً بها أمر سبحانه بالتقوى ، ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام بوظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه انتهى ، ولا يخفى أنه على ما فيه تمحل ظاهر وتعسف لا ينكره إلا مكابر ، وأولى منه أن يقال : إنه تعالى أمر بالصبر العام أولاً لأنه كما في الخبز بمنزلة الرأس من الجسد وهو مفتاح الفرج.(19/226)
وقال بعضهم : لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل ، وجوهر العقل الصبر ، وادعى غير واحد أن جميع المراتب العلية والمراقي السنية الدينية والدنيوية لا تنال إلا بالصبر ، ومن هنا قال الشاعر :
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى...
فما انقادت الآمال إلا لصابر
ثم إنه تعالى أمر ثانياً بنوع خاص من الصبر وهي المجاهدة التي يحصل بها النفع العام والعز التام ، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تركتم الجهاد سلط الله تعالى عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " ثم ترقى إلى نوع آخر من ذلك هو أعلى وأغلى وهو المرابطة التي هي الإقامة في ثغر لدفع سوء مترقب ممن وراءه ، ثم أمر سبحانه آخر الأمر بالتقوى العامة إذ لولاها لأوشك أن يخالط تلك الأشياء شيء من الرياء والعجب ، ورؤية غير الله سبحانه فيفسدها ، وبهذا تم المعجون الذي يبرىء العلة وروق الشراب الذي يروي الغلة.(19/227)
ومن هنا عقب ذلك بقوله عز شأنه : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وهذا مبني على ما هو المشهور في تفسير الآية ، وقد روي في بعض الآثار غير ذلك ، فقد أخرج ابن مردويه عن سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليَّ أبو هريرة يوماً فقال : أتدري يا ابن أخي فيم أنزلت هذه الآية { الحساب يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا } الخ ؟ قلت : لا قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله تعالى فيها ، ففيهم أنزلت أي اصبروا على الصلوات الخمس وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم واتقوا الله فيما علمكم لعلكم تفلحون ، وأخرج مالك والشافعي وأحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطأ إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط "
ولعل هذه الرواية عن أبي هريرة أصح من الرواية الأولى مع ما في الحكم فيها بأنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه من البعد بل لا يكاد يسلم ذلك له ؛ ثم إن هذه الرواية وإن كانت صحيحة لا تنافي التفسير المشهور لجواز أن تكون اللام في الرباط فيها للعهد ، ويراد به الرباط في سبيل الله تعالى ويكون قوله عليه السلام : "فذلكم الرباط" من قبيل زيد أسد ، والمراد تشبيه ذلك بالرباط على وجه المبالغة.(19/228)
وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن المراد اصبروا على الجهاد وصابروا عدوكم ورابطوا على دينكم ، وعن الحسن أنه قال : اصبروا على المصيبة وصابروا على الصلوات ورابطوا في لجهاد في سبيل الله تعالى ، وعن قتادة أنه قال : اصبروا على طاعة الله تعالى وصابروا أهل الضلال ورابطوا في سبيل الله ، وهو قريب من الأول ، والأول أولى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 175 ـ 176}
فائدة
قال ابن عاشور :
ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدّد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدوّ كي لا يثبّطهم ما حصل من الهزيمة ، فأمَرَهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال ، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر ، وهذا أشدّ الصبر ثباتاً في النفس وأقربه إلى التزلزل ، ذلك أنّ الصبر في وجه صابرٍ آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة قِرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه ، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتّى يملّ قرنه فإنّه لا يجتني من صبره شيئاً ، لأنّ نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً ، كما قال زُفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام :
سَقَيْنَاهُم كَأساً سقَوْنا بِمِثْلِها...
ولكنَّهم كانوا على الموت أَصْبَرا
فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب كما قال شاعر العرب الذي لم يعرف اسمه :
لا أنت معتادُ في الهيجا مُصابَرةٍ
يَصْلى بها كلّ من عاداك نيراناً
وقوله : { ورابطوا } أمر لهم بالمرابطة ، وهي مفاعلة من الرّبْط ، وهو ربط الخيل للحراسة في غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدوّ ، أمر الله به المسلمين ليكونوا دائماً على حذر من عدوّهم تنبيهاً لهم على ما يكيد به المشركون من مفاجأتهم على غِرّة بعد وقعة أُحُد كما قدّمناه آنفاً ، وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلمّا أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظاً من عدوّهم.(19/229)
وفي كتاب الجهاد من "البخاري" : بابُ فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } إلخ.
وكانت المرابطة معروفة في الجاهلية وهي ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات التي يستطيع العدوّ الوصول منها إلى الحيّ مثل الشعاب بين الجبال.
وما رأيت مَن وصف ذلك مثل لبيد في معلّقته إذ قال :
ولَقد حَمَيْتُ الحَيّ تَحْمِل شِكَّتي...
فُرُط وِشَاحِي إذْ غَدَوْتُ لجامُها
فَعَلَوْتُ مُرْتَقَبَا على ذي هَبْوَةٍ...
حَرِج إلى إعلامهن قَتَامُها
حَتَّى إذا ألْقَتْ يداً في كافر...
وأجَنّ عَوْرَاتتِ الثُّغورِ ظلامُها
فذكر أنّه حرس الحيّ على مكان مرتقَب ، أي عال بربط فرسه في الثغر.
وكان المسلمون يرابطون في ثغور بلاد فارس والشام والأندلس في البَرّ ، ثم لمّا اتّسع سلطان الإسلام وامتلكوا البحار صار الرباط في ثغور البخار وهي الشطوط التي يخشى نزول العدوّ منها : مثل رباط المنستير بتونس بإفريقية ، ورباط سلا بالمغرب ، ورُبط تونس ومحارسها : مثل مَحْرس علي بن سالم قرب صفاقس.
فأمر الله بالرباط كما أمر بالجهاد بهذا المعنى وقد خفي على بعض المفسّرين فقال بعضهم : أراد بقوله : { ورابطوا } إعداد الخيل مربوطة للجهاد ، قال : ولم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو في الثغور.
وقال بعضهم : أراد بقوله : { ورابطوا } انتظار الصلاة بعد الفراغ من التي قبلها ، لما روى مالك في "الموطأ" ، عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وقال : " فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " ونُسب هذا لأبي سلمة بن عبد الرحمن.(19/230)
قال ابن عطية : والحقّ أن معنى هذا الحديث على التشبيه ، كقوله : " ليس الشديد بالصرعة " وقوله : " ليس المسكين بهذا الطّواف الذي تردّه اللقمة واللقمتان " ، أي وكقوله صلى الله عليه وسلم " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ".
وأعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنّها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 317 ـ 319}
فصل
قال الطبرى :
وأولى التأويلات بتأويل الآية ، قول من قال في ذلك : "يا أيها الذين آمنوا" ، يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، "اصبروا" على دينكم وطاعة ربكم. وذلك أنّ الله لم يخصص من معاني"الصبر" على الدين والطاعة شيئًا ، فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل. فلذلك قلنا إنه عني بقوله : "اصبروا" ، الأمرَ بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى ، صعبها وشديدها ، وسهلها وخفيفها.
"وصابروا" ، يعني : وصابروا أعداءكم من المشركين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المعروف من كلام العرب في"المفاعلة" أن تكون من فريقين ، أو اثنين فصاعدًا ، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة. فإذْ كان ذلك كذلك ، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم ، حتى يظفرهم الله بهم ، ويعلي كلمته ، ويخزي أعداءهم ، وأن لا يكون عدوُّهم أصبر منهم.
وكذلك قوله : "ورابطوا" ، معناه : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك ، في سبيل الله.
ورأى أن أصل"الرباط" ، ارتباط الخيل للعدوّ ، كما ارتبط عدوهم لهم خيلهم ، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء ، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر ، كان ذا خيل قد ارتبطها ، أو ذا رَجْلة لا مركب له.(19/231)
وإنما قلنا معنى : "ورابطوا" ، ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم ، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني"الرباط". وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه ، دون الخفي ، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه حجة يجب التسليم لها من كتاب ، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع من أهل التأويل. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 508 ـ 509}
فصل
قال البيضاوى :
{ يَا أَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اصبروا } على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد. { وَصَابِرُواْ } وغالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الحرب وأعدى عدوكم في الصبر على مخالفة الهوى ، وتخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقاً لشدته. { وَرَابِطُواْ } أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصدين للغزو ، وأنفسكم على الطاعة كما قال عليه الصلاة والسلام " من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة " وعنه عليه الصلاة والسلام " من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه ، لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة ". { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فاتقوه بالتبري عما سواه لكي تفلحوا غاية الفلاح ، أو واتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة ، المرتبة التي هي الصبر على مضض الطاعات ومصابرة النفس في رفض العادات ومرابطة السر على جناب الحق لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة ، والطريقة ، والحقيقة. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 136 ـ 137}
وقال النسفى :
{ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } الفلاح : البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه ، و"لعل" لتغييب المآل لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال. وقيل : اصبروا في محبتي ، وصابروا في نعمتي ، ورابطوا أنفسكم في خدمتي لعلكم تفلحون تظفرون بقربتي. أ هـ {تفسير النسفى حـ 1 صـ 201}(19/232)
فائدة
قال ابن القيم :
قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فأمرهم بالصبر وهو حال الصابر في نفسه والمصابرة وهى حاله في الصبر مع خصمه والمرابطة وهى الثبات واللزوم والاقامة على الصبر والمصابرة فقد يصبر العبد ولا يصابر وقد يصابر ولا يرابط وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى وأن الفلاح موقوف عليها فقال {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن مملكته. أ هـ {عدة الصابرين صـ 21}(19/233)
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا } الآية.
ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية العاشرة من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة ؛ فحضّ على الصبر على الطاعات وعن الشهوات ، والصبر الحبس ، وقد تقدّم في "البقرة" بيانه.
وأمر بالمصابرة فقيل : معناه مصابرة الأعداء ؛ قاله زيد بن أسلم.
وقال الحسن : على الصلوات الخمس.
وقيل : إدامة مخالفة النفس عن شهواتها فهي تدعو وهو يَنْزَع.
وقال عطاء والقرظي : صابروا الوَعْد الذي وُعِدتم.
أي لا تيأسوا وانتظروا الفرج ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " انتظار الفرج بالصبر عبادة " واختار هذا القول أبو عمر رحمه الله.
والأوّل قول الجمهور ؛ ومنه قول عنترة :
فلم أرَ حَيّاً صابروا مثل صبرِنا . . .
ولا كافَحُوا مثلَ الَّذِينَ نُكَافِحُ
فقوله : "صابروا مثل صبرنا" أي صابرون العدوّ في الحرب ولم يبدُ منهم جُبْن ولا خَوَر.
والمكافحة : المواجهة والمقابلة في الحرب ؛ ولذلك اختلفوا في معنى قوله { وَرَابِطُواْ } فقال جمهور الأمة : رَابِطُوا أعداءكم بالخيل ، أي ارتبطواها كما يرتبطها أعداءكم ؛ ومنه قوله تعالى : { وَمِن رِّبَاطِ الخيل }.
وفي الموطأ عن مالك عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة بن الجرّاح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخَوّف منهم ؛ فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من مُنَزّلِ شدّةٍ يجعل الله له بعدها فَرَجاً ، وإنه لن يغلِب عسر يُسرين ، وإنّ الله تعالى يقول في كتابه { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.(19/234)
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن ؛ هذه الآية في انتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة ، ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غَزْوٌ يُرابط فيه ؛ رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه.
واحتج أبو سلمة بقوله عليه السَّلام : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخُطا إلى المساجد وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة فذلكم الرباط " ثلاثاً ؛ رواه مالك.
قال ابن عطية ؛ والقول الصحيح هو أن الرباط ( هو ) الملازمة في سبيل الله.
أصلها من ربط الخيل ، ثم سُمِّي كل ملازم لِثغَرْ من ثُغُور الإسلام مرابطاً ، فارِساً كان أو راجلاً.
واللفظ مأخوذ من الربط.
وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم "فذلكم الرّباط" إنما هو تَشْبِيهٌ بالرباط في سبيل الله.
والرّباط اللغويّ هو الأول ؛ وهذا كقوله : " ليس الشديد بالصُّرَعة " وقوله : " ليس المسكين بهذا الطواف " إلى غير ذلك.
قلت : قوله : "والرباط اللغوي هو الأوّل" ليس بمسلّم ، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمّة اللغة وثقاتها قد قال : الرِّبَاط ملازمة الثغور ، ومواظبة الصَّلاة أيضًا ، فقد حصل أن انتظار الصَّلاة رِباط لغويّ حقيقة ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم.
وأكثر من هذا ما قاله الشيباني أنه يُقال : ماءٌ مترابطٌ أي دائم لا يَنْزَحُ ؛ حكاه ابن فارس ، وهو يقتضي تعدية الرباط لغة إلى غير ما ذكرناه.
فإن المرابطة عند العرب : العقد على الشيء حتى لا ينحل ، فيعود إلى ما كان صبر عنه ، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة.
ومن أعظمها وأهمها ارتباط الخيل في سبيل الله كما نص عليه في التنزيل في قوله : { وَمِن رِّبَاطِ الخيل } على ما يأتي.
(19/235)
وارتباط النفس على الصلوات كما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ رواه أبو هريرة وجابر وعليّ ، ولا عِطْرَ بعد عَرُوسٍ.
المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يَشْخَص إلى ثغْر من الثُّغور ليرابط فيه مدةً مَا ؛ قاله محمد بن الموّاز ( ورواه ).
وأما سُكّان الثّغور دائماً بأهليهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك ، فهم وإن كانوا حُماة فليسوا بمرابطين.
قاله ابن عطية.
وقال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد : وللرِّباط حالتان : حالة يكون الثَّغر مأموناً مَنيعاً يجوز سكناه بالأهل والولد.
وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال ، ولا ينقل إليه الأهلَ والولدَ لئلا يظهر العدوّ فيَسبِي ويسترِقّ ، والله أعلم.
جاء في فضل الرِّباط أحاديث كثيرة ، منها ما رواه البخاريّ عن سهل بن سَعد السَّاعِديّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رِباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ عند الله مِن الدنيا وما فيها "
وفي صحيح مُسلم عن سَلمان قال ؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهر وقيامِه وإن مات جَرَى عليه عملُه الذي كان يعمله وأُجْرِي عليه رزقه وأمِن الفُتّان " وروى أبو داود في سُننه عن فَضَالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كلّ مَيِّت يُختم على عمله إلاَّ المرابط فإنه يَنْمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فَتّان القبر " وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت.
(19/236)
كما جاء في حديث العَلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مات الإنسان انقطع عنه عملُه إلاَّ من ثلاثة إلاَّ من صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له " وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم ؛ فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح الذي يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهابِ العلم وموتِ الولد.
والرباط يُضاعف أجرهُ إلى يوم القيامة ؛ لأنه لا معنى للنّماء إلاَّ المضاعفة ، وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه ، بل هي فضلٌ دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة.
وهذا لأن أعمال البِرّ كلّها لا يُتمكنّ منها إلاَّ بالسلامة من العدوّ والتحرُّز منه بحراسة بَيْضَة الدِّين وإقامة شعائر الإسلام.
وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة.
خرّجه ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مات مرابطاً في سبيل الله أَجْرى عليه أجرَ عملهِ الصالِح الذي كان يعمل وأَجْرَى عليه رزقه وأُمِنَ من الفُتّان وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع " وفي هذا الحديث قيدٌ ثان وهو الموت حالة الرّباط ، والله أعلم.
(19/237)
ورُوي عن عثمان بن عفّان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامِها وقيامها " ورُوي عن أُبيّ بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَرباط يوم في سبيل الله من وراء عَورة المسلمين مُحتسباً من غير شهر رمضان أعظمُ أجراً من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباطُ يومٍ في سبيل الله من وراء عورة المسلمين مُحتسِباً من شهر رمضان أفضلُ عند الله وأعظم أجراً أراه قال : من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن ردّه الله إلى أهله سالماً لم تكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويُجرَي له أجرُ الرّباط إلى يوم القيامة " ودلّ هذا الحديث على أن رِباط يوم في شهر رمضان يحصل له من الثواب الدّائم وإن لم يمت مرابطاً ، والله أعلم.
وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حَرْس ليلة في سبيل الله أفضلُ من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنةٍ السّنة ثلاثمائة يوم ( وستون يوماً ) واليوم كألف سنة ".
قلت : وجاء في انتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة أنه رِباط ؛ فقد يحصل لِمُنْتظِرِ الصلواتِ ذلك الفضل إن شاء الله تعالى.
وقد روى أبو نعيم الحافظ قال حدّثنا سليمان بن أحمد قال حدّثنا علي بن عبد العزيز قال حدّثنا حَجّاج بن المِنْهال وحدّثنا أبو بكر بن مالك قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدّثني أبي قال حدّثني الحسن بن موسى قال حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت البُنَانِيّ عن أبي أيوب الأزدي عن نَوْفِ البِكَالِيّ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى ذات ليلةٍ المغرب فصلّينا معه فعقب من عقب ورجع من رجع.
(19/238)
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يثوب الناس لصَّلاة العشاء ، فجاء وقد حضره الناس رافعاً أصبعَه وقد عقد تِسعاً وعشرين يُشير بالسبّابة إلى السماء فَحَسَر ثوبه عن ركبتيه وهو يقول : " أبشروا مَعشرَ المسلمين هذا ربُّكم قد فتح باباً من أبواب السماء يُباهي بكم الملائكةَ يقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي هؤلاء قضَوْا فريضةً وهم ينتظرون أخرى " ورواه حَمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن مُطرِّف بن عبد الله : أن نَوْفا وعبد الله بن عمرو اجتمعا فحدّث نَوْفٌ عن التوراة وحدّث عبد الله بن عمرو بهذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
{ واتقوا الله } أي لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى.
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لتكونوا على رجاء من الفلاح.
وقيل : لعل بمعنى لِكي.
والفلاح البقاء ، وقد مضى هذا كله في "البقرة" مستوفى ، والحمد لله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 322 ـ 327}. بتصرف يسير.(19/239)
فائدة
قال ابن العربى :
قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي شَرْحِ أَلْفَاظِهَا : الصَّبْرُ : عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا ، وَالْمُصَابَرَةُ : إدَامَةُ مُخَالَفَتِهَا فِي ذَلِكَ ؛ فَهِيَ تَدْعُو وَهُوَ يَنْزِعُ.
وَالْمُرَابَطَةُ : الْعَقْدُ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى لَا يَبْخَلَ فَيَعُودَ إلَى مَا كَانَ صَبَرَ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْأَقْوَالِ : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ ، وَصَابِرُوا وَعْدِي لَكُمْ ، وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ.
الثَّانِي : اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ ، وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ ، وَرَابِطُوا الْخَيْلَ.
الثَّالِثُ : مِثْلُهُ إلَّا قَوْلَهُ : رَابِطُوا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ رَابِطُوا الصَّلَوَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي حَقِيقَةِ ذَلِكَ : وَهُوَ أَنَّ الصَّبْرَ : حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ مَكْرُوهِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا وَالْمُصَابَرَةُ : حَمْلُ مَكْرُوهٍ يَكُونُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا ؛ الْأَوَّلُ كَالْمَرَضِ ، وَالثَّانِي كَالْجِهَادِ.(19/240)
وَالرِّبَاطُ : حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ وَالْجِسْمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ ، وَمِنْ أَعْظَمِهِ ارْتِبَاطُ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَارْتِبَاطُ النَّفْسِ عَلَى الصَّلَوَاتِ ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ : لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ ؛ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ.
وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ }.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ : إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ثَلَاثًا }.
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَوْلَاهُ وَأَفْضَلَهُ فِي نَوْعَيْ الطَّاعَةِ الْمُتَعَدِّي بِالْمَنْفَعَةِ إلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ ، وَإِلْزَامُ الْمُخْتَصِّ بِالْفَاعِلِ وَهُوَ دُونَهُ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَتَفَاضَلُ الْعَقَائِدُ وَالْأَعْمَالُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَفِيضُ مِنْهُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 399 ـ 401}(19/241)
فائدة
قال التسترى :
قوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 200 ] قال : الإيمان أربعة أركان : الأول التوكل على الله ، والثاني الاستسلام لأمره ، والثالث الرضا بقضائه ، والرابع الشكر لنعمائه والتقوى .
باب الإيمان
اليقين قلب الإيمان ، والصبر عماد الإيمان ، والإخلاص كمال الإيمان ، لأن العبد بالإخلاص ينال التصديق ، وبالتصديق ينال التحقيق ، وبالتحقيق يصل إلى الحق . والإخلاص ثمرة اليقين ، لأن اليقين مشاهدة السر ، فمن لم تكن له مشاهدة السر مع مولاه لم يخلص عمله لله ، والله سبحانه وتعالى أعلم . أ هـ {تفسير التسترى صـ 97}(19/242)
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع الاستعارة.
عبر بأخذ الميثاق عن التزامهم أحكام ما أنزل عليهم من التوراة والإنجيل ، وبالنبذ وراء ظهورهم عن ترك عملهم بمقتضى تلك الأحكام ، وباشتراء ثمن قليل عن ما تعوضوه من الحطام على كتم آيات الله ، وبسماع المنادي إن كان القرآن عن ما تلقوه من الأمر والنهي والوعد والوعيد بالاستجابة عن قبول مسألتهم ، وبانتفاء التضييع عن عدم مجازاته على يسير أعمالهم ، وبالتقلب عن ضربهم في الأرض لطلب المكاسب ، وبالمهاد عن المكان المستقر فيه ، وبالنزل عما يعجل الله لهم في الجنة من الكرامة ، وبالخشوع الذي هو تهدم المكان وتغير معالمه عن خضوعهم وتذللهم بين يديه ، وبالسرعة التي هي حقيقة في المشي عن تعجيل كرامته.
قيل : ويحتمل أن يكون الحساب استعير للجزاء ، كما استعير { ولم أدر ما حسابيه } لأن الكفار لا يقام لهم حساب كما قال تعالى : { فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً }
والطباق في : لتبيينه للناس ولا تكتمونه ، وفي السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، فالسماء جهة العلو والأرض جهة السفل ، والليل عبارة عن الظلمة والنهار عبارة عن النور ، وفي : قياماً وقعوداً ومن : ذكر أو أنثى.
والتكرار : في لا تحسبن فلا تحسبنهم ، وفي : ربنا في خمسة مواضع ، وفي : فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا إن كان المعنى واحداً وفي : ما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وفي : ثواباً وحسن لثواب.
والاختصاص في : لأولي الألباب ، وفي : وما للظالمين من أنصار ، وفي : توفنا مع الأبرار ، وفي : ولا تحزنا يوم القيامة ، وفي : وما عند الله خير للأبرار.
والتجنيس المماثل في : أن آمنوا فآمنا ، وفي : عمل عامل منكم.
والمغاير في : منادياً ينادي.
والإشارة في : ما خلقت هذا باطلاً ، والحذف في مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 157}(19/243)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}
الصبر فيما تفرد به العبد ، والمصابرة مع العدو.
والرباط نوع من الصبر ولكن على وجه مخصوص.
ويقال أول الصبر التصبر ، ثم الصبر ثم المصابرة ثم الاصطبار وهو نهاية.
ويقال اصبروا على الطاعات وعن المخالفات ، وتصابروا في ترك الهوى والشهوات ، وقطع المنى والعلاقات ، ورابطوا بالاستقامة في الصحبة في عموم الأوقات والحالات.
ويقال اصبروا بنفوسكم وصابروا بقلوبكم ، ورابطوا بأسراركم.
ويقال اصبروا على ملاحظة الثواب ، وصابروا على ابتغاء القربة ، ورابطوا في محل الدنوِّ والزلفة - على شهود الجمال والعِزَّة.
والصبر مُرٌّ مَذَاقُه إذا كان العبد يتحسَّاه على الغيبة ، وهو لذيذٌ طعمُه إذا شربه على الشهود والرؤية.
{ واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } : الفَلاَحُ الظَّفَرُ بالبُغْيَة ، وهِمَّتُهم اليوم الظفر بنفوسهم ، فعند ذلك يتم خلاصهم ، وإذا ظفروا بنفوسهم ذبحوها بسيوف المجاهدة ، وصلبوها على عيدان المكابدة ، وبعد فنائهم عنها يحصل بقاءهم بالله. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 309}(19/244)
أبحاث قيمة تتعلق بالآيات الكريمة
قال فى الميزان :
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا }
الحال أوامر مطلقة فالصبر يراد به الصبر على الشدائد والصبر في طاعة الله والصبر عن معصيته وعلى أي حال هو الصبر من الفرد بقرينة ما يقابله.
والمصابرة هي التصبر وتحمل الأذى جماعة باعتماد صبر البعض على صبر آخرين فيتقوى الحال ويشتد الوصف ويتضاعف تأثيره وهذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا اعتبرت شخصيته في حال الانفراد وفي حال الاجتماع والتعاون بإيصال القوى بعضها ببعض وسنبحث فيه إن شاء الله بحثا مستوفى في محله.
قوله تعالى { ورابطوا }
أعم معنى من المصابرة وهي إيجاد الجماعة الارتباط بين قواهم وأفعالهم في جميع شؤون حياتهم الدينية أعم من حال الشدة وحال الرخاء ولما كان المراد بذلك نيل حقيقة السعادة المقصودة للدنيا والآخرة وإلا فلا يتم بها إلا بعض سعادة الدنيا وليست بحقيقة السعادة عقب هذه الأوامر بـ قوله تعالى { واتقوا الله لعلكم تفلحون } يعنى الفلاح التام الحقيقي.
كلام في المرابطة في المجتمع الاسلامي
1 - الإنسان والاجتماع كون النوع الإنساني نوعا اجتماعيا لا يحتاج في إثباته إلى كثير بحث فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك ولم يزل الإنسان يعيش في حال الاجتماع على ما يحكيه التاريخ والآثار المشهودة الحاكية لأقدم العهود التي كان هذا النوع يعيش فيها ويحكم على هذه الأرض.
وقد أنبأ عنه القرآن أحسن إنباء في آيات كثيرة كـ قوله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا الآية " الحجرات - 13 " } وقال تعالى { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا : الزخرف - 32 }(19/245)
وقال تعالى { بعضكم من بعض : آل عمران - 195 }وقال تعالى { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا : الفرقان - 54} إلى غير ذلك.
2 - الإنسان ونموه في اجتماعه
الاجتماع الإنساني كسائر الخواص الروحية الإنسانية وما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تاما كاملا لا يقبل النماء والزيادة بل هو كسائر الأمور الروحية الإدراكية الإنسانية لم يزل يتكامل بتكامل الإنسان في كمالاته المادية والمعنوية وعلى الحقيقة لم يكن من المتوقع أن يستثنى هذه الخاصة من بين جميع الخواص الإنسانية فتظهر أول ظهورها تامة كاملة أتم ما يكون وأكمله بل هي كسائر الخواص الإنسانية التى لها ارتباط بقوتى العلم والأرادة تدريجية الكمال في الإنسان.
والذى يظهر من التأمل في حال هذا النوع أن أول ما ظهر من الاجتماع فيه
الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي وهو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلا بخلاف مثل التغذى وغيره ثم ظهرت منه الخاصة التى سميناها في المباحث المتقدمة من هذا الكتاب بالاستخدام وهو توسيط الإنسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليه ثم برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة ورئيس القبيلة ورئيس الأمة وبالطبع كان المقدم المتعين من بين العدة أولا أقواهم وأشجعهم ثم أشجعهم وأكثرهم مالا وولدا وهكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة والسياسة وهذا هو السبب الابتدائي لظهور الوثنية وقيامها على ساقها حتى اليوم وسنستوفي البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.(19/246)
وخاصة الاجتماع بتمام أنواعها المنزلى وغيره وإن لم تفارق الإنسانية في هذه الأدوار ولو برهة إلا أنها كانت غير مشعور بها للإنسان تفصيلا بل كانت تعيش وتنمو بتبع الخواص الأخرى المعنى بها للإنسان كالاستخدام والدفاع ونحو ذلك.
والقرآن الكريم يخبر أن أول ما نبه الإنسان بالاجتماع تفصيلا واعتنى بحفظه استقلالا نبهته به النبوة قال تعالى {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا : يونس - 19 }وقال {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه : البقرة - 213} حيث ينبئ أن الإنسان في أقدم عهوده كان أمة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتى ظهرت الاختلافات وبانت المشاجرات فبعث الله الأنبياء وأنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف ويردهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة.
وقال تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه : الشورى - 13} فأنبأ أن رفع الاختلاف من بين الناس وإيجاد الاتحاد في كلمتهم إنما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين وعدم التفرق فيه فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح.
والآية كما ترى تحكي هذه الدعوة دعوة الاجتماع والاتحاد عن نوح (عليه السلام) وهو أقدم الأنبياء أولى الشريعة والكتاب ثم عن إبراهيم ثم عن موسى ثم عيسى (عليهم السلام)
وقد كان في شريعة نوح وإبراهيم النزر اليسير من الأحكام وأوسع هؤلاء الأربعة شريعة موسى وتتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن وهو ظاهر الأناجيل وليس في شريعة موسى على ما قيل إلا ستمائة حكم تقريبا.
فلم تبدء الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلة صريحة إلا من ناحية النبوة في قالب الدين كما يصرح به القرآن والتاريخ يصدقه على ما سيجئ.
(19/247)
4 - الإسلام وعنايته بالاجتماع لا ريب أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أسس بنيانه على الاجتماع صريحا ولم يهمل أمر الاجتماع في شأن من شؤونه فانظر إن أردت زيادة تبصر في ذلك إلى سعة الأعمال الإنسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة وإلى تشعبها إلى أجناسها وأنواعها وأصنافها ثم انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الإلهية لها وإحاطتها بها وبسط أحكامها عليها ترى عجبا ثم انظر إلى تقليبه ذلك كله في قالب الاجتماع ترى أنه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الإنفاذ.
ثم خذ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقة التي يعتنى بها القرآن وهي شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى حتى تعاين النسبة وتعرف المنزلة.
وأما ما لا يعتنى به القرآن الكريم من الشرائع كأديان الوثنية والصابئة والمانوية والثنوية وغيرها فالأمر فيها أظهر وأجلى.
وأما الأمم المتمدنة وغيرها فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلا أنها كانت تتبع ما ورثته من أقدم عهود الإنسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام واجتماع الأفراد تحت جامع حكومة الاستبداد والسلطة الملوكية فكان الاجتماع القومي والوطني والإقليمى يعيش تحت راية الملك والرئاسة ويهتدي بهداية عوامل الوراثة والمكان وغيرهما من غير أن يعتنى أمة من هذه الأمم عناية مستقلة بأمره وتجعله موردا للبحث والعمل حتى الأمم المعظمة التي كانت لها سيادة الدنيا حينما شرقت شارقة الدين وأخذت في إشراقها وإنارتها أعني امبراطورية الروم والفرس فإنها لم تكن إلا قيصرية وكسروية تجتمع أممها تحت لواء الملك والسلطنة ويتبعها الاجتماع في رشده ونموه ويمكث بمكثها.
نعم يوجد فيما ورثوه ابحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم من أمثال سقراط
(19/248)
وأفلاطون وأرسطو وغيرهم إلا أنها كانت أوراقا وصحائف لا ترد مورد العمل ، ومثلا ذهنية لا تنزل مرحلة العين والخارج والتاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه.
فأول نداء قرع سمع النوع الإنساني ودعى به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع بجعله موضوعا مستقلا خارجا عن زاوية الإهمال وحكم التبعية هو الذي نادى به صادع الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام ، فدعى الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعين قال تعالى : {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم " الأنعام : 153 "} وقال : {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } إلى أن قال : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق والانشعاب) {وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " آل عمران : 105 "} وقال : {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ " الأنعام : 159 "} إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية ألى أصل الاجتماع والاتحاد.
وقال تعالى { : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم " الحجرات : 10 " } وقال {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " الأنفال : 46 "} وقال : وتعاونوا على البر والتقوى " المائدة : 2 "} وقال {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " آل عمران : 104 "} إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الإسلامي على الاتفاق والاتحاد في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية والدفاع عنه على ما سنوضحه بعض الايضاح.
(19/249)
4 - اعتبار الإسلام رابطة الفرد والمجتمع الصنع والإيجاد يجعل أولا أجزاءا ابتدائية لها آثار وخواص ثم يركبها ويؤلف بينها على ما فيها من جهات البينونة فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للأجزاء من الفوائد المشهودة فالإنسان مثلا له أجزاء وأبعاض وأعضاء وقوى لها فوائد متفرقة مادية وروحية ربما ائتلفت فقويت وعظمت كثقل كل واحد من الأجزاء وثقل المجموع والتمكن والانصراف من جهة إلى جهة وغير ذلك وربما لم تأتلف وبقيت على حال التبائن والتفرق كالسمع والبصر والذوق والأرادة والحركة إلا أنها جميعا من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة
الواحد الحادث الذي هو الإنسان وعند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه وهي فوائد جمة من قبيل الفعل والانفعال والفوائد الروحية والمادية ومن فوائده حصول كثرة عجيبة في تلك الفوائد في عين الوحدة فإن المادة الإنسانية كالنطفة مثلا إذا استكملت نشأتها قدرت على إفراز شئ من المادة من نفسها وتربيتها إنسانا تاما آخر يفعل نظائر ما كان يفعله أصله ومحتده من الأفعال المادية والروحية فأفراد الإنسان على كثرتها إنسان وهو واحد وأفعالها كثيرة عددا واحدة نوعا وهي تجتمع وتأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية فهى مياه كثيرة ذو نوع واحد وهي ذات خواص كثيرة نوعها واحد وكلما جمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة وعظم الأثر.
وقد اعتبر الإسلام في تربية أفراد هذا النوع وهدايتها إلى سعادتها الحقيقية هذا المعنى الحقيقي فيها ولا مناص من اعتباره قال تعالى {وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا : الفرقان - 54 } وقال {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى : الحجرات - 13 } وقال {بعضكم من بعض : آل عمران - 195}.(19/250)
وهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع لا محالة تؤدى إلى كينونة أخرى في المجتمع حسب ما يمده الأشخاص من وجودهم وقواهم وخواصهم وآثارهم فيتكون في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود وخواص الوجود وهو ظاهر مشهود ولذلك اعتبر القرآن للأمة وجودا وأجلا وكتابا وشعورا وفهما وعملا وطاعة ومعصية فقال {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون : الأعراف - 34 }
وقال {كل أمة تدعى إلى كتابها : الجاثية - 28 }
وقال {زينا لكل أمة عملهم : الأنعام - 108}
وقال {منهم أمة مقتصدة : المائدة - 66 }
وقال {أمة قائمة يتلون آيات الله : آل عمران - 113 }وقال {وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب : غافر - 5 }
وقال {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط : يونس - 47}.
ومن هنا ما نرى أن القرآن يعتنى بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلا ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء ولم يشتغل المؤرخون بتواريخ الأمم والمجتمعات إلا بعد نزول القرآن فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم كالمسعودي وابن خلدون حتى ظهر التحول الأخير في التاريخ النقلي
بتبديل الأشخاص أمما وأول من سنه على ما يقال " اغوست كنت الفرنسي المتوفى سنة 1857 ميلادية.
(19/251)
وبالجملة لازم ذلك على ما مرت الإشارة إليه تكون قوى وخواص اجتماعية قوية تقهر القوى والخواص الفردية عند التعارض والتضاد على أن الحس والتجربة يشهدان بذلك في القوى والخواص الفاعلة والمنفعلة معا فهمة الجماعة وإرادتها في أمر كما في موارد الغوغاءات وفي الهجمات الاجتماعية لا تقوم لها إرادة معارضة ولا مضادة من واحد من أشخاصها وأجزائها فلا مفر للجزء من أن يتبع كله ويجري على ما يجري عليه حتى أنه يسلب الشعور والفكر من أفراده وأجزائه وكذا الخوف العام والدهشة العامة كما في موارد الانهزام وانسلاب الأمن والزلزلة والقحط والوباء أو ما هو دونها كالرسومات المتعارفة والأزياء القومية ونحوهما تضطر الفرد على الاتباع وتسلب عنه قوة الإدراك والفكر.
وهذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد ما يماثله في واحد من الأديان الأخر ولا في سنن الملل المتمدنة ولعلك لا تكاد تصدق ذلك فإن تربية الأخلاق والغرائز في الفرد وهو الأصل في وجود المجتمع لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق والغرائز المعارضة والمضادة القوية القاهرة في المجتمع إلا يسيرا لا قدر له عند القياس والتقدير.
فوضع أهم أحكامه وشرائعه كالحج والصلاة والجهاد والإنفاق
(19/252)
وبالجملة التقوى الديني على أساس الاجتماع وحافظ على ذلك مضافا إلى قوى الحكومة الإسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة وحدودها ومضافا إلى فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العامة لجميع الأمة بجعل غرض المجتمع الإسلامى - وكل مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك - هي السعادة الحقيقية والقرب والمنزلة عند الله وهذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الإنسان وسره - فضلا عما في ظاهره - وإن خفي على طائفة الدعاة وجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا هو الذي ذكرنا أن الإسلام تفوق سنة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن والطرائق.
5 - هل تقبل سنة الإسلام الاجتماعية الإجراء والبقاء ؟ ولعلك تقول لو كان ما ذكر من كون نظر الإسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقي بناءا وأتقن أساسا حتى من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقا فما باله لم يقبل الإجراء إلا برهة يسيرة ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية وكسروية ؟ وتحول إمبراطورية أفجع وأشنع أعمالا مما كان قبله بخلاف المدنية الغربية التي تستديم البقاء.
(19/253)
وهذا هو الدليل على كون مدنيتهم أرقي وسنتهم في الاجتماع أتقن وأشد استحكاما وقد وضعوا سنتهم الاجتماعية وقوانينهم الدائرة على أساس إرادة الأمة واقتراح الطباع والميول ثم اعتبروا فيها إرادة الأكثر واقتراحهم لاستحالة اجتماع الكل بحسب العادة إرادة وغلبة الأكثر سنة جارية في الطبيعة مشهودة فإنا نجد كلا من العلل المادية والأسباب الطبيعية مؤثرة على الأكثر لا على الدوام وكذا العوامل المختلفة المتنازعة إنما يؤثر منها الأكثر دون الكل ودون الأقل فمن الحرى أن يبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض وبحسب السنن والقوانين الجارية فيه على إرادة الأكثر وأما فرضية الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلا أمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض ومثالا عقليا غير جائز النيل.
وقد ضمنت المدنية الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوة المجتمع وسعادتها وتهذب الأفراد وطهارتهم من الرذائل وهي الأمور التي لا يرتضيها المجتمع كالكذب والخيانة والظلم والجفاء والجفاف ونحو ذلك.
وهذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيين وخاصة المحصلين من فضلائنا المتفكرين في المباحث الاجتماعية والنفسية غير أنهم وردوا هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حق النظر ولتوضيح ذلك نقول :
(19/254)
أما قولهم إن السنة الاجتماعية الإسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا على خلاف سنن المدنية الحاضرة في جو الشرائط الموجودة ومعناه أن الأوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الأحكام المشرعة في الإسلام فهو مسلم لكنه لا ينتج شيئا فإن جميع السنن الدائرة في الجامعة الإنسانية إنما حدثت بعد ما لم تكن وظهرت في حين لم تكن عامة الأوضاع والشرائط الموجودة إلا مناقضة له طاردة إياه فانتهضت ونازعت السنن السابقة المستمرة المتعرقة وربما اضطهدت وانهزمت في أول نهضتها ثم عادت ثانيا وثالثا
حتى غلبت وتمكنت وملكت سيطرتها وربما بادت وانقرضت إذ لم يساعدها العوامل والشرائط بعد والتاريخ يشهد (1) بذلك في جميع السنن الدينية والدنيوية حتى في مثل الديموقراطية والاشتراك وإلى مثله يشير قوله تعالى { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين : آل عمران - 137 يشير إلى أن السنة التي تصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حسنة محمودة.
فمجرد عدم انطباق سنة من السنن على الوضع الإنساني الحاضر ليس يكشف عن بطلانه وفساده بل هو من جملة السنن الطبيعية الجارية في العالم لتتميم كينونة الحوادث الجديدة إثر الفعل والأنفعال وتنازع العوامل المختلفة.
والاسلام كسائر السنن من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي وليس بمستثنى من هذه الكلية فحاله من حيث التقدم والتأخر والاستظهار بالعوامل والشرائط حال سائر
________
(1) ومن أوضح الشواهد أن السنة الديمقراطية بعد الحرب العالمية الأولى (وهي اليوم السنة العالمية المرضية الوحيدة) تحولت في روسيا إلى الشيوعية والحكومة الاشتراكية ثم لحق لها بعد الحرب العالمية الثانية ممالك الاروبا الشرقية ومملكة الصين فخسرت بذلك صفقة الديموقراطية فيما يقرب من نصف المجتمع البشري.
وقد أعلنت المجتمعات الشيوعية قبل سنة تقريبا أن قائدها الفقيد " ستالين " كان قد حرف مدى حكومته وهو ثلاثون سنة تقريبا بعد حكومة لينين الحكومة الاشتراكية إلى الحكومة الفردية الاستبدادية وحتى اليوم لا تزال تؤمن به طائفة بعد الكفر وترتد عنها طائفة بعد الإيمان وهي تطوى وتبسط وهناك نماذج وامثلة أخرى كثيرة في التاريخ.(19/255)
السنن وليس حال الإسلام اليوم وقد تمكن في نفوس ما يزيد على أربعمائة مليون من أفراد البشر (1) ونشب في قلوبهم بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح وإبراهيم ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قامت دعوة كل منهم بنفس واحدة ولم تكن تعرف الدنيا وقتئذ غير الفساد ثم انبسطت وتعرقت وعاشت واتصل بعضها ببعض فلم ينقطع حتى اليوم.
وقد قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة ولم يكن معه من يستظهر به يومئذ إلا رجل وامرأة ثم لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد واليوم يوم العسرة كل العسرة حتى أتاهم نصر الله فتشكلوا مجتمعا صالحا ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح والتقوى ومكثوا برهة على الصلاح الاجتماعي حتى كان من أمر الفتن بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان.
وهذا الأنموذج اليسير على قصر عمره وضيق نطاقه لم يلبث حتى انبسط في أقل من نصف قرن على مشارق الأرض ومغاربها وحول التاريخ تحويلا جوهريا يشاهد آثاره الهامة إلى يومنا وستدوم ثم تدوم.
_______________
(1) هذه الإحصائية منذ عقود أما اليوم فعدد الأمة الإسلامية ـ بفضل الله ـ يتجاوز المليار ونصف المليار. نسأل الله أن يكثر سواد المسلمين وأن لا يجعلهم غثاء كغثاء السيل.(19/256)
ولا يستطيع أن يستنكف الأبحاث الاجتماعية والنفسية في التاريخ النظري عن الاعتراف بأن المنشأ القريب والعامل التام للتحول المعاصر المشهود في الدنيا هو ظهور السنة الإسلامية وطلوعها ولم يهمل جل الباحثين من أوربا استيفاء البحث عن تأثيرها في جامعة الإنسان إلا لعصبية دينية أو علل سياسية وكيف يسع لباحث خبير لو أنصف النظر أن يسمي النهضة المدنية الحديثة نهضة مسيحية ويعد المسيح (عليه السلام) قائدها وحامل لوائها والمسيح يصرح بأنه إنما يهتم بأمر الروح ولا يشتغل بأمر الجسم ولا يتعرض لشأن الدولة والسياسة ؟ وهو ذا الإسلام يدعو إلى الاجتماع والتألف ويتصرف في جميع شؤون المجتمع الإنساني وأفراده من غير استثناء فهل هذا الصفح والاغماض منهم إلا لإطفاء نور الإسلام (ويابى الله إلا أن يتم نوره) وإخماد ناره عن القلوب بغيا وعدوا حتى يعود جنسية لا أثر لها إلا أثر الأنسال المنشعبة.
وبالجملة قد أثبت الإسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم وطيب حياتهم وما هذا شأنه لا يسمى فرضية غير قابلة الانطباق على الحياة الإنسانية ولا مأيوسا من ولاية أمر الدنيا يوما (مع كون مقصده سعادة الإنسان الحقيقية) وقد تقدم في تفسير قوله كان الناس أمة واحدة : البقرة - 213 أن البحث العميق في أحوال الموجودات الكونية يؤدي إلى أن النوع الإنساني سيبلغ غايته وينال بغيته وهي كمال ظهور الإسلام بحقيقته في الدنيا وتوليه التام أمر المجتمع الإنساني وقد وعده الله تعالى طبق هذه النظرية في كتابه العزيز قال {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم : المائدة - 54}(19/257)
وقال {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا الآية : النور - 55 }
وقال {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون الأنبياء - 105} إلى غير ذلك من الآيات.
وهنا جهة أخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم وهي أن الاجتماع الإسلامي شعاره الوحيد هو اتباع الحق في النظر والعمل والاجتماع المدني الحاضر شعاره اتباع ما يراه ويريده الأكثر وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون فغاية الاجتماع الإسلامي السعادة الحقيقية العقلية بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبودية بل يكون مقدمة توصل إليها وفيه سعادة الإنسان بسعادة جميع قواه وهي الراحة الكبرى (وإن كنا لا ندركها اليوم حق الإدراك لاختلال التربية الإسلامية فينا) ولذلك وضع الإسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتباع الحق وشدد في المنع عما يفسد العقل السليم وألقى ضمان إجراء الجميع من الأعمال والأخلاق والمعارف الأصلية إلى عهدة المجتمع مضافا إلى ما تحتفظ عليه الحكومة والولاية الإسلامية من إجراء السياسات والحدود وغيرها وهذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من الناس ويدفعه هذا الأنغمار العجيب في الاهواء والاماني الذي نشاهده من كافة المترفين والمعدمين ويسلب حريتهم في الاستلذاذ والتلهي والسبعية والافتراس إلا بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة وبسط التربية على حد سائر الأمور الراقية التي يحتاج الإنسان في التلبس بها إلى همة قاطعة وتدرب كاف وتحفظ على ذلك مستدام.(19/258)
وأما غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتع من المادة ومن الواضح أن هذه تستتبع حياة إحساسية تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق بل إنما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته وغرضه.
ولذلك كانت القوانين تتبع في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع وميول طباعهم وينحصر ضمان الإجراء في مواد القانون المتعلقة بالأعمال وأما الأخلاق والمعارف الأصلية فلا ضامن لاجرائها بل الناس في التلبس بها وتبعيتها وعدمه إلا أن تزاحم القانون في مسيره فتمنع حينئذ.
ولازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب فيستحسن كثيرا مما كان يستقبحه الدين وأن يسترسل باللعب بفضائل الأخلاق والمعارف العالية مستظهرا بالحرية القانونية.
ولازم هذا اللازم أن يتحول نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الإحساسي
العاطفي فربما كان الفجور والفسق في مجرى العقل تقوى في مجرى الميول والاحساسات وسمي فتوة وبشرا وحسن خلق كمعظم ما يجري في أوربا بين الشبان وبين الرجال والنساء المحصنات أو الابكار وبين النساء والكلاب وبين الرجال وأولادهم ومحارمهم وما يجري في الاحتفالات ومجالس الرقص وغير ذلك مما ينقبض عن ذكره لسان المتأدب بأدب الدين.
وربما كان عاديات الطريق الديني غرائب وعجائب مضحكة عندهم وبالعكس كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة والإدراك باختلاف الطريق ولا يستفاد في هذه السنن الاحساسية من التعقل كما عرفت إلا بمقدار ما يسوى به الطريق إلى التمتع والتلذذ فهو الغاية الوحيدة التي لا يعارضها شئ ولا يمنع منها شئ إلا في صورة المعارضة بمثلها حتى إنك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال الأنتحار ودئل وغيرهما فللنفس ما تريده وتهويه إلا أن يزاحم ما يريده ويهواه المجتمع.
(19/259)
إذا تأملت هذا الاختلاف تبين لك وجه أوفقية سنة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة البشرية دون سنة المجتمع الديني غير أنه يجب أن يتذكر أن سنة المدنية الغربية وحدها ليست هي الموافقة لطباع الناس حتى تترجح بذلك وحدها بل جميع السنن المعمولة الدائرة في الدنيا بين أهلها من أقدم أعصار الإنسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة والحضارة تشترك في أن الناس يرجحونها على الدين الداعي إلى الحق في أول ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية.
ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع ومن مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية.
والذى ذكرناه من بناء السنة الإسلامية على اتباع الحق دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن قال تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق : التوبة - 33 وقال تعالى { والله يقضي بالحق : المؤمن - 20 }وقال في وصف المؤمنين {وتواصوا بالحق : العصر - 3 }وقال {لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون : الزخرف - 78 } فاعترف بأن الحق لا يوافق طباع الأكثرين وأهواءهم ثم رد لزوم موافقة أهواء الاكثرية بأنه يؤول إلى الفساد فقال {بل جاءهم بالحق
وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون : المؤمنون - 71}
ولقد صدق جريان الحوادث وتراكم الفساد يوما فيوما ما بينه تعالى في هذه الآية وقال تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون : يونس - 32 }
والآيات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة جدا وإن شئت زيادة تبصر فيه فراجع سورة يونس فقد كرر فيه ذكر الحق بضعا وعشرين مرة.
(19/260)
وأما قولهم إن اتباع الأكثر سنة جارية في الطبيعة فلا ريب أن الطبيعة تتبع الأكثر في آثارها إلا أنها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتباع الحق فإنها نفسها بعض مصاديق الحق فكيف تبطل نفسها توضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمور أحدها أن الأمور الخارجية التي هي اصول عقائد الإنسان العلمية والعملية تتبع في تكونها وأقسام تحولها نظام العلية والمعلولية وهو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصلون من أهل العلم والنظر وشهد به القرآن على ما مر فالجريان الخارجي لا يتخلف عن الدوام والثبات حتى أن الحوادث الأكثرية الوقوع التي هي قياسية هي في أنها أكثرية دائمة ثابتة ، مثلا النار التي تفعل السخونة غالبا بالقياس إلى جميع مواردها " سخونتها الغالبية " أثر دائم لها وهكذا وهذا هو الحق.
والثاني أن الإنسان بحسب الفطرة يتبع ما وجده أمرا واقعيا خارجيا بنحو فهو يتبع الحق بحسب الفطرة حتى أن من ينكر وجود العلم الجازم إذا القي إليه قول لا يجد من نفسه التردد فيه خضع له بالقبول.
والثالث : أن الحق كما عرفت هو الأمر الخارجي الذي يخضع له الإنسان في اعتقاده أو يتبعه في عمله وأما نظر الإنسان وإدراكه فإنما هو وسيلة يتوسل بها إليه كالمرآة بالنسبة إلى المرئي.
إذا عرفت هذه الأمور تبين لك أن الحقية وهي دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع(19/261)
في الطبيعة الراجعة إلى الدوام والثبات أيضا إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعا دائميا أو أكثريا دون العلم والادراك وبعبارة أخرى هي صفة الأمر المعلوم لا صفة العلم فالوقوع الدائمي والاكثري أيضا بوجه من الحق وأما آراء الاكثرين وأنظارهم واعتقاداتهم في مقابل الاقلين فليست بحق دائما بل ربما كانت حقا إذا طابقت الواقع وربما لم تكن إذا لم تطابق وحينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الإنسان ولا أنه يخضع لها لو تنبه للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم وإن اتبعتهم فيه ظاهرا فإنما تتبعهم لخوف أو حياء أو عامل آخر لا لأنه حق واجب الاتباع في نفسه ومن أحسن البيان في أن رأي الأكثر ونظرهم لا يجب أن يكون حقا واجب الاتباع قوله تعالى { بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون : المؤمنون - 70 } فلو كان كل ما يراه الأكثر حقا لم يمكن أن يكرهوا الحق ويعارضوه.
وبهذا البيان يظهر فساد بناء اتباع الأكثرية على سنة الطبيعة فإن هذه السنة جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم والفكر والذي يتبعه الإنسان من هذه السنة في إرادته وحركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع لا ما اعتقده الأكثرون أعني أنه يبني أفعاله وأعماله على الصلاح الأكثري وعليه جرى القرآن في حكم تشريعاته ومصالحها قال تعالى {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون : المائدة - 6 } وقال تعالى { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون : البقرة - 183 } إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للأحكام المشرعة.
(19/262)
وأما قولهم إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع وهذب الأفراد وطهرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط والاشتباه.
وكأن مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها وقوتها وتعاليها في استفادتها من المنابع المادية وقد عرفت مرارا أن الإسلام لا يعد ذلك سعادة والبحث البرهاني أيضا يؤيده بل السعادة الإنسانية أمر مؤلف من سعادة الروح والبدن وهي تنعم الإنسان من النعم المادية وتحليه بفضائل الأخلاق والمعارف الحقة الإلهية وهي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الأخرى وأما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء.
وأما استعجابهم بما يرون من الصدق والصفاء والأمانة والبشر وغير ذلك فيما بين أفراد الملل المترقية فقد اختلط عليهم حقيقة الأمر فيه وذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكر الاجتماعي وإنما يتفكرون تفكرا فرديا فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الأشياء غير مرتبط بها ارتباطا تبطل استقلاله الوجودي مع أن الحق خلافه ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه وهو التفكر الفردي ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال.
(19/263)
وهذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجرى في تفكره هذا المجرى وأما من يتفكر تفكرا اجتماعيا ليس نصب عينيه إلا أنه جزء غير منفك ولا مستقل عن المجتمع وأن منافعه جزء من منافع مجتمعه يرى خير المجتمع خير نفسه وشره شر نفسه وكل وصف وحال له وصفا وحالا لنفسه فهذا الإنسان يتفكر نحوا آخر من التفكر ولا يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعه وأما اشتغاله بأجزاء مجتمعه فلا يهتم به ولا يقدره شيئا.
واستوضح ذلك بما نورده من المثال الإنسان مجموع مؤلف من أعضاء وقوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الإنسانية يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتا وفعلا تحت استقلاله فالعين والاذن واليد والرجل تبصر وتسمع وتبطش وتمشي للإنسان وإنما يلتذ كل بفعله في ضمن التذاذ الإنسان به وكل واحدة من هذه الاعضاء والقوى همها أن ترتبط بالخارج الذى يريد الإنسان الواحد الارتباط به بخير أو شر فالعين أو الاذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الإحسان أو الاساءة إلى من يريد الإنسان الإحسان أو الإساءة إليه من الناس مثلا وأما معاملة بعضها مع بعض والجميع تحت لواء الإنسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسئ بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض.
فهذا حال أجزاء الإنسان وهي تسير سيرا واحدا اجتماعيا وفي حكمه حال أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكرا اجتماعيا فصلاحهم وتقواهم أو فسادهم وإجرامهم وإحسانهم وإسائتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف إذا أخذ ذا شخصية واحدة.
وهكذا صنع القرآن في قضائه على الأمم والأقوام التى ألجأتهم التعصبات المذهبية
(19/264)
أو القومية أن يتفكروا تفكرا اجتماعيا كاليهود والأعراب وعدة من الأمم السالفة فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين ويعاتب الحاضرين ويوبخهم بأعمال الغائبين والماضين كل ذلك لأنه القضاء الحق فيمن يتفكر فكرا اجتماعيا وفي القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.
نعم مقتضى الأخذ بالنصفة أن لا يضطهد حق الصالحين من الأفراد بذلك إن وجدوا في مجتمع واحد فإنهم وإن عاشوا بينهم واختلطوا بهم إلا أن قلوبهم غير متقذرة بالفكر الفاسد والمرض المتبطن الفاشي في مثل هذا المجتمع وأشخاصهم كالاجزاء الزائدة في هيكله وبنيته وهكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام فاستثنى الصلحاء والأبرار.
ويتبين مما ذكرنا أن القضاء بالصلاح والطلاح على أفراد المجتمعات المتمدنة الراقية على خلاف أفراد الأمم الاخرى لا ينبغى أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم ومخالطتهم فيما بينهم وعيشتهم الداخلية بل بالبناء على شخصيتهم الاجتماعية البارزة في مماستها ومصاكتها سائر الأمم الضعيفة ومخالطتها الحيوية سائر الشخصيات الاجتماعية في العالم.
فهذه هي التى يجب أن تراعى وتعتبر في القضاء بصلاح المجتمع وطلاحه وسعادته وشقائه وعلى هذا المجرى يجب أن يجري باحثونا ثم إن شاؤوا فليستعجبوا وإن شاؤوا فليتعجبوا.
(19/265)
ولعمري لو طالع المطالع المتأمل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة الاوروبية وتعمق فيما عاملوا به غيرهم من الأمم والاجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث دون أن يرى أن هذه المجتمعات التى يظهرون أنهم امتلؤوا رأفة ونصحا للبشر يفدون بالدماء والأموال في سبيل الخدمة لهذا النوع وإعطاء الحرية والاخذ بيد المظلوم المهضوم حقا وإلغاء سنة الاسترقاق والأسر يرى أنهم لا هم لهم إلا استعباد الأمم الضعيفة مساكين الأرض ما وجدوا إليه سبيلا بما وجدوا إليه من سبيل فيوما بالقهر ويوما بالاستعمار ويوما بالاستملاك ويوما بالقيمومة ويوما باسم حفظ المنافع المشتركة ويوما باسم الاعانة على حفظ الاستقلال ويوما باسم حفظ الصلح ودفع ما يهدده ويوما باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة المحرومة ويوما...
ويوما....
والمجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضي الفطرة الإنسانية السليمة أن تصفها بالصلاح أو تذعن لها بالسعادة وإن اغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين وحكم الوحى والنبوة من معنى السعادة.
وكيف ترضى الطبيعة الإنسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء ثم تناقض نفسها فتعطي بعضا منهم عهدا أن يتملكوا الآخرين تملكا يبيح لهم دماءهم وأعراضهم وأموالهم ويسوى لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم ووجودهم والتصرف في إدراكهم وإرادتهم بما لم يلقه ولا قاساه إنسان القرون الأولى والمعول في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الأمم وما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمى ما عندهم سعادة وصلاحا فلتكن بمعنى التحكم وإطلاق المشية.
6 - بما ذا يتكون ويعيش الاجتماع الإسلامى ؟
(19/266)
لا ريب أن الاجتماع أي اجتماع كان إنما يتحقق ويحصل بوجود غاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتتة وهو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التى تتحد بها نوع اتحاد وهذه الغاية والغرض في نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية الحياة الدنيوية للإنسان لكن على نحو الاشتراك بين الأفراد لا على نحو الأنفراد وهي التمتع من مزايا الحياة المادية على نحو الاجتماع.
والفرق بين التمتع الاجتماعي والانفرادي من حيث الخاصية أن الإنسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض له ولا رقيب إلا ما قيد به بعض جهازاته بعضا فإنه لا يقدر أن يستنشق كل الهواء فإن الرئة لا تسعه وإن اشتهاه ولا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية لا إلى حد فإن جهاز الهاضمة لا يتحمله فهذا حاله بقياس بعض قواه وأعضائه إلى بعض وأما بالنسبة إلى إنسان آخر مثله فإذ كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله ولا تحديد فعل من أفعاله وعمل من أعماله.
وهذا بخلاف الإنسان الواقع في ظرف الاجتماع وساحته فإنه لو كان مطلق العنان في إرادته وأعماله لادى ذلك إلى التمانع والتزاحم الذي فيه فساد العيش وهلاك النوع وقد بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أو في بيان
(19/267)
وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجارى في المجتمع غير أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر وروية وإنما يكون الآداب والسنن فيها المشاجرات والمنازعات المتوفرة بين أفرادها فتضطر الجميع إلى رعاية امور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ ولما لم تكن مبنية على أساس مستحكم كانت في معرض النقض والابطال تتغير سريعا وتنقرض ولكن المجتمعات المتمدنة تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنية والحضارة فيرفعون به التضاد والتمانع الواقع بين الأرادات وأعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود وقيود لها ثم ركز القدرة والقوة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون.
ومن هنا يظهر أولا أن القانون حقيقة هو ما تعدل به أرادات الناس وأعمالهم برفع التزاحم والتمانع من بينهما بتحديدها.
وثانيا أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى تجهز الإنسان بالشعور والأرادة بعد التعديل ولذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرضلأمر المعارف الإلهية والأخلاق وصار هذان المهمان يتصوران بصورة يصورهما بها القانون فيتصالحان ويتوافقان معه على ما هو حكم التبعية فيعودان عاجلا أو آجلا رسوما ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي ولذلك السبب أيضا ما نشاهده من لعب السياسة بالدين فيوما تقضى عليه وتدحضه ويوما تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته ويوما تطوى عنه كشحا فتخليه وشأنه.
(19/268)
وثالثا أن هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإن القانون وإن حمل ضمان إجرائه على القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد لكن لا ضمان على إجرائه بالآخرة بمعنى أن منبع القدرة والسلطان لو مال عن الحق وحول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع وانقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله إلى مجراه العدل وعلى هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زماننا هذا وهو زمان الثقافة والمدنية فضلا عما لا يحصى من الشواهد التاريخية وأضف إلى هذا النقص نقصا آخر وهو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحيانا أو خروجه عن حومة قدرته ولنرجع إلى أول الكلام.
وبالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا الحياة.
الدنيا وهي السعادة عندهم لكن الإسلام لما كان يرى أن الحياة الإنسانية أوسع مدارا من الحياة الدنيا المادية بل في مدار حياته الحياة الأخروية التي هي الحياة ويرى أن هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الإلهية التي تنحل بجملتها إلى التوحيد ويرى أن هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الأخلاق وطهارة النفس من كل رذيلة ويرى أن هذه الأخلاق لا تتم ولا تكمل إلا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه والخضوع لما تقتضيه ربوبيته ومعاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ أعني الإسلام الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشرى ويتوحد بها دين التوحيد ثم وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد ولم يكتف فيه على تعديل الأرادات والافعال فقط بل تممه بالعباديات وأضاف إليها المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة.
ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الإسلامية أولا ثم في عهدة المجتمع ثانيا وذلك بالتربية الصالحة علما وعملا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(19/269)
ومن أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطا يؤدي إلى الوحدة التامة بينها بمعنى أن روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا الدين وروح الأخلاق منتشرة في الأعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع فالجميع من أجزاء الدين الإسلامى ترجع بالتحليل إلى التوحيد والتوحيد بالتركيب يصير هو الأخلاق والأعمال فلو نزل لكان هي ولو صعدت لكانت هو إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.
فإن قلت ما اورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا عصت القوة المجرية عن إجرائها أو فيما يخفى عليها من الخلاف مثلا وارد بعينه على الإسلام وأوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين وزوال سيطرته على المجتمع الإسلامى وليس إلا لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوما.
قلت حقيقة القوانين العامة سواء كانت الهية أو بشرية ليست إلا صورا ذهنية في أذهان الناس وعلوما تحفظها الصدور وإنما ترد مورد العمل وتقع موقع الحس بالأرادات الإنسانية تتعلق بها فمن الواضح أن لو عصت الأرادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين وإنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الإرادات بالوقوع
(19/270)
حتى تقوم القوانين على ساقها والقوانين المدنية لا تهتم بأزيد من تعليق الأفعال بالإرادات أعني إرادة الاكثرية ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الإرادة فمهما كانت الإرادة حية شاعرة فاعلة جرى بها القانون وإذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس وهرم يطرأ على بنية المجتمع أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور والادراك لأنغمار المجتمع في الملاهي وتوسعه في الاتراف والتمتع أو كانت حية شاعرة لكنها فقدت التأثير لظهور قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الاكثرية وكذا في الحوادث التي لا سبيل للقوة المجرية على الوقوف عليها كالجنايات السرية أو لا سبيل لها إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد لا تنال الأمة امنيتها من جريان القانون وانحفاظ المجتمع عن التفاسد والتلاشى وعمدة الأنشعابات الواقعة في الأمم الاوربية بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى والثانية من أحسن الامثلة في هذا الباب.
وليس ذلك أعني انتقاض القوانين وتفاسد المجتمع وتلاشيه إلا لأن المجتمع لم يهتم بالسبب الحافظ لإرادات الأمة على قوتها وسيطرتها وهي الأخلاق العالية إذ لا تستمد الإرادة في بقائها واستدامة حياتها إلا من الخلق المناسب لها كما بين ذلك في علم النفس فلو لا استقرار السنة القائمة في المجتمع واعتماد القانون الجارى فيه على أساس قويم من الأخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
(19/271)
واعتبر في ذلك ظهور الشيوعية فليست إلا من مواليد الديموقراطية أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع وحرمان آخرين فكان بعدا شاسعا بين نقطتي القساوة وفقد النصفة والسخط وتراكم الغيظ والحنق وكذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد مرة وهى تهدد الإنسانية ثالثة وقد أفسدت الأرض وأهلكت الحرث والنسل ولا عامل لها إلا غريزة الاستكبار والشره والطمع هذا.
ولكن الإسلام بنى سنته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الأخلاق وبالغ في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الأعمال في ضمانها وعلى عهدتها فهي مع الإنسان في سره وعلأنيته وخلوته وجلوته تؤدي وظيفتها وتعمل عملها أحسن مما يؤديه شرطى مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النظم.
نعم تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة
وتبذل جهدها في حض الناس وترغيبهم إليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئا.
أما أولا فلانالمنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق ليس إلا الإسراف والإفراط في التمتع المادي والحرمان البالغ فيه وقد أعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه فأمتعت بعضا وحرمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الأخلاق والترغيب عليها إلا دعوة إلى المتناقضين أو طلبا للجمع بين الضدين ؟ على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكرا اجتماعيا ولا تزال مجتمعاتهم تبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة ودحض حقوقهم والتمتع بما في أيديهم واسترقاق نفوسهم والتوسع في التحكم عليهم ما قدروا والدعوة إلى الصلاح والتقوى مع هذه الخصيصة ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة.
(19/272)
وأما ثانيا فلانالأخلاق الفاضلة أيضا تحتاج في ثباتها واستقرارها إلى ضامن يضمن حفظها وكلاءتها وليس إلا التوحيد أعني القول بأن للعالم إلها واحدا ذا أسماء حسنى خلق الخلق لغاية تكميلهم وسعادتهم وهو يحب الخير والصلاح ويبغض الشر والفساد وسيجمع الجميع لفصل القضاء وتوفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته ومن الواضح أن لو لا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتباع الهوى والكف عن حظوظ النفس الطبيعية فإنما الطبيعة الإنسانية تريد وتشتهي مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلا إذا رجع بنحو إلى مشتهى نفسها (أحسن التأمل فيه).
ففيما كان للإنسان مثلا تمتع في إماتة حق من حقوق الغير ولا رادع يردعه ولا مجازي يجازيه ولا لائم معاتب يلومه ويعاتبه فأي مانع يمنعه من اقتراف الخطيئة وارتكاب المظلمة وإن عظمت ما عظمت ؟ وأما ما يتوهم وكثيرا ما يخطي فيه الباحث من الروادع المختلفة كالتعلق بالوطن وحب النوع والثناء الجميل ونحو ذلك فإنما هي عواطف قلبية ونزوعات باطنية لا سبب حافظا عليها إلا التعليم والتربية من غير استنادها إلى السبب الموجب فهي إذن أوصاف اتفاقية وامور عادية لا مانع معها يمنع من زوالها فلماذا يجب على الإنسان أن يفدي بنفسه غيره ليتمتع بالعيش بعده وهو يرى أن الموت فناء وبطلأن ؟ والثناء الجميل إنما هو في لسان آخرين ولا لذة يلتذ به الفادي بعد بطلانذاته.(19/273)
وبالجملة لا يرتاب المتفكر البصير في أن الإنسان لا يقدم على حرمان لا يرجع إليه فيه جزاء ولا يعود إليه منه نفع والذي يعده ويمنيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن والثناء الجميل الخالد والفخر الباقي ببقاء الدهر فإنما هو غرور يغتر به وخدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته وعواطفه فيخيل إليه أنه بعد موته وبطلانذاته حاله كحاله قبل موته فيشعر بذكره الجميل فيلتذ به وليس ذلك إلا من غلط الوهم كالسكران يتسخر بهيجان إحساساته فيعفو ويبذل من نفسه وعرضه وماله أو كل كرامة له ما لا يقدم عليه لو صحا وعقل وهو سكران لا يعقل ويعد ذلك فتوه وهو سفه وجنون.
فهذه العثرات وأمثالها مما لا حصن للإنسان يتحصن فيه منها غير التوحيد الذي ذكرناه ولذلك وضع الإسلام الأخلاق الكريمة التي جعلها جزءا من طريقته الجارية على أساس التوحيد الذي من شؤونه القول بالمعاد ولازمه أن يلتزم الإنسان بالاحسان ويجتنب الاساءة أينما كان ومتى ما كان سواء علم به أو لم يعلم وسواء حمده حامد أو لم يحمد وسواء كان معه من يحمله عليه أو يردعه عنه أو لم يكن فإن معه الله العليم الحفيظ القائم على كل نفس بما كسبت وورائه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء وفيه تجزى كل نفس بما كسبت 7 منطقان منطق التعقل ومنطق الاحساس أما منطق الاحساس فهو يدعو إلى النفع الدنيوي ويبعث إليه فإذا قارن الفعل نفع وأحس به الإنسان فالاحساس متوقد شديد التوقان في بعثه وتحريكه وإذا لم يحس الإنسان بالنفع فهو خامد هامد وأما منطق التعقل فإنما يبعث إلى اتباع الحق ويرى أنه أحسن ما ينتفع به الإنسان أحس مع الفعل بنفع مادى أو لم يحس فإن ما عند الله خير وابقى وقس في ذلك بين قول عنترة وهو على منطق الاحساس وقولى كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي.
(19/274)
يريد إني أستثبت نفسي كلما تزلزلت في الهزاهز والمواقف المهولة من القتال بقولى لها اثبتي فإن قتلت يحمدك الناس على الثبات وعدم الأنهزام وإن قتلت العدو استرحت ونلت بغيتك فالثبات خير على أي حال وبين قوله تعالى وهو على منطق التعقل { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون : التوبة - 52 } يريد أن أمر ولايتنا وانتصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شئ مما يصيبنا من خير أو شر إلا ما وعدنا من الثواب على الإسلام له والالتزام لدينه كما قال تعالى {لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون : التوبة - 121}.
وإذا كان كذلك فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شئ كان لنا عظيم الأجر والعاقبة الحسنى عند ربنا وإن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئا كان لنا عظيم الثواب والعاقبة الحسنى والتمكن في الدنيا من عدونا فنحن على أي حال سعداء مغبوطون ولا تتحفون لنا في قتالنا ولا تتربصون بنا في أمرنا إلا إحدى الحسنيين فنحن على الحسنى والسعادة على أي حال وأنتم على السعادة ونيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين وفي إحدى الحالين وهو كون الدائرة لكم علينا فنحن نتربص بكم ما يسوؤكم وأنتم لا تتربصون بنا إلا ما يسرنا ويسعدنا.
(19/275)
فهذان منطقان أحدهما يعني الثبات وعدم الزوال على مبنى إحساسي وهو أن للثابت أحد نفعين إما حمد الناس وإما الراحة من العدو هذا إذا كان هناك نفع عائد إلى الإنسان المقاتل الذي يلقي بنفسه إلى التهلكة أما إذا لم يكن هناك نفع عائد كما لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد وتساوى عندهم الخدمة والخيانة أو كانت الخدمة مما ليس من شأنه أن يظهر لهم البتة أو لا هي ولا الخيانة أو لم يسترح الاحساس بفناء العدو بل إنما يستريح به الحق فليس لهذا المنطق إلا العي واللكنة.
وهذه الموارد المعدودة هي الأسباب العامة في كل بغي وخيانة وجناية يقول الخائن المسأهلفي أمر القانون إن خدمته لا تقدر عند الناس بما يعدلها وإن الخادم والخائن عندهم سواء بل الخائن أحسن حالا وأنعم عيشا ويرى كل باغ وجان أنه سيتخلص من قهر القانون وأن القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه فيخفى أمره ويلتبس
على الناس شخصه ويعتذر كل من يتثبط ويتثاقل في إقامة الحق والثورة على أعدائه ويداهنهم بأن القيام على الحق يذلله بين الناس ويضحك منه الدنيا الحاضرة ويعدونه من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الاساطير فإن ذكرته بشرافة النفس وطهارة الباطن رد عليك قائلا ما أصنع بشرافة النفس إذا جرت إلى نكد العيش وذلة الحياة هذا.
(19/276)
وأما المنطق الآخر وهو منطق الإسلام فهو يبنى أساسه على اتباع الحق وابتغاء الأجر والجزاء من الله سبحانه وإنما يتعلق الغرض بالغايات والمقاصد الدنيوية في المرتبة التالية وبالقصد الثاني ومن المعلوم أنه لا يشذ عن شموله مورد من الموارد ولا يسقط كليته من العموم والاطراد فالعمل أعم من الفعل والترك إنما يقع لوجهه تعالى وإسلاما له واتباعا للحق الذي أراده وهو الحفيظ العليم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا عاصم منه ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء والله بما تعملون خبير.
فعلى كل نفس فيما وردت مورد عمل أو صدرت رقيب شهيد قائم بما كسبت سواء شهده الناس أو لا حمدوه أو لا قدروا فيه على شئ أو لا.
وقد بلغ من حسن تأثير التربية الإسلامية أن الناس كانوا يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعترفون عنده بجرائمهم وجناياتهم بالتوبة ويذوقون مر الحدود التي تقام عليهم القتل فما دونه ابتغاء رضوان الله وتطهيرا لأنفسهم من قذارة الذنوب ودرن السيئات وبالتأمل في هذه النوادر الواقعة يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب تأثير البيان الدينى في نفوس الناس وتعويده لهم السماحة في ألذ الأشياء وأعزها عندهم وهي الحياة وما في تلوها ولو لا أن البحث قرآني لاوردنا طرفا من الامثلة التاريخية فيه.
8 ما معنى ابتغاء الأجر عند الله والاعراض عن غيره ربما يتوهم المتوهم أن جعل الأجر الاخروي وهو الغرض العام في حياة الإنسان الاجتماعية يوجب سقوط الاغراض الحيوية التي تدعو إليه البنية الطبيعية الإنسانية وفيه فساد نظام الاجتماع والأنحطاط إلى منحط الرهبانية وكيف يمكن الأنقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفظ على المقاصد المهمة الاخرى وهل هذا إلا تناقض.
(19/277)
لكنه توهم ناش من الجهل بالحكمة الإلهية والاسرار التي تكشف عنها المعارف القرآنية فإن الإسلام يبني تشريعه على أصل التكوين كما مر ذكره مرارا في المباحث
السابقة من هذا الكتاب قال تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم : الروم - 30}.
وحاصله أن سلسلة الأسباب الواقعية التكوينية تعاضدت على إيجاد النوع الإنساني في ذيلها وتوفرت على سوقه نحو الغاية الحيوية التي هيأت له فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح والاختيار على موافقة الأسباب فيما تريد منه وتسوقه إليه حتى لا تناقضها حياته فيؤديه ذلك إلى الهلاك والشقاء وهذا لو تفهمه المتوهم هو الدين الإسلامى بعينه ولما كان هناك فوق الأسباب سبب وحيد هو الموجد لها المدبرلأمرها فيما دق وجل وهو الله سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى الكلمة كان الواجب على الإنسان الإسلام له والخضوع لأمره وهذا معنى كون التوحيد هو الأساس الوحيد للدين الإسلامي.
ومن هنا يظهر أن حفظ كلمة التوحيد والإسلام لله وابتغاء وجهه في الحياة جرى على موافقة الأسباب طرا وإعطاء كل ذي حق منها حقه من غير شرك ولا غفلة فعند المرء المسلم غايات وأغراض دنيوية وأخرى أخروية وله مقاصد مادية وأخرى معنوية لكنه لا يعتني في أمرها بأزيد مما ينبغي من الاعتناء والاهتمام ولذلك بعينه نرى أن الإسلام يندب إلى توحيد الله سبحانه والأنقطاع إليه والاخلاص له والإعراض عن كل سبب دونه ومبتغي غيره ومع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة والجري على المجاري الطبيعية.
ومن هنا يظهر أن أفراد المجتمع الإسلامى هم السعداء بحقيقة السعادة في الدنيا وفي الآخرة وأن غايتهم وهو ابتغاء وجه الله في الأعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيوية إذا ظهرت واستوثرت.
(19/278)
ومن هنا يظهر أيضا فساد توهم آخر وهو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من الباحثين أن حقيقة الدين والغرض الأصلي منه هو إقامة العدالة الاجتماعية والعباديات فروع متفرعة عليها فالذي يقيمها فهو على الدين ولو لم يتلبس بعقيدة ولا عبودية.
والباحث المتدبر في الكتاب والسنة وخاصة في السيرة النبوية لا يحتاج في الوقوف على بطلانهذا التوهم إلى مؤونة زائدة وتكلف استدلال على أن هذا الكلام الذي
يتضمن إسقاط التوحيد وكرائم الأخلاق من مجموعة النواميس الدينية فيه إرجاع للغاية الدينية التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتع وقد عرفت أنهما غايتان مختلفتان لا ترجع إحديهما إلى الاخرى لا في أصلها ولا في فروعها وثمراتها.
9 - ما معنى الحرية في الاسلام ؟ كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا يتجاوز عمرها في دورانها على الالسن عدة قرون ولعل السبب المبتدع لها هي النهضة المدنية الاوربية قبل بضعة قرون لكن معناها كان جائلا في الاذهان وامنية من أماني القلوب منذ أعصار قديمة.
والأصل الطبيعي التكويني الذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهز به الإنسان في وجوده من الإرادة الباعثة إياه على العمل فإنها حالة نفسية في إبطالها إبطال الحس والشعور المنجر إلى إبطال الإنسانية.
غير أن الإنسان لما كان موجودا اجتماعيا تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع وإلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الإرادات وفعله في الأفعال المنجر إلى الخضوع لقانون يعدل الأرادات والأعمال بوضع حدود لها فالطبيعة التي أعطته إطلاق الإرادة والعمل هي بعينها تحدد الإرادة والعمل وتقيد ذلك الاطلاق الابتدائي والحرية الأولية.
(19/279)
والقوانين المدنية الحاضرة لما وضعت بناء أحكامها على أساس التمتع المادي كما عرفت أنتج ذلك حرية الأمة في أمر المعارف الأصلية الدينية من حيث الالتزام بها وبلوازمها وفي أمر الأخلاق وفي ما وراء القوانين من كل ما يريده ويختاره الإنسان من الأرادات والأعمال فهذا هو المراد بالحرية عندهم.
وأما الإسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت ثم في المرتبة التالية على أساس الأخلاق الفاضلة ثم تعرضت لكل يسير وخطير من الأعمال الفردية والاجتماعية كائنة ما كانت فلا شئ مما يتعلق بالإنسان أو يتعلق به الإنسان إلا وللشرع الإسلامى فيه قدم أو أثر قدم فلا مجال ولا مظهر للحرية بالمعنى المتقدم فيه.
نعم للإنسان فيه الحرية عن قيد عبودية غير الله سبحانه وهذا وإن كان لا يزيد على كلمة واحدة غير أنه وسيع المعنى عند من بحث بحث تعمق في السنة الإسلامية
والسيرة العملية التي تندب إليها وتقرها بين أفراد المجتمع وطبقاته ثم قاس ذلك إلى ما يشاهد من سنن السؤدد والسيادة والتحكمات في المجتمعات المتمدنة بين طبقاتها وأفرادها أنفسها وبين كل أمة قوية وضعيفة.
وأما من حيث الأحكام فالتوسعة فيما اباحه الله من طيبات الرزق ومزايا الحياة المعتدلة من غير إفراط أو تفريط قال تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية " الاعراف - 32 " وقال تعالى { خلق لكم ما في الأرض جميعا " البقرة : وقال تعالى { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه : الجاثية - 13.
ومن عجيب الأمر ما رامه بعض الباحثين والمفسرين وتكلف فيه من إثبات حرية العقيدة في الإسلام بـ قوله تعالى { لا إكراه في الدين " البقرة - 256 " } وما يشابهه من الآيات الكريمة.(19/280)
وقد مر البحث التفسيري عن معنى الآية في سورة البقرة والذي نضيف إليها ههنا أنك عرفت أن التوحيد أساس جميع النواميس الإسلامية ومع ذلك كيف يمكن أن يشرع حرية العقائد ؟ وهل ذلك إلا التناقض الصريح ؟ فليس القول بحرية العقيدة إلا كالقول بالحرية عن حكومة القانون في القوانين المدنية بعينه.
وبعبارة أخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الإنسان ليس عملا اختياريا للإنسان حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير وإنما الذي يقبل الحظر والاباحة هو الالتزام بما تستوجبه العقيدة من الأعمال كالدعوة إلى العقيدة وإقناع الناس بها وكتابتها ونشرها وإفساد ما عند الناس من العقيدة والعمل المخالفين لها فهذه هي التي تقبل المنع والجواز ومن المعلوم أنها إذا خالفت مواد قانون دائر في المجتمع أو الأصل الذي يتكي عليه القانون لم يكن مناص من منعها من قبل القانون ولم يتك الإسلام في تشريعه على غير دين التوحيد (التوحيد والنبوة والمعاد) وهو الذي يجتمع عليه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس (أهل الكتاب) فليست الحرية إلا فيها وليست فيما عداها إلا هدما لأصل الدين نعم ههنا حرية أخرى وهي الحرية من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث وسنبحث عنها في الفصل 14 الآتي.
10 - ما هو الطريق إلى التحول والتكامل في المجتمع الإسلامى ؟ ربما أمكن
(19/281)
أن يقال هب أن السنة الإسلامية سنة جامعة للوازم الحياة السعيدة والمجتمع الإسلامى مجتمع سعيد مغبوط لكن هذه السنة لجامعيتها وانتفاء حرية العقيدة فيها تستوجب ركود المجتمع ووقوفه عن التحول والتكامل وهو من عيوب المجتمع الكامل كما قيل فإن السير التكاملي يحتاج إلى تحقق القوى المتضادة في الشئ وتفاعلها حتى تولد بالكسر والأنكسار مولودا جديدا خاليا من نواقص العوامل المولدة التي زالت بالتفاعل فإذا فرض أن الإسلام يرفع الاضداد والنواقص وخاصة العقائد المتضادة من أصلها فلازمه أن يتوقف المجتمع الذي يكونه عن السير التكاملي.
أقول وهو من إشكالات المادية التحولية (ماترياليسم ديالكتيك) وفيه خلط عجيب فإن العقائد والمعارف الإنسانية على نوعين نوع يقبل التحول والتكامل وهو العلوم الصناعية التي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادية وتذليل الطبيعة العاصية للإنسان كالعلوم الرياضية والطبيعية وغيرهما وهذه العلوم والصناعات وما في عدادها كلما تحولت من النقص إلى الكمال أوجب ذلك تحول الحياة الاجتماعية لذلك.
(19/282)
ونوع آخر لا يقبل التحول وإن كان يقبل التكامل بمعنى آخر وهو العلوم والمعارف العامة الإلهية التي تقضي في المبدأ والمعاد والسعادة والشقاء وغير ذلك قضاءا قاطعا واقفا غير متغير ولا متحول وإن قبلت الارتقاء والكمال من حيث الدقة والتعمق وهذه العلوم والمعارف لا تؤثر في الاجتماعات وسنن الحياة إلا بنحو كلي فوقوف هذه المعارف والآراء وثبوتها على حال واحد لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائي كما نشاهد أن عندنا آراءا كثيرة كلية ثابتة على حال واحد من غير أن يقف اجتماعنا لذلك عن سيره كقولنا إن الإنسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ حياته وإن العمل يجب أن يكون لنفع عائد إلى الإنسان وإن الإنسان يجب أن يعيش في حال الاجتماع وقولنا إن العالم موجود حقيقة لا وهما وإن الإنسان جزء من العالم وإن الإنسان جزء من العالم الأرضي وإن الإنسان ذو أعضاء وأدوات وقوى إلى غير ذلك من الآراء والمعلومات الثابتة التي لا يوجب ثبوتها ووقوفها وقوف الاجتماعات وركودها ومن هذا القبيل القول بأن للعالم إلها واحدا شرع للناس شرعا جامعا لطرق السعادة من طريق النبوة وسيجمع الجميع إلى يوم يوفيهم فيه جزاء أعمالهم وهذه هي الكلمة الوحيدة التي بنى عليها الإسلام مجتمعه وتحفظ عليها كل التحفظ ومن المعلوم أنه مما لا يوجب
باصطكاك ثبوته ونفيه وإنتاج رأي آخر فيه إلا انحطاط المجتمع كما بين مرارا وهذا شأن جميع الحقائق الحقة المتعلقة بما وراء الطبيعة فإنكارها بأي وجه لا يفيد للمجتمع إلا انحطاطا وخسة.
والحاصل أن المجتمع البشري لا يحتاج في سيره الارتقائي إلا إلى التحول والتكامل يوما فيوما في طرق الاستفادة من مزايا الطبيعة وهذا إنما يتحقق بالبحث الصناعي المداوم وتطبيق العمل على العلم دائما والاسلام لا يمنع من ذلك شيئا.
(19/283)
وأما تغير طريق إدارة المجتمعات وسنن الاجتماع الجارية م كالاستبداد الملوكي والديموقراطية والكمونيزم ونحوها فليس بلازم إلا من جهة نقصها وقصورها عن إيفاء الكمال الإنساني الاجتماعي المطلوب لا من جهة سيرها من النقص إلى الكمال فالفرق بينها لو كان فإنما هو فرق الغلط والصواب لا فرق الناقص والكمال فإذا استقر أمر السنة الاجتماعية على ما يقصده الإنسان بفطرته وهو العدالة الاجتماعية واستظل الناس تحت التربية الجيدة بالعلم النافع والعمل الصالح ثم أخذوا يسيرون مرتاحين ناشطين نحو سعادتهم بالارتقاء في مدارج العلم والعمل ولا يزالون يتكاملون ويزيدون تمكنا واتساعا في السعادة فما حاجتهم إلى تحول السنة الاجتماعية زائدا على ذلك ؟ ومجرد وجوب التحول على الإنسان من كل جهة حتى فيما لا يحتاج فيه إلى التحول مما لا ينبغي أن يقضي به ذو نظر وبصيرة.
فإن قلت لا مناص من عروض التحول في جميع ما ذكرت أنه مستغن عنه كالاعتقادات والأخلاق الكلية ونحوها فإنها جميعا تتغير بتغير الأوضاع الاجتماعية والمحيطات المختلفة ومرور الازمنة فلا يجوز أن ينكر أن الإنسان الجديد تغاير أفكاره أفكار الإنسان القديم وكذا الإنسان يختلف نحو تفكره بحسب اختلاف مناطق حياته كالاراضي الاستوائية والقطبية والنقاط المعتدلة وكذا بتفاوت أوضاع حياته من خادم ومخدوم وبدوي وحضري ومثر ومعدم وفقير وغني ونحو ذلك فالافكار والآراء تختلف باختلاف العوامل وتتحول بتحول الاعصار بلا شك كائنة ما كانت.
قلت الاشكال مبني على نظرية نسبية العلوم والآراء الإنسانية ولازمها كون الحق والباطل والخير والشر أمورا نسبية إضافية فالمعارف الكلية النظرية المتعلقة بالمبدء والمعاد وكذا الآراء الكلية العملية كالحكم بكون الاجتماع خيرا للإنسان وكون
(19/284)
العدل خيرا (حكما كليا لا من حيث انطباقه على المورد) تكون أحكاما نسبية متغيرة بتغير الازمنة والاوضاع والأحوال وقد بينا في محله فساد هذه النظرية من حيث كليتها.
وحأصل ما ذكرناه هناك أن النظرية غير شاملة للقضايا الكلية النظرية وقسم من الآراء الكلية العملية.
وكفى في بطلانكليتها أنها لو صحت أي كانت كلية مطلقة ثابتة أثبتت قضية مطلقة غير نسبية وهي نفسها ولو لم تكن كلية مطلقة بل قضية جزئية أثبتت بالاستلزام قضية كلية مطلقة فكليتها باطلة على أي حال وبعبارة أخرى لو صح أن " كل رأي واعتقاد يجب أن يتغير يوما " وجب أن يتغير نفس هذا الرأي يوما أي لا يتغير بعض الاعتقادات ابدا فافهم ذلك.
11 - هل الإسلام بشريعته يفي بإسعاد هذه الحياة الحاضرة ؟
ربما يقال هب أن الإسلام لتعرضه لجميع شؤون الإنسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية وجميع أمانيهم في الحياة لكن مرور الزمان غير طرق الحياة الإنسانية فالحياة الثقافية والعيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرنا المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية فقد بلغ الإنسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغا من الارتقاء والتكامل المدني لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متبائنين فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم ؟ وكيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الاخرى ؟ .
(19/285)
والجواب أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شؤونها وإنما هو من حيث المصاديق والموارد وبعبارة أخرى يحتاج الإنسان في حياته إلى غذاء يتغذى به ولباس يلبسه ودار يقطن فيه ويسكنه ووسائل تحمله وتحمل أثقاله وتنقلها من مكان إلى مكان ومجتمع يعيش بين أفراده وروابط تناسلية وتجارية وصناعية وعملية وغير ذلك وهذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الإنسان إنسانا ذا هذه الفطرة والبنية وما دام حياته هذه الحياة الإنسانية والإنسان الأولي وإنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء.
وإنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الإنسان بها حوائجه المادية ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها وبوسائل رفعها.
فقد كان الإنسان الأولي مثلا يتغذى بما يجده من الفواكه والنبات ولحم الصيد على وجه بسيط ساذج وهو اليوم يهيئ منها ببراعته وابتداعه الوفا من ألوان الطعام والشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته وألوان يستلذ منها بصره وطعوم يستطيبها ذوقه وكيفيات يتنعم بها لمسه وأوضاع وأحوال أخرى يصعب إحصاؤها وهذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الأول من حيث إن الجميع غذاء يتغذى به الإنسان لسد جوعه وإطفاء نائرة شهوته.
وكما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الإنسان أولا لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر بل انطبق الأول على الآخر انطباقا كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الإسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيله مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظا من غير تغير وانحراف وأما مع المخالفة فالسنة الإسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم والعصر الحديث.
(19/286)
وأما الأحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زمانا وزمانا وتتغير سريعا بالطبع كالاحكام المالية والانتظامية المتعلقة بالدفاع وطرق تسهيل الارتباطات والموأصلات والانتظامات البلدية ونحوها فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر الحكومة فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم ويجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف به في بيته وفيما أمره إليه فلوالي الأمر أن يعزم على أمور من شؤون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير مالية يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين كما قال تعالى وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله : آل عمران - 159 كل ذلك في الأمور العامة.
وهذه أحكام وعزمات جزئية تتغير بتغير المصالح والأسباب التي لا تزال يحدث منها شئ ويزول منها شئ غير الأحكام الإلهية التي يشتمل عليها الكتاب والسنة ولا سبيل للنسخ إليها ولبيانه التفصيلي محل آخر.
12 - من الذي يتقلد ولاية المجتمع في الإسلام وما سيرته ؟ كان ولاية أمر المجتمع الإسلامى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وافتراض طاعته (صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس واتباعه صريح القرآن الكريم.
قال تعالى {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول : التغابن - 12 } وقال تعالى { لتحكم بين الناس بما أريك الله : النساء - 105 }
وقال تعالى { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم : الأحزاب - 6 } وقال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله : آل عمران - 31 }
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التى يتضمن كل منها بعض شؤون ولايته العامة في المجتمع الإسلامى أو جميعها.
(19/287)
والوجه الوافى لغرض الباحث في هذا الباب أن يطالع سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ويمتلئ منه نظرا ثم يعود إلى مجموع ما نزلت من الآيات في الأخلاق والقوانين المشرعة في الأحكام العبادية والمعاملات والسياسات وسائر المرابطات والمعاشرات فإن هذا الدليل المتخذ بنحو الانتزاع من ذوق التنزيل الإلهي له من اللسان الكافي والبيان الوافى ما لا يوجد في الجملة والجملتين من الكلام ألبتة وههنا نكتة أخرى يجب على الباحث الاعتناء بأمرها وهو أن عامة الآيات المتضمنة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجه خطاباتها إلى عامة المؤمنين دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة كـ قوله تعالى { وأقيموا الصلاة : النساء - 77 وقوله وأنفقوا في سبيل الله : البقرة - 195} وقوله {كتب عليكم الصيام : البقرة - 183 } وقوله {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر : آل عمران - 104 } وقوله {وجاهدوا في سبيله : المائدة - 35 وقوله وجاهدوا في الله حق جهاده : الحج - 78 } وقوله {الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما : النور - 2 }
وقوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما : المائدة - 38 }
وقوله {ولكم في القصاص حيوة : البقرة - 179 وقوله وأقيموا الشهادة لله : الطلاق - 2 }
وقوله {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا : آل عمران - 103 }
وقوله {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه : الشورى - 13}
وقوله {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين : آل عمران - 144 }
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
(19/288)
ويستفاد من الجميع أن الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس ولا يرضى لعباده الكفر ولم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم فالمجتمع المتكون منهم أمره إليهم من غير
مزية في ذلك لبعضهم ولا اختصاص منهم ببعضهم والنبى ومن دونه في ذلك سواء قال تعالى أنى لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض : آل عمران - 195 فإطلاق الآية تدل على أن التأثير الطبيعي الذى لأجزاء المجتمع الإسلامى في مجتمعهم مراعى عند الله سبحانه تشريعا كما راعاه تكوينا وأنه تعالى لا يضيعه وقال تعالى { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين : الاعراف - 128} نعم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة والهداية والتربية قال تعالى {يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة : الجمعة - 2} فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) المتعين من عند الله للقيام على شأن الأمة وولاية أمورهم في الدنيا والآخرة وللإمامة لهم ما دام حيا.
لكن الذى يجب أن لا يغفل عنه الباحث أن هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكية التى تجعل مال الله فيئا لصاحب العرش وعباد الله أرقاء له يفعل بهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد وليست هي من الطرق الاجتماعية التى وضعت على أساس التمتع المادى من الديمقراطية وغيرها فإن بينها وبين الإسلام فروقا بينه مانعة من التشابه والتماثل.
(19/289)
ومن أعظمها أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادى نفخت في قالبها روح الاستخدام والاستثمار وهو الاستكبار الإنساني الذى يجعل كل شئ تحت إرادة الإنسان وعمله حتى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان ويبيح له طريق الوصول إليه والتسلط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه وهذا بعينه هو الاستبداد الملوكى في الأعصار السالفة وقد ظهرت في زى الاجتماع المدنى على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية وإجحافاتهم وتحكماتهم بالنسبة إلى الأمم الضعيفة وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ.
فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجرى في ضعفاء عهده بتحكمه ولعبه كل ما يريده ويهواه ويعتذر لو اعتذر أن ذلك من شؤون السلطنة ولصلاح المملكة وتحكيم أساس الدولة ويعتقد أن ذلك حق نبوغه وسيادته ويستدل عليه بسيفه كذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء
الأمم وضعفائهم اليوم وجدت أن التاريخ وحوادثه كرت علينا ولن تزال تكر غير أنها ابدلت الشكل السابق الفردى بالشكل الحاضر الاجتماعي والروح هي الروح والهوى هو الهوى وأما الإسلام فطريقته بريئة من هذه الاهواء ودليله السيرة النبوية في فتوحاته وعهوده.
(19/290)
ومنها أن أقسام الاجتماعات على ما هو مشهود ومضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد فإن اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه والمقام المؤدى بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها لكن المجتمع الإسلامى مجتمع متشابه الاجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض ولا تفاضل ولا تفاخر ولا كرامة وإنما التفاوت الذى تستدعيه القريحة الإنسانية ولا تسكت عنه إنما هو في التقوى وأمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس قال تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم : الحجرات - 13} وقال تعالى { فاستبقوا الخيرات : البقرة - 148 } فالحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والرئيس والمرؤوس والحر والعبد والرجل والمرأة والغنى والفقير والصغير والكبير في الإسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الدينى في حقهم ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية على سائرها السلام والتحية.
ومنها أن القوة المجرية في الإسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم جميع أفراد المجتمع فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهناك فروق أخر لا يخفى على الباحث المتتبع.أ هـ {الميزان حـ 4 صـ 92 ـ 123}(19/291)
سورة النساء(19/292)
فصل
قال العلامة الفيروزابادى :
( بصيرة فى " يا أيها الناس اتقوا ربكم " )
هذه السّورة مدنيّة بإِجماع القُرًّاءِ.
وعدد آياتها مائة وخمس وسبعون، فى عدّ الكوفىّ، وستّ فى عدِّ البصرىّ، وسبع فى عدّ الشَّامىّ.
وكلماتها ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأَربعون.
وحروفها ستَّة عشر أَلفاً وثلاثون حرفا.
والآيات المختلف فيها {أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ}، {عَذَابًا أَلِيْمًا}.
مجموع فواصل الآيات (م ل ا ن) يجمعها قولك (مِلْنَا) فعلى الَّلام آية واحدة (السّبيل) وعلى النُّون آية واحدة (مهين) وخمس آيات منها على الميم المضمومة، وسائر الآيات على الأَلف.
واسم السّورة سورة النِّساءِ الكبرى، واسم سورة الطَّلاق سورةُ النِّساءِ الصّغرى.(19/293)
وأَمَّا ما اشتملت عليه السّورة مجملاً فبيان خِلْقة آدم وحوَّاءَ، والأَمر [بصلة] الرّحم، والنَّهى عن أَكل مال اليتيم، وما يترتَّب عليه من عظم الإِثم، والعذاب لآكليه، وبيان المناكحات، وعدد النساءِ، وحكم الصَّداق، وحفظ المال من السّفهاءِ، وتَجربة اليتيم قبل دفع المال إِليه، والرِّفْق بالأَقارب وقت قسمة الميراث، وحكم ميراث أَصحاب الفرائض، وذكر ذوات المحارم، وبيان طَوْل الحُرَّةِ، وجواز التَّزَوُّج بالأَمَة، والاجتناب عن الكبائر، وفضل الرّجال على النِّساءِ، وبيان الحقوق، وحكم السّكران وقت الصلاة، وآية التيُّمم، وذمّ اليهود، وتحريفهم التوراة، وردّ الأَمانات إِلى أَهلها، وصفة المنافقين فى امتناعهم عن قبول أَوامر القرآن، والأَمر بالقتال، ووجوب رَدِّ السّلام، والنَّهى عن موالاة المشركين، وتفصيل قَتْل العمد والخطأ، وفضل الهجرةِ، ووزْر المتأَخِّرين عنها، والإِشارة إِلى صلاة الخوف حال القتال، والنَّهى عن حماية الخائنين، وإِيقاعُ الصّلح بين الأَزواج والزَّوجات، وإِقامة الشهادات، ومدح العدل، وذمّ المنافقين، وذمّ اليهود، وذكر قَصْدهم قتل عيسى عليه السّلام، وفضل الرّاسخين فى العلم، وإِظهار فساد اعتقاد النَّصارى، وافتخار الملائكة والمسيح بمقام العبوديَّة، وذكر ميراث الكلالة، والإِشارة إِلى أَنَّ الغرض من بيان الأَحكام صيانةُ الخَلْق من الضَّلالة، فى قوله {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوْا} أَى كراهة أَن تضلُّوا.(19/294)
وأَمّا النَّاسخ والمنسوخ فى هذه السّورة ففى أَربع وعشرين آية {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} م {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} م {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ} م (الثَّيِّب بالثيب) ن {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} م {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ} ن {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} بعض الآية م {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} ن والآيتان مفسّرتان بالعموم والخصوص {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً} م والاستثناء فى قوله {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفْ} ن وقيل الآية مُحكمة {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} م والاستثناء فى قوله {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} ن {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ} م والاستثناء فى قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ن وقيل الآية محكمة {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} م والاستثناء منه ن فيما مضى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} م {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} وقول النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلم "أَلا وإِنى حَرَّمت المُتْعَة" ن {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} م {لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} ن أَراد مؤاكلتهم {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} م {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ن(19/295)
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} م آية السّيف ن {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ} م {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِر لَهُمْ } ن {خُذُوْا حِذْرَكُمْ} م {لِيَنْفِرُوْا كآفَّة} ن {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} م آية السّيف ن {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} م {فَاقْتُلُوْا الْمُشْرِكِينَ} ن {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} م {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ} ن {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} م {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ن وقوله {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ} إِلى قوله {وَمَنْ تَابَ} ن {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} م {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} ن {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} وقوله {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} م آية السّيف ن. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 1 صـ 169 ـ 173}(19/296)
فصل فى التعريف بسورة النساء
قال العلامة الشيخ / محمد الطاهر بن عاشور :
سورة النساء
سميت هذه السورة في كلام السلف سورة النساء ؛ ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده.
وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة وكتب التفسير ، ولا يعرف لها اسم آخر ، لكن يؤخذ مما روي في صحيح البخاري عن ابن مسعود من قوله لنزلت سورة النساء القصرى يعني سورة الطلاق أنها شاركت هذه السورة في التسمية الطولى ، ولم أقف عيه صريحا.
ووقع كتاب بصائر ذوي خبرة التمييز للفيروز أبادي أن هذه السورة تسمى سورة النساء الكبرى ، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى.
ولم أره لغيره1.
ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم ، ثم بأحكام تخص النساء ، وأن بها أحكاما كثيرة من أحكام النساء : الأزواج ، والبنات ، وختمت بأحكام تخص النساء.
وكان ابتداء نزولها بالمدينة ، لما صح عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده.
وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة في المدينة في شوال ، لثمان أشهر خلت من الهجرة ، واتفق العلماء على أن سورة النساء نزلت بعد البقرة ، فتعين أن يكون نزولها متأخرا عن الهجرة بمدة طويلة.
والجمهور قالوا : نزلت بعد آل عمران ، ومعلوم أن آل عمران نزلت في خلال ثلاث أي بعد أحد ، فيتعين أن تكون سورة النساء نزلت بعدها.(19/297)
وعن ابن عباس : أن أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ثم آل عمران ، ثم سورة الأحزاب ، ثم الممتحنة ، ثم النساء ، فإذا كان كذلك تكون سورة النساء نازلة بعد الأحزاب التي هي في أواخر سنة أربع أو أول سنة خمس من الهجرة ، وبعد صلح الحديبية الذي هو في سنة ست حيث تضمنت سورة الممتحنة شرط إرجاع من يأتي المشركين هاربا إلى المسلمين عدا النساء ، وهي آية {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة : 10] الآية.
وقد قيل : إن آية {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء : 2] نزلت في رجل من غطفان له ابن أخ له يتيم ، وغطفان أسلموا بعد وقعة الأحزاب ، إذ هم من جملة الأحزاب ، أي بعد سنة خمس.
ومن العلماء من قال : نزلت سورة النساء عند الهجرة.
وهو بعيد.
وأغرب منه من قال : إنها نزلت بمكة لأنها افتتحت ب يا أيها الناس ، وما كان يا أيها الناس فهو مكي ، ولعله يعني أنها نزلت بمكة أيام الفتح لا قبل الهجرة لأنهم يطلقون المكي بإطلاقين.
وقال بعضهم : نزل صدرها بمكة وسائرها بالمدينة.
والحق أن الخطاب ب يا أيها الناس لا يدل إلا على إرادة دخول أهل مكة في الخطاب ، ولا يلزم أن يكون ذلك بمكة ، ولا قبل الهجرة ، فإن كثيرا مما فيه يا أيها الناس مدني بالاتفاق.
ولا شك في أنها نزلت بعد آل عمران لأن في سورة النساء من تفاصيل الأحكام ما شأنه أن يكون بعد استقرار المسلمين بالمدينة ، وانتظام أحواله وأمنهم من أعدائهم.
وفيها آية التيمم ، والتيمم شرع يوم غزوة المريسيع سنة خمس ، وقيل : سنة ست.(19/298)
فالذي يظهر أن نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدة نزولها ، ويؤيد ذلك أن كثيرا من الأحكام التي جاءت فيها مفصلة تقدمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث ، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الموال والمعاشرة والحكم وغير ذلك ، على أنه قد قيل : إن آخر آية منها ، آية الكلالة ، هي آخر آية نزلت من القرآن ، على أنه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة ، التي في آخرها مدة طويلة ، وأنه لما نزلت آية الكلالة الأخيرة أمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى.
ووردت في السنة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء ، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف.
ويتعين ابتداء نزولها قبل فتح مكة لقوله تعالى {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء : 75] يعني مكة.
وفيها آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء : 58] نزلت يوم فتح مكة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي ، صاحب مفتاح الكعبة ، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم ، نحو قوله {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً
عَظِيماً} {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} الخ ، وسوى التهديد بالقتال ، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة.(19/299)
وتوهين بأسهم عن المسلمين ، مما يدل على أن أمر المشركين قد صار إلى وهن ، وصار المسلمون في قوة عليهم ، وأن معظمها ، بعد التشريع ، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين ، وجدال مع النصارى ليس بكثير ، ولكنه أوسع مما في سورة آل عمران ، مما يدل على أن مخاطبة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة.
وقد عدت الثالثة والتسعين من السور ، نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلت : 1].
وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكة والبصرة ، ومائة وست وسبعون في عدد أهل الكوفة ، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام.
وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم ، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله ، وأهم محقوقون بأن يشكروا ربهم على ذلك ، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه ، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة ، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى ، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن ، والإشارة إلى النكاح والصداق ، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين ، ومعاشرتهن والمصالحة معهن ، وبيان ما يحل للتزوج منهن ، والمحرمات بالقرابة أو الصهر ، وأحكام الجواري بملك اليمين.
وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة ، وتقسيم ذلك ، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم.(19/300)
ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه ، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة ، والتحذير من اتباع الهوى ، والأمر بالبر ، والمواساة ، وأداء الأمانات ، والتمهيد لتحريم شرب الخمر.
وطائفة من أحكام الصلاة ، والطهارة ، وصلاة الخوف.
ثم أحوال اليهود ، لكثرتهم بالمدينة ، وأحوال المنافقين وفضائحهم ، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين.
وأحكام معاملة المشركين ومساويهم ، ووجوب هجرة المؤمنين من مكة ، وإبطال مآثر الجاهلية.
وقد تخلل ذلك مواعظ وترغيب ، ونهي عن الحسد ، وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع ، أو بحكم الفطرة.
والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح.
وبث المحبة بين المسلمين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 5 ـ 8}(19/301)
وقال الشيهد / سيد قطب
هذه السورة مدنية , وهي أطول سور القرآن - بعد سورة البقرة - وترتيبها في النزول بعد سورة الممتحنة , التي تقول الروايات : إن بعضها نزل في غزوة الفتح في السنة الثامنة للهجرة , وبعضها نزل في غزوة الحديبية قبلها في السنة السادسة .
ولكن الأمر في ترتيب السور حسب النزول - كما بينا في مطالع الكلام على سورة البقرة في الجزء الأول - ليس قطعيا . كما أن السورة لم تكن تنزل كلها دفعة واحدة في زمن واحد . فقد كانت الآيات تتنزل من سور متعددة ; ثم يأمر النبي {صلى الله عليه وسلم} بوضع كل منها في موضعه من سورة بذاتها . والسورة الواحدة - على هذا - كانت تظل "مفتوحة " فترة من الزمان تطول أو تقصر . وقد تمتد عدة سنوات . وفي سورة البقرة كانت هناك آيات من أوائل ما نزل في المدينة , وآيات من أواخر ما نزل من القرآن .
وكذلك الشأن في هذه السورة . فمنها ما نزل بعد سورة الممتحنة في السنة السادسة وفي السنة الثامنة كذلك . ولكن منها الكثير نزل في أوائل العهد بالهجرة . والمنتظر - على كل حال - أن يكون نزول آيات هذه السورة قد امتد من بعد غزوة أحد في السنة الثالثة الهجرية , إلى ما بعد السنة الثامنة , حين نزلت مقدمة سورة الممتحنة .(19/302)
ونذكر على سبيل المثال الآية الواردة في هذه السورة عن حكم الزانيات : (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ; فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت , حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا). . فمن المقطوع به أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النور التي بينت حد الزنا : (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة , ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله , إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر , وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين). . وهذه الآية الأخيرة نزلت بعد حديث الإفك في السنة الخامسة [ أو في السنة الرابعة على رواية ] فقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين نزلت : " خذوا عني . خذوا عني . قد جعل الله لهن سبيلا . . . " إلخ . وكان السبيل هو هذا الحكم الذي تضمنته آية النور .
وفي السورة نماذج كثيرة كهذا النموذج , تدل على تواريخ نزولها على وجه التقريب . على النحو الذي بيناه في مطالع الكلام عن سورة البقرة . .
هذه السورة تمثل جانبا من الجهد الذي أنفقه الإسلام في بناء الجماعة المسلمة , وإنشاء المجتمع الإسلامي ; وفي حماية تلك الجماعة , وصيانة هذه المجتمع . وتعرض نموذجا من فعل القرآن في المجتمع الجديد , الذي انبثق أصلا من خلال نصوصه , والذي نشأ ابتداء من خلال المنهج الرباني . وتصور بهذا وذلك طبيعة هذا المنهج في تعامله مع الكائن الإنساني ; كما تصور طبيعة هذا الكائن وتفاعله مع المنهج الرباني . . تفاعله معه وهو يقود خطاه في المرتقى الصاعد , من السفح الهابط , إلى القمة السامقة . . خطوة خطوة , ومرحلة مرحلة . . بين تيارات المطامع والشهوات والمخاوف والرغائب ; وبين أشواك الطريق التي لا تخلو منها خطوة واحدة ; وبين الأعداء المتربصين على طول الطريق الشائك !
(19/303)
وكما رأينا من قبل - في سورة البقرة وسورة آل عمران - مواجهة القرآن لكل الملابسات المحيطة بنشأة الجماعة المسلمة في المدينة ; وبيان طبيعة المنهج الرباني الذي تنشأ الجماعة على أساسه ; وتقرير الحقائق الأساسية التي يقوم عليها التصور الإسلامي , والقيم والموازين التي تنبثق من هذا التصور ; وإبراز التكاليف التي يقتضيها النهوض بهذه الأمانة في الأرض ; وتصوير طبيعة أعداء هذا المنهج وأعداء هذه الجماعة التي تقوم عليه في الأرض , وتحذيرها من وسائل أولئك الأعداء ودسائسهم ; وبيان ما في عقائدهم من زيف وانحراف , وما في وسائلهم من خسة والتواء . . . إلخ . . . فكذلك نرى القرآن - في هذه السورة - يواجه جملة هذه الملابسات والحقائق . .
إلا أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة , وملامحها المميزة , ومحورها الذي تشد إليه موضوعاتها جميعا . . ومن مقتضيات الشخصية الخاصة أن تتجمع الموضوعات في كل سورة وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها , تبرز فيه ملامحها , وتتميز به شخصيتها . كالكائن الحي المميز السمات والملامح , وهو - مع هذا - واحد من جنسه على العموم !
ونحن نرى في هذه السورة - ونكاد نحس - أنها كائن حي , يستهدف غرضا معينا , ويجهد له , ويتوخى تحقيقه بشتى الوسائل . . والفقرات والآيات والكلمات في السورة , هي الوسائل التي تبلغ بها ما تريد ! ومن ثم نستشعر تجاهها - كما نستشعر تجاه كل سورة من سور هذا القرآن - إحساس التعاطف والتجاوب مع الكائن الحي , المعروف السمات , المميز الملامح , صاحب القصد والوجهة , وصاحب الحياة والحركة , وصاحب الحس والشعور !
(19/304)
إن السورة تعمل بجد وجهد في محو ملامح المجتمع الجاهلي - الذي منه التقطت المجموعة المسلمة - ونبذ رواسبه ; وفي تكييف ملامح المجتمع المسلم , وتطهيره من رواسب الجاهلية فيه , وجلاء شخصيته الخاصة . كما تعمل بجد وجهد في استجاشته للدفاع عن كينونته المميزة , وذلك ببيان طبيعة المنهج الذي منه انبثقت هذه الكينونة المميزة , والتعريف بأعدائه الراصدين له من حوله - من المشركين وأهل الكتاب وبخاصة اليهود - وأعدائه المتميعين فيه - من ضعاف الإيمان والمنافقين - وكشف وسائلهم وحيلهم ومكايدهم , وبيان فساد تصوراتهم ومناهجهم وطرائقهم . مع وضع الأنظمة والتشريعات التي تنظم هذا كله وتحدده , وتصبه في القالب التنفيذي المضبوط .
وفي الوقت ذاته نلمح رواسب الجاهلية , وهي تتصارع مع المنهج الجديد , والقيم الجديدة , والاعتبارات الجديدة . ونرى ملامح الجاهلية وهي تحاول طمس الملامح الجديدة الوضيئة الجميلة . ونشهد المعركة التي يخوضها المنهج الرباني بهذا القرآن في هذا الميدان . وهي معركة لا تقل شدة ولا عمقا ولا سعة , عن المعركةالتي يخوضها في الميدان الآخر , مع الأعداء الراصدين له والأعداء المتميعين فيه !
(19/305)
وحين ندقق النظر في الرواسب التي حملها المجتمع المسلم من المجتمع الجاهلي الذي منه جاء , والتي تعالج هذه السورة جوانب منها - كما تعالج سور كثيرة جوانب أخرى - قد ينالنا الدهش لعمق هذه الرواسب , حتى لتظل تغالب طوال هذه الفترة التي رجحنا أن آيات السورة كانت تتنزل فيها . . ومن العجب أن تظل لهذه الرواسب صلابتها حتى ذلك الوقت المتأخر . . ثم ينالنا الدهش كذلك للنقلة البعيدة السامقة الرفيعة التي انتهى إليها هذا المنهج العجيب الفريد , بالجماعة المسلمة . وقد التقطها من ذلك السفح الهابط , الذي تمثله تلك الرواسب , فارتقى بها في ذلك المرتقى الصاعد إلى تلك القمة السامقة . . القمة التي لم ترتق إليها البشرية قط , إلا على حداء ذلك المنهج العجيب الفريد . المنهج الذي يملك وحده أن يلتقط الكينونة البشرية من ذلك السفح , فيرتقي بها إلى تلك القمة , رويدا رويدا , في يسر ورفق , وفي ثبات وصبر , وفي خطو متناسق موزون !
(19/306)
والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية , يتجلى له جانب من حكمة الله في اختيار "الأميين" في الجزيرة العربية , في ذلك الحين , لهذه الرسالة العظيمة . . حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة , بكل مقوماتها . الاعتقادية والتصورية , والعقلية والفكرية , والأخلاقية والاجتماعية , والاقتصادية والسياسية , ليعرف فيهم أثر هذا المنهج , وليتبين فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة , التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر , في كل ما عرفت الأرض من مناهج , وليرتسم فيهم خط هذا المنهج , بكل مراحله - من السفح إلى القمة - وبكل ظواهره , وبكل تجاربه ; ولترى البشرية - في عمرها كله - أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة , أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد . سواء كانت في درجة من درجاته , أم كانت في سفحة الذي التقط منه "الأميين" !
إن هذا المنهج ثابت في أصوله ومقوماته , لأنه يتعامل مع "الإنسان" . وللإنسان كينونة ثابتة , فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى . وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته , ولا تبدل من كينونته , ولا تحوله خلقا آخر . إنما هي تغيرات وتطورات سطحية , كالأمواج في الخضم , لا تغير من طبيعته المائية , بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة , المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة !
ومن ثم تواجه النصوص القرآنية الثابتة , تلك الكينونة البشرية الثابتة . ولأنها من صنع المصدر الذي صنع الإنسان , فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة , وأطوارها المتجددة , بنفس المرونة التي يواجه بها "الإنسان" ظروف الحياة المتغيرة , وأطوارها المتجددة , وهو محافظ على مقوماته الأساسية . . مقومات الإنسان . .
(19/307)
وفي "الإنسان" هذا الاستعداد , وهذه المرونة , وإلا ما استطاع أن يواجه ظروف الحياة وأطوارها , وهي ليست ثابتة من حوله . وفي المنهج الرباني الموضوع لهذا الإنسان , ذات الخصائص , بحكم أنه صادر من المصدر الذي صدر منه الإنسان , ومودع خصائصه ذاتها , ومعد للعمل معه إلى آخر الزمان .
وهكذا يستطيع ذلك المنهج , وتستطيع هذه النصوص , أن تلتقط الفرد الإنساني , وأن تلتقط المجموعة الإنسانية , من أي مستوى , ومن أية درجة من درجات المرتقى الصاعد , فينتهي به وبها إلى القمة السامقة . . إنه لا يرده ولا يردها أبدا إلى الوراء , ولا يهبط به أو بها أبدا إلى درجة أسفل في المرتقى . كما أنه لا يضيق به ولا بها , ولا يعجز عن رفعه ورفعها , أيا كان مكانه أو مكانها من السفح السحيق !
المجتمع البدائي المتخلف كالمجتمع العربي في الجاهلية القديمة , والمجتمع الصناعي المتحضر , كالمجتمع الأوربي والأمريكي في الجاهلية الحديثة . . كلاهما يجد في المنهج الرباني والنصوص القرآنية مكانة , ويجد منيأخذ بيده من هذا المكان , فيرقى به في المرتقى الصاعد , إلى القمة السامقة , التي حققها الإسلام , في فترة حية من فترات التاريخ الإنساني . .
إن الجاهلية ليست فترة ماضية من فترات التاريخ . إنما الجاهلية كل منهج تتمثل فيه عبودية البشر للبشر . وهذه الخاصية تتمثل اليوم في كل مناهج الأرض بلا استثناء . ففي كل المناهج التي تعتنقها البشرية اليوم , يأخذ البشر عن بشر مثلهم : التصورات والمبادىء , والموازين والقيم , والشرائع والقوانين , والأوضاع والتقاليد . وهذه هي الجاهلية بكل مقوماتها . الجاهلية التي تتمثل فيها عبودية البشر للبشر , حيث يتعبد بعضهم بعضا من دون الله .
(19/308)
والإسلام هو منهج الحياة الوحيد , الذي يتحرر فيه البشر من عبودية البشر . لأنهم يتلقون التصورات والمبادىء , والموازين والقيم , والشرائع والقوانين , والأوضاع والتقاليد , من يد الله - سبحانه - فإذا أحنوا رءوسهم فإنما يحنونها لله وحده , وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون الله وحده , وإذا خضعوا للنظام فإنما يخضعون لله وحده . ومن ثم يتحررون حقا من عبودية العبيد للعبيد , حين يصبحون كلهم عبيدا لله بلا شريك .
وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية - في كل صورة من صورها - وبين الإسلام . وهذه السورة تتولى رسم مفرق الطريق بالدقة وبالوضوح الذي لا تبقى معه ريبة لمستريب .
ومفهوم أن كل أمر أو نهي أو توجيه ورد في القرآن الكريم , كان يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي , وكان يتوخى إما إنشاء حالة غير قائمة , وإما إبطال حالة قائمة . . وذلك دون إخلال بالقاعدة الأصولية العامة : "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" . . ومع ملاحظة أن النصوص القرآنية جاءت لتعمل في كل جيل وفي كل بيئة كما أسلفنا . وفي هذا تكمن المعجزة . فهذه النصوص التي جاءت لتواجه أحوالا بعينها , هي ذاتها التي تواجه الجماعة الإنسانية , في أي طور من أطوارها . والمنهج الذي التقط المجموعة المسلمة من سفح الجاهلية , هو ذاته الذي يلتقط أية مجموعة - أيا كان موقفها على الدرج الصاعد - ثم يبلغ بها إلى القمة السامقة , التي بلغ إليها بالمجموعة الأولى , يوم التقطها من ذلك السفح السحيق !
ومن ثم فنحن حين نقرأ القرآن نستطيع أن نتبين منه ملامح المجتمع الجاهلي , من خلال أوامره ونواهيه وتوجيهاته ; كما نستطيع أن نتبين الملامح الجديدة التي يريد أن ينشئها , وأن يثبتها في المجتمع الجديد . .
(19/309)
فماذا نحن واجدون - في هذه السورة - من ملامح المجتمع الجاهلي التي ظلت راسبة في الجماعة المسلمة , منذ أن التقطها المنهج الرباني من سفح الجاهلية ? وماذا نحن واجدون من الملامح الجديدة التي يراد إنشاؤها في المجتمع الإسلامي الجديد وتثبيتها !
إننا نجد مجتمع تؤكل فيه حقوق الأيتام - وبخاصة اليتيمات - في حجور الأهل والأولياء والأوصياء , ويستبدل الخبيث منها بالطيب , ويعمل فيها بالإسراف والطمع , خيفة أن يكبر اليتامى فيستردوها ! وتحبس فيه الصغيرات من ذوات المال , ليتخذهن الأولياء زوجات , طمعا في مالهم لا رغبة فيهن ! أو يعطين لأطفال الأولياء للغرض ذاته !
ونجد مجتمعا يجار فيه على الصغار والضعاف والنساء ; فلا يسلم لهم فيه بنصيبهم الحقيقي من الميراث . إنما يستأثر فيه بمعظم التركة الرجال الأقوياء , القادرون على حمل السلاح ; ولا ينال الضعاف فيه إلا الفتات . وهذا الفتات الذي تناله اليتيمات الصغيرات والنسوة الكبيرات , هو الذي يحتجزن من أجله , ويحبسن علىالأطفال من الذكور ; أو على الشيوخ من الأولياء . كي لا يخرج المال بعيدا ولا يذهب في الغرباء !
ونجد مجتمعا يضع المرأة موضعا غير كريم , ويعاملها بالعسف والجور . في كل أدوار حياتها . يحرمها الميراث - كما قلنا - أو يحبسها لما ينالها منه ; ويورثها للرجل كما يورثه المتاع ! فإذا مات زوجها جاء وليه , فألقى عليها ثوبه , فيعرف أنها محجوزة له . إن شاء نكحها بغير مهر , وإن شاء زوجها وأخذ مهرها ! ويعضلها زوجها إذا طلقها , فيدعها لا هي زوجة , ولا هي مطلقة , حتى تفتدي نفسها منه وتفك أسرها !
(19/310)
ونجد مجتمعا تضطرب فيه قواعد الأسرة بسبب هبوط مركز المرأة فيه , علاوة على اضطراب قواعد التبني والولاء , واصطدامها مع قواعد القرابة والنسب , فوق ما فيه من فوضى في العلاقات الجنسية والعائلية . حيث تروج اتصالات السفاح والمخادنة .
ونجد مجتمعا تؤكل فيه الأموال بالباطل في المعاملات الربوية . وتغتصب فيه الحقوق . وتجحد فيه الأمانات . وتكثر فيه الغارات على الأموال والأرواح . ويقل فيه العدل فلا يناله إلا الأقوياء . كما لا تنفق فيه الأموال إلا رئاء الناس , اجتلابا للمفاخر , ولا ينال الضعاف المحاويج فيه من هذا الإنفاق ما ينال الأقوياء الأغنياء !
وليست هذه سوى بعض ملامح الجاهلية - وهي التي تصدت لها هذه السورة - ووراءها ما صورته السور الأخرى , وما تحفل به أخبار هذه الجاهلية في العرب , وفيمن حولهم من الأمم . .
إنه لم يكن - قطعا - مجتمعا بلا فضائل . فقد كانت له فضائله , التي تهيأ بها لاستقبال هذه الرسالة الكبرى . ولكن هذه الفضائل إنما استنقذها الإسلام استنقاذا , ووجهها الوجهة البناءة . وكانت - لولا الإسلام - مضيعة تحت ركام هذه الرذائل , مفرقة غير متجمعة , وضائعة غير موجهة . وما كانت هذه الأمة لتقدم للبشرية شيئا ذا قيمة , لولا هذا المنهج , الذي جعل يمحو ملامح الجاهية الشائهة , وينشىء أو يثبت ملامح الإسلام الوضيئة , ويستنقذ فضائل هذه الأمة المضيعة المطمورة المفرقة المبددة , شأنها في هذا شأن سائر أمم الجاهلية التي عاصرتها , والتي اندثرت كلها , لأنها لم تدركها رسالة ولم تنشئها عقيدة !
(19/311)
من تلك الجاهلية , التي هذه بعض ملامحها , التقط الإسلام المجموعة التي قسم الله لها الخير , وقدر أن يسلمها قيادة البشر , فكون منها الجماعة المسلمة , وأنشأ بها المجتمع المسلم . ذلك المجتمع الذي بلغ إلى القمة التي لم تبلغها البشرية قط , والتي ما تزال أملا للبشرية , يمكن أن تحاوله , حين يصح منها العزم على انتهاج الطريق .
وفي هذه السورة نجد بعض الملامح التي يتوخى المنهج الإسلامي إنشاءها وتثبيتها في المجتمع المسلم , بعد تطهيره من رواسب الجاهلية , وإنشاء الأوضاع والتشريعات التنفيذية , التي تكفل حماية هذه الملامح وتثبيتها في الواقع الاجتماعي .
نجد في مستهلها تقريرا لحقيقة الربوبية ووحدانيتها , ولحقيقة الإنسانية ووحدة أصلها الذي أنشأها منه ربها , ولحقيقة قيامها على قاعدة الأسرة , واتصالها بوشيجة الرحم , مع استجاشة هذه الروابط كلها في الضمير البشري , واتخاذها ركيزة لتنظيم المجتمع الإسلامي على أساسها , وحماية الضعفاء فيه عن طريق التكافل بين الأسرة الواحدة , ذات الخالق الواحد , وحماية هذا المجتمع من الفاحشة والظلم والفتنة ; وتنظيم الأسرةالمسلمة والمجتمع المسلم , والمجتمع الإنساني كله , على أساس وحدة الربوبية ووحدة البشرية : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة , وخلق منها زوجها , وبث منهما رجالا كثيرا ونساء , واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا). . وهذه الحقيقة الكبيرة التي تتضمنها آية الافتتاح تمثل قاعدة أصيلة في التصور الإسلامي , تقوم عليها الحياة الجماعية . نرجو أن نعرض لها بالتفصيل في مكانها من سياق السورة .
ونجد التشريعات العملية لتحقيق البناء التكافلي للجماعة مستندة إلى تلك الركيزة :
(19/312)
في حماية اليتامى نجد التوجيه الموحي , والتحذير المخيف , والتشريع المحدد الأصول : (وآتوا اليتامى أموالهم , ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ; ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا)[ آية 2 ] . . (وابتلوا اليتامى , حتى إذا بلغو انكاح ; فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ; ولا تأكلوها إسرافا , وبدارا أن يكبروا . ومن كان غنيا فليستعفف , ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم . وكفى بالله حسيبا)[ آية 6 ] . . (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم . فليتقوا الله , وليقولوا قولا سديدا . إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا , وسيصلون سعيرا)[ 9 - 10 ] . .
(19/313)
وفي حماية الإناث خاصة - يتيمات صغيرات ونساء مستضعفات - وحفظ حقهن جميعا في الميراث , وفي الكسب , وفي حقهن في أنفسهن , واستنقاذهن من عسف الجاهلية , وتقاليدها الظالمة المهينة . . نجد أمثال هذه التوجيهات والتشريعات المنوعة الكثيرة : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء , مثنى وثلاث ورباع , فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة , أو ما ملكت أيمانكم , ذلك أدنى ألا تعولوا . وآتوا النساء صدقاتهن نحلة , فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا . . [ 4 - 3 ] . .(للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون , وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون . مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا)[ آية : 7 ] . . (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها , ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة - وعاشروهن بالمعروف ; فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا , ويجعل الله فيه خيرا كثيرا . وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج , وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ? وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض , وأخذن منكم ميثاقا غليظا ?). . [ 19 - 21 ] . . (ويستفتونك في النساء . قل : الله يفتيكم فيهن , وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن , وترغبون أن تنكحوهن . والمستضعفين من الولدان , وإن تقوموا لليتامى بالقسط . وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما). . [ آية 127 ] . .
(19/314)
وفي تنظيم الأسرة , وإقامتها على أساس ثابت من موحيات الفطرة , وتوفير الحماية لها من تأثير الملابسات العارضة في جو الحياة الزوجية والحياة الاجتماعية . . ترد مثل هذه التوجيهات والتنظيمات - بالإضافة إلى ما ورد منها في ثنايا الحديث عن اليتيمات والمطلقات - : (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف . إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا . حرمت عليكم أمهاتكم , وبناتكم , وأخواتكم , وعماتكم , وخالاتكم , وبنات الأخ , وبنات الأخت , وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم , وأخواتكم من الرضاعة , وأمهات نسائكم , وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم , وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف - إن الله كان غفورا رحيما . والمحصنات من النساء - إلا ما ملكت أيمانكم - كتاب الله عليكم . وأحل لكم - ما وراء ذلكم - أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة , ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليما حكيما)[ 22 - 24 ] . . (الرجال قوامون على النساء , بما فضل الله بعضهم على بعض , وبما أنفقوا من أموالهم . فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ; واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن , واهجروهن في المضاجع , واضربوهن . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا , إن الله كان عليا كبير
(19/315)
(ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات . والله أعلم بإيمانكم , بعضكم من بعض . فانكحوهن بإذن أهلهن , وآتوهن أجورهن بالمعروف , محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان . فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . ذلك لمن خشي العنت منكم . وأن تصبروا خير لكم , والله غفور رحيم . يريد الله ليبين لكم , ويهديكم سنن الذين من قبلكم , ويتوب عليكم والله عليم حكيم). . [ 25 - 26 ] . .
وفي تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم كله ; وإقامتها على التكافل والتراحم والتناصح , والأمانة , والعدل , والسماحة والمودة , والإحسان . . ترد توجيهات وتشريعات شتى - إلى جانب ما ذكرنا من قبل - نذكر منها هنا على سبيل المثال بضعة نماذج ولا نستقصيها ; فستأتي كلها في مكانها من سياق السورة : (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما , وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا)[ آية 5 ] . .
(19/316)
(وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا). . [ آية 8 ](يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم , إن الله كان بكم رحيما . ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا , وكان ذلك على الله يسيرا). . [ 29 - 30 ] . .(ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض . للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن . واسألوا الله من فضله . إن الله كان بكل شيء عليما). . [ آية 32 ] . . (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . وبالوالدين إحسانا , وبذي القربى , واليتامى والمساكين , والجار ذي القربى , والجار الجنب , والصاحب بالجنب , وابن السبيل , وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل , ويكتمون ما آتاهم الله من فضله , واعتدنا للكافرين عذابا مهينا , والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس , ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر , ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا). . [ 36 - 38 ] . .(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها , وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . إن الله نعما يعظكم به . إن الله كان سميعا بصيرا). . [ آية 58 ] . . (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ; ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ; وكان الله على كل شيء مقيتا . وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا). . [ 85 - 86 ] . . (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ . .)(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها , وغضب الله عليه ولعنه , وأعد له عذابا عظيما). . [ 92 ] . . (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط , شهداء لله , ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين .
(19/317)
إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما . ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا). . [ آية 135 ] . . (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم . وكان الله سميعا بصيرا . إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء , فإن الله كان عفوا قديرا). . [ 148 - 149 ] . .
إلى جانب ذلك الهدف الكبير في تنظيم المجتمع المسلم على أساس التكافل والتراحم والتناصح والتسامح , والأمانة والعدل والمودة والطهارة ; ومحو الرواسب المتخلفة فيه من الجاهلية ; وإنشاء وتثبيت الملامح الجديدة الوضيئة . . نجد هدفا آخر لا يقل عنه عمقا ولا أثرا في حياة المجتمع المسلم - إن لم يكن هو الأساس الذي يقوم عليه الهدف الأول - ذلك هو تحديد معنى الدين , وحد الإيمان , وشرط الإسلام , وربط كل الأنظمة والتشريعات التي تحكم حياة الفرد وحياة المجتمع بذلك المعنى المحدد للدين , وهذا التعريف المضبوط للإيمان والإسلام .
(19/318)
إن الدين هو النظام الذي قرره الله للحياة البشرية بجملتها , والمنهج الذي يسير عليه نشاط الحياة برمتها .والله وحده هو صاحب الحق في وضع هذا المنهج بلا شريك . والدين هو الأتباع والطاعة للقيادة الربانية التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع , ومنها وحدها يكون التلقي , ولها وحدها يكون الاستسلام . . فالمجتمع المسلم مجتمع له قيادة خاصة - كما له عقيدة خاصة وتصور خاص - قيادة ربانية متمثلة في رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفيما يبلغه عن ربه مما هو باق بعده من شريعة الله ومنهجه . وتبعية هذا المجتمع لهذه القيادة هي التي تمنحه صفة الإسلام وتجعل منه "مجتمعا مسلما" . وبغير هذه التبعية المطلقة لا يكون "مسلما" بحال . وشرط هذه التبعية هو التحاكم إلى الله والرسول , ورد الأمر كله إلى الله , والرضى بحكم رسوله وتنفيذه مع القبول والتسليم .
وتبلغ نصوص السورة في بيان هذه الحقيقة , وتقرير هذا الأصل , مبلغا حاسما جازما , لا سبيل للجدال فيه , أو الاحتيال عليه , أو تمويهه وتلبيسه , لأنها من القوة والوضوح والحسم بحيث لا تقبل الجدال !
وتقرير هذا المبدأ الأساسي يتمثل في نصوص كثيرة كثرة واضحة في السورة . وسيجيء استعراضها التفصيلي في مكانها من السياق . فنكتفي هنا بذكر بعضها إجمالا :
يتمثل على وجه الإجمال في آية الافتتاح في السورة : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة . .). . كما يتمثل في مثل هذه الآيات : (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . . .)[ آية 36 ] . . (إن الله لا يغفر أن يشرك به ; ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). . [ آية 48 ] . .
(19/319)
ويتمثل على وجه التخصيص والتحديد في مثل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم , فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول , إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . ذلك خير وأحسن تأويلا . ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - وقد أمروا أن يكفروا به - ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا . وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا . [ 59 -61 ] . . (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله). . [ آية 64 ] . .(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم , ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). . [ آية 65 ] . .(من يطع الرسول فقد أطاع الله , ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا). . [ آية 80 ] . .(ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين , نوله ما تولى , ونصله جهنم وساءت مصيرا). . [ آية 115 ] . .
وهكذا يتحدد معنى الدين , وحد الإيمان , وشرط الإسلام , ونظام المجتمع المسلم , ومنهجه في الحياة . وهكذا لا يعود الإيمان مجرد مشاعر وتصورات ; ولا يعود الإسلام مجرد كلمات وشعارات , ولا مجرد شعائر تعبدية وصلوات . . إنما هو إلى جانب هذا وذلك , وقبل هذا وذلك . نظام يحكم , ومنهج يتحكم , وقيادة تطاع , ووضع يستند إلى نظام معين , ومنهج معين , وقيادة معينة . وبغير هذا كله لا يكون إيمان , ولا يكون إسلام , ولا يكون مجتمع ينسب نفسه إلى الإسلام .
وتترتب على إقرار هذا المبدأ الأساسي توجيهات كثيرة في السورة . كلها تفريعات على هذا الأصل الكبير :
(19/320)
1 - يترتب عليه أن تكون التنظيمات الاجتماعية كلها في المجتمع - شأنها شأن الشعائر التعبدية - مرتكنة إلى هذا الأصل الكبير , مستندة إلى معنى الدين , وحد الإيمان , وشرط الإسلام , على هذا النحو الذي قررته تلك النماذج التي أسلفنا . فهي ليست مجرد تنظيمات وتشريعات . إنما هي مقتضى الإيمان بالله والاعتراف بألوهيته ,وإفراده بالألوهية , والتلقي من القيادة التي يحددها . . ومن ثم نرى كل التشريعات والتنظيمات التي أشرنا إليها تستند إلى هذه الجهة , وينص في أعقابها نصا على هذه الحقيقة :
آية الافتتاح التي تقرر وحدة البشرية , وتدعو الناس إلى رعاية وشيجة الرحم , وتعد مقدمة لسائر التنظيمات التي تلتها في السورة . . تبدأ بدعوة الناس إلى تقوى ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة). . وتنتهي إلى تقواه , وتحذيرهم من رقابته : (إن الله كان عليكم رقيبا). .
والآيات التي تحض على رعاية أموال اليتامى , وتبين طريقة التصرف في أموالهم تنتهي بالتذكير بالله وحسابه : (وكفى بالله حسيبا). .
وتوزيع أنصبة الميراث في الأسرة يجيء وصية من الله : (يوصيكم الله في أولادكم . . .) (فريضة من الله). . وتنتهي تشريعات الإرث بهذا التعقيب : (تلك حدود الله , ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها , وذلك الفوز العظيم . ومن يعص الله ورسوله , ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين). .
(19/321)
وفي تشريعات الأسرة وتنظيم المهور والطلاق وما إليها ترد مثل هذه التعقيبات : (وعاشروهن بالمعروف , فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا). . (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم . . كتاب الله عليكم . .). .(يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم , ويتوب عليكم , والله عليم حكيم). . (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . إن الله كان عليا كبيرا). .
(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا). . تسبق في الآية الوصية بالإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين . . إلخ
وهكذا ترتبط سائر التنظيمات والتشريعات بالله , وتستمد من شريعته , وترجع الأمور كلها إلى هذه القيادة التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع .
(19/322)
2 - ويترتب على إقرار ذلك الأصل الكبير أن يكون ولاء المؤمنين لقيادتهم ولجماعتهم المؤمنة . فلا يتولوا أحدا لا يؤمن إيمانهم , ولا يتبع منهجهم , ولا يخضع لنظامهم , ولا يتلقى من قيادتهم . كائنة ما كانت العلاقة التي تربطهم بهذا الأحد . علاقة قرابة . أو جنس . أو أرض أو مصلحة . وإلا فهو الشرك أو النفاق , وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال : (ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى , ونصله جهنم , وساءت مصيرا . إن الله لا يغفر أن يشرك به , ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء , ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا). . [ 115 - 116 ] . .(بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما . الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أيبتغون عندهم العزة ? فإن العزة لله جميعا). . [ آية 139 ] . . (يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ? إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار , ولن تجد لهم نصيرا . إلا الذين تابوا وأصلحوا , واعتصموا بالله , وأخلصوا دينهم لله . فأولئك مع المؤمنين , وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما). . [ 144 - 146 ] . .
(19/323)
3 - ويترتب عليه وجوب هجرة المسلمين من دار الحرب - وهي كل دار لا تقوم فيها شريعة الإسلام ولا تدين للقيادة السملمة - ليلحقوا بالجماعة المسلمة متى قامت في الأرض وأصبح لها قيادة وسلطان - وليستظلوا برايه القيادة المسلمة ولا يخضعوا لراية الكفر - وهي كل راية غير راية الإسلام - وإلا فهو النفاق أو الكفر ;وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال : (فما لكم في المنافقين فئتين ? والله أركسهم بما كسبوا , أتريدون أن تهدوا من أضل الله ? ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا . ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ; فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم , ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا). . [ 88 - 89 ] . . (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا : فيم كنتم ? قالوا : كنا مستضعفين في الأرض . قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ? فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم , وكان الله عفوا غفورا . ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة , ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله , ثم يدركه الموت , فقد وقع أجره على الله . وكان الله غفورا رحيما). . [ 97 - 100 ] . .
(19/324)
4 - ويترتب عليه أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ الضعاف من إخوانهم المسلمين , الذين لا يستطيعون الهجرة من دار الحرب وراية الكفر , وضمهم إلى الجماعة المسلمة في دار الإسلام , كي لا يفتنوا عن دينهم , ولا يستظلوا براية غير راية الإسلام , ولا يخضعوا لنظام غير نظامه . ثم لكي يتمتعوا بالنظام الإسلامي الرفيع , وبالحياة في المجتمع الإسلامي النظيف . وهو حق كل مسلم , والحرمان منه حرمان من أكبر نعم الله في الأرض , ومن أفضل طيبات الحياة : (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها , واجعل لنا من لدنك وليا , واجعل لنا من لدنك نصيرا). . [ آية 75 ] . .
ويستتبع هذا الأمر حملة ضخمة للحض على الجهاد بالنفس والمال , والتنديد بالمعوقين والمبطئين والقاعدين . وهي حملة تستغرق قطاعا كبيرا من السورة , يرتفع عندها نبض السورة الهادئة الأنفاس ! ويشتد إيقاعها , وتحمى لذعاتها في التوجيه والتنديد !
(19/325)
ولا نملك هنا استعراض هذا القطاع بترتيبه في السياق - ولهذا الترتيب أهمية خاصة وإيحاء معين - فندع هذا إلى مكانه من السياق . ونكتفي بمقتطفات من هذا القطاع : (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم , فانفروا ثبات أو انفروا جميعا . وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم , فأفوز فوزا عظيما . فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ; ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب , فسوف نؤتيه أجرا عظيما . وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان , الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها , واجعل لنا من لدنك وليا , واجعل لنا من لدنك نصيرا , الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله , والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت , فقاتلوا أولياء الشيطان , إن كيد الشيطان كان ضعيفا) . . [ 71 - 76 ] . . (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك , وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا , والله أشد بأسا وأشد تنكيلا). . [ آية 84 ] . . (لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم , فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة , وكلا وعد الله الحسنى . وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفورا رحيما). . [ 95 -96 ] . .
(ولا تهنوا في ابتغاء القوم . إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون , وترجون من الله ما لا يرجون , وكان الله عليما حكيما . .)[ آية : 105 ] . .
(19/326)
وفي ثنايا هذه الحملة للحض على الجهاد توضع بعض قواعد المعاملات الدولية بين "دار الإسلام" والمعسكرات المتعددة التي تدور معها المعاملات , والخلافات :
في التعقيب على انقسام المسلمين فئتين ورأيين في أمر المنافقين , الذين يدخلون المدينة للتجارة والمنافع والاتصال مع أهلها , حتى إذا خرجوا منها عادوا موالين لمعسكرات الأعداء , يقول : (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ; فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم , ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) . (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق , أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم . ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم , وألقوا إليكم السلم , فما جعل الله لكم عليهم سبيلا . ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم , كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها . فإن لم يعتزلوكم , ويلقوا إليكم السلم , ويكفوا أيديهم , فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ; وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا . . [ 89 - 91 ] . . (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا , ولا تقولوا لمن القى إليكم السلام : لست مؤمنا , تبتغون عرض الحياة الدنيا , فعند الله مغانم كثيرة . كذلك كنتم من قبل , فمن الله عليكم , فتبينوا , إن الله كان بما تعملون خبيرا). . [ آية 94 ] . .
(19/327)
وكذلك تجيء في ثنايا الحديث عن الجهاد بعض الأحكام الخاصة بالصلاة في حالة الخوف وحالة الأمن ; مع توصيات الله للمؤمنين وتحذيرهم من أعدائهم المتربصين : (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة - إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا - إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا . وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة , فلتقم طائفة منهم معك , وليأخذوا أسلحتهم , فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم , ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك , وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ! ولا جناح عليكم - إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى - أن تضعوا أسلحتكم ; وخذوا حذركم , إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا . فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم , فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة . إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا). . [ 101 - 103 ] . .
وتدل هذه الآيات على مكان الصلاة من الحياة الإسلامية ; حتى لتذكر في مقام الخوف , وتبين كيفياتها في هذا المقام ; كما تدل على تكامل هذا المنهج , في مواجهة الحياة الإنسانية في كل حالاتها ; ومتابعة الفرد المسلم والجماعة المسلمة في كل لحظة وفي كل حال . .
(19/328)
ويستتبع الأمر بالجهاد كذلك حملة ضخمة على المنافقين وعلى موالاتهم لليهود في المدينة بينما هم يكيدون لدين الله , وللجماعة المسلمة , وللقيادة المسلمة كيدا شديدا . وعلى ألاعيبهم في الصف المسلم , وتمييعهم للقيم والنظم . وفي الآيات التي اقتطفناها من قطاع الجهاد طرف من الحملة على المنافقين , نضم إليه هذا القطاع المصور لحالهم وصفاتهم , الكاشف لطبيعتهم ووسائلهم : (ويقولون طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول , والله يكتب ما يبيتون . فأعرض عنهم , وتوكل على الله , وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن , ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم , لعلمه الذين يستنبطونه منهم , ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا). . [ 81 - 83 ] . .
(19/329)
(إن الذين آمنوا ثم كفروا . ثم آمنوا ثم كفروا , ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا . بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما . الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أيبتغون عندهم العزة ? فإن العزة لله جميعا . وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها , فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره . إنكم إذا مثلهم . إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا . الذين يتربصون بكم , فإن كان لكم فتح من الله قالوا : ألم نكن معكم ? وإن كان للكافرين نصيب قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ? فالله , يحكم بينكم يوم القيامة , ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا . إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم , وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس , ولا يذكرون الله إلا قليلا . مذبذبين بين ذلك , لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء , ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا . يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ? إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار , ولن تجد لهم نصيرا). . [ 137 - 145 ] . .
(19/330)
وفي قطاع الجهاد - وفي غيره من القطاعات الأخرى في السورة - نلتقي بالحرب المشبوبة على الجماعة المسلمة , وعلى العقيدة الإسلامية , والقيادة الإسلامية كذلك , من أهل الكتاب - وبخاصة اليهود - وحلفائهم من المنافقين في المدينة , والمشركين في مكة , وما حولهما . . وهي الحرب التي التقينا بها في سورة البقرة , وفي سورة آل عمران , من قبل . . ونلتقي كذلك بالمنهج الرباني . وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة السائرة بين الأشواك الخبيثة , والأحابيل الماكرة , يقودها , ويوجهها , ويحذرها , ويكشف لها طبيعة أعدائها , وطبيعة المعركة التي تخوضها , وطبيعة الأرض التي تدور فيها المعركة , وزواياها وجوانبها الخبيثة .
ومن علامات الإعجاز في هذا القرآن , أن هذه النصوص التي نزلت لتواجه معركة معينة , ما تزال هي بذاتها تصور طبيعة المعركة الدائمة المتجددة بين الجماعة المسلمة في كل مكان , وعلى توالي الأجيال , وبين أعدائها التقليديين ; الذين ما يزالون هم هم , وما تزال حوافزهم هي هي في أصلها , وإن اختلفت أشكالها وظواهرها وأسبابها القريبة , وما تزال أهدافهم هي هي في طبيعتها وإن اختلفت أدواتها ووسائلها , وما تزال زلزلة العقيدة , وزعزعة الصف , والتشكيك في القيادة الربانية , هي الأهداف التي تصوب إليها طلقاتهم الماكرة , للوصول من ورائها إلى الاستيلاء على مقاليد الجماعة المسلمة , والتصرف في مقاديرها , واستغلال أرضها وجهدها وغلاتها وقواها وطاقاتها , كما كانت يهود تستغل الأوس والخزرج في المدينة , قبل أن يعزهم الله ويجمعهم بالإسلام , وبالقيادة المسلمة , وبالمنهج الرباني .
(19/331)
وقد حفلت هذه السورة كما حفلت سورتا البقرة وآل عمران بالحديث عن تلك المؤامرات التي لا تنقطع من اليهود ضد الجماعة المسلمة , بالاتفاق مع المنافقين ومع المشركين . وستجيء هذه النصوص مشروحة عند استعراضها في مكانها في السياق . فنكتفي هنا بإثبات طرف من هذه الحملة العنيفة :
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة , ويريدون أن تضلوا السبيل , والله أعلم بأعدائكم , وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا . من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه , ويقولون : سمعنا وعصينا , واسمع غير مسمع , وراعنا - ليا بألسنتهم وطعنالرسالات ; ولا غريبة من الغرائب , التي لا عهد للأرض بها ; أو لا عهد بها لبني إسرائيل أنفسهم . إنما هي حلقة من سلسلة الحجة التي يأخذها الله على العباد قبل الحساب . فقد أوحى إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله . وقد آتاه الله النبوة والحكم , كما آتى أنبياء بني إسرائيل ! فلا غرابة في رسالته , ولا غرابة في قيادته , ولا غرابة في حاكميته . وكلها مألوف في عالم الرسالات . وكل تعلات بني إسرائيل في هذا الأمر كاذبة , وكل شبهاتهم كذلك باطلة . ولهم سوابق مثلها مع نبيهم الأكبر موسى عليه السلام , ومع أنبيائهم من بعده , وبخاصة مع عيسى عليه السلام , ومن ثم لا يجوز أن يلقي باله إليها أحد من المسلمين .
وتتولى آيات كثيرة في السورة بيان هذه الحقيقة . نقتطف بعضها في هذا المجمل ; حتى تجيء كلها مشروحة في مكانها من السياق :
(19/332)
(إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده . وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط , وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا . ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل , ورسلا لم نقصصهم عليك , وكلم الله موسى تكليما . رسلا مبشرين ومنذرين , لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل , وكان الله عزيزا حكيما . لكن الله يشهد بما أنزل إليك , أنزله بعلمه . والملائكة يشهدون . وكفى بالله شهيدا). . [ 163 - 166 ] . .
(يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء , فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا : أرنا الله جهرة). . .(فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله , وقتلهم الأنبياء بغير حق). . .(وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما . وقولهم : إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم - رسول الله - وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم . .)[ 153 - 157 ] .
(أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ? فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة , وآتيناهم ملكا عظيما . فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه . .). . [ 54 - 55 ] . .
(19/333)
وكما تتولى السورة نصيبها من تنظيم المجتمع المسلم وتطهيره من رواسب الجاهلية ; وبيان معنى الدين , وحد الإيمان , وشرط الإسلام ; وترتب على هذا البيان مقتضياته من المبادىء والتوجيهات التي أسلفنا بيانها بصفة عامة ; وتتولى دفع شبهات اليهود وكيدهم - وبخاصة فيما يتعلق بصحة الرسالة - فهي كذلك تتولى بيان بعض مقومات التصور الإسلامي الأساسية , وتجلو عنها الغبش . وتبين ما في عقيدة أهل الكتاب - من النصارى - من غلو , بعد دفع المقولات اليهودية الكاذبة عن عيسى عليه السلام وأمه الطاهرة , وتقرر وحدة الألوهية وحقيقة العبودية , وتبين حقيقة قدر الله وعلاقته بخلقه , وحقيقة الأجل وعلاقته بقدر الله , وحدود ما يغفره الله من الذنوب , وحدود التوبة وحقيقتها , وقواعد العمل والجزاء . . . إلى آخر هذه المقومات الاعتقادية الأصيلة . وذلك في مثل هذه النصوص :
(إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب . فأولئك يتوب الله عليهم , وكان الله عليما حكيما . وليست التوبة للذين يعملون السيئات , حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن ! ولا الذين يموتون وهم كفار . أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما). . [ 17- 18 ] .
(يريد الله ليبين لكم , ويهديكم سنن الذين من قبلكم , ويتوب عليكم , والله عليم حكيم . والله يريد أن يتوب عليكم , ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم , وخلق الإنسان ضعيفا)
(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم , وندخلكم مدخلا كريما). . [ آية 31 ] . .
(إن الله لا يظلم مثقال ذرة , وإن تك حسنة يضاعفها , ويؤت من لدنه أجرا عظيما). . [ 40 ] . .
(19/334)
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم , وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية , وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! قل : متاع الدنيا قليل , والآخرة خير لمن اتقى , ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت - ولو كنتم في بروج مشيدة - وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا : هذه من عندك ! قل : كل من عند الله , فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا . ما أصابك من حسنة فمن الله , وما أصابك من سيئة فمن نفسك . . [ 77 - 79 ] . .
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا [ 116 ] . .
(ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . من يعمل سوءا يجز به , ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا . ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى - وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا). . [ 123 - 124 ] . .
(ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ? وكان الله شاكرا عليما). . [ 147 ] . .
(إن الذين يكفرون بالله ورسله , ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله , ويقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض , ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا . أولئك هم الكافرون حقا , وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين آمنوا بالله ورسله , ولم يفرقوا بين أحد منهم , أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما). . [ 150 - 152 ] . .(19/335)
(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم , ولا تقولوا على الله إلا الحق , إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله , وكلمته ألقاها إلى مريم , وروح منه , فآمنوا بالله ورسله , ولا تقولوا : ثلاثة . انتهوا خيرا لكم . إنما الله إله واحد . سبحانه أن يكون له ولد ! له ما في السماوات وما في الأرض , وكفى بالله وكيلا . لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم , ويزيدهم من فضله . وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما , ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا). . [ 171 - 173 ] . .
ثم الأسس الأخلاقية الرفيعة , التي يقام عليها بناء المجتمع المسلم . . والسورة تعرض من هذه الأسس جمهرة صالحة . سبقت الإشارة إلى بعضها . فالعنصر الأخلاقي أصيل وعميق في كيان التصور الإسلامي , وفي كيان المجتمع المسلم ; بحيث لا يخلو منه جانب من جوانب الحياة ونشاطها كله . . ونحن نكتفي هنا بالإشارة السريعة المجملة إلى بعض الأسس المستمدة من هذا العنصر الأصيل في حياة الجماعة المسلمة ; بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من محتويات السورة . .(19/336)
إنه مجتمع يقوم على العبودية لله وحده ; فهو مجتمع متحرر إذن من كل عبودية للعبيد , في أية صورة من صور العبودية , المتحققة في كل نظام على وجه الأرض , ما عدا النظام الإسلامي ; الذي تتوحد فيه الألوهيةوتتمحض لله ; فلا تخلع خاصية من خواصها على أحد من عباده ; ولا يدين بها الناس لأحد من عبيده . . ومن هذه الحرية تنطلق الفضائل كلها , وتنطلق الأخلاقيات كلها , لأن مرجعها جميعا إلى ابتغاء رضوان الله , ومرتقاها ممتد إلى التحلي بأخلاق الله , وهي مبراة إذن من النفاق والرياء , والتطلع إلى غير وجه الله . . وهذا هو الأصل الكبير في أخلاقية الإسلام , وفي فضائل المجتمع المسلم . .
ثم ترد بعض مفردات العنصر الأخلاقي - إلى جانب ذلك الأصل الكبير - في السورة . . فهو مجتمع يقوم على الأمانة . والعدل . وعدم أكل الأموال بالباطل . وعدم النجوى والتآمر إلا في معروف . وعدم الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم . والشفاعة الحسنة . والتحية الحسنة . ومنع الفاحشة . وتحريم السفاح والمخادنة . وعدم الاختيال والفخر , والرياء والبخل , والحسد والغل . . كما يقوم على التكافل والتعاون والتناصح والتسامح , والنخوة والنجدة , وطاعة القيادة التي لها وحدها حق الطاعة . . إلخ .
وقد سبق ذكر معظم النصوص التي تشير إلى هذه الأسس . . وسيرد تفصيلها عند استعراضها في موضعها من السياق . . فنكتفي هنا بالإشارة إلى الحادث الفذ , الذي يشير إلى القمة السامقة , التي تتطلع إليها أنظار الإنسانية , وتظل تتطلع , ولا تبلغ إليها أبدا - كما لم تبلغ إليها قط - إلا في ظل هذا المنهج الفريد العجيب : (19/337)
. . في الوقت الذي كانت يهود تكيد ذلك الكيد الجاهد للإسلام ونبيه , وللصف المسلم وقيادته . . كان القرآن يصنع الأمة المسلمة على عين الله , فيرتفع بتصوراتها وأخلاقها , ونظامها وإجراءاتها إلى القمة السامقة . . وكان يعلج حادثا يتعلق بيهودي فرد , هذا العلاج الذي سنذكره . .
كان الله يأمر الأمة المسلمة بالأمانة المطلقة , وبالعدل المطلق "بين الناس" . . الناس على اختلاف أجناسهم وعقائدهم , وقومياتهم وأوطانهم . . كان يقول لهم : (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها , وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . إن الله نعما يعظكم به ! إن الله كان سميعا بصيرا). . [ آية 58 ] . . وكان يقول لهم : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله , ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين , إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما . فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا , وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا). .
ثم . . كانت الآيات ذوات العدد من القرآن تتنزل لإنصاف يهودي . . فرد . . من اتهام ظالم , وجهته إليه عصبة من المسلمين من الأنصار , ممن لم ترسخ في قلوبهم هذه المبادىء السامقة بعد , ولم تخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية كل الخلوص . فدفعتهم عصبية الدم والعشيرة إلى تبرئة أحدهم باتهام هذا اليهودي ! والتواطؤ على اتهامه , والشهادة ضده - في حادث سرقة درع - أمام النبي {صلى الله عليه وسلم} حتى كاد أن يقضي عليه بحد السرقة , ويبرىء الفاعل الأصلي !(19/338)
تنزلت هذه الآيات ذوات العدد , فيها عتاب شديد للنبي {صلى الله عليه وسلم} وفيها إنحاء باللائمة على العصبة من أهل المدينة الذين آووا النبي {صلى الله عليه وسلم} وعزروه ونصروه . . إنصافا ليهودي , من تلك الفئة التي تؤذي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أشد الإيذاء , وتنصب لدعوته , وتكيد له وللمسلمين هذا الكيد اللئم ! وفيها تهديد وإنذار لمن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا . وفيها - من ثم - تلك النقلة العجيبة , إلى تلك القمة السامقة , وتلك الإشارة الوضيئة إلى ذلك المرتقى الصاعد .
لقد تنزلت هذه الآيات كلها في حادث ذلك اليهودي . . من يهود . .(19/339)
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله , ولا تكن للخائنين خصيما . واستغفر الله , إن الله كان غفورا رحيما . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم , إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما . يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله - وهو معهم - إذ يبيتون ما لا يرضى من القول , وكان الله بما يعملون محيطا . ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا , فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة ? أم من يكون عليهم وكيلا ? ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما . ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه , وكان الله عليما حكيما . ومن يكسب خطيئة أو إثما , ثم يرم به بريئا , فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا . ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك , وما يضلون إلا أنفسهم , وما يضرونك من شيء , وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة , وعلمك ما لم تكن تعلم , وكان فضل الله عليك عظيما . لا خير في كثير من نجواهم , إلا من أمر بصدقة أو معروف , أو إصلاح بين الناس , ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما , ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى , ونصله جهنم وساءت مصيرا . إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء , ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا). . [ 105 - 116 ] . .
فماذا ? ماذا يملك الإنسان أن يقول ? ألا أنه المنهج الفريد , الذي يملك - وحده - أن يلتقط الجماعة البشرية , من سفح الجاهلية ذاك ; فيرتقي بها في ذلك المرتقى الصاعد ; فيبلغ بها إلى تلك القمة السامقة , في مثل هذا الزمن القصير ?!(19/340)
والأن نكتفي بهذه التقدمة للسورة , وموضوعاتها , وخط سيرها . . وقد أشرنا إلى ذلك الحشد من الحقائق والتصورات , والتوجيهات والتشريعات , التي تتضمنها . . مجرد إشارة . . عسى أن نبلغ شيئا في بيانها التفصيلي , عند استعراض النصوص في مكانها من السياق . .
والموفق هو الله. أ هـ {الظلال حـ 1 صـ 554 ـ 571}(19/341)
قوله تعالى { بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم }
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت إليه السورتان قبلها من التوحيد ، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادةً الأرحام العاطفة التي مدارها النساء سميت " النساء " لذلك ، ولأن بالاتقاء فيهم تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد {بسم الله} الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور {الرحمن} الذي جعل الأرحام رحمة عامة {الرحيم} الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله نعمة تامة.(19/342)
لما تقرر أمر الكتاب الجامع الذي هو الطريق ، وثبت الأساس الحامل الذي هو التوحيد احتيج إلى الاجتماع على ذلك ، فجاءت هذه السورة داعية إلى الاجتماع والتواصل والتعاطف والتراحيم فابتدأت بالنداء العام لكل الناس ، وذلك أنه لما كانت أمهات الفضائل - كما تبين في علم الأخلاق - أربعاً : العلم والشجاعة والعدل والعفة ، كما يأتي شرح ذلك في سورة لقمان عليه السلام ، وكانت آل عمران داعية مع ما ذكر من مقاصدها إلى اثنين منها ، وهما العلم والشجاعة - كما أشير إلى ذلك في غير آية {نزل عليك الكتاب بالحق} [ آل عمران : 3 ] ، {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} [ آل عمران : 7 ] ، {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} [ آل عمران : 18 ] {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [ آل عمران : 139 ] {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} [ آل عمران : 146 ] {فإذا عزمت فتوكل على الله} [ آل عمران : 159 ] {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً} [ آل عمران : 169 ] ، {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح} [ آل عمران : 172 ] ، {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا} [ آل عمران : 200 ] ، وكانت قصة أحد قد أسفرت عن أيتام استشهد مورثوهم في حب الله ، وكان من أمرهم في الجاهلية منع أمثالهم من الإرث جوراً عن سواء السبيل وضلالاً عن أقوم الدليل ؛ جاءت هذه السورة داعية إلى الفضيلتين الباقيتين ، وهما العفة والعدل مع تأكيد الخصلتين الأخريين حسبما تدعو إليه المناسبة ، وذلك مثمر للتواصل بالإحسان والتعاطف بإصلاح الشأن للاجتماع على طاعة الديان ، فمقصودها الأعظم الاجتماع على الدين بالاقتداء بالكتاب المبين ، وما أحسن ابتداءها بعموم : {يا أيها الناس} بعد اختتام تلك بخصوص " يا أيها الذين(19/343)
آمنوا اصبروا وصابروا " الآية.
ولما اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من التكاليف ، منها التعطف على الضعاف بأمور كانوا قد مرنوا على خلافها ، فكانت في غاية المشقة على النفوس ، وأذن بشدة الاهتمام بها بافتتاح السورة واختتامها بالحث عليها قال : {اتقوا ربكم} أي سيدكم ومولاكم المحسن إليكم بالتربية بعد الإيجاد ، بأن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية ، لئلا يعاقبكم بترك إحسانه إليكم فينزل بكم كل بؤس.(19/344)
ابتدأ هذه ببيان كيفية ابتداء الخلق حثاً على أساس التقوى من العفة والعدل فقال : {الذي} جعل بينكم غاية الوصلة لتراعوها ولا تضيعوها ، وذلك أنه {خلقكم من نفس واحدة} هي أبوكم آدم عليه الصلاة والسلام مذكراً بعظيم قدرته ترهيباً للعاصي وترغيباَ للطائع توطئة للأمر بالإرث ، وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعاً لسورتين : هذه وهي رابعة النصف الأول ، والحج وهي رابعة النصف الثاني ، وعلل الأمر بالتقوى في هذه بما دل على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حكمته من أمر المبدإ ، وعلل ذلك في الحج بما صور المعاد تصويراً لا مزيد عليه ، فدل فيها على المبدإ والمعاد تنبيهاً على أنه محط الحكمة ، ما خلق الوجود إلا لأجله ، لتظهر الأسماء الحسنى والصفات العلى أتم ظهور يمكن البشر الاطلاع عليه ، وربت ذلك على الترتيب الأحكم ، فقدم سورة المبدإ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوة طبق الآيات المرئية ، وأبدع من ذلك كله وأدق أنه لما كان أعظم مقاصد السورة الماضية المجادلة في أمر عيسى ، وأن مثله كمثل آدم عليهما الصلاة والسلام ، وكانت حقيقة حاله أنه ذكرٌ يولّد من أنثى فقط بلا واسطة ذكر ؛ بين في هذه السورة بقوله - عطفاً على ما تقديره جواباً لمن كأنه قال : كيف كان ذلك ؟ - إنشاء تلك النفس ، أو تكون الجملة حالية - {وخلق منها زوجها} أي مثله في ذلك أيضاً كمثل حواء : أمه فإنها أنثى تولدت من ذكر بلا واسطة أنثى فصار مثله كمثل كل من أبيه وأمه : آدم وحواء معاً عليهما الصلاة والسلام ، وصار الإعلام بخلق آدم وزوجه وعيسى عليهم الصلاة والسلام - المندرج تحت آية بعضكم من بعض مع آية البث التي بعد هذه - حاصراً للقسمة الرباعية العقلية التي لا مزيد عليها ، وهي بشر لا من ذكر ولا أنثى ، بشر منهما ، بشر من ذكر فقط ، بشر من أنثى فقط ؛ ولذلك عبر في(19/345)
هذه السورة بالخلق ، وعبر عن غيرها بالجعل ، لخلو السياق عن هذا الغرض ، ويؤيد هذا أنه قال تعالى في أمر يحيى عليه الصلاة والسلام
{كذلك الله يفعل ما يشاء} [ آل عمران : 40 ] وفي أمر عيسى عليه الصلاة والسلام {يخلق ما يشاء} [ آل عمران : 47 ] ، وأيضاً فالسياق هنا للترهيب الموجب للتقوى ، فكان بالخلق الذي هو أعظم في إظهار الاقتداء - لأنه اختراع الأسباب وترتيب المسببات عليها - أحق من الجعل الذي هو ترتيب المسببات على أسبابها وإن لم يكن اختراع - فسبحان العزيز العليم العظيم الحكيم!.
ولما ذكر تعالى الإنشاء عبر بلفظ الرب الذي هو من التربية ، ولما كان الكل - المشار إليه بقوله تعالى عطفاً على ما تقديره : وبث لكم منه إليها : {وبث منهما} أي فرق ونشر من التوالد ، ولما كان المبثوث قبل ذلك عدماً وهو الذي أوجده من العدم نكر لإفهام ذلك قوله : {رجالاً كثيراً ونساءً} من نفس واحدة ؛ كان إحسان كل من الناس إلى كل منهم من صلة الرحم ، ووصف الرجال دونهن مع أنهن أكثر منهم إشارة إلى أن لهم عليهن درجة ، فهم أقوى وأظهر وأطيب وأظهر في رأي العين لما لهم من الانتشار وللنساء من الاختفاء والاستتار.
ولما كان قد أمر سبحانه وتعالى أول الآية بتقواه مشيراً إلى أنه جدير بذلك منهم لكونه ربهم ، عطف على ذلك الأمر أمراً آخر مشيراً إلى أنه يستحق ذلك لذاته لكونه الحاوي لجميع الكمال المنزه عن كل شائبة نقص فقال : {واتقوا الله} أي عموماً لما له من إحاطة الأوصاف كما اتقيتموه خصوصاً لما له إليكم من الإحسان والتربية ، واحذروه وراقبوه في أن تقطعوا أرحامكم التي جعلها سبباً لتربيتكم.(19/346)
ولما كان المقصود من هذه السورة المواصلة وصف نفسه المقدسة بما يشير إلى ذلك فقال : {الذين تساءلون} أي يسأل بعضكم بعضاً {به} فإنه لا يسأل باسمه الشريف المقدس إلا الرحمة والبر والعطف ، ثم زاد المقصود إيضاحاً فقال : {والأرحام} أي واتقوا قطيعة الأرحام التي تساءلون بها ، فإنكم تقولون : ناشدتك بالله والرحم! وعلل هذا الأمر بتخويفهم عواقب بطشه ، لأنه مطلع على سرهم وعلنهم مع ما له من القدرة الشاملة.
فقال مؤكداً لأن أفعال الناس في ترك التقوى وقطيعة الأرحام أفعال من يشك في أنه بعين الله سبحانه : {إن الله} أي المحيط علماً وقدرة {كان عليكم} وفي أداة الاستعلاء ضرب من التهديد {رقيباً} وخفض حمزة " الأرحام " المقسم بها تعظيماً لها وتأكيداً للتنبيه على أنهم قد نسوا الله في الوفاء بحقوقها - كما أقسم بالنجم والتين وغيرهما ، والقراءاتان مؤذنتان بأن صلة الأرحام من الله بمكان عظيم ، حيث قرنها باسمه سواء كان عطفاً كما شرحته آية {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} [ الإسراء : 23 ] ، وغيرها - أو كان قسماً ، واتفق المسلمون على أن صلى الرحم واجبة ، وأحقهم بالصلة الولد ، وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 204 ـ 207}(19/347)
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذه السورة مشتملة على أنواع كثيرة من التكاليف ، وذلك لأنه تعالى أمر الناس في أول هذه السورة بالتعطف على الأولاد والنساء والأيتام ، والرأفة بهم وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم ، وبهذا المعنى ختمت السورة ، وهو قوله : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة} [ النساء : 176 ] وذكر في أثناء هذه السورة أنواعا أخر من التكاليف ، وهي الأمر بالطهارة والصلاة وقتال المشركين ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس لثقلها على الطباع ، لا جرم افتتح السورة بالعلة التي لأجلها يجب حمل هذه التكاليف الشاقة ، وهي تقوى الرب الذي خلقنا والاله الذي أوجدنا ، فلهذا قال : {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 128}
فصل
قال الفخر :
روى الواحدي عن ابن عباس في قوله : {يا أَيُّهَا الناس} أن هذا الخطاب لأهل مكة ، وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين ، وهذا هو الأصح لوجوه :
أحدها : أن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق.
وثانيها : أنه تعالى علل الأمر بالاتقاء بكونه تعالى خالقاً لهم من نفس واحدة ، وهذه العلة عامة في حق جميع المكلفين بأنهم من آدم عليه السلام خلقوا بأسرهم ، وإذا كانت العلة عامة كان الحكم عاما.
وثالثها : أن التكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة ، بل هو عام في حق جميع العالمين ، وإذا كان لفظ الناس عاما في الكل ، وكان الأمر بالتقوى عاما في الكل ، وكانت علة هذا التكليف ، وهي كونهم خلقوا من النفس الواحدة عامة في حق الكل ، كان القول بالتخصيص في غاية البعد.
وحجة ابن عباس أن قوله : {واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام} مختص بالعرب لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم.(19/348)
فيقولون أسألك بالله وبالرحم ، وأنشدك الله والرحم ، وإذا كان كذلك كان قوله : {واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام} مختصا بالعرب ، فكان أول الآية وهو قوله : {أَيُّهَا الناس} مختصا بهم لأن قوله في أول الآية : {اتقوا رَبَّكُمُ} وقوله بعد ذلك : {واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام} وردا متوجهين إلى مخاطب واحد ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه ثبت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها ، فكان قوله : {يا أَيُّهَا الناس} عاما في الكل ، وقوله : {واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام }. خاصاً بالعرب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 128 ـ 129}
فائدة
قال ابن عطية :
" يا " حرف نداء " أي " منادى مفرد - و" ها " تنبيه ، و{ الناس } - نعت لأي أو صلة على مذهب أبي الحسن الأخفش ، " والرب " : المالك ، وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود ، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 554}
فصل
قال الآلوسى
{ يَا أَيُّهَا الناس }
خطاب يعم المكلفين من لدن نزل إلى يوم القيامة على ما مرّ(19/349)
تحقيقه ، وفي تناول نحو هذه الصيغة للعبيد شرعاً حتى يعمهم الحكم خلاف ، فذهب الأكثرون إلى التناول لأن العبد من الناس مثلاً فيدخل في الخطاب العام له قطعاً وكونه عبداً لا يصلح مانعاً لذلك ، وذهب البعض إلى عدم التناول قالوا : لأنه قد ثبت بالإجماع صرف منافع العبد إلى سيده فلو كلف بالخطاب لكان صرفاً لمنافعه إلى غير سيده وذلك تناقض فيتبع الإجماع ويترك الظاهر ، وأيضاً خرج العبد عن الخطاب بالجهاد ، والجمعة ، والعمرة ، والحج ، والتبرعات ، والأقارير ، ونحوها ، ولو كان الخطاب متناولاً له للعموم لزم التخصيص ، والأصل عدمه ، والجواب عن الأول : أنا لا نسلم صرف منافعه إلى سيده عموماً بل قد يستثنى من ذلك وقت تضايق العبادات حتى لو أمره السيد في آخر وقت الظهر ولو أطاعه لفاتته الصلاة وجبت عليه الصلاة ، وعدم صرف منفعته في ذلك الوقت إلى السيد ، وإذا ثبت هذا فالتعبد بالعبادة ليس مناقضاً لقولهم : بصرف المنافع للسيد ، وعن الثاني : بأن خروجه بدليل اقتضى خروجه وذلك كخروج المريض ، والمسافر ، والحائض عن العمومات الدالة على وجوب الصوم ، والصلاة ، والجهاد ، وذلك لا يدل على عدم تناولها اتفاقاً ، غايته أنه خلاف الأصل ارتكب لدليل وهو جائز ثم الصحيح أن الأمم الدارجة قبل نزول هذا الخطاب لا حظ لها فيه لاختصاص الأوامر والنواهي بمن يتصور منه الامتثال ، وأنى لهم به وهم تحت أطباق الثرى لا يقومون حتى ينفخ في الصور.(19/350)
وجوز بعضهم كون الخطاب عاماً بحيث يندرجون فيه ، ثم قال : ولا يبعد أن يكون الأمر الآتي عاماً لهم أيضاً بالنسبة إلى الكلام القديم القائم بذاته تعالى ، وإن كان كونه عربياً عارضاً بالنسبة إلى هذه الأمة ، وفيه نظر لأن المنظور إليه إنما هو أحكام القرآن بعد النزول وإلا لكان النداء وجميع ما فيه من خطاب المشافهة مجازات ولا قائل به فتأمل ، وعلى العلات لفظ ( الناس ) يشمل الذكور والإناث بلا نزاع ، وفي شمول نحو قوله تعالى : { اتقوا رَبَّكُمُ } خلاف ، والأكثرون على أن الإناث لا يدخلن في مثل هذه الصيغة ظاهراً خلافاً للحنابلة ، استدل الأولون بأنه قد روي عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله تعالى ذكر إلا الرجال فأنزل ذكرهن ، فنفت ذكرهن مطلقاً ولو كن داخلات لما صدق نفيهن ولم يجز تقريره عليه الصلاة والسلام للنفي ، وبأنه قد أجمع أرباب العربية على أن نحو هذه الصيغة جمع مذكر وأنه لتضعيف المفرد والمفرد مذكر ، وبأن نظير هذه الصيغة المسلمون ولو كان مدلول المسلمات داخلاً فيه لما حسن العطف في قوله تعالى : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] إلا باعتبار التأكيد ، والتأسيس خير من التأكيد ، وقال الآخرون : المعروف من أهل اللسان تغليبهم المذكر على المؤنث عند اجتماعهما باتفاق ، وأيضاً لو لم تدخل الإناث في ذلك لما شاركن في الأحكام لثبوت أكثرها بمثل هذه الصيغة ، واللازم منتف بالاتفاق كما في أحكام الصلاة ، والصيام ، والزكاة ، وأيضاً لو أوصى لرجال ونساء بمائة درهم ، ثم قال : أوصيت لهم بكذا دخلت النساء بغير قرينة ، وهو معنى الحقيقة فيكون حقيقة في الرجال والنساء ظاهراً فيهما وهو المطلوب.(19/351)
وأجيب أما عن الأول : فبأنه إنما يدل على أن الإطلاق صحيح إذا قصد الجميع ، والجمهور يقولون به ، لكنه يكون مجازاً ولا يلزم أن يكون ظاهراً وفيه النزاع.
وأما عن الثاني : فبمنع الملازمة ، نعم يلزم أن لا يشاركن في الأحكام بمثل هذه الصيغة ، وما المانع أن يشاركن بدليل خارج ؟ والأمر كذلك ، ولذلك لم يدخلن في الجهاد والجمعة مثلاً لعدم الدليل الخارجي هناك ، وأما عن الثالث : فبمنع المبادرة ثمة بلا قرينة فإن الوصية المتقدمة قرينة دالة على الإرادة ، فالحق عدم دخول الإناث ظاهراً ، نعم الأولى هنا القول بدخولهن باعتبار التغليب ، وزعم بعضهم أن لا تغليب بل الأمر للرجال فقط كما يقتضيه ظاهر الصيغة ، ودخول الإناث في الأمر بالتقوى للدليل الخارجي ، ولا يخفى أن هذا يستدعي تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده لأن إبقاءه حينئذ على عمومه مما يأباه الذوق السليم ، والمأمور به إما الاتقاء بحيث يشمل ما كان باجتناب الكفر والمعاصي وسائر القبائح ، ويتناول رعاية حقوق الناس كما يتناول رعاية حقوق الله تعالى.
وأما الاتقاء في الإخلال بما يجب حفظه من الحقوق فيما بين العباد وهذا المعنى مطابق لما في السورة من رعاية حال الأيتام ، وصلة الأرحام ، والعدل في النكاح ، والإرث ونحو ذلك بالخصوص بخلاف الأول فإنه إنما يطابقها من حيث العموم ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من تأييد الأمر وتأكيد إيجاد الامتثال ، وكذا في وصف الرب بقوله سبحانه : (19/352)
{ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } لأن الاستعمال جار على أن الوصف الذي علق به الحكم علة موجبة له ، أو باعثة عليه داعية إليه ، ولا يخفى أن ما هنا كذلك لأن ما ذكر يدل على القدرة العظيمة أو النعمة الجسيمة ، ولا شك أن الأول : يوجب التقوى مطلقاً حذراً عن العقاب العظيم ، وأن الثاني : يدعو إليها وفاءاً بالشكر الواجب ؛ وإيجاب الخلق من أصل واحد للاتقاء على الاحتمال الثاني ظاهر جداً ، وفي الوصف المذكور تنبيه على أن المخاطبين عالمون بما ذكر مما يستدعي التحلي بالتقوى ، وفيه كمال توبيخ لمن يفوته ذلك ، والمراد من النفس الواحدة آدم عليه السلام ، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحد وهو أبو البشر وذكر صاحب "جامع الأخبار" من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبراً طويلاً نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم ، بين كل آدم وآدم ألف سنة ، وأن الدنيا بقيت خراباً بعدهم خمسين ألف سنة ، ثم عمرت خمسين ألف سنة ، ثم خلق أبونا آدم عليه السلام ، وروى ابن بابويه في كتاب "التوحيد" عن الصادق في حديث طويل أيضاً أنه قال : لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشراً غيركم بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين ، وقال الميثم في "شرحه الكبير على النهج" ونقل عن محمد بن علي الباقر أنه قال : قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر ، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في "فتوحاته" ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره ، وفي كتاب "الخصائص" ما يكاد يفهم منه التعدد أيضاً الآن حيث روى فيه عن الصادق أنه قال : إن لله تعالى اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سموات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أن لله عز وجل عالماً غيرهم ، وأنى للحجة عليهم ، ولعل(19/353)
هذا وأمثاله من أرض السمسمة وجابر ساوجاً بلقاً إن صح محمول على عالم المثال لا على هذا العالم الذي نحن فيه ، وحمل تعدد آدم في ذلك العالم أيضاً غير بعيد ، وأما القول بظواهر هذه الأخبار فمما لا يراه أهل السنة والجماعة ، بل قد صرح زين العرب بكفر من يعتقد التعدد ، نعم إن آدمنا هذا عليه السلام مسبوق بخلق آخرين كالملائكة والجن وكثير من الحيوانات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى لا بخلق أمثاله وهو حادث نوعاً وشخصاً خلافاً لبعض الفلاسفة في زعمهم قدم نوع الإنسان ، وذهب الكثير منا إلى أنه منذ كان إلى زمن البعثة ستة آلاف سنة وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ورووا أخباراً كثيرة في ذلك ، والحق عندي أنه كان بعد أن لم يكن ولا يكون بعد أن كان ، وأما أنه متى كان ومتى لا يكون فمما لا يعلمه إلا الله تعالى ، والأخبار مضطربة في هذا الباب فلا يكاد يعوّل عليها.
والقول بأن النفس الكلي يجلس لفصل القضاء بين الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة وأن قيام الساعة بعد تمام ألف البعثة محمول على ذلك فمما لا أرتضيه ديناً ولا أختاره يقيناً.
والخطاب في ربكم وخلقكم للمأمورين وتعميمه بحيث يشمل الأمم السالفة مع بقاء ما تقدم من الخطاب غير شامل بناءاً على أن شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل أتم في تأكيد الأمر السابق مع أن فيه تفكيكاً للنظم مستغنى عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كانوا بواسطة ما بينه وبينهم من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمناً لحق الوسائط جميعاً ، وكذا التعرض لربوبيته تعالى لهم متضمن لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد أردف الكلام بقوله تعالى شأنه :
{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 179 ـ 181}(19/354)
فصل نفيس
قال الفخر :
إنه تعالى جعل هذا المطلع مطلعا لسورتين في القرآن : إحداهما : هذه السورة وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن.
والثانية : سورة الحج ، وهي أيضا السورة الرابعة من النصف الثاني من القرآن ، ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ ، وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة ، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وكمال حكمته وجلاله ، وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفة المعاد ، وهو قوله : {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عَظِيمٌ} [ الحج : 1 ] فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، ثم قدم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد ، وتحت هذا البحث أسرار كثيرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 129}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، ولا بد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف ، فنقول : قولنا إنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، مشتمل على قيدين : أحدهما : أنه تعالى خلقنا ، والثاني : كيفية ذلك التخليق ، وهو أنه تعالي إنما خلقنا من نفس واحدة ، ولكل واحد من هذين القيدين أثر في وجوب التقوى.
أما القيد الأول :
وهو أنه تعالى خلقنا ، فلا شك أن هذا المعنى علة لأن يجب علينا الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه ، وبيان ذلك من وجوه :(19/355)
الأول : أنه لما كان خالقا لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنحن عبيده وهو مولى لنا ، والربوبية توجب نفاذ أوامره على عبيده ، والعبودية توجب الانقياد للرب والموجد والخالق ، الثاني : أن الإيجاد غاية الإنعام ونهاية الإحسان ، فإنك كنت معدوما فأوجدك ، وميتا فأحياك ، وعاجزا فأقدرك ، وجاهلا فعلمك ، كما قال إبراهيم عليه السلام : {الذي خلقني فهو يهدين والذين هو يطعمني ويسقين} فلما كانت النعم بأسرها من الله سبحانه وجب على العبد أن يقابل تلك النعم بإظهار الخضوع والانقياد ، وترك التمرد والعناد ، وهذا هو المراد بقوله : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [ البقرة : 28 ] الثالث : وهو أنه لما ثبت كونه موجدا وخالقاً وإلها وربا لنا.
وجب علينا أن نشتغل بعبوديته وأن نتقي كل ما نهى عنه وزجر عنه ، ووجب أن لا يكون شيء من هذه الأفعال موجباً ثواباً ألبتة ، لأن هذه الطاعات لما وجبت في مقابلة النعم السالفة امتنع أن تصير موجبة للثواب ، لأن أداء الحق إلى المستحق لا يوجب شيئاً آخر ، هذا إذا سلمنا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ابتداء ، فكيف وهذا محال ، لأن فعل الطاعات لا يحصل إلا إذا خلق الله القدرة على الطاعة ، وخلق الداعية على الطاعة ، ومتى حصلت القدرة والداعي كان مجموعهما موجبا لصدور الطاعة عن العبد ، وإذا كان كذلك كانت تلك الطاعة إنعاما من الله على عبده ، والمولى إذا خص عبده بإنعام لم يصر ذلك الإنعام موجبا عليه إنعاماً آخر ، فهذا هو الاشارة إلى بيان أن كونه خالقاً لنا يوجب علينا عبوديته والاحتراز عن مناهيه.
وأما القيد الثاني :
وهو أن خصوص كونه خالقاً لنا من نفس واحدة يوجب علينا الطاعة والاحتراز عن المعصية ، فبيانه من وجوه : (19/356)
الأول : أن خلق جميع الأشخاص الإنسانية من الإنسان الواحد أدل على كمال القدرة ، من حيث أنه لو كان الأمر بالطبيعة والخاصية لكان المتولد من الإنسان الواحد ، لم يكن إلا أشياء متشاكلة في الصفة متشابهة في الخلقة والطبيعة ، فلما رأينا في أشخاص الناس الأبيض والأسود والأحمر والأسمر والحسن والقبيح والطويل والقصير ، دل ذلك على أن مدبرها وخالقها فاعل مختار ، لا طبيعة مؤثرة ، ولا علة موجبة ، ولما دلت هذه الدقيقة على أن مدبر العالم فاعل مختار قادر على كل الممكنات عالم بكل المعلومات ، فحينئذ يجب الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه ، فكان ارتباط قوله : {اتقوا رَبَّكُمُ} بقوله : {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} في غاية الحسن والانتظام.
والوجه الثاني : وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر غقبيه الأمر بالاحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء ، وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى ، وذلك لأن الأقارب لا بد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة ، ولذلك إن الإنسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه ، ويحزن بذمهم والطعن فيهم ، وقال عليه الصلاة والسلام : " فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها " وإذا كان الأمر كذلك ، فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سبباً لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض.
الوجه الثالث : أن الناس إذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق.(19/357)
الوجه الرابع : أن هذا يدل على المعاد ، لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين ، وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة ، فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم ، فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه {لِيَجْزِىَ الذين أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [ النجم : 31 ].
الوجه الخامس : قال الأصم : الفائدة فيه : أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة ، بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً ما قرأ كتابا ولا تتلمذ لأستاذ ، فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا ، فالحاصل أن قوله : {خَلَقَكُمْ} دليل على معرفة التوحيد ، وقوله : {مّن نَّفْسٍ واحدة} دليل على معرفة النبوة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 129 ـ 130}
سؤال : فإن قيل : كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس ؟
قلنا : قد بين الله المراد بذلك لأن زوج آدم إذا خلقت من بعضه ، ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ثم كذلك أبدا ، جازت إضافة الخلق أجمع إلى آدم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 130 ـ 131}
فصل
قال الفخر :
أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا هو آدم عليه السلام ، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس ، ونظيره قوله تعالى : {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [ الكهف : 74 ] وقال الشاعر :
أبوك خليفة ولدته أخرى.. فأنت خليفة ذاك الكمال
قالوا فهذا التأنيث على لفظ الخليفة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 131}
قوله تعالى وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}
فصل
قال الفخر :
المراد من هذا الزوج هو حواء ، وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان :(19/358)
الأول : وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم ، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى ، فلما استيقط رآها ومال اليها وألفها ، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه ، واحتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها ".
والقول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني : أن المراد من قوله : {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي من جنسها وهو كقوله تعالى : {والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [ النحل : 72 ] وكقوله : {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ} [ آل عمران : 164 ] وقوله : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} [ التوبة : 128 ] قال القاضي : والقول الأول أقوى ، لكي يصح قوله : {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين ، لا من نفس واحدة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة "من" لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء التخليق والايجاد وقع بآدم عليه السلام صح أن يقال : خلقكم من نفس واحدة ، وأيضا فلما ثبت أنه تعالى قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب ، وإذا كان الأمر كذلك ، فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 131}(19/359)
وقال الآلوسى :
{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهو عطف على { خَلَقَكُمْ } داخل معه في حيز الصلة ، وأعيد الفعل لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت لأن الأول : بطريق التفريع من الأصل ، والثاني : بطريق الإنشاء من المادة فإن المراد من الزوج حواء وهي قد خلقت من ضلع آدم عليه السلام الأيسر كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره ، وروى الشيخان " استوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع ، وإنّ أعوجَ شيء من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج " وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع لأنه سبحانه قادر على خلقها من التراب فأي فائدة في خلقها من ذلك ، وزعم أن معنى { مِنْهَا } من جنسها والآية على حد قوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } [ النحل : 72 ] ووافقه على ذلك بعضهم مدعياً أن القول بما ذكر يجر إلى القول بأن آدم عليه السلام كان ينكح بعضه بعضاً ، وفيه من الاستهجان ما لا يخفى ، وزعم بعض أن حواء كانت حورية خلقت مما خلق منه الحور بعد أن أسكن آدم الجنة وكلا القولين باطل ، أما الثاني : فلأنه ليس في الآيات ولا الأحاديث ما يتوهم منه الإشارة إليه أصلاً فضلاً عن التصريح به ، ومع هذا يقال عليه : إن الحور خلقن من زعفران الجنة كما ورد في بعض الآثار فإن كانت حواء مخلوقة مما خلقن منه كما هو نص كلام الزاعم فبينها وبين آدم عليه السلام المخلوق من تراب الدنيا بُعدٌ كلّي يكاد يكون افتراقاً في الجنسية التي ربما توهمها الآية ، ويستدعي بعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة وإن كانت مخلوقة مما خلق منه آدم فهو مع كونه خلاف نص كلامه يردّ عليه إن هذا قول بما قاله أبو مسلم وإلا يكنه فهو قريب منه ، وأما الأول : فلأنه لو كان الأمر كما ذكر فيه لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص ، وأيضاً هو(19/360)
خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يردّ على الثاني أيضاً.
والقول بأن أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب ؟ يقال عليه : إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حياً من حي لا على سبيل التوالد كما أنه قادر على أن يخلق حياً من جماد كذلك ولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانه كما أنه قادر على خلق آدم من التراب هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضاً ، فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب والقول : بأن ذلك يجرّ إلى ما فيه استهجان لا يخفى ما فيه.
لأن هذا التشخص الخاص الحاصل لذلك الجزء بحيث لم يبق من تشخصه الأصلي شيء ظاهر يدفع الاستهجان الذي لا مقتضي له إلا الوهم الخالص لا سيما والحكمة تقتضي ذلك التناكح الكذائي.(19/361)
فقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن حواء لما انفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية التي بها وقع الغشيان لظهور التوالد والتناسل وكان الهواء الخارج الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لا خلاء في العالم فطلب ذلك الجزء الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معموراً بحواء ، فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقي بعد ذلك سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع ، لكن الإنسان هو الكلمة الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه ، وليس الإنسان بجزء لواحد من العالم وكان سبب الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الذي هو النوع الأخص ، وليكون في عالم الأجسام بهذا الالتحام الطبيعي للإنسان الكامل بالصورة التي أرادها الله تعالى ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية انتهى.
ويفهم من كلامهم أن هذا الخلق لم يقع هكذا إلا بين هذين الزوجين دون سائر أزواج الحيوانات ولم أظفر في ذلك بما يشفي الغليل ، نعم أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زوج إبليس عليهما اللعنة خلقت من خلفه الأيسر ؛ والخلف كما في "الصحاح" أقصر أضلاع الجنب ، وبذلك فسره الضحاك في هذا المقام ، وإنما أخر بيان خلق الزوج عن بيان خلق المخاطبين لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ماهو المقصود من حملهم على امتثال الأمر من تذكير خلقها ، وقدم الجار للاعتناء ببيان مبدئية آدم عليه السلام لها مع ما في التقديم من التشويق إلى المؤخر ، واختير عنوان الزوجية تمهيداً لما بعده من التناسل.(19/362)
وذهب بعض المحققين إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدر ينبىء عنه السوق لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة ، كأنه قيل : خلقكم من نفس واحدة خلقها أولاً وخلق منها زوجها الخ ، وهذا المقدر إما استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ ، وبيان كيفية خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أولاً ، وإما صفة لنفس مفيدة لذلك ، وأوجب بعضهم هذا التقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدم عاماً في الجنس ، ولعل ذلك لأنه لولا التقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى :
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا } أي نشر وفرق من تلك النفس وزوجها على وجه التناسل والتوالد { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } تكراراً لقوله سبحانه : { خَلَقَكُمْ } لأن مؤداهما واحد وليس على سبيل بيان الأول لأنه معطوف عليه على عدم التقدير ولأوهم أن الرجال والنساء غير المخلوقين من نفس واحدة ، وأنهم منفردون بالخلق منها ومن زوجها ، والناس إنما خلقوا من نفس واحدة من غير مدخل للزوج ، ولا يلزم ذلك على العطف ؛ وجعل المخاطب بخلقكم من بعث إليهم عليه الصلاة والسلام إذ يكون ( وبث منهما ) الخ واقعاً على من عدا المبعوث إليهم من الأمم الفائتة للحصر ، والتوهم في غاية البعد وكذا لا يلزم على تقدير حذف المعطوف عليه وجعل الخطاب عاماً لأن ذلك المحذوف وما عطف عليه يكونان بياناً لكيفية الخلق من تلك النفس ، ومن الناس من ادعى أنه لا مانع من جعل الخطاب عاماً من غير حاجة إلى تقدير معطوف عليه معه ، وإلى ذلك ذهب صاحب "التقريب" ، والمحذور الذي يذكرونه ليس بمتوجه إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منه ولاخلق الرجال والنساء من الأصلين جميعاً.(19/363)
والمعطوف متكفل ببيان ذلك ، وقد ذكر غير واحد أن اللازم في العطف تغاير المعطوفات ولو من وجه وهو هنا محقق بلا ريب كما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 181 ـ 183}
فائدة
قال الفخر :
قال ابن عباس : إنما سمي آدم بهذا الاسم لأنه تعالى خلقه من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها ؛ فلذلك كان في ولده الأحمر والأسود والطيب والخبيث والمرأة إنما سميت بحواء لأنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم فكانت مخلوقة من شيء حي ، فلا جرم سميت بحواء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 131}
فصل
قال الفخر :
احتج جمع من الطبائعيين بهذه الآية فقالوا : قوله تعالى : {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} يدل على أن الخلق كلهم مخلوقون من النفس الواحدة ، وقوله : {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يدل على أن زوجها مخلوقة منها ، ثم قال في صفة آدم : {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [ آل عمران : 59 ] فدل على أن آدم مخلوق من التراب ، ثم قال في حق الخلائق : {مِنْهَا خلقناكم} [ طه : 55 ] وهذه الآيات كلها دالة على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة يصير الشيء مخلوقا منها ، وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال.(19/364)
أجاب المتكلمون فقالوا : خلق الشيء من الشيء محال في العقول ، لأن هذا المخلوق إن كان عين ذلك الشيء الذي كان موجودا قبل ذلك لم يكن هذا مخلوقا ألبتة ، وإذا لم يكن مخلوقا امتنع كونه مخلوقا من شيء آخر ، وإن قلنا : إن هذا المخلوق مغاير للذي كان موجوداً قبل ذلك ، فحينئذ هذا المخلوق وهذا المحدث إنما حدث وحصل عن العدم المحض ، فثبت أن كون الشيء مخلوقا من غيره محال في العقول ، وأما كلمة {مِنْ} في هذه الآية فهو مفيد ابتداء الغاية ، على معنى أن ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة والافتقار ، بل على وجه الوقوع فقط. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 131 ـ 132}
سؤال : فإن قيل : قوله تعالى : {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} إذا كانت حواء مخلوقة من آدم ، ونحن مخلوقون منه أيضا تكون نسبة حواء إلى آدم نسبة الولد لأنها متفرعة منه ؛ فتكون أختا لنا لا أما !
قلنا : بعض المفسرين جعلوا {من} لبيان الجنس لا للتبعيض فمعناه : وخلق من جنسها زوجها ؛ كما فى قوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
الثانى : وهو الذى عليه الجمهور : أنها للتبعيض ، ولكن خلق حواء من آدم لم يكن بطريق التوليد كخلق الأولاد من الآباء ، فلا يلزم منه ثبوت حكم البنتية والأختية فيها. أ هـ {تفسير الرازى صـ 76}
قوله تعالى {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء }
فائدة
قال الفخر :
لم يقل : وبث منهما الرجال والنساء لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال ، فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله : {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء }.
فإن قيل : لم لم يقل : وبث منهما رجالا كثيراً ونساء كثيراً ؟ ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء ؟
قلنا : السبب فيه والله أعلم أن شهرة الرجال أتم ، فكانت كثرتهم أظهر ، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة ، وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز ، واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 132}(19/365)
فائدة
قال الآلوسى :
والتلوين في { رّجَالاً وَنِسَاء } للتكثير ، و{ كَثِيراً } نعت لرجالاً مؤكد لما أفاده التنكير ، والإفراد باعتبار معنى الجمع ، أو العدد ، أو لرعاية صيغة فعيل ، ونقل أبو البقاء أنه نعت لمصدر محذوف أي بثاً كثيراً ولهذا أفرد ، وجعله صفة حين كما قيل تكلف سمج ، وليس المراد بالرجال والنساء البالغين والبالغات ، بل الذكور والإناث مطلقاً تجوزاً ، ولعل إيثارهما على الذكور والإناث لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره ، وقيل : ذكر الكبار منهم لأنه في معرض المكلفين بالتقوى واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها لأن الحكمة تقتضي أن يكنّ أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة قاله الخطيب ، واحتج بعضهم بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال ، وأجيب بأنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور ، على أن الآية لا تدل على أكثر من خلقنا وخلق الزوج مما ذكر سبحانه وهو غير واف بالمدعى ، وقرىء وخالق ، وباث على حذف المبتدأ لأنه صلة لعطفه على الصلة فلا يكون إلا جملة بخلاف نحو زيد ركب وذاهب أي وهو خالق وباث. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 183}
فائدة
قال القرطبى :
{ رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } حَصَر ذريتهما في نوعين ؛ فاقتضى أن الخُنْثى ليس بنوع ، لكن له حقيقة تردّه إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما ، على ما تقدم ذكره في "البقرة" من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 2}(19/366)
فائدة
قال الفخر :
الذين يقولون : إن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر ، وكانوا مجتمعين في صلب آدم عليه السلام ، حملوا قوله : {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} على ظاهره ، والذين أنكروا ذلك قالوا : المراد بث منهما أولادهما ومن أولادهما جمعا آخرين ، فكان الكل مضافا إليهما على سبيل المجاز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 132}
قوله تعالى : {واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }
قال الآلوسى :
{ واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ } تكرير للأمر الأول وتأكيد له ، والمخاطب مَن بعث إليهم صلى الله عليه وسلم أيضاً كما مر ، وقيل : المخاطب هنا وهناك هم العرب كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن دأبهم هذا التناشد ، وقيل : المخاطب هناك من بعث إليهم مطلقاً وهنا العرب خاصة ، وعموم أول الآية لا يمنع خصوص آخرها كالعكس ولا يخفى ما فيه من التفكيك ، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشارة إلى جميع صفات الكمال ترقياً بعد صفة الربوبية فكأنه قيل : اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقاً بديعاً ولكونه مستحقاً لصفات الكمال كلها.
وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى بعض آخر من موجبات الامتثال ، فإن قول القائل لصاحبه : أسألك بالله ، وأنشدك الله تعالى على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه ، وتساءلون إما بمعنى يسأل بعضكم بعضاً فالمفاعلة على ظاهرها ، وإما بمعنى تسألون كما قرىء به وتفاعل يرد بمعنى فعل إذا تعدد فاعله وأصله على القراءة المشهورة تتساءلون بتاءين فحذفت إحداهما للثقل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 183}(19/367)
فصل
قال الفخر :
قرأ عاصم وحمزة والكسائي : {تَسَاءلُونَ} بالتخفيف والباقون بالتشديد ، فمن شدد أراد : تتساءلون فأدغم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس ، ومن خفف حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة ، فأعلها بالحذف كما أعلها الأولون بالإدغام ، وذلك لأن الحروف المتقاربة إذا اجتمعت خففت تارة بالحذف وأخرى بالإدغام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 133}
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة وحده {والأرحام} بجر الميم قال القفال رحمه الله : وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة عن مجاهد وغيره ، وأما الباقون من القراء فكلهم قرؤا بنصب الميم.
وقال صاحب "الكشاف" : قرىء {والأرحام} بالحركات الثلاث ، أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة ، قالوا : لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وذلك غير جائز.
واحتجوا على عدم جوازه بوجوه :
أولها : قال أبو علي الفارسي : المضمر المجرور بمنزلة الحرف ، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه ، إنما قلنا المضمر المجرور بمنزلة الحرف لوجوه : الأول : أنه لا ينفصل ألبتة كما أن التنوين لا ينفصل ، وذلك أن الهاء والكاف في قوله : به ، وبك لا ترى واحدا منفصلا عن الجار ألبتة فصار كالتنوين.
الثاني : أنهم يحذفون الياء من المنادى المضاف في الاختيار كحذفهم التنوين من المفرد ، وذلك كقولهم : يا غلام ، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه ، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين ، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فإذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف.
وثانيها : قال علي بن عيسى : إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع.(19/368)
فلا يجوز أن يقال : اذهب وزيد ، وذهبت وزيد بل يقولون : يا غلام ، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه ، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين ، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فإذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف.
وثانيها : قال علي بن عيسى : إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع.
فلا يجوز أن يقال : اذهب وزيد ، وذهبت وزيد بل يقولون : اذهب أنت وزيد ، وذهبت أنا وزيد.
قال تعالى : {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [ المائدة : 24 ] مع أن المضمر المرفوع قد ينفصل ، فإذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل ، فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه ألبتة لا ينفصل كان أولى.
وثالثها : قال أبو عثمان المازني : المعطوف والمعطوف عليه متشاركان ، وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول ، وههنا هذا المعنى غير حاصل ، وذلك لأنك لا تقول : مررت بزيدوك ، فكذلك لا تقول مررت بك وزيد.
واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات ، وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة ، والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة ، والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت ، وأيضا فلهذه القراءة وجهان :
أحدهما : أنها على تقدير تكرير الجار ، كأنه قيل تساءلون به وبالأرحام.
وثانيها : أنه ورد ذلك في الشعر وأنشد سيبويه في ذلك :
فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا.. فاذهب فما بك والأيام من عجب
وأنشد أيضا :(19/369)
نعلق في مثل السواري سيوفنا.. وما بينها والكعب غوط نفانف
والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن.
واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تحلفوا بآبائكم " فإذا عطفت الأرحام على المكنى عن اسم الله اقتضى ذلك جواز الحلف بالأرحام ، ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون : أسألك بالله والرحم ، وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل ، وأيضاً فالحديث نهي عن الحلف بالآباء فقط ، وههنا ليس كذلك ، بل هو حلف بالله أولا ثم يقرن به بعده ذكر الرحم ، فهذا لا ينافي مدلول ذلك الحديث ، فهذا جملة الكلام في قراءة قوله : {والأرحام} بالجر.
أما قراءته بالنصب ففيه وجهان : الأول : وهو اختيار أبي علي الفارسي وعلي بن عيسى أنه عطف على موضع الجار والمجرور كقوله :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا.. والثاني : وهو قول أكثر المفسرين : أن التقدير : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج ، وعلى هذا الوجه فنصب الأرحام بالعطف على قوله : {الله} أي : اتقوا الله واتقوا الأرحام أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها قال الواحدي رحمه الله : ويجوز أيضاً أن يكون منصوبا بالاغراء ، أي والأرحام فاحفظوها وصلوها كقولك : الأسد الأسد ، وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم ، ويدل على وجوب صلتها.(19/370)
وأما القراءة بالرفع فقال صاحب "الكشاف" : الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل : والأرحام كذلك على معنى والأرحام مما يتقى ، أو والأرحام مما يتساءل به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 133 ـ 134}
قال الطبرى :
والقراءة التي لا نستجيز لقارئٍ أن يقرأ غيرها في ذلك ، النصب : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ ) ، بمعنى : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهرٍ من الأسماء على مكنيّ في حال الخفض ، إلا في ضرورة شعر ، على ما قد وصفت قبل. (1) أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 523}
وقال الآلوسى ولله دره :
وقرأ نافع وابن كثير ، وسائر أهل الكوفة { تَسَاءلُونَ } بادغام تاء الفاعل في السين لتقاربهما في الهمس.
_____________
(1) سيأتى الرد على هذا الكلام لاحقا إن شاء الله تعالى من خلال كلام الآلوسى وابن عاشور وغيرهما وقد تقدم رد الإمام الفخر لهذه الطعون فى هذه القراءة المتواترة.(19/371)
{ والأرحام } بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما ، أو على محل المجرور إن كان المحل له ، والكلام على حدّ مررت بزيد ، وعمراً ، وينصره قراءة ( تسألون به وبالأرحام ) وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى ويقولون : أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم كما أخرج ذلك غير واحد عن مجاهد ، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى ؛ وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى ، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد والضحاك عن ابن عباس ، وابن المنذر عن عكرمة ، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه واختاره الفراء والزجاج ، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها ، وقرأ حمزة بالجر ، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور ، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.(19/372)
وأول من شنع على حمزة في هذ القراءة أبو العباس المبرد حتى قال : لا تحل القراءة بها ، وتبعه في ذلك جماعة منهم ابن عطية وزعم أنه يردها وجهان : أحدهما : أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ، ولا فائدة فيها أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا مما يغض من الفصاحة ، والثاني : أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك ، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم : " من كان حالفاً فليحلف بالله تعالى أو ليصمت " وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش والإمام بن أعين ومحمد بن أبى ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق وكان صالحاً ورعاً ثقة في الحديث من الطبقة الثالثة.(19/373)
وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض ، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه منهم إمام الكوفة قراءة وعربية أبو الحسن الكسائي ، وهو أحد القراء السبع الذين قال أساطين الدين : إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر ، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم ، وقد أطال أبو حيان في "البحر" الكلام في الرد عليهم ، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح ، بل الصحيح ماذهب إليه الكوفيون من الجواز وورد ذلك في لسان العرب نثراً ونظماً ، وإلى ذلك ذهب ابن مالك ، وحديث إن ذكر الأرحام حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب ، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها ، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى ، فقد قيل في جوابها : لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقاً منهي عنه ، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر ، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلاً فمما لا بأس به ففي الخبر "أفلح وأبيه إن صدق".(19/374)
وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر : أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو كقول القائل والرحم لأفعلن كذا ، ولقد فعلت كذا ، فلا يكون متعلق النهي في شيء ، والقول بأن المراد ههنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يخفى ما فيه فافهم وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر ، فقال في "الخصائص" : باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك.
رسم دار وقفت في طلله...
أي رب رسم دار ، وكان رؤبة إذا قيل له : كيف أصبحت ؟ يقول : خير عافاك الله تعالى أي بخير يحذف الباء لدلالة الحال عليها ، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وفي "شرح المفصل" أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها ، وقد مشى على ذلك أيضاً الزمخشري في "أحاجيه" ، وذكر صاحب "الكشف" أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو الله لأفعلن وفي نحو ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان ذلك والحمل على ما ثبت هو الوجه ، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو اتق الله تعالى فوالله إنه مطلع عليك وترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن.(19/375)
وقرأ ابن زيد { والأرحام } بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي والأرحام كذلك أي مما يتقى لقرينة { اتقوا } أو مما يتساءل به لقرينة { تَسَاءلُونَ } وقدره ابن عطية أهل لأن توصل وابن جني مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء ، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى ، وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ؟ قال : نعم أما ترضين أني أصل من وصلك وأقطع من قطعك ، قالت : بلى قال : فذلك لك " وأخرج البزار بإسناد حسن " الرحم حجنة متمسكة بالعرش تكلم بلسان زلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تعالى : أنا الرحمن أنا الرحيم فإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بتكها بتكته " وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح : " إن من أربى الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة " والأخبار في هذا الباب كثيرة ، والمراد بالرحم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بَعُدَ ، ويطلق على الأقارب من جهة النساء وتخصيصه في باب الصلة بمن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقاً. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 183 ـ 185}
وقال القرطبى :
هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة "وَالأَرْحَامِ" بالخفض ، واختاره ابن عطية.(19/376)
وردّه الإمام أبو النصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيريّ ، واختار العطف فقال : ومثل هذا الكلامِ مردود عند أئمة الدين ؛ لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القرّاء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم ، واستقبح ما قرأ به وهذا مقام محذور ، ولا يقلَّد فيه أئمة اللغة والنحو ؛ فإن العربية تُتلقّى من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يشك أحد في فصاحته.
وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر ؛ لأنه عليه السلام قال لأبي العُشَرَاء.
" وأبِيك لو طعنت في خاصرته " ثم النهي إنما جاء في الحلفِ بغير الله ، وهذا توسل إلى الغير بحق الرّحم فلا نهي فيه.
قال القشيري : وقد قيل هذا إقسام بالرّحم ، أي اتقوا الله وحق الرحم ، كما تقول : افعل كذا وحقِّ أبيك.
وقد جاء في التنزيل : "والنَّجْمِ ، والطّورِ ، والتِّينِ ، لَعْمرُك" وهذا تكلفٌ.
قلت : لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أنه يكون "وَالأَرْحَامِ" من هذا القبيل ، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيداً لها حتى قرنها بنفسه.
والله أعلم.
ولِلّهِ أن يُقسِم بما شاء ويبيح ما شاء ، فلا يبعد أن يكون قسماً.
والعرب تُقسم بالرحم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 4 ـ 5}(19/377)
فائدة
قال ابن القيم بعد كلام طويل له :
وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوى الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ : {وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} بالجر أنه قسم ومثل قول بعضهم في قوله تعالى : {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به ، ومثل قول بعضهم في قوله تعالى : {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} إن المقيمين مجرور بواو القسم ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهي بكثير بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفة والمعهود من معانيه فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد
المتكلم تعالى بكلامه وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله. أ هـ {بدائع الفوائد حـ 3 صـ 27 ـ 28}(19/378)
فصل
قال الفخر :
إنه تعالى قال أولا : {اتقوا رَبَّكُمُ} ثم قال بعده : {واتقوا الله} وفي هذا التكرير وجوه :
الأول : تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل : اعجل اعجل فيكون أبلغ من قولك : اعجل الثاني : أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الإنعام بالخلق وغيره ، وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض.
الثالث : قال أولا : {اتقوا رَبَّكُمُ} وقال ثانيا : {واتقوا الله} والرب لفظ يدل على التربية والإحسان ، والاله لفظ يدل على القهر والهيبة ، فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب ، ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال : {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [ السجدة : 16 ] وقال : {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [ الأنبياء : 90 ] كأنه قيل : إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 134}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن التساؤل بالله وبالأرحام قيل هو مثل أن يقال : بالله أسألك ، وبالله أشفع إليك ، وبالله أحلف عليك ، إلى غير ذلك مما يؤكد المرء به مراده بمسألة الغير ، ويستعطف ذلك الغير في التماس حقه منه أو نواله ومعونته ونصرته ، وأما قراءة حمزة فهي ظاهرة من حيث المعنى ، والتقدير : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ، لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول : أسألك بالله والرحم ، وربما أفرد ذلك فقال : أسألك بالرحم ، وكان يكتب المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : نناشدك الله والرحم أن لا تبعث إلينا فلانا وفلانا ، وأما القراءة بالنصب فالمعنى يرجع إلى ذلك ، والتقدير : واتقوا الله واتقوا الأرحام ، قال القاضي : وهذا أحد ما يدل على أنه قد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة ، لأن معنى تقوى الله مخالف لمعنى تقوى الأرحام ، فتقوى الله إنما يكون بالتزام طاعته واجتناب معاصيه ، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والإفضال والاحسان ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لعله تكلم بهذه اللفظة مرتين ، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 134 ـ 135}(19/379)
فصل
قال الفخر :
قال بعضهم : اسم الرحم مشتق من الرحمة التي هي النعمة ، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي " ووجه التشبيه أن لمكان هذه الحالة تقع الرحمة من بعض الناس لبعض.
وقال آخرون : بل اسم الرحم مشتق من الرحم الذي عنده يقع الإنعام وأنه الأصل ، وقال بعضهم : بل كل واحد منهما أصل بنفسه ، والنزاع في مثل هذا قريب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 135}
فائدة
قال الفخر :
دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى.
روى مجاهد عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سألكم بالله فأعطوه " وعن البراء بن عازب قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع : منها إبرار القسم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 135}
فصل
قال الفخر :
دل قوله تعالى : {والأرحام} على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها ، قال تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} [ محمد : 22 ] وقال : {لا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} قيل في الأول : إنه القرابة ، وقال : {وقضى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا} [ الإسراء : 23 ] وقال : {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إحسانا وَبِذِى القربى واليتامى والمساكين} [ النساء : 36 ] وعن عبد الرحمن بن عوف : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصى الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة ".(19/380)
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه " وقال عليه الصلاة والسلام : " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " قيل الكاشح العدو ، فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها ، ثم إن أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه بنوا على هذا الأصل مسألتين : إحداهما : أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والأخت ، والعم والخال ، قال لأنه لو بقي الملك لحل الاستخدام بالإجماع ، لكن الاستخدام إيحاش يورث قطيعة الرحم ، وذلك حرام بناء على هذا الأصل ، فوجب أن لا يبقى الملك ، وثانيهما : أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها لأن ذلك الرجوع إيحاش يورث قطيعة الرحم ، فوجب أن لا يجوز ، والكلام في هاتين المسألتين مذكور في الخلافيات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 135}
قوله تعالى {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}
قال الفخر :
والرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك.
ومن هذا صفته فإنه يجب أن يخاف ويرجى ، فبين تعالى أنه يعلم السر وأخفى ، وأنه إذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتي ويترك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 135}
وقال الآلوسى :
{ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } أي حفيظاً قاله مجاهد فهو من رقبه بمعنى حفظه كما قاله الراغب وقد يفسر بالمطلع ، ومنه المرقب للمكان العالي الذي يشرف عليه ليطلع على ما دونه ، ومن هنا فسره ابن زيد بالعالم ، وعلى كل فهو فعيل بمعنى فاعل ، والجملة في موضع التعليل للأمر ووجوب الامتثال ، وإظهار الاسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار لرعاية الفواصل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 185}(19/381)
لطيفة
قال الثعالبى :
وفي قوله تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } : ضرْبٌ من الوعيدِ ، قال المُحَاسِبِيُّ : سألتُ أبا جَعْفَرٍ محمدَ بْنَ موسى ، فقلْتُ : أجمل حالاتِ العارفين ما هِيَ ؟ فقال : إن الحال التي تَجْمَعُ لك الحالاتِ المَحْمُودةَ كلَّها في حالةٍ واحدةٍ هي المراقبةُ ، فَألْزِمْ نفْسَكَ ، وقَلْبَكَ دَوَامَ العِلْمِ بنَظَرِ اللَّه إليك ؛ في حركَتِك ، وسكونِكِ ، وجميعِ أحوالِكِ ؛ فإنَّك بعَيْنِ اللَّهِ ( عزَّ وجلَّ ) في جميعِ تقلُّباتك ، وإنَّك في قبضته ؛ حيث كُنْتَ ، وإنَّ عين اللَّه على قلبك ، ونَاظِرٌ إلى سِرِّك وعلانيتِكَ ، فهذه الصفةُ ، يا فتى ، بحْرٌ ليس له شطٌّ ، بَحْر تجري منْه السواقِي والأنهارُ ، وتسيرُ فيه السُّفُن إلى معادِنِ الغنيمةِ. انتهى من كتاب "القصد إلى اللَّه سبحانه". أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 346 ـ 347}
من فوائد أبى حيان فى الآية
قال عليه الرحمة :
وقيل : يجوز أن يكون أراد بالتقوى تقوى خاصة ، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله.
فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه.
وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة.
وقال ابن عباس : المراد بالتقوى الطاعة.
وقال مقاتل : الخشية.
وقيل : اجتناب الكبائر والصغائر.
والمراد بقوله : من نفس واحدة آدم.
وقرأ الجمهور : واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس.
وقرأ ابن أبي عبلة : واحد على مراعاة المعنى ، إذ المراد به آدم ، أو على أن النفس تذكر وتؤنث ، فجاءت قراءته على تذكير النفس.
ومعنى الخلق هنا : الاختراع بطريق التفريع ، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر :
إلى عرق الثرى وشجت عروقي . . .
وهذا الموت يسلبني شبابي(19/382)
قال : في ري الظمآن ، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه ، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع.
وعلى أنّا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية ، وإلا لقال : أخرجكم من نفس واحدة ، فأضاف خلقنا إلى آدم ، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده ، ولكنه الأصل انتهى.
وقال الأصم : لا يدل العقل على أنَّ الخلق مخلوقين من نفس واحدة ، بل السمع.
ولما كان صلى الله عليه وسلم أميّاً ما قرأ كتاباً ، كان معنى خلقكم دليلاً على التوحيد ، ومن نفس واحدة دليلاً على النبوّة انتهى.
وفي قوله : من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر ، لتعريفه إياهم بأنهم من أصل واحد ودلالة على المعاد ، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى.
وزوجها : هي حواء.
وظاهر منها ابتداء خلق حوّاء من نفسه ، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه ، وبه قال : ابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي.
وقتادة قالوا إن الله تعالى خلق آدم وحشاً في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله.
وقيل : من يمينه ، فحلق منها حواء.
قال ابن عطية : ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها " انتهى.
ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التمثيل لاضطراب أخلاقهن ، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة ، أي : صعبات المراس ، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان من عجل.
ويؤيد هذا التأويل قوله : إن المرأة ، فأتى بالجنس ولم يقل : إن حوّاء.(19/383)
وقيل : هو على حذف مضاف ، التقدير : وخلق من جنسها زوجها قاله : ابن بحر وأبو مسلم لقوله : { من أنفسكم أزواجاً } { ورسولاً منهم } قال القاضي : الأول أقوى ، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة.
ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة من لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم ، صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة.
ولما كان قادراً على خلق آدم من التراب كان قادراً على خلق حواء أيضاً كذلك.
وقيل : لا حذف ، والضمير في منها ، ليس عائداً على نفس ، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم.
وخلقت منها حواء أي : أنها خلقت مما خلق منه آدم.
وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم : أنها خلقت وآدم في الجنة ، وبه قال : ابن مسعود.
وقيل : قبل دخوله الجنة وبه قال : كعب الأحبار ووهب ، وابن إسحاق.
وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها ، من أنَّ خلق حواء كان قبل خلق الناس.
إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية ، وإنما تقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس ، وإن كان مدلولها واقعاً بعد خلق حواء ، لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم.
فكان ذكر ما تعلق بهم أولاً آكد ، ونظيره : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } ومعلوم أنّ خلقهم تأخر عن خلق من قبلهم.
ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها ، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولاً ، ثم ذكر إنشاء من كان قبلهم.
وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخراً عن ما عطف عليه ، فقدر معطوفاً عليه محذوفاً متقدماً على المعطوف في الزمان ، فقال : يعطف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه.(19/384)
والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء من ضلع من أضلاعها.
ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على ما اقتضته العربية.
وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال : يعطف على خلقكم.
ويكون الخطاب في : يا أيها الناس الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمعنى : خلقكم من نفس آدم ، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حوّاء انتهى.
ويجوز أن يكون قوله : وخلق منها زوجها معطوفاً على اسم الفاعل الذي هو واحدة التقدير من نفس وحدت ، أي انفردت.
وخلق منها زوجها ، فيكون نظير { صافات ويقبضن } وتقول العرب : وحد يحد وحدا ووحدة ، بمعنى انفرد.
ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام : " إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة " وعنى بزوجها البدن ، وعنى بالخلق التركيب.
وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : { ومن كل شيئين خلقنا زوجين } وقوله : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم } ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنى التركيب.
وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب ، والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالى انتهى.
وهذا مخالف لكلام المتقدمين ، قال بعضهم : ونبه بقوله : وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها ، لكونها بعضه.
وبث منهما أي من تلك النفس ، وزوجها أي : نشر وفرق في الوجود.
{ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } كرر الأمر بالتقوى تأكيداً للأول.
وقيل : لاختلاف التعليل وذكر أولاً : الرب الذي يدل على الإحسان والتربية ، وثانياً : الله الذي يدل على القهر والهيبة.
بنى أولاً على الترغيب ، وثانياً على الترهيب.(19/385)
كقوله : { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } و{ ويدعوننا رغباً ورهباً } كأنه قال : إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته ، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب. أ هـ
ثم رد رحمه الله على كلام البصريين ومن وافقهم فقال :
وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية : من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح ، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز.
وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى : { وكفر به والمسجد الحرام } وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وأما قول ابن عطية : ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان ، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه.
إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها سلف الأمة ، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت.
وأقرأ الصحابة أُبيّ بن كعب عمدَ إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه ، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري ، فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم ، وحمزة رضي الله عنه : أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش ، وحمدان بن أعين ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق ، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر.
وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقةً في الحديث ، وهو من الطبقة الثالثة ، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة ، وأم الناس سنة مائة ، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم : سفيان الثوري ، والحسن بن صالح.(19/386)
ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي ، وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم : غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض.
وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظناً بها وبقارئها ، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك.
ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم ، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون ، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون ، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية ، لا أصحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ.
{ إن الله كان عليكم رقيباً } لا يراد بكان تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق الله تعالى ، وإن كان موضوع كان ذلك ، بل المعنى على الديمومة فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا ، والرقيب تقدم شرحه في المفردات.
وقال بعضهم : هنا هو العليم ، والمعنى : أنه مراع لكم لايخفى عليه ن أمركم شيء فاتقوه. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 162 ـ 167}. بتصرف.
ومن فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
{ يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً }.
جاء الخطاب بيا أيُّها الناس : ليشمل جميع أمّة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان.(19/387)
فضمير الخطاب في قوله : { خلقكم } عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن ، أي لئلاّ يختصّ بالمؤمنين ، إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفّار العرب وهم الذين تلقّوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأنّ الخطاب جاء بلغتهم ، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم.
فلمَّا كان ما بعد هذا النداء جامعاً لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر ، نودي جميع الناس ، فدعاهم الله إلى التذكّر بأنّ أصلهم واحد ، إذ قال : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد ، فالمقصود من التقوى في { اتّقوا ربّكم } اتّقاء غضبه ، ومراعاة حقوقه ، وذلك حقّ توحيده والاعتراف له بصفات الكمال ، وتنزيهه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات.
وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية ، فكانت بمنزلة الديباجة.
وعبّر بـ ( ربّكم ) ، دون الاسم العلم ، لأنّ في معنى الربّ ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته ، إذ الربّ هو المالك الذي يربّ مملوكه أي ، يدبّر شؤونه ، وليتأتّى بذكر لفظ ( الربّ ) طريق الإضافة الدالّة على أنّهم محقوقون بتقواه حقّ التقوى ، والدالّة على أنّ بين الربّ والمخاطبين صلة تعدّ إضاعتها حماقة وضلالاً.
وأمّا التقوى في قوله : { واتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام } فالمقصد الأهمّ منها : تقوى المؤمنين بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال.
ثم جاء باسم الموصول { الذي خلقكم } للإيماء إلى وجه بناء الخبر لأنّ الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتّقى.
ووَصْل { خلقكم } بصلة { من نفس واحدة } إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقّه بالاعتبار.(19/388)
وفي الآية تلويح للمشركين بأحقّيّة اتّباعهم دعوة الإسلام ، لأنّ الناس أبناء أب واحد ، وهذا الدين يدعو الناس كلّهم إلى متابعته ولم يخصّ أمّة من الأمم أو نسباً من الأنساب ، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر ، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرّحة باختصاصها بأمم معيّنة.
وفي الآية تعريض للمشركين بأنّ أولى الناس بأن يتّبعوه هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه من ذوي رحمهم.
وفي الآية تمهيد لما سَيُبَيَّنُ في هذه السورة من الأحكام المرتّبة على النسب والقرابة.
والنفس الواحدة : هي آدم.
والزوج : حوّاء ، فإنّ حوّاء أخرجت من آدم.
من ضلعه ، كما يقتضيه ظاهر قوله : { منها }.
و ( مِن ) تبعيضية.
ومعنى التبعيض أنّ حوّاء خلقت من جزء من آدم.
قيل : من بقية الطينة التي خلق منها آدم.
وقيل : فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في "الصحيحين".
ومن قال : إنّ المعنى وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل ، لأنّ ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوعه.
وعُطف قوله : { وخلق منها زوجها } على { خلقكم من نفس واحدة } ، فهو صلة ثانية.
وقوله : { وبث منهما } صلة ثالثة لأنّ الذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتّقى ، ولأنّ في معاني هذه الصلات زيادة تحقيق اتّصال الناس بعضهم ببعض ، إذ الكلّ من أصل واحد ، وإن كان خَلْقهم ما حصل إلاّ من زوجين فكلّ أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه.
وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة.
وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي للإتيان باسم الموصول ، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب.
ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصّلة دون سبق إجمال ، فقيل : الذي خلقكم من نفس واحدة وبثّ منها رجالاً كثيراً ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة.(19/389)
وقد ورد في الحديث : أنّ حواء خلقت من ضلع آدم ، فلذلك يكون حرف ( مِن ) في قوله : { وخلق منها } للابتداء ، أي أخرج خلق حواء من ضلع آدم.
والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر ، وهي حوّاء.
وأطلق عليها اسمُ الزوج لأنّ الرجل يكون منفرداً فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجاً في بيت ، فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار ، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين ، فإطلاق الزوج على كلّ واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية ، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنّه من الوصف بالجامد ، فلا يقال للمرأة ( زوجة ) ، ولم يسمع في فصيح الكلام ، ولذلك عدّه بعض أهل اللغة لحناً.
وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار قيل له : فقد قال ذو الرمّة :
أذو زوجة بالمصِر أمْ ذو خصومة...
أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقال : إنّ ذا الرّمة طالما أكل المالح والبقْل في حوانيت البقّالين ، يريد أنّه مولّد.
وقال الفرزدق :
وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي...
كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وشاع ذلك في كلام الفقهاء ، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام ، وهي تفرقة حسنة.
وتقدّم عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } في سورة البقرة ( 35 ).
وقد شمل وخلق منها زوجها } العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد ، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص ، والمنّة على الذكران بخلق النساء لهم ، والمنّة على النساء بخلق الرجال لهنّ ، ثم منّ على النوع بنعمة النسل في قوله : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب.
والبثّ : النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوب } [ القارعة : 4 ].(19/390)
ووصف الرجال ، وهو جمع ، بكثير ، وهو مفرد ، لأنّ كثير يستوي فيه المفرد والجمع ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير } في سورة آل عمران ( 146 ).
واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجل به ما يقتضيه فعل البث من الكثرة.
شروع في التشريع المقصود من السورة ، وأعيد فعل { اتّقوا } : لأنّ هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصّة ، فإنّهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها ، وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام.
واستحضر اسم الله العلم هنا دون ضمير يعود إلى ربّكم لإدخال الرّوع في ضمائر السامعين.
لأنّ المقام مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة بخلاف مقام قوله : { اتقوا ربكم } فهو مقام ترغيب.
ومعنى { تسَّاءلون به } يَسْأل بعضكم بعضاً به في القسم فالمسايلة به تؤذن بمنتهى العظمة ، فكيف لا تتّقونه.
وقرأ الجمهور { تسَّاءلون } بتشديد السين لإدغام التاء الثانية ، وهي تاء التفاعل في السين ، لقرب المخرج واتّحاد الصفة ، وهي الهمس.
وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : تساءلون بتخفيف السين على أنّ تاء الافتعال حذفت تخفيفاً.
{ والأرحام } قرأه الجمهور بالنصب عطفاً على اسم الله.
وقرأه حمزة بالجرّ عطفاً على الضمير المجرور.(19/391)
فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأموراً بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها ، وهو على حذف مضاف ، أي اتّقاء حقوقها ، فهو من استعمال المشترك في معنييه ، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى : { وخلق منها زوجها } وعلى قراءة حمزة يكون تعظيماً لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضاً بها ، وذلك قول العرب : "ناشدتك اللَّه والرحم" كما روى في "الصحيح" : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصّلت حتّى بلغ : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 13 ] فأخذت عتبة رهبة وقال : ناشدتك اللَّه والرحم.
وهو ظاهر محمل هذه الرواية وإن أباه جمهور النحاة استعظاماً لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ ، حتّى قال المبرّد : "لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة" وهذا من ضيق العطن وغرور بأنّ العربية منحصرة فيما يعلمه ، ولقد أصاب ابن مالك في تجويزه العطف على المجرور بدون إعادة الجارّ ، فتكون تعريضاً بعوائد الجاهلية ، إذ يتساءلون بينهم بالرحم وأواصر القرابة ثم يهملون حقوقها ولا يصلونها ، ويعتدون على الأيتام من إخوتهم وأبناء أعمامهم ، فناقضت أفعالُهم أقوالَهم ، وأيضاً هم قد آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وظلموه ، وهو من ذوي رحمهم وأحقّ الناس بصلتهم كما قال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] وقال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ].
وقال : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ].
وعلى قراءة حمزة يكون معنى الآية تتمّة لمعنى التي قبلها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 8 ـ 11}(19/392)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
{ مِّن نَّفْسٍ } متعلق بـ " خلقكم " فهو في محل نصب ، و" من " لابتداء الغاية ، وكذلك " منها زوجها وبتَّ منهما " والجمهور على واحدة بتاء التأنيث ، وأجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنفس الواحدة [ هاهنا ] آدم عليه السلام ، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس لقوله تعالى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } [ الكهف : 74 ].
وابن أبي عبلة واحدٍ من غير [ تاء ] تأنيث وله وجهان :
أحدهما : مراعاة المعنى ؛ لأنه المراد بالنفس آدم عليه السلام.
والثاني : أن النفس تذكر وتؤنث. وعليه قوله : [ الوافر ]
ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
قوله : { وَخَلَقَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عطفٌ على معنى " واحدة " لما فيه من معنى الفعل ، كأنه قيل : " من نفس وحدت " أي : انفردت ، يُقال : " رجل وَحُد يَحِدُ وَحْداً وَحِدَة " انفرد.
الثاني : أنه عَطْفٌ على محذوف.
قال الزَّمَخْشرِيُّ : " كأنه قيل : من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى شَعَّبكم من نفس واحدةٍ هذه صفتها " بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها ، وَإنَّما حمل الزمخشري رحمه الله تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيب الوجودي ؛ لأن خلق حواء - وهي المعبر عنها بالزوج - قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك ، لأن الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح.(19/393)
الثالث : أنه عطف على " خَلْقَكُمْ " ، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يُبَالَى بها ، إذ لا تقتضي ترتيباً ؛ إلا أن الزَّمَخشريَّ رحمه الله تعالى خَصَّ هذا الوجه بكون الخطاب [ للمؤمنين ] في { يا أيها الناس } لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال : والثاني أنه يُعْطَفُ على " خلقكم " ويكون الخطاب للذين بُعِثَ إليهم الرسول ، والمعنى : خلقكم من نفس آدم ؛ لأنه من جملة الجنس المفرّع [ منه ] وخلق منها أُمَّكم حواء.
فظاهر هذا خصوصيَّةُ الوجه الثاني أن يكون الخطاب للمعاصرين ، وفيه نظر ، وَقَدَّرَ بعضهم مضافاً في " منها " أي : " مِنْ جِنْسِها زوجَها " ، وهو قول أبي مسلم ، قال : وهو كقوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ النحل : 72 ] وقال { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ } [ آل عمران : 164 ] وقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ } [ التوبة : 28 ].
قال : وحواء لم تخلق من آدم ، وإنما خلقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم.
قال الْقَاضِي : والأول أقوى لقوله : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }.
قال ابن الخَطِيبُ : " يمكن أن يجاب بأن كلمة " مِن " لابتداء الغاية ، فَلمَّا كان ابتداء الغاية وهو ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم صحّ أن يُقَالَ : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } وأيضاً فالقادر على خلق آدم من التراب ، [ كان قادراً أيضاً على خلق حواء من التراب ] ، وَإذا كان كذلك فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاعه ".
وقرئ " وخالِقُ وباثٌّ " بلفظ اسم الفاعل ، وخَرَّجَهُ الزمخشريُّ على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : وهو خالِقٌ وباثٌّ.
وَيُقَالُ : بَثَّ وأبَثَّ ومعناه " فَرَّقَ " ثلاثياً ورباعياً.(19/394)
قال ابن المظفر : " البثُّ تَفْرِيقَكَ الأشياء ".
يقال : بَثَّ الخيلَ في الغارة ، وبَثَّ الصَّيادُ كِلاَبَهُ ، وخلق الله الخلق : بَثَّهُمْ في الأرض ، وبثثت البسطة إذا نشتريها. قال تعالى : { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [ الغاشية : 16 ].
وقوله : " كثيراً " فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نَعْتٌ لـ " رِجَالاً ".
قال أبو البقاء : ولم يؤنثه حَمْلاً على المعنى ؛ لأن " رجالاً " بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذَكَّر الفعل المسند إلى جماعةِ لمؤنثِ لقوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة } [ يوسف : 30 ].
والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهم بثاً كثيراً ؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه في مثله النصبُ على الحالِ.
قوله : { تَسَآءَلُونَ } قرأ الكوفيون " تَسَاءَلُونَ " بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً ، والأصل : " تتساءلون " به ، وقَدْ تَقَدَّمَ الخلافُ : هَلْ المحذوفُ الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين ؛ لأن مقاربتها في الهمس ، ولهذا تُبْدَلُ من السين ، قالوا : " ست " والأصل " سِدْسٌ " وقرأ عبد الله : " تَسْاَلُون " من سأل الثلاثي ، وقُرِئَ " تَسَلون " بنقل حركة الهمزة على السين ، و" تَسَاءلون " على التفاعل فيه وجهان :
أحدهما : المشاركة في السؤال.
والثاني : أنه بمعنى فَعَلَ ، ويدلّ عليه قراءة عبد الله.
قال أبُو البَقَاءِ : " وَدَخَلَ حَرْفُ الجرِّ في المفعول ؛ لأن المعنى : " تتخالفون : يعني أن الأصل تعدية " تسألون " إلى الضمير بنفسه ، فلما ضُمِّن " تتخلفون " عُدِّي تَعْدِيَتَه ".
قوله : { والأرحام } الجمهور نصبوا الميم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على لفظ الجلالة ، أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها ، وقَدَّرَ بعضهم مضافً أي : قَطْعَ الأرحام.(19/395)
ويقال : إنَّ هذا في الحقيقةِ من عطف الخاصِّ على العام ، وذلك أن معنى اتقوا الله ؛ اتقوا مخالَفَتَه ، وقَطْعُ الأرحام مندرج فيه ، وهذا قول مجاهد وقتادة والسَّدي والضحاك والفرّاء والزّجّاج.
قال الواحدي : ويجوز أن يكون منصوباً بالإغراء ، أي : والأرحام احفظوها وصلوها كقولك : الأسدَ الأسدَ ، وهذا يَدُلُّ على تحريم قطعيةِ الرحم ووجوب صلته.
والثاني : أنه معطوف على محل المجرور في " به " ، نحو : مررت بزيد وعمراً ، ولمَّ لم يَشْرَكه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع ، وه يؤيده قراءة عبد الله " وبالأرحام ".
وقال أبو البقاء : تُعَظِّمُونه والأرحام ، لأنَّ الحَلْفَ به تَعْظِيم له " ،
وقرأ حمزة " والأرحامِ " بالجر ، قال القفال : وقد رويت هذه القراءة عن مجاهد وغيره ، وفيها قولان.
أحدهما : أنه عَطَفَ على الضمير المجرور في " به " من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وقد تَقَدَّم تحقيقُ ذلك ، وأن فيها ثلاثةَ مذاهب ، واحتجاج كل فريق في قوله تعالى : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] وقد طَعَنَ جَمَاعَةٌ في هذه القراءة ، كالزجاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال : حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم ، قال : { والأرحام } بخفض [ الأرحام ] هو كقولهم : " أسألك باللَّهِ والرحمِ " قال : " وهذا قبيح ؛ لأنَّ العرب لا ترُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قَدْ كُنِي به ، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهمُ بأنه عطف للمظهر على الضمير ، وهو لا يجوز.(19/396)
قال ابن عيس : إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على الضمير المرفوع ، فلا يجوز أن يقال : " اذهب وزيد " و" ذهبت وزيدا " ، بل يقولون : اذهبْ أنت وزيد وذهبت أنا وزيد ، قال تعالى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } [ المائدة : 24 ] مع أن الضمير المرفوع قد ينفصل ، فإذا لم يجز عطف المظهر على الضمير المرفوع مع أنه أقوى من الضمير المجرور ، بسبب أنه قد ينفصل ؛ فلأن لا يجوز عطف المظهر على الضمير المجرور ، مع أنه [ لا ] ينفصل أَلْبَتَّةَ أولى.
والثاني : أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور ، بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به ، وجوابُ القسمِ { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } وضُعِّفَ هذا بوجهين :
أحدهما : أن قراءتي النصبِ وإظهار حرفِ الجر في بـ " الأرحام " يمنعان من ذلكَ ، والأصلُ توافق القراءات.
والثاني : أنَّهُ نُهِيَ أن يُحْلَفَ بغيرِ الله تعالى ، والأحاديثُ مُصَرَّحةٌ بذلك.
وَقَدَّرَ بَعْضهم مضافاً فراراً من ذلك فقال : " ورَبِّ الأرحام ".
قال أبو البقاء : وهذا قد أغنى عنه ما قبله " يعني : الحلف بالله تعالى.
ويمكن الجواب عن هذا بأن للهَ تعالى أن يُقسمَ بما يشاء من مخلوقاته [ كما أقسم ] بالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نَحْنُ منهيين عن ذلك ، إلا أنَّ المقصود من حيث المعنى ، ليس على القسم ، فالأولى حمل هذه القراءات على العطف على الضمير ، ولا التفات إلى طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فيها.
وأجاب آخرون بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية ؛ لأنهم كانوا يقولون : أسألك بالله وبالرحم ، فمجيء هذا الفعل عنهم في الماضي لا ينافي ورود النهي عنه في المستقبل ؛ وأيضاً فالنهي ورد عن الحلف بالآباء فقط ، وهاهنا ليس كذلك ، بل هو حلف باللهِ أولاً ، ثُمَّ قرن بِهِ بَعْدَ ذكر لرحم ، وهذا لا ينافي مدلول الحديث.(19/397)
أيضاً فحمزة أحد القراءة السبعة ، الظاهر أنه لم يأتِ بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوجب القطع بصحة اللغة ، ولا التفات إلى أقيسة النحاة عند وجود السماع ، وأيضاً فلهذه القراءة وجهان :
أحدهما : ما تقدم من تقدير تكرير الجر ، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم.
والثاني : فقد ورد في الشعر وأنشد سيبويه : [ البسيط ]
فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتُمْنَا... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَب
وقال الآخر [ الطويل ]
تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَاري سُيُوفُنَا... وَمَا بَيْنَهَا والْكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ
وقال آخر [ الوافر ]
أكُرُّ على الكِتيبَةِ لا أُبالِي... أفِيهَا كَانَ حَتْفِي أمْ سِوَاهَا
وحمزة بالرتبة السَّنيَّة المانعةِ له من نقلِ قراءة ضعيفة.
قال بن الخطيبِ : " والعَجَبُ من هَؤلاء [ النحاة ] أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ، ولا يستحسنوها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن ".
وقرأ عبد الله أيضاً " والأرحامُ " رفعاً على الابتداء ، والخبرُ محذوف فقدَّرَهُ ابن عطية : أهلٌ أنْ توصل ، وقَدَّرَهُ الزمخشري : " والأرحام مِمَّا يتقي " أو " مما يتساءل به ".
وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية ، والمعنوية ، بخلاف الأول فإنَّه للدلالة المعنوية فقط ، وقَدَّرَهُ أبو البقاء : والأرحام محترمة ، أي : واجبٌ حرمتها.
وقوله تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }.(19/398)
جارٍ مجرى التعليل والرقيب : فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْباً ، ورُقوباً ، ورِقْباناً إذا أحدَّ النَّظَرَ [ لأمر يريد تحقيقه ] ، والرقيب هو المراقب الذي يحفظ جميع أفعالك ، واستعماله في صفات الله تعالى بمعنى الحفيظ قال : [ مجزوء الكامل ]
كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ للضْ... ضُرَبَاءِ أيْدِيهمْ نَوَاهِدْ
وقال : [ الكامل ]
وَمَعَ الحَبيبِ بِهَا لَقَدْ نِلْتَ المُنَى... لِي عَقْلَهُ الْحُسَّادُ وَالرُّقَباءُ
والْمَرْقَبُ : المكان العالي المشرف يقف عليه الرقيب ، والرقيب أيضاً [ ضرب ] من الحيات ، والرقيب السهم الثالث من سهام الميسر ، وقد تقدمت من البقرة ، والارتقاب : الانتظار. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 140 ـ 148}. بتصرف.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}
الناس اسم جنس ، والاشتقاق فيه غير قوي. وقيل سمي الإنس إنساً لظهوره فعلى هذه الإشارة : يا مَنْ ظهرتم عن كتم العَدَم بحكم تكليفي ، ثم خصصتُ مَنْ شئتُ منكم بتشريفي ، وحرمتُ من شئت منكم هدايتي وتعريفي ، ونقلتكم إلى ما شئتُ بل أوصلتكم إلى ما شئت بحكم تصريفي.
ويقال لم أُظْهِرٍ منَ العَدَمِ أمثالكم ، ولم أُظْهِرْ على أحدٍ ما أظْهَرٍتُ عليكم من أحوالكم.
ويقال سمِّيتَ إنساناً لنسيانك ، فإن نسيتني فلا شيء أَخَس منك ، وإنْ نسيت ذكري فلا أحد أَحَط منك.
ويقال من نَسِيَ الحق فلا غاية لمحنته ، ومن نسي الخَلْقَ فلا نهاية لعلوِّ حالته.(19/399)
ويقال يقول للمُذْنِبين ، يا مَنْ نسِيتَ عهدي ، ورفضتَ ودي ، وتجاوزت حدِّي حانَ لك أن ترجع إلى بابي ، لتستحقَّ لطفي وإيجابي. ويقول للعارفين يا مَنْ نسيت فينا حظَّكَ ، وصُتَ عن غيرنا لَحْظَكَ ولَفْظَك - لقد عظُم علينا حَقُّك ، وَوَجَبَ لدينا نصرُك ، وجلَّ عندنا قَدْرُك.
ويقال يا من أَنِستَ بنسيم قرْبي ، واستروحتَ إلى شهود وجهي ، واعتززت بجلال قَدْري - فأنت أجلُّ عبادي عندي.
قوله : { اتَّقُوا رَبَّكُمْ } : التقوى جماع الطاعات ، وأوله ترك الشِّرْكِ وآخره اتقاء كل غير ، وأولُ الأغيار لك نفسُكَ ، ومَنْ اتَّقَى نفسه وقف مع الله بلا مقام ولا شهود حال ، و( وقف ) لله.. لا لشهود حظِّ في الدنيا والعقبى.
قوله : { الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } : وهو آدم عليه السلام ، وإذا كنا مخلوقين منه وهو مخلوق باليد فنحن أيضاً كذلك ، لمَّا ظهرت مزية آدم عليه السلام به على جميع المخلوقين والمخلوقات فكذلك وصفُنا ، قال تعالى : { أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةْ } [ البيّنة : 7 ].
ولفظ " النفس " للعموم والعموم يوجب الاستغراق.
قوله : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } : حَكَمَ الحقُّ - سبحانه - بمساكنة الخلق مع الخلق لبقاء النسل ، ولردِّ المِثْل إلى المِثْل فربَطَ الشكلَ بالشكلِ.
قوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً } : تعرَّف إلى العقلاء على كمال القدرة بما ألاح من براهين الربوبية ودلالات الحكمة ؛ حيث خَلق جميع هذا الخلق من نسل شخصٍ واحدٍ ، على اختلاف هيئتهم ، وتفاوت صورهم ، وتباين أخلاقهم ، وإن اثنين منهم لا يتشابهان ، فلكلٍ وجه في الصورة والخلق ، والهمة والحالة ، فسبحان من لا حدَّ لمقدوراته ولا غاية لمعلوماته.
ثم قال : { واتَّقُوا اللهَ } تكريرالأمر بالتقوى يدلُّ على تأكيد حكمه.
وقوله : { تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ } : أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها ، فَمَنْ قَطَعَ الرحمَ قُطِع ، ومَنْ وَصَلَها وَصَل.
{ إنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } : مطلعاً شهيداً ، يعدُ عليك أنفاسكَ ، ويرى حواسَك ، وهو مُتَوَّلٍ خطراتِك ، ومنشئٌ حركاتِك وسكناتِك. ومَنْ عَلِمَ أنه رقيب عليه فبالحريِّ أن يستحيَ منه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 311 ـ 312}(19/400)
كلام نفيس فى المراقبة
قال العلامة ابن جزى عليه رحمة الله :
{إن الله كان عليكم رقيبا}
إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها استفاد مقام المراقبة وهو مقام شريف أصله علم وحال ثم يثمر حالين
أما العلم فهو معرفة العبد لأن الله مطلع عليه ناظر إليه يرى جميع أعماله ويسمع جميع أقواله ويعلم كل ما يخطر على باله وأما الحال فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه ولا يكفي العلم دون هذه الحال فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين الحياء من الله وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات وكانت ثمرتها عند المقربين الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فقوله أن تعبد الله كأنك تراه إشارة إلى الثمرة الثانية وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم كمن يشاهد ملكا عظيما فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة(19/401)
وقوله : فإن لم تكن تراه فإنه يراك إشارة إلى الثمرة الأولى ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقربين فاعلم أنه يراك فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى رأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه فنزل عنه إلى المقام الآخر واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك ثم بعد المشارطة والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه فإن وجد نفسه قد أوفى بما عهد عليه الله حمد الله وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة ونقص عهد المرابطة عاقب النفس عقابا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة ثم اختبر بالمحاسبة فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى. أ هـ {التسهيل لعلوم التنزيل حـ 1 صـ 128 ـ 129}
وقال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ فى منزلة المراقبة :
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المراقبة
(19/402)
قال الله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [ البقره : 235 ] وقال تعالى {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} [ الأحزاب : 52 ] وقال تعالى : {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [ الحديد : 4 ] وقال تعالى : {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [ العلق : 14 ] وقال تعالى : {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [ الطور : 48 ] وقال تعالى : {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [ غافر : 19 ] إلى غير ذلك من الآيات وفي حديث جبريل عليه السلام : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال له : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه فاستدامته لهذا العلم واليقين : هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين والغافل عن هذا بمعزل عن حال أهل البدايات فكيف بحال المريدين فكيف بحال العارفين
قال الجريري : من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة : لم يصل إلى الكشف والمشاهدة وقيل : من راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه
وقيل لبعضهم : متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة فقال : إذا علم أن عليه رقيبا وقال الجنيد : من تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه لا غير وقال ذو النون : علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله وتعظيم ما عظم الله وتصغير ما صغر الله
وقيل : الرجاء يحرك إلى الطاعة والخوف يبعد عن المعاصي والمراقبة تؤديك إلى طريق الحقائق وقيل : المراقبة مراعاة القلب لملاحظة الحق مع كل خطرة وخطوة
(19/403)
وقال الجريري : أمرنا هذا مبني على فصلين : أن تلزم نفسك المراقبة لله وأن يكون العلم على ظاهرك قائما
وقال إبراهيم الخواص : المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز وجل وقيل : أفضل ما يلزم الإنسان نفسه في هذه الطريق : المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم
وقال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري : إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ولنفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله يراقب باطنك
وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر : سبب لحفظها في حركات الظواهر فمن راقب الله في سره : حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته والمراقبة هي التعبد باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها : حصلت له المراقبة والله أعلم
فصل قال صاحب المنازل : المراقبة : دوام ملاحظة المقصود وهي على ثلاث
درجات الدرجة الأولى : مراقبة الحق تعالى في السير إليه على الدوام بين تعظيم مذهل ومداناة حاملة وسرور باعث فقوله : دوام ملاحظة المقصود أي دوام حضور القلب معه وقوله بين تعظيم مذهل فهو امتلاء القلب من عظمة الله عز وجل
بحيث يذهله ذلك عن تعظيم غيره وعن الالتفات إليه فلا ينسى هذا التعظيم عند حضور قلبه مع الله بل يستصحبه دائما فإن الحضور مع الله يوجب أنسا ومحبة إن لم يقارنهما تعظيم أورثاه خروجا عن حدود العبودية ورعونة فكل حب لا يقارنه تعظيم المحبوب : فهو سببا للبعد عنه والسقوط من عينه فقد تضمن كلامه خمسة أمور : سير إلى الله واستدامة هذا السير وحضور القلب معه وتعظيمه والذهول بعظمته عن غيره
وأما قوله : ومداناة حاملة يريد دنوا وقربا حاملا على هذه الأمور الخمسة وهذا الدنو يحمله على التعظيم الذي يذهله عن نفسه وعن غيره فإنه كلما ازداد قربا من الحق ازداد له تعظيما وذهولا عن سواه وبعدا عن الخلق(19/404)
وأما السرور الباعث فهو الفرحة والتعظيم واللذة التي يجدها في تلك المداناة فإن سرور القلب مع الله وفرحه به وقرة العين به لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا ألبتة وليس له نظير يقاس به وهو حال من أحوال أهل الجنة حتى قال بعض العارفين : إنه لتمر بي أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله عز وجل وبذل الجهد في طلبه وابتغاء مرضاته ومن لم يجد هذا السرور ولا شيئا منه فليتهم إيمانه وأعماله فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نورا يجد به حلاوة الإيمان وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذوق طعم الإيمان ووجد حلاوته فذكر الذوق والوجد وعلقه بالإيمان فقال : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا" وقال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"
(19/405)
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا فاتهمه فإن الرب تعالى شكور يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول والقصد : أن السرور بالله وقربه وقرة العين به تبعث على الازدياد من طاعته وتحث على الجد في السير إليه قال : الدرجة الثانية مراقبة نظر الحق إليك برفض المعارضة بالإعراض عن الاعتراض ونقض رعونة التعرض هذه مراقبة لمراقبة الله لك فهي مراقبة لصفة خاصة معينة وهي توجب صيانة الباطن والظاهر فصيانة الظاهر : بحفظ الحركات الظاهرة وصيانة الباطن : بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة التي منها رفض معارضة أمره وخبره فيتجرد الباطن من كل شهوة وإرادة تعارض أمره ومن كل إرادة تعارض إرادته ومن كل شبهة تعارض خبره ومن كل محبة تزاحم محبته وهذه حقيقة القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله به وهذا هو حقيقة تجريد الأبرار المقربين العارفين وكل تجريد سوى هذا فناقص وهذا تجريد أرباب العزائم
ثم بين الشيخ سبب المعارضة وبماذا يرفضها العبد فقال بالإعراض عن الاعتراض فإن المعارضة تتولد من الاعتراض والاعتراض ثلاثة أنواع سارية في الناس والمعصوم من عصمه الله منها النوع الأول : الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة التي يسميها أربابها قواطع عقلية وهي في الحقيقة خيالات جهلية ومحالات ذهنية اعتراضوا بها على أسمائه وصفاته عز وجل وحكموا بها عليه ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله وأثبتوا ما نفاه ووالوا بها أعداءه ووعادوا بها أولياءه وحرفوا بها الكلم عن مواضعه ونسوا بها نصيبا كثيرا مما ذكروا به وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون
(19/406)
والعاصم من هذا الاعتراض : التسليم المحض للوحي فإذا سلم القلب له : رأى صحة ما جاء به وأنه الحق بصريح العقل والفطرة فاجتمع له السمع والعقل والفطرة وهذا أكمل الإيمان ليس كمن الحرب قائم بين سمعه وعقله وفطرته
النوع الثاني : الاعتراض على شرعه وأمره وأهل هذا الاعتراض : ثلاثة أنواع
أحدها : المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى وتحريم ما أباحه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما أسقطه وإبطال ما صححه وتصحيح ما أبطله واعتبار ما ألغاه وإلغاء ما اعتبره وتقييد ما أطلقه وإطلاق ما قيده وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها والتحذير منها وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض وحذروا منهم ونفروا عنهم
النوع الثاني : الاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله
وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفوس الجاهلة
والعجب أن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ وكل ما هم فيه فحظ ولكن حظهم حظ متضمن مخالفة مراد الله والإعراض عن دينه واعتقاد أنه قربة إلى الله فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات المعترفين بذمها المستغفرين منها المقرين بنقصهم وعيبهم وأنها منافية للدين وهؤلاء في حظوظ اتخذوها دينا وقدموها على شرع الله ودينه واغتالوا بها القلوب واقتطعوها عن طريق الله فتولد من معقول أولئك وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة وأذواق هؤلاء خراب العالم وفساد الوجود وهدم قواعد الدين وتفاقم الأمر وكاد لولا أن الله ضمن أنه لا يزال يقوم به من يحفظه ويبين معالمه ويحميه من كيد من يكد
(19/407)
النوع الثالث : الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله وحكموا بها بين عباده وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده
فقال الأولون : إذا تعارض العقل والنقل : قدمنا العقل وقال الآخرون : إذا تعارض الأثر والقياس : قدمنا القياس وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد : إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع : قدمنا الذوق والوجد والكشف
وقال أصحاب السياسة : إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه فهؤلاء يقولون : لكم النقل ولنا العقل والآخرون يقولون : أنتم أصحاب آثار وأخبار ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار وأولئك يقولون : أنتم أرباب الظاهر ونحن أهل الحقائق والآخرون يقولون : لكم الشرع ولنا السياسة
فيا لها من بلية عمت فأعمت ورزية رمت فأصمت وفتنة دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون وأهوية عصفت فصمت منها الآذان وعميت منها العيون عطلت لها والله معالم الأحكام كما نفيت لها صفات ذي الجلال والإكرام واستند كل قوم إلى ظلم وظلمات آرائهم وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم وصار لأجلها الوحي عرضة لكل تحريف وتأويل والدين وقفا على كل إفساد وتبديل النوع الرابع : الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره وهذا اعتراض الجهال وهو ما بين جلي وخفي وهو أنواع لا تحصى وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله لرأى ذلك في قلبه عيانا فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفسا قد اطمأنت إليه وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها فتلك حظها التسليم والانقياد والرضى كل الرضاء
(19/408)
وأما نقض رعونة التعرض فيشير به إلى معنى آخر لا تتم المراقبة عنده إلا بنقضه وهو إحساس العبد بنفسه وخواطره وأفكاره حال المراقبة والحضور مع الله فإن ذلك تعرض منه لحجاب الحق له عن كمال الشهود لأن بقاء العبد مع مداركه وحواسه ومشاعره وأفكاره وخواطره عند الحضور والمشاهدة : هو تعرض للحجاب فينبغي أن تتخلص مراقبة نظر الحق إليك من هذه الآفات وذلك يحصل بالاستغراق في الذكر فتذهل به عن نفسك وعما منك لتكون بذلك متهيئا مستعدا للفناء عن وجودك وعن وجود كل ما سوى المذكور سبحانه وهذا التهيؤ والاستعداد : لا يكون إلا بنقض تلك الرعونة والذكر يوجب الغيبة عن الحس فمن كان ذاكرا لنظر الحق إليه من إقباله عليه ثم أحس بشيء من حديث نفسه وخواطره وأفكاره : فقد تعرض واستدعى عوالم نفسه واحتجاب المذكور عنه لأن حضرة الحق تعالى لا يكون فيها غيره
وهذه الدرجة لا يقدر عليها العبد إلا بملكة قوية من الذكر وجمع القلب فيه بكليته على الله عز وجل
فصل : قال : الدرجة الثالثة : مراقبة الأزل بمطالعة عين السبق استقبالا لعلم التوحيد ومراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد ومراقبة الإخلاص من ورطة المراقبة(19/409)
قوله : مراقبة الأزل أي شهود معنى الأزل وهو القدم الذي لا أول له بمطالعة عين السبق أي بشهود سبق الحق تعالى لكل ما سواه إذ هو الأول الذي ليس قبله شيء فمتى طالع العبد عين هذا السبق شهد معنى الأزل وعرف حقيقته فبدا له حينئذ علم التوحيد فاستقبله كما يستقبل أعلام البلد وأعلام الجيش ورفع له فشمر إليه وهو شهود انفراد الحق بأزليته وحده وأنه كان ولم يكن شيء غيره ألبتة وكل ما سواه فكائن بعد عدمه بتكوينه فإذا عدمت الكائنات من شهوده كما كانت معدومة في الأزل فطالع عين السبق وفني بشهود من لم يزل عن شهود من لم يكن فقد استقبل علم التوحيد وأما مراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد فقد تقدم أن ما يظهر فى الأبد : هو عين ما كان معلوما في الأزل وأنه إنما تجددت أحايينه وهي أوقات ظهوره فقد ظهرت إشارات الأزل وهي ما يشير إليه العقل بالأزلية من المقدرات العلمية على أحايين الأبد هذا معناه الصحيح عندي والقوم يريدون به معنى آخر : وهو اتصال الأبد بالأزل في الشهود وذلك بأن يطوى بساط الكائنات عن شهوده طيا كليا ويشهد استمرار وجود الحق سبحانه وحده مجردا عن كل ما سواه فيصل بهذا الشهود الأزل بالأبد ويصيران شيئا واحدا وهو دوام وجوده سبحانه بقطع النظر عن كل حادث
والشهود الأول أكمل وأتم وهو متعلق بأسمائه وصفاته وتقدم علمه بالأشياء ووقوعها في الأبد مطابقة لعلمه الأزلي فهذا الشهود يعطي إيمانا ومعرفة وإثباتا للعلم والقدرة والفعل والقضاء والقدر
(19/410)
وأما الشهود الثاني : فلا يعطي صاحبه معرفة ولا إيمانا ولا إثباتا لاسم ولا صفة ولا عبودية نافعة وهو أمر مشترك يشهده كل من أقر بالصانع من مسلم وكافر فإذا استغرق في شهود أزليته وتفرده بالقدم وغاب عن الكائنات : اتصل في شهوده الأزل بالأبد فأي كبير أمر في هذا وأي إيمان ويقين يحصل به ونحن لا ننكر ذوقه ولا نقدح في وجوده وإنما نقدح في مرتبته وتفضيله على ما قبله من المراقبة بحيث يكون لخاصة الخاصة وما قبله لمن هم دونهم فهذا عين الوهم والله الموفق
فإذا اتصل في شهود الشاهد : الأزل الذي لا بداية له بالأزمنة التي يعقل لها بداية وهي أزمنة الحوادث ثم اتصل ذلك بما لا نهاية له بحيث صارت الأزمنة الثلاثة واحدا لا ماضي فيه ولا حاضر ولا مستقبل وذلك لا يكون إلا إذا شهد فناء الحوادث فناء مطلقا وعدمها عدما كليا وذلك تقدير وهمي مخالف للواقع وهو تجريد خيالي يوقع صاحبه في بحر طامس لا ساحل له وليل دامس لا فجر له
فأين هذا من مشهد تنوع الأسماء والصفات وتعلقها بأنواع الكائنات وارتباطها بجميع الحادثات وإعطاء كل اسم منها وصفة حقها من الشهود والعبودية والنظر إلى سريان آثارها في الخلق والأمر والعالم العلوي والسفلي والظاهر والباطن ودار الدنيا ودار الآخرة وقيامه بالفرق والجمع في ذلك علما ومعرفة وحالا ! والله المستعان
قوله : ومراقبة الإخلاص من ورطة المراقبة يشير إلى فناء شهود المراقب عن نفسه وما منها وأنه يفني بمن يراقبه عن نفسه وما منها فإذا كان باقيا بشهود مراقبته : فهو في ورطتها لم يتخلص منها لأن شهود المراقبة لا يكون إلا مع بقائه والمقصود : إنما هو الفناء والتخلص من نفسه ومن صفاتها وما منها
وقد عرفت أن فوق هذا درجة أعلى منه وأرفع وأشرف وهي مراقبة مواقع رضى الرب ومساخطه في كل حركة والفناء عما يسخطه بما يحب والتفرق له وبه وفيه ناظرا إلى عين جمع العبودية فانيا عن مراده من ربه مهما ولو علا بمراد ربه منه والله سبحانه وتعالى أعلم. أ هـ {مدارج السالكين حـ 2 صـ 65 ـ 74}(19/411)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى:"يا أيها اللناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" وفى سورة الأعراف:"هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها" وفى سورة الزمر:"خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها" فيها ثلاث سؤالات،
أحدها: الفرق بين الخلق والجعل، والثانى:وجه تخصيص الأخيرتين بجعل والأولى بخلق، والثالث: وجه ورود ثم فى آية الزمر عوضا عن الواو.
والجواب عن الأول أن العبارة بخلق واردة على ما ينبغى وطابقة للمعنى المقصود وهو المراد بجعل إلا أن جعل ثانية عنها لتوقف الجعل على ما يتقدمه لأن العبارة بخلق تكون عند المتسرعين عن عدم سابق حيث لا تتقدم مادة ولا سبب محسوس واستيفاء الكلام هنا وتحرير التمثيل يطول وله مظان.
وأما الجعل فيتوقف على موجود مغاير للمجعول يكون منه المجعول أو عنه كالمادة والسبب، ولا يرد فى الكتاب العزيز لفظ جعل فى الأكثر مرادا به الخلق إلا حيث يكون فيله ما يكون عنه الجعل أو منه سببا فيه محسوسا عنه يكون ذلك المخلوق الثانى، بخلاف خلق فإن العبارة تقع كثيرا به عما لم يتقدم وجوده وجود مغاير يكون عنه الثانى، وقل ما تقع واحدة من العبارتين فى القرآن على خلاف ما ذكرناه، قال تعالى:"الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور".
وإنما الظلمات والنور عن أجرام توجد بوجودها وتعدم بعدمها(19/412)
أما السماوات والأرض فليست كذلك أعنى أنها لا ترتبط بموجود حادث توجد بوجوده وتعدم بعدمه وإن قلنا بتقدم مادة حسبما ورد فى القرآن فى قوله تعالى:"ثم استوى إلى السماء وهى دخان" فى الخبر المذكور فى خلقها وقال تعالى:"وهو الذى مد الأرض وجعل فيها رواسى وأنهارا"، وقال تعالى:"وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون"، وفى هذه الآية والمتصلة بها قبلها شوب تصيير لتقارب المعنى فى التصيير وما يكون عن المادة فقد لاح الفرق بين خلق وجعل ووجه تخصيص كل آية مما تقدم بالوارد فيها. وأما ورود جعل فى آية الأعراف فى قوله تعالى:"وجعل منها زوجها" فلما قصد هنا من معنى السكن وكأنه أريد نفى المغايرة تقريبا وتأنيسا لحصول الركون والسكن الذى جعله الله من آياته ونعمه لتستحكم سببية التناسل والتكثير فكانت جعل أوقع فى هذا الغرض ثم إن الخبر وارد بخلق حواء من ضلع آدم فهذا نحو من المتقدم فى سورة الأنعام وعبر فى سورة النساء بخلق لمقصود الآية من التعريف بالأولية والابتداء ولمناسبة ما اتصل بها من قوله"خلقكم" حتى يوافقه من اللفظ ما قصد من المعنى.
وأما الجواب عن السؤال الثالث وهو زيادة"ثم" فى سورة الزمر فلما قصد من الامتنان والإنعام على الجنس الآدمى ولتفاوت ما بين الآيتين العجيبتين من خلق الصنف الإنسانى من شخص واحد وخلق زوجه فجئ بثم المنبهة على معنى الاعتناء بذكر ما عطف بها والتأكيد لشأنه للمزية على المعطوف عليه القائمة مقام التراخى فى الزمان.(19/413)
قال الزمخشرى : فإن قلت ما معنى قوله"ثم جعل منها زوجها" وما تعطيه من معنى التراخى؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التى عددها دالا على وحدانيته وقدرته وهما تشعب هذا الخلق الفائت للحصر وانتشاره من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة والأخرى لم يجر بها العادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل فكانت أدخل فى كونها آية وأجلب لعجب السامع فعطفها بثم على الآية الأولى للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهو من التراخى فى الحال والمنزلة لا من التراخى فى الوجود.
قلت وعلى هذا المأخذ يسقط الاعتراض بأن ثم قد تجرى مجرى الواو فلا تقتضى الترتيب الزمانى لزوما أما إذا قلنا إنها ترد لقصد التفاوت والتراخى الزمانى لزوما ولا تحتاج إلى انفصال عن ذلك الاعتراض ولا أن تقول: إن ثم قد تكون بمعنى الواو قلت ومن ورود ثم لما ذكرنا من تراخى الرتبة قوله جل وتعالى:"وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى" قال الزمخشرى: ومنه قوله تعالى:"إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا". وكلمة التراخى دلت على ثبات المنزلتين دلالتهما على تباين المرتبتين فى جاءنى زيد ثم عمرو ؟أعنى أن منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه لأنها أعلى منها وأفضل ومنه قوله تعالى:"إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر"، قال الزمخشرى :
إن قلت ما معنى ثم الداخلة فى تكرير الدعاء قلت: الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ونحوه قوله:
ألا ياسلمى ثم اسلمى ثمت اسلمى(19/414)
أنشده النحويون على إلحاق تاء التأنيث بثم وأنشده الزمخشرى ومثل ذلك:"ثم كان من الذين آمنوا" قال: جاء بثم لتراخى الإيمان وتباعده فى الرتبة والفضيلة عن العتق والصدق لا فى الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به.
فثم حيث لا يقصد مهلة الزمان تحرز تنبيها على حال ما يعطف بها ومحله والإشارة إلى أنه بحيث أنه لو لم يذكر ما قبله لكان كافيا فى المقصود هذا ما تحصله حيث لا يقصد مهلى الزمان فلما قصد فى آية الزمر الإنعام والامتنان وتعداد ذلك تعظيما وتفخيما ورد بثم، فقال تعالى:"خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزاوج".
فإن قلت: فقد كان الوجه على هذا أن لو قيل: ثم أنزل لكم من الأنعام قلت: هذه نعمة لا تفتقر لبيان أمرها إلى التنبيه بثم وليست موضع تغفل أو تخف وإنما موضع ثم حيث يراد الاعتناء والتنبيه على قدر المعطوف بها لاحتمال أن يخفى فإذا كان غير خاف وبين الاستقلال بنفسه لم يفتقر إلى هذا ومن حيث قصد معنى الامتنان كانت"جعل" أولى لما تقدم من معناها، فقد وضح ورود كل آية من الثلاث على ما يناسب المقصود من كل واحدة. أ هـ {ملاك التأويل حـ 1 صـ 131 ـ 132}(19/415)
قوله تعالى { وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بان من هذا تعظيمه لصلة الرحم بجعلها في سياق ذكره سبحانه وتعالى المعبر عنه باسمه الأعظم - كما فعل نحو ذلك في غير آية ، وكان قد تقدم في السورة الماضية ذكر قصة أحد التي انكشفت عن أيتام ، ثم ذكر في قوله تعالى : {كل نفس ذائقة الموت} [ آل عمران : 185 ] ، أن الموت مشرع لا بد لكل نفس من وروده ؛ علم أنه له بد من وجود الأيتام في كل وقت ، فدعا إلى العفة والعدل فيهم لأنهم بعد الأرحام أولى من يتقى الله فيه ويخشى مراقبته بسببه فقال : {وآتوا اليتامى} أي الضعفاء الذين انفردوا عن آبائهم ، وأصل اليتيم الانفراد {أموالهم} أي هيئوها بحسن التصرف فيها لأن تؤتوهم إياها بعد البلوغ - كما يأتي ، أو يكون الإيتاء حقيقة واليتم باعتبار ما كان.
أو باعتبار الاسم اللغوي وهو مطلق الانفراد ، وما أبدع إيلاءها للآية الآمرة بعد عموم تقوى الله بخصوصها في صلة الرحم المختتمة بصفة الرقيب! لما لا يخفى من أنه لا حامل على العدل في الأيتام إلا المراقبة ، لأنه لا ناصر لهم ، وقد يكونون ذوي رحم.(19/416)
ولما أمر بالعفة في أموالهم أتبعه تقبيح الشره الحامل للغافل على لزوم المأمور به فقال : {ولا تتبدلوا} أي تكلفوا أنفسكم أن تأخذوا على وجه البدلية {الخبيث} أي من الخباثة التي لا أخبث منها ، لأنها تذهب بالمقصود من الإنسان ، فتهدم - جميع أمره {بالطيب} أي الذي هو كل أمر يحمل على معالي الأخلاق الصائنة للعرض ، المعلية لقدر الإنسان ؛ ثم بعد هذا النهي العام نوّه بالنهي عن نوع منه خاص ، فقال معبراً بالأكل الذي كانت العرب تذم بالإكثار منه ولو أنه حلال طيب ، فكيف إذا كان حراماً ومن مال ضعيف مع الغنى عنه : {ولا تأكلوا أموالهم} أي تنتفعوا بها أيّ انتفاع كان ، مجموعة {إلى أموالكم} شرهاً وحرصاً وحباً في الزيادة من الدنيا التي علمتم شؤمها وما أثرت من الخذلان في آل عمران ، وعبر بإلى إشارة إلى تضمين الأكل معنى الضم تنبيهاً على أنها متى ضمت إلى مال الولي أكل منها فوقع في النهي ، فحض بذلك على تركها محفوظة على حيالها ؛ ثم علل ذلك بقوله : {إنه} أي الأول {كان حوباً} أي إثماً وهلاكاً {كبيراً }. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 207 ـ 208}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه لما افتتح السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف الله سبحانه ، محترزا عن مساخطه ، شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف.
فالنوع الأول : ما يتعلق بأموال اليتامى ، وهو هذه الآية ، وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام ، فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام ، لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الإشفاق عليهم ، ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال : {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 136}(19/417)
وقال الآلوسى :
{ وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } شروع في تفصيل موارد الاتقاء على أتم وجه ؛ وبدأ بما يتعلق باليتامى إظهاراً لكمال العناية بشأنهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأوصياء والأولياء وقلما تفوض الوصاية لأجنبي. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 185}
وقال ابن عاشور :
مناسبة عطف الأمر على ماقبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام ، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم ، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 12}
فصل
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" : اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم ، واليتم الانفراد ، ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة ، وقيل : اليتم في الأناسي من قبل الآباء ، وفي البهائم من قبل الأمهات.
قال : وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء ، إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال ، فإذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره ، زال عنه هذا الاسم ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يتيم أبي طالب ، إما على القياس ، وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يتم بعد حلم " فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة ، يعني إذا احتلم فإنه لا تجرى عليه أحكام الصغار.(19/418)
وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه ؟ فكتب إليه : إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه ، وفي بعض الروايات : أن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد ، فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد ، ثم قال أبو بكر : واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تستأمر اليتيمة" وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة ، قال الشاعر :
إن القبور تنكح الأيامى.. النسوة الأرامل اليتامى
فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير ، إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 136}
سؤال : كيف جمع اليتيم على يتامى ؟ واليتيم فعيل ، والفعيل يجمع على فعلى ، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى وجريح وجرحى ، قال صاحب "الكشاف" : فيه وجهان :
أحدهما : أن يقال : جمع اليتيم يتمى ، ثم يجمع فعلى على فعالى ، كأسير وأسرى وأسارى ، والثاني : أن يقال : جمع يتيم يتائم ، لأن اليتيم جار مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس ، ثم يقلب اليتائم يتامى.
قال القفال رحمه الله : ويجوز يتيم ويتامى ، كنديم وندامى ، ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 136 ـ 137}(19/419)
سؤال ثان : وهو أنا ذكرنا أن اسم اليتيم مختص بالصغير ، فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله إليه ، وإذا صار كبيراً بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما ، فكيف قال : {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} والجواب عنه على طريقين : الأول : أن نقول المراد من اليتامى الذين بلغوا أو كبروا ثم فيه وجهان : أحدهما : أنه تعالى سماهم يتامى على مقتضى أصل اللغة ، والثاني : أنه تعالى سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليتم وإن كان قد زال في هذا الوقت كقوله تعالى : {فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين} [ الأعراف : 120 ] أي الذين كانوا سحرة قبل السجود ، وأيضاً سمى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة ، بلوغ الأجل في قوله : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [ الطلاق : 2 ] والمعنى مقاربة البلوغ ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى : {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} [ النساء : 6 ] والإشهاد لا يصح قبل البلوغ وإنما يصح بعد البلوغ.
الطريق الثاني : أن نقول : المراد باليتامى الصغار ، وعلى هذا الطريق ففي الآية وجهان :
أحدهما : أن قوله : {وآتُواْ} أمر ، والأمر إنما يتناول المستقبل ، فكان المعنى أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم ، وعلى هذا الوجه زالت المناقضة.
والثاني : المراد : وآتوا اليتامى حال كونهم يتامى ما يحتاجون إليه لنفقتهم وكسوتهم ، والفائدة فيه أنه كان يجوز أن يظن أنه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال كونه صغيرا ، فأباح الله تعالى ذلك ، وفيه إشكال وهو أنه لو كان المراد ذلك لقال : وآتوهم من أموالهم ، فلما أوجب إيتاءهم كل أموالهم سقط ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 137}(19/420)
فصل
قال الفخر :
نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم} [ البقرة : 220 ] قال أبو بكر الرازي : وأظن أنه غلط من الراوي ، لأن المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى ، وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [ البقرة : 152 ] و{إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [ النساء : 10 ] ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فاشتد ذلك على اليتامى ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وإن تخالطوهم فاخوانكم} فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.(19/421)
قال المفسرون : الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان ، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه ، فتراجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير ، ودفع ماله إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره " أي جنته ، فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثبت الأجر وبقي الوزر " فقالوا : يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر ، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله ؟ فقال : ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 137}
فصل
قال الفخر :
احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه ، لا يحجر عليه بعد الخمس والعشرين ، قال لأن قوله : {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ترك العمل به قبل الخمس والعشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن ، شرط في وجوب دفع المال إليه ، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن ، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية.
أجاب أصحابنا عنه : بأن هذه الآية عامة ، لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة ، ثم إنهم ميزوا بعد ذلك بقوله : {وابتلوا اليتامى} [ النساء : 6 ] وبقوله : {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} [ النساء : 5 ] حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 138}
قوله تعالى {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب }
فصل
قال الفخر :
في تفسير هذا التبدل وجوه :(19/422)
الوجه الأول : قال الفراء والزجاج : لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى ، بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض ، فتأكلوه مكانه.
الثاني : لا تستبدلوا الأمر الخبيث ، وهو اختزال أموال اليتامى ، بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها وهو قول الأكثرين أنه كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الدون ، يجعل الزائف بدل الجيد ، والمهزول بدل السمين ، وطعن صاحب "الكشاف" في هذا الوجه ، فقال : ليس هذا بتبدل إنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي.
الرابع : هو أن هذا التبدل معناه : أن يأكلوا مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك ، وفي هذا يكون متبدلا الخبيث بالطيب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 138}
قال ابن عاشور :
والخبيث والطيّب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي ، وهما استعارتان ؛ فالخبيث المذموم أو الحرام ، والطيّب عكسه وهو الحلال : وتقدّم في قوله تعالى : { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } في البقرة ( 168 ).
فالمعنى : ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام ، فالمنهي عنه هنا هو ضدّ المأمور به من قبل تأكيداً للأمر ، ولكنّ النهي بيَّن ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر ، وهذا الوجه ينبىء عن جعل التبدّل مجازاً والخبيث والطيّب كذلك ، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال.
وعن السديّ ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 14}
قوله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم}
قال الفخر :
{وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم}(19/423)
فيه وجهان : الأول : معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الإنفاق حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها.
والثاني : أن يكون "إلى" بمعنى "مع" قال تعالى : {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} [ آل عمران : 52 ] أي مع الله ، والأول : أصح.
واعلم أنه تعالى وإن ذكر الأكل ، فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم ، فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة ، والدليل عليه أن في المال ما لا يصح أن يؤكل ، فثبت أن المراد منه التصرف ، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف.
فإن قيل : إنه تعالى لما حرم عليهم أكل أموال اليتامى ظلما في الآية الأولى المتقدمة دخل فيها أكلها وحدها وأكلها مع غيرها ، فما الفائدة في إعادة النهي عن أكلها مع أموالهم ؟
قلنا : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من حلال وهم مع ذلك يطمعون في أموال اليتامى ، كان القبح أبلغ والذم أحق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 138}
وقال ابن عاشور :
وقوله {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمّها إلى أموال أوليائهم ، فينتسق في الآية أمر ونهيان : أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام ، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها ، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول.
والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده ، ولا مطمع في إرجاعه ، وضمّن ( تأكلوا ) معنى تضمّوا فلذلك عدي بإلى أي : لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم.(19/424)
وليس قيد { إلى أموالكم } محطّ النهي ، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقاً سواء كان للآكل مال يَضُمّ إليه مالَ يتيمه أم لم يكن ، ولكن لمّا كان الغالب وجود أموال للأوصياء ، وأنّهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثّر ، ذكر هذا القيد رعياً للغالب ، ولأنّه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنّهم أغنياء ؛ على أنّ التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين ، ولذلك روي : أنّ المسلمين تجنّبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة ( 220 ) : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } فقد فهموا أنّ ضمّ مال اليتيم إلى مال الوصيّ حرام ، مع علمهم بأنّ ذلك ليس مشمولاً للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضمّ.
وهما في فهم العرب نهيان ، وليس هو نهياً عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتاً بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدْوَنُ بصالح لأن يكون مفهوم موافقة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 14}(19/425)
فصل نفيس
قال الآلوسى
والمراد بإيتاء أموالهم تركها سالمة غير متعرض لها بسوء فهو مجاز مستعمل في لازم معناه لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك ، والنكتة في هذا التعبير الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الغرض من ترك التعرض إيصال الأموال إلى من ذكر لا مجرد ترك التعرض لها ، وعلى هذا يصح أن يراد باليتامى الصغار على ما هو المتبادر ، والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء ، وشمول حكمه لأولياء من كان بالغاً عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة ، ويصح أن يراد من جرى عليه اليتم في الجملة مجازاً أعم من أن يكون كذلك عند النزول ، أو بالغاً فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من كف الكف عنها ، وعدم فك الفك لأكلها ، وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به ، وقيل : المراد من الإيتاء الإعطاء بالفعل ، واليتامى إما بمعناه اللغوي الأصلي فهو حقيقة وارد على أصل اللغة ، وإما مجاز باعتبار ما كان أوثر لقرب العهد بالصغر ، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حتى كأن اسم اليتيم باق بعد غير زائل ، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص ، وهو أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر ، وهذا في الكون نظير المشارفة في الأول ، وقيل : يجوز أن يراد باليتامى الصغار ، ولا مجاز بأن يجعل الحكم مقيدا كأنه قيل : وآتوهم إذا بلغوا ، وردّ بأنه قال في "التلويح" : إن المراد من قوله تعالى : { وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } وقت البلوغ باعتبار ما كان ، فإن العبرة بحال النسبة لا بحال التكلم ، فالورود للبلغ على كل حال.(19/426)
وقال بعض المحققين : تقدير القيد لا يغني عن التجوز إذ الحكم على ما عبر عنه بالصفة يوجب اتصافه بالوصف حين تعلق الوصف وحين تعلق الإيتاء به يكون يتيماً فلا بدّ من التأويل بما مر ، وأجيب بأن هذه المسألة وإن كانت مذكورة في "التلويح" لكنها ليست مُسلَّمة ، وقد تردد فيها الشريف في "حواشيه" ، والتحقيق أن في مثل ذلك نسبتين : نسبة بين الشرط والجزاء وهي التعليقية وهي واقعة الآن ، ولا تتوقف على وجودهما في الخارج ، ونسبة إسنادية في كل من الطرفين وهي غير واقعة في الحال بل مستقبلة والمقصود الأولى ، وفي زمان تلك النسبة كانوا يتامى حقيقة ، ألا تراهم قالوا في نحو عصرت هذا الخل في السنة الماضية أنه حقيقة ؟ مع أنه في حال العصر عصير لا خل لأن المقصود النسبة التي هي تبعية فيما بين اسم الإشارة وتابعه لا النسبة الإيقاعية بينه وبين العصر كما حققه بعض الفضلاء وقد مرت الإشارة إليه في أوائل البقرة فتأمله فإنه دقيق.
وقيل : المراد من الإيتاء ما هو أعم من الإيتاء حالاً أو مآلاً ، ومن اليتامى ما يعم الصغار والكبار بطريق التغليب ، والخطاب عام لأولياء الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وإن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع إليه عند بلوغه رشيداً ، ورجح غير واحد الوجه الأول لقوله تعالى بعد آيات : { وابتلوا اليتامى } [ النساء : 6 ] الخ فإنه كالدليل على أن الآية الأولى : في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم ، والثانية : في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد ، ويلوح بذلك التعبير بالإيتاء هنا وبالدفع هناك ، وأيضاً تعقيب هذه الآية بقوله تعالى : (19/427)
{ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم } يقوي ذلك ، فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره ، وأما على سائر الوجوه فيكون مؤدى هذه الآية وما سيأتي بعد كالشيء الواحد من حيث إن فيهما الأمر بالإيتاء حقيقة ، ومن قال بذلك جعل الأولى كالمجملة والثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ وإيناس الرشد ، ويرد على آخر الوجوه أيضاً أن فيه تكلفاً لا يخفى ، ولا يرد على الوجه الراجح أن ابن أبي حاتم أخرج عن سعيد بن جبير أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { وَءاتُواْ اليتامى } الخ ، فإن ذلك يدل على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل لا سيما وقد روى الثعلبي ، والواحدي عن مقاتل ، والكلبي أن العمّ لما سمعها قال : أطعنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله عز وجل من الحوب الكبير لما أنهم قالوا : العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص لسبب ، ولعل العمّ لم يفهم الأمر بالإعطاء حقيقة بطريق العبارة بل بشيء آخر فقال ما قال ، هذا وتبدل الشيء بالشيء واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلاً له أو في شرف الحصول يستعملان أبداً بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان } [ البقرة : 108 ] الخ ، وقوله سبحانه : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 ] وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى : { وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] الخ ، وأخرى بالعكس كما في قولك : بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتماً ، وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وجعلته حلقة ، واقتصر(19/428)
الدميري على الأول ، ونقل الأزهري عن ثعلب الثاني ، ويشهد له قول الطفيل لما أسلم :
وبدل طالعي نحسي بسعدي...
وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى : { فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } [ الفرقان : 70 ] { فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ } [ الكهف : 81 ] بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيراً منه ، ومرة يتعدى إلى مفعول واحد مثل بدلت الشيء أي غيرته ، وقوله تعالى : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا مَا سَمِعَهُ } [ البقرة : 181 ] وذكر الطيبي أن معنى التبديل التغيير وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء ، وفي طلب ما ليس عنده وترك ما عنده ، وهذا معنى قول الجوهري : تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدل ، ومعنى التبدل الاستبدال ، والاستبدال طلب البدل فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل تبدلاً ، وفرق بعضهم بين التبديل والإبدال بأن الأول تغيير الشيء مع بقاء عينه والثاني رفع الشيء ووضع غيره مكانه فيقال : أبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وفيما ذكر كفاية لما نحن بصدده.(19/429)
والمراد بالخبيث والطيب إما الحرام والحلال ، والمعنى لا تستبدلوا أموال اليتامى بأموالكم أو لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهي عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقاً ، أو أكل ماله مكان مالهم المحقق أو المقدر ، وإلى الأول ذهب الفراء والزجاج ، وقيل : المعنى لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال مال اليتيم بالأمر الطيب وهو حفظ ذلك المال وأياً مّا كان فالتعبير عن ذلك بالخبيث والطيب للتنفير عما أخذوه والترغيب فيما أعطوه وإما الرديء والجيد ، ومورد النهي حينئذ ما كان الأوصياء عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الرديء من مال أنفسهم ، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل في مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويضع مكانه الزائف ، ويقول : درهم بدرهم وإلى هذا ذهب النخعي والزهري وابن المسيب ؛ وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها فلا مفهوم لانخرام شرطه عنه القائل به.
واعترض هذا بأن المناسب حينئذ التبديل أو تبدل الطيب بالخبيث على ما يقتضيه الكلام السابق.(19/430)
وأجيب بأنه إذا أعطى الوصي رديئاً وأخذ جيداً من مال اليتيم يصدق عليه أنه تبدل الرديء بالجيد لليتيم وبدل لنفسه ، وظاهر الآية أنه أريد التبدل لليتيم لأن الأوصياء هم المتصرفون في أموال اليتامى فنهوا عن بيع بوكس من أنفسهم ومن غيرهم وما ضاهاه ، ولا يضر تبدل لنفسه أيضاً باعتبار آخر لأن المتبادر إلى الفهم النهي عن تصرف لأجل اليتيم ضار سواء عامل الوصي نفسه أو غيره ، ومن غفل عن اختلاف الاعتبار كالزمخشري أول بما لا إشعار للفظ به ، وعلى العلات المراد من الآية النهي عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهي الضمني عن أخذه على الإطلاق ، والمراد من الأكل في النهي الأخير مطلق الانتفاع والتصرف ، وعبر بذلك عنه لأنه أغلب أحواله ، والمعنى لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم أي تنفقوهما معاً ولا تسووا بينهما ، وهذا حلال وذاك حرام ، فإلى متعلقة بمقدر يتعدى بها ، وقد وقع حالاً ، وقدره أبو البقاء مضافة ، ويجوز تعلقها بالأكل على تضمينه معنى الضم ، واختار بعضهم كونها بمعنى مع كما في "الذود إلى الذود إبل" ، والمراد بالمعية مجرد التسوية بين المالين في الانتفاع أعم من أن يكون على الانفراد ، أو مع أموالهم ، ويفهم من "الكشاف" أن المعية تدل على غاية قبح فعلهم حيث أكلوا أموالهم مع الغنى عنها ، وفي ذلك تشهير لهم بما كانوا يصنعون فلا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها ، ويندفع السؤال بذلك.(19/431)
وأنت تعلم أن السؤال لا يرد ليحتاج إلى الجواب إذا فسر تبدل الخبيث بالطيب باستبدال أموال اليتامى بماله وأكلها مكانه لأنه حينئذ يكون ذلك نهياً عن أكلها وحدها وهذا عن ضمها ، وليس الأول مطلقاً حتى يرد سؤال بأنه أي فائدة في هذا بعد ورود النهي المطلق ، وفي "الكشف" لو حمل الانتهاء في إلى على أصله على أن النهي عن أكلها مع بقاء مالهم لأن أموالهم جعلت غاية لحصلت المبالغة ، والتخلص عن الاعتذار ، وظاهر هذا النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيراً ، وكون ذلك من مال اليتيم مما لا يكاد يخفى ، فالقول بأنه لا حاجة إلى التخصيص لأن ما يأخذه الأولياء من الأجرة فهو ما لهم وليس أكله أكل مالهم مع مالهم لا يخلو عن خفاء. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 186 ـ 188}
قوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى عرف الخلق بعد ذلك أن أكل مال اليتيم من جميع الجهات المحرمة إثم عظيم فقال : {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} قال الواحدي رحمه الله : الكناية تعود إلى الأكل ، وذلك لأن قوله : {وَلاَ تَأْكُلُواْ} دل على الأكل والحوب الإثم الكبير.
قال عليه الصلاة والسلام : " إن طلاق أم أيوب لحوب " وكذلك الحوب والحاب ثلاث لغات في الاسم والمصدر قال الفراء : الحوب لأهل الحجاز ، والحاب لتميم ، ومعناه الإثم قال عليه الصلاة والسلام : " رب تقبل توبتي واغسل حوبتي " قال صاحب "الكشاف" : الحوب والحاب كالقول والقال.
قال القفال : وكأن أصل الكلمة من التحوب وهو التوجع ، فالحوب هو ارتكاب ما يتوجع المرتكب منه ، وقال البصريون : الحوب بفتح الحاء مصدر ، والحوب بالضم الاسم ، والحوبة ، المرة الواحدة ، ثم يدخل بعضها في البعض كالكلام فإنه اسم ، ثم يقال : قد كلمته كلاما فيصير مصدرا.
قال صاحب "الكشاف" : قرأ الحسن حوبا ، وقرىء : حابا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 139}(19/432)
وقال الآلوسى :
{ إنَّهُ } أي الأكل المفهوم من النهي ، وقيل : الضمير للتبدل ، وقيل : لهما وهو منزل منزلة اسم الإشارة في ذلك { كَانَ حُوباً } أي إثماً أو ظلماً وكلاهما عن ابن عباس وهما متقاربان ، وأخرج الطبراني أن رافع بن الأزرق سأله رضي الله تعالى عنه عن الحوب ، فقال : هو الإثم بلغة الحبشة ، فقال : فهل تعرف العرب ذلك ؟ فقال : نعم أما سمعت قول الأعشى :
فإني وما كلفتموني من أمركم...
ليعلم من أمسى أعق { وأحوبا }
وخصه بعضهم بالذنب العظيم ؛ وقرأ الحسن حوباً بفتح الحاء وهو مصدر حاب يحوب حوباً.
وقرىء حاباً وهو أيضاً مصدر كالقول والقال ، وهو على القراءة المشهورة اسم لا مصدر خلافاً لبعضهم ، وتنوينه للتعظيم أي حوباً عظيماً ، ووصف بقوله تعالى : { حُوباً كَبِيراً } للمبالغة في تهويل أمر المنهي عنه كأنه قيل : إنه من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 188 ـ 189}
لطيفة
قال ابن عادل :
قل أبو العباس المقرئ : ورد لفظ " الطيِّب " في القرآن على أربعة أوجه :
الأول : الحلال كهذه الآية.
الثاني : بمعنى الظَّاهر كقوله تعالى : { صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] أي : ظاهراً.
الثالث : بمعنى الحَسَن قال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] أي : الحسن ، ومثله { والطيبات لِلطَّيِّبِينَ } [ النور : 26 ] أي : الكلام الحسن للمؤمنين.
الرابع : الطيِّبَ : المؤمن قال تعالى : { حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } [ آل عمران : 179 ] يعني : الكافر من المؤمن. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 154}.(19/433)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قالوا : إن اليتيم من لا أب له ولا جد ، والإيتاء : الإعطاء قال أبو زيد : أتَوْتُ الرجلَ آتُوه إتاوَةٌ ، وهي الرّشوة.
وقال الزمخشري : الأيتام الذين مات آباؤهم ، وَالايُتْمُ : الانفراد ، ومنه الرملة اليتيمة ، والدُّرة اليتيمة.
وقيل : [ اليتيم ] في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات.
قال : وحق هذا الاسم أن يقع على الضعفاء والكبار لمن يبقى معنى الانفراد عن الآباء ، إلا أنَّ في العرف اختصّ هذا الاسم بمن لم يبلغ ، فإذا صار مستعينً بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافله ، زال عنه هذا الاسم ؛ وكانت قريش تقول لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَتِيم أبي طَالِبٍ ، إمَّا على القياس ، وإما حكاية للحال التي كان عليها حين صغره ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له.
وأما على قوله عليه السلام : " لاَ يتم بَعْدَ بُلُوغ " فهو تعليم للشريعة لا تعليم للغة.
وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه ؟ فكتب إليه : إذا أونِسَ منه الرشد انقطع يتمه.
وفي بعض الروايات : إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعدُ [ فأخبر ابن عباس ] أن اسم اليتيم يلزمه بعد البلوغ ، إذا لم يؤنس منه الرُّشْدُ ، ثم قال أبو بكر : " واسم اليتم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها ".
قال عليه السلام : " تستأمر اليتيمة في نفسها " وهي لا تستمر إلاَّ وهي بالغة.
قال الشاعر : [ الرجز ]
إنَّ الْقُبٌورَ تَنْكِحُ الأيَامى... النِّسْوَةَ ولأرَمِلَ الْيَتَامَى
فالحاصل أنّ اسم اليتيم بحسب اللُّغة يتناول الصغير والكبير.
فإن قيل : كيف جُمِعَ اليتيمُ على يتامى ؟ واليتيم فعيل : فيجمع على فعلى ، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى ، وجريح وجرحى ؟
فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فيه وجهان.(19/434)
أحدهما : أن يقال : إن جمع اليتيم ، يَتْامَى ، ثمّ يجمع فعلى على فَعَالَى كأسير وأسَارِى.
والثاني : أن نقول : جمع اليتيم يتائم ؛ لأن اليتيم جار مجرى الاسم نحو " صاحب " و" فارس " ثم تنقلب " اليتائم " " يتامى ".
قال القفّال : " ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى ، ويجوز أيضاً يتيم وأيتام كشريف وأشراف ".
قوله : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ } وقد تقدَّم في البقرة قوله : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } [ البقرة : 59 ] أنَّ المجرور بالباء هو المتروك ، والمنصوب هو الحاصل ، وتفعل هنا بمعنى استفعل ، وهو كثير ، نحو تَعَجَّل وَتََأَخَّرَ بمعنى استعجل واستأخر ومن مجيء تبدَّلَ بمعنى اسْتَبْدَلَ قولُ ذي الرمة : [ الطويل ]
فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا... عَنِ الدَّارِ وَالمُسْتَخْلَفِ الْمَتِبَدِّلِ
أي : المستبدل.
قل الواحدي : " تبدل الشَّيء بالشيء إذا أخذ مكانه ".
قوله : " بالطّيب ".
هو المفعول الثاني لـ " تتبدلوا ".
قوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } في قوله ثلاثة أوجه :
أحدها : أن " إلى " بمعنى " مع " كقوله : { إِلَى المرافق } [ المائدة : 6 ] ، وهذا رأي الكوفيين.
الثاني : أنها على بابها وهي ومجرورها متعلّقة بمحذوف على أنَّه حال ، أي : مضمومة ، أو مضافة إلى أموالكم.
الثالث : أن يضمَّن " تأكلوا " بمعنى " تضموا " كأنه قيل : ولا تَضمُّوها إلى أموالكم آكلين.
قال الزمخشري : " فإن قلت : قد حَرَّمَ عليهم أكل مال اليتامى ، فدخل فيه أكله وحده ومع أموالهم ، فَلِمَ ورد النهي عن أكلها معها ؟
(19/435)
قلت : " لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله - تعالى - من الحلال ، وهم من ذلك يَطْعمون منها ، كان القبحُ أبلغ والذمُّ ألحق ، ولأنهم كنوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم ، وَنَّعَ بهم ليكون زجر لهم ".
واعلم أنه تعالى ، وَإن ذكر الأكل ، فالمرادُ به سائر التصرفات المملكة للمال ، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع التصرف لأجله.
قوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً } في الهاء ثلاثة أوجه :
حده : أنها تعود على الأكل المفهوم ، من " لا تأكلوا ".
الثَّاني : على التبدُّلِ المفهوم من " لا تَتَبَدَّلُوا الخبيث ".
الثالث : عليهما ذهاباً به مذهب اسم الإشارة نحو : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] ومنه : [ الرجز ]
كأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ... وقد تقدم ذلك في البقرة ، والأول أولى لأنه أقرب مذكور.
وقرأ الجمهور " حُوبً " بضم الحاءِ ، ولحسن بفتحها ، وبعضهم : " حَباً " بالألف ، وهي لغت في المصدر ، والفتح لغة تميم.
ونظير الحوْب والحاب ، والقول والقال ، والطُّرد والطَّرْد - وهو لإثم - وقيل : المضموم اسم مصدر ، [ والمفتوح مصدر ] وصله من حوب الأبل ، وهو زجرها فسُمِّي به لإثم ؛ لأنه يزجر به ، ويطلق على الذَّنب أيضاً ؛ لأنه يزجر عنه ، ومنه قول عليه السلام : " إنَّ طَلاقَ أمِّ أيُّوبَ لَحُوبْ " أي : لذنب عظيم. وقل القرطبي : والحوبُ الوحشة ، ومنه قوله عليه السَّلام أبي أيوب " إن طلاق أم أيوب لحوب ".
قال القفال : وكأن أصل لكلمةِ من لتَّحوُّبِ وهو التَّوجُّعُ ، فالحوبُ هو ارتكاب ما يتوجَّعُ لمرتكبُ منه ، يقال : حَابَ يَحُوب ، حَوْباً ، وحَاباً وحِيابة.
قال المخبل السعدي : [ الطويل ]
فلا يَدْخُلَنَّ الدَّهْرَ قَبْرَكَ حُوبُ... فَإنَّكَ تَلْقَاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ
وقال آخر [ الوافر ]
(19/436)
وإنّ مُهَاجِرَيْنِ تَكَنَّفَاهُ... غَدَاتَئِذٍ لَقَدْ خَطِئَا وَحَابَا
والحَوْبةُ : المرة الواحدة ، والحَوْبَةُ : الحاجة ، ومنه في الدعاء " إليكَ أرفع حَوْبَتِي " ، وأوقْعَ اللهُ الْحَوْبَة ، و" تحوَّب فلان " إذا خرج من الحَوْب كتحرَّج وتَأَثَّمَ ، والتضعيف للسَّلْبِ ، و" الحَوِأب " بهمزة بعد الواو المكان الواسع والحوب الحاجة ، يقال : ألحق اللهُ به الحوبةَ ، أي : [ المسألة ] والحاجة ، والمسكنة ومنه قولهم باب بحيبة سوء ، وأصل الياء الواو ، وتحوَّب فلان أي : تعبد وألقى الحوب عن نفسه ، والتحوُّب أيضاً التحزُّن ، وهو أيضاً الصياحُ الشديد كالزَّجْرِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 150 ـ 156}. بتصرف.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}
مَنْ أُقيم بمحلِّ الرعاية فجاء على رعيَّتِه فَخَصْمُه ربُّه ؛ فإنه - سبحانه - ينتقم لعباده ما لا ينتقم لنفسه. فَوَلِيُّ اليتيم إنْ أَنْصَفَ وأَحْسَنَ فحقُّه على الله ، وإنْ أَساء وتعدَّى فَخَصْمُه اللهُ. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 313}(19/437)
قوله تعالى { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان تعالى قد أجرى سنة الإلهية في أنه لا بد في التناسل من توسط النكاح إلا ما كان من آدم وحواء وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، وكانوا قد أمروا بالعدل في أموال اليتامى ، وكانوا يلون أمور يتاماهم ، وكانوا ربما نكحوا من في حجورهم منهن ، فكان ربما أوقفهم هذا التحذير من أموالهم عن النكاح خوفاً من التقصير في حق من حقوقهن أتبعه تعالى عطفاً على ما تقديره : فإن وثقتم من أنفسكم بالعدل فخالطوهم بالنكاح وغيره : {وإن خفتم} فعبر بأداة الشك حثاً على الورع {ألا تقسطوا} أي تعدلوا {في اليتامى} ووثقتم من أنفسكم بالعدل في غيرهن {فانكحوا }.(19/438)
ولما كانت النساء ناقصات عقلاً وديناً ، عبر عنهن بأداة ما لا يعقل إشارة إلى الرفق بهن والتجاوز عنهن فقال : {ما} ولما أفاد أنكحوا الإذن المتضمن للحل ، حمل الطيب على اللذيذ المنفك عن النهي السابق ليكون الكلام عاماً مخصوصاً بما يأتي من آية المحرمات من النساء - ولا يحمل الطيب على الحل لئلا يؤدي - مع كونه تكراراً - إلى أن يكون الكلام مجملاً - لأن الحل لم يتقدم علمه ، والحمل على العام المخصوص أولى ، لأنه حجة في غير محل التخصيص ، والمجمل ليس بحجة أصلاً - أفاده الإمام الرازي ؛ فقال تعالى : {طاب} أي زال عنه حرج النهي السابق ولذّ ، وأتبعه قيداً لا بد منه بقوله : {لكم} وصرح بما علم التزاماً فقال : {من النساء} أي من غيرهن {مثنى وثلاث ورباع} أي حال كون هذا المأذون في نكاحه موزَّعاً هكذا : ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً لكل واحد ، وهذا الحكم عرف من العطف بالواو ، ولو كان بأو لما أفاد التزوج إلا على أحد هذه الوجوه الثلاثة ، ولم يفد التخيير المفيد للجمع بينها على سبيل التوزيع ، وهذا دليل واضح على أن النساء أضعاف الرجال ، وروى البخاري في التفسير " عن عروة ابن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى : {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} [ النساء : 3 ] ، فقالت : يا ابن أختي! هذه اليتيمة تكون في حجر وليها ، تشركه في ماله ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن ذلك أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ، فأنزل الله عز وجل {ويستفتونك في النساء} [ النساء : 127 ](19/439)
قالت عائشة : وقول الله عز وجل في آية أخرى {وترغبون أن تنكحوهن} [ النساء : 127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال ، قالت : فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهم إذا كن قليلات المال والجمال " وفي رواية " في النكاح " ، فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق ؛ وهذا الخطاب للأحرار دون العبيد ، لأن العبد لا يستقل بنكاح ما طاب له ، بل لا بد من إذن السيد.
ولما كان النساء كالتيامى في الضعف قال مسبباً عن الإذن في النكاح : {فإن خفتم ألا تعدلوا} أي في الجمع {فواحدة} أي فانكحوها ، لأن الاقتصار عليها أقرب إلى العدل لأنه ليس معها من يقسم له فيجب العدل بينها وبينه ولما كان حسن العشرة المؤدي إلى العدل دائراً على اطراح النفس ، وكان الإماء - لكسرهن بالغربة وعدم الأهل - أقرب إلى حسن العشرة سوّى بين العدد منهم إلى غير نهاية وبين الواحدة من الحرائر فقيل : {أو ما} أي انكحوا ما {ملكت أيمانكم} فإنه لا قسم بينهن ، وذكر ملك اليمين يدل أيضاً على أن الخطاب من أوله خاص بالأحرار {ذلك} أي نكاح غير التيامى والتقلل من الحرائر والاقتصار على الإماء {أدنى} أي أقرب إلى {ألا تعولوا} أي تميلوا بالجور عن منهاج القسط وهو الوزن المستقيم ، أو تكثر عيالكم ، أما عند الواحدة فواضح ، وأما عند الإماء فالبعزل ، وعدم احتياج الرجل معهن لخادم له أو لهن ، والبيع لمن أراد منهن ، وأمرهن بالاكتساب ، أو تحتاجوا فتظلموا بعض النساء ، أو تأكلوا أموال التيامى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 208 ـ 210}(19/440)
وقال الآلوسى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء } شروع في النهي عن منكر آخر كانوا يباشرونه متعلق بأنفس اليتامى أصالة وبأموالهم تبعاً عقيب النهي عما يتعلق بأموالهم خاصة ، وتأخيره عنه لقلة وقوع المنهي عنه بالنسبة إلى الأموال ونزوله منه منزلة المركب من المفرد مع كون المراد من اليتامى هنا صنفاً مما أريد منه فيما تقدم ، وذلك أنهم كانوا يتزوجون من تحل لهم من يتامى النساء اللاتي يلونهن لكن لا رغبة فيهن بل في مالهنّ ويسيئون صحبتهن ويتربصون بهن أن يمتن فيرثوهن فوعظوا في ذلك وهذا قول الحسن ، ورواه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، وأخرج هؤلاء من طريق آخر والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في "سننه" عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 189}
فائدة
قال ابن عاشور :
اشتمال هذه الآية على كلمة { اليتامى } يؤذن بمناسبتها للآية السابقة ، بيد أنّ الأمر بنكاح النساء وعددهنّ في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى ممّا خفي وجهُه على كثير من علماء سلف الأمة ، إذ لا تظهر مناسبة أي ملازمة بين الشرط وجوابه.
واعلم أنّ في الآية إيجازاً بديعاً إذ أطلق فيها لفظ اليتامى في الشرط وقوبل بلفظ النساء في الجزاء فعلم السامع أنّ اليتامى هنا جمع يتيمة وهي صنف من اليتامى في قوله السابق : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ].(19/441)
وعلم أنّ بين عدم القسط في يتامى النساء ، وبين الأمر بنكاح النساء ، ارتباطاً لا محالة وإلاّ لكان الشرط عبثاً.
وبيانه ما في "صحيح البخاري" : أنّ عروة بن الزبير سأل عائشة عن هذه الآية فقالت : "يابنَ أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشرَكه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها فلا يعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنُهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء غيرهنّ.
ثم إنّ الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ].
فقول الله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلاّ بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال".(19/442)
وعائشة لم تسند هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سياق كلامها يؤذن بأنّه عن توقيف ، ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة اعتداداً بأنها ما قالت ذلك إلاّ عن معاينة حال النزول ، وأَفهام المسلمين التي أقرّها الرسول عليه السلام ، لا سيما وقد قالت : ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله ، وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتداداً بما فهمه الناس ممّا يعلمون من أحوالهم ، وتكون قد جمعت إلى حكم حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقّها البنات اليتامى من مهور أمثالهنّ ، وموعظة الرجال بأنّهم لمّا لم يجعلوا أواصر القرابة شافعة النساء اللاتي لا مرغِّب فيهنّ لهم فيرغبون عن نكاحهنّ ، فكذلك لا يجعلون القرابة سبباً للإجحاف بهنّ في مهورهنّ.
وقولها : ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله ، معناه استفتوه طلباً لإيضاح هذه الآية.
أو استفتوه في حكم نكاح اليتامى ، ولم يهتدوا إلى أخذه من هذه الآية ، فنزل قوله : { ويستفتونك في النساء } الآية ، وأنّ الإشارة بقوله : { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء } أي ما يتلى من هذه الآية الأولى ، أي كان هذا الاستفتاء في زمن نزول هذه السورة.
وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 15 ـ 16}
فائدة
قال القرطبى :
و "تقسِطوا" معناه تعدلوا.
يقال : أقسط الرجل إذا عدل.
وقَسَط إذا جار وظلم صاحبَه.
قال الله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] يعني الجائرون.
وقال عليه السلام : " المقسطون في الدين على منابر من نور يوم القيامة " يعني العادلين.(19/443)
وقرأ ابن وَثّاب والنخعيّ "تَقْسِطُوا" بفتح التاء من قَسَط على تقدير زيادة "لا" كأنه قال : وإن خفتم أن تجوروا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 12}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن قوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ} شرط وقوله : {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} جزاء ، ولا بد من بيان أنه كيف يتعلق هذا الجزاء بهذا الشرط ، وللمفسرين فيه وجوه : الأول : روي عن عروة أنه قال : قلت لعائشة : ما معنى قول الله : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى} فقالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ، إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها ، فقال تعالى : "وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء ، قالت عائشة رضي الله عنها : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله تعالى : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِى الكتاب فِى يتامى النساء} [ النساء : 127 ] قالت : وقوله تعالى : {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِى الكتاب فِى يتامى النساء} [ النساء : 127 ] المراد منه هذه الآية وهي قوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ }.(19/444)
الوجه الثاني : في تأويل الآية : أنه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير ، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى ، فتحرجوا من ولايتهم ، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر ، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن ، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها ، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء ، فقالوا عدد المنكوحات ، لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج.
الوجه الثالث : في التأويل : أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا ، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات.
الوجه الرابع : في التأويل : ما روي عن عكرمة أنه قال : كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام ، فإذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا ، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى أموال اليتامى} عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف ، فإن خفتم في الأربع أيضاً فواحدة ، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع ، والناقص وهو الواحدة ، ونبه بذلك على ما بينهما ، فكأنه تعالى قال : فإن خفتم من الأربع فثلاث ، فإن خفتم فاثنتان ، فإن خفتم فواحدة ، وهذا القول أقرب ، فكأنه تعالى خوف من الإكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة إلى الإنفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 139 ـ 140}(19/445)
فائدة
قال الآلوسى
المراد من اليتامى المتزوج بهن والقرينة على ذلك الجواب فإنه صريح فيه والربط يقتضيه ومن النساء غير اليتامى كما صرحت به الحميراء رضي الله تعالى عنها لدلالة المعنى وإشارة لفظ النساء إليه ، والإقساط العدل والإنصاف ، وجعل بعض الهمزة فيه للإزالة فأصل معناه حينئذ إزالة القسوط أي الظلم والحيف ، وقرأ النخعى تقسطوا بفتح التاء فقيل : هو من قسط بمعنى جار وظلم ، ومنه { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } ( الجن ؛ 15 ) ولا مزيدة كما في قوله تعالى : { لّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] ، وقيل : هو بمعنى أقسط فإن الزجاج حكى أن قسط بلا همز تستعمل استعمال أقسط. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 189}
قوله تعالى {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم ذلك أدنى أَن لا تَعُولُواْ }
قال ابن عاشور :
ومعنى { ما طاب } ما حسن بدليل قوله : { لكم } ويفهم منه أنّه ممّا حلّ لكم لأن الكلام في سياق التشريع.
وما صَدْقُ { ما طاب } النساء فكان الشأن أن يؤتى بـ ( مَن ) الموصولة لكن جيء بـ ( ما ) الغالبة في غير العقلاء ، لأنّها نُحِي بها مَنْحى الصفة وهو الطيّب بِلا تعيين ذات ، ولو قال ( مَنْ ) لتبادر إلى إرادة نسوة طيّبات معروفات بينهم ، وكذلك حال ( ما ) في الاستفهام ، كما قال صاحب "الكشاف" وصاحب "المفتاح".
فإذا قلت : ما تزوجت ؟ فأنت تريد ما صفتها أبكرا أم ثيّباً مثلاً ، وإذا قلت : مَن تزوجت ؟ فأنت تريد تعيين اسمها ونسبها.(19/446)
والآية ليست هي المثبتة لمشروعية النكاح ، لأنّ الأمر فيها معلّق على حالة الخوف من الجور في اليتامى ، فالظاهر أنّ الأمر فيها للإرشاد ، وأنّ النكاح شرع بالتقرير للإباحة الأصلية لما عليه الناس قبل الإسلام مع إبطال ما لا يرضاه الدين كالزيادة على الأربع ، وكنكاح المقت ، والمحرّمات من الرضاعة ، والأمر بأن لا يُخْلوه عن الصداق ، ونحو ذلك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 16 ـ 17}
فائدة
قال الفخر :
قال أصحاب الظاهر : النكاح واجب وتمسكوا بهذه الآية ، وذلك لأن قوله {فانكحوا} أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، وتمسك الشافعي في بيان أنه ليس بواجب بقوله تعالى : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} [ النساء : 25 ] إلى قوله : {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله ، وذلك يدل على أنه ليس بمندوب ، فضلا عن أن يقال إنه واجب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 140}
فائدة
قال الفخر :
إنما قال : {مَا طَابَ} ولم يقل : من طاب لوجوه :
أحدها : أنه أراد به الجنس تقول : ما عندك ؟ فيقول رجل أو امرأة ، والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك ، وما تلك الحقيقة التي عندك ،
وثانيها : أن ( ما ) مع ما بعده في تقدير المصدر ، وتقديره : فانكحوا الطيب من النساء ، وثالثها : أن "ما" و"من" ربما يتعاقبان.
قال تعالى : {والسماء وَمَا بناها} [ الشمس : 5 ] وقال : {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} [ الكافرون : 2 ] وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان ما سبح له الرعد ، وقال : {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ} [ النور : 45 ] ورابعها : إنما ذكر "ما" تنزيلا للاناث منزلة غير العقلاء.(19/447)
ومنه : قوله : {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [ المعارج : 30 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 140 ـ 141}
قال الآلوسى :
وقال بعض المحققين : ما طاب لكم ما لا تحرج منه لأنه في مقابل المتحرج منه من اليتامى ولا يخلو عن حسن ، وكيفما كان فالتعبير عن الأجنبيات بهذا العنوان فيه من المبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن ما لا يخفى ، والسر في ذلك الاعتناء بصرف المخاطبين عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل رعاية ليتمهن وجبراً لانكسارهن ولهذا الاعتناء أوثر الأمر بنكاح الأجنبيات على النهي عن نكاحهن مع أنه المقصود بالذات وذلك لما فيه من مزيد اللطف في استنزالهم فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه ، ووجه النهي الضمني إلى النكاح المترقب مع أن سبب النزول هو النكاح المحقق على ما فهمه البعض من الأخبار ، ودل عليه ما أخرجه البخاري عن عائشة "أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عَذْق فكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فأنزل الله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ } " الخ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشر قبل وقوعه فرب واقع لا يرفع ، والمبالغة في بيان حال النكاح المحقق فإن محظورية المترقب حيث كان للجور المترقب فيه فمحظورية المحقق مع تحقق الجور فيه أولى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 190}
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي وصاحب "الكشاف" : قوله {مَا طَابَ لَكُمْ} أي ما حل لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها ، وهي الأنواع المذكورة في قوله : {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم} [ النساء : 23 ] وهذا عندي فيه نظر ، وذلك لأنا بينا أن قوله : {فانكحوا} أمر إباحة.(19/448)
فلو كان المراد بقوله : {مَا طَابَ لَكُمْ} أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال : أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم : وذلك يخرج الآية عن الفائدة ، وأيضاً فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة ، لأن أسباب الحل والاباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة ، أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب ، كانت الآية عاما دخله التخصيص.
وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الاجمال والتخصيص كان رفع الاجمال أولى ، لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، والمجمل لا يكون حجة أصلا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 141}
فصل
قال الفخر :
{مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} معناه : اثنين اثنين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، وهو غير منصرف وفيه وجهان :
الأول : أنه اجتمع فيها أمران : العدل والوصف ، أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى ، كما تقول : عمر وزفر وتريد به عامراً وزافرا ، فكذا ههنا تريد بقولك : مثنى : ثنتين ثنتين فكان معدولا ، وأما أنه وصف ، فدليله قوله تعالى : {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مثنى وثلاث ورباع} [ فاطر : 1 ] ولا شك أنه وصف.(19/449)
الوجه الثاني : في بيان أن هذه الأسماء غير منصرفة أن فيها عدلين لأنها معدولة عن أصولها كما بيناه ، وأيضا انها معدولة عن تكررها فانك لا تريد بقولك : مثنى ثنتين فقط ، بل ثنتين ثنتين ، فإذا قلت : جاءني اثنان أو ثلاثة كان غرضك الأخبار عن مجيء هذا العدد فقط ، أما إذا قلت : جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين ، فثبت أنه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد فوجب أن يمنع من الصرف ، وذلك لأنه إذا اجتمع في الاسم سببان أوجب ذلك منع الصرف ، لأنه يصير لأجل ذلك نائبا من جهتين فيصير مشابها للفعل فيمتنع صرفه ، وكذا إذا حصل فيه العدل من جهتين فوجب أن يمنع صرفه والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 141}(19/450)
وقال الآلوسى :
{ مثنى وثلاث ورباع } منصوبة على الحال من فاعل طاب المستتر ، أو من مرجعه ، وجوز العلامة كونها حالاً من النساء على تقدير جعل من بيانية ، وذهب أبو البقاء إلى كونها بدلاً من ما وإلى الحالية ذهب البصريون وهو المذهب المختار ، والكوفيون لم يجوزوا ذلك لأنها معارف عندهم ، وأوجبوا في هذا المقام ما ذهب إليه أبو البقاء ، وهي ممنوعة من الصرف على الصحيح ، وجوز الفراء صرفها والمذاهب المنقولة في علة منع صرفها أربعة : أحدها : قول سيبويه والخليل وأبي عمرو : إنه العدل والوصف ، وأورد عليه أن الوصفية في أسماء العدد عارضة وهي لا تمنع الصرف ، وأجيب بأنها وإن عرضت في أصلها فهي نقلت عنها بعد ملاحظة الوصف العارض فكان أصلياً في هذه دون أصلها ولا يخلو عن نظر ، والثاني : قول الفراء : إنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام ولذا لم تجز إضافتها ولا دخول أل عليها ، والثالث : ما نقل عن الزجاج أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، فعدلت عن ألفاظ العدد وعن المؤنث إلى المذكر ففيها عدلان وهما سببان ، والرابع : ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف تكرار العدل فيه لأن مثنى مثلاً عدلت عن لفظ اثنين ومعناه لأنها لا تستعمل في موضع تستعمل فيه إذ لا تلي العوامل وإنما تقع بعد جمع إما خبراً ، أو حالاً ، أو وصفاً ، وشذ أن تلي العوامل وأن تضاف ، وزاد السفاقسي في علة المنع خامساً : وهو العدل من غير جهة العدل لأن باب العدل أن يكون في المعارف وهذا عدل في النكرات ، وسادساً : وهو العدل والجمع لأنه يقتضي التكرار فصار في معنى الجمع ، وقال : زاد هذين ابن الصائغ في "شرح الجمل" ، وجاء آحاد وموحد ، وثناء ومثنى ، وثلاث ومثلث ، ورباع ومربع ، ولم يسمع فيما زاد على ذلك كما قال أبو عبيدة إلا في(19/451)
قول الكميت :
ولم يستر يثوك حتى رميت...
فوق الرجال خصالاً ( عشاراً )
ومن هنا أعابوا على المتنبي قوله :
أحاد أم ( سداس ) في أحاد...
لييلتنا المنوطة بالتناد(19/452)
ومن الناس من جوز خماس ومخمس إلى آخر العقد قياساً وليس بشيء ، واختير التكرار والعطف بالواو لتفهم الآية أن لكل واحد من المخاطبين أن يختار من هذه الأعداد المذكورة أي عدد شاء إذ هو المقصود لا أن بعضها لبعض منهم والبعض الآخر لآخر ، ولو أفردت الأعداد لفهم من ذلك تجويز الجمع بين تلك الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بكلمة أو لفات تجويز الاختلاف في العدد بأن ينكح واحد اثنتين ، وآخر ثلاثاً أو أربعاً وما قيل : إنه لا يلتفت إليه الذهن لأنه لم يذهب إليه أحد لا يلتفت إليه لأن الكلام في الظاهر الذي هو نكتة العدول ؛ وادعى بعض المحققين أنه لو أتى من الأعداد بما لا يدل على التكرار لم يصح جعله حالاً معللاً ذلك بأن جميع الطيبات ليس حالها أنها اثنان ولا حالها أنها ثلاثة ، وكذا لو قيل : اقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم درهماً واثنين وثلاثة وأربعة لم يصح جعل العدد حالاً من المال الذي هو ألف درهم لأن حال الألف ليس ذلك بخلاف ما إذا كرر فإن المقصود حينئذ التفصيل في حكم الانقسام كأنه قيل : فانكحوا الطيبات لكم مفصلة ومقسمة إلى ثنتين ثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، واقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم مفصلاً ومقسماً إلى درهم درهم ، واثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وبهذا يظهر فساد ما قيل : من أنه لا فرق بين اثنين ومثنى في صحة الحالية لأن انفهام الانقسام ظاهر من الثاني دون الأول كما لا يخفى ، وأنه إنما أتى بالواو دون أو ليفيد الكلام أن تكون الأقسام على هذه الأنواع غير متجاوز إياها إلى ما فوقها لا أن تكون على أحد هذه الأنواع غير مجموع بين اثنين منها وذلك بناءاً على أن الحال بيان لكيفية الفعل ، والقيد في الكلام نفي لما يقابله والواو ليست لأحد الأمرين أو الأمور كأو ، وبهذا يندفع ما ذهب إليه(19/453)
البعض من جواز التسع تمسكاً بأن الواو للجمع فيجوز الثنتان والثلاث والأربع وهي تسع ، وذلك لأن من نكح الخمس أو ما فوقها لم يحافظ على القيد أعني كيفية النكاح وهي كونه على هذا التقدير والتفصيل بل جاوزه إلى ما فوقه ، ولعل هذا مراد القطب بقوله : إنه تعالى لما ختم الأعداد على الأربعة لم يكن لهم الزيادة عليها وإلا لكان نكاحهم خمساً خمساً ؛ فقول بعضهم : اللزوم ممنوع لعدم دلالة الكلام على الحصر فإن الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان هذا تنصيصاً في تفويض زمام الاختيار إليه مطلقاً ورفع الحجر عنه ولا يكون ذلك تخصيصاً للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذناً في المذكور وغيره فكذا هنا ؛ وأيضاً ذكر جميع الأعداد متعذر فإذا ذكر بعض الأعداد بعد فانكحوا ما طاب لكم من النساء كان ذلك تنبيهاً على حصول الإذن في جميع الأعداد كلام ليس في محله ، وفرق ظاهر بين ما نحن فيه والمثال الحادث. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 190 ـ 192}
وقال ابن عاشور :
وصيغة مَفْعَل وفُعَال في أسماء الأعداد من واحد إلى أربعة ، وقيل إلى ستة وقيل إلى عشرة ، وهو الأصح ، وهو مذهب الكوفيّين ، وصحّحه المعرّي في "شرح ديوان المتنبيّ" عند قول أبي الطّيب :
أُحَاد أم سُدَاسٌ في آحاد...
لُيَبْلَتُنَا المَنوطةُ بالتنادي
تدُلّ كلّها على معنى تكرير اسم العدد لقصد التوزيع كقوله تعالى : { أولي أجنحة مَثْنَى وثُلاث ورُباع } [ فاطر : 1 ] أي لطائفة جناحان ، ولطائفة ثلاثة ، ولطائفة أربعة.(19/454)
والتوزيع هنا باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطَّول ، فمنهم فريق يستطيع أن يتزوّجوا اثنتين ، فهؤلاء تكون أزواجهم اثنتين اثنتين ، وهلمّ جرّا ، كقولك لجماعة : اقتسِموا هذا المال درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، على حسب أكبركم سنّاً.
وقد دل على ذلك قوله بعد : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة }.
والظاهر أنّ تحريم الزيادة على الأربع مستفاد من غير هذه الآية لأنّ مجرّد الاقتصار غير كاف في الاستدلال ولكنّه يُستأنس به ، وأنّ هذه الآية قرّرت ما ثبت من الاقتصار ، على أربع زوجات كما دلّ على ذلك الحديث الصحيح : إنّ غيلان بن سلمة أسلم على عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أمسك أربعاً وفارق سائرهنّ ".
ولعلّ الآية صدرت بذكر العدد المقرّر من قبل نزولها ، تمهيداً لشرع العدل بين النساء ، فإنّ قوله : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } صريح في اعتبار العدل في التنازل في مراتب العدد ينزل بالمكلّف إلى الواحدة.
فلا جرم أن يكون خوفه في كلّ مرتبة من مراتب العدد ينزل به إلى التي دونها.
ومن العجيب ما حكاه ابن العربي في الأحكام عن قوم من الجهّال لم يعيّنهم أنّهم توهّموا أنّ هذه الآية تبيح للرجال تزوّج تسع نساء توهّما بأنّ مثنَى وثُلاث ورُباع مرادفة لاثنين وثلاثاً وأربعاً ، وأنّ الواو للجمع ، فحصلت تسعة وهي العدد الذي جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه ، وهذا جهل شنيع في معرفة الكلام العربي.
وفي "تفسير القرطبي" نسبة هذا القول إلى الرافضة ، وإلى بعض أهل الظاهر ، ولم يعيّنه.
وليس ذلك قولاً لداوود الظاهري ولا لأصحابه ، ونسبه ابن الفرس في أحكام القرآن إلى قوم لا يعبأ بخلافهم ، وقال الفخر : هم قوم سُدى ، ولم يذكر الجصّاص مخالفاً أصلاً.(19/455)
ونسب ابن الفرس إلى قوم القول بأنّه لا حصر في عدد الزوجات وجعلوا الاقتصار في الآية بمعنى : إلى ما كان من العدد ، وتمسّك هذان الفريقان بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع نسوة ، وهو تمسّك واه ، فإنّ تلك خصوصية له ، كما دلّ على ذلك الإجماع ، وتطلُّب الأدلّة القواطع في انتزاع الأحكام من القرآن تطلّب لما يقف بالمجتهدين في استنباطهم موقف الحيرة ، فإنّ مبنى كلام العرب على أساس الفطنة.
ومسلكه هو مسلك اللمحة الدالّة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 17 ـ 18}
فصل
قال الفخر :
قال أهل التحقيق : {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} لا يتناول العبيد وذلك لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها ، والعبد ليس كذلك بدليل أنه لا يتمكن من النكاح إلا باذن مولاه ، ويدل عليه القرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} [ النحل : 75 ] فقوله : {لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} ينفي كونه مستقلا بالنكاح ، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " فثبت بما ذكرناه أن هذه الآية لا يندرج فيها العبد.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ذهب أكثر الفقهاء إلى أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد ، وقال مالك : يحل للعبد أن يتزوج بالأربع وتمسك بظاهر هذه الآية.(19/456)
والجواب الذي يعتمد عليه : أن الشافعي احتج على أن هذه الآية مختصة بالأحرار بوجهين آخرين سوى ما ذكرناه : الأول : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} وهذا لا يكون إلا للأحرار ، والثاني : أنه تعالى قال : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [ النساء : 4 ] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر ، بل يكون لسيده قال مالك : إذا ورد عمومان مستقلان ، فدخول التقييد في الأخير لا يوجب دخوله في السابق.
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن هذه الخطابات في هذه الآيات وردت متوالية على نسق واحد فلما عرف في بعضها اختصاصها بالأحرار عرف أن الكل كذلك ، ومن الفقهاء من علم أن ظاهر هذه الآية متناول للعبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس ، قالوا : أجمعنا على أن للرق تأثيراً في نقصان حقوق النكاح ، كالطلاق والعدة ، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر ، والجواب الأول أولى وأقوى والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 141 ـ 142}
فصل قيم
قال الفخر :
ذهب قوم سدى إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد ، واحتجوا بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله : {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا.(19/457)
والثاني : أن قوله : {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} لا يصلح تخصيصا لذلك العموم ، لأن تخصيص بعض الاعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي ، بل نقول : إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا ، فإن الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان ، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقاً ، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقاً ، ولا يكون ذلك تخصيصاً للاذن بتلك الأشياء المذكورة ، بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا ههنا ، وأيضاً فذكر جميع الأعداد متعذر ، فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله : {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد.
والثالث : أن الواو للجمع المطلق فقوله : {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} يفيد حل هذا المجموع ، وهو يفيد تسعة ، بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر ، لأن قوله : مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين وكذا القول في البقية.
وأما الخبر فمن وجهين : الأول : أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع ، ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال : {فاتبعوه} وأقل مراتب الأمر الاباحة.
الثاني : أن سنة الرجل طريقته ، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكان ذلك سنة له ، ثم إنه عليه السلام قال : " فمن رغب عن سنتي فليس مني "
فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.(19/458)
واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين : الأول : الخبر ، وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : أمسك أربعا وفارق باقيهن ، وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام : " أمسك أربعا وفارق واحدة " واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين : الأول : أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز.
والثاني : وهو أن الخبر واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بامساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز ، إما بسبب النسب ، أو بسبب الرضاع ، وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله.
الطريق الثاني : وهو إجماع فقهاء الامصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد ، وفيه سؤالان : الأول : أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ ، فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية.
الثاني : أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع ، والإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد.
والجواب عن الأول : الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الثاني ، أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته.
فإن قيل : فإذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال : مثنى أو ثلاث أو رباع ، فلم جاء بواو العطف دون "أو" ؟(19/459)
قلنا : لو جاء بكلمة "أو" لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك إلا على أحد هذه الأقسام ، وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام ، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية ، والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع ، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام ، ونظيره أن يقول الرجل للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف ، درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين ، ولبعض آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة ، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة ، فكذا ههنا الفائدة في ترك "أو" وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 142 ـ 143}
قال الآلوسى :
وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحصر الإجماع فإنه قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف ، ولا يشترط في الإجماع اتفاق كل الأمة من لدن بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة كما يوهمه كلام الإمام الغزالي ، وإلا لا يوجد إجماع أصلاً ، وبهذا يستغنى عما ذكره الإمام الرازي وهو أحد مذاهب في المسألة من أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته ، فالحق الذي لا محيص عنه أنه يحرم الزيادة على الأربع وبه قال الإمامية ورووا عن الصادق رضي الله تعالى عنه لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام ، وشاع عنهم خلاف ذلك ، ولعله قول شاذ عندهم.(19/460)
ثم إن مشروعية نكاح الأربع خاصة بالأحرار ، والعبيد غير داخلين في هذا الخطاب لأنه إنما يتناول إنساناً متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه لقوله صلى الله عليه وسلم : " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " ولأن في تنفيذ نكاحه تعيباً له إذ النكاح عيب فيه فلا يملكه بدون إذن المولى ، وأيضاً قوله تعالى بعد : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } لا يمكن أن يدخل فيه العبيد لعدم الملك فحيث لم يدخلوا في هذا الخطاب لم يدخلوا في الخطاب الأول لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فبعيد أن يدخل في الخطاب السابق ما لا يدخل في اللاحق وكذا لا يمكن دخولهم في قوله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] لأن العبد لا يأكل فيكون لسيده ، وخالف في ذلك الإمام مالك فأدخل العبيد في الخطاب ، وجوز لهم أن ينكحوا أربعاً كالأحرار ولا يتوقف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح ، ومن الفقهاء من ادعى أن ظاهر الآية يتناولهم إلا أنه خصص هذا العموم بالقياس لأن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة ، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يجعل للعبد نصف ما للحر فيه أيضاً. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 193}(19/461)
فصل
قال ابن عاشور :
وقد شرع الله تعدّد النساء للقادر العادل لِمصالح جمّة : منها أنّ في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها ، ومنها أنّ ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هنّ أكثر من الرجال في كلّ أمّة لأنّ الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة ، ولأنّ الرجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء ، ولأنّ النساء أطول أعماراً من الرجال غالباً ، بما فطرهنّ الله عليه ، ومنها أنّ الشريعة قد حرّمت الزنا وضيّقت في تحريمه لمّا يجرّ إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات ، فناسب أن توسّع على الناس في تعدّد النساء لمن كان من الرجال ميّالاً للتعدّد مجبولاً عليه ، ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلاّ لضرورة.
ولم يكن في الشرائع السالفة ولا في الجاهلية حدّ للزوجات ، ولم يثبت أن جاء عيسى عليه السلام بتحديد للتزوّج ، وإن كان ذلك توهّمه بعض علمائنا مثل القرافي ، ولا أحسبه صحيحاً ، والإسلام هو الذي جاء بالتحديد ، فأمّا أصل التحديد فحكمته ظاهرة : من حيث إنّ العدل لا يستطيعه كلّ أحد ، وإذا لم يقم تعدّدُ الزوجات على قاعدة العدل بينهنّ اختلّ نظام العائلة ، وحدثت الفتن فيها ، ونشأ عقوق الزوجات أزواجهنّ ، وعقوق الأبناء آباءهم بأذاهم في زوجاتهم وفي أبنائهم ، فلا جرم أن كان الأذى في التعدّد لمصلحة يجب أن تكون مضبوطة غير عائدة على الأصل بالإبطال.
وأمّا الانتهاء في التعدّد إلى الأربع فقد حاول كثير من العلماء توجيهه فلم يبلغوا إلى غاية مرضية ، وأحسب أنّ حكمته ناظرة إلى نسبة عدد النساء من الرجال في غالب الأحوال ، وباعتبار المعدّل في التعدّد فليس كلّ رجل يتزوّج أربعاً ، فلنفرض المعدّل يكشف عن امرأتين لكلّ رجل ، يدلّنا ذلك على أنّ النساء ضعف الرجال.(19/462)
وقد أشار إلى هذا ما جاء في "الصحيح" : أنه يكثر النساء في آخر الزمان حتّى يكون لخمسين امرأةً القيِّم الواحد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 18 ـ 19}
قوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم }
فصل
قال الفخر :
المعنى : فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها ، فاكتفوا بزوجة واحدة أو بالمملوكة ، سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الاماء من غير حصر ، ولعمري إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر ، لا عليك أكثرت منهم أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهن أم لم تعزل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 143}
فائدة
قال أبو حيان :
والعدل المنفي استطاعته غير هذا العدل المنفي هنا ، ذاك عدل في ميل القلب وقد رفع الحرج فيه عن الإنسان ، وهذا عدل في القسم والنفقة.
ولذلك نفيت هناك استطاعته ، وعلق هنا على خوف انتفائه ، لأن الخوف فيه رجاء وظن غالباً. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 172}
فصل
قال ابن كثير :
قال الشافعي : وقد دَلَّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة.(19/463)
وهذا الذي قاله الشافعي ، رحمه الله ، مجمع عليه بين العلماء ، إلا ما حُكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع. وقال بعضهم : بلا حصر. وقد يتمسك بعضهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين ، وإما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري. وقد علقه البخاري ، وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة ، ودخل منهن بثلاث عشرة ، واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع. وهذا عند العلماء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأمة ، لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع.
ذكر الأحاديث في ذلك :
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا حدثنا معمر ، عن الزهري. قال ابن جعفر في حديثه : أنبأنا ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه : أن غيلان بن سَلَمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهن أربعا. فلما كان في عهد عمر طلق نساءه ، وقسم ماله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر فقال : إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلك لا تمكث إلا قليلا. وايم الله لتراجعنَّ نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثُهن منك ، ولآمرن بقبرك فيرجم ، كما رجم قبرُ أبي رِغَال.
وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن إسماعيل بن عُلَيَّة وغُنْدَر ويزيد بن زُرَيع وسعيد بن أبي عَرُوبة ، وسفيان الثوري ، وعيسى بن يونس ، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي ، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ ، عن مَعْمَر -بإسناده -مثله إلى قوله : اختر منهن أربعا. وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد (1) وهي زيادة حسنة
____________
(1) المسند (2/14) والشافعي في الأم (5/49) وسنن الترمذي برقم (1128) وسنن ابن ماجة برقم (1953) وسنن الدارقطني (3/271) وسنن البيهقي الكبرى (7/182) ، وقد توسع الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/168) والشيخ ناصر الألباني (6/292) وحكم عليه بالصحة.(19/464)
وهي مضعفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي ، حيث قال بعد روايته له : سمعتُ البخاري يقول : هذا حديث غير محفوظ ، والصحيح ما روى شُعَيْب وغيره ، عن الزهري ، حُدّثتُ عن محمد بن سُوَيد الثقفي أنّ غيلان بن سلمة ، فذكره. قال البخاري : وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه : أن رجلا من ثقيف طلق نساءه ، فقال له عمر : لتراجعَنَّ نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغَال.
وهذا التعليل فيه نظر ، والله أعلم. وقد رواه عبد الرزاق ، عن مَعمر ، عن الزهري مرسلا وهكذا رواه مالك ، عن الزهري مرسلا. قال أبو زرعة : وهو أصح (1).
قال البيهقي : ورواه عقيل ، عن الزهري : بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد.
قال أبو حاتم : وهذا وَهْم ، إنما هو الزهري عن عثمان بن أبي سويد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره. (2)
قال البيهقي : ورواه يونس وابن عُيَيْنَةَ ، عن الزهري ، عن محمد بن أبي سويد.
________
(1) رواه ابن أبي حاتم في العلل (1/400) حدثني أبو زرعة عن عبد العزيز الأويسي عن مالك عن الزهري به مرسلا.
(2) العلل لابن أبي حاتم (1/401).(19/465)
وهذا كما علله البخاري. وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقاتٌ على شرط الصحيحين ثم قد رُوي من غير طريق مَعْمَر ، بل والزهري قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا أبو بُرَيد عَمْرو بن يزيد الجرمي أخبرنا سيف بن عُبَيد حدثنا سَرَّار بن مُجَشَّر ، عن أيوب ، عن نافع وسالم ، عن ابن عمر : أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلَمْنَ معه ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا. هكذا أخرجه النسائي في سننه. قال أبو علي بن السكن : تفرد به سرار بنُ مُجَشر وهو ثقة ، وكذا وثقه ابن معين. قال أبو علي : وكذلك رواه السَّمَيْدع بن واهب عن سرار.
قال البيهقي : وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس ، وعروة بن مسعود الثقفي ، وصفوان بن أمية -يعني حديث غيلان بن سلمة (1).
فوجهُ الدلالة أنَّه لو كان يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع لسوغَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه ، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع بحال ، وإذا كان هذا في الدوام ، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
_____________
(1) السنن الكبرى (7/183) وهذه الرواية دليل على أن معمر لم ينفرد بوصله ، وهي شاهد جيد على وصل الحديث.(19/466)
حديث آخر في ذلك : روى أبو داود وابن ماجة في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ، عن حُمَيضة بن الشَّمَرْدَل - وعند ابن ماجة : بنت الشمردل ، وحكى أبو داود أن منهم من يقول : الشمرذل بالذال المعجمة -عن قيس بن الحارث. وعند أبي داود في رواية : الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي قال : أسلمت وعندي ثماني نسوة ، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : "اختر منهن أربعا".
وهذا الإسناد حسن ، ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثلُه ، لما للحديث من الشواهد (1). أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 209 ـ 211}
فصل
قال الفخر :
للشافعي رحمه الله أن يحتج بهذه الآية في بيان الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من النكاح ، وذلك لأن الله تعالى خير في هذه الآية بين التزوج بالواحدة وبين التسري ، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة ، كما إذا قال الطبيب : كل التفاح أو الرمان ، فإن ذلك يشعر بكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر في تمام الغرض ، وكما أن الآية دلت على هذه التسوية ، فكذلك العقل يدل عليها ، لأن المقصود هو السكن والازدواج وتحصين الدين ومصالح البيت ، وكل ذلك حاصل بالطريقين ، وأيضاً إن فرضنا الكلام فيما إذا كانت المرأة مملوكة ثم أعتقها وتزوج بها ، فههنا يظهر جدا حصول الاستواء بين التزوج وبين التسري ، وإذا ثبت بهذه الآية أن التزوج والتسري متساويان.
فنقول : أجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري فوجب أن يكون أفضل من النكاح ؛ لأن الزائد على أحد المتساويين يكون زائد على المساوي الثاني لا محالة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 143 ـ 144}
_____________
(1) سنن أبي داود برقم (2242 ، 2241) وسنن ابن ماجة برقم (1952) ورجح المزي أن اسمه "قيس بن الحارث".(19/467)
وقال الآلوسى
واختلف العلماء في الأفضل من النكاح وتركه.
وذكر الإمام النووي أن الناس في ذلك أربعة أقسام : قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح ، وقسم لا تتوق ولا يجد المؤمن فيكره له ، وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له أيضاً ، وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان ، وقسم يجد المؤن ولا تتوق نفسه ، فمذهب الشافعي وجمهور الشافعية أن ترك النكاح لهذا والتخلي للتحلي بالعبادة أفضل ، ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل ، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك والشافعي أن النكاح له أفضل انتهى المراد منه2.
وأنت تعلم أن المذكور في كتب ساداتنا الحنفية متوناً وشروحاً مخالف لما ذكره هذا الإمام في تحقيق مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، ففي "تنوير الأبصار" وشرحه "الدر المختار" في كتاب النكاح ما نصه : "ويكون واجباً عند التوقان فإن تيقن الزنا إلا به فرض كما في "النهاية" وهذا إن ملك المهر والنفقة وإلا فلا إثم بتركه كما في البدائع" ، ويكون سنة مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصيناً وولداً حال الاعتدال أي القدرة على وطء ومهر ونفقة.
ورجح في "النهر" وجوبه للمواظبة عليه ، والإنكار على من رغب عنه ، ومكروهاً لخوف الجور فإن تيقنه حرم" انتهى ؛ لكن في دليل الوجوب على ما ذكره صاحب "النهر" مقالاً للمخالفين وتمام الكلام في محله.(19/468)
هذا وقد قيل : في تفسير الآية الكريمة أن المراد من النساء اليتامى أيضاً ، وأن المعنى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى المربّاة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من يتامى قراباتكم ، وإلى هذا ذهب الجبائي وهو كما ترى ، وقيل : إنه لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفاً من لحوق الحوب بترك الإقساط مع أنهم كانوا لا يتحرجون من ترك العدل في حقوق النساء حيث كان تحت الرجل منهم عشر منهن فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب عنه ، وإلى نحو من هذا ذهب ابن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك وابن عباس في إحدى الروايات عنه ، وقيل : كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم الحوب في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ، ونظيره ما إذا داوم على الصلاة من لا يزكي فتقول له : إن خفت الإثم في ترك الصلاة فخف من ترك الزكاة ، وإلى قريب من هذا ذهب مجاهد.(19/469)
وتعقب هذين القولين العلامة شيخ الإسلام بقوله : ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالة النظم الكريم لابتنائهما على تقدم نزول الآية الأولى وشيوعها بين الناس وظهور توقف حكمها على ما بعدها من قوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم } إلى قوله سبحانه : { وكفى بالله حَسِيباً } [ النساء : 5 ، 6 ] ويفهم من كلام بعض المحققين أيضاً أن الأظهر في الآية ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها دون هذين القولين لأن الآية على تلك الرواية تتنزل على قوله تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِى الكتاب فِى يتامى النساء اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] فيتطابق الآيتان ولا يتأتى ذلك على القولين بل لا ارتباط بين الآيتين عليهما لأن مقتضاهما أن الكلام في مطلق اليتامى لا في يتامى النساء ، ثم يبعدهما أن الشرط لا يرتبط معهما بالجواب إلا من وجه عام ، أما الأول : فمن حيث إن الجور على النساء في الحرمة كالجور على اليتامى في أن كلاً منهما جور ، وأما الثاني : فلأن الزنا محرم كما أن الجور على اليتامى محرم وكم من محرم يشاركهما في التحريم فليس ثم خصوصية تربط الشرط والجواب كالخصوصية الرابطة بينهما هناك ، ثم الظاهر من قوله سبحانه : { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } أنه وارد بصيغة التوسعة عليهم بنوع من التقييد كأنه قيل : إن خفتم من نكاح اليتامى ففي غيرهن متسع إلى كذا ، وعلى القول الأول من القولين يكون المراد التضييق لأن حاصله إن خفتم الجور على النساء فاحتاطوا بأن تقللوا عدد المنكوحات وهو خلاف ما يشعر به السياق من التوسعة وبعيد عن جزالة التنزيل كما لا يخفى ، وقيل : إن الرجل كان يتزوج الأربع والخمس والست والعشر(19/470)
ويقول : ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فني ماله مال على مال اليتيم الذي في حجره فأنفقه فنهي أولياء اليتامى على أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ، ونسب هذا إلى ابن عباس وعكرمة ، وعليه يكون المراد من اليتامى أعم من الذكور والإناث وكذا على القولين قبله.
وأورد عليه أنه يفهم منه جواز الزيادة على الأربع لمن لا يحتاج إلى أخذ مال اليتيم وهو خلاف الإجماع ، وأيضاً يكون المراد من هذا الأمر التضييق وهو كما علمت خلاف ما يشعر به السياق المؤكد بقوله تعالى :
{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة } كأنه لما وسع عليهم أنبأهم أنه قد يلزم من الاتساع خوف الميل فالواجب حينئذٍ أن يحترزوا بالتقليل فيقتصروا على الواحدة ، والمراد فإن خفتم أن لا تعدلوا فيما بين هذه المعدودات ولو في أقل الأعداد المذكورة كما خفتموه في حق اليتامى ، أو كما لم تعدلوا في حقهن فاختاروا ، أو الزموا واحدة واتركوا الجميع بالكلية. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 194 ـ 195}(19/471)
فائدة
قال الآلوسى :
وأو للتسوية وسوي في السهولة واليسرة بين الحرة الواحدة والسراري من غير حصر لقلة تبعتهن وخفة مؤنتهن وعدم وجوب القسم فيهن ، وزعم بعضهم أن هذا معطوف على النساء أي فانكحوا ما طاب لكم من النساء أو مما ملكت أيمانكم ولا يخفى بعده ، وقرأ ابن أبي عبلة من ملكت ، وعبر بما في القراءة المشهورة ذهاباً للوصف ولكون المملوك لبيعه وشرائه والمبيع أكثره ما لا يعقل كان التعبير بما فيه أظهر ، وإسناد المِلك لليمين لما أن سببه الغالب هو الصفقة الواقعة بها ، وقيل : لأنه أول ما يكون بسبب الجهاد والأسر ، وذلك محتاج إلى أعمالها وقد اشتهر ذلك في الأرقاء لا سيما في إناثهم كما هو المراد هنا رعاية للمقابلة بينه وبين ملك النكاح الوارد على الحرائر ، وقيل : إنما قيل للرقيق ملك اليمين لأنها مخصوصة بالمحاسن وفيها تفاؤل باليمن أيضاً ، وعن بعضهم أن أعرابياً سئل لم حسنتم أسماء مواليكم دون أسماء أبنائكم ؟ فقال : أسماء موالينا لنا وأسماء أبنائنا لأعدائنا فليفهم.
وادعى ابن الفرس أن في الآية رداً على من جعل النكاح واجباً على العين لأنه تعالى "خير فيها بينه وبين التسري ولا يجب التسري بالاتفاق ولو كان النكاح واجباً لما ( خير ) بينه وبين التسري لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين واجب وغيره لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب وأن تاركه لا يكون آثماً" ، ولا يرد هذا على من يقول : الواجب أحد الأمرين ، ويمنع الاتفاق على عدم وجوب التسري في الجملة فتدبر ، وزعم بعضهم أن فيها دليلاً على منع نكاح الجنيات لأنه تعالى خص النساء بالذكر.
وأنت تعلم أن مفهوم المخالفة عند القائل به غير معتبر هنا لظهور نكتة تخصيص النساء بالذكر وفائدته.(19/472)
وادعى الإمام السيوطي أن فيها إشارة إلى حل النظر قبل النكاح لأن الطيب إنما يعرف به ، ولا يخفى أن الإشارة ربما تسلم إلا أن الحصر ممنوع وهذا الحل ثبت في غير ما حديث ، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتزوج امرأة من الأنصار : " أنظرت إليها ؟ قال : لا قال : فاذهب وانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً " وهو مذهب جماهير العلماء ، وحكي عن قوم كراهته وهم محجوجون بالحديث والإجماع على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها ، ثم إنه إنما يباح له النظر إلى الوجه والكفين ، وقال الأوزاعي : إلى مواضع اللحم.
وقال داود : إلى جميع بدنها وهو خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإجماع ، وهل يشترط رضا المرأة أم لا ؟ الجمهور على عدم الاشتراط بل للرجل النظر مع الغفلة وعدم الرضا ، وعن مالك كراهة النظر مع الغفلة ، وفي رواية ضعيفة عنه لا يجوز النظر إليها إلا برضاها ، واستحسن كثير كون هذا النظر قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة كما لا يخفى.
وقال بعضهم : إن فيها إشارة أيضاً إلى استحباب الزيادة على الواحدة لمن لم يخف عدم العدل لأنه سبحانه قدم الأمر بالزيادة وعلق أمر الواحدة بخوف عدم العدل ، ويا ما أحيلى الزيادة إن ائتلفت الزوجات وصح جمع المؤنث بعد التثنية معرباً بالضم من بين سائر الحركات ، وهذا لعمري أبعد من العيوق وأعز من الكبريت الأحمر وبيض الأنوق :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه...
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 195 ـ 196}(19/473)
قوله تعالى {ذَلِكَ أدنى أَن لا تَعُولُواْ}
فصل
قال الفخر :
في تفسير {أَن لا تَعُولُواْ} وجوه : الأول : معناه : لا تجوروا ولا تميلوا ، وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين ، وروي ذلك مرفوعا ، روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} قال : ( لا تجوروا ) وفي رواية أخرى "أن لا تميلوا" قال الواحدي رحمه الله : كلا اللفظين مروي ، وأصل العول الميل يقال : عال الميزان عولا ، إذا مال ، وعال الحاكم في حكمه إذا جار ، لأنه إذا جار فقد مال.
وأنشدوا لأبي طالب.
بميزان قسط لا يغل شعيرة فصل ووزان صدق وزنه غير عائل
وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم ، فقال له : أتعول علي ، ويقال : عالت الفريضة إذا زادت سهامها ، وقد أعلتها أنا إذا ازدت في سهامها ، ومعلوم أنها إذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل ، ثم اختص بحسب العرف بالميل إلى الجور والظلم.
فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب إليه الأكثرون.
الوجه الثاني : قال بعضهم : المراد أن لا تفتقروا ، يقال : رجل عائل أي فقير ، وذلك لأنه إذا قل عياله قلت نفقاته ، وإذا قلت نفقاته لم يفتقر.
الوجه الثالث : نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : {ذلك أدنى أن لا تعولوا} معناه : ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم ، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية : أن معناه : أن لا تميلوا ولا تجوروا ،
وثانيها : أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل : ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما ، فأما تفسير {تَعُولُواْ} بتعيلوا فإنه خطأ في اللغة ،(19/474)
وثالثها : أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال بمنزلة النساء ، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين ، فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال.
وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا ، وهو أنه تعالى قال في أول الآية : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة} ولم يقل أن تفتقروا ، فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط ، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل ، وذلك هو الجور لا كثرة العيال.
وأنا أقول :
أما السؤال الأول : فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية : أن لا تجوروا ولا تميلوا ، ولكنه ذكر فيه وجها آخر ، وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها ، ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة ، ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف ، وأيضا : فمن الذي أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين ، وكيف لا نقول ذلك ، ومن المشهور أن طاوساً كان يقرأ : ذلك أدنى أن لا تعيلوا ، وإذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة ، فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى ، فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن.
وأما السؤال الثاني : فنقول : إنك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد ، لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والأعلام ، وشدة بلادتك ، ما عرفت أن هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد ، وبيان فساده من وجوه :(19/475)
الأول : أنه يقال : عالت المسألة إذا زادت سهامها وكثرة ، وهذا المعنى قريب من الميل لأنه إذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الإرادة وإذا كان كذلك كان معنى الآية : ذلك أدنى أن لا تكثروا ، وإذا لم تكثروا لم يقع الإنسان في الجور والظلم لأن مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة ، وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير إلى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور.
الوجه الثاني : إن الإنسان إذا قال : فلان طويل النجاد كثير الرماد ، فإذا قيل له ما معناه ؟ حسن أن يقال : معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة ، وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة ، بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى.
وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض ، وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو الاشارة إلى الشيء بذكر لوازمه ، فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور ، والشافعي رضي الله عنه جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور ، لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور ، فجعل هذا تفسيراً له لا على سبيل الكناية والاستلزام ، وهذه طريقة مشهورة في كتاب الله ، والشافعي لما كان محيطاً بوجوه أساليب المطابقة ، بل على سبيل الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام ، فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيدا عن أساليب كلام العرب ، لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه.
الوجه الثالث : ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك : عال الرجل عياله يعولهم.(19/476)
كقولهم : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ، لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب ، فثبت بهذه الوجوه أن الذي ذكره إمام المسلمين الشافعي رضي الله عنه في غاية الحسن ، وأن الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة.
وأما السؤال الثالث : وهو قوله : إن كثرة العيال لا تختلف بأن تكون المرأة زوجة أو مملوكة فجوابه من وجهين : الأول : ما ذكره القفال رضي الله عنه ، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب ، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا ، وحينئذ تقل العيال أما إذا كانت المرأة حرة لم يكن الأمر كذلك فظهر الفرق.
الثاني : أن المرأة إذا كانت مملوكة فإذا عجز المولى عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها ، أما إذا كانت حرة فلا بد له من الإنفاق عليها ، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر ، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة.
وأما السؤال الرابع : وهو الذي ذكره الجرجاني صاحب النظم ، فالجواب عنه من وجهين : الأول : ما ذكره القاضي وهو أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح ، لأنه لو حمل على الجور لكان تكراراً لأنه فهم ذلك من قوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} أما إذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى.
الثاني : أن نقول : هب أن الأمر كما ذكرتم لكنا بينا أن التفسير الذي ذكره الشافعي راجع عند التحقيق إلى ذكر التفسير الأول ، لكن على سبيل الكناية والتعريض ، وإذا كان الأمر كذلك فقد زال هذا السؤال ، فهذا تمام البحث في هذا الموضع ، وبالله التوفيق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 144 ـ 146}(19/477)
قال الآلوسى :
وذكر في "الكشف" أنه لا حاجة إلى أصل الجواب عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فإن الكسائي نقل عن فصحاء العرب عال يعول إذا كثر عياله وممن نقله الأصمعي والأزهري وهذا التفسير نقله ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم وهو من أجلة التابعين ، وقراءة طاوس أن لا تعيلوا مؤيدة له فلا وجه لتشنيع من شنع على الإمام جاهلاً باللغات والآثار ، وقد نقل الدوري إمام القراء أنها لغة حمير وأنشد :
وإن الموت يأخذ كل حي...
بل شك وإن أمشي ( وعالا )
أي وإن كثرت ماشيته وعياله ، وأما ما قيل : إن عال بمعنى كثرت عياله يائي وبمعنى جار واوى فليست التخطئة في استعمال عال في كثرة العيال بل في عدم الفرق بين المادتين ، فرد أيضاً بما اقتضاه كلام البعض من أن عال له معان : مال وجار وافتقر وكثرت عياله ومان وأنفق وأعجز ، يقال : عالني الأمر أي أعجزني ومضارعه يعيل ويعول فهو من ذوات الواو والياء على اختلاف المعاني ، ثم المراد بالعيال على هذا التفسير يحتمل أن يكون الأزواج كما أشرنا إليه وعدم كثرة الأزواج في اختيار الواحدة وكذا في التقليل إن قلنا إنه داخل في المشار إليه ظاهر ، وإما عدم كثرتهن في التسري فباعتبار أن ذلك صادق على عدمهنّ بالكلية.(19/478)
ويحتمل أن يكون الأولاد وعدم كثرتهم في اختيار الواحدة وكذا في التقليل ظاهر أيضاً ، وإما عدم كثرتهم في التسري فباعتبار أنه مظنة قلة الأولاد إذ العادة على أن لا يتقيد المرء بمضاجعة السراري ولا يأبى العزل عنهن بخلاف المهائر فإن العادة على تقيد المرء بمضاجعتهن وإباء العزل عنهن ، وإن كان العزل عنهن كالعزل عن السراري جائزاً شرعاً بإذن وبغير إذن في المشهور من مذهب الشافعي ، وفي بعض شروح "الكشاف" ما يدل على أن في ذلك خلافاً عند الشافعية فمنعه بعضهم كما هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة أنه فسر { أَلاَّ تَعُولُواْ } بأن لا تفتقروا ، وقد قدمنا أن عال يجىء بمعنى افتقر ، ومن روده كذلك قوله :
فما يدري الفقير متى غناه...
وما يدري الغني متى ( يعيل )
إلا أن الفعل في البيت يائي لا واوي كما في الآية والأمر فيه سهل كما عرفت ، وعلى سائر التفاسير الجملة مستأنفة جارية مما قبلها مجرى التعليل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 197}(19/479)
فصل
قال البقاعى :
{ذلك} أي نكاح غير التيامى والتقلل من الحرائر والاقتصار على الإماء {أدنى} أي أقرب إلى {ألا تعولوا} أي تميلوا بالجور عن منهاج القسط وهو الوزن المستقيم ، أو تكثر عيالكم ، أما عند الواحدة فواضح ، وأما عند الإماء فالبعزل ، وعدم احتياج الرجل معهن لخادم له أو لهن ، والبيع لمن أراد منهن ، وأمرهن بالاكتساب ، أو تحتاجوا فتظلموا بعض النساء ، أو تأكلوا أموال التيامى ؛ وكل معنى من هذه راجع إلى لازم لمعنى المادة الذي مدارها عليه ، لأن مادة " علا " - واوية بجميع تقاليبها الست : علو ، عول ، لوع ، لعو ، وعل ، ولع ؛ ويائية بتركيبيها : ليع ، عيل تدور على الارتفاع ، ويلزمه الزيادة والميل ، فمن الارتفاع : العلو والوعل والولع ، ومن الميل والزيادة : العول ، وبقية المادة يائيةً وواويةً إما للإزالة ، وإما لأحد هذه المعاني - على ما يأتي بيانه ؛ فعلا يعلو : ارتفع ، والعالية : الفتاة القويمة - لأ ، ها تكون أرفع مما ساواها وهو معوج ، والعالية من محال الحجاز - لإشرافها على ما حولها ، وكذا العوالي - لقرى بظاهر المدينة الشريفة - لأنها في المكان العالي الذي يجري ماؤه إلى غيره ، والمعلاة : كسب الشرف ، ومقبرة مكة بالحجون - لأنها في أعلى مكة وماؤها يصوب إلى ما دونه ، وفلان من علية الناس ، أي أشرافهم ، والعلية بالتشديد : الغرفة ، وعلى حرف الاستعلاء ، وتعلت المرأة من نفاسها ، أي طهرت وشفيت - لأنها كانت في سفول من الحال ، والعلاوة : رأس الجبل وعنقه ، وما يحمل على البعير بين العدلين ، ومن كل شيء : ما زاد عليه ، والمعلى : القدح السابع من الميسر - لأنه الغاية في القداح الفائزة ، لأن القداح عشرة : السبعة الأولى منها فائزة ، والثلاثة الأخيرة مهملة لا أنصباء لها ، وعلوان الكتاب : عنوانه وارتفاعه على بقية الكتاب واضح ،(19/480)
والعليان : الطويل والضخم ، والناقة المشرفة ، ومن الأصوات : الجهيرة ، والعلاة : السندان ، والعلياء : رأس كل جبل مشرف ، والسماء ، والمكان العالي ، وكل ما علا من شيء ، وعليك زيداً : الزمه - لأنه يلزم من ملازمته له العلو على أمره ، وعلا النهار : ارتفع وعلا الدابة : ركبها وأعلى عنها : نزل - كأنه من الإزالة وكذا علَّى المتاع عن الدابة تعلية : أنزله ، وأعليت عن الوسادة وعاليت : ارتفعت وتنحيت ، ورجل عالي الكعب : شريف ، وعلَّى الكتاب تعلية : عنونه كعلونه ، وعالوا نعيه : أظهروه ، والعلي : الشديد القوي ، وعليون في السماء السابعة ، وأخذه علواً : عنوة ، والتعالي : الاتفاع ، إذا أمرت منه قلت : تعال - بفتح اللام ، ولها : تعالي - بفتح اللام ، - ولو كنت في موضع أسفل من موضع المأمور ، لأنه يحتاج إلى تطاول مهما كان بينك وبينه مسافة ، ولأن الآمر أعلى من المأمور رتبة فموضعه كذلك ، وتعلى : علا في مهلة ، والمعتلي : الأسد ؛ واللعو : السيء الخلق ، والفسل ، والشره الحريص ، واللاعي : الذي يفزعه أدنى شيء ، إما لأنه وصل إلى الغاية في السفول فتسنم أعلاها حتى رضي لنفسه هذه الأخلاق ، وإما لأنه من باب الإزالة ، أو التسمية بالضد ، وذئبة لعوة وامرأة لعوة ، أي حريصة ، واللعوة : السواد بين حلمتي الثدي ، إما لأن ذلك أعلاه ، وإما لعلو لون السواد على لون الثدي ، والألعاء : السلاميات ، والسلامى عظم يكون في فرسن البعير ، وعظام الصغار في اليد والرجل ، وذلك لأن العظام أعلى ما في الجسد في القوة والشدة والصلابة ، وهي أعظم قوامه ؛ واللاعية : شجيرة في سفح الجبل ، لها نور أصفر ، ولها لبن ، وإذا ألقي منه شيء في غدير السمك أطفاها ، أي جعلها طافية أي عالية على وجه الماء ، سميت بذلك إما من باب الإزلاة نظراً إلى محل بيتها ، وإما(19/481)
لأن ريحها يعلو كل ما خالطه ويكسبه طعمها وإما لفعلها هذا في السمك وتلعّى العسل : تعقّد وزناً ومعنى - إما من اللاعية لأنها كثيرة العقد ، وإما من لازم العلو : القوة والشدة ، ولعا لك - يقال عند العثرة ، أي أنعشك الله ؛ والعول : ارتفاع الحساب في الفرائض ، والعول : الميل ، وقدم تقدم أنه لازم للعلو ، والعول : كل ما أمر غلبك ، كأنه علا عنك فلم تقدر على نيله والمستعان به - لأنه لا يتوصل به إلى المقصود إلا وفيه علو ، وقوت العيال - لأنه سبب علوهم ، وعوّل عليه معولاً : اتكل واعتمد ، والاسم كعنب ، وعيّل ككيس ، وعال : جار والميزان : نقص أو زاد ، فالزيادة من الارتفاع ، والنقص من لازم الميل ، وعالت الفريضة : ارتفعت أي زادت سهامها فدخل النقصان على أهل الفرائض ، قال أبو عبيد : أظنه مأخوذاً من الميل ، وعال أمرهم : اشتد وتفاقم ، وعال فلان عولاً وعيالاً : كثر عياله ، كأعول وأعيل ، ورجل معيل ومعيّل ذو عيال ، وأعال الرجل وأعول - إذا حرص ، إما مما تقدم تخريجه ، وإما لأنه لازم لذي العيال ، وعال عليه : حمل ، أي رفع عليه الحمول كعول ، وفلان : حرص ، والفرس ، صوتت ، وأعولت المرأة : رفعت صوتها بالبكاء ، وعيل عوله : ثكلته أمه - لما يقع من صياحها ، وعيل ما هو عائله : غلب ما هو غالبه ، يضرب لمن يعجب من كلامه ونحوه لأنه لا يكون كذلك إلا وقد خرج عن أمثاله علواً ، وقد يكون بسفول ، فيكون من التسمية بالضد ، والعالة : النعامة لأنها أطول الطير ، وما له عال ولا مال : شيء ح لأن ذلك غاية في السفول إن كان عجزاً ، وفي العلو إن كان زهداً ، ويقال للعاثر : عالك عالياً.
(19/482)
كقولهم : لعا لك ، والمعول : حديدة تنفر بها الجبال - من القوة اللازمة للعلو ، والعالة ، شبه الظلة يستر بها من المطر ؛ واللوعة : حرقة توجد من الحزن أو الحب أو المرض أو الهم - لأنها تعلو الإنسان ، ولاعه الحب : أمرضه ، وأتان لاعة الفؤاد إلى جحشها - كأنها ولهى فزعاً ، ولاع يلاع : جزع أو مرض ورجل هاع لاع : جبان جزوع ، أو حريص ، أو سيىء الخلق - لما علاه من هذه الأخلاق المنافية للعقل وغلبه منها ، ولاعته الشمس : غيرت لونه واللاعة أيضاً : الحديدة الفؤاد الشهمة - لأنه يعلوا غيره ، وامرأة لاعة : التي تغازلك ولا تمكنك - لما لها في ذلك من الغلبة والعلو على القلوب ؛ والوعل : تيس الجبل ، والشريف ، والملجأ ، والوعلة : الموضع المنيع من الجبل ، أو صخرة مشرفة منه ، وهم علينا وعل واحد : مجتمعون ، وما لك عن ذلك وعل ، أي بد - إنه لولا علوه عليك ما اضطررت إليه والوعل : اسم شوال - كأنه لما له من العلو بالعيد والحج ، والوعل ككتف : اسم شعبان ح لما له من العلو بتوسطه بين رجب وشوال ، والوعلة أيضاً : عروة القميص والزير زره والقدح والإبريق الذي يعلق بها فيعلو ، ووعال كغراب : حصن باليمن ، والمستوعل - بفتح العين : حرز الوعل ، ووعل كوعد : أشرف ، وتوعلت الجبل : علوته ؛ وأولع فلان بكذا ، أو ولع بالكسر : استخف ، أي صار عالياً عليه غالباً له إطاقته حمله ، وولع بحقه : ذهب ، وولع بالفتح - إذا كذب ، إما للإزالة وإما لأنه استخفه الكذب فحمله ، وولع والع - مبالغة ، أي كذب عظيم والمولع : الذي فيه لمع من ألوان - كأنه علا على تلك الألوان ، أو غلب تلك الألوان أصل لونه ، وعبارة القاموس : والتوليع : استطالة البلق ، يقال برذون وثور مولع - كمعظم ، والوليع : الطلع ما دام في قيقائه ، أي وعائه.
(19/483)
وهو قشرة الطلع لعلوه ، وما أدري ما ولعه - بالفتح أي حبسه ، إما للإزالة ، لإنه لما منعه كان كأنه أزال علوه ، وإما لأنه علا عليه ، وأولعه به ، أي أغراه ، أي حمله عليه ؛ والعيلة : الحاجة ، وعال يعيل - إذا افتقر ، وذلك إما من الإزالة ، أو لأن الحاجة علته ، أو لأنها ميل ، وعالني الشيء : أعجزني ، وعيل صبري : قل وضعف أي علاه من الأمر ما أضعفه ، وعلت الضالة : لم أدر أين أبغيها ، والمعيل : الأسد والنمر والذئب - لأنه يعيل صيداً أي يلتمس فهو يرجع إلى العلو والقدرة على الطلب ، وعالني الشيء : أعوزني - إما أزال علوي ، أو علا عني ، وعال في مشيه : تمايل واختال وتبختر - لأنه لا يفعله إلا عال في نفسه مع أنه كله من الميل ، وعال في الأرض : ذهب أي علا عليها مشياً ، والذكر من الضباع عيلان ، والعيل محركة : عرضك حديثك وكلامك على من لا يريده وليس من شأنه - كأنه لم يهتد لمن يريده فعرضه على من لا يريده ، فهو يرجع إلى الحاجة المزيلة للعلو ؛ وليعة الجوع - بالفتح : حرقته - كما تقدم في اللوعة ، ولعت - بالكسر : ضجرت ، كأنه من الإزالة ، أو أن العلو للأمر المتضجر منه ، والملياع - علاها ، والملياع : التي تقدم الإبل سابقة ثم ترجع إليها ، وريح لياع - بالكسر : شديدة ، وقد وضح بذلك صحة ما فسر به إمامنا الشافعي صريحاً ومطابقة - كما تقدم ، وشهد له العول في الحساب والسهام ، وهو كثرتها ، وظهر تحامل من رد ذلك وقال : إنه لا يقال في كثرة العيال إلا : عال يعيل ، وكم من عائب قولا صحيحاً! وكيف لا وهو من الأئمة المحتج بأقوالهم في اللغة ، وقد وافقه غيره وشهد لقوله الحديث الصحيح ؛ قال الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني الشافعي في كتابه البيان : {ألا تعولوا} قال الشافعي : معناه أن لا تكثر عيالكم ومن تمونونه ، وقيل : إن أكثر السلف(19/484)
قالوا : المعنى أن لا تجوروا ، يقال : عال يعول - إذا جار وأعال يعيل - إذا كثر عياله ؛ إلا زيد بن أسلم فإنه قال : معناه أن لا تكثر عيالكم ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم يشهد لذلك ، قال : " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " انتهى.
(19/485)
وهذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما عن حكيم بن حزام عن أبي هريرة رضي الله عنهما بلفظ " أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول " وفي الباب أيضاً عن عمران بن حصين وأبي رمثة البلوي وأبي أمامة رضي الله عنهم ، وأثر زيد بن أسلم رواه الدارقطني والبيهقي من طريق سعيد بن أبي هلال عنه ، قال : " ذلك أدنى أن لا يكثر من يعولونه " أفاده شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي وقال الإمام : إن تفسير الشافعي هو تفسير الجماعة ، عبر عنه بالكناية وهي ذكر الكثرة ، وأراد الميل لكون الكثرة ، لا تنفك عنه ، وقال ابن الزبير : لما تضمنت سورة البقرة ابتداء الخلق وإيجاد آدم عليه الصلاة والسلام من غير أب ولا أم ، وأعقبت بسورة آل عمران لتضمنها - مع ذكر في صدرها - أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنه كمثل آدم عليه الصلاة والسلام في عدم الافتقار إلى أب ، وعلم الموقنون من ذلك أنه تعالى لو شاء لكانت سنة فيمن بعد آدم عليه الصلاة والسلام ، فكأن سائر الحيوان لا يتوقف إلا على أم فقط ؛ أعلم سبحانه أن من عدا المذكورين عليهما الصلاة والسلام من ذرية آدم سبيلهم سبيل الأبوين فقال تعالى : {يا أيها الناس اتقوا ربكم} إلى قوله : {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} ثم أعلم تعالى كيفية النكاح المجعول سبباً في التناسل وما يتعلق به ، وبين حكام الأرحام والمواريث فتضمنت السورة ابتداء الأمر وانتهاءه ، فأعلمنا بكيفية التناكح وصورة الاعتصام واحترام بعضنا لبعض وكيفية تناول الإصلاح فيما بين الزوجين عند التشاجر والشقاق ، وبين لنا ما ينكح وما أبيح من العدد وحكم من لم يجد الطول وما يتعلق بهذا إلى المواريث ، فصل ذلك كله إلا الطلاق.(19/486)
لأن أحكامه تقدمت ، ولأن بناء هذه السورة على التواصل والائتلاف ورعي حقوق ذوي الأرحام وحفظ ذلك كله إلى حالة الموت المكتوب علينا ، وناسب هذا المقصود من التواصل والألفة ما افتتحت به السورة من قوله تعالى : {الذي خلقكم من نفس واحدة} [ النساء : 1 ] ، فافتتحها بالالتئام والوصلة ولهذا خصت من حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والمعدلة إبقاء لذلك التواصل فلم يكن الطلاق ليناسب هذا ، فلم يقع له هنا ذكر إلا إيماء {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} [ النساء : 13 ] ولكثرة ما يعرض من رعي حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة - ويدق ذلك ويغمض - تكرر كثيراً في هذه السورة الأمر بالاتقاء ، وبه افتتحت {اتقوا ربكم} [ النساء : 1 ] ، {واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام} [ النساء : 1 ] ، {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [ النساء : 131 ] ، ثم حذروا من حال من صمم على الكفر وحال اليهود والنصارى والمنافقين وذوي التقلب في الأديان بعد أذن اليقين ، وكل ذلك تأكيد لما أمروا به من الاتقاء ، والتحمت الآيات إلى الختم بالكلالة من المواريث المتقدمة - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 210 ـ 214}
فصل
قال الطبرى فى معنى الآية :
وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية ، قول من قال : تأويلها : "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا في النساء ، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجورُوا فيه منهن ، من واحدة إلى الأربع ، فإن خفتم الجورَ في الواحدة أيضًا ، فلا تنكحوها ، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم ، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن".(19/487)
وإنما قلنا إنّ ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخَلطها بغيرها من الأموال ، فقال تعالى ذكره : ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) . ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرّجوا فيه ، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرّج في أمر النساء ، مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى ، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن ، كما عرّفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى ، فقال : انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ، ما أبحت لكم منهن وحلّلته ، مثنى وثُلاث ورباع ، فإن خفتم أيضًا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة ، بأن لا تقدروا على إنصافها ، فلا تنكحوها ، ولكن تسرَّوا من المماليك ، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن ، لأنهن أملاككم وأموالكم ، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر ، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور.
ففي الكلام -إذ كان المعنى ما قلنا- متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره. وذلك أن معنى الكلام : وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها ، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم ، فلا تتزوجوا منهنّ إلا ما أمنتم معه الجور مثنى وثلاث ورباع ، وإن خفتم أيضًا في ذلك فواحدة. وإن خفتم في الواحدة ، فما ملكت أيمانكم فترك ذكر قوله : "فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء" ، بدلالة ما ظهر من قوله تعالى : "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم".
فإن قال قائل : فأين جواب قوله : "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى" ؟
(19/488)
قيل : قوله"فانكحوا ما طاب لكم" ، غير أن المعنى الذي يدل على أن المراد بذلك ما قلنا قوله : "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا".
وقد بينا فيما مضى قبلُ أن معنى"الإقساط" في كلام العرب : العدل والإنصاف وأن"القسط" : الجور والحيف ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما"اليتامى" ، فإنها جمع لذكران الأيتام وإناثهم في هذا الموضع.
وأما قوله : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" ، فإنه يعني : فانكحوا ما حلَّ لكم منهن ، دون ما حُرِّم عليكم منهنّ ، فإن قال قائل : وكيف قيل : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" ، ولم يقل : "فانكحوا مَنْ طاب لكم" ؟ وإنما يقال : "ما" في غير الناس.
قيل : معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه ، وإنما معناه : فانكحوا نكاحًا طيبًا ، فالمعنيّ بقوله : "ما طاب لكم" ، الفعل ، دون أعيان النساء وأشخاصهنَّ ، فلذلك قيل"ما" ولم يقل"من" ، كما يقال : "خذ من رقيقي ما أردت" ، إذا عنيت : خذ منهم إرادتك. ولو أردت : خذ الذي تريد منهم ، لقلت : "خذ من رقيقي من أردت منهم". وكذلك قوله : "أو ما ملكت أيمانكم" ، بمعنى : أو ملك أيمانكم.
وإنما معنى قوله : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" ، فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع ، كما قيل : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) [سورة النور : 4].
وأما قوله : "فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة" ، فإن نصب"واحدة" ، بمعنى : فإن خفتم أن لا تعدلوا فيما يلزمكم من العدل ما زاد على الواحدة من النساء عندكم بنكاح ، فيما أوجبه الله لهن عليكم فانكحوا واحدة منهن.
(19/489)
ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالرفع ، كان جائزًا ، بمعنى : فواحدة كافية ، أو : فواحدة مجزئة ، كما قال جل ثناؤه : ( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) [سورة البقرة : 282].
وإن قال لنا قائل : قد علمت أن الحلال لكم من جميع النساء الحرائر ، نكاحُ أربع ، فكيف قيل : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" ، وذلك في العدد تسع ؟
قيل : إن تأويل ذلك : فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، إما مثنى إن أمنتم الجور من أنفسكم فيما يجب لهما عليكم وإما ثلاث ، إن لم تخافوا ذلك وإما أربع ، إن أمنتم ذلك فيهن.
يدل على صحة ذلك قوله : "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" ، لأن المعنى : فإن خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة. ثم قال : وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضًا في الواحدة ، فما ملكت أيمانكم.
فإن قال قائل : فإن أمر الله ونهيه على الإيجاب والإلزام حتى تقوم حجة بأن ذلك على التأديب والإرشاد والإعلام ، وقد قال تعالى ذكره : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" ، وذلك أمر ، فهل من دليل على أنه من الأمر الذي هو على غير وجه الإلزام والإيجاب ؟
قيل : نعم ، والدليل على ذلك قوله : "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة". فكان معلومًا بذلك أن قوله : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" ، وإن كان مخرجه مخرج الأمر ، فإنه بمعنى الدلالة على النهي عن نكاح ما خاف الناكح الجورَ فيه من عدد النساء ، لا بمعنى الأمر بالنكاح ، فإن المعنيّ به : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ، فتحرجتم فيهن ، فكذلك فتحرّجوا في النساء ، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجورَ فيه منهن ، ما أحللته لكم من الواحدة إلى الأربع.
(19/490)
وقد بينا في غير هذا الموضع أن العرب تُخرِج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد ، كما قال جل ثناؤه : ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) [سورة الكهف : 29] ، وكما قال : ( لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) [سورة النحل : 55 / سورة الروم : 34] ، فخرج ذلك مخرج الأمر ، والمقصود به التهديد والوعيدُ والزجر والنهي ، فكذلك قوله : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" ، بمعنى النهي : فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء.
قوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره وإن خفتم أن لا تعدلوا في مثنى أو ثلاث أو رباعَ فنكحتم واحدة ، أو خفتم أن لا تعدلوا في الواحدة فتسررتم ملك أيمانكم ، فهو"أدنى" يعني : أقرب ، "ألا تعولوا" ، يقول : أن لا تجوروا ولا تميلوا. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 540 ـ 548}. بتصرف.
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، وفي جوابه وجهان :
أحدهما : أنه قوله : { فانكحوا } وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ ، والعشر ، ولا يقومون بحقوقهن ، فلمَّا نزلت { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ } أخذوا يَتحرّجونَ من ولاية اليتامى ، فقيل لهم : إن خفتم من الجورِ في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجور في حقوق النساء ، فانكحوا ما طاب لكم من [ النساء مثنى وثلاث ورباع من ] الأجنبيات أي : اللاتي لسن تحت ولايتكم ، فعلى هذا يحتاج إلى تقدير مضاف ، أي : في نكاح يتامى النساء.(19/491)
فإن قيل : " فواحدة " جواب لقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } فكيف يكون جواباً للأول ؛ فالجواب : أنَّهُ أَعَادَ الشرط الثاني لأنه كالأول في المعنى ، لما طالَ الفصل بين الأول وجوابه وفيه نظر لا يخفى. والخوف هنا على بابه فالمراد به الحذر.
وقال أبو عبيدة إنه بمعنى اليقين وأنشد الشاعر : [ الطويل ]
فَقُلْتُ لهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ... سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِي الْمُسَرَّدِ
أي : أيقِنُوا ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيْقُ ذلك والردُّ عليه عند قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ].
قوله : { أَلاَّ تُقْسِطُواْ } إنْ قَدَّرَتْ أنها على حذف حرف الجر ، أي : " مِنْ أن لا " ففيها الخلاف المشهور أي : في محل نصب [ أو جر ، وإنْ لم تقدّر ذلك بل وصل الفعل إليها بنفسه ، كأنك قلت : " فَإنْ حَذَرْتم " فهي في محل نصب ] فقط كما تَقَدَّمَ في البقرة.
وقرا الجمهور : " تقسطوا " بضم التاء ، من أقْسَط : إذا عدل ، فتكون لا على هذه القراءة نافيةُ ، والتقديرُ : وإنْ خِفْتُمْ عدم الإقساط أي : العدل.
وقرأ إبراهيم النخعي : ويحيى بن وثَّاب بفتحها من " قسط " وفيها تأويلان :
أحدهما : أن " قَسَطَ " بمعنى " جار " ، وهذا هو المشهور في اللغة ، أعني أن الرباعي بمعنى عَدَلَ ، والثلاثي بمعنى جار ، وكأنَّ الهمزة فيه للسَّلْبِ بمعنى " أقسط " أي : أزال القسط وهو الجور ، و" لا " على هذا القول زائدة ليس إلا ، وإلا يفسد المعنى كهي في قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ].
(19/492)
والثاني : حكي الزجاج أن " قسط " الثلاثي يستعمل استعمال " أقسط " الرباعي ، فعلى هذا تكون " لا " غير زائدة ، كهي في القراءة الشهيرة ؛ إلاَّ أنَّ التَّفْرِقَةَ هي المعروفةُ لغة.
قالوا : قاسطته إذَا غَلَبْتَهُ على قِسْطِهِ ، فبنوا " قسط " على بناء ظلم وجار وغلب.
وقال الراغب : " القِسْط " أن يأخذ قِسْطَ غيره ، وذلك جَوْرٌ ، وأَقْسَطَ غيره ، والإقسَاطِ أن يُعْطِيَ قِسْطَ غَيْرِهِ ، وذلك إنصاف ، ولذلك يقال : قَسَطَ الرَّجُلُ إذَا جَار ، وأَقْسَطَ إذَا عدَلَ ، قال تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ].
[ وقال تعالى : { وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ الحجرات : 9 ].
وَحُكِيَ أنَّ الحَجَّاجَ لما أحضر سعيد بن جبير ، قال له : ما تقول فيَّ ؟ قال : " قَاسِطٌ عادِلٌ " فأعجب الحاضرون ، فقال لهم الحجاج : ويلكم لم تفهموا عنه إنّه جعلني جائراً كافراً ، ألم تسمعوا قوله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ].
المادة من قوله : { قَآئِمَاً بالقسط } [ آل عمران : 18 ].
قوله : { مَا طَابَ } في " ما " هذه أوجه :
أحدها : أنها بمعنى الذي وذلك عند من يرى أن " ما " تكون للعاقل ، وهي مسألة مشهورة ، وذلك أن " ما " و" من " وهما يتعاقبان ، قال تعالى : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] وقال : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] وقال { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ } [ النور : 45 ].
وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان من سبح الرعد بحمده.
وقال بعضهم : نَزَّلَ الإناث منزلة غير العقلاء كقوله : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ].
(19/493)
قال بعضهم : وَحَسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء ، وهن ناقصات العقول. وبعضهم يقول : هي لصفات من يعقل.
وبعضهم يقول : لنوع من يعقل كأنه قيل : النوع الطيب من النساء ، وهي عبارات متقاربة. فلذلك لم نعدّها أوجهاً.
الثاني : أنها نَكِرَةٌ موصوفة ، أي : انكحوا جنساً طيباً أو عدداً طيِّباً.
الثالث : أنها مصدرية ، وذلك المصدر واقع موقع اسم الفاعل ، تقديره : فانحكوا [ الطَّيِّبَ.
وقال أبو حيان : والمصدر مقدر هنا باسم الفاعل ، والمعنى فانكحوا ] النكاح الذي طاب لكم. والأول أظهر.
الرابع : أنها ظرفية تستلزم المصدريَّة ، والتقدير : فانحكوا ما طاب مدة يطيب فيها النكاح لكم. إذا تقرر هذا ، فإن قلنا : إنها موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، أو مصدرية ، والمصدرُ واقع اسم الفاعل كانت " ما " مفعولاً بـ " انكحوا " ويكون " من النساء " فيه وجهان :
أحدهما : أنها لبيان الجنس المبهم في " ما " عند مَنْ يثبت لها ذلك.
والثاني : أنها تبغيضية ، أي : بعض النساء ، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من " ما طاب " وإن قلنا : إنها مصدرية ظرفية محضة ، ولم يُوقع المصدر موقع اسم فاعل كما قال أبو حيان كان مفعول " فانكحوا " قوله " من النساء " نحو قولك : أكلت من الرغيفِ ، وشربتُ من العسل أي : شيئاً من الرغيف وشيئاً من العسل.
فإن قيل : لِمَ لا يجعل على هذا " مثنى " وما بعدها هو مفعول " فانكحوا " أي : فانكحوا هذا العدد ؟ فالجواب أن هذه الألفاظ المعدولة لا تلي العوامل.
وقرأ ابن أبي عبلة " مَنْ طَابَ " وهو يرجحُ كون " ما " بمعنى الذي للعاقل ، وفي مصحف أبي بن كعب بالياء ، وهذا ليس بمبني للمفعول ؛ لأنه قاصر ، وإنما كُتِبَ كذلك دلالة على الإمالة وهي قراءة حمزة.
(19/494)
قوله " مَثْنَى " منصوب على الحال من " طَابَ " وجعله أبو البَقاء حالاً من " النساء " فأجاز هو وابن عطية أن يكون بدلاً من " ما " وهذان الوجهان [ ضعيفان ].
أمَّا الأول : فلأنَّ الْمُحْدَّث عنه إنما هو الموصول وأتى بقوله { النسآء } كالتبيين.
وأما الثاني : فلأنَّ البدل على نِيَّةِ تكرار العامل ، وقد تقدم أن هذه الألفاظ لا تباشر العوامل.
واعلم أن هذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف ، وهل يجوز فيها القياس أم يقتصر فيها على السماع ؟ قولان :
وقول الكوفيين وأبي إسحاق : جوازه.
والمسموع [ من ذلك ] أحد عشر لفظاً : أُحاد ، وَمَوْحَد ، وثُنَاء ، وَمَثْنَى ، وَثُلاَثَ ، وَمَثْلَث ، ورُباع ، وَمَرْبَع ، ولم يسمع خُماس ومَخْمس ، وعَشار ومَعْشَر.
واختلفوا أيضاً في سبب منع الصرف فيها على أربعة مذاهب :
أحدها : مذهب سيبويه ، وهو أنها مُنِعَتْ من الصرف للعدلِ والوصفِ أمَّا الوصف فظاهر ، وَأَمَّا العدل فلكونها معدولة من صيغة إلى صيغة وذلك أنها معدولة عن عدد مكرر.
فإذا قلت : جاء القوم أحاد أو مَوْحَدَ أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ ، كان بمنزلة قولك : جاءوا واحداً واحداً وثلاثةً ثَلاثَةً ، ولا يُرادُ بالمعدولِ عنه التوكيد ، إنما يُرادُ به تكرار العدد لقولهم : علمته الحساب باباً باباً.
والثاني : مذهب الفراء ، وهو العدل والتعريف بنية الألف واللام ولذلك يمتنع إضافتها عنده لتقدير الألف واللام ، وامتنع ظهور الألف واللام عنده لأنها في نِيَّة الإضافة.
الثالث : مذهب أبي إسحاق : وهو عدلها عن عدد مكرر وعدلها عن التأنيث.(19/495)
والرابع : نَقَلَهُ الأخفش عن بعضهم ، أنه تكرار العدل ، وذلك أنه عَدَلَ عن لفظ اثنين اثنين ، وعن معناه ؛ لأنه قد لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد في المعدولة بقوله : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا تقول : " جاءني مَثْنَى وثلاث " حتى يتقدم قبله جمع ؛ لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل ، فإذا قلت : " جَاءَ الْقَوْمُ مَثْنَى " ، أَفَادَ أنَّ مجيئهم وقع من اثنين اثنين ، بخلاف غير المعدولة ، فَإنَّها تفيد الإخبار عن مقدارِ المعدودِ دُونَ غيره ؛ فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العِلَّةُ مَقَامَ العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين - انتهى.
وقال الزمخشري : " إنَّمَا منعت الصرف لما فيها من العَدْلَيْن ؛ عدلها من صيغتها ، وعدلها عن تكررها ، وهن نكرات يُعَرَّفْنَ بلام التعريف ، يقال : فلان ينكح المثْنَى والثلاث ".
قال أبو حيان : " ما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا اعلم أحداً قاله ، بل المذهب فيه أربعة " ذكرها كما تقدم ، وقد يقال : إنَّ هذا هو المذهب الرابع وعبَّر عن العدل في المعنى بعدلها عن تكررها وناقشه [ أبو حيان ] أيضاً في مثاله بقوله : ينكح المثنى من وجهين :
أحدهما : دخول " أل " عليها ، قال : " وهذا لم يذهب إليه أحد بَلْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ في لسان العرب إلاَّ نكرات "
الثاني : أنه أولاها العوامل ، ولا تلي العوامل بل يتقدمها شيء يلي العوامل ، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام : " صلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى " أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة أو صفات نحو قوله تعالى : { أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] وقوله : [ الطويل ]
.............................. ذِئَابٌ تَبَغَّى النَّاسَ مَثْنَى وَمَوْحَدُ
وقد وقعت إضافتها قليلاً كقوله : [ الطويل ]
(19/496)
........................... بِمَثْنَى الزُّقَاقِ المُتْرَعَاتِ وَبِالجُزُرْ
وقد استدلَّ بعضهم على إيلائها العَوَامل على قِلَّةٍ بقوله : [ الوافر ]
1740 - ضَرَبْتُ خُمَاسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ... أذارُ سُدَاس ألاَّ يَسْتَقِيمَا
ويمكن تأويله على حذف المفعول لفهم المعنى تقديره : ضربتهم خماس.
ومن أحكام هذه الألفاظ ألا تؤنث بالتاءِ ، لا تقول : " مثناة " ولا " ثُلاثة " بل تَجْرِي على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً.
وقرأ النخعي وابن وثّاب " ورُبَعَ " من غير ألف ، وزاد الزمخشري عن النخعي : " وثُلَثَ " أيضاً ، وغيره عنه " ثُنَى " مقصوراً من " ثُناء " حَذَفوا الألف من ذلك كله تحقيقاً ، كما حذفها الآخر في قوله : [ الرجز ]
........................ يريد بارداً وَصلَّياناً بَرِدَا
قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله : { وَلَن تستطيعوا } [ النساء : 129 ] ما أنتج [ من ] الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوّج غير واحدة ، أو يتسرَّى بما ملكت يمينه ، ويبقى الفصل بجملة الاعتراض لا فائدة له ، بَلْ يكون لغواً على زعمه.
والجمهور على نصب " فواحدة " بإضمار فعل أي : فانكحوا واحدة وطؤوا ما ملكت أيمانكم ، وإنما قدّرنا ناصباً آخر لملك اليمين ؛ لأن النكاح لا يقع في ملك اليمين ، إلا أن يريد به الوطء في هذا ، والتزويج في الأول ، فيلزم استعمال المشترك في معنيين أو الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وكلاهما مقول به ، وهذا قريب من قوله : [ الرجز ]
عَلَفْتُهَا تِبْنَاً وَمَاءً بَارِدَاً.................................
وبابه.
وقرأ الحسن وأبو جعفر : " فواحدةٌ " بالرفع ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الرفع بالابتداء ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على فاء الجزاء ، والخبر محذوف أي : فواحدة كافية.(19/497)
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالمقنع واحدة.
الثالث : أنه فاعل بفعل مقدّر أي : يكفي واحدة.
و " أو " على بابها من كونها للإباحة أو التخيير. و" ما ملكت " كهي [ في قوله ] : " مَا طَابَ " [ فإن قيل : المالك هو نفسه لا يمينه ، فلِمَ ] أضاف المِلْك لليمين [ فالجواب ] لأنها محل المحاسن ، وبها تُتَلَقَّى رايات المجد.
وروي عن أبي عمرو : " فما ملكت أيمانكم " ، والمعنى : إن لم يعدل في عِشْرَةِ واحدة فما ملكت يمينه.
وقرأ ابن أبي عبلة " أو من ملكت أيمانكم ".
ومعنى الآية : إن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة ، أو بالمملوكة.
قوله : " ذلك أدنى " مبتدأ وخبر ، و" ذلك " إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي.
و " أدنى " أفعل تفضيل من دنا يدنو أي : قرُب إلى عدم العول.
قال أبو العباس المقرئ : " ورد لفظ أدنى في القرآن على وجهين :
الأول : بمعنى أحرى قال تعالى : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ }.
والثاني : بمعنى " دون " قال تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 ] يعني الرديء بالجيد ".
قوله تعالى : { أَلاَّ تَعُولُواْ } في محل نصب أو جرٍّ على الخلاف المشهور في " أن " بعد حذف حرف الجر ، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثة أوجه :
أحدها : " إلى " أي : أدنى إلى ألا تعولوا.
والثاني : " اللام " والتقدير : أدنى لئلا تعولوا.
والثالث : وقدّره الزمخشريُّ من ألا تميلوا ؛ لأن أفعل التفضيل يجري مجرى فعله ، فما تعدى به فعله [ تعدى ] هو به ، وأدنى من " دنا " و" دنا " يتعدى بـ " إلى " و" اللام " ، و" من " تقول : دنوت إليه ، وله ، ومنه.
وقرأ الجمهور : " تعولوا " من عال يعول إذا مال وجار ، والمصدر العول والعيالة ، وعال الحاكم أي : جار.
(19/498)
حكي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له : أتعول عليَّ.
وقال أبو طالب في النبي عليه السلام [ الطويل ]
............................... لَهُ حَاكِمٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } [ النساء : 3 ] قال : " لاَ تَجُورُوا ".
وفي رواية أخرى " ألا تميلوا ".
قال الواحدي رحمه الله : " كلا اللفظين مرويّ ؛ وعال الرجل عيالَهُ يَعُولهم إذا مانَهُمْ من المؤونة ومنه أبْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بمَنْ تَعُول ".
وحكى ابن العربي : عال الرجل يعول : كثر عياله ، وَعَالَ يِعِيلُ افتقر وصار له عائلة ، والحاصل أن " عال " يكون لازماً ومتعدياً ، فاللازم يكون بمعنى : مال وجار ، والمتعدي ومنه " عال الميزان ".
قال أبو طالب : [ الطويل ]
بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَغِلُّ شَعِيرَةً... وَوَزَّان صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ
وعالت الفريضة إذا زارت سهامها ، ومعنى كثر عياله ، وبمعنى تفاقم الأمر ، والمضارع من هذا كله يَعُولُ ، وعال الرجل افتقر ، وعالَ في الأرض : ذهب فيها ، والمضارع من هذين يَعِيل ، والمتعدي يكون بمعنى أثقل ، وبمعنى مانَ من المؤونة ، وبمعنى غَلَبَ ومنه " عيل صبري " ، ومضارع هذا كله يَعُول ، وبمعنى أعجز ، تقول : أعجزني الأمرُ ، ومضارع هذا يَعيل ، والمصدر " عَيْل " و" مَعِيل " ، فقد تلخص من هذا أن " عال " اللازم يكون تارة من ذوات الواو ، وتارة من ذوات الياء ، باختلاف المعنى ، وكذلك عال المتعدي أيضاً. ومنه : [ الطويل ]
وَوَزَّانُ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ... وفسَّر الشافعي رحمه الله { تَعُولُواْ } بمعنى يكثر عيالُكُم.
وردَّ هذا القول جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب النظم.
(19/499)
قال الرازي : " هذا غلط من جهة المعنى واللفظ ، أما المعنى فللإباحة السراري صح أنه مظنة كثرة العيال كالتزويج ، وأما اللفظ ؛ فلأن مادة عال بمعنى كثر عياله من ذوات الياء ؛ لأنه من العَيْلَةِ ، وأما عال بمعنى " جار " فمن ذوات الواو ، واختلفت المادتان ، وأيضاً فقد خالف المفسرين ".
وقال صاحبُ النظم : قال أولاً " ألاَّ تعدلوا " فوجب أن يكون ضده الجور.
وأجيب عن الأول وهو أنَّ التَّسري أيضاً يكثر معه العيال ، مع أنه مباح ممنوع ؛ لأن الأمة ليست كالزوجة ؛ لأنه يعزل عنها بغير إذنها ، ويؤجرها ويأخذ أجرتها ينفقها عليه وعلى أولاده وعليها.
قال الزمخشري : " وجههُ أن يُجْعَلَ من قولك : عَالَ الرجلُ عياله يعولهم كقولك : مانَهم يُمُونهم أي : أنْفَقَ عليهم ؛ لأن من كثر عياله لَزِمَهُ أن يَعُولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة من كسب الحلال والأخذ من طيب الرزق " ثم أثنى على الشافعي ثناءً جميلاً ، وقال : ولكن للعلماء طُرق وأساليبُ ، فسلك في تفسير هذه الآية مسلك الكنايات ، انتهى.
وأما قولُهم : " خالف المفسرين " فليس بصحيح ، بل قاله زيد بن أسلم وابن زيد.
وأما قولهم : " اختلفت المادتان " فليس بصحيح أيضاً ؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن الأعرابي عن العرب : عال الرجل يعول كثر عياله ، وحكاها الْكِسَائِيُّ أيضاً قال : يقالُ : عالَ الرَّجل يَعُولُ ، وأعال يعيل كثر عياله.
قال أبو حاتم : كان الشَّافِعِيُّ أعْلَمَ بلسانِ العرب مشنَّا ، ولعلّه لغة ، ويقال : هي لغة " حمير " ونقلها أيضاً الدَّوْرِيُّ المقرِئُ لغةً عِنْ حِمْيَرَ وأنشد [ الوافر ] :
وَإنَّ الْموتَ يأخُذُ كُلَّ حَيٍّ... بِلاَ شَكٍّ وَإنْ أمْشِي وَعَالا
أمشى : كثرت ماشيته ، وعَالَ كَثُرَ عياله ، ولا حجَّةَ في هذا ؛ لاحتمال أن يكون " عال " من ذَوَاتِ الياء ، وهم لا يُنْكِرُونَ أنَّ " عال " يكون بمعنى كثر عياله ، ورُوِيَ عنه أيضاً أنَّهُ فَسَّرَ تعولوا بمعنى تفتقروا ، ولا يُريدُ به أنَّ " تعولوا " وتعيلوا بمعنى ، بل قصد الكِنَايَة أيضاً ؛ لأن كثرةَ العيالِ سَبَبٌ للفقر.
وقرأ طلحة : " تَعيلوا " بفتح تاء المضارعة من عال يعيل افتقر قال : [ الوافر ]
فَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِنَاهُ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وقرأ طاوس : " تُعيلوا " بضمها من أعَالَ : كثر عياله ، وهي تُعَضَّدُ تفسير الشَّافعيِّ المتقدِّم من حيث المعنى.
وقال الرَّاغبُ : عَالَهُ ، وَغَالَهُ يتقاربان ، لكن الغَوْلَ : فيما يُهلك والعَوْل فيما يُثْقِلُ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 156 ـ 170}. بتصرف يسير.(19/500)
بحث قيم
"تعدد الزّوجات ضرورة اجتماعية"
قال فى الأمثل:
لقد أجازت الآية الحاضرة تعدد الزوجات (ولكن بشرائط ثقيلة وفي حدود معينة) وقد أثارت هذه الإِباحة جماعة ، فانطلقوا يوجهون إِليها الاعتراضات والإِشكالات ، وتعرض هذا القانون الإِسلامي لهجمة كبيرة من المعارضين الذين تسرعوا في إصدار الحكم عن هذا القانون الإِسلامي متأثرين بالأحاسيس ، ودون أن يتناولوه بالدرس والتمحيص ، والتأمل والتحقيق. وكان الغربيون أكثر هذه الجماعة معارضة لهذا القانون وهجوماً عليه ، متسائلين كيف يجوز للإِسلام أن يسمح للرجال أن يقيموا لأنفسهم حريماً ويتخذوا زوجات متعددة على نحو ما كان شائعاً في الجاهلية؟
كلاّ ، إِنّ الإِسلام لم يسمح لأحد بأن يقيم حريماً بالمعنى الذي تصورتم ، ولا أنّه أباح تعدد الزوجات دون قيد أو شرط ، ودون حدّ أو قانون.
ولتوضيح هذه الحقائق نقول: إِن دراسة البيئات المختلفة قبل الإِسلام تكشف لنا أنّ تعدد الزوجات دونما عدد معين كان أمراً عادياً وشائعاً ، لدرجة أنّ بعض الوثنيين أسلموا وتحت الرجل منهم عشر زوجات أو أقل ، من هنا لم تكن مسألة تعدد الزّوجات ممّا أبدعه الإِسلام ، نعم إنّ ما فعله الإِسلام هو وضع هذا الأمر في إطار الحاجة والضرورة الحيوية الإِنسانية ، وتقييده بطائفة من القيود والشروط الثقيلة.
إنّ قوانين الإِسلام وتشريعاته تدور على محور الحاجات الإِنسانية ، وتقوم على أساس مراعاة الضرورات الحيوية في دنيا البشر ، لا الدعاية الظاهرة ولا المشاعر الموجهة توجيهاً غير صحيح ، ومسألة تعدد الزوجات من هذا القبيل أيضاً ، فقد لوحظت هي الأخرى من هذه الزاوية ، لأنّه لا أحد يمكنه أن ينكر أنّ الرجال أكثر تعرضاً من النساء لخطر الفناء والموت بسبب كثرة ما يحيط بهم من الحوادث ، المختلفة.(19/501)
فالرجال يشكلون القسم الأكبر من ضحايا الحروب ، والمعارك.
كما أنّه لا يمكن إِنكار أنّ أعمار الرجال من الناحية الجنسية أطول من أعمار النساء في هذا المجال ، فالنساء يفقدون القدرة الجنسية (والقدرة على الإِنجاب) في سن معين من العمر قريب ، في حين يبقى الرجال متحفظين بهذه الطاقة والقدرة مدّة أطول بكثير.
كما أنّ النساء ـ في فترة العادة الشهرية وشيء من فترة الحمل ـ يعانين من موانع جنسية بصورة عملية في حين لا يعاني الرجل من أي مانع جنسي من هذا النوع.
هذا كلّه مضافاً إِلى أن هناك نساء يفقدون أزواجهنّ لبعض الأسباب ، فلا
يتيسر لهن أن يجلبن اهتمام نظر الرجال إِلى أنفسهن كزوجة أُولى ، فإِذا لم يسمح بتعدد الزوجات ، وجب أن تبقى تلك النسوة بلا أزواج ، كما نقرأ ذلك في الصحف المختلفة حيث يشكو هذا النوع من النساء الأرامل من صعوبات الحياة ومشكلات العيش بسبب تحديد مسألة تعدد الأزواج أو إِلغائها بالمرّة ، وحيث يعتبرن المنع من التعدد نوعاً من القوانين الظالمة الجائرة والمعادية لهنّ.
بالنظر إِلى هذه الحقائق ، وعندما يضطرب التوازن بين عدد النساء والرجال نجد أنفسنا مضطرين لأن نختار أحد طرق ثلاث هي:
1 ـ أنْ يقنع كل رجل بزوجة واحدة فقط في جميع الحالات والموارد ، ويبقى العدد الإِضافي من النساء بلا أزواج إِلى اخر أعمارهن ، ويكبتن حاجاتهنّ الفطرية ويقمعن غرائزهنّ الباطنية الملتهبة.
2 ـ أن يتزوج الرجل بامرأة واحدة بصورة مشروعة ثمّ يترك حرّاً لإِقامة علاقات جنسية مع من شاء وأراد من النساء اللائي فقدن ازواجهن لسبب وآخر على غرار اتّخاذ الأخدان والعشيقات.(19/502)
3 ـ أنْ يسمح لمن يقدر أن يتزوج بأكثر من واحدة ولا يقع في أية مشكلة من الناحية "الجسمية" و"المالية" و"الخلقية" من جراء هذا الأمر ، كما ويمكنه أن يقيم علاقات عادلة بين الزوجات المتعددة وأولادهن ، أن يسمح لهم بأن يتزوجوا بأكثر من واحدة (على أن لا يتجاوز عدد الأزواج أربعاً) ، وهذه هي ثلاث خيارات وطرق لا رابع لها.
وإِذا أردنا اختيار الطريق الأوّل يلزم أن نعادي الفطرة والغريزة البشرية ، ونحارب جميع الحاجات الروحية والجسمية لدى البشر ، ونتجاهل مشاعر هذه الطّائفة من هذه النّسوة ، هذه الحرب والمعركة التي لن يكون فيها أي انتصار ، وحتى لو نجح هذا الطرح وكتب له التوفيق ، فإِن ما فيها من الجوانب اللا إِنسانية أظهر من أن تخفى على أحد.
وبعبارة أُخرى أن تعدد الزوجات في الموارد الضرورية يجب أن لا ينظر إليه أو يدرس من منظار الزوجة الأُولى ، بل يجب أن يدرس من منظار الزوجة الثانية أيضاً.
إِنّ الذين يعالجون هذه المسألة وينظرون إِلى خصوص مشاكل الزوجة الأُولى في صورة تعدد الزوجات هم أشبه بمن يطالع مسألة ذات زوايا ثلاث من زاوية واحدة ، لأن مسألة تعدد الزوجات ذات ثلاث زوايا ، فهي يجب أن تطالع من ناحية الرجل ، ومن ناحية الزوجة الأُولى ، ومن ناحية الزوجة الثانية أيضاً ، ويجب أن يكون الحكم بعد ملاحظة كل هذه الزوايا في المسألة ، ويتمّ على أساس مراعاة مصلحة المجموع في هذا الصعيد.(19/503)
وإذا اخترنا الطريق الثاني وجب أن نعترف بالفحشاء والبغاء بصورة قانونية ، هذا مضافاً إِلى أن النساء العشيقات اللائي يجعلن أنفسهنّ في متناول هؤلاء الرجال لإِرواء حاجتهم الجنسية يفتقدن كل ضمانة وكل مستقبل ، ويعني ذلك يسحق شخصيتهنّ سحقاً كام ـ في الحقيقة ـ إِذ يصبحن حينئذ مجرد متاع يقتنى عند الحاجة ويترك عند ارتفاعها دون التزام ومسؤولية ، ولا شك أن هذه الأُمور ممّا لا يسمح به أي عاقل مطلقاً.
وعلى هذا الأساس لا يبقى إِلاّ الطريق الثالث ، وهو الطريق الذي يلبي الحاجات الفطرية والغريزية للنساء ، كما أنه يجنب هذه الطائفة من النساء ويحفظهنّ من عواقب الفحشاء والإِنزلاق إِلى الفساد ، وبالتالي ينقذ المجتمع من مستنقع الآثام والذنوب.
على أن من الواجب أن نلتفت إِلى أنّ السماح بتعدد الزوجات مع أنّه ضرورة اجتماعية في بعض الموارد ومع أنّه من أحكام الإِسلام القطعية ، إِلاّ أن توفير شرائطه يختلف اختلافاً كبيراً عن الأزمنة الماضية ، لأن الحياة كانت في العصور
السابقة ذات نمط بسيط ومواصفات سهلة ، ولهذا كانت رعاية المساواة والعدالة بين الزوجات المتعددات أمراً ممكناً وميسراً لأكثر الناس ، في حين يجب على الذين يريدون الأخذ بهذا القانون الإِسلامي في هذا العصر أن يراعوا مسألة العدالة من جميع الجوانب ، وأن يقدموا على هذا الأمر إذا كانوا قادرين على الوفاء بجميع شروطه.
وبالجملة يجب أن لا يقدم أحد على هذا العمل بدافع الهوى والهوس.
هذا والملفت للنظر هنا هو أن الذين يعارضون مبدأ تعدد الزوجات (كالغربيين) قد واجهوا طوال تاريخهم ظروفاً ألجأتهم إِلى هذا المبدأ بصورة واضحة.(19/504)
ففي الحرب العالمية الثانية برزت حاجة شديدة في البلاد التي تعرضت لويلات الحرب هذه وبالأخص ألمانيا ، إِلى هذا الموضوع مما دفع بطائفة من المفكرين في سياق البحث عن حلّ لهذه المشكلة إِلى إعادة النظر في مسألة المنع عن تعدد الزوجات ، إِلى درجة أنّهم طلبوا من الجامع "الأزهر" بالقاهرة البرنامج الإِسلامي حول تعدد الزوجات للدراسة ، ولكنهم اضطروا ـ وتحت ضغوط شديدة من جانب الكنائس ـ إِلى التوقف عن المضي في دراسة هذا البرنامج ، وكانت النّتيجة هو تفشي الفحشاء والفساد الجنسي الشديدين في جميع البلاد التي تعرضت للحرب وويلاتها.
هذا بغض النظر عن أنّه لا يمكن إِنكار ما يحس به طائفة من الرجال من الميل إِلى اتّخاذ زوجات متعددة ، فإِن كان هذا الميل والرغبة ناشئين من الهوى والهوس لم يكن جديراً بالنظر ، أمّا إِذا كانا ناشئين عن عقم الزوجة عن إِنجاب الأولاد من جانب ، ورغبة الرجل الشديدة في الحصول على أبناء له ـ كما هو الحال في كثير من الموارد ـ من جانب آخر ، فهو ميل ورغبة منطقيان وجديران
بالاهتمام والرعاية.
كما أنّه لو كانت الرغبة في تعدد الزوجات ناشئة من الميل الجنسي الشديد لدى الرجل وعدم قدرة الزوجة الأُولى على تلبية هذا الميل كما ينبغي ، ولهذا يرى الرجل نفسه مضطراً إِلى اتخاذ زوجة ثانية حتى لا يقدم على إشباع هذه الحاجة من طريق غير مشروع لإِمكان إِشباعه من طريق مشروع ، وفي هذه الصورة أيضاً لا يمكن إِنكار منطقية هذا الميل لدى الرجل ، ولهذا تكون إقامة العلاقات مع النساء المتعددات أمراً رائجاً عملياً حتى في البلاد التي تحظر تعدد الزوجات ، فيعقد الرجل الواحد علاقات غير مشروعة مع نساء عديدات.(19/505)
إِن المؤرخ الفرنسي المعروف "غوستاف لوبون" يعتبر قانون تعدد الزوجات الذي يقرّه الإِسلام ضمن حدود وشروط خاصّة ـ من مزايا هذا الدين ، ويكتب عند المقارنة بينه وبين طريقة العلاقات الجنسية الحرّة غير المشروعة الرائجة في الغرب قائلا: "وفي الغرب حيث الجو والطبيعة لا يساعدان على تعدد الزوجات ، وبرغم أنّ القوانين الغربية تمنع التعدد ، ولكن الغربيين قلما تقيدوا بهذه القوانين وخرقوها بعلاقاتهم السرّية الآثمة.
ولا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوروبيين ، بل أرى ما يجعله أسنى منه".
طبعاً لا يمكننا إنكار أنّ هناك بعض أدعياء الإِسلام ممن يستخدمون هذا القانون الإِسلامي من دون مراعاة الروح الإِسلامية فيه فيتخذون حريماً كلّه فساد وفجور ويتعدون على حقوق أزواجهم ، بيد أنّ هذا ليس هو عيب في هذا القانون الإِسلامي ولا يجوز اعتبار أعمالهم القبيحة وأفعالهم الرخيصة هذه من الإِسلام ، فهي ليست من أحكام الإِسلام في شيء. ترى أي حكم أو قانون جيد ثمّ إنّ هاهنا من يسأل أنّه قد تتوفر الشرائط والكيفيات المذكورة أعلاه بالنسبة إِلى امرأة أو نساء ، فهل يجوز أن نسمح لها أن تختار لنفسها زوجين كما نسمح للرجال ذلك؟
الجواب
إنّ الجواب على هذا السؤال ليس صعباً كما يمكن أن يتصور ، وذلك:
أوّلا:
إِنّ الرغبة الجنسية لدى الرجال (على خلاف ما هو شائع بين السواد من الناس) أقوى وأشدّ بأضعاف من النساء ، وأن المرض النفسي الذي تصرّح به أكثر الكتب النفسية والطبية هو "البرود الجنسي" لدى المرأة في حين أن الأمر في الرجال هو العكس ، ولا يقتصر هذا الأمر على البشر ، ففي عالم الحيوانات كذلك نجد ذكورها أسبق إِلى إِظهار الميول الجنسية من إِناثها.
ثانياً:(19/506)
إِنّ تعدد الزوجات للرجال لا ينطوي على أية مشاكل اجتماعية وحقوقية ، في حين أنّ السماح بتعدد الأزواج للنساء (أي لو أنّنا سمحنا لامرأة أن تتزوج برجلين) يسبب مشاكل كثيرة أبسطها هو ضياع النسب ، إِذ لا يعرف في هذه الصورة إِلى من ينتسب الولد ، ولا شك أن مثل هذا الولد المجهول الأب لن يحظى باهتمام أي واحد من الرجال ، بل ويعتقد بعض العلماء أن الولد المجهول الأب قلّما يحظى حتى بحبّ الأُمّ واهتمامها به ، وبهذه الصورة يصاب الولد الناشىء من مثل المرأة ذات الزوجين بحرمان مطلق من الناحية العاطفية ، كما أنّه يكون ـ بطبيعة الحال ـ مجهول الحال من الناحية الحقوقية أيضاً.
ولعلّه لا يحتاج إِلى التذكير بأن التوسل بوسائل منع الحمل للحيلولة دون انعقاد النطفة ، وحصول ولد لا يورث الاطمئنان مطلقاً ، ولا يكون دلي قاطعاً
على عدم حمل الزوجة بولد ، لأن ثمّة كثيراً من النساء يستخدمن هذه الوسائل ، أو يخطئن في استخدامها فيلدن وينجبن أولاداً ، ولهذا لا يمكن لأية امرأة أن تسمح لنفسها بأن تتزوج بأكثر من رجل اعتماداً على هذه الوسائل.
لهذه الأسباب لا يمكن أن يكون السماح للمرأة بتعدد الأزواج أمراً منطقياً ، في حين أنّه بالنسبة للرجال ـ ضمن الشروط المذكورة سابقاً ـ أمر منطقي ، وعملي أيضاً. أ هـ {الأمثل حـ 3 صـ 92 ـ 99}(19/507)
بحث نفيس لابن القيم
قال عليه الرحمة :
إباحة التعدد للرجل دون المرأة توافق القياس
وأما قوله: "وأنه أباح للرجل أن يتزوج بأربع زوجات ولم يبح للمرأة أن تتزوج بأكثر من زوج واحد" فذلك من كمال حكمة الرب تعالى وإحسانه ورحمته بخلقه ورعايه مصالحهم ويتعالى سبحانه عن خلاف ذلك وينزه شرعه أن يأتي بغير هذا ولو أبيح للمرأة أن تكون عند زوجين فأكثر لفسد العالم وضاعت الأنساب وقتل الأزواج بعضهم بعضا وعظمت البلية واشتدت الفتنة وقامت سوق الحرب على ساق وكيف يستقيم حال امرأة فيها شركاء متشاكسون وكيف يستقيم حال الشركاء فيها فمجيء الشريعة بما جاءت به من خلاف هذا من أعظم الأدلة على حكمة الشارع ورحمته وعنايته بخلقه.
فإن قيل: فكيف روعي جانب الرجل وأطلق له أن يسيم طرفه ويقضي وطره وينتقل من واحدة إلى واحدة بحسب شهوته وحاجته وداعي المرأة داعيه وشهوتها شهوته.(19/508)
قيل: لما كانت المرأة من عادتها أن تكون مخبأة من وراء الخدور ومحجوبة في كن بيتها وكان مزاجها أبرد من مزاج الرجل وحركتها الظاهرة والباطنة أقل من حركته وكان الرجل قد أعطي من القوة والحرارة التي هي سلطان الشهوة أكثر مما أعطيته المرأة وبلي بما لم تبل به أطلق له من عدد المنكوحات ما لم يطلق للمرأة وهذا مما خص الله به الرجال وفضلهم به على النساء كما فضلهم عليهن بالرسالة والنبوة والخلافة والملك والإمارة وولاية الحكم والجهاد وغير ذلك وجعل الرجال قوامين على النساء ساعين في مصالحهن يدأبون في أسباب معيشتهن ويركبون الأخطار ويجوبون القفار ويعرضون أنفسهم لكل بلية ومحنة في مصالح الزوجات والرب تعالى شكور حليم فشكر لهم ذلك وجبرهم بأن مكنهم مما لم يمكن منه الزوجات وأنت إذا قايست بين تعب الرجال وشقائهم وكدهم ونصبهم في مصالح النساء وبين ما ابتلي به النساء من الغيرة وجدت حظ الرجال أن تحمل ذلك التعب والنصب والدأب أكثر من حظ النساء من تحمل الغيرة فهذا من كمال عدل الله وحكمته ورحمته فله الحمد كما هو أهله.(19/509)
وأما قول القائل: "إن شهوة المرأة تزيد على شهوة الرجل" فليس كما قال والشهوة منبعها الحرارة وأين حرارة الأنثى من حرارة الذكر ولكن المرأة لفراغها وبطالتها وعدم معاناتها لما يشغلها عن أمر شهوتها وقضاء وطرها يغمرها سلطان الشهوة ويستولي عليها ولا يجد عندها ما يعارضه بل يصادف قلبا فارغا ونفسا خالية فيتمكن منها كل التمكن فيظن الظان أن شهوتها أضعاف شهوة الرجل وليس كذلك ومما يدل على هذا أن الرجل إذا جامع امرأته أمكنه أن يجامع غيرها في الحال وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وطاف سليمان على تسعين امرأة في ليلة ومعلوم أن له عند كل امرأة شهوة وحرارة باعثة على الوطء والمرأة إذا قضى الرجل وطره فترت شهوتها وانكسرت نفسها ولم تطلب قضاءها من غيره في ذلك الحين فتطابقت حكمة القدر والشرع والخلق والأمر ولله الحمد. أ هـ {إعلام الموقعين حـ 2 صـ 104 ـ 105}(19/510)
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} الآية.
هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن وهي قوله تعالى : {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} الآية.
والجواب عن هذا :
أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية ، والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر ، والمقصود من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية كما يدل عليه قوله : {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} الآية.
وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك ابن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله : {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ}الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية : {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} نزلت في عائشة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها.
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تملني فيما تملك ولا أملك ، يعني القلب ، انتهى من ابن كثير. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 71 ـ 72}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ قوله جلّ ذكره : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِى اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُم أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا}.
أباح الله للرجال الأحرار التزوج بأربع في حالة واحدة ، وأوجب العدل بينهن ، فيجب على العبد أن يراعي الواجبَ فإنْ عَلِمَ أنه يقوم بحق هذا الواجب آثر هذا المُباح ، وإنْ عَلِم أنه يقصُر في الواجب فلا يتعرَّض لهذا المباح ، فإنَّ الواجبَ مسؤولٌ عنه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 313}.
تم الجزء التاسع عشر من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء العشرون وأوله قوله تعالى
{ وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) }(19/511)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء العشرون
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(20/3)
الجزء العشرون
من الآية { 4 } من سورة النساء
وحتى الآية { 14} من سورة النساء(20/4)
قوله تعالى { وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما حذروا من القول الذي من مدلوله المحاجة عن كثرة النساء ؛ كان ربما تعلق به من يبخل عن بعض الحقوق ، لا سيما ما يستكثره من الصداق ، فأتبعه ما ينفي ذلك ، فقال - مخاطباً للأزواج ، لأن السياق لهم ، معبراً بما يصلح للدفع والالتزام المهيىء له : {وآتوا النساء} أي عامة من اليتامى وغيرهن {صدقاتهن} ، وقوله مؤكداً للإيتاء بمصدر من معناه : {نحلة} مؤيد لذلك ، لأن معناها : عطية عن طيب نفس ؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه : وأصله - أي النحل : إعطاء الشيء لا يراد به عوض وكذا إن قلنا : معنى النحلة الديانة والملة والشرعة والمذهب ، أي آتوهن ذلك ديانة.
ولما وقع الأمر بذلك كان ربما أبى المتخلق بالإسلام قبول ما تسمح به المرأة منه بإبراء أو رد على سبيل الهبة - لظنه أن ذلك لا يجوز أو غير ذلك فقال : {فإن طبن لكم} أي متجاوزات {عن شيء} ووحّد الضمير ليرجع إلى الصداق المفهوم من الصدقات ، ولم يقل : منها ، لئلا يظن أن الموهوب لا يجوز إلا إن كان صداقاً كاملاً فقال : {منه} أي الصداق {نفساً} أي عن شهوة صادقة من غير إكراه ولا خديعة {فكلوه} أي تصرفوا فيه بكل تصرف يخصكم {هنيئاً} أي سائغاً صالحاً لذيذاً في عافية بلا مشقة ولا مضرة {مريئاً} أي جيد المغبة بهجا ساراً ، لا تنغيص فيه ، وربما كان التبعيض ندباً إلى التعفف عن قبول الكل ، لأنه في الغالب لا يكون إلا عن خداع أو ضجر فربما أعقب الندم ، وهذا الكلام يدل أيضاً على تخصيص الأحرار دون العبيد ، لأنهم لا يملكون ماجعلته النساء لهم ليأكلوه هنيئاً.(20/5)
قال الأصبهاني : فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة علم أنها لم تطب نفسها ، وعن الشعبي أن رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع ، فقال شريح : رد عليها ، فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى : {فإن طبن لكم} [ النساء : 4 ] قال : لو طابت نفسها لما رجعت فيه ؛ وعنه قال : أقيلها فيما وهبت ولا أقيله ، لأنهن يخدعن. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 214 ـ 215}
فصل
قال الفخر :
قوله : {وَءاتُواْ النساء} خطاب لمن ؟ فيه قولان :
أحدهما : إن هذا خطاب لأولياء النساء ، وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا ، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئا لك النافجة ، ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه ، وقال ابن الأعرابي : النافجة يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، وأمر بدفع الحق إلى أهله ، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة.
القول الثاني : أن الخطاب للأزواج.
أمروا بإيتاء النساء مهورهن ، وهذا قول : علقمة والنخعي وقتادة واختيار الزجاج ، قال لأنه لا ذكر للأولياء ههنا ، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 146}
قال الطبرى :(20/6)
وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك ، التأويل الذي قلناه. وذلك أن الله تبارك وتعالى ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين النساءَ ، ونهاهم عن ظلمهنّ والجور عليهن ، وعرّفهم سبيلَ النجاة من ظلمهنّ. ولا دلالة في الآية على أن الخطاب قد صُرِف عنهم إلى غيرهم. فإذْ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين قيل لهم : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" ، هم الذين قيل لهم : "وآتوا النساء صدقاتهن" وأن معناه : وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهن نحلة ، لأنه قال في أوّل [الآية] : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" ، ولم يقل : "فأنكحوا" ، فيكون قوله : "وآتوا النساء صدقاتهن" ، مصروفًا إلى أنه معنيّ به أولياء النساء دون أزواجهن.
وهذا أمرٌ من الله أزواجَ النساء المدخول بهن والمسمَّى لهن الصداق ، أن يؤتوهن صدُقاتهن ، دون المطلقات قبل الدخول ممن لم يسمّ لها في عقد النكاح صداق. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 554}
فائدة
قال ابن عاشور :
جانبان مُسْتَضْعَفَان في الجاهلية : اليتيم ، والمرأة.
وحقّان مغبون فيهما أصحابهما : مال الأيتام ، ومال النساء ، فلذلك حرسهما القرآن أشدّ الحراسة فابتدأ بالوصاية بحق مال اليتيم ، وثنّى بالوصاية بحقّ المرأة في مال ينجرّ إليها لا محالة ، وكان توسّط حكم النكاح بين الوصايتين أحسن مناسبة تهَيّىء لعطف هذا الكلام.
فقوله : { وآتوا النساء } عطف على قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] والقول في معنى الإيتاء فيه سواء.
وزاده اتّصالاً بالكلام السابق أنّ ما قبله جرى على وجوب القسط في يتامى النساء ، فكان ذلك مناسبة الانتقال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 21}(20/7)
فصل
قال الفخر :
قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة ، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام ، قال تعالى : {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} [ التوبة : 29 ] والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها ، فعلى هذا الوجه الأول كأن المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن ، وعلى التقدير الثاني : كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم سواء سمي ذلك أو لم يسم ، إلا ما خص به الرسول صلى الله عليه وسلم في الموهوبة ، ثم قال رحمه الله : ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 146}
فصل
قال الفخر :
في تفسير النحلة وجوه :
الأول : قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد : فريضة ، وإنما فسروا النحلة بالفريضة ، لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب ، يقال : فلان ينتحل كذا إذا كان يتدين به ، ونحلته كذا أي دينه ومذهبه ، فقوله : {آتَوْا النساء صدقاتهن نِحْلَةً} أي آتوهن مهورهن ، فإنها نحلة أي شريعة ودين ومذهب وما هو دين ومذهب فهو فريضة.(20/8)
الثاني : قال الكلبي : نحلة أي عطية وهبة ، يقال : نحلت فلانا شيئاً أنحله نحلة ونحلا ، قال القفال : وأصله إضافة الشيء إلى غير من هوله ، يقال : هذا شعر منحول ، أي مضاف إلى غير قائله ، وانتحلت كذا إذا ادعيته وأضفته إلى نفسك ، وعلى هذا القول فالمهر عطية ممن ؟ فيه احتمالان : أحدهما : أنه عطية من الزوج ، وذلك لأن الزوج لا يملك بدله شيئاً لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله ، فالزوج أعطاها المهر ولم يأخذ منها عوضا يملكه ، فكان في معنى النحلة التي ليس بازائها بدل ، وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك ، وقال آخرون إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين ، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر فكان ذلك عطية من الله ابتداء.
والقول الثالث : في تفسير النحلة قال أبو عبيدة : معنى قوله {نِحْلَةً} أي عن طيب نفس ، وذلك لأن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض ، كما ينحل الرجل لولده شيئاً من ماله ، وما أعطى من غير طلب عوض لا يكون إلا عن طيب النفس ، فأمر الله باعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن ولا مخاصمة ، لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 147}
فصل
قال القرطبى :
هذه الآية تدلّ على وجوب الصداق للمرأة ، وهو مُجَمعٌ عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض ( أهل العلم ) من أهل العراق أن السيّد إذا زوّج عبده من أَمَته أنه لا يجب فيه صداق ؛ وليس بشيء ؛ لقوله تعالى : { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } فعمّ.(20/9)
وقال : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف } [ النساء : 25 ] وأجمع العلماء أيضاً أنه لا حَدّ لكثيره ، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } [ النساء : 20 ]. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 24}
فصل
قال الفخر :
قال أبو حنيفة رضي الله عنه : الخلوة الصحيحة تقرر المهر ، وقال الشافعي رضي الله عنه : لا تقرره احتج أبو حنيفة على صحة قوله بهذه الآية ، وذلك لأن هذا النص يقتضي إيجاب إيتاء المهر بالكلية مطلقا ، ترك العمل به فيما إذا لم يحصل المسيس ولا الخلوة ، فعند حصولهما وجب البقاء على مقتضى الآية.
أجاب أصحابنا بأن هذه عامة وقوله تعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [ البقرة : 237 ] يدل على أنه لا يجب فيها إلا نصف المهر ، وهذه الآية خاصة ولا شك أن الخاص مقدم على العام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 147}
فائدة
قال ابن عاشور :
والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج ، لكيلا يتذرّعوا بحياء النساء وضعفهنّ وطلبهنّ مرضاتَهم إلى غمص حقوقهنّ في أكل مهورهنّ ، أو يجعلوا حاجتهنّ للتزوّج لأجل إيجاد كافل لهنّ ذريعة لإسقاط المهر في النكاح ، فهذا ما يمكن في أكل مهورهنّ ، وإلاّ فلهنّ أولياء يطالبون الأزواج بتعيين المهور ، ولكن دون الوصول إلى ولاة الأمور متاعب وكلف قد يملّها صاحب الحقّ فيترك طلبه ، وخاصّة النساء ذوات الأزواج.(20/10)
وإلى كون الخطاب للأزواج ذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن جريج ، فالآية على هذا قرّرت دفع المهور وجعلته شرعاً ، فصار المهر ركناً من أركان النكاح في الإسلام ، وقد تقرّر في عدّة آيات كقوله : { فآتوهن أجورهن فريضة وغير ذلك } [ النساء : 24 ].
والمهر علامة معروفة للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة ، لكنّهم في الجاهلية كان الزوج يعطي مالاً لولي المرأة ويسمّونه حلواناً بضم الحاء ولا تأخذ المرأة شيئاً ، فأبطل الله ذلك في الإسلام بأن جعل المال للمرأة بقوله : { وآتوا النساء صداقتهن }.
وقال جماعة : الخطاب للأولياء ، ونقل ذلك عن أبي صالح قال : لأنّ عادة بعض العرب أن يأكل وليّ المرأة مهرها فرفع الله ذلك بالإسلام.
وعن الحضرمي : خاطبتْ الآية المتشاغرين الذين كانوا يتزوّجون امرأة بأخرى ، ولعلّ هذا أخذ بدلالة الإشارة وليس صريحَ اللفظ ، وكل ذلك ممّا يحتمله عموم النساء وعموم الصدقات.
والصدُقات جمع صدُقة بضمّ الدال والصدُقة : مهر المرأة ، مشتقّة من الصدق لأنّها عطية يسبقها الوعد بها فيصدقه المعطي.
والنِّحلة بكسر النون العطيّة بلا قصد عوض ، ويقال : نُحْل بضم فسكون.
وانتصب نحلة على الحال من "صدقاتهنّ" ، وإنّما صحّ مجيء الحال مفردة وصاحبها جمع لأنّ المراد بهذا المفرد الجنس الصالح للأفراد كلّها ، ويجوز أن يكون نِحلة منصوباً على المصدرية لآتوا لبيان النوع من الإيتاء أي إعطاءَ كرامة.(20/11)
وسمّيت الصدُقات نحلة إبعاداً للصدقات عن أنواع الأعواض ، وتقريباً بها إلى الهدية ، إذ ليس الصداق عوضاً عن منافع المرأة عند التحقيق ، فإنّ النكاح عقد بين الرجل والمرأة قصد منه المعاشرة ، وإيجاد آصرة عظيمة ، وتبادل حقوق بين الزوجين ، وتلك أغلى من أن يكون لها عوض مالي ، ولو جعل لكان عوضُها جزيلاً ومتجدّداً بتجدّد المنافع ، وامتداد أزمانها ، شأن الأعواض كلّها ، ولكنّ الله جعله هدية واجبة على الأزواج إكراماً لزوجاتهم ، وإنّما أوجبه الله لأنّه تقرّر أنّه الفارق بين النكاح وبين المخادنة والسفاح ، إذ كان أصل النكاح في البشر اختصاص الرجل بامرأة تكون له دون غيره ، فكان هذا الاختصاص يُنال بالقُوّة ، ثمّ اعتاض الناس عن القوّة بذْل الأثمان لأولياء النساء ببيعهم بناتهم ومَوْلَيَاتِهم ، ثمّ ارتقى التشريع وكمُل عقد النكاح ، وصارت المرأة حليلة الرجل شريكته في شؤونه وبقيت الصدُقات أمارات على ذلك الاختصاص القديم تميّز عقد النكاح عن بقية أنواع المعاشرة المذمومة شرعاً وعادة ، وكانت المعاشرة على غير وجه النكاح خالية عن بذل المال للأولياء إذ كانت تنشأ عن الحبّ أو الشهوة من الرجل للمرأة على انفراد وخفية من أهلها ، فمن ذلك الزنى الموقّت ، ومنه المخادنة ، فهي زنا مستمرّ ، وأشار إليها القرآن في قوله : { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } [ النساء : 25 ] ودون ذلك البغاء وهو الزنا بالإماء بأجور معيّنة ، وهو الذي ذكر الله النهي عنه بقوله : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } [ النور : 33 ] وهنالك معاشرات أخرى ، مثل الضماد وهو أن تتّخذ ذات الزوج رجلاً خليلاً لها في سنة القحط لينفق عليها مع نفقة زوجها.(20/12)
فلأجل ذلك سمّى الله الصداق نِحلة ، فأبعد الذين فسّروها بلازم معناها فجعلوها كناية عن طيب نفس الأزواج أو الأولياء بإيتاء الصدقات ، والذين فسروها بأنّها عطية من الله للنساء فرضها لهنّ ، والذين فسّروها بمعنى الشرع الذي يُنتحل أي يُتَّبع. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 21 ـ 23}
فائدة
قال القرطبى :
وقال المُعْتَمِر بن سليمان عن أبيه : زعم حضرميّ أن المراد بالآية المتَشَاغِرون الذين كانوا يتزوّجون امرأة بأُخرى ، فأُمِروا أن يضربوا المهور.
والأوّل أظهر ؛ فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد ؛ لأنه قال : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } إلى قوله : { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }.
وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأوّل فيها هو الآخر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 23 ـ 24}
قوله تعالى {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بإيتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له ، لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 148}
فائدة
قال الفخر :
إنما وحد النفس لأن المراد به بيان موقع الفعل ، وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما.
قال الفراء : لو جمعت كان صوابا كقوله : {الأخسرين أعمالا} [ الكهف : 103 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 148}
فائدة
قال الفخر :
من : في قوله : {مِنْهُ} ليس للتبعيض ، بل للتبيين والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله : {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [ الحج : 30 ] وذلك أن المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 148}(20/13)
فصل
قال الفخر :
منه : أي من الصدقات أو من ذلك وهو كقوله تعالى : {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} [ آل عمران : 15 ] بعد ذكر الشهوات.
وروي أنه لما قال رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق.. كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له : الضمير في قوله "كأنه" إن عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول : كأنها ، وان عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول : كأنهما ، فقال : أردت كأن ذاك ، وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت : وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا ، وفيه وجه ثالث : وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق ، والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 148}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } الآية أي فإن طابت أنفسهنّ لكم بشيء منه أي المذكور.
وأفرد ضمير "منه" لتأويله بالمذكور حملاً على اسم الإشارة كما قال رؤبة :
فيها خُطوط من سواد وبلَق...
كأنَّه في الجِلد توليع البَهَق
فقال له أبو عبيدة : إمّا أن تقول : كأنّها إن أردت الخطوط ، وإما أن تقول : كأنّهما إن أردت السواد والبلَق فقال : أردْتُ كأنّ ذلك ، ويْلَك أي أجرى الضمير كما يُجرى اسم الإشارة.
وقد تقدّم عند قوله تعالى : { عوان بين ذلك } في سورة البقرة ( 68 ).
وسيأتي الكلام على ضمير ( مثله ) عند قوله تعالى : { ومثله معه ليفتدوا به } في سورة العقود ( 36 ).
وجيء بلفظ نفساً مفرداً مع أنّه تمييز نسبة { طبن } إلى ضمير جماعة النساء لأنّ التمييز اسم جنس نكرة يستوي فيه المفرد والجمع.(20/14)
وأسند الطيب إلى ذوات النساء ابتداء ثم جيء بالتمييز للدلالة على قوّة هذا الطيب على ما هو مقرّر في علم المعاني : من الفرق بين واشتعل الرأس شيباً وبين اشتعل شيب رأسي ، ليعلم أنه طيب نفس لا يشوبه شيء من الضغط والإلجاء.
وحقيقة فعل ( طاب ) اتّصاف الشيء بالملاءمة للنفس ، وأصله طيب الرائحة لحسن مشمومها ، وطيب الريح موافقتها للسائر في البحر : { وجرين بهم بريح طيّبة } [ يونس : 22 ] ، ومنه أيضاً ما ترضى به النفس كما تقدّم في قوله تعالى : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } [ البقرة : 168 ] ثم استعير لما يزكو بين جنسه كقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] ومنه فعل { طبن لكم عن شيء منه نفساً } هنا أي رضين بإعطائه دون حرج ولا عسف ، فهو استعارة.
وقوله : { فكلوه } استعمل الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به ، أي في معنى تمام التملّك.
وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه ، لأنّ الأكل أشدّ أنواع الانتفاع حائلاً بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقّه.
ولكنّه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة مع قوله السابق : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] فتلك محسّن الاستعارة.
و { هنيئاً مريئاً } حالان من الضمير المنصوب وهما صفتان مشبّهتان من هنَا وهَنِيء بفتح النون وكسرها بمعنى ساغ ولم يعقب نغصاً.
والمريء من مُرو الطعام مثلث الراء بمعنى هنىء ، فهو تأكيد يُشبه الاتباع.
وقيل : الهنيء الذي يلذّه الآكل والمريء ما تحمد عاقبته.(20/15)
وهذان الوصفان يجوز كونهما ترشيحاً لاستعارة { كلوه } بمعنى خذوه أخذ ملك ، ويجوز كونهما مستعملين في انتفاء التبعة عن الأزواج في أخذ ما طابت لهم به نفوس أزواجهم ، أي حلالاً مباحاً ، أو حلالاً لا غرم فيه.
وإنّما قال : { عن شيء منه } فجيء بحرف التبعيض إشارة إلى أن الشأن أنّ لا يَعرى العقد عن الصداق ، فلا تسقطه كلّه إلاّ ؛ أنّ الفقهاء لمّا تأوّلوا ظاهر الآية من التبعيض ، وجعلوا هبة جميع الصداق كهبته كلّه أخذاً بأصل العطايا ، لأنّها لمّا قبضته فقد تقرّر ملكها إيّاه ، ولم يأخذ علماء المالكية في هذا بالتهمة لأنّ مبنى النكاح على المكارمة ، وإلاّ فإنّهم قالوا في مسائل البيع : إنّ الخارج من اليد ثم الراجع إليها يعتبر كأنّه لم يخرج ، وهذا عندنا في المالكات أمر أنفسهنّ دون المحجورات تخصيصاً للآية بغيرها من أدلّة الحجر فإنّ الصغيرات غير داخلات هنا بالإجماع.
فدخل التخصيص للآية.
وقال جمهور الفقهاء : ذلك للثيّب والبكر ، تمسّكاً بالعموم.
وهو ضعيف في حمل الآدلّة بعضها على بعض.
واختلف الفقهاء في رجوع المرأة في هبتها بعضَ صداقها : فقال الجمهور : لا رجوع لها ، وقال شريح ، وعبد الملك بن مروان : لها الرجوع ، لأنّها لو طابت نفسها لما رجعت.
ورووا أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى قضاته "إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيّما امرأة أعطته ، ثمّ أرادت أن ترجع فذلك لها" وهذا يظهر إذا كان ما بين العطيّة وبين الرجوع قريباً ، وحدث من معاملة الزوج بعد العطيّة خلاف ما يؤذن حسن المعاشرة السابق للعطيّة.
وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله تعالى : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } [ النساء : 1 ].
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 23 ـ 25}(20/16)
فصل
قال الفخر :
معنى الآية : فإن وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن ، أو سوء معاشرتكم معهن ، فكلوه وأنفقوه ، وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب ، ووجوب الاحتياط ، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال : {فَإِن طِبْنَ} ولم يقل : فإن وهبن أو سمحن ، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 148}
فصل
قال الفخر :
الهنيء والمريء : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ، وقيل : الهنىء ما يستلذه الآكل ، والمريء ما يحمد عاقبته ، وقيل : ما ينساغ في مجراه ، وقيل : لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة : المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه.
وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران ، فالهنيء شفاء من الجرب ، قال المفسرون : المعنى أنهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وبالجملة فهو عبارة عن التحليل ، والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 148}
فائدة
قال الفخر :
قوله : {هَنِيئاً مَّرِيئاً} وصف للمصدر ، أي أكلا هنيئا مريئا ، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء ، وقد يوقف على قوله : {فَكُلُوهُ} ثم يبتدأ بقوله : {هَنِيئاً مَّرِيئاً} على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هنأ مرأ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 148}
فصل
قال القرطبى :
فإن شرطت عليه عند عقد النكاح ألاّ يتزوّج عليها ، وحطّت عنه لذلك شيئاً من صداقها ، ثم تزوّج عليها فلا شيء لها عليه في رواية ابن القاسم ؛ لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه.(20/17)
كما اشترط أهل بَرِيرَةَ أن تعتقها عائشة والولاء لبائعها ، فصحّح النبيّ صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط.
كذلك هاهنا يصحّ إسقاط بعضِ الصداق عنه وتبطل الزيجة.
وقال ابن عبد الحكم : إن كان بقي من صداقها مثلُ صداق مثلها أو أكثرُ لم ترجع عليه بشيء ، وإن كانت وَضعت عنه شيئاً من صداقها فتزوّج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها ؛ لأنه شَرط على نفسه شرطاً وأخذ عنه عِوَضاً كان لها واجباً أخذه منه ، فوجب عليه الوفاء لقوله عليه السلام : " المؤمنون عند شروطهم ".
وفي الآية دليل على أن العتق لا يكون صداقاً ؛ لأنه ليس بمال ؛ إذْ لا يمكن المرأة هبته ولا الزوج أكله.
وبه قال مالك وأبو حنيفة وزُفَر ومحمد والشافعي.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق ويعقوب : يكون صداقاً ولا مهر لها غير العتق ؛ على حديث صفية رواه الأئمة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعتقَها وجعل عتقَها صداقَها.
ورُوي عن أنَس أنه فَعَله ، وهو راوي حديث صَفِيّة.
وأجَاب الأوّلون بأن قالوا : لا حجة في حديث صَفِيّة ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً في النكاح بأن يتزوّج بغير صداق ، وقد أراد زينَبَ فحُرمت على زيد فدخل عليها بغير وليّ ولا صداق.
فلا ينبغي الاستدلال بمثل هذا ؛ والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 25 ـ 26}. بتصرف يسير.
فصل
قال الفخر :
دلت هذه الآية على أمور :
منها : أن المهر لها ولا حق للولي فيه ، ومنها جواز هبتها المهر للزوج ، وجواز أن يأخذه الزوج ، لأن قوله : {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} يدل على المعنيين ، ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض ، لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين.(20/18)
وههنا بحث وهو أن قوله : {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} يتناول ما إذ كان المهر عينا ، أما إذا كان دينا فالآية غير متناولة له ، فإنه لا يقال لما في الذمة : كله هنيئاً مريئاً.
قلنا : المراد بقوله : {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} ليس نفس الأكل ، بل المراد منه حل التصرفات ، وإنما خص الأكل بالذكر لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [ النساء : 10 ] وقال : {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} [ البقرة : 188 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 149}
فصل
قال الفخر :
قال بعض العلماء : إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفساً ، وعن الشعبي : أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح : رد عليها ، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء} فقال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه.
وروي عنه أيضا : أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن ، وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه ، فلبث شهرا ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرجل : أعطتني طيبة به نفسها ، فقال عبد الملك : فإن الآية التي بعدها {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} اردد عليها.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته : إن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 149}(20/19)
لطيفة
قال السمرقندى :
وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : إذا كان أحدكم مريضاً فليسأل من امرأته درهمين من مهرها ، حتى تهب له بطيبة نفسها ، فيشتري بذلك عسلاً فيشربه مع ماء المطر ، فحينئذٍ قد اجتمع الهنيء والمريء ، والشفاء والماء المبارك ، يعني أن الله سبحانه تعالى سمى المهر هنيئاً مريئاً إذا وهبت ، وسمى العسل شفاء ، وسمى ماء المطر مباركاً ، فإذا اجتمعت هذه الأشياء يرجى له الشفاء. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 306 ـ 307}
من فوائد أبى السعود فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَءاتُواْ النساء } أي اللاتي أُمر بنكاحهن { صدقاتهن } جمعُ صَدُقة كسمُرة وهي المَهرُ وقرىء بسكون الدالِ على(20/20)
التخفيف وبضم الصادِ وسكونِ الدال جمعُ صُدْقة كغرفة ، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيلُ صُدْقة كظُلُمة في ظُلْمة { نِحْلَةً } قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد : فريضةً من الله تعالى لأنها مما فرضه الله في النِحْلة أي المِلةِ والشِرْعة والديانةِ ، فانتصابُها على الحالية من الصَّدُقات أي أعطوهن مهورَهن حالَ كونِها فريضةً منه تعالى ، وقال الزجاجُ : تديُّناً فانتصابُها على أنها مفعولٌ له أي أعطوهن ديانةً وشِرْعيةً ، وقال الكلبي : نحلةً أي هِبةً وعطيةً من الله وتفضّلاً منه عليهن فانتصابُه على الحالية منها أيضاً وقيل : عطيةً من جهة الأزواجِ من نَحَله كذا إذا أعطاه إياه ووهبَه له عن طِيبةٍ من نفسه نِحْلةً ونُحْلاً ، والتعبير عن إيتاء المهورِ بالنِّحلة مع كونها واجبةً على الأزواج لإفادة معنى الإيتاءِ عن كمال الرضا وطيبِ الخاطرِ ، وانتصابُها على المصدرية لأن الإيتاءَ والنحلةَ بمعنى الإعطاءِ ، كأنه قيل : وانحَلوا النساءَ صَدُقاتِهن نِحْلةً أي أعطوهن مهورَهن عن طيبةِ أنفسِكم ، أو على الحالية من ضمير { أَتَوْا } أي آتوهن صَدُقاتِهن ناحلين طيِّبي النفوسِ بالإعطاء أو من الصَّدُقات أي منحولةً مُعطاةً عن طيبة الأنفسِ ، فالخطابُ للأزواج وقيل : للأولياء لأنهم كانوا يأخُذون مهورَ بناتِهم وكانوا يقولون : هنيئاً لك النافجةُ ، لِمَن يولدُ له بنتٌ ، يعنون تأخُذ مَهرَها فتنفج به مالَك أي تعظّمه { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ } الضميرُ للصدُقات وتذكيرُه لإجرائه مُجرى ذلك فإنه يشار به إلى المتعدد كما في قوله عز وجل : { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم } بعد ذكر الشهواتِ(20/21)
المعدودةِ وقد رُوي عن رؤبةَ أنه حين قيل له في قوله :
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق... كأنه في الجِلْد تَوليعُ البَهَقْ
(20/22)
إن أردت الخطوطَ ينبغي أن تقول : كأنها وإن أردت السوادَ والبلَقَ ينبغي أن تقول : كأنهما ، قال : لكني أردتُ كأن ذلك. أو للصَّداق الواقعِ موقعَه صدُقاتِهن كأنه قيل : وآتوا النساءَ صَداقَهن كما في قوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } حيث عَطفَ أكنْ على ما دل عليه المذكورُ ووقع موقعَه ، كأنه قيل : إن أخرتني أصَّدقْ وأكنْ ، واللامُ متعلقةٌ بالفعل وكذا عن لكن بتضمينه معنى التجافي والتجاوزِ ، ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لشيء أي كائنٍ من الصَّداق ، وفيه بعثٌ لهن على تقليل الموهوبِ { نَفْساً } تمييزٌ والتوحيدُ لما أن المقصودَ بيانُ الجنسِ أي إن وهَبْن لكم شيئاً من الصَّداق متجافياً عنه نفوسُهن طيباتٍ غيرَ مُخْبثاتٍ بما يَضطرُّهن إلى البذل من شكاسة أخلاقِكم وسوءِ معاشرتِكم لهن ، عَدَل عن لفظ الهبةِ والسماحةِ إلى ما عليه النظمُ الكريمُ إيذاناً بأن العُمدة في الأمر إنما هو طيبُ النفسِ وتجافيها عن الموهوب بالمرة { فَكُلُوهُ } أي فخذوا ذلك الشيءَ الذي طابت به نفوسُهن وتصرفوا فيه تملُّكاً ، وتخصيصُ الأكلِ بالذكر لأنه معظمُ وجوهِ التصرفاتِ المالية { هَنِيئاً مَّرِيئاً } صفتان من هنُؤَ الطعامُ ومرُؤَ إذا كان سائغاً لا تنغيصَ فيه ، وقيل : الهنيءُ الذي يلَذُّه الآكِلُ والمريءُ ما يُحمد عاقبتُه ، وقيل : ما ينساغ في مجراه الذي هو المريءُ وهو ما بين الحُلْقوم إلى فم المعِدةِ سُمِّي بذلك لمروءِ الطعامِ فيه أي انسياغِه ، ونصبُهما على أنهما صفتانِ للمصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً أو على أنهما حالانِ من الضمير المنصوبِ أن كُلوه وهو هنيءٌ مريءٌ وقد يوقف على كلوه ، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مُقامَ المصدرين ، كأنه قيل : هنْأً ومَرْأً ، وهذه عبارةٌ عن التحليل والمبالغةِ في الإباحة وإزالةِ التبعة. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 143 ـ 144}(20/23)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى { صَدُقَاتِهِنَّ}
مفعول ثانٍ ، وهي جمع " صَدُقة " بفتح الصَّاد وضمَّ الدَّال بزنة " سَمُرة " ، والمرادُ بها : المهر وهذه هي القراءة المشهُورَةُ ، وهي لُغَةُ الحجاز.
وقرأ قتادةُ : " صُدْقاتهن " بضمِّ الصَّادِ وإسكان الدَّال ، جمعُ صُدْقَةٍ بزنة غُرْفَةٍ.
وقرأ مجاهدٌ وابن أبي عبلة بضمهما وهي جمع صدقة بضم الصاد والدال ، وهي تثقيل الساكنة الدَّال للاتباع.
وقرأ ابن وثاب والنخعي " صُدُقَتَهُنَّ " بضمهما مع الإفراد.
قال الزَّمخشريُّ وهي تثقيل صُدْقة كقولهم في " ظُلْمة " " ظُلُمة " ، وقد تقدم الخلاف ، هل يجوز تثقيل الساكن المضموم الفاء ؟
وقرئ : " صدقاتهن " بفتح الصَّادِ وإسْكَانِ الدَّالِ وهي تخفيف القراءة المشهورة ، كقولهم في عَضُد : عَضْد.
قال الوَاحِدِيُّ : " ولفظ الصَّاد والدَّال والقاف موضوع للكمال والصحة ، يسمّى المهر صداقاً وصدقة وذلك لأنَّ عقد النكاح به يتم.
وفي نصب " نحلة " أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّها منصوبةِ على المصدر ، والعامل فيها الفعل قبلها ؛ لأن " آتوهن " بمعنى انحلوهُنَّ ، فهي مصدر على غير الصدر نحو : " قَعَدْت جلوساً ".
الثاني : أنها مصدرٌ واقِعٌ موقع الحال ، وفي صاحب الحال ثلاثة احتمالات :
أحدها : أنَّهُ الفاعل من " فآتوهن " أي : فآتوهن ناحِلين.
الثاني : أنَّهُ المفعول الأوَّل وهو : النِّسَاءُ.
الثالث : أنه المفعول الثاني وهو " صدقاتهن ". أي : منحولات.
الوجه الثَّالثُ : أنَّها مفعول من أجله ، إذا فُسِّرَتْ بمعنى : شِرْعة.
الوجه الرابع : انتصابها بإضمار فعل بمعنى : شَرَعَ أي : نحل الله ذلك نِحلة ، أي : شَرَعَةُ شِرْعة وديناً.(20/24)
والنِّحْلَةُ العَطِيَّةُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ ، والنَّحْلَة : الشِّرْعَة ، ومنه : نِحْلة الإسلام خَير النحل ، وفلان ينتحل بكذا : أي يَدِيِنُ به ، والنَّحْلَةُ : الفَرِيضةُ.
قال الراغب : والنِّحْلَة والنَّحْلَةُ : الْعَطِيَّةُ على سبيل التبرع ، وهي أخصُّ من الهِبَةَ ، إذ كُل هبة نحلة من غير عكس ، واشتقاقهُ فيما أرَى من النَّحْلِ ، نظراً منه إلى فعله ، فكأن " نَحَلْتهُ " أعْطَيْتَهُ عَطِيةَ النحل ، ثم قال : ويجوز أن تكون النِّحْلةُ أصلاً فَسُمَّى النَّحْلُ بذلك اعتباراً بفعله.
وقال الزَّمخشريُّ : مِنْ نَحَلَه كذا أي : أعطاه إيَّاه ووهبه له عن طيب نفسه ، نِحْلَةً وَنَحْلاً ، ومنه حديث أبي بكر - رضي الله عَنْهُ - : " غنّي نَحَلْتُكَ جِدَادَ عِشْرِينَ وِسْقاً ".
قال القَفَّالُ : وأصله إضافة الشيء إلى غير من هو له ، يقال : هذا شعر منحول ، أي : مضاف إلى غير قائله ، وانتحلت كذا إذا ادَّعَْتَهُ وَأَضَفْتَهُ إلى نَفْسِكَ.
و " مِنْ " فيها وجهان :
أحدهما : أنها للتبغيض ، ولذلك يجوز أن تَهَبَهُ كُلَّ الصَّداق.
قال ابن عطيَّة : و" مِنْ " لبيان الجنس ها هنا ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو [ وقعت ] على التبغيض لما جَازَ ذلك انتهى.
وقد تَقَدَّمَ أن الليث يمنع ذلك ، ولا يشكل كونها للتَّبغيض ، وفي هذا الضمير أقوال :
أحدها : أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه بـ { صَدُقَاتِهِنَّ }.
الثاني : أنه يعود على " الصَّدُقات " لسدِّ الواحِدِ مَسَدَّها ، لو قيل : صَداقَهُنَّ لم يختلَّ المعنى ، وهو شبيهٌ بقولهم : هو أحسنُ الفتيان وأجْمَلُهُ ؛ ولأنه لو قيل : " هو أحسنُ فتىً " لَصَحَّ المعنى.
ومثله : [ الرجز ]
(20/25)
وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ... في " برد " ضمير يعود على " ألبان " لسدِّ " لبن " مسدَّها. الثالث : أنه يعود على " الصَّدُقات " أيضاً ، لكن ذهاباً بالضمير مذهب الإشارة فَإنَّ اسم الإشارة قد يُشارُ بِهِ مفرداً مذكراً إلى أشياء تقدمت ، كقوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } [ آل عمران : 15 ] بعد ذكر أشياء قبله ، وقد تقدم ما روي في البقرة ما حكي عن رؤية لما قيل له في قوله : [ الرجز ]
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادِ وَبَلَقْ... كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
فقال : أردت ذلك فأجْرَى الضمير مجرى اسم الإشارة.
الرابع : أنه يعود على المال ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ؛ لأنَّ الصَّدُقاتِ تدُلُّ عليه.
الخامس : أنه يعود على الإيتاء المدلول عليه بـ " آتوا " ، قاله الرَّاغب وابن عطيَّة.
السَّادس : قال الزمخشريُّ " ويجوز أن يُذَكَّر الضمير ؛ لينصرف إلى الصَّداق الواحد ، فيكون متناولاً بَعْضَهُ ، ولو أَنّثَ لتناول ظاهرة هبةَ الصَّداق كُلِّه ؛ لأنَّ بعض الصُّدقات واحد منها فصاعداً ".
وقال أبو حَيَّان : وأقولُ حَسَّن تذكير الضمير أن معنى " فَإنْ طِبْنَ " فإن طابَتْ كُلُّ واحدةٍ فلذلك قال : " منه " أي : مِنْ صَداقِها ، وهو نظير قوله : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } [ يوسف : 31 ] ؛ أي لكلّ واحدة منهن ، ولذلك أفرد " متكأ ".
قوله : " نَفْسَاً " منصوب على التَّمييز ، وهو هنا منقولٌ من الفاعل ؛ إذ الأصل : فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ ، ومثله { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ].
(20/26)
وهذا منصوب عن تمام الكلام ، وجِيء بالتمييز هنا مفرداً ، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدم اللَّبْسِ ، إذْ من المعلوم أنَّ الكُلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ في نفسٍ واحدةٍ ، ومثله : قَرَّ الزيدون عيناً ، كقوله : { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْع } [ هود : 77 ] وقيل : لَفْظثهَا واحد ومعناها جمع ، ويجوز " انفساً " " وأعيناً " وَلاَ بُدَّ مِنَ التعرُّض لقاعدةٍ يَعُمُّ نفعها ، وهي أنَّه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصبٍ عن تمام الكلام فلا يخلو : إمَّا أن يكون موافقاً لما قبله نحو : كَرُمَ الزيدون رجالاً ، كما يطابقهُ خبراً وصفةً وحالاً.
وإن كان الثاني : فإمَّا أن يكونَ مفرد المدلول أو مختلفة ، فإن كان مفردَ المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد : كَرُمَ بنو زيدٍ أباً أو أصلاً ، أي : إنَّ لهم جميعهم أباً واحداً متصفاً بالكرمِ ، ومثله " كَرم التقياء سَعْياً " ، إذا لم تَقصدْ بالمصدر اختلافَ الأنواع لاختلاف محالَّه ، وإنْ كَانَ مختلفَ المدلول : فإما أن يُلبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أولاً ، فإن ألْبَسَ وَجَبَت المطابقُ نحو : كَرُمَ الزيدون آباء ، أي : أن لكل واحد أباً غير أب الآخر يتصفُ بالكرمِ ، ولو أفردت هنا لَتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أبٍ واحد ، والغرضُ خلافه ، وإنْ لم يُلبس جاز الأمران المطابقة والإفراد ، وهو الأوْلى ، ولذلك جاءت عليه الآية الكريمةُ ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمع ، وَحَسَّنَ الإفرادَ ها هنا أيضاً ما تقدَّم مِن مُحَسِّنِ تذكير الضمير وإفراده في " منه " ، وهو أنَّ المعنى : فإن طابت كُلُّ واحدة نفساً.
وقال بعض البصريين : " إنَّما أفرد ؛ لأن المراد بالنفس هنا الهوى ، والهوى مصدر ، والمصادر لا تُثَنَّى ولا تجمع ".
(20/27)
وقال الزَّمخشريُّ : و" نَفْسَاً " تمييزٌ ، وتوحيدها ؛ لأن الغرضَ بيانُ الجنس والواحد يدل عليه. ونحا أبو البَقاءِ نَحْوَهُ ، وشَبَّهَهُ بـ " درهماً " في قولك : عشرون درهماً.
واختلف النحاةُ في جوازِ تقديمِ التمييزِ على عامله إذا كان متصرفاً فمنعه سيبويه ، وأجازه المبرد وجماعة مستدلين بقوله : [ الطويل ]
أتَهْجُرُ لَيْلَى بِالفُرَاقِ حَبيبَها... وَمَا كَانَ نَفْساً بالفراقِ تَطِيبُ
وقوله : [ الطويل ]
رَدَدْتُ بِمِثْلِ السَّيدِ نَهْدٍ مُقَلَّصٍ... كَمِيشٍ إذَا عِطْفَاهُ مَاءً تَحَلَّبَا
والأصل تطيبُ نفساً ، وتحلَّبا ماء ، وفي البيتين كلامٌ طويل ليس هذا محلَّه ، وحجةُ سيبويه في منع ذلك انَّ التَّمييز فاعل في الأصْلِ ، والفاعِلُ لا يَتضقَدَّم ، فكذلك ما في قوته ، واعترضَ على هذا بنحو : زيداً ، من قولك أخرجْتُ زيداً ، فإن زيداً في الأصل فاعل قبل النَّقْل ، إذ الأصل : خرج زيدٌ والفرق لائح فالتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم. والجارّان في قوله { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ } متعلقان بالفعل قبلهما متضمناً معنى الاعراض ، ولذلك عُدِّي بـ " عن " كأنَّهُ قيل : فَإن أعْرَضْنَ لَكُمْ عِن شيء منه طيبات النفوس ، والفاء في " فَكُلوه " جواب الشرط وهي واجبة ، والفاء في " فُكلوه " عائدة على " شيء ".
فإن قيل : لِمَ قال : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } ولم يقل : وَهَبْنَ لَكُمْ أوْ سَمحْنَ لَكُمْ ؟
فالجواب أنَّ المراعى وهو تجافي نفسها عن بالموهوب طيبة ].
قوله : " فكلوه هنيئاً مريئاً ".
في نصب " هَنِيئاً " أربعةُ أقوال :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره : أكْلاّ هنيّئاً.
الثاني : أنه منصوب على الحال من الهاء في " فَكُلُوهُ " أي : مُهَنِّئاً ، أي سهلاً.
(20/28)
والثالث : أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهاره ألبتة ؛ لأنَّهُ قصد بهذه الحالِ النيابةُ عن فعلها نحو : " أقائماً وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ " ، كما ينوب المصدر عن فعله نحو " سَقْياً لَهُ وَرَعْياً ".
الرابع : أنهما صفتان قامتا مقام المصدر المقصود به الدعاءُ النائب عن فعله.
قال الزَّمَخشرِيُّ : " وقد يوقف على " فَكُلُوهُ " ويبتدأ بـ " هنيئاً مريئاً " على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين ؛ كأنه قيل : " هَنْئاً مًرْءاً ".
قال أبو حيان : وهذا تحريف لكلام النُّحاة ، وتحريفه هو جَعْلهما أُقِيما مُقام المصدر ، فانتصابهما انتصباَ المصدرِ ، ولذلك قال : كَأَنَّهُ قيل : " هَنْئاً مَرْءاً " ، فصار كقولك " سٌقْياص لك " و" رَعْياً لك " ، وَيَدُلُّ على تحريفه وَصِحَّةِ قول النحاة انَّ المصادرَ المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر ، لا تقول : " سقياً اللهَ لك " ، ولا : " رعياً الله لك " ، وإنْ كانَ ذلك جائزاً في أفعالها ، و" هنيئاً مرئياً " ، يرفعان الظاهر بدليل قوله : [ الطويل ]
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخامِرٍ... لِعِزَّةَ مِنْ أعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
ف " ما " مرفوع بـ " هنيئاً " أو " مريئاً " على الإعمال ، وجاز ذلك وَإنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَاملين رَبْطٌ بِعَطْفٍ ولا غيره ؛ لأن " مريئاً " لا يستعملُ إلاَّ تابعاً لـ " هنيئاً " فكأنَّهما عاملٌ واحد.
ولو قلت : " قام قعد زيد " لم يكن من الإعمال إلاَّ على نِيَّة حرف العطف. انتهى.
(20/29)
إلاَّ أن عبارة سيبويه فيها ما يُرْشِدُ لِما قاله الزَّمخشريُّ ، فإنه قال : هنيئاً مَرِيئاً صِفَتَانِ نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل المذكور غير المستعمل إظهارُهُ المختزل لدلالة الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئاً مريئاً ، فَاَوَّلُ البعارة يُسَاعِدُ الزمخشري ، وآخرها وهو تقديره بقوله : كأنهم قالوا : ثَبَتَ هنيئاً ، يُعَكِّرُ عليه ، فعلى القولين الوَّلين يكُون " هَنيئاً مَريئاً " متعلقين بالجملة قبلهما لفظاً ومعنى ، وعلى الآخرين مقتطعين لفظاً ؛ لأنَّ عاملهما مُقَدَّر من جُملةٍ أخرى كما تقدم تقريره.
واختلف النحويون في قولك لمن قال : أصاب فلان خيراً هنيئاً مريئاً له ذلك. هل " ذلك " مرفوع بالفعل المقدر ، وتقديره : ثبت له ذلك هنيئاً ، فحذف " ثبت " وقام " هنيئاً " مقامه الذي هو حال أو مرفوع بـ " هنيئاً " نفسه ؛ لأنه لمَّا قَامً مقامَ الفعلِ رَفَعَ ما كان الفعل يرفعه ، كما أن قولك : " زَيْدٌ في الدَّارِ " " في الدَّارِ " ضمير كان مستتراً في الاستقرار فلما حذف الاستقرار ، وقام الجار مقامه رفع الضمير [ المستتر ] الذي كان فيه ، وقد ذهب إلى الأول السيرافي وجعل في " هنيئاً " فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهر ، وَإذا قُلْتَ : " هَنِيئاً " وَلَمْ تَقُلْ " ذلك " فعلى مذهب السيرافي يكون في " هَنِيئاً " ضمير عائدٌ على ذِي الْحَالِ ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في " ثبت " المحذوفِ ، وعلى مذهب الفارسي يكون في " هنيئاً " قد قام مقام الفعل المحذوف فارغاً من الضمير.
وأما نصب " مريئاً " ففيه خمسة أوجه : أحدها : أنَّهُ صِفَةٌ لـ " هنيئاً " وإليه ذَهَبَ الحوفي.
(20/30)
والثاني : أنَّهُ انتصب انتصاب " هنيئاً " وقد تقدَّم ما فيه من الأوجه ، ومنع الفارسي كونه صفة لـ " هنيئاً " قال : لأنَّ هنيئاً قام مقام الفعل ، والفعل لا يوصف ، فكذا ما قام مَقَامَهُ ، ويؤيد ما قاله الفارسيُّ انَّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المالغة والمصادر إذا وُصِفَت لم تَعْمَل عمل الفعل ، ولم تستعمل " مريئاً " إلا تابعاً لـ " هنيئاً " ، ونقل بعضهم أنه قد يجيء [ غير ] تابع وهو مردود ؛ لأن العرب لم تَستَعْمِله إلاَّ تابعاً ، وهل " هَنِيئاً " في الأصل اسما فاعل على زنة المَبَالَغَة ؟ أم هما مصدران جاءا على وزن فَعِيلٍ ، كالصَّهيلِ والهدير ؟ خلاف. نقل أبُو حَيَّان القول الثاني عن أبي البَقَاءِ قال : وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على خلاف وزن " فعيل " ، كالصَّهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر. انتهى.
وأبو البقاء في عبارته إشْكَالٌ ، فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها ، قال : " هنيئاً " مصدر جاء على وزن " فَعِيل " ، وهو نعت لمصدر محذوفٍ ، أي : أكْلاً هنيئاً ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال من الهاء والتقدير مُهَنَّأً ، و" مريئاً " مثله ، وتلمريء فعيل بمعنى مُفْعِل ، لأنَّك تقول : " أمْرَأَنِي الشَّيْء " ، ووجه لمصدر محذوف ؟ وكيف يفسر " مريئاً " المصدر بمعنى اسم الفاعل ؟
ذهب الزمخشري إلى انَّهُمَا وصفان قال : " فإنَّ الهنيءَ والْمَريءَ صفتان من هَنُء الطعام ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه ". انتهى.(20/31)
وَهَنَا يهْنَا بغير همز - لغة ثانية أيضاً - وقرأ أبو جعفر : " هنيّاً مريّاً " ، بتشديد الياء فيهما من غير همزة ، كذلك " بري " و" بريون " و" بريَّا " ، ويقال : هَنَأَني الطعامُ ومرأني ، وإن أفردت " مَرَأنِي " ، وهذا كما قالوا : أخَذَهُ ما قَدُمَ وَمَا حَدُثَ ، بضم الدَّال من " حدث " مشاكلة لـ " قَدُمَ " ، ولو أُفرد لم يستعمل إلاَّ مفتوح الدال ، وله نظائر أخر ، ويقال : هَنَأتُ الرجل أهْنِئُهُ بكسر العين في المضارع أي : أعطيته. واشتقاق الهنيء من الهِناء ، وهو ما يُطْلَى به البَعير للجرب كالقطران قال : [ الطويل ]
مُتَبَدِّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ... يَضَعُ الْهَنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ
والمريءُ مَا سَاغَ وَسَهُلَ من الحق ، ومنه قِيل لمجرى الطَّعَام من الحُلْقُوم إلى فم المعدة : مَرِيء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 170 ـ 178}. بتصرف.(20/32)
من فوائد الجصاص فى الآية
قال رحمه الله :
بَابُ هِبَةِ الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ لِزَوْجِهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }.
رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قَالَا : " فَرِيضَةٌ " ، كَأَنَّهُمَا ذَهَبَا إلَى نِحْلَةِ الدَّيْنِ وَأَنَّ ذَلِكَ فُرِضَ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قَالَ : " كَانَ الرَّجُلُ إذَا زَوَّجَ مُوَلِّيَتَهُ أَخَذَ صَدَاقَهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ " ، فَجَعَلَهُ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ لَا يَحْبِسُوا عَنْهُنَّ الْمُهُورَ إذَا قَبَضُوهَا.
إلَّا أَنَّ مَعْنَى النِّحْلَةِ يَرْجِعُ إلَى مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ فِي أَنَّهَا فَرِيضَةٌ ، وَهَذَا عَلَى مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَقِيبَ ذِكْرِ الْمَوَارِيثِ { فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ }.(20/33)
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ نِحْلَةً وَالنِّحْلَةُ فِي الْأَصْلِ الْعَطِيَّةُ وَالْهِبَةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ بَدَلَهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ هُوَ قَبْلَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ ؟ فَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ نِحْلَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَضْ مِنْ قِبَلِهَا عِوَضًا يَمْلِكُهُ ، فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّحْلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِإِزَائِهَا بَدَلٌ ؛ وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ مِنْهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ لَا الْمِلْكُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي قَوْله تَعَالَى : { نِحْلَةً } يَعْنِي : بِطِيبَةِ أَنْفُسِكُمْ ، يَقُولُ : لَا تُعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ وَلَكِنْ آتَوْهُنَّ ذَلِكَ وَأَنْفُسُكُمْ بِهِ طَيِّبَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ لَهُنَّ دُونَكُمْ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَجَائِزٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ إنَّمَا سَمَّاهُ نِحْلَةً ؛ لِأَنَّ النِّحْلَةَ هِيَ الْعَطِيَّةُ وَلَيْسَ يَكَادُ يَفْعَلُهَا النَّاحِلُ إلَّا مُتَبَرِّعًا
بِهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ ، فَأُمِرُوا بِإِيتَاءِ النِّسَاءِ مُهُورَهُنَّ بِطِيبَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَالْعَطِيَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُعْطِي بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ.(20/34)
وَيُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } فِي إيجَابِ كَمَالِ الْمَهْرِ لِلْمَخْلُوِّ بِهَا لِاقْتِضَاءِ الظَّاهِرِ لَهُ ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } فَإِنَّهُ يَعْنِي عَنْ الْمَهْرِ ، لَمَّا أَمَرَهُمْ بِإِيتَائِهِنَّ صَدُقَاتِهِنَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ جَوَازِ قَبُولِ إبْرَائِهَا وَهِبَتِهَا لَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ إيتَاءَهَا مَهْرَهَا وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهَا بِتَرْكِهِ.
قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : " مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهَا مِنْ غَيْرِ كُرْهٍ فَهُوَ حَلَالٌ ".
وَقَالَ عَلْقَمَةُ لِامْرَأَتِهِ : أَطْعِمِينِي مِنْ الْهَنِيءِ الْمَرِيءِ.
فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ مَعَانِيَ : مِنْهَا أَنَّ الْمَهْرَ لَهَا وَهِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ لَهُ لَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ فِيهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ.
وَمِنْهَا جَوَازُ هِبَتِهَا الْمَهْرَ لِلزَّوْجِ وَالْإِبَاحَةِ لِلزَّوْجِ فِي أَخْذِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }.
وَمِنْهَا تَسَاوِي حَالِ قَبْضِهَا لِلْمَهْرِ وَتَرْكِ قَبْضِهَا فِي جَوَازِ هِبَتِهَا لِلْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ هِبَتِهَا لِلْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.(20/35)
فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِيمَا تَعَيَّنَ مِنْ الْمَهْرِ ، إمَّا أَنْ يَكُونَ عَرَضًا بِعَيْنِهِ فَقَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ أَوْ دَرَاهِمَ قَدْ قَبَضَتْهَا ، فَأَمَّا دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ هِبَتِهَا لَهُ ؛ إذْ لَا يُقَالُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ كُلْهُ هَنِيئًا مَرِيئًا.
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْمُرَادُ فِي ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَتَأَتَّى فِيهِ
الْأَكْلُ دُونَ مَا لَا يَتَأَتَّى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي الْمَهْرِ إذَا كَانَ شَيْئًا مَأْكُولًا ، وَقَدْ عُقِلَ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمَأْكُولِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } عَامٌّ فِي الْمُهُورِ كُلِّهِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، وقَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } شَامِلٌ لِجَمِيعِ الصَّدَقَاتِ الْمَأْمُورِ بِإِيتَائِهَا.(20/36)
فَدَلَّ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِلَفْظِ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ جَوَازُ اسْتِبَاحَتِهِ بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا ؛ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } وَهُوَ عُمُومٌ فِي النَّهْيِ عَنْ سَائِرِ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْأَعْيَانِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ ، وَشَامِلٌ لِلنَّهْيِ فِي أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ إلَّا عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ ، وَلَيْسَ الْمَأْكُولُ بِأَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَإِنَّمَا خُصَّ الْأَكْلُ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يُبْتَغَى لَهُ الْأَمْوَالُ ، إذْ بِهِ قِوَامُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ ، وَفِي ذِكْرِهِ لِلْأَكْلِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا دُونَهُ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } فَخُصَّ الْبَيْعُ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ مَا عَدَاهُ مِنْ سَائِرِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ الصَّلَاةِ بِمَثَابَتِهِ فِي النَّهْيِ ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْبَيْعِ مِنْ أَعْظَمِ أُمُورِهِمْ فِي السَّعْيِ فِي طَلَبِ مَعَايِشِهِمْ ، فَعُقِلَ مِنْ ذَلِكَ إرَادَةُ مَا هُوَ دُونَهُ وَأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ ؛ إذْ قَدْ نَهَاهُمْ عَمَّا هُمْ إلَيْهِ أَحْوَجُ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ أَشَدُّ.
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } فَخُصَّ اللَّحْمُ بِذِكْرِ التَّحْرِيمِ(20/37)
وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يُرَادُ مِنْهُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ ، فَكَانَ فِي تَحْرِيمِهِ أَعْظَمُ مَنَافِعِهِ دَلَالَةً عَلَى مَا دُونَهُ ، فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } قَدْ اقْتَضَى جَوَازَ هِبَتِهَا لِلْمَهْرِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا قَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا جَازَتْ هِبَتُهَا لِلْمَهْرِ إذَا كَانَ مَقْبُوضًا مُعَيَّنًا فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا كَانَ دَيْنًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ تَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا ، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ كَمَا جَازَتْ هِبَةُ الْمَرْأَةِ لِلْمَهْرِ وَهُوَ دَيْنٌ ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَرَاءَةَ قَدْ وَقَعَتْ بِنَفْسِ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ وَأَسْقَطَهُ عَنْ ذِمَّتِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ مَالًا فَقَبَضَهُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِلِسَانِهِ قَدْ قَبِلْت ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَهُ أَكْلَ مَا وَهَبَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبُولِ ، بَلْ يَكُونُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِحَضْرَتِهِ حِينَ وَهَبَهُ قَبُولًا.(20/38)
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ " قَدْ طِبْت لَك نَفْسًا عَنْ مَهْرِي " وَأَرَادَتْ الْهِبَةَ وَالْبَرَاءَةَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هِبَةِ الْمَرْأَةِ مَهْرَهَا لِزَوْجِهَا ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَالشَّافِعِيُّ : " إذَا بَلَغَتْ الْمَرْأَةُ وَاجْتَمَعَ لَهَا عَقْلُهَا جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا بِالْهِبَةِ أَوْ غَيْرِهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا ".
وَقَالَ مَالِكٌ : " لَا يَجُوزُ أَمْرُ الْبِكْرِ فِي مَالِهَا وَلَا مَا وَضَعَتْ عَنْ زَوْجِهَا مِنْ الصَّدَاقِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى أَبِيهَا فِي الْعَفْوِ عَنْ زَوْجِهَا ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا ذَلِكَ " قَالَ : " وَبَيْعُ الْمَرْأَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ دَارَهَا وَخَادِمَهَا جَائِزٌ وَإِنْ كَرِهَ الزَّوْجُ إذَا أَصَابَتْ وَجْهَ الْبَيْعِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مُحَابَاةٌ كَانَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا ، وَإِنْ تَصَدَّقَتْ أَوْ وَهَبَتْ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ " قَالَ مَالِكٌ : " وَالْمَرْأَةُ الْأَيِّمُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ فِي مَالِهَا كَالرَّجُلِ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ ".
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : " لَا تَجُوزُ عَطِيَّةُ الْمَرْأَةِ حَتَّى تَلِدَ وَتَكُونَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا سَنَةً ".(20/39)
وَقَالَ اللَّيْثُ : " لَا يَجُوزُ عِتْقُ الْمَرْأَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ وَلَا صَدَقَتُهَا إلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْآيَةُ قَاضِيَةٌ بِفَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الَّذِي قَدَّمْنَا ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَلَا بَيْنَ مَنْ أَقَامَتْ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا سَنَةً أَوْ لَمْ تُقِمْ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ حُكْمِ الْآيَةِ فِي الثَّيِّبِ دُونَ الْبِكْرِ ؛ وَأَجَازَ مَالِكٌ هِبَةَ الْأَبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِإِعْطَائِهَا جَمِيعَ الصَّدَاقِ إلَّا أَنْ تَهَبْ هِيَ شَيْئًا مِنْهُ لَهُ ، فَالْآيَةُ قَاضِيَةٌ بِبُطْلَانِ هِبَةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِيتَاءِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إلَّا أَنْ تَطِيبَ نَفْسُهَا بِتَرْكِهِ ، وَلَمْ يَشْرُطْ اللَّهُ تَعَالَى طِيبَةَ نَفْسِ الْأَبِ ، فَمَنَعَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ بِطِيبَةِ نَفْسِهَا مِنْ مَهْرِهَا وَأَجَازَ مَا حَظَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَنْعِ شَيْءٍ مِنْ مَهْرِهَا إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسِهَا بِهِبَةِ الْأَبِ.
وَهَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْآيَةِ
مِنْ وَجْهَيْنِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ : أَحَدُهُمَا : مَنْعُهَا الْهِبَةَ مَعَ اقْتِضَاءِ ظَاهِرِ الْآيَةِ لِجَوَازِهَا.(20/40)
وَالثَّانِي : جَوَازُ هِبَةِ الْأَبِ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ الزَّوْجَ بِإِعْطَائِهَا الْجَمِيعَ إلَّا أَنْ تَطِيبَ نَفْسًا بِتَرْكِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } فَمُنِعَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَاهَا إلَّا بِرِضَاهَا بِالْفِدْيَةِ فَقَدْ شَرَطَ رِضَا الْمَرْأَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنِّسَاءِ : { تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ } ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ } ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا حَجْرٌ وَلَا يَصِحُّ الْحَجْرُ عَلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 350 ـ 353}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
قوله جلّ ذكره : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِى اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُم أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }.
أباح الله للرجال الأحرار التزوج بأربع في حالة واحدة ، وأوجب العدل بينهن ، فيجب على العبد أن يراعي الواجبَ فإنْ عَلِمَ أنه يقوم بحق هذا الواجب آثر هذا المُباح ، وإنْ عَلِم أنه يقصُر في الواجب فلا يتعرَّض لهذا المباح ، فإنَّ الواجبَ مسؤولٌ عنه.
قوله جلّ ذكره : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىٍ مِّنْهُ فَكُلُوهُ نَفْسًا هَنِيئًا مَّرِيئًا }.
دلَّ هذا على أن طعامَ الفتيان والأسخياء مريء لأنهم لا يُطعِمون إلا عن طيب نَفْسٍ ، وطعام البخلاء رديء لأنهم يرون أنفسهم ، وإنما يُطعِمون عن تكلّف لا عن طيب نَفْس. قال صلى الله عليه وسلم : " طعامُ السخيِّ دواء وطعام البخيل داء ". أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 313}(20/41)
قوله تعالى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أمر بدفع أموال اليتامى والنساء إليهم ، ونهى عن أكل شيء منها تزهيداً في المال واستهانة به ، وكان في النساء والمحاجير من الأيتام وغيرهم سفهاء ، وأمر بالاقتصاد في المعيشة حذراً من الظلم والحاجة نهى عن التبذير ، وقد حث سبحانه على حسن رعاية المال في غير آية من كتابه لأنه " نعم المال الصالح للرجل الصالح " رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص رفعه ؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل ما يهمه من الدنيا ، وما لم يتمكن من تحصيل ما يهمه من الدنيا لا يمكنه أمر الآخرة ، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة ما يكفيه من المال - لأنه لا يتمكن في هذه الدار التي مبناها على الأسباب من جلب المنافع ودفع المضار إلا به ، فمن أراده لهذا الغرض كان من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرين ، ومن أراد لنفسه كان من أعظم المعوقات عن سعادة الآخرة فقال تعالى : {ولا تؤتوا} أيها الأزواج والأولياء {السفهاء} أي من محاجيركم ونسائكم وغيرهم {أموالكم} أي الأموال التي خلقها الله لعباده سواء كانت مختصة بكم أو بهم ، ولكم بها علقة بولاية أو غيرها ، فإنه يجب عليكم حفظها {التي جعل الله} أي الذي له الإحاطة بالعلم الشامل والقدرة التامة {لكم قياما} أي ملاكاً وعماداً تقوم بها أحوالكم ، فيكون ذلك سبباً لضياعها ، فضياعها سبب لضياعكم ، فهو من تسمية السبب باسم المسبب للمبالغة ، في سببيته {وارزقوهم} متجرين {فيها} وعبر بالظرف إشارة إلى الاقتصاد واستثمار الأموال حتى لا تزال موضعاً للفضل ، حتى تكون النفقة والكسوة من الربح لا من رأس المال {واكسوهم} أي فإن ذلك ليس من المنهيّ عنه ، بل هو من معالي الأخلاق ومحاسن الأعمال {وقولوا لهم} أي مع ذلك {قولاً معروفاً} أي في الشرع والعقل كالعدة الحسنة ونحوها ، وكل ما(20/42)
سكنت إليه النفس وأحبته من قول أو عمل وليس مخالفاً للشرع فهو معروف ، فإن ذلك ربما كان أنفع في كثير من الإعطاء وأقطع للشر ؛ والحجر على السفيه مندرج في هذه الآية ، لأن ترك الحجر عليه من الإيتاء المنهي عنه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 215 ـ 216}
فصل
قال الفخر :
واعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذه السورة.
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول : إني وإن كنت أمرتكم بإيتاء اليتامى أموالهم وبدفع صدقات النساء اليهن ، فإنما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم ، فأما إذا كانوا غير بالغين ، أو غير عقلاء ، أو إن كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين ، فلا تدفعوا إليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه ، والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 149}
فائدة
قال ابن عاشور :
قوله تعالى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}
عطف على قوله : { وآتوا النساء صدقاتهن } [ النساء : 4 ] لدفع توهّم إيجاب أن يؤتى كلّ مال لمالكه من أجل تقدّم الأمر بإتيان الأموال مالكيها مرّتين في قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم وآتوا النساء صدقاتهن } [ النساء : 2 ، 4 ].
أو عطف على قوله : { وآتوا اليتامى } وما بينهما اعتراض.(20/43)
والمقصود بيان الحال التي يمنع فيها السفيه من ماله ، والحال التي يؤتى فيها مالَه ، وقد يقال كان مقتضى الظاهر على هذا الوجه أن يقدّم هنالك حكم منع تسليم مال اليتامى لأنّه أسبق في الحصول ، فيتّجه لمخالفة هذا المقتضى أن نقول قدّم حكم التسليم ، لأنّ الناس أحرص على ضدّه ، فلو ابتدأ بالنهي عن تسليم الأموال للسفهاء لاتّخذه الظالمون حجّة لهم ، وتظاهروا بأنّهم إنّما يمنعون الأيتام أموالهم خشية من استمرار السفه فيهم ، كما يفعله الآن كثير من الأوصياء والمقدّمين غير الأتقياء ، إذ يتصدّون للمعارضة في بيّنات ثبوت الرشد لمجرّد الشغب وإملال المحاجير من طلب حقوقهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 25}
فصل
قال القرطبى :
لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم في قوله { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 2 ] وإيصال الصّدُقات إلى الزوجات ، بيّن أن السفيه وغيرَ البالغ لا يجوز دفعُ ماله إليه.
فدلّت الآية على ثبوت الوَصيّ والوَلِيّ والكفيل للأيتام.
وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم الحرّ الثّقةِ العدل جائزةٌ.
واختلفوا في الوصيّة إلى المرأة الحرة ؛ فقال عَوَامّ أهل العلم : الوصيّة لها جائزةٌ.
واحتج أحمد بأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة.
ورُوي عن عطاء بن أبي رَباح أنه قال في رجل أوْصى إلى امرأته قال : لا تكون المرأة وصيّاً ؛ فإن فعل حُوّلت إلى رجل من قومه.
واختلفوا في الوصيّة إلى العبد ، فمنعه الشافعيّ وأبو ثور ومحمد ويعقوب.
وأجازه مالك والأوزاعيّ وابن عبد الحَكَم.
وهو قول النخعِيّ إذا أوصى إلى عبده.
وقد مضى القول في هذا في "البقرة" مستوفى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 27 ـ 28}(20/44)
فصل
قال الفخر :
في الآية قولان :
الأول : أنها خطاب الأولياء فكأنه تعالى قال : أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم.
والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله : {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه.
فإن قيل : فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال : ولا تؤتوا السفهاء أموالهم ، فلم قال أموالكم ؟
قلنا : في الجواب وجهان :
الأول : أنه تعالى أضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه ، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه ، ويكفي في حسن الاضافة أدنى سبب ، الثاني : إنما حسنت هذه الاضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص ، ونظيره قوله تعالى : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} [ التوبة : 128 ] وقوله : {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} [ النساء : 36 ] وقوله : {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} وقوله : {ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} [ البقرة : 85 ] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ، ولكن كان بعضهم يقتل بعضا ، وكان الكل من نوع واحد ، فكذا ههنا المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه.
فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم.(20/45)
والقول الثاني : أن هذه الآية خطاب الآباء فنهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم ، لما كان في ذلك من الافساد ، فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال إليهم حقيقة ، وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك ، وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها ، وإذا قرب أجله فإنه يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته ، وقد ذكرنا أن القول الأول أرجح لوجهين ، ومما يدل على هذا الترجيح أن ظاهر النهي للتحريم ، وأجمعت الأمة على أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله ، وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السفهاء أموالهم ، وإذا كان كذلك وجب حمل الآية على القول الأول لا على هذا القول الثاني والله أعلم.
الثاني : أنه قال في آخر الآية : {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} ولا شك أن هذه الوصية بالأيتام أشبه ، لأن المرء مشفق بطبعه على ولده ، فلا يقول له إلا المعروف ، وإنما يحتاج إلى هذه الوصية مع الأيتام الأجانب ، ولا يمتنع أيضا حمل الآية على كلا الوجهين.
قال القاضي : هذا بعيد لأنه يقتضي حمل قوله : {أموالكم} على الحقيقة والمجاز جميعا ، ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله : {أموالكم} يفيد كون تلك الأموال مختصة بهم اختصاصا يمكنه التصرف فيها ، ثم إن هذا الاختصاص حاصل في المال الذي يكون مملوكا له ، وفي المال الذي يكون مملوكا للصبي ، إلا أنه يجب تصرفه ، فهذا التفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله : {أموالكم} وإذا كان كذلك لم يبعد حمل اللفظ عليهما من حيث أن اللفظ أفاد معنى واحدا مشتركا بينهما. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 149 ـ 150}
(20/46)
وقال أبو السعود :
والخطابُ للأولياء ، نُهوا أن يؤتوا المبذرين من اليتامى أموالَهم مخافةَ أن يضيِّعوها وإنما أضيفت إليهم وهي لليتامى لا نظراً إلى كونها تحتَ ولايتِهم كما قيل فإنه غيرُ مصحِّحٍ لاتصافها بالوصف الآتي بل تنزيلاً لاختصاصها بأصحابها منزلةَ اختصاصِها بالأولياء ، فكأن أموالَهم عينُ أموالِهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسيِّ والنَّسَبي مبالغةً في حملهم على المحافظة عليها كما في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أي لا يقتُلْ بعضُكم بعضاً حيث عبّر عن بني نوعِهم بأنفسهم مبالغةً في زجرهم عن قتلهم فكأن قتلَهم قتلُ أنفسِهم ، وقد أيد ذلك حيث عبّر عن جعلها مناطاً لمعاشِ الأولياء فقيل : { التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } أي جعلها الله شيئاً تقومون به وتنتعشون على حذف الأولِ ، فلو ضيَّعتُموه لضِعْتم ثم زيد في المبالغة حتى جُعل ما به القيامُ قياماً فكأنها في أنفسها قيامُكم وانتعاشُكم ، وقيل : إنما أضيفت إلى الأولياء لأنها من جنس ما يقيم به الناسُ معايشَهم حيث لم يُقصَدْ بها الخصوصيةُ الشخصيةُ بل الجنسيةُ التي هي معنى ما يقام به المعاشُ وتميل إليه القلوبُ ويُدّخر لأوقات الاحتياج ، وهي بهذا الاعتبارِ لا تختص باليتامى ، وأنت خبيرٌ بأن ذلك بمعزل من حمل الأولياءِ على المحافظة المذكورةِ كيف لا والوحدةُ الجنسيةُ الماليةُ ليست مختصّةً بما بين أموال اليتامى وأموالِ الأولياءِ بل هي متحققةٌ بين أموالِهم وأموالِ الأجانبِ. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 144}(20/47)
لطيفة
قال ابن عاشور :
وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين بـ ( يا أيّها الناس ) إشارة بديعة إلى أنّ المال الرائج بين الناس هو حقّ لمالكية المختصّين به في ظاهر الأمر ، ولكنّه عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها ، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة ، فمن تلك الأموال يُنفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف ، ومتى قلَّت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة ، فأصبحوا في ضنك وبؤس ، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم ، وامتلاك بلادهم ، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم ، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة.
وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيماً من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها.
وقد أبْعَدَ جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة ، لأنّ الأموال في يد الأولياء ، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصّة.
وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين لأنّ الأموال من نوع أموالهم ، وإن لم تكن أموالهم حقيقة ، وإليه مال الزمخشري.
وجماعة جعلوا الإضافة لأنّ السفهاء من نوع المخاطبين فكأنّ أموالَهم أموالُهم وإليه مال فخر الدين.
وقارب ابن العرب إذ قال : "لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك" وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن.(20/48)
وأبعَدَ فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا يا أصحاب الأموال أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم ، وهذا أبعد الوجوه ، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلاّ الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء ، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين ، وإنّما وصفته بالبعد لأنّ قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجهاً جائزاً يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه بناء على ما تقرّر في المقدّمة التاسعة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 26}
فصل
قال الفخر :
ذكروا في المراد بالسفهاء أوجها :
الأول : قال مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء ههنا النساء سواء كن أزواجا أو أمهات أو بنات.
وهذا مذهب ابن عمر ، ويدل على هذا ما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إنما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثا ألا وإن السفهاء النساء إلا امرأة أطاعت قيمها "
فإن قيل : لو كان المراد بالسفهاء النساء لقال : السفائه.
أو السفيهات في جمع السفيهة نحو غرائب وغريبات في جمع الغريبة.
أجاب الزجاج : بأن السفهاء في جمع السفيهة جائز كما أن الفقراء في جمع الفقيرة جائز.
والقول الثاني : قال الزهري وابن زيد : عني بالسفهاء ههنا السفهاء من الأولاد ، يقول : لا تعط مالك الذي هو قيامك ، ولدك السفيه فيفسده.
القول الثالث : المراد بالسفهاء هم النساء والصبيان في قول ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد ابن جبير ، قالوا إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة ، وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده.(20/49)
والقول الرابع : أن المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ، ويدخل فيه النساء والصبيان والايتام كل من كان موصوفا بهذه الصفة ، وهذا القول أولى لأن التخصيص بغير دليل لا يجوز ، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن السفه خفة العقل ، ولذلك سمي الفاسق سفيها لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم ، ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 150 ـ 151}
قال الطبرى :
والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا ، أن الله جل ثناؤه عم بقوله : "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" ، فلم يخصص سفيهًا دون سفيه. فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهًا ماله ، صبيًا صغيرًا كان أو رجلا كبيرًا ، ذكرًا كان أو أنثى.
و"السفيه" الذي لا يجوز لوليه أن يؤتِّيه ماله ، هو المستحقُّ الحجرَ بتضييعه مالَه وفسادِه وإفسادِه وسوء تدبيره ذلك.
وإنما قلنا ما قلنا ، من أن المعنيَّ بقوله : "ولا تؤتوا السفهاء" هو من وصفنا دون غيره ، لأن الله جل ثناؤه قال في الآية التي تتلوها : "وابْتَلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم" ، فأمر أولياء اليتامى بدفع أموالهم إليهم إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد ، وقد يدخل في"اليتامى" الذكور والإناث ، فلم يخصص بالأمر بدفع ما لَهُم من الأموال ، الذكورَ دون الإناث ، ولا الإناث دون الذكور.
وإذْ كان ذلك كذلك ، فمعلومٌ أن الذين أمر أولياؤهم بدفعهم أموالهم ، إليهم ، وأجيز للمسلمين مبايعتهم ومعاملتهم ، غير الذين أمر أولياؤهم بمنعهم أموالهم ، وحُظِر على المسلمين مداينتهم ومعاملتهم.(20/50)
فإذْ كان ذلك كذلك ، فبيِّنٌ أن"السفهاء" الذين نهى الله المؤمنين أن يؤتوهم أموالهم ، هم المستحقون الحجرَ والمستوجبون أن يُولى عليهم أموالهم ، وهم من وصفنا صفتهم قبل ، وأن من عدا ذلك فغير سفيه ، لأن الحجر لا يستحقه من قد بلغ وأونس رشده.
وأما قول من قال : "عنى بالسفهاء النساء خاصة" ، فإنه جعل اللغة على غير وجهها. وذلك أن العرب لا تكاد تجمع"فعيلا" على"فُعَلاء" إلا في جمع الذكور ، أو الذكور والإناث. وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم ، جمعوه على : "فعائل" و"فعيلات" ، مثل : "غريبة" ، تجمع"غرائب" و"غريبات" ، فأما"الغُرَباء" ، فجمع"غريب". أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 565 ـ 566}
فصل
قال القرطبى :
واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه ؛ فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم : إنّ فعل السفيه وأمره كلّه جائز حتى يضرب الإمام على يده.
وهو قول الشافعي وأبي يوسف.
وقال ابن القاسم : أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام.
وقال أصْبَغ : إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة ، وإن كان غير ظاهر السفه فلا تُردّ أفعاله حتى يحجر عليه الإمام.
واحتج سُحنون لقول مالك بأن قال : لو كانت أفعال السفيه مردودةً قبل الحجر ما احتاج السلطان أن يحجر على أحد.
وحجة ابن القاسم ما رواه البخاري من حديث جابر : أن رجلاً أعتق عبداً ليس له مال غيره فردّه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حجر عليه قبل ذلك.
الخامسة واختلفوا في الحجر على الكبير ؛ فقال مالك وجمهور الفقهاء : يحجر عليه.(20/51)
وقال أبو حنيفة : لا يحجر على من بلغ عاقلاً إلا أن يكون مفسداً لمالهِ ؛ فإذا كان كذلك مُنع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغها سُلّم إليه بكل حال ، سواء كان مفسداً أو غير مفسد ؛ لأنه يُحبَل منه لاثنتي عشرة سنة ، ثم يولد له لستة أشهر فيصير جَدّاً وأبا ، وأنا أستحي أن أحجر على مَن يصلح أن يكون جَدّاً.
وقيل عنه : إن في مدّة المنع من المال إذا بلغ مفسداً ينفذ تصرفه على الإطلاق ، وإنما يُمنع من تسليم المال احتياطا.
وهذا كله ضعيف في النظر والأثر.
وقد روى الدَّارَقُطْنِيّ : حدّثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصوّاف أخبرنا حامد بن شعيب أخبرنا شُريح بن يونس أخبرنا يعقوب بن إبراهيم هو أبو يوسف القاضي أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير فقال : إني اشتريت بيع كذا وكذا ، وإن عليّاً يريد أن يأتي أمير المؤمنين فيسأله أن يحجر عليّ فيه.
فقال الزبير : أنا شريكك في البيع.
فأتى عليّ عثمان فقال : إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا فاحجر عليه.
فقال الزبير : فأنا شريكه في البيع.
فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيعٍ شريكُه فيه الزبير ؟ قال يعقوب : أنا آخذ بالحجر وأراه ، وأحجر وأبطل بيع المحجور عليه وشراءه ، وإذا اشترى أو باع قبل الحجر أجزت بَيعَه.
قال يعقوب بن إبراهيم : وإن أبا حنيفة لا يحجر ولا يأخذ بالحجر.
فقول عثمان : كيف أحجر على رجل ، دليل على جواز الحجر على الكبير ؛ فإن عبد الله بن جعفر ولدته أُمّه بأرض الحبشة ، وهو أوّل مولود وُلد في الإسلام بها ، وقدِم مع أبيه على النبيّ صلى الله عليه وسلم عامَ خَيْبر فسمع منه وحفِظ عنه.
وكانت خيبر سنة خمس من الهجرة.
وهذا يردّ على أبي حنيفة قوله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 30 ـ 31}(20/52)
فائدة
قال الفخر :
ليس السفه في هؤلاء صفة ذم ، ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى ، وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الأموال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 151}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال ، قال تعالى : {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} [ الإسراء : 26 ، 27 ] وقال تعالى : {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً} [ الإسراء : 29 ] وقال تعالى : {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [ الفرقان : 67 ] وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن ، والعقل أيضاً يؤيد ذلك ، لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار ، فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة ، أما من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 151}
قوله تعالى {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما}
فصل
قال الفخر :(20/53)
قوله تعالى : {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال ، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة ، يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم ، وقرأ نافع وابن عامر {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قَيِّماً} وقد يقال : هذا قيم وقيم ، كما قال : {دينا قيما ملة إبراهيم} [ الأنعام : 161 ] وقرأ عبد الله بن عمر ( قواما ) بالواو ، وقوام الشيء ما يقام به كقولك : ملاك الأمر لما يملك به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 151}
وقال ابن عاشور :
والمعنى أنّها تقويم عظيم لأحوال الناس.
وقيل : قيما جمع قِيمة أي التي جعلها الله قيماً أي أثماناً للأشياء ، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدّم.
ومعنى قوله : { وارزقوهم فيها واكسوهم } واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرّف مطلق ، ولكن آتوهم إيّاها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة ، ولذلك قال فقهاؤنا : تسلّم للمحجور نفقته وكِسْوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 27}
فصل
قال الفخر :
قال الشافعي رحمه الله : البالغ إذا كان مبذراً للمال مفسداً له يحجر عليه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يحجر عليه.
حجة الشافعي : أنه سفيه ، فوجب أن يحجر عليه ، إنما قلنا إنه سفيه ، لأن السفيه في اللغة ، هو من خف وزنه.
ولا شك أن من كان مبذرا للمال مفسداً له من غير فائدة ، فإنه لا يكون له في القلب وقع عند العقلاء ، فكان خفيف الوزن عندهم ، فوجب أن يسمى بالسفيه ، وإذا ثبت هذا لزم اندراجه تحت قوله تعالى : {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 151}(20/54)
قوله تعالى {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه ، أما خلاف القول المعروف فإنه يزيد السفيه سفهاً ونقصانا.
والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها : أحدها : قال ابن جريج ومجاهد : إنه العدة الجميلة من البر والصلة ، وقال ابن عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما انت أهله ، وان غنمت في غزاتي أعطيتك ، وثانيها : قال ابن زيد : إنه الدعاء مثل أن يقول : عافانا الله وإياك بارك الله فيك ، وبالجملة كل ما سكنت إليه النفوس وأحبته من قول وعمل فهو معروف وكل ما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر ، وثالثها : قال الزجاج : المعنى علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل ، ورابعها : قال القفال رحمه الله القول المعروف هو أنه إن كان المولى عليه صبيا ، فالولي يعرفه أن المال ماله وهو خازن له ، وأنه إذا زال صباه فإنه يرد المال إليه ، ونظير هذه الآية قوله : {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [ الضحى : 9 ] معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد ، وكذا قوله : {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} [ الإسراء : 28 ] وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة ، ورغبه في ترك التبذير والاسراف ، وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام ، وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التى حكيناها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 152}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } قيل : معناه اجعلوا لهم فيها أو أفرضوا لهم فيها.
وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر.(20/55)
فكان هذا دليلاً على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجةِ على زوجها.
وفي البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة ما ترك غنىً واليدُ العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تَعُول تقول المرأة إمّا أن تُطعمَني وإمّا أن تطلِّقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تَدَعُني " فقالوا : يا أبا هريرة ، سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، هذا من كِيس أبي هريرة!.
قال المهلّب : النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع ؛ وهذا الحديث حجة في ذلك.
قال ابن المنذر : واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كَسْب ؛ فقالت طائفة : على الأب أن ينفق على ولدِه الذكور حتى يحتلموا ، وعلى النساء حتى يتزوّجن ويُدخل بهن.
فإن طلقها بعد البِناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها.
وإن طلّقها قبل البِناء فهي على نفقتها.
ولا نفقة لولد الولد على الجدّ ؛ هذا قول مالك.
وقالت طائفة : ينفق على ولدِ ولدِه حتى يبلغوا الحُلَم والمحيض.
ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زَمْنَى ، وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال ، وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سَفِلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدِر على النفقة عليهم ؛ هذا قول الشافعي.
وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد ؛ على ظاهر
" قوله عليه السلام لِهند : "خُذِي ما يكفيكِ وولدَك بالمعروف" " وفي حديث أبي هريرة : " يقول الابن أطْعِمْنِي إلى مَن تَدَعُني " يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتَّحَرُّف.
(20/56)
ومن بلغ سِنّ الحُلم فلا يقول ذلك ؛ لأنه قد بلغ حدّ السعي على نفسه والكسب لها ، بدليل قوله تعالى : { حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } [ النساء : 6 ] الآية.
فجعل بلوغ النكاح حدّاً في ذلك.
وفي قوله " "تقول المرأة إما أن تُطعِمَني وإما أن تُطلِّقني" " يردّ على من قال لا يفرّق بالإعسار ويلزم المرأة الصبر ؛ وتتعلّق النفقة بذمّته بحكم الحاكم.
هذا قول عطاء والزُّهريّ.
وإليه ذهب الكوفيون متمسّكين بقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] قالوا : فوجب أن يُنْظَر إلى أن يُوسِر.
وقوله تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] الآية.
قالوا : فندب تعالى إلى إنكاح الفقير ؛ فلا يجوز أن يكون الفقر سبباً للفُرْقة وهو مندوب معه إلى النكاح.
ولا حجة لهم في هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها.
والحديث نصٌّ في موضع الخلاف.
وقيل : الخطاب لولِيّ اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره ؛ على ما تقدّم من الخلاف في إضافة المال.
فالوصيّ ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله ؛ فإن كان صغيراً ومالُه كثير اتخذ له ظِئْراً وحواضنَ ووَسّع عليه في النفقة.
وإن كان كبيراً قدّر له ناعم اللباس وشهيّ الطعام والخدمَ.
وإن كان دون ذلك فبِحسَبه.
وإن كان دون ذلك فخَشِنَ الطعام واللباس قدر الحاجة.
فإن كان اليتيم فقيراً لا مال له وجب على الإمام القيامُ به من بيت المال ؛ فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين الأخصِّ به فالأخص.
وأُمُّه أخصّ به فيجب عليها إرضاعه والقيامُ به.
ولا ترجع عليه ولا على أحد. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 32 ـ 33}. بتصرف يسير.(20/57)
لطيفة
قال ابن عاشور :
وعدل عن تعدية { ارزقوهم واكسوهم } بـ ( مِن ) إلى تعديتها بـ ( في ) الدالّة على الظرفية المجازية ، على طريقة الاستعمال في أمثاله ، حين لا يقصد التبعيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء ، بل يراد أنّ في جملة الشيء ما يحصل به الفعل : تارة من عينه ، وتارة من ثمنه ، وتارة من نتاجه ، وأنّ ذلك يحصل مكرّراً مستمرّاً.
وانظر ذلك في قول سَبرة بن عمرو الفَقْعسي :
نُحابِي بها أكفاءنَا ونُهيِنَها...
ونَشْرَب في أثْمَانِها ونُقامِر
يريد الإبل التي سيقت إليهم في دية قتيل منهم ، أي نشرب بأثمانها ونقامر ، فإمّا شربنا بجميعها أو ببعضها أو نسترجع منها في القمار ، وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسّرون هنا ، فأهمل معظمهم التنبيه على وجه العدول إلى ( في ) ، واهتدى إليه صاحب "الكشاف" بعض الاهتداء فقال : أي اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتّجروا فيها وتتربَّحوا حتّى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال.
فقوله : "لا من صلب المال" مستدرك ، ولو كان كما قال لاقتضى نهياً عن الإنفاق من صلب المال.(20/58)
وإنّما قال : { وقولوا لهم قولاً معروفاً } ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى ، فإنّ شأن من يُخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال ، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي ، والتي من مال المعطَى ، ولأنّ جانب السفيه ملموز بالهون ، لقلّة تدبيره ، فلعلّ ذلك يحمل ولّيه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أنّ نقصان عقله خلل في الخلقة ، فلا ينبغي أن يشتم عليه ، ولأنّ السفيه غالباً يستنكر منعَ ما يطلبُه من واسع المطالب ، فقد يظهر عليه ، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليّه ، فأمر الله لأجل ذلك كلّه الأولياء بأن لا يبتدئوا محاجيرهم بسَيّىء الكلام ، ولا يجيبوهم بما يسوء ، بل يعظون المحاجير ، ويعلّمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا ، ويذكّرونهم بأنّ المال مالهم ، وحفظه حفظ لمصالحهم ، فإنّ في ذلك خيراً كثيراً ، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم ، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم حتّى لا يكونوا كما قال :
إذا نُهِي السفيهُ جرى إليه...
وخالف والسفيه إلى خلاف
وقد شمل القَول المعروف كلّ قول له موقع في حال مقاله.
وخرج عنه كلّ قول منكر لا يشهد العقل ولا الخُلُق بمصادفته المحزّ ، فالمعروف قد يكون ممّا يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 27 ـ 28}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أراد تليين الخطاب والوعدَ الجميل.
واختُلف في القول المعروف ؛ فقيل : معناه ادعوا لهم : بارك الله فيكم ، وحاطكم وصنع لكم ، وأنا ناظر لك ، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك.
وقيل : معناه وعِدوهم وَعْداً حسناً ؛ أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم.(20/59)
ويقول الأب لابنه : مالي إليك مصيره ، وأنت إن شاء الله صاحبُه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 33}
فصل في أحكام تتعلق بالحجر
وفيه مسائل
المسألة الأولى : الابتلاء يختلف باختلاف أحوال اليتامى فإن كان ممن يتصرف بالبيع والشراء في الأسواق يدفع إليه شيئاً يسيراً من المال ، وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في الأسواق فيختبر بنفقته على أهله وعبيده وأجرائه وتصرفه في أموال داره ، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تدبير اليتيم وحسن تصرفه في الأمور مرار أو غلب على الظن رشده دفع إليه ماله بعد بلوغه ولا يدفع إليه ماله وإن كان شيخاً يغلب عليه السفه حتى يؤنس منه الرشد.
المسألة الثانية : قال الإمام أبو حنيفة : تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة.
وقال الشافعي هي غير صحيحة.
واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لأن قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في جميع تصرفاته فثبت أن قوله وابتلوا اليتامى أمر للأولياء بالإذن لهم في البيع والشراء قبل البلوغ أجاب الشافعي بأن قال ليس المراد وابتلوا اليتامى الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله فإن آنستم منهم رشداً { فادفعوا إليهم أموالهم } وإنما تدفع إليهم أموالهم بعد البلوغ وإيناس الرشد فثبت بموجب هذه الآية أنه لا يدفع إليه ماله حال الصغر فوجب إن لا يصح تصرفه حال الصغر وإنما المراد من الابتلاء هو اختبار عقله واستكشاف حاله في معرفة المصالح والمفاسد.
المسألة الثالثة : في بيان البلوغ وذلك بأربعة أشياء اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء.(20/60)
واثنان يختصان بالنساء أما اللذان يشترك فيهما الرجال والنساء فأحدهما بالسن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة.
حكم ببلوغه غلاماً كان أو جارية.
ويدل عليه ما روى عن ابن عمر قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني.
ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني.
أخرجاه في الصحيحين وهذا قول أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة والثاني الاحتلام وهو إنزال المني الدافق سوا أنزل باحتلام أو جماع فإذا وجد ذلك من الصبي أو الجارية حكم ببلوغه لقوله تعالى { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " خذ من كل حالم ديناراً أما نبات الشعر الخشن حول الفرج فهو يدل على البلوغ " في أولاد المشركين لما روى عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل.
فكنت ممن لم ينبت وهل يكون ذلك علامة عن البلوغ في أولاد المسلمين ؟ فيه قولان : أحدهما أنه يكون بلوغاً كما في أولاد المشركين والثاني لا يكون ذلك بلوغاً في حق أولاد المسلمين لأنه يمكن الوقوف على مواليد أولاد المسلمين والرجوع إلى قول آبائهم بخلاف الكفار فإنه لا يوقف على مواليدهم ولا يقبل في ذلك قول آبائهم لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغاً في حقهم.
وأما الذي يختص بالنساء فهو الحيض والحبل فإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين حكم ببلوعها وكذلك إذا ولدت حكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل.(20/61)
المسألة الرابعة : في بيان الرشد وهو أن يكون مصلحاً في دينه وماله فالصلاح في الدين هو اجتناب الفواحش والمعاصي التي تسقط بها العدالة والصلاح في المال هو أن لا يكو مبذراً والتبذير أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية أو لا يحسن التصرف فيغبن في البيع والشراء.
فإذا بلغ الصبي وهو مفسد لماله ودينه لم ينفك عنه الحجر ولا ينفذ تصرفه في ماله.
وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا كان مصلحاً لماله زال عنه الحجر وإن كان مفسداً لدينه وإذا كان لما له مفسداً لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسة وعشرين سنة غير أنه ينفذ تصرفه قبله والقرآن حجة الشافعي في استدامة الحجر عليه لأن الله تعالى قال { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } أمر بدفع المال بعد البلوغ وإيناس الرشد والفاسق لا يكون رشيداً وبعد بلوغه خمساً وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالإنفاق غير رشيد فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن.
المسألة الخامسة : إذا بلغ الصبي أو الجارية وأونس منه الرشد زال عنه الحجر ودفع إليه ماله سواء تزوج أو لم يتزوج وقال مالك إن كانت امرأة لا يدفع إليها المال ما لم تتزوج دفع إليها مالها ولا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب.
المسألة السادسة : إذا بلغ الصبي رشيداً زال عنه الحجر فلو عاد سفيهاً ينظر فإن كان مبذراً لماله حجر عليه وإن كان مفسداً في دينه فعلى وجهين : إحدهما أن يعاد عليه الحجر كما يستدام إذا بلغ وهو بهذه الصفة.
والثاني لا يحجر عليه لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء.(20/62)
وعند أبي حنيفة لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم فقال علي : لآتين عثمان ولأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير أنا شريكك في بيعك فأتى علي عثمان فقال احجر على هذا فقال الزبير أنا شريكه فقال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير فكان اتفاقاً منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير لدفعه. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 318 ـ 319}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
أصل تُؤْتُوا تُؤتيوا : تُكْرِموا فاستثقلت الضمةُ على الياءِ وواو الضمير فحذفت الياء لئلا يلتقي ساكنان.
والسُّفَهاء جمع : سفيه ، وعن مجاهد : " المراد بالسُّفَهاءِ " النِّسَاءِ مَنْ كُنَّ أزواجاً ، أو بنات ، أو أمهات ، وضَعَّفَهُ بَعْضُهُم بأنَّ فَعِيلة إنَّما تُجْمَع على فَعَائلِ أوْ فَعِيلات ، قاله [ أبو البقاء ] وابن عطية ، وقد نقل بعضهم أنَّ سَفَيهةَ تُجْمَعُ : على " سُفَهَاءَ " كالمُذكَّر ، وعلى هذا لا يَضْعُفُ قول مُجَاهِدٍ. وجمعُ فَعِيلَةٍ ابن عطية جمع فَعِيلة بِفَعَائِلٍ ، أوْ فَعِيلات ليس بظاهر ، لأنَّهَا يَطَّرد فيها أيْضاً " فِعَال " نحو : كريمةٍ ، وَكرامٍ ، وظريفةً ، وظِراف ، وكذلك إطلاقهُ فَعِيلة ، وَكَانَ مِنْ حَقِّه أنْ يقيِّدَها بألاَّ تكون بمعنى : مَفْعُولةٍ ، تَحَرُّزاً من قتيلة فَإنَّها لا تُجْمَعُ على فَعَائِل.(20/63)
والجمهورُ قرؤوا ( الَّتِي ) بلفظِ الإفراد صفةً للأمْوالِ ، وإنْ كانت جَمْعاً ؛ لأنَّهُ تَقَدَّم أنَّ جمع ما لا يعقل من الكثرة ، أو لم يكن له إلا جمعٌ واحدٌ ، الأحسنُ فيه أنْ يُعَامَل مُعَاملةَ الوَاحِدَةِ المؤنَّثة ، والأمْوالِ من هذا القبيل ، لأنَّهَا جمعُ ما لا يُعْقل ، ولم تُجْمَع إلاَّ على أفْعال ، وإنْ كانت بلفظِ القِلَّةِ ؛ لأن المرادَ بها الكثرة.
وقرأ الحسن والنخعي " اللاتي " مطابقةٌ للفظ الجمع ، وكان القياسُ ألاَّ يوصف بـ " اللاتي " إلا ما يوصفُ مفرده بـ " التي " والأموال لا يوصف مفردها وهو " مال " بـ " التي ".
وقال الفراء : العرب تقول في النِّساءِ " اللاتي " أو جمع " التي " نفسها.
قوله : " قياماً " إن قلنا : أن " جَعَلَ " بمعنى صَيَّرَ ف " قياماً " مفعول ثانٍ ، والأول محذوف ، وهو عائد الموصول والتقدير : الَّتِي جعلها اللهُ ، أي : صَيَّرَها لكم قياماً ، وَإنْ قُلْنَا : إنها بمعنى " خلق " ف " قياماً " حال ، من ذلك العائد على المحذوف ، والتقدير : جعلها أي : خلقها وأوجدها في حال كونها قياماً.
وقرأ نافع وابن عامر " قيماً " ، وباقي السبعة " قياماً " وابن عمر " قِواماً " بكسر القاف ، والحسن وعيسى بن عمر " قَواماً " بفتحها وَيُرْوَى عَنْ أبي عمرو ، وقرئ " قِوَماً " بزنة " عِنب ".
فَأَمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها ثلاثة أوجه :
(20/64)
أحدها : أن " قِيماً " مصدر كالقيام وليس مقصوراً منه قال الكسائِيُّ والأخْفشُ والفراء. فهو مصدر بمعنى القيام الذي يُرادُ به الثباتُ والدَّوامُ ، وقد رُدَّ هذا القولُ بأنه كان يَنْبَغِي أن تَصِحَّ الواو لتحضُنها بِتَوسُّطِها ، كما صَحَّت واو " عِوَض " " وحِوَل " ، وقد أجيبَ عنه بأنه تَبعَ فعله من الإعلال وكما أُعِلَّ فعله أُعِلَّ هو ، ولأنه بمعنى القِيام فَحُمِلَ عليه في الإعلال.
وَحَكَى الأخفش : " قِيماً " و" قِوَماً " قال : والقياسُ تصحيحُ الواو ، وإنما اعتلت على وجه الشُّذُوذِ كقولهم : " ثِيرَة " وقول بني ضبة " طِيال " في جمع طويل ، وقول الجميع " جِياد " في جمع جواد ، وإذا أعلّوا " دِيَماً " لإعلال " دِيْمة " ، فاعتلالُ المصدر لاعتلال فعلِه أوْلى ، ألا تَرَى إلى صِحَّةِ الجمع مع اعتلالِ مُفْرده في معيشة ، ومعايش ، ومقامة ، ومَقَاوِم ، ولم يُصَححوا مَصْدراً أعلُّوا فِعْلهُ.
الثاني : أنه جمع " قِيمة " كـ " دِيَم " في جمع " دِيْمَة " ، والمعنى : أنَّ الأموال كالقيم للنفوس ؛ لأنَّ بقاءها بها ، وقد رَدَّ الفارسيُّ هذا الوجه ، وإنْ كان هو قول البصريين غير الأخفشِ ، بأنه قد قرئ قوله تعالى : { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 161 ] وقوله : { البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ]. ولا يصحُّ معنى القيمة فيهما ، وقد رَدَّ عليه الناس بأنَّه لا يلزم من عدم صحَّة معناه في الآيتين المذكورتين ألا يصح هنا ، إذ معناه لائق ، وهناك معنى آخر يليق بالآيتين المذكورتين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما قراءة باقي السَّبعة فهو مصدرُ " قام " والأصلُ " قِوام " ، فأبدلت الواوُ ياءً للقاعدةِ المعروفة ، والمعنى : التي جعلها اللهُ سبب قيام أبدانكم أي : بقائها.
(20/65)
وقال الزَّمخشريُّ : " أي : تقومون بها وتنتعشون بها ".
وأما قراءة عبد الله بن عمر ففيها وجهان :
أحدهما : أنه مصدرُ قَاوَمَ كـ " لاوَذَ ، لِواذاَ " صحَّت الواوُ في المصدرِ كما صحَّت في الفعل.
الثاني : أنه اسم لما يقوم به الشَّيء ، وليس بمصدر كقولهم : " هذا ملاك الأمر " أي : ما يملك به الأمر.
وَأمَّا قراءة الحَسَن ففيها وجهان :
أحدهما : أنَّه اسم مصدر كالكلام ، والدَّوام ، والسَّلام.
والثاني : أنَّهُ لغة من القوام المراد به القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سببُ بقاءِ قاماتكم ، يقال : جارية حَسَنةُ القِوام ، والقَوام ، والقمة كله بمعنى واحد.
وقال أبو حاتم قوام بالفتح خطأ ، قال : لأنَّ القوام امتداد القامة ، وقد تقدَّم تأويلُ ذلك على أنَّ الكسائيَّ قال : هو بمعنى القِوام أي بالكسر ، يعني أنه مصدر ، وَأمَّا " قِوَماً " فهو مصدر جاء على الأصلِ ، أعني : الصَّحِيحَ العين كالعِوَض ، والحِوَل.
قوله : { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم }.
ومعنى الرزق : أن أنفقوا عليهم. وقوله " فيها " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ " في " على بابها من الظرفية ، أي اجعلوا رزقهم فيها.
والثاني : أنها بمعنى " مِنْ " ، أي : بعضها والمراد : [ من ] أرباحها بالتجارة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 179 ـ 184}. بتصرف.(20/66)
من فوائد الجصاص فى الآية
قال رحمه الله :
بَابُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى السُّفَهَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " لَا يَقْسِمُ الرَّجُلُ مَالَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ فَيَصِيرَ عِيَالًا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ؛ إذْ هُمْ عِيَالٌ لَهُ ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ " ؛ فَتَأَوَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَمُقْتَضَى حَقِيقَتِهَا ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { أَمْوَالَكُمْ } يَقْتَضِي خِطَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالنَّهْيِ عَنْ دَفْعِ مَالِهِ إلَى السُّفَهَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِهِ ، لِعَجْزِ هَؤُلَاءِ عَنْ الْقِيَامِ بِحِفْظِهِ وَتَثْمِيرِهِ ، وَهُوَ يَعْنِي بِهِ الصِّبْيَانَ وَالنِّسَاءَ الَّذِينَ لَا يُكْمِلُونَ لِحِفْظِ الْمَالِ.
وَيَدُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي حَيَاتِهِ بِمَالِهِ وَيَجْعَلَهُ فِي يَدِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَأَنْ لَا يُوصِيَ بِهِ إلَى أَمْثَالِهِمْ.
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ وَرَثَتَهُ إذَا كَانُوا صِغَارًا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ إلَّا إلَى أَمِينٍ مُضْطَلِعٍ بِحِفْظِهِ عَلَيْهِمْ.(20/67)
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ وَوُجُوبِ حِفْظِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ قِوَامَ أَجْسَادِنَا بِالْمَالِ ، فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ إخْرَاجُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ ثُمَّ حِفْظُ مَا بَقِيَ وَتَجَنُّبِ تَضْيِيعِهِ ، وَفِي ذَلِكَ تَرْغِيبٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي إصْلَاحِ الْمَعَاشِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ، مِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَك مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِك وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } وقَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } وَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَتَحْصِينِ الدُّيُونِ بِالشَّهَادَاتِ وَالْكِتَابِ وَالرَّهْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ.
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَكُمْ قَوَامًا عَلَيْهَا فَلَا تَجْعَلُوهَا فِي يَدِ مَنْ يُضَيِّعُهَا.(20/68)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ التَّأْوِيلِ : مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَرَادَ : لَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } يَعْنِي : لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وقَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } يُرِيدُ : مَنْ يَكُونُ فِيهَا.
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ السُّفَهَاءُ مَحْجُورًا عَلَيْهِمْ فَيَكُونُونَ مَمْنُوعِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَى أَنْ يَزُولَ السَّفَهُ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السُّفَهَاءِ هَهُنَا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " السَّفِيهُ مِنْ وَلَدِك وَعِيَالِك " وَقَالَ : " الْمَرْأَةُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ ".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ : " النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ".
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : " كُلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ سَفِيهٍ فِي الْمَالِ مِنْ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ ".
وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : " ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا ، وَرَجُلٌ أَعْطَى مَالَهُ سَفِيهًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } وَرَجُلٌ دَايَنَ رَجُلًا فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ ".
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ : " أَنَّ السُّفَهَاءَ النِّسَاءُ ".(20/69)
وَقِيلَ إنَّ أَصْلَ السَّفَهِ خِفَّةُ الْحِلْمِ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْفَاسِقُ سَفِيهًا ؛ لِأَنَّهُ لَا وَزْنَ لَهُ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ ، وَيُسَمَّى النَّاقِصُ الْعَقْلِ سَفِيهًا لِخِفَّةِ عَقْلِهِ ؛ وَلَيْسَ السَّفَهُ فِي هَؤُلَاءِ صِفَةَ ذَمٍّ وَلَا يُفِيدُ مَعْنَى الْعِصْيَانِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا سُمُّوا سُفَهَاءَ لِخِفَّةِ عُقُولِهِمْ وَنُقْصَانِ تَمْيِيزِهِمْ عَنْ الْقِيَامِ بِحِفْظِ الْمَالِ.
فَإِنْ قِيلَ : لَا خِلَافَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ نَهَبَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ الْمَالَ ، وَقَدْ أَرَادَ بَشِيرٌ أَنْ يَهَبَ لِابْنِهِ النُّعْمَانِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ إلَّا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ سَائِرَ بَنِيهِ مِثْلَهُ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ إعْطَاءِ السُّفَهَاءِ أَمْوَالَنَا ؟ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ التَّمْلِيكَ وَهِبَةَ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ أَنْ نَجْعَلَ الْأَمْوَالَ فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ غَيْرُ مُضْطَلِعِينَ بِحِفْظِهَا ، وَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَهَبَ الصَّغِيرَ وَالْمَرْأَةَ كَمَا يَهَبُ الْكَبِيرَ الْعَاقِلَ وَلَكِنَّهُ يَقْبِضُهُ لَهُ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ وَيَحْفَظُ مَالَهُ وَلَا يُضَيِّعُهُ ، وَإِنَّمَا مَنَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْآيَةِ أَنْ نَجْعَلَ أَمْوَالَنَا فِي أَيْدِي الصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ الَّتِي لَا يَكْمُلْنَ بِحِفْظِهَا وَتَدْبِيرِهَا.(20/70)
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } يَعْنِي وَارْزُقُوهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّ " فِي " هَهُنَا بِمَعْنَى " مِنْ " إذْ كَانَتْ حُرُوفُ الصِّفَاتِ تَتَعَاقَبُ فَيَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } وَهُوَ بِمَعْنَى " مَعَ " فَنَهَانَا اللَّهُ عَنْ دَفْعِ الْأَمْوَالِ إلَى السُّفَهَاءِ الَّذِينَ لَا يَقُومُونَ بِحِفْظِهَا وَأَمَرَنَا بِأَنْ نَرْزُقَهُمْ مِنْهَا وَنَكْسُوَهُمْ.
فَإِنْ كَانَ مُرَادُ الْآيَةِ النَّهْيَ عَنْ إعْطَائِهِمْ مَالَنَا عَلَى مَا اقْتَضَى ظَاهِرُهَا فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ السُّفَهَاءِ وَالزَّوْجَاتِ لِأَمْرِهِ إيَّانَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِنَا ؛ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مُرَادَهَا أَنْ لَا نُعْطِيَهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَهُمْ سُفَهَاءُ ، فَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْحَجْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنْعُهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
وَالثَّانِي : إجَازَتُهُ تَصَرُّفَنَا عَلَيْهِمْ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَشِرَى أَقْوَاتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ.
وقَوْله تَعَالَى : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ : { قَوْلًا مَعْرُوفًا } عِدَةً جَمِيلَةً بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ وَيَحْسُنُ.(20/71)
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إجْمَالَ الْمُخَاطَبَةِ لَهُمْ وَإِلَانَةَ الْقَوْلِ فِيمَا يُخَاطَبُونَ بِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } وَكَقَوْلِهِ : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا }.
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هَهُنَا التَّأْدِيبَ وَالتَّنْبِيهَ عَلَى الرُّشْدِ وَالصَّلَاحِ وَالْهِدَايَةِ لِلْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ : إذَا أَعْطَيْتُمُوهُمْ الرِّزْقَ وَالْكِسْوَةَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَنْ تُجْمِلُوا لَهُمْ الْقَوْلَ وَلَا تُؤْذُوهُمْ بِالتَّذَمُّرِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إجْمَالَ اللَّفْظِ وَتَرْكَ التَّذَمُّرِ وَالِامْتِنَانِ ؛ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى }.
وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُرَادَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 353 ـ 356}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)}
السَّفيه من يمنعك عن الحقِّ ، ويشغلك عن الربِّ.
والسَّفيه من العيال والأولاد من تؤثر حظوظَهم على حقوق الله تعالى.(20/72)
قوله : { الَّتِى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا } : حفظ التجمل في الحال أجدى عليكم من التعرض للتبذل والسؤال ، والكدية والاحتيال. وإنما يكون البذل خيراً من الإمساك على تَحرُّرِ القلب والثقةِ بالصبر. فأمّا على نية الكدية وأن تجعل نفسك وعيالك كَلاًّ على الناس فَحِفْظُك ما جعله الله كفايةً لنفسك أَوْلَى ، ثم الجود بفاضل كفايتك.
قوله : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } : إذا كان ذات يدك يتسع لكفاية يومهم ويَفْضُل فلا تدَّخره عمّا تدعو إليه حاجتهم معلومك خشيةَ فقرٍ في الغد ، فإِنْ ضاقت يدُك عن الإنفاق فلا يَتَّسِعَنَّ لسانك بالقبيح من المقال.
ويقال إذا دَعَتْكَ نَفْسُك إلى الإنفاق في الباطل فأنت أسفه السفهاء فلا تُطِعْ نَفْسَكَ. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 314}(20/73)
قوله تعالى { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نهى عن ذلك البذل للسفهاء أيتاماً كانا أو غيرهم ، بين أنه ليس دائماً بل ما دام السفه قائماً ، فمست الحاجة إلى التعريف بمن يعطي ومن يمنع وكيف عند الدفع ، ولما كان السفه أمراً باطناً لا يعرف إلا بالتصرف ولا سيما في المال ؛ بدأ سبحانه بتعليم ما يتوصلون به إلى معرفته فقال مصرحاً بالأيتام اهتماماً بأمرهم : {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم في أمر الرشد في الدين والمال في مدة مراهقتهم واجعلوا ذلك دأبكم {حتى إذا بلغوا النكاح} أي وقت الحاجة إليه بالاحتلام أو السن {فإن آنستم} أي علمتم علماً أنتم في عظيم تيقنه كأنكم تبصرونه على وجه تحبونه وتطيب أنفسكم به {منهم} أي عند بلوغه {رشداً} أي بذلك التصرف ، ونكره لأن وجود كمال الرشد في أحد يعز وقوعه {فادفعوا إليهم أموالهم} أي لزوال الحاجة إلى الحجر بخوف التبذير ، وأضافها إليهم بعد إضافتها أولاً إلى المعطين إشارة إلى أنه لا يستحقها إلا من يحسن التصرف فيها.
ولما كان الإنسان مجبولاً على نقائص منها الطمع وعدم الشبع لا سيما إذا خالط ، لا سيما إن حصل له إذن ما ؛ أدبه سبحانه بقوله : {ولا تأكلوها} أي بعلة استحقاقكم لذلك بالعمل فيها {إسرافاً} أي مسرفين بالخروج عن القصد في التصرف ووضع الشيء في غير موضعه وإغفال العدل والشفقة {وبداراً} أي مبادرين {أن يكبروا} أي فيأخذوها منكم عند كبرهم فيفوتكم الانتفاع بها ، وكأنه عطف بالواو الدالة على تمكن الوصف وتمامه إشارة إلى عدم المؤاخذة بما يعجز عنه الإنسان المجبول على النقصان مما يجري في الأفعال مجرى الوسوسة في الأقوال " ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ".(20/74)
ولما أشعر النهي عن أكل الكل بأن لهم في الأكل في الجملة علة مقبولة ، أفصح به في قوله : {ومن كان} أي منكم أيها الأولياء {غنياً فليستعفف} أي يطلب العفة ويوجدها ويظهرها عن الأكل منها جملة ، فيعف عنه بما بسط الله له من رزقه {ومن كان فقيراً} وهو يتعهد مال اليتيم لإصلاحه ، ولما كان يخشى من امتناعه من الأكل منه التفريط فيه بالاشتغال بما يهمه في نفسه ، أخرج الكلام في صيغة الأمر فقال معبراً بالأكل لأنه معظم المقصود : {فليأكل بالمعروف} أي بقدر أجرة سعيه.
ولما كان ذلك ربما أفهم الأمان إلى الرشد بكل اعتبار ، أمر بالحزم - كما في الطبراني الأوسط عن أنس " احترسوا من الناس بسوء الظن " - فقال : {فإذا دفعتم إليهم} أي اليتامى {أموالهم} أي التي كانت تحت أيديكم لعجزهم عن حفظها {فأشهدوا عليهم} أي احتياطاً لأن الأحوال تتبدل ، والرشد يتفاوت ، فالإشهاد أقطع للشر ، وأنفع في كل أمر ، والأمر بالإشهاد أزجر للولي عن الخيانة ، لأن من عرف أنه لا يقبل عند الخصام إلا ببينة عف غاية العفة ، واحترز غاية الاحتراز.
ولما كانت الأموال مظنة لميل النفوس ، وكان الحب للشيء يعمي ويصم ؛ ختم الآية بقوله : {وكفى بالله} أي الذي له الحكمة البالغة والقدرة الباهرة والعظمة التي لا مثل لها ، والباء في مثل هذا تأكيد لأن ما قرنت به هو الفاعل حقيقة لا مجازاً - كما إذا أمرنا بالفعل مثلاً {حسيباً} أي محاسباً بليغاً في الحساب ، فهو أبلغ تحذيراً لهم وللأيتام من الخيانة والتعدي ومدّ العين إلى حق الغير. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 216 ـ 217}
وقال الفخر :
(20/75)
واعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم إليه بقوله : {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} [ النساء : 2 ] بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم ، فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم إليهم شرطين : أحدهما : بلوغ النكاح ، والثاني : إيناس الرشد ، ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم إليهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 152}
وقال الآلوسى :
{ وابتلوا اليتامى } شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق ، والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء قاله شيخ الإسلام وهو ظاهر على تقدير أن يراد من السفهاء المبذرين بالفعل من اليتامى وأما على تقدير أن يراد بهم اليتامى مطلقاً ووصفهم بالسفه باعتبار ما أشير إليه فيما مرّ ففيه نوع خفاء ، وقيل : إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا شروع وهو مبني على أن ما تقدم كان مذكوراً على سبيل الاستطراد والخطاب للأولياء. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 203 ـ 204}
فائدة
قال ابن عاشور :
يجوز أن يكون جملة { وابتلوا } معطوفة على جملة { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } [ النساء : 5 ] لتنزيلها منها منزلة الغاية للنهي.(20/76)
فإن كان المراد من السفهاء هنالك خصوص اليتامى فيتّجه أن يقال : لماذا عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وعن الاسم الظاهر المساوي للأوّل إلى التعبير بآخر أخصّ وهو اليتامى ، ويجاب بأنّ العدول عن الإضمار لزيادة الإيضاح والاهتمام بالحكم ، وأنّ العدول عن إعادة لفظ السفهاء إيذان بأنّهم في حالة الابتلاء مرجو كمال عقولهم ، ومتفاءل بزوال السفاهة عنهم ، لئلاّ يلوح شبه تناقض بين وصفهم بالسفه وإيناس الرشد منهم ، وإن كان المراد من السفهاء هنالك أعمّ من اليتامى ، وهو الأظهر ، فيتّجه أن يقال : ما وجه تخصيص حكم الابتلاء والاستيناس باليتامى دون السفهاء ؟ ويجاب بأنّ الإخبار لا يكون إلاّ عند الوقت الذي يرجى فيه تغيّر الحال ، وهو مراهقة البلوغ ، حين يرجى كمال العقل والتنقّل من حال الضعف إلى حال الرشد ، أمّا من كان سفهه في حين الكبر فلا يعرف وقت هو مظنّة لانتقال حاله وابتلائه.
ويجوز أن تكون جملة { وابتلوا } معطوفة على جملة { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] لبيان كيفية الإيتاء ومقدّماته ، وعليه فالإظهار في قوله : { اليتامى } لبعد ما بين المعاد والضمير ، لو عبّر بالضمير. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 28}
فصل
قال القرطبى :
وهذه الآية خطاب للجميع في بيان كيفية دفع أموالهم.
وقيل : إنها نزلت في ثابت بن رِفاعة وفي عمه.
وذلك أن رفاعةُ توفي وترك ابنه وهو صغير ، فأتى عمُّ ثابت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابن أخي يتيم في حِجْري فما يحلّ لي من ماله ، ومتى أدفع إليه ماله ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 34}
فصل
قال الفخر :
قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : غير صحيحة ،(20/77)
احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية ، وذلك لأن قوله : {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء ، وهذا الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء ، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار ، فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء ، يقال : وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، فثبت أن قوله : {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم.(20/78)
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال : ليس المراد بقوله : {وابتلوا اليتامى} الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك : {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ} فإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر ، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر ، لأنه لا قائل بالفرق ، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي ، وأما الذي احتجوا به ، فجوابه : أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله ، في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد ، وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي ، ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء ، وأيضا : هب أنا سلمنا أنه يدفع إليه شيئا ليبيع أو يشتري ، فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء ، بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله ، فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء ، وهذا محتمل والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 153}
فائدة
قال ابن عاشور :
والابتلاء هنا : هو اختبار تصرّف اليتيم في المال باتّفاق العلماء ، قال المالكية : يدفع لليتيم شيء من المال يمكنه التصرّف فيه من غير إجحاف ، ويردّ النظر إليه في نفقة الدار شهراً كاملاً ، وإن كانت بنتاً يفوّض إليها ما يفوّض لربّة المنزل ، وضبط أموره ، ومعرفة الجيّد من الرديء ، ونحو ذلك ، بحسب أحوال الأزمان والبيوت.
وزاد بعض العلماء الاختبار في الدين ، قاله الحسن ، وقتادة ، والشافعي.
وينبغي أن يكون ذلك غير شرط إذ مقصد الشريعة هنا حفظ المال ، وليس هذا الحكم من آثار كليّة حفظ الدين.(20/79)
وبلوغ النكاح على حذف مضاف ، أي بلوغ وقت النكاح أي التزوّج ، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى ، وللبلوغ علامات معروفة ، عبّر عنها في الآية ببلوغ النكاح بناء على المتعارف عند العرب من التبكير بتزويج البنت عن البلوغ.
ومن طلب الرجل الزواج عند بلوغه ، وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة ، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوّة والضعف ، والمزاج الدموي والمزاج الصفراوي ، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 29}
وقال القرطبى :
واختلف العلماء في معنى الاختبار ؛ فقيل : هو أن يتأمّل الوصيُّ أخلاقَ يتيمه ، ويستمع إلى أغراضه ، فيحصل له العلم بنجابته ، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله ، والإهمال لذلك.
فإذا توسّم الخير قال علماؤنا وغيرهم : لا بأس أن يدفع إليه شيئاً من ماله يبيح له التصرف فيه ، فإن نمّاه وحسّن النظر فيه فقد وقع الاختبار ، ووجب على الوصيّ تسليمُ جميع ماله إليه.
وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده.
وليس في العلماء من يقول : إنه إذا اختبر الصبيّ فوجده رشيداً ترتفع الولاية عنه ، وأنه يجب دفع ماله إليه وإطلاقُ يده في التصرف ؛ لقوله تعالى : { حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ }.
وقال جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلو من أحد أمرين ؛ إما أن يكون غلاماً أو جارية ؛ فإن كان غلاماً ردّ النظر إليه في نفقة الدار شهراً ، أو أعطاه شيئاً نَزْراً يتصرّف فيه ؛ ليعرف كيف تدبيره وتصرفه ، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه ؛ فإن أتلفه فلا ضمان على الوصيّ.
فإذا رآه متوخِّياً سلّم إليه ماله وأشهد عليه.(20/80)
وإن كانت جارية ردّ إليها ما يُردّ إلى رَبّة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه ، في الاستغزال والاستقصاء على الغزّالات في دفع القطن وأجرته ، واستيفاء الغزل وجودته.
فإن رآها رشيدة سلّم أيضاً إليها مالَها وأشهد عليها.
وإلاّ بقيا تحت الحَجْر حتى يُؤنس رُشدهما.
وقال الحسن ومجاهد وغيرهما : اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتَنْمية أموالهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 34}
فائدة
قال الآلوسى :
{ حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ } أي إذا بلغوا حدّ البلوغ وهو إما بالاحتلام أو بالسن وهو خمس عشرة سنة عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفة وعليها الفتوى عند الحنفية لما أن العادة الفاشية أن الغلام والجارية يصلحان للنكاح وثمرته في هذه المدة ولا يتأخران عنها ، والاستدلال بما أخرجه البيهقي في "الخلافيات" من حديث أنس إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود ضعيف لأن البيهقي نفسه صرح بأن إسناد الحديث ضعيف ، وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للغلام تمام ثماني عشرة سنة وللجارية تمام سبع عشرة سنة ، وله في ذلك قوله تعالى : { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [ الأنعام : 152 ] وأشُدّ الصبي ثماني عشرة سنة هكذا قاله ابن عباس وتابعه القتبي ، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن غير أن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة ، وعنه في الغلام تسع عشرة سنة ، والمراد أن يطعن في التاسعة عشرة ويتم له ثماني عشرة ، وقيل : فيه اختلاف الرواية لذكر حتى يستكمل تسع عشرة سنة.(20/81)
وشاع عن الإمام الشافعي أنه قد جعل الإنبات دليلاً على البلوغ في المشركين خاصة ، وشنع ابن حزم الضال عليه ، والذي ذكره الشافعية أنه إذا أسر مراهق ولم يعلم أنه بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالبالغين من قتل ومنّ وفداء بأسرى منّاً أو مال واسترقاق أو غير بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالصبيان من الرق يكشف عن سوأته فإن أنبت فله حكم الرجال وإلا فلا وإنما يفعل به ذلك لأنه لا يخبر المسلمين ببلوغه خوفاً من القتل بخلاف المسلم فإنه لا يحتاج إلى معرفة بلوغه بذلك ، ولا يخفى أن هذا لا يصلح محلاً للتشنيع وغاية ما فيه أنه جعل الإنبات سبباً لإجراء أحكام الرجال عليه في هذه المسألة لعدم السبيل إلى معرفة البلوغ فيها وصلاحيته لأن يكون أمارة في الجملة لذلك ظاهرة ، وأما أن فيه أن الإنبات أحد أدلة البلوغ مثل الاحتلام والإحبال والحيض والحبل في الكفار دون المسلمين فلا. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 204 ـ 205}
فائدة
قال الفخر :
المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله : {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} [ النور : 59 ] وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام ، وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع.
واعلم أن للبلوغ علامات خمسة : منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والإناث ، وهو الاحتلام والسن المخصوص ، ونبات الشعر الخشن على العانة ، واثنان منها مختصان بالنساء ، وهما : الحيض والحبل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 153}(20/82)
فائدة
قال ابن عاشور :
الغالب في بلوغ البنت أنّه أسبق من بلوغ الذكر ، فإن تخلّفت عن وقت مظنّتها فقال الجمهور : يستدلّ بالسنّ الذي لا يتخلّف عنه أقصى البلوغ عادة ، فقال مالك ، في رواية ابن القاسم عنه : هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث ، وروي مثله عن أبي حنيفة في الذكور ، وقال : في الجاري سَبْع عشرة سنة ، وروى غيْر ابن القاسم عن مالك أنّه سبع عشرة سنة.
والمشهور عن أبي حنيفة : أنّه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات ، وقال الجمهور : خمس عشرة سنة.
قاله القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بننِ عُمر ، وإسحاق ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، وابن الماجشون ، وبه قال أصبغ ، وابن وهب ، من أصحاب مالك ، واختاره الأبهري من المالكية ، وتمسّكوا بحديث ابن عمر أنّه عرضَه رسولُ الله يوم بدر وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزه ، وعرضه يوم أحُد وهو ابن خمس عشرة فأجازه.
ولا حجّة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين ، فصادف أن رآه النبي وعليه ملامح الرجال ، فأجازه ، وليس ذكر السنّ في كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة.
وقد غفل عن هذا ابن العربي في أحكام القرآن ، فتعجّب من ترك هؤلاء الأيمّة تحديد سنّ البلوغ بخمس عشرة سنة ، والعجبُ منه أشدّ من عجبه منهم ، فإنّ قضية ابن عمر قضية عَين ، وخلاف العلماء في قضايا الأعيان مَعلوم ، واستدلّ الشافعية بما روى أنّ النبي قال : إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما لَه وما عليه ، وأقيمت عليه الحدود.
وهو حديث ضعيف لا ينبغي الاستدلال به.
ووقت الابتلاء يكون بعد التمييز لا محالة ، وقبل البلوغ : قاله ابن الموّاز عن مالك ، ولعلّ وجهه أنّ الابتلاء قبل البلوغ فيه تعريض بالمال للإضاعة لأنّ عقل اليتيم غير كامل ، وقال البغداديون من المالكية : الابتلاء قبل البلوغ.(20/83)
وعبّر عن استكمال قوّة النماء الطبيعي ببلغوا النكاح } ، فأسند البلوغ إلى ذواتهم لأنّ ذلك الوقت يدعو الرجل للتزوّج ويدعو أولياء البنت لتزويجها ، فهو البلوغ المتعارف الذي لا متأخّر بعده ، فلا يشكل بأنّ الناس قد يزوّجون بناتهم قبل سنّ البلوغ ، وأبناءهم أيضاً في بعض الأحوال ، لأنّ ذلك تعجّل من الأولياء لأغراض عارضة ، وليس بلوغاً من الأبناء أو البنات. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 29 ـ 30}
قوله تعالى { فَإِنْ ءانَسْتُمْ }
فصل
قال الفخر :
أما إيناس الرشد فلا بد فيه من تفسير الإيناس ومن تفسير الرشد ، أما الايناس فقوله : {ءانَسْتُمْ} أي عرفتم وقيل : رأيتم ، وأصل الإيناس في اللغة الإبصار ، ومنه قوله : {ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [ القصص : 29 ] وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله ، بل لا بد وأن يكون هذا مراداً ، وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته ، ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين ؟ فعند الشافعي رضي الله عنه لا بد منه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر ، والأول أولى ، ويدل عليه وجوه : أحدها : أن أهل اللغة قالوا : الرشد هو إصابة الخير ، والمفسد في دينه لا يكون مصيباً للخير.
وثانيها : أن الرشد نقيض الغي قال تعالى : {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [ البقرة : 256 ] والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى : {وعصى ءادَمَ رَبَّهُ فغوى} [ طه : 121 ] فجعل العاصي غويا ، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين ، وثالثها : أنه تعالى قال : {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [ هود : 97 ] نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين ، والله أعلم.(20/84)
إذا عرفت هذا فنقول : فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق ، وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 153 ـ 154}
فصل
قال الآلوسى :
{ فَإِنْ ءانَسْتُمْ } أي أحسستم قاله مجاهد وأصل معنى الاستئناس كما قال الشهاب النظر من بعد وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه ما يؤنس به ، ثم عم في كلامهم قال الشاعر :
( آنست ) نبأة وأفزعها الق...
ناص عصراً وقد دنا الإمساء
ثم استعير للتبين أي علم الشيء بينا ، وزعم بعضهم أن أصله الإبصار مطلقاً وأنه أخذ من إنسان العين وهو حدقتها التي يبصر بها ، وهو هنا محتمل لأن يراد منه المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي ، وقرأ ابن مسعود أحستم بحاء مفتوحة وسين ساكنة ، وأصله أحسستم بسينين نقلت حركة الأولى إلى الحاء وحذفت لالتقاء الساكنين إحداهما على غير القياس ، وقيل : إنها لغة سليم وإنها مطردة في عين كل فعل مضاعف اتصل بها تاء الضمير ، أو نونه كما في قول أبي زيد الطائي :
خلا أن العتاق من المطايا...
أحسن به فهن إليه شوس
{ مّنْهُمْ رُشْداً } أي اهتداءاً إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها ، وقيل : صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم ، وتقديم الجار والمجرور لما مر غير مرة ، وقرىء ( رشداً ) بفتحتين ، و( رشداً ) بضمتين ، وهما بمعنى رشداً ، وقيل : الرشد بالضم في الأمور الدنيوية والأخروية ، وبالفتح في الأخروية لا غير ، والراشد والرشيد يقال فيهما { فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم } أي من غير تأخير عن حدّ البلوغ كما تدل عليه الفاء ، وفي إيثار الدفع على الإيتاء في أول الأمر إيذان على ما ذهب إليه البعض بتفاوتهما بحسب المعنى ، وقد تقدم الكلام في ذلك.(20/85)
وظاهر الآية الكريمة أنه لا يدفع إليهم ولو بلغوا ما لم يؤنس منهم الرشد وهو مذهب الشافعي ، وقول الإمامين وبه قال مجاهد ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عنه أنه قال : لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط ما لم يؤنس منه رشد ، ونسب إلى الشعبي ، وقال الإمام الأعظم.
إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة كما في الحديث يدفع إليه ماله ، وإن لم يؤنس الرشد لأن المنع كان لرجاء التأديب فإذا بلغ ذلك السن ولم يتأدب انقطع عنه الرجاء غالباً فلا معنى للحجر بعده وفي "الكافي".
وللإمام الأعظم قوله تعالى : { وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] ، والمراد بعد البلوغ فهو تنصيص على وجوب دفع المال بعد البلوغ إلا أنه منع عنه ماله قبل هذه المدة بالإجماع ولا إجماع هنا فيجب دفع المال بالنص والتعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم عندنا على أن الشرط رشد نكرة فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه ، وأول أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه ، وإذا امتد الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا وحدث ضرب من الرشد لا محالة لأنه حال كمال لبه فقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : ينتهي لب الرجل إذا بلغ خمساً وعشرين.
وقال أهل الطباع : من بلغ خمساً وعشرين سنة فقد بلغ أشدّه ألا ترى أنه قد يصير جداً صحيحاً في هذا السن لأن أدنى مدة البلوغ اثنا عشر حولاً وأدنى مدة الحمل ستة أشهر ، ففي هذه المدة يمكن أن يولد له ابن ثم ضعف هذا المبلغ يولد لابنه ابن.(20/86)
وأنت تعلم أن الاستدلال بما ذكر من الآية على الوجه الذي ذكر ظاهر بناءاً على أن المراد بالإيتاء فيها الدفع ، وقد مر الكلام في ذلك ، واعترض على قوله : على أن الشرط الخ بأنه إذا كان ضرب من الرشد كافياً كما يشعر به التنكير وكان ذلك حاصلاً لا محالة في ذلك السن كما هو صريح كلامه ، واستدل عليه بما استدل كان الدفع حينئذ عند إيناس الرشد وهو مذهب الشافعي وقول الإمامين فلم يصح أن يقال : إن مذهب الإمام وجوب دفع مال اليتيم إليه إن أونس منه الرشد أو لم يؤنس ، غاية ما في الباب أنه يبقى خلاف بين الإمام وغيره في أن الرشد المعتبر شرطاً للدفع في الآية ماذا وهو أمر آخر وراء ما شاع عن الإمام رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة وأيضاً إن أريد بهذا الضرب من الرشد الذي أشار إليه التنوين هو الرشد في مصلحة المال فكونه لا بد وأن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع ، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو على فرض تسليم حصوله إذ ذاك لا يجدي نفعاً إذ الآية كالصريحة في اشتراط الضرب الأول.(20/87)
فقد قال الفخر : "لا شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ، وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا } فيجب أن يكون المراد فإن آنستم ( منهم ) رشداً في ( حفظ المال و) ( 1 ) ضبط مصالحه فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض ، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال ( لا ضرب من الرشد كيف كان ) ، ثم قال : والقياس الجلي يقوي الاستدلال بالآية لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به ؛ فإذا كان هذا المعنى حاصلاً في الشاب والشيخ كانا في حكم الصبي" فوجب أن يمنع دفع المال إليهما إن لم يؤنس منهما الرشد ومنه يعلم ما في التعليل السابق أعني قولهم لأن المنع كان لرجاء التأديب الخ من النظر ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنع الضال ابن حزم كعادته مع سائر أئمة الدين على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وتابعه في ذلك سفهاء الشيعة كيوسف الأوالي وغيره ولا يخفى أن المسألة من الفروع ، وكم لابن حزم وأتباعه فيها من المخالفات للكتاب والسنة ومتمسكهم في ذلك بما هو أوهى وأوهن من بيت العنكبوت.(20/88)
ومن أمعن النظر فيما ذهب إليه الإمام علم أن نظره رضي الله تعالى عنه في ذلك دقيق لأن اليتيم بعد أن بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره وصار مورد الخطابات الالهاية والتكاليف الشرعية وسلم الله تعالى إليه نفسه يتصرف بها حسب اختياره المترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب كان منع ماله عنه وتصرف الغير به أشبه الأشياء بالظلم ، ثم هذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ مطلقاً من غير تأخير إلى بلوغه سن خمس وعشرين فيمن بلغ غير رشيد إلا أنا أخرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب ورجاء الرشد والكف عن السفه وما فيه تبذير المال وإفساده ، ونظير ذلك من وجه أخذ أموال البغاة وحبسها عنهم ليفيئوا ، واعتبرت الزيادة سبع سنين لأنها كما تقدم مدة معتبرة في تغير الأحوال ، والعشر مثلاً وإن كانت كذلك كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع " إلا أنا اعتبرنا الأقل لأنه كاف في الغرض غالباً ، ولا يرد أن المنع يدور مع السفه لأنا لا نسلم أنه يدور مع السفه مطلقاً بل مع سفه الصبا ولا نسلم بقاءه بعد تلك المدة على أن التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند عدمه عندنا فأصل الدوران حينئذ ممنوع ، وعلى هذا لا معنى للتشنيع على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيما ذهب إليه.(20/89)
ويؤيد مذهبه أيضاً قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } فإنه مشير إلى أنه لا يمنع مال اليتيم عنه إذا كبر ، إذ المعنى لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومبادرين كبرهم بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا إلا أنه قدر الكبر فيمن بلغ سفيها بما تقدم لما تقدم ، فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 205 ـ 207}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { فإن آنستم منهم رشداً } شرط ثان مقيّد للشرط الأول المستفاد من { إذا بَلغوا }.
وهو وجوابه جواب ( إذا ) ، ولذلك قرن بالفاء ليكون نصّاً في الجواب ، وتكون ( إذا ) نصّاً في الشرط ، فإنّ جواب ( إذا ) مستغن عن الربط بالفاء لولا قصد التنصيص على الشرطية.
وجاءت الآية على هذا التركيب لتدلّ على أنّ انتهاء الحجر إلى البلوغ بالأصالة ، ولكن بشرط أن يُعرف من المحجور الرشد ، وكلّ ذلك قطع لمعاذير الأوصياء من أن يمسكوا أموال محاجيرهم عندهم مدّة لزيادة التمتّع بها.
ويتحصّل من معنى اجتماع الشرطين في الكلام هنا ، إذ كان بدون عطف ظاهر أو مقدّر بالقرينة ، أنّ مجموعهما سبب لتسليم المال إلى المحجور ، فلا يكفي حصول أحدهما ولا نظر إلى الذي يحصل منهما ابتداء ، وهي القاعدة العامّة في كلّ جملة شرط بنيت على جملة شرط آخر ، فلا دلالة لهما إلاّ على لزوم حصول الأمرين في مشروط واحد ، وعلى هذا جرى قول المالكية ، وإماممِ الحرمين.
ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين يفيد كون الثاني منهما في الذكر هو الأوّل في الحصول.(20/90)
ونسبه الزجّاجي في كتاب "الأذكار" إلى ثعلب ، واختاره ابن مالك وقال به من الشافعية : البغوي ، والغزالي في الوسيط ، ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين في الحصول يكون على نحو ترتيبهما في اللفظ ، ونسبه الشافعية إلى القفّال ، والقاضي الحسين ، والغزالي في "الوجيز" ، والإمام الرازي في "النهاية" ، وبنوا على ذلك فروعاً في تعليق الشرط على الشرط في الإيمان ، وتعليق الطلاق والعتاق ، وقال إمام الحرمين : لا معنى لاعتبار الترتيب ، وهو الحقّ ، فإنّ المقصود حصولها بقطع النظر عن التقدّم والتأخّر ، ولا يظهر أثر للخلاف في الإخبار وإنشاء الأحكام ، كما هنا ، وإنّما قد يظهر له أثر في إنشاء التعاليق في الأيمان ، وأيمان الطلاق والعتاق ، وقد علمت أنّ المالكية لا يرون لذلك تأثيراً.
وهو الصواب.
واعلم أنّ هذا إذا قامت القرينة على أنّ المراد جعل الشرطين شرطاً في الجواب ، وذلك إذا تجرّد عن العطف بالواو ولو تقديراً ، فلذلك يتعيّن جعل جملة الشرط الثاني وجوابه جواباً للشرط الأول ، سواء ارتبطت بالفاء كما في هذه الآية أم لم ترتبط ، كما في قوله : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } [ هود : 34 ].
وأمّا إذا كان الشرطان على اعتبار الترتيب فلكلّ منهما جواب مستقلّ نحو قوله تعالى : { يأيّها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء إن أراد النبي أن يستنكحها } [ الأحزاب : 50 ].(20/91)
فقوله : { إن وهبت } شرط في إحلال امرأة مؤمنة له ، وقوله : { إنْ أرَادَ النَّبِىُّ } شرط في انعقاد النكاح ، لئلاّ يتوهّم أنّ هبة المرأة نفسها للنبي تعيِّن عليه تزوّجها ، فتقدير جوابه : إن أراد فله ذلك ، وليسا شرطين للإحلال لظهور أنّ إحلال المرأة لا سبب له في هذه الحالة إلاّ أنّها وهبت نفسها.
وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط يجعل جواب أحدهما محذوفاً دلّ عليه المذكور ، أو جواب أحدهما جواباً للآخر : على الخلاف بين الجمهور والأخفش ، إذ ليس ذلك من تعدّد الشروط وإنَّما يتأتَّى ذلك في نحو قولك : "إن دخلت دار أبي سفيان ، وإن دخلت المسجد الحرام ، فأنت آمن" وفي نحو قولك : "إن صليت إن صمت أُثْبِت" من كلّ تركيب لا تظهر فيه ملازمة بين الشرطين ، حتَّى يصير أحدهما شرطاً في الآخر.
هذا تحقيق هذه المسألة الذي أطال فيه كثير وخصّها تقيّ الدين السبكي برسالة وهي مسألة سأل عنها القاضي ابنُ خلكان الشيخ ابن الحاجب كما أشار إليه في ترجمته من كتاب "الوفيات" ، ولم يفصّلها ، وفصّلها ، الدماميني في "حاشية مغني اللبيب".
وإيناس الرشد هنا علمه ، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان ، ثمّ أطلق على أوّل ما يتبادر من العلم ، سواء في المبصرات ، نحو : { آنس من جانب الطُّور ناراً } [ القصص : 29 ] أم في المسموعات ، نحو قول الحارث بن حلزة في بقرة وحشية :
ءانَسَتْ نَبْأةً وأفْزَعَهَا القُن...
اصُ عَصْراً وقد دَنا الإمْساء
وكأنّ اختيار { آنستم } هنا دون علمتم للإشارة إلى أنّه إن حصل أوّل العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 30 ـ 32}(20/92)
فصل
قال الفخر :
اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فإنه لا يدفع إليه ماله ، ثم عند أبي حنيفة لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغ ذلك دفع إليه ماله على كل حال ، وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة ، فإذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبر في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه الصلاة والسلام : " مروهم بالصلاة لسبع " فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال ، فعندها يدفع إليه ماله ، أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه : لا يدفع إليه أبدا إلا بايناس الرشد ، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.(20/93)
احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال : لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة ، والله تعالى شرط رشداً منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد ، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية ، فيلزم جواز دفع المال إليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة ، فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال : {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا} ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ، ثم قال : {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ} ويجب أن يكون المراد : فإن آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه ، فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض ، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال ، وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي ، بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال إليه ، فإذا كان هذا الشرط مفقوداً بعد خمس وعشرين سنة ، وجب أن لا يجوز دفع المال إليه ، والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص ، لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به ، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي ، فثبت أنه لا وجه لقول من يقول : إنه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع إليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 154}(20/94)
فائدة
قال ابن عاشور :
والتنكير في قوله : { رشداً } تنكير النوعية ، ومعناه إرادة نوع الماهية لأنّ المواهي العقلية متّحدة لا أفراد لها ، وإنّما أفرادها اعتبارية باعتبار تعدد المحَال أو تعدّد المتعلّقات ، فرشد زيد غير رشد عمرو ، والرشد في المال غير الرشد في سياسة الأمّة ، وفي الدعوة إلى الحقّ ، قال تعالى : { وما أمر فرعون برشيد } [ هود : 97 ] ، وقال عن قوم شعيب { إنك لأنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ].
وماهية الرشد هي انتظام الفكر وصدور الأفعال على نحوه بانتظام ، وقد علم السامعون أنّ المراد هنا الرشد في التصرّف المالي ، فالمراد من النوعية نحو المراد من الجنس ، ولذلك ساوى المعرّف بلام الجنس النكرةَ ، فمن العجائب توهّم الجصّاص أنّ في تنكير ( رشداً ) دليلاً لأبي حنيفة في عدم اشتراط حسن التصرّف واكتفائه بالبلوغ ، بدعوى أنّ الله شرط رشداً مَّا وهو صادق بالعقل إذ العقل رشد في الجملة ، ولم يشترط الرشّد كلّه.
وهذا ضعف في العربية ، وكيف يمكن العموم في المواهي العقلية المحضة مع أنّها لا أفراد لها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 33}
فصل
قال الفخر :
إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى : {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} [ النساء : 5 ] والقياس الجلي أيضا يدل عليه ، لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع إليه ماله ، وإنما لم يدفع إليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصداً ليوم حاجته ، وهذا المعنى قائم في السفه الطارىء ، فوجب اعتباره والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 154}(20/95)
فائدة
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" : الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على أن المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة ، أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 154}
قوله تعالى {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم}
قال الفخر :
المراد أن عند حصول الشرطين أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال إليهم ، وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل ، لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل لأنه أمر زائد على العقل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 155}(20/96)
قال ابن عطية :
والتمثيل عندي في دفع المال بنوازل الشرطين غير صحيح ، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط ، ولكنه حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها ، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه ، فقال إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو الرشد حينئذ ، وفصاحة الكلام تدل على ذلك ، لأن التوقيف بالبلوغ جاء ب { إذا } والمشروط جاء ب { إن } التي هي قاعدة حروف الشرط ، و{ إذا } ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر ، وقال : فعلوا ذلك مضطرين ، وإنما جوزي به لأنها تحتاج إلى جواب ، ولأنها يليها الفعل مظهراً أو مضمراً ، واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول أجيئك إذا احمر البسر ، ولا تقول : إن احمر البسر ، وقال الحسن وقتادة : الرشد في العقل والدين ، وقال ابن عباس : بل في العقل وتدبير المال لا غير ، وهو قول ابن القاسم في مذهبنا ، والرواية الأخرى : أنه في العقل والدين مروية عن مالك ، وقالت فرقة : دفع الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده ، أو يكون ممن يأمنه الحاكم في مثل ذلك ، وقالت فرقة : ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان.
قال القاضي أبو محمد : والصواب في أوصياء زمننا أن لا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده ، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي ويبري المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 2 صـ 10 ـ 11}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقد أُضيفت الأموال هنا إلى ضمير اليتامى : لأنّها قَوي اختصاصها بهم عندما صاروا رشداء فصار تصرّفهم فيها لا يخاف منه إضاعة ما للقرابة ولعموم الأمّة من الحقّ في الأموال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 33}(20/97)
قوله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ}
قال الفخر :
{وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 155}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { ولا تأكلوها إسرافاً } عطف على { وابتلوا اليتامى } باعتبار ما اتّصل به من الكلام في قوله : { فإن آنستم منهم رشداً } إلخ وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى الذي تقدّم في قوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشُدّهم : وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهّيئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم ، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق ، وذلك أنّ أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعياناً من أنعام وتمر وحبّ وأصواف فلم يكن شأنها ممّا يكتم ويختزن ، ولا ممّا يعسر نقل الملك فيه كالعقار ، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم ، فإذا وجد الوليّ مال محجوره جَشِع إلى أكله بالتوسّعِ في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه ممّا لم يكن ينفق فيه مال نفسه ، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه بالإسراف ، فإنّ الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسّع في شؤون اللذات.
وانتصب ( إسرافاً ) على الحال : أو على النيابة عن المفعول المطلق ، وأيّا ما كان ، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك ، بل المقصود تشويه حالة الأكل.(20/98)
والبدار مصدر بادره ، وهو مفاعلة من البَدْر ، وهو العجلة إلى الشيء ، بَدَره عجله ، وبادره عاجله ، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ ، وتوقّع الأولياء سرعة إبَّانه ، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها ، كأنّ المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله ، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ منه ، فيذهب يدّعي عليه ، ويقيم البيّنات حتّى يعجز عن إثبات حقوقه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 34}
قوله تعالى {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } الآية.
بين الله تعالى ما يحل لهم من أموالهم ؛ فأمر الغني بالإمساك وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال ولِيّه بالمعروف.
يقال : عفّ الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك.
والاستعفاف عن الشيء تركه.
ومنه قوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } [ النور : 33 ] والعِفّة : الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله.
روى أبو داود من حديث حسين المعلّم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم.
قال فقال : "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مُباذِرٍ ولا مُتأَثِّل" ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 41}
فصل
قال الفخر :
اختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم ؟ وفي هذه المسألة أقوال :(20/99)
أحدهما : أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله ، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه : الأول : أن قوله تعالى : {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة ، وثانيها : أنه قال : {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} فقوله : {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه ، بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله : {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة ، وثالثها : قوله : {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [ النساء : 10 ] وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله : {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} فائدة ، وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف ، ورابعها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له : إن تحت حجري يتيما أآكل من ماله ؟ " قال : بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله ، " قال : أفأضربه ؟ " قال : مما كنت ضاربا منه ولدك ، " وخامسها : ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف : سلام عليكم أما بعد : فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار ، وربعها لعبدالله ابن مسعود ، وربعها لعثمان ، ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم : من كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف.(20/100)
وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له : أفأشرب من لبن إبله ؟ قال : إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا : يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها ، وسادسها : أن الوصي لما تكفل باصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها ، فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم ، فكذا ههنا ، فهذا تقرير هذا القول.
والقول الثاني : أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم قرضا ، ثم إذا أيسر قضاه ، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه ، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية ، وأكثر الروايات عن ابن عباس.
وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها ، فأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب ، فمباح له إذا كان غير مضر بالمال ، وهذا قول أبي العالية وغيره ، واحتجوا بأن الله تعالى قال : {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم} فحكم في الأموال بدفعها إليهم.
والقول الثالث : قال أبو بكر الرازي : الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء ، سواء كان غنيا أو فقيرا.
(20/101)
واحتج عليه بآيات : منها : قوله تعالى : {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} [ النساء : 2 ] إلى قوله : {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [ النساء : 2 ] ومنها : قوله : {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [ النساء : 10 ] ومنها : قوله {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} [ النساء : 127 ] ومنها : قوله : {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} [ البقرة : 188 ] قال : فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصية في حال الغنى والفقر ، وقوله : {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات ، وعندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي إليه.
أما قوله : {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة ، والخاص مقدم على العام.
وقوله : {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم ، وهل النزاع إلا فيه ، وهو الجواب بعينه عن قوله : {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} أما قوله : {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط ، والنزاع ليس إلا فيه ، فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 155 ـ 156}
وقال القرطبى :
واختلف الجمهور في الأكل بالمعروف ما هو ؟ فقال قوم : هو القرض إذا احتاج ويقضي إذا أيسر ، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو عالية ، وهو قول الأوزاعي.
ولا يستسلف أكثر من حاجته.(20/102)
قال عمر : ألاَ إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولِيّ من مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ؛ فإذا أيسرت قضيت.
روى عبد الله بن المبارك عن عاصم عن أبي العالية { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } قال : قرضاً ثم تلا { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ }.
وقول ثانٍ - روى عن إبراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة : لا قضاء على الوصيّ الفقير فيما يأكل بالمعروف ؛ لأن ذلك حق النظر ، وعليه الفقهاء.
قال الحسن : هو طعمة من الله له ؛ وذلك أنه يأكل ما يسدّ جوعته ، ويكتسى ما يستر عورته ، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحُلل.
والدليل على صحة هذا القول إجماعُ الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غُرم ما أكل بالمعروف ؛ لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله.
فلا حجة لهم في قول عمر : فإذا أيسرت قضيت أن لو صح.
وقد روى عن ابن عباس وأبي العالية والشعبي أن الأكل بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي ، واستخدام العبيد ، وركوب الدوابّ إذا لم يضرّ بأصل المال ؛ كما يهنأ الجَرْبَاء ، ويَنْشُد الضالّة ، ويلُوط الحوض ، ويجذّ التمر.
فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للوصيّ أخذها.
وهذا كله يخرج مع قول الفقهاء : إنه يأخذ بقدر أجر عمله ؛ وقالت به طائفة وأن ذلك هو المعروف ، ولا قضاء عليه ، والزيادة على ذلك محرّمة.
وفرّق الحسن بن صالح بن حيّ ويقال ابن حيان بيْن وصيّ الأب والحاكم ؛ فلوصّي الأب أن يأكل بالمعروف ، وأما وصيّ الحاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ؛ وهو القول الثالث.
وقول رابع روى عن مجاهد قال : ليس له أن يأخذ قرضاً ولا غيره.
(20/103)
وذهب إلى أن الآية منسوخةٌ ، نسخها قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [ النساء : 29 ] وهذا ليس بتجارة.
وقال زيد بن أسلم : إن الرخصة في هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] الآية.
وحكى بِشْر بن الوَليد عن أبي يوسف قال : لا أدري ، لعل هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ }.
وقول خامس وهو الفرق بين الحضر والسفر ؛ فيمنع إذا كان مقيماً معه في المصر.
فإذا احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه ، ولا يقتني شيئاً ؛ قاله أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد.
وقول سادس قال أبو قِلابة : فليأكل بالمعروف مما يَجْني من الغلة ؛ فأما المال النّاض فليس له أن يأخذ منه شيئاً قرضاً ولا غيره.
وقول سابع روى عكرمة عن ابن عباس { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } قال : إذا احتاج واضطر.
وقال الشعبي : كذلك إذا كان منه بمنزلة الدم ولحم الخنزير أخذ منه ؛ فإن وجد أَوْفَى.
قال النحاس : وهذا لا معنى له ؛ لأنه إذا اضطر هذا الاضطرار كان له أخذ ما يُقِيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد.
وقال ابن عباس أيضاً والنخعي : المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ؛ فيستعفف الغنيّ بغناه ، والفقير يقَتَرْ على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه.
قال النحاس : وهذا من أحسن ما روي في تفسير الآية ؛ لأن أموال الناس محظورة لا يطلق شيء منها إلا بحجة قاطعة.
(20/104)
قلت : وقد اختار هذا القول الكيا الطبرِي في أحكام القرآن له ؛ فقال : "توهم متوهمون من السلف بحكم الآية أن للوصيّ أن يأكل من مال الصبي قدراً لا ينتهي إلى حد السرف ، وذلك خلاف ما أمر الله تعالى به في قوله : { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم.
فقوله : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم.
فمعناه ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم ، بل اقتصروا على أكل أموالكم.
وقد دل عليه قوله تعالى : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ].
وبان بقوله تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } الاقتصارُ على البُلْغة ، حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم ؛ فهذا تمام معنى الآية.
فقد وجدنا آيات محكمات تمنع أكل مال الغير دون رضاه ، سيما في حق اليتيم.
وقد وجدنا هذه الآية محتملة للمعاني ، فحملها على موجب الآيات المحكمات مُتعَيِّن.
فإن قال من ينصر مذهب السلف : إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين ، فهلا كان الوصي كذلك إذا عمل لليتيم ، وَلِمَ لا يأخذ الأجرة بقدر عمله ؟ قيل له : اعلم أن أحداً من السلف لم يجوّز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي ، بخلاف القاضي ؛ فذلك فارق بين المسألتين.
وأيضاً فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء القائمون بأمور الإسلام لا يتعين له مالك.
وقد جعل الله ذلك المال الضائع لأصناف بأوصاف ، والقضاة من جملتهم ، والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه ؛ وعمله مجهول وأجرته مجهولة وذلك بعيد عن الاستحقاق.
(20/105)
قلت : وكان شيخنا الإمام أبو العباس يقول : إن كان مال اليتيم كثيراً يحتاج إلى كبير قيام عليه بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته فرض له فيه أجر عمله وإن كان تافهاً لا يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئاً ؛ غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن وأكل القليل من الطعام والسمن ، غير مُضرٍّ به ولا مستكثر له ، بل على ما جرت العادة بالمسامحة فيه.
قال شيخنا : وما ذكرته من الأجرة ، ونيل اليسير من التمر واللبن كل واحد منهما معروف ؛ فصلح حمل الآية على ذلك. والله أعلم.
قلت : والاحتراز عنه أفضل ، إن شاء الله.
وأما ما يأخذه قاضي القسمة ويسميه رسماً ونهْبُ أتباعه فلا أدري له وجها ولا حلا ، وهم داخلون في عموم قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 41 ـ 44}(20/106)
فصل
قال الآلوسى
والإسراف في الأصل تجاوز الحدّ المباح إلى ما لم يبح ، وربما كان ذلك في الإفراط ، وربما كان في التقصير غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال : أسرف يسرف إسرافاً ، وإذا كان في التقصير يقال : سرف يسرف سرفاً ويستعمل بمعنى السهو والخطأ وهو غير مراد أصلاً ، والمبادرة المسارعة وهي لأصل الفعل هنا وتصح المفاعلة فيه بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم واليتيم يبادر نزعه منه ، وأصلها كما قيل : من البدار وهو الامتلاء ومنه البدر لامتلائه نوراً ، والبدرة لامتلائها بالمال ، والبيدر لامتلائه بالطعام والاسمان المتعاطفان منصوبان على الحال كما أشرنا إليه ، وقيل : إنهما مفعول لهما والجملة معطوفة على ابتلوا لا على جواب الشرط لفساد المعنى لأن الأول بعد البلوغ وهذا قبله ، و( يكبروا ) بفتح الباء الموحدة من باب علم يستعمل في السن ، وأما بالضم فهو في القدرة والشرف ، وإذا تعدى الثاني بعلى كان للمشقة نحو كبر عليه كذا وتخصيص الأكل الذي هو أساس الانتفاع وتكثر الحاجة إليه بالنهي يدل على النهي عن غيره بالطريق الأولى ، وفي الجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى :
{ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } الخ أي ومن كان من الأولياء والأوصياء ذا مال فليكف نفسه عن أكل مال اليتيم ولينتفع بما آتاه الله تعالى من الغنى ، فالاستعفاف الكف وهو أبلغ من العف ، وفي "المختار" يقال : "عف عن الحرام يعف بالكسر عفة وعفا وعفافة أي كف فهو عف وعفيف ؛ والمرأة عفة وعفيفة ، وأعفه الله تعالى واستعف عن المسألة أي عف ، وتعفف تكلف العفة" ، وتفسيره بالتنزه كما يشير إليه كلام البعض بيان لحاصل المعنى.(20/107)
{ وَمَن كَانَ } من الأولياء والأوصياء { فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } بقدر حاجته الضرورية من سدّ الجوعة وستر العورة قاله عطاء وقتادة.
وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن عباس أنه قال : يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له ما لم يسرف أو يبذر ، وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال وإني وليّ يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالاً ومن غير أن تقي مالك بماله ، وهل يعدّ ذلك أجرة أم لا ؟ قولان ، ومذهبنا الثاني كما صرح به الجصاص في "الأحكام" ، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري وعبيدة السلماني والباقر رضي الله تعالى عنهم وآخرين أن للولي الفقير أن يأكل من مال اليتيم بقدر الكفاية على جهة القرض فإذا وجد ميسرة أعطى ما استقرض ، وهذا هو الأكل بالمعروف ، ويؤيده ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهما من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت ، وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : { وَمَن كَانَ فَقِيراً } الآية نسختها { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] الخ ، وذهب قوم إلى إباحة الأكل دون الكسوة ، ورواه عكرمة عن ابن عباس ، وزعم آخرون أن الآية نزلت في حق اليتيم ينفق عليه من ماله بحسب حاله ، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد وهو مردود لأن قوله سبحانه : { فَلْيَسْتَعْفِفْ } لا يعطي معنى ذلك ، والتفكيك مما لا ينبغي أن يخرج عليه النظم الكريم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 207 ـ 208}(20/108)
فصل
قال القرطبى :
واختلف العلماء مَن المخاطَب والمراد بهذه الآية ؟ ففي صحيح مسلم عن عائشة في قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } قالت : نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ويُصلحه إذا كان محتاجاً جاز أن يأكل منه.
في رواية : بقدر ماله بالمعروف.
وقال بعضهم : المراد اليتيم إن كان غنياً وَسّع عليه وأعَفّ عن ماله ، وإن كان فقيراً أنفق عليه بقدره ؛ قاله ربيعة ويحيى بن سعيد.
والأوّل قول الجمهور وهو الصحيح ؛ لأن اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره ولسفهه. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 41}
قوله تعالى {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ }.
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا ، فإن الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه : أحدها : أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له ، وثانيها : أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله إليه.
ثالثها : أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته ، ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب " فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه ، فثبت بما ذكرنا من الإجماع والمعقول أن الاحوط هو الاشهاد.(20/109)
واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه هل هو مصدق ؟ وكذلك لو قال : أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق ؟ قال مالك والشافعي : لا يصدق ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : يصدق ، واحتج الشافعي بهذه الآية فإن قوله : {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} أمر ، وظاهر الأمر الوجوب ، وأيضا قال الشافعي : القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم ، وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع ، وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال : لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم : قد دفعت إليك لأنه لم يأتمنه ، وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي : قد دفعت مالك إليك أن لا يصدق لأنه لم يأتمنه ، ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه ، فيقال له : إن قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه ، أما النقض بالقاضي فبعيد ، لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا ، ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة ، وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر ، ويلزم التسلسل ، ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم ، وأما الأب فالفرق ظاهر لوجين : أحدهما : أن شفقته أتم من شفقة الاجنبي ، ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي ، وأما إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك فنقول : إن كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان ، أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره ، فههنا يجب أن يقبل قوله ، وإلا لصار ذلك مانعاً للناس من قبول الوصاية ، فيقع الخلل في هذا المهم العظيم ، فأما الإشهاد عند الرد إليه بعد البلوغ فإنه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق ، ومما يؤكد هذا(20/110)
الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة ، وهو قوله : {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الأيتام والصبيان ، وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 156 ـ 157}
قوله تعالى {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ}
قال الفخر :
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ} أشعر ذلك بأن الغرض منه رعاية جانب الصبي ؛ لأنه إذا كان لا يتمكن من ادعاء دفع المال إليه إلا عند حضور الشاهد ، صار ذلك مانعاً له من الظلم والبخس والنقصان ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن قوله : {فَأَشْهِدُواْ} كما أنه يجب لظاهر الايجاب ، فكذلك يجب أن القرائن والمصالح تقتضي الإيجاب ، ثم قال هذا الرازي ، ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد ، اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه ، فهو بمنزلة الودائع والمضاربات ، فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة ، فيقال له : أما الفرق بين هذه الصورة وصورة الوديعة فقد ذكره الشافعي رضي الله تعالى عنه ، واعتراضك على ذلك الفرق قد سبق إبطاله ، وأيضاً فعادتك ترك الالتفات إلى كتاب الله لقياس ركيك تتخيله ، ومثل هذا الفقه مسلم لك ، ولا يجب المشاركة فيه معك وبالله التوفيق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 157}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيهاً على التحصين وزوالا للتّهم.
وهذا الإشهاد مستَحبُّ عند طائفة من العلماء ؛ فإن القول قول الوصي ؛ لأنه أمين.
(20/111)
وقالت طائفة : هو فرض ؛ وهو ظاهر الآية ، وليس بأمين فيُقبل قوله ، كالوكيل إذا زعم أنه قد ردّ ما دُفع إليه أو المودع ، وإنما هو أمين للأب ، ومتى ائتمنه الأب لا يُقبل قوله على غيره.
ألا ترى أن الوكيل لو ادّعى أنه قد دفع لزيد ما أمره به بعدالته لم يُقبل قوله إلا ببيَّنة ؛ فكذلك الوصي.
ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن جبير أن هذا الإشهاد إنما هو على دفع الوصي في يُسْره ما استقرضه من مال يتيمه حالة فقره.
قال عبيدة ؛ هذه الآية دليل على وجوب القضاء على من أكل ؛ المعنى : فإذا اقترضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم.
والصحيح أن اللفظ يعم هذا وسواه.
والظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئاً على المُولَى عليه فأشهدوا ، حتى لو وقع خلافٌ أمكن إقامة البينة ؛ فإن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بالإشهاد على دفعه ؛ لقوله تعالى : { فَأَشْهِدُواْ } فإذ دفع لمن دفع إليه بغير إشهاد فلا يحتاج في دفعها لإشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد. والله أعلم.
كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه والتثمير له ، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه.
فالمال يحفظه بضبطه ، والبدن يحفظه بأدبه.
وقد مضى هذا المعنى في "البقرة".
" وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن في حجري يتيماً أآكل من ماله ؟ قال : " نعم غير متأثل مالا ولا واقٍ مالك بماله".
قال : يا رسول الله ، أفأضر به ؟ قال : "ما كنت ضاربا منه ولدك" " قال ابن العربي : وإن لم يثبت مسنداً فليس يجد أحد عنه مُلْتَحداً. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 44 ـ 45}
قوله تعالى {وكفى بالله حَسِيباً}
قال الفخر :
(20/112)
قال ابن الأنباري والأزهري : يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب ، وأن يكون بمعنى الكافي ، فمن الأول قولهم للرجل للتهديد : حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم ، ونظير قولنا الحسيب بمعنى المحاسب ، قولنا الشريب بمعنى المشارب ، ومن الثاني قولهم : حسيبك الله أي كافيك الله.
واعلم أن هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل ، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله ، وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي.
واعلم أن الباء في قوله : {وكفى بالله} {وكفى بِرَبّكَ} [ الإسراء : 65 ] في جميع القرآن زائدة ، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج و{حَسِيباً} نصب على الحال أي كفى الله حال كونه محاسبا ، وحال كونه كافيا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 157}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
في " حتى " هذه وما أشبهها أعني الداخلة على " إذا " قولان :
أشهرهما : أنَّها حرف غاية ، دخلت على الجملة الشَّرطيَّة وجوابها ، والمعنى : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم ، واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم ، بشرط إيناس الرُّشد ، فهي حرف ابتداء كالدَّاخلة على سائِرِ الجمل كقوله : [ الطويل ]
فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا... بِدجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أشْكَلُ
وقول امرئ القيس : [ الطويل ]
سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ... وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بأرْسَانِ(20/113)
والثاني : وهو قول جماعة منهم الزَّجَّاج وابن درُسْتَوية : أنَّها حرف جر ، وما بعدها مجرور بها ، وعلى هذا ف " إذا " تتمحَّضّ للظَّرْفِيَّةِ ، ولا يكون فيه معنى الشَّرط ، وعلى القول الأوَّلِ يكون العامل في " إذَا " ما تَخَلَّص من معنى جوابها تقديره : إذا بلغوا النِّكاح راشدين فادفعوا. وظاهرُ العبارة لبعضهم أنَّ " إذا " ليست بشرطيَّة ، لحُصُولِ ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازي بها في الشِّعر ، وقال : " فعلوا ذلك مضطرين " ، وإنما جُوزي بها لأنَّها تحتاج إلى جواب ، وبأنَّه يليها الفعلُ ظاهراً ، أو مضمراً ، واحتجَّ الخليلُ على عدم شَرطيَّتِها بحصولِ ما بعدِها ، ألا ترى أنك تقول : أجيئك إذا احمر البُسر ، ولا تقول : إن أحمر.
قال أبُو حيان : وكلامُه يُدلُّ على أنها تكون ظرفاً مجرداً ، ليس فيها معنى الشَّرط ، وهو مخالف للنَّحويين ، فإنَّهم كالمجمعين على أنها [ ظرف ] فيها معنى الشِّرط غالباً ، وإن وُجِدَ في عبارةِ بعضهم ما يَنْفَى كونها أداة شرطٍ ، فإنَّما أنها لا يجزم بها ، إلاَّ أنها لا تكون شرطاً ، وقَدَّرَ بعضهم مضافاً قال : تقديره يبلغوا حَدَّ النكاحِ أو وقته ، والظَّاهرُ أنها لا تحتاج إليه ، والمعنى : صَلَحوا للنكاح.
قوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ }. والفاءُ جواب " إذا " وفي قوله : { فادفعوا } جواب " إن ".
وقرأ ابن مسعود " فإن أحستم " والأصْلُ أحسسْتُم فحذف إحدى السّينين ، ويحتمل أن تكون العينَ أو اللام ، ومثله قول أبي زبيد : [ الوافر ]
سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا... حَسِينَ بِهِ فَهُنَّ إلّيْهِ شُوسُ
(20/114)
وهذا خلاف لا ينقاسُ ، ونقل بعضهم أنَّها لغةُ سُلَيم ، وَأنَّهَا مُطَّردة في عين كل فعلٍ مضاعفة اتصل به تاءُ الضَّمير أو نونه ونَكَّر " رُشْداً " دلاّلةُ على التنويعِ ، والمعنى أيّ نوعٍ حَصَلَ من الرُّشدِ كان كافياً.
وقرأ الجمهور " رُشْداً " بضمة وسكون ، وابن مسعود والسُّلميُّ بفتحتين ، وبعضهم بضمتين ، وسيأتي الكلامُ على ذلك في الأعراف إن شاء الله تعالى. وآنس كذا أحسَّ به وشَعَرَ ، قال : [ الخفيف ]
آنسَنْ نَبْأةً وَأفْزَعَهَا القُنْ... نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ
وقد قيل : " وجد " عن الفراء.
وقيل : أبصر.
وقيل : رأيتم.
وقيل : آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحدٍ.
وقال القرطبي : وأصْلُ الإيناس في اللُّغة الإبصار ، ومنه قوله { آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً } [ القصص : 29 ].
قال أهل اللُّغة : هو إصابة الخير ، قال تعالى : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } [ البقرة : 256 ] ، والغيُّ : هو العصيان : قال تعالى : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] يكون نقضيه هو الرشد ، وقال تعالى : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ].
قوله : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً }.
في نصبهما وجهان :
أحدهما : أنهما منصوبان على المفعولِ من أجْلِهِ أي : لأجل الإسراف والبِدَارِ.
ونقل عن ابن عباس أنه قال : " كان الأولياء يستغنمون أكل مال اليتيم ، لئلا يكبر فينزع المال منهم ".
والثَّاني : أنَّهما مصدران في موضع الحالِ أي : مُسْرِفينَ وَمُبادِرِينَ.
وبداراً مصدرُ بادرَ والمفاعلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابها ، بمعنى أن الوليَّ يبادرُ ليتيم إلى أخْذِ مالهِ ، واليتيمُ يُبَادِرُ إلى الكبر ، ويجوز أن يكون من واحد بمعنى : أنَّ فاعل بمعنى فعل نحو : سافر وطارق.(20/115)
قوله : " أن يكبروا ". فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول بالمصدر أي : وبداراً كبرهم ، كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] وفي إعمال المصدر المُنَوِّنِ الخلاف المشهور.
والثَّاني : أنَّه مفعول من أجله على حذف أي : مخافة أن يكبروا ، وعلى هذا فمفعولُ " بِدَاراً " محذوف ، وهذه الجملة النَّهْييَّةُ فيها وجهان :
أصحهما : أنها استئنافية ، وليست معطوفةً على ما قبلها.
والثَّاني : أنَّها عطف على ما قبلها ، وهو جوابُ الشرط بـ " إن " أي : فادفعوا ولا تأكلوها ، وهذا فاسدٌ ؛ لأن الشّرط وجوابه ، مترتِّبان على بلوغ النِّكاح وهو معارضٌ لقوله : { وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } فَيَلزَمُ منه سَبْقُه على ما ترتَّب عَلَيْهِ ، وذلك ممتنع.
والمعنى : ولا تأكلوها يا معشرَ الأولياءِ " إسْرافاً " أي : بغير حقٍّ ، " وبداراً " أي : ومبادرة ، ثم بَيَّنَ مَا يَحِلُّ لهم من مالهم فقال : " وَمَنْ كَانَ غَنِياً فَلْيَسْتَعْفِفْ " أي : فليمتنع من مال اليتيم فلا يرزؤه قليلاً ولا كثيراً ، والعفة الامتناع مما لا يحل.
قوله : { وكفى بالله حَسِيباً }.
في " كفى " قولان :
أحدهما : أنَّها اسم فعل.
والثاني : وهو الصَّحيح - إنها فعلٌ ، وفي فاعلها قولان :
(20/116)
الأول : وهو الصَّحيح أنَّهُ المجرور بالباء ، والباء زائدة فيه وفي فاعل مضارعه نحو : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } [ فصلت : 53 ] باطِّراد فقال أبُو البقاء : زيدت لتدلَّ على معنى الأمر إذ التقدير : اكتف بالله ، وهذا القول سبقه إليه مَكِي والزَّجاجُ فإنه قال : دَخَلَتْ الباءُ في الفاعل ؛ لأن معنى الكلام الأمرُ أي : الباء ليست بزائدة ، وهو كلامٌ غيرُ صحيح ؛ لأنه من حيث المعنى الذي قدَّره يكون الفاعل هم المخاطبين ، و" بالله " متعلّق به ، ومن حيث كون " الباء " دخلت في الفاعل يكون الفاعل هو اللهُ تعالى ، فيتناقض. وفي كلام ابن عطية نحو من قوله أيضاً فإنه قال : " بالله " في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض ، وفائدة زيادته تبيَّن معنى الأمر في صورة الخَبَرِ أي : اكتفوا بالله ، " فالباء " تدل على المراد من ذلك ، وفي هذا ما رُدَّ به على الزَّجَّاجِ ، وزيادة جَعْلِ الحرف زائداً وغير زائدٍ.
والثاني : أنَّه مضمر والتَّقديرُ : كفى الاكتفاء و" بالله " على هذا في موضع نصب ؛ لأنه مفعول به في المعنى ، وهذا رأي ابن السَّراج ، وَرُدَّ هذا بأن إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة كقوله : [ البسيط ]
هَلْ تَذْكُرُونَ إلَى الدَّيْرَينِ هجْرَتَكُمْ... وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَحْمَانُ قُرْبَاناً
(20/117)
أي قولكم : يا رحمان قرباناً ، وقَالَ أبو حيان : وقيل : الفاعِلُ مضمر ، وهو ضمير الاكتفاء أي : كفى هو أيْ : الاكتفاء ، و" الباء " ليست زائدة ، فيكون في موضع نصب ويتعلق أنذاك بالفاعل ، وهذا الوجه لا يسوغ على مذهب البصريين ، لأنه لا يجوز عندهم إعْمَالُ المصدر مضمراً ، وإن عني بالإضمار الحذف امتنع عندهم أيضاً لوجهين : حذف الفاعل ، وإعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله ، وفيه نظرٌ ؛ إذْ لقائل أن يقول : إذا قلنا بأن فاعل " كفى " مضمر لا نعلق " بالله " بالفاعل حتّى يلزم ما ذكر بل نعلقه بنفس الفعل كما تقدَّمَ.
وقال ابْن عيسى : إنَّما دخلت الباء في " كفى بالله " ؛ لأنَّهُ كان يتصل اتَّصال الفاعل [ وبدخول الباء اتصل ] اتصالَ المضافِ ، واتَّصال الفاعل ، لأنَّ الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره فضوعِفَ لفظها لمضاعفة معناها ، ويحتاج إلى فكر.
قوله : { حَسِيباً } فيه وجهان :
أصحهما : أنه تمييز يدلُّ على ذلك صلاحيَّة دخول " مِنْ " عليه ، وهي علامة التمييز.
والثَّاني : أنه حال.
و " كفى " ها هنا متعدّية لواحد ، وهو محذوف تقديره : " وكفاكم الله ".
وقال أبُو البَقَاءِ : " وكفى " يتعدَّى إلى مفعولين حُذِفَا هنا تقديره : كفاك اللهُ شرَّهم بدليل قوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] والظاهر أن معناها غيرُ معنى هذه.
قال أبو حيّان بعد أن ذكر أنها متعدية لواحد : وتأتي بغير هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] وهو محل نظر.
(20/118)
قال ابن الأنباري والأزهري : يحتمل أن يكون الحَسِيبُ بمعنى المحاسب ، وأن يكون بمعنى الكافي ، فمن الأول قولهم للرَّجل تهديداً : حَسْبُهُ اللهُ ، [ ومعناه : يحاسبه ] الله على ما يفعل من الظُّلم ، ومن الثَّاني قولهم : حسبك الله ، أي : كافيك الله وهذا وعيد سواء فسَّرنا الحسيب بالمحاسب ، أو بالكافي. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 185 ـ 193}. بتصرف.(20/119)
قوله تعالى { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر أموال اليتامى على حسب ما دعت إليه الحاجة واقتضاه التناسب إلى أن ختم بهذه الآية ، كان كأن سائلاً سأل : من أين تكون أموالهم ؛ فبين ذلك بطريق الإجمال بقوله تعالى : {للرجال} أي الذكور من أولاد الميت وأقربائه ، ولعله عبر بذلك دون الذكور لأنهم كانوا لا يورثون الصغار ، ويخصون الإرث بما عمر الديار ، فنبه سبحانه على أن العلة النطفة {نصيب} أي منهم معلوم {مما ترك الوالدان والأقربون }.
ولما كانوا لا يورثون النساء قال : {وللنساء نصيب} ولقصد التصريح للتأكيد قال موضع " مما تركوا " : {مما ترك الوالدان والأقربون} مشيراً إلى أنه لا فرق بينهن وبين الرجال في القرب الذي هو سبب الإرث ، ثم زاد الأمر تأكيداً وتصريحاً بقوله إبدالاً مما قبله بتكرير العامل : {مما قل منه أو كثر} ثم عرف بأن ذلك على وجه الحتم الذي لا بد منه ، فقال مبيناً للاعتناء به بقطعه عن الأول بالنصب على الاختصاص بتقدير أعني : {نصيباً مفروضاً} أي مقدراً واجباً مبيناً ، وهذه الآية مجملة بينتها آية المواريث ، وبالآية علم أنها خاصة بالعصبات من التعبير بالفرض لأن الإجماع - كما نقله الأصبهاني عن الرازي - على أنه ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 217 ـ 218}
وقال ابن عاشور :
ومناسبة تعقيب الآي السابقة بها : أنّهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشدّاء بالأموال ، وحرمان الضعفاء ، وإبقاءهم عالة على أشدّائهم حتّى يكونوا في مقادتهم ، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم ، وكان أكبر العائلة يَحرم إخوته من الميراث معه فكان أولئك لضعفهم يصبرون على الحرمان ، ويقنعون بالعيش في ظلال أقاربهم ، لأنّهم إن نازعوهم أطردوهم وحرموهم ، فصاروا عالة على الناس.
وأخصّ الناس بذلك النساءُ فإنّهن يجدن ضعفاً من أنفسهنّ ، ويخشين عار الضيعة ، ويتّقين انحراف الأزواج ، فيتّخذن رضى أوليائهُنّ عدّة لهنّ من حوادث الدهر ، فلمّا أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم ، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيباً ممّا ترك الوالدان والأقربون.(20/120)
فإيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه ممّا ترك له الوالدان والأقربون ، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم ممّا ترك الوالدان والأقربون ، وذُكر النساءُ هناك تمهيداً لشرع الميراث ، وقد تأيّد ذلك بقوله : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى } [ النساء : 8 ] فإنّ ذلك يناسب الميراث ، ولا يناسب إيتاءَ أموال اليتامى.
ولا جرم أنّ من أهمّ شرائع الإسلام شرع الميراث ، فقد كان العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصيّة لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة ، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والودّ ، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يُصرف لأبْناء الميّت الذكور ، فإن لم يكن له ذكور فقد حكي أنّهم يصرفونه إلى عصبته من إخوة وأبناء عمّ ، ولا تعطى بناته شيئاً ، أمّا الزوجات فكنّ موروثات لا وارثات.
وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوّة إلاّ إذا كان الأبناء ذكوراً ، فلا ميراث للنساء لأنّهم كانوا يقولون إنّما يرث أموالنا من طاعن بالرمح ، وضرب بالسيف.
فإن لم تكن الأبناءُ الذكورُ وَرِث أقربُ العصبة : الأبُ ثمّ الأخُ ثمّ العمّ وهكذا ، وكانوا يورثون بالتبنيّ وهو أن يتّخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبنِّي والمتبنَّى جميع أحكام الأبوّة.(20/121)
ويورثون أيضاً بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلّة بينهما فيتعاقدا على أنّ دمهما واحد ويتوارثا ، فلمّا جاء الإسلام لم يقع في مكّة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذّر تنفيذ ما يُخالف أحكام سكّانها ، ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكّة صار التوريث : بالهجرة ، فالمهاجر يرث المهاجر ، وبالحلف ، وبالمعاقدة ، وبالأخوّة التي آخاها الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار ، ونزل في ذلك قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 33 ] الآية من هاته السورة.
وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة ، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين ، فشرع الله الميراث بالقرابة ، وجعل للنساء حظوظاً في ذلك فأتمّ الكلمة ، وأسبغ النعمة ، وأومأ إلى أنّ حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها.
وقد كان قوله تعالى : { وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } أوّل إعطاء لحقّ الإرث للنساء في العرب.
ولكون هذه الآية كالمقدّمة جاءت بإجمال الحقّ والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله ، لقصد تهيئة النفوس ، وحكمة هذا الإجمال حكمةُ ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقلَ لتسكن النفوس إليها بالتدريج. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 37 ـ 38}
فصل
قال الفخر :
في سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس : إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة ، فجاء رجلان من بني عمه وهما وصيان له يقال لهما : سويد ، وعرفجة وأخذا ماله.(20/122)
فجاءت امرأة أوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت القصة ، وذكرت أن الوصيين ما دفعا إلي شيئا ، وما دفعا إلى بناته شيئا من المال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ارجعي إلى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله في أمرك " فنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، ودلت على أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا ، ولكنه تعالى لم يبين المقدار في هذه الآية ، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الوصيين وقال : " لا تقربا من مال أوس شيئا " ثم نزل بعد : {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم} [ النساء : 11 ] ونزل فرض الزوج وفرض المرأة ، فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الوصيين أن يدفعا إلى المرأة الثمن ويمسكا نصيب البنات ، وبعد ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام اليهما أن ادفعا نصيب بناتها اليها فدفعاه إليها ، فهذا هو الكلام في سبب النزول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 158}
فائدة
قال القرطبى :
قال علماؤنا : في هذه الآية فوائد ثلاث : إحداها بيان علة الميراث وهي القرابة.
الثانية عموم القرابة كيفما تصرّفت من قريب أو بعيد.
الثالثة إجمال النصيب المفروض.
وذلك مبين في آية المواريث ؛ فكان في هذه الآية توطئة للحكم ، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 46}
فائدة
قال الفخر :(20/123)
كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ، ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة ، فبين تعالى أن الارث غير مختص بالرجال ، بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء ، فذكر في هذه الآية هذا القدر ، ثم ذكر التفصيل بعد ذلك ولا يمتنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء ، أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلا قليلاً على التدريج ، لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع ، فإذا كان دفعة عظم وقعه على القلب ، وإذا كان على التدريج سهل ، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا ، ثم أردفه بالتفصيل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 158}
فصل
قال الفخر :
احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قال : لأن العمات والخالات والأخوال وأولاد البنات من الأقربين ، فوجب دخولهم تحت قوله : {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} أقصى ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية ، إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية ، وأما المقدار فنستفيده من سائر الدلائل.
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين :(20/124)
أحدهما : أنه تعالى قال في آخر الآية {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} أي نصيبا مقدرا ، وبالاجماع ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر ، فثبت أنهم ليسوا داخلين في هذه الآية ، وثانيهما : أن هذه الآية مختصة بالأقربين ، فلم قلتم إن ذوي الأرحام من الأقربين ؟ وتحقيقه أنه إما أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب من شيء آخر ، أو المراد منه من كان أقرب من جميع الأشياء ، والأول باطل ؛ لأنه يقتضي دخول أكثر الخلق فيه ، لأن كل إنسان له نسب مع غيره إما بوجه قريب أو بوجه بعيد ، وهو الانتساب إلى آدم عليه السلام ، ولا بد وأن يكون هو أقرب إليه من ولده ، فيلزم دخول كل الخلق في هذا النص وهو باطل ، ولما بطل هذا الاحتمال وجب حمل النص على الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب الناس إليه ، وما ذاك إلا الوالدان والأولاد ، فثبت أن هذا النص لا يدخل فيه ذو الأرحام ، لا يقال : لو حملنا الأقربين على الوالدين لزم التكرار ، لأنا نقول : الأقرب جنس يندرج تحته نوعان : الوالد والولد ، فثبت أنه تعالى ذكر الوالد ، ثم ذكر الأقربين ، فيكون المعنى أنه ذكر النوع ، ثم ذكر الجنس فلم يلزم التكرار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 158}
قوله تعالى : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }
قال القرطبى :
أثبت الله تعالى للبنات نصيباً في الميراث ولم يبين كم هو ؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُوَيد وعَرْفَجة ألاّ يفرّقا من مال أَوسٍ شيئاً ؛ فإن الله جعل لبناته نصيباً ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا.(20/125)
فنزلت { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] إلى قوله تعالى { الفوز العظيم } [ النساء : 13 ] فأرسل إليهما " أن أعطيا أم كُجَّة الثُّمن مما ترك أَوسٌ ولبناته الثلثين ، ولكما بقية المال ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 47}
فصل
قال الفخر :
أصل الفرض الحز ، ولذلك سمي الحز الذي في سية القوس فرضاً ، والحز الذي في القداح يسمى أيضا فرضاً ، وهو علامة لها تميز بينها وبين غيرها ، والفرضة العلامة في مقسم الماء ، يعرف بها كل ذي حق حقه من الشرب ، فهذا هو أصل الفرض في اللغة ، ثم إن أصحاب أبي حنيفة خصصوا لفظ الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع ، واسم الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون ، قالوا : لأن الفرض عبارة عن الحز والقطع ، وأما الوجوب فإنه عبارة عن السقوط ، يقال : وجبت الشمس إذا سقطت ، ووجب الحائط إذا سقط ، وسمعت وجبة يعني سقطة قال الله تعالى : {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [ الحج : 36 ] يعني سقطت ، فثبت أن الفرض عبارة عن الحز والقطع ، وأن الوجوب عبارة عن السقوط ، ولا شك أن تأثير الحز والقطع أقوى وأكمل من تأثير السقوط.
فلهذا السبب خصص أصحاب أبي حنيفة لفظة الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع ، ولفظ الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون.
إذا عرفت هذا فنقول : هذا الذي قرروه يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل قاطع باجماع الأمة ، فلم يكن توريثهم فرضاً ، والآية إنما تناولت التوريث المفروض ، فلزم القطع بأن هذه الآية ما تناولت ذوي الأرحام ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 159}(20/126)
فصل
قال القرطبى :
استدل علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله ، كالحمام والبيت وبَيْدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها.
فقال مالك : يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به ؛ لقوله تعالى : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }.
وهو قول ابن كنانة ، وبه قال الشافعي ، ونحوه قول أبي حنيفة.
قال أبو حنيفة : في الدار الصغيرة.
بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبي صاحبه قُسمتْ له.
وقال ابن أبي ليلى : إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم.
وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الآخر فإنه لا يقسم ، وهو قول أبي ثَوْر.
قال ابن المنذر : وهو أصح القولين.
ورواه ابن القاسم عن مالك فيما ذكر ابن العربي.
قال ابن القاسم ؛ وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمّامات ، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم ، أن يباع ولا شفعة فيه ؛ لقوله عليه السلام : " الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة " فجعل عليه السلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاعُ الحدود ، وعلقّ الشفعة فيما لم يُقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه. هذا دليل الحديث.
قلت : ومن الحجة لهذا القول ما خرّجه الدارقطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق بن موسى عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تَعْضِيَة على أهل الميراث إلا ما حمل القَسْم " قال أبو عبيد : هو أن يموت الرجل ويدع شيئاً إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم أو على بعضهم.
يقول : فلا يقسم : وذلك مثل الجَوْهَرة والحمّام والطّيْلسَان وما أشبه ذلك.
والتعِضيَةُ التفريق ؛ يقال : عضيت الشيء إذا فرقته.(20/127)
ومنه قوله تعالى ؛ { الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } [ الحجر : 91 ] وقال تعالى : { غَيْرَ مُضَآرٍّ } [ النساء : 12 ] فنفى المضارة.
وكذلك قال عليه السلام : " لا ضرر ولا ضرار " وأيضاً فإن الآية ليس فيها تعرّض للقسمة ، وإنما اقتضت الآية وجوب الحَظِّ والنصيب للصغير والكبير قليلاً كان أو كثيراً ، رداً على الجاهلية فقال : { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ } { وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } وهذا ظاهر جداً.
فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر ؛ وذلك بأن يقول الوارث : قد وجب لي نصيب بقول الله عز وجل فمكِّنوني منه ؛ فيقول له شريكه : أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن ؛ لأنه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال ، وتغيير الهيئة ، وتنقيص القيمة ؛ فيقع الترجيح.
والأظهر سقوط القسمة فيما يبطل المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من الدّليل. والله الموفق. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 47 ـ 48}
سؤال : فإن قيل : لما قال : {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } دخل فيه القليل والكثير ، فما فائدة قوله : {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} ؟
قلنا : إنما قال ذلك على جهة التأكيد والإعلام أن كل تركة يجب قسمتها لئلا يتهاون بالقليل من التركات ويحتقر فلا يقسم وينفرد به بعض الورثة. أ هـ {تفسير الرازى صـ 77}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الولدان والأقربون } شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان ( أحكام ) ( 1 ) أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث ، والمراد من الرجال الأولاد الذكور ، أو الذكور أعم من أن يكون كباراً أو صغاراً ، ومن الأقربين الموروثون ، ومن الوالدين ما لم يكن بواسطة ، والجد والجدة داخلان تحت الأقربين ، وذكر الولدان مع دخولهما أيضاً اعتناءاً بشأنهما ، وجوز أن يراد من الوالدين ما هو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فيشمل الجد والجدة ، واعترض بأنه يلزم توريث أولاد الأولاد مع وجود الأولاد.
وأجيب بأن عدم التوريث في هذه الصورة معلوم من أمر آخر لا يخفى ، والنصيب الحظ كالنصب بالكسر ويجمع على أنصباء وأنصبة ، ومن في مما متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله أي نصيب كائن مما ترك وجوز تعلقه بنصيب.(20/128)
{ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الولدان والأقربون } المراد من النساء البنات مطلقاً أو الإناث كذلك ، وإيراد حكمهن على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام السالفين بأن يقال للرجال والنساء نصيب الخ للاعتناء كما قال شيخ الإسلام بأمرهن والإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث ، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون : إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة ، وللرد عليهم نزلت هذه الآية كما قال ابن جبير وغيره وروي أن أوس بن ثابت وقيل : أوس بن مالك ، وقيل : ثابت بن قيس ، وقيل : أوس بن الصامت وهو خطأ لأنه توفي في زمن خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه مات وترك ابنتين وابناً صغيراً وزوجته أم كحة ، وقيل : بنت كحة ، وقيل : أم كحلة ، وقيل : أم كلثوم فجاء أبناء عمه خالد أو سويد وعرفطة أو قتادة ، وعرفجة فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما : تزوجا بالابنتين وكانت بهما دمامة فأبيا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أدري ما أقول ؟ فنزلت : { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ } الآية فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى ابني العم فقال : لا تحركا من الميراث شيئاً فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيباً ثم نزل بعد ذلك : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء } إلى قوله : { عَلِيماً } [ النساء : 127 ] ثم نزل : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } إلى قوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ النساء : 11 ، 12 ] فدعى صلى الله عليه وسلم بالميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يعط ابني العم شيئاً" ، وفي بعض طرقه أن الميت خلف زوجة وبنتين وابني عم فأعطى صلى(20/130)
الله عليه وسلم الزوجة الثمن والبنتين الثلثين وابني العم الباقي.
وفي الخبر دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب ، ومن عمم الرجال والنساء وقال : إن الأقربين عام لذوي القرابة النسبية والسببية جعل الآية متضمنة لحكم الزوج والزوجة واستحقاق كل منهما الإرث من صاحبه ، ومن لم يذهب إلى ذلك وقال : إن الأقربين خاص بذوي القربة النسبية جعل فهم الاستحقاق كفهم المقدار المستحق مما سيأتي من الآيات ، وعلل الاقتصار على ذكر الأولاد والبنات هنا بمزيد الاهتمام بشأن اليتامى واحتج الحنفية والإمامية بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قالوا : لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله سبحانه : { لّلرّجَالِ } الخ غاية ما في الباب أنَّ قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بها ، وأما المقدار فمستفاد من سائر الدلائل ، والإمامية فقط على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورثون كغيرهم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً رده على أتم وجه.
{ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } بدل من ما الأخيرة بإعادة العامل قبل ؛ ولعلهم إنما لم يعتبروا كون الجار والمجرور بدلاً من الجار المجرور لاستلزامه إبدال من من مّن واتحاد اللفظ في البدل غير معهود.(20/131)
وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور حالاً من الضمير المحذوف في ترك أي مما تركه قليلاً أو كثيراً أو مستقراً مما قلّ ، ومثل هذا القيد معتبر في الجملة الأولى إلا أنه لم يصرح به هناك تعويلاً على ذكره هنا ، وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال ، وبهذا يرد على الإمامية لأنهم يخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس البدني بدون عوض عند أكثرهم ، وهذا من الغريب كعدم توريث الزوجة من العقار مع أن الآية مفيدة أن لكل من الفريقين حقاً من كل ما جل ودق ، وتقديم القليل على الكثير من باب { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ].(20/132)
{ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } نصب إما على أنه مصدر مؤكد بتأويله بعطاء ونحوه من المعاني المصدرية وإلا فهو اسم جامد ، ونقل عن بعضهم أنه مصدر ، وإما على الحالية من الضمير المستتر في قل وكثر أو في الجار والمجرور الواقع صفة ، أو من نصيب لكون وصفه بالظرف سوغ مجيء الحال منه أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع خبراً إذ المعنى ثبت لهم مفروضاً نصيب ، وهو حينئذ حال موطئة والحال في الحقيقة وصفه ، وقيل : هو منصوب على أنه مفعول بفعل محذوف والتقدير أوجب لهم نصيباً ، وقيل : منصوب على إضمار أعني ونصبه على الاختصاص بالمعنى المشهور مما أنكره أبو حيان لنصهم على اشتراط عدم التنكير في الاسم المنصوب عليه ، والفرض كالضرب التوقيت ومنه : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } [ البقرة : 197 ] والحز في الشيء كالتفريض وما أوجبه الله تعالى كالمفروض سمي بذلك لأن له معالم وحدوداً ، ويستعمل بمعنى القطع ، ومنه قوله تعالى : { لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } [ النساء : 118 ] أي مقتطعاً محدوداً كما في "الصحاح" ، فمفروضاً هنا إما بمعنى مقتطعاً محدوداً كما في تلك الآية ، وإما بمعنى ما أوجبه الله تعالى أي نصيباً أوجبه الله تعالى لهم.(20/133)
وفرق الحنفية بين الفرض والواجب بأن الفعل غير الكف المتعلق به خطاب بطلب فعل بحيث ينتهض تركه في جميع وقته سبباً للعقاب إن ثبت بقطعي ، ففرض كقراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقول تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان } [ المزمل : 20 ] وإن ثبت بظني فهو الواجب نحو تعيين الفاتحة الثابت بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " وهو آحاد ، ونفي الفضيلة محتمل ظاهر ، وذهب الشافعية إلى ترادفهما ، واحتج كل لمدعاه بما احتج به ، والنزاع على ما حقق في الأصول لفظي قاله غير واحد ، وقال بعض المحققين : لا نزاع للشافعي في تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة ولا في تفاوت ما ثبت بدليل قطعي كحكم الكتاب وما ثبت بدليل ظني كحكم خبر الواحد في الشرع فإن جاحد الأول كافر دون الثاني ، وتارك العمل بالأول مؤلاً فاسق دون الثاني ، وإنما يزعم أن الفرض والواجب لفظان مترادفان منقولان عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذمّ تاركه شرعاً سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني ، وهذا مجرد اصطلاح ، فلا معنى للاحتجاج بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد موجب للتفاوت بين مدلوليهما ، أو بأن الفرض في اللغة التقدير والوجوب هو السقوط ، فالفرض علم قطعاً أنه مقدر علينا ، والوجوب ما سقط علينا بطريق الظن ولا يكون المظنون مقدراً ولا المعلوم القطعي ساقطاً علينا على أن للخصم أن يقول : لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي فلا نسلم امتناع أن يثبت كون الشيء مقدراً علينا بدليل ظني ، وكونه ساقطاً علينا بدليل قطعي ، ألا ترى أن قولهم : الفرض أي المفروض المقدر في المسح هو الربع ، وأيضاً الحق أن الوجوب في اللغة هو الثبوت ، وأما مصدر الواجب بمعنى الساقط والمضطرب إنما هو الوجبة والوجيب ، ثم استعمال الفرض فيما ثبت بظني والواجب(20/134)
فيما ثبت بقطعي شائع مستفيض كقولهم : الوتر فرض ، وتعديل الأركان فرض ونحو ذلك ، ويسمى فرضاً عملياً ، وكقولهم : الصلاة واجبة والزكاة واجبة ، ونحو ذلك ، ومن هنا يعلم سقوط كلام بعض الشافعية في ردّ استدلال الحنفية بما تقدم على توريث ذوي الأرحام بأن الواجب عند الحنفية ما علم ثبوته بدليل مظنون ، والمفروض ما علم بدليل قاطع ، وتوريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالاتفاق ، فعرفنا أنه غير مراد من الآية ووجه السقوط ظاهر غني عن البيان.
واحتج بعضهم بالآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 210 ـ 212}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { مِّمَّا تَرَكَ } هذا الجارُّ في محل رفع ؛ لأنه صفة للمرفوع قبله أيْ : نَصِيبٌ كائن أو مستقر ، ويجوز أن يكون في محلّ نصبٍ متعلِّقاً بلفظ " نصيب " لأنه من تمامه. وقوله { مِمَّا قَلَّ } [ و] في هذا الجارّ أيضاً وجهان :
أحدهما : أنه بدل من " ما " الأخيرة في " مما ترك " بإعادة حرف الجرّ في البدل ، والضمير في " منه " عائد على " ما " الأخيرة ، وهذا البدل مرادٌ أيضاً في الجملة الأولى حُذِفَ للدلالة عليه ، ولأن المقصود بذلك التأكيد ؛ لأنه تفصيلٌ للعموم المفهوم من قوله { مِّمَّا تَرَكَ } فجاء هذا البدل مفصّلا لحالتيه من الكثرة والقِلَّةِ.
والثاني : أنه حال من الضَّمِيرِ المحذوف من " ترك " أي : مما تركه قليلاً ، أو كثيراً ، أو مستقراً مما قلّ.
قوله : { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } فيه أوجه :
أحدها : أن " نصيباً " ينتصب على أنَّهُ واقع موقع المصدر ، والعامل فيه معنى ما تقدَّم إذ التَّقدير عطاءً أو استحقاقاً ، وهذا معنى قول مَنْ يقول منصوب على المصدر المؤكد.(20/135)
قال الزَّمخشريُّ : كقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } [ النساء : 11 ] كأنه قيل : قسمة مفروضة ، وقد سَبَقه الفرَّاءُ إلى هذا ، قال : نُصِبَ ؛ لأنه أخرج مُخْرَجَ المَصْدَر ؛ ولذلك وحّده كقولك : له عَليَّ كذا حقّاً لازماً ، ونحوه { فَرِيضَةً مِّنَ الله } [ النساء : 11 ] ، ولو كان اسْماً صحيحاً لم ينصب ، لا تقول : لك عليّ حق درهماً.
الثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ ويُحتمل أن يكون صاحبُ الحال الفاعل في " قَلَّ " أو " كَثر " ويُحتمل أن يكون " نَصِيب " ، وإن كان نكرة لتخصّصه إمَّا بالوَصْفِ ، وإمَّا بالعمل والعامل في الحال الاستقرار الَّذي في قوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ } ، وإلى نصبه حالاً ذهب الزَّجَّاج ومكيٌّ قالا : المعنى لهؤلاء أنْصِباء على ما ذكرناها في حالِ الفرض.
الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على الاختصاص بمعنى : أعني نَصيباً ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
قال أبو حيَّان : إن عنى الاخْتِصاص المصطلَح عليه فهو مردود بكونه نكرةً ، وقد نَصُّوا على اشتراط تعريفه.
الرابع : النصب بإضمار فعل أي : أو جُعِلَت لهم نصيباً.
الخامس : أنه مصدر صريح أي نَصَّبْتُهُ نَصيباً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 194 ـ 196}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)}(20/136)
حكم الميراث لا يختلف بالفضل والمنقبة ، ولا يتفاوت بالعيب والنقص والذنب ؛ فلو مات رجلٌ وخلف ابنين تساويا في الاستحقاق وإنْ كان أحدهما براً تقياً والآخر فاجراً عَصِياً ، فلا للتقي زيادة لتقواه ، ولا للفاجر بخس لفجوره ، والمعنى فيه أن الميراث ابتداء عطيّةٍ من قِبَل الله ، فيتساوى فيه البر والفاجر. كذلك حكم الإيمان ابتداء عطيةً للمسلمين : قال الله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [ فاطر : 32 ] ، ثم قال : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ... } [ فاطر : 32 ] الآية. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 315}(20/137)
قوله تعالى { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بين المفروض أتبعه المندوب فقال تعالى : {وإذا حضر القسمة أولوا القربى} أي ممن لا يرث صغاراً أو كباراً {واليتامى والمساكين} أي قرباء أو غرباء {فارزقوهم منه} أي المتروك ، وهو أمر ندب لتطييب قلوبهم ، وقرينة صرفه عن الوجوب ترك التحديد {وقولوا لهم} أي مع الإعطاء {قولاً معروفاً} أي حسناً سائغاً في الشرع مقبولاً تطيب به نفوسهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 218}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن قوله : {وَإِذَا حَضَرَ القسمة} ليس فيه بيان أي قسمة هي ، فلهذا المعنى حصل للمفسرين فيه أقوال : الأول : أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن النساء أسوة الرجال في أن لهن حظاً من الميراث ، وعلم تعالى أن في الأقارب من يرث ومن لا يرث ، وأن الذين لا يرثون إذا حضروا وقت القسمة ، فإن تركوا محرومين بالكلية ثقل ذلك عليهم ، فلا جرم أمر الله تعالى أن يدفع إليهم شيء عند القسمة حتى يحصل الأدب الجميل وحسن العشرة ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فمنهم من قال : إن ذلك واجب ، ومنهم من قال : إنه مندوب ، أما القائلون بالوجوب ، فقد اختلفوا في أمور :
أحدها : أن منهم من قال : الوارث إن كان كبيراً وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب نفسه به ، وإن كان صغيراً وجب على الولي إعطاؤهم من ذلك المال ، ومنهم من قال : إن كان الوارث كبيراً ، وجب عليه الإعطاء من ذلك المال ، وإن كان صغيراً وجب على الولي أن يعتذر إليهم ، ويقول : إني لا أملك هذا المال إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق ، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم ، فهذا هو القول المعروف ،
وثانيها : قال الحسن والنخعي : هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان ، فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك ، قال لهم قولا معروفا ، مثل أن يقول لهم : ارجعوا بارك الله فيكم ،
وثالثها : قالوا : مقدار ما يجب فيه الرضخ شيء قليل ، ولا تقدير فيه بالاجماع.
ورابعها : أن على تقدير وجوب هذا الحكم تكون هذه الآية منسوخة.(20/138)
قال ابن عباس في رواية عطاء : وهذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وهذا قول سعيد بن المسيب والضحاك وقال في رواية عكرمة : الآية محكمة غير منسوخة وهو مذهب أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي والزهري ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير ، فهؤلاء كانوا يعطون من حضر شيئا من التركة.
روي أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قسم ميراث أبيه وعائشة حية ، فلم يترك في الدار أحدا إلا أعطاه ، وتلا هذه الآية ، فهذا كله تفصيل قول من قال بأن هذا الحكم ثبت على سبيل الوجوب ، ومنهم من قال : إنه ثبت على سبيل الندب والاستحباب ، لا على سبيل الفرض والايجاب ، وهذا الندب أيضا إنما يحصل إذا كانت الورثة كباراً ، أما إذا كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف ، وهذا المذهب هو الذي عليه فقهاء الأمصار.
واحتجوا بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله تعالى قدر ذلك الحق كما في سائر الحقوق ، وحيث لم يبين علمنا أنه غير واجب ، ولأن ذلك لو كان واجبا لتوفرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين على تقديره ، ولو كان ذلك لنقل على سبيل التواتر ، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه غير واجب.
القول الثاني : في تفسير الآية : أن المراد بالقسمة الوصية ، فإذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر الله تعالى أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ، ويقول لهم مع ذلك : قولا معروفا في الوقت ، فيكون ذلك سببا لوصول السرور إليهم في الحال والاستقبال ، والقول الأول أولى ، لأنه تقدم ذكر الميراث ولم يتقدم ذكر الوصية ، ويمكن أن يقال : هذا القول أولى لأن الآية التي تقدمت في الوصية.(20/139)
القول الثالث : في تفسير الآية أن قوله : {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى} فالمراد من أُوْلِى القربى الذين يرثون والمراد من اليتامى والمساكين الذين لا يرثون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 159 ـ 160}
قوله تعالى {فارزقوهم مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}
قال الفخر :
فقوله : {فارزقوهم} راجع إلى القربى الذين يرثون وقوله : {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} راجع إلى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون ، وهذا القول محكي عن سعيد بن جبير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 160}
فصل
قال الفخر :
قال صاحب الكشاف : الضمير في قوله : {فارزقوهم مّنْهُ} عائد إلى ما ترك الوالدان والأقربون ، وقال الواحدي : الضمير عائد إلى الميراث فتكون الكناية على هذا الوجه عائدة إلى معنى القسمة ، لا إلى لفظها كقوله : {ثُمَّ استخرجها مِن وِعَاء أَخِيهِ} [ يوسف : 76 ] والصواع مذكر لا يكنى عنه بالتأنيث ، لكن أريد به المشربة فعادت الكناية إلى المعنى لا إلى اللفظ ، وعلى هذا التقدير فالمراد بالقسمة المقسوم ، لأنه إنما يكون الرزق من المقسوم لا من نفس القسمة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 160}
فصل
قال الآلوسى
{ وَإِذَا حَضَرَ القسمة } أي قسمة التركة بين أربابها وهي مفعول به ، وقدمت لأنها المبحوث عنها ولأن في الفاعل تعدداً فلو روعي الترتيب يفوت تجاذب أطراف الكلام ، وقيل : قدمت لتكون أمام الحاضرين في اللفظ كما أنها أمامهم في الواقع ، وهي نكتة للتقديم لم أر مَن ذكرها من علماء المعاني.(20/140)
{ أُوْلُواْ القربى } ممن لا يرث لكونه عاصباً محجوباً أو لكونه من ذوي الأرحام ، والقرينة على إرادة ذلك ذكر الورثة قبله { واليتامى والمساكين } من الأجانب { فارزقوهم مّنْهُ } أي اعطوهم شيئاً من المال أو المقسوم المدلول عليه بالقسمة ، وقيل : الضمير لما وهو أمر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييباً لقلوب المذكورين وتصدقاً عليهم ، وقيل : أمر وجوب واختلف في نسخه ففي بعض الروايات عن ابن عباس أنه لا نسخ والآية محكمة وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وأخرج أبو داود في "ناسخه" وابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة } الآية نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك مما قلّ منه أو كثر.
وحكي عن سعيد بن جبير أن المراد من أولى القربى هنا الوارثون ، ومن { اليتامى والمساكين } غير الوارثين وأن قوله سبحانه : { فارزقوهم مّنْهُ } راجع إلى الأولين ، وقوله تعالى : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } راجع للآخرين وهو بعيد جداً ، والمتبادر ما ذكر أولاً وهذا القول للمرزوقين من أولئك المذكورين ، والمراد من القول المعروف أن يدعو لهم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنّوا عليهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 212}
وقال ابن عاشور :
جملة معطوفة على جملة { للرجال نصيب } [ النساء : 7 ] إلى آخرها.
وهذا أمر بعطية تعطى من الأموال الموروثة : أمر الورثة أن يسهموا لمن يحضر القسمة من ذوي قرابتهم غير الذين لهم حقّ في الإرث ، ممّن شأنهم أن يحضروا مجالس الفصل بين الأقرباء.
وقوله : { للرجال نصيب } [ النساء : 7 ] وقوله : { وللنساء نصيب } [ النساء : 7 ] يقتضيان مقسوماً ، فالتعريف في قوله : { القسمة } تعريف العهد الذِكري.(20/141)
والأمر في قوله : { فارزقوهم منه } محمول عند جمهور أهل العلم على الندب من أوّل الأمر ، إذ ليس في الصدقات الواجبة غير الزكاة ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي لمّا قال له : هل عليّ غيرها ؟ "لا إلاّ أنّ تطَّوّع" وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وفقهاء الأمصار ، وجعلوا المخاطب بقوله : { فارزقوهم } الورثة المالكين أمر أنفسهم ، والآية عند هؤلاء محكمة غير منسوخة ، وذهب فريق من أهل العلم إلى حمل الأمر بقوله : { فارزقوهم } على الوجوب ، فعن ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والزهري ، وعطاء ، والحسن ، والشعبي : أن ذلك حقّ واجب على الورثة المالكين أمر أنفسهم فهم المخاطبون بقوله : { فارزقوهم }.
وعن ابن عباس ، وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيّب ، وأبي صالح : أنّ ذلك كان فرضا قبل نزول آية المواريث ، ثم نسخ بآية المواريث ، ومآل هذا القول إلى موافقة قول جمهور أهل العلم.
عن ابن عباس أيضاً.
وزيد بن أسلم : أنّ الأمر موجّه إلى صاحب المال في الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الميراث واجب عليه أن يجعل في وصيّنه شيئاً لمن يحضر وصيّته من أولى القربى واليتامى والمساكين غير الذين أوصى لهم ، وأنّ ذلك نسخ تَبعا لنسخ وجوب الوصية ، وهذا يقتضي تأويل قوله : { القسمة } بمعنى تعيين ما لكل موصى له من مقدار.
وعن سعيد بن جبير : أنّ الآية في نفس الميراث وأنّ المقصود منها هو قوله : { وقولوا لهم قولاً معروفاً } قال : فقوله : { فارزقوهم منه } هو الميراث نفسه.
وقوله : { وقولوا لهم قولاً معروفاً } أي قولوا لغير الورثة بأن يقال لهم إنّ الله قسم المواريث.
وقد علمت أنّ موقع الآية تمهيد لتفصيل الفرائض ، وأنّ ما ذهب إليه جمهور أهل العلم هو التأويل الصحيح للآية ، وكفاك باضطراب الرواية عن ابن عباس في تأويلها توهينا لتأويلاتهم.(20/142)
والأمر بأن يقولوا لهم قولاً معروفاً أي قولاً حسناً وهو ضدّ المنكر تسلية لبعضهم على مَا حرموا منه من مال الميّت كما كانوا في الجاهلية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 39 ـ 40}
لطيفة
قال الفخر :
إنما قدم اليتامى على المساكين لأن ضعف اليتامى أكثر ، وحاجتهم أشد ، فكان وضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم في الأجر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 160}
فائدة
قال الفخر :
الأشبه هو أن المراد بالقول المعروف أن لا يتبع العطية المن والأذى بالقول أو يكون المراد الوعد بالزيادة والاعتذار لمن لم يعطه شيئا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 161}
من فوائد القرطبى فى الآية
قال رحمه الله :
بيّن الله تعالى أن من لم يستحق شيئاً إرثاً وحضر القسمة ، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا ، إن كان المال كثيراً ؛ والاعتذار إليهم إن كان عقاراً أو قليلاً لا يقبل الرّضخ.
وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم ؛ درهم يسبق مائة الف.
فالآية على هذا القول مُحْكَمَةٌ ؛ قاله ابن عباس.
وامتثل ذلك جماعة من التابعين : عروة بن الزبير وغيره ، وأمر به أبو موسى الأشعري.
وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين }.
وقال سعيد بن المسيب : نسخها آية الميراث والوصية.
وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعِكرمة والضحاك.
والأوّل أصح ؛ فإنها مبيِّنة استحقاق الورثة لنصيبهم ، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم.
قال ابن جبير : ضيّع الناس هذه الآية.
قال الحسن : ولكن الناس شحّوا.
وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين } قال : هي محكمة وليست بمنسوخة.(20/143)
وفي رواية قال : إن ناساً يزعمون أن هذه الآية نسخت ، لا والله ما نُسخت! ولكنها مما تهاون بها ؛ هما واليِان : والٍ يرث وذلك الذي يرزق ، ووالٍ لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف ، ويقول : لا أملك لك أن أعطيك.
قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يِصلوا أرحامهم ، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية ، فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث.
قال النحاس : فهذا أحسن ما قيل في الآية ، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير ، والشكر لله عز وجل.
وقالت طائفة : هذا الرضْخُ واجب على جهة الفرض ، تُعطِي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم ، كالماعُون والثوب الخَلَق وما خفّ.
حكى هذا القول ابن عطية والقشيري.
والصحيح أن هذا على الندب ؛ لأنه لو كان فرضاً لكان استحقاقاً في التركة ومشاركة في الميراث ، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول.
وذلك مناقض للحكمة ، وسبب للتنازع والتقاطع.
وذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد في الآية المحتَضَرُون الذين يقسمون أموالهم بالوصية ، لا الورثَةُ.
وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد.
فإذا أراد المريض أن يفرّق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألاّ يحرمه. وهذا والله أعلم.
يتنزل حيث كانت الوصية واجبة ، ولم تنزل آية الميراث.
والصحيح الأوّل وعليه المعوّل.
فإذا كان الوارث صغيراً لا يتصرّف في ماله ؛ فقالت طائفة : يعطى ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى.
وقيل : لا يعطى بل يقول لمن حضر القسمة : ليس لي شيء من هذا المال إنما هو لليتيم ، فإذا بلغ عرّفتُه حقَّكم.
فهذا هو القول المعروف.
وهذا إذا لم يُوص الميت له بشيء ؛ فإن أوصى يصرف له ما أوصى.(20/144)
ورأى عَبيدة ومحمد بن سِيرين أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعاماً يأكلونه ؛ وفعَلاَ ذلك ، ذبحا شاة من التركة ، وقال عَبيدة : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.
وروى قتادة عن يحي بن يَعمر قال : ثلاثٌ مُحْكَمات تركهّن الناس : هذه الآية ، وآية الاستئذان { ياأيها الذين آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النور : 58 ] وقوله : { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ].
قوله تعالى : { مِنْهُ } الضمير عائد على معنى القسمة ؛ إذْ هي بمعنى المال والميراث ؛ لقوله تعالى : { ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } [ يوسف : 76 ] أي السقاية ؛ لأن الصُّوَاع مذكّر.
ومنه قوله عليه السلام : " واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب " فأعاد مذكراً على معنى الدعاء.
وكذلك " قوله لسُويد بن طارق الجُعْفي حين سأله عن الخمر : "إنه ليس بدواء ولكنه داء" " فأعاد الضمير على معنى الشراب.
ومثله كثير.
يقال : قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه ، والاسم القسمة مؤنثة ؛ والقَسْم مصدر قسمت الشيء فانقسم ، والموضع مَقْسِم مثل مَجلس ، وتقسّمهم الدهر فتقسّموا ، أي فرّقهم فتفرّقوا.
والتقسيم التفريق. والله أعلم.
قوله تعالى : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال سعيد ابن جبير : يقال لهم خذّوا بورِك لكم.
وقيل : قولوا مع الرّزق ودِدت أن لو كان أكثر من هذا.
وقيل : لا حاجة مع الرزق إلى عذر ، نعم إن لم يصرف إليهم شيء فلا أقل من قولٍ جميل ونوع اعتذار. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 48 ـ 50}. بتصرف يسير.(20/145)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)}
يريد إذا حضر قسمة الميراث ذوو السهمان والمستحقون ، وحضَرَ من لا نصيب لهم في الميراث من المساكين فلا تحرموهم من ذلك. فإن كان المستحقُ مُوَّلًى عليه ، فَعِدوهم وعداً جميلاً وقولوا : " إِذا بلغ الصبي قلنا له حتى يعطيك شيءاً " وهذا معنى قوله : { وَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوفًا }. وفي هذا إِشارة لطيفة للمذنبين إذا حضروا لعرصته غداً ، والحق سبحانه يغفر للمطيعين ويعطيهم ثواب أعمالهم ، فمن كان منكم من فقراء المسلمين لا يحرمهم الغفران إن شاء الله بعدما كانوا من أهل الإيمان ، وكذلك يوم القسمة لم تكن حاضراً ، ولا لَكَ استحقاق سابق فبفضله ما أهَّلَكَ لمعرفته مع علمه بما يحصل منك في مستأنف أحوالك من زلتك. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 315 ـ 316}(20/146)
قوله تعالى { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أعاد الوصية باليتامى مرة بعد أخرى ، وختم بالأمر بالإنة القول ، وكان للتصوير في التأثير في النفس ما ليس لغيره ؛ أعاد الوصية بهم لضعفهم مصوراً لحالهم مبيناً أن القول المعروف هو الصواب الذي لا خلل فيه فقال : {وليخش} أي يوقع الخشية على ذرية غيرهم {الذين} وذكر لهم حالاً هو جدير بإيقاع الخشية في قلوبهم فقال : {لو تركوا} أي شارفوا الترك بموت أو هرم ، وصوّر حالهم وحققه بقوله : {من خلفهم} أي بعد موتهم أو عجزهم العجز الذي هو كموتهم {ذرية} أي أولاداً من ذكور أو إناث {ضعافاً} أي لصغر أو غيره {خافوا عليهم} أي جور الجائرين.
ولما تسبب عن ذلك التصور في أنفسهم خوفهم على ذرية غيرهم كما يخافون على ذريتهم سواء كانوا أوصياء أو أولياء أو أجانب ، وكان هذا الخوف ربما أداهم في قصد نفعهم إلى جور على غيرهم ؛ أمر بما يحفظهم على الصراط السوي بقوله : {فليتقوا} وعبر بالاسم الأعظم إرشاداً إلى استحضار جميع عظمته فقال : {الله} أي فليعدلوا في أمرهم ليقيِّض الله لهم من يعدل في ذريتهم ، وإلا أوشك أن يسلط على ذريتهم من يجور عليهم {وليقولوا} أي في ذلك وغيره {قولاً سديداً} أي عدلاً قاصداً صواباً ، ليدل هذا الظاهر على صلاح ما أتمره من الباطن. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 218}
فصل
قال الفخر :
لا شك أن قوله : {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} يوجب الاحتياط للذرية الضعاف ، وللمفسرين فيه وجوه :(20/147)
الأول : أن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون : إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا ، فأوص بمالك لفلان وفلان ، ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا ، فقيل لهم : كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال ، فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله.
وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك ، فلا ترضه لأخيك المسلم.
عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
والقول الثاني : قال حبيب بن أبي ثابت : سألت مقسما عن هذه الآية فقال : هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب ، فيقول له من كان عنده : اتق الله وأمسك على ولدك مالك ، مع أن ذلك الإنسان يحب أن يوصي له ، ففي القول الأول الآية محمولة على نهي الحاضرين عن الترغيب في الوصية ، وفي القول الثاني محمولة على نهي الحاضرين عن النهي عن الوصية ، والأولى أولى ، لأن قوله : {لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا} أشبه بالوجه الأول وأقرب إليه.
والقول الثالث : يحتمل أن تكون الآية خطابا لمن قرب أجله ، ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته ضائعين جائعين بعد موته ، ثم إن كانت هذه الآية إنما نزلت قبل تقدير الوصية بالثلث ، كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية ، وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث ، كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية ، وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث.
(20/148)
كان المراد منها أن يوصي أيضا بالثلث ، بل ينقص إذا خاف على ذريته والمروي عن كثير من الصحابة أنهم وصوا بالقليل لأجل ذلك ، وكانوا يقولون : الخمس أفضل من الربع ، والربع أفضل من الثلث ، وخبر سعد يدل عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ".
والقول الرابع : أن هذا أمر لأولياء اليتيم ، فكأنه تعالى قال : وليخش من يخاف على ولده بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره ، والمقصود من الآية على هذا الوجه أن يبعثه سبحانه وتعالى على حفظ ماله ، وأن يترك نفسه في حفظه والاحتياط في ذلك بمنزلة ما يحبه من غيره في ذريته لو خلفهم وخلف لهم مالا.
قال القاضي : وهذا أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام ، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 161 ـ 162}
قال ابن عطية فى القولين الأولين :
وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان يصلح لأحدهما القول الواحد ، وللآخر القول الثاني ، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثة مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدم لنفسه ، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعى إنما هو الضعف ، فيجب أن يمال معه. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 2 صـ 13 ـ 14}
وقال القرطبى :
وهذه الآية قد اختلف العلماء في تأويلها ؛ فقالت طائفة : هذا وعظٌ للأوصياء ، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم ؛ قاله ابن عباس.(20/149)
ولهذا قال الله تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً }.
وقالت طائفة : المراد جميع الناس ، أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس ؛ وإن لم يكونوا في حجورهم.
وأن يُسدّدوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يُفعَل بولده بعده.
ومِن هذا ما حكاه الشيبانيّ قال : كنا على قُسْطَنْطِينِيّة في عسكر مَسْلمة بن عبد الملك ، فجلسنا يوماً في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الدَّيْلَمِيّ ، فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان.
فقلت له : يا أبا بِشر ، وُدّي ألاّ يكون لي ولد.
فقال لي : ما عليك ا ما من نَسَمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت ، أحَبّ أو كَرِه ، ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ؛ ثم تلا الآية.
وفي رواية : ألاَ أدلّك على أمر إن أنت أدركته نجّاك الله منه ، وإن تركت ولداً من بعدك حفظهم الله فيك ؟ فقلت : بلى فتلا هذه الآية { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ } إلى آخرها.
قلت : ومن هذا المعنى ما روى محمد بن كعب القُرَظيّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " من أحسن الصدقةَ جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرْمَلة أخلف الله في ترِكَته " وقول ثالث قاله جمع من المفسرين : هذا في الرجل يحضره الموت فيقول له مَن بحضرته عند وصيته : إن الله سيرزق ولدك فانظر لنفسك ، وأوص بمالك في سبيل الله ، وتصدّق وأعتق.
حتى يأتي على عامّة ماله أو يستغرقه فيضر ذلك بورثته ؛ فنُهوا عن ذلك.
فكأن الآية تقول لهم : كما تخشون على ورثتكم وذرّيتكم بعدكم ، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله ؛ قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد.
(20/150)
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول أوصِ بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك ، ولكن يقول قدّم لنفسك واترك لولدك ؛ فذلك قوله تعالى : { فَلْيَتَّقُواّ الله }.
وقال مِقسم وحضرمِيّ : نزلت في عكس هذا ، وهو أن يقول للمحتضَر من يحضره : أمسك على ورثتك ، وأبقِ لولدك فليس أحد أحق بمالك من أولادك ، وينهاه عن الوصية ، فيتضرر بذلك ذوو القربى وكل من يستحق أن يوصى له ؛ فقيل لهم : كما تخشون على ذرّيتكم وتسرون بأن يحسن إليهم ، فكذلك سدّدوا القول في جهة المساكين واليتامى ، واتقوا الله في ضررهم.
وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث ؛ روي عن سعيد بن جبير وابن المسيب.
قال ابن عطية : وهذان القولان لا يطّرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان ؛ يصلح لأحدهما القول الواحد ، ولآخر القول الثاني.
وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدّم لنفسه.
وإذا ترك ورثة ضعفاء مهملين مقِلّين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط ؛ فإنّ أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعاة إنما هو الضعف فيجب أن يُمال معه.
قلت : وهذا التفصيل صحيح ؛ " لقوله عليه السلام لسعد : "إنك أن تَذَرْ ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون الناس" " فإن لم يكن للإنسان ولد ، أو كان وهو غنيّ مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمِن عليه ؛ فالأَولى بالإنسان حينئذٍ تقديم ماله بين يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح ، فيكون وزره عليه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 51 ـ 52}(20/151)
وقال الآلوسى :
وقوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ } فيه أقوال :
أحدها : أنه أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى أو يخافوا على أولادهم فيفعلوا مع اليتامى ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس ، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية : يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخالف عليهم العيلة والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم يقول : فإن وَليَ مثل ذريته ضعافاً يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إسرافاً وبداراً أن يكبروا والآية على هذا مرتبطة بما قبلها لأن قوله تعالى : { لّلرّجَالِ } ( النساء ؛ 7 ) الخ في معنى الأمر للورثة أي اعطوهم حقهم دفعاً لأمر الجاهلية وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم ، وقيل في وجه الارتباط : إن هذا وصية للأوصياء بحفظ الأيتام بعد ما ذكر الوارثين الشاملين للصغار والكبار على طريق التتميم ، وقيل : إن الآية مرتبطة بقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى } [ النساء : 6 ].
وثانيها : أنه أمر لمن حضر المريض من العوّاد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم ، ونسب نحو هذا إلى الحسن وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير.(20/152)
وروى عن ابن عباس أيضاً ما يؤيده ، فقد : أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه أنه قال في الآية : يعني الرجل يحضره الموت فيقال له : تصدق عن مالك وأعتق وأعط منه في سبيل الله فنهوا أن يأمروا بذلك يعني أن من حضر منكم مريضاً عند الموت فلا يأمره أن ينفق من ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين ، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون يوصي لهم بالخمس أو الربع يقول : أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف يعني صغار لا يرضى أن يتركهم بغير مال فيكونوا عيالاً على الناس ؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك ، وعلى هذا يكون أول الكلام للأوصياء وما بعده للورثة ، وهذا للأجانب بأن لا يتركوه يضرهم أو لا يأمروه بما يضر ، فالآية مرتبطة بما قبلها أيضاً.(20/153)
وثالثها : أنه أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافاً مثلهم هل يجوّزون حرمانهم ، واتصال الكلام على هذا بما قبله ظاهر لأنه حث على الإيتاء لهم وأمرهم بأن يخافوا من حرمانهم كما يخافون من حرمان ضعاف ذريتهم ، ورابعها : أمر للمؤمنين أن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ، وقد روي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث ويقولون : إن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث ، وورد في الخبر ما يؤيده ، وعلى هذا فالمراد من الذين المرضى وأصحاب الوصية أمرهم بعدم الإسراف في الوصية خوفاً على ذريتهم الضعاف ، والقرينة عليه أنهم المشارفون لذلك ويكون التخويف من أكل مال اليتامى بعده تخويفاً عن أخذ ما زاد من الوصية فيرتبط به ، ويكون متصلاً بما قبله تتميماً لأمر الأوصياء ، والورثة بأمر مرضى المؤمنين ، وهذا أبعد الوجوه وأبعد منه ما قيل : إنه أمر لمن حضر المريض بالشفقة على ذوي القربى بأن لا يقول للمريض لا توص لأقاربك ووفر على ذريتك ، وأبعد من ذلك القول : بأنه أمر للقاسمين بالعدل بين الورثة في القسمة بأن لا يراعوا الكبير منهم فيعطوه الجيد من التركة ولا يلتفتوا إلى الصغير ولو بما في حيزه صلة الموصول كما قال غير واحد ، ولما كانت الصلة يجب أن تكون قصة معلومة للخاطب ثابتة للموصول كالصفة قالوا : إنها هنا كذلك أيضاً وأن المعنى : وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافاً خافوا عليهم الضياع.(20/154)
وذهب الأجهوري وغيره إلى أن لو بمعنى إن فتقلب الماضي إلى الاستقبال ، وأوجبوا حمل تركوا على المشارفة ليصح وقوع خافوا جزاءاً له ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة ، وفي ترتيب الأمر على الوصف المذكور في حيز الصلة المشعر بالعلية إشارة إلى أن المقصود من الأمر أن لا يضيعوا اليتامى حتى لا تضيع أولادهم ، وفيه تهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع الله أولادهم ، ورمز إلى أنهم إن راعوا الأمر حفظ الله تعالى أولادهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 212 ـ 214}
قال الطبرى :
وأولى التأويلات بالآية ، قول من قال ، تأويل ذلك : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم العَيْلة لو كانوا فرقوا أموالهم في حياتهم ، أو قسموها وصية منهم بها لأولي قرابتهم وأهل اليُتم والمسكنة ، فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العَيْلة عليهم بعدهم ، مع ضعفهم وعجزهم عن المطالب ، فليأمروا من حضروه وهو يوصي لذوي قرابته - وفي اليتامى والمساكين وفي غير ذلك - بماله بالعدل وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا ، وهو أن يعرّفوه ما أباح الله له من الوصية ، وما اختاره للموصين من أهل الإيمان بالله وبكتابه وسنته.
وإنما قلنا ذلك بتأويل الآية أولى من غيره من التأويلات ، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل : من أن معنى قوله : "وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فأوصوا لهم - بما قد دللنا عليه من الأدلة.(20/155)
فإذا كان ذلك تأويل قوله : "وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين" الآية ، فالواجب أن يكون قوله تعالى ذكره : "وليخش الذين لو تركوا من خلفهم" ، تأديبًا منه عبادَه في أمر الوصية بما أذِنهم فيه ، إذ كان ذلك عَقِيب الآية التي قبلها في حكم الوصية ، وكان أظهرَ معانيه ما قلنا ، فإلحاق حكمه بحكم ما قبله أولى ، مع اشتباه معانيهما ، من صرف حكمه إلى غيره بما هو له غير مشبه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 8 صـ 25}
فائدة
قال ابن عاشور :
( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا قول سديدا [ 9 ] ) موعظة لكل من أمر أو نهي أو حذر أو رغب في الآي السابقة في شأن أموال اليتامى وأموال الضعفاء من النساء والصبيان فابتدئت الموعظة بالأمر بخشية الله تعالى أي خشية عذابه ثم أعقب بإثارة شفقة الآباء على ذريتهم بأن ينزلوا أنفسهم منزلة الموروثين الذين اعتدوا هم على أموالهم وينزلوا ذرياتهم منزلة الذرية الذين أكلوا هم حقوقهم وهذه الموعظة مبنية على قياس قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وزاد إثارة الشفقة التنبيه على أن المعتدى عليهم خلق ضعاف بقوله ( ضعافا ) ثم أعقب بالرجوع إلى الغرض المنتقل منه وهو حفظ أموال اليتامى بالتهديد على أكله بعذاب الآخرة بعد التهديد بسوء الحال في الدنيا.
فيفهم من الكلام تعريض بالتهديد بأن نصيب أبناءهم مثلما فعلوه بأبناء غيرهم والأظهر أن مفعول ( يخش ) حذف لتذهب نفس السامع في تقديره كل مذهب محتمل فينظر كل سامع بحسب الأهم عنده مما يخشاه أن يصيب ذريته
وجملة ( لو تركوا ) إلى ( خافوا عليهم ) صلة الموصول وجملة ( خافوا عليهم ) جواب ( لو )(20/156)
وجيء بالموصول لأن الصلة لما كانت وصفا مفروضا حسن التعريف بها إذ المقصود تعريف من هذه حاله وذلك كاف في التعريف للمخاطبين بالخشية إذ كل سامع يعرف مضمون هذه الصلة لو فرض حصولها له إذ هي أمر يتصوره كل الناس
ووجه اختيار ( لو ) هنا من بين أدوات الشرط أنها هي الأداة الصالحة لفرض الشرط من غير تعرض لإمكانه فيصدق معها الشرط المتعذر الوقوع والمستبعده والممكنه : فالذين بلغوا اليأس من الولادة ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم يدخلون في فرض هذا الشرط لأنهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم والذين لهم أولاد صغار أمرهم أظهر
وفعل ( تركوا ) ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول كقوله تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم ) وقوله تعالى ( لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) وقول الشاعر :
إلى ملك الجبال لفقده...
تزول زوال الراسيات من الصخر أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت.
فالمعنى : لو شارفوا أن يتركوا ذرية ضعافا لخافوا عليهم من أولياء السوء
صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام والمخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة : من الأوصياء ومنن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهم ويحرمون صغار اخوتهم أو أبناء اخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم كل أولئك داخل في الأمر بالخشية والتخويف بالموعظة ولا يتعلق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قوله ( فارزقوهم منه ) لأن تلك الجملة وقعت كالاستطراد ولأنه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف(20/157)
وفي الآية ما يبعث الناس كلهم على أن يبغضوا للحق من الظلم وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء إليهم لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك وأن يأكل قويهم ضعيفهم فإن اعتياد السوء ينسي الناس شناعته ويكسب النفوس ضراوة على عمله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 41 ـ 42}
فصل
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" : قرىء ضعفاء ، وضعافى ، وضعافى : نحو سكارى وسكارى.
قال الواحدي : قرأ حمزة {ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} بالإمالة فيهما ثم قال : ووجه إمالة ضعاف أن ما كان على وزن فعال ، وكان أوله حرفا مستعلياً مكسوراً نحو ضعاف ، وغلاب ، وخباب ، يحسن فيه الإمالة ، وذلك لأنه تصعد بالحرف المستعلي ثم انحدر بالكسرة ، فيستحب أن لا يتصعد بالتفخيم بعد الكسر حتى يوجد الصوت على طريقة واحدة ، وأما الإمالة في {خَافُواْ} فهي حسنة لأنها تطلب الكسرة التي في خفت ، ثم قال : {فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} وهو كالتقرير لما تقدم ، فكأنه قال : فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره والاحتياط فيه ، وليقولوا قولا سديدا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل وعمل ، والقول السديد هو العدل والصواب من القول.
قال صاحب "الكشاف" : القول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب وإذا خاطبوهم قالوا يا بني ، يا ولدي ، والقول السديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا : إذا أردت الوصية لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك ، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد والقول السديد من الورثة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون ، أن يلطفوا القول لهم ويخصوهم بالإكرام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 162}(20/158)
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } السديد : العدل والصواب من القول ؛ أي مُرُوا المريض بأن يُخرج من ماله ما عليه من الحقوق الواجبة ، ثم يوصي لقرابته بقدر ( مّا ) لا يضر بورثته الصغار.
وقيل : المعنى قولوا للميت قولاً عدلاً ، وهو أن يلقِّنه بلا إله إلا الله ، لا يأمره بذلك ، ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمع منه ويتلقّن.
هكذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " ولم يقل مُروهم ؛ لأنه لو أمر بذلك لعله يغضب ويجحد.
وقيل : المراد اليتيم ؛ أن لا ينهروه ولا يستخفوا به. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 52 ـ 53}
قال أبو السعود ولله دره :
{ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } أمرهم بالتقوى التي هي غايةُ الخشيةِ بعد ما أمرهم بها مراعاةً للمبدأ والمنتهى إذ لا نفعَ للأول بدون الثاني ، . ثم أمرهم بأن يقولوا لليتامى مثلَ ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحُسنِ الأدبِ ، أو للمريض ما يصُده عن الإسراف في الوصية وتضييعِ الورثةِ يذكّره التوبةَ وكلمةَ الشهادةِ أو لحاضري القسمةِ عذراً ووعداً حسناً أو يقولوا في الوصية ما لا يؤدّي إلى تجاوز الثلث. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 148}(20/159)
قال الآلوسى :
{ وَلِيَقُولُواْ } لليتامى أو للمريض أو لحاضري القسمة ، أو ليقولوا في الوصية { قَوْلاً سَدِيداً } فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال ، ويقول عائد المريض ما يذكره التوبة والنطق بكلمة الشهادة وحسن الظن بالله ، وما يصده عن الإشراف بالوصية وتضييع الورثة ، ويقول الوارث لحاضر القسمة ما يزيل وحشته ، أو يزيد مسرته ويقول الموصي في إيصائه ما لا يؤدي إلى تجاوز الثلث ، والسديد على ما قال الطبرسي المصيب العدل الموافق للشرع ، وقيل : ما لا خلل فيه ، ويقال سدّ قوله يسدّ بالكسر إذا صار سديداً ، وأنه ليسد في القول فهو مسدّ إذا كان يصيب السداد أي القصد ، وأمر سديد وأسد أي قاصد ، والسداد بالفتح الاستقامة والصواب ، وكذلك السدد مقصور منه ، وأما السداد بالكسر فالبلغة وما يسد به ، ومنه قولهم : فيه سداد من عوز قاله غير واحد وفي "درّة الغواص في أوهام الخواص" أنهم يقولون : سداد من عوز فيفتحون السين وهو لحن والصواب الكسر ، وتعقبه ابن بَرِّي بأنه وهم فإن يعقوب بن السكيت سوى بين الفتح والكسر في "إصلاح المنطق" في باب فعال وفعال بمعنى واحد ، فقال : يقال سداد من عوز وسداد ، وكذا حكاه ابن قتيبة في "أدب الكاتب" ؛ وكذا في "الصحاح" إلا أنه زاد والكسر أفصح ، نعم ذكر فيها أن سداد القارورة وسداد الثغور بالكسر لا غير ، وأنشد قول العرجي :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا...
ليوم كريهة ( وسداد ) ثغر فليحفظ. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 214}(20/160)
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله ( فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) فرع الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين : لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة اعتبر كالحاصل فصح التفريع عليه والمعنى : فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 42}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قرأ الجمهور بسكون اللاَّم في الأفعال الثَّلاَثَةِ وهي لام الأمر ، والفعل بعدها مجزومٌ بها ، وقرأ الحَسَنُ وعيسى بْنُ عُمَرَ بكسر اللامِ في الأفْعَالِ الثَّلاثة وهو الأصل ، والإسكان تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل ، فإنهم شَبَّهوا " وليخش " بـ " كَيف " وهذا ما تَقَدَّمَ الكلام في نحو : " وهْيَ " و" لَهْي " في أول البقرة.
قال القرطبي : حذفت الألف من { وَلْيَخْشَ } للجزم بالأمر ، ولا يجوز عند سِيبَويْه إضمار لام الأمر قياساً على حروف الجرّ إلاّ ضرورة شعر ، وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم.
وأنشدوا : [ الوافر ]
مُحَمَّدُ تَفِدُ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ... إذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيءٍ تَبَالاَ
أراد لتفد وهو مفعل " يخشى " محذوف لدلالة الكلام عليه ، و" لو " هذه فيها احتمالان :
أحدهما : أنَّهَا على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أو حرف امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين.
والثَّانِي : أنَّهَا بمعنى " إن " الشَّرطية وإلى الاحتمال الأوَّل ذهب ابْنُ عطيّة والزَّمخشري.
قال الزَّمخشريُّ : فإن قلت ما معنى وقوع { لَوْ تَرَكُواْ } وجوابه صلة لـ " الذين " قلت : معناه : وليخش الَّذِينَ صفتهم وحالهم أنَّهم لو شارفوا أن يتركوا خَلْفَهُمْ ذريّة ضِعافاً ، وذلك عند احتضارهم خَافُوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل : [ الوافر ](20/161)
لَقَدْ زَادَ الحَيَاةَ إليَّ حُبّاً... بَنَاتِي إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
أُحَاذِرُ أنْ يَرَيْنَ البُؤسَ بَعْدِي... وَأنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِي
وقال ابن عطية تقديره : لو تركوا لخَافُوا ، ويجوزُ حذف اللام من جواب " لو " ووجه التمسك بهذه العبارة أنَّهُ جعل اللامَ مقدَّرَةً في جوابها ، ولو كانت " لَوْ " يمتنع بها الشَّيء لامتناع غيره ، و" خَافُوا " جوابُ " لَوْ ".
وإلى الاحتمال الثَّانِي ذهب أبو البقاءِ وابنُ مَالِكٍ : " لو " هنا شرطية بمعنى " إنْ " فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال ، والتَّقدير : وليخش الذين إنْ تركوا ولو وقع بعد " لو " هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بَعْدَ " إنْ " وأنشد : [ الكامل ]
لاَ يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إلاَّ مُظْهِراً... خُلُقَ الكِرَام وَلَوْ تَكُونُ عَدِيماً
أي : وإنْ تكن عديماً ، ومثلُ هذا البيت قول الآخر : [ البسيط ]
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ... دُونَ النَّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بأطْهَارِ
والَّذي ينبغي أن تكون على بابها كونها تعليقاً في الماضي ، وَإِنَّمَا حمل ابْنُ مالك ، وَأبَا البقاء على جَعْلِها بمعنى " إنْ " توهُّمُ أنَّهُ لَمَّا أمر بالخشيةِ - والأمرُ مستقبل ومتعلِّقُ الأمر موصول لم يصحّ أن تكون الصِّلةُ ماضية على تقدير دلالته على العدم الذي ينافي امتثالَ الأمر ، وحَسَّنَ مكانَ " لو " لفظ " إنْ " ولأجل هذا التوهُّم لم يُدْخل الزمخشري " لَوْ " على فعل مستقبل ، بل أتى بفعل ماضٍ مسندٍ للموصول حالةَ الأمر فقال : " وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا ".
(20/162)
قال أبُو حَيَّان : " وهذا الَّذي تَوهَّموه لا يلزم ، إلاَّ كانت الصِّلةُ ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل ، إذا معنى " لو تركوا من خلفهم " أي : ماتوا فتركوا من خلفهم ، فلو كان كذلك للزم التَّأويلُ في " لَوْ " أن تكون بمعنى " إنْ " إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل مَنْ مات بالفعل ، فَإذَا كَانَ مَاضياً على تقدير فَيَصِحُّ أن يقع صِلَةً وأن يكون العاملُ في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك : ليزرْنَا الذي لو مات أمسِ لبكيناه ". انتهى.
وَأمَّا البيتان المتقدّمان فلا يلزمُ من صِحَّةِ جَعْلِهَا فيهما بمعنى " إنْ " أنْ تكن في الآية كذلك ؛ لأنَّا في البيتين نضطر إلى ذلك ، أمَّا البيتُ الأوَّلُ فلأن جواب " لو " محذوف مدلولٌ عليه بقوله : " لا يلفك " وهو نَهْيٌ ، والنًّهْيُ مستقبلٌ فلذلك كانت " لَوْ " تعليقاً في المستقبل.
وأمَّا البيت الثَّاني فلدخول ما بعدها في حَيزِ " إذا " ، و" إذا " للمستقبل. ومفعول { وَلْيَخْشَ } محذوفٌ أي : وليخش الله.
ويجوز أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُع فإنَّ { وَلْيَخْشَ } يطلبُ الجلالة ، وكذلك { فَلْيَتَّقُواّ } فيكون من إعمال الثَّاني للحذف من الأوَّلِ.
قوله : { مِنْ خَلْفِهِمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ متعلِّقٌ بـ " تَرَكُوا " ظرفاً له.
والثَّاني : أنَّه مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنَّه حالٌ من " ذرية " ؛ لأنَّه في الأصل صفة نكرة قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً.
قوله : { ضِعَافاً } ، أمال حمزة : ألف { ضِعَافاً } ولم يبال بحرف الاستعلاء لانكساره ففيه انحدارٌ فلم ينافِِ الإمالَة.
(20/163)
وقرأ ابن مُحَيْصِنٍ " ضُعُفاً " بضمِّ الضَادِ والعين وتنوين الفاء ، والسُّلمي وعائشة " ضعفاء " بضم الضاد وفتح العين والمد ، وهو جمع مَقِيسٌ في فعيل صفةً نحو : ظَرِيفٍ وَظُرَفاء وكَرِيم وكرماء ، وقرئ " ضَعافَى " بالفتح والإمالة نحو : سَكَارى ، وظاهر عبارةِ الزَِّمشري أنَّه قُرِئَ " ضُعافى " بضمِّ الضَّادِ مثل سُكارى فَإِنَّهُ قال : " وقُرِئَ ضُعَفَاء ، وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى " فيحتمل أنْ يريد أنَّه قُرِئَ بضمّ الضَّادِ وفتحها ، ويحتمل أن يُرِيدَ أنََّهُ قُرِئَ " ضَعافى " بفتح الضَّاد دونً إمَالَةٍ ، و" ضَعافَى " بفتحها مع الإمالة [ كَسَكارى بفتح اسلين دون إمالة ، وسكارى بفتحها مع الإمالة ] ، والظَّاهِرُ الأوَّلُ ، والغالب على الظَّنِّ أنَّهَا لم تُنْقل قراءة.
قوله : { خَافُواْ عَلَيْهِمْ }. أمَالَ حمزةُ ألف " خَافُوا " للكسرة المقدَّرَةِ في الألف ، إذ الأصل " خَوِفَ " بكسر العين ؛ بدليلِ فتحها في المُضَارعِ نحو : " يَخَافُ ".
وعلَّل أبو البَقَاءِ وغيره ذلك بأنَّ الكَسْرَ قد يَعْرِض في حال من الأحوال وذلك إذَا أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّم ، أو إحدى أخواته : خِفْت وخِفْنَا ، والجملةُ من " لَوْ " وجوابها صلةُ " الَّذينَ ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 198 ـ 202}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)}
بَيَّن في هذه الآية أن الذي ينبغي للمسلم أن يدخره لعياله التقوى والصلاح لا المال ؛ لأنه لم يقل فليجمعوا المال وليكثروا لهم العقار وليخلفوا الأثاث بل قال : { فَلْيَتَّقُوا اللهَ } فإنه يتولى الصالحين. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 316}(20/164)
قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما طال التحذير والزجر والتهويل في شأن اليتامى ، وكان ذلك ربما أوجب النفرة من مخالطتهم رأساً فتضيع مصالحهم ؛ وصل بذلك ما بين أن ذلك خاص بالظالم في سياق موجب لزيادة التحذير فقال مؤكداً لما كان قد رسخ في نفوسهم من الاستهانة بأموالهم : {إن الذين} ولما كان الأكل أعظم مقاصد الإنسان عبر به عن جميع الأغراض فقال : {يأكلون أموال اليتامى ظلماَ} أي أكلاً هو في غير موضعه بغير دليل يدل عليه ، فهو كفعل من يمشي في الظلام ، ثم أتبعه ما زاده تأكيداً بالتحذير في سياق الحصر فقال : {إنما يأكلون} أي في الحال وصور الأكل وحققه بقوله : {في بطونهم ناراً} أي تحرق المعاني الباطنية التي تكون بها قوام الإنسانية وبين أنها على حقيقتها في الدنيا ولكنا لا نحسها الآن لأنها غير النار المعهودة في الظاهر بقوله - مكرراً التحذير مبيناً بقراءة الجماعة بالبناء للفاعل أنهم يلجؤون إليها إلجاء يصيّرهم كأنهم يدخلونها بأنفسهم : {وسيصلون} أي في الآخرة - بوعيد حتم لا خلف فيه {سعيراً} أي عظيماً هو نهاية في العظمة ، وذلك هو معنى ابن عامر وعاصم بالبناء للمجهول ، أي يلجئهم إلى صليها ملجىء قاهر لا يقدرون على نوع دفاع له. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 219}(20/165)
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى أكد الوعيد في أكل مال اليتيم ظلما ، وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك ، كقوله : {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [ النساء : 2 ] {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا} [ النساء : 9 ] ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد من يأكل أموالهم ، وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة ، وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله ، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 162}
فائدة
قال الفخر :
دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم ، وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة ، وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 162}
فصل
قال الفخر :
قوله : {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} فيه قولان :
الأول : أن يجري ذلك على ظاهره قال السدي : إذا أكل الرجل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأذنيه وعينيه ، يعرف كل من رآه أنه أكل مال اليتيم.
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليلة أسرى بي رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء : فقال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ".(20/166)
والقول الثاني : أن ذلك توسع ، والمراد : أن أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث إنه يفضي إليه ويستلزمه ، وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر ، كقوله تعالى : {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [ الشورى : 40 ] قال القاضي : وهذا أولى من الأول لأن قوله : {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} الاشارة فيه إلى كل واحد ، فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 162 ـ 163}
فائدة
قال ابن الجوزى :
وقد توهم قومٌ لا علم لهم بالتفسير وفقهه ، أن هذه الآية منسوخة ، لأنهم سمعوا أنها لما نزلت ، تحرج القوم عن مخالطة اليتامى ، فنزل قوله : { وإِن تخالطوهم فإخوانكم } [ البقرة 220 ] وهذا غلط ، وإِنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإِصلاح ، لا على إِباحة الظلم. أ هـ {زاد المسير حـ 2 صـ 24}
سؤال : لقائل أن يقول : الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله : {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } ؟.
وجوابه : أنه كقوله : {يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِم} [ آل عمران : 167 ] والقول لا يكون إلا بالفهم ، وقال : {ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور} [ الحج : 46 ] والقلب لا يكون إلا في الصدر ، وقال : {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [ الأنعام : 38 ] والطيران لا يكون إلا بالجناح ، والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 163}
فائدة
قال الفخر :
إنه تعالى وإن ذكر الأكل إلا أن المراد منه كل أنواع الإتلافات ، فإن ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل ، أو بطريق آخر ، وإنما ذكر الأكل وأراد به كل التصرفات المتلفة لوجوه :(20/167)
أحدها : أن عامة مال اليتيم في ذلك الوقت هو الأنعام التي يأكل لحومها ويشرب ألبانها.
فخرج الكلام على عادتهم.
وثانيها : أنه جرت العادة فيمن أنفق ماله في وجوه مراداته خيرا كانت أو شرا ، أنه يقال : إنه أكل ماله.
وثالثها : أن الأكل هو المعظم فيما يبتغي من التصرفات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 163}
فصل
قال الفخر :
قالت المعتزلة : الآية دالة على وعيد كل من فعل هذا الفعل ، سواء كان مسلما أو لم يكن ؛ لأن قوله تعالى : {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} عام يدخل فيه الكل فهذا يدل على القطع بالوعيد وقوله : {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} يوجب القطع على أنهم إذا ماتوا على غير توبة يصلون هذا السعير لا محالة ، والجواب عنه قد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون هذا الوعيد مخصوصا بالكفار لقوله تعالى : {والكافرون هُمُ الظالمون} [ البقرة : 254 ] ثم قالت المعتزلة : ولا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد أكل اليسير من ماله لأن الوعيد مشروط بأن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم من تلك المعصية ، وإذا كان كذلك ، فالذي يقطع على أنه من أهل الوعيد من تكون معصيته كبيرة ولا يكون معها توبة ، فلا جرم وجب أن يطلب قدر ما يكون كثيرا من أكل ماله ، فقال أبو علي الجبائي : قدره خمسة دراهم لأنه هو القدر الذي وقع الوعيد عليه في آية الكنز في منع الزكاة ، هذا جملة ما ذكره القاضي ، فيقال له : فأنت قد خالفت ظاهر هذا العموم من وجهين أحدهما : أنك زدت فيه شرط عدم التوبة.(20/168)
والثاني : أنك زدت فيه عدم كونه صغيرا ، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو ؟ أقصى ما في الباب أن يقال : ما وجدنا دليلا يدل على حصول العفو ، لكنا نجيب عنه من وجهين : أحدهما : أنا لا نسلم عدم دلائل العفو ، بل هي كثيرة على ما قررناه في سورة البقرة.
والثاني : هب أنكم ما وجدتموها لكن عدم الوجدان لا يفيد القطع بعدم الوجود ، بل يبقى الاحتمال ، وحينئذ يخرج التمسك بهذه الآية من إفادة القطع والجزم ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 163 ـ 164}
فصل
قال القرطبى :
وهذه آية من آيات الوعيد ، ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب.
والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت ؛ بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون ، فكأن هذا جمع بين الكتاب والسنة ، لئلا يقع الخبر فيهما على خلاف مَخبره ، ساقطٌ بالمشيئة عن بعضهم ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ].
وهكذا القول في كل ما يرد عليك من هذا المعنى.
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدرِيّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمّا أهل النار الذين هم أهلها فيها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فَحْماً أُذِنَ بالشفاعة فجيء بهم ضَبَائِرَ ضَبَائِر فبُثُّوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفِيضوا عليهم فينبُتُون كما تنْبُت الحبّة في حَمِيل السّيلِ " فقال رجل من القوم كأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ( يرعى ) بالبادية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 54}(20/169)
فائدة
قال الفخر :
إنه تعالى ذكر وعيد مانعي الزكاة بالكي فقال : {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [ التوبة : 35 ] وذكر وعيد آكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار ، ولا شك أن هذا الوعيد أشد ، والسبب فيه أن في باب الزكاة الفقير غير مالك لجزء من النصاب ، بل يجب على المالك أن يملكه جزأ من ماله ، أما ههنا اليتيم مالك لذلك المال فكان منعه من اليتيم أقبح ، فكان الوعيد أشد ، ولأن الفقير قد يكون كبيرا فيقدر على الاكتساب ، أما اليتيم فإنه لصغره وضعفه عاجز فكان الوعيد في إتلاف ماله أشد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 164}
قوله تعالى {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم {وَسَيَصْلَوْنَ} بضم الياء ، أي يدخلون النار على ما لم يسم فاعله ، والباقون بفتح الياء قال أبو زيد يقال : صلى الرجل النار يصلاها صلى وصلاء ، وهو صالي النار ، وقوم صالون وصلاء قال تعالى : {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} [ الصافات : 163 ] وقال : {أولى بِهَا صِلِيّاً} [ مريم : 70 ] وقال : {جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} [ إبراهيم : 29 ، ص : 56 ، المجادلة : 8 ] قال الفراء : الصلي : اسم الوقود وهو الصلاء إذا كسرت مدت ، وإذا فتحت قصرت ، ومن ضم الياء فهو من قولهم : أصلاه الله حر النار اصلاء.
قال : {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} [ النساء : 30 ] وقال تعالى : {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [ المدثر : 26 ] قال صاحب "الكشاف" : قرىء {سيصلون} بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 164}(20/170)
فائدة
قال الفخر :
السعير : هو النار المستعرة يقال : سعرت النار أسعرها سعراً فهي مسعورة وسعير ، والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة ، وإنما قال : {وَسَيَصْلَوْنَ} لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 164}
لطيفة
قال أبو حيان :
وعبر بالصلا بالنار عن العذاب الدائم بها ، إذ النار لا تذهب ذواتهم بالكلية ، بل كما قال : { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية.
وجاء يأكلون بالمضارع دون سين الاستقبال ، وسيصلون بالسين ، فإن كان الأكل للنار حقيقة فهو مستقبل ، واستغنى عن تقييده بالسين بعطف المستقبل عليه.
وإن كان مجازاً فليس بمستقبل ، إذ المعنى : يأكلون ما يجر إلى النار ويكون سبباً إلى العذاب بها.
ولما كان لفظ نار مطلقاً في قوله : إنما يأكلون في بطونهم ناراً ، قيد في قوله سعيراً ، إذ هو الجمر المتقد. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 187 ـ 188}
فصل
قال الفخر :
روي أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية ، فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى : {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم} [ البقرة : 220 ] ومن الجهال من قال : صارت هذه الآية منسوخة بتلك ، وهو بعيد لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا ، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كان على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الاثم كما في هذه الآية ، وإن كان على سبيل التربية والاحسان فهو من أعظم أبواب البر ، كما في قوله : {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم} ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 164}(20/171)
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}
جملة معترضة تفيد تكرير التحذير من أكل مال اليتامى ، جرّتهُ مناسبة التعرّض لقسمة أموال الأموات ، لأنّ الورثة يكثر أن يكون فيهم يتامى لكثرة تزوّج الرجال في مدّة أعمارهم ، فقلّما يخلو ميِّت عن ورثة صغار ، وهو مؤذن بشدّة عناية الشارع بهذا الغرض ، فلذلك عاد إليه بهذه المناسبة.
وقوله : { ظلماً } حال من { يأكلون } مقيِّدة ليخرج الأكلُ المأذون فيه بمثل قوله : { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } [ النساء : 6 ] ، فيكون كقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ النساء : 29 ].
ثم يجوز أن يكون ( نارا ) من قوله : { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } مراداً بها نار جهنّم ، كما هو الغالب في القرآن ، وعليه ففِعْلُ { يأكلون } ناصب ( ناراً ) المذكور على تأويل يأكلون ما يفضي بهم إلى النار ، فأطلق النار مجازاً مرسلاً بعلاقة الأَوْل أو السببية أي ما يفضي بهم إلى عذاب جهنّم ، فالمعنى أنّهم حين يأكلون أموال اليتامى قد أكلوا ما يفضي بهم إلى جهنّم.
وعلى هذا فعطف جملة : { وسيصلون سعيراً } عَطْف مرادف لمعنى جملة { يأكلون في بطونهم ناراً }.(20/172)
ويجوز أن يكون اسم النار مستعاراً للألم بمعنى أسباب الألم فيكون تهديداً بعذاب دنيوي أو مستعاراً للتلف لأنّ شأن النار أن تلتهم ما تصيبه ، والمعنى إنّما يأخذون أموالاً هي سبب في مصائب تعتريهم في ذواتهم وأموالهم كالنار إذا تدنو من أحد فتؤلمه وتتلف متاعه ، فيكون هذا تهديداً بمصائب في الدنيا على نحو قوله تعالى : { يمحق اللَّه الربا } [ البقرة : 276 ] ويكون عطف جملة { وسيصلون سعيراً } جارياً على ظاهر العطف من اقتضاء المغايرة بين المتعاطفين ، فالجملة الأولى تهديد بعذاب في الدنيا ، والجملة الثانية وعيد بعذاب الآخرة.
وذِكْرُ { في بطونهم } على كلا المعنيين مجرّد تخييل وترشيح لاستعارة { يأكلون } لمعنى يأخذون ويستحوذون.
والسين في { سيصلون } حرف تنفيس أي استقبال ، أي أنها تدخل على المضارع فتمحّضه للاستقبال ، سوءا كان استقبالاً قريباً أو بعيداً ، وهي مرادفة سوف ، وقيل : إنّ سوف أوسع زمانا.
وتفيدان في مقام الوعد تحقيقَ الوعد وكذلك التوعّد.
ويَصْلَوْن مضارع صَلِي كرضي إذا قاسى حرّ النار بشدّة ، كما هنا ، يقال : صلى بالنار ، ويكثر حذف حرف الجرّ مع فعل صَلي ونصب الاسم بعده على نزع الخافض ، قال حُمَيْد بن ثور :
لا تَصْطَلي النارَ إلاّ يَجْمَرا أَرجَا...
قد كسَّرَت مِن يلجوج له وَقَصَا
وهو الوارد في استعمال القرآن باطراد.
وقرأ الجمهور : وسيَصلونَ بفتح التحتية مضارع صَلي ، وقرأه ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية مضارع أصلاه إذا أحرقه ومبنيا للنائب.
{ والسعير } النار المسعَّرة أي الملتهبة ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، بني بصيغة المجرّد ، وهو من المضاعف ، كما بنى السميع من أَسْمَع ، والحكيم من أَحْكم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 42 ـ 44}(20/173)
ومن فوائد ابن عطية فى الآية
قال رحمه الله :
قال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء والصغار ، ويأكلون أموالهم ، وقال أكثر الناس : نزلت في الأوصياء الذي يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم ، وهي تتناول كل آكل وإن لم يكن وصياً ، وسمي آخذ المال على كل وجوهه آكلاً لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر الإتلاف للأشياء ، وفي نصه على البطون من الفصاحة تبيين نقصهم ، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخرق ، من التهافت بسبب البطن ، وهو أنقص الأسباب وألأمها حتى يدخلوا تحت الوعيد بالنار ، و{ ظلماً } معناه : ما جاوز المعروف مع فقر الوصي ، وقال بعض الناس : المعنى أنه لما يؤول أكلهم للأموال إلى دخولهم النار قيل : { يأكلون } النار ، وقالت طائفة : بل هي حقيقة أنهم يطعمون النار ، وفي ذلك أحاديث ، منها حديث أبي سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به ، قال ، رأيت أقواماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار ، تخرج من أسافلهم ، قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ، وقرأ جمهور الناس " وسيَصلون " على إسناد الفعل إليهم ، وقرأ ابن عامر بضم الياء واختلف عن عاصم ، وقرأ أبو حيوة ، و" سيُصلُون " بضم الياء واللام ، وهي ضعيفة ، والأول أصوب ، لأنه كذلك جاء في القرآن في قوله : { لا يصلاها إلا الأشقى } [ الليل : 16 ] وفي قوله : { صال الجحيم } [ الصافات : 163 ] والصلي هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها ، ومنه قول الحارث بن عباد :
لم أكن من جناتها ، علم الله... وإني بحرِّها اليوم صال(20/174)
والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس بصال إلا في بدء أمره ، وأهل جهنم لا تذهبهم فهم فيها صالون ، " والسعير " : الجمر المشتعل ، وهذه آية من آيات الوعيد ، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة ، لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره ، ساقط بالمشيئة عن بعضهم ، وتلخيص الكلام في المسألة : أن الوعد في الخير ، والوعيد في الشر ، هذا عرفهما إذا أطلقا ، وقد يستعمل الوعد في الشر مقيداً به ، كما قال تعالى : { النار وعدها الله ، الذين كفروا } [ الحج : 72 ] فقالت المعتزلة : آيات الوعد كلها في التائبين والطائعين ، وآيات الوعيد في المشركين والعصاة بالكبائر ، وقال بعضهم : وبالصغائر ، وقالت المرجئة : آيات الوعد كلها فيمن اتصف بالإيمان الذي هو التصديق ، كان من كان من عاص أو طائع ، وقلنا أهل السنة والجماعة : آيات الوعد في المؤمنين الطائعين ومن حازته المشيئة من العصاة ، وآيات الوعيد في المشركين ومن حازه الإنفاذ من العصاة ، والآية الحاكمة بما قلناه قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لما يشاء } [ النساء : 48 و116 ] فإن قالت المعتزلة لمن يشاء يعني التائبين ، رد عليهم بأن الفائدة في التفضيل كانت تنفسد ، إذ الشرك أيضاً يغفر للتائب ، وهذا قاطع بحكم قوله { لمن يشاء } بأن ثم مغفوراً له وغير مغفور ، واستقام المذهب السني. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 2 صـ 14 ـ 15}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة.
الطباق في : واحدة وزوجها ، وفي غنياً وفقيراً ، وفي : قل أو كثر.(20/175)
والتكرار في : اتقوا ، وفي : خلق ، وفي : خفتم ، وأن لا تقسطوا ، وأن لا تعدلوا من جهة المعنى ، وفي اليتامى ، وفي النساء ، وفي فادفعوا إليهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ، وفي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، وفي قوله : وليخش ، وخافوا من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين ، وإطلاق اسم المسبب على السبب في : ولا تأكلوا وشبهه لأن الأخذ سبب للأكل.
وتسمية الشيء باسم ما كان عليه في : وآتوا اليتامى ، سماهم يتامى بعد البلوغ.
والتأكيد بالاتباع في : هنيئاً مريئاً وتسمية الشيء باسم ما يؤول اليه في : نصيب مما ترك ، وفي ناراً على قول من زعم أنها حقيقة.
والتجنيس المماثل في : فادفعوا فإذا دفعتم ، والمغاير في : وقولوا لهم قولاً.
والزيادة للزيادة في المعنى في : فليستعفف.
وإطلاق كل على بعض في : الأقربون ، إذ المراد أرباب الفرائض.
وإقامة الظرف المكاني مقام الزماني في : من خلفهم ، أي من بعد وفاتهم.
والاختصاص في : بطونهم ، خصها دون غيرها لأنها محل للمأكولات.
والتعريض في : في بطونهم ، عرض بذكر البطون لحسنهم وسقوط هممهم والعرب تذم بذلك قال :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها . . .
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وتأكيد الحقيقة بما يرفع احتمال المجاز بقوله : في بطونهم.
رفع المجاز العارض في قوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } وهذا على قول من حمله على الحقيقة ، ومن حمله على المجاز فيكون عنده من ترشيح المجاز ، ونظير كونه رافعاً للمجاز قوله : { يطير بجناحيه } وقوله : { يكتبون الكتاب بأيديهم } والحذف في عدة مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 188}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { ظُلْماً } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مفعول من أجله ، وشروط النصب موجودة.(20/176)
الثاني : أنَّهُ مصدرٌ في محلِّ نَصْب على الحَالِ أي : يأكُلُونَهُ ظالمين والجملة من قوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ } هذه الجملة في محل رفع لـ " إنَّ " ، وفي ذلك خلاف.
قال أبُو حيان : وَحَسَّنَه هنا وقوعُ [ اسم ] " أن " موصولاً فطال الكلامُ بصلة الموصول فلما تباعد ما بينهما لم يُبَالِ بذلك ، وهذا أحْسَنُ من قولك : " إنَّ زيداً إنَّ أبَاهُ منطلق " ، ولقائلٍ أن يقول : ليس فيها دلالة على ذلك ؛ لأنها مكفوفة بـ " ما " ومعناها الحصرُ فصارت مثل قولك ، في المعنى : " إنَّ زيداً ما انطلق إلاَّ أبوه " وهو محل نظر.
قوله : { فِي بُطُونِهِمْ } فيه وجهان : أحدهما : انَّهُ مُتَعَلِّقٌ بـ { يَأْكُلُونَ } أي : بطونُهم أوْعِيَةٌ للنَّارِ ، إمَّا حَقِيقَةً : بأنْ يَخلق اللهُ لهم ناراً يأكلونَهَا في بُطُونِهِم ، أوْ مَجَازاً بِأنْ أطْلِقَ المُسَبِّبَ وأرادَ السبب لكونه يُفْضِي إلَيْهِ ويستلزمه ، كما يُطْلَقُ اسْمُ أحَدِ المتلازمين على الآخَرِ كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ].
قال القاضِي : وهذا أوْلَى ؛ لأن الإشارةَ فيه إلى كُلِّ واحِدٍ.
وَالثَّاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنَّه حال مِنْ " نارا " وكان في الأصل صفة للنكرة فَلَمَّا قُدِّمَتِ انْتَصَبَتْ حَالاً.
وذكر أبُو البَقَاءِ هذا الوجه عن أبِي عَلِيٍّ في " تَذْكِرَتِهِ " ، وحكى عنه أنَّهُ منع أنْ يكون ظرفاً لـ { يَأْكُلُونَ } فَإنَّهُ قال : { فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } حال من نار ، أي : نَارٌ كَائِنَةٌ في بُطُونِهِمْ ، وليس بِظَرْفٍ لـ { يَأْكُلُونَ } ذكره في التَّذْكِرَةِ ".
(20/177)
إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وفي قوله : " وَالَّذي يَخُصُّ هذا المَوْضِع " فيه نَظَرٌ ، فَإنَّهُ كما يجوزُ أن يكونَ { فِي بُطُونِهِمْ } حالاً من " نَار " هنا يجوزُ أن يكون حالاً من " النَّار " في البقرة ، وفي [ إبداء ] الفرقِ عُسْرٌ ، ولم يظهر [ منع أبي عليٍّ كَوْنَ { فِي بُطُونِهِمْ } ظرفاًَ للأكْلِ وجه ظاهر فإن قيل : الأكل لا يكون إلا ] في البَطْنِ فما فائدةُ قوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } ؟ .
فالجوابُ أنَّ المرادَ به التَّأكِيدُ والمبالغةُ كقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] والقول لا يكون إلا بالفم ، وقوله : { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] والقلبُ لا يكونُ إلاَّ في الصَّدْرِ ، وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] والطّيرانُ لا يكون إلاَّ بالنَّجَاحِ.
قوله : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } ، قرأ الجمهور بفتح الياء واللام ، وابن عامر وأبو بكرٍ بضمِّ اليَاءِ مَبْنِيّاً من الثُّلاَثِيِّ ، ويَحْتمل أنْ يكون من أصليٍّ فَلَمَّا بُنِيَ للمفعول قَامَ الأوَّلُ مقام الفَاعِلِ ، وابن أبي عبلة بضمهما مبنياً للفاعل الرُّبَاعي ، والأصل على هذه القراءة : سَيُصْلون من أصلي مثل يكرمون من أكرم ، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت ، فالتقى السَّاكنان فَحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وَضَمُّ ما قبل الواو ليصح و" أصْلَى " يُحتمل أنْ تكون الهمزةُ فيه للدُّخول في الشَّيءِ ، فَيَتَعَدَّى لواحدٍ وهو { سَعِيراً } ، وأن تكون للتَّعدية ، فالمفعول محذوف أي : يُصْلَونَ أنفْسهم سعيراً.(20/178)
وأبو حَيْوَةَ بضم الياء وفتح الصَّادِ واللاَّم مُشَدَّدَة مبنياً للمفعول من صَلَّى مضعفاً.
قال أبُو البَقَاءِ : والتّضعيفُ للتكثير.
والصَّلْي : الإيقاد بالنَّارِ ، يقال : صَلِيَ بكذا - بكسر العين - وقوله { لاَ يَصْلاَهَآ } أي : يَصْلَى بها.
وقال الخليلُ : صَلِيَ الكافرُ النَّارَ أي : قَاسَى حَرَّها وصلاه النَّارَ وَأصْلاَهُ غيرهُ ، هكذا قال الرَّاغِبُ. وظاهرُ العِبَارَةِ أنَّ فَعِلَ وَأفْعَل [ بمعنى ] ، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ ، وقد يُحْذَف.
وقال غيره : " صَلِيَ بالنَّارِ أي : تَسَخَّنَ بقربها " ف { سَعِيراً } على هذا منصوبٌ على إسقاط الخَافض. وَيَدُلُّ على أنَّ أصْلَ " يَصْلاها " يَصْلَى بها قول الشاعر : [ الطويل ]
إذَا أوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ... فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلى بِهَا وَسَعِيرِهَا
وقيل : صَلَيْتُه النَّارَ : أدْنَيْتُه منها ، فيجوزُ أنْ يكونَ منصوباً مِنْ غير إسقاطِ خافضٍ.
قال الفرَّاءُ : الصلى : اسم الوقود وهو الصّلاء إذا كسرت مدّت ، وإذا فتحت قُصِرَتْ ، ومن ضَمِّ الياء فهو من قولهم : أصْلاَهُ الله حَرَّ النَّار إصلاء ، قال : { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } [ النساء : 30 ] وقال : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [ المدثر : 26 ].
(20/179)
وقال أبو زَيْدٍ : يقال : صَلِيَ الرَّجلُ النَّارَ يَصْلاَهَا صَلًى وصلاءً ، وهُوَ صَالِي النَّارِ ، وقوم صالون وصلاء ، قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } [ الصافات : 163 ] وقال : { أولى بِهَا صِلِيّاً } [ مريم : 70 ] والسّعير في الأصل الجمر المشتعل ، وسَعَرْتُ النَّارَ أوقدتها ، ومنه : مُسْعِرُ حَرْبٍ ، على التشبيه ، والمِسْعَرُ : الآلةُ الَّتي تُحَرَّكُ بها النَّارُ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 203 ـ 205}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}
إنما تولَّى الحق سبحانه خصيمة اليتيم ، لأنه لا أحدَ لليتيم غيرُه ، وكلُّ من وَكلَ أمره إليه فَتَبَرَّأ من حوله وقوته فالحق سبحانه ينتقم له بما لا ينتقم لنفسه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 316}(20/180)
كلام نفيس للإمام الذهبى رحمه الله فى أكل مال اليتيم
قال عليه الرحمة :
قال الله تعالى : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً " . وقال الله تعالى : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعراج : " فإذا أنا برجال وقد وكل بهم رجال يفكون لحاهم وآخرون يجيئون بالصخور من النار فيقذفونها بأفواههم وتخرج من أدبارهم فقلت : يا جبريل من هؤلاء قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً. رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يبعث الله عز وجل قوماً من قبورهم تخرج النار من بطونهم تأجج أفواههم ناراً فقيل من هم يا رسول الله ؟ قال : ألم تر أن الله تعالى يقول : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً " .
وقال السدي رحمه الله تعالى : يحشر آكل مال اليتيم ظلماً يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينه كل من رآه يعرفه أنه آكل مال اليتيم.
قال العلماء : فكل ولي ليتيم إذا كان فقيراً فأكل من ماله بالمعروف بقدر قيامه عليه في مصالحه وتنمية ماله فلا بأس عليه وما زاد على المعروف فسحت حرام لقول الله تعالى " ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف " . وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال أحدها أنه الأخذ على وجه القرض والثاني الأكل بقدر الحاجة من غير إسراف والثالث أنه أخذ بقدر إذا عمل لليتيم عملاً والرابع أنه الأخذ عند الضرورة فإن أيسر قضاه وإن لم يوسر فهو في حل وهذه الأقوال ذكره ابن الجوزي في تفسيره .(20/181)
وفي البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " . وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال : " كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة " . وأشار بالسبابة والوسطى.
كفالة اليتيم هي القيام بأموره والسعي في مصالحه من طعامه وكسوته وتنمية ماله إن كان له مال وإن كان لا مال له أنفق عليه وكساه ابتغاء وجه الله تعالى وقوله في الحديث له أو لغيره أي سواء كان اليتيم قرابة أو أجنبياً منه فالقرابة مثل أن يكفله جده أو أخوه أو أمه أو عمه أو زوج أمه أو خاله أو غيره من أقاربه والأجنبي من ليس بينه وبينه قرابة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ضم يتيماً من المسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله تعالى أوجب الله له الجنة إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر " . وقال صلى الله عليه وسلم : " من مسح رأس يتيم لا يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة ومن أحسن إلى يتيم أو يتيمة عنده كنت أنا وهو هكذا في الجنة " .(20/182)
وقال رجل لأبي الدرداء رضي الله عنه : أوصني بوصية قال ارحم اليتيم وأدنه منك وأطعمه من طعامك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل يشتكي قسوة قلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أردت أن يلين قلبك فأدن اليتيم منك وامسح رأسه وأطعمه من طعامك فإن ذلك يلين قلبك وتقدر على حاجتك. ومما حكي عن بعض السلف قال كنت في بداية أمري مكباً على المعاصي وشرب الخمر فظفرت يوماً بصبي يتيم فقير فأخذته وأحسنت أليه وأطعمته وكسوته وأدخلته الحمام وأزلت شعثه وأكرمته كما يكرم الرجل ولده بل أكثر فبت ليلة بعد ذلك فرأيت في النوم أن القيامة قامت ودعيت إلى الحساب وأمر بي إلى النار لسوء ما كنت عليه من المعاصي فسحبتني الزبانية ليمضوا بي إلى النار وأنا بين أيديهم حقير ذليل يجروني سحباً إلى النار وإذا بذلك اليتيم قد اعترضني بالطريق وقال : خلوا عنه يا ملائكة ربي حتى أشفع له إلى ربي فإنه قد أحسن إلي وأكرمني. فقالت الملائكة : إنا لم نؤمر بذلك وإذا النداء من قبل الله تعالى يقول : خلوا عنه فقد وهبت له ما كان منه بشفاعة اليتيم وإحسانه إليه. قال : فاستيقظت وتبت إلى الله عز وجل وبذلت جهدي في إيصال الرحمة إلى الأيتام. ولهذا قال أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير البيوت بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر البيوت بيت فيه يتيم يساء إليه وأحب عباد الله إلى الله تعالى من اصطنع صنعاً إلى يتيم أو أرملة. وروي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يا داود كن لليتيم كالأب الرحيم وكن للأرملة كالزوج الشفيق واعلم كما تزرع كذا تحصد معناه أنك كما تفعل كذلك يفعل معك أي لا بد أن تموت ويبقى لك ولد يتيم أو امرأة أرملة. وقال داود عليه السلام في مناجاته : إلهي ما جزاء من أسند اليتيم والأرملة ابتغاء وجهك ؟ قال :
جزاؤه أن أظله في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي معناه ظل عرشي يوم القيامة.(20/183)
ومما جاء في فضل الإحسان إلى الأرملة واليتيم عن بعض العلويين وكان نازلاً ببلخ من بلاد العجم وله زوجة علوية وله منها بنات وكانوا في سعة ونعمة فمات الزوج وأصاب المرأة وبناتها بعده الفقر والقلة فخرجت ببناتها إلى بلدة أخرى خوف شماتة الأعداء واتفق خروجها في شدة البرد فلما دخلت ذلك البلد أدخلت بناتها في بعض المساجد المهجورة ومضت تحتال لهم في القوت فمرت بجمعين : جمع على رجل مسلم وهو شيخ البلد وجمع على رجل مجوسي وهو ضامن البلد. فبدأت بالمسلم وشرحت حالها له وقالت أنا امرأة علوية ومعي بنات أيتام أدخلتهم بعض المساجد المهجورة وأريد الليلة قوتهم. فقال لها : أقيمي عندي البينة إنك علوية شريفة. فقالت أنا امرأة غريبة ما في البلد من يعرفني فأعرض عنها فمضت من عنده منكسرة القلب فجاءت إلى ذلك الرجل المجوسي فشرحت له حالها وأخبرته أن معها بنات أيتام وهي امرأة شريفة غريبة وقصت عليه ما جرى لها مع الشيخ المسلم. فقام وأرسل بعض نسائه وأتوا بها وبناتها إلى داره فأطعمهن أطيب الطعام وألبسهن أفخر اللباس وباتوا عنده في نعمة وكرامة. قال فلما انتصف الليل رأى ذلك الشيخ المسلم في منامه كأن القيامة قد قامت وقد عقد اللواء على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وإذا القصر من الزمرد الأخضر شرفاته من اللؤلؤ والياقوت وفيه قباب اللؤلؤ والمرجان فقال : يا رسول الله لمن هذا القصر قال لرجل مسلم موحد. فقال يا رسول الله أنا رجل مسلم موحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقم عندي البينة أنك مسلم موحد. قال فبقي متحيراً فقال له صلى الله عليه وسلم : لما قصدتك المرأة العلوية قلت أقيمي عندي البينة إنك علوية فكذا أنت أقم عندي البينة إنك مسلم فانتبه الرجل حزينا على رده المرأة خائبة ثم جعل يطوف بالبلد ويسأل عنها حتى دل عليها أنها عند(20/184)
المجوسي فأرسل إليه فأتاه فقال له : أريد منك المرأة الشريفة العلوية وبناتها. فقال : ما إلى هذا من سبيل وقد لحقني من بركاتهم ما لحقني. قال : خذ مني ألف دينار وسلمهن إلي فقال : لا أفعل فقال : لا بد منهن. فقال : الذي تريده أنت أنا أحق به والقصر الذي رأيته في منامك خلق لي. أتدل علي بالإسلام ؟ فوالله ما نمت البارحة أنا وأهل داري حتى أسلمنا كلنا على يد العلوية ورأيت مثل الذي رأيت في منامك وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم العلوية وبناتها عندك ؟ قلت : نعم يا رسول الله قال : القصر لك ولأهل دارك وأنت وأهل دارك من أهل الجنة خلقك الله مؤمناً في الأزل. قال فانصرف المسلم وبه من الحزن والكآبة ما لا يعلمه إلا الله. فانظر رحمك الله إلى بركة الإحسان إلى الأرملة والأيتام ما أعقب صاحبه من الكرامة في الدنيا.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله " . قال الراوي أحسبه قال : " وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر " والساعي عليهم هو القائم بأمورهم ومصالحهم ابتغاء وجه الله تعالى. وفقنا الله لذلك بمنه وكرمه إنه جواد كريم رؤوف غفور رحيم. أ هـ الكبائر صـ 65 ـ 70}(20/185)
قوله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تم ذلك تشوفت النفوس إلى بيان مقادير الاستحقاق بالإرث لكل واحد ، وكان قد تقدم ذكر استحقاق الرجال والنساء من غير تقييد يتيم ، فاقتضت البلاغة بيان أصول جميع المواريث ، وشفاء العليل بإيضاح أمرها ، فقال - مستأنفاً في جواب من كأنه سأل عن ذلك مؤكداً لما أمر به منها غاية التأكيد مشيراً إلى عظمة هذا العلم بالتقدم في الإيصاء في أول آياته ، والتحذير من الضلال في آخرها ، ورغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نصف العلم ، وحذر من إضاعته بأنه أول علم ينزع من الأمة : {يوصيكم الله} أي بما له من العظمة الكاملة والحكمة البالغة ، وبدأ بالأولاد لأن تعلق الإنسان بهم أشد فقال : {في أولادكم} أي إذا مات مورثهم.
ولما كان هذا مجملاً كان بحيث يطلب تفسيره ، فقال جواباً لذلك بادئاً بالأشرف بياناً لفضله بالتقديم وجعله أصلاً والتفضيل : {للذكر} أي منهم إذا كان معه شيء من الإناث ، ولم يمنعه مانع من قتل ولا مخالفة دين ونحوه {مثل حظ الأنثيين} أي نصيب من شأنه أن يغني ويسعد ، وهو الثلثان ، إذا انفردتا فللواحدة معه الثلث ، فأثبت سبحانه للإناث حظاً تغليظاَ لهم من منعهن مطلقاً ، ونقصهن عن نصيب الرجال تعريضاً بأنهم أصابوا في نفس الحكم بانزالهن عن درجة الرجال.(20/186)
ولما بان سهم الذكر مع الأنثى بعبارة النص ، واشعر ذلك بأن لهن إرثاً في الجملة وعند الاجتماع مع الذكر ، وفُهم بحسب إشارة النص وهي ما ثبت بنظمه ، لكنه غير مقصود ، ولا سبق له النص - حكم الأنثيين إذا لم يكن معهن ذكر ، وهو أن لهما الثلثين ، وكان ذلك أيضاً مفهماً لأن الواحدة غذا كان لها مع الأخ الثلث كان لها ذلك مع الأخت إذا لم يكن ثمَّ ذكر من باب الأولى ، فاقتضى ذلك أنهن إذا كن ثلاثاً أو أكثر ليس معهم ذكر استغرقن التركة ، وإن كانت واحدة ليس معها ذكر لم تزد على الثلث ؛ بين أن الأمر ليس كذلك - كما تقدم - بقوله مبيناً إرثهن حال الانفراد : {فإن كن} أي الوارثات {نساء} أي إناثاً.
ولما كان ذلك قد يحمل على أقل الجمع ، وهو اثنتان حقيقة أو مجازاً حقق ونفى هذا الاحتمال بقوله : {فوق اثنتين} أي لا ذكر معهن {فلهن ثلثا ما ترك} أي الميت ، لا أزيد من الثلثين {وإن كانت} أي الوارثة {واحدة} أي منفردة ، ليس معها غيرها {فلها النصف} أي فقط.
ولما قدم الإيصاء بالأولاد لضعفهم إذا كانوا صغاراً ، وكان الوالد أقرب الناس إلى الولد وأحقهم بصلته وأشدهم اتصالاً به أتبعه حكمه فقال : {ولأبويه} أي الميت ، ثم فصل بعد أن أجمل ليكون الكلام آكد ، ويكون سامعه إليه أشوق بقوله مبدلاً بتكرير العامل : {لكل واحد منهما} أي أبيه وأمه اللذين ثنيا بأبوين {السدس مما ترك} ثم بين شرط ذلك فقال : {إن كان له} أي الميت {ولد} أي ذكر ، فإن كانت أنثى أخذ الأب السدس فرضاً ، والباقي بعد الفروض حق عصوبة.(20/187)
ولما بين حكمهما مع الأولاد تلاه بحالة فقدهم فقال : {فإن لم يكن له ولد} أي ذكر ولا أنثى {وورثه أبواه} أي فقط {فلأمه الثلث} أي وللأب الباقي لأن الفرض أنه لا وارث له غيرهما ، ولما كان التقدير : هذا مع فقد الإخوة أيضاً ، بني عليه قوله : {فإن كان له إخوة} أي اثنان فصاعدا ذكوراً أو لا ، مع فقد الأولاد {فلأمه السدس} أي لأن الإخوة ينقصونها عن الثلث إليه ، والباقي للأب ، ولا شيء لهم ، وأما الأخت الواحدة فإنها لا تنقصها إلى السدس سواء كانت وارثة أو لا ، وكذا الأخ إذا كان واحداً ، ثم بين أن هذا كله بعد إخراج الوصية والدين لأن ذلك سبق فيه حق الميت الذي جمع المال فقال : {من بعد وصية يوصي بها} أي كما مندوب لكل ميت ، وقدمها في الوضع على ما هو مقدم عليها في الشرع بعثاً على أدائها ، لأن أنفس الورثة تشح بها ، لكونها مثل مشاركتهم في الإرث لأنها بلا عوض {أو دين} أي إن كان عليه دين.
ولما كان الإنسان قد يرى أن بعض أقربائه من أصوله أو فصوله أو غيرهم أنفع له ، فأحب تفضيله فتعدى هذه الحدود لما رآه ، وكان ما رآه خلاف الحق في الحال أو في المآل ، وكان الله تعالى هو المستأثر بعلم ذلك ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما " الحديث لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبها كيف شاء ؛ قال تعالى حاثاً على لزوم ما حده مؤكداً بالجملة الاعتراضية - كما هو الشأن في اعتراض - لأن هذه القسمة مخالفة لما كانت العرب تفعله ، وهي على وجوه لا تدرك عللها : {أبآؤكم وأبنآؤكم} أي الذين فضلنا لكم إرثهم على ما ذكرنا {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} أي من غيره ، لأنه لا إحاطة لكم في علم ولا قدرة ، فلو وكل الأمر في القسمة إليكم لما وضعتم الأمور في أحكم مواضعها.
(20/188)
ولما بين أن الإرث على ما حده سبحانه وتعالى مؤكداً له بلفظ الوصية ، وزاده تأكيداً بما جعله اعتراضاً بين الإيصاء وبين ( فريضة ) بين أنه على سبيل الحتم الذي من تركه عصى ، فقال ذاكراً مصدراً مأخوذاً من معنى الكلام : {فريضة من الله} أي الذي له الأمر كله ، ثم زادهم حثاً على ذلك ورغبة فيه بقوله تعليلاً لفريضته عليهم مطلقاً وعلى هذا الوجه : {إن الله} أي المحيط علماً وقدرة {كان} ولم يزل ولا يزال لأن وجود لا يتفاوت في وقت من الأوقات ، لأنه لا يجري عليه زمان ، ولا يحويه مكان ، لأنه خالقهما {عليماً} أي بالعواقب {حكيماً} أي فوضع لكم هذه الأحكام على غاية الإحكام في جلب المنافع لكم ودفع الضر عنكم ، ورتبها سبحانه وتعالى أحسن ترتيب ، فإن الوارث يتصل بالميت تارة بواسطة وهو الكلالة ، وأخرى بلا واسطة ، وهذا تارة يكون بنسب ، وتارة بصهر ونسب ، فقدم ما هو بلا واسطة لشدة قربه ، وبدأ منه بالنسب لقوته ، وبدأ منهم بالولد لمزيد الاعتناء به. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 219 ـ 221}
وقال الفخر :
في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان :
الأول : أنه تعالى لما بين الحكم في مال الأيتام ، وما على الأولياء فيه ، بين كيف يملك هذا اليتيم المال بالارث ، ولم يكن ذلك إلا ببيان جملة أحكام الميراث ،
الثاني : أنه تعالى أثبت حكم الميراث بالإجمال في قوله : {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [ النساء : 7 ] فذكر عقيب ذلك المجمل ، هذا المفصل فقال : {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 165}(20/189)
وقال الآلوسى :
{ يُوصِيكُمُ الله } شروع في بيان ما أجمل في قوله عز وجل { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ } [ النساء : 7 ] الخ ، "والوصية كما قال الراغب : ألتقدم إلى الغير ما يعمل فيه مقترناً بوعظ من قولهم : أرض واصية متصلة النبات" وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه ، فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم ، وبالثاني : فسره في "القاموس" وعدل عن الأمر إلى الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب الحصول بسرعة.
{ فِى أولادكم } أي في توريث أولادكم ، أو في شأنهم وقدر ذلك ليصح معنى الظرفية ، وقيل : في بمعنى اللام كما في خبر : "إن امرأة دخلت النار في هرة" أي لها كما صرح به النحاة ، والخطاب قيل : للمؤمنين وبين المتضايفين مضاف محذوف أي يوصيكم في أولاد موتاكم لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ، وقيل : الخطاب لذوي الأولاد على معنى يوصيكم في توريثهم إذا متم وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف كما لو فسر يوصيكم بيبين لكم ، وبدأ سبحانه بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاءاً بعد المورث. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 216}
وقال ابن عاشور :
{ يُوصِيكُمُ الله فى أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثيين فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف }.
تتنزّل آية { يوصيكم الله في أولادكم } منزلة البيان والتفصيل لقوله { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 7 ] وهذا المقصد الذي جعل قوله : { للرجال نصيب } [ النساء : 7 ] إلخ بمنزلة المقدّمة له فلذلك كانت جملة : { يوصيكم } مفصولة لأنّ كلا الموقعين مقتض للفصل.(20/190)
ومن الاهتمام بهذه الأحكام تصدير تشريعها بقوله : { يوصيكم } لأنّ الوصاية هي الأمر بما فيه نفع المأمور وفيه اهتمام الآمر لشدّة صلاحه ، ولذلك سمّي ما يعهد به الإنسان ، فيما يصنع بأبنائه وبماله وبذاته بعد الموت ، وصية.
وقد رويت في سبب نزول الآية أحاديث كثيرة.
ففي "صحيح البخاري" ، عن جابر بن عبد الله : أنّه قال : "مرضت فعادني رسول الله وأبو بكر في بني سلمة فوجداني لا أعقل فدعا رسول الله بماء فتوضّأ ، ثم رشّ عليّ منه فأفقت فقلت "كيف أصنع في مالي يا رسول الله" فنزلت { يوصيكم الله في أولادكم }.
وروى الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه ، عن جابر ، قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع فقالت لرسول الله "إنّ سعداً هلك وترك ابنتين وأخاه ، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد ، وإنّما تنكح النساء على أموالهنّ" فلم يجبها في مجلسها ذلك ، ثمّ جاءته فقالت "يا رسول الله ابنتَا سعد" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ادعُ لي أخاه " فجاء ، فقال : " ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي " ونزلت آية الميراث.
بيَّن الله في هذه الآيات فروض الورثة ، وناط الميراث كلّه بالقرابة القريبة ، سواء كانت جبلّية وهي النسب ، أو قريبة من الجبلّية ، وهي عصمة الزوجية ، لأنّ طلب الذكر للأنثى جبليّ ، وكونُها المرأةَ المعيَّنة يحصل بالإلف ، وهو ناشىء عن الجبلّة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 44 ـ 45}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } بيّن تعالى في هذه الآية ما أجمله في قوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ } { وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } فدلّ هذا على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال.(20/191)
وهذه الآية ركن من أركان الدين ، وعمدة من عمد الأحكام ، وأُمّ من أُمّهات الآيات ؛ فإن الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثُلث العلم ، وروي نصفُ العلم.
وهو أوّل علم يُنزع من الناس ويُنسى.
رواه الدارقطنيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " تعلّموا الفرائض وعلِّموه الناس فإنه نصفُ العلم وهو أوّل شيء يُنسى وهو أوّل شيء يُنتزع من أُمّتي " وروي أيضاً عن عبد الله بن مسعود قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس وتعلموا العلم وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإنّ العلم سيقبض وتظهر الفِتَن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما " وإذا ثبت هذا فاعلم أن الفرائض كان جُلّ علم الصحابة ، وعظيم مناظرتهم ، ولكنّ الخلق ضيّعوه.
وقد روى مُطَرِّف عن مالك ، قال عبد الله بن مسعود : من لم يتعلم الفرائضَ والطلاق والحج فبِم يفضل أهل البادية ؟ وقال ابن وهب عن مالك : كنت أسمع ربيعة يقول : من تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها.
قال مالك : وصدق.
روى أبو داود والدارقطنيّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العلم ثلاثة وما سِوى ذلك فهو فضل : آية مُحكمةٌ أو سنّةٌ قائمة أو فريضةٌ عادلة " قال الخطّابِيّ أبو سليمان : الآية المحكمة هي كتاب الله تعالى : واشترط فيها الإحكام ؛ لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به ، وإنما يعمل بناسخه.
والسنة القائمة هي الثابتة مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من السنن الثابتة.
وقوله : " أو فريضة عادلة " يحتمل وجهين من التأويل : أحدهما أن يكون من العدل في القسمة ؛ فتكون معدّلة على الأنصباء والسهام المذكورة في الكتاب والسنة.(20/192)
والوجه الآخر أن تكون مُستنْبَطَة من الكتاب والسنة ومن معناهما ؛ فتكون هذه الفرِيضة تعدِل ما أُخذ من الكتاب والسنة إذْ كانت في معنى ما أخذ عنهما نَصّاً.
روى عِكرِمة قال : أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت يسأله عن امرأة تركت زوجها وأبويها.
قال : للزوج النصف ، وللأُمّ ثلث ما بقي.
فقال : تجده في كتاب الله أو تقوله برأي ؟ قال : أقوله برأي ؛ لا أفضل أُمّا على أبٍ.
قال أبو سليمان : فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نَصٌّ ؛ وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه ، وهو قوله تعالى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث }.
فلما وُجد نصيب الأُم الثلثُ ، وكان باقي المال هو الثلثان للأب ، قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذا لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم ؛ فقسمه بينهما على ثلاثة ، للأُمّ سهمٌ وللأب سهمان وهو الباقي.
وكان هذا أعدل في القسمة من أن يُعطي الأُمّ من النصف الباقي ثلث جميع المال ، وللأب ما بقي وهو السدس ، ففضلها عليه فيكون لها وهي مَفْضولة في أصل الموروث أكثر مما للأب وهو المقدَّم والمفضَّل في الأصل.
وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من تَوْفير الثُلث على الأُمّ ، وبَخْسِ الأبِ حقّه بردّه إلى السدس ؛ فتُرِك قوله وصار عامّة الفقهاء إلى زيد.
قال أبو عمر : وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه في زوج وأبوين : للزوج النصف ، وللأُم ثلث جميع المال ، وللأب ما بقي.
وقال في امرأة وأبوين : للمرأة الربع ، وللأُمّ ثلث جميع المال ، والباقي للأب.
وبهذا قال شريح القاضي ومحمد بن سِيرين وداود بن عليّ ، وفرقة منهم أبو الحسن محمد بن عبد الله الفرضي المصري المعروف بابن اللّبّان في المسألتين جميعاً وزعم أنه قياس قول عليّ في المشتركة وقال في موضع آخر : أنّه قد روي ذلك عن عليّ أيضاً.(20/193)
قال أبو عمر : المعروف المشهور عن عليّ وزيد وعبد الله وسائرِ الصحابة وعامّة العلماء ما رسمه مالك.
ومن الحجة لهم على ابن عباس : أن الأبوَيْن إذا اشتركا في الوراثة ، ليس معهما غيرهما ، كان للأُم الثلث وللأب الثلثان.
وكذلك إذا اشتركا في النصف الذي يفضل عن الزوج ، كانا فيه كذلك على ثلث وثلثين.
وهذا صحيح في النظر والقياس. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 55 ـ 57}. بتصرف يسير.
فصل
قال الفخر :
اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين :
أحدهما : النسب ، والآخر العهد ، أما النسب فهم ما كانوا يورثون الصغار ولا الاناث.
وإنما كانوا يورثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة ، وأما العهد فمن وجهين : الأول : الحلف ، كان الرجل في الجاهلية يقول لغيره : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، فإذا تعاهدوا على هذا الوجه فأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت ، والثاني : التبني ، فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه ، وهذا التبني نوع من أنواع المعاهدة ، ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم تركهم في أول الأمر على ما كانوا عليه في الجاهلية ، ومن العلماء من قال : بل قررهم الله على ذلك فقال : {وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [ النساء : 33 ] والمراد التوارث بالنسب.
ثم قال : {والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [ النساء : 33 ] والمراد به التوارث بالعهد ، والأولون قالوا المراد بقوله : {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} ليس المراد منه النصيب من المال ، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة وحسن العشرة ، فهذا شرح أسباب التوارث في الجاهلية.(20/194)
وأما أسباب التوارث في الإسلام ، فقد ذكرنا أن في أول الأمر قرر الحلف والتبني ، وزاد فيه أمرين آخرين : أحدهما : الهجرة ، فكان المهاجر يرث من المهاجر.
وان كان أجنبيا عنه ، إذا كان كل واحد منهما مختصا بالآخر بمزيد المخالطة والمخالصة ، ولا يرثه غير المهاجر ، وإن كان من أقاربه.
والثاني : المؤاخاة ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين منهم ، وكان ذلك سببا للتوارث ، ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله : {وَأُوْلُواْ الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله} [ الأحزاب : 6 ] والذي تقرر عليه دين الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة : النسب ، والنكاح ، والولاء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 165}
لطيفة
قال القاسمى
واستنبط بعضهم من هذه الآية أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها . حيث أوصى الوالدين بولدهما ، فعلم أنه أرحم بهم منهم ، كما جاء فى الحديث الصحيح وقد رأى امرأة من السبى ، فرق بينها وبين ولدها فجعلت تدور على ولدها ، فلما وجدته من السبى أخذته فألصقته بصدرها . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( أترون هذه طارحة ولدها في النار ) . قالوا لا يا رسول الله قال ( لله أرحم بعباده من هذه بولدها ). (1) أ هـ {محاسن التأويل حـ 3 صـ 40}
فصل فى سبب نزول الآية
قال الفخر :
روى عطاء قال : استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا ، فأخذ الأخ المال كله ، فأتت المرأة وقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ، وإن سعداً قتل وان عمهما أخذ مالهما ، فقال عليه الصلاة والسلام : " ارجعي فلعل الله سيقضي فيه " ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما وقال : " أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن وما بقي فهو لك ".
فهذا أول ميراث قسم في الإسلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 165}
وقال القرطبى :
واختلفت الروايات في سبب نزول آية المواريث ؛ فروى الترمذيّ وأبو داود وابن ماجه والدارقطنِيّ عن جابر بن عبد الله " أن امرأة سَعْد بن الربيع قالت : يا رسول الله ، إن سعداً هلك وترك بنتين وأخاه ، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد ، وإنما تنكح النساء على أموالهن ؛ فلم يجبها في مجلسها ذلك.
_________
(1) أخرجه البخارى (5653) ومسلم (2754) والبزار (287) وابن أبى الدنيا فى " حسن الظن بالله " (18) والطبرانى فى الأوسط (3035) وفى الصغير (273) والبيهقى فى شعب الإيمان (7132) و(11018) من حديث عمر بن الخطاب.(20/195)
ثم جاءته فقالت : يا رسول الله ، ابنتا سعد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ادع لي أخاه" فجاء فقال له : "ادفع إلى ابنتيْه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي" " لفظ أبي داود.
في رواية الترمذيّ وغيره : فنزلت آية المواريث.
قال : هذا حديث صحيح.
وروى جابر أيضاً قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سَلمة يمشيان ، فوجداني لا أعقل ، فدعا بماء فتوضأ ، ثم رش عليّ منه فأفقت.
فقلت : كيف أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ }.
أخرجاه في الصحيحين.
وأخرجه الترمذي وفيه "فقلت يا نبي الله كيف أقسم مالي بين ولديّ" ؟ فلم يردّ عليّ شيئاً فنزلت { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } الآية.
قال : "حديث حسن صحيح".
وفي البخاريّ عن ابن عباس : أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد ، والوصية للوالدين ؛ فنسخ ذلك بهذه الآيات.
وقال مقاتل والكلبيّ : نزلت في أُمّ كُجَّة ؛ وقد ذكرناها.
السدّي : نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حَسّان بن ثابت.
وقيل : إن أهل الجاهلية كانوا لا يورِّثون إلا من لاقَى الحروب وقاتل العدوّ ؛ فنزلت الآية تبييناً أن لكل صغير وكبير حَظّه.
ولا يبعد أن يكون جواباً للجميع ؛ ولذلك تأخر نزولها. والله أعلم.
قال الكيا الطبرِي : وقد ورد في بعض الآثار أن ما كانت الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الإسلام إلى أن نسخته هذه الآية" ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك ، بل ثبت خلافه ؛ فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد ابن الربيع.
وقيل : نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شَمّاس.
والأوّل أصح عند أهل النقل.
فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العمّ ، ولو كان ذلك ثابتاً من قبل في شرعنا ما استرجعه.
(20/196)
ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبيّ ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس ويذب عن الحرِيم.
قلت : وكذلك قال القاضي أبو بكر بن العربيّ قال : ودل نزول هذه الآية على نكتة بديعة ؛ وهو أنّ ما كانت ( عليه ) الجاهلية تفعله من أخذ المال لم يكن في صدر الإسلام شرعاً مَسْكُوتا مُقَرّاً عليه ؛ لأنه لو كان شرعاً مقراً عليه لما حكَم النبيّ صلى الله عليه وسلم على عمّ الصبيّتين بردّ ما أخذ من مالهما ؛ لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما يؤثِّر في المستقبل فلا ينقض به ما تقدّم وإنما كانت ظلامة رفعت. قاله ابن العربي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 57 ـ 59}
فصل
قال الفخر :
قال القفال : قوله : {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم} أي يقول الله لكم قولا يوصلكم إلى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم ، وأصل الايصاء هو الايصال يقال : وصى يصي إذا وصل ، وأوصى يوصي إذا أوصل ، فإذا قيل : أوصاني فمعناه أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه ، وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج : معنى قوله ههنا : {يُوصِيكُمُ} أي يفرض عليكم ، لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله : {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وصاكم بِهِ} ولا شك في كون ذلك واجبا علينا.
فإن قيل : إنه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال ههنا : {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين }.
قلنا : لما كانت الوصية قولا ، لا جرم ذكر بعد قوله : {يُوصِيكُمُ الله} خبرا مستأنفا وقال : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين} ونظيره قوله تعالى : {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [ الفتح : 29 ] أي قال الله : لهم مغفرة لأن الوعد قول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 165 ـ 166}
فصل(20/197)
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد وإنما فعل ذلك لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " فاطمة بضعة مني " فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم.
واعلم أن للأولاد حال انفراد ، وحال اجتماع مع الوالدين : أما حال الانفراد فثلاثة ، وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والإناث معا ، وإما أن يخلف الاناث فقط ، أو الذكور فقط.
القسم الأول : ما إذا خلف الذكران والإناث معا ، وقد بين الله الحكم فيه بقوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين }.
واعلم أن هذا يفيد أحكاما : أحدهما : إذا خلف الميت ذكراً واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم ، وثانيها : إذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الاناث كان لكل ذكر سهمان ، ولك أنثى سهم.
وثالثها : إذا حصل مع الأولاد جمع آخرون من الوارثين كالأبوين والزوجين فهم يأخذون سهامهم ، وكان الباقي بعد تلك السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فثبت أن قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} يفيد هذه الأحكام الكثيرة.
القسم الثاني : ما إذا مات وخلف الاناث فقط : بين تعالى أنهم إن كن فوق اثنتين ، فلهن الثلثان ، وإن كانت واحدة فلها النصف ، إلا أنه تعالى لم يبين حكم البنتين بالقول الصريح.
واختلفوا فيه ، فعن ابن عباس أنه قال : الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا ، وأما فرض البنتين فهو النصف ، واحتج عليه بأنه تعالى قال : {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} وكلمة "إن" في اللغة للاشتراط ، وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثا فصاعداً ، وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين.
والجواب من وجوه :
(20/198)
الأول : أن هذا الكلام لازم على ابن عباس ، لأنه تعالى قال : {وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف} فجعل حصول النصف مشروطاً بكونها واحدة ، وذلك ينفي حصول النصف نصيباً للبنتين ، فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله.
الثاني : أنا لا نسلم أن كلمة "إن" تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ؛ ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين ، لأن الإجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف ، وإما الثلثان ، وبتقدير أن يكون كلمة "إن" للاشتراط وجب القول بفسادهما ، فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلا ، ولأنه تعالى قال : {وَإِن لَّمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ} [ البقرة : 283 ] وقال : {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} [ النساء : 101 ] ، ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات.
الوجه الثالث : في الجواب : هو أن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير : فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان ، فهذا هو الجواب عن حجة ابن عباس ، وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان ، قالوا : وإنما عرفنا ذلك بوجوه : الأول : قال أبو مسلم الأصفهاني : عرفناه من قوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} وذلك لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} فإذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين ، ونصيب الذكر ههنا هو الثلثان ، وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين ،
(20/199)
الثاني : قال أبو بكر الرازي : إذا مات وخلف ابنا وبنتا فههنا نصيب البنت الثلث بدليل قوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث ، فبأن يكون نصيبهما مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى ، لأن الذكر أقوى من الأنثى.
الثالث : أن قوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة ، وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك على خلاف النص ، وإذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فنقول وجب أن يكون ذلك هو الثلثان ، لأنه لا قائل بالفرق ، والرابع : أنا ذكرنا في سبب نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين ، وذلك يدل على ما قلناه.
الخامس : أنه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ، ولم يذكر حكم الثنتين ، وقال في شرح ميراث الأخوات : {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} {فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ } [ النساء : 176 ] فههنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة ، فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملا من وجه ومبينا من وجه ، فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك ، لأنهما أقرب إلى الميت من الأختين ، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزداد على الثلثين وجب أن لا يزداد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك ، لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى ، فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذا الباب ، فالوجوه الثلاثة الأول مستنبطة من الآية ، والرابع مأخوذ من السنة ، والخامس من القياس الجلي.
(20/200)
أما القسم الثالث : وهو إذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط فنقول : أما الابن الواحد فإنه إذا انفرد أخذ كل المال ، وبيانه من وجوه : الأول من دلالة قوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} [ النساء : 176 ] فإن هذا يدل على أن نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين.
ثم قال تعالى في البنات : {وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف} فلزم من مجموع هاتين الآيتين أن نصيب الابن المفرد جميع المال.
الثاني : أنا نستفيد ذلك من السنة وهي قوله عليه الصلاة والسلام : " ما أبقت السهام فلا ولى عصبة ذكر " ولا نزاع أن الابن عصبة ذكر ، ولما كان الابن آخذاً لكل ما بقي بعد السهام وجب فيما إذا لم يكن سهام أن يأخذ الكل.
الثالث : إن أقرب العصبات إلى الميت هو الابن ، وليس له بالإجماع قدر معين من الميراث ، فإذا لم يكن معه صاحب فرض لم يكن له أن يأخذ قدرا أولى منه بأن يأخذ الزائد ، فوجب أن يأخذ الكل.
فإن قيل : حظ الأنثيين هو الثلثان فقوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} يقتضي أن يكون حظ الذكر مطلقا هو الثلث ، وذلك ينفي أن يأخذ كل المال.
قلنا : المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد ، ويدل عليه وجهان :
أحدهما : أن قوله : {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم} يقتضي حصول الأولاد ، وقوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} يقتضي حصول الذكر والأنثى هناك.
والثاني : أنه تعالى ذكر عقيبه حال الانفراد ، هذا كله إذا مات وخلف ابنا واحدا فقط ، أما إذا مات وخلف أبناء كانوا متشاركين في جهة الاستحقاق ولا رجحان ، فوجب قسمة المال بينهم بالسوية والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 166 ـ 168}
سؤالان :
السؤال الأول : لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه : أما أولا فلعجزها عن الخروج والبروز ، فإن زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك.(20/201)
وأما ثانيا : فلنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها.
وأما ثالثا : فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة ، وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر ، فإن لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة ، فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل.
والجواب عنه من وجوه :
الأول : أن خروج المرأة أقل ، لأن زوجها ينفق عليها ، وخروج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته ، ومن كان خروجه أكثر فهو إلى المال أحوج.
الثاني : أن الرجل أكمل حالا من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية ، مثل صلاحية القضاء والامامة ، وأيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ، ومن كان كذلك وجب أن يكون الإنعام عليه أزيد.
الثالث : أن المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة ، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر :
إن الفراغ والشباب والجده.. مفسدة للمرء أي مفسده
وقال تعالى : {إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّءاهُ استغنى} [ العلق : 6 ، 7 ] وحال الرجل بخلاف ذلك.
والرابع : أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ، نحو بناء الرباطات ، وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل ، وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيرا ، والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك.
الخامس : روي أن جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال : إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها ، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ، ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم ، فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها ، فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل. (1)
السؤال الثاني : لم لم يقل : للأنثيين مثل حظ الذكر ، أو للأنثى مثلا نصف حظ الذكر ؟
______________
(1) هذا الكلام فيه نظر.(20/202)
والجواب من وجوه :
الأول : لما كان الذكر أفضل من الأنثى قدم ذكره على ذكر الأنثى ، كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى.
الثاني : أن قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} يدل على فضل الذكر بالمطابقة وعلى نقص الأنثى بالالتزام ، ولو قال : كما ذكرتم لدل ذلك على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذكر بالالتزام ، فرجح الطريق الأول تنبيها على أن السعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحا على السعي في تشهير الرذائل ، ولهذا قال : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [ الإسراء : 7 ] فذكر الإحسان مرتين والاساءة مرة واحدة.
الثالث : أنهم كانوا يورثون الذكور دون الاناث وهو السبب لورود هذه الآية ، فقيل : كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى ، فلا ينبغى له أن يطمع في جعل الأنثى محرومة عن الميراث بالكلية ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 168}
فائدة
قال الآلوسى
وإيثار اسمي الذكر والأنثى على ما ذكر أولاً من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلاً كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء ، والحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الإناث من المال أقل من نصيب الذكور نقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الخبر مع أن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن وشهوتهنّ أكثر فقد يصير المال سبباً لكثرة فجورهنّ ، ومما اشتهر :
إن الشباب والفراغ والجده...
مفسدة للمرء أي مفسده. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 216 ـ 217}(20/203)
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } قالت الشافعية : قول الله تعالى { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } حقيقةٌ في أولاد الصُّلْبِ ، فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز ؛ فإذا حلف أن لا ولد له وله ولد ابن لم يحنث ؛ وإذا أوصى لولدِ فلان لم يدخل فيه ولدُ ولده.
وأبو حنيفة يقول : إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صُلْبٍ.
ومعلوم أن الألفاظ لا تتغير بما قالوه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 59}
وقال الفخر :
لا شك أن اسم الولد واقع على ولد الصلب على سبيل الحقيقة ، ولا شك أنه مستعمل في ولد الابن قال تعالى : {يا بني آدم} [ الأعراف : 26 ] وقال للذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام : {يا بَنِى إسراءيل} [ البقرة : 40 ] إلا أن البحث في أن لفظ الولد يقع على ولد الابن مجازاً أو حقيقة.
فإن قلنا : إنه مجاز فنقول : ثبت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا ، فحينئذ يمتنع أن يريد الله بقوله : {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم} ولد الصلب وولد الابن معا.(20/204)
واعلم أن الطريق في دفع هذا الإشكال أن يقال : إنا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية بل من السنة ومن القياس ، وأما أن أردنا أن نستفيده من هذه الآية فنقول : الولد وولد الابن ما صارا مرادين من هذه الآية معا ، وذلك لأن أولاد الابن لا يستحقون الميراث إلا في إحدى حالتين ، إما عند عدم ولد الصلب رأسا ، وإما عند ما لا يأخذ ولد الصلب كل الميراث ، فحينئذ يقتسمون الباقي ، وأما أن يستحق ولد الابن مع ولد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه أولاد الصلب بعضهم مع بعض فليس الأمر كذلك ، وعلى هذا لا يلزم من دلالة هذه الآية على الولد وعلى ولد الابن أن يكون قد أريد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا ، لأنه حين أريد به ولد الصلب ما أريد به ولد الابن ، وحين أريد به ولد الابن ما أريد به ولد الصلب ، فالحاصل أن هذه الآية تارة تكون خطابا مع ولد الصلب وأخرى مع ولد الابن ، وفي كل واحدة من هاتين الحالتين يكون المراد به شيئا واحداً ، أما إذا قلنا : إن وقوع اسم الولد على ولد الصلب وعلى ولد الابن يكون حقيقة ، فإن جعلنا اللفظ مشتركا بينهما عاد الإشكال ، لأنه ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك لافادة معنييه معا ، بل الواجب أن يجعله متواطئا فيهما كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس.
والذي يدل على صحة ذلك قوله تعالى : {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} [ النساء : 23 ] وأجمعوا أنه يدخل فيه ابن الصلب وأولاد الابن ، فعلمنا أن لفظ الابن متواطىء بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الابن ، وعلى هذا التقدير يزول الاشكال.(20/205)
واعلم أن هذا البحث الذي ذكرناه في أن الابن هل يتناول أولاد الابن قائم في أن لفظ الأب والأم هل يتناول الأجداد والجدات ؟ ولا شك أن ذلك واقع بدليل قوله تعالى : {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [ البقرة : 133 ] والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة ، فإن الصحابة اتفقوا على أنه ليس للجد حكم مذكور في القرآن ، ولو كان اسم الأب يتناول الجد على سبيل الحقيقة لما صح ذلك والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 169}
فصل
قال القرطبى :
قال ابن المنذر : لما قال تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد ، المؤمِن منهم والكافر ؛ فلما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يرث المسلم الكافر "
عُلِم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض ، فلا يرث المسلمُ الكافرَ ، ولا الكافرُ المسلمَ على ظاهر الحديث.
قلت : ولما قال تعالى : { في أَوْلاَدِكُمْ } دخل فيهم الأسير في أيدي الكفار ؛ فإنه يرث ما دام تُعلم حياته على الإسلام.
وبه قال كافّة أهل العلم ، إلا النخعِيّ فإنه قال : لا يرث الأسير.
فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود.
ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله : " لا نورث ما تركنا صدقةٌ " وسيأتي بيانه في "مريم" إن شاء الله تعالى.
وكذلك لم يدخل القاتل عمداً لأبيه أو جدّه أو أخيه أو عمِّه بالسنة وإجماع الأُمة ، وأنه لا يرِث مِن مال من قتله ولا من ديته شيئاً ؛ على ما تقدّم بيانه في البقرة.
فإن قتله خطأ فلا ميراث له من الدّية ، ويرث من المال في قول مالك ، ولا يرث في قول الشافعيّ وأحمد وسفيان وأصحابِ الرأي ، من المال ولا من الدّية شيئاً ؛ حسبما تقدّم بيانه في البقرة.(20/206)
وقول مالك أصح ، وبه قال إسحاق وأبو ثَوْر.
وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والزهريّ والأُوزاعي وابن المنذر ؛ لأن ميراث من ورّثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع.
وكل مختلَف فيه فمردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 59}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن عموم قوله تعالى : {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} زعموا أنه مخصوص في صور أربعة : أحدها : أن الحر والعبد لا يتوارثان.
وثانيها : أن القاتل على سبيل العمد لا يرث.
وثالثها : أنه لا يتوارث أهل ملتين ، وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد المستفيض ، ويتفرع عليه فرعان :
الفرع الأول : اتفقوا على أن الكافر لا يرث من المسلم ، أما المسلم فهل يرث من الكافر ؟ ذهب الأكثرون إلى أنه أيضاً لا يرث ، وقال بعضهم : إنه يرث قال الشعبي : قضى معاوية بذلك وكتب به إلى زياد ، فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به ، وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث ، فلما أمره زياد بذلك كان يقضي به ويقول : هكذا قضى أمير المؤمنين.(20/207)
حجة الأولين عموم قوله عليه السلام : " لا يتوارث أهل ملتين " وحجة القول الثاني : ما روي أن معاذا كان باليمن فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما فقال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الإسلام يزيد ولا ينقص " ثم أكدوا ذلك بأن قالوا إن ظاهر قوله : {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين} يقتضي توريث الكافر من المسلم ، والمسلم من الكافر ، إلا أنا خصصناه بقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يتوارث أهل ملتين " لأن هذا الخبر أخص من تلك الآية ، والخاص مقدم على العام فكذا ههنا قوله : " الإسلام يزيد ولا ينقص " أخص من قوله : " لا يتوارث أهل ملتين " فوجب تقديمه عليه ، بل هذا التخصيص أولى ، لأن ظاهر هذا الخبر متأكد بعموم الآية ، والخبر الأول ليس كذلك ، وأقصى ما قيل في جوابه : أن قوله : " الإسلام يزيد ولا ينقص " ليس نصا في واقعة الميراث ، فوجب حمله على سائر الأحوال.
الفرع الثاني : المسلم إذا ارتد ثم مات أو قتل ، فالمال الذي اكتسبه في زمان الردة أجمعوا على أنه لا يورث ، بل يكون لبيت المال ، أما المال الذي اكتسبه حال كونه مسلما ففيه قولان : قال الشافعي : لا يورث بل يكون لبيت المال ، وقال أبو حنيفة : يرثه ورثته من المسلمين ، حجة الشافعي أنا أجمعنا على ترجيح قوله عليه السلام : " لا يتوارث أهل ملتين " على عموم قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} والمرتد وورثته من المسلمين أهل ملتين ، فوجب أن لا يحصل التوارث.
فإن قيل : لا يجوز أن يقال : إن المرتد زال ملكه في آخر الإسلام وانتقل إلى الوارث ، وعلى هذا التقدير فالمسلم إنما ورث عن المسلم لا عن الكافر.(20/208)
قلنا : لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته ، والأول باطل ، ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى : {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [ المؤمنون : 6 ] وهو بالاجماع باطل.
والثاني : باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين ، وهو خلاف الخبر.
ولا يبقى ههنا إلا أن يقال : إنه يرثه بعد موته مستنداً إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه ، إلا أن القول بالاستناد باطل ، لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد ، فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي ، وذلك باطل في بداهة العقول ، وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد ، وقد أبطلناه ، والله أعلم.(20/209)
الموضع الرابع : من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون ، والشيعة خالفوا فيه ، روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه ، احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ، ثم إن الشيعة قالوا : بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز ههنا ، وبيانه من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه على خلاف قوله تعالى : حكاية عن زكريا عليه السلام {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ} [ مريم : 6 ] وقوله تعالى : {وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ} [ النمل : 16 ] قالوا : ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة. بل يكون كسباً جديداً مبتدأ ، إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة ، وثانيها : أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين ، وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة ألبتة ، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة ، وثالثها : يحتمل أن قوله : " ما تركناه صدقة " صلة لقوله : " لا نورث " والتقدير : أن الشيء الذي تركناه صدقة ، فذلك الشيء لا يورث.
فإن قيل : فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك.(20/210)
قلنا : بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم ، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم.
والجواب : أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة ، وانعقد الإجماع على صحة ما ذهب إليه أبو بكر فسقط هذا السؤال ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 169 ـ 171}
فصل نفيس
قال الآلوسى
واستثنى من العموم الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم بناءاً على القول بدخوله صلى الله عليه وسلم في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة والسلام المتناولة له لغة ، والدليل على الاستثناء قوله صلى الله عليه وسلم : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حيث لم يورث الزهراء رضي الله تعالى عنها من تركة أبيها صلى الله عليه وسلم حتى قالت له بزعمهم : يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا ، وقالوا : إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضاً فهو غير متواتر بل آحاد ، ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصاً لقوله تعالى : { أَسْكِنُوهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] فقال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم بقول امرأة.
فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعاً من قبوله ، وأيضاً العام وهو الكتاب قطعي ، والخاص وهو خبر الآحاد ظني فيلزم ترك القطعي بالظني.(20/211)
وقالوا أيضاً : إن مما يدل على كذب الخبر قوله تعالى : { وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ } [ النحل : 16 ] وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه السلام : { فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ } [ مريم : 5 ، 6 ] فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون.
والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضاً حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ، وقد أخرج البخاري عن مالك بن أوس بن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ؟ قالوا : اللهم نعم ، ثم أقبل على عليّ والعباس فقال : أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : اللهم نعم ، فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يلتفت إليه ، وفي كتب الشيعة ما يؤيده ، فقد روى الكليني في "الكافي" عن أبي البختري في الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال : "إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر" وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعاً باعتراف الشيعة فيعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث.(20/212)
وقد ثبت أيضاً بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه فإن تركة النبي صلى الله عليه وسلم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا الأزواج المطهرات شيئاً ولو كان الميراث جارياً في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعاً ، فإذا ثبت من مجموع ما ذكرنا التواتر فحبذا ذلك لأن تخصيص القرآن بالخبر المتواتر جائز اتفاقاً وإن لم يثبت وبقي الخبر من الآحاد فنقول : إن تخصيص القرآن بخبر الآحاد جائز على الصحيح وبجوازه قال الأئمة الأربعة ، ويدل على جوازه أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خصصوا به من غير نكير فكان إجماعاً ، ومنه قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها فخص بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تنكحوا المرأة على عمتها ولا على خالتها " والشيعة أيضاً قد خصصوا عمومات كثيرة من القرآن بخبر الآحاد فإنهم لا يورثون الزوجة من العقار ويخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر ، ويستندون في ذلك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك ، والاحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر عمر رضي الله تعالى عنه مجاب عنه بأن عمر إنما رد خبر ابنة قيس لتردده في صدقها وكذبها ، ولذلك قال بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ، فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك للظني بالظني وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما(20/213)
وراثة العلم والنبوة والكمالات النفسانية لا وراثة العروض والأموال ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الأولى منهما كذلك ما رواه الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمداً ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا صلى الله عليه وسلم وسليمان عليه السلام غير متصورة بوجه ، وأيضاً إن داود عليه السلام على ما ذكره أهل التاريخ كان له تسعة عشر ابناً وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم فلا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لاشتراكهم فيها من غير خصوصية لسليمان عليه السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة.(20/214)
وأيضاً توصيف سليمان عليه السلام بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالاً ولا يستدعي امتيازاً لأن البر والفاجر يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه السلام ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضاً أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه شيء بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذٍ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه السلام كان باقياً غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى ، وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثاً جميع بني إسرائيل أحياءً وأمواتاً ، وهذا أفحش من الأول ، وإن كان المراد بعض الأولاد ، أو أريد من يعقوب غير المتبادر وهو ابن إسحاق عليهما السلام يقال : أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من الله تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته ، والابن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف وليس المقام مقام تأكيد ، وأيضاً ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني واتصلت بحضائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه السلام ولداً ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه ، ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف ، فإن ذلك يقتضي صريحاً كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها ، وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية ، وأيضاً لا معنى لخوف زكريا عليه السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر ، وأما إن كان في معصية فلأن الرجل إذا مات وانتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب على أن دفع هذا الخوف كان متيسراً له بأن يصرفه ويتصدق به(20/215)
في سبيل الله تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة واحتمال موت الفجأة.
وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم فما مراد ذلك النبي عليه السلام بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة فإنه عليه السلام خشي من أشرار بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الإلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا علمه ولا يعملوا به ويكون ذلك سبباً للفساد العظيم ، فطلب الولد ليجري أحكام الله تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر واتصال الثواب ، والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية ، فإن قيل : الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة ، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة ، فما الضرورة هنا ؟ أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب ، وأيضاً لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الاستعمال في العرف مختصاً بالمال ، وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح ، وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصاً في استعمال القرآن المجيد ، ومن ذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } و{ أُورِثُواْ الكتاب } [ الشورى : 14 ] إلى غير ما آية.(20/216)
ومن الشيعة من أورد هنا بحثاً وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يورث أحداً فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن ؟ والجواب أن ذلك مغلطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم بنى كل حجرة لواحدة منهنّ فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بنى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل ذلك لفاطمة رضي الله تعالى عنها وأسامة وسلمه إليهما ؛ وكان كل من بيده شيء مما بناه له رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه تصرف المالك على عهده عليه الصلاة والسلام ، ويدل على ما ذكر ما ثبت بإجماع أهل السنة والشيعة أن الإمام الحسن رضي الله تعالى عنه لما حضرته الوفاة استأذن من عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وسألها أن تعطيه موضعاً للدفن جوار جده المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه إن لم تكن الحجرة ملك أم المؤمنين لم يكن للاستئذان والسؤال معنى وفي القرآن نوع إشارة إلى كون الأزواج المطهرات مالكات لتلك الحجر حيث قال سبحانه : { وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] فأضاف البيوت إليهنّ ولم يقل في بيوت الرسول.(20/217)
ومن أهل السنة من أجاب عن أصل البحث بأن المال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم صار في حكم الوقف على جميع المسلمين فيجوز لخليفة الوقت أن يخص من شاء بما شاء كما خص الصديق جناب الأمير رضي الله تعالى عنهما بسيف ودرع وبغلة شهباء تسمى الدلدل أن الأمير كرم الله تعالى وجهه لم يرث النبي صلى الله عليه وسلم بوجه ، وقد صح أيضاً أن الصديق أعطى الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة بعضاً من متروكاته صلى الله عليه وسلم وإنما لم يعط رضي الله تعالى عنه فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم فدكاً مع أنها طلبتها إرثاً وانحرف مزاج رضاها رضي الله تعالى عنها بالمنع إجماعاً وعدلت عن ذلك إلى دعوى الهبة ، وأتت بعلي والحسنين وأم أيمن للشهادة فلم تقم على ساق بزعم الشيعة ، ولم تمكن لمصلحة دينية ودنيوية رآهما الخليفة إذ ذاك كما ذكره الأسلمي في "الترجمة العبقرية والصولة الحيدرية" وأطال فيه.(20/218)
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه خص آية المواريث بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره عليه الصلاة والسلام في حق من سمعه منه بلا واسطة مفيد للعلم اليقيني بلا شبهة والعمل بسماعه واجب عليه سواء سمعه غيره أو لم يسمع ، وقد أجمع أهل الأصول من أهل السنة والشيعة على أن تقسيم الخبر إلى المتواتر وغيره بالنسبة إلى من لم يشاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا خبره بواسطة الرواة لا في حق من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه بلا واسطة ، فخبر "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" عند أبي بكر قطعي لأنه في حقه كالمتواتر بل أعلى كعباً منه ، والقطعي يخصص القطعي اتفاقاً ، ولا تعارض بين هذا الخبر والآيات التي فيها نسبة الوراثة إلى الأنبياء عليهم السلام لما علمت ، ودعوى الزهراء رضي الله تعالى عنها فدكاً بحسب الوراثة لا تدل على كذب الخبر بل على عدم سماعه وهو غير مخل بقدرها ورفعة شأنها ومزيد علمها ، وكذا أخذ الأزواج المطهرات حجراتهنّ لا يدل على ذلك لما مر وحلا ، وعدولها إلى دعوى الهبة غير متحقق عندنا بل المتحقق دعوى الإرث ، ولئن سلمنا أنه وقع منها دعوى الهبة فلا نسلم أنها أتت بأولئك الأطهار شهوداً ، وذلك لأن المجمع عليه أن الهبة لا تتم إلا بالقبض ولم تكن فدك في قبضة الزهراء رضي الله تعالى عنها في وقت فلم تكن الحاجة ماسة لطلب الشهود ، ولئن سلمنا أن أولئك الأطهار شهدوا فلا نسلم أن الصديق ردّ شهادتهم بل لم يقض بها ، وفرق بين عدم القضاء هنا والرد ، فإن الثاني عبارة عن عدم القبول لتهمة كذب مثلاً ، والأول عبارة عن عدم الإمضاء لفقد بعض الشروط المعتبر بعد العدالة ، وانحراف مزاج رضا الزهراء كان من مقتضيات البشرية ، وقد غضب موسى عليه السلام على أخيه الأكبر هارون حتى أخذ بلحيته(20/219)
ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئاً على أن أبا بكر استرضاها رضي الله تعالى عنها مستشفعاً إليها بعلي كرم الله تعالى وجهه فرضيت عنه كما في "مدارج النبوة" و"كتاب الوفاء" و"شرح المشكاة" للدهلوي وغيرها ، وفي "محاج السالكين".
وغيره من كتب الإمامية المعتبرة ما يؤيد هذا الفصل حيث رووا أن أبا بكر لما رأى فاطمة رضي الله تعالى عنها انقبضت عنه وهجرته ولم تتكلم بعد ذلك في أمر فدك كبر ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال : صدقت يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ادعيت ولكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يؤتي منها قوتكم فما أنتم صانعون بها ؟ فقالت : أفعل فيها كما كان أبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيها فقال لك الله تعالى أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك ، فقالت : والله لتفعلن ؟ فقال : والله لأفعلن ذلك فقالت : اللهم اشهد ورضيت بذلك ، وأخذت العهد عليه فكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي بين الفقراء والمساكين وابن السبيل ، وبقي الكلام في سبب عدم تمكينها رضي الله تعالى عنها من التصرف فيها ، وقد كان دفع الالتباس وسد باب الطلب المنجر إلى كسر كثير من القلوب ، أو تضييق الأمر على المسلمين.
وقد ورد "المؤمن إذا ابتلي ببليتين اختار أهونهما" على أن رضا الزهراء رضي الله تعالى عنها بعْدُ على الصديق سد باب الطعن عليه أصاب في المنع أم لم يصب ، وسبحان الموفق للصواب والعاصم أنبياءه عن الخطأ في فصل الخطاب. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 217 ـ 221}
فصل
قال الفخر :
من المسائل المتعلقة بهذه الآية أن قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} معناه للذكر منهم ، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم ، كقولك : السمن منوان بدرهم ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 171}(20/220)
فصل
قال القرطبى :
اعلم أن الميراث كان يستحق فى أوّل الإسلام بأسباب : منها الحِلف والهجرة والمعاقدة ، ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } [ النساء : 33 ] إن شاء الله تعالى.
وأجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمًّى أُعطِيه ، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأُنثيين ؛ لقوله عليه السلام : " أُلحقوا الفرائض بأهلها " رواه الأئمة.
يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى.
وهي ستة : النصف والرّبُع والثُّمُن والثُلثان والثُلث والسدُس.
فالنصف فرض خمسةٍ : ابنة الصُّلب ، وابنة الابن ، والأُخت الشقيقة ، والأُخت للأب ، والزوج.
وكل ذلك إذا انفردوا عمن يحجبهم عنه.
والربُع فرض الزوج مع الحاجب ، وفرض الزوجة والزوجات مع عدمه.
والثمن فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب.
والثلثان فرض أربع : الاثنتين فصاعداً من بنات الصلب ، وبنات الابن ، والأخوات الأشقاء ، أو للأب.
وكل هؤلاء إذا انفردنَ عمن يحجبهن عنه ، والثلث فرض صنفين : الأُم مع عدم الولد ، وولد الابن ، وعدم الاثنين فصاعداً من الإخوة والأخوات ، وفرض الاثنين فصاعداً من ولد الأُم.
وهذا هو ثلث كل المال.
فأما ثلث ما يبقَى فذلك للأُمّ في مسألة زوج أو زوجة وأبوان ؛ فللأُم فيها ثلثُ ما يبقى.
وقد تقدّم بيانه.
وفي مسائل الجدّ مع الإخوة إذا كان معهم ذو سَهْم وكان ثلثُ ما يبقى أحظَى له.
والسدس فرض سبعة : الأبوان والجدّ مع الولد وولد الابن ، والجدّة والجدّات إذا اجتمعن ، وبنات الابن مع بنت الصلب ، والأخوات للأب مع الأُخت الشقيقة ، والواحد من ولد الأُم ذكراً كان أو أُنثى.
وهذه الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجدّة والجدّات فإنه مأخوذ من السنة.(20/221)
والأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء : نسب ثابت ، ونكاح منعقد ، وولاء عتاقةٍ.
وقد تجتمع الثلاثة الأشياء فيكون الرجل زوج المرأة ومولاها وابن عمها.
وقد يجتمع فيه منها شيئان لا أكثر ، مثل أن يكون زوجها ومولاها ، أو زوجها وابن عمها ؛ فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد : نصفه بالزوجية ونصفه بالولاء أو بالنسب.
ومثل أن تكون المرأة ابنة الرجل ومولاته ، فيكون لها أيضاً جميع المال إذا انفردت : نصفه بالنسب ونصفه بالولاء.
ولا ميراث إلا بعد أداء الدّيْن والوصية ؛ فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعَّينات ، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره ، ثم الديون على مراتبها ، ثم يخرج من الثلث الوصايا ، وما كان في معناها على مراتبها أيضاً ، ويكون الباقي ميراثاً بين الورثة.
وجملتهم سبعة عشر.
عشرة من الرجال : الابن وابن الابن وإن سفل ، والأب وأب الأب وهو الجدّ وإن علا ، والأخ وابن الأخ ، والعمّ وابن العمّ والزوج ومولى النعمة.
ويرث من النساء سبع : البنت وبنت الابن وإن سفلت ، والأم والجدّة وإن علت ، والأخت والزوجة ، ومولاة النعمة وهي المعتِقة.
وقد نظمهم بعض الفضلاء فقال :
والوارثون إن أردت جمعَهمْ . . .
مع الإناث الوارثات معَهمْ
عشرةٌ من جملة الذُّكْرانِ . . .
وسبعُ أشخاصٍ من النِّسوان
وهُمْ ، وقد حصرتهُم في النظمِ . . .
الابن وابنُ الابن وابنُ العم
والأبُ منهم وهْوَ في الترتيب . . .
والجدُّ من قَبْل الأخ القريب
وابن الأخ الأدْنَى أجَلْ والعمُّ . . .
والزوجُ والسيِّد ثم الأُم
وابنةُ الابن بعدَها والبنتُ . . .
وزوجةُ وجدّة وأختُ
والمرأةُ المولاةُ أعْني المعتقه . . .
خُذْها إليك عِدّةً محقَّقهْ
(20/222)
لما قال تعالى : { في أَوْلاَدِكُمْ } يتناول كل ولد كان موجوداً أو جنيناً في بطن أمه ، دنيّاً أو بعيداً ، من الذكور أو الإناث ما عدا الكافر كما تقدم.
قال بعضهم : ذلك حقيقةٌ في الأدنَين مجاز في الأبْعَدين.
وقال بعضهم : هو حقيقة في الجميع ؛ لأنه من التوَلُّد ، غير أنهم يرثون على قدر القرب منه ؛ قال الله تعالى : { يابني آدَمَ } [ الأعراف : 26 ].
وقال عليه السلام : " أنا سيد ولد آدم " وقال : " يا بني إسماعيل ارْموا فإن أباكم كان رامياً " إلا أنه غلب عرف الاستعمال في إطلاق ذلك على الأعيان الأدنين على تلك الحقيقة ؛ فإن كان في ولد الصُّلب ذكرٌ لم يكن لولد الولد شيءٌ وهذا مما أجمع عليه أهل العلم.
وإن لم يكن في ولد الصلب ذكر وكان في وَلَد الولد بُدِيءَ بالبنات الصلب ، فأعطين إلى مبلغ الثلثين ؛ ثم أعطى الثلث الباقي لولد الولد إذا استوَوْا في القُعْدُدِ ، أو كان الذكر أسفل ممن فوقه من البنات ، للذكر مثل حظ الأنثيين.
هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
وبه قال عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ؛ إلا ما يروى عن ابن مسعود أنه قال : إن كان الذكر من ولد الولد بإزاء الولد الأنثى ردّ عليها ، وإن كان أسفل منها لم يردّ عليها ؛ مراعياً في ذلك قوله تعالى : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } فلم يجعل للبنات وإن كثرن إلا الثلثين.
قلت : هكذا ذكر ابن العربي هذا التفصيل عن ابن مسعود ، والذي ذكره ابن المنذر والباجي عنه : أن ما فضل عن بنات الصُّلب لبني الابن دون بنات الابن.
ولم يفصِّلا.
وحكاه ابن المنذر عن أبي ثوْر.
ونحوه حكى أبو عمر ، قال أبو عمر.
(20/223)
وخالف في ذلك ابن مسعود فقال : وإذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لبني الابن دون أخواتهم ، ودون مَن فوقهم من بنات الابن ، ومَن تحتهم.
وإلى هذا ذهب أبو ثور وداود بن علي.
وروي مثله عن علقمة.
وحجة من ذهب هذا المذهب حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أقسِمُوا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما أبقت الفرائضُ فلأوْلَى رجلٍ ذكر " خرّجه البخاري ومسلم وغيرهما.
ومن حجة الجمهور قول الله عز وجل : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } لأن ولد الولد ولدٌ.
ومن جهة النظر والقياس أن كل مَن يُعصّب مَن في درجته في جملة المال فواجبٌ أن يُعصِّبه في الفاضل من المال ؛ كأولاد الصلب.
فوجب بذلك أن يُشرك ابنُ الابن أختَه ، كما يُشرك الابنُ للصلب أخته.
فإن احتجّ محتجُّ لأبي ثَوْر وداود أن بنت الابن لما لم ترث شيئاً من الفاضل بعد الثلثين منفردةً لم يعصِّبها أخوها.
فالجواب أنها إذا كان معها أخوها قوِيت به وصارت عَصَبةً معه.
وظاهر قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } وهي من الولد. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 60 ـ 62}. بتصرف يسير.
فائدة
قال ابن عاشور :
و { في } هنا للظرفية المجازية ، جعلت الوصية كأنّها مظروفة في شأن الأولاد لشدّة تعلّقها به كاتّصال المظروف بالظرف ، ومجرورها محذوف قام المضاف إليه مقامه ، لظهور أنّ ذوات الأولاد لا تصلح ظرفاً للوصيّة ، فتعيّن تقدير مضاف على طريقة دلالة الاقتضاء ، وتقديره : في إرثِ أولادكم ، والمقام يدلّ على المقدّر على حدّ { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] فجعل الوصيّة مظروفة في هذا الشأن لشدّة تعلقها به واحتوائه عليها.(20/224)
وجملة : { للذكر مثل حظ الأنثيين } بيان لجملة { يوصيكم } لأنّ مضمونها هو معنى مضمون الوصية ، فهي مثل البيان في قوله تعالى : { فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم } وتقديم الخبر على المبتدأ في هذه الجملة للتنبيه من أوّل الأمر على أنّ الذكر صار له شريك في الإرث وهو الأنثى لأنّه لم يكن لهم به عهد من قبل إذ كان الذكور يأخذون المال الموروث كلّه ولاحظّ للإناث ، كما تقدّم آنفاً في تفسير قوله تعالى : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 7 ].
وقوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } جعل حظّ الأنثيين هو المقدار الذي يقدّر به حظّ الذكر ، ولم يكن قد تقدّم تعيين حظّ للأنثيين حتّى يقدّر به ، فعُلم أنّ المراد تضعيف حظّ الذكر من الأولاد على حظّ الأنثى منهم ، وقد كان هذا المراد صالحاً لأن يؤدّى بنحو : للأنثى نصف حظّ ذكر ، أو للأنثيين مثلّ حظّ ذكر ، إذ ليس المقصود إلاّ بيان المضاعفة.
ولكن قد أوثر هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء إلى أن حظّ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهَمّ من حظّ الذكر ، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظّها في أول ما يقرع الأسماع قد عُلم أنّ قسمة المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 45 ـ 46}(20/225)
وقال الآلوسى :
وأخذ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بظاهر الآية فجعل الثلثين لما زاد على البنتين كالثلاث فأكثر ، وجعل نصيب الاثنتين النصف كنصيب الواحدة ، وجمهور الصحابة والأئمة والإمامية على خلافه حيث حكموا بأن للاثنتين وما فهوقهما الثلثين ، وأن النصف إنما هو للواحدة فقط ، ووجه ذلك على ما قاله القطب أنه لما تبين أن للذكر مع الأنثى ثلثين إذ للذكر مثل حظ الأنثيين فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الثلثين ليس بحظ لهما أصلاً لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الإثنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان فتعين أن تكون صورة الانفراد ، وإلى هذا أشار السيد السند في "شرح السراجية" ، وأورد أن الاستدلال دوري لأن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة موقوفة على معرفة حظ الأنثيين لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين ، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ، وأجيب بأن المستخرج هو الحظ المعين للأنثيين وهو الثلثان ، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقاً فلا دور ، ولما في هذا الوجه من التكلف عدل عنه بعض المحققين ، وذكر أن حكم البنتين مفهوم من النص بطريق الدلالة أو الإشارة ، وذلك لما رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد وأن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالاً ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال صلى الله عليه وسلم : " يقضي الله تعالى في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : أعط لابنتي سعد الثلثي ، وأعط أمهما الثمن وما(20/226)
بقي فهو لك " فدل ذلك على أن انفهام الحكم من النص بأحد الطريقين لأنه حكم به بعد نزول الآية ، ووجهه أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إذا انفردا عنه استحقتا أكثر من ذلك لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعد ما كانت معه تأخذ الثلث ولا بد أن يكون نصيبهما كما يأخذه الذكر في الجملة وهو الثلثان لأنه يأخذه مع البنت فيكون قوله سبحانه : { فَإِن كُنَّ نِسَاء } الخ بياناً لحظ الواحدة ، وما فوق الثنتين بعد ما بين حظهما ولذا فرعه عليه إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها ، وهذا مما لا غبار عليه ، وقيل : إن حكم البنتين ثبت بالقياس على البنت مع أخيها أو على الأختين.(20/227)
أما الأول : فلأنها لما استحقت البنت الثلث مع الأخ فمع البنت بالطريق الأولى ، وأما الثاني : فلأنه ذكر حكم الواحدة والثلاث فما فوقها من البنات ولم يذكر حكم البنتين ، وذكر في ميراث الأخوات حكم الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر حكم الأخوات الكثيرة فيعلم حكم البنتين من ميراث الأخوات وحكم الأخوات من ميراث البنات لأنه لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما ، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثلثين فبالأولى أن لا يزداد نصيب الأخوات على ذلك ، وقد ذهب إلى هذا غير واحد من المتأخرين ، وجعله العلامة ناصر الدين مؤيداً ولم يجعله دليلاً للاستغناء عنه بما تقدم ، ولأنه قيل : إن القياس لا يجري في الفرائض والمقادير ، ونظر بعضهم في الأول بأن البنت الواحدة لم تستحق الثلث مع الأخ بل تستحق نصف حظه وكونه ثلثاً على سبيل الاتفاق ولا يخفى ضعفه ، وقيل : يمكن أن يقال : ألحق البنتان بالجماعة لأن وصف النساء يفوق اثنتين للتنبيه على عدم التفاوت بين عدد وعدد ، والبنتان تشارك الجماعة في التعدد ، وقد علم عدم تأثير القلة والكثرة ، فالظاهر إلحاقهما بالجماعة بجامع التعدد ، وعدم اعتبار القلة والكثرة دون الواحدة لعدم الجامع بينهما.
وقيل : إن معنى الآية فإن كنّ نساء اثنتين فما فوقهما إلا أنه قدم ذكر الفوق على الاثنتين كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تسافر المرأة سفراً فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها "(20/228)
فإن معناه لا تسافر سفراً ثلاثة أيام فما فوقها ، وإلى ذلك ذهب من قال : إن أقل الجمع اثنان ، واعترض على ابن عباس رضي الله تعالى عنه بأنه لو استفيد من قوله سبحانه { فَوْقَ اثنتين } أن حال الاثنتين ليس حال الجماعة بناءاً على مفهوم الصفة فهو معارض بأنه يستفاد من واحدة أن حالهما ليس حال الواحدة لمفهوم العدد وقد قيل به ، وأجيب بالفرق بينهما فإن النساء ظاهر فيما فوقهما فلما أكد به صار محكماً في التخصيص بخلاف { وَإِن كَانَتْ واحدة } وأورد عليه بأن هذا إنما يتم على تقدير كون الظرف صفة مؤكدة لا خبراً بعد خبر ، وأجيب بأن قوله سبحانه : { نِسَاء } ظاهر في كونها فوق اثنتين فعدم الاكتفاء به والإتيان بخبر بعده يدل دلالة صريحة على أن الحكم مقيد به لا يتجاوزه ، وأيضاً مما ينصر الحبر أن الدليلين لما تعارضا دار أمر البنتين بين الثلثين والنصف ، والمتيقن هو النصف ، والزائد مشكوك غير ثابت ، فتعين المصير إليه ، ولا يخفى أن الحديث الصحيح الذي سلف يهدم أمر التمسك بمثل هذه العرى ، ولعله لم يبلغه رضي الله تعالى عنه ذلك كما قيل فقال ما قال ، وفي "شرح الينبوع" نقلاً عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في "شرح فرائض الوسيط" : صح رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن ذلك فصار إجماعاً ؛ وعليه فيحتمل أنه بلغه الحديث ، أو أنه أمعن النظر في الآية ففهم منها ما عليه الجمهور فرجع إلى وفاقهم.
وحكاية النظام عنه رضي الله تعالى عنه في كتاب "النكت" أنه قال : للبنتين نصف وقيراط لأن للواحدة النصف ولما فوق الاثنتين الثلثين فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما مما لا تكاد تصح فافهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 221 ـ 223}
لطيفة
قال ابن الجوزى :
قال القاضي أبو يعلى : إنما نص على ما فوق الاثنتين ، والواحدة ، ولم ينص على الاثنتين ، لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث ، كان لها مع الأنثى الثلث أولى. أ هـ {زاد المسير حـ 2 صـ 26}(20/229)
" شبه للمشككين ودحضها "
صحيح وحق أن آيات الميراث فى القرآن الكريم قد جاء فيها قول الله سبحانه وتعالى : (للذكر مثل حظ الأنثيين) ؛ لكن كثيرين من الذين يثيرون الشبهات حول أهلية المرأة فى الإسلام ، متخذين من التمايز فى الميراث سبيلاً إلى ذلك لا يفقهون أن توريث المرأة على النصف من الرجل ليس موقفًا عامًا ولا قاعدة مطّردة فى توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث. فالقرآن الكريم لم يقل : يوصيكم الله فى المواريث والوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.. إنما قال : (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).. أى أن هذا التمييز ليس قاعدة مطّردة فى كل حالات الميراث ، وإنما هو فى حالات خاصة ، بل ومحدودة من بين حالات الميراث.
بل إن الفقه الحقيقى لفلسفة الإسلام فى الميراث تكشف عن أن التمايز فى أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة.. وإنما لهذه الفلسفة الإسلامية فى التوريث حِكَم إلهية ومقاصد ربانية قد خفيت عن الذين جعلوا التفاوت بين الذكور والإناث فى بعض مسائل الميراث وحالاته شبهة على كمال أهلية المرأة فى الإسلام. وذلك أن التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات فى فلسفة الميراث الإسلامى ـ إنما تحكمه ثلاثة معايير :
أولها : درجة القرابة بين الوارث ذكرًا كان أو أنثى وبين المُوَرَّث المتوفَّى فكلما اقتربت الصلة.. زاد النصيب فى الميراث.. وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب فى الميراث دونما اعتبار لجنس الوارثين..(20/230)
وثانيها : موقع الجيل الوارث من التتابع الزمنى للأجيال.. فالأجيال التى تستقبل الحياة ، وتستعد لتحمل أعبائها ، عادة يكون نصيبها فى الميراث أكبر من نصيب الأجيال التى تستدبر الحياة. وتتخفف من أعبائها ، بل وتصبح أعباؤها ـ عادة ـ مفروضة على غيرها ، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات.. فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه ـ وكلتاهما أنثى ـ.. وترث البنت أكثر من الأب ! - حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها.. وحتى لو كان الأب هو مصدر الثروة التى للابن ، والتى تنفرد البنت بنصفها ! ـ.. وكذلك يرث الابن أكثر من الأب ـ وكلاهما من الذكور..
وفى هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث فى الإسلام حِكَم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين !..
وهى معايير لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق..
وثالثها : العبء المالى الذى يوجب الشرع الإسلامى على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين.. وهذا هو المعيار الوحيد الذى يثمر تفاوتاً بين الذكر والأنثى.. لكنه تفاوت لا يفضى إلى أى ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها.. بل ربما كان العكس هو الصحيح !..(20/231)
ففى حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون فى درجة القرابة.. واتفقوا وتساووا فى موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال - مثل أولاد المتوفَّى ، ذكوراً وإناثاً - يكون تفاوت العبء المالى هو السبب فى التفاوت فى أنصبة الميراث.. ولذلك ، لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى فى عموم الوارثين ، وإنما حصره فى هذه الحالة بالذات ، فقالت الآية القرآنية : (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).. ولم تقل : يوصيكم الله فى عموم الوارثين.. والحكمة فى هذا التفاوت ، فى هذه الحالة بالذات ، هى أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى ـ هى زوجه ـ مع أولادهما.. بينما الأنثى الوارثة أخت الذكرـ إعالتها ، مع أولادها ، فريضة على الذكر المقترن بها.. فهى ـ مع هذا النقص فى ميراثها بالنسبة لأخيها ، الذى ورث ضعف ميراثها ، أكثر حظًّا وامتيازاً منه فى الميراث.. فميراثها ـ مع إعفائها من الإنفاق الواجب ـ هو ذمة مالية خالصة ومدخرة ، لجبر الاستضعاف الأنثوى ، ولتأمين حياتها ضد المخاطر والتقلبات.. وتلك حكمة إلهية قد تخفى على الكثيرين..
وإذا كانت هذه الفلسفة الإسلامية فى تفاوت أنصبة الوارثين والوارثات وهى التى يغفل عنها طرفا الغلو ، الدينى واللادينى ، الذين يحسبون هذا التفاوت الجزئى شبهة تلحق بأهلية المرأة فى الإسلام فإن استقراء حالات ومسائل الميراث ـ كما جاءت فى علم الفرائض (المواريث) ـ يكشف عن حقيقة قد تذهل الكثيرين عن أفكارهم المسبقة والمغلوطة فى هذا الموضوع.. فهذا الاستقراء لحالات ومسائل الميراث ، يقول لنا :
1 ـ إن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
2 ـ وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة مثل الرجل تماماً.
3 ـ وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.(20/232)
4 ـ وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال.
أى أن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل ، أو أكثر منه ، أو ترث هى ولا يرث نظيرها من الرجال ، فى مقابلة أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل.. "!!.
تلك هى ثمرات استقراء حالات ومسائل الميراث فى علم الفرائض (المواريث) ، التى حكمتها المعايير الإسلامية التى حددتها فلسفة الإسلام فى التوريث.. والتى لم تقف عند معيار الذكورة والأنوثة ، كما يحسب الكثيرون من الذين لا يعلمون !..
وبذلك نرى سقوط الشبهة الأولى من الشبهات الخمس المثارة حول أهلية المرأة ، كما قررها الإسلام.أ هـ {ميراث المرأة وقضية المساواة " ص10 ، 46 / للدكتور. صلاح الدين سلطان " طبعة القاهرة ، دار نهضة مصر سنة 1999م "}(20/233)
قوله تعالى : {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}
قال ابن الآلوسى :
{ فَإِن كُنَّ نِسَاء } الضمير للأولاد مطلقاً والخبر مفيد بلا تأويل ، ولزوم تغليب الإناث على الذكور لا يضر لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له ، ويجوز أن يعود إلى المولودات أو البنات التي في ضمن مطلق الأولاد ، والمعنى فإن كانت المولودات أو البنات نساءاً خلصاً ليس معهن ذكر ، وبهذا يفيد الحمل وإلا لاتحد الاسم والخبر فلا يفيد على أن قوله تعالى : { فَوْقَ اثنتين } إذا جعل صفة لنساء فهو محل الفائدة ، وأوجب ذلك أبو حيان فلم يجز ما أجازه غير واحد من كونه خبراً ثانياً ظناً منه عدم إفادة الحمل حينئذٍ وهو من بعض الظن كما علمت ، وجوز الزمخشري أن تكون كان تامة ، والضمير مبهم مفسر بالمنصوب على أنه تمييز ولم يرتضه النحاة لأن كان ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمراً يفسره ما بعده لاختصاصه بباب نعم ، والتنازع كما قاله الشهاب والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية ، وفائدة ذكر ذلك التصريح بعدم اختصاص المراد بعدد دون عدد أي فإن كن نساء زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 221}
قال الفخر :
المعنى إن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا ليس معهن ابن ، وقوله : {فَوْقَ اثنتين} يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان ، وأن يكون صفة لقوله : {نِسَاء} أي نساء زائدات على اثنتين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 171}(20/234)
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } الآية.
فرض الله تعالى للواحدة النّصفَ ، وفرض لما فوق الثنتين الثلثين ، ولم يفرض للثنتين فرضا منصوصاً في كتابه ؛ فتكلم العلماء في الدّليل الذي يوجب لهما الثلثين ما هو ؟ فقيل : الإجماع وهو مردود ؛ لأن الصحيح عن ابن عباس أنه أعطى البنتين النصف ؛ لأن الله عز وجل قال : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } وهذا شرط وجزاء.
قال : فلا أعطي البنتين الثلثين.
وقيل : أعطيتا الثلثين بالقياس على الأختين ؛ فإن الله سبحانه لما قال في آخر السورة : { وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } وقال تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ } [ النساء : 176 ] فألحقت الابنتان بالأختين في الاشتراك في الثلثين وألحقت الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين.
واعترض هذا بأن ذلك منصوص عليه في الأخوات ، والإجماع منعقد عليه فهو مسلم بذلك.
وقيل : في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين ، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث إذا انفردت ، علمنا أن للاثنتين الثلثين.
احتج بهذه الحجة ، وقال هذه المقالة إسماعيل القاضي وأبو العباس المبرّد.
قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط ؛ لأن الاختلاف في البنتين وليس في الواحدة.
فيقول مخالفه : إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف ؛ فهذا دليل على أن هذا فرضهم.
وقيل : "فوق" زائدة أي إن كن نساء اثنتين.
كقوله تعالى : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } [ الانفال : 12 ] أي الأعناق.
وردّ هذا القول النحاس وابن عطية وقالا : هو خطأ ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى.(20/235)
قال ابن عطية : ولأن قوله تعالى : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } هو الفصيح وليست فوق زائدة بل هي مُحْكِمَةٌ للمعنى لأنّ ضربة العنق إنما يجبْ أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدّماغ.
كما قال دريد بن الصمة : أخفض عن الدّماغ وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال.
وأقوى الاحتجاج في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب النزول.
ولغة أهل الحجاز وبني أسد الثلث والرُبع إلى العُشر.
ولغة بني تميم وربيعة الثلث بإسكان اللام إلى العشْر.
ويقال : ثلثتُ القوم أثلثهم ، وثلثتُ الدارهم أثلثِها إذا تمَّمتها ثلاثة ، وأثلثتْ هي ؛ إلا أنهم قالوا في المائة والألف : أمأيتها وآلفتها وأمأت وآلفت. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 63 ـ 64}.
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : { فإن كن نساء فوق اثنتين } إلخ معاد الضمير هو لفظ الأولاد ، وهو جمع ولد فهو غير مؤنّث اللفظ ولا المدلول لأنّه صالح للمذكّر والمؤنث ، فلمّا كان ما صدَقُه هُنا النساء خاصّة أعيد عليه الضمير بالتأنيث.
ومعنى : { فوق اثنتين } أكثر من اثنتين ، ومن معاني ( فوق ) الزيادة في العدد ، وأصل ذلك مجاز ، ثم شاع حتّى صار كالحقيقة ، والآية صريحة في أنّ الثلثين لا يعطيان إلاّ للبنات الثلاث فصاعداً لأنّ تقسيم الأنصباء لا يُنتقل فيه من مقدار إلى مقدار أزيدَ منه إلاّ عند انتهاء من يستحقّ المقدار الأول.(20/236)
والوصف بـ { فوق اثنتين } يفيد مفهوما وهو أنّ البنتين لا تعطيان الثلثين ، وزاد فقال : { وإن كانت واحدة فلها النصف } فبقي ميراث البنتين المنفردتين غير منصوص في الآية فألحقهما الجمهور بالثلاث لأنّهما أكثر من واحدة ، وأحسن ما وجِّه به ذلك ما قاله القاضي إسماعيل بن إسحاق "إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها إذا انفرد الثلث فأحرى أن تأخذ الثلثَ مع أختها" يعني أنّ كلّ واحدة من البنتين هي مقارنة لأختها الأخرى فلا يكون حظّها مع أخت أنثى أقلّ من حظّها مع أخ ذكر ، فإنّ الذكر أولى بتوفير نصيبه ، وقد تلقّفه المحقّقون من بعده ، وربما نسب لبعض الذين تلقّفوه.
وعلَّله ووَجَّهه آخرون : بأنّ الله جعل للأختين عند انفرادهما الثلثين فلا تكون البنتان أقلّ منهما.
وقال ابن عباس : للبنتين النصف كالبنت الواحدة ، وكأنّه لم ير لتوريثهما أكثر من التشريك في النصف محمَلا في الآية ، ولو أريد ذلك لما قال { فوق اثنتين }.
ومنهم من جعل لفظ ( فوق ) زائداً ، ونظّره بقوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } [ الأنفال : 12 ].
وشتَّان بين فوق التي مع أسماء العدد وفوق التي بمعنى مكان الفعل.
قال ابن عطية : وقد أجمع الناس في الأمصار والأعصار على أنّ للبنتين الثلثين ، أي وهذا الإجماع مستند لسنّة عرفوها.
وردّ القرطبي دعوى الإجماع بأنّ ابن عباس صحّ عنه أنّه أعطى البنتين النصف.
قلت : لعلّ الإجماع انعقد بعدما أعطى ابن عباس البنتين النصف على أنّ اختلال الإجماع لمخالفة واحد مختلف فيه ، أمّا حديث امرأة سعد بن الربيع المتقدّم فلا يصلح للفصل في هذا الخلاف ، لأنّ في روايته اختلافا هل ترك بنتين أو ثلاثاً.(20/237)
وقوله : { فلهن } أعيد الضمير إلى نساء ، والمراد ما يصدق بالمرأتين تغليبا للجمع على المثنى اعتمادا على القرينة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 46}
فائدة
قال ابن عطية :
واستدل الجميع بأن أقل الجمع اثنان ، لأن التثنية جمع شيء إلى مثله ، فالمعنى يقتصي أنها جمع ، وذكر المفسرون أن العرب قد تأتي بلفظ الجمع وهي تريد التثنية ، كما قال تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } [ الأنبياء : 78 ] وكقوله في آية الخصم { إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا } [ ص : 21 ، 22 ] وكقوله : { وأطراف النهار } [ طه : 130 ] واحتجوا بهذا كله في أن الإخوة يدخل تحته الأخوان.
وهذه الآيات كلها لا حجة فيها عندي على هذه الآية ، لأنه قد تبين في كل آية منها بالنص أن المراد اثنان ، فساغ التجوز بأن يؤتى بلفظ الجمع بعد ذلك ، إذ معك في الأولى - يحكمان - وفي الثانية - إن هذا أخي ، وأيضاً فالحكم قد يضاف إلى الحاكم والخصوم ، وقد يتسور مع الخصم وغيرهما فهم جماعة ، وأما { النهار } في الآية الثالثة فالألف واللام فيه للجنس فإنما أراد طرفي كل يوم وأما إذا ورد لفظ الجمع ولم يقترن به ما يبين المراد فإنما يحمل على الجمع ، ولا يحمل على التثنية ، لأن اللفظ مالك للمعنى وللبنية حق ، وذكر بعض من احتج لقول عبد الله بن عباس : أن بناء التثنية يدل على الجنس والعدد ، كبناء الإفراد وبناء الجمع يدل على الجنس ولا يدل على العدد فلا يصح أن يدخل هذا على هذا. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 2 صـ 17}
أسئلة وأجوبة
السؤال الأول : قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} كلام مذكور لبيان حظ الذكر من الأولاد ، لا لبيان حظ الأنثيين ، فكيف يحسن إرادته بقوله : {فَإِن كُنَّ نِسَاء} وهو لبيان حظ الاناث.
والجواب من وجهين :(20/238)
الأول : أنا بينا أن قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} دل على أن حظ الأنثيين هو الثلثان ، فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قال بعده : {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} على معنى : فإن كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد ، فلهن ما للثنتين وهو الثلثان ، ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت ، فثبت أن هذا العطف متناسب.
الثاني : أنه قد تقدم ذكر الأنثيين ، فكفى هذا القول في حسن هذا العطف.
السؤال الثاني : هل يصح أن يكون الضميران في "كن" و"كانت" مبهمين ويكون "نساء" و"واحدة" تفسيراً لهما على أن "كان" تامة ؟
الجواب : ذكر صاحب "الكشاف" : أنه ليس ببعيد.
السؤال الثالث : النساء : جمع ، وأقل الجمع ثلاثة ، فالنساء يجب أن يكن فوق اثنتين فما الفائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين ؟
الجواب : من يقول أقل الجمع اثنان فهذه الآية حجته ، ومن يقول : هو ثلاثة قال هذا للتأكيد ، كما في قوله : {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} [ النساء : 10 ] وقوله : {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} [ النحل : 51 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 171}
قوله تعالى {وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف}
فصل
قال الفخر :
قرأ نافع ( واحدة ) بالرفع ، والباقون بالنصب ، أما الرفع فعلى كان التامة ، والاختيار النصب لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قوله : {فَإِن كُنَّ نِسَاء} والتقدير : فإن كان المتروكات أو الوارثات نساء فكذا ههنا ، التقدير : وإن كانت المتروكة واحدة ، وقرأ زيد بن علي : النصف ، بضم النون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 172}(20/239)
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } قرأ نافع وأهل المدينة "وَاحِدَةٌ" بالرفع على معنى وقعت وحدثت ، فهي كان التامّة ؛ كما قال الشاعر :
إذا كان الشتاء فأدْفِئُوني . . .
فإن الشيخ يُهرمه الشِّتاءُ
والباقون بالنصب.
قال النحاس : وهذه قراءة حسنة.
أي وإن كانت المتروكة أو المولودة "واحدة" مثل { فَإِن كُنَّ نِسَآءً }.
فإذا كان مع بنات الصلب بنات ابن ، وكان بنات الصلب اثنتين فصاعدا حجبن بنات الابن أن يرثن بالفرض ؛ لأنه لا مدخل لبنات الابن أن يرثن بالفرض في غير الثلثين.
فإن كانت بنت الصلب واحدة فإن ابنة الابن أو بنات الابن يرثن مع بنات الصلب تكمله : الثلثين ؛ لأنه فرض يرثه البنتان فما زاد.
وبنات الابن يقمن مقام البنات عند عدمهن.
وكذلك أبناء البنين يقومون مقام البنين في الحجب والميراث.
فلما عُدِم من يستحق منهنَّ السدس كان ذلك لبنت الابن وهي أولى بالسدس من الأخت الشقيقة للمتوفى.
على هذا جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ؛ إلا ما يروى عن أبي موسى وسليمان بن أبي ربيعة أن للبنت النصف ، والنصف الثاني للأخت ، ولا حَقَّ في ذلك لبنت الابن.
وقد صح عن أبي موسى ما يقتضي أنه رجع عن ذلك ؛ رواه البخاري : حدّثنا آدم حدّثنا شعبة حدّثنا أبو قيس سمعت هُزيل بن شُرْحَبيل يقول ؛ سُئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابنٍ وأخت.
فقال : للابنة النصف ، وللأخت النصف ؛ وأتِ ابن مسعود فإنه سيتابعني.
فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال : لقد ضللتُ إذّا وما أنا من المهتدين! أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم : للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت.
فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحِبر فيكم.(20/240)
فإن كان مع بنت الابن أو بنات الابن ابنٌ في درجتها أو أسفل منها عصبها ، فكان النصف الثاني بينهما ، للذكر مثل حظ الأنثيين بالغا ما بلغ خلافاً لابن مسعود على ما تقدّم إذا استوفى بناتُ الصلب ، أو بنتُ الصلب وبناتُ الابن الثلثين.
وكذلك يقول في الأخت لأب وأم ، وأخوات وإخوة لأب : للأخت من الأب والأمّ النصف ، والباقي للإخوة والأخوات ، ما لم يصبهن من المقاسمة أكثر من السدس ؛ فإن أصابهنّ أكثر من السدس أعطاهنّ السدس تكملة الثلثين ، ولم يزدهنّ على ذلك. وبه قال أبو ثَوْر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 64 ـ 65}.
فائدة
قال القرطبى :
إذا مات الرجل وترك زوجته حُبلَى فإن المال يُوقف حتى يتبيّن ما تضع.
وأجمع أهل العلم على أن الرجل إذا مات وزوجته حُبلَى أن الولد الذي في بطنها يرث ويُورث إذا خرج حَياً واستهل.
وقالوا جميعاً : إذا خرج ميتاً لم يرث ؛ فإن خرج حياً ولم يستهلّ فقالت طائفة : لا ميراث له وإن تحرك أو عَطَس ما لم يستهلّ.
هذا قول مالك والقاسم بن محمد وابن سيرين والشَّعبي والزُّهري وقَتادة.
وقالت طائفة : إذا عُرفت حياة المولود بتحريك أو صياح أو رضاع أو نَفَس فأحكامُه أحكامُ الحي.
هذا قول الشافعي وسفيان الثَّوري والأوزاعي.
قال ابن المنذر : الذي قاله الشافعي يحتمل النظر ، غير أن الخبر يمنع منه وهو قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يُولد إلا نَخَسه الشيطان فيستهلّ صارخاً من نخْسة الشيطان إلا ابن مريم وأمَّه " وهذا خبر ، ولا يقع على الخبر النسخ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 65}.
قوله تعالى {وَلأِبَوَيْهِ لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ }
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَلأَبَوَيْهِ } أي لأبوي الميت.(20/241)
وهذا كنايةٌ عن غير مذكور وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه ؛ كقوله { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] و{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] و{ السدس } رفع بالإبتداء ، وما قبله خبره : وكذلك "الثُّلثُ.
والسُّدُسُ".
وكذلك { نِصْفُ مَا تَرَكَ } وكذلك { فَلَكُمُ الربع }.
وكذلك { وَلَهُنَّ الربع }.
و { فَلَهُنَّ الثمن } وكذلك { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس }.
والأبوان تثنية الأب والأَبَة.
واستغنى بلفظ الأم عن أن يقال لها أبة.
ومن العرب من يجري المختلفين مجرى المتّفقين ؛ فيغلب أحدهما على الآخر لخفته أو شهرته.
جاء ذلك مسموعاً في أسماء صالحة ؛ كقولهم للأب والأم : أبوان.
وللشمس والقمر : القمران.
ولِلّيل والنهار : الملَوَان.
وكذلك العُمَران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
غلبّوا القمر على الشمس لخفة التذكير ، وغلّبوا عُمَرَ على أبي بكر لأن أيام عمر امتدّت فاشتهرت.
ومن زعم أنه أراد بالعُمَرين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز فليس قوله بشيء ؛ لأنهم نطقوا بالعُمَرين قبل أن يروا عمر بن عبد العزيز.
قاله ابن الشَّجري.
ولم يدخل في قوله تعالى : { وَلأَبَوَيْهِ } من علا من الأباء دخول من سفَل من الأبناء في قوله { أَوْلاَدِكُمْ } ، لأن قوله : { وَلأَبَوَيْهِ } لفظ مثنَّى لا يحتمل العموم والجمع أيضاً ؛ بخلاف قوله { أَوْلاَدِكُمْ }.
والدليل على صحة هذا قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث } والأمّ العليا جَدّة ولا يفرض لها الثلث بإجماع ، فخروج الجدّة عن هذا اللفظ مقطوع به ، وتناولُه للجَدّ مختلف فيه.
(20/242)
فممّن قال هو أبٌ وحَجَب به الإخوة أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه ولم يخالفه أحد من الصحابة في ذلك أيام حياته ، واختلفوا في ذلك بعد وفاته ؛ فَمِمّنْ قال إنه أبٌ ابنُ عباس وعبدُ الله ابن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة كلهم يجعلون الجَدّ عند عدم الأب كالأب سواء ، يحجبون به الإخوة كلَّهم ولا يرثون معه شيئاً.
وقاله عطاء وطاوس والحسن وقتادة.
وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو ثَوْر وإسحاق.
والحجّة لهم قولهُ تعالى : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] { يابني آدَمَ } [ الأعراف : 26 ] ، وقوله عليه السلام : " يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان رامياً " وذهب علي بن أبي طالب وزيد وابن مسعود إلى توريث الجدّ مع الإخوة ، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأب إلا مع ذوي الفروض ؛ فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئاً في قول زيد.
وهو قول مالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي.
وكان علي يُشرك بين الإخوة والجَدّ إلى السدس ولا ينقصه من السدس شيئاً مع ذوي الفرائض وغيرهم.
وهو قول ابن أبي لَيلى وطائفة.
وأجمع العلماء على أن الجَدّ لا يرث مع الأب وأن الابن يحجب أباه.
وأنزلوا الجَدّ بمنزلة الأب في الحجب والميراث إذا لم يترك المتوفى أباً أقرب منه في جميع المواضع.
وذهب الجمهور إلى أن الجَدّ يُسقط بني الإخوة من الميراث ؛ إلا ما رُوي عن الشَّعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة.
والحجّة لقول الجمهور أن هذا ذَكَرٌ لا يعصّب أخته فلا يقاسم الجدّ كالعمّ وابن العمّ.
(20/243)
قال الشعبي : أوّل جدّ وُرِّث في الإسلام عُمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ مات ابن لعاصم بن عمر وترك أخوين فأراد عمر أن يستأثر بما له فاستشار علياً وزيدا في ذلك فمَثّلا له مثلا فقال : لولا أنّ رأيكما اجتمع ما رأيت أن يكون ابني ولا أكون أباه.
روى الدَّارَقُطْني عن زيد بن ثابت أن عمر بن الخطاب استأذن عليه يوماً فأذن له ، ورأسه في يد جارية له تُرَجِّله ، فنزع رأسه ؛ فقال له عمر : دعها ترجِّلك.
فقال : يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إلي جئتُك.
فقال عمر : إنما الحاجة لي ، إني جئتك لتنظر في أمر الجَدّ.
فقال زيد : لا والله! ما تقول فيه.
فقال عمر : ليس هو بِوَحيٍ حتى نزيد فيه وننقص ، إنما هو شيء تراه ، فإن رأيته وافقني تبعته ، وإلا لم يكن عليك فيه شيء.
فأبى زيد ، فخرج مُغْضَباً وقال : قد جئتك وأنا أظن ستفرغ من حاجتي.
ثم أتاه مرّة أخرى في الساعة التي أتاه في المرّة الأولى.
فلم يزل به حتى قال : فسأكتب لك فيه.
فكتبه في قطعة قَتَب وضرب له مثلاً.
إنما مثلُه مثلُ شجرة تنبت على ساق واحدة.
فخرج فيها غصن ثم خرج في غصن غصنٌ آخر ؛ فالساق يسقي الغصن ، فإن قطعت الغصن الأوّل رجع الماء إلى الغصن ، وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الأوّل.
فأتى به فخطب الناس عمرُ ثم قرأ قطعة القتب عليهم ثم قال : إن زيد بن ثابت قد قال في الجَدّ قولاً وقد أمضيته.
قال : وكان عمر أوّلَ جدّ كان ؛ فأراد أن يأخذ المال كلَّه ، مالَ ابن ابنه دون إخوته ، فقسمه بعد ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأما الجَدّة فأجمع أهل العلم على أن للجَدّة السدس إذا لم يكن للميّت أمّ.
وأجمعوا على أن الأمّ تحجب أمّها وأم الأب.
وأجمعوا على أن الأب لا يحجب أمّ الأمّ.
واختلفوا في توريث الجَدّة وابنُها حي فقالت طائفة : لا ترث الجدّة وابنها حي.
(20/244)
رُوي عن زيد بن ثابت وعثمان وعلي.
وبه قال مالك والثَّوْري والأوزاعي وأبو ثَوْر وأصحاب الرأي.
وقالت طائفة : ترث الجدّة مع ابنها.
رُوي عن عمر وابن مسعود وعثمان وعلي وأبي موسى الأشعري ، وقال به شُريح وجابر بن زيد وعبيدالله بن الحسن وُشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر.
وقال : كما أن الجدّ لا يحجبه إلا الأب كذلك الجدّة لا يحجبها إلا الأم.
وروى الترمذي عن عبد الله قال في الجدّة مع ابنها : إنها أوّل جدّة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسا مع ابنها وابُنها حي.
والله أعلم.
واختلف العلماء في توريث الجَدّات ؛ فقال مالك : لا يرث إلا جدّتان ، أُم أُمٍّ وأم أبٍ وأمهاتهما.
وكذلك روى أبو ثَوْر عن الشافعي ، قال به جماعة من التابعين.
فإن انفردت إحداهما فالسّدسُ لها ، وإن اجتمعتا وقرابتُهما سواء فالسدس بينهما.
وكذلك إن كَثُرْن إذا تساوَينْ في القُعْدُد ؛ وهذا كله مجمع عليه.
فإن قَربُت التي مِن قَبلِ الأم كان لها السدس دون غيرها ، وإن قَرُبت التي من قِبَل الأب كان بينها وبين التي من قبل الأم وإن بعدت.
ولا ترث إلا جدّة واحدة من قبل الأم.
ولا ترث الجدّةُ أمُّ أب الأمّ على حال.
هذا مذهب زيد بن ثابت ، وهو أثبت ما رُوي عنه في ذلك.
وهو قول مالك وأهل المدينة.
وقيل : إن الجَداتِ أمهاتٌ ؛ فإذا اجتمعن فالسدس لأقربهن ؛ كما أن الآباء إذا اجتمعوا كان أحقهم بالميراث أقربهم ؛ فكذلك البنون والإخوة ، وبنو الإخوة وبنو العمّ إذا اجتمعوا كان أحقهم بالميراث أقربهم ؛ فكذلك الأمهات.
قال ابن المنذر : وهذا أصح ، وبه أقول.
وكان الأوزاعي يورّث ثلاث جدّاتٍ : واحدةً مِن قِبَل الأمّ واثنتين من قبل الأب.
وهو قول أحمد بن حنبل ؛ رواه الدَّراقُطني عن النبي صلى الله عليه وسلم مُرْسلاً.
(20/245)
وروي عن زيد بن ثابت عكس هذا ؛ أنه كان يورّث ثلاث جدّات : اثنتين من جهة الأم وواحدة مِن قِبل الأب.
وقول علي رضي الله عنه كقول زيد هذا.
وكانا يجعلان السدس لأقربهما ، من قبل الأم كانت أو من قِبل الأب.
ولا يَشْرَكُها فيه من ليس في قُعْدُدِها ؛ وبه يقول الثَّوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثوْر.
وأما عبد الله بن مسعود وابنُ عباس فكانا يورّثان الجدّات الأربع ؛ وهو قول الحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد.
قال ابن المنذر : وكل جَدّة إذا نسبت إلى المُتَوفَّى وقع في نسبها أب بين أمّين فليست ترث ، في قول كل من يُحْفظ عنه من أهل العلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 67 ـ 71}. بتصرف يسير.
فصل
قال الفخر :
اعلم أن للأبوين ثلاثة أحوال.
الحالة الأولى : أن يحصل معهما ولد وهو المراد من هذه الآية ، واعلم أنه لا نزاع أن اسم الولد يقع على الذكر والأنثى ، فهذه الحالة يمكن وقوعها على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يحصل مع الأبوين ولد ذكر واحد ، أو أكثر من واحد ، فههنا الابوان لكل واحد منهما السدس.
وثانيها : أن يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر ، وههنا الحكم ما ذكرناه أيضا.
وثالثها : أن يحصل مع الأبوين بنت واحدة فههنا للبنت النصف ، وللام السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية.
والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 172}
أسئلة وأجوبة :
السؤال الأول : لا شك أن حق الوالدين على الإنسان أعظم من حق ولده عليه ، وقد بلغ حق الوالدين إلى أن قرن الله طاعته بطاعتهما فقال : {وقضى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا} وإذا كان كذلك فما السبب في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل ؟(20/246)
والجواب عن هذا في نهاية الحسن والحكمة ، وذلك لأن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل فكان احتياجهما إلى المال قليلا ، أما الأولاد فهم في زمن الصبا فكان احتياجهم إلى المال كثيرا فظهر الفرق.
السؤال الثاني : الضمير في قوله : {وَلأِبَوَيْهِ} إلى ماذا يعود ؟
الجواب : أنه ضمير عن غير مذكور ، والمراد : ولأبوي الميت.
السؤال الثالث : ما المراد بالأبوين ؟
والجواب : هما الأب والأم ، والأصل في الأم أن يقال لها أبة ، فأبوان تثنية أب وأبة.
السؤال الرابع : كيف تركيب هذه الآية.
الجواب : قوله : {لِكُلّ واحد مّنْهُمَا} بدل من قوله : {لأبويه} بتكرير العامل ، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل : ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه.
فإن قيل : فهلا قيل لكل واحد من أبويه السدس.
قلنا : لأن في الابدال والتفصيل بعد الاجمال تأكيداً وتشديدا ، والسدس مبتدأ وخبره : لأبويه ، والبدل متوسط بينهما للبيان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 172 ـ 173}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس } فَرضَ تعالى لِكل واحد من الأبوين مع الولد السّدسَ ؛ وأبْهم الولد فكان الذكر والأُنثى فيه سواء.
فإن مات رجل وترك ابنا وأبوين فلأَبَوَيْه لكل واحد منهما السدس ، وما بقي فللابن.
فإن ترك ابنة وأبوين فللابنة النصف وللأبوين السدسان ، وما بَقَى فلأقرب عصبة وهو الأب ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقت الفرائض فلأوْلَى رجل ذكر " فاجتمع للأب الاستحقاقُ بجهتين : التعصيب والفرض.
{ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث } فأخبر جل ذِكره أن الأبوين إذا ورِثاه أن للأُم الثلث.
ودلّ بقوله { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } وإخباره أن للأُم الثلث ، أن الباقي وهو الثلثان للأب.(20/247)
وهذا كما تقول لرجلين : هذا المال بينكما ، ثم تقول لأحدهما : أنت يا فلان لك منه ثلث ؛ فإنك حدّدت للآخر منه الثلثين بنصّ كلامك ؛ ولأن قوّة الكلام في قوله { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } يدل على أنهما منفردان عن جميع أهل السهام من ولد وغيره ، وليس في هذا اختلاف.
قلت : وعلى هذا يكون الثلثان فرضاً للأب مسمًّى لا يكون عصبة ، وذكر ابن العربيّ أن المعنى في تفضيل الأب بالثلث عند عدم الولد الذكورية والنصرة ، ووجوب المؤنة عليه ، وثبتت الأُم على سهم لأجل القرابة.
قلت : وهذا منتقَض ؛ فإن ذلك موجود مع حياته فَلِم حُرِم السدس.
والذي يظهر أنه إنما حُرم السدسَ في حياته إرفاقاً بالصبيّ وحِياطة على ماله ؛ إذْ قد يكون إخراج جزء من ماله إجحافاً به.
أو أن ذلك تعبُّدٌ ، وهو أوْلى ما يقال. والله الموفق. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 71}.
قوله تعالى {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمّهِ الثلث }
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذا هو الحالة الثانية من أحوال الأبوين ، وهو أن لا يحصل معهما أحد من الأولاد ، ولا يكون هناك وارث سواهما ، وهو المراد من قوله : {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فههنا للأم الثلث ، وذلك فرض لها ، والباقي للأب ، وذلك لأن قوله : {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ظاهره مشعر بأنه لا وارث له سواهما ، وإذا كان كذلك كان مجموع المال لهما ، فإذا كان نصيب الأم هو الثلث وجب أن يكون الباقي وهو الثلثان للأب ، فههنا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين كما في حق الأولاد ، ويتفرع على ما ذكرنا فرعان : الأول : أن الآية السابقة دلت على أن فرض الاب هو السدس ، وفي هذه الصورة يأخذ الثلثين إلا أنه ههنا يأخذ السدس بالفريضة ، والنصف بالتعصيب.(20/248)
الثاني : لما ثبت أنه يأخذ النصف بالتعصيب في هذه الصورة وجب أن يكون الأب إذا انفرد أن يأخذ كل المال ، لأن خاصية العصبة هو أن يأخذ الكل عند الانفراد ، هذا كله إذا لم يكن للميت وارث سوى الأبوين ، أما إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فذهب أكثر الصحابة إلى أن الزوج يأخذ نصيبه ثم يدفع ثلث ما بقي إلى الأم ، ويدفع الباقي إلى الأب ، وقال ابن عباس : يدفع إلى الزوج نصيبه ، والى الأم الثلث ، ويدفع الباقي إلى الأب ، وقال : لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي ، وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين ، وخالفه في الزوج والأبوين ، لأنه يفضي إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين ، وأما في الزوجة فإنه لا يفضي إلى ذلك ، وحجة الجمهور وجوه : الأول : أن قاعدة الميراث أنه متى اجتمع الرجل والمرأة من جنس واحد كان للذكر مثل حظ الأنثيين ، ألا ترى أن الابن مع البنت كذلك قال تعالى : {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} وأيضا الأخ مع الأخت كذلك قال تعالى : {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيين} [ النساء : 176 ] وأيضا الأم مع الأب كذلك ، لأنا بينا أنه إذا كان لا وارث غيرهما فللأم الثلث ، وللأب الثلثان ، إذا ثبت هذا فنقول : إذا أخذ الزوج نصيبه وجب أن يبقى الباقي بين الأبوين أثلاثا ، للذكر مثل حظ الأنثيين.
(20/249)
الثاني : أن الأبوين يشبهان شريكين بينهما مال ، فإذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأول ، الثالث : أن الزوج إنما أخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة ، فأشبه الوصية في قسمة الباقي ، الرابع : أن المرأة إذا خلفت زوجا وأبوين فللزوج النصف ، فلو دفعنا الثلث إلى الأم والسدس إلى الأب لزم أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين ، وهذا خلاف قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين }.
واعلم أن الوجوه الثلاثة الأول : يرجع حاصلها إلى تخصيص عموم القرآن بالقياس.
وأما الوجه الرابع : فهو تخصيص لأحد العمومين بالعموم الثاني. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 173}
سؤال : إن قيل : ما فائدة زيادة الواو في قوله : "وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ" ، وكان ظاهر الكلام أن يقول : فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه ؟.
قيل له : أراد بزيادتها الإخبارَ ليبيّن أنه أمر مستقِرّ ثابت ، فيخبر عن ثبوته واستقراره ، فيكون حال الوالدين عند انفرادهما كحال الولدين ، للذَّكَر مثل حظّ الأُنثيين.
ويجتمع للأب بذلك فرضان السهم والتعصِيب إذ يحجب الإخوة كالولد.
وهذا عدل في الحُكْم ، ظاهر في الحكمة. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 72}.
قوله تعالى {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِهِ السدس }
فصل
قال الفخر :
اتفقوا على أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس ، واتفقوا على أن الثلاثة يحجبون ، واختلفوا في الأختين ، فالأكثرون من الصحابة على القول بإثبات الحجب كما في الثلاثة ، وقال ابن عباس : لا يحجبان كما في حق الواحدة ، حجة ابن عباس أن الآية دالة على أن هذا الحجب مشروط بوجود الاخوة ، ولفظ الاخوة جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما ثبت في أصول الفقه ، فإذا لم توجد الثلاثة لم يحصل شرط الحجب ، فوجب أن لا يحصل الحجب.(20/250)
روي أن ابن عباس قال لعثمان : بم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس ؟ وإنما قال الله تعالى : {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والأخوان في لسان قومك ليسا باخوة ؟ فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار.
واعلم أن في هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان ، وعثمان ما أنكره ، وهما كانا من صميم العرب ، ومن علماء اللسان ، فكان اتفاقهما حجة في ذلك.
واعلم أن للعلماء في أقل الجمع قولين :
الأول : أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمة الله عليه ، واحتجوا فيه بوجوه :
(20/251)
أحدها : قوله تعالى : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [ التحريم : 4 ] ولا يكون للإنسان الواحد أكثر من قلب واحد ، وثانيها : قوله تعالى : {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين} والتقييد بقوله : فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحاً للثنتين ، وثالثها : قوله : " الاثنان فما فوقهما جماعة " والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين ، إلا أن الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة ، وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين ، وإنما الموجب لذلك هو القياس ، وتقريره أن نقول : الأختان يوجبان الحجب ، وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا ، إنما قلنا إن الأختين يحجبان ، وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث ، ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان ، وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث ، فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين ، كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة ، فثبت أن الأختين يحجبان ، وإذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين ، لأنه لا قائل بالفرق ، فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ، وفيه إشكال لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى ، فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع ، ويمكن أن يقال : لا يتمسك به على طريقة القياس ، بل على طريقة الاستقراء لأن الكثرة أمارة العموم ، إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف والله أعلم ، واعلم أنه تأكد هذا باجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس ، والأصح في أصول الفقه أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 174 ـ 175}
وقال القرطبى :(20/252)
قوله تعالى : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس } الإخوة يحجبون الأُمّ عن الثلث إلى السدس ، وهذا هو حجب النقصان ، وسواء كان الإخوة أشقّاء أو للأب أو للأُمّ ، ولا سهم لهم.
ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : السّدس الذي حجب الأُخوةُ الأُمّ عنه هو للإخوة.
ورُوي عنه مثلُ قولِ الناس إنه للأب.
قال قتَادة : وإنما أخذه الأب دونهم ؛ لأنه يُمونهم وَيلي نكاحهم والنفقةَ عليهم.
وأجمع أهل العلم على أن أخوين فصاعداً ذُكراناً كانوا أو إناثاً من أب وأُم ، أو من أب أو من أُم يحجبُون الأُم عن الثلث إلى السدس ؛ إلا ما رُوي عن ابن عباس أن الاثنين من الإخوة في حكم الواحد ، ولا يحجبُ الأُمّ أقلُّ من ثلاث.
وقد صار بعض الناس إلى أن الأخوات لا يحجبن الأُمّ من الثلث إلى السدس ؛ لأن كتاب الله في الإخوة وليست قوّة ميراثِ الإناث مثلَ قوّة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرةُ الإلحاق.
قال الكِيَا الطبريّ : ومقتضى أقوالهم ألاّ يَدخلن مع الإخوة ؛ فإن لفظ الإخوة بمطلقه لا يتناول الأخوات ، كما أن لفظ البنين لا يتناول البنات.
وذلك يقتضي ألاّ تُحجب الأُم بالأخ الواحد والأُخت من الثلث إلى السدس ؛ وهو خلاف إجماع المسلمين.
وإذا كنّ مراداتٍ بالآية مع الإخوة كنّ مرادات على الانفراد. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 72 ـ 73}.(20/253)
فصل
قال الفخر :
الإخوة إذا حجبوا الأم من الثلث إلى السدس فهم لا يرثون شيئا ألبتة ، بل يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس ، سدس بالفرض ، والباقي بالتعصيب ، وقال ابن عباس : الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه ، وما بقي فللأب ، وحجته أن الاستقراء دل على أن من لا يرث لا يحجب ، فهؤلاء الاخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا ، وحجة الجمهور أن عند عدم الاخوة كان المال ملكا للأبوين ، وعند وجود الاخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ، ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا ، فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين ، كما كان قبل ذلك ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 175}
قوله تعالى {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا }
فصل
قال الفخر :
إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين ، قال : {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين ، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين ، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق ، فأما إذا لم يكن دين ، أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء ، فإن أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل ، ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 175}
فصل
قال الفخر :
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين ، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية.
واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة "أو" لا تفيد الترتيب ألبتة.(20/254)
واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين : الأول : أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان إخراجها شاقا على الورثة ، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين ، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه ، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في اخراجها ، ثم أكد في ذلك الترغيب بادخال كلمة "أو" على الوصية والدين ، تنبيها على أنهما في وجوب الإخراج على السوية.
الثاني : أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية ، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له ، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية ، ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين ، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى ، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الارث ، وليس كذلك الدين ، فإنه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي ، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا ، فالوصية تشبه الإرث من وجه ، والدين من وجه آخر ، أما مشابهتها بالارث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والارث ، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 175 ـ 176}
وقال القرطبى :
إن قيل : ما الحكمة في تقديم ذكر الوصيّة على ذكر الدَّين ، والدَّين مُقدَّم عليها بإجماع.
وقد روى الترمذيّ عن الحارث عن عليّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدَّين قبل الوصية ، وأنتم تقرُّون الوصيّة قبل الدّين.
قال : والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أنه يُبدأ بالدّين قبل الوصية.
(20/255)
وروى الدّارَقُطْنِيّ من حديث عاصم بن ضمرة عن عليّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدَّين قبل الوصيّة وليس لوارث وصيّة " رواه عنهما أبو إسحاق الهَمْدانيّ.
فالجواب من أوجهٍ خمسة : الأوّل إنما قصد تقديم هذين الفصلين على الميراث ولم يقصد ترتيبهما في أنفسهما ؛ فلذلك تقدّمت الوصية في اللفظ.
جواب ثان لما كانت الوصية أقلَّ لزوماً من الدَّين قدّمها اهتماماً بها ؛ كما قال تعالى : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } [ الكهف : 49 ].
جواب ثالث قدّمها لكثرة وجودها ووقوعها ؛ فصارت كاللازم لكل ميّت مع نصّ الشرع عليها ، وأخّر الدّين لشذوذه ، فإنه قد يكون وقد لا يكون.
فبدأ بذكر الذي لا بُدّ منه ، وعطف بالذي قد يقع أحياناً.
ويقوِّي هذا : العطف بأو ، ولو كان الدَّين راتباً لكان العطف بالواو.
جواب رابع إنما قدّمت الوصية إذْ هي حظّ مساكين وضعفاء ، وأُخّر الدَّين إذ هو حظُّ غريم يطلبه بقوّةٍ وسلطان وله فيه مقال.
جواب خامس لما كانت الوصية ينشئها مِن قِبَل نفسه قدّمها ، والدَّين ثابت مؤدًّى ذكره أو لم يذكره.
ولمّا ثبت هذا تعلّق الشافعيّ بذلك في تقديم دَيْن الزكاة والحج على الميراث فقال : إن الرجل إذا فرّط في زكاته وجب أخذُ ذلك من رأس ماله.
وهذا ظاهر ببادىء الرأي ؛ لأنه حقٌّ من الحقوق فيلزم أداؤه عنه بعد الموت كحقوق الآدميين لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدميّ.
وقال أبو حنيفة ومالك : إن أوصى بها أدّيت من ثلثه ، وإن سكت عنها لم يُخرَج عنه شيء.
قالوا : لأن ذلك موجِب لترك الورثة فقراء ؛ إلا أنه قد يتعمد ترك الكل حتى إذا مات استغرق ذلك جميعَ ماله فلا يبقى للورثة حق. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 73 ـ 74}. بتصرف يسير.
(20/256)
سؤال : لقائل أن يقول : ما معنى "أو" ههنا وهلا قيل : من بعد وصية يوصى بها ودين ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أن "أو" معناها الاباحة كما لو قال قائل : جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس ، فإن جالست الحسن فأنت مصيب ، أو ابن سيرين فأنت مصيب ، وإن جمعتهما فأنت مصيب ، أما لو قال : جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر ، فكذا ههنا لو قال : من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، أما إذا ذكره بلفظ "أو" كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده ، وكذلك إن كان كلاهما.
الثاني : أن كلمة "أو" إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله : {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً} [ الإنسان : 24 ] وقوله : {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايا أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} [ الأنعام : 146 ] فكانت "أو" ههنا بمعنى الواو ، فكذا قوله تعالى : {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 176}
فائدة
قال ابن عاشور :
وجيء بقوله : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } بعد ذكر صنفين من الفرائض : فرائض الأبناء ، وفرائض الأبوين ، لأنّ هذين الصنفين كصنف واحد إذ كان سببهما عمود النسب المباشر.
والمقصد هنا التنبيه على أهمّية الوصيَّة وتقدّمها.
وإنَّما ذكر الدين بعدها تتميماً لما يتعيّن تقديمه على الميراث مع علم السامعين أنّ الدين يتقدّم على الوصيّة أيضاً لأنّه حقّ سابق في مال الميّت ، لأنّ المدين لا يملك من ماله إلاّ ما هو فاضل عن دين دائنه.(20/257)
فموقع عطف { أو دين } موقع الاحتراس ، ولأجل هذا الاهتمام كرّر الله هذا القيد أربع مرات في هذه الآيات.
ووصف الوصية بجملة { يوصي بها } لئلا يُتوهّم أنّ المراد الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الفرائض ، وهي التي في قوله : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين } [ البقرة : 180 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 49}
لطيفة
قال أبو السعود :
وإيثارُ { أَوْ } المفيدةِ للإباحة على الواو للدِلالة على تساويهما في الوجوب وتقدُّمِهما على القِسْمة مجموعَيْن أو منفردَيْن ، وتقديمُ الوصيةِ على الديْن ذكراً مع تأخّرها عنه حُكماً لإظهار كمالِ العنايةِ بتنفيذها لكونها مظِنةً للتفريط في أدائها ولاطّرادها بخلاف الدَّين. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 150}(20/258)
قوله تعالى {ءاباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم
وبين قوله : {فَرِيضَةً مّنَ الله} ومن حق الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه ، فنقول : إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد وأنصباء الأبوين ، وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات ، والإنسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح ، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه ، وانهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء ، وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء ، فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال : إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم ، فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة ، وأما الاله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها ، فكأنه قيل : أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم ، وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم ، فقوله : {وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} إشارة إلى ترك ما يميل إليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة ، وقوله : {فَرِيضَةً مّنَ الله} إشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها ، وذكروا في المراد من قوله : {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} وجوها : الأول : المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة ، قال ابن عباس : إن الله ليشفع بعضهم في بعض ، فأطوعكم لله عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة ، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه ، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه ، فقال : {لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ(20/259)
لَكُمْ نَفْعاً} لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك.
الثاني : المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الإنفاق عليه والتربية له والذب عنه والثالث : المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد.
قوله تعالى : {فَرِيضَةً مّنَ الله} هو منصوب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما حكيما ، والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل إليها طباعكم ، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد ، وأنه حكيم لا يأمر إلا بما هو الأصلح الأحسن ، ومتى كان الأمر كذلك كانت قسمته لهذه المواريث أولى من القسمة التي تريدونها ، وهذا نظير قوله للملائكة : {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [ البقرة : 30 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 176 ـ 177}
وقال الخازن :
قوله تعالى : { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } قيل هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله فريضة من الله ولا تعلق لمعناه بمعنى الآية ومعنى هذا الكلام في قول ابن عباس : إن الله عز وجل يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فأطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة ، فإن كان الوالد أرفع درجة من ولده رفع الله درجة ولده إليه وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه لتقر بذلك أعينهم فقال تعالى : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } لأن أحدهما لا يعرف منفعة صاحبه له في الجنة وسبقه إلى منزلة عالية تكون سبباً لرفعته إليها ، وقيل إن هذا الكلام ليس معترضاً بينهما ومعناه متعلق بمعنى الآية يقول آباؤكم وأبناؤكم يعني الذين يرثونكم أيهم أقرب لكم نفعاً أي لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا.(20/260)
فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع له ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ولكن الله هو الذي دبر أمركم على ما فيه المصلحة لكم فاتبعوه ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتعطون من لا يستحق ما لا يستحق من الميراث وتمنعون منم يستحق الميراث. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 326}
وقال ابن عاشور :
ختم هذه الفرائض المتعلّقة بالأولاد والوالدين ، وهي أصول الفرائض بقوله : { آباؤكم وأبناؤكم } الآية ، فهما إمّا مسند إليهما قُدّما للاهتمام ، وليتمكّن الخبر في ذهن السامع إذ يُلقي سمعه عند ذكر المسند إليهما بشراشره ، وإمّا أن تجعلهما خبرين عن مبتدأ محذوف هو المسند إليه ، على طريقة الحذف المعبّر عنه عند علماء المعاني بمتابعة الاستعمال ، وذلك عندما يتقدّم حديث عن شيء ثم يراد جمع الخبر عنه كقول الشاعر :
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه...
ولا مظهر الشكوى إذا النعل وزلّت
بعد قوله :
سأشكر عمرا إن تدانت منيّتي...
أيادي لم تُمنن وإن هي جلَّت
أي : المذكورون آباؤكم وأبناؤكم لا شكّ في ذلكّ.
ثم قال : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } فهو إما مبتدأ وإما حال ، بمعنى أنهم غير مستوين في نفعكم متفاوتون تفاوتاً يتبع تفاوت الشفقة الجبلية في الناس ويتبع البرور ومقدار تفاوت الحاجات.(20/261)
فربّ رجل لم تعرض له حاجة إلى أن ينفعه أبواه وأبناؤه ، وربما عرضت حاجات كثيرة في الحالين ، وربما لم تعرض فهم متفاوتون من هذا الأعتبار الذي كان يعتمده أهل الجاهلية في قسمة أموالهم ، فاعتمدوا أحوالاً غير منضبطه ولا موثوقاً بها ، ولذلك قال تعالى : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } فشرع الإسلام ناط الفرائض بما لا يقبل التفاوت وهي الأبوة والبنوة ، ففرض الفريضة لهم نظراً لصلتهم الموجبة كونهم أحقّ بمال الأبناء أو الآباء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 49 ـ 50}
وقال الآلوسى :
والآباء والأبناء عبارة عن الورثة الأصول والفروع ، فيشمل البنات والأمهات والأجداد والجدات ، أي(20/262)
أصولكم وفروعكم الذين يموتون قبلكم لا تعلمون من أنفع لكم منهم أمن أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، أم من لم يوص فوفر عليكم عرض الدنيا ، وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بنفي الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم ، وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان لأحدهما على الآخر فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور ، والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقاداً بأنفعية الثاني مبنياً على عدم الدراية ، وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكيراً لمناط زعمهم وتعييناً لمنشأ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الصواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل : لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظراً إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع أن الأمر بخلافه فإن ما يترتب على الأول الثواب الدائم في الآخرة ، وما يترتب على الثاني العرض الفاني في الحياة الدنيا ، والأول لبقائه هو الأقرب الأدنى ، والثاني لفنائه هو الأبعد الأقصى ، واختار كثير من المحققين كون الجملة اعتراضاً مؤكداً لأمر القسمة ، وجعل الخطاب للمورثين ، وتوجيه ذلك أنه تعالى بين أنصباء الأولاد والأبوين فيما قبل ؛ وكانت الأنصباء مختلفة ، والعقول لا تهتدي إلى كمية ذلك.(20/263)
فربما يخطر للإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح كما تعارفه أهل الجاهلية حيث كانوا يورثون الرجال الأقوياء ولا يورثون الصبيان والنسوان الضعفاء فأنكر الله تعالى عليهم ما عسى أن يخطر ببالهم من هذا القبيل ، وأشار إلى قصور أذهانهم فكأنه قال : إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فلا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه ، وكونوا مطيعين لأمر الله تعالى في هذه التقديرات التي قدرها سبحانه فإنه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها ، ووجه الحكمة فيما قدره ودبره وهو العليم الحكيم ، والنفع على هذا أعم من الدنيوي والأخروي وانتفاع بعضهم ببعض في الدنيا يكون بالإنفاق عليه والتربية له والذب عنه مثلاً ، وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة ، فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به ، وإلى هذا ذهب الحسن رحمه الله تعالى ، وخص مجاهد النفع بالدنيوي وخصه بعضهم بالأخروي.(20/264)
وذكر أن المعنى لا تدرون أي الآباء من الوالدين والوالدات وأي الأبناء من البنين والبنات أقرب لكم نفعاً لترفعوا إليهم في الدرجة في الآخرة ، وإذا لم تدروا فادفعوا ما فرض الله تعالى وقسم ولا تقولوا : لماذا أخر الأب عن الإبن ولأي شيء حاز الجميع دون الأم والبنت ، واعترض بأن ذلك غير معلل بالنفع حتى يتم ما ذكر وأنه يدل على أن من قدم في الورثة ، أو ضوعف نصيبه أنفع ولا كذلك ، والجواب بأنه أريد أن المنافع لما كانت محجوبة عن درايتكم فاعتقدوا فيه نفعاً لا تصل إليه عقولكم بعيد لعدم فهمه من السياق ، ويرد نحو هذا على ما اختار الكثير ، وربما يقال : المعنى أنكم لا تدرون أي الأصول والفروع أقرب لكم نفعاً فضلاً عن النفع فكيف تحكمون بالقسمة حسب المنفعة وهي محجوبة عن درايتكم بالمرة ، والكلام مسوق لردّ ما كان في الجاهلية فإن أهل الجاهلية كانوا كما قال السدي لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال ، وعن ابن عباس أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر ، وهذا مشعر بأن مدار الإرث عندهم الأنفعية مع العلاقة النسبية فرد الله تعالى عليهم بأن الأنفعية لا تدرونها فكيف تعتبرونها والغرض من ذلك الإلزام لا بيان أن الأنفعية معتبرة في نفس الأمر إلا أنهم لا يدرونها ، ولعله على هذا لا يرد ما تقدم من الاعتراض فتدبر ، وقيل : إن المراد من الآية إنكم لا تدرون أي الوارثين والمورثين أسرع موتاً فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه ، ونسب إلى أبي مسلم ، ولا يخفى مزيد بعده. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 227 ـ 228}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } قيل : في الدنيا بالدعاء والصدقة ؛ كما جاء في الأثر : إن الرجل ليُرفع بدعاء ولده من بعده.(20/265)
وفي الحديث الصحيح : " إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر أو ولد صالح يدعو له " وقيل : في الآخرة ؛ فقد يكون الابن أفضلَ فيشفع في أبيه ؛ عن ابن عباس والحسن.
وقال بعض المفسرين : إن الابن إذا كان أرفَع من درجة أبيه في الآخرة سأل الله فَرفع إليه أباه ، وكذلك الأب إذا كان أرفعَ من ابنه ؛ وسيأتي في "الطور" بيانه.
وقيل : في الدنيا والآخرة ؛ قاله ابن زيد.
واللفظ يقتضي ذلك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 74 ـ 75}.
قوله تعالى {إن الله كان عيما حكيما }
قال أبو حيان :
{ إن الله كان عليماً } حكماً أي عليم بما يصلح لخلقه ، حكيم فيما فرض.
قال ابن عطية : وهذا تعريض للحكمة في ذلك ، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورّثون على غير هذه الصفة.
وقيل : تضمنت هذه الجملة النهي عن تمني موت الموروث.
وقيل : المعنى في أقرب لكم نفعاً الأب بالحفظ والتربية ، أو الأولاد بالطاعة والخدمة والشفقة.
وقريب من هذا قول أبي يعلى ، قال : معناه أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع ، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعاً ، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء ، والآباء ينتفعون في كبرهم بالابناء.
وقال الزمخشري معلقاً هذه الجملة : بالوصية ، وأنها جاءت ترغيباً فيها وتأكيداً.
قال : لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون ، أمن أوصى منهم أم من لم يوص يعني : أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، فهو أقرب لكم نفعاً ، وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا ، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر ، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريباً في الصورة إلا أنه فانٍ ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى ، وثواب الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باقٍ فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى انتهى كلامه.
(20/266)
وهو خطابه.
والوصية في الآية لم يأتِ ذكرها لمشروعيتها وأحكامها في نفسها ، وإنما جاء ذكرها ليبين أنّ القسمة تكون بعد إخراجها وإخراج الدين ، فليست مما يحدث عنها ، وتفسر هذه الجملة بها.
ولكنه لما اختلف حكم الابن والأب في الميراث ، فكان حكم الابن إذا مات الأب عنه وعن أنثى ، أن يرث مثل حظ الأنثيين ، وكان حكم الأبوين إذا مات الابن عنهما وعن ولد أن يرث كل منهما السدس ، وكان يتبادر إلى الذهن أن يكون نصيب الوالد أوفر من نصيب الابن ، إذ ذاك لما له على الولد من الإحسان والتربية من نشئه إلى اكتسابه المال إلى موته ، مع ما أمر به الابن في حياته من بر أبيه.
أو يكون نصيبه مثل نصيب ابنه في تلك الحالة إجراء للأصل مجرى الفرع في الإرث ، بين تعالى أنّ قسمته هي القسمة التي اختارها وشرعها ، وأن الآباء والأبناء الذين شرع في ميراثهم ما شرع لا ندري نحن أيهم أقرب نفعاً ، بل علم ذلك منوط بعلم الله وحكمته.
فالذي شرعه هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن ، فإذا كان علم ذلك عازباً عنا فلا نخوض فيما لا نعلمه ، إذ هي أوضاع من الشارع لا نعلم نحن عللها ولا ندركها ، بل يجب التسليم فيها لله ولرسوله.
وجميع المقدرات الشرعية في كونها لا تعقل عللها هي مثل قسمة المواريث سواء. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 195}
سؤال : فإن قيل : لم قال : {كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} مع أنه الآن كذلك ؟.
قلنا : قال الخليل : الخبر عن الله بهذه الألفاظ كالخبر بالحال والاستقبال ، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ، وقال سيبويه : القوم لما شاهدوا علماً وحكمة وفضلا وإحساناً تعجبوا ، فقيل لهم : إن الله كان كذلك ، ولم يزل موصوفا بهذه الصفات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 177}(20/267)
كلام جامع فى الفرائض الكريمة للإمام الخازن
قال عليه رحمة الله
فصل في الحث على تعليم الفرائض
اعلم أن الفرائض من أعظم العلوم قدراً وأشرفها ذخراً وأفضلها ذكراً وهي ركن من أركان الشريعة وفرع من فروعها في الحقيقة اشتغل الصدر الأول من الصحابة بتحصيلها وتكلموا في فروعها وأصولها ويكفي في فضلها أن الله عز وجل تولى قسمتها بنفسه وأنزلها في كتابه مبينة من محل قدسه وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعليمها فيما رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعلموا الفرائض والقرآن وعلموا الناس فإني مقبوض " أخرجه الترمذي وقال فيه اضطراب وأخرجه أحمد بن حنبل وزاد فيه فإني امرؤ مقبوض والعلم مرفوع ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة فلا يجدان أحداً يخبرهما.
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعلموا الفرائض وعلموها فإنه نصف العلم " وهو أول علم ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي " أخرجه ابن ماجه والدارقطني.
فصل في بيان أحكام الفرائض
إذا مات الميت وله يبدأ بتجهيزه من ماله ثم تقضي ديونه إن كان عليه دين ثم تنفذ وصاياه وما فضل بعد ذلك من ماله يقسم بين ورثته والوارثون من الرجال عشرة : الابن وابن الابن وإن سفل الأب والجد وإن علا والأخ سواء كان لأب وأم أو لأب أو لأم وابن الأخ للأب والأم أو للأب وإن سفل والعم للأب والأم أو للأب وابناهما وإن سفلوا والزوج والمعتق.
والوارثات من النساء سبع : البنت وبنت الابن وإن سفلت.
والأم والجدة وإن علت.
والأخت من كل الجهات.(20/268)
والزوجة والمعتقة وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمان بالغير وهم : الأبوان والوالدان والزوجان لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة ثم الورثة ثلاثة أصناف : صنف يرث بالفرض المجرد وهم الزوجان والبنات والأخوات والأمهات والجدات وأولاد الأم وصنف يرث بالتعصيب وهم : البنون والإخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم وصنف يرث بالتعصيب تارة وبالفرض أخرى وهما : الأب والجد فيرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد فإن كان له ابن ورث الأب بالفرض السدس وإن كانت بنت ورث السدس بالفرض وأخذ الباقي بالتعصيب والعصبة اسم لمن يأخذ جميع المال إذا انفرد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض.
فصل
وأسباب الإرث ثلاثة : نسب ونكاح وولاء فالنسب القرابة يرث بعضهم بعضاً والنكاح هو أن يرث أحد الزوجين من صاحبه بسبب النكاح والولاء هو أن المعتق وعصباته يرثون المعتق والأسباب التي تمنع الميراث أربعة : اختلاف الدين فالكافر لا يرث المسلم ولا المسلم يرث الكافر لما روي من أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " أخرجاه في الصحيحين.
فأما الكفار فيرث بعضهم بعضاً مع اختلاف مللهم وأديانهم لأن الكفر كله ملة واحدة فذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل والكفر يمنع التوارث أيضاً حتى لا يرث اليهودي من النصراني ولا النصراني من المجوسي وإلى هذا ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق لما روي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا توارث أهل ملتين " أخرجه الترمذي وقال حديث غريب.(20/269)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يتوارث أهل ملتين شتى " أخرجه أبو داود وحمله الآخرون على الإسلام والكفر لأن الكفر عندهم ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوارث بين ملتين شتى والرق يمنع الإرث لأن الرقيق ملك ولا ملك له فلا يرث ولا يورث والقتل يمنع الإرث عمداً كان القتل أو خطأ لما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " القاتل لا يرث " أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث لا يصح والذي عليه العمل عند أهل العلم أن القاتل لا يرث سواء كان القتل عمداً أو خطأ.
وقال بعضهم إذا كان القتل خطأ فإنه يرث وهو قول مالك وعمى الموت وهو أن يخفى موت المتوارثين وذلك بأن غرقاً أو انهدم عليهما بناء فلم يدر أيهما سبق موته فلا يرث أحدهما الآخر بل يكون إرث كل واحد منهما لما كانت حياته يقيناً بعد موته من ورثته.
فصل : السهام المحدودة(20/270)
والسهام المحدودة في الفرائض المذكورة في كتاب الله عز وجل ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس فالنصف فرض خمسة : فرض خسمة : فرض الزوج عند عدم الولد وفرض البنت الواحدة للصلب أو بنت الابن عند عدم بنت الصلب وفرض الأخت الواحدة للأب والأم وفرض الأخت الواحدة للاب والأم وفرض الأخت الواحدة للأب إذا لم يكن ولد لأب وأم والربع فرض الزوج من الولد وفرض الزوجة مع عدم الولد والثمن فرض الزوجة مع الولد والثلثان فرض البنتين فصاعداً أو بنات الابن عند عدم بنات الصلب وفرض الأختين فصاعداً للأب والأم أو للأب والثلث فرض ثلاثة : فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات إلاّ في مسألتين : إحداهما زوج وأبوان والأخرى زوجة وأبوان فإن للأم فيهما ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة وفرض الاثنين فصاعداً من أولاد ذكرهم وأنثاهم فيه سواء وفرض الجد مع الإخوة إذا لم يكن في المسألة صاحب فرض وكان الثلث للجد خيراً من المقاسمة مع الإخوة والسدس فرض سبعة : فرض الأب إذا كان للميت ولد وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو ولد ابن أو اثنان من الإخوة والأخوات وفرض الجد إذا كان للميت ولد مع الإخوة إذا كان في المسألة صاحب فرض وكان السدس خير للجد من المقاسمة مع الإخوة وفرض الجدة والجدات ، وفرض الواحد من أولاد الأم ذكراً كان أم أنثى وفرض بنات الابن مع بنت الصلب تكلمة الثلثين وفرض الأخوات للأب مع الأخت للأب والأم تكلمة الثلثين ( ق ) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي لأولى رجل ذكر " ( خ ) عن ابن عباس قال كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك من أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع(20/271)
وللزوج الشطر والربع أ هـ.
فصل
روي عن زيد بن ثابت قال : ولد الأبناء بمنزلة إذا لم يكن دونهن ابن ذكرهمم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم يرثون ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع ابن ذكر فإن ترك ابنة وابن ابن ذكر كان للبنت النصف ولابن الابن ما بقي لقوله صلى الله عليه وسلم : " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر " ففي هذا الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض والحجب حجبان : حجب نقصان وحجب حرمان.
أما الأول وهو حجب النقصان فهو أن الولد وولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن والأم من الثلث إلى السدس وكذلك الاثنان من الإخوة والأخوات يحجبون الأم من الثلث إلى السدس.
وأما الثاني وهو حجب الحرمان فهو أن الأم تسقط الجدات وأولاد الأم وهم الإخوة للأم يسقطون بأربعة بالأب والجد وإن علا وبالولد وولد الابن وأولاد الأب والأم وهم الإخوة للأب والأم يسقطون بثلاثة بالأب والابن وابن الابن وإن سفلوا ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت.
وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة وبالأخ للأب والأم وذهب قوم إلى أن الإخوة يسقطون جميعاً بالجد كما يسقطون بالأب.
وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة.(20/272)
وبه قال الحسن وعطاء وطاوس وأبو حنيفة والأقرب من العصبات يسقط الأبعد منهم فاقربهم الابن ثم ابن الابن وإن سفل ثم الأب ثم الجد وإن علا فإن كان مع الجد أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب يشتركان في الميراث فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ثم الأخ للأب ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم ثم العم لأب وأم ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة ثم عم الأب ثم عم الجد على الترتيب فإن لم يكن أحد من عصابات النسب وعلى الميت ، ولا فالميراث للمعتق فإن لم يكن حياً فلعصبات المعتق وأربعة من الذكور يعصبون الإناث : الابن وابن الابن والأخ للأب والأم والأخ للأب فلو مات عن ابن أو وبنت أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب يكون المال.
بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولا يفرض للبنت والأخت ، وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئاً حتى لو مات عن بنتين وبنت ابن فللبنتين الثلثان لوا شيء لبنت الابن فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين والأخت للأب والأم أو للأب تكون مع البنت عصبة حتى لو مات عن بنت وأخت كان للبنت النصف والباقي وهو النصف للأخت ولو مات عن بنتين وأخت كان للبنتين الثلثان والباقي للأخت ويدل على ذلك ما روي عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن أخت فقال : للابنة النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود.
(20/273)
فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال ابن مسعود : لقد ضللت وما أنا من المهتدين ثم قال اقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم أخرجه البخاري. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 322 ـ 324}
من فوائد العلامة الزمخشرى فى الآية
قال رحمه الله :
{ يُوصِيكُمُ الله } يعهد إليكم ويأمركم { فِى أولادكم } في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة.
وهذا إجمال تفصيله { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين } فإن قلت : هلا قيل : للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر ؛ قلت ليبدأ ببيان حظ الذكر لفضله ، كما ضوعف حظه لذلك ، ولأنّ قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين } قصد إلى بيان فضل الذكر.
وقولك : للأنثيين مثل حظ الذكر ، قصد إلى بيان نقص الأنثى ، وما كان قصداً إلى بيان فضله ، كان أدلّ على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه : ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية ، فقيل : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث ، فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به.
فإن قلت : فإن حظ الأنثيين الثلثان ، فكأنّه قيل للذكر الثلثان.
قلت : أريد حال الاجتماع لا الانفراد أي إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان ، كما أن لهما سهمين.
وأما في حال الانفراد ، فالابن يأخذ المال كله والبنتان يأخذان الثلثين.(20/274)
والدليل على أن الغرص حكم الاجتماع ، أنه أتبعه حكم الانفراد ، وهو قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } والمعنى للذكر منهم ، أي من أولادكم ، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم ، كقولهم : السمن منوان بدرهم { فَإِن كُنَّ نِسَاءً } فإن كانت البنات أو المولودات نساء خلصاً.
ليس معهن رجل يعني بنات ليس معهن ابن { فَوْقَ اثنتين } يجوز أن يكون خبراً ثانياً لكان وأن يكون صفة لنساء أي نساء زائدات على اثنتين { وَإِن كَانَتْ واحدة } وإن كانت البنت أو المولودة منفردة فذة ليس معها أخرى { فَلَهَا النصف } وقرىء : "واحدةٌ" بالرفع على كان التامّة والقراءة بالنصب أوفق لقوله : { فَإِن كُنَّ نِسَاءً } وقرأ زيد بن ثابت "النصف" بالضم.
والضمير في { تَرَكَ } للميت : لأنّ الآية لما كانت في الميراث ، علم أن التارك هو الميت.
فإن قلت : قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين } كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد ، لا لبيان حظ الأنثيين ، فكيف صح أن يردف قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَاءً } وهو لبيان حظ الإناث ؟
قلت : وإن كان مسوقاً لبيان حظ الذكر ، إلا أنه لما فقه منه وتبين حظ الأنثيين مع أخيهما ؛ كان كأنه مسوق للأمرين جميعاً.
فلذلك صح أن يقال : { فَإِن كُنَّ نِسَاءً } : فإن قلت.
هل يصح أن يكون الضميران في "كن" و"كانت" مبهمين ، ويكون "نساء" و"واحدة" تفسيراً لهما ، على أن كان تامة ؟
قلت : لا أبعد ذلك.
فإن قلت : لم قيل { فَإِن كُنَّ نِسَاء } ولم يقل : وإن كانت امرأة ؟
قلت : لأنّ الغرض ثمة خلوصهن إناثاً لا ذكر فيهنّ ، ليميز بين ما ذكر من اجتماعهن مع الذكور في قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين } وبين انفرادهن.
وأريد هاهنا أن يميز بين كون البنت مع غيرها وبين كونها وحدها لا قرينة لها.(20/275)
فإن قلت : قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد ، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما ، وما باله لم يذكر ؟
قلت : أما حكمهما فمختلف فيه ، فابن عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة.
لقوله تعالى : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين } فأعطاهما حكم الواحدة وهو ظاهر مكشوف.
وأما سائر الصحابة فقد أعطوهما حكم الجماعة ، والذي يعلل به قولهم : أن قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين } قد دلّ على أن حكم الأنثيين حكم الذكر ، وذلك أن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة ، فالأنثيان كذلك يحوزان الثلثين ، فلما ذكر ما دلّ على حكم الأنثيين قيل : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } على معنى : فإن كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للأنثيين وهو الثلثان لا يتجاوزنه لكثرتهن ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت.
وقيل : إن الثنتين أمس رحماً بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين.
ولم يروا أن يقصروا بهما عن حظ من هو أبعد رحماً منهما.
وقيل : إن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كانت أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها.
ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضاً مع أخيها لو انفردت معه ، فوجب لهما الثلثان { وَلأبَوَيْهِ } الضمير للميت.
و { لِكُلّ واحد مّنْهُمَا } بدل من { ولأبويه } بتكرير العامل.
وفائدة هذا البدل أنه لو قيل : ولأبويه السدس ، لكان ظاهره اشتراكهما فيه.
ولو قيل : ولأبويه السدسان ، لأوهم قسمة السدسين عليهما على التسوية وعلى خلافها.
فإن قلت : فهلا قيل : ولكل واحد من أبويه السدس : وأي فائدة في ذكر الأبوين أوّلاً ، ثم في الإبدال منهما ؟(20/276)
قلت : لأنّ في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيداً وتشديداً ، كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير.
والسدس : مبتدأ.
وخبره : لأبويه.
والبدل متوسط بينهما للبيان.
وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة "السدس" بالتخفيف ، وكذلك الثلث والربع والثمن.
والولد : يقع على الذكر والأنثى ، ويختلف حكم الأب في ذلك.
فإن كان ذكراً اقتصر بالأب على السدس ، وإن كانت أنثى عصب مع إعطاء السدس.
فإن قلت : قد بين حكم الأبوين في الإرث مع الولد : ثم حكمهما مع عدمه ، فهلا قيل : فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث.
وأي فائدة في قوله : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } ؟
قلت معناه : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فحسب ، فلأمه الثلث مما ترك ، كما قال : { لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ } لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين ، كان للأم ثلث ما بقي بعد إخراج نصيب الزوج ، لا ثلث ما ترك ، إلا عند ابن عباس.
والمعنى : أن الأبوين إذا خلصا تقاسما الميراث : للذكر مثل حظ الأنثيين ، فإن قلت : ما العلة في أن كان لها ثلث ما بقي دون ثلث المال ؟
قلت : فيه وجهان : أحدهما أنّ الزوج إنما استحق ما يسهم له بحق العقد لا بالقرابة.
فأشبه الوصية في قسمة ما وراءه.
والثاني : أن الأب أقوى في الإرث من الأم ، بدليل أنه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة ، وجامعا بين الأمرين ، فلو ضرب لها الثلث كملاً لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها.(20/277)
ألا ترى أن امرأة لو تركت زوجاً وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب ، حازت الأم سهمين والأب سهماً واحداً ، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ السدس } الإخوة يحجبون الأم عن الثلث وإن كانوا لا يرثون مع الأب ، فيكون لها السدس وللأب خمسة الأسداس ، ويستوي في الحجب الاثنان فصاعداً إلا عند ابن عباس.
وعنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم.
فإن قلت : فكيف صحّ أن يتناول الإخوة الأخوين.
والجمع خلاف التثنية ؟
قلت : الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية ، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية ، وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق ، فدل بالإخوة عليه.
وقرىء : "فلإمّه" ، بكسر الهمزة إتباعاً للجرّة : ألا تراها لا تكسر في قوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً } [ المؤمنون : 50 ] ، { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها ، لا بما يليه وحده ، كأنه قيل قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها.
وقرىء "يوصى بها" بالتخفيف والتشديد.
و"ويُوصى بها" على البناء للمفعول مخففاً.
فإن قلت : ما معنى أو ؟
قلت : معناها الإباحة : وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما ، قدم على قسمة الميراث ، كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين.
فإن قلت : لم قدّمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها في الشريعة ؟ (20/278)
قلت : لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض ، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها ، فكان أداؤها مظنة للتفريط ، بخلاف الدين فإنّ نفوسهم مطمئنة إلى أدائه ، فلذلك قدمت على الدين بعثاً على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين ، ولذلك جيء بكلمة "أو" للتسوية بينهما في الوجوب ، ثم أكد ذلك ورغب فيه بقوله : { ءَابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون ، أمن أوصى منهم أمن لم يوص ؟
يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً وأحضر جدوى ممن ترك الوصية ، فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ، ذهاباً إلى حقيقة الأمر ، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريباً في الصورة ، إلا أنه فانٍ ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى.
وثواب الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى.
وقيل : إن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع.
وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه ، سأل أن يرفع إليه ابنه.
فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعاً.
وقيل : قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة.
ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع ، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة.
وقيل : الأب يجب عليه النفقة على الابن إذا احتاج ، وكذلك الابن إذا كان محتاجاً فهما في النفع بالنفقة لا يدري أيهما أقرب نفعاً.
وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له ، لأن هذه الجملة اعتراضية.
ومن حق الاعتراضي أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه ، والقول ما تقدم { فَرِيضَةً } نصبت نصب المصدر المؤكد ، أي فرض ذلك فرضاً { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بمصالح خلقه { حَكِيماً } في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 510 ـ 516}(20/279)
من فوائد ومسائل القاضى أبى بكر ابن العربى فى الآية
قال عليه الرحمة
قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ }
اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ ، وَعُمْدَةٌ مِنْ عُمُدِ الْأَحْكَامِ ، وَأُمٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ : فَإِنَّ الْفَرَائِضَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ حَتَّى إنَّهَا ثُلُثُ الْعِلْمِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْعِلْمُ ثَلَاثٌ : آيَةٌ مُحْكَمَةٌ ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ }.
وَكَانَ جُلَّ عِلْمِ الصَّحَابَةِ وَعُظْمَ مُنَاظَرَتِهِمْ ، وَلَكِنَّ الْخُلُقَ ضَيَّعُوهُ ، وَانْتَقِلُوا مِنْهُ إلَى الْإِجَارَاتِ وَالسَّلَمِ وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّدْلِيسِ ، إمَّا لِدِينٍ نَاقِصٍ ، أَوْ عِلْمٍ قَاصِرٍ ، أَوْ غَرَضٍ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا ظَاهِرٍ { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضْلِ الْفَرَائِضِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا تَبْهَت مُنْكَرِي الْقِيَاسِ وَتُخْزِي مُبْطِلِي النَّظَرِ فِي إلْحَاقِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ ، فَإِنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِهَا إنَّمَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ إذْ النُّصُوصُ لَمْ تُسْتَوْفَ فِيهَا ، وَلَا أَحَاطَتْ بِنَوَازِلِهَا ، وَسَتَرَى ذَلِكَ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.(20/280)
وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ الْفَرَائِضَ وَالْحَجَّ وَالطَّلَاقَ فَبِمَ يَفْضُلُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ ؟ وَقَالَ وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ : كُنْت أَسْمَعُ رَبِيعَةَ يَقُولُ : مَنْ تَعَلَّمَ الْفَرَائِضَ مِنْ
غَيْرِ عِلْمٍ بِهَا مِنْ الْقُرْآنِ مَا أَسْرَعَ مَا يَنْسَاهَا.
قَالَ مَالِكٌ : وَصَدَقَ.
وَقَدْ أَطَلْنَا فِيهَا النَّفَسَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَأَمَّا الْآنَ فَإِنَّا نُشِيرُ إلَى نُكَتٍ تَتَعَلَّقُ بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ ، وَفِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْمُخَاطَبِ بِهَا ، وَعَلَى مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ ؟ : وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِي الْمَوْتَى الْمَوْرُوثِينَ ، وَالْخُلَفَاءِ الْحَاكِمِينَ ، وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ أَمَّا تَنَاوُلُهَا لِلْمَوْتَى فَلْيَعْلَمُوا الْمُسْتَحَقِّينَ لِمِيرَاثِهِمْ بَعْدَهُمْ فَلَا يُخَالِفُوهُ بِعَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ ؛ وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ : الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : حَدِيثُ سَعْدٍ فِي الصَّحِيحِ : { عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي مَرَضٍ اشْتَدَّ بِي ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي ؛ أَفَأَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : لَا.
قُلْت : فَالثُّلُثَانِ ؟ قَالَ : لَا.
قُلْت : فَالشَّطْرُ ؟ قَالَ : لَا.(20/281)
الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ؛ إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ }.
الثَّانِي : مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت : لِفُلَانٍ كَذَا ، وَلِفُلَانٍ كَذَا ، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا }.
الثَّالِثُ : مَا رَوَى مَالِكٌ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : " إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ ، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِهِ لَكَانَ لَكِ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ ".
فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَرْءَ أَحَقُّ بِمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ ، فَإِذَا وُجِدَ
أَحَدُ سَبَبَيْ زَوَالِهِ وَهُوَ الْمَرَضُ قَبْلَ وُجُودِ الثَّانِي ، وَهُوَ الْمَوْتُ مُنِعَ مِنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ ، وَحُجِرَ عَلَيْهِ تَفْوِيتُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ بِهِ ، فَعَهِدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ إلَيْهِ ، وَوَصَّى بِهِ لِيُعَلِّمَهُ فَيَعْمَلَ بِهِ ؛ وَوُجُوبُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى سَبَبَيْنِ بِأَحَدِ سَبَبَيْهِ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ فِي الْفِقْهِ ؛ لِجَوَازِ إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ ، وَقَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْقَتْلِ ، وَكَذَلِكَ صَحَّ سُقُوطُ الشُّفْعَةِ بِوُجُودِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَالِ قَبْلَ الْبَيْعِ.(20/282)
وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِلْخُلَفَاءِ الْحَاكِمِينَ فَلْيَقْضُوا بِهِ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُتَخَاصِمِينَ.
وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَكُونُوا بِهِ عَالِمِينَ ، وَلِمَنْ جَهِلَهُ مُبَيِّنِينَ ، وَعَلَى مَنْ خَالَفَهُ مُنْكِرِينَ ، وَهَذَا فَرْضٌ يَعُمُّ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ ، وَهُوَ فَنٌّ غَرِيبٌ مِنْ تَنَاوُلِ الْخِطَابِ لِلْمُخَاطَبِينَ ، فَافْهَمُوهُ وَاعْمَلُوا بِهِ وَحَافِظُوا عَلَيْهِ وَاحْفَظُوهُ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الضُّعَفَاءَ مِنْ الْغِلْمَانِ وَلَا الْجَوَارِي ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ وَرَدَّ قَوْلَهُمْ.
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدِينَ وَالْأَقْرِبَاءِ ؛ فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ وَبَيَّنَ الْمَوَارِيثَ ، رَوَاهُ فِي الصَّحِيحِ.
الثَّالِثُ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، وَهُوَ مُقَارَبُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ ، رَوَى عَنْ { جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جِئْنَا امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَهِيَ جَدَّةُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، فَزُرْنَاهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ ، فَعَرَّشَتْ لَنَا صَوْرًا فَقَعَدْنَا تَحْتَهُ ، وَذَبَحَتْ لَنَا شَاةً(20/283)
وَعَلَّقَتْ لَنَا قِرْبَةً ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَتَحَدَّثُ إذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَتَحَدَّثْنَا ، ثُمَّ قَالَ لَنَا : الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَتَحَدَّثْنَا ، فَقَالَ : الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
قَالَ : فَرَأَيْتُهُ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ مِنْ سَعَفِ الصُّورِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّ شِئْتَ جَعَلْته عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا ، فَهَنِيئًا لَهُمْ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ ، فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِطَعَامِهَا فَتَغَدَّيْنَا ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ ، فَقُمْنَا مَعَهُ مَا تَوَضَّأَ وَلَا أَحَدٌ مِنَّا ، غَيْرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِكَفِّهِ جَرْعًا مِنْ الْمَاءِ فَتَمَضْمَضَ بِهِنَّ مِنْ غَمَرِ الطَّعَامِ ؛ فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِابْنَتَيْنِ لَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَاتَانِ بِنْتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَقَدْ اسْتَفَاءَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا وَمِيرَاثَهُمَا كُلَّهُ ، فَلَمْ يَدْعُ لَهُمَا مَالًا إلَّا أَخَذَهُ ؛ فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَوَاَللَّهِ لَا تَنْكِحَانِ أَبَدًا إلَّا وَلَهُمَا مَالٌ.(20/284)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } الْآيَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُدْعُ لِي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِعَمِّهِمَا : أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ ، وَلَك الْبَاقِي }.
فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ : هُوَ مَقْبُولٌ لِهَذَا الْإِسْنَادِ.
الثَّالِثُ : مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ { قُلْت : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَا تَرَى أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي ؟ فَنَزَلَتْ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } } رَدٌّ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَإِبْطَالٌ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، إلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْأَوَّلِ فَائِدَةً ؛ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا مَسْكُوتًا عَنْهُ ؛ مُقَرًّا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعًا مُقَرًّا عَلَيْهِ لَمَا حَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى عَمِّ الصَّبِيَّتَيْنِ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إذَا مَضَتْ وَجَاءَ النَّسْخُ بَعْدَهَا إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ ، وَلَا يُنْقَضُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ ظُلَامَةٌ وَقَعَتْ ، أَمَّا أَنَّ الَّذِي وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَأُخْرِجَتْ عَنْهَا أَهْلُ الْمَوَارِيثِ.(20/285)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فِي أَوْلَادِكُمْ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَلَدٍ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ دُنْيَا أَوْ بَعِيدًا ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ أَدَم }.
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ } فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ كَانَ لِصُلْبِ الْمَيْتِ دُنْيَا أَوْ بَعِيدًا.
وَيُقَالُ بَنُو تَمِيمٍ ؛ فَيَعُمُّ الْجَمِيعَ ؛ فَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ : ذَلِكَ حَقِيقَةً فِي الْأَدْنَيْنَ مَجَازٌ فِي الْأَبْعَدَيْنِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّوَلُّدِ ، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ فَقَدْ غَلَبَ مَجَازُ الِاسْتِعْمَالِ فِي إطْلَاقِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْأَدْنَيْنَ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْبُعَدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ ؛ فَيُقَالُ لَيْسَ بِوَلَدٍ ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً لَمَا سَاغَ نَفْيَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسَمِّي وَلَدَ الْوَلَدِ وَلَدًا ، وَلَا يُسَمِّي بِهِ وَلَدَ الْأَعْيَانِ ، وَكَيْفَمَا
دَارَتْ الْحَالُ فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْجَمِيعِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : لَوْ حَبَسَ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ لَانْتَقَلَ إلَى أَبْنَائِهِمْ ، وَلَوْ قَالَ صَدَقَةً فَاخْتَلَفَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا ؛ هَلْ تُنْقَلُ إلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ.(20/286)
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَهُ حَفَدَةَ لَمْ يَحْنَثْ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ ذَلِكَ فِي أَقْوَالِ الْمَخْلُوقِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي عُمُومِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْبَارِي ؟ فَإِذَا قُلْنَا بِذَلِكَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ كَلَامُ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ بِحَالٍ ، وَإِنْ حُمِلَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ.
الثَّانِي : أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ يَرْتَبِطُ بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَبْسِ التَّعْقِيبِ ، فَدَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الصَّدَقَةِ التَّمْلِيكُ ؛ فَدَخَلَ فِيهِ الْأَدْنَى خَاصَّةً وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مِنْ بَعْدُ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } فَدَخَلَ فِيهِ آبَاءُ الْآبَاءِ ، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ.(20/287)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } هَذَا الْقَوْلُ يُفِيدُ أَنَّ الذَّكَرَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأُنْثَى أَخَذَ مِثْلَيْ مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى ، وَأَخَذَتْ هِيَ نِصْفَ مَا يَأْخُذُ الذَّكَرُ ؛ وَلَيْسَ هَذَا بِنَصٍّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ ، وَلَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ قَوِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُمْ يُحِيطُونَ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدُوا لَمَا كَانَ بَيَانًا لِسَهْمٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَاقْتَضَى الِاضْطِرَارُ إلَى بَيَانِ سِهَامِهِمْ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدُوا ؛ فَإِذَا انْضَافَ إلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ فَأَخَذَ سَهْمَهُ كَانَ الْبَاقِي أَيْضًا مَعْلُومًا ؛ فَيَتَعَيَّنُ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ ، وَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْعُمُومِ ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْأَبَوَيْنِ بِالسُّدُسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالزَّوْجَيْنِ بِالرُّبْعِ وَالثُّمُنِ لَهُمَا عَلَى تَفْصِيلِهِمَا ، وَبَقِيَ الْعُمُومُ وَالْبَيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ.(20/288)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فِي أَوْلَادِكُمْ } عَامٌّ فِي الْأَعْلَى مِنْهُمْ وَالْأَسْفَلِ ؛ فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الرُّتْبَةِ أَخَذُوهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فَكَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ حَجَبَ الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى يَقُولُ : أَنَا ابْنُ الْمَيِّتِ ، وَالْأَسْفَلَ يَقُولُ : أَنَا ابْنُ ابْنِ الْمَيِّتِ ، فَلَمَّا اسْتَفَلَّتْ دَرَجَتُهُ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُدْلِي بِهِ يُقْطَعُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى ذَكَرًا سَقَطَ الْأَسْفَلُ ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى أُنْثَى أَخَذَتْ الْأُنْثَى حَقَّهَا ، وَبَقِيَ الْبَاقِي لِوَلَدِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ ذَكَرًا ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ أُنْثَى أُعْطِيت الْعُلْيَا النِّصْفَ ، وَأُعْطِيَتْ السُّفْلَى السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّا نُقَدِّرُهُمَا بِنْتَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ ، فَاشْتَرَكَتَا فِي الثُّلُثِ بِحُكْمِ الْبِنْتِيَّةِ ، وَتَفَاوَتَتَا فِي الْقِسْمَةِ بِتَفَاوُتِ الدَّرَجَة ؛
وَبِهَذِهِ الْحِكْمَةُ جَاءَتْ السُّنَّةُ.(20/289)
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى بِنْتَيْنِ أَخَذَتَا الثُّلُثَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَسْفَلُ أُنْثَى لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِزَائِهَا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا ذَكَرٌ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ مَعَهُ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " إنْ كَانَ الذَّكَرُ مِنْ وَلَدِ الْوَلَدِ بِإِزَائِهَا رَدَّ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا " ، مُرَاعِيًا فِي ذَلِكَ.
ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْبَنَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ شَيْئًا إلَّا الثُّلُثَيْنِ ؛ وَهَذَا سَاقِطٌ ، فَإِنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي قَضَيْنَا فِيهِ بِاشْتِرَاكِ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ ابْنِ أَخِيهَا وَاشْتِرَاكِ ابْنِ الِابْنِ مَعَ عَمَّتِهِ لَيْسَ حُكْمًا بِالسَّهْمِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْله تَعَالَى : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ بِالتَّعْصِيبِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اشْتِرَاكُهُمَا مَعَهُ إذَا كَانَتَا بِإِزَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثَيْنِ ، وَهَذَا قَاطِعٌ جِدًّا.(20/290)
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّهُ لَوْ وَازَاهَا مَا رَدَّ عَلَيْهَا ، وَلَا شَارَكَتْهُ مُرَاعَاةً لِهَذَا الظَّاهِرِ لَقِيلَ لَهُ : لَا حُجَّةَ لَكَ فِي هَذَا الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ أُخِذَ بِالسَّهْمِ ، وَهَذَا حَقٌّ أُخِذَ بِالتَّعْصِيبِ ؛ وَمَا يُؤْخَذُ بِالتَّعْصِيبِ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ بِخِلَافِ السَّهْمِ الْمَفْرُوضِ الْمُعَيَّنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ تَرَكَ عَشْرَ بَنَاتٍ وَابْنًا وَاحِدًا ، لَأَخَذَتْ الْبَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ بِالتَّعْصِيبِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الَّذِي يَجِبُ بِالسَّهْمِ ؛ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ بَيَانُهُ فِي الْفَرَائِضِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } وَهِيَ مُعْضِلَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ : فَإِنْ كُنَّ اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ لَانْقَطَعَ النِّزَاعُ ، فَلَمَّا جَاءَ الْقَوْلُ هَكَذَا مُشْكِلًا وَبَيَّنَ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ بِالنِّصْفِ وَحُكْمَ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ بِالثُّلُثَيْنِ ، وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ الْبِنْتَيْنِ أُشْكِلَتْ الْحَالُ ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : تُعْطَى الْبَنَاتُ النِّصْفَ ، كَمَا تُعْطَى الْوَاحِدَةُ ؛ إلْحَاقًا لِلْبِنْتَيْنِ بِالْوَاحِدَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا زَادَ عَلَى الْبِنْتَيْنِ فَتَخْتَصُّ الزِّيَادَةُ بِتِلْكَ الْحَالِ.(20/291)
الْجَوَابُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ كَانَ مُبَيِّنًا حَالَ الْبِنْتَيْنِ بَيَانَهُ لِحَالِ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَ الْبِنْتَيْنِ لَكَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا ، وَلَكِنَّهُ سَاقَ الْأَمْرَ مَسَاقَ الْإِشْكَالِ ؛ لِتَتَبَيَّنَ دَرَجَةُ الْعَالِمِينَ ، وَتَرْتَفِعَ مَنْزِلَةُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَيِّ الْمَرْتَبَتَيْنِ [ فِي ] إلْحَاقِ الْبِنْتَيْنِ أَحَقُّ ؟ وَإِلْحَاقُهُمَا بِمَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَجَبَ لَهَا مَعَ أَخِيهَا الثُّلُثُ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَجِبَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أُخْتِهَا.
الثَّانِي : أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ قَضَى فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ بِالسُّدُسِ لِبِنْتِ الِابْنِ ، وَالنِّصْفِ لِلْبِنْتِ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ } ، فَإِذَا كَانَ لِبِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ الثُّلُثَانِ فَأَحْرَى وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أُخْتِهَا.
الثَّالِثُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالثُّلُثَيْنِ لِابْنَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ } كَمَا قَدَّمْنَا ،
وَهُوَ نَصٌّ.
الرَّابِعُ : أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ : فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } أَيْ اضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ فَمَا فَوْقَهَا.(20/292)
الْخَامِسُ : أَنَّ النِّصْفَ سَهْمٌ لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ اشْتِرَاكٌ ؛ بَلْ شُرِعَ مُخْلَصًا لِلْوَاحِدَةِ ، بِخِلَافِ الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّهُ سَهْمُ الِاشْتِرَاكِ بِدَلِيلِ دُخُولِ الثَّلَاثِ فِيهِ فَمَا فَوْقَهُنَّ ؛ فَدَخَلَتْ فِيهِ الِاثْنَتَانِ مَعَ الثُّلُثِ دُخُولَ الثَّلَاثِ مَعَ مَا فَوْقَهُنَّ.
السَّادِسُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْأَخَوَاتِ : { وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } وَقَالَ : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ } فَلَحِقَتْ الِابْنَتَانِ بِالْأُخْتَيْنِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ ، وَحُمِلَتَا عَلَيْهِمَا ، وَلَحِقَتْ الْأَخَوَاتُ إذَا زِدْنَ عَلَى اثْنَتَيْنِ بِالْبَنَاتِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ وَحُمِلَتَا عَلَيْهِنَّ.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : كَمَا حَمَلْنَا الِابْنَ فِي الْإِحَاطَةِ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ عَلَى الْأَخِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } وَهَذَا كُلُّهُ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَشْرُوعٌ ، وَالنَّصَّ قَلِيلٌ.
وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ السِّتَّةُ بَيِّنَةُ الْمَعْنَى ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَجْلَى مِنْ بَعْضٍ ؛ لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا يُبِينُ الْمَقْصُودَ.(20/293)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } هَذَا قَوْلٌ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ عَلَا مِنْ الْآبَاءِ دُخُولَ مَنْ سَفُلَ مِنْ الْأَبْنَاءِ فِي قَوْلِهِ : { أَوْلَادِكُمْ } لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا مَثْنَى ، وَالْمَثْنَى لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْجَمْعَ.
الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، وَالْأُمُّ الْعُلْيَا هِيَ الْجَدَّةُ ، وَلَا يُفْرَضُ لَهَا الثُّلُثُ بِإِجْمَاعٍ ؛ فَخُرُوجُ الْجَدَّةِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَقْطُوعٌ بِهِ ، وَتَنَاوُلُهُ لِلْأَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ فِي قَوْلِهِ : { أَوْلَادِكُمْ } بَيَانَ الْعُمُومِ ، وَقَصَدَ هَاهُنَا بَيَانَ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْآبَاءِ وَهُمَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَتَفْصِيلُ فَرْضِهِمَا دُونَ الْعُمُومِ ؛ فَأَمَّا الْجَدُّ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ جَعَلَهُ أَبًا ، وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَةَ أَخْذًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ } وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَسَاقُهُ بَيَانُ التَّنْوِيعِ لَا بَيَانُ الْعُمُومِ ، وَمَقَاصِدُ الْأَلْفَاظِ أَصْلٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ.(20/294)
وَاَلَّذِي نُحَقِّقُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَخَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ الْجَدِّ ؛ فَإِنَّ الْأَخَ يَقُولُ : أَنَا ابْنُ أَبِي الْمَيِّتِ ، وَالْجَدُّ يَقُولُ : أَنَا أَبُو أَبِي الْمَيِّتِ ، وَسَبَبُ الْبُنُوَّةِ أَقْوَى مِنْ سَبَبِ الْأُبُوَّةُ ؛ فَكَيْف يُسْقِطُ الْأَضْعَفُ الْأَقْوَى ؛ وَهَذَا بَعِيدٌ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ طُيُولِيَّةٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ إيضَاحُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قِيَاسِيَّةٌ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ؛ فَأَمَّا الْجَدَّةَ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْجَدَّةَ أُمَّ الْأُمِّ جَاءَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقَالَ لَهَا : لَا أَجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا ، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا ؛
فَإِنْ وُجِدَ الْأَبُ وَالْأُمُّ لَمْ يَكُنْ لِلْجَدِّ وَالْجَدَّةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَوْلَادِ ، وَإِنْ عَدِمَا يَنْزِلُ الْأَبْعَدُ مَنْزِلَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : مَعْنَاهُ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى أَخَذَتْ النِّصْفَ ، وَأَخَذَتْ الْأُمُّ السُّدُسَ ، وَأَخَذَ الْأَبُ الثُّلُثَ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ ، بَلْ يَأْخُذُ الْأَبُ السُّدُسَ سَهْمًا وَالسُّدُسَ الْآخَرَ تَعْصِيبًا ، وَهُوَ مَعْنًى آخَرُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ نَصٌّ فِي الْآيَةِ ، إنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.(20/295)
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { الثُّلُثُ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : سَوَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ ، وَفَاضَلَ بَيْنَهُمَا مَعَ عَدَمِهِ فِي أَنْ جَعَلَ سَهْمَيْهِمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا يُدْلِيَانِ بِقَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ ، فَاسْتَوَيَا مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ ؛ فَإِنْ عَدِمَ الْوَلَدُ فَضَلَ الْأَبُ الْأُمَّ بِالذُّكُورَةِ وَالنُّصْرَةِ وَوُجُوبِ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ ، وَثَبَتَتْ الْأُمُّ عَلَى سَهْمٍ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا اجْتَمَعَ الْآبَاءُ وَالْأَوْلَادُ قَدَّمَ اللَّهُ الْأَوْلَادَ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ يُقَدِّمُ وَلَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ يَرَاهُ فَوْقَهُ وَيَكْتَسِبُ لَهُ ؛ فَقِيلَ لَهُ : حَالُ حَفِيدِكَ مَعَ وَلَدِكِ كَحَالِكَ مَعَ وَلَدِكِ.(20/296)
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ ، مَعَ عَدِمَ الْأَوْلَادِ إلَّا الْأَبَوَانِ ؛ فَكَانَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ زِيَادَةَ الْوَاوِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَّرَ عَنْ ثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ أَسْقَطُوا الْإِخْوَةَ ، وَشَارَكَهُمْ الْأَبُ ، وَأَخَذَ حَظَّهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَنْ أُسْقِطُوا ، بَلْ أَوْلَى ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخَ بِالْأَبِ يُدْلِي فَيَقُولُ : أَنَا ابْنُ أَبِيهِ ، فَلَمَّا كَانَ وَاسِطَتُهُ وَسَبَبُهُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ هُوَ الْأَبُ كَانَ سَبَبُهُ أَوْلَى مِنْهُ وَمَانِعًا لَهُ ؛ فَيَكُونُ حَالُ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا كَحَالِ الْوَالِدَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَيَجْتَمِعُ بِذَلِكَ لِلْأَبِ فَرْضَانِ : السَّهْمُ ، وَالتَّعْصِيبُ ، وَهَذَا عَدْلٌ فِي الْحُكْمِ
ظَاهِرٌ فِي الْحِكْمَةِ.(20/297)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } الْمَعْنَى إنْ وُجِدَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْمِيرَاثِ فَهُمْ يُحْجَبُونَ وَلَا يَرِثُونَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ ، بِخِلَافِ الِابْنِ الْكَافِرِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَانَ دَلِيلُ ذَلِكَ ، وَعَاضَدَهُ ، وَبَسَطَهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ } مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ، وَهَكَذَا يَزْدَوِجُ الْكَلَامُ وَيَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَطْفُ.
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ وَلَا أَبَ لَهُ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ.
قُلْنَا : هَذَا سَاقِطٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَبْطُلُ فَائِدَةُ الْعَطْفِ.
الثَّانِي : أَنَّهُ إبْطَالٌ لِفَائِدَةِ الْكَلَامِ مِنْ الْبَيَانِ ، فَإِنَّا كُنَّا نُعْطِي بِذَلِكَ الْأُمَّ السُّدُسَ ، وَمَا نَدْرِي مَا نَصْنَعُ بِبَاقِي الْمَالِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : يُعْطِي لِلْإِخْوَةِ.
قُلْنَا : وَهُمْ مَنْ ؟ أَوْ كَيْفَ يُعْطِي لَهُمْ ؟ فَيَكُونُ الْقَوْلُ مُشْكَلًا غَيْرَ مُبَيَّنٍ وَلَا مُبِينٍ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.(20/298)
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ يَبْقَى قِسْمٌ مِنْ الْأَقْسَامِ غَيْرُ مُبَيَّنٍ ، وَهُوَ إنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ وَلَهُ أَبٌ وَأُمٌّ فَاعْتِبَارُهُ بِالْبَيَانِ أَوْلَى ، وَمَا صَوَّرُوهُ مِنْ أُمٍّ وَإِخْوَةٍ قَدْ بُيِّنَ فِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ } وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ الْكَلَامِ ، فَتَأَمَّلُوهُ.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ تَبَيَّنَ هَاهُنَا فَائِدَتَانِ : إحْدَاهُمَا : حَجْبُ الْأُمِّ بِالْإِسْقَاطِ لَهُمْ.
الثَّانِي : حَجْبُ النُّقْصَانِ لِلْأُمِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } هَذَا قَوْلٌ
يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ أَنَّهُمْ يَحْجُبُونَهَا حَجْبَ نُقْصَانٍ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا لَا يَحْجُبَانِهَا ؛ وَغَرَضُهُ ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ خِلَافُ التَّثْنِيَةِ لَفْظًا وَصِيغَةً ، وَهَذِهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّثْنِيَةِ.
وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ أَنْ يَخْفَى عَلَى حَبْرِ الْأُمَّةِ وَتُرْجَمَانِ الْقُرْآنِ وَدَلِيلِ التَّأْوِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَالْأُخْرَى مَسْأَلَةُ الْعَوْلِ ؛ وَعَضَّدَ هَذَا الظَّاهِرَ بِأَنْ قَالَ : إنَّ الْأُمَّ أَخَذَتْ الثُّلُثَ بِالنَّصِّ ، فَكَيْف يَسْقُطُ النَّصُّ بِمُحْتَمَلٍ.
وَهَذَا الْمَنْحَى مَائِلٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ.(20/299)
وَلِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ سَبِيلٌ مَسْلُوكَةٌ نَذْكُرُهَا وَنُبَيِّنُ الْحَقُّ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَنْطَلِقُ لَفْظُ الْإِخْوَةِ عَلَى الْأَخَوَيْنِ ؛ بَلْ قَدْ يَنْطَلِقُ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : نَحْنُ فَعَلْنَا ، وَتُرِيدُ الْقَائِلُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } وَقَالَ : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } ثُمَّ قَالَ : { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } وَقَالَ : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } وَقَالَ : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } وَقَالَ : { بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } وَالرَّسُولُ وَاحِدٌ.
وَقَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } يَعْنِي عَائِشَةَ ، وَقِيلَ عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ.
وَقَالَ : { وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ } وَكَانَا اثْنَيْنِ كَمَا نُقِلَ فِي التَّفْسِيرِ.
وَقَالَ : { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } وَهُمَا طَرَفَانِ.
وَقَالَ : { إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } وَقَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } وَقَالَ : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } وَكَانَ وَاحِدًا.
وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ
فِي اللُّغَةِ سَائِغٌ ، لَكِنْ إذَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ؛ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ ؟ .(20/300)
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } فَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ الْبِنْتَيْنِ عَلَى الْأُخْتَيْنِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ ، وَحَمَلُوا الْأَخَوَاتِ عَلَى الْبَنَاتِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ ، وَكَانَ هَذَا نَظَرًا دَقِيقًا وَأَصْلًا عَظِيمًا فِي الِاعْتِبَارِ ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ ، وَأَرَادَ الْبَارِي بِذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا دُخُولَ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ.
الثَّالِثُ : أَنَّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ : إنَّ قَوْمَكَ حَجَبُوهَا يَعْنِي بِذَلِكَ قُرَيْشًا ، وَهُمْ أَهْلُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهُمْ الْمُخَاطَبُونَ ، وَالْقَائِمُونَ لِذَلِكَ ؛ وَالْعَامِلُونَ بِهِ ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَبْقَى لِنَظَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجْهٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَوَّلَ عَلَى اللُّغَةِ فَغَيْرُهُ مِنْ نَظَائِرِهِ وَمَنْ فَوْقَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْرَفُ بِهَا ، وَإِنْ عَوَّلَ عَلَى الْمَعْنَى فَهُوَ لَنَا ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَيْنِ كَالْبِنْتَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَلَيْسَ فِي الْحُكْمِ بِمَذْهَبِنَا خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ فِي اللُّغَةِ وَارِدًا لَفْظَ الِاثْنَيْنِ عَلَى الْجَمِيعِ.(20/301)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا فَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ فُصُولِ الْفَرَائِضِ ، وَأَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْخَلْقِ ؛ وَيَسَّرَ لَهُمْ السَّبَبَ إلَى جَمْعِهِ بِوُجُوهٍ مُتْعَبَةٍ ، وَمَعَانٍ عَسِيرَةٍ ، وَرَكَّبَ فِي جِبِلَّاتِهِمْ الْإِكْثَارَ مِنْهُ وَالزِّيَادَةَ عَلَى الْقُوتِ الْكَافِي الْمُبَلِّغِ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ تَارِكُهُ بِالْمَوْتِ يَقِينًا ، وَمُخَلِّفُهُ لِغَيْرِهِ ، فَمِنْ رِفْقِ الْخَالِقِ بِالْخَلْقِ صَرْفُهُ عِنْدَ فِرَاقِ الدُّنْيَا ؛ إبْقَاءً عَلَى الْعَبْدِ وَتَخْفِيفًا مِنْ حَسْرَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كَفَنِهِ وَجِهَازِهِ إلَى قَبْرِهِ.
الثَّانِي : مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ مِنْ دَيْنِهِ.
الثَّالِثُ : مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ خَيْرٍ لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ مَا فَاتَ فِي أَيَّامِ مُهْلَتِهِ.
الرَّابِعُ : مَا يَصِيرُ إلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ الدَّانِيَةِ وَأَنْسَابِهِ الْمُشْتَبِكَةِ الْمُشْتَرَكَةِ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا قَدِمَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ حَاجَتَهُ الْمَاسَةَ فِي الْحَالِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى دَيْنِهِ ، وَقَدْ كَانَ فِي حَيَاتِهِ لَا سَبِيلَ لِقَرَابَتِهِ إلَى قُوتِهِ وَلِبَاسِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهِ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنِهِ ، وَفَرْضُ الدَّيْنِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ.(20/302)
فَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمِيرَاثِ فِي بَعْضِ الْمَالِ فَفِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِيَالَةٌ دِينِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ جَمِيعَهُ لَفَاتَهُ بَابٌ مِنْ الْبِرِّ عَظِيمٌ ، وَلَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِ لَمَا أَبْقَى لِوَرَثَتِهِ بِالصَّدَقَةِ مِنْهُ شَيْئًا لِأَكْثَرِ الْوَارِثِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ ؛ فَقَسَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ الْمَالَ وَأَعْطَى الْخَلْقَ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ ، وَأَبْقَى سَائِرَ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ ، كَمَا قَالَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّكَ إنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ }.
مَعَ أَنَّهُ كَلَالَةٌ مِنْهُ بَعِيدٌ عَنْهُ.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : " خَيْرٌ " هَاهُنَا وُجُوهًا مُعْظَمُهَا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إلَى ذِكْرِهِ بِالْجَمِيلِ ، وَإِحْيَاءُ ذِكْرِهِ هُوَ إحْدَى الْحَيَاتَيْنِ ، وَمَعْنًى مَقْصُودٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي طَرِيقِهِ فَقَالَ : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } وَأَخْبَرَ عَنْ رَغْبَتِهِ فِيهِ فَقَالَ : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } وَإِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ عَظُمَ قَدْرُهُمْ ، وَشَرُفَ ذِكْرُهُمْ فِي الطَّاعَةِ وَذِكْرُهُ.(20/303)
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ وَتَرَكَ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَتْرُوكًا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ ؛ وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ الْوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةً مَسُوغَةً لَهُ ، وَكَّلَهَا إلَى نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ فِي أَعْيَانِ الْمُوصِي لَهُمْ ، وَبِمِقْدَارِ مَا يَصْلُحُ لَهُمْ.
وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مَفْرُوضَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ؛ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ }.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ { خَبَّابٍ قَالَ : هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، ثُمَّ قَالَ : وَمِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَلَمْ نَجِدْ لَهُ مَا نُكَفِّنُهُ فِيهِ إلَّا نَمِرَةً كُنَّا إذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ } ؛ فَبَدَأَ بِالْكَفَنِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ ، { عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَبَاهُ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَتَرَكَ(20/304)
سِتَّ بَنَاتٍ ، وَتَرَكَ دَيْنًا ، فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَدْ عَلِمْت أَنَّ وَالِدِي اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ.
قَالَ : اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَفَعَلْت : فَلَمَّا دَعَوْتُهُ وَحَضَرَ عِنْدِي وَنَظَرُوا إلَيْهِ كَأَنَّمَا أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : اُدْعُ أَصْحَابَكَ ؛ فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي }.
فَقَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْمِيرَاثِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ : { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ فَقَالُوا : صَلِّ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوا : لَا ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صَلِّ عَلَيْهَا.
فَقَالَ : هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ.
قَالَ : فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.
ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا : صَلِّ عَلَيْهَا.
فَقَالَ : هَلْ تَرَكَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ : أَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوا : ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ.
قَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ.(20/305)
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ } ، فَجَعَلَ الْوَفَاءَ بِمُقَابَلَةِ الدَّيْنِ.
وَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَالْمَعَانِي السَّالِفَةِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ ، وَأَنْتُمْ تُقَدِّمُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا ؟ قُلْنَا ؛ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ " أَوْ " لَا تُوجِبُ تَرْتِيبًا ،
إنَّمَا تُوجِبُ تَفْصِيلًا ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : مِنْ بَعْدِ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ بَعْدِهِمَا ، وَلَوْ ذَكَرَهُمَا بِحَرْفِ الْوَاوِ لَأَوْهَمَ الْجَمْعَ وَالتَّشْرِيكَ ؛ فَكَانَ ذِكْرُهُمَا بِحَرْفِ " أَوْ " الْمُقْتَضِي التَّفْصِيلَ أَوْلَى.
الثَّانِي : أَنَّهُ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ ؛ لِأَنَّ تَسَبُّبَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، وَالدَّيْنُ ثَابِتٌ مُؤَدًّى ذَكَرَهُ أَمْ لَمْ يَذْكُرْهُ.
الثَّالِثُ : أَنَّ وُجُودَ الْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ وُجُودِ الدَّيْنِ ؛ فَقُدِّمَ فِي الذِّكْرِ مَا يَقَعُ غَالِبًا فِي الْوُجُودِ.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ ذَكَرَ الْوَصِيَّةَ ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ ، هَلْ يَقْصِدُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ امْتِثَالُهُ أَمْ لَا ؟ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ابْتِدَاءً تَامًّا مَشْهُورًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ ، فَقَدَّمَ الْمُشْكِلَ ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ فِي الْبَيَانِ.(20/306)
الْخَامِسُ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً ثُمَّ نُسِخَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، فَلَمَّا ضَعَّفَهَا النَّسْخُ قَوِيَتْ بِتَقْدِيمِ الذِّكْرِ ؛ وَذِكْرُهُمَا مَعًا كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَلَّقَ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ.
لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ خُصِّصَتْ بِبَعْضِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ جَازَتْ فِي جَمِيعِ الْمَالِ لَاسْتَغْرَقَتْهُ وَلَمْ يُوجَدْ مِيرَاثٌ ؛ فَخَصَّصَهَا الشَّرْعُ بِبَعْضِ الْمَالِ ؛ بِخِلَافِ الدَّيْنِ ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُنْشِئُهُ بِمَقَاصِدَ صَحِيحَةٍ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ، بَيِّنَةِ الْمَنَاحِي فِي كُلِّ حَالٍ ؛ يَعُمُّ تَعَلُّقُهَا بِالْمَالِ كُلِّهِ.
وَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ وَظَهَرَ الْمَعْنَى فِي تَخْصِيصِ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ قَدَّرَتْ ذَلِكَ الشَّرِيعَةُ بِالثُّلُثِ ، وَبَيَّنَتْ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إلَيْهِ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ ؛ { قَالَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِي مَالٌ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي الْحَدِيثُ ، إلَى أَنْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ
خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ }.
فَظَهَرَتْ الْمَسْأَلَةُ قَوْلًا وَمَعْنًى وَتَبَيَّنَتْ حِكْمَةً وَحُكْمًا.(20/307)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَقْدِيمَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِي تَقْدِيمِ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ عَلَى الْمِيرَاثِ ، فَقَالَ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا فَرَّطَ فِي زَكَاتِهِ وَحَجِّهِ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إنْ أَوْصَى بِهَا أُدِّيَتْ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْهَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ شَيْءٌ.
وَتَعَلُّقُ الشَّافِعِيُّ ظَاهِرٌ بِبَادِئِ الرَّأْيِ ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ ؛ فَلَزِمَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، لَا سِيَّمَا وَالزَّكَاةُ مَصْرِفُهَا إلَى الْآدَمِيِّ وَمُتَعَلَّقُ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ إسْقَاطَ الزَّكَاةِ أَوْ تَرْكَ الْوَرَثَةِ فُقَرَاءَ ، لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَرْكَ الْكُلِّ ، حَتَّى إذَا مَاتَ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَالِهِ ؛ فَلَا يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ ؛ فَكَانَ هَذَا قَصْدًا بَاطِلًا فِي حَقِّ عِبَادَاتِهِ وَحَقِّ وَرَثَتِهِ ؛ وَكُلُّ مَنْ قَصَدَ بَاطِلًا فِي الشَّرِيعَةِ نُقِضَ عَلَيْهِ قَصْدُهُ ، تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ اُتُّهِمَ بِهِ إذَا ظَهَرَتْ عَلَامَتُهُ ، كَمَا قَضَيْنَا بِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ لِلْقَاتِلِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.(20/308)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَدْرُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْآخِرَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ يَشْفَعُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
الثَّانِي : لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ؛ أَيُّهُمْ أَرْفَعُ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ : الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ لَمْ يُؤْمَنْ إذَا قَسَّمَ التَّرِكَةَ فِي الْوَصِيَّةِ ، حِيفَ أَحَدُكُمْ ، لِتَفْضِيلِ ابْنٍ عَلَى بِنْتٍ ، أَوْ أَبٍ عَلَى أُمٍّ ، أَوْ وَلَدٍ عَلَى وَلَدٍ ، أَوْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَى أَحَدٍ ، فَتَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَسْمَهَا بِعِلْمِهِ ، وَأَنْفَذَ فِيهَا حِكْمَتَهُ بِحُكْمِهِ ، وَكَشَفَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، وَعَبَّرَ لَكُمْ رَبُّكُمْ عَنْ وِلَايَةِ مَا جَهِلْتُمْ ، وَتَوَلَّى لَكُمْ بَيَانَ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ وَمَصْلَحَتُكُمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 429 ـ 447}(20/309)
ومن فوائد الشيخ الشنقيطى فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين }.
لم يبين هنا حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث مع أنهما سواء في القرابة.
ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر وهو قوله تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] لأن القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقّب للنقص دائماً ، والمَقُوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائماً ، والحكمة في إيثار مترقّب النقص على مترقّب الزيادة جبراً لنقصة المترقّب ظاهرة جِداً.
قوله تعالى : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } الآية.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأنَّ البنات إن كن ثلاثاً فصاعداً ، فلهن الثلثان وقوله : { فَوْقَ اثنتين } يوهم أن الاثنتين ليستا كذلك ، وصرح بأن الواحدة لها النصف ، ويفهم منه أن الاثنتين ليستا كذلك أيضاً ، وعليه ففي دلالة الآية على قدر ميراث البنتين إجمال.(20/310)
وقد أشار تعالى في موضعين إلى أن هذا الظرف لا مفهوم مخالفة له ، وأن للبنتين الثلثين أيضاً. الأول : قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } [ النساء : 11 ] إذ الذكر يرِث مع الواحدة الثلثين بلا نزاع ، فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة ، وإلا لم يكن للذكر مثل حظّ الأنثيين. لأن الثلثين ليسا بحظّ لهما أصلاً ، لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع ، إذ ما من صورة يجتمع فيها الابنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان ، فتعين أن تكون صورة انفرادهما عن الذكر. واعتراض بعضهم هذا الاستدلال بلزوم الدور قائلاً : إن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة تتوقف على معرفة حَظّ الأنثيين. لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظّ الأنثيين. فلو كانت معرفة حظّ الأنثيين مستخرجة من حظّ الذكر لزم الدور ساقط. لأن المستخرج هو الحظّ المعين للأنثيين وهو الثلثان ، والذي يتوقّف عليه معرفة حظّ الذكر هو ممعرفة حظّ الأنثيين مطلقاً ، فلا دور لانفكاك الجهة. واعترضه بعضهم أيضاً بأن للابن مع البنتين النصف ، فيدل على أن فرضهما النصف ، ويؤيد الأول أن البنتين لما استحقّتا مع الذكر النصف عُلم أنهما إن انفردتا عنه ، استحقتا أكثر من ذلك. لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف ، بعدما كانت معه تأخذ الثلث ، ويزيده إيضاحاً أن البنت تأخذ مع الابن الذكر الثلث بلا نزاع ، فلأن تأخذه مع الابنة الأنثى أَوْلَى.(20/311)
فبهذا يظهر أنهُ جل وعلا ، أشار إلى ميراث البنتين بقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } [ النساء : 11 ] كما بينا ، ثم ذكر حكم الجماعة من البنات ، وحكم الواحدة منهن بقوله : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } [ النساء : 11 ] ومما يزيده إيضاحاً ، أنَّه تعالى فرعه عليه بالفاء في قوله : { فَإِنْ كُنَّ } إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها كما هو ظاهر.
الموضع الثاني : هو قوله تعالى في الأختين : { فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ } [ النساء : 176 ]. لأن البنت أمسّ رحماً ، وأقوى سبباً في الميراث من الأخت بلا نزاع.
فإذا صرح تعالى : بأن للأختين الثلثين ، علم أن البنتين كذلك من باب أولى ، وأكثر العلماء على أن فحوى الخطاب ، أعني : مفهوم الموافقة الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق ، من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس ، خلافاً للشافعي وقوم ، كما علم في الأصول ، فالله تبارك وتعالى ملا بين أن للأختين الثلثين ، أفهم بذلك أن البنتين كذلك من باب أولى.(20/312)
وكذلك لما صرح أن لما زاد على الاثنتين من البنات الثلثين فقط ، ولم يذكر حكم ما زاد على الاثنتين من الأخوات ، أفهم أيضاً من باب أولى أنه ليس لما زاد من الأخوات غير الثلثين. لأنه لما لم يعط للبنات عُلم أنه لا تستحقّه الأخوات ، فالمسكوت عنه في الأمرين أولى بالحكم من المنطوق به ، وهو دليل على أنه قصد أخذه منه ، ويزيد ما ذكرنا إيضاحاً ما أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وابن ماجه ، عن جابر رضي الله عنه ، قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد قُتل أبوهما يوم أُحد ، وإن عمهما أخذ مالهما ، ولم يدع لهما مالاً ، ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال صلى الله عليه وسلم : " يقضي الله تعالى ، في ذلك " فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما ، فقال " اعْطِ ابنتي سعد الثلثين ، واعط أمهما الثمن ، وما بقي فهو لك ".
وما يروى عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، من أنه قال : للبنتين النصف. لأن الله تعالى ، قال : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] فصرح بأن الثُلثين إنما هما لِما فوق الاثنتين فيه أمور ، الأول : أنه مردود بمثله ؛ لأن الله قال ايضاً : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } [ النساء : 11 ] فصرح بأن النصف للواحدة جاعلاً كونها واحدة شرطاً معلقاً عليه فرض النصف.(20/313)
وقد تقرر في الأصول أن المفاهيم إذا تعارضت قدم الأقوى منها ، ومعلوم أن مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الظرف ؛ لأن مفهوم الشرط لم يقدم عليه من المفاهيم ، إلا ما قال فيه بعض العلماء : إنه منطوق لا مفهوم وهو النفي والإثبات ، وإنما من صيغ الحصر والغاية ، وغير هذا يقدم عليه مفهوم الشرط قال في مراقي السعود مبيناً مراتب مفهوم المخالفة :
أعلاه لا يرشد إلا العلما... فما لمنطوق بضعف انتمى
فالشرط فالوصف الذي يناسب... فمطلق الوصف الذي يقارب
فعدد ثمة تقديم يلي... وهو حجة على النهج الجلي
وقال صاحب جمع الجوامع ما نصه : مسألة الغاية قيل : منطوق والحق مفهوم يتلوه الشرط ، فالصفة المناسبة ، فمطلق الصفة غير العدد ، فالعدد ، فتقديم المعمول إلخ ، وبهذا تعلم أن مفهوم الشرط في قوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } [ النساء : 11 ] أقوى من مفهوم الظرف في قوله { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين } [ النساء : 11 ] الثاني : دلالة الآيات المتقدمة على أن للبنتين الثلثين ، الثالث : تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث جابر المذكور آنفاً. الرابع : أنه روي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك.
قال الألوسي في تفسيره ما نصّه : وفي شرح الينبوع نقلاً عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في شرح فرائض الوسيط ، صحّ رجوع ابن عبّاس رضي الله عنهما عن ذلك فصار إجماعاً اه. منه بلفظه.
تنبيهان
الأول : ما ذكره بعض العلماء وجزم به الألوسي في تفسيره من أن المفهوم في قوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } مفهوم عدد غلط. والتحقيق هو ما ذكرنا من أنه مفهوم شرط ، وهو اقوى من مفهوم العدد بدرجات كما رايت فيما تقدم. قال في نشر البنود على مراقي السعود في شرح قوله :
وهو ظرف علة وعدد ومنه شَرْط غاية معتمد(20/314)
ما نصّه : والمراد بمفهوم الشرط ما فهم من تعليق حكم على شيء بأداة شرط كإن وإذا ، وقال في شرح هذا البيت أيضاً قبل هذا ما نصه : ومنها الشرط نحو { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ } [ الطلاق : 6 ] مفهوم انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط أي : فغير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن ونحو من تطهر صحت صلاته اه منه بلفظه.
فكذلك قوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } [ النساء : 11 ] علق فيه فرض النصف على شرط هو كون البنت واحدة ، ومفهومه أنه إن انتفى الشرط الذي هو كونها واحدة انتفى المشروط الذي هو فرض النصف كما هو ظاهر ، فإن قيل كذلك المفهوم في قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين } [ النساء : 11 ] لتعليقه بالشرط فالجواب من وجهين :
الأول : أن حقيقة الشرط كونهن نساء. وقوله فوق اثنتين وصف زائد ، وكونها واحدة هو نفس الشرط لا وصف زائد ، وقد عرفت تقديم مفهوم الشرط على مفهوم الصفة ظرفاً كانت أو غيره.
الثاني : أنا لو سلمنا جدلياً أنه مفهوم شرط لتساقط المفهومان لاستوائهما ويطلب الدليل من خارج ، وقد ذكرنا الأدلة على كون البنتين ترثان الثلثين كما تقدم.
الثاني : إن قيل فما الفائدة في لفظة فوق اثنتين إذا كانت الاثنتان كذلك ؟ فالجواب من وجهين :
الأول : هو ما ذكرنا من أن حكم الاثنتين أخذ من قوله قبله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } [ النساء : 11 ] كما تقدم وإذن فقوله : { فَوْقَ اثنتين } تنصيص على حكم الثلاث فصاعداً كما تقدم.
الثاني : أن لفظة { فَوْقَ } ذكرت لإفادة أن البنات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ.
وأما ادعاء أن لفظة { فَوْقَ } زائدة وادعاء أن { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } معناه اثنتان فما فوقهما فكله ظاهر السقوط كما ترى ، والقرآن ينزه عن مثله وإن قال به جماعة من أهل العلم. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 267 ـ 269}(20/315)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ } هذه الجملة من مبتدأ وخبر ، يُحْتَمل أن تكونَ في محلِّ نَصْبٍ بـ " يوصي " ؛ لأنَّ المعنى : يَفْرِضُ لكم ، أو يُشَرِّع في أوْلادَكُمْ ، كذا قاله أبُو البَقَاءِ ، وهذا يقرب من مذهب الفرَّاء ، فإنَّهُ يُجْرٍي ما كان بمعنى القول مُجْراه في حكاية الجملِ ، فالجملةُ في موضع نَصْب بـ " يوصيكم ".
وقال مَكِّيٌّ : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ } ابتداءُ وخبر في موضع نصب تَبْيينٌ لِلْوَصِيَّةِ وَتَفْسِيرٌ لَهَا.
وقال الكِسَائِيُّ : " ارتفع " مثل " على حذف " أنَّ " تقديره : أنَّ للذكرِ مثلُ حظّ ، وبه قرأ ابن ابيب عبلة ، ويحتمل ألاَّ يكون لها محلٌّ من الإعراب ، بل جيء بها للبيان والتَّفسير فهي جُملةٌ مفسِّرةٌ للوصيَّةِ ، وهذا أحسن وجار على مذهب البصريين ، وهو ظاهر عبارة الزمخشريِّ ، فَإنَّهُ قال : وهذا إجمالٌ تفصيلُه { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين }.
وقوله : { لِلذَّكَرِ } لا بُدَّ من ضمير يعود على { أَوْلاَدِكُمْ } من هذه الجملة ، فيحتمل أن يكون مجذوفاً أي : للذكر منهم نحو : " السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم " قاله الزمخشريُّ ، ويحتمل أن يكون قام مقام الألف واللام عند مَنْ يرى ذلك ، والأصل : لذكرهم و" مثل " صفة لموصوفٍ محذوفٍ أي : للذَّكَر منهم حَظٌّ مثلُ حَظِّ الأنثيين.
فإن قيل : لا يقال في اللُّغَةِ : أوصيك لكذا ، فكيف قال هنا : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ } ؟ .(20/316)
فالجوابُ : أنَّهُ لما كانت الوصية قولاً ، فلهذا قال بعد قوله : { يُوصِيكُمُ الله } قولاً مستأنفاً وهو قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } ونظيره قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] أي : قال لهم مغفرة ؛ لأن الوعد قولٌ.
قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً } الضمير في " كُنَّ " يعودُ على الإناثِ اللاَّتي شَمَلَهُنَّ قوله : { في أَوْلاَدِكُمْ }.
فإنَّ التَّقدير : في أولادكم الذُّكور والإناث ، فعادَ الضَّمِيرُ على أحد قِسمي الأولادِ ، وإذا عاد الضَّمِيرُ على جمع التكسير العاقل المراد به مَحْضَ الذُّكور ، وفي قوله عليه السَّلام " ورب الشياطين ومن أضللن " لعوده على جماعة الإناث ، فَلأنْ يعودَ كذلك على جمع التكسير المشتمل على الإناث بطريق الأوْلى [ والأحرى ] ، وهذا معنى قول أبي حيَّان : وفيه نَظَرٌ لأن عوده هناك كضمير الإناث إنما كان لمعنى مفقودٍ هنا وهو طلب المشاكلة لأنَّ قبله " اللهم رب السموات ومن أضللن الأرضين وما أقللن " ذَكَر ذلك النحويون.
وقيل : الضَّمير يعود على المتروكات أي : فإن كانت المتروكات ، وَدَلَّ ذِكْرُ الأولاد عليه ، قاله أبُو البقاء ومكيٌّ وقدَّره الزمخشريُّ : فإنْ كانت البنات أو المولودات.
فإذا تقرر هذا ف " كُنَّ " كان واسمُها و" نسَاءٌ " خبرها ، و" فوق اثنتين " ظرف في فائدةٌ ، ألا ترى أنَّه لو قيل : " إنْ كان الزيدون رجالاً كان كذا " لم يَكُنْ فيه فائدةٌ.
وأجاز الزَّمخشريُّ في هذه الآية وَجْهين غريبين :(20/317)
أحدهما : أن يكون الضمير في " كُنَّ " ضميراً مبهماً ، و" نساء " منصوبٌ على أنَّهُ تفسيرٌ له يعني : تمييزاً ، وكذلك قال في الضَّمِير الَّذي في " كَانَتْ " من قوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً } على أنَّ " كن " تَامَّةٌ. والوجه الآخر : أن يكون " فوق اثنتين " خبراً ثانياً لـ " كُنَّ " وَرَدَّهما عليه أبو حيّان : أمَّا الأوَّلُ : فلأنَّ " كانَ " ليْسَتْ من الأفعالِ الَّتي يكونُ فاعلُها مضمراً يُفَسِّره ما بَعْدَهُ بل هذا مختصٌّ من الأفعال بـ " نعم " و" بئس " وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا وبَابُ التنازع عند إعْمَالِ الثاني ، فَلِمَا تَقَّدَمَ من الاحتياج إلى هذه الصفةِ ؛ لأنَّ الخبرَ لا بُدَّ أنْ تَسْتَقِلَّ به فَائِدةُ الإسناد ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ لو اقتصر على قوله " فإن كن نساء " لم يُفِدْ شيئاً ؛ لأنَّهُ مَعْلُومٌ.
قوله : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } قرأ الجمهور " ثلُثا " بضمِّ اللام ، وهي لغة الحجاز وبني أسد.
قال النَّحَّاسُ : من الثُّلث إلى العشر.
وقرأ الحسن ونعيمُ بن ميسرةَ " ثُلْثا " و" الثُّلْثُ " و" النِّصْفُ " و" الرُّبْع " و" الثُّمْنُ " كلُّ ذلك بإسكان الوسط.
وقال الزَّجَّاجُ : هي لغة واحدة ، والسُّكونُ تخفيف.(20/318)
وقوله : " وإن كانت واحدة " قرأ نافع " وَاحِدَةٌ " رفعاً على أن " كَانَ " تامة أي : وإن وُجِدَتْ واحدةٌ ، والباقون " واحدة " نصباً على أن " كَانَ " ناقصة واسمُها مستتر فيها يعودُ على الوارثة أو المتروكة و" واحدة " نَصْبٌ على خبر " كان " ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الزَّمَخشريَّ أجاز أن يكون في " كان " ضمير مبهمٌ مفسَّر بالمنصوبِ بعد. وقرأ السُّلمي : " النُّصف " بضم النون ، وهي قراءةُ عليِّ وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما - وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة في قوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ويعني : كون البنت الواحدة لها النّصف ؛ لأن الابن الواحد له جميع المال إذا انفرد ، فكذلك البنت إذا انفردت لها نصف ما للذكر إذا انفرد ؛ لأنَّ الذَّكر له مثل حظ الأنثيين.
قوله : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس }.
{ السدس } مبتدأ و{ وَلأَبَوَيْهِ } خبرٌ مقدَّمٌ ، و{ لِكُلِّ وَاحِدٍ } بدل من { وَلأَبَوَيْهِ } ، وهذا نص الزمخشريِّ فإنَّه قال : { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } بدل من { وَلأَبَوَيْهِ } بتكرير العامل ، وفائدة هذا البدل أنَّهُ لو قيل : " ولأبويه السدس " لكان ظاهرةُ اشتراكهما فيه ، ولو قيل : " لأبويه السدسان " لأوْهَمَ قِسْمَةَ السدسين عليهما بالسويةِ وعلى خلافهما.
و { السدس } مبتدأ ، وخبره { لأَبَوَيْهِ } والبدلُ متوسط بينهما للبيان. انتهى.(20/319)
ونَاقَشَهُ أبو حيان فِي جَعْلِهِ { لأَبَوَيْهِ } الخبر دون قوله : { لِكُلِّ وَاحِدٍ } قال : " لأنه ينبغي أن يكون البدل هو الخبر دونَ المبدل منه " يعني : أنَّ البدل هو المعتمد عليه ، والمبدل منه صار في حكم المُطَّرح ، ونَظَّره بقولك : " إنَّ زيداً عينهُ حسنةٌ " فكما أنَّ " حَسَنَةٌ " خبر عن " عينه " دون " زيد " في حكم المُطَّرح فكذلك هذا ، ونَظَّره أيضاً بقولك : [ أبواك لكل واحد منهما يصنع كذا ف " يصنع " خبر عن كل واحد منهما.
ولو قلت : " أبواك كُلُّ واحدٍ منهما يصنع كذا " لَمْ يَجُزْ.
وفي هذه المناقشة نَظَرٌ ، لأنه إذا قيل لك : ما مَحَلُّ لأبويه من الإعراب ؟ تُضطر إلى أن تقول : في مَحَلِّ رفع خبراً مقدماً ، ولكنه نقل نسبة الخيريّة إلى { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } دون { لأَبَوَيْهِ } قال : وقال بعضهم : { السدس } رفع بالابتداء ، و{ لِكُلِّ وَاحِدٍ } الخبرُ و{ لِكُلِّ } بَدَلٌ من الأبوين ، و" منهما " نعت لواحد ، وهذا البدلُ هو بدلُ بعضِ من كُلِّ ، ولذلك أتَى معه بالضَّمير ، ولا يُتَوَهَّمُ أنَّهُ بدلُ شيءٍ من شيْءٍ وهما لعين واحدةٍ لجوازِ أبواك يَصْنعان كذا وامتناع أبواك كل وتجد منهما يصنعان كذا ، بل تقول : يصنع. انتهى.
والضَّمير في " لأبويه " عائد على ما عاد عليه الضَّمير في " ترك " ، وهو الميتُ المدلولُ عليه بقوة الكلام ، والتثنية في " أبويه " من التَّغليب ، والأصل : لأبيه وأمه وَإِنَّما غَلَّبَ المذكر على المؤنث كقولهم : " القمران ، والعمران " وهي تثنية لا تنقاس.
قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث }
قرأ الجمهور { فَلأُمِّهِ } وقوله : { في أُمِّ الكتاب } [ الزخرف : 4 ].
وقوله : { حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا } في القصص [ آية : 59 ].(20/320)
وقوله : { مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ].
وقوله : { أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النور : 61 ] و{ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النجم : 32 ] بضم الهمزة من " أمّ " وهو الأصلُ.
وقرأ حمزة والكسائيُّ جميعَ ذلك بكسر الهمزة.
وانفرد حمزة بزيادة كسر الميم من " إمِّهات " فإنَّهُ لا خلاف في ضَمِّها.
أمَّا وجهُ قراءة الجمهور فظاهرٌ ، لأنَّهُ الأصل كما تَقَدَّمَ.
وَأمَّا قراءة حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا : لمناسبة الكسرة أو الياء الّتي قبل الهمزة ، فكسرت الهمزةُ إتباعاً لما قَبْلَها ، ولاستثقالهم الخروج من كَسْرِ أو شبه إلى ضم.
قال الزَّجَّاجُ : وليس في كلام العرب " فِعُل " بكسر الفاء وضمِّ العين ، فلا جَرَمَ جُعِلَتْ الضمةُ كسرةً ، ولذلك إذا ابتدآ بالهمزة ضَمَّاها لزوال الكسر أو الياء ، وأمَّا كسر حمزة الميم من " إمَّهات " في المواضع المذكورة فللإتْبَاع ، أتبعَ حركة الميم لحركةِ الهمزةِ ، فكسرةُ الميم تَبَعُ التَّبَع ، ولذلك إذا ابتدأ بها ضم الهمزة وفتح الميم ؛ لما تقدَّمَ من زوال موجب ذلك.
وكَسْرُ همزة " أم " بعد الكسرة أو الياء حكاه سببويْهِ لُغَةً عن العرب ، ونَسَبَها الكِسائِي والفرَّاء إلى " هوازن " و" هذيل ".
قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ متعلقٌ بما تقدمه من قسمة المواريث كُلِّهَا لا بما يليه وحده ، كأنَّهُ قيل : قسمةُ هذه الأنصباء من بعد وصية قاله الزَّمَخْشَرِيُّ ، يعني أنه متعلِّقٌ بقوله : { يُوصِيكُمُ الله } وما بعده.
والثاني : قاله أبُو حيَّان أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ ، أي : يَسْتَحِقُّون ذلك كما فُصِّلَ من بعد وصية.(20/321)
[ والثالث : أنَّهُ حال من السُّدس ، تقديره : مستحقاً من بعد وصيَّة ] ، والعاملُ الظرفُ قاله أبُو البَقَاءِ ، وَجَوَّزَ فيه وَجْهاً آخر ، قال : [ ويجوزُ أن يكون ظرفاً ] أي : يستقر لهم ذلك بعد إخراج الوصيّةِ ، ولا بُدَّ من تقدير حذف المضاف لأنَّ الوصيَّةَ هنا المالُ المُوصَى به ، وقد تكون " الوصيَّةُ " مَصْدراً مثل " الفريضة " ، وهذان الوجهان لا يَظْهَرُ لهما وَجْهٌ.
وقوله : والعاملُ الظَّرف ، يعني بالظَّرف : الجارَّ والمجرور في قوله تعالى : { فَلأُمِّهِ السدس } فإنه شبيه بالظرفية ، وعمل في الحال لما تضمنه من الفعل لوقوعه خبراً ، و" يوصي " فعل مضارع المرادُ به المضمر ، أي : وصية أوْصَى بها و" بها " متعلق به ، والجملة في محلِّ جَرِّ صفةً لـ " وصية ".
وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامرٍ وأبُو بكرٍ " يُوصَى " مبنيّاً للمفعول في الموضعين ، ووافقهم حفص في الأخير ، والباقون مبنياً للفاعل.
وقُرِئَ شاذاً " يُوصَّى " بالتشديد مبنياً للمفعول ، ف " بها " في قراءة البناء للفاعل في مَحَلِّ نصب ، وفي قراءة البناء للمفعول في مَحَلِّ رفعٍ لقيامه مقامَ الفاعل.
قوله : " أو دين " ، " أو " هنا لأحدِ الشيئين ، قال أبو البقاء : " وَلا تَدُلُّ على ترتيب ، إذْ لا فرقَ بين قولك : " جاءني زيد أو عمرو " ، وبين قولك : " جاءني عمرو أو زيد " ؛ لأنَّ " أو " لأحد الشيئين ، والواحدُ لا ترتيب فيه ، وبهذا يفسد قولُ مَنْ قَالَ : " من بعد دين أو وصية " وإنَّمَا يَقَعُ الترتيبُ فيما إذا اجتمعا ، فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ على الوصيَّةِ ".(20/322)
وقال الزَّمخشريُّ : " فإنْ قُلْتَ : فما معنى أو ؟ قلت : معناها الإباحةُ ، وأنَّهُ إن كان أحدهما ، أو كلاهما قُدِّمَ على قِسْمَةِ الميراثِ ، كقولك : " جالس الحسنَ أو ابن سيرين " ، فإن قلت : لم قُدِّمَتِ الوصيّة على الدَّيْنِ والدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عليها في الشَّريعةِ ؟ .
قلت : لما كانت الوصيّةُ مُشْبهَةً للميراثِ في كونِها مَأخوذةً مِنْ غير عوضٍ ، كان إخراجُها مِمَّا يَشُقُّ على الورَثةِ ، بخلاف الدَّيْن ، فإن نفوسهم مطمئنَّةٌ إلى أدائه ، فلذلك قُدِّمَتْ على الدَّيْنِ بَعْثاً على وجوبها ، والمسارعة إلى إخراجها مع الدَّيْنِ ، ولذلك جيءَ بكلمةِ " أو " للتَّسْوِيَةِ بينهما في الوجوب ". وقال ابن الخَطِيبِ : إنَّ كلمة " أو " إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو ، كقوله : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] وقوله : { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } [ الأنعام : 146 ] فكانت " أو " هاهنا بمعنى الواو ، وكذلك قوله تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال : إلاّ أن يكون هناك وَصِية أوْ دين فيكون المراد بعدهما جميعاً.
قوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } مبتدأ ، و{ لاَ تَدْرُونَ } وما في حَيِّزه في محلِّ الرفع خبراً له.
و { أَيُّهُمْ } فيه وجهان : (20/323)
أشهرهُمَا : [ عند المعربين ] أني كونَ { أَيُّهُمْ } مبتدأ وهو اسم استفهام ، و" أقربُ " خَبَرُهُ ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره في محلِّ نصب بـ " تدرون " ؛ لأنَّهَا من أفْعَالِ القُلُوبِ ، فَعَلَّقَها اسمُ الاستفهامِ عَنْ أنْ تَعْمَلَ في لفظه ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعْمَلُ فيه ما قبله في غير الاستثبات.
والثَّاني : أنَّهُ يجوزُ أن يكون { أَيُّهُمْ } موصولةً بمعنى { الَّذِي } و{ والأقربون } خبرُ مبتدأ مضمر ، وهو عائدُ الموصولِ ، وجازَ حذفه ؛ لأنه يجوز ذلك مع " أي " مطلقاً : أي : أطالت الصِّلَةُ أم لم تَطُل ، والتَّقدير : أيُّهم هو أقربُ ، وهذا الموصول وَصِلَتُهُ في محلِّ نصب على أنَّهُ مفعول به ، نَصَبَه { تَدْرُونَ } ، وإنَّمَا بُنِيَ لوجودِ شَرْطَي البناء ، وهما : أنْ تُضافَ " أي " لفظاً ، وَأنْ يُحْذَفَ صَدْرُ صِلَتِهَا ، وصارت الآيةٌ نظيرَ قوله تعالى : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ } [ مريم : 69 ] ، فصار التقدير : لا تدرون الذي هو أقربُ.
قال أبو حيَّان : " ولم أرهم ذكروه " ، يعني هذا الوجه ، ولا مانع منه لا من جهة المعنى ، ولا من جهة الصِّنَاعة.
فعلى القول الأوَّلِ تكونُ الجملةُ سَادَّةً مَسَدَّ المفعولين ، ولا حاجة إلى تقدير حذف.
وعلى الثَّاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مَفْعُلاً أوَّلَ ، ويكون الثَّاني محذوفاً ، وبعدم الاحتياج إلى حَذْفِ المفعول الثَّاني ، يترجَّحُ الوجه الأوَّلُ.
ثم هذه الجملةُ ، أعني قوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ } لا محلَّ لها من الإعراب ، لأنَّها جملة اعتراضية.(20/324)
قال الزمخشريُّ ، بعد أن حَكَى في معانيها أقوالاً اختار منها الأوَّلَ : لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضيّة ، ومن حقِّ الاعتراض أن يؤكِّد ما اعْتَرَضَ بينه وبين ما يناسِبُه.
يعني بالاعتراض : أنَّهَا واقعةٌ بين قصة المواريث ، إلاَّ أنَّ هذا الاعتراض غيرُ مرادِ النحويين ، لأنَّهُمْ لا يَعْنُون بالاعتراضِ في اصْطِلاحِهِمْ إلاَّ ما كان بين شيئين مُتَلاَزِمَيْنِ كالاعتراض بين المبتدأ وخبره ، والشرط وجزائه والقَسَمِ وجوابه ، والصِّلَةِ وموصولها.
قوله : { نَفْعاً } نُصِبَ على التَّمييز من " أقرب " ، وهو منقول من الفاعلية ، واجب النَّصب ؛ لأنَّهُ متى وقع تمييزٌ بَعْدَ " أفْعَلِ " التفضيل ، فَإن صَحَّ أنْ يُصَاغَ منها مُسْندٌ إلى ذلك التمييز على جهةِ الفاعليَّة وجل النَّصب كهذه الآية ، إذْ يَصِحُّ أن يُقَالَ : أيُّهم أقْرَبُ لكم نَفْعُهُ ، وإن لم يَصحّ ذلك وجب جَرُّه نحو : " زيد أحسن فقيه " بخلاف " زيد أحسن فقهاً " ، وهذه قاعدة مفيدة و" لكم " متعلق بـ " أقرب ".
قوله : { فَرِيضَةً } فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّها مصدرٌ مؤكد لمضمون الجملة السَّابقة من الوصية ؛ لأن معنى " يوصيكم " : فَرَضَ عليكم ذلك ، فصار المعنى : " يوصيكم الله وصية فرض " ، فهو مصدر على غير الصَّدْرِ.
والثاني : أنَّها مصدر [ منصوبٌ بفعل ] محذوف من لفظها.
قال أبو البَقَاء : و{ فَرِيضَةً } مصدر لفعل محذوف ، أي : فرض اللهُ ذلك فريضة.
والثالث : قاله مَكيٌّ وغيره : أنَّهَا حال ؛ لأنَّها ليست مصدراً ، وكلامُ الزمخشريُّ محتمل للوجهين الأوَّلَيْن ، فإنَّهُ قال : " فريضة " نصبت نَصْبَ المصدر المؤكد ، أي : " فرض الله ذلك فرضاً ". ثم قال : " إن الله كان عليماً " أي : بأمور العباد " حكيما " بنصب الأحكام.
فإن قيل : لِمَ قال كان عليماً حكيماً مع أنَّهُ لم يزل كذلك ؟ .
فالجوابُ قال الخليلُ : الخبرُ عن الله تعالى بهذه الألفاظ ، كالخبر بالحال والاستقبال ؛ لأنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الدخول تحت الزمان.
قال سيبويه : القومُ لما شاهدوا علماً وحكمةً وفضلاً وإحساناً تعجبوا ، فقيل لهم : إنَّ اللهَ كذلك ، ولم يزل موصوفاً بهذه الصفات. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 208 ـ 222}. بتصرف.(20/325)
بحث جليل فى الآية للعلامة الجصاص
قال عليه الرحمة :
بَابُ الْفَرَائِضِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا النَّسَبُ وَالْآخَرُ السَّبَبُ فَأَمَّا مَا يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْفَرَسِ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاس وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ ، إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ } وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ }.
وَقَدْ كَانُوا مُقِرِّينَ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمِيرَاثِ إلَى أَنْ نُقِلُوا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِالشَّرِيعَةِ ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قُلْت لِعَطَاءِ : أَبَلَغَكَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مِيرَاثٍ } ؟ قَالَ : لَمْ يَبْلُغْنَا إلَّا ذَلِكَ.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : " تَوَارَثَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ بِنَسَبِهِمْ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ".(20/326)
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْبٍ قَالَ : { مَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا الرِّبَا } ، فَمَا أَدْرَكَ الْإِسْلَامُ مِنْ رِبًا لَمْ يُقْبَضْ رَدَّ إلَى الْبَائِعِ رَأْسَ مَالِهِ وَطَرَحَ الرِّبَا ".
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : " بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ عَلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ إلَى أَنْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ أَوْ يُنْهَوْا عَنْهُ ، وَإِلَّا فَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ " ، وَهُوَ عَلَى مَا
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ ".(20/327)
فَقَدْ كَانُوا مُقِرِّينَ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَا يَحْظُرُهُ الْعَقْلُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ مُتَمَسِّكَةً بِبَعْضٍ شَرَائِعِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، وَقَدْ كَانُوا أَحْدَثُوا أَشْيَاءَ مِنْهَا مَا يَحْظُرُهُ الْعَقْلُ نَحْوَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَدَفْنِ الْبَنَاتِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُقَبَّحَةِ فِي الْعُقُولِ ، وَقَدْ كَانُوا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَا تَحْظُرُهَا الْعُقُولُ ، فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا إلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ مَا تَحْظُرُهُ الْعُقُولُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَدَفْنِ الْبَنَاتِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي وَمَا كَانُوا يَتَقَرَّبُونِ بِهِ إلَى أَوْثَانِهِمْ ، وَتَرَكَهُمْ فِيمَا لَمْ يَكُنْ الْعَقْلُ يَحْظُرُهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمَوَارِيثِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مِنْهُمْ ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ حَظْرُهُ وَلَمْ تَقُمْ حُجَّةُ السَّمْعِ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِ ، فَكَانَ أَمْرُ مَوَارِيثِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَوْرِيثِ الذُّكُورِ الْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ دُونَ الصِّغَارِ وَدُونَ الْإِنَاثِ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَ الْمَوَارِيثِ.(20/328)
وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي يَتَوَارَثُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : الْحِلْفُ وَالْمُعَاقَدَةُ ، وَالْآخَرُ : التَّبَنِّي ؛ ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَتُرِكُوا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَ ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ ثُمَّ نُسِخَ.
وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قَالَ : "
كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ دَمِي دَمُك وَهَدْمِي هَدْمُك وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِك " قَالَ : " فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } : " كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَحْلِفُ لَهُ الرَّجُلُ فَيَكُونُ تَابِعًا لَهُ ، فَإِذَا مَاتَ صَارَ الْمِيرَاثُ لِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَبَقِيَ تَابِعُهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } فَكَانَ يُعْطَى مِنْ مِيرَاثِهِ ".(20/329)
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } : وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الْإِسْلَامِ كَانَ يَرْغَبُ فِي خِلَّةِ الرَّجُلِ فَيُعَاقِدُهُ فَيَقُولُ : تَرِثُنِي وَأَرِثُك ، وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتَرَطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَهْلُ الْعَقْدِ جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَزَلَتْ قِسْمَةُ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَهْلُ الْعَقْدِ وَقَدْ كُنْت عَاقَدْتُ رَجُلًا فَمَاتَ ؟ فَنَزَلَتْ : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا }.
فَأَخْبَرَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ أَنَّ مِيرَاثَ الْحَلِيفِ قَدْ كَانَ حُكْمُهُ ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ لَا مِنْ جِهَةِ إقْرَارِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ثَابِتًا(20/330)
بِالسَّمْعِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا كَانُوا مُقِرِّينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ فَأَزَالَتْ ذَلِكَ الْحُكْمَ ؛ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قَالَ : " كَانَ حُلَفَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُمِرُوا أَنْ يُعْطُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ الْمَشُورَةِ وَالْعَقْلِ وَالنَّصْرِ وَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ ".
قَالَ : وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عِيسَى بْن الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } قَالَ : " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْعَصَبَاتِ ، كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ : تَرِثُنِي وَأَرِثُك ، فَنَزَلَتْ : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ }.(20/331)
قَالَ : وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ تَرِثُنِي وَأَرِثُك ، فَنَسَخَتْهَا : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } قَالَ : إلَّا أَنْ تُوصُوا لِأَوْلِيَائِهِمْ الَّذِينَ عَاقَدُوهُمْ وَصِيَّةً ".
فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ } وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْمَشُورَةُ وَالنَّصْرُ مِنْ غَيْرِ مِيرَاثٍ ؛ وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِمَعْنَى الْآيَةِ تَثْبِيتُ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ ؛ لِأَنَّ قَوْله(20/332)
تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } يَقْتَضِي نَصِيبًا ثَابِتًا لَهُمْ ، وَالْعَقْلُ وَالْمَشُورَةُ وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ بِنَصِيبٍ ثَابِتٍ ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ } الْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ إثْبَاتُ نَصِيبٍ مِنْ الْمِيرَاثِ ، كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ إثْبَاتَ نَصِيبٍ لَهُمْ قَدْ اسْتَحَقُّوهُ بِالْمُعَاقَدَةِ ؛ وَالْمَشُورَةُ يَسْتَوِي فِيهَا سَائِرُ النَّاسِ فَلَيْسَتْ إذًا بِنَصِيبٍ ، فَالْعَقْلُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى حُلَفَائِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِنَصِيبٍ لَهُ ، وَالْوَصِيَّةُ إنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً وَاجِبَةً فَلَيْسَتْ بِنَصِيبٍ ؛ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى النَّصِيبِ الْمُسَمَّى لَهُ فِي عَقْدِ الْمُحَالَفَةِ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ مِمَّا قَالَ الْآخَرُونَ.
وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ ، وَإِنَّمَا حَدَثَ وَارِثٌ آخَرُ هُوَ أَوْلَى مِنْهُمْ كَحُدُوثِ ابْنٍ لِمَنْ لَهُ أَخٌ لَمْ يَخْرُجْ الْأَخُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ ، إلَّا أَنَّ الِابْنَ أَوْلَى مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ أُولُو الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ الْحَلِيفِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ رَحِمٌ وَلَا عَصَبَةٌ فَالْمِيرَاثُ لِمَنْ حَالَفَهُ وَجَعَلَهُ لَهُ ؛ وَكَذَلِكَ أَجَازَ أَصْحَابُنَا الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ لِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ.(20/333)
وَأَمَّا الْمِيرَاثُ بِالدَّعْوَةِ وَالتَّبَنِّي فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَبَنَّى ابْنَ غَيْرِهِ فَيُنْسَبُ إلَيْهِ دُونَ أَبِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَيَرِثُهُ ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ }
وَقَالَ تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }.
وَقَدْ كَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ تَبَنَّى سَالِمًا ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ سَالِمُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ ، إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ؛ فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى الدَّعْوَةَ بِالتَّبَنِّي وَنَسَخَ مِيرَاثَهُ.(20/334)
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبُ قَالَ : حَدَّثَنَا وَأَبُو عُبَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : " إنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَنَّوْنَ رِجَالًا وَيُوَرِّثُونَهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ أَنْ يُجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْوَصِيَّة وَرَدَّ الْمِيرَاثَ إلَى الْمَوَالِي مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ وَالْعَصَبَةِ ، وَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْمُدَّعِينَ مِيرَاثًا مِمَّنْ ادَّعَاهُمْ ، وَلَكِنْ جَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ الْوَصِيَّةِ ، فَكَانَ مَا تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } مُنْتَظِمًا لِلْحَلِفِ وَالتَّبَنِّي جَمِيعًا ؛ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ ؛ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَ مِنْ مَوَارِيثِ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَقِيَ فِي الْإِسْلَامِ ، بَعْضُهَا بِالْإِقْرَارِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ نَقَلُوا عَنْهُ وَبَعْضُهُ بِنَصٍّ وَرَدَّ فِي إثْبَاتِهِ إلَى أَنْ وَرَدَ مَا أَوْجَبَ نَقْلَهُ.(20/335)
وَأَمَّا مَوَارِيثُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا مَعْقُودَةٌ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا نَسَبٌ ، وَالْآخَرُ سَبَبٌ لَيْسَ بِنَسَبٍ ؛ فَأَمَّا الْمُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ فَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَبَيَّنَ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَهُ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى بَعْضِهِ وَقَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى بَعْضٍ ، وَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي وُرِّثَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَبَعْضُهُ ثَابِتٌ وَبَعْضُهُ مَنْسُوخُ الْحُكْمِ.
فَمِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي وُرِّثَ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ مَا ذَكَرْنَا فِي عَقْدِ الْمُحَالَفَةِ وَمِيرَاثِ الْأَدْعِيَاءِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ وَنَسْخَ مَا رُوِيَ نَسْخُهُ وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ وَارِثٌ أَوْلَى مِنْ وَارِثٍ.(20/336)
وَكَانَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمِيرَاثَ الْهِجْرَةُ ؛ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانَ بْن عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } قَالَ : " كَانَ الْمُهَاجِرُ لَا يَتَوَلَّى الْأَعْرَابِيَّ وَلَا يَرِثُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ ، فَنَسَخَتْهَا : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ }.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ ".
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَبَيْنَ كَعْبِ(20/337)
بْنِ مَالِكٍ ، فَارْتَثَّ كَعْبٌ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَجَاءَ بِهِ الزُّبَيْرُ يَقُودُهُ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ ، وَلَوْ مَاتَ كَعْبٌ عَنْ الضِّحِّ وَالرِّيحِ لَوَرِثَهُ الزُّبَيْرُ ، } حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَرِثُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ الَّذِي آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَخِيهِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } نُسِخَتْ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } مِنْ النَّصْرِ ، وَالرِّفَادَةِ ".
فَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أُرِيدَ بِهِ مُعَاقَدَةُ الْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } إنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِسْلَامِ ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَلَا يُهَاجِرُ فَلَا يَرِثُ أَخَاهُ ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ }.(20/338)
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : كَانَ الْأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ مِنْ الْمُهَاجِرِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ ذَا قُرْبَى لِيَحُثَّهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْهِجْرَةِ ، فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تِلْكَ ، { إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } فَرَخَّصَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوصِيَ لِقَرَابَتِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوس مِنْ الثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ ، { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } قَالَ : مَكْتُوبًا.
فَجُمْلَةُ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ التَّوَارُثُ بِالْأَسْبَابِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ التَّبَنِّي وَالْحَلِفُ وَالْهِجْرَةُ وَالْمُؤَاخَاةُ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نُسِخَ الْمِيرَاثُ بِالتَّبَنِّي وَالْهِجْرَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ ؛ وَأَمَّا الْحَلِفُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ جُعِلَتْ الْقَرَابَةُ أَوْلَى مِنْهُ وَلَمْ يُنْسَخْ إذَا لَمْ تَكُنْ قَرَابَةٌ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جَمِيعَ مَالِهِ أَوْ بَعْضَهُ وَمِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي عُقِدَ بِهَا التَّوَارُثُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ، وَهُوَ عِنْدَنَا يَجْرِي مَجْرَى الْحَلِفِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ مِنْ ذِي رَحِمٍ أَوْ عَصَبَةٍ.(20/339)
فَجَمِيعُ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ مَوَارِيثُ الْإِسْلَامِ السَّبَبُ وَالنَّسَبُ ، وَالسَّبَبُ كَانَ عَلَى أَنْحَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ : مِنْهَا الْمُعَاقَدَةُ بِالْحَلِفِ وَالتَّبَنِّي ، وَالْأُخُوَّةُ الَّتِي آخَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْهِجْرَةُ وَالزَّوْجِيَّةُ وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ، فَأَمَّا إيجَابُ الْمِيرَاثِ بِالْحَلِفِ وَالتَّبَنِّي وَالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فَمَنْسُوخٌ مَعَ وُجُودِ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةُ وَالزَّوْجِيَّةُ هِيَ أَسْبَابٌ ثَابِتَةٌ يُسْتَحَقُّ بِهَا الْمِيرَاثُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَشْرُوطِ لِذَلِكَ.
وَأَمَّا النَّسَبُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ فَيَنْقَسِمُ إلَى أَنْحَاءٍ ثَلَاثَةٍ : ذَوُو السِّهَامِ وَالْعَصَبَاتُ وَذَوُو الْأَرْحَامِ ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.(20/340)
فَأَمَّا الْآيَاتُ الْمُوجِبَةُ لِمِيرَاثِ ذَوِي الْأَنْسَابِ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ وَالْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ } نُسِخَ بِهِمَا فِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي تَوْرِيثِ الرِّجَالِ الْمُقَاتِلَةِ دُونَ الذُّكُورِ الصِّغَارِ وَالْإِنَاثِ.
وقَوْله تَعَالَى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } فِيهِ بَيَانٌ لِلنَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فِي قَوْله تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { نَصِيبًا مَفْرُوضًا } وَالنَّصِيبُ الْمَفْرُوضُ هُوَ الَّذِي بَيَّنَ مِقْدَارَهُ فِي قَوْله تَعَالَى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ }.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } فَقَالَ : قَدْ نَسَخَ هَذَا قَوْله تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ }.(20/341)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : " كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ ، فَجَعَلَ لِلْوَلَدِ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ السُّدُسَ مَعَ الْوَلَدِ ".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ إذَا مَاتَ وَخَلَّفَ زَوْجَتَهُ اعْتَدَّتْ سَنَةً كَامِلَةً فِي بَيْتِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالرُّبُعِ أَوْ الثُّمُنِ.
وقَوْله تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } نُسِخَ بِهِ التَّوَارُث بِالْحَلِفِ وَبِالْهِجْرَةِ وَبِالتَّبَنِّي عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا ؛ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } هِيَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ ، وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِنَسْخِ الْمِيرَاثِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمِيرَاثَ لِلْمُسَمِّينَ فِيهَا ، فَلَا يَبْقَى لِأَهْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ شَيْءٌ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ حُقُوقِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه قَالَ : { جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِبِنْتَيْنِ لَهَا فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ بِنْتَا ثَابِتِ(20/342)
بْنِ قَيْسٍ قُتِلَ مَعَك يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا عَمُّهُمَا مَالًا إلَّا أَخَذَهُ ، فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَوَاَللَّهِ لَا تُنْكَحَانِ أَبَدًا إلَّا وَلَهُمَا مَالٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } الْآيَةَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُدْعُ لِي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِعَمِّهِمَا : أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَلَكَ }.(20/343)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعَانٍ : مِنْهَا أَنَّ الْعَمَّ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ دُونَ الْبِنْتَيْنِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَوْرِيثِ الْمُقَاتِلَةِ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ حِينَ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ بَلْ أَقَرَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهَا : " يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ " ثُمَّ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ أَمَرَ الْعَمَّ بِدَفْعِ نَصِيبِ الْبِنْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ إلَيْهِنَّ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَّ لَمْ يَأْخُذْ الْمِيرَاثَ بَدِيًّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ بَلْ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمَوَارِيثِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إنَّمَا يُسْتَأْنَفُ فِيمَا يَحْدُث بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَا قَدْ مَضَى عَلَى حُكْمٍ مَنْصُوصٍ مُتَقَدِّمٍ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِالنَّسْخِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَنْقُلُوا عَنْهَا.
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { مَرِضْت فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِهِ فَأَفَقْت فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقْضِي فِي مَالِي ؟ فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ(20/344)
الْمَوَارِيثِ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } }.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ قِصَّةَ الْمَرْأَةِ مَعَ بِنْتَيْهَا وَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ جَابِرًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا قَدْ كَانَا ؛ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ فَلَمْ يُجِبْهَا مُنْتَظِرًا لِلْوَحْيِ ثُمَّ سَأَلَهُ جَابِرٌ فِي حَالِ مَرَضِهِ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَهِيَ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مُثْبِتَةٌ لِلنَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فِي قَوْله تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } الْآيَةَ.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } أَوْلَادِ الصُّلْبِ ، وَأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ غَيْرُ دَاخِلٍ مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ ، وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُ الصُّلْبِ فَالْمُرَادُ أَوْلَادُ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ ، فَقَدْ انْتَظَمَ اللَّفْظُ أَوْلَادَ الصُّلْبِ وَأَوْلَادَ الِابْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدَ الصُّلْبِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ أَنَّهُ لِوَلَدِهِ لِصُلْبِهِ ، فَإِنْ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ فَهُوَ لِوَلَدِ ابْنِهِ.(20/345)
وقَوْله تَعَالَى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } قَدْ أَفَادَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى فَلِلذَّكَرِ سَهْمَانِ وَلِلْأُنْثَى سَهْمٌ ، وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا جَمَاعَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا أَنَّ لِكُلِّ ذَكَرٍ سَهْمَيْنِ وَلِكُلِّ أُنْثَى سَهْمًا ، وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْأَوْلَادِ ذَوُو سِهَامٍ نَحْوُ الْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَنَّهُمْ مَتَى أَخَذُوا سِهَامَهُمْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ السِّهَامَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } اسْمٌ لِلْجِنْسِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُمْ ، فَمَتَى مَا أَخَذَ ذَوُو السِّهَامِ سِهَامَهُمْ كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا
يَسْتَحِقُّونَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذُو سَهْمٍ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فَنَصَّ عَلَى نَصِيبِ مَا فَوْقَ الِابْنَتَيْنِ وَعَلَى الْوَاحِدَةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى فَرْضِ الِابْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ فِي فَحَوَى الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى بَيَانِ فَرْضِهِمَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ لِلْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ مَعَ الِابْنِ الثُّلُثَ ، وَإِذَا كَانَ لَهَا مَعَ الذَّكَرِ الثُّلُثُ كَانَتْ بِأَخْذِ الثُّلُثِ مَعَ الْأُنْثَى أَوْلَى ، وَقَدْ احْتَجْنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ مَا فَوْقَهُمَا ؛ فَلِذَلِكَ نَصَّ عَلَى حُكْمِهِ.(20/346)
وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } فَلَوْ تَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا كَانَ لِلِابْنِ سَهْمَانِ ثُلُثَا الْمَالِ وَهُوَ حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ نَصِيبَ الِابْنِ مِثْلَ نَصِيبِ الْبِنْتَيْنِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَجْرَى الْبَنَاتِ وَأَجْرَى الْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ مَجْرَى الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } فَجَعَلَ حَظَّ الْأُخْتَيْنِ كَحَظِّ مَا فَوْقَهُمَا وَهُوَ الثُّلُثَانِ كَمَا جَعَلَ حَظَّ الْأُخْتِ كَحَظِّ الْبِنْتِ.
وَأَوْجَبَ لَهُمْ إذَا كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الِابْنَتَانِ كَالْأُخْتَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ لِمُسَاوَاتِهِمَا لَهُمَا فِي إيجَابِ الْمَالِ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ ، كَمَا فِي مُسَاوَاةِ الْأُخْتِ لِلْبِنْتِ إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ بِالتَّسْمِيَةِ.
وَأَيْضًا الْبِنْتَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ ؛ إذْ(20/347)
كَانَتَا أَقْرَبَ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْأُخْتَيْنِ ، وَإِذَا كَانَتْ الْأُخْتُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنْتِ فَكَذَلِكَ الْبِنْتَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ ؛ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَالْمَرْأَةَ الثُّمُنَ وَالْعَمَّ مَا بَقِيَ.
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ.(20/348)
جَعَلَ لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ كَنَصِيبِ الْوَاحِدَةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفَ وَإِنَّمَا فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَ ابْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ بِأَنَّ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ إذَا كَانَتْ وَحْدَهَا ، وَأَنْتَ جَعَلْت لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفَ وَذَلِكَ خِلَافُ الْآيَةِ ، فَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ مُخَالَفَةُ الْآيَةِ حِينَ جَعَلَ لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفَ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ لِلْوَاحِدَةِ النِّصْفَ فَكَذَلِكَ لَا تُلْزِمُ مُخَالِفِيهِ مُخَالَفَةُ الْآيَةِ فِي جَعْلِهِمْ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أَنْ يَكُونَ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى حُكْمِ مَا فَوْقَهُمَا ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى حُكْمِهِمَا فِي فَحْوَى الْآيَةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ حُكْمِ الْأُخْتَيْنِ عَلَى حُكْمِ الِابْنَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ قِيلَ إنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } أَنَّ ذِكْرَ " فَوْقَ " هَهُنَا صِلَةٌ لِلْكَلَامِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ }(20/349)
قَوْله تَعَالَى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } يُوجِبُ ظَاهِرَهُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مَعَ الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ أُنْثَى ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْتَظِمُهُمَا ، إلَّا أَنَّهُ لَا خِلَافَ إذَا كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا لَا تَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فَوَجَبَ أَنْ تُعْطَى النِّصْفَ بِحُكْمِ النَّصِّ ، وَيَكُونُ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ السُّدُسُ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ ، وَيَبْقَى السُّدُسُ يَسْتَحِقُّهُ الْأَبُ بِالتَّعْصِيبِ ؛ فَاجْتَمَعَ هَهُنَا لِلْأَبِ الِاسْتِحْقَاقُ بِالتَّسْمِيَةِ وَبِالتَّعْصِيبِ جَمِيعًا ؛ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا فَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ بِحُكْمِ النَّصِّ ؛ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ تَعْصِيبًا مِنْ الْأَبِ.(20/350)
وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } فَأَثْبَتَ الْمِيرَاثَ لِلْأَبَوَيْنِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ ثُمَّ فَصَلَ نَصِيبَ الْأُمِّ وَبَيَّنَ مِقْدَارَهُ بِقَوْلِهِ : { فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } وَلَمْ يَذْكُرْ نَصِيبَ الْأَبِ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ اللَّفْظِ لِلْأَبِ الثُّلُثَيْنِ ؛ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ مُسْتَحِقٌّ غَيْرُهُ وَقَدْ أَثْبَتَ الْمِيرَاثَ لَهُمَا بَدِيًّا وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْله تَعَالَى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } دُونَ تَفْصِيلِ نَصِيبِ الْأُمِّ ، فَلَمَّا قَصَرَ نَصِيبَ الْأُمِّ عَلَى الثَّلَاثِ عُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلْأَبِ الثُّلُثَانِ.
قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } قَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ : " إذَا تَرَكَ أَخَوَيْنِ وَأَبَوَيْنِ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِأَبِيهِ " وَحَجَبُوا الْأُمَّ عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ كَحَجْبِهِمْ لَهَا بِثَلَاثَةِ إخْوَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " لِلْأُمِّ الثُّلُثُ " وَكَانَ لَا
يَحْجُبُهَا إلَّا بِثَلَاثَةٍ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " إذَا تَرَكَ أَبَوَيْنِ وَثَلَاثَةَ إخْوَةٍ فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ السُّدُسُ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ ".(20/351)
وَرُوِيَ عَنْهُ : " أَنَّهُ إنْ كَانَ الْإِخْوَةُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فَالسُّدُسُ لَهُمْ خَاصَّةً ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ وَكَانَ مَا بَعْدَ السُّدُسِ لِلْأَبِ ".
وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ اسْمَ الْإِخْوَةِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الِاثْنَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } وَهُمَا قَلْبَانِ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : { وَهَلْ أَتَاك نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْجَمْعِ عَلَى اثْنَيْنِ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } فَلَوْ كَانَ أَخًا وَأُخْتًا كَانَ حُكْمُ الْآيَةِ جَارِيًا فِيهِمَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ } ، وَلِأَنَّ الِاثْنَيْنِ إلَى الثَّلَاثَةِ فِي حُكْمِ الْجَمْعِ أَقْرَبُ مِنْهُمَا إلَى الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ مَوْجُودٌ فِيهِمَا نَحْوُ قَوْلِكَ : " قَامَا وَقَعَدَا وَقَامُوا وَقَعَدُوا " كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْوَاحِدِ ، فَلَمَّا كَانَ الِاثْنَانِ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ أَقْرَبَ إلَى الثَّلَاثَةِ مِنْهُمَا إلَى الْوَاحِدِ وَجَبَ إلْحَاقُهُمَا بِالثَّلَاثَةِ دُونَ الْوَاحِدِ.(20/352)
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ كَانَ يَحْجُبُ الْأُمَّ بِالْأَخَوَيْنِ ، فَقَالُوا لَهُ : يَا أَبَا سَعِيد إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ } وَأَنْتَ تَحْجُبُهَا بِالْأَخَوَيْنِ فَقَالَ : إنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي
الْأَخَوَيْنِ إخْوَةً.
فَإِذَا كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَدْ حَكَى عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُسَمِّي الْأَخَوَيْنِ إخْوَةً ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ اسْمٌ لَهُمَا فَيَتَنَاوَلُهُمَا اللَّفْظُ.(20/353)
وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الْأُخْتَيْنِ حُكْمُ الثَّلَاثِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأُمِّ حُكْمُ الثَّلَاثِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ دُونَ حُكْمِ الْوَاحِدَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الثَّلَاثِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ ؛ إذْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِالْجَمْعِ فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : " إنَّمَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةُ الْأُمَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرِثُوا مَعَ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِنِكَاحِهِمْ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ دُونَ الْأُمِّ " وَهَذِهِ الْعِلَّةُ إنَّمَا هِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ ، فَأَمَّا الْإِخْوَةُ مِنْ الْأُمِّ فَلَيْسَ إلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِمْ وَهُمْ يَحْجُبُونَ أَيْضًا كَمَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ وَأَبَوَيْنِ أَنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ ؛ إلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ وَلِلْإِخْوَةِ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ ، وَكَانَ لَا يَحْجُبُ بِمَنْ لَا يَرِثُ ، فَلَمَّا حَجَبَ الْأُمَّ بِالْإِخْوَةِ وَرِثَهُمْ ".(20/354)
وَهُوَ قَوْلٌ شَاذّ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ خِلَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } عَطْفًا عَلَى قَوْله تَعَالَى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } تَقْدِيرُهُ : وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ وَلَهُ
إخْوَةٌ ؛ وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِخْوَةِ شَيْءٌ.
قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ }.
الدَّيْنُ مُؤَخَّرٌ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ بِهِ فِي الْمَعْنَى عَلَى الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ " أَوْ " لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَإِنَّمَا هِيَ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ : مِنْ بَعْدِ أَحَدِ هَذَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ : " ذَكَرَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ وَهِيَ بَعْدَهُ " يَعْنِي أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ فِي اللَّفْظِ مُؤَخَّرَةٌ فِي الْمَعْنَى. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 3 صـ 2 ـ 12}(20/355)
" بحث علمي في فصول "
1 - ظهور الإرث كان الإرث أعنى تملك بعض الأحياء المال الذى تركه الميت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الإنساني وقد خرج عن وسع ما بأيدينا من تواريخ الأمم والملل الحصول على مبدأ حصوله ومن طبيعة الأمر أيضا ذلك فإنا نعلم بالتأمل في طبيعة الإنسان الاجتماعية أن المال وخاصة لو كان مما لا يد عليه يحن
إليه الإنسان ويتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه وحيازته وخاصة فيما لا مانع عنه من دؤوبه الأولية القديمة والإنسان في ما كونه من مجتمعه همجيا أو مدنيا لا يستغنى عن اعتبار القرب والولاية المنتجين للأقربية والأولوية بين أفراد المجتمع الاعتبار الذى عليه المدار في تشكل البيت والبطن والعشيرة والقبيلة ونحو ذلك فلا مناص في المجتمع من كون بعض الأفراد أولى ببعض كالولد بوالديه والرحم برحمه والصديق بصديقه والمولى بعبده وأحد الزوجين بالآخر والرئيس بمرؤوسه حتى القوى بالضعيف وإن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافا شديدا يكاد لا تناله يد الضبط.
ولازم هذين الأمرين كون الإرث دائرا بينهم من أقدم العهود الاجتماعية.
2 - تحول الإرث تدريجيا : لم تزل هذه السنة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الإنسانية تتحول من حال إلى حال وتلعب به يد التطور والتكامل منذ أول ظهورها غير أن الأمم الهمجية لما لم تستقر على حال منتظم تعسر الحصول في تواريخهم على تحوله المنتظم حصولا يفيد وثوقا به.(20/356)
والقدر المتيقن من أمرهم أنهم كانوا يحرمون النساء والضعفاء الإرث وإنما كان يختص بالأقوياء وليس إلا لأنهم كانوا يتعاملون مع النساء والضعفاء من العبيد والصغار معاملة الحيوان المسخر والسلع والأمتعة التى ليس لها إلا أن ينتفع بها الإنسان دون أن تنتفع هي بالإنسان وما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعية التى لا تتجاوز النوع الإنساني.
ومع ذلك كان يختلف مصداق القوى في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة وتارة رئيس البيت وتارة أخرى أشجع القوم وأشدهم بأسا وكان ذلك يوجب طبعا تغير سنة الإرث تغيرا جوهريا.
ولكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الإنسانية من السعادة المقترحة كان يسرع إليها التغير والتبدل حتى أن الملل المتمدنة التى كان يحكم بينهم القوانين أو ما يجرى مجراها من السنن المعتادة الملية كان شأنهم ذلك كالروم واليونان وما عمر قانون من قوانين الإرث الدائرة بين الأمم حتى اليوم مثل ما عمرت سنة الإرث الإسلامية فقد حكمت في الأمم الإسلامية منذ أول ظهورها إلى اليوم ما يقرب من أربعة عشر قرنا.
3 - الوراثة بين الأمم المتمدنة من خواص الروم أنهم كانوا يرون للبيت في نفسه استقلالا مدنيا يفصله عن المجتمع العام ويصونه عن نفوذ الحكومة العامة في جل ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعية فكان يستقل في الأمر والنهى والجزاء والسياسة ونحو ذلك.
وكان رب البيت هو معبودا لأهله من زوجة وأولاد وعبيد وكان هو المالك من بينهم ولا يملك دونه أحد ما دام أحد أفراد البيت وكان هو الولى عليهم القيم بأمرهم باختياره المطلق النافذ فيهم وكان هو يعبد رب البيت السابق من أسلافه.(20/357)
وإذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الأبناء فيما ملكه بإذن رب البيت اكتسابا أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقا وأذن لها رب البيت أو بعض الأقارب فإنما كان يرثه رب البيت لأنه مقتضى ربوبيته وملكه المطلق للبيت وأهله.
وإذا مات رب البيت فإنما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممن في وسعه ذلك وورثه الأبناء فإن انفصلوا وأسسوا بيوتا جديدة كانوا أربابها وإن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الرب الجديد أخيهم مثلا هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته وولايته المطلقة.
وكذا كان يرثه الأدعياء لأن الأدعاء والتبنى كان دائرا عندهم كما بين العرب في الجاهلية.
وأما النساء كالزوجة والبنت والأم فلم يكن يرثن لئلا ينتقل مال البيت بانتقالهن إلى بيوت أخرى بالازدواج فإنهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر وهذا هو الذى ربما ذكره بعضهم فقال إنهم كانوا يقولون بالملكية الاشتراكية الاجتماعية دون الانفرادية الفردية وأظن أن مأخذه شئ آخر غير الملك الاشتراكي فإن الأقوام الهمجية المتوحشة أيضا من أقدم الأزمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم من الطوائف البدوية فيما حازوه من المراعى والأراضي الخصبة وحموه لأنفسهم وكانوا يحاربون عليه ويدفعون عن محمياتهم وهذا نوع من الملك العام الاجتماعي الذى مالكه هيئة المجتمع الإنساني دون أفراده وهو مع ذلك لا ينفى أن يملك كل فرد من المجتمع شيئا من هذا الملك العام اختصاصا.(20/358)
وهذا ملك صحيح الاعتبار غير أنهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره والاستدرار منه وقد احترمه الإسلام كما ذكرناه فيما تقدم قال تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا : البقرة - 29 فالمجتمع الإنساني وهو المجتمع الإسلامى ومن هو تحت ذمته هو المالك لثروة الأرض بهذا المعنى ثم المجتمع الإسلامى هو المالك لما في يده من الثروة ولذلك لا يرى الإسلام إرث الكافر من المسلم.
ولهذا النظر آثار ونماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملك الاجانب شيئا من الأراضي والأموال غير المنقولة من أوطانهم ونحو ذلك.
ولما كان البيت في الروم القديم ذا استقلال وتمام في نفسه كان قد استقر فيه هذه العادة القديمة المستقرة في الطوائف والممالك المستقلة.
وكان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنة في بيوت الروم مع سنتهم في التزويج من منع الازدواج بالمحارم أن القرابة انقسمت عندهم قسمين أحدهما القرابة الطبيعية وهى الاشتراك في الدم وكان لازمها منع الازدواج في المحارم وجوازه في غيرهم والثاني القرابة الرسمية وهى القانونية ولازمها الإرث وعدمه والنفقة والولاية وغير ذلك فكان الأبناء أقرباء ذوى قرابة طبيعية ورسمية معا بالنسبة إلى رب البيت ورئيسه وفي ما بينهم أنفسهم وكانت النساء جميعا ذوات قرابة طبيعية لا رسمية فكانت المرة لا ترث والدها ولا ولدها ولا أخاها ولا بعلها ولا غيرهم هذه سنة الروم القديم.(20/359)
وأما اليونان فكان وضعهم القديم في تشكل البيوت قريبا من وضع الروم القديم وكان الميراث فيهم يرثه أرشد الأولاد الذكور ويحرم النساء جميعا من زوجة وبنت وأخت ويحرم صغار الأولاد وغيرهم غير أنهم كالروميين ربما كانوا يحتالون لإيراث الصغار من أبنائهم ومن أحبوها وأشفقوا عليها من زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم بحبل متفرقة تسهل الطريق لامتاعهن بشئ من الميراث قليل أو كثير بوصية أو نحوها وسيجئ الكلام في أمر الوصية.
وأما الهند ومصر والصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقا
وحرمان ضعفاء الأولاد أو بقاؤهم تحت الولاية والقيمومة قريبا مما تقدم من سنة الروم واليونان.
وأما الفارس فإنهم كانوا يرون نكاح المحارم وتعدد الزوجات كما تقدم ويرون التبني وكانت أحب النساء إلى الزوج ربما قامت مقام الابن بالادعاء وترث كما يرث الابن والدعي بالسوية وكانت تحرم بقية الزوجات والبنت المزوجة لا ترث حذرا من انتقال المال إلى خارج البيت والتى لم تزوج بعد ترث نصف سهم الابن فكانت الزوجات غير الكبيرة والبنت المزوجة محرومات وكانت الزوجة الكبيرة والابن والدعي والبنت غير المزوجة بعد مرزوقين.
وأما العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقا والصغار من البنين ويمتعون أرشد الأولاد ممن يركب الفرس ويدفع عن الحرمة فإن لم يكن فالعصبة.
هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الإرث ذكرها وتعرض لها كثير من تواريخ آداب الملل ورسومهم والرحلات وكتب الحقوق وأمثالها من أراد الاطلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها.(20/360)
وقد تلخص من جميع ما مر أن السنة كانت قد استقرت في الدنيا يومئذ على حرمان النساء بعنوان أنهن زوجة أو أم أو بنت أو أخت إلا بعناوين أخرى مختلفة وعلى حرمان الصغار والأيتام إلا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية والقيمومة الدائمة غير المنقطعة.
4 ماذا صنع الإسلام والظرف هذا الظرف قد تقدم مرارا أن الإسلام يرى أن الأساس الحق للأحكام والقوانين الإنسانية هو الفطرة التى فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله وقد بنى الإرث على أساس الرحم التى هي من الفطرة والخلقة الثابتة وقد ألغى إرث الادعياء حيث يقول تعالى " وما جعل أدعياءكم ابناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم " : الأحزاب - 5.
ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الإرث وأفردها عنوانا مستقلا يعطى به ويؤخذ وإن كانوا يسمون التملك من جهة الإيصاء إرثا وليس ذلك مجرد اختلاف في التسمية
/ صفحة227 /
فإن لكل من الوصية والأرث ملاكا آخر وأصلا فطريا مستقلا فملاك الإرث هو الرحم ولا نفوذ لأرادة المتوفى فيها أصلا وملاك الوصية نفوذ إرادة المتوفى بعد وفاته وإن شئت قل حين ما يوصى في ما يملكه في حياته واحترام مشيته فلو ادخلت الوصية في الإرث لم يكن ذلك إلا مجرد تسمية.(20/361)
وأما ما كان يسميها الناس كالروم القديم مثلا إرثا فلم يكن لاعتبارهم في سنة الإرث أحد الأمرين إما الرحم وإما احترام إرادة الميت بل حقيقة الأمر أنهم كانوا يبنون الإرث على احترام الإرادة وهى إرادة الميت بقاء المال الموروث في البيت الذى كان فيه تحت يد رئيس البيت وربه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبه الميت ويشفق عليه فكان الإرث على أي حال يبتنى على احترام الإرادة ولو كان مبتنيا على أصل الرحم واشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين منه وحرم كثير من المرزوقين.
ثم إنه بعد ذلك عمد إلى الإرث وعنده في ذلك أصلان جوهريان أصل الرحم وهو العنصر المشترك بين الإنسان وأقربائه لا يختلف فيه الذكور والإناث والكبار والصغار حتى الأجنة في بطون أمهاتهم وإن كان مختلف الأثر في التقدم والتأخر ومنع البعض للبعض من جهة قوته وضعفه بالقرب من الإنسان والبعد منه وانتفاء الوسائط وتحققها قليلا أو كثيرا كالولد والأخ والعم وهذا الأصل يقضى باستحقاق أصل الإرث مع حفظ الطبقات المتقدمة والمتأخرة.
وأصل اختلاف الذكر والأنثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في تجهيزهما بالتعقل والإحساسات فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقل كما أن المرأة مظهر العواطف والإحساسات اللطيفة الرقيقة وهذا الفرق مؤثر في حياتيهما التأثير البارز في تدبير المال المملوك وصرفه في الحوائج وهذا الأصل هو الموجب للاختلاف في السهام في الرجل والمرأة وإن وقعا في طبقة واحدة كالابن والبنت والأخ والأخت في الجملة على ما سنبينه.
واستنتج من الأصل الأول ترتب الطبقات بحسب القرب والبعد من الميت لفقدان الوسائط وقلتها وكثرتها فالطبقة الأولى هي التى تتقرب من الميت بلا واسطة وهى الابن والبنت والاب والام والثانية الاخ والاخت والجد والجدة وهى تتقرب من(20/362)
الميت بواسطة واحدة وهى الأب أو الأم أو هما معا والثالثة العم والعمة والخال والخالة وهى تتقرب إلى الميت بواسطتين وهما أب الميت أو أمه وجده أو جدته وعلى هذا القياس والأولاد في كل طبقة يقومون مقام آبائهم ويمنعون الطبقة اللاحقة وروعي حال الزوجين لاختلاط دمائهما بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة ولا يمنعان طبقة.
ثم استنتج من الأصل الثاني اختلاف الذكر والأنثى في غير الأم والكلالة المتقربة بالأم بأن للذكر مثل حظ الأنثيين.
والسهام الستة المفروضة في الإسلام النصف والثلثان والثلث والربع والسدس والثمن وإن اختلفت وكذا المال الذى ينتهى إلى أحد الوراث وإن تخلف عن فريضته غالبا بالرد أو النقص الوارد وكذا الأب والأم وكلالة الأم وإن تخلفت فرائضهم عن قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين ولذلك يعسر البحث الكلى الجامع في باب الإرث إلا أن الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للاحق يرجع إلى استخلاف أحد الزوجين للآخر واستخلاف الطبقة المولدة وهم الآباء والأمهات للطبقة المتولدة وهم الأولاد والفريضة الإسلامية في كل من القبيلين أعنى الأزواج والأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين.
وينتج هذا النظر الكلى أن الإسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث والثلثين فللأنثى ثلث وللذكر ثلثان هذا من حيث التملك لكنه لا يرى نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة فإنه يرى نفقة الزوجة على الزوج ويأمر بالعدل المقتضى للتساوي في المصرف ويعطى للمرأة استقلال الإرادة والعمل فيما تملكه من المال لا مداخلة للرجل فيه وهذه الجهات الثلاث تنتج أن للمرأة أن تتصرف في ثلثى ثروة الدنيا الثلث الذى تملكها ونصف الثلثين اللذين يملكهما الرجل وليس في قبال تصرف الرجل إلا الثلث.(20/363)
5 - علام استقر حال النساء واليتامى في الإسلام أما اليتامى فهم يرثون كالرجال الأقوياء ويربون وينمى أموالهم تحت ولاية الأولياء كالأب والجد أو عامة المؤمنين أو الحكومة الإسلامية حتى إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد دفعت إليهم أموالهم واستووا على مستوى الحياة المستقلة وهذا أعدل السنن المتصورة في حقهم.
وأما النساء فإنهن بحسب النظر العام يملكن ثلث ثروة الدنيا ويتصرفن في ثلثيها بما تقدم من البيان وهن حرات مستقلات فيما يملكن لا يدخلن تحت قيمومة دائمة ولا موقتة ولا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف.
فالمرأة في الإسلام ذات شخصية تساوى شخصية الرجل في حرية الإرادة والعمل من جميع الجهات ولا تفارق حالها حال الرجل إلا في ما تقتضيه صفتها الروحية الخاصة المخالفة لصفة الرجل الروحية وهى أن لها حياة إحساسية وحياة الرجل تعقلية فاعتبر للرجل زيادة في الملك العام ليفوق تدبير التعقل في الدنيا على تدبير الإحساس والعاطفة وتدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرف وشرعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة وتدورك ذلك بالصداق وحرمت القضاء والحكومة والمباشرة للتقال لكونها أمورا يجب بناؤها على التعقل دون الإحساس وتدورك ذلك بوجوب حفظ حماهن والدفاع عن حريمهن على الرجال ووضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق والإنفاق عليها وعلى الأولاد وعلى الوالدين ولها حق حضانة الأولاد من غير إيجاب وقد عدل جميع هذه الأحكام بأمور أخرى دعين إليها كالتحجب وقلة مخالطة الرجال وتدبير المنزل وتربية الأولاد.(20/364)
وقد أوضح معنى امتناع الإسلام عن إعطاء التدابير العامة الاجتماعية كتدبير الدفاع والقضاء والحكومة للعاطفة والإحساس ووضع زمامها في يدها النتائج المرة التى يذوقها المجتمع البشري إثر غلبة الإحساس على التعقل في عصرنا الحاضر وأنت بالتأمل في الحروب العالمية الكبرى التى هي من هدايا المدنية الحاضرة وفي الأوضاع العامة الحاكمة على الدنيا وعرض هذه الحوادث على العقل والإحساس العاطفي تقف على تشخيص ما منه الإغراء وما إليه النصح والله الهادى.
على أن الملل المتمدنة من الغربيين لم يألوا جهدا ولم يقصروا حرصا منذ مئات السنين في تربية البنات مع الأبناء في صف واحد وإخراج ما فيهن من استعداد الكمال من القوة إلى الفعل وأنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة ورجال القضاء والتقنين وزعماء الحروب وقوادها وهي الخلال الثلاث المذكورة الحكومة القضاء القتال لم تجد فيه شيئا يعتد به من أسماء النساء ولا عددا يقبل المقايسة إلى المئات والألوف من الرجال وهذا في نفسه أصدق شاهد على أن طباع النساء لا تقبل الرشد
والنماء في هذه الخلال التى لا حكومة فيها بحسب الطبع إلا للتعقل وكلما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبة وخسرانا.
وهذا وأمثاله من أقطع الأجوبة للنظرية المشهورة القائلة أن السبب الوحيد في تأخر النساء عن الرجال في المجتمع الإنساني هو ضعف التربية الصالحة فيهن منذ أقدم عهود الإنسانية ولو دامت عليهن التربية الصالحة الجيدة مع ما فيهن من الإحساسات والعواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدمن عليهم في جهات الكمال.(20/365)
وهذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب فإن اختصاصهن بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهن هو الموجب لتأخرهن فيما يحتاج من الأمور إلى قوة التعقل وتسلطه على العواطف الروحية الرقيقة كالحكومة والقضاء وتقدم من يزيد عليهن في ذلك وهم الرجال فإن التجارب القطعي يفيد أن من اختص بقوة صفة من الصفات الروحية فإنما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد والمآرب ولازمه أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة والقضاء ويمتازوا عنهن في نيل الكمال فيها وأن تنجح تربيتهن فيما يناسب العواطف الرقيقة ويرتبط بها من الأمور كبعض شعب صناعة الطب والتصوير والموسيقى والنسج والطبخ وتربية الأطفال وتمريض المرضى وابواب الزينة ونحو ذلك ويتساوى القبيلان فيما سوى ذلك.
على أن تأخرهن فيما ذكر من الأمور لو كان مستندا إلى الاتفاق والصدفة كما ذكر لانتقض في بعض هذه الأزمنة الطويلة التى عاش فيها المجتمع الإنساني وقد خمنوها بملايين من السنين كما أن تأخر الرجال فيما يختص من الأمور المختصة بالنساء كذلك ولو صح لنا أن نعد الأمور اللازمة للنوع غير المنفكة عن مجتمعهم وخاصة إذا ناسبت أمورا داخلية في البنية الإنسانية من الاتفاقيات لم يسع لنا أن نحصل على خلة طبيعية فطرية من خلال الإنسانية العامة كميل طباعه إلى المدنية والحضارة وحبه للعلم وبحثه عن أسرار الحوادث ونحو ذلك فإن هذه صفات لازمة لهذا النوع وفي بنية أفراده ما يناسبها من القرائح نعدها لذلك صفات فطرية نظير ما نعد تقدم النساء في الأمور الكمالية المستظرفة وتأخرهن في الأمور التعقلية والأمور الهائلة والصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهن وكذلك تقدم الرجال وتأخرهم في عكس ذلك.
فلا يبقى بعد ذلك كله إلا انقباضهن من نسبة كمال التعقل إلى الرجال وكمال(20/366)
الإحساس والتعطف إليهن وليس في محله فإن التعقل والإحساس في نظر الإسلام موهبتان إلهيتان مودعتان في بنية الإنسان لمأرب إلهية حقه في حياته لا مزية لإحداهما على الأخرى ولا كرامة إلا للتقوى وأما الكمالات الأخر كائنة ما كانت فإنما تنمو وتربو إذا وقعت في صراطه وإلا لم تعد إلا أوزارا سيئة.
6 - قوانين الإرث الحديثة هذه القوانين والسنن وإن خالفت قانون الإرث الإسلامى كما وكيفا على ما سيمر بك إجمالها غير أنها استظهرت في ظهورها واستقرارها بالسنة الإسلامية في الإرث فكم بين موقف الإسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا وبين موقفهن من الفرق.
فقد كان الإسلام يظهر أمرا ما كانت الدنيا تعرفه ولا قرعت أسماع الناس بمثله ولا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين وآبائهم الأولين وأما هذه القوانين فإنها ابديت وكلف بها أمم حينما كانت استقرت سنة الإسلام في الإرث بين الأمم الإسلامية في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الأخلاف من أسلافهم في أكثر من عشرة قرون ومن البديهيات في أبحاث النفس أن وقوع أمر من الأمور في الخارج ثم ثبوتها واستقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها وكل سنة سابقة من السنن الاجتماعية مادة فكرية للسنن اللاحقة المجانسة بل الأولى هي المادة المتحولة إلى الثانية فليس لباحث اجتماعي أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الإرث بما تقدمها من الإرث الإسلامى وتحوله إليها تحولا عادلا أو جائرا.(20/367)
ومن أغرب الكلام ما ربما يقال قاتل الله عصبية الجاهلية الأولى إن القوانين الحديثة إنما استفادت في موادها من قانون الروم القديمة وأنت قد عرفت ما كانت عليه سنة الروم القديمة في الإرث وما قدمته السنة الإسلامية إلى المجتمع البشرى وأن السنة الإسلامية متوسطة في الظهور والجريان العملي بين القوانين الرومية القديمة وبين القوانين الغربية الحديثة وكانت متعرفة متعمقة في مجتمع الملايين ومئات الملايين من النفوس الإنسانية قرونا متوالية متطاولة ومن المحال أن تبقى سدى وعلى جانب من التأثير في أفكار هؤلاء المقننين.
وأغرب منه أن هؤلاء القائلين يذكرون أن الإرث الإسلامى مأخوذ من الإرث الرومي القديم.
وبالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربية وإن اختلفت في بعض الخصوصيات غير أنها كالمطبقة على تساوى الرجال والنساء في سهم الإرث فالبنات والبنون سواء والامهات والآباء سواء في السهام وهكذا.
وقد رتبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو 1 البنون والبنات 2 الآباء والأمهات والإخوة والأخوات 3 الأجداد والجدات 4 الأعمام والعمات والأخوال والخالات وقد أخرجوا علقة الزوجية من هذه الطبقات وبنوها على أساس المحبة والعلقة القلبية ولا يهمنا التعرض لتفاصيل ذلك وتفاصيل الحال في سائر الطبقات من أرادها فليرجع إلى محلها.(20/368)
والذى يهمنا هو التأمل في نتيجة هذه السنة الجارية وهى اشتراك المرأة مع الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العام الذى تقدم غير أنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حق لها في تصرف مالى في شئ من أموالها الموروثة إلا بإذن زوجها وعاد بذلك المال منصفا بين الرجل والمرأة ملكا وتحت ولاية الرجل تدبيرا وإدارة وهناك جمعيات منتهضة يبذلون مساعيهم لإعطاء النساء الاستقلال وإخراجهن من تحت قيمومة الرجال في أموالهن ولو وفقوا لما يريدون كانت الرجال والنساء متساويين من حيث الملك ومن حيث ولاية التدبير والتصرف.
7 - مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض ونحن بعد ما قدمنا خلاصة السنن الجارية بين الأمم الماضية وقرونها الخالية إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها إلى البعض والقضاء على كل منها بالتمام والنقص ونفعه للمجتمع الإنساني وضرره من حيث وقوعه في صراط السعادة ثم قياس ما سنه شارع الإسلام إليها والقضاء بما يجب أن يقضى به.
والفرق الجوهرى بين السنة الإسلامية والسنن غيرها في الغاية والغرض فغرض الإسلام أن تنال الدنيا صلاحها وغرض غيره أن تنال ما تشتهيها وعلى هذين الأصلين يتفرع ما يتفرع من الفروع قال تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون : البقرة - 216} وقال تعالى { وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا : النساء - 19}.(20/369)
8 - الوصية قد تقدم أن الإسلام أخرج الوصية من تحت الوراثة وأفردها عنوانا مستقلا لما فيها من الملاك المستقل وهو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته وقد كانت الوصية بين الأمم المتقدمة من طرق الاحتيال لدفع الموصى ماله أو بعض ماله إلى غير من تحكم السنة الجارية بإرثه كالأب ورئيس البيت ولذلك كانوا لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدها ويسد بنحو هذا الطريق المؤدى إلى إبطال حكم الإرث ولا يزال يجرى الأمر في تحديدها هذا المجرى حتى اليوم وقد حدها الإسلام بنفوذها إلى ثلث المال فهى غير نافذة في الزائد عليه وقد تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة كقانون فرنسا غير أن النظرين مختلفان ولذلك كان الإسلام يحث عليها والقوانين تردع عنها أو هي ساكتة.
والذى يفيده التدبر في آيات الوصية والصدقات والزكاة والخمس ومطلق الإنفاق أن في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الأموال والثلثان من منافعها للخيرات والمبرات وحوائج طبقة الفقراء والمساكين لتقرب بذلك الطبقات المختلفة في المجتمع ويرتفع الفواصل البعيدة من بينهم وتقام به أصلاب المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفية تصرف المثرين في ثروتهم من تقريب طبقتهم من طبقة المساكين ولتفصيل ذا البحث محل آخر سيمر بك إن شاء الله تعالى.أ هـ {الميزان حـ 4 صـ 222 ـ 233}(20/370)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
قوله جلّ ذكره : { يُوصِيكُمُ اللهُ فِى أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}
الوصية ها هنا بمعنى الأمر ، فإنه سبحانه جعل الميراث بين الورثة مستحقاً بوجهين :
1- الفرض 2- التعصيب ، والتعصيب أقوى من الفرض لأن العَصَبَةَ قد تستغرق جميع المال أما أكثر الفروض فلا يزيد على الثلثين ، ثم إن القسمة تبدأ بأصحاب الفروض وهم أضعف استحقاقاً ، ثم العَصَبَة وهم أقوى استحقاقاً. قال صلى الله عليه وسلم :
" ما أبْقَتْ الفرائض فَلأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَر " كذلك أبداً سنته ، كما في قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [ فاطر : 32 ] أعطاهم الكتاب بلفظ الميراث ثم قدَّم الظالم على السابق ، وهو أضعف استحقاقاً إظهاراً للكرم مع الظالم لأنه مُنْكسِر القلب ولا يحتمل وقته طول المدافعة.
وقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ }. لو كان الأمر بالقياس لكانت الأنثى بالتفضيل أَوْلَى لضعفها ، ولعجزها عن الحراك ، ولكنَّ حُكْمَه - سبحانه - غيرُ معلَّل.
قوله جلّ ذكره : { آباؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا }.
الأبناء ينفعونكم بالخدمة ، والآباء بالرحمة ؛ الآباء في حال ضعفِك في بداية عمرك ، والأبناء في حال ضعفك في نهاية عمرك. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 317}(20/371)
قوله تعالى { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الإرث بالمصاهرة أضعف من الإرث بالقرابة ذكره بعده ، وقدمه على الإرث بقرابة الأخوة تعريفاً بالاهتمام به ولأنه بلا واسطة ، وقدم منه الرجل لأنه أفضل فقال : {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} وبين شرط هذا بقوله : {إن لم يكن لهن ولد} أي منكم أو من غيركم ، ثم بين الحكم على التقدير الآخر فقال : {فإن كان لهن ولد} أي وارث وإن سفل سواء كان ابناً أو بنتاً {فلكم الربع مما تركن} أي تركت كل واحدة منهن ، ويغسلها الزوج لأن الله أضافها إليه باسم الزوجية ، والأصل الحقيقة ، ولا يضر حرمة جماعها بعد الموت وحلُّ نكاح أختها وأربع سواها ، لأن ذلك لفقد المقتضي أو المانع وهو الحياة ، وذلك لا يمنع علقة النكاح المبيح للغسل - كما لم يمنعها لأجل العدة لو كان الفراق بالطلاق ، ثم كرر حكم الوصية اهتماماً بشأنها فقال : {من بعد وصية يوصين بها} أي الأزواج أو بعضهن ، ولعله جمع إشارة إلى أن الوصية أمر عظيم ينبغي أن يكون مستحضراً في الذهن غير مغفول عنه عند أحد من الناس {أو دين }.
ولما بين إرث الرجل أتبعه إرثها فقال معلماً أنه على النصف مما للزوج - كما مضى في الأولاد - : {ولهن} أي عدداً كن أو لا {الربع مما تركتم} أي يشتركن فيه على السواء إن كن عدداً ، وتنفرد به الواحدة إن لم يكن غيرها ، ثم بين شرطه بقوله : {إن لم يكن لكم ولد} ثم بين حكم القسم الآخر بقوله : {فإن كان لكم ولد} أي وارث {فلهن الثمن مما تركتم} كما تقدم في الربع ، ثم كرر الخروج عن حق الموروث فقال : {من بعد وصية توصون بها أو دين }.(20/372)
ولما فرغ من قسمي ما اتصل بالميت بلا واسطة أتبعه الثالث وهو ما اتصل بواسطة ، ولما كان قسمين ، لأنه تارة يتصل من جهة الأم فقط وهم الأخياف ، أمهم واحدة وآباؤهم شتى ، وتارة من جهة الأب فقط وهم العلات ، أبوهم واحد وأمهاتهم شتى ، وتارة من جهة الأبوين وهم الأعيان ، وكانت قرابة الأخوة أضعف من قرابة البنوة ؛ أكدها بما يقتضيه حالها ، فجعلها في قصتين ، ذكر إحداهما هنا إدخالاً لها في حكم الوصية المفروضة ، وختم بالأخرى السورة لأن الختام من مظنات الاهتمام.
ولما كانت قرابة الأم أضعف من قرابة الأب قدمها هنا دلالة على الاهتمام بشأنها ، وأن ما كانوا يفعلونه من حرمان الإناث خطأ وجور عن منهاج العدل ، فقال تعالى : {وإن كان} أي وجد {رجل يورث} ي من ورث حال كونه {كلالة} أي ذا حالة لا ولد له فيها ولا والد ، أو يكون يورث من : أورث - بمعنى أن إرث الوارث بواسطة من مات كذلك : لا هو ولد للميت ولا والد ، ووارثه أيضاً كلالة لأنه ليس بوالد ولا ولد ، فالمورث كلالة وارثه ، والوارث كلالة مورثة ؛ قال الأصبهاني : رجل كلالة ، وامرأة كلالة ، وقوم كلالة ، لا يثنى ولا يجمع ، لأنه مصدر كالدلالة والوكالة ، وهو بمعنى الكلال ، وهو ذهاب القوة من الإعياء ، وقد تطلق الكلالة على القرابة من غير جهة الولد والوالد ، ومنه قولهم : ما ورث المجد عن كلالة {أو} وجدت {امرأة} أي تورث كذلك ، ويجوز أن يكون ( يورث ) صفة ، و( كلالة ) خبر كان {وله} خبر كان {وله} أي للمذكور وهو الموروث على أي الحالتين كان.
ولما كان الإدلاء بمحض الأنوثة يستوي بين الذكر والأنثى لضعفها قال {أخ أو أخت} أي من الأم - بإجماع المفسرين ، وهي قراءة أبيّ وسعد بن مالك رضي الله عنهما {فلكل واحد منهما السدس} أي من تركته ، من غير فضل للذكر على الأنثى.
(20/373)
ولما أفهم ذلك - أي بتحويل العبارة المذكورة من أن يقال : فله السدس - أنهما إن كانا معاً كان لهما الثلث ، وكان ذلك قد يفهم أنه إن زاد وارثه زاد الإرث عن الثلث نفاه بقوله : {فإن كانوا} أي ما أفهمه ( أخ أو أخت ) من الوراث منهم {أكثر من ذلك} أي واحد ، كيف كانوا {فهم شركاء} أي بالسوية {في الثلث} أي المجتمع من السدسين اللذين تقدم أنهما بينهما ، لا يزادون على ذلك شيئاً ، ثم كرر الحث على مصلحة الميت بياناً للاهتمام بها فقال : {من بعد وصية يوصى بها أو دين }.
ولما كان الميت قد يضار ورثته ، أو بعضهم بشيء يخرجه عنهم ظاهراً أو باطناً كأن يقر بماله لأجنبي ، أو بدين لا حقيقة له ، أو بدين كان له بأنه استوفاه ؛ ختم الآية بالزجر عن ذلك بقوله : {غير مضار} مع ما تقدم من الإشارة إلى ذلك أول القصة بقوله {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} [ النساء : 11 ] ؛ قال الأصبهاني : والإضرار في الوصية من الكبائر ، ثم أكد ذلك بقوله مصدراً ليوصيكم : {وصية من الله} أي الذي له الأمر كله مع تأكيده بجميع ما في الآيات تعظيماً للأمر باكتناف الوصية بأولها وأخرها ، وهو دون الفريضة في حق الأولاد ، لأن حقهم آكد.
(20/374)
ولما بين سبحانه الأصول وفصل النزاع ، وكان ذلك خلاف مألوفهم وكان الفطام عن المألوف في الذروة من المشقة ؛ اقتضى الحال الوعظ بالترغيب والترهيب ، فختم القصة بقوله : {والله} أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال ، وللإشارة إلى عظيم الوصية كرر هذا الاسم الأعظم في جميع القصة ، ثم قال : {عليم} أي فلا يخفى عليه أمر من خالف بقول أو فعل ، نية أو غيرها {حليم} فهو من شأنه أن لا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بإمهاله ، فإنه إذا أخذ بعد طول الأناة لم يفلت فاحذروا غضب الحليم! وفي الوصفين مع التهديد استجلاب للتوبة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 222 ـ 224}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات ، وذلك لأن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة ، فإن اتصل به بغير واسطة فسبب الاتصال اما أن يكون هو النسب أو الزوجية ، فحصل ههنا أقسام ثلاثة ، أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب ، وذلك هو قرابة الولاد ، ويدخل فيها الأولاد والوالدان فالله تعالى قدم حكم هذا القسم.
وثانيها : الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية ، وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي وهذا الثاني عرضي ، والذاتي أشرف من العرضي ، وهذا القسم هو المراد من هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها.
وثالثها : الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة ، وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه : أحدها : أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية ، وأما الكلالة فقد يعرض لهم السقوط بالكلية.
وثانيها : أن القسمين الأولين ينسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة ، والكلالة تنسب إلى الميت بواسطة والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة.(20/375)
وثالثها : أن مخالطة الإنسان بالوالدين والأولاد والزوج والزوجة أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة.
وكثرة المخالطة مظنة الالفة والشفقة ، وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم ، فلهذه الأسباب الثلاثة وأشباهها أخر الله تعالى ذكر مواريث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشد انطباقه على قوانين المعقولات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 178}
فصل
قال الفخر :
إنه تعالى لما جعل في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الأنثيين كذلك جعل في الموجب السببي حظ الرجل مثل حظ الأنثيين ، واعلم أن الواحد والجماعة سواء في الربع والثمن ، والولد من ذلك الزوج ومن غيره سواء في الرد من النصف إلى الربع أو من الربع إلى الثمن ، واعلم أنه لا فرق في الولد بين الذكر والانثى ولا فرق بين الابن وبين ابن الابن ولا بين البنت وبين بنت الابن ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 178}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } الآيتين.
الخطاب للرجال.
والولد هنا بنو الصُّلب وبنو بنيهم وإن سَفَلوا ، ذُكراناً وإناثاً واحداً فما زاد بإجماع.
وأجمع العلماء على أن للزَّوج النصفَ مع عدم الولد أو ولد الولد ، وله مع وجوده الربع.
وترث المرأة من زوجها الرّبعَ مع فقد الولد ، والثمن مع وجوده.
وأجمعوا على أن حكم الواحدة من الأزواج والثنتين والثلاث والأربع في الربع إن لم يكن له ولد ، وفي الثمن إن كان له ولد واحد ، وأنهنّ شركاء في ذلك ؛ لأن الله عز وجل لم يفرق بين حكم الواحدة منهنّ وبين حكم الجميع ، كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من الأخوات وبين حكم الجميع منهنّ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 75 ـ 76}.
فصل
قال الفخر :(20/376)
قال الشافعي رحمه الله : يجوز للزوج غسل زوجته ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز.
حجة الشافعي أنها بعد الموت زوجته فيحل له غسلها ، بيان أنها زوجته قوله تعالى : {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} سماها زوجة حال ما أثبت للزوج نصف مالها عند موتها ، إذا ثبت للزوج نصف مالها عند موتها ، فوجب أن تكون زوجة له بعد موتها ، إذا ثبت هذا وجب أن يحل له غسلها لأنه قبل الزوجية ما كان يحل له غسلها ، وعند حصول الزوجية حل له غسلها ، والدوران دليل العلية ظاهرا.
وحجة أبي حنيفة أنها ليست زوجته ولا يحل له غسلها : بيان عدم الزوجية أنها لو كانت زوجته لحل له بعد الموت وطؤها لقوله : {إِلاَّ على أزواجهم} [ المؤمنون : 6 ] وإذا ثبت هذا وجب أن لا يثبت حل الغسل ، لأنه لو ثبت لثبت إما مع حل النظر وهو باطل لقوله عليه السلام : " غض بصرك إلا عن زوجتك " أو بدون حل النظر وهو باطل بالإجماع.
والجواب : لما تعارضت الآيتان في ثبوت الزوجية وعدمها وجب الترجيح فنقول : لو لم تكن زوجة لكان قوله : {نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} مجازا ، ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل وطؤها لزم التخصيص ، وقد ذكرنا في أصول الفقه أن التخصيص أولى ، فكان الترجيح من جانبنا ، وكيف وقد علمنا أن في صور كثيرة حصلت الزوجية ولم يحصل حل الوطء مثل زمان الحيض والنفاس ومثل نهار رمضان ، وعند اشتغالها باداء الصلاة المفروضة والحج المفروض ، وعند كونها في العدة عن الوطء بالشبهة ، وأيضا فقد بينا في الخلافيات أن حل الوطء ثبت على خلاف الدليل لما فيه من المصالح الكثيرة ، فبعد الموت لم يبق شيء من تلك المصالح ، فعاد إلى أصل الحرمة ، أما حل الغسل فإن ثبوته بعد الموت منشأ للمصالح الكثيرة فوجب القول ببقائه والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 178 ـ 179}(20/377)
فائدة
قال الفخر :
في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة ، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة ، وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات ، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك ، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء ، وما أحسن ما راعى هذه الدقيقة لأنه تعالى فضل الرجال على النساء في النصيب ، ونبه بهذه الدقيقة على مزيد فضلهم عليهن. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 179}
فائدة
قال ابن عاشور :
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم}
هذه فريضة الميراث الذي سببه العصمة ، وقد أعطاها الله حقّها المهجور عند الجاهلية إذ كانوا لا يورّثون الزوجين : أمّا الرجل فلا يرث امرأته لأنّها إن لم يكن لها أولاد منه ، فهو قد صار بموتها بمنزلة الأجنبي عن قرابتها من آباء وإخوة وأعمام ، وإن كان لها أولاد كان أولادها أحقّ بميراثها إن كانوا كباراً ، فإن كانوا صغاراً قبض أقرباؤهم مالهم وتصرّفوا فيه ، وأمّا المرأة فلا ترث زوجها بل كانت تعدّ موروثة عنه يتصرّف فيها ورثته كما سيجيء في قوله : { يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } [ النساء : 19 ].
فنوّه الله في هذه الآيات بصلة العصمة ، وهي التي وصفها بالميثاق الغليظ في قوله : { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } [ النساء : 21 ].(20/378)
والجمع في { أزواجكم } وفي قوله : { مما تركتم } كالجمع في الأولاد والآباء ، مراد به تعدّد أفراد الوارثين من الأمّة ، وههنا قد اتّفقت الأمّة عى أنّ الرجل إذا كانت له زوجات أنهنّ يشتركن في الربع أو في الثمن من غير زيادة لهنّ ، لأنّ تعدّد الزوجات بيد صاحب المال فكان تعددّهنّ وسيلة لإدخال المضرّة على الورثة الآخرين بخلاف تعدّد البنات والأخوات فإنّه لا خيار فيه لربّ المال.
والمعنى : ولكلّ واحد منكم نصف ما تركت كلّ زوجة من أزواجه وكذلك قوله : { فلكم الربع مما تركن }.
وقوله : { ولهن الربع مما تركتم } أي لمجموعهنّ الربع ممّا ترك زوجهنّ.
وكذلك قوله : { فلهن الثمن مما تركتم } وهذا حذق يدلّ عليه إيجاز الكلام.
وأعقبت فريضة الأزواج بذكر { من بعد وصية يوصين بها أو دين } لئلا يتوهّم متوهّم أنّهنّ ممنوعات من الإيصاء ومن التداين كما كان الحال في زمان الجاهلية.
وأمّا ذكر تلك الجملة عقب ذكر ميراث النساء من رجالهنّ فجريا على الأسلوب المتّبع في هذه الآيات ، وهو أن يعقب كلّ صنف من الفرائض بالتنبيه على أنّه لا يُستحقّ إلاّ بعد إخراج الوصيّة وقضاء الدين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 50 ـ 51}(20/379)
قوله تعالى {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة أوامرأة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث مِن بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية الله والله عليم حليم }
فصل
قال الفخر :
كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة ، واختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها عبارة عمن سوى الوالدين والولد ، وهذا هو المختار والقول الصحيح ، وأما عمر رضي الله عنه فإنه كان يقول : الكلالة من سوى الولد ، وروي أنه لما طعن قال : كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له ، وأنا أستحيى أن أخالف أبا بكر ، الكلالة من عدا الوالد والولد ، وعن عمر فيه رواية أخرى : وهي التوقف ، وكان يقول : ثلاثة ، لأن يكون بينها الرسول صلى الله عليه وسلم لنا أحب الي من الدنيا وما فيها : الكلالة ، والخلافة ، والربا.
والذي يدل على صحة قول الصديق رضي الله عنه وجوه :
الأول : التمسك باشتقاق لفظ الكلالة وفيه وجوه :
الأول : يقال : كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة ، وحمل فلان على فلان ، ثم كل عنه إذا تباعد.
فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه.
الثاني : يقال : كل الرجل يكل كلا وكلالة إذا أعيا وذهبت قوته ، ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة لا من جهة الولادة ، وذلك لانا بينا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير فيكون فيها ضعف ، وبهذا يظهر أنه يبعد ادخال الوالدين في الكلالة لأن انتسابهما إلى الميت بغير واسطة.
الثالث : الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة ، ومنه الاكليل لاحاطته بالرأس ، ومنه الكل لاحاطته بما يدخل فيه ، ويقال تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب ، إذا عرفت هذا فنقول : من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة ، لأنهم كالدائرة المحيطة بالانسان وكالاكليل المحيط برأسه : أما قرية الولادة فليست كذلك فإن فيها يتفرع البعض عن البعض : ويتولد البعض من البعض ، كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد ، ولهذا قال الشاعر :
نسب تتابع كابراً عن كابر.. كالرمح أنبوبا على أنبوب(20/380)
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة ، وهي كالاخوة والأخوات والأعمام والعمات ، فإنما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب إليه ، فثبت بهذه الوجوه الاشتقاقية أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالدين والولد.
الحجة الثانية : أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا مرتين ، في هذه السورة : أحدهما : في هذه الآية ، والثاني : في آخر السورة وهو قوله : {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [ النساء : 176 ] واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة من لا ولد له فقط ، قال : لأن المذكور ههنا في تفسير الكلالة : هو أنه ليس له ولد ، إلا أنا نقول : هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد.
وذلك لأن الله تعالى حكم بتوريث الاخوة والأخوات حال كون الميت كلالة ، ولا شك أن الاخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين ، فوجب أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين.
الحجة الثانية : إنه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة ثم أتبعها بذكر الكلالة ، وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة من عدا الوالدين والولد.
الحجة الرابعة : قول الفرزدق :
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة.. عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
دل هذا البيت على أنهم ما ورثوا الملك عن الكلالة ، ودل على أنهم ورثوها عن آبائهم ، وهذا يوجب أن لا يكون الأب داخلا في الكلالة والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 179 ـ 180}(20/381)
فصل
قال الفخر :
الكلالة قد تجعل وصفا للوارث وللمورث ، فإذا جعلناها وصفا للوارث فالمراد من سوى الأولاد والوالدين ، وإذا جعلناها وصفا للمورث ، فالمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد ، أما بيان أن هذا اللفظ مستعمل في الوارث فالدليل عليه ما روى جابر قال : مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة ، وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد ، وأما أنه مستعمل في المورث فالبيت الذي رويناه عن الفرزدق ، فإن معناه أنكم ما ورثتم الملك عن الأعمام ، بل عن الآباء فسمى العم كلالة وهو ههنا مورث لا وارث ، إذا عرفت هذا فنقول : المراد من الكلالة في هذه الآية الميت ، الذي لا يخلف الوالدين والولد ، لأن هذا الوصف إنما كان معتبراً في الميت الذي هو المورث لا في الوارث الذي لا يختلف حاله بسب أن له ولدا أو والدا أم لا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 180}
فائدة
قال الفخر :
قوله : {يُورَثُ} فيه احتمالان :
الأول : أن يكون ذلك مأخوذاً من ورثه الرجل يرثه ، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الموروث منه ، وفي انتصاب كلالة وجوه :
أحدها : النصب على الحال ، والتقدير : يورث حال كونه كلالة ، والكلالة مصدر وقع موقع الحال تقديره : يورث متكلل النسب ، وثانيها : أن يكون قوله : {يُورَثُ} صفة لرجل ، و{كلالة} خبر كان ، والتقدير وإن كان رجل يورث منه كلالة ، وثالثها : أن يكون مفعولا له ، أي يورث لأجل كونه كلالة.
الاحتمال الثاني : في قوله : {يُورَثُ} أن يكون ذلك مأخوذا من أورث يورث ، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الوارث ، وانتصاب كلالة على هذا التقدير أيضا يكون على الوجوه المذكورة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 181}
قوله تعالى {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس}(20/382)
سؤال
قال الفخر :
ههنا سؤال : وهو أنه تعالى قال : {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة أَو امرأة} ثم قال : {وَلَهُ أَخٌ} فكنى عن الرجل وما كنى عن المرأة فما السبب فيه ؟
والجواب قال الفراء : هذا جائز فإنه إذا جاء حرفان في معنى واحد "بأو" جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد ، ويجوز إسناده إليهما أيضا ، تقول : من كان له أخ أو أخت فليصله ، يذهب إلى الأخ ، أو فليصلها يذهب إلى الأخت ، وإن قلت فليصلهما جاز أيضا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 181}
وقال القرطبى :
وأعاد ضمير مفردٍ في قوله : "وله أخ" ولم يقل لهما.
ومضى ذكر الرجل والمرأة على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعاً ، تقول : من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما وإليهم ؛ قال الله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } [ البقرة : 45 ].
وقال تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] ويجوز أوْلَى بهم ؛ عن الفراء وغيره. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 78}.
فصل
قال الفخر :
أجمع المفسرون ههنا على أن المراد من الأخ والأخت : الأخ والأخت من الأم ، وكان سعد بن أبي قاص يقرأ : وله أخ أو أخت من أم ، وإنما حكموا بذلك لأنه تعالى قال في آخر السورة : {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة} [ النساء : 176 ] فأثبت للأختين الثلثين ، وللإخوة كل المال ، وههنا أثبت للاخوة والأخوات الثلث ، فوجب أن يكون المراد من الاخوة والأخوات ههنا غير الاخوة والأخوات في تلك الآية ، فالمراد ههنا الاخوة والأخوات من الأم فقط ، وهناك الإخوة والأخوات من الأب والأم ، أو من الأب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 181}
فصل
قال القرطبى :(20/383)
قوله تعالى : { فَإِن كانوا أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث } هذا التشريك يقتضي التسويةَ بين الذكر والأُنثى وإن كثروا.
وإذا كانوا يأخذون بالأُم فلا يفضل الذكر على الأُنثى.
وهذا إجماع من العلماء ، وليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأُنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأُم.
فإذا ماتت امرأة وتركت زوجها وأُمها وأخاها لأُمها فللزوج النصف وللأُم الثلث وللأخ من الأُم السدس.
فإن تركت أخوين وأُختين والمسألة بحالها فللزوج النصف وللأُم السدس وللأخوين والأُختين الثلث ، وقد تمت الفريضة.
وعلى هذا عامة الصحابة ؛ لأنهم حجبوا الأُمّ بالأخ والأُخت من الثلث إلى السدس.
وأما ابن عباس فإنه لم ير العَوْلَ ولو جعل للأُم الثلث لعالت المسألة ، وهو لا يرى ذلك.
والعَوْلُ مذكور في غير هذا الموضع ، ليس هذا موضعه.
فإن تركت زوجها وإخوةً لأُم وأخاً لأب وأُم ؛ فللزوج النصف ، ولإخوتها لأُمها الثلث ، وما بقي فلأخيها لأُمها وأبيها.
وهكذا من له فرضُ مُسَمًّى أُعطيَه ، والباقي للعصبة إن فضل.
فإن تركت ستة إخوة مفترقين فهذه الحِمَاريّة ، وتسمّى أيضاً المشتركة.
قال قوم : للإخوة للأُم الثلث ، وللزوج النصف ، وللأُم السدس ، وسقط الأخ والأُخت من الأب والأُم ، والأخُ والأُختُ من الأب.
رُوي عن عليّ وابن مسعود وأبي موسى والشَّعبيّ وشُريك ويحيى بن آدم ، وبه قال أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر ؛ لأن الزوج والأُم والأخوين للأُم أصحابُ فرائضَ مسماةٍ ولم يبق للعصبة شيء.
وقال قوم : الأُم واحدة ، وهَبْ أن أباهم كان حِماراً ا وأشركوا بينهم في الثلث ؛ ولهذا سُمّيت المشتركة والحِمَاريّة.
رُوي هذا عن عمر وعثمان وابن مسعود أيضاً وزيد بن ثابت ومسروق وشُريح ، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق.
(20/384)
ولا تستقيم هذه المسألة أنْ لو كان الميت رجلاً.
فهذه جملةُ من علم الفرائض تضمّنتها الآية ، والله الموفق للهداية.
وكانت الوراثة في الجاهلية بالرُّجولية والقوّة ، وكانوا يورّثون الرجال دون النساء ؛ فأبطل الله عز وجل ذلك بقوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ }.
{ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } كما تقدّم.
وكانت الوراثة أيضاً في الجاهلية وبدء الإسلام بالمحالَفة ، قال الله عز وجل : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النساء : 33 ] على ما يأتي بيانه.
ثم صارت بعد المحالفة بالهجرة ؛ قال الله تعالى : { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } [ الانفال : 72 ] وسيأتي.
وهناك يأتي القول في ذوي الأرحام وميراثهم ، إن شاء الله تعالى.
وسيأتي في سورة "النور" ميراث ابن الملاعَنة وولد الزنا والمكاتَب بحول الله تعالى.
والجمهور من العلماء على أن الأسير المعلومَ حياته أن ميراثه ثابت ؛ لأنه داخل في جملة المسلمين الذين أحكام الإسلام جارية عليهم.
وقد رُوي عن سعيد بن المُسَيِّب أنه قال في الأسير في يد العدوّ : لا يرث.
وقد تقدّم ميراث المرتدّ في سورة "البقرة" والحمد لله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 5 صـ 79 ـ 80}.
فصل
قال ابن عاشور :
بعد أن بيّن ميراث ذي الأولاد أو الوالدَيْن وفصّله في أحواله حتّى حالة ميراث الزوجين ، انتقل هنا إلى ميراث من ليس له ولد ولا والد ، وهو الموروث كلالة ، ولذلك قابل بها ميراث الأبوين.
والكلالةُ اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى :
فآليتُ لا أرثي لَها مِن كلالة...
ولا من حفى حتّى أُلاقي مُحَمَّدا
وهو اسم مصدر لا يثنيّ ولا يجمع.(20/385)
ووصفت العرب بالكلالة القرابةَ غيرَ القربى ، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بُعد ، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه :
فإنّ أبا المرءِ أحمى له...
ومَوْلى الكلالة لا يُغْضَبُ
ثم أطلقوه على إرث البعيد ، وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن إذ لم أره في كلام العرب إلاّ ما بعد نزول الآية.
قال الفرزدق :
ورثتم قَنَاةَ المجد لا عن كلالة...
عن ابنَيْ مناف عبدِ شمس وهاشمِ
ومنه قولهم : ورِث المجدَ لا عن كلالة.
وقد عدّ الصحابة معنى الكلالة هنا من مشكل القرآن حتّى قال عُمر بن الخطاب : "ثلاث لأن يكون رسول الله بَيّنهن أحبّ إليّ من الدنيا : الكلالةُ ، والربا ، والخلافةُ".
وقال أبو بكر : "أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء ، الكلالة ما خلا الولدَ والوالدَ".
وهذا قول عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وقال به الزهري ، وقتادة والشعبي ، وهو قول الجمهور ، وحكي الإجماع عليه ، وروي عن ابن عباس "الكلالة من لا ولد له" أي ولو كان له والد وينسب ذلك لأبي بكر وعمر أيضاً ثم رجعا عنه ، وقد يستدلّ له بظاهر الآية في آخر السورة : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد } [ النساء : 176 ] وسياق الآية يرجّح ما ذهب إليه الجمهور لأنّ ذكرها بعد ميراث الأولاد والأبوين مؤذن بأنّها حالة مخالفة للحالين.
وانتصب قوله : { كلالة } على الحال من الضمير في { يورث } الذي هو كلالة من وارثه أي قريب غير الأقرب لأنّ الكلالة يصحّ أن يوصف بها كلا القريبين.
وقوله : { أو امرأة } عطف على { رجل } الذي هو اسم ( كان ) فيشارك المعطوف المعطوف عليه في خبر ( كان ) إذ لا يكون لها اسم بدون خبر في حال نقصانها.(20/386)
وقوله : { وله أخ أو أخت } يتعيّن على قول الجمهور في معنى الكلالة أن يكون المراد بهما الأخ والأخت للأمّ خاصّة لأنَّه إذا كان الميّت لا ولد له ولا والد وقلنا له أخ أو أخت وجعلنا لكلّ واحد منهما السدس نعلم بحكم ما يُشْبه دلالةَ الاقتضاء أنّهما الأخ والأخت للأم لأنّهما لمّا كانت نهاية حظّهما الثلث فقد بقي الثلثان فلو كان الأخ والأخت هما الشقيقين أو اللذين للأب لاقتضى أنّهما أخذا أقلّ المال وترك الباقي لغيرهما وهل يكون غيرهما أقرب منهما فتعيّن أنّ الأخ والأخت مراد بهما اللذان للأمّ خاصّة ليكون الثلثان للإخوة الأشقّاء أو الأعمام أو بني الأعمام.
وقد أثبت الله بهذا فرضاً للإخوة للأمّ إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من إلغاء جانب الأمومة أصلاً ، لأنّه جانب نساء ولم يحتج للتنبيه على مصير بقيّة المال لما قدّمنا بيانه آنفاً من أنّ الله تعالى أحال أمر العصابة على ما هو متعارف بين من نزل فيهم القرآن.
وعلى قول ابن عباس في تفسير الكلالة لا يتعيّن أن يكون المراد بالأخ والأخت اللذين للأمّ إذ قد يفرض للإخوة الأشقّاء نصيب هو الثلث ويبقى الثلثان لعاصب أقوى وهو الأب في بعض صور الكلالة غير أنّ ابن عباس وافق الجمهور على أنّ المراد بالأخ والأخت اللذان للأمّ وكان سبب ذلك عنده أنّ الله أطلق الكلالة وقد لا يكون فيها أب فلو كان المراد بالأخ والأخت الشقيقين أو اللذين للأب لأعطيناهما الثلث عند عدم الأب وبقي معظم المال لمن هو دون الإخوة في التعصيب فهذا فيما أرى هو الذي حدا سائر الصحابة والفقهاء إلى حمل الأخ والأخت على الذين للأمّ.
وقد ذكر الله تعالى الكلالة في آخر السورة بصورة أخرى سنتعرّض لها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 4 صـ 51 ـ 53}(20/387)
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى
قوله تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس فَإِن كانوا أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث }.
المراد في هذه الآية بالإخوة الذين يأخذ المنفرد منهم السدس وعند التعدد يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم ، سواء إخوة الأم بدليل بيانه تعالى أن الإخوة من الأب أشقاء أولا ، يرث الواحد منهم كل المال ، وعند اجتماعهم يرثون المال كله للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال في المنفرد منهم وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، وقال في جماعتهم : وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين. وقد أجمع العلماء على أن هؤلاء الإخوة هم الإخوة من الأب ، كانوا أشقاء أو لأب. كما أجمعوا على أن قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } الآية. أنها في إخوة الأم. وقرأ سعد بن أبي وقاص : وله أخ أو أخت من أم. والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع كما قال الناظم :
ويسألونك عن الكلالة... هي انقطاع النسل لا محالة
لا والد يبقى ولا مولود... فانقطع الأبناء والجدود
وهذا قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأكثر الصحابة وهو الحق إن شاء الله تعالى. واعلم أن الكلالة تطلق على القرابة من غير جهة الولد والوالد ، وعلى الميت الذي لم يخلف والداً ولا ولداً ، وعلى الوارث الذي ليس بوالد ولا ولد. وعلى المال الموروث عمن ليس بوالد ولا ولد. غلا أنه استعمال غير شائع واختلف في اشتقاق الكلالة.
واختار كثير من العلماء أن أصلها من تكاله إذا أحاط به ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ، والكل لإحاطته بالعدد لأن الورثة فيها محيطة بالميت من جوانبه لا من أصله ولا فرعه.
وقال بعض العلماء : أصلها من الكلال بمعنى الإعياء : لأن الكلالة أضعف من قرابة الآباء والأبناء.(20/388)