ثم فسر الظن بقوله : {يقولون} أي منكرين لأنه لم يجعل الرأي رايهم ويعمل بمقتضاه غشباً وتاسفاً على خروجهم في هذا الوجه وعدم رجوعهم مع ابن أبيّ بعد أن خرجوا {هل لنا من الأمر} أي المسموع ، ولكون الاستفهام بمعنى النفي ثبتت أداة الاستغراق في قوله : {من شيء} فكأنه قيل : فماذا يقال لهم ؟ فقيل : {قل} أي لهم رداً عليهم احتقاراً بهم {إن الأمر} أي الحكم الذي لا يكون سواه {كله لله} أي الذي لا كفوء له ، وليس لكم ولا لغيركم منه شيء ، شئتم أو أبيتم ، غزوتم أو قعدتم ، ثبتم أو فررتم.
ولما قص سبحانه وتعالى عليهم بعض أمرهم في هذه الحرب ، وبين لهم شيئاً من فوائد ما فعل بهم بقوله : {إن يمسسكم قرح} [ آل عمران : 140 ] وكان من جملة ذلك ما أظهر من أسرار المنافقين بهذه الوقعة في اتهامهم الله ورسوله ، حتى وصل إلى هنا ، وكان قولهم هذا غير صريح في الاتهام لإمكان حمله على مساق الاستفهام أخبر سبحانه وتعالى بتدليسهم بقوله : {يخفون} أي يقولون ذلك مخفين {في أنفسهم ما لا يبدون لك} لكونه لا يرضاه اللهز ثم بين ذلك بعد إجماله فقال : {يقولون لو كان لنا من الأمر} أي المسموع {شيء ما قتلنا ههنا} لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو.(17/282)
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بما أخفوه جهلاً منهم ظناً أن الحذر يغني من القدر أمره سبحانه وتعالى بالرد عليهم بقوله : {قل لو كنتم في بيوتكم} أي بعد أن أجمع رأيكم على أن لا يخرج منكم أحد {لبرز الذين كتب عليهم القتل} أي في هذه الغزوة {إلى مضاجعهم} أي التي هي مضاجعهم بالحقيقة وهي التي قتلوا بها ، لأن ما قدرناه لا يمكن أحداً دفعه بوجه من الوجوه ، ثم عطف على ما علم تقديره ودل عليه السياق قوله : {ليبتلي} أي لبرز المذكورون لينفذ قضاؤه ويصدق قوله لكم في غزوة بدر : إن فاديتم الأسارة ولم تقتلوهم قتل منكم في العام المقبل مثلهم {وليبتلي الله} أي المحيط بصفات الكمال بهذا الأمر التقديري {ما في صدوركم} أي من الإيمان والنفاق بأن يفعل في إظهاره من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فعل المختبر كما فعل بما وجد في هذه الغزوة من الأمور التحقيقية {وليمحص ما في قلوبكم} اي يطهره ويصفيه من جميع الوساوس الصارفة عن المراقبة من محبة الدنيا من الغنائم التي كانت سبب الهزيمة وغيرها.
وختم بقوله : {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {عليم بذات الصدور} مرغباً ومرهباً ودافعاً لما قد يتوهم من ذكر الابتلاء من عدم العلم بالخفايا.
ولما كانوا في هذه الغزوة قد حصل لهم ضرر عظيم ، لكنه كان بما وقع من بعضهم من الخلل الظاهر فأدبهم بذلك ، عفا عنهم سبحانه وتعالى بعد ذلك التأديب ورحمهم وطيب قلوبهم بهذه الآية بما فيها من التأمين صريحاً ، وبما فيها من الإشارة بجمع جميع حروف المعجم فيها تلويحاً إلى أن أمرهم لا بد أن يتم كما تمت الحروف في هذه الآية.
(17/283)
لكنه افتتحها بأداة التراخي إشارة إلى أنه لا يكون إلا بعد مدة مديدة حتى تصقل مرائي الصدور التي ختمها بها بخلاف ما في الآية الأخرى الجامعة للحروف في آخر سورة الفتح التي نزلت في الحديبية التي ساءهم رجوعهم منها دون وصولهم إلى قصدهم - كما يأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 168 ـ 170}
فصل
قال الفخر :
في كيفية النظم وجهان :
الأول : أنه تعالى لما وعد نصر المؤمنين على الكافرين ، وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بازالة الخوف عن المؤمنين ، بين في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهم ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين.
الثاني : أنه تعالى بين أنه نصر المؤمنين أولا ، فلما عصى بعضهم سلط الخوف عليهم ، ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلب من كان صادقا في إيمانه مستقرا على دينه بحيث غلب النعاس عليه.(17/284)
واعلم أن الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان : أحدهما : الذين كانوا جازمين بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند الله وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وكانوا قد سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان ، فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال ، فلا جرم كانوا آمنين ، وبلغ ذلك الأمن إلى حيث غشيهم النعاس ، فإن النوم لا يجيء مع الخوف ، فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية ، فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} وقال في قصة بدر {إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مّنْهُ} [ الأنفال : 11 ] ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس ، وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة ، وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام ، وما حضروا إلا لطلب الغنيمة ، فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم ، ثم إنه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين ، فقال في صفة المؤمنين : {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 36 ـ 37}
قال الآلوسى :
{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } عطف على { فأثابكم } [ آل عمران : 153 ] والخطاب للمؤمنين حقاً ، والمعنى ثم وهب لكم أيها المؤمنون { مّن بَعْدِ الغم } الذي اعتراكم والتصريح بتأخر الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان ، وتذكير عظم المنة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 93}
فائدة
قال أبو حيان :
واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس.(17/285)
فقال الجمهور : حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي وكان من المتحيزين إليه : " اذهب فانظر إلى القوم فإنْ كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة فاتقوا الله واصبروا " ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع فأخبر : أنهم جنبوا الخيل ، وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فأمن المؤمنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألقى الله تعالى عليهم النعاس.
وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أنّ أبا سفيان يؤم المدينة ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية.
وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته.
وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في المصاف وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك.
قال تعالى { فأثابكم غماً بغم }.
والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم.
والجمع بين هذين القولين : أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة ، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة ، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة ، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم ، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرّحيل إلى مكة ، فأنزل الله عليهم النعاس في ذلك الموطن ، فأمنوا ولم يأمن المنافقون.
والفاعل بأنزل ضمير يعود على الله تعالى ، وهو معطوف على فأثابكم.
وعليكم يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته ، ونسبة الإنزال مجاز لأن حقيقته في الأجرام. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 92}
(17/286)
قوله تعالى : {يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ}
قال الآلوسى :
{ يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ } قال ابن عباس : هم المهاجرون وعامة الأنصار ، وفيه إشعار بأنه لم يغش الكل ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 94}
فصل
قال الفخر :
قد ذكرنا أن هذه الطائفة هم المؤمنون الذين كانوا على البصيرة في إيمانهم قال أبو طلحة ، غشينا النعاس ونحن في مصافنا ، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه.
ثم يسقط فيأخذه ، وعن الزبير قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف ، فأرسل الله علينا النوم ، وإني لأسمع قول معتب بن قشير : والنعاس يغشاني يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.
وقال عبد الرحمن بن عوف : ألقى النوم علينا يوم أحد ، وعن ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان ، وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله.
واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد :
أحدها : أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد ، فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن الله منجز وعده ،
وثانيها : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال ، والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة ،
وثالثها : أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم ، فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم ، (17/287)
ورابعها : أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم ، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى ، ومن الناس من قال : ذكر النعاس في هذا الموضع كناية عن غاية الامن ، وهذا ضعيف لأن صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام الدليل المعارض ، فكيف يجوز ترك حقيقة اللفظ مع اشتمالها على هذه الفوائد والحكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 37}
لطيفة
قال ابن عاشور :
وسمّي الإغشاء إنزالاً لأنّه لمّا كان نعاساً مقدّراً من الله لحكمة خاصّة ، كان كالنازل من العوالم المشرّفة كما يقال : نزلت السكينة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 256}
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة والكسائي {تغشى} بالتاء رداً إلى الأمنة ، والباقون بالياء رداً ، إلى النعاس ، وهو اختيار أبي حاتم وخلف وأبي عبيد.(17/288)
واعلم أن الأمنة والنعاس كل واحد منهما يدل على الآخر ، فلا جرم يحسن رد الكناية إلى أيهما شئت ، كقوله تعالى : {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم * كالمهل يَغْلِى فِى البطون} [ الدخان : 43 45 ] وتغلي ، إذا عرفت جوازهما فنقول : مما يقوي القراءة بالتاء أن الأصل الأمنة ، والنعاس بدل ، ورد الكناية إلى الأصل أحسن ، وأيضاً الأمنة هي المقصود ، وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس لأنها سببه ، فإن الخائف لا يكاد ينعس ، وأما من قرأ بالياء فحجته أن النعاس هو الغاشي ، فإن العرب يقولون غشينا النعاس ، وقلما يقولون غشيني من النعاس أمنة ، وأيضاً فإن النعاس مذكور بالغشيان في قوله : {إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مّنْهُ} [ الأنفال : 11 ] وأيضاً : النعاس يلي الفعل ، وهو أقرب في اللفظ إلى ذكر الغشيان من الأمنة فالتذكير أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 37 ـ 38}
فائدة
قال الطبرى :
والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، غير مختلفتين في معنى ولا غيره. لأن"الأمنة" في هذا الموضع هي النعاس ، والنعاس هو الأمنة. فسواء ذلك ، وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ في قراءته. (1)
وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله : ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ كَالْمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ ) [سورة الدخان : 43-45] و( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُمْنَى ) [سورة القيامة : 37] ، ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ ) [سورة مريم : 25]. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 316}
_____________
(1) هذا أصل عظيم فكل قراءة متواترة لا يجوز تضعيفها وليته التزم بهذا الأصل الذى أشار إليه ، فكثيرا ما يرجح بين القراءات المتواترة. والله أعلم.(17/289)
قوله تعالى : {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}
هؤلاء هم المنافقون عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما ، كان همهم خلاص أنفسهم ، يقال : همني الشيء أي كان من همي وقصدي ، قال أبو مسلم : من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف ، قد أهمته نفسه ، فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم ، وقيل المؤمنون ، كان همهم النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانهم من المؤمنين ، والمنافقون كان همهم أنفسهم وتحقيق القول فيه : أن الأنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه ، صار غافلا عما سواه ، فلما كان أحب الأشياء إلى الأنسان نفسه ، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها ، فهذا هو المراد من قوله : {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله ما كان معتبراً عندهم ، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم ، فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 38}
قوله تعالى : {يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية}
فصل
قال الفخر :
في هذا الظن احتمالان :(17/290)
أحدهما : وهو الأظهر : هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد ، أما على قول أهل السنة والجماعة ، فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه ، فإن النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها ، وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى ، بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الالهية ، وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه ، فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم ، بحيث يقهر الكافر المسلم ، حكم خفية وألطاف مرعية ، فإن الدنيا دار الامتحان والابتلاء ، ووجوه المصالح مستورة عن العقول ، فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن ، وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين.
قال القفال : لو كان كون المؤمن محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر ، وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب ، بل الأنسان إنما يعرف كونه محقاً بما معه من الدلائل والبينات ، فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق ، ومن المحق للمبطل ، وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق.
الثاني : أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات ، وينكرون النبوة والبعث ، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله يقويهم وينصرهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 38 ـ 39}
فصل
قال الفخر :(17/291)
{غَيْرِ الحق} في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به ( وظن الجاهلية ) بدل منه ، والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق : أديان كثيرة ، وأقبحها مقالات أهل الجاهلية ، فذكر أولا أنهم يظنون بالله غير الظن الحق ، ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا ، وهو ظن أهل الجاهلية ، كما يقال : فلان دينه ليس بحق ، دينه دين الملاحدة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 39}
فائدة
قال ابن عاشور :
وإنَّما كان هذا الظنّ غيرَ الحقّ لأنَّه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل ، فإنّ لله أمراً وهدياً وله قدَر وتيسير ، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدّين وهو في ذلك معصوم ، وليس معصوماً من جريان الأسباب الدنيوية عليه ، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوّه سجالاً ، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله : كيف كان قتالكم له ؟ فقال أبو سفيان : ينال منّا وننال منه ، فقال هرقل : وكذلك الإيمان حتَّى يتمّ.
فظنّهم ذلك ليس بحقّ.
وقد بيّن الله تعالى أنَّه ظنّ الجاهلية الَّذين لم يعرفوا الإيمان أصلاً فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية ، والجاهلية صفة جرت على موصوف محذوف يقدّر بالفئة أو الجماعة ، وربما أريد به حالة الجاهلية في قولهم أهل الجاهلية ، وقوله تعالى : { تبرّج الجاهلية الأولى } ، والظاهر أنَّه نسبة إلى الجاهل أي الَّذي لا يعلم الدين والتَّوحيد ، فإنّ العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم ، قال ابن الرومي
بجهل كجهل السيف والسيف منتضى
وحلم كحلم السيف والسيف مغمد...
وأطلقت الجهل على عدم العلم قال السموأل....
فليسَ سواء عالم وجَهول
وقال النابغة :
وليس جَاهل شيءٍ مثلَ مَن علما(17/292)
وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن ، وصف به أهل الشرك تنفيراً من الجهل ، وترغيباً في العلم ، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذمّ في نحو قوله : { أفحكم الجاهلية يبغون } [ المائدة : 50 ] { ولاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الجاهليّة الأولى } [ الأحزاب : 33 ] { إذ جعل الَّذين كفروا في قلوبهم الحَمِيَّة حَمِيَّة الجَاهلية } [ الفتح : 26 ].
وقال ابن عبَّاس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دِهاقاً ، وفي حديث حكيم بن حِزام : أنَّه سأل النَّبيء صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يتحنّث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم.
وقالوا : شعر الجاهلية ، وأيَّامُ الجاهلية.
ولم يسمع ذلك كُلّه إلاّ بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 258 ـ 259}
فصل
قال الفخر :
في قوله : {ظَنَّ الجاهلية} قولان :
أحدهما : أنه كقولك : حاتم الجود ، وعمر العدل ، يريد الظن المختص بالملة الجاهلية ،
والثاني : المراد ظن أهل الجاهلية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 39}
فصل
قال الثعالبى :
وقد وردَتْ أحاديثُ صِحَاحٌ في الترغيبِ في حُسْن الظَّنِّ باللَّه عزَّ وجلَّ ، ففي "صحيح مُسْلِم" ، وغيره ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم حاكِياً عن اللَّه عزَّ وجلَّ يقولُ سبْحَانه : " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي... " الحديثَ ، وقال ابْنُ مَسْعود : واللَّه الَّذِي لاَ إله غيره ، لا يُحْسِنُ أحَدٌ الظنَّ باللَّه عزَّ وجلَّ إلا أعطاه اللَّهُ ظنَّه ، وذلك أنَّ الخَيْر بيده ، وخرَّج أبو بَكْرِ بْنُ الخَطِيب بسنده ، عن أنَسِ ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ المَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ ". أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 324}(17/293)
قوله تعالى : {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ }
فصل
قال الفخر :
اعلم أن قوله {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء} حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها ، وهو يحتمل وجوها :
الأول : أن عبد الله بن أبي لما شاوره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، فغضب عبد الله بن أبي من ذلك ، فقال عصاني وأطاع الولدان ، ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبد الله بن أبي قيل له : قتل بنو الخزرج ، فقال : هل لنا من الأمر من شيء ، يعني أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها ، ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا : {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [ آل عمران : 168 ] والمعنى : هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الانكار.
الوجه الثاني في التأويل : أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا : عليه الأمر ، فقوله : {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء} أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد ، وهو النصرة والقوة شيء وهذا استفهام على سبيل الانكار ، وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان كاذباً في ادعاء النصرة والعصمة من الله تعالى لأمته ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.
الثالث : أن يكون التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء ، والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار ، ثم إن الله سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله : {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 39}(17/294)
قال الآلوسى :
{ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء } أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار : هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب أي ليس لنا من ذلك شيء لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم ، أو يقول الحاضرون منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة الاسترشاد : هل لنا من أمر الله تعالى ووعده بالنصر شيء ، واختاره بعض المحققين. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 94 ـ 95}
فصل
قال الفخر :
قرأ أبو عمرو ( كله ) برفع اللام ، والباقون بالنصب ، أما وجه الرفع فهو أن قوله : ( كله ) مبتدأ وقوله : ( لله ) خبره ، ثم صارت هذه الجملة خبراً لإن ، وأما النصب فلأن لفظة "كل" للتأكيد ، فكانت كلفظة أجمع ، ولو قيل : إن الأمر أجمع ، لم يكن إلا النصب ، فكذا إذا قال "كله". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 39}
وقال الطبرى :
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق : ( قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ ) ، بنصب"الكل" على وجه النعت لـ"الأمر" والصفة له.
وقرأه بعض قرأة أهل البصرة : ( قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) برفع"الكل" ، على توجيه"الكل" إلى أنه اسم ، وقوله"لله" خبره ، كقول القائل : "إن الأمر بعضه لعبد الله.
وقد يجوز أن يكون"الكل" في قراءة من قرأه بالنصب ، منصوبًا على البدل.
قال أبو جعفر : والقراءة التي هي القراءة عندنا ، النصبُ في"الكل" لإجماع أكثر القرأة عليه ، من غير أن تكون القراءة الأخرى خطأ في معنى أو عربية. ولو كانت القراءة بالرفع في ذلك مستفيضة في القرأة ، لكانت سواءً عندي القراءةُ بأيِّ ذلك قرئ ، لاتفاق معاني ذلك بأيَ وجهيه قرئ. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 323 ـ 324}
قال أبو حيان :
قال ابن عطية : ورجح الناس قراءة الجمهور ، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى.(17/295)
ولا ترجيح ، إذ كل من القراءتين متواتر ، والابتداء بكل كثير في لسان العرب. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 95 ـ 96}
فصل
قال الفخر :
الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا : أنا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الإماتة والإحياء ، والفقر والإغناء والسراء والضراء ، وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح ، فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى ، فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة ، وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام ، فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 39}
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء الله وقدره ، وذلك لأن المنافقين قالوا : إن محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا ، لما وقع في هذه المحنة ، فأجاب الله عنه بأن الأمر كله لله ، وهذا الجواب : إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين ، فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا.
وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي ، وذلك لأن الموجود ، إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته ، فثبت أن كل ما سوى الله تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه ، وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث ، أو ممكن دون ممكن ، فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم ، وذلك هو المراد بقوله : {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه الله للإنصاف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 39 ـ 40}
قوله تعالى : {يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ }
قال الفخر :(17/296)
اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : {هل لنا من الأمر من شيء} ، وهذا الكلام محتمل ، فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين ، وكان غرضه منه إظهار الشفقة ، وأنه متى يكون الفرج ؟ ومن أين تحصل النصرة ؟ ولعله كان من المنافقين ، وإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني ، والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم متحرزا عن مكرهم وكيدهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 40}
قوله تعالى {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا}
إشكال وجوابه
قال الفخر :
قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.
وفيه إشكال ، وهو أن لقائل أن يقول : ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله : {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء} ويمكن أن يجاب عنه من وجهين :
الأول : أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم : {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء} فأجاب عنه بقوله : {الأمر كُلَّهُ للَّهِ}
واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا ههنا ، فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله لله ، وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال فإن السني يقول : الأمر كله في الطاعة والمعصية والإيمان والكفر بيد الله ، فيقول المعتزلي : ليس الأمر كذلك ، فإن الإنسان مختار مستقل بالفعل ، إن شاء آمن ، وإن شاء كفر ، فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها ، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشبهة الأولى.(17/297)
والوجه الثاني : أن يكون المراد من قوله {هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَىء} هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء ويكون المراد من قوله {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاْمْرِ شَىء مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} هو ما كان يقوله عبد الله بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا ههنا
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه
الوجه الأول من الجواب قوله قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا وقد بينا أيضا أنه ممكن فلا بد من انتهائه الى إيجاد الله تعالى فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا وكل ذلك محال ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قول الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ وهذه الكلمة تفيد الوجوب فان هذه الكلمة في قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} ( البقرة 178 ) تفيد وجوب الفعل وههنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق ثم نقول للمفسرين فيه قولان
الأول لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل الى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد والثاني كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار الى مضاجعهم ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم(17/298)
الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة قوله {وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ} وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة ولو كان الأمر إليهم لما خرجوا إليها فقال تعالى بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة أن يتميز الموافق من المنافق وفي المثل المشهور لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة
فإن قيل لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( آل عمران 152 )} ؟
قلنا لما طال الكلام أعاد ذكره وقيل الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين والثاني سائر الأحوال
والوجه الثالث في الجواب قوله {وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ}
وفيه وجهان
أحدهما أن هذه الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات
والثاني أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات وذكر في الابتلاء الصدور وفي التمحيص القلوب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 40 ـ 41}
وقال الآلوسى :
{ وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ } أي ليختبر الله تعالى ما في صدوركم بأعمالكم فإنه قد علمه غيباً ويريد أن يعلمه شهادة لتقع المجازاة عليه قاله الزجاج ، أو ليعاملكم معاملة المبتلي الممتحن قاله غير واحد ، وهو خطاب للمؤمنين واللام للتعليل ومدخولها علة لفعل مقدر قبل مطوف على علل أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلي الخ أو لفعل مقدر بعد أي وللابتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بشأن أوليائه وأنصار نبيه صلى الله عليه وسلم مثلاً.(17/299)
والعطف على هذا عند بعض المحققين على قوله تعالى : { أَنزَلَ عَلَيْكُم } والفصل بينهما مغتفر لأن الفاصل من متعلقات المعطوف عليه لفظاً أو معنى ، وقيل : إنه لا حذف في الكلام وإنما هو معطوف على قوله تعالى : { لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } [ آل عمران : 153 ] أي أثابكم بالغم لأمرين عدم الحزن والابتلاء ، واستبعد بأن توسط تلك الأمور محتاج إلى نكتة حينئذٍ ، وهي غير ظاهرة ، وأبعد منه بل لا يكاد يقبل العطف على قوله تعالى : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] أي صرفكم عنهم ليبتليكم وليبتلي ما في صدوركم ، وجعله بعضهم معطوفاً على علة محذوفة وكلتا العلتين { لَبَرَزَ الذين } كأنه قيل لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء.
واعترض بأن الذوق السليم يأباه فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذٍ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض ، وإنما جعل الخطاب للمؤمنين لأنهم المعتدّ بهم ولأن إظهار حالهم مظهر لغيرهم.
وقيل : إنه لهم وللمنافقين أي ليبتلي ما في سرائركم من الإخلاص والنفاق ، وقيل : للمنافقين خاصة لأن سوق الآية لهم.(17/300)
وظاهر قوله تعالى : { وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } أي ليخلص ما فيها من الاعتقاد من الوسواس ، يرجح الأول : لأن المنافقين لا اعتقاد لهم ليمحص من الوساوس ويخلص منها ، ولعل القائلين بكون الخطاب للمنافقين فقط أو مع المؤمنين يفسرون التمحيص بالكشف والتمييز أي ليكشف ما في قلوبكم من مخفيات الأمور أو النفاق ويميزها ، إلا أن حمل التمحيص على هذا المعنى يجعل هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها وإنما عبر بالقلوب هنا كما قيل : لأن التمحيص متعلق بالاعتقاد على ما أشرنا إليه وقد شاع استعمال القلب مع ذلك فيقال : اعتقد بقلبه ولا تكاد تسمعهم يقولون اعتقد بصدره أو آمن بصدره ، وفي القرآن { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } [ المجادلة : 22 ] وليس فيه كتب في صدورهم الإيمان ، نعم يذكر الصدر مع الإسلام كما في قوله تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام } [ الزمر : 22 ] ومن هنا قال بعض السادات : القلب مقر الإيمان ، والصدر محل الإسلام ، والفؤاد مشرق المشاهدة ، واللب مقام التوحيد الحقيقي ، ولعل الآية على هذا تؤول إلى قولنا ليبتلي إسلامكم وليمحص إيمانكم ، وربما يقال عبر بذلك مع التعبير فيما قبل بالصدور للتفنن بناءاً على أن المراد بالجمعين واحد. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 97 ـ 98}
فائدة
قال القرطبى :
{ الذين كُتِبَ } أي فرض.
{ عَلَيْهِمُ القتل } يعني في اللوح المحفوظ.
{ إلى مَضَاجِعِهِمْ } أي مصارعهم.
وقيل : { كُتِبَ عَلَيْهُم الْقَتْلُ } أي فرض عليهم القتال ، فعبّر عنه بالقتل ؛ لأنه قد يؤول إليه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 243}
فصل
قال ابن عاشور :
{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ }.(17/301)
لقن الله رسوله الجواب عن قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.
والجواب إبطال لقولهم ، وتعليم للمؤمنين لدفع ما عسى أن يقع في نفوسهم من الريب ، إذا سمعوا كلام المنافقين ، أو هو جواب للمنافقين ويحصل به علم للمؤمنين.
وفُصلت الجملة جرياً على حكاية المقاولة كما قرّرنا غير مرّة.
وهذا الجواب جار على الحقيقة وهي جريان الأشياء على قَدر من الله والتسليمِ لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول ، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتض ترك الأسباب ، لأنّ قدر الله تعالى وقضاءه غير معلومَين لنا إلاّ بعد الوقوع ، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفاً عن مصادفة قدر الله لمأمولنا ، فإن استفرغنا جهودنا وحُرمنا المأمول ، علمنا أنّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا.
فأمَّا ترك الأسباب فليس من شأننا ، وهو مخالف لما أراد الله منّا ، وإعراض عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القدَر.
والمعنى : لو لم تكونوا ههنا وكنتم في بيوتكم لخرج الَّذين كتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقتلوا في مضاجعهم الَّتي اضطجعوا فيها يوم أُحُد أي مصارعهم فالمراد بقوله : { كتب } قدّر ، ومعنى { برز } خرج إلى البراز وهو الأرض. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 260}
وقال أبو حيان :
{ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري : وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلّ عليه بضروب من المعقول نحو : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } { أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر } وبعضهم يسميه : المذهب الكلامي.
ومنه قول الشاعر :
جرى القضاء بما فيه فإن تلم . . .
فلا ملام على ما خط بالقلم(17/302)
وكتب : بمعنى فرض ، أو قضى وحتم ، أو خط في اللوح ، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم أجنة ، أقوال.
ومعنى الآية : أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى مكان مصرعه فقتل فيه ، وهذا رد على قول معتب ، ودليل على أن كل امرىء له أجل واحد لا يتعداه.
فإنْ قيل : فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلاّ مات لذلك الأجل ، ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل ، أو بأي أسباب المرض ، أو فجأه من غير مرض هو أجل واحد لكل امرىء وإن تعددت الأسباب.
وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على عادته.
فقال : لو كنتم في بيوتكم يعني من علم الله أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، لم يكن بد من وجوده.
فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ، ليكون ما علم أنه يكون.
والمعنى : أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله.
وإنما ينكبون به في بعض الأوقات.
تمحيص لهم ، وترغيب في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة.
انتهى كلامه.
وهو نوع من الخطابة والمعنى في الآية واضح جداً لا يحتاج إلى هذا التطويل. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 96 ـ 97}
سؤال : فإن قيل : قد سبق ذِكْرُ الابتلاء في قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] فلم أعادَه ؟
فالجواب : أنه أعادهُ ؛ لطول الكلام بينهما ، ولأن الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين ، والابتلاء الثاني سائر الأحوال.(17/303)
فإن قيل : قوله : { وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ } المرادُ منه القلب ؛ لقوله : { القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] فجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصَّدْرُ - وهو ما في القلب من النِّيَّةِ - وجعل متعلق التمحيص ما في القلب - وهو النيات والعقائد - فلم خالف بين اللفظين في المتعلِّق ؟
فالجوابُ : أنه لما اختلف المتعلَّقان حسنَ اختلافُ لفظَيْهما. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 619}.
لطيفة
قال ابن عاشور :
والتمحيص تخليص الشيء ممَّا يخالطه ممَّا فيه عيب له فهو كالتزكية.
والقلوب هنا بمعنى العقائد ، ومعنى تمحيص ما فيه قلوبهم تطهيرها ممَّا يخامرها من الريب حين سماع شُبه المنافقين الّتي يبثُّونها بينهم.
وأطلق الصدور على الضّمائر لأنّ الصدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطني ، وفي الحديث : " الإثم ما حاك في الصّدر " وأطلق القلب على الاعتقاد لأنّ القلب في لسان العرب هو ما به يحصّل التفكّر والاعتقاد.
وعُدّي إلى الصّدور فعل الابتلاء لأنَّه اختبار الأخلاق والضّمائر : ما فيها من خير وشَرّ ، وليتميّز ما في النفس.
وَعُدِّيَ إلى القلوب فعل التمحيص لأنّ الظنون والعقائد محتاجة إلى التمحيص لتكون مصدر كلّ خير. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 261}
قوله تعالى {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
قال الفخر :
واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور وهي الأسرار والضمائر وهي ذات الصدور لأنها حالة فيها مصاحبة لها وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفي عليه ما في الصدور أو غير ذلك لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم اما لمحض الالهية أو للاستصلاح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 41}(17/304)
وقال الآلوسى :
{ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي بما في القلوب التي في الصدور من الضمائر الخفية ووصفت بذلك لأنها لتمكنها من الصدور جعلت كأنها مالكة لها فذات بمعنى صاحبة لا بمعنى ذات الشيء ونفسه ، وفي الآية وعد ووعيد أو أحدهما فقط على الخلاف في الخطاب وفيها تنبيه على أن الله تعالى غني عن الابتلاء وإنما يبرز صورة الابتلاء لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين أو إظهار حال المنافقين ، واختار الصدور ههنا لأن الابتلاء الغني عنه سبحانه كان متعلقاً بما فيها والتمحيص على المعنى الأول تصفية وتطهير وليس ذلك مما تشعر به هذه الجملة بأنه سبحانه غني عنه وإنما فعله لحكمة ، نعم إذا أريد به الكشف والتمييز يصح أن يقال : إن هذه الجملة مشعرة بأنه تعالى غني أيضاً.
ومن هنا جوّز بعض المحققين كونها حالاً من متعلق الفعلين أي فعل ما فعل للابتلاء والكشف ، والحال أنه تعالى غني عنهما محيط بخفيات الأمور إلا أنه لا يظهر حينئذٍ سر التعبير عن الأسرار والخفيات بذات الصدور دون ذات القلوب مع أن التعبير الثاني أولى بها لأن القلوب محلها بلا واسطة ومحلية الصدور لها بحسب الظاهر بواسطة القلوب اللهم إلا أن يقال : إن ذات الصدور بمعنى الأشياء التي لا تكاد تفارق الصدور لكونها حالة فيها بل تلازمها وتصاحبها أشمل من ذات القلوب لصدق الأولى على الأسرار التي في القلوب وعلى القلوب أنفسها لأن كلاً من هذين الأمرين ملازم للصدور باعتبار كونه حالاً فيها دون الثانية لأنك لا تصدق إلا على الأسرار لأنها الحالة فيها دون الصدور فحينئذٍ يمكن أن يراد من ذات الصدور هذا المعنى الشامل ويكون التعبير بها لذلك. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 98}
وقال البيضاوى :
{ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور } بخفياتها قبل إظهارها ، وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 106}(17/305)
من فوائد أبى السعود فى الآية
قال رحمه الله :
وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } أي إن الغلبةَ بالآخرة لله تعالى ولأوليائه فإن حزبَ الله هم الغالبون أو إن التدبيرَ كلَّه لله فإنه تعالى قد دبر الأمرَ كما جرى في سابق قضائِه فلا مردَّ له وقرىء كلُّه بالرفع على الابتداء وقوله تعالى : { يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم } أي يُضمرون فيها أو يقولون فيما بينهم بطريق الخُفية { مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } استئنافٌ أو حال من ضمير يقولون وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الأمر } الخ ، اعتراضٌ بين الحال وصاحبِها أي يقولون ما يقولون مُظْهِرين أنهم مسترشِدون طالبون للنصر مُبْطنين الإنكارَ والتكذيبَ ، وقوله تعالى : { يَقُولُونَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : أيَّ شيء يخفون ؟ فقيل : يحدثون أنفسَهم أو يقول بعضُهم لبعض فيما بينهم خُفيةً : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَىْء } كما وعد محمد عليه الصلاة والسلام من أن الغلبةَ لله تعالى ولأوليائه وأن الأمرَ كلَّه لله أو لو كان لنا من التدبير والرأيِّ شيءٌ { مَّا قُتِلْنَا هاهنا } أي ما غُلبنا أو ما قُتل مَنْ قُتل منا في هذه المعركةِ على أن النفيَ راجعٌ إلى نفس القتلِ لا إلا وقوعه فيها فقط ، ولما برحنا من منازلنا كما رآه ابنُ أُبي ويؤيده تعيينُ مكانِ القتلِ وكذا قوله تعالى : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ } أي لو لم تخرُجوا إلى أُحُد وقعدتم بالمدينة كما تقولون { لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل } أي في اللوح المحفوظِ بسبب من الأسباب الداعيةِ إلى البروز { إلى مَضَاجِعِهِمْ } إلى مصارعهم التي قدَّر الله تعالى قتلَهم فيها وقُتلوا هنالك ألبتةَ ولم تنفَعِ العزيمةُ على الإقامة بالمدينة قطعاً ، فإن قضاءَ الله تعالى لا يُرَدّ وحكمُه لا يُعقَّب ، وفيه مبالغةٌ في رد(17/306)
مقالتِهم الباطلةِ حيث لم يُقتَصرْ على تحقيق نفسِ القتلِ كما في قوله عز وجل : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } بل عُيِّن مكانُه أيضاً ، ولا ريب في تعيُّن زمانِه أيضاً لقوله تعالى : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }
رُوي أن ملك الموتِ حضر مجلسَ سليمانَ عليه الصلاة والسلام فنظر إلى رجل من أهل المجلسِ نَظرةً هائلة فلما قام قال الرجلُ : من هذا ؟ فقال سليمانُ عليه السلام : ملكُ الموتِ ، قال : أرسِلْني مع الريح إلى عالم آخَرَ فإني رأيتُ منه مرأىً هائلاً فأمرها عليه السلام فألقتْه في قُطر سحيقٍ من أقطار العالم فما لبث أن عاد ملكُ الموتِ إلى سليمانَ عليه السلام فقال : كنت أُمِرْتُ بقبض روحِ ذلك الرجلِ في هذه الساعةِ في أرض كذا فلما وجدتُه في مجلسك قلت : متى يصِلُ هذا إليها وقد أرسلتَه بالريح إلى ذلك المكانِ فوجدتُه هناك (1)
_______________
(1) نص الحديث عن شهر بن حوشب قال دخل ملك الموت على سليمان ـ عليهما السلام ـ فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم إليه النظر فلما خرج قال الرجل من هذا ؟
قال : هذا ملك الموت ـ عليه السلام ـ قال لقد رأيته ينظر إلي فكأنه يريدني قال فما تريد ؟ قال أريد أن تحملني على الريح فتلقيني بالهند قال فدعا بالريح فحمله عليها فألقته بالهند ثم أتى ملك الموت سليمان ـ عليه السلام ـ فقال : إنك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي قال كنت أعجب منه إني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك. أ هـ {حلية الأولياء حـ 4 صـ 118}(17/307)
فقُضي أمرُ الله عز وجل في زمانه ومكانِه من غير إخلالٍ بشيء من ذلك ، وقرىء كَتَبَ على البناء للفاعل ونصبِ القتلُ ، وقرىء كُتب عليهم القتالُ وقرىء لبُرِّز بالتشديد على البناء للمفعول { وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ } أي ليعاملَكم معاملةَ مَنْ يبتلي ما في صدوركم من الإخلاص والنفاقِ ويُظهرَ ما فيها من السرائر ، وهو علةٌ لفعل مقدرٍ قبلها معطوفةٌ على علل لها أخرى مطويةٍ للإيذان بكثرتها ، كأنه قيل : فعلَ ما فعل لمصالحَ جمةٍ وليبتليَ الخ ، وجعلُها عِللاً لبَرَز يأباه الذوقُ السليمُ فإن مقتضى المقامِ بيانُ حكمةِ ما وقع يومئذ من الشدة والهولِ لا بيانُ حِكمةِ البروزِ المفروضِ ، أو لفعلٍ مقدرٍ بعدها أي وللابتلاء المذكورِ فعلَ ما فعل ، لا لعدم العنايةِ بأمر المؤمنين ونحو ذلك ، وتقديرُ الفعل مقدماً خالٍ عن هذه المزية.
{ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } من مخفيات الأمورِ ويكشِفَها أو يُخلِّصَها من الوساوس { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي السرائر والضمائرِ الخفيةِ التي لا تكاد تفارقُ الصدورَ بل تلازمها وتصاحبُها ، والجملةُ إما اعتراضٌ للتنبيه على أن الله تعالى غنيٌ عن الابتلاء ، وإنما يُبرِز صورةَ الابتلاءِ لتمرين المؤمنين وإظهارِ حالِ المنافقين ، أو حالٌ من متعلَّق الفعلين أي فَعل ما فَعل للابتلاء والتمحيصِ والحال أنه تعالى غنيٌ عنهما مُحيطٌ بخفيات الأمورِ ، وفيه وعدٌ ووعيد. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 101 ـ 102}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
فى نصب أمنةً أربعة أوجه :
الأول : أنها مفعول " أنْزَلَ ".
الثاني : أها حال من " نُعَاساً " لأنها في الأصل - صفةٌ ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبت حالاً.(17/308)
الثالث : أنها مفعولٌ من أجْله ، وهو فاسدٌ ؛ لاختلال شَرْطِهِ - وهو اتحادُ الفاعلِ - فإنّ فاعل " أنْزَلَ " غير فاعلِ الأمَنَةِ.
الرابع : أنه حالٌ من المخاطبين في " عَلَيْكُمْ " وفيه حينئذٍ - تأويلانِ :
إما على حَذْف مضافٍ - أى ذوى أمَنَةٍ - وإما أن يكون " أمَنَةً " جمع آمن ، نحو بار وبَرَرَة ، وكافر وكَفَرَة.
وأما " نُعَاساً " فإن أعْرَبْنا " أمَنَةً " مفعولاً به كان بدلاً ، وهو بدل اشتمالٍ ؛ لأن كُلاًّ من الأمَنَةِ والنُّعَاسِ يشتملُ على الآخر ، أو عطف بيان عند غير الجمهورِ ؛ فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارِفِ ، أو مفعولاً من أجلِهِ ، وهو فاسدٌ ؛ لما تقدم وإن أعربنا " أمَنَةً " حالاً ، كان " نُعَاساً " مفعولاً بـ " أنزَلَ " و" أنْزَلَ " عطف على " فأثَابَكُمْ " وفاعله ضمير اللهِ تَعَالى ، و" أل " في " الْغَمِّ " للعهد ؛ لتقدُّم ذِكْره ورد أبو حيان على الزمخشريِّ كون " أمَنَةً " مفعولاً به بما تقدم ، وفيه نظرٌ ، فإن الزمخشريَّ قال أو مفعولاً له بمعنى نعستم أمنة. فقدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل " أمَنَةً " فكأنه استشعر السؤال ، فلذلك قدرَ عاملاً على أنه قد يُقال : إن الأمَنَةَ من اللهِ تَعَالَى ، بمعنى أنهُ أوقعها بهم ، كأنه قيل : أنزلَ عليكم النعاس ليُؤمِّنَكُمْ به.
و " أمَنَةً " كما يكون مصدراً لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أُوقِع به.
وقرأ لجمهور : أمَنَةً - بفتح الميم - إما مصدراً بمعنى الأمن ، أو جمع آمن ، على ما تقدم تفصيله. والنَّخَعِيُّ وابن محيصن - بسكون الميم وهو مصدرٌ فقط ، والأمْن والأمَنة بمعنًى واحدٍ ، وقيل الأمْنُ يكون مع زوالِ سببِ الخَوفِ ، والأمَنة مع بقاء سببِ الخوفِ.
(17/309)
قوله : { يغشى } قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق ، والباقون بالباء ؛ ردًّا إلى النُّعَاسِ ، وخرَّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة لـ " امَنَةً " ؛ مراعاة لها ، ولا بُدّ من تفصيل ، وهو إن أعربوا " نُعَاساً " بدلاً ، أو عَطْفَ بيانٍ ، أشكل قولهم من وَجْهَيْن :
الأول : أن النُّحاة نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أو عَطْفُ البيانِ ، قدِّمت الصفة ، وأخر غيرها ، وهنا قد قدَّموا البدلَ ، أو عطف البيانِ عليها.
الثاني : أن المعروفَ في لغة العرب أن يُحَدَّث عن البدل ، لا عن المبدَل منه ، تقول : هِنْد حُسْنُها فاتِنٌ ، ولا يجوز فاتنة - إلا قليلاً - فَجَعْلُهم " نُعَاساً " بدلاً من " أمَنَةً " يضعف لهذا.
فإن قيل : قد جاء مراعاة المبدَل منه في قول الشاعر : [ الكامل ]
وَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّرِاةِ كَأَنَّهُ... مَا حَاجِبَيْنهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ
فقال : " مُعَيَّنٌ " ؛ مراعة للهاء في " كأنه " ولم يُرَاعِ البدل - حاجبيه - ومثله قول الآخر : [ الكامل ]
إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّها وَرَواحَهَا... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعضَبِ
فقال : تركت ؛ مراعاة للسيوف ، ولو راعَى البدل لقال : تركا.
فالجوابُ : أنَّ هذا - وإن كان قد قَالَ به بعضُ النحويينَ ؛ مستنداً إلى هذين البيتين - مُؤوَّلٌ بأن " معين " خبر لِـ " حاجبيه " لجريانهما مَجْرَى الشيء الواحدِ في كلام الْعَرَبِ ، وأنَّ نصب " غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا " على الظرف ، لا على البدل. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله : { عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [ البقرة : 102 ].
(17/310)
وإن أعربوا " نُعَاساً " مفعولاً به و" أمَنَةً " حالٌ يلزم الفصل - أيضاً - وفي جوازه نظر ، والأحسنُ - حينئذٍ - أن تكون هذه جملة استئنافية جواباً لسؤال مقدَّر ، كأنه قيل : ما حكم هذه الأمَنَة ؟ فأخبر بقوله : " تغشى ".
ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على " نُعَاساً " وتكون الجملة صفة له ، و" مِنْكُمْ " متعلق بمحذوف ، صفة لِـ " طَائِفَةً ".
قوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } في هذه الواو ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنها واو الحالِ ، وما بعدها في محل نَصْبٍ على الحال ، والعامل فيها " يَغْشَى ".
الثاني : أنها واو الاستئناف ، وهي التي عبر عناه مَكيٌّ بواو الابتداء.
الثالث : أنها بمعنى " إذْ " ذكره مَكي ، وأبو البقاءِ ، وهو ضعيفٌ.
و " طائفة " مبتدأ ، والخبر { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } وجاز الابتداء بالنكرة لأحدِ شيئين : إما للاعتمادِ على واو الحالِ ، وقد عده بعضهم مسوغاً - وإن كان الأكثرُ لم يذكره-.
وأنشدوا : [ الطويل ]
سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا... مُحَيَّاكِ أخْفَى ضَوْءهُ كُلَّ شَارِقِ
وإما لأن الموضعَ تفصيلٌ ؛ فإن المعنى : يغشى طائفةً ، وطائفة لم يغشهم.
فهو كقوله :
إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَولِ
ولو قُرِئ بنصب " طَائِفَة " - على أن تكون المسألةُ من باب الاشتغالِ - لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقلِ ؛ فإنه لم يُحْفظ قراءة ، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } كما تقدم.
الثاني : أنه " يَظُنُّونَ " والجملة قبله صفة لِـ " طَائِفَة ".
(17/311)
الثالث : أنه محذوفٌ ، أي : ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل ، والجملتان صفة لِـ " طَائِفَةٌ " أو يكون " يَظُنُّونَ " حالاً من مفعول " أهَمَّتْهُمْ " أو من " طَائِفَةٌ " لتخصُّصه بالوَصْف ، أو خبراً بعد خبر إن قلنا : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } خر أول. وفيه من الخلاف ما تقدم.
الرابع : أن الخبر { يَقُولُونَ } والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين ، أو خبرين ، أو إحداهما خبر ، والأخْرَى حالٌ.
ويجوز أن يكون { يَقُولُونَ } صفة أو حالاً - أيضاً - إن قلنا : إن الخبرَ هو الجملة التي قبله ، أو قلنا : إن الخبر مُضْمَرٌ.
قوله : { يَظُنُّونَ } له مفعولان ، فقال أبو البقاءِ : { غَيْرَ الحق } المفعولُ الأولُ ، أي أمراً غير الحق ، و" باللهِ " هو المفعول الثاني.
وقال الزمخشريُّ : { غَيْرَ الحق } في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون باللهِ غير الظن الحق الذي يجب أي يُظَنَّ به. و{ ظَنَّ الجاهلية } بدل منه.
ويجوز أن يكون المعنى : يظنون بالله ظن الجاهلية و{ غَيْرَ الحق } تأكيداً لِـ { يَظُنُّونَ } كقولك : هذا القول غير ما يقول.
فعلى ما قال لا يتعدى " ظن " إلى مفعولين ، بل تكون الباء ظرفية ، كقولك : ظننت بزيد ، أي : جعلته مكان ظني ، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قولَ الشاعر : [ الطويل ]
فَقُلْتُ لَهُمْ : ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ
أي قلتُ لهم : اجعلوا ظنكم في الفي مُدَجَّجٍ.
ويحصل في نصب { غَيْرَ الحق } وجهان :
أحدهما : أنه مفعول أول لِـ " يَظُنُّونَ ".
والثاني : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريُّ.
وفي نصب { ظَنَّ الجاهلية } وجهان - أيضاً - : البدل من { غَيْرَ الحق } أو أنه مصدر مؤكِّد لِـ { يَظُنُّونَ }.
(17/312)
و " بالله " إما متعلِّق بمحذوف على جَعله مفعولاً ثانياً ، وإما بفعل الظنِّ - على ما تقدم - وإضافة الظنِّ إلى الجاهلية ، قال الزمخشريُّ : " كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدقٍ ، يريد : الظنَّ المختص بالملة الجاهلية ، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية ".
وقال غيره : المعنى : المدة الجاهلية ، أي : القديمة قبل الإسلامِ ، نحو { حَمِيَّةَ الجاهلية } [ الفتح : 26 ]
قوله : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } " من " - في { مِن شَيْءٍ } - زائدة في المبتدأ ، وفي الخبر وجهانِ :
أحدهما - وهو الأصحُّ- : أنه " لَنَا " فيكون { مِنَ الأمر } في محل نصبٍ على الحالِ من " شَيءٍ " لأنه نعتُ نكرة ، قدم عليها ، فنصب حالاً ، وتعلق بمحذوفٍ.
الثاني : - أجازه أبو البقاء - أن يكون { مِنَ الأمر } هو الخبر ، و" لنا " تبيين ، وبه تتم الفائدةُ كقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ].
وهذا ليس بشيء ؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ ، وإذا كان كذلك فيصير " لَنَا " من جملة أخرى ، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ ، وليس نظيراً لقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } فإن " لَهُ " فيها متعلق بنفس " كُفُواً " لا بمحذوفٍ ، وهو نظيرُ قولكَ : لم يكن أحدٌ قاتلاً لبكرٍ. ف " لبكر " متعلق بنفس الخبر. وهل هنا الاستفهام عن حقيقته ، أم لا ؟ فيه وجهانِ :
أظهرهما : نَعَمْ ، ويعنون بالأمر : النصر والغلبة.
والثاني : أنه بمعنى النفي ، كأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء ، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ.
(17/313)
ولكن يضعف هذا بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } فإن من نَفَى عن نفسه شيئاً لا يجاب بأنه ثبت لغيره ؛ لأنه يُقِرُّ بذلك ، اللهم إلاَّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة ، فكأنَّهم قالوا : ليس لنا من الأمر شيءٌ ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه ، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } لقولهم هذا ، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله : " وطائفة " فإن قوله : { يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم } وكذا { يَقُولُونَ } - الثانية - إما خبر عن " طَائِفَةٌ " أو حال مما قبلها.
وقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } قرأ أبو عمرو " كُلُّهُ " - رفعاً - وفيه وجهان :
الأول : - وهو الأظهر - أنه رفع بالابتداء ، و" لله " خبره والجملة خبر " إنَّ " نحو : إن مال زيد كله عنده.
الثاني : أنه توكيد على المحل ، فإن اسمها - في الأصل - مرفوعٌ بالابتداء ، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي ، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق ، فيكون " للهِ " خبراً لِـ " إنَّ " أيضاً.
وقرأ الباقون بالنصب ، فيكون تأكيداً لاسم " إنَّ " وحَكَى مكي عن الأخفش أنه بدل منه - وليس بواضح - و" للهِ " خبر " إنَّ ".
وقيل على النعت ؛ لأنَّ لفظة " كُلّ " للتأكيد ، فكانت كلفظة " أجمع ".
قوله : { يُخْفُونَ } إما خبر لِـ { طَآئِفَةً } وإما حال مما قبله - كما تقدم - وقوله : { يَقُولُونَ } يحتمل هذينِ الوجهينِ ، ويحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : { يُخْفُونَ } فلا محلَّ له حينئذٍ.
قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ } كقوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } وقد عرف الصحيح من الوجهين.(17/314)
وقوله : " ما قُتِلْنا ههنا " جواب " لَوْ " وجاء على الأفصح ، فإن جوابها إذا كان منفياً بـ " ما " فالأكثر عدم اللام ، وفي الإيجاب بالعكس ، وقد أعرب الزمخشريُّ هذه الجُمَلَ الواقعة بعد قوله : " وطائفة " إعراباً أفْضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال : " فإن قُلتَ : كيف مواقعُ هذه الجُمَلِ الواقعة بعد قوله : " وطائفة ".
قُلْتُ : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } صفة لـ { َطَآئِفَةٌ } و{ يَظُنُّونَ } صفة أخرى ، أو حالٌ ، بمعنى : قد أهمتهم أنفسهم ظَانِّين ، أو استئنافٌ على وجه البيانِ للجملة قبلها و{ يَقُولُونَ } بدلٌ من { يَظُنُّونَ }. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 609 ـ 617}. بتصرف.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال تعالى : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ } : فأهل التحقيق والتوحيد يصلون بعد فتراتهم إلى القول بتَرْكِ أنفسهم ، وغَسلِ أيديهم منهم ، ورفع قلوبهم عنهم فيعيشون بالله لله ، بلا ملاحظة طمع وطلبة ، بل على عقيدة اليأس عن كل شيء. عليه أكّدُوا العهد ، وبدَّلُوا اللحظ ، وتركوا كل نصيب وحظ ، وهذه صفة مَنْ أنزل عليه الأمَنةَ.
فأمَّا الطائفة التي أهمتهم أنفسهم - فبقوا في وحشة نفوسهم ، ومِنْ عاجل عقوبتهم سوءُ عقيدتهم في الطريقة بعد إيمانهم بها ؛ قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ].(17/315)
والإشارة في قوله تعالى : { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ شَىءٍ } لهؤلاء أنهم يتحيَّرون في أمرهم فلا إقبال لهم على الصواب بالحقيقة ، ولا إعراض بالكلية ، يحيلون فترتهم على سوء اختيارهم ، ويضيفون صفوة - لو كانت لقلوبهم - إلى اجتهادهم ، وينسَوْن ربَّهم في الحالين ، فلا يبصرون تقدير الحق سبحانه. قال تعالى :
{ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ } : فَمَنْ عَرَفَ أن المنشئ الله انسلخ عن اختياره وأحواله كانسلاخ الشَّعْرِ عن العجين ، وسَلَّمَ أموره إلى الله بالكلية. وأمارة مَنْ تحقق بذلك أن يستريح من كدِّ تدبيره ، ويعيش في سعة شهود تقديره.
وقوله : { يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } : لم يُخْلِصُوا في عقائدهم ، وأضمروا خلاف ما أظهروا وأعلنوا غير ما ستروا ، وأحالوا الكائنات على أسبابٍ توهموها.
قال تعالى : { قُلْ لَّوْ كُنتُم فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ }.
أخبر أن التقدير لا يُزَاحَم ، والقَدَر لا يُكابَرَ ، وأن الكائناتِ محتومة ، وأن الله غالب على أمره.
وقوله : { وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ } : فأمّا أهل الحقائق فإنه تعالى ينتزع من قلوبهم كل آفةٍ وحجبة ، ويستخلص أسرارهم بالإقبال والزلفة ، فتصبح قلوبهم خالصةً من الشوائب ، صافيةً عن العلائق ، منفردةً للحق ، مجرَّدَةً عن الخلق ، مُحَرَّرة عن الحظِّ والنَّفْس ، ظاهرةً عليها آثارُ الإقبال ، غالباً عليها حُسْنُ التَوَلِّي ، باديةً فيها أنوارُ التجلي. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 278 ـ 279}(17/316)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ }.
قَالَ طَلْحَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ هَزِيمَةِ مَنْ انْهَزَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَعَّدَهُمْ الْمُشْرِكُونَ بِالرُّجُوعِ ، فَكَانَ مَنْ ثَبَتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ الْحُجُفِ مُتَأَهِّبِينَ لِلْقِتَالِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمَنَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، فَنَامُوا دُونَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَرْعَبْهُمْ الْخَوْفُ لِسُوءِ الظَّنِّ ؛ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَنِمْنَا حَتَّى اصْطَفَقَتْ الْحُجُفُ مِنْ النُّعَاسِ ، وَلَمْ يُصِبْ الْمُنَافِقِينَ ذَلِكَ بَلْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَمِعْت وَأَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ مُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ وَنَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ : هَلْ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ؛ وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي الْعَدُوُّ فِيهَا مُطِلٌّ عَلَيْهِمْ.(17/317)
وَقَدْ انْهَزَمَ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَعْوَانِهِمْ وَقَدْ قَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنَامُونَ وَهُمْ مُوَاجِهُونَ الْعَدُوَّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطِيرُ فِيهِ النُّعَاسُ عَمَّنْ شَاهَدَهُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ فَكَيْفَ بِمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ وَالْعَدُوُّ قَدْ أَشَرَعُوا فِيهِمْ الْأَسِنَّةَ وَشَهَرُوا سُيُوفَهُمْ لِقَتْلِهِمْ وَاسْتِيصَالِهِمْ.
وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الدَّلَائِلِ وَأَكْبَرُ الْحِجَجِ فِي صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : وُقُوعُ الْأَمَنَةِ مَعَ اسْتِعْلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ غَيْرِ مَدَدٍ آتَاهُمْ وَلَا نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ وَلَا انْصِرَافِهِمْ عَنْهُمْ وَلَا قِلَّةِ عَدَدِهِمْ ، فَيُنَزِّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ الْأَمَنَةَ ، وَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ خَاصَّةً.
وَالثَّانِي : وُقُوعُ
النُّعَاسِ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي يَطِيرُ فِي مِثْلِهَا النُّعَاسُ عَمَّنْ شَاهَدَهَا بَعْدَ الِانْصِرَافِ وَالرُّجُوعِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمُشَاهَدَةِ وَقَصْدُ الْعَدُوِّ نَحْوَهُمْ لِاسْتِيصَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ.
وَالثَّالِثُ : تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الْأَمَنَةِ وَالنُّعَاسِ دُونَ الْمُنَافِقِينَ ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي غَايَةِ الْهَلَعِ وَالْخَوْفِ وَالْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ ؛ فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الَّذِي لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 328}(17/318)
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان فيه مع ذلك معنى التعليل والتنبيه على أنه غني عن الاختبار ، خبير بدقائق الأسرار أتبعه قوله مستأنفاً لبيان ما هو من ثمرات العلم : {إن الذين تولوا منكم} أي عن القتال ومقارعة الأبطال {يوم التقى الجمعان} أي من المؤمنين والكفار {إنما استزلّهم} أي طلب زللهم عن ذلك المقام العالي {الشيطان} أي عدوهم البعيد من الرحمة المحترق باللعنة {ببعض ما كسبوا} أي من الذنوب التي لا تليق بمن طلب الدنو إلى حضرات القدس ومواطن الأنس من ترك المركز والإقبال على الغنيمة وغير ذلك ، فإن القتال في الجهاد إنما هو بالأعمال ، فمن كان أصبر في أعمال الطاعة كان أجلد على قتال الكفار ، ولم يكن توليهم عن ضعف في نفس الأمر.
ولما كان ذلك مفهماً أن الذين تولوا صاروا من حزب الشيطان فاستحقوا ما استحق ألصق به قوله : {ولقد عفا الله} أي الذي له صفات الكمال {عنهم} لئلا تطير أفئدة المؤمنين منهم ، وختم ذلك ببيان علته مما هو أهله من الغفران والحلم فقال معيداً للاسم الأعظم تنبيهاً على أن الذنب عظيم والخطر بسببه جسيم ، فلولا الاشتمال على جميع صفات الكمال لعوجلوا بأعظم النكال : {إن الله غفور} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً.
ولما كان الغفر قد يكون مع تحمل نفاه بقوله : {حليم} أي حيث لم يعامل المتولين حذر الموت معاملة الذين خرجوا من ديارهم - كما تقدم - حذر الموت ، فقال لهم الله : موتوا. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 170 ـ 171}(17/319)
وقال ابن عاشور :
ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة ، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم ، فلم يتفطّنوا إلى السبب ، والتبس عليهم بالمقارن ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطىء وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح ، وتزكية النفوس ، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين ، وتعظيمه عندهم ، وتنفيرهم من الشيطان ، والأفعاللِ الذميمة ، ومعصية الرسول ، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين.
وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله : { ثم صرفكم عنهم...
} [ آل عمران : 152 ] الآيات.
وضمير { منكم } راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا.
وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 262}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن المراد : أن القوم الذين تولوا يوم أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا الله عنهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 41}
فصل
قال الفخر :
اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى ، فذكر محمد بن إسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين ، وثلثهم انهزموا ، وثلثهم ثبتوا ، واختلفوا في المنهزمين ، فقيل : إن بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، وهو سعد بن عثمان ، ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم ، وجعل النساء يقلن : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون! وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل اغزل به ، ومنهم قال : إن المسلمين لم يعدوا الجبل.(17/320)
قال القفال : والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا ، فمنهم من دخل المدينة ، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب ، وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك.
ومن المنهزمين عمر ، إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد ، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما سعد وعقبة ، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " لقد ذهبتم فيها عريضة " وقالت فاطمة لعلي : ما فعل عثمان ؟ فنقصه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا علي أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا " (1)
وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلا ، سبعة من المهاجرين ، وسبعة من الأنصار ، فمن المهاجرين أبو بكر ، وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيدالله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام ، ومن الأنصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد بن معاذ ، وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين : علي وطلحة والزبير ، وخمسة من الأنصار : أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل ابن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد.
وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السلام غير مودع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 42}
______________
(1) هذا القول فيه نظر ولم أجد له أصلا ومن ثم فلا يعول عليه. والله أعلم.(17/321)
فصل
قال السمرقندى :
حدّثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدّثنا السراج ، قال : حدّثنا قتيبة ، قال : حدّثنا أبو بكر عن غيلان بن جرير ، أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال له عبد الرحمن : أتسبُّني وقد شهدت بدراً ولم تشهدها ؟ وبايعتُ تحت الشجرة ولم تُبَايع ؟ وقد كنت توليت فيمن تولى يوم الجمع أي يوم أحد فردّ عليه عثمان وقال : أما قولك إنك شهدت بدراً ولم أشهدها ، فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة فكنت معها أُمرِّضها ، وضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم في سهام المسلمين.
وأما بيعة الشجرة ، فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم رداً على المشركين بمكة ؛ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه على شماله قال : " هَذِهِ لِعُثْمَانَ " فيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ خير من يميني وشمالي.
وأما يوم الجمع فقال الله تعالى : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } فكنت فيمن عفى الله عنهم.
فخصم عثمان عبد الرحمن بن عوف. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 284}
قال القرطبى :
وهذا المعنى صحيحٌ أيضا عن ابن عمر.
كما في صحيح البخاري قال : حدّثنا عَبْدانَ أَخْبرنَا أبو حمزة عن عثمان بن مَوْهَب قال : جاء رجلٌ حجّ البيت فرأى قوما جلوسا فقال : مَنْ هؤلاء العقود قالوا : هؤلاء قريش.
قال : من الشيخ ؟ قالوا : ابن عمر ؛ فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء أَتُحدُثني ؟ قال : أنْشُدكَ بحُرْمة هذا البيت ، أتعلم أن عثمانَ بنَ عفّان فرَّ يوم أُحُد ؟ قال : نعم.
قال : فتعْلَمهُ تغّيب عن بَدْرٍ فلم يشهدها ؟ قال : نعم.(17/322)
قال : فتعلم أنه تخلّف عن بيعة الرَّضوان فلم يشهدها ؟ قال : نعم.
فكَبّر.
قال ابن عمر : تعالَ لأخبرك ولأبيِّن لك عما سألتني عنه ؛ أمّا فِراره يوم أحَد فأشهد أن الله عفا عنه.
وأما تغيُّبهُ عن بَدْرٍ فإنه كان تحته بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضةً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إن لكَ أجر رجل ممن شَهِد بَدْراً وسهْمَه " وأما تغيُّبهُ عن بيعة الرِّضوان فإنه لو كان أحَدٌ أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه ، فبعث عثمانَ وكانت بيعةُ الرِّضوان بعد ما ذهب عثمانُ إلى مكة ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى : " هذه يد عثمان " فضرب بها على يده فقال : "هذه لعثمان".
اذهب بهذا الآن معك.
قلت : ونظير هذه الآية توبةُ الله على آدم عليه السلام.
وقوله عليه السلام : "فحجّ آدمُ موسى" أي غلبه بالحُجّة.
وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدمَ ولومَه في إخراج نفسه وذرّيتّه من الجنة بسبب أكله من الشجرة ؛ فقال له آدم : "أفتلُومُني على أمر قدّره الله تعالى علي قبل أن أخَلقَ بأربعين سنة تاب علي منه ومن تاب عليه فلا ذنب له ومن لا ذنب له لا يتوجّه عليه لومٌ".
وكذلك من عفا الله عنه.
وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك ، وخبرُه صِدْقٌ.
وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه ، فهم على وَجَل وخوف ألاَّ تُقبل توبتهم ، وإن قُبلت فالخوف أغلبُ عليهم إذ لا عِلْمَ لهم بذلك. فاعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 245}
فصل
قال الفخر :
قوله : {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد {إِنَّمَا استزلهم الشيطان} أي حملهم على الزلة.(17/323)
وأزل واستزل بمعنى واحد ، قال تعالى : {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا } [ البقرة : 36 ] وقال ابن قتيبة : استزلهم طلب زلتهم ، كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 42}
فصل
قال الفخر :
قال الكعبي : الآية تدل على أن المعاصي لا تنسب إلى الله ، فإنه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن موسى : {هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} [ القصص : 15 ] وكقول يوسف.
{من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} [ يوسف : 100 ] وكقول صاحب موسى : {وما أنسانيه إلا الشيطان} [ الكهف : 63 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 42}
فصل
قال الفخر :
إنه تعالى لم يبين أن الشيطان في أي شيء استزلهم ، وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية ، لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع ، بأن يكون رغبتهم في الغنيمة ، وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدو لهم عن الإخلاص ، وأي ذلك كان ، فقد صح أن الله تعالى عفا عنهم.
وروي أن عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد ، فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله عفا عنه ، وقرأ هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 42}
قوله تعالى : {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ}
فصل
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} ففيه وجهان :
أحدهما : أن الباء للإلصاق كقولك : كتبت بالقلم ، وقطعت بالسكين ، والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم ، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه ، (17/324)
الأول : قال الزجاج : أنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم ، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها ، وإلا بعد الإخلاص في التوبة ، فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه.
الثاني : أنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة ، لأن الذنب يجر إلى الذنب ، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة.
ويكون لطفا فيها.
الثالث : لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب.
والوجه الثاني : أن يكون المعنى : استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا ، لا في كل ما كسبوا ، والمراد منه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم ، بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 42 ـ 43}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ }
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذه الآية دلت على أن تلك الزلة ما كانت بسبب الكفر ، فإن العفو عن الكفر لا يجوز لقوله تعالى : {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [ النساء : 48 ] ثم قالت المعتزلة : ذلك الذنب إن كان من الصغائر جاز العفو عنه من غير توبة ، وإن كان من الكبائر لم يجز إلا مع التوبة ، فههنا لا بد من تقدم التوبة منهم ، وإن كان ذلك غير مذكور في الآية ، قال القاضي : والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ويدل عليه وجهان : الأول : أنه لا يكاد في الكبائر يقال إنها زلة ، إنما يقال ذلك في الصغائر.(17/325)
الثاني : أن القوم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق إلى ثباتهم في ذلك المكان حاجة ، فلا جرم انتقلوا عنه وتحولوا لطلب الغنيمة ، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا ، وأما على قول أصحابنا فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز ، فلا حاجة إلى هذه التكلفات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 43}
قال أبو حيان :
قال ابن عطية : والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم " في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرهما " انتهى ولما كان مذهب الزمخشري أن العفو والغفران عن الذنب لا يكون إلا لمن تاب ، وأنَّ الذنب إذا لم يتب منه لا يكون معه العفو ، دسّ مذهبه في هذه الجملة ، فقال : ولقد عفا الله عنهم لتوبتهم واعتذارهم انتهى. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 98 ـ 99}
قوله تعالى : {إنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ}
قال الفخر :
{إنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي غفور لمن تاب وأناب ، حليم لا يعجل بالعقوبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 43}
فائدة
قال أبو حيان :
وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن هؤلاء الذين تولوا يوم أحد ، لأنَّ الله تعالى واسع المغفرة ، واسع الحلم. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 99}
فصل
قال الفخر :
وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر ، لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة أن يعفو عنه ، ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به ، لأن من يظلم إنسانا فإنه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له ، فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر ، ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 43}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :(17/326)
إنما ثُنّي " الْجَمْعَان " -وإن كان اسم جمع- وقد نَصًّ النُّحَاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع إلا شذوذاً- لأنه أريد به النوع ؛ فإن المعنى جَمْع المؤمنين وجَمْع المشركين ، فلما أريد به ذلك ثُنِّي ، كقوله : [ الطويل ]
وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإنْ هُمَا... تَعَاطَى الْقَنَا قَوْماً هُمَا أخَوَانِ
قوله : { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } السين في { استزلهم } للطلب ، والظاهر أن استفعل ها هنا -بمعنى أفْعَل ؛ لأن القصة تدلُّ عليه ، فالمعنى : حَمَلَة على الزلة ، فيكون كـ " اسْتَلَّ " و" أبَلَّ " واستزلَّ بمعنى وَاحِدٍ ، قال تعالى : { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان } [ البقرة : 36 ].
وقال ابن قتيبةَ : { استزلهم } طلب زلَّتَهُمْ ، كما يقال : استعجلته : أي : طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله.
قوله : { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } فيه وجهانِ :
الأول : أن الباء للإلصاق ، كقولك : كتبت بالقَلَم ، وقطعت بالسِّكِّين ، والمعنى : أنه قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطتها قدر الشَّيطان على لستزلالهم ، وعلى هذا التقدير اختلفوا :
فقال الزَّجَّاجُ : إنهم لم يتولَّوْا عناداً ، ولا فراراً من الزَّحْف ، رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكَّرهم الشيطانُ ذنوباً -كانت لهم- فكرهوا البقاء إللا على حالٍ يَرْضَوْنَهَا.
وقيل : لما أذنبوا -بمفارقة المركز ، أو برغبتهم في الغنيمة ، أو بفشلهم عن الجهاد- أزلهم الشيطانُ بهذه المعصيةِ ، وأوقعهم في الهزيمة.
الثاني : أن تكونَ الباء للتبعيض ، والمعنى : أنَّ هذه الزَّلَّةَ وقعت لهم في بعض أعمالهم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 3 ـ 4}. بتصرف يسير.(17/327)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ } الدبر عن المشركين بأحد { مّنكُمْ } أيها المسلمون ، أو إن الذين هربوا منكم إلى المدينة { يَوْمَ التقى الجمعان } وهما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع أبي سفيان.
{ إِنَّمَا استزلهم الشيطان } أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوباً فمنعوا من التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا ، وعلى هذا لا يكون الزلل هو التولي بل الذنوب المفضية إليه ، وجوز أن يكون الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ودعاهم إليه هو التولي نفسه ، وحينئذٍ يراد ببعض ما كسبوا إما الذنوب السابقة ومعنى السببية انجرارها إليه لأن الذنب يجرّ الذنب كما أن الطاعة تجرّ الطاعة ، وإما قبول ما زين لهم الشيطان من الهزيمة وهو المروي عن الحسن ، وإما مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم بالثبات في المركز فجرّهم ذلك إلى الهزيمة ، وإما الذنوب السابقة لا بطريق الانجرار بل لكراهة الجهاد معها فقد قال الزجاج : إن الشيطان ذكرهم خطايا لهم كرهوا لقاء الله تعالى معها فأخروا الجهاد وتولوا حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية ، والتركيب على الوجهين من باب تحقيق الخبر كقوله :
إن التي ضربت بيتاً مهاجرة...
بكوفة الجند غالت ودها غول
وليس من باب أن الصفة علة للخبر كقوله تعالى : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات النعيم } [ لقمان : 8 ] لأن ببعض ما كسبوا يأباه ويحقق التحقيق ، وهو أيضاً من باب الترديد للتعليق كقوله :
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها...
لو مسها حجر مسته سراء(17/328)
لأن إنما استزلهم الخ خبر إن وزيد إن للتوكيد وطول الكلام ، وما لتكفها عن العمل ، وأصل التركيب إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان استزلهم ببعض الخ فهو كقولك : إن الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه ، وذكر بعض للإشارة إلى أن في كسبهم ما هو طاعة لا يوجب الاستزلال ، أو لأن هذه العقوبة ليست بكل ما كسبوا لأن الكل يستدعي زيادة عليها لكنه تعالى منّ بالعفو عن كثير { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ].
{ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ }.(17/329)
أعاد سبحانه ذكر العفو تأكيداً لطمع المذنبين فيه ومنعاً لهم عن اليأس وتحسيناً للظنون بأتم وجه ، وقد يقال : هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر { إنَّ الله غَفُورٌ } للذنوب صغائرها وكبائرها { حَلِيمٌ } لا يعاجل بعقوبة المذنب ، وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين وكانوا أكثر القوم ، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفساً خمسة من المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ، والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين ؛ ومن مشاهير المنهزمين عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وأبو حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة ابنا عثمان من الأنصار من بني زريق ، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الثلاثة الأول ، وعن غيره غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح بأكثر من هؤلاء ، ولعل الاقتصار عليهم لأنهم بالغوا في الفرار ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد ذهبتم بها عريضة ، وأما سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل ، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر ابن جرير خلافاً للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع ، ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا نشترطها في الخلافة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 98 ـ 99}(17/330)
بحث فى معنى العفو والمغفرة في القرآن
قال فى الميزان :
العفو على ما ذكره الراغب وهو المعنى المتحصل من موارد استعمالاته هو القصد لتناول الشئ يقال عفاه واعتفاه أي قصده متناولا ما عنده وعفت الريح الدار قصدتها متناولة آثارها انتهى ، وكأن قولهم عفت الدار إذ بلت مبنى على عناية لطيفة وهى أن الدار كأنها قصدت آثار نفسها وظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين وبهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنه تعالى يعنى بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب ويتركه بلا ذنب.
ومن هنا يظهر أن المغفرة وهو الستر متفرع عليه بحسب الاعتبار فإن الشئ كالذنب مثلا يؤخذ ويتناول أولا ثم يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه ولا عند غيره قال تعالى {واعف عنا واغفر لنا : البقرة - 286}وقال {وكان الله عفوا غفورا : النساء - 99}.
وقد تبين بذلك أن العفو والمغفرة وإن كانا مختلفين متفرعا أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنية لكنهما بحسب المصداق واحد وأن معناهما ليس من المعاني المختصة به تعالى بل يصح إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى {إلا أن يعفون أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح : البقرة - 237} وقال تعالى {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله : الجاثية - 14} وقال تعالى {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} الآية فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعفوا عنهم فلا يرتب الأثر على معصيتهم من المؤاخذة والعتاب والإعراض ونحو ذلك وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم وهو تعالى فاعله لا محالة فيما يرجع إليه من آثار الذنب.(17/331)
وقد تبين أيضا أن معنى العفو والمغفرة يمكن أن يتعلق بالآثار التكوينية والتشريعية والدنيوية والأخروية جميعا قال تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير : الشورى - 30} والآية شاملة للآثار والعواقب الدنيوية قطعا ومثله قوله تعالى {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض : الشورى - 5 } على ظاهر معناه وكذا قول آدم وزوجته فيما حكاه الله عنهما {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين : الاعراف - 23 } بناء على أن ظلمهما كان معصية لنهى إرشادى لا مولوى.
والآيات الكثيرة القرآنية دالة على أن القرب والزلفى من الله والتنعم بنعم الجنة يتوقف على سبق المغفرة الإلهية وإزالة رين الشرك والذنوب بتوبة ونحوها كما قال تعالى {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون : المطففين - 14} وقال تعالى {ومن يؤمن بالله يهد قلبه : التغابن - 11}.
وبالجملة العفو والمغفرة من قبيل إزالة المانع ورفع المنافى المضاد وقد عد الله سبحانه الإيمان والدار الآخرة حياة وآثار الإيمان وأفعال أهل الآخرة وسيرهم الحيوى نورا كما قال {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها : الأنعام - 122 } وقال تعالى {وإن الدار الآخرة لهى الحيوان : العنكبوت - 64 } فالشرك موت والمعاصي ظلمات قال تعالى {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور : النور - 40} فالمغفرة إزالة الموت والظلمة وإنما تكون بحياة وهو الإيمان ونور وهو الرحمة الإلهية.(17/332)
فالكافر لا حياة له ولا نور والمؤمن المغفور له له حياة ونور والمؤمن إذا كان معه سيئات حي لم يتم له نوره وإنما يتم بالمغفرة قال تعالى {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا : التحريم - 8}.
فظهر من جميع ما تقدم أن مصداق العفو والمغفرة إذا نسب إليه تعالى في الأمور التكوينية كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه وفي الأمور التشريعية إزالة السبب المانع عن الإرفاق ونحوه وفي مورد السعادة والشقاوة إزالة المانع عن السعادة. أ هـ {الميزان حـ 4 صـ 51 ـ 53}(17/333)
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان قولهم : إنا لو ثبتنا في المدينة الممثلة بالدرع الحصينة - كما " كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأكابر من أصحابه " لسلمنا ، إلى غير ذلك مما أشار سبحانه وتعالى إليه قولاً موجباً لغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لما فيه من الاتهام وسوء العقيدة ، وكان مع ذلك مظنة لأن يخدع كثيراً من أهل الطاعة لشدة حبهم لمن قتل منهم وتعاظم أسفهم عليهم.
كان أنسب الأشياء المبادرة إلى الوعظ بما يزيل هذا الأثر ، ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيداً بأعظم الثبات لما طبع عليه من الشيم الطاهرة والمحاسن الظاهرة كان الأنسب البداءة بغيره ، فنهى الذين آمنوا عن الانخداع بأقوالهم فقال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا} أي أظهروا الإقرار بالإيمان! صدقوا قولكم بأن {لا تكونوا كالذين كفروا} أي بقلوبهم على وجه الستر {وقالوا} أي ما فضحهم {لإخوانهم} أي لأجل إخوانهم الأعزة عليهم نسباً أو مذهباً {إذا ضربوا} أي سافروا مطلق سفر {في الأرض} أي لمتجر أو غيره {أو كانوا غزّى} أي غزاة مبالغين في الغزو في سبيل الله بسفر أو غيره جمع غازٍ ، فماتوا أو قتلوا {لو كانوا عندنا} أي لم يفارقونا {ما ماتوا وما قتلوا} وهذا في غاية التهكم بهم ، لأن إطلاق هذا القول منهم - لا سيما على هذا التأكيد - يلزم منه ادعاء أنه لا يموت أحد في المدينة ، وهو لا يقوله عاقل(17/334)
ولما كان هذا القول محزناً اعتقاده وكتمانه علق سبحانه وتعالى بقوله : " قالوا " وبانتفاء الكون كالذين قالوا قوله : {ليجعل الله} أي الذي لا كفوء له {ذلك} أي القول أو الانفراد به عن مشارك {حسرة في قلوبهم} أي باعتقاده وعدم المواسي فيه وعلى تقدير التعليق ب " قالوا " يكون من باب التهكم بهم لأنهم لو لم يقولوه لهذا الغرض الذي لا يقصده عاقل لكانوا قد قالوه لا لغرض أصلاً وذلك أعرق في كونه ليس من أفعال العقلاء {والله} أي لا تكونوا مثلهم والحال.
أو قالوا ذلك والحال أن الذي له الإحاطة الكاملة {يحيي} أي من أراد في الوقت الذي يريد {ويميت} أي من أراد إذا أراد لا يغني حذره من قدره {والله} أي المحيط بكل شيء قدره وعلماً {بما تعملون} أي بعملكم وبكل شيء منه {بصير} وعلى كل شيء منه قدير لا يكون شيء منه بغير إذنه ومتى كان على خلاف أمره عاقب عليه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 171 ـ 172}
وقال الفخر :
(17/335)
اعلم أن المنافقين كانوا يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار بقولهم : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، ثم إنه لما ظهر عن بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع وعفا الله بفضله عنهم ، ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم فقال : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يريد الخروج إلى الجهاد : لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم فإن الله هو المحيي والمميت ، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ، ومن قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد ، وهو المراد من قوله : {والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ} وأيضا الذي قتل في الجهاد ، لو أنه ما خرج إلى الجهاد لكان يموت لا محالة ، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم ، كان ذلك خيرا له من أن يموت من غير فائدة ، وهو المراد من قوله : {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} فهذا هو المقصود من الكلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 44}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في المراد بقوله : {كالذين كَفَرُواْ} فقال بعضهم : هو على إطلاقه ، فيدخل فيه كل كافر يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن ، وقال آخرون : إنه مخصوص بالمنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم ، وقال آخرون : هذا مختص بعبدالله بن أبي بن سلول ، ومعتب بن قشير ، وسائر أصحابه ، وعلى هذين القولين فالآية تدل على أن الإيمان ليس عبارة عن الإقرار باللسان ، كما تقول الكرامية إذ لو كان كذلك لكان المنافق مؤمناً ، ولو كان مؤمناً لما سماه الله كافراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 44}(17/336)
وقال الآلوسى :
{ يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ وأصحابه قاله السدي ومجاهد وإنما ذكر في صدر الجملة كفرهم تصريحاً بمباينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيراً عن مماثلتهم وهم هم ، وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان كما يقوله الكرامية وإلا لما سمي المنافق كافراً ، وقيل : المراد بالذين كفروا سائر الكفار على العموم أي لا تكونوا كالكفرة في نفس الأمر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 99}
فصل
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" : قوله : {وَقَالُواْ لإخوانهم} أي لأجل إخراجهم كقوله : {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [ الأحقاف : 11 ] وأقول : تقرير هذا الوجه أنهم لما قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا ميتين ومقتولين عند هذا القول ، فوجب أن يكون المراد من قوله : {وَقَالُواْ لإخوانهم} هو أنهم قالوا ذلك لأجل إخوانهم ، ولا يكون المراد هو أنهم ذكروا هذا القول مع إخوانهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 44}
فصل
قال الفخر :
قوله : {إخوانهم} يحتمل أن يكون المراد منه الأخوة في النسب وإن كانوا مسلمين ، كقوله تعالى : {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [ الأعراف : 65 ] {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا} [ الأعراف : 73 ] فإن الأخوّة في هذه الآيات أخوة النسب لا أخوّة الدين ، فلعل أولئك المقتولين من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين ، فالمنافقون ذكروا هذا الكلام ، ويحتمل أن يكون المراد من هذه الأخوة المشاكلة في الدين ، واتفق إلى أن صار بعض المنافقين مقتولا في بعض الغزوات فالذين بقوا من المنافقين قالوا ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 44}(17/337)
فصل
قال الفخر :
المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد ، وهو المراد بقوله : {إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض} والخارج إلى الغزو ، وهو المراد بقوله : {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو ، وجعلوا ذلك سببا لتنفير الناس عن الجهاد ، وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل ، فإذا قيل للمرء : إن تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش ، وان تقحمت أحدهما وصلت إلى الموت أو القتل ، فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت ، وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 44 ـ 45}
قوله تعالى { إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض }
قال الآلوسى :
{ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض } أي سافروا فيها لتجارة ، أو طلب معاش فماتوا قاله السدي(17/338)
وأصل الضرب إيقاع شيء على شيء ، واستعمل في السير لما فيه من ضرب الأرض بالرجل ، ثم صار حقيقة فيه ، وقيل : أصل الضرب في الأرض الإبعاد في السير وهو ممنوع وخص الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البر ، وقيل : اكتفى بذكر الأرض مراداً بها البر عن ذكر البحر ، وقيل : المراد من الأرض ما يشمل البر والبحر وليس بالبعيد ، وجىء بإذا وحق الكلام إذ كما قالوا لقالوا الدال بهيئته على الزمان المنافي للزمان الدالة عليه { إِذَا } مراعاة لحكاية الحال الماضية ، ومعنى ذلك أن تقدر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك : قالوا ذلك حين يضربون والمعنى حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضاراً لصورة ضربهم في الأرض ، واعترض بوجهين : الأول : أن حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال وهذه صيغة استقبال لأن معنى { إِذَا ضَرَبُواْ } حين يضربون فيما يستقبل ، الثاني : أن قولهم : لو كانوا عندنا إنما هو بعد موتهم فكيف يتقيد بالضرب في الأرض.(17/339)
وأجيب عن الأول : بأن { إِذَا ضَرَبُواْ } في معنى الاستمرار كما في { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ } [ البقرة : 14 ] فيفسد الاستحضار نظراً للحال ، وعن الثاني : بأن { قَالُواْ لإخوانهم } في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى فيكون المعنى لا تكونوا كالذين كفروا ، وإذا ضرب إخوانهم فماتوا أو كانوا غزا فقتلوا قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فالضرب والقتل كلاهما في معنى الاستقبال ، وتقييد القول بالضرب إنما هو باعتبار الجزء الأخير وهو الموت ، والقتل فإنه وإن لم يذكر لفظاً لدلالة ما في القول عليه فهو مراد معنى والمعتبر المقارنة عرفاً كما في قوله تعالى : { فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } [ البقرة : 198 ] وكقولك إذا طلع هلال المحرم : أتيتك في منتصفه.(17/340)
وقال الزجاج : { إِذَا } هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعني أنها لمجرد الوقت أو لقصد الاستمرار والذي يقتضيه النظر الصائب أن لا يجعل { إِذَا ضَرَبُواْ } ظرفاً لقالوا بل ظرف لما يحصل للأخوان حين يقال لأجلهم وفي حقهم ذلك كأنه قيل : قالوا لأجل الأحوال العارضة للأخوان إذا ضربوا بمعنى حين كانوا يضربون قاله العلامة الثاني ، وأنت تعلم أن تجريد { إِذَا } عن معنى الاستقبال وجعلها بمعنى الوقت مطلقاً كاف في توجيه الآية مزيل لإشكالها ، وقصد الاستمرار منها لا يدفع الاعتراض عن ذلك التوجيه لأنها إذا كانت للاستمرار تشمل الماضي فلا تكون لحكاية الحال وكذا إذا كان قالوا جواباً إذ يصير مستقبلاً فلا تتأتى فيه الحكاية المذكورة أيضاً ويرد على ما اقتضاه النظر الصائب أن دون إثبات صحة مثله في العربية خرط القتاد ، وأقعد منه وإن كان بعيداً ما قاله أبو حيان من أنه "يمكن إقرار { إِذَا } على ( ما استقر لها من ) الاستقبال بأن يقدر العامل فيها مضاف مستقبل ( محذوف ) على أن ضمير { لَّوْ كَانُواْ } عائداً على إخوانهم لفظاً ( لا ) معنى على حد عندي درهم ونصفه ، والتقدير وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا أو كانوا غزاً لو كانوا أي إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم عندنا ما ماتوا وما قتلوا فتكون هذه المقالة تثبيطاً لإخوانهم الباقين عن السفر والغزو لئلا يصيبهم ما أصاب الأولين" وإنما لم يحملوا { إِذَا } هنا على الحال كما قيل بحملها عليه بعد القسم نحو { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] لتصفو لهم دعوى حكاية الحال عن الكدر لأن ذلك غير مسلم عند المحققين هناك فقد صححوا فيه بقاءها على الاستقبال من غير محذور ، وجوز في الآية كون قالوا بمعنى يقولون ؛ وقد جاء في كلامهم استعمال الماضي بمعنى المستقبل ومنه قوله : (17/341)
وإني لآتيكم تشكر ما مضى...
من الأمر واستيجاب ما كان في غد
وكذا جوز بقاؤه على معناه وحمل { إِذَا } على الماضي فإنها تجىء له كما جاءت إذ للمستقبل في قول البعض وذلك كقوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] ، وقوله :
وندمان يزيد الكاس طيبا...
سقيت إذا تغورت النجوم
وحينئذٍ لا منافاة بين زماني القيد والمقيد فتدبر ذلك كله. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 99 ـ 100}
سؤال : فإن قيل : فلماذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه ؟
قلنا : لأن الضرب في الأرض يراد به الابعاد في السفر ، لا ما يقرب منه ، وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه ، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وإن كان غازيا ، فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 45}
فصل
قال الفخر :
في الآية إشكال وهو أن قوله : {وَقَالُواْ لإخوانهم} يدل على الماضي ، وقوله : {إِذَا ضَرَبُواْ} يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما ؟ بل لو قال : وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا في الأرض ، أي حين ضربوا لم يكن فيه إشكال.(17/342)
والجواب عنه من وجوه : الأول : أن قوله : {قَالُواْ} تقديره : يقولون فكأنه قيل : لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم كذا وكذا ، وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين : أحدهما : أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل فقد يعبر عنه بأنه حدث أو هو حادث قال تعالى : {أتى أَمْرُ الله} [ النحل : 1 ] وقال : {إِنَّكَ مَيّتٌ} [ الزمر : 30 ] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقل لم يكن فيه مبالغة أما لما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي ، دل ذلك على أن جدهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، وصار بسبب ذلك الجد هذا المستقبل كالكائن الواقع.
الفائدة الثانية : إنه تعالى لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام ، بل المقصود الإخبار عن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة ، فهذا هو الجواب المعتمد عندي ، والله أعلم.
الوجه الثاني في الجواب : أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية ، والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الارض ، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد وان يقول : قالوا ، فهذا هو المراد بقولنا : خرج هذا الكلام على سبيل حكاية الحال الماضية.
(17/343)
الوجه الثالث : قال قطرب : كلمة "إذ" وإذا ، يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى ، وأقول : هذا الذي قاله قطرب كلام حسن ، وذلك لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم ، كان ذلك أولى ، أقصى ما في الباب أن يقال "إذ" حقيقة في المستقبل ، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجاز لما بينه وبين كلمة "إذ" من المشابهة الشديدة ؟ وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به ، وأنا شديد التعجب منهم ، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته ، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 45}
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي : في الآية محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا ، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فقوله : {مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} يدل على موتهم وقتلهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 46}
قوله تعالى : {لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ}
فصل
قال ابن عطية :
وقوله تعالى : { ليجعل الله ذلك } قال مجاهد : معناه يحزنهم قوله ولا ينفعهم.
____________
(1) سيأتى تفصيل هذه المسألة من خلال كلام ابن عادل إن شاء الله.(17/344)
قال القاضي : فالإشارة في ذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ، لأن الذي يتقين أن كل موت وقتل فبأجل سابق ، يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت ، يتحسر ويتلهف ، وعلى هذا التأويل مشى المتأولون ، وهو أظهر ما في الآية ، وقال قوم : الإشارة بذلك إلى انتهاء المؤمنين ومخالفتهم الكافرين في هذا المعتقد ، فيكون خلافهم لهم حسرة في قلوبهم ، وقال قوم : الإشارة بذلك إلى نفس نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد لأنهم إذا رأوا أن الله تعالى قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم ، ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 531 ـ 532}
وقال الفخر :
فيه وجهان :
الأول : أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم ، مثل ما يقال : ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى : {فالتقطه ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [ القصص : 8 ] إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها :(17/345)
الأول : أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم ، لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي ، فذلك الشخص إنما مات أو قتل بسبب أن هذا الإنسان قصر في منعه ، فيعتقد السامع لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله ، ومتى اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه ، أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه ، لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة ، فثبت أن تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة.
الوجه الثاني : أن المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه ، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو ، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الاعداء.
والفوز بالأماني ، بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة.
الوجه الثالث : أن هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات واعلاء الدرجات ، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب.
الوجه الرابع : أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها ، فرحوا بذلك ، من حيث إنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة ، فالله تعالى يقول : إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة.
الوجه الخامس : أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر ، وهو المراد بالحسرة ، كقوله : {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} [ الأنعام : 125 ].
(17/346)
الوجه السادس : أنهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم.
والقول الثاني في تفسير الآية : أن اللام في قوله : {لِيَجْعَلَ الله} متعلقة بما دل عليه النهي ، والتقدير : لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 46}
لطيفة
قال الآلوسى :
وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها لإرادة التمكن والإيذان بعدم الزوال. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 102}
قوله تعالى : {والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ}
فصل
قال الفخر :
فيه وجهان :
الأول : أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة ، وتقريره أن المحيي والمميت هو الله ، ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ، وأن علم الله لا يتغير ، وأن حكمه لا ينقلب ، وأن قضاءه لا يتبدل ، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت ؟
فإن قيل : إن كان القول بأن قضاء الله لا يتبدل يمنع من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت ، فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في الاحتراز عن عقاب الآخرة ، وهذا يمنع من لزوم التكليف ، والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف ، وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلا.
الجواب : أن حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة ، بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.(17/347)
والوجه الثاني : في تأويل الآية : أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين ، قال : {والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ} يريد : يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ، ويميت قلوب أعدائه من المنافقين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 47}
وقال الطبرى :
يعني جل ثناؤه بقوله : (والله يحيي ويميت) والله المعجِّل الموتَ لمن يشاء من حيث يشاء ، والمميت من يشاء كلما شاء ، دون غيره من سائر خلقه.
وهذا من الله عز وجل ترغيبٌ لعباده المؤمنين على جهاد عدوه والصبر على قتالهم ، وإخراج هيبتهم من صدورهم ، وإن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله وإعلامٌ منه لهم أن الإماتة والإحياء بيده ، وأنه لن يموت أحدٌ ولا يقتل إلا بعد فناء أجله الذي كتب له ونهيٌ منه لهم ، إذ كان كذلك ، أن يجزعوا لموت من مات منهم أو قتل من قتل منهم في حرب المشركين. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 336}
وقال الآلوسى :
{ والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ } ردّ لقولهم الباطل إثر بيان غائلته أي والله هو المؤثر الحقيقي في الحياة والممات وحده لا الإقامة أو السفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما موارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم ، وليس المراد أنه تعالى يوجد الحياة والممات وإن كان هو الظاهر لأن الكلام ليس فيه ولا يحصل به الرد وإنما الكلام في إحداث ما يؤثرهما ، وقيل : المراد أنه تعالى يحيي ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل ولا مؤخر لما قدم ولا مقدم لما أخر ، ولا راد لما قضى ولا محيص عما قدر ، وفيه منع المؤمنين عن التخلف في الجهاد لخشية القتل والواو للحال فلا يرد أنه لا يصح عطف الإخبار على الإنشاء. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 102}(17/348)
قوله تعالى : {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قال الفخر :
المقصود منه الترغيب والترهيب فيما تقدم ذكره من طريقة المؤمنين وطريقة المنافقين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 47}
وقال الآلوسى :
{ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية أو تهديد للمؤمنين على أن يماثلوا الكفار لأن رؤية الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازاة على المرئي كالمعلوم ، والمؤمنون وإن لم يماثلوهم فيما ذكر لكن ندمهم على الخروج من المدينة يقتضيه ، وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة غير عاصم يعملون بالياء ، وضمير الجمع حينئذٍ للكفار ، والعمل عام متناول للقول المذكور ولمنشئه الذي هو الاعتقاد الفاسد ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع ؛ وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة وكذا تقديم الظرف. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 102}
سؤال : فإن قيل : الصادر منهم كان قولاً مسموعاً ، لا فعلاً مَرْئِيًّا ، فلِمَ علَّقه بالبصر دون السمع ؟
فالجوابُ : قال الراغبُ : لما كان ذلك القول من الكفار قصداً منهم إلى عمل يحاولونه ، خص البصر بذلك ، كقولك -لمن يقول شيئاً ، وهو يقصد فعلاً يحاوله- : أنا أرى ما تفعله. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 12}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { إِذَا ضَرَبُواْ } " إذا " ظرف مستقبل ، فلذلك اضطربت أقوالُ المعربين -هنا- من حيثُ إن العامل فيها { قَالُواْ } -وهو ماضٍ- فقال الزمخشريُّ : " فإن قُلْتَ : كيف قيل : { إِذَا ضَرَبُواْ } مع " قالوا " ؟ قلت : هو حكاية حال ماضية ، كقولك : حين يضربون في الأرض ".(17/349)
وقال أبو البقاء بعد قول قريب من قول الزمخشريِّ : " ويجوز أن يكون { كَفَرُواْ } و{ قَالُواْ } ماضيين ، يُراد بهما المستقبل المحكي به الحال فعلى هذا يكون التقدير : يكفرون ، ويقولون لإخوانهم ". انتهى.
ففي كلا الوجهين حكاية حال ، لكن في الأول حكاية حال ماضية ، وفي الثاني مستقبلة ، وهو -من هذه الحيثية- كقوله تعالى : { حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ البقرة : 214 ]. ويجوز أن يراد بها الاستقبال ، لا على سبيل الحكاية ، بل لوقوعه صلة لموصول ، وقد نصَّ بعضهم على أن الماضي -إذا وقع صلة لموصول- صلح للاستقبال ، كقوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 34 ]. وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ ، وقال : " دخلت " إذا " وهي حرفُ استقبالٍ -من حيثُ " الذين " اسم فيه إبهام ، يعم مَنْ قال في الماضي ، ومَنْ يقول في الاستقبال ، ومن حيثُ هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان " يعني : فتكون حكاية حالٍ مستقبلة.
قال ابن الخَطِيبِ : إنما عَبَّرَ عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين :
إحداهما : أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل ، قد يُعَبَّر عنه بأنه حَدَث ، أو هو حادث ، قال تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وقال : { إِنَّكَ مَيِّتٌ } [ الزمر : 30 ] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه ذلك المعنى ، فلما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي ، دلَّ على أن جِدَّهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، فصار بسبب ذلك الجد ، هذا المستقبل كالواقع.
الثانية : أنه -تعالى- لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ، دلَّ ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام ، بل المقصود الإخبار عن جِدِّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشُّبْهَةِ ".
(17/350)
وقدَّر أبو حيّان : مضافاً محذوفاً وهو عامل في " إذا " تقديره : وقالوا لهلاك إخوانهم ، أي : مخافة أن يهلك إخوانهم إذا سافروا ، أو غَزَوْا ، فقدَّر العامل مصدراً مُنْحَلاًّ لِـ " أن " والمضارع ، حتى يكون مستقبلاً ، قال : لكن يكون الضمير في قوله : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا } عائداً على { لإِخْوَانِهِمْ } لفظاً ، وعلى غيرهم معنى -أي : يعود على إخوان آخرين ، وهم الذين تَقَدَّمَ موتُهم بسبب سفرٍ ، أو غزو ، وقَصْدُهُمْ بذلك تثبيطُ الباقين- وهو مثل قوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [ فاطر : 11 ] وقول العربِ : عندي درهم ونِصْفُه.
وقول الشاعرِ : [ البسيط ]
قَالَتْ : ألاَ لَيْتَما هَذَا الحَمَامُ لَنَا... إلَى حَمَامَتِنَا ، أو نِصْفُهُ فَقَدِ
المعنى : من معمر آخر ، ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخرَ.
وقال قُطربٌ : كلمة " إذْ " و" إذا " يجوز إقامة كل واحد منهما مُقَامَ الأخْرَى ، فيكون " إذا " هنا بمعنى " إذْ ".
قال بعضهم : وهذا ليس بشيء.
قال ابن الخَطِيبِ : " أقول : هذا -الذي قاله قُطْرُبٌ- كلامٌ حسنٌ ، وذلك لأنا جوَّزْنا إثبات اللغة بشعرٍ مجهولٍ ، فنقول عن قائل مجهول ، فلأنْ يُجَوَّزَ إثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك أولى ، أقصى ما في الباب أن يقال : " إذا " حقيقة في المستقبل ، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجازِ ، لما بينه وبين كلمة " إذْ " من المشابهة الشديدة ، وكثيراً أرى النحويين يتحيَّرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهولٍ فَرِحوا به ، وأنا شديدُ التعجُّب منهم ؛ فإنهم إذا جعلوا ورودَ القرآنِ به دليلاً على صحته كان أولى ".(17/351)
قوله : { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } -بالتشديد- جمع غازٍ -كالرُّكَّع والسُّجَّد- جمع راكع وساجد- وقياسه : غُزَاة كرام ورُمَاة- ولكنهم جملوا المعتل على الصحيح ، في نحو ضارب وضُرَّب ، وصائم وصُوَّم.
وقال الزَّهريُّ والحسنُ " غُزًى " -بالتخفيف- وفيها وجهانِ :
الأول : أنه خفف الزاي ، كراهية التثقيل في الجمع.
الثاني : أن أصله : غُزاة -كقُضاة ورُماة- ولكنه حذف تاء التأنيث ؛ لأن نفس الصيغة دالَةٌ على الجمع فالتاء مُستغنًى عنها.
قال ابنُ عَطِيَّةَ : " وهذا الحذفُ كثيرٌ في كلامهم.
ومنه قول الشاعر يمدح الكسائِي : [ الطويل ]
أبَى الذَّمَّ أخْلاَقُ الْكِسَائِيِّ ، وَانْتَحَى... بِهِ المَجْدُ أخْلاَقَ الأبُوِّ السَّوابِقِ
يريد : الأبُوَّة -جمع أب- كما أن العمومة جمع عم ، والبُنُوَّة جمع ابن وقد قالوا : ابن ، وبنو ".
ورد عليه أبو حيّان بأن الحذف ليس بكثير ، وأن قوله : حذف التاء من عمومة ، ليس كذلك ، بل الأصل : عموم -من غير تاء- ثم أدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع ، فما جاء على " فعول " -من غير تاء- هو الأصل ، نحو : عموم وفحول ، وما جاء فيه التاء ، فهو الذي يحتاج إلى تأويله بالجمع ، والجمع لم يُبْنَ على هذه التاء ، حتى يُدَّعَى حَذْفُها ، وهذا بخلاف قُضَاة وبابه ؛ فإنه بني عليها ، فيمكن ادعاء الحذف فيه ، وأما أبوة وبُنوة فليسا جَمْعَيْن ، بل مصدرين ، وأما أبُوّ -في البيت- فهو شاذّ عند النحاة من جهة أنه من حقِّهِ أن يُعلَّه ، فيقول : " أبَيّ " بقلب الواوين ياءين ، نحو : عُصِيّ ، ويقال غُزَّاء بالمد أيضاً ، وهو شاذ.
فتحصَّل في غازٍ ثلاثة جموع في التكسير : غُزَاة كقُضاة ، وغُزًى كصوَّم ، وغُزَّاء كصُوَّام ، وجمع رابع ، وهو جمع سلامة ، والجملة كلُّها في محل نصب بالقول.
(17/352)
قال القرطبيُّ : " والمغزية : المرأة التي غزا زوجها ، وأتانٌ مُغْزِية : متأخِّرةُ النِّتَاجِ ، ثم تنتج وأغْزَت الناقة إذا عسر لِقَاحُها ، والغَزْو : قصد الشيء ، والمَغْزَى : المَقْصِد ، ويقال : -في النسب إلى الغزو : غَزَوِيّ ".
قوله : { لِيَجْعَلَ الله } في هذه اللام قولان :
قيل : إنها لام " كَيْ ".
وقيل : إنها لام العاقبة والصيرورة ، فعلى القول الأول في تعلُّق هذه اللام وجهانِ :
فقيل : التقدير : أوقع ذلك -أي : القول ، أو المعتقد- ليجعله حَسْرَةً ، أو ندمَهم ، كذا قدره أبو البقاء وأجاز الزمخشريُّ أن تتعلق بجملة النفي ، وذلك على معنيين- باعتبار ما يراد باسم الإشارة.
أما الاعتبار الأول ، فإنه قال : " يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله اللهُ حَسْرةً في قلوبكم خاصَّةً ، ويصون منها قلوبكم " ، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد.
وأما الاعتبار الثاني فإنه قال : " ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلَّ عليه النَّهْيُّ ، أي : لا تكونوا مثلهم ؛ ليجعلَ اللهُ انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمُّهم ويغيظهم ".
وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو ، فقال -بعد ما حكى عنه المعنى الأول : - " وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ؛ لأن جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي ، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي ، وهو انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون ، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم توافقهم فيما قالوه واعتقدوه ، لا تضربوا في الأرض ولا تغزو ، فالتبسَ على الزمخشريِّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفَهْم هذا فيه خفاءٌ ودقةٌ ".
(17/353)
قال شهاب الدين : ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم ، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه ؟
وقال أبو حَيَّانَ -أيضاً- : " وقال ابنُ عِيسَى وغيره ، اللامُ متعلِّقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ، ليجعل الله ذلك حَسْرَةً في قلوبهم دونكم ، ومنه اخذ الزمخشريُّ قوله ، لكن ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص ، وقد بينَّا فساد هذا القول ".
وقوله : وذاك لم ينص ، بل قد نَصَّ ، فإنه قال : فإن قُلْتَ : ما متعلق { لِيَجْعَلَ } ؟ قلت : { َقَالُواْ } أو { لاَ تَكُونُواْ }. وأيُّ نَصٍّ أظهرُ من هذا ؟ ولا يجوز تعلق اللام -ومعناها التعليل- بـ { قَالُواْ } لفساد المعنى ؛ لأنهم لم يقولوه لذلك ، بل لتثبيط المؤمنين عن الجهاد.
وعلى القول الثاني -أعني : كونها للعاقبة تتعلق بـ { قَالُواْ } والمعنى : أنهم قالوا ذلك لغرض من أغراضهم ، فكان عاقبة قولهم ، ومصيره إلى الحسرة ، والندامة ، كقوله تعالى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] وهم لم يلتقطوه لذلك ، ولكن كان مآله لذلك. ولكن كونها للصيرورة لم يعرفه أكثر النحويين ، وإنما هو شيءُ ينسبونه للأخفش ، وما ورد من ذلك يؤولونه على العكس من الكلام ، نحو : { فَبَشِّرْهُم } [ آل عمران : 21 ] وهذا رأي الزمخشري ؛ فإنه شبه هذه اللام باللام في { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ومذهبه في تلك أنها للعلة -بالتأويل المذكور والجَعْلُ -هنا- بمعنى التَّصْييرِ.
قوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " يعملون " بالغيبة ؛ رَدَّا على { الذين كَفَرُواْ } والباقون بالخطاب ؛ ردَّا على قوله : و{ لاَ تَكُونُواْ } وهو خطابٌ للمؤمنينَ.
أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 6 ـ 12}. بتصرف يسير.
(17/354)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}
مَنْ تعوَّد أن يتلهف على ماضيه وسالفه ، أو يتدبر في مستقبله وآنِفِه ، فأقلُّ عقوبة له ضيق قلبه في تفرقة الهموم ، وامتحاء نعت الحياة عن قلبه لغفلته وقالته ليت كذا ولعلَّ كذا ، وثمرةُ الفكرة في ليت ولعلَّ - الوحشةُ والحسرةُ وضيق القلبِ والتفرقة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 289}(17/355)
قوله تعالى : {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}
مناسبة الآيتين لما قبلهما
قال البقاعى :
ولما نهاهم عن قول المنافقين الدائر على تمني المحال من دوام البقاء وكراهة الموت بيّن لهم ثمرة فوات أنفسهم في الجهاد بالموت أو القتل ليكون ذلك مبعداً لهم مما قال المنافقون موجباً لتسليم الأمر للخالق بل محبباً فيه وداعياً إليه فقال : {ولئن} وهو حال أخرى من لا " تكونوا " {قتلتم} أي من أية قاتل كان {في سبيل الله} أي الملك الأعظم قتلاً {او متم} أي فيه موتاً على أية حالة كانت.
ولما كان للنفوس غاية الجموح عن الموت زاد في التأكيد فقال : {لمغفرة} أي لذنوبكم تنالكم فهذا تعبد بالخوف من العقاب {من الله} أي الذي له نهاية الكمال بما كنتم عليه من طاعة {ورحمة} أي لأجل ذلك وهو تعبد لطلب الثواب {خير مما يجمعون} أي مما هو ثمرة البقاء في الدنيا عند أهل الشقاء مع أنه ما فاتكم شيء من أعماركم.
ولما ذكر أشرف الموت بادئاً بأشرفه ذكر ما دونه بادئاً بأدناه فقال : {ولئن متم أو قتلتم} أي في أي وجه كان على حسب ما قدر عليكم في الأزل {لإلى الله} أي الذي هو متوفيكم لا غيره ، وهو ذو الجلال والإكرام الذي ينبغي أن يعبد لذاته.
ودل على عظمته بعد الدلالة بالاسم الأعظم بالبناء للمجهول فقال : {تحشرون} فإن كان ذلك الموت أو القتل على طاعته أثابكم وإلا عاقبكم ، والحاصل أنه لا حيلة في دفع الموت على حالة من الحالات : قتل أو غيره ، ولا في الحشر إليه سبحانه وتعالى ، وأما الخلاص من هول ذلك اليوم ففيه حيلة بالطاعة.
والله سبحانه وتعالى الموفق.(17/356)
وما أحسن ما قال عنترة في نحوه وهو جاهلي ، فالمؤمن أولى منه بمثل ذلك :
بكرت تخوفني الحتوف كأنني . . .
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل . . .
لا بد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي . . .
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 172 ـ 173}
وقال أبو السعود :
{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ } شروعٌ في تحقيق أن ما يحذرون ترتُّبَه على الغزو والسفر من القتل والموتِ في سبيل الله تعالى ليس مما ينبغي أن يُحذر ، بل مما يجب أن يتنافسَ فيه المتنافسون إثرَ إبطالِ ترتُّبِه عليهما. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 104}
فصل
قال الفخر :
قوله تعالى : {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين ، وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للإنسان من أن يقتل أو يموت ، فإذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه ، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الإنسان بها بعد الموت ألبتة ، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة ، وذلك لأن الإنسان إذا توجه إلى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة ، فإذا مات فكأنه تخلص عن العدو ووصل إلى المحبوب ، وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصاً على جمع الدنيا ، فإذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة ، ولا شك في كمال سعادة الأول ، وكمال شقاوة الثاني. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 47}(17/357)
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي رحمه الله : اللام في قوله : {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} لام القسم ، بتقدير الله لئن قتلتم في سبيل الله ، واللام في قوله : {لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ} جواب القسم ، ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء ، والأصوب عندي أن يقال : هذه اللام للتأكيد ، فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم ، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا ، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل : إن الموت والقتل غير لازم الحصول ، ثم بتقدير أن يكون لازماً فإنه يستعقب لزوم المغفرة ، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه ؟. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 48}
قال أبو السعود :
واللام في قوله تعالى : { لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ } لامُ الابتداء ، والتنوينُ في الموضعين للتقليل ، ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً للمبتدأ ، وقد حُذفت صفةُ رحمةٌ لدِلالة المذكورِ عليها ، والجملةُ جوابٌ للقسم سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرطِ والمعنى أن السفرَ والغزوَ ليس مما يجلُب الموتَ ويقدّم الأجلَ أصلاً ولئن وقع ذلك بأمر الله تعالى لنفحةٌ يسيرةٌ من مغفرة ورحمةً كائنتين من الله تعالى بمقابلة ذلك { خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } أي الكفرةُ من منافعِ الدنيا وطيّباتها مدةَ أعمارِهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما خيرٌ من طِلاع الأرضِ ذَهَبةً حمراءَ. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 104}(17/358)
فصل
قال الطبرى فى معنى الآية :
يخاطب جل ثناؤه عباده المؤمنين ، يقول لهم : لا تكونوا ، أيها المؤمنون ، في شك من أن الأمور كلها بيد الله ، وأن إليه الإحياء والإماتة ، كما شك المنافقون في ذلك ، ولكن جاهدوا في سبيل الله وقاتِلوا أعداء الله ، على يقين منكم بأنه لا يقتل في حرب ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته. ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمةَ ، وأخبرهم أن موتًا في سبيل الله وقتلا في الله ، خير لهم مما يجمعون في الدنيا من حُطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله ، ويتأخرون عن لقاء العدو. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 337}
فصل
قال الفخر :
قرأ حفص عن عاصم ( يجمعون ) بالياء على سبيل الغيبة ، والباقون بالتاء على وجه الخطاب ، أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني ، وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 48}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :(17/359)
ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال مغفرة من الله ورحمة خيراً له مما يجمعه من حطام الدنيا وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بين فيها أن الله اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشيء واشترى منه مالاً قليلاً فانياً بملك لا ينفد ولا ينقضي أبداً وهي قوله : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } [ التوبة : 111 ] وقال تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } [ الإنسان : 20 ] وبين في آية أخرى أن فضل الله ورحمته خير مما يجمعه أهل الدنيا من حطامها وزاد فيها الأمر بالفرح بفضل الله ورحمته دون حطام الدنيا وهي قوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون } [ يونس : 58 ] وتقديم المعمول يؤذن بالحصر أعني قوله : { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أي : دون غيره فلا يفرحوا بحطام الدنيا الذي يجمعونه.
وقال تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون } [ الزخرف : 32 ]. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 252}
فصل
قال الفخر :
إنما قلنا : إن رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه :(17/360)
أحدها : أن من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال ، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فإنه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده ، وقد قال : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [ الزلزلة : 7 ]
وثانيها : هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد ، فكم من انسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا ، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله : {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ} [ الكهف : 46 ] ولقوله : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [ النحل : 96 ]
وثالثها : بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد ، لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما ، ومنافع الآخرة ليست كذلك.
ورابعها : بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال ، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار ، وذلك مما لا يخفى ، وأما منافع الآخرة فليست كذلك.
وخامسها : هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر ، بل تنقطع وتفنى ، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل ، كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم ، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال.
وسادسها : أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية ، والحسية خسيسة ، والعقلية شريفة ، أترى أن انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند إشراقها بالأنوار الإلهية ، فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لانهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى : {لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 48}(17/361)
من فوائد ابن عطية فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}
اللام في قوله تعالى : { ولئن قتلتم } هي المؤذنة بمجيء القسم ، واللام في قوله : { لمغفرة } هي المتلقية للقسم ، والتقدير : والله لمغفرة ، وترتب الموت قبل القتل في قوله { ما ماتوا وما قتلوا } [ آل عمران : 156 ] مراعاة لرتبة الضرب في الأرض والغزو فقدم الموت الذي هو بإزاء المتقدم الذكر وهو الضرب ، وقدم القتل في قوله تعالى : { ولئن قتلتم } لأنه ابتداء إخبار ، فقدم الأشرف الأهم ، والمعنى : أو متم في سبيل الله ، فوقع أجركم على الله ، ثم قدم الموت في قوله تعالى : { ولئن متم أو قتلتم } لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر ، وآية تزهيد في الدنيا والحياة ، والموت المذكور فيها هو موت على الإطلاق في السبيل وفي المنزل وكيف كان ، فقدم لعمومه وأنه الأغلب في الناس من القتل ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي " مِتم " بكسر الميم و" متنا " و" مت " بالكسر في جميع القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : بضم الميم في جميع القرآن ، وروى أبو بكر عن عاصم ضم الميم في جميع القرآن ، وروى عنه حفص ضم الميم في هذين الموضعين " أو مُتم ولئن مُتم " فقط ، وكسر الميم حيث ما وقعت في جميع القرآن ، قال أبو علي : ضم الميم هو الأشهر والأقيس ، مت تموت مثل : قلت تقول وطفت تطوف ، والكسر شاذ في القياس وإن كان قد استعمل كثيراً ، وليس كما شذ قياساً واستعمالاً كشذوذ اليجدع ونحوه ، ونظير مت تموت بكسر الميم فضل بكسر الضاد يفضل في الصحيح وأنشدوا :
ذكرت ابن عباس بباب ابن عامر... وما مر من عمري ذكرت وما فضل(17/362)
وقوله تعالى : { لمغفرة } رفع بالابتداء { ورحمة } ، عطف على المغفرة و{ خير } خبر الابتداء ، والمعنى : المغفرة والرحمة اللاحقة عن القتل أو الموت في سبيل الله خير ، فجاء لفظ المغفرة غير معرف إشارة بليغة إلى أن أيسر جزء منها خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز العبد المؤمن ، وتحتمل الآية أن يكون قوله { لمغفرة } إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله ، سمى ذلك مغفرة ورحمة إذ هما مقترنان به ويجيء التقدير : لذلك مغفرة ورحمة وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر ، وقوله { خير } صفة لخبر الابتداء ، وقرأ جمهور الناس " تجمعون " بالتاء على المخاطبة وهي أشكل بالكلام ، وقرأ قوم منهم عاصم فيما روى عن حفص " يجمعون " بالياء ، والمعنى مما يجمعه المنافقون وغيرهم. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 532 ـ 533}
سؤال : فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون ، ولا خير فيما تجمعون أصلا ؟.
قلنا : إن الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا ، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات ، فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 48}
قوله تعالى {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ }
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر إلى مغفرة الله ، وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم ههنا بالحشر إلى الله ، (17/363)
يروى أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ، ورأى عليهم آثار العبادة ، فقال ماذا تطلبون ؟ فقالوا : نخشى عذاب الله ، فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه ، ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم ، فقالوا : نطلب الجنة والرحمة ، فقال : هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر ، فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ، ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة ، فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون (1) ، فانظر في ترتيب هذه الآيات فإنه قال في الآية الأولى : {لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله} وهو إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه ، ثم قال {وَرَحْمَةً} وهو إشارة إلى من يعبده لطلب ثوابه ، ثم قال في خاتمة الآية : {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وهو إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية ، وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة ، ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال : {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [ الأنبياء : 19 ] وقال للمقربين من أهل الثواب : {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [ القمر : 55 ] فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه ، واستئناسهم بكرمه ، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته ، وهذا مقام فيه إطناب ، والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه.
____________
(1) هذه الرواية تفتقر إلى سند.(17/364)
ولنرجع إلى التفسير : كأنه قيل إن تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة ، ثم تتركونها لا محالة ، فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم ، أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها ، وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله ، ووقوفكم على عتبة رحمة الله ، وتلذذكم بذكر الله ، فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 48 ـ 49}
وقال ابن عطية :
ذكر تعالى الحشر إليه ، وأنه غاية لكل أحد قتل أو مات ، وفي الآية تحقير لأمر الدنيا وحض على طلب الشهادة ، أي إذا كان الحشر في كلا الأمرين فالمضي إليه في حال الشهادة أولى. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 533}
فائدة
قال أبو حيان :
وقدّم الموت هنا على القتل لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر ، وتزهيد في الدنيا والحياة ، والموت فيها مطلق لم يقيد بشيء.
فإما أنْ يكونَ الخطاب مختصاً بمن خوطب قبلُ أو عاماً واندرج أولئك فيه ، فقدِّم لعمومه ، ولأنه أغلب في الناس من القتل ، فهذه ثلاثة مواضع.
ما ماتوا وما قتلوا : فقدم الموت على القتل لمناسبة ما قبله من قوله : { إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزاً } وتقدّم القتل على الموت بعد ، لأنه محل تحريض على الجهاد ، فقدم الأهم والأشرف.
وقدم الموت هنا لأنه الأغلب ، ولم يؤكد الفعل الواقع جواباً للقسم المحذوف لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور.
ولو تأخر لكان : لتحشرن إليه كقوله : ليقولن ما يحبسه.
وسواء كان الفصل بمعمول الفعل كهذا ، أو بسوف.
كقوله : { فلسوف تعلمون } أو بقد كقول الشاعر :
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه . . .
وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي(17/365)
قال أبو علي : الأصل دخول النون فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات ، فبدخول لام اليمين على الفضلة وقع الفصل ، فلم يحتج إلى النون.
وبدخولها على سوف وقع الفرق ، فلم يحتج إلى النون ، لأن لام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً ، أمّا إذا كان مستقبلاً فلا. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 103}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن في قوله : {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} دقائق :
أحدها : أنه لم يقل : تحشرون إلى الله بل قال : {لإلى الله تحشرون} ، وهذا يفيد الحصر ، معناه إلى الله يحشر العالمون لا إلى غيره ، وهذا يدل على أنه لا حاكم في ذلك اليوم ولا ضار ولا نافع إلا هو ، قال تعالى : {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [ غافر : 16 ] وقال تعالى : {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [ الإنفطار : 19 ]
وثانيها : أنه ذكر من أسماء الله هذا الاسم ، وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال على كمال الرحمة وكمال القهر ، فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد ، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد.
وثالثها : إدخال لام التأكيد في اسم الله حيث قال : {لإِلَى الله} وهذا ينبهك على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر والنشر ، كما قال : {إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [ طه : 15 ]
ورابعها : أن قوله : {تُحْشَرُونَ} فعل ما لم يسم فاعله ، مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله ، وإنما لم يقع التصريح به لأنه تعالى هو العظيم الكبير الذي ، شهدت العقول بأنه هو الله الذي يبدىء ويعيد ، ومنه الانشاء والإعادة ، فترك التصريح في مثل هذا الموضع أدل على العظمة ، ونظيره قوله تعالى : {وَقِيلَ يا أرض ابلعى مَاءكِ} [ هود : 44 ](17/366)
وخامسها : أنه أضاف حشرهم إلى غيرهم ، وذلك ينبه العقل على أن جميع الخلق مضطرون في قبضة القدرة ونفاذ المشيئة ، فهم سواء كانوا أحياء أم أمواتا لا يخرجون عن قهر الربوبية وكبرياء الإلهية.
وسادسها : أن قوله : {تُحْشَرُونَ} خطاب مع الكل ، فهو يدل على أن جميع العالمين يحشرون ويوقفون في عرصة القيامة وبساط العدل ، فيجتمع المظلوم مع الظالم ، والمقتول مع القاتل ، والحق سبحانه وتعالى يحكم بين عبيده بالعدل المبرأ عن الجور ، كما قال : {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [ الأنبياء : 47 ] فمن تأمل في قوله تعالى : {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وساعده التوفيق علم أن هذه الفوائد التي ذكرناها كالقطرة من بحار الأسرار المودعة في هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 49}
لطيفة
قال الخازن :
وقد قسم بعض مقامات العبودية ثلاثة أقسام فمن عبد الله خوفاً من ناره أمنه الله مما يخاف وإليه الإشارة بقوله تعالى لمغفرة من الله ومن عبد الله تعالى شوقاً إلى جنته أناله ما يرجو.
وإليه الإشارة بقوله تعالى لمغفرة من الله ومن عبد الله تعالى شوقاً إلى جنته أناله ما يرجو وإليه الإشارة بقوله تعالى ورحمة لأن الرحمة من أسماء الجنة ومن عبد الله شوقاً إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهذا هو العبد المخلص الذي يتجلى له الحق سبحانه وتعالى في دار كرامته.
وإليه الإشارة بقوله لإلى الله تحشرون. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 289}
فائدة
قال أبو حيان :
قال الراغب : تضمنت هاتان الآيتان إلزاماً هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص على القتل في سبيل الله تمثيله : إنْ قتلتم في سبيل الله ، أو متّم ، حصلت لكم المغفرة والرحمة ، وهما خير مما تجمعون.
فإذاً الموت والقتل في سبيل الله خير مما تجمعون.
ولئن متم أو قتلتم فالحشر لكم حاصل.(17/367)
وإذا كان الموت والقتل لا بد منه والحشر فنتيجة ذلك أن القتل والموت اللذين يوجبان المغرفة والرحمة خير من القتل والموت اللذين لا يوجبانهما انتهى. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 102}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } اللام هي الموطئة لقسم محذوف ، وجوابه قوله : { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } وحُذِفَ جوابُ الشرط ؛ لسَدِّ جواب القسم مسده ؛ لكونه دالاً عليه وهذا ما عناه الزمخشريُّ بقوله : وهو ساد مسدَّ جواب الشرط. ولا يعني بذلك أنه من غير حذف.
قوله : { أَوْ مُتُّمْ } قرأ نافع وحمزة والكسائي " مِتُّمْ " -بكسر الميم- والباقون بضمها ، فالضَّمُّ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ -مثل : قَالَ يَقُولُ قُلْتُ ، ومن كسر ، فهو من مَاتَ يَمَاتُ مِتُّ ، مثل : هَابَ يَهَابُ هِبْتُ ، وخَاَفَ يَخَافُ خِفْتُ. روى المبرِّدُ هذه اللغة.
قال شهابُ الدينِ : وهو الصحيحُ من قول أهل العربية ، والأصل : مَوْتَ -بكسر العين- كخَوِفَ ، فجاء مضارعه على يَفْعَل -بفتح العين-.
قال الشاعر : [ الرجز ]
بُنَيَّتِي يَا أسْعَدَ الْبَنَاتِ... عِيشي ، وَلاَ نأمَنُ انْ تَمَاتِي
فجاء بمضارعِهِ على يَفْعَل -بالفتح- فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء ، أو إحدى أخواتها : مِتُّ -بالكسر ليس إلا- وهو انا نقلنا حركة الواو غلى الفاء بعد سلب حركتها ، دلالة على بنية الكلمة في الأصل ، هذا أوْلَى من قول من يقول : إن مِتُّ -بالكسر- مأخوذة من لغة من يقول يموت -بالضم في المضارع- وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال ، كالمازني وأبي علي الفارسي ، ونقله بعضُهُمْ عن سيبويه صريحاً ، وإذا ثبت ذلك لغةً ، فلا معنى إلى ادَّعاء الشذوذ فيه.(17/368)
قوله : { لَمَغْفِرَةٌ } اللام لامُ الابتداءِ ، وهي ما بعدها جواب القسم -كما تقدم- وفيها وجهان :
الأول : وهو الأظهر- : انها مرفوعة بالابتداء ، والمسوِّغات -هنا- كثيرة : لام الابتداء ، والعطف عليها في قوله : { وَرَحْمَةٌ } ووصفها ، فإن قوله { مِّنَ الله } صفة لها ، ويتعلق -حينئذٍ- و" خيرٌ " خبر عنها.
والثاني : أن تكون مرفوعةً على خبر ابتداءٍ مُضْمَرٍ -إذا أُرِيدَ بالمغفرة والرحمة القتل ، أو الموت في سبيل الله ؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله- فيكون التقدير : فلذلك ، أي : الموت أو القتل في سبيل الله -مغفرة ورحمة خير ، ويكون " خيرٌ " صفة لا خبراً ، وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ ؛ فإنه قال : وتحتمل الآية أن يكون قوله : { لَمَغْفِرَةٌ } إشارة إلى الموت ، أوالقتل في سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ؛ إذ هما مقترنان به ، ويجيء التقديرُ : لذك مغفرةٌ ورحمةٌ ، وترتفع المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر ، وقوله : " خير " صفة لا خبر ابتداء انتهى ، والأول أظهر.
و " خير " -هنا- على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباسٍ : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء.
قوله : " مما يجمعون " " ما " موصولة اسمية ، والعائدُ محذوفٌ ، يوجوز أن تكون مصدرية.
وعلى هذا فالمفعول به محذوف ، أي : من جمعكم المال ونحو.
وقراءة الجماعة " تجمعون " -بالخطاب- جَرياً على قوله : " ولئن قتلتم " وحفص -بالغيبة- إما على الرجوع على الكفار المتقدمين ، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.
(17/369)
قوله : { لإِلَى الله } اللام جواب القسم ، فهي داخلة على { تُحْشَرُونَ } و{ وَإِلَى الله } متعلقٌ به ، وإنما قُدِّم للاختصاص ، أي : إلى الله -لا إلى غيره- يكون حشركم ، أو للاهتمام به ، وحسًّنه كونُه فاصلة ، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون ؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده [ بالنون ] ، مع اللام ، خلافاً للكوفيين ؛ حيث يُجيزون التعاقُبَ بينهما.
كقول الشاعر : [ الكامل ]
وَقَتِيلِ مُرَّةَ أثأرَنَّ...................................
فجاء بالنون دون اللام.
وقول الآخر : [ الطويل ]
لَئِنْ قَدْ ضَاقََتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ... لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
فجاء باللام دون النون ، والبصريون يجعلونه ضرورة.
فإن فُصِلَ بين اللام بالمعمول -كهذه الآية- أو بقَدْ ، نحو : والله لقد أقومُ.
وقوله : [ الطويل ]
كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى المرْءِ عِرْسَهُ..................................
أو بحرف التنفيس ، كقوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] فلا يجوز توكيده -حينئذ- بالنون ، قال الفارسيُّ : " الأصل دخولُ النُّونِ ، فَرْقاً بين لام اليمينِ ، ولام الابتداءِ ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلاتِ ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرقُ ، فلم يُحْتَجْ إلى النون وبدخولها على " سوف " حصل الفرق -أيضاً- فلا حاجةَ إلى النُّونِ ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً ، أما مستقبلاً فلا ".
وأتى بالفعل مبنيًّا لما لم يسم فاعله -مع أن فاعل الحشرِ هُوَ اللهُ- وإنما لم يصرح به ، تعظيماً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 12 ـ 15}. بتصرف.(17/370)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}
قال عليه الرحمة :
بذل الروح في الله خير من الحياة بغير الله ، والرجوع إلى الله خير لمن عرف الله من البقاء مع غير الله ، وما يؤثره العبدُ على الله فغير مبارك ، إنْ شِئتَ : والدنيا ، وإنْ شِئْتَ : والعقبى.
قوله : { وَلَئِن مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ } : إذا كان المصير إلى الله طاب المسيرُ إلى الله : وإنَّ سَفْرةً إليه بعدها نَحُطُّ رِحَالَنا لَمُقَاسَاتُها أحلى من العسل!. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 289 ـ 290}(17/371)
قوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما فرغ من وعظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أتبعه تحبيب النبي صلى الله عليه وسلم فيما فعل بهم من الرفق واللين مع ما سبب الغضب الموجب للعنف والسطوة من اعتراض من اعترض على ما أشار به ، ثم مخالفتهم لأمره في حفظ المركز والصبر والتقوى ، ثم خذلانهم له وتقديم أنفسهم على نفسه الشريفة ، ثم عدم العطف عليه وهو يدعوهم إليه ويأمر بإقبالهم عليه ، ثم اتهام من اتهمه.
إلى غير ذلك من الأمور التي توجب لرؤساء الجيوش وقادة الجنود اتهام أتباعهم وسوء الظن بهم الموجب للغضب والإيقاع ببعضهم ليكون ذلك زاجراً لهم عن العود إلى مثله فقال تعالى : {فبما رحمة من الله} أي الذي له الكمال كله {لنت لهم} أي ما لنت لهم هذا اللين الخارق للعادة ورفقت بهم هذا الرفق بعدما فعلوا بك إلا بسبب رحمة عظيمة من الله الحائز لجميع الكمال ، فقابلتهم بالجميل ولم تعنفهم بانهزامهم عنك بعد إذ خالفوا رأيك ، وهم كانوا سبباً لاستخراجك ؛ والذي اقتضى هذا الحصر هو ما لأنها نافية في سياق الإثبات فلم يمكن أن توجه إلا إلى ضد ما أثبته السياق ، ودلت زيادتها على أن تنوين " رحمة " للتعظيم ، أي فبالرحمة العظيمة لا بغيرها لنت.
ولما بين سبحانه وتعالى سبب هذا اللين المتين بين ثمرته ببيان ما في ضده من الضرر فقال : {ولو كنت فظّاً} أي سيىء الخلق جافياً في القول {غليظ القلب} أي قاسية لا تتأثر بشيء ، تعاملهم بالعنف والجفاء {لانفضّوا} أي تفرقوا تفرقاً قبيحاً لا اجتماع معه {من حولك} أي ففات المقصود من البعثة.
ولما أخبره سبحانه وتعالى أنه هو عفا عنهم ما فرطوا في حقه أمره بالعفو عنهم فيما يتعلق به صلى الله عليه وسلم ، وبالاستمرار على مشاورتهم عند النوائب لئلا يكون خطؤهم في الرأي - أولاً في الخروج من المدينة.(17/372)
وثانياً في تضييع المركز ، وثالثاً في إعراضهم عن الإثخان في العدو بعد الهزيمة الذي ما شرع القتال إلا لأجله بإقبالهم عن النهب ، ورابعاً في وهنهم عند كر العدو إلى غير ذلك - موجباً لترك مشاورتهم ، فيفوت ما فيها من المنافع في نفسها وفيما تثمره من التألف والتسنن وغير ذلك فقال سبحانه وتعالى : {فاعف عنهم} أي ما فرطوا في هذه الكره في حقك {واستغفر لهم} أي الله سبحانه وتعالى لما فرطوا في حقه {وشاورهم} أي استخرج آراءهم {في الأمر} أي الذي تريده من أمور الحرب تألفاً لهم وتطييباً لنفوسهم ليستن بك من بعدك {فإذا عزمت} أي بعد ذلك على أمر فمضيت فيه ، وقراءة من ضم التاء للمتكلم بمعناها ، أي فإذا فعلت أنت أمراً بعد المشاورة لأني فعلت فيه - بأن أردته - فعل العازم.
ولما أمر بالمشاورة التي هي النظر في الأسباب أمر بالاعتصام بمسببها من غير التفات إليها ليكمل جهاد الإنسان بالملابسة ثم التجرد فقال : {فتوكل} أي فيه {على الله} أي الذي له الأمر كله ، ولا يردك عنه خوف عاقبة - كما فعلت بتوفيق الله في هذه الغزوة ، ثم علل ذلك بقوله : {إن الله} أي الذي لا كفوء له {يحب المتوكلين} أي فلا يفعل بهم إلا ما فيه إكرامهم وإن رُئي غير ذلك. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 173 ـ 174}
وقال الفخر :
(17/373)
اعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتغليط والتشديد ، وإنما خاطبهم بالكلام اللين ، ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم ، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم ، زاد في الفضل والاحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم على عفوه عنهم ، وتركه التغليظ عليهم فقال : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 50}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن لينه صلى الله عليه وسلم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى : {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [ الشعراء : 215 ] وقال : {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} ، وقال : {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [ القلم : 4 ] وقال : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين َرَؤوفٌ رَّحِيمٌ} [ التوبة : 128 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " لا حلم أحب إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه " فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين ، وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقاً.(17/374)
وروي أن امرأة عثمان دخلت عليه صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي وعلي يغسلان السلاح ، فقالت : ما فعل ابن عفان ؟ أما والله لا تجدونه إمام القوم ، فقال لها علي : ألا إن عثمان فضح الزمان اليوم ، فقال عليه الصلاة والسلام "مه" وروي أنه قال حيئنذ : أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا ، ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال : " لقد ذهبتم فيها عريضة " وروي عن بعض الصحابة أنه قال : لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان ، كنا مشركين ، فلو جاءنا رسول الله بهذا الدين جملة ، وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا ، فما كنا ندخل في الإسلام ، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة ، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان ، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " إنما أنا لكم مثل الوالد فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها "
(17/375)
واعلم أن سر الأمر في حسن الخلق أمران : اعتبار حال القائل ، واعتبار حال الفاعل ، أما اعتبار حال القائل فلأن جواهر النفوس مختلفة بالماهية ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " الأرواح جنود مجندة " وقال : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " وكما أنها في جانب النقصان تنتهي إلى غاية البلادة والمهانة والنذالة ، واستيلاء الشهوة والغضب عليها واستيلاء حب المال واللذات ، فكذلك في جانب الكمال قد تنتهي إلى غاية القوة والجلالة ، أما في القوة النظرية فيكون كما وصفه الله تعالى بقوله : {نُّورٌ على نُورٍ} [ النور : 35 ] وقوله : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} [ النساء : 113 ] وأما في القوة العملية ، فكما وصفه الله بقوله : {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} كأنها من جنس أرواح الملائكة ، فلا تنقاد للشهوة ولا تميل لدواعي الغضب ، ولا تتأثر من حب المال والجاه ، فإن من تأثر عن شيء كان المتأثر أضعف من المؤثر ، فالنفس إذا مالت إلى هذه المحسوسات كانت روحانياتها أضعف من الجسمانيات ، وإذا لم تمل إليها ولم تلتفت إليها كانت روحانياتها مستعلية على الجسمانيات ، وهذه الخواص نظرية ، وكانت نفسه المقدسة في غاية الجلالة والكمال في هذه الخصال.
(17/376)
وأما اعتبار حال الفاعل فقوله عليه الصلاة والسلام : " من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب " فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية مستندة إلى الأسباب الإلهية ، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر ، فلا جرم إذا فاته مطلوب لم يغضب ، وإذا حصل له محبوب لم يأنس به ، لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات ، فلا ينازع أحداً من هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ، ولا يغضب على أحد بسبب فوت شيء من مطالبها ، ومتى كان الإنسان كذلك كان حسن الخلق ، طيب العشرة مع الخلق ، ولما كان صلوات الله وسلامه عليه أكمل البشر في هذه الصفات الموجبة لحسن الخلق ، لا جرم كان أكمل الخلق في حسن الخلق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 50 ـ 51}
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ}(17/377)
وجه الاستدلال أنه تعالى بين أن حسن خلقه مع الخلق ، إنما كان بسبب رحمة الله تعالى ، فنقول : رحمة الله عند المعتزلة عامة في حق المكلفين ، فكل ما فعله مع محمد عليه الصلاة والسلام من الهداية والدعوة والبيان والارشاد ، فقد فعل مثل ذلك مع إبليس وفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب ، فإذا كان على هذا القول كل ما فعله الله تعالى مع المكلفين في هذا الباب مشتركا فيه بين أصفى الأصفياء ، وبين أشقى الأشقياء لم يكن اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفاداً من رحمة الله ، فكان على هذا القول تعليل حسن خلق الرسول عليه الصلاة والسلام برحمة الله باطلا ، ولما كان هذا باطلا علمنا أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وبقدره ، والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف وهذا في غاية البعد ، لأن كل ما كان ممكناً من الألطاف ، فقد فعله في حق المكلفين ، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف ، فذاك في الحقيقة إنما اكتسبه من نفسه لا من الله ، لأنه متى فعل الطاعة استحق ذلك المزيد من اللطف ، ووجب إيصاله إليه ، ومتى لم يفعل امتنع إيصاله ، فكان ذلك للعبد من نفسه لا من الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 51}(17/378)
فصل
قال ابن عطية :
وقوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ، معناه : فبرحمة من الله " وما " قد جرد عنها معنى النفي ودخلت للتأكيد وليست بزائدة على الإطلاق لا معنى لها ، وأطلق عليها سيبويه اسم الزيادة من حيث زال عملها ، وهذه بمنزلة قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم } [ النساء : 155 ] قال الزجاج : الباء بإجماع من النحويين صلة وفيه معنى التأكيد ، ومعنى الآية : التقريع لجميع من أخل يوم - أحد - بمركزه ، أي كانوا يستحقون الملام منك ، وأن لا تلين لهم ، ولكن رحم الله جميعكم ، أنت يا محمد بأن جعلك الله على خلق عظيم ، وبعثك لتتمم محاسن الأخلاق ، وهم بأن لينك لهم وجعلت بهذه الصفات لما علم تعالى في ذلك من صلاحهم وأنك { لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } ، وتفرقوا عنك. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 533}(17/379)
وقال الفخر :
ذهب الأكثرون إلى أن ( ما ) في قوله : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} صلة زائدة ومثله في القرآن كثير ، كقوله : {عَمَّا قَلِيلٍ} و{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} [ ص : 11 ] {فَبِمَا نَقْضِهِم} [ النساء : 155 ، المائدة : 13 ] {مما خطيئاتهم} [ نوح : 25 ] قالوا : والعرب قد تزيد في الكلام للتأكيد على ما يستغنى عنه ، قال تعالى : {فَلَمَّا أَن جَاء البشير} [ يوسف : 96 ] أراد فلما جاء ، فأكد بأن ، وقال المحققون : دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين غير جائر ، وههنا يجوز أن تكون ( ما ) استفهاما للتعجب تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وذلك لأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم إنه ما أظهر ألبتة ، تغليظا في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني وتسديد إلهي ، فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد والتسديد ، فقيل : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وهذا هو الأصوب عندي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 51}
وعقب أبو حيان على كلام الفخر قائلا :
وما ذهب إليه خطأ من وجهين : أحدهما : أنه لا تضاف ما الاستفهامية ، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف ، وكم على مذهب أبي إسحاق.
والثاني : إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلاً ، وإذا كان بدلاً من اسم الاستفهام فلا بدّ من إعادة همزة الاستفهام في البدل ، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه.
قول الزجاج في ما هذه ؟ إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 104}
وقال القرطبى :
وقيل : "ما" اسْتِفْهَامٌ.
والمعنى : فَبِأي رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُم ؛ فهو تعجب.(17/380)
وفيه بُعْدٌ ؛ لأنه لو كان كذلك لكان "فبم" بغير ألف. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 248}
من بدائع ابن القيم
قال عليه الرحمة :
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي ما لنت لهم إلا برحمة من الله ولا تسمع قول من يقول من النحاة أن ما زائدة في هذه المواضع فإنه صادر عن عدم تأمل فإن قيل: فمن أين لكم أفادت ما هذه المعنيين المذكورين من النفي والإيجاب وهي لو كانت على حقيقتها من النفي الصريح لم تفد إلا معنى واحد وهو النفي فإذا لم يكن النفي صريحا فيها كيف تفيد معنيين قيل: نحن لم ندع أنها أفادت النفي والإيجاب بمجردها ولكن حصل ذلك منها ومن القرائن المحتفة بها في الكلام أما قولهم شر ما جاء بها فلما انتظمت مع الاسم النكرة والنكرة لا يبتدأ بها فلما قصد إلى تقديمها علم أن فائدة الخبر مخصوصة بها وأكد ذلك التخصيص ب ما فانتفى الأمر عن غير هذا الاسم المبتدأ ولم يكن إلا له حتى صار المخاطب يفهم من هذا ما يفهم من قوله ما جاء به إلا شر واستغنوا هنا ب ما هذه عن ما النافية وبالابتداء بالنكرة عن إلا وأما قولك إنما زيد قائم فقد انتظمت ب أن وامتزجت معها وصارتا كلمة واحدة وأن تعطى الإيجاب الذي تعطيه إلا وما تعطي النفي ولذلك جاز إنما يقوم أنا ولا تكون أنا فاعله إلا إذا فصلت من الفعل ب إلا تقول ما يقوم إلا أنا ولا تقول يقوم أنا فإذا قلت: إنما قام أنا صرت كأنك لفظت ما مع إلا قال:
أدافع عن أعراض قومي وإنما ... يدافع عن أعراضهم أنا أو مثلي
فإذا عرفت أن زيادتها مع أن واتصالها بها اقتضى هذا النفي والإيجاب فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجر من قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} و{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} وتأمل كيف تجد الفرق بين هذا التركيب وبين أن يقال فبرحمة من الله وفبنقضهم ميثاقهم وإنك تفهم من تركيب الآية ما لنت لهم إلا برحمة من الله وما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم وكذلك قوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} دلت على النفي بلفظها وعلى الإيجاب بتقديم ما حقه التأخير من المعمول وارتباط ما به مع تقديم كما قرر في قولهم شر ما جاء به وقد بسطنا هذا في كتاب الفتح المكي وبينا هناك أنه ليس في القرآن حرف زائد وتكلمنا على كل ما ذكر في ذلك وبينا أن كل لفظة لها فائدة متجددة زائدة على أصل التركيب ولا ينكر جريان القلم إلى هذه الغاية وإن لم يكن من غرضنا فإنها أهم من بعض ما نحن فيه وبصدده. أ هـ {بدائع الفوائد حـ 2 صـ 151 ـ 152}(17/381)
وقال صاحب سر الفصاحة :
أما زيادة: {ما} في قول الله تعالى " فبما رحمة من الله لنت لهم وقوله تعالى " فبما نقضهم ميثاقهم " فإن لها هنا تأثيراً في حسن النظم وتمكيناً للكلام في النفس وبعداً به عن الألفاظ المبتذلة، فعلى هذا لا يكون حشوا لا يفيد. وأهل النحو يقولون إن ما في هذا الموضع صلة مؤكدة للكلام، وقد يكون التوكيد عندهم بالتكرار كما يكون بالعلامة الموضوعة له، وإذا أفاد الكلام شيئاً فليس من الحشو المذموم لأن حقيقة الحشو هو الذي يكون دخوله في الكلام وخروجه على سواء. وإنما الغرض به إقامة الوزن في الشعر أو ما يجرى مجرى ذلك في النثر، وقد جاءت أيضاً: ما في الشعر أيضاً على معنى ما وردت في الآية قال الشاعر:
فاذهبي ما إليك أدركني الح ... لم عداني عن هيجكم اشغالي
ومن هذا القبيل أيضاً دخولها في: ابنما. قال المتلمس:
وهل لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله ألا أن أكون لها ابنما
وقال الآخر:
لقيم بن لقمان من أخته ... فكان ابن أخت له وابنما
وورودها في هذا الموضع خاصة كثير، فهذا مبلغ ما نقوله في الحشو ليكون دليلا على غيره ومنبها على مثله. أ هـ { سر الفصاحة / لابن سنان الخفاجى صـ 156 ـ 157}(17/382)
لطيفة لغوية
قال العلامة ابن الجوزى ـ رحمه الله ـ :
باب {ما}
{ما} في الكلام على ضربين اسم وحرف فإذا كانت اسما فهي على خمسة أقسام -
أحدها أن تكون خبرا في التعجب لا صلة لها كقولك ما أحسن زيدا وما أعلم بكرا وقد وقعت خبرا لا صلة في قوله تعالى ( فنعما هي )
والثاني أن تكون خبرا بمعنى الذي موصولة كقوله تعالى ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق )
والثالث أن تكون استفهاما نحو ما عندك
والرابع أن تكون للشرط والجزاء كقولك ما تفعل أفعل
والخامس أن تكون نكرة موصوفة نحو قوله تعالى ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة ) ويجوز أن تكون ما في هذا الموضع زائدة ويجوز أن تكون بمعنى الذي في قراءة من رفع بعوضة وكذلك {ما} في قوله تعالى ( هذا ما لدي عتيد ) أي هذا شيء عتيد لدي
وإذا كانت حرفا فهي على أربعة أقسام -
أحدها أن تكون زائدة
والثاني أن تكون نافية
والثالث أن تكون مصدرية نحو قوله تعالى ( بما كانوا
يكذبون ) ( 121 ب ) أي بكذبهم ( ومما رزقناهم ينفقون )
والرابع أن تكون كافة عن العمل نحو ( إنما الله إله واحد ) ( ربما يود الذين كفروا ) فقد كفت أن ورب عن العمل وقال ابن قتيبة ما ومن أصلها واحد فجعلت من للناس وما لغير الناس تقول من مر بك من القوم وما مر بك من الإبل
وذكر بعض المفسرين أن ما في القرآن على سبعة أوجه -
أحدها أن تكون صلة ومنه قوله تعالى في البقرة ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) وفي آل عمران ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) وفي سورة النساء ( فبما نقضهم ميثاقهم )
يكذبون ) ( 121 ب ) أي بكذبهم (ومما رزقناهم ينفقون)
والرابع أن تكون كافة عن العمل نحو ( إنما الله إله واحد ) ( ربما يود الذين كفروا ) فقد كفت أن ورب عن العمل(17/383)
وقال ابن قتيبة ما ومن أصلها واحد فجعلت من للناس وما لغير الناس تقول من مر بك من القوم وما مر بك من الإبل
وذكر بعض المفسرين أن ما في القرآن على سبعة أوجه - أحدها أن تكون صلة ومنه قوله تعالى في البقرة ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) وفي آل عمران ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) وفي سورة النساء ( فبما نقضهم ميثاقهم )
والثاني بمعنى النفي ومنه قوله تعالى في البقرة ( وما ظلمونا ) وفي الأنعام ( ما كنا مشركين ) وفي الأعراف ( وما كنا غائبين ) وفي يوسف ( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) وفي المؤمنين ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ) وفي النمل ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) وفي حم السجدة ( وما ربك بظلام للعبيد ) وفي ق ( وما أنت عليهم بجبار )
والثالث بمعنى التعجب وتقديره أي شيء ومنه قوله تعالى في البقرة ( فما اصبرهم على النار ) وفي عبس ( قتل الإنسان ما أكفره )
والرابع بمعنى الذي ومنه قوله تعالى في البقرة ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ) وفي المؤمنين ( أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) وفي سبأ ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ) وفي حم السجدة ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) وفي الزخرف ( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون )(17/384)
والخامس بمعنى كما ومنه قوله تعالى ( 122 أ ) تعالى في يس ( لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم ) والحقه قوم بقسم الذي والسادس بمعنى الاستفهام ومنه قوله تعالى في البقرة ( ما تعبدون من بعدي ) والسابع بمعنى من ومنه قوله تعالى في الشمس ( والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها ) وفي الليل ( وما خلق الذكر والأنثى ) وقد جعله قوم بقسم ( الذي ) أيضا فذكر ابن قتيبة عن أبي عمرو أنه قال هي بمعنى الذي قال وأهل مكة يقولون إذا سمعوا الرعد سبحان ما سبحت له. أ هـ { نزهة الأعين النواظر فى علم الوجوه والنظائر / لابن الجوزى صـ 563 ـ 567}(17/385)
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذه الآية دلت على أن رحمة الله هي المؤثرة في صيرورة محمد عليه الصلاة والسلام رحيما بالأمة ، فإذا تأملت حقيقة هذه الآية عرفت دلالتها على أنه لا رحمة إلا لله سبحانه ، والذي يقرر ذلك وجوه :
أحدها : أنه لولا أن الله ألقى في قلب عبده داعية الخير والرحمة واللطف لم يفعل شيئاً من ذلك ، وإذا ألقى في قلبه هذه الداعية فعل هذه الأفعال لا محالة ، وعلى هذا التقدير فلا رحمة إلا لله :
وثانيها : أن كل رحيم سوى الله تعالى فإنه يستفيد برحمته عوضا ، إما هربا من العقاب ، أو طلبا للثواب ، أو طلبا للذكر الجميل ، فإذا فرضنا صورة خالية عن هذه الأمور كان السبب هو الرقة الجنسية ، فإن من رأى حيوانا في الألم رق قلبه ، وتألم بسبب مشاهدته إياه في الألم ، فيخلصه عن ذلك الألم دفعا لتلك الرقة عن قلبه ، فلو لم يوجد شيء من هذه الأعراض لم يرحم ألبتة ، أما الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يرحم لا لغرض من الأغراض ، فلا رحمة إلا لله ،
وثالثها : أن كل من رحم غيره فإنه إنما يرحمه بأن يعطيه مالا ، أو يبعد عنه سببا من أسباب المكروه والبلاء ، إلا أن المرحوم لا ينتفع بذلك المال إلا مع سلامة الأعضاء ، وهي ليست إلا من الله تعالى ، فلا رحمة في الحقيقة إلا لله ، وأما في الظاهر فكل من أعانه الله على الرحمة سمي رحيما ، قال عليه السلام : " الراحمون يرحمهم الرحمن " وقال في صفة محمد عليه السلام : {بالمؤمنين رؤوفٌ رَّحِيمٌ} [ التوبة : 128 ] ثم قال تعالى : {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }.(17/386)
واعلم أن كمال رحمة الله في حق محمد صلى الله عليه وسلم أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 51 ـ 52}
فائدة
قال ابن عاشور :
الفاء للتفريع على ما اشتمل عليه الكلام السابق الَّذي حُكي فيه مخالفة طوائف لأمر الرسول من مؤمنين ومنافقين ، وما حكي من عفو الله عنهم فيما صنعوا.
ولأنّ في تلك الواقعة المحكية بالآيات السابقة مظاهر كثيرة من لين النَّبيء صلى الله عليه وسلم للمسلمين ، حيث استشارهم في الخروج ، وحيث لم يثرِّبهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم ، ولمَّا كان عفو الله عنهم يعرف في معاملة الرّسول إيّاهم ، ألاَن الله لهم الرسول تحقيقاً لرحمته وعفوه ، فكان المعنى : ولقد عفا الله عنهم برحمته فَلاَن لهم الرسول بإذن الله وتكوينه إيّاه راحماً ، قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ].
والباء للمصاحبة ، أي لنتَ مع رحمة الله : إذ كان لينه في ذلك كلّه ليناً لا تفريط معه لشيء من مصالحهم ، ولا مجاراةً لهم في التساهل في أمر الدّين ، فلذلك كان حقيقاً باسم الرحمة.
وتقديم المجرور مفيد للحصر الإضافي ، أي : برحمة من الله لا بغير ذلك من أحوالهم ، وهذا القصر مفيد التعريض بأنّ أحوالهم كانت مستوجبة الغلظ عليهم ، ولكن الله ألاَن خلق رسوله رحمة بهم ، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمَّة.
وزيدت ( ما ) بعد باء الجرّ لتأكيد الجملة بما فيه من القصر ، فتعيّنَ بزيادتها كون التَّقديم للحصر ، لا لمجرد الاهتمام ، ونبّه عليه في "الكشاف".
واللِينُ هنا مجاز في سعة الخلق مع أمّة الدعوة والمسلمين ، وفي الصفح عن جَفاء المشركين ، وإقالة العثرات.(17/387)
ودلّ فعل المضيّ في قوله : { لنت } على أنّ ذلك وصف تقرّر وعرف من خُلقه ، وأنّ فطرته على ذلك برحمة من الله إذ خلقَه كذلك { واللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] ، فخلق الرسول مُناسب لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله ، لأنّ الرسول يجيء بشريعة يبلّغها عن الله تعالى ، فالتبليغ متعيّن لا مصانعة فيه ، ولا يتأثّر بخلق الرسول ، وهو أيضاً مأمور بسياسة أمَّته بتلك الشريعة ، وتنفيذها فيهم ، وهذا عمل له ارتباط قوي بمناسبة خُلق الرسول لطباع أمّته حتَّى يلائم خلقه الوسائل المتوسَّل بها لحمل أمَّته على الشَّريعة الناجحة في البلوغ بهم إلى مراد الله تعالى منهم.
أرسل محمَّد صلى الله عليه وسلم مفطوراً على الرحمة ، فكان لِينه رحمة من الله بالأمَّة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها ، فلذلك جعل لينه مصاحباً لرحمةٍ من الله أودعها الله فِيه ، إذ هو قد بعث للنَّاس كافّة ، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أولَ شيء لحكمةٍ أرادها الله تعالى في أن يكون العرب هم مبلغي الشَّريعة للعالم.
والعرب أمَّة عُرفت بالأنفة ، وإباء الضيم ، وسلامةِ الفطرة.
وسرعةِ الفهم.
وهم المتلقُّون الأوّلون للدين فلم تكن تليق بهم الشّدة والغلظة ، ولكنّهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم ، ليتجنّبوا بذلك المكابرةَ الَّتي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحقّ.
وورد أن صفح النَّبيء صلى الله عليه وسلم وعفوه ورحمته كان سبباً في دخول كثير في الإسلام ، كما ذكر بعض ذلك عياض في كتاب الشفاء.(17/388)
فضمير { لهم } عائد على جميع الأمَّة كما هو مقتضى مقام التَّشريع وسياسة الأمَّة ، وليس عائداً على المسلمين الَّذين عصوا أمر الرسول يوم أُحُد ، لأنَّه لا يناسب قوله بعده : { لانفضوا من حولك } إذ لا يُظنّ ذلك بالمسلمين ، ولأنَّه لا يناسب قوله بعده : { وشاورهم في الأمر } إذا كان المراد المشاورة للاستعانة بآرائهم ، بل المعنى : لو كنت فظّاً لنفرك كثير ممّن استجاب لك فهلكوا ، أو يكون الضّمير عائداً على المنافقين المعبّر عنهم بقوله : { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } [ آل عمران : 154 ] فالمعنى : ولو كنت فظّاً لأعلنوا الكفر وتفرّقوا عنك ، وليس المراد أنَّك لنت لهم في وقعة أُحُد خاصّة ، لأنّ قوله بعده : { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } إلخ ينافي ذلك المحمل.
والفَظّ : السيء الخلق ، الجافي الطبع. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 265 ـ 266}
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي ـ رحمه الله تعالى ـ : الفظ ، الغليظ الجانب السيء الخلق ، يقال : فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ ، وأصله فظظ ، كقوله : حذر من حذرت ، وفرق من فرقت ، إلا أن ما كان من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحن رجل صب ، وأصله صبب ، وأما "الفض" بالضاد فهو تفريق الشيء ، وانفض القوم تفرقوا ، قال تعالى : {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [ الجمعة : 11 ] ومنه : فضضت الكتاب ، ومنه يقال : لا يفضض الله فاك.
فإن قيل : ما الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب ؟
قلنا : الفظ الذي يكون سيء الخلق ، وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء ، فقد لا يكون الإنسان سيء الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم ، فظهر الفرق من هذا الوجه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 52}(17/389)
قال القرطبى :
وفي صفة النبيّ عليه السلام ليس بفَظٍّ ولا غَلِيظٍ ولا صَخَّابٍ في الأسواق ؛ وأَنشَدَ المُفَضّل في المذكر :
وليس بفَظٍّ في الأَدَاني والأَولى . . .
يَؤُمُّون جَدْوَاهُ ولكنّه سَهْلُ
وفَظٌّ على أعدائِهِ يَحْذَرُنَهُ . . .
فَسَطْوَتُهُ حَتْفٌ ونائِلهُ جَزْلُ
وقال آخرُ في المُؤنَّثِ :
أَموتُ مِن الضُّرِّ في منزلي . . .
وغيري يموتُ من الكِظَّهْ
ودُنْيَا تَجودُ على الجاهلي . . .
ن وهْي على ذي النُّهىَ فَظَّه
وغِلَظُ القلب عِبارةٌ عن تَجَهُّم الوجه ، وقِلّةِ الانْفِعَالَ في الرَّغائِبِ ، وقِلّة الإشْفَاقِ والرّحمة ، ومن ذلك قولُ الشّاعر :
يُبْكى عَلَيْنَا ولا نَبْكي على أَحدٍ ؟ . . .
لَنَحْنُ أغْلَظُ أكْبَاداً من الإبلِ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 248}
فصل
قال الفخر :
إن المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق ، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم إليه وسكنت نفوسهم لديه ، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما ، يتجاوز عن ذنبهم ، ويعفو عن إساءتهم ، ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة ، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق ، وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب ، بل يكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء ، كثير القيام بإعانة الفقراء ، كثير التجاوز عن سيآتهم ، كثير الصفح عن زلاتهم ، فلهذا المعنى قال : {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة.(17/390)
وحمل القفال رحمه الله هذه الآية على واقعة أحد قال : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب} وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك ، هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام ، فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 52}
فصل
قال الفخر :
اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ، فأما إذا أدى إلى ذلك لم يجز ، قال تعالى : {يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [ التوبة : 73 ] وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا : {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله} [ النور : 2 ].
وههنا دقيقة أخرى : وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية ، وأمره بالغلظة في قوله : {واغلظ عَلَيْهِمْ} فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين ، وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين ، فهو كقوله : {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [ المائدة : 54 ] وقوله : {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [ الفتح : 29 ] وتحقيق القول فيه أن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان ، والفضيلة في الوسط ، فورود الأمر بالتغليظ تارة ، وأخرى بالنهي عنه ، إنما كان لأجل أن يتباعد عن الإفراط والتفريط ، فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم ، فلهذا السر مدح الله الوسط فقال : {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} [ البقرة : 143 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 53}
قوله تعالى : {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر}
فائدة
قال الفخر :(17/391)
إن كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى ، قال عليه السلام : " تخلقوا بأخلاق الله " ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 53}
فصل
قال صاحب "الكشاف" :
{ فاعف عَنْهُمْ } فيما يختص بك { واستغفر لَهُمْ } فيما يختص بحق الله إتماماً للشفقة عليهم. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 459}
فصل
قال الفخر :
ظاهر الأمر للوجوب ، والفاء في قوله تعالى : {فاعف عَنْهُمْ} يدل على التعقيب ، فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال ، وهذا يدل على كمال الرحمة الإلهية حيث عفا هو عنهم ، ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم.
واعلم أن قوله : {فاعف عَنْهُمْ} إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام ، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم ، بل ندبهم إليه فقال تعالى : {والعافين عَنِ الناس} [ آل عمران : 134 ] ليعلم أن حسنات الأبرار سيئات المقربين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 53}
قوله تعالى : {واستغفر لَهُمُ}
في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر ، وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى : {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} إلى قوله : {فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله} [ الأنفال : 16 ] فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر ، ثم إنه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالعفو عنهم ، ثم أمره بالاستغفار لهم ، وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 53}(17/392)
لطيفة ونفيسة
قال الفخر :
قوله تعالى : {واستغفر لَهُمُ} أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر ، وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه إليه ، لأن ذلك لا يليق بالكريم ، فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا في حق أصحاب الكبائر ، فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 53}
لطيفة ونفيسة أخرى
قال الإمام الفخر ولله دره :
إنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله : {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} [ آل عمران : 155 ] ثم أمر محمداً صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم ، كأنه قيل له : يا محمد استغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم ، واعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم ، وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة ، وثالثها : قوله تعالى : {وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 54}
قوله تعالى : {وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر}.
فصل نفيس
قال الفخر :
الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه :
الأول : أن مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم ، وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته ، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة.
الثاني : أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية ، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله ، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا فإنه عليه السلام قال : " أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم " ولهذا السبب قال عليه السلام : " ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم "
الثالث : قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته.(17/393)
الرابع : أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج ، وكان ميله إلى أن يخرج ، فلما خرج وقع ما وقع ، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر.
فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة.
الخامس : وشاورهم في الأمر ، لا لتستفيد منهم رأياً وعلما ، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم.
السادس : وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة ، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله ، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات.
وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد.
السابع : لما أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم دلَّ ذلك على أن لهم عند الله قدراً وقيمة ، فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق.(17/394)
الثامن : الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده ، فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم ، فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وإن عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة ، فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة ، بل أنا أزيد فيها ، وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم ، وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم ، لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك ، والسبب فيه أنكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم ، والآن تعولون على فضلي وعفوي ، فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك ، لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم.
والوجوه الثلاثة الأول مذكورة ، والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع ، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 54}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر }
قال العلماء : أمرَ الله تعالى نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ ؛ وذلك أنه أمره بأن يَعفُوا عنهم ما له في خاصّته عليهم من تَبِعةٍ ؛ فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تَبِعَة أيضا ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أَهْلاً للاستشارة في الأمور.
قال أهل اللغة.
الاستشارة مأخوذة من قول العرب : شُرْتُ الدابة وشوّرتُها إذا علمت خبرها بجري أو غيره.
ويقال للموضع الذي تركُضُ فيه : مِشوَار.
وقد يكون من قولهم : شُرْت العسَل واشْتَرْتهُ فهو مَشوُر وَمُشْتار إذا أخذته من موضعه ، قال عَدي بنُ زَيد :
في سَمَاع يأذَنُ الشَّيْخُ له . . .
وحَديثٍ مْثلِ مَاذِيٍّ مُشَار(17/395)
قال ابنُ عَطِية : والشُّورَى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ؛ من لا يَسْتشِيرُ أهلَ العِلم والدِّين فَعزْلُهُ واجبٌ.
هذا ما لاَ خلاف فيه.
وقد مَدَح الله المُؤمنين بقوله : { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } [ الشورى : 38 ] قال أَعْرَابيٌ : ما غُبِنْتُ قَطٌّ حتى يُغْبَنَ قومي ؛ قيل : وكيف ذلك ؟ قال لا أَفْعَل شيئا حتى أُشَاوِرهُم.
وقال ابنُ خُوَيْزٍ مَنْدَاد : واجب على الوُلاَةِ مشاورَةُ العلماء فيما لا يَعْلَمُونِ ، وفيما أَشْكَل عليهم من أُمور الدِّين ، ووُجوه الجَيش فيما يتعَلَّقُ بالحرب ، ووجوه الناس فيما يَتَعَلَّقُ بالمصالح ، ووُجُوهِ الكُتَّابِ والوزراءِ والعُمَالِ فيما يتعلّقُ بِمصالح البلاد وعِمَارتها.
وكان يقال : ما ندم من استشار.
وكان يُقال : من أُعْجِبَ برأيهِ ضَلّ.
قوله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } يَدُلُّ على جواز الاجتهاد في الأمُور والأخذ بالظُّنونِ مع إمكان الوَحْي ؛ فإن الله أَذِن لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
واختَلَف أهل التأويل في المعنى الذي أمَرَ الله نبيَّهُ عليه السلام أن يُشَاورَ فيه أَصحابَه ؛ فقالت طائفة : ذلك في مكائد الحُروب ، وعند لِقَاء العَدُوه ، وتطييبا لِنُفُوسهم ، ورَفُعاً لأَقدارِهم ، وتأَلُّفاً على دينهم ، وإنْ كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوَحيْه.
رُوي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي.
قال الشافعي : هو كقوله : "والبِكر تُسْتَأَمَرُ" تطيبا لقلبها ؛ لا أَنَّه واجبٌّ.
وقال مُقَاتِلُ وقَتَادةُ والربيع : كانت سَاداتُ العرب إذا لم يُشَاوَرُوا في الأمْر شَقّ عليهم : فأمر الله تعالى ؛ نبيّه عليه السلام أن يُشَاوِرَهم في الأمر : فإن ذلك أَعْطَفُ لهم عليه وأذهَبُ لأضغانهم ، وأَطيبُ لنفوسهم.
فإذا شاورَهم عَرَفُوا إكرامَة لهم.(17/396)
وقال اخرون : ذلك فيما لم يأته فيه وَحْيٌّ.
رُوي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا : ما أمَرَ الله تعالى نبيه بالمُشَاوِرة لحاجةٍ منه إلى رأيهم ، وإنما أراد أن يُعلَّمَهُم ما في المُشَاوَرةِ من الفضل ، ولِتَقْتدي به أُمته من بعده ، وفي قراءة ابن عباس : "وَشَاوِرْهُمْ في بعضِ الأمْرِ" ولقد أحسن القائل :
شَاوِر صديقَكَ في الخفَي المُشْكل . . .
واقبَل نصيحَةَ ناصِح مُتَفضِّلِ
فاللهُ قد أَوْصَى بذاكَ نَبَّيهُ . . .
في قوله : شاوِرْهُمُ و( تَوكّلِ )
جاء في مصنّف أبي داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَن " قال العلماء : وِصفةُ المُستشار إن كان في الأَحْكامِ أن يكون عالِماً دَيِّناً ، وقلّما يكونُ ذلك إلاّ في عاقل.
قال الحسن : ما كَمُل دِينُ امرىءٍ ما لم يكمل عقُله.
فإذا استُشيِر مَن هذه صِفتُهُ واجتهد في الصَّلاحِ وبَذَل جُهدَه فوقعت الإشارةُ خَطَأً فلا غَرَامةَ عليه ؛ قاله الخَطّابيُّ وغيرهُ.
الخامسة : وصفةُ المُستشارِ في أُمورِ الدنيا أن يكون عاقلاً مُجرباً وادّاً في المُستَشير.
قال :
شاورْ صديقَك في الخفِي المُشْكِل . . .
وقد تقدّم.
وقال آخر :
وإنْ بَابُ أمرٍ عليك الْتَوَى . . .
فَشَاوِر لبيباً ولا تَعْصِهِ
في أبيات.
والشُّورى بَرَكَةٌ.
وقال عليه السلام : " ما نَدِمَ مَن اسْتَشَار ولا خَابَ مِن اسْتَخَار " وروى سهلُ بنُ سعد السّاعِدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" ما شَقى قَطُّ عبدٌ بمشورة وما سَعِد باستغناء رأي " وقال بعضهم : شَاوِرْ من جَرّبَ الأُمورَ ؛ فإنه يُعطيك من رأيه ما وقع عليه غالياً وأنت تأخذه مجانا.
وقد جعل عمر بن الخطاب رضِي الله عنه الخِلافة وهي أعظم النّوازِلِ شورى.(17/397)
قال البخاريّ : وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستَشِيرون الأمناء من أهل العلم في الأُمور المباحة ليأخذوا بأسهلها.
وقال سفيان الثورِيّ : ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة ، ومن يخشى الله تعالى.
وقال الحسن : والله ما تشاوَرَ قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم.
ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم كانت لهم مشورةٌ فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خِيرَ لهم ".
والشُّورى مبنيّة على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ، وينظر أقرَبها قولاً إلى الكتاب والسنة إن أمكنه ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزَم عليه وأنفذه متوكّلاً عليه ، إذْ هذه غاية الاجتهاد المطلوب ؛ وبهذا أمر الله تعالى نبيّه في هذه الآية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 249 ـ 252}
قال الطبرى :
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه ، تألُّفًا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرةَ التي يُؤْمَنُ عليه معها فتنة الشيطان وتعريفًا منه أمته مأتى الأمور التي تحزُبهم من بعده ومطلبها ، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم ، فيتشاوروا فيما بينهم ، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله. فأما النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الله كان يعرِّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صوابَ ذلك. وأما أمته ، فإنهم إذا تشاوروا مستنِّين بفعله في ذلك ، على تصادُقٍ وتأخٍّ للحق ، وإرادةِ جميعهم للصواب ، من غير ميل إلى هوى ، ولا حَيْد عن هدى ، فالله مسدِّدهم وموفِّقهم. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 345 ـ 346}(17/398)
فصل
قال الفخر :
اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس ، فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا ؟ قال الكلبي وكثير من العلماء : هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته أن الألف واللام في لفظ "الأمر" ليسا للاستغراق ، لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه ، فوجب حمل الألف واللام ههنا على المعهود السابق ، والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو ، فكان قوله : {وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر} مختصا بذلك ، ثم قال القائلون بهذا القول : قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه ، فأشار عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا ، فقبل منهما وخرق الصحيفة ، ومنهم من قال : اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي ، والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال : {فاعتبروا يا أولى الأبصار} [ الحشر : 2 ] وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار ، ومدح المستنبطين فقال : {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [ النساء : 83 ] وكان أكثر الناس عقلا وذكاء ، وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي ، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة.(17/399)
وقد شاورهم يوم بدر في الأساري وكان من أمور الدين ، والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم ، ثم إن إبليس خص نفسه بالقياس وهو قوله : {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ الأعراف : 12 ] فصار ملعونا ، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 55}
وقال ابن الجوزى :
واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي ، تام التدبير ، على ثلاثة أقوال.
أحدها : ليستن به من بعده ، وهذا قول الحسن ، وسفيان بن عيينة.
والثاني : لتطيب قلوبهم ، وهو قول قتادة ، والربيع ، وابن إسحاق.
ومقاتل.
قال الشافعي رضي الله عنه : نظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم " البكر تُستأمر في نفسها " إنما أراد استطابة نفسها ، فإنها لو كرهت ، كان للأب أن يزوجها ، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أُمر بذبحه.
والثالث : للإعلام ببركة المشاورة ، وهو قول الضحاك.
ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره.
علم أن امتناع النجاح محض قدر ، فلم يلم نفسه ، ومنها أنه قد يعزم على أمر ، فيبين له الصواب في قول غيره ، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح.
قال علي رضي الله عنه : الاستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استغنى برأيه ، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم.
وقال بعض الحكماء : ما استُنْبِطَ الصواب بمثل المشاورة ، ولا حُصِّنتِ النعم بمثل المواساة ، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر.
واعلم أنه إنما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي ، وعمهم بالذكر ، والمقصود أرباب الفضل والتجارِب منهم.
وفي الذي أُمر بمشاورتهم فيه قولان : حكاهما القاضي أبو يعلى.(17/400)
أحدهما : أنه أمر الدنيا خاصة.
والثاني : أمر الدين والدنيا ، وهو أصح. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 488 ـ 489}
فصل
قال ابن عطية :
والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف فيه ، وقد مدح الله المؤمنين بقوله : { وأمرهم شورى بينهم } [ الشورى : 38 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ، وقال عليه السلام : المستشار مؤتمن ، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالماً ديناً ، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل ، فقد قال الحسن بن أبي الحسن : ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله ، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً واداً في المستشير ، والشورى بركة ، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى ، وقال الحسن : والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ، وقد قال في غزوة بدر : أشيروا عليّ أيها الناس ، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد ، ثم سعد بن عبادة ، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحرب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل ، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع.(17/401)
{ ما فرطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 38 ] وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين ، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة - أحد - يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف ، وقرأ ابن عباس " وشاورهم في بعض الأمر " وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل ، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم ، والشورى مبينة على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه ، عزم عليه وأنفذه متوكلاً على الله ، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه ، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 534}
قال أبو حيان :
وقال ابن عطية : أمر بتدريج بليغ ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه ، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر باستغفار فيما لله ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلاً للاستشارة في الأمور انتهى.
وفيه بعض تلخيص ، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ، ولكنْ هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض.
أمر أولاً بالعفو عنهم ، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه ، ودليل على رضاه صلى الله عليه وسلم عليهم ، وعدم مؤاخذته.
ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ، ويحصل لهم رضاه صلى الله عليه وسلم ورضا الله تعالى.
ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذاناً بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة ، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقداً فيه المودة والعقل والتجربة.
والظاهر أن قوله : فاعف عنهم أمرٌ له بالعفو.
وقيل : معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم ، والمعفو عنه والمسؤول الاستغفار لأجله.
قيل : فرارهم يوم أحد ، وترك إجابته ، وزوال الرّماة عن مراكزهم.(17/402)
وقيل : ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها ، كمناداتهم من وراء الحجرات.
وقول بعضهم : إنْ كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه ، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة.
ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم : أن قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } ، أنه من المقلوب ، والمعنى : وليشاوروك في الأمر. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 104}
فصل
قال الفخر :
ظاهر الأمر للوجوب فقوله : {وَشَاوِرْهُمْ} يقتضي الوجوب ، وحمل الشافعي رحمه الله ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام : " البكر تستأمر في نفسها " ولو أكرهها الأب على النكاح جاز ، لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا ههنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 55}
فصل
قال الفخر :
روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال : الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وعندي فيه إشكال ، لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون ، فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية ، إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 55}(17/403)
كلام نفيس للعلامة الجصاص
قال عليه الرحمة :
قَوْله تَعَالَى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ }.
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ بِالْمُشَاوَرَةِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ بِالْوَحْيِ عَنْ تَعَرُّفِ صَوَابِ الرَّأْيِ ، مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : " إنَّمَا أَمَرَهُ بِهَا تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ وَرَفْعًا مِنْ أَقْدَارِهِمْ إذْ كَانُوا مِمَّنْ يُوثَقُ بِقَوْلِهِ وَيُرْجَعُ إلَى رَأْيِهِ ".
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : " أَمَرَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِتَقْتَدِي بِهِ أُمَّتُهُ فِيهَا وَلَا تَرَاهَا مُنْقِصَةً كَمَا مَدَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ أَمْرَهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ " وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ : " جَمَعَ لَهُمْ بِذَلِكَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، فِي الْمُشَاوَرَةِ لِيَكُونَ لِإِجْلَالِ الصَّحَابَةِ وَلِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ بِهِ فِي الْمُشَاوَرَةِ ".(17/404)
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : " إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ لَهُ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ " فَمِنْ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : إنَّمَا هُوَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا خَاصَّةً وَهُمْ الَّذِينَ يَأْبَوْنَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا خَاصَّةً ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينُ بِآرَائِهِمْ فِي ذَلِكَ وَيَتَنَبَّهَ بِهَا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ مَا جَائِزٌ أَنْ يَفْعَلَهَا لَوْلَا الْمُشَاوَرَةُ وَاسْتِشَارَةُ آرَاءِ الصَّحَابَةِ ؛ وَقَدْ أَشَارَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّزُولِ عَلَى الْمَاءِ فَقَبِلَ مِنْهُ ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ السَّعْدَانُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عِبَادَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِتَرْكِ مُصَالَحَةِ غَطَفَانَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِيَنْصَرِفُوا فَقَبِلَ مِنْهُمْ ، وَخَرَقَ الصَّحِيفَةَ ، فِي أَشْيَاءَ مِنْ نَحْوِ هَذَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ آخَرُونَ : كَانَ مَأْمُورًا بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِي أُمُورِ(17/405)
الدِّينِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِيهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا أَيْضًا مِمَّا طَرِيقُهُ الرَّأْيُ وَغَالِبُ الظَّنِّ ؛ وَقَدْ شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأُسَارَى وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا شَاوَرَهُمْ فَأَظْهَرُوا آرَاءَهُمْ ارْتَأَى مَعَهُمْ وَعَمِلَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَوَائِدِ : أَحَدُهَا : إعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ فَسَبِيلُ اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهِ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ.
وَالثَّانِي : إشْعَارُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَجَائِزٌ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ ؛ إذْ رَفَعَهُمْ اللَّهُ إلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي يُشَاوِرُهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْضَى اجْتِهَادَهُمْ وَتَحَرِّيَهُمْ لِمُوَافَقَةِ النُّصُوصِ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّالِثُ : أَنَّ بَاطِنَ ضَمَائِرِهِمْ مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى يَقِينِهِمْ وَصِحَّةِ إيمَانِهِمْ وَعَلَى مَنْزِلَتِهِمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ وَعَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِهِ.(17/406)
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمُشَاوَرَةِ عَلَى جِهَةِ تَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وَرَفْعِ أَقْدَارِهِمْ وَلِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ بِهِ فِي مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ إذَا اسْتَفْرَغُوا مَجْهُودَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ مَا شُووِرُوا فِيهِ وَصَوَابِ الرَّأْيِ فِيمَا سُئِلُوا عَنْهُ ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْمُولًا عَلَيْهِ وَلَا مُتَلَقَّى مِنْهُ بِالْقَبُولِ بِوَجْهٍ ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَطْيِيبُ نُفُوسِهِمْ وَلَا رَفْعٌ لِأَقْدَارِهِمْ بَلْ فِيهِ إيحَاشُهُمْ فِي إعْلَامِهِمْ بِأَنَّ آرَاءَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا مَعْمُولٌ عَلَيْهَا.
فَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ ، فَكَيْفَ(17/407)
يَسُوغُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّةُ مَعَ عِلْمِ الْأُمَّةِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَشُورَةَ لَمْ تُفِدْ شَيْئًا وَلَمْ يُعْمَلْ فِيهَا بِشَيْءٍ أَشَارُوا بِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا فَوَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَشَاوُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ وَأَنْ لَا تُنْتِجَ الْمَشُورَةُ رَأْيًا صَحِيحًا وَلَا قَوْلًا مَعْمُولًا ؛ لِأَنَّ مُشَاوَرَتَهُمْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَشُورَةُ الْأُمَّةِ فِيمَا بَيْنَهَا تُنْتِجُ رَأْيًا صَرِيحًا وَقَوْلًا مَعْمُولًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ اقْتِدَاءٌ بِالصَّحَابَةِ عِنْدَ مُشَاوَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ ، وَإِذْ قَدْ بَطَلَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِمُشَاوَرَتِهِ إيَّاهُمْ فَائِدَةٌ تُسْتَفَادُ بِهَا وَأَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ طَرِيقٌ مِنْ الِارْتِئَاءِ وَالِاجْتِهَادِ ، فَجَائِزٌ حِينَئِذٍ أَنْ تُوَافِقَ آرَاؤُهُمْ رَأْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَنْ يُوَافِقَ رَأْيُ بَعْضِهِمْ رَأْيَهُ وَجَائِزٌ أَنْ يُخَالِفَ رَأْيَ جَمِيعِهِمْ فَيَعْمَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ بِرَأْيِهِ ، وَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَنِّفِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ بَلْ كَانُوا مَأْجُورِينَ فِيهِ لِفِعْلِهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ ، وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ تَرْكُ آرَائِهِمْ وَاتِّبَاعُ رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(17/408)
وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الْمَنْصُوصَاتِ ، وَلَا يَقُولُ لَهُمْ مَا رَأْيُكُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ ؟ وَلَمَّا لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الدِّينِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُشَاوَرَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيهِمَا جَمِيعًا
وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مُشَاوَرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا إنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ فِي مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ وَمُكَابَدَةِ الْعَدُوِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدْبِيرٌ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاشِهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُشَاوَرَةِ غَيْرِهِ لِاقْتِصَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى الْقُوتِ وَالْكَفَافِ الَّذِي لَا فَضْلَ فِيهِ ، وَإِذَا كَانَتْ مُشَاوَرَتُهُ لَهُمْ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَمُكَابَدَةِ الْحُرُوبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهِ وَبَيْنَهُ فِي أَحْكَامِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ وَعَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ.(17/409)
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ مَعَهُمْ وَيَعْمَلُ بِمَا يَغْلِبُ فِي رَأْيِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ ذِكْرِ الْمُشَاوَرَةِ : { فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } وَلَوْ كَانَ فِيمَا شَاوَرَ فِيهِ شَيْءٌ مَنْصُوصٌ قَدْ وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهِ مِنْ اللَّهِ لَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ فِيهِ مُتَقَدِّمَةً لِلْمُشَاوَرَةِ ؛ إذْ كَانَ وُرُودُ النَّصِّ مُوجِبًا لِصِحَّةِ الْعَزِيمَةِ قَبْلَ الْمُشَاوَرَةِ ، وَفِي ذِكْرِ الْعَزِيمَةِ عَقِيبَ الْمُشَاوَرَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ الْمَشُورَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ قَبْلَهَا. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 329 ـ 331}(17/410)
بحث نفيس
قال صاحب سراج الملوك :
في معرفة خصال ورد الشرع بها فيها نظام الملك والدول
وهي ثلاثة: اللين وترك الفظاظة والمشاورة، وأن لا يستعمل على الأعمال والولايات راغب فيها ولا طالب لها.
ولما علم الله تعالى ما فيها من انتظام الملة واستقامة الأمر نص عليها الله سبحانه ورسوله.
اعلم أن هذه الخصال من أساس الممالك وقل من يعمل بها من الملوك، اثنتان نزلتا من السماء وواحدة قالها الرسول صلى الله عليه وسلم: أما الإلهية فقال تعالى: " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " آل عمران: 159.
وفي الآية إشارتان: إحداهما أن الفظاظة تنفر الأصحاب والجلساء وتفرق الجموع والحشم، وإنما الملك ملك بجلسائه وأصحابه وأتباعه وحشمه.
وأخلق بخصلة تنفر الأولياء وتطمع الأعداء، فقمن بكل سلطان رفضها والاحتراز من سوء مغبتها، ولتكن كما قال الله: " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " الشعراء: 215. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه، فجاء رجل فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: هذا الأبيض المتكئ. فقال الرجل: يا ابن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك! دل الأثر على أنه ما استأثر بشرف المجلس ولا باينهم بزي ولا مقعد.
وقد يبلغ باللين ما يبلغ بالغلظة. ألا ترى أن الرياح تهول أصواتها فيتداخل لها الشجر وتنعطف الأفنان والأغصان، وفي الفرط تنكسر الأغصان، والماء بلينه في أصول الشجر يقلعها من أصلها. وإذا كانت الحية مع صعوبتها وسمها وتغيبها في حجرها ترقى بالكلام حتى تستعطف فتخرج، فالإنسان أحرى أن يستمال بلين القول وحسن المنطق، فإذا أردت أن تنتقم ممن يسيء إليك فكافئه بكل كلمة سوء قالها كلمة جميلة وحسن ثناء عليه.(17/411)
والإشارة الثانية أنه قال: " وشاورهم في الأمر " آل عمران: 159.
فإذا قيل لنا: كيف يشاورهم وهو نبيهم وإمامهم، وواجب عليهم مشاورته وأن لا يفصلوا أمراً دونه؟ قلنا: هذا أدب أدب الله به نبيه عليه السلام، وجعله مأدبة لسائر الملوك والأمراء والسلاطين.
لما علم الله تعالى ما في المشاورة من حسن الأدب مع الجليس ومساهمته في الأمور، فإن نفوس الجلساء والنصحاء والوزراء تصلح عليه وتميل إليه وتخضع عنوة بين يديه، شرعه لنبيه صلى الله عليه وسلم ولذي الإمرة من أهل ملته. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة، فأمرهم بالنزول فقال له سعد: يا رسول الله إن كان هذا بأمرك فسمعاً وطاعة، وإن يكن غير ذلك فليس بمنزل. فسمع منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ارتحلوا! ومن أقبح ما يوصف به الرجال، ملوكاً كانوا أو سوقة، الاستبداد بالرأي وترك المشاورة، وسنعقد للمشاورة باباً إن شاء الله تعالى.
والخصلة الثالثة ما روى البخاري ومسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله استعملني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نستعمل على عملنا من أراده.
والسر فيه أن الولايات أمانات وتصريف في أرواح الخلائق وأموالهم، والتسرع إلى الأمانة دليل على الخيانة، وإنما يخطبها من يريد أكلها، فإذا أؤتمن خائن على موضع الأمانات كان كمن استرعى الذئب على الغنم. ومن هذه الخصلة تفسد قلوب الرعايا على ملوكها، لأنه إذا اهتضمت حقوقهم وأكلت أموالهم فسدت نياتهم، وأطلقوا ألسنتهم بالدعاء والتشكي، وذكروا سائر الملوك بالعدل والإحسان فكانوا كالبيت السائر الذي أنشدناه أولاً.
وراعي الشاء يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الذئاب لها رعاء؟
وإذا خان أهل الأمانات وفسد أهل الولايات، كان الأمر كما قال الأول:
بالملح يصلح ما يخشى تغيره ... فكيف بالملح أن حلت به الغير؟(17/412)
ولغيره في مثل ذلك:
ذئب تراه مصلياً ... فإذا مررت به ركع!
يدعو وجل دعائه: ... ما للفريسة لا تقع؟
عجل بها يا ذا العلا ... إن الفؤاد قد انقطع!
ومن أشراط الساعة التصدي للأمانة وخطبة الولاية. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أشراط الساعة أن تكون الزكاة مغرماً والأمانة مغنماً، فحينئذ يدعو عليه الضعيف وأهل الصلاح ويقعد له الشرير بالمراصد ويخامر عليه القوي، ويقبح ثناؤه عند الجماعة ويتمنوا الراحة منه، وينتظرون من يصلح لها سواه. أ هـ { سراج الملوك / للطرطوشي صـ 40 ـ 41}(17/413)
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ } الآية.
قد قدمنا في سورة الفاتحة في الكلام على قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] أن الجموع المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة العقلاء من الذكور إذا وردت في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم اختلف العلماء فيها هل يدخل فيها النساء أو لا يدخلن ؟ إلا بدليل على دخولهن وبذلك تعلم أن قوله تعالى : { واستغفر لَهُمْ } يحتمل دخول النساء فيه وعدم دخولهن بناء على الاختلاف المذكور ولكنه تعالى بين في موضع آخر أنهن داخلات في جملة مَنْ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لهم وهو قوله تعالى : { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلأ الله واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } [ محمد : 19 ]. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 253}
قوله تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله}
قال الفخر :
المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته ، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 55}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } قال قتادة : أمر الله تعالى نبيّه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يَمضِيَ فيه ويتوكّل على الله ، لا على مشاورتهم.
والعزم هو الأمر المُرَوَّى المنقّح ، وليس ركوب الرأي دون رَوِية عزماً ، إلا على مقْطع المُشِيحين من فُتّاك العرب ؛ كما قال :
إذا همَّ ألقَى بين عينَيْهِ عزمَهُ . . .
ونَكّب عن ذِكر العواقِب جانِبَا
ولم يستشِر في رأيه غيرَ نفسِه . . .
ولم يَرض إلا قائمَ السّيفِ صاحِبَا
وقال النّقاش : العزم والحزم واحد ، والحاء مُبْدلة من العين.(17/414)
قال ابن عطية : وهذا خطأ ؛ فالحزم جودة النّظر في الأمر وتنقيحُه والحذرُ من الخطأ فيه.
والعزمُ قصدُ الإمضاء ؛ والله تعالى يقول : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ }.
فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم.
والعرب تقول : قد أَحْزُم لو أعْزِم.
وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد : "فَإذَا عَزَمْتُ" بضم التاء.
نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه ؛ كما قال : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ].
ومعنى الكلام أي عزمتُ لك ووفّقتك وأرشدتك "فتوكل على اللَّهِ".
والباقون بفتح التاء.
قال المُهَلَّب.
وامتثل هذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أمر ربِّه فقال : " لا ينبغي لنبيّ يلبَس لأُمَتَه أن يضعها حتى يحكم الله " أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف ؛ لأنه نقضٌ للتوكُّل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة.
فلُبْسه لأُمَتهُ صلى الله عليه وسلم حين أشار عليه بالخروج يوم أُحُد مَن أكرمه الله بالشهادة فيه ، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بَدْرٌ : يا رسول الله اخرج بنا إلى عدوّنا ؛ دالّ على العزيمة.
وكان صلى الله عليه وسلم أشار بالقعود ، وكذلك عبد الله بن أُبَيّ أشار بذلك وقال : أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس ، فإنْ هم أقاموا أقاموا بشرّ مجلس ، وإن جاءونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السِّكك ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام ، فوالله ما حار بنَا قطٌ عدوٌّ في هذه المدينة إلا غلبناه ، ولا خرجنا منها إلى عدوّ إلا غَلَبنا.
وأبَى هذا الرأيَ من ذكرنا ، وشجّعوا الناس ودَعَوْا إلى الحرب.
(17/415)
فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ، ودخل إثر صلاته بيتَه ولبِس سلاحه ، فندم أُولئك القوم وقالوا : أكرهْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا : يا رسول الله ، أقِم إن شئت فإنا لا نريد أن نُكرهَك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لا ينبغي لنبيّ إذا لبِس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 252 ـ 253}. بتصرف.
وقال العلامة ابن عاشور :
وقد دلّت الآية على أن الشُّورى مأمور بها الرسُول صلى الله عليه وسلم فيما عبّر عنه بـ ( الأمر ) وهو مُهمّات اللأمّة ومصالحها في الحرب وغيره ، وذلك في غير أمر التَّشريع لأنّ أمر التَّشريع إن كان فيه وحي فلا محيد عنه ، وإن لم يكن فيه وحي وقلنا بجواز الاجتهاد للنَّبيء صلى الله عليه وسلم في التَّشريع فلا تدخل فيه الشورى لأنّ شأن الاجتهاد أن يستند إلى الأدلّة لا للآراء ، والمجتهد لا يستشير غيره إلاّ عند القضاء باجتهاده.
كما فعل عُمر وعُثمان.
فتعيّن أنّ المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شؤون الأمَّة ومصالحها ، وقد أمر الله بها هنا ومدحها في ذكر الأنصار في قوله تعالى : { وأمرهم شورى بينهم } [ الشورى : 38 ] واشترطها في أمر العائلة فقال : { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } [ البقرة : 233 ].
فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلّها : وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد ، ومصالح الأمَّة.
واختلف العلماء في مدلول قوله : { وشاورهم } هل هو للوجوب أو للندب ، وهل هو خاصّ بالرسول عليه الصلاة السَّلام ، أو عامّ له ولولاة أمور الأمَّة كلّهم.(17/416)
فَذهب المالكية إلى الوجوب والعموم ، قال ابن خُوَيْز منداد : واجب على الولاة المشاورة ، فيُشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدّين ، ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب ، ويشاورون وجوه النَّاس فيما يتعلَّق بمصالحهم ويشاورون وجوه الكتّاب والعمّال والوزراء فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها.
وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنَّها سبب للصّواب فقالَ : والشورى مِسبار العقل وسبب الصّواب.
يشير إلى أنَّنا مأمورون بتحرّي الصّواب في مصالح الأمَّة ، وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب.
وقال ابن عطية : الشورى من قواعد الشَّريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، وهذا ما لا اختلاف فيه.
واعتراض عليه ابن عرفة قوله : فعزله واجب ولم يعترض كونَها واجبة ، إلاّ أنّ ابن عطية ذكر ذلك جازماً به وابن عرفة اعترضه بالقياس على قول علماء الكلام بعدم عزل الأمير إذا ظهر فسقه ، يعني ولا يزيد تركُ الشورى على كونه تركَ واجب فهو فسق.
وقلت : من حفظ حجَّة على من لم يحفظ ، وإنّ القياس فيه فارق معتبر فإنّ الفسق مضرّته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض بمصالح المسلمين للخطر والفوات ، ومحمل الأمر عند المالكية للوجوب والأصل عندهم عدم الخصوصية في التَّشريع إلاّ لدليل.
وعن الشافعي أنّ هذا الأمر للاستحباب ، ولتقتدي به الأمّة ، وهو عامّ للرسول وغيره ، تطييباً لنفوس أصحابه ورفعاً لأقدارهم ، وروى مثله عن قتادة ، والرّبيع ، وابن إسحاق.(17/417)
وردّ هذا أبو بكر أحمدُ بن عليّ الرازي الحنفي المشهور بالجَصّاص بقوله : لو كان معلوماً عندهم أنَّهم إذا استَفرغوا جهدهم في استنباط الصّواب عمَّا سُئِلُوا عنه ، ثُمّ لم يكن معمولاً به ، لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم ، بل فيه إيحاشُهم فالمشاورة لم تفد شيئاً فهذا تأويل ساقط.
وقال النووي ، في صدر كتاب الصلاة من "شرح مسلم" : الصحيح عندهم وجوبها وهو المختار.
وقال الفخر : ظاهر الأمر أنَّه للوجوب.
ولم ينسب العلماء للحنفية قولاً في هذا الأمر إلا أنّ الجَصّاص قال في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى : { وأمرهم شورى بينهم } ) : هذا يدلّ على جلالة وقع المَشُورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصّلاة ويدلّ على أنَّنا مأمورون بها.
ومجموع كلامي الجصّاص يدلّ أن مذهب أبي حنيفة وجوبها.
ومن السلف من ذهب إلى اختصاص الوجوب بالنَّبيء صلى الله عليه وسلم قاله الحسن وسفيان ، قالا : وإنَّما أمر بها ليقتدى به غيره وتشيع في أمَّته وذلك فيما لا وحي فيه.
وقد استشار النَّبيء صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لبدر ، وفي الخروج إلى أحُد ، وفي شأن الأسرى يوم بدر ، واستشار عموم الجيش في رَدِّ سبي هوازن.
والظاهر أنَّها لا تكون في الأحكام الشرعية لأنّ الأحكام إن كانت بوحي فظاهر ، وإن كانت اجتهادية ، بناء على جواز الاجتهاد للنَّبيء صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية ، فالاجتهاد إنَّما يستند للأدلَّة لا للآراء وإذا كان المجتهد من أمَّته لا يستشير في اجتهاده ، فكيف تجب الاستشارة على النَّبيء صلى الله عليه وسلم مع أنَّه لو اجتهد وقلنا بجواز الخطأ عليه فإنَّه لا يُقرّ على خطأ باتّفاق العلماء.(17/418)
ولم يزل من سنّة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي في مصالح المسلمين ، قال البخاري في كتاب الاعتصام من "صحيحه" : "وكانت الأئمة بعد النَّبيء صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم ، وكان القُرّاء أصحابَ مشُورة عمَرَ : كُهولاً كانوا أو شُبَّاناً ، وكان وقّافاً عند كتاب الله".
وأخرج الخطيب عن عليّ قال : "قلت : يا رسول الله الأمر ينزل بعدَك لم يَنزل فيه قرآن ولم يسْمع منك فيه شيء قال : اجمعوا له العابِد من أمّتي واجعلوه بينكم شُورى ولا تقضوه برأي واحد" واستشار أبو بكر في قتال أهل الردّة ، وتشاور الصّحابةُ في أمر الخليفة بعد وفاة النَّبيء صلى الله عليه وسلم وجعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى بعده في ستَّة عيّنهم ، وجعل مراقبة الشورى لِخمسين من الأنصار ، وكان عمر يكتب لعمّاله يأمرهم بالتَّشاور ، ويتمثّل لهم في كتابه بقول الشاعر ( لم أقف على اسمه ) :
خَلِيلَيّ ليسَ الرأيُ في صَدرِ واحد...
أشِيرا عَلَيّ بالَّذِي تَرَيَانِ
هذا والشورى ممَّا جبل لله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطره على محبّة الصلاح وتطلّب النجاح في المساعي ، ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتَّشاور في شأنه إذ قال للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] ، إذ قد غَنِي الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنَّه عرض على الملائكة مراده ليكون التَّشاور سنّة في البشر ضرورة أنّه مقترن بتكوينه ، فإنّ مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه ، ولمَّا كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين.(17/419)
ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة في البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى عليه السَّلام فيما حكى الله عنه بقوله : { فماذا تأمرون } [ الأعراف : 110 ].
واستشارت بلقيس في شأن سليمان عليه السلام فيما حكى الله عنها بقوله : { قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون وإنَّما يلهي النَّاس عنها حبّ الاستبداد ، وكراهية سماع ما يخالف الهوى ، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة ، ولذلك يهرع المستبدّ إلى الشورى عند المضائق.
قال ابن عبد البرّ في بهجة المجالس : الشورى محمودة عند عامّة العلماء ولا أعلم أحداً رضِي الاستبداد إلاّ رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة ، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة ، وكلا الرجلين فاسق.
ومثَل أوّلهما قول عمر بن أبي ربيعة :
واستَبَدّت مَرّة واحِدة...
إنَّمَا العَاجِز مَن لا يستبدّ
ومَثل ثانيهما قول سَعْد بن نَاشِب :
إذا هَمّ ألقَى بين عينيه عزمه...
ونَكَّب عن ذِكْر العواقب جانباً
ولم يستَشِرْ في أمره غَير نفسه...
ولم يَرْضَ إلا قَائم السيف صاحباً
ومن أحسن ما قيل في الشورى قول بشار بن برد :
إذا بَلغ الرأيُ المَشُورة فاستَعن...
بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشُورى عليك غضاضة...
مَكانُ الخَوافي قُوّة للقَوادِم
وهي أبيات كثيرة مثبتة في كتب الأدب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 267 ـ 270}
فصل
قال الفخر :
دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه ، كما يقوله بعض الجهال ، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل ، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعول بقلبه عليها ، بل يعول على عصمة الحق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 55}(17/420)
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } التوكّل : الاعتماد على الله مع إظهار العجز ، والاسم التُّكْلان.
يقال منه : اتكلت عليه في أمري ، وأصله : "أوْ تَكَلْت" قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال.
ويقال : وكّلته بأمري توكيلاً ، والاسم الوِكَالة بكسر الواو وفتحها.
واختلف العلماء في التوكل ؛ فقالت طائفة من المتصوّفة : لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبَه خوفُ غير الله من سَبُع أو غيره ، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى.
وقال عامّة الفقهاء.
ما تقدّم ذكره عند قوله تعالى : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون }.
وهو الصحيح كما بيناه.
وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله { لاَ تَخَافَا }.
وقال : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ } [ طاه : 69 ].
وأخبر عن إبراهيم بقوله : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ } [ هود : 70 ].
فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا وحسبك بهما فغيرهما أولى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 253}
وقال العلامة ابن عطية :
والتوكُّل على اللَّه سبحانه وتعالى مِنْ فروض الإيمانِ وفصولِهِ ، ولكنَّه مقترنٌ بالجِدِّ في الطاعاتِ ، والتَّشْميرِ والحَزَامَةِ بغايةِ الجُهْدِ ، وليس الإلقاء باليدِ وما أشبهه بتوكُّل ، وإنما هو كما قال عليه السلام : " قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ ". أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 534}(17/421)
فصل
قال الفخر :
حكي عن جابر بن زيد أنه قرأ {فَإِذَا عَزَمْتَ} بضم التاء ، كأن الله تعالى قال للرسول إذا عزمت أنا فتوكل ، وهذا ضعيف من وجهين : الأول : وصف الله بالعزم غير جائز ، ويمكن أن يقال : هذا العزم بمعنى الايجاب والالزام ، والمعنى وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه.
فتوكل علي ، ولا تشاور بعد ذلك أحدا.
والثاني : أن القراءة التي لم يقرأ بها أحد من الصحابة لا يجوز إلحاقها بالقرآن ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 56}
قوله تعالى : {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين}
قال الفخر :
{إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع إلى الله تعالى والإعراض عن كل ما سوى الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 56}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
في " ما " وجهان : أحدهما : أنها زائدة للتوكيد ، والدلالة على أن لِينَهُ لَهُمْ ما كان إلا برحمة من اللهِ ، نظيره قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [ المائدة : 13 ] وقوله : { عَمَّا قَلِيلٍ } [ المؤمنون : 40 ] وقوله : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ } [ ص : 11 ] وقوله : { مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ } [ نوح : 25 ]. والعربُ قد تريد في الكلام -للتأكيد- ما يستغنى عنه ، قال تعالى : { فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ } [ يوسف : 96 ] فزاد " أن " للتأكيد.
وقال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين -غيرُ جائزٍ ، بل تكون غير مزيدة ، وإنما هي نكرة ، وفيها وجهان :
الأول : أنها موصوفة بـ " رَحْمَةٍ " أي : فبشيء رحمة.
الثاني : أنها غير موصوفة ، و" رَحْمَةٍ " بدل منها ، نقله مكيٌّ عن ابن كَيْسَان.
ونقل أبو البقاءِ عن الأخفش وغيره : أنها نكرة موصوفة ، " رَحْمَةٍ " بدل منها ، كأنه أبهم ، ثم بين بالإبدال.(17/422)
وقال ابن الخطيب : " يجوز أن تكون " مَا " استفهاماً للتعجب ، تقديره : فبأي رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ، وذلك ؛ لأن جنايتهم لما كانت عظيمة -ثم إنه ما أظهر -ألبتة- تغليظاً في القول ، ولا خشونة في الكلام -علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد ربانيٍّ وتسديدٍ إلهيٍّ فكان ذلك موضع التعجب ".
ورد عليه أبو حيّان بأنه لا يخلو إما أن يجعل " ما " مضافة إلى " رَحْمَةٍ " -وهو ظاهر تقديره- فيلزم إضافة " ما " الاستفهامية ، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا " أي " اتفاقاً و" كم " عند الزَّجَّاج- وإما أن لا يجعلها مضافة ، فتكون " رَحْمَةٍ " بدلاً منها ، وحينئذٍ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل ، كما قرره النحويون. ثم قال : " وهذا الرجلُ لاحظ المعنى ، ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك ، والتسلق إلى ما لا يحسنه والتصوُّر عليه قول الزجاج -في " ما " هذه : إنها صلة ، فيها معنى التأكيدِ بإجماع النحويينَ.
وليس لقائل أن يقولَ : له أن يجعلها غير مضافةٍ ، ولا يجعل " رَحْمَةٍ " بدلاً - حالا يلزم إعادة حرف الاستفهام- بل يجعلها صفة ، لأن " ما " الاستفهامية لا توصف وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى ، وإليه ذهب أبو بكر الزبيديُّ ، فكان لا يُجَوِّزُ أن يقال -في القرآن- : هذا زائد أصلاً.
وهذا فيه نظرٌ ؛ لأن القائلين يكون هذا زائداً لا يَعْنون أنه يجوز سقوطه ، ولا أنه مُهْمَلٌ لا معنى له بل يقولون : زائد للتوكيدِ ، فله أسوةٌ بشائرِ ألفاظِ التوكيدِ الواقعة في القرآن. و" ما " كما تُزاد بين الباء ومجرورها ، تزاد أيضاً بين " من " و" عَنْ " والكاف ومجرورها.
(17/423)
قال مكيٌّ : " ويجوز رفع " رحمة " على أن تجعل " ما " بمعنى الذي ، وتضمر " هُوَ " في الصلة وتحذفها ، كما قرئ : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ]. فقوله : ويجوزُ يعني من حيث الصناعةِ ، وأما كونها قراءة ، فلا نحفظها.
قوله : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } الفظاظةُ : الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً ، قال الشَّاعرُ : [ البسيط ]
أخشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ ، أوْ جَفَاءَ أخ... وَكُنْتُ أخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذَى الْكَلم
والغلظُ : كبر الإجرام ، ثم تجوز به في عدم الشفقة ، وكثرة القسوةِ في القلب.
قال الشاعرُ : [ البسيط ]
يُبْكَى عَلَيْنَا وَلاَ نَبْكِي عَلَى أحَدٍ... ونَحْنُ أغْلَظُ أكْبَاداً مِنَ الإبِلِ
وقال الراغبُ : الفَظَّ : هو الكريه الخُلُق ، وقال الواحديُّ : الفَظُّ : الغليظُ الجانبِ ، السيِّء الخُلُق وهو مستعارٌ من الفَظِّ ، وهو ماء الكرش ، وهو مكروه شُربه إلا في ضرورة.
وقال الراغبُ : الغَلِظ : ضد الرِّقَّةِ ، ويقال : غلظ بالكسر والضم وعن الغِلْظة تنشأ الفظاظة.
فإن قيل : إذا كانت الفظاظةُ تنشأُ عن الغلظة ، فلم قُدَِّمَتْ عَلِيْهَا ؟
فالجوابُ : قُدِّم ما هو ظاهر للحس على ما خافٍ في القلب ؛ لأن الفظاظة : الجفوة في العِشْرَة قولاً وفعلاً -كما تقدم- والغلظة : قساوة القلب ، وهذا أحسن من قول من جعلهما بمعنى ، وجمع بينهما تأكيداً. وأما الانفضاض والغضّ فهو تفرُّق الأجزاء وانتشارها. ومنه فضَّ ختم الكتاب ، ثم استُعِير منه انفضاض الناس ، قال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] ومنه يقال : لا يفضض اللهُ فاك.
(17/424)
قوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } يقال شاورهم مشاورة وشِوَاراً وَمَشورة ، والقوم شورى ، وهي مصدر ، سمي القوم بها ، كقوله : { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] قيل : المشاورة : مأخوذة من قولهم : شُرتُ العسل ، أشورُه : إذا أخذته من موضعه واستخرجته.
وقيل : مأخوذة من قولهم : شربت الدابّة ، شوراً -إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدوابّ يسمى مشواراً ، كأنه بالعرض- يعلم خيره وشرهن فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها.
قوله : { فَإِذَا عَزَمْتَ } الجمهورُ على فتح التاءِ ؛ خطاباً له صلى الله عليه وسلم وقرأ عكرمة وجعفر الصادق -ورُويت عن جابر بن زيد- بضَمِّها. على أنها لله تعالى ، على معنى : فإذا أرشدتك إليه ، وجعلتك تقصده.
وجاء قوله : من الالتفات ؛ إذ لو جاء على نسقِ هذا الكلام لقيل : فتوكل عليَّ.
فقد نُسِب العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة : " ثم عزم الله لي " وذلك على سبيل المجاز. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 15 ـ 20}. بتصرف.(17/425)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبىء عنه السياق من استحقاق الفارّين الملامة والتعنيف منه صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية حيث صدروا عنه وحياض الأهوال مترعة وشمروا للهزيمة والحرب قائمة على ساق ، أو من سعة فضاء مغفرته ورحمته والباء متعلقة بلنت والتقديم للقصر ، وما مزيدة للتأكيد وعليه أجلة المفسرين وهو المأثور عن قتادة ، وحكى الزجاج الإجماع عليه وفيه نظر ، فقد قال الأخفش وغيره يجوز أن تكون نكرة بمعنى شيء ، ورحمة بدل منها ، وجوز أن تكون صفة لها ، وقيل : إنها استفهامية للتعجب والتقدير فبأي رحمة لنت لهم ، والتنوين في رحمة على كل تقدير للتفخيم ، و{ مِنْ } متعلقة بمحذوف وقع صفة لها أي : فبما رحمة عظيمة كائنة من الله تعالى كنت لين الجانب لهم ولم تعنفهم ، ولعل المراد بهذه الرحمة ربطه سبحانه وتعالى على جأشه صلى الله عليه وسلم وتخصيصه له بمكارم الأخلاق ، وجعل الرفق ولين الجانب مسبباً عن ربط الجأش لأن من ملك نفسه عند الغضب كان كامل الشجاعة.
قيل : وأفاد الكلام في هذا المقام فائدتين : إحداهما : ما يدل على شجاعته صلى الله عليه وسلم ، والثانية : ما يدل على رفقه فهو من باب التكميل ، وقد اجتمعت فيه صلى الله عليه وسلم هاتان الصفتان يوم أحد حيث ثبت حتى كر عليه أصحابه مع أنه عراه ما عراه ثم ما زجرهم ولا عنفهم على الفرار بل آساهم في الغم.
{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً } أي خشن الجانب شرس الأخلاق جافياً في المعاشرة قولاً وفعلاً { غَلِيظَ القلب } أي قاسيه ، وقال الكلبي : فظاً في الأقوال غليظ القلب في الأفعال.(17/426)
وذكر بعضهم أن الفظ سيء الخلق في الأمور الظاهرة من الأقوال والأفعال ، وغليظ القلب السيء في الأمور الباطنة ، والثاني : سبب للأول وقدم المسبب لظهوره إذ هو الذي يطلع عليه ويمكن أن يقال المراد لو كنت على خلاف تينك الصفتين المعبر عنهما بالرحمة وهو التهور المشار إليه بالفظاظة وسوء الأخلاق المرموز إليه بغلظ القلب فإن قساوة القلب وعدم تأثره يتبعها كل صفة ذميمة ، ولهذا ورد أبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية وكأنه لبعده صدّر بيمكن وعلى كل تقدير في الكلام حذف أي ولو كنت فظاً غليظ القلب فلم تلن لهم وأغلظت عليهم { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } أي لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك وتردّوا في مهاوي الردى ولم ينتظم أمر ما بعثت به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط.(17/427)
{ فاعف عَنْهُمْ } مترتب على ما قبله أي إذا كان الأمر كذلك فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك { واستغفر لَهُمُ } الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وتعالى إتماماً للشفقة وإكمالاً للتربية { وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر } أي في الحرب أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن سيرين عن عبيدة وهو المناسب للمقام ، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة ، وإليه ذهب جماعة ، واختلف في مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله تعالى عنهم في أمر الدين إذا لم يكن هناك وحي فمن أبى الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم ذهب إلى عدم جوازها ومن لا يأباه وهو الأصح ذهب إلى جوازها ، وفائدتها الاستظهار برأيهم ، ويؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر : "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما" أو التطييب لأنفسهم ، وإليه ذهب قتادة ، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال : أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم ، أو أن تكون سنة بعده لأمته وإليه ذهب الحسن ، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية : قد علم الله تعالى ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده ، ويؤيده ما أخرجه ابن عدي والبيهقي في "الشعب" بسند حسن عن ابن عباس قال : لما نزلت { وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ومن تركها لم يعدم غياً " ؛ وقيل : فائدة ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح من الغاش وليس بشيء ، وادعى الجصاص "أن كون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب النفوس مثلاً غير جائز لأنه لو كان معلوماً عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم(17/428)
في استنباط الصواب عما سئلوا عنه ثم لم يكن معمولاً به لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم بل فيه إيحاشهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معوّل عليها ؛ وجزم بأنه لا بد أن يكون لمشاورته صلى الله عليه وسلم إياهم فائدة هي الاستظهار بما عندهم وأن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم معهم ضرب من الاجتهاد فما وافق رأيه عمل به وما خالفه ترك من غير لوم ، وفيه إرشاد للاجتهاد وجوازه بحضرته صلى الله عليه وسلم وإشعار بمنزلة الصحابة وأنهم كلهم أهل اجتهاد وأن باطنهم مرضي عند الله تعالى" انتهى ، وفيه نظر إذ لا خفاء على من راجع وجدانه أن في قول الكبير للصغير ماذا ترى في أمر كذا وماذا عندك فيه تطييباً لنفسه وتنشيطاً لها لاكتساب الآراء وإعمال الفكر لا سيما إذا صادف رأيه رأي الكبير أحياناً وإن لم يكن العمل برأيه الموافق بل العمل بالرأي الموافق ، وما ادعاه من أن الرأي إذا لم يكن معمولاً به كان فيه إيحاش غير مسلم لا سيما فيما نحن فيه لعلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعلو شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عقولهم بالنسبة إلى عقله الشريف كالسها بالنسبة إلى شمس الضحى ، على أن من قال : إن فادة المشاورة تطييب النفس أشار إلى أن الوحي يأتيه فهو غني عنها ، وحينئذٍ يكون قصد التطييب أتم وأظهر لما في المشاورة إذ ذاك من تعريضهم لما يمكن أن يوافق الوحي والإيحاش بعدم العمل هنا أبعد لأن مستنده اتباع الوحي ومعلوم لديهم أنه أولى بالاتباع لأنه من قبل الله تعالى اللطيف الخبير كما لا يخفى ، ثم ما ذكر من أن في ذلك إشعاراً بأن الصحابة كلهم أهل اجتهاد في حيز المنع لأن أمر السلطان مثلاً لعامله أن يشاور أهل بلده في أموره لا يستدعي أن يشاور كل واحد واحد منهم في ذلك بل لا يكاد أن يكون ذلك مراداً أصلاً بل المراد أن يشاور أهل الآراء منهم(17/429)
والمتدربين فيهم ، وكون الصحابة كلهم كذلك أول المدعى ، ودون إثباته وقعة الجمل وحرب صفين.
ويؤيد كون المراد من الصحابة المأمور صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم أهل الرأي والتدبير لا مطلقاً بما أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس أنه قال في { وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر } : أبو بكر وعمر ، ومن طريق الكلبي عن أبي صالح عن الحبر أن الآية نزلت فيهما ، نعم لو كانت المشاورة لمجرد تطييب النفوس دون الاستظهار كان لمشاورة أي واحد منهم وإن لم يكن من أرباب الرأي وجه لكن الجصاص لم يبن كلامه على ذلك.
بقي أن بين ما أخرجه الإمام أحمد من قوله صلى الله عليه وسلم للعمرين رضي الله تعالى عنهما : "لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما" وأما أخرجه ابن عدي والبيهقي من قوله عليه الصلاة والسلام عند نزول الآية "أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي" تنافياً إلا أن يحمل خبر عدم مخالفتهما لو اجتمعا على الإشارة إلى رفعة قدرهما وعلو شأنهما وأن اجتماعهما على أمر لا يكون إلا موافقاً لما عند الله تعالى وهو الذي عليه المعول وبه العمل ، وكأن في قوله صلى الله عليه وسلم : "ما خالفتكما" دون لعملت بقولكما مثلاً نوع إشعار بما قلنا فتدبر ، وقرأ ابن عباس كما أخرج البخاري في "الأدب المفرد" عنه { وَشَاوِرْهُمْ فِى بَعْضِ الأمر }.
{ فَإِذَا عَزَمْتَ } أي إذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء.(17/430)
{ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي فاعتمد عليه وثق به وفوض أمرك إليه فإنه الأعلم بما هو الأصلح ، وأصل التوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير والاكتفاء به في فعل ما يحتاج إليه ، وهو عندنا على الله سبحانه لا ينافي مراعاة الأسباب بل يكون بمراعاتها مع تفويض الأمر إليه تعالى شأنه و"اعقلها وتوكل" يرشد إلى ذلك ، وعند ساداتنا الصوفية هو إهمال التدبير بالكلية ، وعن جابر بن زيد أنه قرأ { فَإِذَا عَزَمْتَ } بصيغة المتكلم ، والمعنى فإذا قطعت لك بشيء وعينته لك فتوكل علي ولا تشاور به أحداً ، والالتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل والأمر به فإن عنوان الألوهية الجامعة لجميع صفات الكلام مستدعي للتوكل عليه سبحانه والأمر به.
{ إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } عليه الواثقين به المنقطعين إليه فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة ، والجملة تعليل للتوكل عليه سبحانه ، وقد روعي في الآية حسن الترتيب وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاح عنهم التبعتان فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذ صاروا خالصين من التبعتين مصفين منهما ، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالتوكل على الله تعالى والانقطاع إليه لأنه سبحانه السند الأقوم والملجأ الأعظم الذي لا تؤثر الأسباب إلا به ولا تنقضي الحاجة إلا عند بابه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 105 ـ 108}(17/431)
وقال ابن عاشور :
وقوله : { فتوكل على الله } التوكُّل حقيقته الاعتماد ، وهو هنا مجاز في الشروع في الفعل مع رجاء السداد فيه من الله ، وهو شأن أهل الإيمان ، فالتوكّل انفعال قلبي عقلي يتوجّه به الفاعل إلى الله راجياً الإعانة ومستعيذاً من الخيبة والعوائق ، وربَّما رافقه قول لساني وهو الدعاء بذلك.
وبذلك يَظهر أن قوله : { فتوكل على الله } دليل على جواب إذَا ، وفَرع عنه ، والتقدير : فإذَا عزمت فَبَادر ولا تتأخّر وتَوكَّل على الله ، لأنّ للتأخّر آفاتٍ ، والتردّد يضيّع الأوقات ، ولو كان التَّوكل هو جواب إذا لما كان للشورى فائدة لأنّ الشورى كما علمت لقصد استظهار أنفع الوسائل لحصول الفعل المرغوب على أحسن وجه وأقربه ، فإنّ القصد منها العمل بما يتضّح منها ، ولو كان المراد حصول التوكّل من أوّل خطور الخاطر ، لما كان للأمر بالشورى من فائدة.
وهذه الآية أوضح آية في الإرشاد إلى معنى التَّوكل الَّذي حرَف القاصرون ومن كان على شاكلتهم معناه ، فأفسدوا هذا الدين من مبناه.
وقوله : { إن الله يحب المتوكلين } لأنّ التوكّل علامة صدق الإيمان ، وفيه ملاحظة عظمة الله وقدرته ، واعتقادُ الحاجة إليه ، وعدم الاستغناء عنه وهذا ، أدب عظيم مع الخالق يدلّ على محبّة العبد ربّه فلذلك أحبَّه الله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 271}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من البيان والبديع والإبهام في : ولا تلوون على أحد ، فمن قال : هو الرسول أبهمه تعظيماً لشأنه ، ولأن التصريح فيه هضم لقدره.
والتجنيس المماثل في : غما بغمّ ، ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ.
والطباق : في يخفون ويبدون ، وفي فاتكم وأصابكم.
والتجنيس المغاير في : تظنون وظن ، وفي فتوكل والمتوكلين.(17/432)
وذكر بعضهم ذلك في فظاً ولا تفضوا ، وليس منه ، لأنه قد اختلفت المادّتان والتفسير بعد الإبهام في ما لا يبدون يقولون.
والاحتجاج النظري في : لو كنتم في بيوتكم والاعتراض في : قل إن الأمر كله لله.
والاختصاص في : بذات الصدور ، وفي بما تعملون بصير ، وفي يحب المتوكلين.
والإشارة في قوله : ليجعل الله ذلك حسرة.
والاستعارة في : إذا ضربوا في الأرض ، وفي لنت ، وفي غليظ القلب ، والتكرار في : ما ماتوا ، وما قتلوا ، وما بعدهما ، وفي : على الله إن الله.
وزيادة الحرف للتأكيد في : فبما رحمة.
والالتفات والحذف في عدة مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 105}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}
ويقال إن من خصائص رحمته - سبحانه - عليه أنْ قَوّاه حتى صَحِبَهُم ، وصبر على تبليغ الرسالة إليهم ، وعلى ما كان يقاسيه من اختلافهم - مع سلطان ما كان مستغرقاً له ولجميع أوقاته من استيلاء الحق عليه ، فلولا قوة إلهية لستأثره الحق بها وإلا متى أطلق صحبتهم ؟!
ألا ترى إلى موسى عليه السلام لما كان قريب العهد بسماع كلامه كيف لم يصبر على مخاطبة أخيه فأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه ؟
ويقال لولا أنه صلى الله عليه وسلم شاهدهم محواً فيما كان يَجْرِي عليهم من أحكام التصريف ، وتحقَّق أن منشئها الله - لما أطاق صحبتهم.(17/433)
قوله تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } : لو سَقْيتَهم صِرْفَ شراب التوحيدِ غيرَ ممزوجٍ بما فيه لهم حظٌّ لتفرقوا عنك ، هائمين على وجوههم ، غير مطيقين للوقوف لحظةً ، { فَاعْفُ عَنْهُمْ } فيما يكون تقصيراً منهم في حقك وتوقيرك ، وما عثرت عليه مِنْ تفريطهم في خدمتنا وطاعتنا - فانتصِبْ لهم شفيعاً إلينا.
ويقال : { فَاعْفُ عَنْهُمْ } فاعف - أنت - عنهم فإن حكمك حكمُنا ، فأنت لا تعفو إلا وقد عَفَوْنا ، ثم ردَّه عن هذه الصفة بما أثبته في مقام العبودية ، ونقله إلى وصف التفرقة فقال : ثم قِفْ في محل التذلل مبتهلاً إلينا في استغفارهم. وكذا سُنَّتُه - سبحانه - مع أنبيائه عليهم السلام وأوليائه ، يردُّهم مِنْ جمعٍ إلى فرقٍ ومن فَرْقٍ إلى جمع ، فقوله : { فَاعْفُ عَنْهُمْ } جمع ، وقوله : { وَاسْتَغْفِرْ لهُمْ } فرق.
ويقال : { فَاعْفُ عَنْهُمْ } وتجاوز عنهم في حقوقك ، ولا تكتفِ بذلك ما لم تستغفِرْ لهم إكمالاً للكرم ؛ ولهذا كان يقول : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ".
ويقال ما يُقصِّرون في حقِّك تعلَّق به حقَّان : حقك وحقي ، فإذا عفوتَ أنت فلا يكفي هذا القَدْرُ بل إنْ لَمْ أتجاوز عنهم في حقي كانوا مستوجبين للعقوبة ؛ فمن أرضى خصمَه لا يَنْجَبِر حالُه ما لم يغفر الله له فيما ترك من أمره.
وقوله : { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ } أي أثْبِتْ لهم محلاً ؛ فإنَّ المعفوَ عنه في صدار الخجلة لا يرى لنفسه مقام الكَرامة ، فإذا شاورتَهم أزَلْت عنهم انكسارهم ، وطيَّبْتَ لهم قلوبهم.
ويقال تجَنَّسوا في أحوالهم : فَمِنْ مُقَصِّر في حقه أُمِرَ بالعفو عنه ، ومن مرتكب لذنوبه أُمِرَ بالاستغفار له ، ومن مطيعٍ غير مقصرٍ أُمِرَ بمشاورته.(17/434)
ثم قال : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ } أي لا تتكل على رأي مخلوق وكِلْ الأمور إليّ ، فإنا لا نخليك عن تصريف القبض بحالٍ.
وحقيقة التوكل شهود التقدير ، واستراحة القلوب عن كد التدبير.
{ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ } يذيقهم بَرْدَ الكفاية ليزول عنهم كل لغبٍ ونَصَبٍ ، وإنه يعامل كلاً بما يستوجبه ؛ فقومٌ يغنيهم - عند توكلهم - بعطائه ، وآخرون يكفيهم - عند توكلهم - بلقائه ، وقوم يرضيهم في عموم أحوالهم حتى يكتفون ببقائه ، ويقفون معه به له - على تلوينات قَدَرِه وقضائه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 290 ـ 291}. بتصرف يسير.(17/435)
قوله تعالى : {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان التقدير ؛ فإذا فعلوا ما يحبه أعطاهم مُناهم مما عزموا عليه لأجله ؛ استأنف الإخبار بما يقبل بقلوبهم إليه ويقصر هممهم عليه ، بأن من نصره هو المنصور ، ومن خذله هو المخذول ، فقال تعالى : {إن ينصركم الله} أي الذي له جميع العظمة {فلا غالب لكم} أي إن كان نبيكم صلى الله عليه وسلم بينكم أو لا ، فما بالكم وهنتم لما صاح إبليس أن محمداً قد قتل! وهلا فعلتم كما فعل سعد بن الربيع رضي الله تعالى عنه وكما فعل أنس بن النضير رضي الله تعالى عنه حين قال : " موتوا على ما مات عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم ! فهو أعذر لكم عند ربكم " {وإن يخذلكم} أي بإمكان العدو منكم {فمن ذا الذي ينصركم من بعده} أي من نبي أو غيره ، ولما كان التقدير : فعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ، عطف عليه قوله : {وعلى الله} أي الملك الأعظم وحده ، لا على نبي ولا على قوة بعد ولا بمال من غنيمة ولا غيرها {فليتوكل المؤمنون} أي كلهم فيكون ذلك أمارة صحة إيمانهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 174}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى : { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}
استئناف نشأ عن قوله : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو مِتُّم } [ آل عمران : 157 ] أو عن قوله : { لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } [ آل عمران : 156 ] الآية.(17/436)
ولو حُمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبَاراً بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون ، ولا يجهل مؤمن أنّ الله إذا قَدّر نَصر أحَدٍ فلا رادّ لنصره ، وأنَّه إذا قدّر خَذْلَه فلا ملجأ له من الهزيمة ، فإنّ مثل هذا المعنى محقّق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته ، مؤمن بوحدانيته ، وهل بعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته ، فيتعيّن أن يكون هذا الخبر مراداً به غيرُ ظاهر الإخبار ، وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريراً لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة ، حتَّى لا يحزنوا على ما فات لأنّ ردّ الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس ، وعزاء على المصيبة ، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أنّ نصر الله قوماً في بعض الأيَّام ، وخَذْله إيّاهم في بعضها ، لا يكون إلاّ لحِكَم وأسباب ، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر ، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخَذل كما أشار إليه قوله : { يأيُّها الَّذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] وقوله : { فأثابكم غماً بغم } [ آل عمران : 153 ] وقوله الآتي : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليْها قلتم أنى هذا } [ آل عمران : 165 ] وعليهم التطلّب للأسباب الَّتي قُدر لهم النَّصر لأجلها في مثل يوم بَدر ، وأضدادها الَّتي كان بها الخَذل في يَوم أحُد ، وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضارّ على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك ، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها ، وزجّ بها في مسارح العبر ، ومراكض العظات ، والسابقون الجيادُ ، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحضّ على تحصيل ذلك.(17/437)
وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدّمه : لأنَّه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] إلى هنا ، جمع لهم كُلّ ذلك في كلام جامع نافعٍ في تلقِّي الماضي ، وصالححٍ للعمل به في المستقبل ، ويجوز أن يكون الإخبار مبنيّاً على تنزيل العالم منزلة الجاهل ، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأوّل في أمر الرسول لهم في الثبات ، ومن التلهّف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح ، ما جعل حالهم كحال من يجهل أنّ النصر والخذل بيد الله تعالى.
فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر.
والنَّصر : الإعانة على الخلاص من غلب العَدوّ ومُريد الإضرار. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 271 ـ 272}
فصل
قال الفخر :
قيل المقصود من الآية الترغيب في الطاعة ، والتحذير عن المعصية ، وذلك لأنه تعالى بين فيما تقدم أن من اتقى معاصي الله تعالى نصره الله ، وهو قوله : {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملائكة} [ آل عمران : 125 ] ثم بين في هذه الآية أن من نصره الله فلا غالب له ، فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين ، أن من اتقى الله فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة فإنه يفوز بسعادة لا شقاوة معها وبعز لا ذل معه ، ويصير غالبا لا يغلبه أحد ، وأما من أتى بالمعصية فإن الله يخذله ، ومن خذله الله فقد وقع في شقاوة لا سعادة معها ، وذل لا عز معه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 56}(17/438)
قال الآلوسى :
{ إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفاً للمؤمنين لإيجاب التوكل عليه والترغيب في طاعته التي يستحق بها النصرة والتحذير عن معصيته التي يستحق بها الخذلان أي إن يرد نصركم كما أراده يوم بدر فلا أحد يغلبكم على طريق نفي الجنس المنتظم بجميع أفراد الغالب ذاتاً وصفة فهو أبلغ من لا يغلبكم أحد لدلالته على نفي الصفة فقط.
ثم المفهوم من ظاهر النظم الكريم كما قال شيخ الإسلام وإن كان نفي مغلوبيتهم من غير تعرض لنفي المساواة أيضاً وهو الذي يقتضيه المقام لكن المفهوم منه فهماً قطعياً هو نفي المساواة وإثبات الغالبية للمخاطبين ، فإذا قلت : لا أكرم من فلان ولا أفضل منه فالمفهوم منه حتماً أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا أمر مطرد في جميع اللغات ولا اختصاص ( له ) بالنفي الصريح بل هو مطرد فيما ورد على طريق الاستفهام الإنكاري كما في قوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } [ الأنعام : 144 ] في مواقع كثيرة من التنزيل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 108}
فائدة
قال ابن عاشور :
ومعنى { إن ينصركم } { وإن يخذلكم } إنْ يُرد هَذا لَكم ، وإلاّ لما استقام جواب الشرط الأوّل ، وهو " { فلا غالب لكم } إذ لا فائدة في ترتيب عدم الغلب على حصول النصر بالفِعل ، ولا سيما مع نفي الجنس في قوله : { فلا غالب لكم } ، لأنَّه يصير من الإخبار بالمعلوم ، كما تقول : إن قمتَ فأنتَ لست بقَاعد.
وأمَّا فعل الشرط الثَّاني وهو : { وإن يخذلكم } فيقدّر كذلك حَمْلاً على نظيره ، وإن كان يستقيم المعنى بدون تأويل فيه.
وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية.(17/439)
وجَعْل الجواب بقوله : { فلا غالب لكم } دون أن يقول : لا تغلبوا ، للتنصيص على التَّعميم في الجواب ، لأنّ عموم ترتّب الجزاء على الشرط أغلبي وقد يكون جزئياً أي لا تغلبوا من بعض المغالبين ، فأريد بإفادة التعميم دفع التّوهم.
والاستفهام في قوله : { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } إنكاري أي فلا ينصركم أحد غيره.
وكلمة { من بَعده } هنا مستعملة في لازم معناها وهو المغايرة والمجاوزة : أي فمن الَّذي ينصركم دونَه أو غيرَه أي دون اللَّه ، فالضّمير ضمير اسم الجلالة لا محالة ، واستعمال ( بعد ) في مثل هذا شائع في القرآن قال تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] وأصل هذا الاستعمال أنه كالتمثيلية المكنية : بأن مثلت الحالة الحاصلة من تقدير الانكسار بحالة من أسلم الذي استنصر به وخذله فتركه وانصرف عنه لأن المقاتل معك إذا ولى عنك فقد خذللك فحذف ما يدل على الحالة المشبه بها ورمز إليه بلازمه وهو لفظ { من بعده }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 272 ـ 273}
فصل
قال الفخر :
احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الإيمان لا يحصل إلا بإعانة الله ، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه ، والوجه فيه ظاهر لأنها دالة على أن الأمر كله لله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 56}
فصل
قال الفخر :
قوله : {مِن بَعْدِهِ} فيه وجهان :
الأول : يعني من بعد خذلانه ، والثاني : أنه مثل قولك : ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 56}(17/440)
قوله تعالى {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}
قال الفخر :
يعني لما ثبت أن الأمر كله بيد الله ، وأنه لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه ، وجب أن لا يتوكل المؤمن إلا عليه ، وقوله : {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} يفيد الحصر ، أي على الله فليتوكل المؤمنون لا على غيره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 56}
وقال البغوى :
{ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } قيل : التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك وقيل : أن لا تطلب لنفسك ناصرًا غير الله ولا لرزقك خازنًا غيره ولا لعملك شاهدا غيره.
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن شجاع البزَّار ببغداد ، أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد الهيثم الأنباري ، أخبرنا محمد بن أبي العوام أخبرنا وهب بن جرير ، أخبرنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يدخل سبعون ألفًا من أمتي الجنة بغير حساب" قيل : يا رسول الله مَنْ هم ؟ قال : "هم الذين لا يكتوون ولا يسَتْرقُون ولا يتطيرّون وعلى ربهم يتوكلون" فقال عكاشة بن محصن : يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم قال : "أنت منهم" ثم قام آخر فقال : يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم فقال : "سبقك بها عكاشة" (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب برقم (371) : 1 / 198 وبلفظ مقارب أخرجه البخاري في الطب باب من اكتوى أو كوى غيره : 10 / 155. وأخرجه عن ابن عباس في الرقاق. وأخرجه البغوى في شرح السنة : 14 / 300.(17/441)
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن حياة بن شريح ، حدثني بكر بن عمرو ، عن عبد الله بن هبيرة ، أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لو أنكم تتوكّلوُن على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا وتروح بطانا" (1) . أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 125}
وقال ابن عاشور :
وجملة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } تذييل قصد به الأمر بالتَّوكل المستند إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى : من أسبابٍ عادية وهي الاستعداد ، وأسبابٍ نفسانية وهي تزكية النفس واتّباع رضَى الله تعالى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 273}
___________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد - باب ما جاء في الزهادة في الدنيا : 7 / 8 وقال : هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وابن ماجه في الزهد - باب التوكل واليقين برقم (4164) : 2 / 1394 وابن حبان في الزهد باب ما جاء في التوكل ص (632) من موارد الظمآن. وأحمد في المسند : 1 / 30 ، 52 والبغوى في شرح السنة : 14 / 301 وصححه الحاكم : 4 / 318 ووافقه الذهبي. وانظر : النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد ص 190 - 191.(17/442)
وقال الآلوسى :
{ وَعَلَى الله } لا على غيره كما يؤذن بذلك تقديم المعمول.
{ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } المراد بهم إما جنس المؤمنين والمخاطبون داخلون فيه دخولاً أولياً ، وإما المخاطبون خاصة بطريق الالتفات وعلى التقديرين لا يخفى ما في ذلك من تشريف المخاطبين مع الإيماء إلى تعليل تحتم التوكل عليه تعالى ، والفاء كما قالوا : لترتيب ما بعدها أو الأمر به على ما مرّ من غلبة المؤمنين ومغلوبيتهم على تقدير نصر الله تعالى لهم وخذلانه إياهم فإن العلم بذلك مما يستدعي قصر التوكل عليه سبحانه لا محالة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 108}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } شرطٌ وجوابه ، وكذلك قوله : { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي } وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب- كذا قوله أبو حيان. يعني من الغيبة في قوله : { لِنتَ لَهُمْ } وقوله : { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } وقوله : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر }
قال شهاب الدين : وفيه نظر. وجاء قوله : { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } جواباً للشرطِ ، وهو نفيٌ صريحٌ ، وقوله : { فَمَن ذَا الذي } -وهو متضمن للنفي- جوابٌ للشرط الثاني ، تلطفاً بالمؤمنين ، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول ، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني بل أتى به في صورة الاستفهام -وإن كان معناه نفياً.
وقرا عمرو بن عبيد : " يُخْذِلْكُم " -بضم الياء- من أخْذَلَ -رباعياً- والهمزة فيه لجعل الشيء ، أي : إن يجعلكم مخذولين ، والخّذْل والخُذلان -ضد النصر- وهو ترك من يظن به النُّصرة ، وأصله من خَذَلَت الظبيةُ ولدَها -إذا تركته منفرداً- ولهذا قيل لها : خاذل ويقال للولدِ المتروك -أيضاً- : خاذل ، وهذا النَّسَبِ ، والمعنى : أنَّها مخذولة.
قال الشاعرُ : [ البسيط ](17/443)
بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أدْمَاءَ خَاذِلَةٍ... مِنَ الظِّبَاءِ تُرَاعِي شَادِناً خَرِقاً
ويقال له -أيضاً- : خذول ، فعول بمعنى مفعول.
قال الشاعر : [ الطويل ]
خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَباً بِخَمِيلَةٍ... تَنَاوَلُ اطْرَافَ الْبريرِ وتَرْتَدِي
ومنه يقال : تخاذلَتْ رجلا فلان.
قال الأعشى : [ الرمل ]
بَيْنَ مَغْلوبٍ كَريمٍ جَدُّهُ... وخَذُولِ الرَجْلِ مِنْ غَيْرِ كَسَحْ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 21 ـ 22}. بتصرف.
من فوائد أبى حيان فى الآية
قال رحمه الله :
{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده } هذا التفات ، إذْ هو خروج من غيبة إلى الخطاب.
ولما أمره بمشاورتهم وبالتوكل عليه ، أوضح أنَّ ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع لما يشاء.
وأنَّه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد ، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم فيما وقع لكم من النصر ، أو بكم من الخذلان كيومي : بدر وأحد ، فبمشيئته.
وفي هذا تسلية لهم عما وقع لهم من الفرار.
ثم أمرهم بالتوكل ، وناط الأمر بالمؤمنين ، فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان ، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان.
وأشركهم مع نبيهم في مطلوبية التوكل ، وهو إضافة الأمور إلى الله تعالى وتفويضها إليه.
والتوكل على الله من فروض الإيمان ، ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والجزامة بغاية الجهد ، ومعاطاة أسباب التحرز ، وليس الإلقاء باليد والإهمال لما يجب مراعاته بتوكل ، وإنما هو كما قال صلى الله عليه وسلم : " قيدها وتوكل " ونظير هذه الآية : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده } والضمير في من بعده عائد على الله تعالى ، إمّا على حذف مضاف أي : من بعد خذلانه ، أي من بعد ما يخذل من الذي ينصر.(17/444)
وإما أنْ لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف ، بل يكون المعنى : إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك ؟ ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على المصدر المفهوم من قوله : وإن يخذلكم ، أي : من بعد الخذلان.
وجاء جواب : إن ينصركم الله بصريح النفي العام ، وجواب وإن يخذلكم يتضمن النفي وهو الاستفهام ، وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرّح لهم بأنه لا ناصر لهم ، بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر ، وإن كان المعنى على نفي الناصر.
لكنْ فرَّقَ بين الصريح والمتضمن ، فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذي نص عليه بالصريح أنه لا ناصر لهم كقوله : { أهلكناهم فلا ناصر لهم } وظاهره النصرة أنها في لقاء العدو ، والإعانة على مكافحته ، والاستيلاء عليه.
وأكثر المفسرين جعلوا النصرة بالحجة القاهرة ، وبالعاقبة في الآخرة.
فقالوا : المعنى إنْ حصلت لكم النصرة فلا تعدوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غلبة ، وإن خذلكم في ذلك فلا تعدوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة ، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل.
وفي قوله : إن ينصركم الله إشارة إلى الترغيب في طاعة الله ، لأنه بين فيما تقدم أنّ من اتقى الله نصره.
وقال الزمخشري في قوله : وعلى الله ، وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه ، لعلمهم أنّه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانكم يوجب ذلك ويقتضيه انتهى كلامه.
وأخذ الاختصاص من تقديم الجار والمجرور وذلك على طريقته ، بأن تقديم المفعول يوجب الحصر والاختصاص. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 105 ـ 106}
فصل
قال ابن جزى :(17/445)
التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها وهو من أعلى المقامات لوجهين أحدهما قوله إن الله يحب المتوكلين والآخر الضمان الذي في قوله ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقد يكون واجبا لقوله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين فجعله شرطا في الإيمان والظاهر قوله جل جلاله وعلى الله فليتوكل المؤمنون فإن الأمر محمول على الوجوب
واعلم أن الناس في التوكل على ثلاثة مراتب
الأولى أن يعتمد العبد على ربه كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده الذي لا يشك في نصيحته له وقيامه بمصالحه
والثانية أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه فإنه لا يعرف سواها ولا يلجأ إلا إليها
والثالثة أن يكون العبد مع ربه كالميت بين يدي الغاسل قد أسلم نفسه إليه بالكلية فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر لنفسه بخلاف صاحب الثانية وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختبار
بخلاف صاحب الثالثة وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخاص الذي تكلمنا عليه في قوله وإلهكم إله واحد فهي تقوى بقوته وتضعف بضعفه
فإن قيل هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا فالجواب أن الأساب على ثلاثة أقسام
أحدهما سبب معلوم قطعا قد أجراه الله تعالى فهذا لا يجوز تركه كالأكل لدفع الجوع واللباس لدفع البرد
والثاني سبب مظنون كالتجارة وطلب المعاش وشبه ذلك فهذا لا يقدم فعله في التوكل لأن التوكل من أعمال القلب لا من أعمال البدن ويجوز تركه لمن قوي عليه
والثالث سبب موهوم بعيد فهذا يقدم فعله في التوكل ثم إن فوق التوكل التفويض وهو الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية فإن المتوكل له مراد واختيار وهو يطلب مراده باعتماده على ربه وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار بل أسند المراد والاختيار إلى الله تعالى فهو أكمل أدبا مع الله تعالى. أ هـ { التسهيل لعلوم التزيل حـ صـ 122}(17/446)
وقال الثعلبى :
اختلفت عبارات العلماء في معنى التوكل وحقيقة المتوكل
فقال سهل بن عبد الله رحمة الله عليه : أول مقام التوكل ،
أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل ،
يقلّبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير ،
والمتوكل لا يسأل ولا يرد ولا يحبس.
أبو تراب النخشبي : التوكل الطمأنينة إلى الله عزّ وجلّ. بشر الحافي : الرضا ،
وعن ذي النون وقد قال له رجل : يا أبا الفيض ما التوكّل؟
قال : خلع الأرباب وقطع الأسباب. فقال : زدني فيه حالة أخرى.فقال : إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية.
وقال إبراهيم الحواص : حقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء ممّا سوى الله ،
ابن الفرجي : ردَّ العيش لما يوم واحد وإسقاط غم غد ،
وعن علي الروذباري قال : مراعاة التوكل ثلاث درجات :
الأولى منها : إذا أعطى شكر وإذا مُنع صبر.
والثانية : المنع والإعطاء واحد.
والثالثة : المنع مع الشكر أحب إليه ،
لعلمه باختيار الله ذلك له.
وروى عن إبراهيم الخواص أنه قال : كنت في طريق مكة ،
فرأيت شخصاً حسناً فقلت : أجنيٌ أم إنسيٌ؟
فقال : بل جنيٌّ. فقلت : إلى أين؟
فقال : إلى مكة. قلت : بلا زاد؟
قال : نعم ،
فينا أيضاً من يُسافر على التوكل. فقلت له : ما التوكل؟
قال : الأخذ من الله.
ذو النون أيضاً : هو انقطاع المطامع.
سهل أيضاً : معرفة معطي أرزاق المخلوقين ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون السماء عنده كالصِفر والأرض عنده كالحديد ،
لا ينزل من السماء مطر ولا يخرج من الأرض نبات ،
ويعلم أن الله لا ينسى ما ضمن له من رزقه بين هذين.
وعن بعضهم : هو أن لا يعصي الله من أجل رزقه.
وقال آخر : حسبك من التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصراً غير الله ولا لرزقك خازناً غيره ولا لعملك شاهداً غيره.
الجنيد (رحمه الله) : التوكل أن تقبل بالكلية على ربّك ،(17/447)
وتعرض ممّن دونه.
النوري : هو أن يفني تدبيرك في تدبيره ،
وترضى بالله وكيلا ومدبراً ،
قال الله عزّ وجلّ : {وَكَفَى بِاللَّهِ وكيلا} وقيل : هو اكتفاء العبد الذليل بالربّ الجليل ،
كاكتفاء الخليل بالخليل حين لم ينظر إلى عناية جبرئيل.
وقيل : هو السكون عن الحركات اعتماداً على خالق الأرض والسماوات.
وقيل لبهلول المجنون : متى يكون العبد متوكلاً؟
قال : إذا كان النفس غريباً بين الخلق ،
والقلب قريباً إلى الحق.
وعن محمد بن عمران قال : قيل لحاتم الأصم : على ما بنيت أمرك هذا من التوكل؟
قال : أربع خلال : علمت أن رزقي ليس يأكله غيري فلست أُشغل به ،
وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به ،
وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أُبادره ،
وعلمت أني بعين الله في كل حال فأنا مستحي منه.
وعن أبي موسى (الوبيلي) قال : سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي : لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ الرسغ ، لم تخف مع الله شيئاً.
قال أبو موسى : (ذهبت) إلى أبي يزيد البسطامي : أسأله عن التوكل ،
فدخلت بسطام ودفعت عليه الباب فقال لي : يا أبا موسى ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني؟
فقلت : افتح الباب ،
فقال : لو زرتني لفتحت لك الباب ،
(وإذا) جاء الجواب من الباب فانصرف : لو أن الحيّة المطوقة بالعرش همّت بك لم تخف مع الله شيئاً.
قال أبو موسى : فانصرفت حتى جئت إلى دبيل فأقمت بها سنة ،
ثم أعتقدت الزيارة فخرجت إلى أبي يزيد فقال : زرتني مرحباً بالزائرين لاأخرجك ،
قال : فأقمت عنده شهراً لا يقع لي شيء إلاّ أخبرني قبل أن أسأله فقلت له : يا أبا يزيد أخرج وأريد فائدة منك أخرج بها من عندك.
قال لي : اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة ،
حدثتني أُمّي أنها كانت حاملة بي وكانت إذا قدمت لها القصعة من حلال امتدت يدها وأكلت ،
وإذا قدمت من حرام جفت فلم تأكل ،
اجعلها فائدة وانصرف. فجعلتها فائدة وانصرفت.
وكان عمر (رضي الله عنه) يتمثل بهذين البيتين :
هوّن عليك فإن الأمور
بأمر الإله مقاديرها
نفس ليأتيك مصروفها
ولا عادك عنك مقدورها. أ هـ {الكشف والبيان حـ 3 صـ 192 ـ 195}. بتصرف يسير(17/448)
فصل نفيس للعلامة ابن القيم
قال عليه الرحمة:
قوله تعالى {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده}
أصل الخذلان الترك والتخلية ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها خذول
قال محمد بن إسحاق في هذه الآية {إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك وإن يخذلك فلن ينصرك الناس أي لا تترك أمري للناس وارفض الناس لأمري
والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها بل يصنع له ويلطف به ويعينه ويدفع عنه ويكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلاك ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس فإن تولاه الله لم ظفر به عدوه وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة
فإن قيل فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه ؟(17/449)
قيل لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها وقد رآها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي الذئاب قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة سمعت ابن أبي الدنيا يقول أن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره(17/450)
لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حمد بن سعيد القطان ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه أن قوما كانوا في سفر فكان فهم رجل يمر بالطائر فيقول أتدرون ما تقول هؤلاء فيقولون لا فيقول تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو فقال أتدرون ما تقول هذه الشاة قلنا لا قال تقول للسخلة الحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان قال فانتهينا إلى الراعي فقلنا له ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا قال نعم ولدت سخلة عام أول فأكلها الذئب بهذا المكان ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ويحنو عنقه إليها فقال أتدرون ما يقول هذا البعير قلنا لا قال فإنه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه قال فانتهينا إليهم فقلنا يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه قال فأناخوا البعير وحطوا عنه فإذا هو كما قال فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت وقد حذر الله سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مره وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه ويبيت معه ويصبح وقال الشيطان لما قضى الأمر آن الله عدوكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أني كفرت بما أشركتموني من قبل أن الظالمين لهم عذاب أليم. أهـ { شفاء العليل صـ 100 ـ صـ 101 }(17/451)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}
قال عليه الرحمة :
المؤمنون نصرته لهم بالتوفيق للأشباح ثم بالتحقيق للأرواح.
ويقال ينصركم الله بتأييد الظواهر وتسديد السرائر.
ويقال للنصرة إنما تكون على العدو ، وأعدى عدوك نَفْسُكَ التي بين جنبيك. والنصرة على النَّفْس بأن تهزم دواعي مُنَّتِها بعواصم رحمته حتى تَنْفَضَّ جنود الشهوات بهجوم وفود المنازلات فتبقى الولاية لله خالصةً من شبهات الدواعي التي هي أوصاف البشرية ، وشهوات النفوس وأمانيها ، التي هي آثارالحجبة وموانع القربة.
{ وَإِن يَخْذُلْكُمْ } الخذلان التخلية مع المعاصي ، فَمَنْ نَصَرَه قبض على يديه عن تعاطي المكروه ، ومن خَذَلَه أَلقى حَبْله على غاربه ، وَوَكَلَه إلى سوء اختياره ، فيفترق عليه الحال في أودية الشهوات ، فمرة يُشَرِّق غير محتشِم ، وتارة يُغَرِّب غير مُحترِم ، ألا ومن سبَّبه الحق فلا آخذ بيده ، ومن أسلمه فلا مجيرَ له.
{ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ } :
في وجدان الأمان عند صدق الابتهال ، وإسبال ثوب العفو على هناة الجُرْم عند خلوص الالتجاء ، بالتبري من المنَّة والحول.
ويقال لما كان حديث النصرة قال : { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } ، ولما كان حديث الخذلان لم يقل " فلا ناصر لكم " بل قال بالتلويح والرمز : { فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُمْ مِّن بَعْدِهِ } : وفي هذا لطيفةٌ في مراعاة دقائق أحكام الخطاب. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 292}.
تم الجزء السابع عشر من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن عشر وأوله قوله تعالى
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) }(17/452)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء الثامن عشر
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(18/3)
الجزء الثامن عشر
من الآية {161} من سورة آل عمران
وحتى الآية {185} من نفس السورة(18/4)
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الغلول من أعظم موجبات الخذلان أو أعظمها.
والنزاهة عن من أعظم موجبات النصر ، كان أنسب الأشياء تعقيب هذه الآية بآية الغلول بياناً ، لأنه كان سبب هزيمتهم في هذه الغزوة ، فإنه لا يخذل إلا بالذنوب ، ومن أعظم الذنوب الموجبة للخذلان الغلول فيكون المراد بتنزيهه صلى الله عليه وسلم عنه - والله أعلم - أن إقبالهم عن نهب الغنائم قبل وقته إما أن يكون لقصد أن يغلو بإخفاء ما انتهبوه أو بعضه ، وإما أن يكون للخوف من أن يغل رئيسهم وحاشاه! وإما أن يكون للخوف من مطلق الخيانة بأن لا يقسمه صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء ، وحاشاه من كل من ذلك! وأما المبادرة إلى النهب لغير هذا القصد فخفة وطيش وعبث ، لا يصوب عاقل إليه ؛ إذا تقرر هذا فيمكن أن يكون التقدير : فليتوكلوا في كبت العدو وتحصيل ما معه من الغنائم ، فلا يقبلوا على ذلك إقبالاً يتطرق منه احتمال لظن السوء بهاديهم في أن يغل ، وهو الذي أخبرهم بتحريم الغلول وبأنه سبب للخذلان ، وما نهى صلى الله عليه وسلم قط عن شيء إلا كان أول تارك له وبعيد منه وما كان ينبغي لهم أن يفتحوا طريقاً إلى هذا الاحتمال فعبر عن ذلك بقوله عطفاً على {وكأين من نبي} [ آل عمران : 146 ] {وما كان} أي ما تأتى وما صح في وقت من الأوقات ولا على حالة من الحالات {لنبي} أي أي نبي كان فضلاً عن سيد الأنبياء وإمام الرسل {أن يغل} تبشيعاً لفعل ما يؤدي إلى هذا الاحتمال زجراً من معاودة مثل ذلك الفعل المؤدي إلى تجويز شيء مما ذكر ، وعلى قراءة الجماعة غير ابن كثير وأبي عمرو - بضم الياء وفتح العين مجهولاً من : أغل - المعنى : وما كان له وما صح أن يوجد غالاً ، أو ينسب إلى الغلول ، أو يظن به ما يؤدي إلأى ذلك ؛ ويجوز أن يكون التقدير بعد الأمر بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وحده : فلا تأتوا إن كنتم مؤمنين بما يقدح في التوكل كالغلول وما يدانيه(18/5)
فتخذلوا ، فإنه ما كان لكم أن تغلوا ، وما كان أي ما حل لنبي أي من الأنبياء قط أن يغل ، أي لم أخصكم بهذه الشريعة بل ما كان في شرع نبي قط إباحة الغلول ، فلا تفعلوه ولا تقاربوه بنحو الاستباق إلى النهب ، فإن ذلك يسلب كمال التوكل ، فإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ، فيوجب له الخذلان ، روى الطبراني في الكبير- قال الهيثمي : ورجاله ثقات - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً فردت رايته.
ثم بعث فردت ، ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب ، فنزلت {وما كان لنبي أن يغل} ".
ولما كان فعلهم ذلك محتملاً لقصدهم الغلول ولخوفهم من غلول غيرهم عمم في التهديد بقوله : {ومن يغلل} أي يقع منه ذلك كائناً من كان {يأت بما غل يوم القيامة} ومن عرف كلام أهل اللغة في الغلول عرف صحة قولي : إنه لمطلق الخيانة ، وإنه يجوز أن يكون التقدير : وما كان لأحد أن يفعل ما يؤدي - ولو وعلى بعد - إلى نسبة نبي إلى غلول ، قال صاحب القاموس : أغل فلاناً : نسبه إلى الغلول والخيانة ، وغل غلولاً : خان - كأغل ، أو خاص بالفيء ، وقال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي : أغل الرجل أغلالاً - إذا خان ، فهو مغل وغل في المغنم يغل غلولاً ، وقرىء : أن يَغُل ، وأن يُغَل ، فمن قرأ : يَغُل - أراد : يخون ، ومن قرأ : يُغَل - أراد : يخان ، ويجوز أن يريد : لا ينسب إلى الخيانة وكل من خان شيئاً في خفاء فقد غل يغل غلولاً ، ويسمى الخائن غالاً ، وفي الحديث
(18/6)
" لا إغلال ولا إسلال " الإغلال : الخيانة في كل شيء ، وغللت الشيء أغله غلاًّ - إذا سترته ، قالوا : ومنه الغلول في المغنم ، إنما أصله أن الرجل كان إذا أخذ منه شيئاً ستره في متاعه ، فقيل للخائن : غال ومغل ، ويقال : غللت الشيء في الشيء - إذا أدخلته فيه ، وقد انغل - إذا دخل في الشيء ، وقد انغل في الشجر.
دخل - انتهى.
فهذه الآية نهي للمؤمنين عن الاستباق إلى المغنم على طريق الإشارة ، فتم بها الوعظ الذي في أواخره القصة ، كما أن آية الربا نهي عنه على طريق الإشارة ، فتم بها الوعظ الذي في أوائل القصة ، فقد اكتنف التنفير من الغلول - الذي هو سبب الخذلان في هذه الغزوة بخصوصها لمباشرة ما هو مظنة له وفي الغزو مطلقاً - طرفي الوعظ فيها ، ليكون من أوائل ما يقرع السمع وأواخره.
ولما كان ثمرة الإتيان به الجزاء عليه عمم الحكم تنبيهاً على أن ذلك اليوم يوم الدين ، فلا بد من الجزاء فيه وتصويراً له تبشيعاً للفضيحة فيه بحضرة الخلق أجمعين ، وزاد في تعظيمه وتعظيم الجزاء فيه بأداة التراخي وتضعيف الفعل فقال معمماً الحكم ليدخل الغلول من باب الأولى : {ثم توفى} أي في ذلك اليوم العظيم ، وبناه للمجهول إظهاراًَ لعظمته على طريق كلام القادرين {كل نفس} أي غالة وغير غالة {ما كسبت} أي ما لها فيه فعل ما من خير أو شر وافياً مبالغاً في تحريز وفائه {وهم لا يظلمون} أي لا يقع عليهم ظلم في شيء منه بزيادة ولا نقص. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 174 ـ 176}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}
الأظهر أنَّه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض رعلى الغرض وموقعه عقب جملة : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } [ آل عمران : 160 ].(18/7)
الآية لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذْل بيده ، وذلك يستلزم التَّحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفاً بمن يُرضونه.
وإذ قد كانت هذه النَّصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم ، نبّهوا إلى شيء يستخفّ به الجيش في الغزوات ، وهو الغُلول ليعلموا أنّ ذلك لا يُرضي الله تعالى فيحذَروه ويكونوا ممّا هو أدعى لغضب الله أشدّ حذراً فهذه مناسبة التَّحذير من الغلول ويعضّد ذلك أنّ سبب هزيمتهم يوم أُحُد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم.
والغلُول : تعجّل بأخذ شيء من غال الغنيمة.
ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسباً لتعقيب آية النصر بآية الغلول ، فإنّ غزوة أحُد الَّتي أتت السورة على قصّتها لم يقع فيها غُلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسِّرين من قضية غلولٍ وقعت يومَ بدر في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أُحُد فضلاً على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حُنين الواقعِ بعد غزوة أحُد بخمس سنين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 273 ـ 274}
فصل
قال الفخر :
الغلول هو الخيانة ، وأصله أخذ الشيء في الخفية ، يقال أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم على طريق الخيانة ، والغل الحقد الكامن في الصدر.(18/8)
والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب ، والغلل الماء الذي يجري في أصول الشجرة لأنه مستتر بالأشجار وتغلل الشيء إذا تخلل وخفى ، وقال عليه الصلاة والسلام : " من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه " وقال : " هدايا الولاة غلول " وقال : " ليس على المستعير غير المغل ضمان " وقال : " لا إغلال ولا إسلال " وأيضا يقال : أغله إذا وجده غالا ، كقولك : أبخلته وأفحمته. أي وجدته كذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 57}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو ( يغل ) بفتح الياء وضم الغين ، أي ما كان للنبي أن يخون ، وقرأ الباقون من السبعة "يغل" بضم الياء وفتح الغين ، أي ما كان للنبي أن يخان.
واختلفوا في أسباب النزول ، فبعضها يوافق القراءة الأولى.
وبعضها يوافق القراءة الثانية.
أما النوع الأول : ففيه روايات :
الأولى : أنه عليه الصلاة والسلام غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم ، وتأخرت القسمة لبعض الموانع ، فجاء قوم وقالوا : ألا تقسم غنائمنا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم منه درهما أتحسبون أني أغلكم مغنمكم " فأنزل الله هذه الآية.
الثاني : أن هذه الآية نزلت في أداء الوحي ، كان عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتم ، فسألوه أن يترك ذلك فنزلت هذه الآية.
الثالث : روى عكرمة وسعيد بن جبير : أن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض الجهال لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها فنزلت هذه الآية.
الرابع : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق آخر أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي عليه الصلاة والسلام من الغنائم بشيء زائد فنزلت هذه الآية.(18/9)
الخامس : روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث طلائع فغنموا غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الآية. (1)
السادس : قال الكلبي ومقاتل : نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر ، فقال عليه الصلاة والسلام : " ظننتم أنا نغل فلا نقسم لكم " فنزلت هذه الآية.
واعلم أن على الرواية الأولى المراد من الآية النهي عن أن يكتم الرسول شيئا من الغنيمة عن أصحابه لنفسه ، وعلى الروايات الثلاثة يكون المقصود نهيه عن الغلول ، بأن يعطى للبعض دون البعض.
وأما ما يوافق القراءة الثانية : فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقعت غنائم هوازن في يده يوم حنين ، غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 57 ـ 58}
وقال العلامة ابن عطية :
وروي نحو هذا القول عن ابن عباس ، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاماً بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم ، ورداً على الأعراب الذين صاحوا به : اقسم علينا غنائمنا يا محمد ، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه ، ونحا إليه الزجّاج. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 535}
____________
(1) قال القرطبى : فقسم للناس ولم يقسم للطلائع ؛ فأنزل الله عليه عِتاباً : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ } أي يقسم لبعض ويترك بعضاً. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 254}
ولاشك أن هذا القول ظاهر البطلان وقد استبعده الآلوسى.(18/10)
قال الطبرى :
وأولى القراءتين بالصواب (1) في ذلك عندي، قراءة من قرأ : ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) بمعنى : ما الغلول من صفات الأنبياء، ولا يكون نبيًّا من غلَّ.
وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أوعد عقيب قوله : "وما كان لنبي أن يغل" أهلَ الغلول فقال : "ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة"، الآية والتي بعدها. فكان في وعيده عقيب ذلك أهلَ الغلول، الدليلُ الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله : "وما كان لنبيّ أن يغلّ". لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلول، لعقَّب ذلك بالوعيد على التُّهَمة وسوء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بالوعيد على الغلول. وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول، بيانٌ بيِّنٌ، أنه إنما عرّف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتفٍ من صفة الأنبياء وأخلاقهم، لأنّ ذلك جرم عظيم، والأنبياء لا تأتي مثله.
فإن قال قائل ممن قرأ ذلك كذلك : فأولى منه "وما كان لنبي أن يخونه أصحابه"، إن كان ذلك كما ذكرت، ولم يعقّب الله قوله : "وما كان لنبي أن يغل" إلا بالوعيد على الغلول، ولكنه إنما وجب الحكمُ بالصحة لقراءة من قرأ : "يغل" بضم"الياء" وفتح"الغين"، لأن معنى ذلك : وما كان للنبي أن يغله أصحابه، فيخونوه في الغنائم ؟
قيل له : أفكان لهم أن يغلوا غير النبي صلى الله عليه وسلم فيخونوه، حتى خُصوا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فإن قالوا : "نعم"، خرجوا من قول أهل الإسلام. لأن الله لم يبح خيانة أحد في قول أحد من أهل الإسلام قط.
وإن قال قائل : لم يكن ذلك لهم في نبيّ ولا غيره.
قيل : فما وجه خصوصهم إذًا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم، وغُلوله وغُلول بعض اليهود بمنزلةٍ فيما حرم الله على الغالِّ من أموالهما، وما يلزم المؤتمن من أداء الأمانة إليهما ؟
_________
(1) تقدم الرد على مثل هذا الكلام والقراءتان متواترتان فلا وجه للحكم على إحداهما بالصواب دون الأخرى. والله أعلم.(18/11)
وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا، من أن الله عز وجل نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه، ناهيًا بذلك عبادَه عن الغلول، وآمرًا لهم بالاستنان بمنهاج نبيهم، كما قال ابن عباس في الرواية التي ذكرناها من رواية عطية. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 354 ـ 355}
فائدة
قال ابن عاشور :
وصيغة { وما كان لنبي أن يُغلّ } صيغة جحود تفيد مبالغة النَّفي.
وقد تقدّم القول فيها عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنُّبَوة } [ آل عمران : 79 ] في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا أفادت المبالغة في النَّهي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 274}(18/12)
فصل
قال الفخر :
اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر الغلول وجعله من الكبائر ، عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين " وعن عبد الله بن عمرو : أن رجلا كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم ، يقال له : كركرة فمات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو في النار ، " فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء وعباءة قد غلهما ، وقال عليه الصلاة والسلام : " أدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار يوم القيامة " وروي رويفع بن ثابت الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا حتى إذا أخلقه رده " وروي أنه صلى الله عليه وسلم جعل سلمان علي الغنيمة فجاءه رجل وقال يا سلمان كان في ثوبي خرق فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به ، فهل علي جناح ؟ فقال سلمان : كل شيء بقدره فسل الرجل الخيط من ثوبه ثم ألقاه في المتاع ، وروي أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين من المغنم ، فقال أصبت هذا يوم خيبر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " شراك أو شراكان من نار " ورمى رجل بسهم في خيبر ، فقال القوم لما مات : هنيئا له الشهادة فقال عليه الصلاة والسلام : " كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلتهب عليه نارا ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 58}(18/13)
فصل
قال الآلوسى :
{ وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } أي ما صح ولا استقام لنبي من الأنبياء أن يخون في المغنم لأن الخيانة تنافي النبوة وأصل الغل الأخذ بخفية ولذا استعمل في السرقة ثم خص في اللغة بالسرقة من المغنم قبل القسمة وتسمى غلولاً أيضاً ، قيل : وسميت بذلك لأن الأيدي فيها مغلولة أي ممنوعة مجعول فيها غل وهي الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ، ويقال لها : جامعة أيضاً ، وقال الرماني وغيره أصل الغلول من الغلل وهو دخول الماء في خلل الشجر ، وسميت الخيانة غلولاً لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل ، ومن ذلك الغل للحقد والغليل لحرارة العطش والغلالة للشغار ، والمراد تنزيه ساحة النبي صلى الله عليه وسلم على أبلغ وجه عما ظن به الرماة يوم أحد فقد حكى الواحدي عن الكلبي ومقاتل أن الرماة حين تركوا المركز يومئذٍ طلباً للغنيمة قالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ظننتم أنا نغلّ ولا نقسم لكم" ولهذا نزلت الآية ، أو تنزيهه صلى الله عليه وسلم عما اتهمه به بعض المنافقين يوم بدر ، فقد أخرج أبو داود والترمذي وابن جرير وحسناه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها ، والرواية الأولى : أوفق بالمقام ، وارتباط الآية بما قبلها عليها أتم لأن القصة أحدية إلا أن فيها إشعاراً بأن غنائم بدر لم تقسم وهو مخالف لما سيأتي في الأنفال وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ، والرواية الثانية : أولى بالقبول عند أرباب هذا الشأن ، ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في النهي عن الغلول ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" وابن(18/14)
جرير مرسلاً عن الضحاك قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع فغنم النبي صلى الله عليه وسلم غنيمة فقسم بين الناس ولم يقسم للطلائع شيئاً فلما قدمت الطلائع قالوا قسم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقسم لنا فأنزل الله تعالى الآية ، فالمعنى ما كان لنبي أن يعطي قوماً من العسكر ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بين الكل بالسوية ، وعبر سبحانه عن حرمان بعض الغزاة بالغلول فطماً عن هذا الفعل بالكلية ، أو تعظيماً لشأنه صلى الله عليه وسلم ، وجعل بعضهم الكلام على هذا الاحتمال على حدّ { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] خوطب به صلى الله عليه وسلم وأريد غيره ممن يفعل مثل هذا بعد النهي عنه ولا يخفى بعده والصيغة على الاحتمال الأول : إخبار لفظاً ومعنى لكنها لا تخلو عن رمز إلى نهي عن اعتقاد ذلك في تلك الحضرة المقدسة وعلى الاحتمال الأخير : خبر أجري مجرى الطلب ، وقد وردت هذه الصيغة نهياً في مواضع من التنزيل كقوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } [ الأنفال : 67 ] و{ مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] [ الأحزاب : 53 ] { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } وكذا للامتناع العقلي كقوله تعالى : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] و{ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [ النحل : 60 ] وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب أن يغل على صيغة البناء للمفعول ، وفي توجيهها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون ماضيه أغللته أي نسبته إلى الغلول كما تقول أكفرته أي نسبته إلى الكفر قال الكميت :
وطائفة قد ( أكفرتني ) بحبكم...
وطائفة قالت مسىء ومذنب(18/15)
والمعنى ما صح لنبي أن ينسبه أحد إلى الغلول ، وثانيها : أن يكون من أغللته إذا وجدته غالاً كقولهم أحمدته وأبخلته وأجبنته بمعنى وجدته كذلك والمعنى ما صح لنبي أن يوجد غالاً ، وثالثها : أنه من غل إلى أن المعنى ما كان لنبي أن يغله غيره أو يخونه ويسرق من غنيمته ، ولعل تخصيص النبي بذلك وإن كان لا يجوز أن يغل غيره من إمام أو أمير إما لعظم خيانته أو لأنه القائم بأمر الغنائم فإذا حرمت الخيانة عليه وهو صاحب الأمر فحرمتها على غيره أولى كذا قيل ، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى توجيه التخصيص بما ذكر بعد الالتفات إلى سبب النزول والنظر إلى ما سيأتي بعد.
ومن الناس من زعم أن الآية نزلت في أداء الوحي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسبّ آلهتهم فسألوه أن يطوي ذلك فأنزل الله تعالى الآية ، ولا يخفى أنه بعيد جداً ولا أدري كيف سند هذه الرواية ولا أظن الخبر إلا موضوعاً ، ويزيده بعداً بل لا يكاد يجوزه قوله تعالى : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة }. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 108 ـ 110}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه يستثنى عن هذا النهي حالتان.
الحالة الأولى : أخذ الطعام وأخذ علف الدابة بقدر الحاجة ، قال عبد الله بن أبي أوفى : أصبنا طعاما يوم حنين ، فكان الرجل يأتي فيأخذ منه قدر الكفاية ثم ينصرف ، وعن سلمان أنه أصاب يوم المدائن أرغفة وجبنا وسكينا ، فجعل يقطع من الجبن ويقول : كلوا على اسم الله.
الحالة الثانية : إذا احتاج إليه ، روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 58}(18/16)
فصل
قال الفخر :
أما القراءة بفتح الياء وضم الغين ، بمعنى : ما كان لنبي أن يخون ، فله تأويلان : الأول : أن يكون المراد أن النبوة والخيانة لا يجتمعان ، وذلك لأن الخيانة سبب للعار في الدنيا والنار في الآخرة ، فالنفس الراغبة فيها تكون في نهاية الدناءة ، والنبوة أعلى المناصب الانسانية فلا تليق إلا بالنفس التي تكون في غاية الجلالة والشرف ، والجمع بين الصفتين في النفس الواحدة ممتنع ، فثبت أن النبوة والخيانة لا تجتمعان ، فنظير هذه الآية قوله : {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [ مريم : 35 ] يعني : الالهية واتخاذ الولد لا يجتمعان ، وقيل : اللام منقولة ، والتقدير : وما كان النبي ليغل ، كقوله : {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} أي ما كان الله ليتخذ ولدا.
الوجه الثاني : في تأويل هذه الآية على هذه القراءة أن يقال : إن القوم قد التمسوا منه أن يخصهم بحصة زائدة من الغنائم ، ولا شك أنه لو فعل ذلك لكان ذلك غلولا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية مبالغة في النهي له عن ذلك ، ونظيره قوله : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [ الزمر : 65 ] وقوله : {وَلَوْ تَّقُولُ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} [ الحاقة : 44 ، 45 ] فقوله : {وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ} أي ما كان يحل له ذلك ، واذا لم يحل له لم يفعله ، ونظيره قوله : {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا} [ النور : 16 ] أي ما يحل لنا.
وإذا عرفت تأويل الآية على هذه القراءة فنقول : حجة هذه القراءة وجوه :
أحدها : أن أكثر الروايات في سبب نزول هذه الآية أنهم نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الغلول ، فبين الله بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به.(18/17)
وثانيها : أن ما هو من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل كقوله : {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله} [ يوسف : 38 ] و{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} [ يوسف : 76 ] {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [ آل عمران : 145 ] {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} [ التوبة : 115 ] {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} [ آل عمران : 179 ] وقل أن يقال : ما كان زيد ليضرب ، وإذا كان كذلك وجب إلحاق هذه الآية بالأعم الأغلب ، ويؤكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة ، وقال : ليس في الكلام ما كان لك أن تضرب ، بضم التاء.
وثالثها : أن هذه القراءة اختيار ابن عباس : فقيل له إن ابن مسعود يقرأ ( يغل ) فقال ابن عباس : كان النبي يقصدون قتله ، فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة ؟ وأما القراءة الثانية وهي ( يغل ) بضم الياء وفتح الغين ففي تأويلها وجهان : الأول : أن يكون المعنى : ما كان للنبي أن يخان.
واعلم أن الخيانة مع كل أحد محرمة ، وتخصيص النبي بهذه الحرمة فيه فوائد :
أحدها : أن المجني عليه كلما كان أشرف وأعظم درجة كانت الخيانة في حقه أفحش ، والرسول أفضل البشر فكانت الخيانة في حقه أفحش.
وثانيها : أن الوحي كان يأتيه حالا فحالا ، فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا.
وثالثها : أن المسلمين كانوا في غاية الفقر في ذلك الوقت فكانت تلك الخيانة هناك أفحش.(18/18)
الوجه الثاني : في التأويل : أن يكون من الإغلال : أن يخون ، أي ينسب إلى الخيانة ، قال المبرد تقول العرب : أكفرت الرجل جعلته كافرا ونسبته إلى الكفر ، قال العتبي : لو كان هذا هو المراد لقيل : يعلل ، كما قيل : يفسق ويفجر ويكفر ، والأولى : أن يقال : إنه من أغللته ، أي وجدته غالا ، كما يقال أبخلته وأفحمته ، أي وجدته كذلك.
قال صاحب "الكشاف" : وهذه القراءة بهذا التأويل يقرب معناها من معنى القراءة الأولى ، لأن هذا المعنى لهذه القراءة هو أنه لا يصح أن يوجد النبي غالا ، لأنه يوجد غالا إلا إذا كان غالا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 58 ـ 59}
فائدة
قال القرطبى :
الآية في معنى نَهيْ الناس عن الغلول في الغنائم ، والتَّوَعُّد عليه.
وكما لا يجوز أن يُخان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يُخان غيرُه ، ولكن خصّه بالذكر لأن الخيانة معه أشدُّ وقْعاً وأعظمُ وِزْراً ؛ لأن المعاصي تعظم بحضرته لِتعيُّن توقيره.
والوُلاة إنما هم على أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فلهم حظّهم من التّوقير. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 256}
فائدة
قال الفخر :
قد ذكرنا أن الغلول هو الخيانة ، إلا أنه في عرف الاستعمال صار مخصوصا بالخيانة في الغنيمة ، وقد جاء هذا أيضا في غير الغنيمة ، قال صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الغلول الرجلان يكون بينهما الدار والأرض فإن اقتطع أحدهما من صاحبه موضع حصاة طوقها من الأرضين السبع " وعلى هذا التأويل يكون المعنى كونه صلوات الله وسلامه عليه مبرأ عن جميع الخيانات ، وكيف لا نقول ذلك والكفار كانوا يبذلون له الأموال العظيمة لترك ادعاء الرسالة فكيف يليق بمن كان كذلك وكان أمينا لله في الوحي النازل اليه من فوق سبع سموات أن يخون الناس!. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 59}(18/19)
لطيفة
قال ابن الجوزى :
وهذه الآية من ألطف التعريض ، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبي صلى الله عليه وسلم ، من الغُلول فدل على أن الغلول في غيره.
ومثله : { وإِنا أو إِياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 25 ] وقد ذكر عن السدي نحو هذا. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 491}
قوله تعالى {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة}
قال الفخر :
فيه وجهان :
الأول : وهو قول أكثر المفسرين إجراء هذه الآية على ظاهرها ، قالوا : وهي نظير قوله في مانع الزكاة {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ} [ التوبة : 35 ] ويدل عليه قوله : " لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك " وعن ابن عباس أنه قال : يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ، ثم يقال له : انزل اليه فخذه فينزل إليه ، فإذا انتهى اليه حمله على ظهره فلا يقبل منه.
قال المحققون : والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته.
الوجه الثاني : أن يقال : ليس المقصود منه ظاهره ، بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل والتصوير ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السموات أَوْ فِى الأرض يَأْتِ بِهَا الله} [ لقمان : 16 ] فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهر : بل المقصود إثبات أن الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد ،
ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجهين :(18/20)
الأول : قال أبو مسلم : المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه ، لأنه لا يخفى عليه خافية.
الثاني : قال أبو القاسم الكعبي : المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء ،
واعلم أن هذا التأويل يحتمل إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة ، إلا إذا قام دليل يمنع منه ، وههنا لا مانع من هذا الظاهر ، فوجب إثباته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 59 ـ 60}
وقال الآلوسى :
وظاهر الآثار يدل على أن الإتيان على ظاهره
والاستبعاد غير مفيد وقد وقع ما يشعر بالاستبعاد قديماً فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رجلاً قال له : أرأيت قول الله تعالى : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } هذا يغل ألف درهم وألفي درهم يأتي بها أرأيت من يغل مائة بعير أو مائتي بعير كيف يصنع بها ؟ ا قال : أريت من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل ورقان وساقه مثل بيضاء ومجلسه ما بين الربذة إلى المدينة ألا يحمل مثل هذا ، وورد في بعض الأخبار أن الإتيان بالغلول من النار فحينئذٍ يكون في الآية حذف أي يأت بما غل من النار ، فقد أخرج ابن مردويه والبيهقي عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الحجر ليزن سبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفاً ويؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به وهو قول الله عز وجل : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة }.(18/21)
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال لو كنت مستحلاً من الغلول القليل لاستحللت منه الكثير ما من أحد يغل إلا كلف أن يأتي به من أسفل درك جهنم ، وقيل : الإتيان به مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيراً بما عمل عما لزمه من الإثم أي يأت بما احتمل من وباله وإثمه واختاره البلخي وقال : يجوز أن يكون ما تضمنته الأخبار جاء على وجه المثل كأن الله تعالى إذ فضح الغال وعاقبه العقوبة الشديدة جرى مجرى أن يكون آتياً به وحاملاً له وله صوت ، ولا يخفى أن جواب أبي هريرة للرجل يأبى هذا التأويل.
وقيل : إن المعاني تظهر في صور جسمانية يوم القيامة كما يؤذن بذلك خبر مجىء الموت في صورة كبش وتلقى القرآن صاحبه في صورة الرجل الشاحب حين ينشق عنه القبر إلى غير ذلك.
وقد ذكر غير واحد أنه لا يبعد ظهور الأعمال من الطاعات والمعاصي بصور تناسبها فحينئذٍ يمكن أن يقال : إن معصية كل غال تظهر يوم القيامة في صورة غلوله فيأتي بها هناك ، وعليه تكون الأخبار على ظاهرها من غير حاجة إلى ارتكاب التمثيل ، وجواب أبي هريرة لا يأباه ، وإلقاؤه في النار أيضاً غير مشكل وأهل الظاهر لعلهم يقولون : إنه يلقى من غير تعذيب ، وبتقديره لا محذور أيضاً فيه لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء ، وقد ورد في بعض الأخبار أنه تعالى يخلق خلقاً حين قول جهنم : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] فيضعهم فيها ومع هذا وتسليم صحة الخبر لا بد من القول باستثناء بعض الغلول عن الإلقاء إذ قد يكون الغلول مصحفاً ولا أظن أحداً يتجاسر على القول بإلقائه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 110}(18/22)
لطيفة
قال ابن عاشور :
ومن اللَّطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ : أنّ مَزْيَداً رجلاً من الأعراب سرق نافجة مسك فقيل له : كيفَ تسرقها وقد قال الله تعالى : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ؟ فقال : إذَنْ أحمِلُها طيّبةَ الريح خفيفة المحمل.
وهذا تلميح وتلقي المخاطب بغير ما يترقّب.
وقريب منه ما حكي عن عبد الله بن مسعود والدرك على مَن حكاه قالوا : لمّا بعث إليه عثمان ليسلم مصحفه ليحرقه بعد أن اتَّفق المسلمون على المصحف الَّذي كُتب في عهد أبي بكر قال ابن مسعود : إنّ الله قال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وإنِّي غالّ مصحفي فمن استطاع منكم أن يَغُلّ مصحفه فليفعل.
ولا أثق بصحَّة هذا الخبر لأنّ ابْن مسعود يعلم أنّ هذا ليس من الغلول. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 174}
من فوائد القرطبى فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أي يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته ، مُعذّباً بحمله وثِقَله ، ومَرعُوباً بصوته ، ومُوَبَّخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد ؛ على ما يأتي.
وهذه الفضيحة التي يُوقعها الله تعالى بالغالّ نظيرُ الفضيحة التي توقع بالغادر ، في أن يُنصب له لِواء عند استه بقدر غَدْرَته.
وجعل الله تعالى هذه المعاقبَات حَسْبَما يَعْهَدَهُ البَشرَ ويَفْهَمُونه ؛ ألا ترى إلى قول الشاعر :
أَسُمَيّ ويْحَكِ هَلْ سَمِعتِ بِغَدْرَةٍ . . .
رُفِعَ اللوَاءُ لنا بها في المَجْمَعِ
وكانت العرب ترفع للغادِرِ لِواءً ، وكذلك يُطافُ بالجاني مع جِنايته.(18/23)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغُلُول فعظّمه وعظّم أمره ثم قال : " لا أُلفِيّن أحَدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بَعِيرٌ له رُغاء يقول يا رسول الله أغِثْني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفِيّن أحدكم يجيء يوم القيامةِ على رقبته فرس له حَمْحَمَة فيقول يا رسول الله أغِثنِي فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفِيّن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء يقول يا رسول الله أغِثنِي فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفِين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نَفسٌ لها صِياح فيقول يا رسول الله أغثنِي فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفِيّن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقاع تخفِق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفِيّن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامِت فيقول يا رسول الله أغِثنِي فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك "
وروى أبو داود عن سَمرُة بن جُنْدُب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنِيمة أمر بِلالاً فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخْمُسُه ويقسمه ، فجاء رجل يوماً بعد النداء بزِمام من الشّعَر فقال : يا رسول الله هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة.
فقال : "أسمعت بِلالاً ينادي ثلاثاً" ؟ قال : نعم.
قال : "فما منعك أن تجيء به" ؟ فاعتذر إليه.
فقال : "كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقْبَلَه منك".
قال بعض العلماء : أراد يُوافَى بوزر ذلك يوم القيامة ، كما قال في آية أُخرى : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ الأنعام : 31 ].
(18/24)
وقيل : الخبر محمول على شهرة الأمر ؛ أي يأتي يوم القيامة قد شَهّر الله أمره كما يُشهّر لو حَمل بعِيراً له رُغاء أو فرساً له حَمْحَمَةٌ.
قلت : وهذا عُدولٌ عن الحقيقة إلى المجاز والتّشبيه ، وإذا دَار الكلامُ بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل كما في كُتُب الأُصول.
وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحقيقة ، ولا عِطْرَ بعد عَرُوس.
ويُقال : إنّ مَن غَلّ شيئاً في الدنيا يُمَثَّلُ له يومَ القيامة في النار ، ثم يُقَالُ له : انزل إليه فَخُذْه ، فيَهبِطُ إليه ، فإذا انتهى إليه حَمَلَه ، حتى إذا انتهى إلى الباب سَقَط عنه إلى أسفل جَهَنّم ، فَيرجِعُ إليه فيأخُذُه ؛ لا يَزالُ هكذا إلَى ما شَاءَ الله.
ويقال { يأْتِ بِما غَلّ } يعني تَشْهدُ عليه يَومَ القِيامَة تِلْك الخِيَانَةُ والغُلولُ.
قال العلماء : والغُلولُ كبيرةٌ من الكبَائر ؛ بِدليل هذه الآية وما ذَكَرْنَاهُ من حديث أبي هُرَيْرَةَ : أَنَّه يَحْمِلُه عَلَى عُنُقِه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في مُدْعِم : " والذي نفسي بيده أن الشَّمْلة التي أخذ يوم خَيْبَرَ من المغانم لم تُصبها المقَاسم لتشتعل عليه ناراً" قال : فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بِشراك أو شِراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "شِراكٌ أو شِراكان من نار" " أخرجه الموطّأ.
فقوله عليه السلام : " والذي نفسي بيده " وامتناعه من الصلاة على من غَلّ دليلٌ على تعظيم الغُلول وتعظيم الذنب فيه وأنه من الكبائر ، وهو من حقوق الآدميّين ولا بدّ فيه من القصاص بالحسنات والسيئات ، ثم صاحبه في المشيئة.
وقوله : "شِراكٌ أو شِراكان من نار" مثل قوله : "أدُّوا الخِياط والمِخْيَط".
(18/25)
وهذا يدل على أن القليل والكثير لا يحلّ أخذُه في الغَزْوِ قبل المقَاسم ، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغَزْو ومن والاصطياد والاحتطاب.
وقد رُوي عن الزُّهْرِيّ أنه قال : لا يؤخذ الطعام في أرض العدوّ إلا بإذن الإمام.
وهذا لا أصل له ؛ لأن الآثار تخالفه ، على ما يأتي.
قال الحسن : كان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحوا المدينةَ أو الحِصْن أكلوا من السَّوِيق والدقيق والسّمن والعسل.
وقال إبراهيم : كانوا يأكلون من أرض العدوّ الطعامَ في أرض الحرب ويعلِفون قبل أن يَخْمسُوا.
وقال عطاء : في الغزاة يكونون في السّرِيّة فيصيبون أَنْحاء السمن والعسل والطعام فيأكلون ، وما بَقِي ردُّوه إلى إمامهم ؛ وعلى هذا جماعة العلماء.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن الغالّ لا يُحرق متاعه ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُحْرِق متاع الرجل الذي أخذ الشّملة.
ولا أحْرَقَ متاع صاحبِ الخَرَزات الذي ترك الصلاةَ عليه ، ولو كانت حرق متاعه واجباً لفعله صلى الله عليه وسلم ، ولو فعله لنُقل ذلك في الحديث.
وأما ما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وجدتم الرجل قد غَلّ فأحرقوا متاعَه واضربوه " فرواه أبو داود والترمذيُّ من حديث صالح بن محمد بن زائدة ، وهو ضعيف لا يُحتجّ به.
قال التِّرمذيّ : سألت محمداً يعني البخاريّ عن هذا الحديث فقال : إنما رَوى هذا صالح بن محمد وهو أبو واقد الليثي وهو منكَر الحديث.
وروى أبو داود أيضاً عنه قال : غزونا مع الوليد بن هِشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز ، فغَلّ رجل متاعاً فأمر الوليد بمتاعه فأحرق ، وطِيف به ولم يُعطِه سهمه.
قال أبو داود : وهذا أصح الحديثين.
(18/26)
وروى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حَرّقوا متاع الغالّ وضربوه.
قال أبو داود : وزاد فيه عليّ بن بحر عن الوليد ولم أَسْمعْهُ منه : ومَنَعُوه سهمه.
قال أبو عمر : قال بعض رواة هذا الحديث : واضرِبوا عنقه وأحرِقوا متاعه.
وهذا الحديث يدور على صالح ابن محمد وليس ممن يُحتجّ به.
وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يَحِلّ دَمُ امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث " وهو ينْفِي القتل في الغلول.
وروي ابن جُريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال : " ليس على الخائن ولا على المُنْتَهِب ولا على المختلس قَطْعٌ " وهذا يعارض حديثَ صالح بن محمد وهو أقوى من جهة الإسناد.
والغالّ المختلس قَطْعٌ".
وهذا يعارض حديثَ صالح بن محمد وهو أقوى من جهة الإسناد.
والغالّ خائن في اللغة والشريعة وإذا انتفى عنه القطع فأحرى القتل.
وقال الطّحاويّ : لو صحّ حديثُ صالح المذكور احتمل أن يكون حين كانت العقوبات في الأموال ؛ كما قال في مانع الزكاة : "إنا آخذوها وشَطْرَ مالِه ، عَزْمةً من عزَماتِ الله تعالى".
وكما قال أبو هريرة في ضالّة الإبل المَكْتُوبة : فيها غرامتُها ومِثلُها معها.
وكما رَوى عبد الله ابن عمرو بن العاص في الثّمر المعلَّق غَرامةُ مِثلَيْه وجَلداتُ نَكالٍ.
وهذا كلّه منْسوخ ، والله أعلم.
فإذا غلّ الرجل في المَغْنَم ووُجِد أخِذ منه ، وأُدِّب وعُوقب بالتعزير.
وعند مالك والشافعيّ وأبي حنيفة وأصحابهم واللّيث : لا يُحرق متاعه.
وقال الشافعيّ واللّيث وداود : إن كان عالماً بالنَّهي عُوقب.
وقال الأَوْزاعيّ : يحرق متاع الغالّ كلَّه إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسَرْجه ، ولا تُنزع منه دابته ، ولا يُحرق الشيء الذي غُلّ.
(18/27)
وهذا قول أحمد وإسحاق ، وقاله الحسن ؛ إلا أن يكون حيواناً أو مصْحَفاً.
وقال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد : ورُوي أنا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ضرباً الغالّ وأحرقا متاعه.
قال ابن عبد البر : وممن قال يُحرق رَحْل الغالّ وأحرقا متاعه.
قال ابن عبد البر : وممن قال يُحرق رَحْل الغالّ ومتاعُه مَكْحُولٌ وسعيدٌ بن عبد العزيز.
وحجة من ذهب إلى هذا حديثُ صالح المذكُور.
وهو عندنا حديث لا يجب به انتهاك حُرْمة ، ولا إنفاذ حُكْم ؛ لما يعارضه من الآثار التي هي أقوى منه.
وما ذهب إليه مالك ومن تابعه في هذه المسألة أصحُّ من جهة النظر وصحيح الأثر ، والله أعلم.
ثم قال رحمه الله :
وفي تحريم الغُلُول دليل على اشتراك الغانمين في الغنيمة ، فلا يحل لأحد أن يستأثر بشيء منها دون الآخر ؛ فمن غَصَب شيئاً منها أُدِّبَ اتفاقا ، على ما تقدّم.
ومن الغُلُول هدايا العمال ، وحُكْمه في الفضيحة في الآخرة حُكْم الغالّ.
روى أَبُو داود في سُننه ومُسْلمٌ في صحيحه عن أبي حُميد الساعِدِيّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من الأزْد يُقال له ابن اللُّتْبِيّة ( قال ابن السرح ابن الأُتْبِية ) على الصدقة ، فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدى لي.
(18/28)
فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم على المِنْبر فحمِد الله وأثنى عليه وقال : " ما بالُ العامل نَبعثهُ فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهْدِيَ لِي ألاَ جَلس في بيت أُمّه أو أبيه فينظر أيُهدَى إليه أم لا ، لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيراً فله رُغاء وإن كانت بقرة فلها خُوار أو شاةً تُيْعِرَ" ثم رفع يديه حتى رأينا عُفْرَتَيْ إبطيْه ثم قال : "اللَّهُمَّ هل بَلّغتُ اللَّهُمَّ هل بلّغْتُ" " ورَوى أبو داود عن بُريدةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " من استعملناه على عمل فرزقناه رِزْقاً فما أخَذ بعد ذلك فهو غُلول " ورَوى أيضاً " عن أبى مسعود الأنصارى قال : بَعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعِياً ثم قال : "انطلق أبا مسعود ولا ألْفِينَّك يوم القيامة تأتي على ظهرك بعيرٌ من إبل الصّدقة له رُغاءٌ قد غَلَلْتَه".
قال : إِذا لا أنطلق.
قال : "إذاً لا أكرهك" " وقد قيّد هذه الأحاديث ما رواه أبو داود أيضاً عن المُسْتَوْرِد ابن شداد قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : " من كان لنا عاملاً فلْيَكْتَسِب زوجةً فإن لم يكن له خادم فلْيَكْتَسِبَ خادِماً فإن لم يكن له مسكن فليكتسِب مسكناً " قال فقال أبو بكر : أُخبرت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " من اتخذ غير ذلك فهو غالٌّ سارق " والله أعلم.
ومن الغُلُول حبس الكُتُب عن أصحابها ، ويدخل غيرها في معناها.
قال الزُّهِريّ : إيّاك وغلولَ الكتب.
فقيل له ؛ وما غُلُول الكتب ؟ قال ؛ حبسها عن أصحابها.
وقد قيل في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أن يكتم شيئاً من الوَحْي رَغْبةً أو رَهْبةً أو مُداهنة.
(18/29)
وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عَيْب دينهم وسَبّ آلهتهم ، فسألوه أن يطوِي ذلك ؛ فأنزل الله هذه الآية ؛ قاله محمد بن بشار.
وما بدأنا به قول الجمهور. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 261 ـ 262}. بتصرف.
فصل
قال ابن كثير :
عن عدِيّ بن عُميرَة الكندي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يَأَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَمِلَ لَنَا [مِنْكُمْ] عملا فكَتَمَنَا مِنْهُ مِخْيَطا فَمَا فَوْقَهُ فَهُوَ غُلُّ يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قال : فقال رجل من الأنصار أسود -قال مُجَالد : هو سعيد بن عبادة -كأني أنظر إليه، فقال : يا رسول الله، اقبل عني عملك. قال : "وَمَا ذَاك ؟ " قال : سمعتك تقول كذا وكذا. قال : "وَأَنا أقُولُ ذَاكَ الآن : مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئ بِقَليلِهِ وَكَثِيرِه، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَهُ. وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى". وكذا رواه مسلم، وأبو داود، من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد، به (1).
_______________
(1) المسند (4/192) وصحيح مسلم برقم (1833)(18/30)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو إسحاق الفَزَاري، عن ابن جُرَيج، حدثني منبوذ، رجل من آل أبي رافع، عن الفضل بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى العصر رُبَّما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر المغرب قال أبو رافع : فبينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مسرعًا إلى المغرب إذ مر بالبقيع فقال : "أُفٍّ لَكَ.. أُفٍّ لَكَ" مرتين، فكبر في [ذرعي] وتأخرت وظننت أنه يريدني، فقال : "مَا لَكَ ؟ امش" قال : قلتُ : أحدثت حدثا يا رسول الله ؟ قال : "وَمَا ذَاكَ ؟ " قلت : أفَّفْتَ بي قال : "لا وَلَكِنْ هَذَا قَبْرُ فُلانٍ، بَعَثْتُهُ سَاعِيًا عَلَى آلِ فُلانٍ، فَغَلَّ نَمِرَة فَدُرِعَ الآنَ مِثْلَهُ مِنْ نَارٍ" (1).
حديث آخر : قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن سالم الكوفي المفلوج - وكان بمكة -
حدثنا عُبَيْدة بن الأسود، عن القاسم بن الوليد، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، عن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم، ثم يقول : "مَا لِيَ فِيهِ إلا مِثْلَ مَا لأحَدِكُمْ، إيَّاكُمْ والْغُلُولَ، فَإنَّ الْغُلُولَ خزْي عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أدُّوا الخَيْطَ والمِخْيَطَ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَجَاهِدُوا فِي سبيل الله الْقَرِيب والْبَعِيدَ، في الْحَضَرِ والسَّفَرِ، فإنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أبْوَابِ الْجَنَّةِ، إنَّهُ لَيُنْجِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ والْغَمِّ ؛ وأقِيمُوا حُدُودَ اللهِ فِي الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ، وَلا تَأْخُذُكُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائمٍ". وقد روى ابنُ ماجة بَعْضَه عن المفلوج، به (2).
______________
(1) المسند (6/392)
(2) المسند (5/330) وهذا الحديث من زيادات عبد الله بن أحمد على مسند أبيه، وسنن ابن ماجة برقم (2540)(18/31)
حديث آخر : عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جدِّه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رُدُّوا الْخِيَاط وَالْمِخْيَطَ، فَإنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَنارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1).
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن مُطَرِّف، عن أبي الجَهْم، عن أبي مسعود الأنصاري قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيًا ثم قال : "انْطَلِقْ -أَبَا مَسْعُودٍ-لا أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَجِيءُ عَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ". قال : إِذًا لا أَنْطَلِقُ. قال : إِذًا لا أُكْرِهُكَ". تفرد به أبو داود (2).
حديث آخر : قال أبو بكر بن مَرْدُويَه : أنبأنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، أنبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، أنبأنا عبد الحميد بن صالح أنبأنا أحمد بن أبان، عن علقمة بن مَرْثَد، عن ابن بُرَيدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ الْحَجَرَ لَيُرْمَى بِهِ [فِي] جَهَنَّمَ فَيَهْوِي سَبْعِينَ خَرَيِفًا مَا يَبْلُغُ قَعْرَهَا، وَيُؤْتَى بِالْغُلُولِ فَيُقْذَفُ مَعَهُ"، ثم يُقَالُ لَمَنْ غَلَّ ائْتِ بِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (3).
___________
(1) سنن أبي داود برقم (2947)
(2) المسند (2/184)
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/21) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (4334) من طريق محمد بن أبان عن علقمة بن مرثد به، وفي إسناده محمد بن أبان الجعفي ضعيف(18/32)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عِكْرِمة بن عمار، حدثني سماك الحَنفي أبو زُميل، حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عُمَر بن الخطاب قال : لما كان يومُ خَيْبَر أقبل نَفَر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : فلان شهيد، وفلان شهيد. حتى أَتوْا على رجل فقالوا : فلان شهيد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كَلا إنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا -أو عَبَاءَةٍ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ : إنَّه لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلا الْمُؤْمِنُونَ". قال : فخرجت فناديت : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
وكذا رواه مسلم، والترمذي من حديث عكرمة بن عمار به. وقال الترمذي : حسن صحيح (1). أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 154 ـ 156}
___________
(1) المسند (1/30) وصحيح مسلم برقم (114) وسنن الترمذي برقم (1574)(18/33)
قوله تعالى : {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ}
قال الآلوسى :
{ ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي تعطى كل نفس مكلفة جزاء ما عملت من خير أو شر تاماً وافياً ، ففي الكلام مضاف محذوف أو أنه أقيم المكسوب مقام جزائه ، وفي تعليق التوفية بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند إتيانه بما غل يوم القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم والمبالغة في بيان فظاعة حال الغال ما لا يخفى فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله لا ينقص منه شيء وإن كان جرمه في غاية القلة والحقارة ، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى وهذا سبب العدول عما يقتضيه الظاهر من نحو ثم يوفى ما كسب لأنه اللائق بما قبله ؛ وقيل : يحتمل أن يكون المراد إثم توفى منه كل نفس لها حق في تلك الغنيمة ما كسبت من نقصان حقها من غله فحينئذٍ يكون النظم على مقتضى الظاهر وكلمة { ثُمَّ } للتفاوت بين حمله ما غل وبين جزائه ، أو للتراخي الزماني أي بعد حمله ما غله بمدة مديدة وجعله منتظراً فيما بين الناس مفتضحاً حاملاً ما غله توفى منه كل نفس ، ولا يخفى أن مثل هذا الاحتمال مما يصان عنه كلام الملك المتعال ، فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه هو القول الأول المتضمن لنكتة العدول وأمر { ثُمَّ } عليه ظاهر سواء جعلت للتراخي الزماني ، أو للتراخي الرتبي.
أما الأول : فلأن الإتيان بما غل عند قيامه من القبر على ما هو الظاهر والجزاء بعد ذلك بكثير.
وأما الثاني : فلأن جزاء الغال وعقوبته أشدّ فظاعة من حمل ما غله والفضيحة به بل لا يبعد أن يكون ذلك الحمل كالعلاوة على الحمل بل يكاد أن يكون نعيماً بالنسبة إلى ما يلقى بعد ، والجملة على كل تقدير معطوفة على الجملة الشرطية. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 111}(18/34)
وقال البيضاوى :
{ ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } يعني تعطي جزاء ما كسبت وافياً ، وكان اللائق بما قبله أن يقال ثم يوفى ما كسبت لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 110}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { ثم توفى كل نفس ما كسبت } تنبيه على العقوبة بعد التفضيح ، إذ قد علم أنّ الكلام السابق مسوق مساق النَّهي ، وجيء بـ ( ثمّ ) للدّلالة على طول مهلة التفضيح ، ومن جملة النُّفوس الَّتي توفَّى ما كسبت نفس من يغلل ، فقد دخل في العموم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 275}
لطيفة
قال أبو السعود :
ووضعُ المكسوبِ موضعَ جزائِه تحقيقاً للعدْل ببيان ما بينهما من تمام التناسُبِ كمّاً وكيفاً كأنهما شيءٌ واحد. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 107}
سؤالان :
السؤال الأول : هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل بما قبله ؟
والجواب : الفائدة في ذكر هذا العموم أن صاحب الغلول إذا علم أن ههنا مجازيا يجازي كل أحد على عمله سواء كان خيراً أو شرا ، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب.
السؤال الثاني : المعتزلة يتمسكون بهذا في إثبات كون العبد فاعلا ، وفي إثبات وعيد الفساق.
أما الأول : فلأنه تعالى أثبت الجزاء على كسبه ، فلو كان كسبه خلقا لله لكان الله تعالى يجازيه على ما خلقه فيه.
وأما الثاني : فلأنه تعالى قال في القاتل المتعمد : {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [ النساء : 93 ] وأثبت في هذه الآية أن كل عامل يصل اليه جزاؤه فيحصل من مجموع الآيتين القطع بوعيد الفساق.(18/35)
والجواب : أما سؤال الفعل فجوابه المعارضة بالعلم ، وأما سؤال الوعيد فهذا العموم مخصوص في صورة التوبة ، فكذلك يجب أن يكون مخصوصا في صورة العفو للدلائل الدالة على العفو. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 60}
لطيفة
قال أبو حيان :
ذكر أن ذلك الجزاء ليس مختصاً بمن غلّ ، بل كل نفس توفى جزاء ما كسبت من غير ظلم ، فصار الغال مذكوراً مرتين : مرّة بخصوصه ، ومرّة باندراجه في هذا العام ليعلم أنه غير متخلص من تبعة ما غل ، ومن تبعة ما كسبت من غير الغلول. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 107}
قوله تعالى : {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}
قال الآلوسى :
{ وَهُمْ } : أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس { لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا ينقص بمقتضى الحكمة والعدل ثواب مطيعهم ولا يزاد عقاب عاصيهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 111}
فصل
قال الفخر :
قال القاضي : هذا يدل على أن الظلم ممكن في أفعال الله وذلك بأن ينقص من الثواب أو يزيد في العقاب ، قال : ولا يتأتى ذلك إلا على قولنا دون قول من يقول من المجبرة : إن أي شيء فعله تعالى فهو عدل وحكمة لأنه المالك.
الجواب : نفي الظلم عنه لا يدل على صحته عليه ، كما أن قوله : {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [ البقرة : 255 ] لا يدل على صحتهما عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 60}(18/36)
فائدة
قال ابن عاشور :
والآية دلّت على تحريم الغلول وهو أخذ شيء من المغنم بغير إذن أمير الجيش ، وهو من الكبائر لأنَّه مِثل السرقة ، وأصحّ ما في الغلول حديث "الموطأ" : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من خيبر قاصداً وادي القُرى وكان له عبد أسود يدعى مِدْعَما ، فبينما هو يحطّ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فقتله ، فقال النَّاس : هنيئاً له الجنَّةُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلاّ والَّذي نفسي بيده إن الشَّملة التي أخذها يومَ خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً "
ومن غلّ في المغنم يؤخذ منه مَا غَلَّه ويؤدّب بالاجتهاد ، ولا قطع فيه باتِّفاق ، هذا قول الجمهور ، وقال الأوزاعي ، وإسحاق ، وأحمد بن حنبل ، وجماعة : يحرق متاع الغالّ كُلّه عدَا سِلاحَه وسرجه ، ويردّ ما غلّه إلى بيت المال ، واستدلّوا بحديث رواه صالح بن محمد بن زائدة أبو واقد الليثي ، عن عمر بن الخطاب : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه " وهو حديث ضعيف ، قال الترمذي سألت محمداً يعني البخاري عنه فقال : "إنَّما رواه صالح بن محمد ، وهو منكر الحديث.
على أنَّه لو صَحّ لوجَبَ تأويله لأنّ قواعد الشَّريعة تدلّ على وجوب تأويله فالأخذ به إغراق في التعلّق بالظواهر وليس من التفقّه في شيء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 275}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
{ أَنْ يَغُلَّ } في محل رفع ، اسم كان و" لنبيّ " خبرٌ مقدَّمٌ ، أي : ما كان له غلول أو إغلال على حسب القراءتينِ.
وقرا ابنُ كثيرٍ ، وأبو عمرو ، وعاصم ، بفتح الياء وضم الغين -من غل- مبنياً للفاعل ، ومعناه : أنه لا يصح أن يقع من النبي غلول ؛ لتنافيهما ، فلا يجوز أن يتوهَّمَ ذلك فيه ألبتة.(18/37)
وقرأ الباقون " يُغَلَّ " مبنياً للمفعول ، وهذه القراءة فيها احتمالانِ :
أحدهما : أن يكون من " غَلَّ " ثلاثياً ، والمعنى : ما صح لنبيٍّ أن يخونه غيره ويَغُلَّهُ ، فهو نفيٌ في معنى النهي ، أي : لا يَغُلَّهُ أحدٌ.
ثانيهما : أن يكون من " أغَلَّ " رباعياً ، وفيها وجهانِ :
أحدهما : أن يكون من " أغَلَّهُ " أي : نسبه إلى الغُلُولِ ، كقولهم : أكذبته إذا نسبته إلى الكذب- وهذا في المعنى كالذي قبله ، أي : نفي في معنى النهي ، أي : لا يَنْسبه أحدٌ إلى الغلولِ.
قال ابن قتيبة : ولو كان الرمادُ هذا المعنى لقيل : يُغَلَّلُ كما يقال : يُفَسَّق ، ويُخَوَّن ، ويُفَجَّر ، والأولى أن يقال : إنه من " أغللته " أي : وجدته غالاً ، كما يقال : " أبخَلْتُهُ ".
الثاني : أن يكون من " أغلَّهُ " أي : وَجَدتهُ محموداً وبخيلاً.
والظاهر أن قراءة " يَغُلَّ " بالبناء للفاعل -لا يُقَدَّر فيها مفعول محذوف ؛ لأن الغرض نفي هذه الصفةِ عن النبيِّ من غير نظر إلى تعلق بمفعول ، كقولك : وهو يُعْطِي ويمنع- تريد إثبات هاتين الصفتين ، وقدر له أبو البقاء مفعولاً ، فقال : تقديره أن يغل المال أو الغنيمة.
(18/38)
واختار أبو عبيدة والفارسي قراءة البناء للفاعل قالا : " لأن الفعل الوارد بعد " ما كان لكذا أن يفعل " أكثر ما يجيء منسوباً إلى الفاعل نحو : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } [ آل عمران : 145 ] ، { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } [ آل عمران : 179 ] و{ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله } [ يوسف : 38 ] { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ } [ يوسف : 76 ] { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } [ التوبة : 115 ] { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } [ آل عمران : 179 ] ويقال : ما كان ليضرب ، فوجب إلحاق هذه الآية بالأعم الأغلب ويأكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة ، وقال : ليس في الكلام ما كان لكَ أن تُقرب -بضم التاء ، وأيضاً فهذه القرءة اختيار ابن عباسٍ ، فقيل له : إن ابن مسعودٍ يقرأ : يُغل فقال ابنُ عباس : كان النبيُّ يقصدون قتله فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة.
قال شهاب الدين ، ورجحها بعضهم بقوله : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ } فهذا يوافق هذه القراءة ، ولا حجة في ذلك ؛ لأنها موافقة للأخرى.
و " الغلول " في الأصل تدرع الخيانة وتوسطها و" الغلل " تَدْرُّع الشيء وتوسطه ، قال : [ الوافر ]
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ سَرَابٌ... وَلاَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ
قيل : تَغَلْغَلَ الشيء إذا تخلل بخفية.
قال : [ الوافر ]
تَغَلْغَلَ حُبُّ مَيَّةَ فِي فُؤادِي... والغلالة : الثوب الذي يلبس تحت الثياب ، والغلول الذي هو الأخذُ في خفية مأخوذةٌ من هذا المعنى.
(18/39)
ومنه : أغل الجازر -إذا سرق وترك في الإهاب شيئاً من اللحم. وفرَّقت العرب بين الأفعال والمصادر ، فقالوا : غَلَّ يَغَلُّ غلولاً -بالضم في المصدر والمضارع- إذا خان. وغَلَّ يَغِلُّ غِلاًّ -بالكسر فيهما- الحقد قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الأعراف : 43 ] أي : حِقْد.
قال القرطبيُّ : " والغالّ : أرض مطمئنة ، ذات شجرٍ ، ومنابت الساج والطلح ، يقال لها : غال. والغال : -أيضاً : نبت ، والجمع : غُلاَّن- بالضم ".
قوله : { وَمَن يَغْلُلْ } الظاهر أن هذه الجملة الشرطية مستأنفةٌ لا محل لها من الإعرابِ ، وإنما هي للردع عن الإغلالِ ، وزعم أبو البقاء أنها يجوز أن تكون حالاً ، ويكون التقدير : في حال علم الغالِّ بعقوبة الغلول.
وهذا - وإن كان محتملاً - بعيدٌ.
و " ما " موصولة بمعنى الذي ، فالعائد محذوف أي : غَلَّه ، ويدل على ذلك الحديث ، أنّ أحدهم يأتي بالشيء الذي أخذه على رقبته.
ويجوز أن تكون مصدرية ، ويكون على حذف مضاف ، أي : بإثم غُلوله.
قوله : { ثُمَّ توفى } هذه الجملة معطوفة على الجملة الشرطية ، وفيها إعلامٌ أن الغالَّ وغيره من جميع الكاسبين لا بد وأن يُجَازوا ، فيندرج الغالُّ تحت هذا العموم -أيضاً- فكأنه ذُكِرَ مرتَيْن.
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : هلاَّ قِيلَ : ثم يُوَفَّى ما كسب ؛ ليتصل به ؟
قلت : جيء بعامٍّ دخل تحته كلُّ كاسب من الغالِّ وغيره ، فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أثبتُ وأبلغ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 22 ـ 28}. بتصرف.(18/40)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)}
نزَّه أحوال الأنبياء عن الدَّنَس بالخيانات ، فمن حَمَّلْنَاه من الرسالة إلى عبادنا يوصلها إلى مستحقيها واجباً ، ولا يعتني بشأنِ حميمٍ له مِنْ دون أمرنا ، ولا يمنع نصيب أحدٍ أمرناه بإيصاله إليه ، بحقدٍ ينطوي عليه. ألا ترى كيف قال : " اذْهب فوارِه " لأبي طالب لمَّا قال له أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه : مات عمُّك الضال. وكيف قَبِلَ الوحشي قاتِلَ حمزة لمَّا أسلم ؟ . أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 293}(18/41)
قوله تعالى {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر تعالى أنه لا يقع في ذلك اليوم ظلم أصلاً تسبب عنه الإنكار على من حدثته نفسه بالأماني الكاذبة ، فظن غير ذلك من استواء حال المحسن وغيره ، أو فعل فعلاً وقال قولاً يؤدي إلأى ذلك كالمنافقين وكالمقبلين على الغنيمة فقال تعالى : {أفمن اتبع} أي طلب بجد واجتهاد {رضوان الله} أي ذي الجلال والإكرام بالإقبال على ما أمر به الصادق ، فصار إلى الجنة ونعم الصبر {كمن بآء} أي رجع من تصرفه الذي يريد به الربح ، أو حل وأقام {بسخط من الله} أي من الملك الأعظم بأن فعل ما يقتضي السخط بالمخالفة ثم الإدبار لولا العفو {ومأواه جهنم} أي جزاء بما جعل أسباب السخط مأواه {وبئس المصير} أي هي. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 177}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما قال : {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} [ آل عمران : 161 ] أتبعه بتفصيل هذه الجملة ، وبين أن جزاء المطيعين ما هو ، وجزاء المسيئين ما هو ، فقال : {أَفَمَنِ اتبع رضوان الله}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 60 ـ 61}
فائدة
قال ابن عاشور :
والاتِّباع هنا بمعنى التطلّب : شبه حَال المتوّخي بأفعاله رضَى الله بحال المتطلِّب لطِلْبَة فهو يتبعها حيث حلّ ليقتنصها ، وفي هذا التَّشبيه حسن التنبيه على أنّ التحصيل على رضوان الله تعالى محتاج إلى فرط اهتمام ، وفي فعل ( باء ) من قوله : { كمن بآء بسخط من الله } تمثيل لحال صاحب المعاصي بالَّذي خرج يطلب ما ينفعه فرجع بما يضرّه ، أو رجع بالخيبة كما تقدّم في معنى قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } في سورة البقرة ( 16 ).(18/42)
وقد علم من هذه المقابلة حال أهل الطاعة وأهل المعصية ، أوْ أهلِ الإيمان وأهلِ الكفر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 276}
فصل
قال الفخر :
للمفسرين فيه وجوه :
الأول : {أَفَمَنِ اتبع رضوان الله} في ترك الغلول {كَمَن بَاء بِسَخطٍ مّنَ الله} في فعل الغلول ، وهو قول الكلبي والضحاك.
الثاني : {أفمن اتبع رضوان الله} بالإيمان به والعمل بطاعته ، {كمن باء بسخط من الله} بالكفر به والاشتغال بمعصيته ،
الثالث : {أَفَمَنِ اتبع رضوان الله} وهم المهاجرون ، {كَمَن بَاء بِسَخطٍ مّنَ الله} وهم المنافقون ،
الرابع : قال الزجاج : لما حمل المشركون على المسلمين دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن يحملوا على المشركين ، ففعله بعضهم وتركه آخرون.
فقال : {أَفَمَنِ اتبع رضوان الله} وهم الذين امتثلوا أمره {كَمَن بَاء بِسَخطٍ مّنَ الله} وهم الذين لم يقبلوا قوله ، وقال القاضي : كل واحد من هذه الوجوه صحيح ، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه لأن اللفظ عام ، فوجب أن يتناول الكل ، لأن كل من أقدم على الطاعة فهو داخل تحت قوله {أَفَمَنِ اتبع رضوان الله} وكل من أخلد إلى متابعة النفس والشهوة فهو داخل تحت قوله : {كَمَن بَاء بِسَخطٍ مّنَ الله} أقصى ما في الباب أن الآية نازلة في واقعة معينة ، لكنك تعلم أن عموم اللفظ لا يبطل لأجل خصوص السبب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 61}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ أَفَمَنِ اتبع رضوان الله } أي سعى في تحصيله وانتحى نحوه { كَمَن بَاء } أي رجع { بِسَخْطٍ } أي غضب عظيم جداً وهو بفتحتين مصدر قياسي ، ويقال : بضم فسكون وهو غير مقيس والجار متعلق بالفعل قبله ، وجوز أن يكون حالاً فيتعلق بمحذوف أي رجع مصاحباً لسخط.
{ مِنَ الله } أي كائن منه تعالى.(18/43)
وفي المراد من الآية أقوال : أحدها : أن المعنى أفمن اتبع رضوان الله تعالى في العمل بالطاعة كمن باء بسخط منه سبحانه في العمل بالمعصية وهو المروي عن ابن إسحاق ثانيها : أن معناه أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كالنبي ومن يسير بسيرته كمن باء بسخط من الله تعالى بفعل الغلول ، وروي ذلك عن الحسن والضحاك واختاره الطبري لأنه أوفق بالمقام ، ثالثها : أن المراد أفمن اتبع رضوان الله تعالى بالجهاد في سبيله كمن باء بسخط منه جل جلاله في الفرار عنه ، ونقل ذلك عن الجبائي والزجاج ، قيل : وهو المطابق لما حكي في سبب النزول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين واتبعه المؤمنون فأنزل الله تعالى هذه الآية وفيه بعد وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لما مر غير مرة.(18/44)
{ ومأواه جَهَنَّمَ } أي مصيره ذلك ، وفي الجملة احتمالان ، الأول : أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان حال من باء بسخط ويفهم من مقابله أن من اتبع الرضوان كان مأواه الجنة ولم يذكر ذلك ليكون أبلغ في الزجر ، وقيل : لم يذكر مع الرضوان الجنة لأن رضوان الله تعالى أكبر وهو مستلزم لكل نعيم وكون السخط مستلزماً لكل عقاب فيقتضي أن تذكر معه جهنم في حيز المنع لسبق الجمال الجلال فافهم ، والثاني : أنها داخلة في حيز الموصول فتكون معطوفة على { بَاء بِسَخْطٍ } عطف الصلة الاسمية على الصلة الفعلية ، وعلى كلا الاحتمالين لا محل لها من الإعراب { وَبِئْسَ المصير } إما تذييل أو اعتراض ، أو معطوف على الصلة بتقدير ويقال في حقهم ذلك ، وأياً مّا كان فالمخصوص بالذم محذوف أي ( وبئس المصير ) جهنم ، والمصير اسم مكان ، ويحتمل المصدرية وفرقوا بينه وبين المرجع بأن المصير يقتضي مخالفة ما صار إليه من جهنم لما كان عليه في الدنيا لأن الصيرورة تقتضي الانتقال من حال إلى حال أخرى كصار الطين خزفاً ، والمرجع انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها كقولك : مرجع ابن آدم إلى التراب ، وأما قولهم : مرجع العباد إلى الله تعالى فباعتبار أنهم ينقلبون إلى حال لا يملكون فيها لأنفسهم شيئاً كما كان قبل ما ملكوا. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 111 ـ 112}(18/45)
فصل
قال الفخر :
نظير هذه الآية قوله تعالى : {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلهُمْ كالذين آمنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ ومماتُهُمْ} [ الجاثية : 21 ] وقوله : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [ السجدة : 18 ] وقوله : {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ ص : 28 ] واحتج القوم بهذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يدخل المطيعين في النار ، وأن يدخل المذنبين الجنة ، وقالوا : إنه تعالى ذكر ذلك على سبيل الاستبعاد ، ولولا أنه ممتنع في العقول ، وإلا لما حسن هذا الاستبعاد ، وأكد القفال ذلك فقال : لا يجوز في الحكمة أن يسوى المسيء بالمحسن ، فإن فيه إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 61}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
{ أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } والكلام [ في ] مثله قد تقدم من أن الفاء النية بها التقديم على الهمزة ، وأن مذهب الزمخشريِّ تقدير فعل بينهما.
قال أبو حيّان : وتقديره -في هذا التركيب- متكلِّف جدًّا.
والذي يظهر من التقديرات : أجعل لكم تمييزاً بين الضالِّ والمهتدي ، فمن اتبع رضوان الله واهتدَى ليس كَمَنْ باء بسخَطِه ؛ وغل ؛ لأن الاستفهام هنا- للنفي.
و " مَنْ " -هنا- موصولة بمعنى الذي في محل بالابتداء ، والجار والمجرور الخبر ، قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون شَرْطاً ؛ لأن " كَمَنْ " لا يصلح أن يكون جواباً ". يعني : لأنه كان يجب اقترانه بالفاء ؛ لأن المعنى يأباه. و" بِسَخَطٍ " يجوز أن يتعلق بنفس الفعل ، أي : رجع بسخطه ، ويجوز أن يكون حالاً ، فيتعلق بمحذوف ، أي رجع مصاحباً لسخطه ، أو ملتبساً به ، و{ مِّنَ الله } صفته.(18/46)
والسَّخَط : الغضبُ الشديدُ ، ويقال : سَخَط -بفتحتين- وهو مصدر قياسي ، ويقالأ : سُخْط- بضم السين ، وسكون الخاء- وهو غير مقيس. ويقال : هو سُخْطةُ الملك -بالتاء- أي في كرهه منه له.
وقرأ عاصم -في إحدى الروايتين عنه- رُضْوان- بضم الراء- والباقون بكسرها ، وهما مصدران ، فالضم كالكُفْران ، والكسر كالحِسْبان.
فصل الهمزة فيه للإنكارِ ، والفاء ، للعطف على محذوف ، والتقدير : أفمن اتقى فاتبع رضوان الله وقوله : " بَاءَ " أي : رجع ، وقد تقدم.
وقوله : { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } في هذه الجملة احتمالان :
أحدهما : أن تكون مستأنفة ، أخبر أن مَنْ بَاءَ بِسَخَطه أوَى إلى جهنمَ ، وتفهم منه مقابله ، وهو أن من اتّبع الرضوانَ كان مأواه الجنة ، وإنما سكت عن هذا ، ونص على ذلك ليكون أبلغ في الزَّجْر ، ولا بد من حذف في هذه الجُمَلِ ، تقديره : أفمن أتبع ما يؤول به إلى رضا الله فباء برضاه كمن أتبع ما يؤول به إلى سخطه ؟
الثاني : أنها داخلة في حَيِّز الموصول ، فتكون معطوفة على " بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله " فيكون قد وصل الموصول بجملتين : اسمية وفعلية ، وعلى الاحتمالين ، لا محلَّ لها من الإعراب.
قوله : { وَبِئْسَ المصير } المخصوص بالذم محذوف ، أي وبئس المصيرُ جهنمُ.
واشتملت الآية على الطباق في قوله : { يَنصُرْكُمُ } و{ يَخْذُلْكُمْ } وقوله : { رِضْوَانَ الله } و" بسخطه " والتجنيس المماثل في قوله : { يَغُلَّ } و{ بِمَا غَلَّ }. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 29 ـ 30}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)}
لا يستوي مَنْ رضي عنه في آزاله ومَنْ سخط عليه فخذله في أحواله ، وجعله متكلاً على أعماله ، ناسياً لشهود أفضاله ، واتباع الرضوان بمفارقة زُجِر عنه ، ومعانقة ما أُمِرَ به ، فَمَنْ تجرَّد عن المزجور ، وتجلَّد في اعتناق المأمور فقد اتبع الرضوان ، واستوجب الجنان. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 293}(18/47)
قوله تعالى : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أفهم الإنكار على من سوّى بين الناس أنهم متمايزون صرح بذلك في قوله : {هم درجات} أي متباينون تباين الدرجات.
ولما كان اعتبار التفاوت ليس بما عند الخلق قال : {عند الله} أي الملك الأعلى في حكمه وعلمه وإن خفي ذلك عليكم ، لأن الله سبحانه وتعالى خلقهم فهو عالم بهم حين خلقهم {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال {بصير} أي بالبصر والعلم {بما يعملون} أي بعد إيجادهم ، لأن ذلك أيضاً خلقه وتقديره ، ولس لهم فيه إلا نسبته إليهم بالكسب ، فهو يجازيهم بحسب تلك الأعمال ، فكيف يتخيل أنه يساوي بينهم في المآل وقد فاوت بينهم في الحال وهو الحكم العدل! فعلم بما في هذا الختام من إحاطته بتفاصيل الأعمال صحة ما ابتدىء به الكلام من التوفية. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 177}
فصل
قال الفخر :
تقدير الكلام : لهم درجات عند الله ، إلا أنه حسن هذا الحذف ، لأن اختلاف أعمالهم قد صيرتهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها.(18/48)
فكان هذا المجاز أبلغ من الحقيقة والحكماء يقولون : إن النفوس الإنسانية مختلفة بالماهية والحقيقة ، فبعضها ذكية وبعضها بليدة ، وبعضها مشرقة نورانية ، وبعضها كدرة ظلمانية ، وبعضها خيرة وبعضها نذلة ، واختلاف هذه الصفات ليس لاختلاف الامزجة البدنية ، بل لاختلاف ماهيات النفوس ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " وقال : " الأرواح جنود مجندة " واذا كان كذلك ثبت أن الناس في أنفسهم درجات ، لا أن لهم درجات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 61 ـ 62}
وقال القرطبى :
قيل : "هُمْ دَرَجَاتٌ" مُتفاوِتةٌ ، أي هم مُختلفُوا المنازِل عند الله ؛ فَلِمن اتّبع رضوانه الكَرامةُ والثّوابُ العظيمُ ، ولِمن بَاءَ بِسَخَطٍ منه المَهانةُ والعذابُ الأليمُ.
ومعنى "هُمْ دَرَجَاتٌ".
أي ذَوُو دَرَجاتٍ.
أو على دَرَجات ، أو في دَرجاتٍ ، أو لهم دَرَجاتٌ.
وأهل النار أيضاً ذوو دَرَجات ؛ كما قال : " وجدته في غَمَرات من النار فأخرجته إلى ضَحْضَاح " فالمؤمن والكافر لا يستويان في الدّرجة ؛ ثم المؤمنون يختلفون أيضاً ، فبعضهم أرفع درجة من بعض ، وكذلك الكفار.
والدّرجةُ الرّتبةُ ، ومنه الدَّرَج : لأنه يُطوَى رُتْبةً بعد رُتْبةٍ.
والأشهر في منازل جهنم دَرَكات ؛ كما قال : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] فلمن لم يَغُلّ درجات في الجنة ، ولمن غَلّ دَركاتٌ في النار.
قال أبو عبيدة : جهنَّمُ أَدْرَاكٌ ، أي منازل ؛ يُقال لكل منزل منها : دَرَك ودَرْك.
والدّرَكُ إلى أسفل ، والدّرجُ إلى أعلى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 263}
فصل
قال الفخر :(18/49)
{هم} ضمير عائد إلى شيء قد تقدم ذكره ، وقد تقدم ذكر من اتبع رضوان الله وذكر من باء بسخط من الله ، فهذا الضمير يحتمل أن يكون عائداً إلى الأول ، أو إلى الثاني ، أو إليهما معاً ، والاحتمالات ليست إلا هذه الثلاثة.
الوجه الأول : أن يكون عائدا إلى {مَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} وتقديره : أفمن اتبع رضوان الله سواء ، لا بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم ، والذي يدل على أن هذا الضمير عائد إلى من اتبع الرضوان وأنه أولى ، وجوه :
الأول : أن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب ، والدركات في أهل العقاب.
الثاني : أنه تعالى وصف من باء بسخط من الله ، وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير ، فوجب أن يكون قوله : {هُمْ درجات} وصفا لمن اتبع رضوان الله.
الثالث : أن عادة القرآن في الأكثر جارية بأن ما كان من الثواب والرحمة فإن الله يضيفه إلى نفسه ، وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه ، قال تعالى : {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} وقال : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} [ البقرة : 178 ] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [ البقرة : 183 ] فما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه حيث قال : {هُمْ درجات عِندَ الله} علمنا أن ذلك صفة أهل الثواب.
ورابعها : أنه متأكد بقوله تعالى : {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [ الإسراء : 21 ].
(18/50)
والوجه الثاني : أن يكون قوله : {هُمْ درجات} عائدا على {مِّن بَاءَ بِسَخَطٍ مّنَ الله} والحجة أن الضمير عائد إلى الأقرب وهو قول الحسن ، قال : والمراد أن أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب ، وهو كقوله : {وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ} [ الأحقاف : 19 ] وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل أحد يعذب عذابي ".
الوجه الثالث : أن يكون قوله : {هُمْ} عائدا إلى الكل ، وذلك لأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، ودرجات أهل العقاب أيضا متفاوتة على حسب تفاوت أعمال الخلق ، لأنه تعالى قال : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [ الزلزلة : 7 ، 8 ] فلما تفاوتت مراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات وجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 62}
فصل
قال الفخر :
قوله : {عَندَ الله} أي في حكم الله وعلمه ، فهو كما يقال : هذه المسألة عند الشافعي كذا ، وعند أبي حنيفة كذا ، وبهذا يظهر فساد استدلال المشبهة بقوله : {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [ الأنبياء : 19 ] وقوله : {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [ القمر : 55 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 63}
قوله تعالى : {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
قال الفخر :
المقصود أنه تعالى لما ذكر أنه يوفي لكل أحد بقدر عمله جزاء ، وهذا لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع أفعال العباد على التفصيل الخالي عن الظن والريب والحسبان ، أتبعه ببيان كونه عالما بالكل تأكيدا لذلك المعنى ، وهو قوله : {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 63}
فصل
قال الفخر :(18/51)
وذكر محمد بن إسحاق صاحب المغازي في تأويل قوله : {وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ} [ آل عمران : 161 ] وجها آخر فقال : ما كان لنبي أن يغل أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة عنهم ثم قال : {أَفَمَنِ اتبع رضوان الله} يعني رجح رضوان الله على رضوان الخلق ، وسخط الله على سخط الخلق ، {كَمَن بَاء بِسَخَطٍ مّنَ الله} فرجح سخط الخلق على سخط الله ، ورضوان الخلق على رضوان الله ، ووجه النظم على هذا التقرير أنه تعالى لما قال : {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر} [ آل عمران : 159 ] بين أن ذلك إنما يكون معتبرا إذا كان على وفق الدين ، فأما إذا كان على خلاف الدين فإنه غير جائز ، فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان الله وطاعته ، وبين من اتبع رضوان الخلق ، وهذا الذي ذكره محتمل ، لأنا بينا أن الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية ، وأما أن اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة فهو عرف حادث. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 63}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وتضمنت هذه الآيات الطباق في : ينصركم ويخذلكم ، وفي رضوان الله وبسخط.
والتكرار في : ينصركم وينصركم ، وفي الجلالة في مواضع.
والتجنيس المماثل : في يغل وما غل.
والاستفهام الذي معناه في : أفمن اتبع الآية.
والاختصاص في : فليتوكل المؤمنون ، وفي : وما كان لنبي ، وفي : بما يعملون خص العمل دون القول لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء.
والحذف في عدة مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 108}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :(18/52)
{ هُمْ دَرَجَاتٌ } مبتدأ وخبر ، ولا بد من تأويل [ بالإخبار ] بالدرجات عن " هم " لأنها ليست إياهم ، فيجوز أن يكون جُعُلوا نَفْسَ الدرجات مبالغةً ، والمعنى : أنهم متفاوتون في الجزاء على كَسْبهم ، كما أن الدرجات متفاوتة والأصل على التشبيه ، أي : هم مثل الدرجات في التفاوت.
ومنه قوله : [ الوافر ]
أنصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَريهم... رِجَالِي أمْ هُمُ دَرَجُ السُّيُولِ
ويجوز أن يكون على حَذْف مضاف ، أي : هم ذوو درجات ، أي : أصحاب منازل ورُتَب في الثواب والعقاب وأجاز ابنُ الخطيب أن يكون في الأصل : لهم درجاتٌ -فحُذِفت اللامُ- وعلى هذا يكون " درجات " مبتدأ ، وما قبلها الخبرُ ، وردَّه بعضهم ، وقال : هذا من جهله وجهل متبوعيه -من المفسرين- بلسان العرب ، وقَالَ : لا مساغ لحذف اللام ألبتة ؛ لأنها إنما تُحَذَف في مواضع يضطر إليها ، وهنا المعنى واضحٌ ، مستقيم من غير تقدير حَذْف.
قال شهابُ الدينِ : " وادِّعاء حذف اللام خَطَأٌ ، والمخطئ معذورٌ ؛ وقد نُقِلَ عن المفسرين هذا ، ونقل عن ابن عبَّاسٍ والحسنِ لكل درجات من الجنة والنار ، فإن كان هذا القائل أخذ من هذا الكلام بأن اللام محذوفة فهو مخطئ ؛ لأن هؤلاء -رضي الله عنهم- يفسَِّرون المعنى لا الإعراب اللفظي ".
وقرأ النخعي " هم درجة " بالإفراد على الجنس.
قوله : { عِندَ الله } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بـ " درجات " فيكون في محل رفع.
فصل
" هم " عائد إلى لفظ " من " في قوله : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } ولفظ " كم " معناه الجمع. ونظيره قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } [ السجدة : 18 ]. ثم قال : " لا يستوون " بصيغة الجمع ، وهو عائد إلى " من ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 30 ـ 31}.
سؤال : فإن قيل : كيف جعل لكل درجات ؛ وأحد الفريقين لهم دركات لا درجات ؟
قلنا : الدرجات تستعمل فى الفريقين بديل قوله تعالى فى سورة الأحقاف { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا }
وتحقيقه : أن بعض أهل النار أخف عذابا ، فمكانه فيها أعلى ، وبعضهم أشد عذابا فمكانه فيها أسفل.
ولو سلم اختصاص الدرجات بأهل الجنة كان قوله {هم درجات} راجعا إليهم خاصة ؛ تقديره : أفمن اتبع رضوان الله ، وهم درجات عند الله كمن باء بسخط من الله وهم دركات ؟ إلا أنه حذف البعض لدلالة المذكور عليه. أ هـ {تفسير الرازى صـ 70}
.(18/53)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ هُمْ } عائد على الموصولين باعتبار المعنى وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : { درجات } خبره والمراد هم متفاوتون إطلاقاً للملزوم على اللازم ، أو شبههم بالدرج في تفاوتهم علواً وسفلاً على سبيل الاستعارة أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت فيكون تشبيهاً بليغاً بحذف الأداة ، وقيل : إن الكلام على حذف مضاف ولا تشبيه أي هم ذوو درجات أي منازل أو أحوال متفاوتة ، وهذا معنى قول مجاهد والسدي : لهم درجات ، وذهب بعضهم أن في الآية حينئذٍ تغليب الدرجات على الدركات إذ الأول للأول ، والثاني للثاني { عَندَ الله } أي في علمه وحكمه ، والظرف متعلق بدرجات على المعنى ، أو بمحذوف وقع صفة لها.
{ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } من الأعمال ودرجاتها فيجازيهم بحسبها والبصير كما قال حجة الإسلام هو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وإبصاره أيضاً منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان ، ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان ، فإن ذلك من التغيير والتأثر المقتضي للحدثان وإذا نزه عن ذلك كان البصر في حقه تعالى عبارة عن الصفة ينكشف بها كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما نفهمه من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات انتهى ، ويفهم منه أن البصر صفة زائدة على العلم وهو الذي ذهب إليه الجمهور منا ومن المعتزلة.
والكرامية قالوا : لأنا إذا علمنا شيئاً علماً جلياً ثم أبصرناه نجد فرقاً بين الحالتين بالبديهة ، وإن في الحالة الثانية حالة زائدة هي الإبصار.(18/54)
وقال الفلاسفة والكعبي وأبو الحسين البصري والغزالي عند بعض وادعى أن كلامه هذا مشير إليه أن بصره تعالى عبارة عن علمه تعالى بالمبصرات ، ومثل هذا الخلاف في السمع ، والحق أنهما زائدان على صفة العلم وأنهما لا يكيفان ولا يحدّان والإقرار بهما واجب كما وصف بهما سبحانه نفسه ، وإلى ذلك ذهب السلف الصالح وإليه ينشرح الصدر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 112}(18/55)
قوله تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أرشدهم إلى هذه المراشد ، وبين لهم بعض ما اشتملت عليه من الفوائد ، وبان بهذه القصة قدر من أسدى إليهم ذلك على لسانه صلى الله عليه وسلم بما له من الفضائل التي من أعظمها كونه من جنسهم ، يميل إليهم ويرحمهم ويعطف عليهم ، فيألفونه فيعلمهم ؛ نبه على ذلك سبحانه وتعالى ليستمسكوا بغرزه ، ولا يلتفتوا لحظة عن لزوم هدية فقال سبحانه وتعالى - مؤكداً لما اقتضاه الحال من فعل يلزم منه النسبة إلى الغلول - : {لقد من الله} أي ذو الجلال والإكرام {على المؤمنين} خصهم لأنهم المجتبون لهذه النعمة {إذا بعث فيهم} أي فيما بينهم أو بسببهم {رسولاً} وزادهم رغبة فيه بقوله : {من أنفسهم} أي نوعاً وصنفاً ، يعلمون أمانته وصيانته وشرفه ومعاليه وطهارته قبل النبوة وبعدها {يتلوا عليهم آياته} أي فيمحو ببركة نفس التلاوة كبيراً من شر الجان وغيرها مما ورد في منافع القرآن مما عرفناه ، وما لم نعرفه أكثر {ويزكيهم} أي يطهرهم من أوضار الدنيا والأوزار بما يفهمه بفهمه الثاقب من دقائق الإشارات وبواطن العبارات ، وقدم التزكية لاقتضاء مقام المعاتبة على الإقبال على الغنيمة ذلك ، كما مضى في سورة البقرة {ويعلمهم الكتاب} أي تلاوة بكونه من نوعهم يلذ لهم التلقي منه {والحكمة} تفسيراً وإبانة وتحريراً {وإن} أي والحال أنهم {كانوا} ولما كانوا قد مرت لهم أزمان وهم على دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام نبه على ذلك بإدخال الجار فقال {من قبل} أي من قبل ذلك {لفي ضلال مبين} أي ظاهر ، وهو من شدة ظهوره كالذي ينادي على نفسه بإيضاح لبسه ، وفي ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام علمهم من الحكمة في هذه الوقعة ما أوجب نصرتهم في أول النهار ، فلما خالفوه حصل الخذلان. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 177 ـ 178}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن في وجه النظم وجوها :(18/56)
الأول : أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه إلى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية ، وذلك لأن هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم ، ولم يظهر منه طول عمره إلا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والإعراض عن الدنيا ، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة.
الوجه الثاني : أنه لما بين خطأهم في نسبته إلى الخيانة والغلول قال : لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول ، ولكني أقول : إن وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فإنه يزكيكم عن الطريق الباطلة ، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم ، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الإنسان إلى الخيانة.
الوجه الثالث : كأنه تعالى يقول : إنه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم ، وأنتم أرباب الخمول والدناءة ، فإذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والاحسان من جميع العالمين ، حصل لكم شرف عظيم بسبب كونه فيكم ، فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح إليه على خلاف العقل.
الوجه الرابع : أنه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه ، فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان ، والمقصود منه العود إلى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 63 ـ 64}
قال السمرقندى :
وقد كانت له فضيلة في ثلاثة أشياء : أحدها : أنه كان من نسب شريف لأنهم اتفقوا أن العرب أفضل ، ثم من العرب قريش ، ثم من قريش بنو هاشم ، فجعله من بني هاشم.
والثاني : أنه كان أميناً فيهم قبل الوحي.
والثالث : أنه كان أمياً لكي لا يرتاب فيه الافتعال. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 287}(18/57)
وقال الخازن :
وفي كونه من أنفسهم شرف لهم وكان فيما خطب به أبو طالب حين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وقد حضر ذلك بنو هاشم ورؤساء مضر قوله الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد وعنصر مضر وجعلنا سدنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمنا وجعلنا الحكام على الناس وإن ابني هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به فتى إلا رجح وهو الله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 293}
فائدة
قال الفخر :
قال الواحدي رحمه الله : للمن في كلام العرب معان : أحدها : الذي يسقط من السماء وهو قوله : {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} [ البقرة : 57 ]
وثانيها : أن تمن بما أعطيت وهو قوله : {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} [ البقرة : 264 ]
وثالثها : القطع وهو قوله : {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون} [ فصلت : 8 ] {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} ورابعها : الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه ، ومنه قوله : {هذا عَطَاؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ} [ ص : 39 ] وقوله : {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} والمنان في صفة الله تعالى : المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله : {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين} أي أنعم عليهم وأحسن إليهم ببعثه هذا الرسول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 64}
وقال ابن عاشور :
والمنّ هنا : إسداء المِنّة أي النِّعمة ، وليس هو تعداد النعمة على المنعم عليه مثل الَّذي في قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمَن والأذى } في سورة [ البقرة : 264 ] ، وإن كان ذكرُ هذا المنّ مَنّاً بالمعنى الآخر.(18/58)
والكلّ محمود من الله تعالى لأنّ المنّ إنَّما كان مذموماً لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه ، وطوْل الله ليس بمجحود. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 276}
فصل
قال الفخر :
إن بعثة الرسول إحسان إلى كل العالمين ، وذلك لأن وجه الإحسان في بعثته كونه داعيا لهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم إلى ثواب الله ، وهذا عام في حق العالمين ، لأنه مبعوث إلى كل العالمين ، كما قال تعالى : {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} [ سبأ : 28 ] إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام ، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين ، ونظيره قوله تعالى : {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [ البقرة : 2 ] مع أنه هدى للكل ، كما قال : {هُدًى لّلنَّاسِ} [ البقرة : 185 ] وقوله : {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [ النازعات : 45 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 64}
لطيفة
قال الآلوسى :
وفي قراءة رسول الله وفاطمة صلى الله تعالى عليه وعليها وسلم { مّنْ أَنفُسِهِمْ } بفتح الفاء أي من أشرفهم لأنه صلى الله عليه وسلم من أشرف القبائل وبطونها وهو أمر معلوم غني عن البيان ينبغي اعتقاده لكل مؤمن.(18/59)
وقد سئل الشيخ ولي الدين العراقي هل العلم بكونه صلى الله عليه وسلم بشراً ومن العرب شرط في صحة الإيمان أو من فروض الكفاية ؟ فأجاب بأنه شرط في صحة الإيمان ، ثم قال : فلو قال شخص : أومن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق لكن لا أدري هل هو من البشر أو من الملائكة أو من الجن ، أو لا أدري هل هو من العرب أو العجم ؟ فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفاً عن سلف وصار معلوماً بالضرورة عند الخاص والعام ولا أعلم في ذلك خلافاً فلو كان غبياً لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره انتهى ، وهل يقاس اعتقاد أنه صلى الله عليه وسلم من أشرف القبائل والبطون على ذلك فيجب ذلك في صحة الإسلام أو لا يقاس فحينئذ يصح إيمان من لم يعرف ذلك لكنه منزه تلك الساحة العلية عن كل وصمة ؟ فيه تأمل ، والظاهر الثاني وهو الأوفق بعوام المؤمنين. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 113 ـ 114}
لطيفة
قال أبو حيان :
وقال ابن عباس : ما خلق الله نفساً هي أكرم على الله من محمد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أقسم بحياة أحد غيره فقال : لعمرك. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 110}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق ثم إنه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الإنعام في بعثة الرسل أكثر ، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على الأمرين :
أحدهما : المنافع الحاصلة من أصل البعثة ،
والثاني : المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره.(18/60)
أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله : {رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [ النساء : 165 ] قال أبو عبد الله الحليمي : وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه :
الأول : أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية ، فهو صلوات الله عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها ، وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها.
والثاني : أن الخلق وإن كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم ، ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة ، فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط ومن الإقدام على ما لا ينبغي.
والثالث : أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى إنه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها.
الرابع : أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر ، ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل إلا عند سطوع نور الشمس ، ونوره عقلي إلهي يجري مجرى طلوع الشمس ، فيقوي العقول بنور عقله ، ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره ، فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة.
وأما المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد صلى الله عليه وسلم من الصفات ، فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية أولها قوله : {مّنْ أَنفُسِهِمْ }.
واعلم أن وجه الانتفاع بهذا من وجوه :(18/61)
الأول : أنه عليه السلام ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله مطلعين على جميع أفعاله وأقواله ، فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلا الصدق والعفاف ، وعدم الالتفات إلى الدنيا والبعد عن الكذب ، والملازمة على الصدق ، ومن عرف من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة ، وبعده عن الخيانة والكذب ، ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب ، يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى.
الثاني : أنهم كانوا عالمين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابا ولم يمارس درسا ولا تكرارا ، وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق ألبتة بحديث النبوة والرسالة ، ثم إنه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين ، ثم إنه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم ، فكل من له عقل سليم علم أن هذا لا يتأتى إلا بالوحي السماوي والإلهام الإلهي.
الثالث : أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك ، بل قنع بالفقر وصبر على المشقة ، ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله ، والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا ، فإذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها ، فلما لم يفعل شيئاً من ذلك علم أنه كان صادقا.
الرابع : أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات ، ومعلوم أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله.(18/62)
الخامس : أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان ، وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة.
ثم لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نقلهم الله ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها.
ولا شك أن فيه أعظم المنة.
إذا عرفت هذه الوجوه فنقول :
إن محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال ، مطلعين على هذه الدلائل ، فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال.
فلهذه المعاني من الله عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال : {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ} وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخرا لهم ، كما قال : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [ الزخرف : 44 ] وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب.
ثم إن اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل ، فما كان للعرب ما يقابل ذلك ، فلما بعث الله محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم ، فهذا هو وجه الفائدة في قوله : {مّنْ أَنفُسِهِمْ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 64 ـ 65}
فائدة
قال القرطبى :
والمعنى في المِنّة فيه أقوال : منها أن يكون معنى { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي بشرٌ مِثلُهم.
فلما أظهر البراهين وهو بشر مثلهم عُلِم أن ذلك من عند الله.
وقيل ؛ "مِنْ أنْفُسِهِمْ" منهم.
فشَرفُوا به صلى الله عليه وسلم ، فكانت تلك المنّة.
وقيل : "مِن أنْفُسِهِم" ليعرفوا حاله ولا تخفى عليهم طريقته.(18/63)
وإذا كان محله فيهم هذا كانوا أحقَّ بأن يقاتلوا عنه ولا ينهزموا دونه.
وقرِىء في الشّواذ "من أنْفَسِهِم" ( بفتح الفاء ) يعني من أشرفهم ؛ لأنه من بني هاشم ، وبنو هاشم أفضلُ من قريش ، وقريشٌ أفضل من العرب ، والعربُ أفضل من غيرهم.
ثم قيل : لفظ المؤمنين عامّ ومعناه خاص في العرب ؛ لأنه ليس حيّ من أحياء العرب إلا وقد ولَده صلى الله عليه وسلم ، ولهم فيه نسب ؛ إلا بني تَغْلِب فإنهم كانوا نصارى فطهّره الله من دَنَس النّصرانية.
وبيان هذا التأويل قولُه تعالى : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ].
وذكر أبو محمد عبد الغني قال : حدّثنا أبو أحمد البصريّ حدّثنا أحمد بن عليّ بن سعيدالقاضي أبو بكر المَرْوَزِي حدّثنا يحيى بن مَعِين حدّثنا هشام بنُ يوسفَ عن عبد الله بن سُلَيمان النّوفَلِي عن الزُّهري عن عُرْوةَ عن عائشة رضي الله عنها : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } قالت : هذه للعرب خاصّةً : وقال آخرون : أرادَ به المؤمنين كلّهم.
ومعنى "مِنْ أَنْفُسِهِمْ" أنّه واحدٌ منهم وَبَشَرٌ مِثْلُهُم ، وإنما أمتاز عنهم بالوحي ؛ وهو معنى قولِه { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } وخَصّ المؤمنين بالذّكْر لأنهم المُنْتَفِعون به ، فالمِنَّةُ عليهم أعْظَم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 263 ـ 264}(18/64)
وقال الآلوسى :
{ لَقَدْ مَنَّ الله } أي أنعم وتفضل ، وأصل المنّ القطع وسميت النعمة منة لأنه يقطع بها عن البلية وكذا الاعتداد بالصنيعة مناً لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها ، والجملة جواب قسم محذوف أي والله لقد منّ الله { عَلَى المؤمنين } أي من قومه أو من العرب مطلقاً أو من الإنس وخير الثلاثة الوسط وإليه ذهبت عائشة رضي الله تعالى عنها ، فقد أخرج البيهقي وغيره عنها أنها قالت هذه للعرب خاصة والأول خير من الثالث وأياً مّا كان فالمراد بهم على ما قال الأجهوري : المؤمنون من هؤلاء في علم الله تعالى أو الذين آل أمرهم إلى الإيمان.
{ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ } أي بينهم { رَسُولاً } عظيم القدر جليل الشأن { مّنْ أَنفُسِهِمْ } أي من نسبهم ، أو من جنسهم عربياً مثلهم أو من بني آدم لا ملكاً ولا جنياً. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 112}
قوله تعالى {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة }
قال الآلوسى :
{ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته } إما صفة أو حال أو مستأنفة ، وفيه بعد أي يتلو عليهم ما يوحى إليه من القرآن بعدما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي أو بعد ما كان بعضهم كذلك وبعضهم متشوفاً متشوقاً إليه حيث أخبر كتابه الذي بيده بنزوله وبشر به { وَيُزَكّيهِمْ } أي يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كان فيهم من دنس الجاهلية أو من خبائث الاعتقادات الفاسدة كالاعتقادات التي كان عليها مشركو العرب وأهل الكتابين ، أو يشهد بأنهم أزكياء في الدين ، أو يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها قاله الفراء ولا يخفى بعده ومثله القريب إليه.
{ وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة } قد تقدم الكلام في ذلك.(18/65)
وهذا التعليم معطوف على ما قبله مترتب على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كل واحد من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في قوله تعالى : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ } [ البقرة : 129 ] لتبادر إلى الفهم عدّ الجميع نعمة واحدة وهو السر في التعبير عن القرآن بالآيات تارة وبالكتاب والحكمة أخرى رمزاً إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة قاله مولانا شيخ الإسلام ، وقد يقال : المراد من تلاوة الآيات تلاوة ما يوحى إليه صلى الله عليه وسلم من الآيات الدالة على التوحيد والنبوة ، ومن التزكية الدعاء إلى الكلمة الطيبة المتضمنة للشهادة لله تعالى بالتوحيد ولنبيه عليه الصلاة والسلام بالرسالة ، وبتعليم الكتاب تعليم ألفاظ القرآن وكيفية أدائه ليتهيأ لهم بذلك إقامة عماد الدين ، وبتعليم الحكمة الإيقاف على الأسرار المخبوءة في خزائن كلام الله تعالى ، وحينئذ أمر ترتيب هذه المتعاطفات ظاهر إذ حاصل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يمهد سبل التوحيد ويدعو إليه ويعلم ما يلزم بعد التلبس به ويزيد على الزبد شهداً فتقديم التلاوة لأنها من باب التمهيد ثم التزكية لأنها بعده وهي أول أمر يحصل منه صفة يتلبس بها المؤمنون وهي من قبيل التخلية المقدمة على التحلية لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، ثم التعليم لأنه إنما يحتاج إليه بعد الإيمان ، بقي أمر تقديم التعليم على التزكية في آية البقرة ولعله كان إيذاناً بشرافة التحلية كما أشرنا إليه هناك فتأمل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 114}(18/66)
وقال ابن عاشور :
وقوله : { يتلوا عليهم آياته } أي يقرأ عليهم القرآن ، وسمّيت جمل القرآن آيات لأنّ كلّ واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى ، كما تقدّم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان.
والتزكية : التطهير ، أي يطهر النفوس بهدي الإسلام.
وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرُهم بحفظ ألفاظه ، لتكون معانيه حاضرة عندهم.
والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأنّ ذلك كلّه مانع للأنفس من سوء الحال واختلال النظام ، وذلك من معنى الحكمة ، وتقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } [ البقرة : 269 ].
وعطفُ الحكمة على الكتاب عطف الأخصّ من وجه على الأعمّ من وجه ، فمن الحكمة ما هو في الكتاب نحو : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [ الحشر : 9 ] ومنها ما ليس في الكتاب مثل قوله عليه السلام : " لا يُلدَغُ المؤمن من جحر مرّتين " وفي الكتاب ما هو علم وليس حكمة مثل فَرْض الصلاة والحجّ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 277}(18/67)
فصل
قال الفخر :
اعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين : في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وبعبارة أخرى : للنفس الإنسانية قوتان ، نظرية وعملية ، والله تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين ، فقوله : {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته} إشارة إلى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند الله إلى الخلق ، وقوله : {وَيُزَكّيهِمْ} اشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الإلهية {والكتاب} إشارة إلى معرفة التأويل ، وبعبارة أخرى {الكتاب} إشارة إلى ظواهر الشريعة {والحكمة} إشارة إلى محاسن الشريعة وأسرارها وعللها ومنافعها ، ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة.
وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين ، لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم ، فإذا كان وجه النعمة العلم والاعلام ، ووردا عقيب الجهل والذهاب عن الدين ، كان أعظم ونظيره قوله : {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهدى} [ الضحى : 7 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 66}
فائدة
قال ابن عاشور :
ووصف الضلال بالمبين لأنّه لشدّته لا يلتبس على أحد بشائبة هُدى ، أو شبهة ، فكان حاله مبيّناً كونَه ضلالاً كقوله : { وقالوا هذا سحر مبين } [ النمل : 13 ].
والمراد به ضلال الشرك والجهالة والتقاتل وأحكام الجاهلية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 278}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
" لقد من الله " جوابٌ لقسم نحذوفٌ ، وقُرِئ : لَمِنْ مَنَّ الله - بـ " من " الجارة ، و" منِّ " - بالتشديد مجرورها- وخرَّجه الزمخشريُّ على وجهينِ :
أحدهما : أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوفٌ ، تقديره : لمن من الله على المؤمنين مَنُّهُ ، أو بعثه إذ بَعَثَ فيهم ، فحذف لقيامِ الدَّلالةِ.(18/68)
الثاني : أنه جعل المبتدأ نفس " إذ " بمعنى : وقتٍ : وخبرها الجارُّ قبلها ، وتقديره : لمن من الله على المؤمنين وقت بَعْثِهِ ، ونظره بقولهم : أخطب ما يكون الأميرُ إذا كان قائماً.
وهذان وجهانِ -في هذه القراءة- مما يدلان على رسوخ قدمِهِ في هذا العلمِ.
قال شهابُ الدينِ : إلا أن أبا حيان قد ردَّ عليه الوجه الثاني بأن " إذ " غيرُ متصرفةٍ ، لا تكون إلا ظرفاً ، أو مضافاً إليها اسم زمان أو مفعولة بـ " اذكر " -على قول- ونقل قول أبي علي- فيها وفي " إذا " أنهما لم يردا في كلام العربِ إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ، ولا مفعولين ، ولا مبتدأين.
قال : ولا يحفظ من كلامهم : إذْ قام زيد طويل -يريد : وقت قيامه طويل- وبأن تنظيره القراءة بقولهم : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً ، خطأ ؛ من حيث أن المشبه مبتدأ ، والمشبهُ به ظرف في موضعِ الخبرِ -عند من يُعْرِب هذا الإعرابَ - ومن حيثُ إنَّ هذا الخبرَ -الذي قد أبرزه ظاهراً واجب الحذف ؛ لسَدِّ الحال مَسَدَّه ، نص عليه النحويونَ الذين يعربونه هكذا ، فكيف يبرزه في اللفظ ؟
قال شهابُ الدين : " وجواب هذا الردِّ واضحٌ وليت أبا القاسم لم يذكر تخريج هذه القراءة ؛ لكي نسمع ما يقول هو ".
والجمهورُ على ضم الفاء - من أنفسهم - أي : من جملتهم وجنسهم ، وقرأت عائشةُ ، وفاطمةُ والضّحّاكُ ، ورواها أنس عنه صلى الله عليه وسلم بفتح الفاء ، من النَّفاسة - وهي الشرف - أي : من أشرفهم نسباً وخَلْقاً ، وخُلُقاً.
وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أنفسكم نسباً ، وحسباً ، وصهراً " وهذا الجارُّ يحتمل وجهين :
الأول : أن يتعلق بنفس " بعث ".
الثاني : أن يتعلق بمحذوف ، على أنه وصف لـ " رسولاً " فيكون منصوب المحل ، ويقوي هذا الوجه قراءة فتح الفاء.(18/69)
قوله : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } هي " إن " المخففة ، واللام فارقة -وقد تقدم تحقيقه- إلا أن الزمخشري ومكيًّا -هنا- حين جعلاها مخففة قدَّرَا لها اسماً محذوفاً.
فقال الزمخشري : " وتقديره : إن الشأن ، وإن الحديث كانوا من قبل ". وقال مكي : " وأما سيبويه فإنه قال " إن " مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير -على قوله- : وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين " وهذا ليس بجيّد ؛ لأن " إن " المخففة إنما تعمل في الظاهر -على غير الأفصح- ولا عمل لها في المضمر ولا يقَدَّر لها اسمٌ محذوفٌ ألبتة ، بل تُهْمَل ، أو تعمل -على ما تقدم- مع أن الزمخشريَّ لم يُصَرِّحْ بأن اسمها محذوف ، بل قال : " إن " هي المخففة من الثَّقِيلَةِ ، واللام فارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإن الشأن والحديث كانوا ؛ وهذا تفسيرُ معنى لا إعراب.
وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها استئنافية ، لا محلَّ لَهَا مِنَ الأعْرَاب.
والثاني أنها محل نَصْب على الحال من المفعول به- في : " يعلمهم " وهو الأظهر. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 32 ـ 35}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)}(18/70)
أجزل لديهم العارفة ، وأحسن إليهم النعم حيث أرسل إليهم مثل المصطفى سيد الورى صلوات الله عليه وعلى آله ، وعرَّفهم دينهم ، وأوضح لهم براهينهم ، وكان لهم بكل وجه فلا نِعَمَهُ شكروا ، ولا حَقَّه وقَروا ، ولا بما أرشدهم استبصروا ، ولا عن ضلالتهم أقصروا.. هذا وصف أعدائه الذين جحدوا واستكبروا. وأمَّا المؤمنون فتقلدوا المِنَّة في الاختيار ، وقابلوا الأمر بالسمع والطاعة عن كنه الاقتدار ، فسَعِدُوا في الدنيا والعُقْبَى ، واستوجبوا من الله الكرامة والزُّلفى. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 294}(18/71)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى : "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم" وفى الجمعة : "هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم".للسائل أن يقول : إن مقصد الآيتين الإخبار بامتنانه تعالى على العرب بأن بعث فيهم رسولا منهم ولم يكن من غيرهم ثم اختلفت العبارة فى البيان فقيل فى الأولى"من أنفسهم" وفى الثانية"منهم" فيسأل عن وجه ذلك ؟
والجواب عن ذلك : أن قولك فلان من أنفس القوم أوقع فى القرب من قولك فلان منهم فإن هذا قد يراد للنوعية فلا يتخلص لتقريب المنزلة والشرف إلا بقرينة
أما "من أنفسهم" فأخص فلا يفتقر إلى قرينة ولذلك وردت حيث قصد النعريف بعظيم النعمة به ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته وجليل إشفاقه وحرصه على نجاتهم ورأفته ورحمته بهم فقال تعالى : "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" وقال تعالى فيمن كان على الضد من حال المؤمنين المستجيبين"ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه" فتأمل موقع قوله هنا"منهم" لما قصد أنه إنعام عليهم لم يوفقوا لمعرفة قدره ولا للاستجابة المثمرة النجاة فقيل هنا"منهم" فأما قوله صلى الله عليه وسلم : "سلمان منا أهل البيت" بأنه لما لم يكن رضى الله عنه من قريش وأراد عليه السلام تقريبه وتشريفه عبر بما يعطى ذلك ولا يخص خصوص قوله : من أنفسنا وإنما تخلص لحرف الخصوصية بقرينة قوله عليه السلام"سلمان منا أهل البيت" وأما قوله عليه السلام فى فاطمة" إنما هى بضعة منى"فقد تحصل فيه أتم خصوص من وجهين :
أحدهما قوله عليه السلام"منى" وهذا أخص من قوله عليه السلام"منا" فتأمله فهو مناف للشياع الداخل فى قوله"منا" والثانى قوله"بضعة" فجعلها عليه السلام جزءا منه وذلك أعلى خصوص.(18/72)
وأما قوله عليه السلام "مولى القوم منهم" فالمراد منه تقريب الولاء من النسب وليس من أنفسهم وقد تقدم أن قوله "من أنفسهم" فى مقابلة"منهم" وأن"منا" دونه فى الشياع و"منى"أخص وأبعد فى الشياع فتأمل هذا ولما كان لفظ الآيتين يتناول قريشا وغيرهم من العرب ممن ليس من أهل الكتاب قيل"منهم" فناسب هذه الكناية بما فيها من الشياع الذى مهدناه عموم المؤمنين من العرب ممن أسلم ومن لم يسلم ولما قال فى آية آل عمران : "لقد من الله على المؤمنين" فخص من أسلم ناسب ذلك قوله"من أنفسهم" لخصوصه كما تقدم ولم يكن العكس ليناسب والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل حـ 1 صـ 125 ـ 126}(18/73)
قوله تعالى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أزال شبهة النسبة إلى الغلول بحذافيرها.
وأثبت ما له من أضدادها من معالي الشيم وشمائل الكرم صوب إلى شبهة قولهم : لو كان رسولاً ما انهزم أصحابه عنه ، فقال تعالى : {أولما} أي أتركتم ما أرشدكم إليه الرسول الكريم الحليم العليم الحكيم ولما {أصابتكم} أي في هذا اليوم {مصيبة} لمخالفتكم لأمره وإعراضكم عن إرشاده {قد أصبتم مثليها} أي في بدر وأنتم في لقاء العدو وكأنما تساقون إلى الموت على الضد مما كنتم فيه في هذه الغزوة ، وما كان ذلك إلا بامتثالكم لأمره وقبولكم لنصحه {قلتم أنّى} من أين وكيف أصابنا {هذا} أي بعد وعدنا النصر {قل هو من عند أنفسكم} أي لأن الوعد كان مقيداً بالصبر والتقوى ، وقد تركتم المركز وأقبلتم على الغنائم قبل الأمر به ، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن ذلك باختيارهم الفداء يوم بدر الذي نزل فيه {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} [ الأنفال : 68 ] وأباح لهم سبحانه وتعالى الفداء بعد أن عاتبهم وشرط عليهم إن اختاروه أن يقتل منهم في العام المقبل بعدّ الأسرى ، فرضوا وقالوا : نستعين بما نأخذه منهم عليهم ثم نرزق الشهادة.
ثم علل ذلك بقوله : {إن الله} أي الذي لا كفوء له {على كل شيء} أي من النصر والخذلان ونصب أسباب كل منهما {قدير} وقد وعدكم بذلك سبحانه وتعالى في العام الماضي حين خيركم فاخترتم الفداء ، وخالف من خالف منكم الآن ، فكان ذكر المصيبة التي كان سببها مخالفة ما رتبه صلى الله عليه وسلم بعد ختم الآية التي قبلها بالتذكير بما كانوا عليه من الضلال على ما ترى من البلاغة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 178}
وقال الفخر :(18/74)
اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم طعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة ، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم : لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد : وهو المراد من قولهم : {أنى هذا} ، وأجاب الله عنه بقوله : {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم فهذا بيان وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 66}
فصل
قال الفخر :
تقرير الآية : {أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ} المراد منها واقعة أحد ، وفي قوله : {قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا} قولان :
الأول : وهو قول الأكثرين أن معناه قد أصبتم يوم بدر ، وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين ، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين.
والثاني : أن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر ، وهزموهم أيضاً في الأول يوم أحد ، ثم لما عصوا هزمهم المشركون ، فانهزام المشركين حصل مرتين ، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة ، وهذا اختيار الزجاج : وطعن الواحدي في هذا الوجه فقال : كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر ، فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد ، ولكنهم ما هزموا المسلمين ألبتة ، أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 66}
فائدة
قال الفخر :
الفائدة في قوله : {قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا} هو التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على نهج واحد ، فلما هزمتموهم مرتين فأي استبعاد في أن يهزموكم مرة واحدة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 66}
قوله تعالى {قُلْتُمْ أنى هذا}
فصل
قال الفخر :(18/75)
سبب تعجبهم أنهم قالوا نحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق ، ومعنا الرسول ، وهم ينصرون دين الشرك بالله والكفر ، فكيف صاروا منصورين علينا!
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين : الأول : ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله {قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا} يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد ، فإذا أصبتم منهم مثل هذه الواقعة.
فكيف تستبعدون هذه الواقعة ؟
والثاني : قوله قل : {هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 66 ـ 67}
قوله تعالى {هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}
فصل
قال الفخر :
تقرير هذا الجواب من وجهين :
الأول : أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور :
أولها : أن الرسول عليه السلام قال : المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى ههنا ، وهم أبوا إلا الخروج ، فلما خالفوه توجه إلى أحد.
وثانيها : ما حكى الله عنهم من فشلهم.
وثالثها : ما وقع بينهم من المنازعة.
ورابعها : أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع.
وخامسها : اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول عليه السلام في محاربة العدو ، فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاصي ، والله تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية ، كما قال : {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} [ آل عمران : 125 ] فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط.(18/76)
الوجه الثاني : في التأويل : ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فقال : يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقتل منهم عدتهم ، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لقومه ، فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم ، فنتقوى به على قتال العدو ، ونرضى أن يستشهد منا بعددهم ، فقتل يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر ، فهو معنى قوله : {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أي بأخذ الفداء واختياركم القتل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 67}
فصل
قال الفخر :
استدلت المعتزلة على أن أفعال العبد غير مخلوقة لله تعالى بقوله : {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} من وجوه :
أحدها : أن بتقدير أن يكون ذلك حاصلا بخلق الله ولا تأثير لقدرة العبد فيه ، كان قوله : {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} كذباً ،
وثانيها : أن القوم تعجبوا أن الله كيف يسلط الكافر على المؤمن ، فالله تعالى أزال التعجب بأن ذكر أنكم إنما وقعتم في هذا المكروه بسبب شؤم فعلكم ، فلو كان فعلهم خلقاً لله لم يصح هذا الجواب.
وثالثها : أن القوم قالوا : {أنى هذا} ، أي من أين هذا فهذا طلب لسبب الحدوث ، فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقا للسؤال.
والجواب : أنه معارض بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بإيجاد الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 67}
قوله تعالى : {إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء}
قال الفخر :(18/77)
{إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء} أي إنه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم ، كما أنه قادر على التخلية إذا خالفتم وعصيتم ، واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا : إن فعل العبد شيء فيكون مخلوقا لله تعالى قادرا عليه ، وإذا كان الله قادرا على إيجاده ، فلو أوجده العبد امتنع كونه تعالى قادرا على إيجاده لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده ، لأن إيجاد الموجود محال فلما كان كون العبد موجوداً له يفضي إلى هذا المحال ، وجب أن لا يكون العبد موجدا له ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 67}
وقال أبو حيان :
{ إن الله على كل شيء قدير } أي قادر على النصر ، وعلى منعه ، وعلى أن يصيب بكم تارة ، ويصيب منكم أخرى.
ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم ، لا لضعف في قدرة الله ، لأن من هو قادر على كل شيء هو قادر على دفاعهم على كل حال. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 112 ـ 113}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}
الهمزة للإنكار ، وجعلها ابنُ عطية للتقرير ، والواو عاطفة ، والنية بها التقديم على الهمزة.
وقال الزمخشري : و" لما " نصب بـ " قلتم " و" أصابتكم " في محل الجر ، بإضافة " لما " إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم. و" أنى هذا " نصب ؛ لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع.
فإن قلتَ : علامَ عطفت الواو هذه الجملة ؟ قلتُ : على ما مضى من قصة أحُد -من قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } - [ آل عمران : 152 ] ويجوز أن تكونَ معطوفة على محذوف ، [ كأنه قيل ] : أفعلتم كذا ، وقلتم حينئذ كذا ؟ انتهى.(18/78)
أمّا جعله " لما " بمعنى " حين " -أي ظرفاً- فهو مذهب الفارسيِّ وقد تقدم تقرير المذهبين وأما قوله : " عطف على قصة أحد " فهذا غير مذهبه ، لأن الجاري من مذهبه إنما هو تقديرُ جملة ، يعطف ما بعد الواو عليها -أو الفاء ، أو " ثم " - كما قرره هو في الوجه الثاني.
و " أنى هذا " " أنى " بمعنى من أين -كما تقدم في قوله : { أنى لَكِ هذا } [ آل عمران : 37 ] - ويدل عليه قوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } وقوله : { مِنْ عِنْدِ الله } قاله الزمخشري.
ورد عليه أبو حيّان بأن الظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ لا يقدَّر داخلاً عليه حرف جر ، غير " في ". أما أن يقدر داخلاً عليه " من " فلا ؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط " في " ولذلك إذا أضمِر الظرف تعدى إليه الفعل بواسطة " في " إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشريُّ غيرُ سائغٍ ، واستدلاله بقوله تعالى : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } وقوله : { مِنْ عِنْدِ الله } وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها.
(18/79)
واختار أبو حيان أن " أنى " بمعنى " كيف " قال : و" أنى " سؤالٌ عن الحال -هنا- ولا يناسب أن يكون -هنا- بمعنى " أين " أو " متى " لأن الاستفهام لم يقع عن المكان ، ولا عن الزمان ، إنما وقع عن الحال التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجُّب -وجاء الجواب من حيث المعنى لا من حيثُ اللفظ- في قوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } -والسؤال بـ " أنى " سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمرِ ، والجواب كقوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } يتضمن تعيين الكيفية ؛ لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفيةُ من حيثُ المعنى لو قيل -على سبيل التعجُّبِ والإنكارِ- : كيف لا يحج زيد الصَّالحُ ؟ وأجيب ذلك بأن يقال : لعدم استطاعته ، لحصل الجوابُ ، وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيعٍ.
قال شهابُ الدينِ : " أما قوله : لا يقدِّر الظرف بحرف جَرّ غير " في " فالزمخشريُّ لم يقدر " في " مع " أن " حتى يلزمه ما قال ، إنما جعل " أنى " بمنزلة " من أين " في المعنى. وأما عدوله عن الجواب المطابق لفظاً فالعكسُ أولى ".
قوله : { قَدْ أَصَبْتُمْ } في محل رفع ؛ صفة لـ " مصيبة ". و" قلتم " -على مذهب سيبوبه- جواب " لما " وعلى مذهب الفارسيّ ناصب لها على حسب ما تقدم من مذهبيهما.
قوله : { قُلْ هُوَ } هذا الضمير راجع على " المصيبة " من حيثُ المعنى ، ويجوز أن يكونَ حذفُ مضافٍ مراعى -أي : سببها- وكذلك الإشارة لقوله : { أنى هذا } لأن المراد المصيبة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 35 ـ 37}.(18/80)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
وقوله تعالى : {أو لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا } كلام مبتدأ مسوق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة إثر إبطال بعض آخر ، والهمزة للتقريع والتقرير ، والواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها ، ولما ظرف بمعنى حين مضافة إلى مابعدها مستعملة في الشرط كما ذهب إليه الفارسي وهو الصحيح عند جمع من المحققين وناصبها قلتم وهو الجزاء وقد أصبتم في محل الرفع على أنه صفة لمصيبة وجعله في محل نصب على الحال يحتاج إلى تكلف مستغنى عنه ، والمراد بالمصيبة ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم وبمثليها ما أصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين ، وجعل ذلك مثلين بجعل الأسر كالقتل أو لأنهم كانوا قادرين على القتل وكان مرضي الله تعالى فعدمه كان من عندهم فتركه مع القدرة لا ينافي الإصابة.(18/81)
وقيل : المراد بالمثلين المثلان في الهزيمة لا في عدد القتلى وذلك لأن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضاً يوم أحد أول الأمر ، وعليه يكون المراد بالمصيبة هزيمة الكفار للمسلمين بعد أن فارقوا المركز ، و{ أنى هذا } جملة اسمية مقدمة الخبر ، والمعنى من أين هذا لا كيف هذا لدلالة الجواب مفعول القول ، وقيل : أنى منصوبة على الظرفية لأصابنا المقدر ، وهذا فاعل له ، والجملة مقول قلتم ، وتوسيط الظرف وما يتعلق به بينه وبين الهمزة مع أنه المقصود إنكاره والمعطوف بالواو حقيقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع فإن فعل القبيح في غير وقته أقبح والإنكار على فاعله أدخل ، والمعنى أحين نالكم من المشركين نصف ما قد نالهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من أين هذا ونحن مسلمون نقاتل غضباً لله تعالى وفينا رسوله ، وهؤلاء مشركون أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أوَ قد وعدنا الله تعالى النصر ؟ وإليه ذهب الجبائي وهذا على تقدير توجيه الإنكار والتقريع إلى صدور ذلك القول عنهم في ذلك الوقت خاصة بناءاً على عدم كونه مظنة له داعياً إليه بل على كونه داعياً إلى عدمه فإن كون مصيبة عدوهم مثلي مصيبتهم ما يهوّن الخطب ويورث السلوة ، أو أفعلتم ما فعلتم من الفشل والتنازع أو الخروج من المدينة والإلحاح على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما أصابتكم غائلة ذلك قلتم أنى هذا وهذا على تقدير توجيه الإنكار لاستبعادهم الحادثة مع مباشرتهم لسببها ، وجوز أن يكون المعطوف عليه القول إشارة إلى أن قولهم كان غير واحد بل قالوا أقوالاً لا ينبغي أن يقولوها.(18/82)
وذهب جماعة إلى أن المعطوف عليه ما مضى من قوله تعالى : { لَقَدِ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } [ آل عمران : 152 ] إلى هنا وللتعلق بقصة واحدة لم يتخلل بينهما أجنبي ليكون القول بذلك بعيداً كما ادعاه أبو حيان ، والهمزة حينئذ متخللة بين المتعاطفين للتقرير بمعنى التثبيت أو الحمل على الإقرار والتقريع على مضمون المعطوف والمعنى أكان من الله تعالى الوعد بالنصر بشرط الصبر والتقوى فحين فشلتم وتنازعتم وعصيتم وأصابكم الله تعالى بما أصابكم قلتم أنى هذا.
والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير ، والواو أصلها التقديم ، وهو مذهب سيبويه وغيره ، والجملة الاستفهامية معطوفة على ما قبلها واختار هذا في "البحر" ، وإسناد الإصابة إلى المصيبة مجاز وإلى المخاطبين حقيقة ولم يؤت بالإسنادين من باب واحد زيادة في التقريع ، وتذكير اسم الإشارة في { أنى هذا } مراعاة لمعنى المصيبة المشار إليها وهو المشهور أو لما أن إشارتهم ليست إلا لما شاهدوه في المعركة من حيث هو هو من غير أن يخطر ببالهم تسميته باسم مّا فضلاً عن تسميته باسم المصيبة ، وإنما هي عند الحكاية وفي الآية على ما قيل : جواب ضمني عن استبعادهم تلك الإصابة ، يعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة فإذا أصبتم منهم مثل ما أصابوا منكم وزيادة فما وجه الاستبعاد ، لكن صرح بجواب آخر يبري العليل ويشفي الغليل وتطأطىء منه الرؤوس فقال سبحانه : (18/83)
{ قُلْ } يا محمد في جواب سؤالهم الفاسد { هُوَ } أي هذا الذي أصابكم كائن { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي أنها السبب له حيث خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتركهم المركز وحرصوا على الغنيمة فعاقبهم الله تعالى بذلك قاله عكرمة أو حيث أنكم قد اخترتم قبل أن يقتل منكم سبعون في مقابلة الفداء الذي أخذتموه من أسارى بدر ، وعزي هذا إلى الحسن ، ويدل عليه ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه ، والنسائي وآخرون عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله تعالى قد كره ما فعل قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم ، وإما أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم نتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً عدة أسارى أهل بدر ، أو حيث اخترتم الخروج من المدينة ولم تبقوا حتى تقاتلوا المشركين فيها قاله الربيع وغيره.(18/84)
وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد حين قدم أبو سفيان والمشركون : "إنا في جنة حصينة يعني بذلك المدينة فدعوا القوم يدخلوا علينا نقاتلهم فقال له ناس من الأنصار : إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة وقد كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية فبالإسلام أحق أن نمتنع فابرز بنا إلى القوم فانطلق فلبس لأمَته فتلاوم القوم فقالوا : عرض نبي الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرضتم بغيره اذهب يا حمزة فقل له أمرنا لأمرك تبع فأتى حمزة فقال له إنه ليس لنبي إذا لبس لأمَتَهُ أن يضعها حتى يناجز وأنه سيكون فيكم مصيبة قالوا : يا نبي الله خاصة أو عامة ؟ قال : سترونها" واعترض هذا القول بأنه يأباه أن الوعد بالنصر كان بعد اختيار الخروج وأن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بموجبه قد رفع الخطر عنه وخفف جنايتهم فيه على أن اختيار الخروج والإصرار عليه كان ممن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ ، وأين هم من التفوه بمثل هذه الكلمة ؟ وأجيب بأن الإباء المذكور في حيز المنع كيف والنصر الموعود كان مشروطاً بما يعلم الله تعالى عدم حصوله ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد عمل بموجبه لكن لم تكن نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم منبسطة لذلك ولا قلبه الشريف مائلاً إليه وكأن سهام الأقدار نفذت حين خالفوا رأيه السامي وعدلوا عن الورود من عذب بحر عقله الطامي كما يرشدك إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام بعد أن لبس لامَتَهُ : "وإنه سيكون فيكم مصيبة" وقوله في جواب الاستفهام عنها : "خاصة أو عامة" ؟ "سترونها" فإن ذلك كالصريح في عدم الرضا والفصيح في استيجاب ذلك الاختيار نزول القضاء ، وبأن الخطاب في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } ليس نصاً في أن المتسببين هم المتفوهون بتلك(18/85)
الكلمة ليضر استشهاد المختارين للخروج في المقصود لجواز أن يكون من قبيل قولك لقبيلة : أنتم قتلتم فلاناً والقاتل منهم أناس مخصوصون لم يوجدوا وقت الخطاب ، ومثل ذلك كثير في المحاورات على أن كون مصيبة المتفوهين هي قتل أولئك المستشهدين نص في التأسف عليهم فيناسبه التعريض بهم بنسبة القصور إليهم ليهون هذا التأسف وليعلموا أن شؤم الانحراف عن سمت إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعم الكبير والصغير بل ربما يقال : إن استشهاد أولئك المصرين شاهد على أنهم هم الذين كانوا سبباً في تلك المصيبة ولهذا استشهدوا ليذهبوا إلى ربهم على أحسن حال.
هذا ولا يخفى أن هذا الجواب لا يخلو عن تكلف وكأن الداعي إليه أن الذاهبين إلى تفسير { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } بالخروج من المدينة وتبعية أبي سفيان وقومه جماعة أجلاء يبعد نسبة الغلط إليهم ، فقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن وابن جريج ، وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس فتدبر.
{ إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } ومن جملته النصر عند الموافقة والخذلان عند المخالفة ، وحيث خالفتم أصابكم سبحانه بما أصابكم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها داخل تحت الأمر ، وقيل : المراد منها تطييب أنفسهم ومزج مرارة التقريع بحلاوة الوعد أي أنه سبحانه قادر على نصرتكم بَعْدُ لأنه على كل شيء قدير فلا تيأسوا من روح الله واعتناءاً بشأن التطييب وإرشاداً لهم إلى حقيقة الحال فيما سألوا عنه وبياناً لبعض ما فيه من الحكم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 115 ـ 117}(18/86)
ومن فوائد ابن عاشور الآية
قال رحمه الله :
عُطف الاستفهام الإنكاري التعجيبي على ما تقدّم ، فإنّ قولهم : { أنى هذا } ممَّا ينكر وَيَتَعجَّب السامع من صدوره منهم بعد ما عَلِموا ما أتَوا من أسباب المصيبة ، إذ لا ينبغي أن يخفى على ذي فطْنَةٍ ، وقد جاء موقع هذا الاستفهام بعد ما تكرّر : من تسجيل تبعة الهزيمة عليهم بما ارتكبوا من عصيان أمر الرسول ، ومن العجلة إلى الغنيمة ، وبعد أن أمرهم بالرضا بما وقع ، وَذكَّرَهم النصر الواقع يوم بدر ، عطف على ذلك هنا إنكارُ تعجّبهم من إصابة الهزيمة إيّاهم.
( ولَمَّا ) اسم زمان مضمّن معنى الشرط فيدلّ على وجود جوابه لوُجود شرطه ، وهو ملازم الإضافة إلى جملة شرطه ، فالمعنى : قلتم لمَّا أصابتكم مصيبة : أنَّى هذا ،.
وجملة { قد أصبتم مثليها } صفة "لمصيبة" ، ومعنى أصبتم غَلبتم العدوّ ونلتم منه مِثْلَيْ ما أصابكم به ، يقال : أصاب إذا غلب ، وأصيب إذا غُلِب ، قال قَطَرِيُّ بنُ الفُجَاءةَ :
ثم انصرفت وقد أصَبْتُ ولم أُصَب
جَذَعَ البصيرة قارِحَ الإقدام...
والمراد بمثليها المساويان في الجنس أو القيمة باعتبار جهة المماثلة أي : أنَّكم قد نلتم مثلي ما أصابكم ، والمماثلة هنا مماثلة في القدر والقيمة ، لا في الجنس ، فإنّ رزايا الحرب أجناس : قَتل ، وأسر ، وغَنيمة ، وأسلاب ، فالمسلمون أصابهم يوم أحُد القتل : إذا قُتِل منهم سبعون ، وكانوا قد قَتَلوا من المشركين يومَ بدر سبعين ، فهذا أحد المثلين ، ثم إنّهم أصابوا من المشركين أسرى يوم بدر فذلك مثل آخر في المقدار إذ الإسير كالقتيل ، أو أريد أنّهم يومَ أحُد أصابوا قتلَى إلاّ أنّ عددهم أقلّ فهو مثل في الجنس لا في المقدار والقيمة.(18/87)
و ( أنّى ) استفهام بمعنى من أين قصدوا به التعجّب والإنكار ، وجملة { قلتم أنى هذا } جواب ( لمّا ) ، والاستفهام بأنَّى هنا مستعمل في التعجّب.
ثم ذُيّل الإنكار والتعجّب بقوله : { قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير } أي إنّ الله قدير على نصركم وعلى خذلانكم ، فلمّا عصيتم وجررتم لأنفسكم الغضب قدّر الله لكم الخِذلان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 278 ـ 279}
موعظة
قال ابن عجيبة :
إذا أصاب المريد شيء من المصائب والبلايا ، فلا يستغرب وقوع ذلك به ، ولا يتبرم منه ، فإنه في دار المصائب والفجائع ، " لا تستغرب وقوع الأكدار ما دُمتَ في هذه الدار ، فإنما أبرزت ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها ". وإذا كان أصابته مصيبة في وقت ، فقد أصابته نعمٌ جمة في أوقات عديدة ، فليشكر الله على ما أولاه ، وليصبر على ما ابتلاه ، ليكون صباراً شكوراً.
قال الشيخ أبو الحسن - رضي الله عنه - : ( العارف هو الذي عرف إساءاته في إحسان الله إليه ، وعرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه ، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ). وأيضاً : كل ما يصيب المؤمن فمن كسب يده ، ويعفو عن كثير.
وإن كان المريد وعد بالحفظ والنصر ، فقد يكون ذلك بشروط خفيت عليه ، فلم تحقق فيه ، فيخلف حفظه لينفذ قدر الله فيه ، { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } [ الأحزاب : 38 ].
وليتميز الصادق من الكاذب والمخلص من المنافق. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 360}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
عادة الخلق نسيان ما منهم من الخطأ والعصيان ، والرجوع إلى الله بالتهمة فيما يتصل بهم من المحن والخسران ، وفنون المكاره والافتتان ، وإنَّ مَنْ تَعاطى (.... ) الإجرام فحقيق بألا ينسى حلول الانتقام. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 294}(18/88)
قوله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت نسبة المصيبة إليهم ربما أوهمت من لم ترسخ قدمه في المعارف الإلهية أن بعض الأفعال خارج عما مراده تعالى قال : {وما أصابكم} ولما استغرقت الحرب ذلك اليوم نزع الجار فقال : {يوم التقى الجمعان} أي حزب الله وحزب الشيطان في أحد {فبإذن الله} أي بتمكين من له العظمة الكاملة وقضائه ، وإثبات أن ذلك بإذنه نحو ما ذكر عند التولية يوم التقى الجمعان من نسبة الإحياء والإماتة إليه.
ولما كان التقدير : ليؤدبكم به ، عطف عليه قوله : {وليعلم المؤمنين} أي الصادقين في إيمانهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 178 ـ 179}
وقال الفخر :
اعلم أن هذا متعلق بما تقدم من قوله : {أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ} [ آل عمران : 165 ] فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم ، وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر ، وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 68}
فائدة
قال الفخر :
قوله : {يَوْمَ التقى الجمعان} المراد يوم أحد ، والجمعان : أحدهما جمع المسلمين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، والثاني : جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 68}
فصل
قال الفخر :
في قوله : {فَبِإِذْنِ الله} وجوه :(18/89)
الأول : أن إذن الله عبارة عن التخلية وترك المدافعة ، استعار الإذن لتخلية الكفار فإنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم ، لأن الإذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده ، فلما كان ترك المدافعة من لوازم الإذن أطلق لفظ الإذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز.
الوجه الثاني : فباذن الله : أي بعلمه كقوله : {وَأَذَانٌ مّنَ الله} [ التوبة : 3 ] أي إعلام ، وكقوله : {آذناكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} [ فصلت : 47 ] وقوله : {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله} [ البقرة : 279 ] وكل ذلك بمعنى العلم.
طعن الواحدي فيه فقال : الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه ، لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى : {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [ فاطر : 11 ].
الوجه الثالث : أن المراد من الإذن الأمر ، بدليل قوله : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [ آل عمران : 152 ] والمعنى أنه تعالى لما أمر بالمحاربة ، ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام ، صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره.
الوجه الرابع : وهو المنقول عن ابن عباس : أن المراد من الإذن قضاء الله بذلك وحكمه به وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ، والتسلية إنما تحصل إذا قيل إن ذلك وقع بقضاء الله وقدره ، فحينئذ يرضون بما قضى الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 68}
قوله تعالى {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين}(18/90)
فصل
قال الفخر :
قوله : {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين} ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة ، وهذا يشعر بتجدد علم الله ، وهذا محال في حق علم الله تعالى ، فالمراد ههنا من العلم المعلوم ، والتقدير : ليتبين المؤمن من المنافق ، وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الإذن في تلك المصيبة ، وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 69}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى { وَمَا أَصَابَكُمْ}
" ما " موصولة بمعنى الذي ، في محل رفع بالابتداء ، و" بإذن الله " الخبر ، وهو على إضمار مبتدأ ، تقديره : فهو بإذن الله ، ودخلت الفاء في الخبر ؛ لشِبْه المبتدأ بالشرط ، نحو : الذي يأتيني فله درهم ، وهذا - على ما قرره الجمهورُ - مُشْكِل ؛ وذلك أنهم قرروا أنه لا يجوز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط.
منها : أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى ؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط ، والشّرط إنما يكون في الاستقبال ، لا في الماضي ، لو قلت : الذي أتاني أمس فله درهم ، لم يصحّ ، " وأصابكم " - هنا - ماضٍ في المعنى ؛ لأن القصة ماضية ، فكيف جاز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط.
منها : أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى ؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط ، والشّرط إنما يكون في الاستقبال ، لا في الماضي ، لو قلت : الذي أتاني أمس فله درهم ، لم يصحّ ، " وأصابكم " - هنا - ماضٍ في المعنى ؛ لأن القصة ماضية ، فكيف جاز دخول هذه الفاء ؟(18/91)
أجابوا عنه بأنه يُحْمل على التبيُّن - أي : وما تبين إصابته إياكم - كما تأولوا قوله : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } [ يوسف : 26 ] - أي تبين - وهذا شرطٌ صريحٌ ، وإذا صحَّ هذا التأويل فلْنَجْعَل " ما " - هنا - شرطاً صريحاً ، وتكون الفاء داخلة وجوباً ؛ لكونها واقعة جواباً للشرط.
وقال ابنُ عطية : " يحسن دخولُ الفاء إذا كان سببَ الإعطاء ، وكذلك ترتيبُ هذه ، فالمعنى إنما هو : وما أذن الله فيه فهو الذي أصابكم ، لكن قدم الأهم في نفوسهم ، والأقرب إلى حسّهم. والإذن : التمكينُ من الشيء مع العلم به ".
وهذا حسنٌ من حيثُ المعنى ؛ فإن الإصابة مرتبة على الإذْن من حيث المعنى ، وأشار بقوله : الأهم والأقرب ، إلى ما أصابهم يوم التقى الجَمْعَانِ.
قوله : { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } في هذه اللام قولان :
أحدهما : أنها معطوفة على معنى قوله : { فَبِإِذْنِ الله } عطف سبب على سبب ، فتتعلق بما تتعلق به الباء.
الثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : وليعلم فعل ذلك - أي : أصابكم - والأول أولى - وقد تقدم أن معنى : وليعلم الله كذا : أي يُبَيِّن ، أو يظهر للناس ما كان في علمه ، وزعم بعضهم أن ثَمَّ مضافاً ، أي : ليعلم إيمان المؤمنين ، ونفاق المنافقين ، ولا حاجة إليه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 38 ـ 39}. بتصرف يسير.(18/92)
قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان تعليق العلم بالشيء على حدته أتم وآكد من تعليقه به مع غيره أعاد العامل لذلك ، وإشعاراً بأن أهل النفاق أسفل رتبة من أن اجتمعوا مع المؤمنين في شيء فقال : {وليعلم الذين نافقوا} أي علماً تقوم به الحجة في مجاري عاداتكم ، وهذا مثل قوله هناك {وليبتلي الله ما في صدوركم} [ آل عمران : 154 ].
وعطف على قوله {نافقوا} ما أظهر نفاقهم ، أو يكون حالاً من فاعل {نافقوا} فقال : {وقيل لهم تعالوا قاتلوا} أي أوجدوا القتال {في سبيل الله} أي الذي له الكمال كله بسبب تسهيل طريق الرب الذي شرعه {أو ادفعوا} أي عن أنفسكم وأحبائكم على عادة الناس لا سيما العرب {قالوا لو نعلم} أي نتيقن {قتالاً} أي أنه يقع قتال {لاتبعناكم} أي لكنه لا يقع فيما نظن قتال ورجعوا.
ولما كان هذا الفعل المسند إلى هذا القول ظاهراً في نفاقهم ترجمة بقوله : {هم للكفر يومئذ} أي يوم إذ كان هذا حالهم {أقرب منهم للإيمان} عند كل من سمع قولهم أو رأى فعلهم ، ثم علل ذلك أو استأنف بقوله - معبراً بالأفواه التي منها ما هو أبعد من اللسان لكونهم منافقين ، فقولهم إلى أصوات الحيوان أقرب منه إلى كلام الإنسان ذي العقل واللسان لأنهم - : {يقولون بأفواههم} ولما أفهم هذا أنه لا يجاوز ألسنتهم فلا حقيقة له ولا ثبات عندهم ؛ صرح به في قوله {ما ليس في قلوبهم} بل لا شك عندهم في وقوع القتال ، علم الله هذا منهم كما علموه من أنفسهم {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {أعلم} أي منهم {بما يكتمون} أي كله لأنه يعلمه قبل كونه وهم لا يعلمونه إلا بعد كونه ، وإذا كان نسوه بتطاول الزمان والله سبحانه وتعالى لا ينساه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 179}(18/93)
قال الآلوسى :
{ وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } كعبد الله بن أبيّ وأصحابه ، وهذا عطف على ما قبله من مثله ، وإعادة الفعل إما للاعتناء بهذه العلة ، أو لتشريف المؤمنين وتنزيههم عن الانتظام في قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حال العلم بحسب التعلق بالفريقين فإنه متعلق بالمؤمنين على نهج تعلقه السابق ، وبالمنافقين على نهج جديد وهو السر كما قال شيخ الإسلام في إيراد الأولين بصيغة اسم الفاعل المنبئة عن الاستمرار والآخرين بموصول صلته فعل دال على الحدوث. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 118}
قوله تعالى : {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا}
فصل
قال الفخر :
في أن هذا القائل من هو ؟ وجهان :
الأول : قال الأصم : إنه الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى القتال.
الثاني : روي أن عبد الله بن أبي بن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قالوا : لم نلقي أنفسنا في القتل ، فرجعوا وكانوا ثلثمائة من جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبد الله الأنصاري : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو ، فهذا هو المراد من قوله تعالى : {وَقِيلَ لَهُمْ} يعني قول عبد الله هذا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 69}
فصل
قال الفخر :
قوله : {قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} يعني إن كان في قلبكم حب الدين والاسلام فقاتلوا للدين والاسلام ، وإن لم تكونوا كذلك ، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم ، يعني كونوا إما من رجال الدين ، أو من رجال الدنيا.
قال السدي وابن جريج : ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا ، قالوا : لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والعظمة ، والأول هو الوجه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 69}(18/94)
فائدة
قال الفخر :
قوله تعالى : {قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا ، وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 69}
قوله تعالى : {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان}
هذا هو الجواب الذي ذكره المنافقون وفيه وجهان :
الأول : أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان ألبتة ، فلهذا رجعنا.
الثاني : أن يكون المعنى لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ، يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له قتال ، وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبد الله كان في الإقامة بالمدينة ، وما كان يستصوب الخروج.
واعلم أنه إن كان المراد من هذا الكلام هو الوجه الأول فهو فاسد ، وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم ، وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم ، ولو قيل لهذا المنافق الذي ذكر هذا الجواب : فينبغي لك لو شاهدت من شهر سيفه في الحرب أن لا تقدم على مقاتلته لأنك لا تعلم منه قتالا ، وكذا القول في سائر التصرفات في أمور الدنيا ، بل الحق أن الجهاد واجب عند ظهور أمارات المحاربة ، ولا أمارات أقوى من قربهم من المدينة عند جبل أحد ، فدل ذكر هذا الجواب على غاية الخزي والنفاق ، وإنه كان غرضهم من ذكر هذا الجواب إما التلبيس ، وإما الاستهزاء.
وأما إن كان مراد المنافق هو الوجه الثاني فهو أيضاً باطل ، لأن الله تعالى لما وعدهم بالنصرة والإعانة لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 69 ـ 70}
قوله تعالى {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان}(18/95)
فصل
قال الفخر :
في التأويل وجهان :
الأول : أنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم ، فلما رجعوا عن عسكر المؤمنين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين.
واعلم أن رجوعهم عن معاونة المسلمين دل على أنهم ليسوا من المسلمين ، وأيضاً قولهم : {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم} يدل على أنهم ليسوا من المسلمين ، وذلك لأنا بينا أن هذا الكلام يدل إما على السخرية بالمسلمين ، وإما على عدم الوثوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهما كفر.
الوجه الثاني : في التأويل أن يكون المراد أنهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانعزال يجر إلى تقوية المشركين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 70}
وقال ابن عاشور :
ومعنى { هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان } أنّ ما يُشاهد من حالهم يومئذ أقرب دلالة على أنهم يُبطنون الكفر مِن دلالة أقوالهم : إنَّا مسلمون ، واعتذارِهم بقولهم : لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم.
أي إنّ عذرهم ظاهر الكذب ، وإرادة تفشيل المسلمين ، والقرب مجاز في ظهور الكفر عليهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 281}
فصل
قال الفخر :
قال أكثر العلماء : إن هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار ، قال الحسن إذا قال الله تعالى : {أَقْرَبُ} فهو اليقين بأنهم مشركون ، وهو مثل قوله : {مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} فهذه الزيادة لا شك فيها ، وأيضا المكلف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكفر ، فلما دلت الآية على القرب لزم حصول الكفر.
وقال الواحدي في "البسيط" : هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ولم يطلق القول بتكفيره ، لأنه تعالى لم يطلق القول بكفرهم مع أنهم كانوا كافرين ، لاظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 70}(18/96)
لطيفة
قال أبو حيان :
قال الماتريدي : أقرب أي ألزم على الكفر ، وأقبل له مع وجود الكفر منهم حقيقة ، لا على القرب إليه قبل الوقوع والوجود لقوله : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } أي هي لهم لا على القرب قبل الوجود ، لكنهم لما كانوا أهل نفاق والكفر لم يفارق قلوبهم وما كان من إيمانهم ، كان بظاهر اللسان قد يفارقها في أكثر أوقاتهم ، وصفوا به.
ويحتمل أن يحمل على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر ، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان ، فهو أقرب إلى الكفر.
أو من حيث قالوا للمؤمنين : { ألم نكن معكم } وللكافرين : { ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } أو من حيث ما أظهروا من الإيمان كذب ، والكفر نفسه كذب.
فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم أقرب إليه وهو الكفر ، أو من حيث أنهم أحق به أن يعرفوا.
كما جعل الله لهم أعلاماً يعرفون بها ، أو من حيث لا يعبدون الله ولا يعرفونه ، بل هم عباد الأصنام لاتخاذهم لها أرباباً ، أو لتقرّبهم بها إلى الله ، فإذا أصابتهم شدّة فرعوا إلى الله ، والمؤمنون يرجعون إلى الله في الشدّة والرخاء. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 115 ـ 116}(18/97)
قوله تعالى {يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ}
قال الآلوسى :
{ يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقاً لا في ذلك اليوم فقط ولذا فصلت ، وقيل : حال من ضمير أقرب وتقييد القول بالأفواه إما بيان لأنه كلام لفظي لا نفسي ، وإما تأكيد على حدّ { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] والمراد أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون ؛ وقال شيخ الإسلام : "إن ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم وإن ما عبارة عن القول والمراد به إما نفس الكلام الظاهر في اللسان تارة وفي القلب أخرى ، فالمثبت والمنفي متحدان ذاتاً وصفة وإن اختلفا مظهراً ، وإما القول الملفوظ فقط فالمنفي حينئذ منشؤه الذي لا ينفك عنه القول أصلاً ، وإنما عبر عنه به إبانة لما بينهما من شدة الاتصال ، والمعنى يتفوهون بقول لا وجود له أو لمنشئه في قلوبهم أصلاً من الأباطيل التي من جملتها ما حكى عنهم آنفاً فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شيء منهما ، أحدهما : عدم العلم بالقتال والآخر : الاتباع على تقدير العلم به وقد كذبوا فيهما كذباً بيّناً حيث كانوا عالمين به ( غير ناوين للاتباع بل كانوا ) مصرين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد" ، واختار بعضهم كون { مَا } عبارة عن القول الملفوظ ، ومعنى كونه ليس في قلوبهم أنه غير معتقد لهم ولا متصور عندهم إلا كتصور زوجية الثلاثة مثلاً والحكم عام ؛ ويدخل فيه حكم ما تفوهوا به من مجموع القضية الشرطية لا خصوص المقدم فقط ولا خصوص التالي فقط ولا الأمران معاً دون الهيئة الاجتماعية المعتبرة في القضية ولعل ما ذكره الشيخ أولى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 119 ـ 120}(18/98)
وقال الفخر :
المراد أن لسانهم مخالف لقلبهم ، فهم وإن كانوا يظهرون الإيمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 70}
لطيفة
قال الزمخشرى :
وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم ، وأنّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم ، خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم لأفواههم. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 465}
فائدة
قال أبو حيان :
قال ابن عطية : بأفواههم توكيد مثل : يطير بجناحيه انتهى.
ولا يظهر أنه توكيد ، إذِ القولُ ينطلق على اللساني والنفساني ، فهو مخصص لأحد الانطلاقين إلا إنْ قلنا : إنّ إطلاقه على النفساني مجاز ، فيكون إذ ذاك توكيداً لحقيقة القول. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 116}
قوله تعالى {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }
قال الآلوسى :
{ والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } زيادة تحقيق لكفرهم ونفاقهم ببيان اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد إثر بيان خلوهم عما يوافقها ، والمراد أعلم من المؤمنين لأنه تعالى يعلمه مفصلاً بعلم واجب ، والمؤمنون يعلمونه مجملاً بأمارات ، ويجوز أن تكون الجملة حالية للتنبيه على أنهم لا ينفعهم النفاق ، وأن المراد أعلم منهم لأن الله تعالى يعلم نتيجة أسرارهم وآمالهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 120}
لطيفة
قال أبو السعود :
وصيغةُ التفضيلِ لما أن بعضَ ما يكتُمونه من أحكام النفاقِ وذمِّ المؤمنين وتخطئةِ آرائِهم والشماتةِ بهم وغيرِ ذلك يعلمه المؤمنون على وجه الإجمال ، وأن تفاصيلَ ذلك وكيفياتِه مختصةٌ بالعلم الإلهي. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 110}
سؤال : فإن قيل : إن المعلوم إذا علمه عالمان لا يكون أحدهما أعلم به من الآخر ، فما معنى قوله : {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } ؟.
قلنا : المراد أن الله تعالى يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 71}(18/99)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى : "يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم" وفى سورة الفتح : "يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم"، للسائل أن يسأل فيقول : إن مقصود الآيتين قد اتحد لأن حاصله التعريف بأن كلا من المذكورين فى الآيتين أظهر خلاف ما أبطن فلم قيل فى الأولى"بأفواههم" وفى الثانية"بألسنتهم" مع اتحاد المعنى ؟
والجواب عن ذلك والله أعلم أن قوله فى الأولى "بأفواههم" ينبئ عن مبالغة واستحكام وتمكن فى اعتقاد أو قصد لا يحصل من قوله "بألسنتهم" ألا ترى قولهم : تكلم بملء فيه حين يريدون المبالغة وقال تعالى : "اليوم نختم على أفواههم" والمراد المبالغة فى منعهم من الكلام وإذا ختم على الأفواه امتنعت الألسنة عن النطق وكان أحكم فى المنع ولما كان المراد بالآية الأولى الإخبار عن المنافقين كعبد الله بن أبى وأصحابه ممن استحكم نفاقه وتقرر فقال يوم أحد ما حكى الله تعالى من قولهم فى المخالفين لهم من الأنصار ممن أكرمه الله بالشهادة فى ذلك اليوم : "لو أطاعونا ما قتلوا" إلى ما قالوه من هذا ثم وروا عنه بقولهم لصالحى المؤمنين : "لو نعلم قتالا لاتبعناكم" فأخبر تعالى عنهم بما أكنوه من الكفر فقال تعالى : "هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم" فناسب الإبلاغ فى قوله تعالى : "بأفواههم" ما انطووا عليه واستحكم فى قلوبهم من الكفر وأما آية الفتح فإخبار عن أعراب ممن قال تعالى فيهم : "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" وهؤلاء لم يستقر نفاقهم كالآخرين وإنما أخل بهم قرب عهدهم بالكفر وإن لم يتقرر الإيمان فى قلوبهم لكن لا عن نفاق كنفاق الآخرين قال تعالى مخبرا عن هؤلاء الأعراب : "سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا" فعن هؤلاء قال تعالى : "يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم"، فعبر بالألسنة إشعارا بأن حال هؤلاء ليس كحال المنافقين المقصودين فى آية آل عمران. فلاختلاف الطائفتين اختلفت العبارة عما صدر منهم وورد كل على ما يناسب ولم يكن عكس الوارد ليناسب والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل حـ 1 صـ 127 ـ 128}(18/100)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { وَلْيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } قال الواحدي : " يقال : نَافَقَ الرَّجُلُ - فهو منافقٌ - إذا أظهر كلمة الإيمان ، وأضمَر خلافَها ، والنفاق اسم إسلامي ، اختلِف في اشتقاقه على وجوهٍ :
أحدها : قال أبو عبيد : من نافقاء اليربوع ؛ لأن حجر اليربوع لها بابان : القاصعاء ، والنافقاء ، فإذا طلب من أيهما خرج من الآخر ، فقيل للمنافق : إنه منافق لأنه وضع لنفسه طريقين : إظهار الإسلام ، وإضمار الكُفْرِ ، فمن أيهما طُلِب خرج من الآخر.
الثاني : قال ابنُ الأنباري : المنافق من النَّفَق ، وهو السربُ ، ومعناه : أنه يتستّر بالإسْلامِ كما يتستَّر الرجُلُ في السِّرْبِ.
الثالث : أنه مأخوذٌ من النافقاء ، ولكن على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيدٍ ، وهو أن النافقاء جثحْر يحفره اليربوعُ في داخل الأرضِ ، ثم إنه يُرقِّق ما فوقَ الجُحر ، حتى إذا رابه رَيْبٌ ، رفع التراب برأسه وخرج ، فقيل للمنافق : منافق ؛ لأنه أضمر الكُفْرَ في باطنه ، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر ، وتمسَّك بالإسلام ".
قوله : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ } هذه الجملة تحتمل وجهين :
الأول : أنْ تكونَ استئنافية ، أخبر الله أنهم مأمورونَ إما بالقتال ، وإما بالدَّفْع ، أي : تكثير سواد المسلمين.(18/101)
الثاني : أن تكون معطوفة على " نافقوا " فتكون داخلة في صلة الموصول ، أي : ليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقول بكذا و" تعالوا " و" قاتلوا " كلاهما قام مقام الفاعل لـ " قيل " لأنه هو المقول. قال أبو البقاء : إنما لم يأتي بحرف العطف - يعني بين " تعالوا " و" قاتلوا " - لأنه أراد أن يجعل كل واحدةٍ من الجملتين مقصودة بنفسها ، ويجوز أن يقال : إن المقصودَ هو الأمر بالقتال ، و" تعالوا " ذكر ما لو سكت عنه لكان في الكلام دليل عليه.
وقيل : الأمر الثاني حال.
يعني بقوله : " تعالوا " ذكر ما لو سكت ، أن المقصود إنما أمرهم بالقتال ، لا مجيئهم وحده ، وجعله " قاتلوا " حالاً من " تعالوا " فاسد ؛ لأن الجملة الحالية يُشْتَرط أن تكونَ خبرية ، وهذه طلبية.
قوله : " أو ادفعوا " " أو " - هنا - على بابها من التخيير والإباحة.
وقيل : بمعنى الواو ؛ لأنه طلب منهم القتال والدفع ، والأول أصح.
وقوله : { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً } إنما لم يَأتِ - في هذه الجُمْلة - بحرف عطف ؛ لأنها جواب لسؤال سائل كأنه قيل : فما قالوا - لما قيل لهم ذلك - ؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك. و" نعلم " - وإن كان مضارعاً - معناه المُضِيّ ؛ لأن " لو " تخص المضارع ، إذا كانت لما سيقع لوقوع غيره ، ونكَّر " قتالاً " للتقليل ، أي : لو علمنا بعض قتال ما. وهذا جواب المنافقين حين قيل لهم : { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا } فقال تعالى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ }.
" هم " مبتدأ ، و" أقرب " خبره ، وهو أفعل تفضيل ، و" للكفر " متعلق به ، وكذلك " للإيمان ".
فإن قيل : لا يتعلق حرفا جر - متحدان لفظاً ومعنىً - بعامل واحد ، إلا أن يكونَ أحدهما معطوفاً على الآخر ، أو بدلاً منه ، فكيف تعلقا بـ " أقرب " ؟ (18/102)
فالجوابُ : أن هذا خاصٌّ بأفعل التفضيل ، قالوا : لأنه في قوة عاملين ، فإنّ قوة قولك زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْرو ، معناه : يزيد فضله على فضل عمرو.
وقال أبو البقاء : " وجاز أن يعمل " أقرب " فيهما ؛ لأنهما يشبهان الظرف ، وكما عمل " أطيب " في قولهم : هذا بسراً أطيب منه رُطباً ، في الظرفين المقدرين لأن " أفعل " يدل على معنيين - على أصل الفعلِ وزيادتهِ - فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الأخر ، فتقديره : يزيد قُرْبهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان ".
ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين ؛ لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد تشبيههما بالظرفين وليس كذلك ، وقوله : الظرفين المقدَّرين ، يعني أن المعنى : هذا في أوانِ بُسْرَيته أطيب منه.
و " أقرب " - هنا - من القُرْب - الذي هو ضد البعدِ - ويتعدى بثلاثة حروف : اللام ، و" إلى " و" من ". تقول : قربت لك ومنك إليك ، فإذا قلت : زيد أقرب من العلم من عمرو ، ف " من " الولى المعدية لأصل معنى القرب ، والثانية هي الجارة للمفضول ، وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى " إلى ".
و " يومئذ " متعلق بـ " أقرب " ومذا " منهم " و" من " هذه هي الجارةُ للمفضول بعد " أفعل " وليست هي المعدية لأصل الفعل.
و " إذ " مضافةٌ لجملةٍ محذوفةٍ ، عُوِّضَ منها التنوين ، وتقدير هذه الجملة : هم للكفر يوم إذ قالوا : لو نَعْلَم قتالاً لاتبعناكم.
وقيل : المعنى على حذف مضاف ، أي : هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان ، وفُضِّلُوا - هنا - على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين ، ولولا ذلك لم يَجُزْ ، تقول : زيدٌ قاعداً أفضل منه قائماً ، أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً. ولو قلت : زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً. لم يَجُزْ.(18/103)
وحكى النقاش - عن بعض المفسّرين - أن " أقرب " - هنا - ليست من معنى القُرب - الذي هو ضد البُعْدِ - وإنما هي من القَرَب - بفتح القاف والراء - وهو طلبُ الماءِ ، ومنه قارب الماء ، وليلةُ القُرْب : ليلة الورود ، فالمعنى : هم أطلب للكفر ، وعلى هذا تتعين التعدية باللام - على حَدِّ قولك : زيد أضربُ لعمرو.
قوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } في هذه الجملة وجهانِ :
أحدهما : أنها مستأنفةٌ ، لا محلَّ لها من الإعرابِ.
الثاني : أنها في محل نَصْب على الحال من الضمير في " أقرب " أي : قربوا للكفر قائلين هذه المقالة - وقوله : { بِأَفْوَاهِهِم } قيل : تأكيد ، كقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ]. والظاهرُ أن القولَ يُطْلق على اللساني والنفساني ، فتقييده بقوله : { بِأَفْوَاهِهِم } تقييد لأحد مُحْتَمَلَيْه ، اللهم إلا أن يُقَال : إن إطلاقه على النفسانيّ مجاز ، قال الزمخشري : " وذكر الأفواه مع القلوب ؛ تصويراً لنفاقهم ، وأن إيمانهم موجود في أفواههم ، معدوم في قلوبهم ".
وبهذا - الذي قاله الزمخشريُّ - ينتفي كونُه للتأكيد ؛ لتحصيله هذه الفائدة - ومعنى الآية : أن لسانهم مُخَالِفٌ لقلوبهم ، فهم وإن كانوا يُظْهرون الإيمانَ باللسانِ ، لكنهم يُضْمِرون في قلوبهم الكُفْرَ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 39 ـ 43}. بتصرف.(18/104)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا } قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ ادْفَعُوا } : " إنَّ مَعْنَاهُ بِتَكْثِيرِ سَوَادِنَا إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مَعَنَا " وَقَالَ أَبُو عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّ : " مَعْنَاهُ وَرَابِطُوا بِالْقِيَامِ عَلَى الْخَيْلِ إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحُضُورِ لَازِمٌ لِمَنْ كَانَ فِي حُضُورِهِ نَفْعٌ فِي تَكْثِيرِ السَّوَادِ وَالدَّفْعِ وَفِي الْقِيَامِ عَلَى الْخَيْلِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِمْ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 332}(18/105)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
قال عليه الرحمة :
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)}
هوَّن على المؤمنين وأصحاب البصائر ما لقوا من عظيم الفتنة يوم أُحُد ، بأن قال إن ذلك أجمع كان بإذن الله ، وإنَّ بلاءً يصيب بإذن الله لِمَن العسلِ أحلى ، ومِنْ كل نعيم أشهى. ثم أخبر أن الذين لم يكن لهم في الصحبة خلوص كيف تعللوا وكيف تكاسلوا :
وكذا المَلُولُ إذا أراد قطيعةً... ملَّ الوصال وقال كان وكانا
قوله تعالى : { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } فلا جَرَم ( سَقَوْا العَسَل ودَسُّوا له فيه الحنظل ) ، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 295}(18/106)
قوله تعالى : {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما حكى عنهم ما لا يقوله ذو إيمان أتبعه ما لا يتخيله ذو مروة ولا عرفان فقال مبيناً للذين نافقوا : {الذين قالوا لإخوانهم} أي لأجل إخوانهم والحال أنهم قد أسلموهم {وقعدوا} أي عنهم خذلاناً لهم {لو أطاعونا} أي في الرجوع {ما قتلوا} ولما كان هذا موجباً للغضب أشار إليه بإعراضه في قوله : {قل} أي لهؤلاء الأجانب الذين هم بمنزلة الغيبة عن حضرتي لما تسبب عن قولهم هذا من ادعاء القدرة على دفع الموت {فادرءوا} أي ادفعوا بعز ومنعة وميّلوا {عن أنفسكم الموت} أي حتى لا يصل إليكم أصلاً {إن كنتم صادقين} أي في أن الموت يغني منه حذر.
فقد انتظم الكلام بما قبل الجملة الواعظة أتم انتظام على أنه قد لاح لك أن ملائمة الجمل الواعظة لما قبلها وما بعدها ليس بدون ملاءمة ما قبلها من صلب القصة لما بعدها منه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 179 ـ 180}
وقال الفخر :
اعلم أن الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا : {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم} [ آل عمران : 167 ] وصفهم الله تعالى بأنهم كما قعدوا واحتجوا لقعودهم ، فكذلك ثبطوا غيرهم واحتجوا لذلك ، فحكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا لإخوانهم إن الخارجين لو أطاعونا ما قتلوا ، فخوفوا من مراده موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في محاربة الكفار بالقتل لما عرفوا ما جرى يوم أحد من الكفار على المسلمين من القتل ، لأن المعلوم من الطباع محبة الحياة فكان وقوع هذه الشبهة في القلوب يجري مجرى ما يورده الشيطان من الوسواس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 71}(18/107)
فصل
قال الفخر :
قال المفسرون : المراد ( بالذين قَالُواْ ) عبد الله بن أبي وأصحابه ، وقال الأصم : هذا لا يجوز لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد يوم أحد ، وهذا القول فهو واقع فيمن قد تخلف لأنه قال : {الذين قَالُواْ لإخوانهم وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا} أي في القعود ما قتلوا فهو كلام متأخر عن الجهاد ، قاله لمن خرج إلى الجهاد ولمن هو قوي النية في ذلك ليجعله شبهة فيما بعده صارفاً لهم عن الجهاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 71}
فائدة
قال الفخر :
قالوا لإخوانهم : أي قالوا لأجل إخوانهم ، وقد سبق بيان المراد من هذه الأخوة ، الأخوة في النسب ، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدار ، أو في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عبادة الأوثان ؟ والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 71}
قال الآلوسى(18/108)
فائدة
قال الآلوسى :
قوله تعالى : { لَوْ أَطَاعُونَا } أي في ترك القتال { مَا قُتِلُوا } كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن السدي قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبيّ في ثلثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم } [ آل عمران : 167 ] قالوا له : ولئن أطعتنا لترجعن معنا فذكر الله تعالى نعي قولهم لئن أطعتنا لترجعن معنا بقوله سبحانه : { الذين قَالُواْ } الخ ، وبعضهم حمل القعود على ما استصوبه ابن أبيّ عند المشاورة من المقاومة بالمدينة ابتداءاً وجعل الإطاعة عبارة عن قبول رأيه والعمل به ولا يخلو عن شيء بل قال مولانا شيخ الإسلام : يرده كون الجملة حالية فإنها لتعيين ما فيه العصيان والمخالفة مع أن ابن أبيّ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيص عدم الطاعة بإخوانهم ينادي باختصاص الأمر أيضاً بهم فيستحيل أن يحمل على ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم عند المشاورة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 120}
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي : الواو في قوله : {وَقَعَدُواْ} للحال ومعنى هذا القعود القعود عن الجهاد يعني من قتل بأحد لو قعدوا كما قعدنا وفعلوا كما فعلنا لسلموا ولم يقتلوا ، ثم أجاب الله عن ذلك بقوله : {قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين }.
فإن قيل : ما وجه الاستدلال بذلك مع أن الفرق ظاهر فإن التحرز عن القتل ممكن ، أما التحرز عن الموت فهو غير ممكن ألبتة ؟(18/109)
والجواب : هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى لا يتمشى إلا إذا اعترفنا بالقضاء والقدر ، وذلك لأنا إذا قلنا لا يدخل الشيء في الوجود إلا بقضاء الله وقدره ، اعترفنا بأن الكافر لا يقتل المسلم إلا بقضاء الله ، وحينئذ لا يبقى بين القتل وبين الموت فرق ، فيصح الاستدلال.
أما إذا قلنا بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه ، كان الفرق بين الموت والقتل ظاهراً من الوجه الذي ذكرتم ، فتفضي إلى فساد الدليل الذي ذكره الله تعالى ، ومعلوم أن المفضي إلى ذلك يكون باطلا ، فثبت أن هذه الآية دالة على أن الكل بقضاء الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 71 ـ 72}
قوله تعالى {إن كنتم صادقين}
قال الفخر :
وقوله : {إن كنتم صادقين} يعني : إن كنتم صادقين في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره ، والوصول إلى المطالب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 72}(18/110)
وقال الآلوسى :
{ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } أي فادفعوا عنها ذلك وهو جواب لشرط قد حذف لدلالة قوله تعالى : { إِن كُنتُمْ صادقين } عليه كما أنه شرط حذف جوابه لدلالة { فَادْرَءوا } عليه ، ومن جوز تقدم الجواب لم يحتج لما ذكر ؛ ومتعلق الصدق هو ما تضمنه قولهم من أن سبب نجاتهم القعود عن القتال ، والمراد أن ما ادعيتموه سبب النجاة ليس بمستقيم ولو فرض استقامته فليس بمفيد ، أما الأول : فلأن أسباب النجاة كثيرة غايته أن القعود والنجاة وجدا معاً وهو لا يدل على السببية ، وأما الثاني : فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذي القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه فإن أسباب الموت في إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء ، وأنفسكم أعز عليكم وأمرها أهمّ لديكم ، وقيل : متعلق الصدق ما صرح به من قولهم : { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين ، وحينئذ يكون { فَادْرَءوا } الخ استهزاءاً بهم أي إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرءوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا كما درأتم بزعمكم هذا السبب الخاص ، وفي "الكشاف" "روي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة منهم سبعون منافقاً" بعدد من قتل بأحد. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 120 ـ 121}
من فوائد القرطبى فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } معناه لأجل إخوانهم ، وهم الشهداء المقتولون من الخَزْرَج ؛ وهم إخوة نسب ومجاورة ، لا إخوة الدِّين.
أي قالوا لهؤلاء الشهداء : لو قعدوا ، أي بالمدينة ما قتِلوا.
وقيل : قال عبد الله بن أبيّ وأصحابُه لإخوانهم ، أي لأشكالهم من المنافقين : لو أطاعونا ، هؤلاء الذين قُتِلوا ، لمَا قتِلوا.
وقوله : { لَوْ أَطَاعُونَا } يريد في ألاّ يخرجوا إلى قريش.(18/111)
وقوله : { وَقَعَدُواْ } أي قالوا هذا القول وقعدوا بأنفسهم عن الجهاد ؛ فردّ الله عليهم بقوله : { قُلْ فَادْرَءُوا } أي قل لهم يا محمد : إن صدقتم فادفعوا الموت عن أنفسكم.
والدَّرْء الدفعُ.
بيّن بهذا أن الحَذَر لا ينفع من القَدَر ، وأن المقتولَ يقتل بأجله ، وما عَلِم الله وأخبر به كائنٌ لا محالَة.
وقيل : مات يومَ قيل هذا ، سبعون منافقاً.
وقال أبو الليث السَّمْرَقَنْدِيّ : سمعت بعض المفسّرين بسَمْرَقَنْد يقول : لما نزلت الآية { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ } مات يومئذ سبعون نفساً من المنافقين. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 267}
وقال البيضاوى :
{ قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين } أي إن كنتم صادقين إنكم تقدرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه ، فإنه أحرى بكم ، والمعنى أن القعود غير مغن عن الموت ، فإن أسباب الموت كثيرة كما أن القتال يكون سبباً للهلاك والقعود سبباً للنجاة قد يكون الأمر بالعكس. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 113}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
جوَّزوا في موضع " الذين " الألقاب الثلاثة : الرفع والنصب والجر ، فالرفعُ من ثلاثةِ أوجهٍ :
أحدهما : أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : هم الذين.
ثانيها : أنه بدل من واو " يكتمون ".
ثالثها : أنه مبتدأ ، والخبر قوله : " قل فادْرءوا " ولا بُدَّ من حذف عائدٍ ، تقديره : قُلْ لَهُمْ.
والنصبُ من ثلاثة أوجه - أيضاً - :
أحدها : النصبُ على الذَّم ، أي : أذم الذين قالوا.
ثانيها : أنه بدل من " الذين نافقوا ".
ثالثها : أنه صفة.
والجر من وجهينِ : البدل من الضمير في " بأفواهم " أو من الضمير في " قلوبهم " كقول الفرزدق : [ الطويل ](18/112)
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
بجر " حاتم " على أنه بدل من الهاء في " جوده " - وقد تقدم الخلافُ في هذه المسألةِ وقال أبو حيان : وجوَّزوا في إعراب " الذين " وُجُوهاً :
الرفع ، على النعت لـ " الذين نافقوا " أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف والنصب... فذكره إلى آخره.
قال شهابُ الدينِ : وهذا عجيبٌ منه ؛ لأنَّ " الذين نافقوا " منصوب بقوله : " وليعلم " وهم - في الحقيقة - عطف على " المؤمنين " وإنَّمَا كرر العاملَ توكيداً ، والشيخُ لا يخفَى عليه ما هو أشكلُ من هذا فيحتمل أن يكون تبع غيرَه في هذا السهو - وهو الظاهر من كلامه - ولم ينظر في الآية ، اتكالاً على ما رآه منقولاً ، وكثيراً ما يقع الناس فيه ، وأن يُعْتَقَدَ أنّ " الذين " فاعل بقوله : " وليعلم " أي : فعل الله ذلك ليعلم هو المؤمنين ، وليعلم المنافقون ، ولكن مثل هذا لا ينبغي أن يجوز ألبتة.
قوله : " وقعدوا " يجوز في هذه الجملة وجهانِ :
أحدهما : أن تكون حالية من فاعل " قالوا " و" قد " مرادة أي : وقد قعدوا ، ومجيء الماضي حالاً بالواو و" قد " أو بأحدهما ، أو بدونهما ، ثابتٌ من لسان العربِ.
الثاني : أنها معطوفة على الصلة ، فتكون معترضة بين " قالوا " ومعمولها ، وهو " لو أطاعونا ".
أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 43 ـ 44}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)}
الذين ركنوا إلى ما سوَّلت لهم نفوسهم من إيثار الهوى ، ثم اعترضوا على من يصرف أحكام القضاء وقالوا لو تَحَرَّزُوا عن البروز للقتال لم يسقطوا عن درجة السلامة.. لمَذْمُومةٌ تلك الظنون ، ولَذَاهِبَةٌ عن شهود التحقيق تلك القلوب.
قُلْ لهم - يا محمد - استديموا لأنفسكم الحياة ، وادفعوا عنها هجوم الوفاة!
ومتى تقدرون على ذلك ؟ ! هيهات هيهات!. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 295 ـ 296}(18/113)
بحث قيم للعلامة ابن القيم
قال عليه الرحمة :
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ الّتِي كَانَتْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ
وَقَدْ أَشَارَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إلَى أُمّهَاتِهَا وَأُصُولِهَا فِي سُورَةِ ( آل عِمْرَانَ حَيْثُ افْتَتَحَ الْقِصّةَ بِقَوْلِهِ { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عِمْرَانَ 121 ] إلَى تَمَامِ سِتّينَ آيَةً .
[ تَعْرِيفُهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ ]
فَمِنْهَا : تَعْرِيفُهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ وَالْفَشَلِ وَالتّنَازُعِ وَأَنّ الّذِي أَصَابَهُمْ إنّمَا هُوَ بِشُؤْمِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } [ آلُ عِمْرَانَ 152 ] . فَلَمّا ذَاقُوا عَاقِبَةَ مَعْصِيَتِهِمْ لِلرّسُولِ وَتَنَازُعِهِمْ وَفَشَلِهِمْ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَشَدّ حَذَرًا وَيَقَظَةً وَتَحَرّزًا مِنْ أَسْبَابِ الْخِذْلَانِ .
[ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ ](18/114)
وَمِنْهَا : أَنّ حِكْمَةَ اللّهِ وَسُنّتَهُ فِي رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ جَرَتْ بِأَنْ يُدَالُوا مَرّةً وَيُدَالَ عَلَيْهِمْ أُخْرَى لَكِنْ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ فَإِنّهُمْ لَوْ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ مَعَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَغَيْرُهُمْ وَلَمْ يَتَمَيّزْ الصّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ اُنْتُصِرَ عَلَيْهِمْ دَائِمًا لَمْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَمَيّزَ مَنْ يَتّبِعُهُمْ وَيُطِيعُهُمْ لِلْحَقّ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِمّنْ يَتّبِعُهُمْ عَلَى الظّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصّةً .
[ الرّسُلُ تُبْتَلَى ثُمّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ ]
وَمِنْهَا : أَنّ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ الرّسُلِ كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ ؟ قَالَ سِجَالٌ يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى قَالَ كَذَلِكَ الرّسُلُ تُبْتَلَى ثُمّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَة
[ تَمَيّزُ الْمُؤْمِنِ الصّادِقِ مِنْ الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ ]
(18/115)
وَمِنْهَا : أَنْ يَتَمَيّزَ الْمُؤْمِنُ الصّادِقُ مِنْ الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ فَإِنّ الْمُسْلِمِينَ لَمّا أَظْهَرَهُمْ اللّهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَطَارَ لَهُمْ الصّيتُ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ أَنْ سَبّبَ لِعِبَادِهِ مِحْنَةً مَيّزَتْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فَأَطْلَعَ الْمُنَافِقُونَ رُءُوسَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَتَكَلّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ وَظَهَرَتْ مُخَبّآتُهُمْ وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا وَانْقَسَمَ النّاسُ إلَى كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ انْقِسَامًا ظَاهِرًا وَعَرَفَ الْمُؤْمِنُونَ أَنّ لَهُمْ عَدُوّا فِي نَفْسِ دُورِهِمْ وَهُمْ مَعَهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُمْ فَاسْتَعَدّوا لَهُمْ وَتَحَرّزُوا مِنْهُمْ . قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } [ آل عِمْرَانَ 179 ] أَيْ مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُنَافِقِينَ حَتّى يَمِيزَ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ كَمَا مَيّزَهُمْ بِالْمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } الّذِي يَمِيزُ بِهِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَإِنّهُمْ مُتَمَيّزُونَ فِي غَيْبِهِ وَعِلْمِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَمِيزَهُمْ تَمْيِيزًا مَشْهُودًا فَيَقَعُ مَعْلُومُهُ الّذِي هُوَ غَيْبٌ
(18/116)
شَهَادَةً . وَقَوْلُهُ { وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } اسْتِدْرَاكٌ لِمَا نَفَاهُ مِنْ اطّلَاعِ خَلْقِهِ عَلَى الْغَيْبِ سِوَى الرّسُلِ فَإِنّهُ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْبِهِ كَمَا قَالَ { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } [ الْجِنّ : 27 ] فَحَظّكُمْ أَنْتُمْ وَسَعَادَتُكُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الّذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ
[ اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيّةِ أَوْلِيَائِهِ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ ]
وَمِنْهَا : اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيّةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَفِيمَا يُحِبّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ وَفِي حَالِ ظَفَرِهِمْ وَظَفَرِ أَعْدَائِهِمْ بِهِمْ فَإِذَا ثَبَتُوا عَلَى الطّاعَةِ وَالْعُبُودِيّةِ فِيمَا يُحِبّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ فَهُمْ عَبِيدُهُ حَقّا وَلَيْسُوا كَمَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ السّرّاءِ وَالنّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ .
[ حِكْمَةُ تَبَدّلِ الْأَحْوَالِ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوّهِمْ فِي كُلّ مَوْطِنٍ وَجَعَلَ لَهُمْ التّمْكِينَ وَالْقَهْرَ لِأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ وَشَمَخَتْ وَارْتَفَعَتْ فَلَوْ بَسَطَ لَهُمْ النّصْرَ وَالظّفَرَ لَكَانُوا فِي الْحَالِ الّتِي يَكُونُونَ فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمْ الرّزْقَ فَلَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ إلّا السّرّاءُ وَالضّرّاءُ وَالشّدّةُ وَالرّخَاءُ وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ فَهُوَ الْمُدَبّرُ لِأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ إنّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ .
[ الْخُضُوعُ لِجَبَرُوتِهِ تَعَالَى ]
(18/117)
وَمِنْهَا : أَنّهُ إذَا امْتَحَنَهُمْ بِالْغَلَبَةِ وَالْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةِ ذَلّوا وَانْكَسَرُوا وَخَضَعُوا فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ الْعِزّ وَالنّصْرَ فَإِنّ خُلْعَةَ النّصْرِ إنّمَا تَكُونُ مَعَ وِلَايَةِ الذّلّ وَالِانْكِسَارِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ } [ آل عِمْرَانَ 123 ] وَقَالَ { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا } [ التّوْبَةُ 25 ] فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - إذَا أَرَادَ أَنْ يُعِزّ عَبْدَهُ وَيَجْبُرَهُ وَيَنْصُرَهُ كَسَرَهُ أَوّلًا وَيَكُونُ جَبْرُهُ لَهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلّهِ وَانْكِسَارِهِ .
[ رَفْعُ مَنَازِلِهِمْ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ سُبْحَانَهُ هَيّأَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَنَازِلَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالُهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا بَالِغِيهَا إلّا بِالْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ فَقَيّضَ لَهُمْ الْأَسْبَابَ الّتِي تُوصِلُهُمْ إلَيْهَا مِنْ ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ كَمَا وَفّقَهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصّالِحَةِ الّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ وُصُولِهِمْ إلَيْهَا .
[ تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْجِدّ فِي الْعُبُودِيّةِ لِلّهِ ]
(18/118)
وَمِنْهَا : أَنّ النّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنْ الْعَافِيَةِ الدّائِمَةِ وَالنّصْرِ وَالْغِنَى طُغْيَانًا وَرُكُونًا إلَى الْعَاجِلَةِ وَذَلِكَ مَرَضٌ يَعُوقُهَا عَنْ جِدّهَا فِي سَيْرِهَا إلَى اللّهِ وَالدّارِ الْآخِرَةِ فَإِذَا أَرَادَ بِهَا رَبّهَا وَمَالِكُهَا وَرَاحِمُهَا كَرَامَتَهُ قَيّضَ لَهَا مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِذَلِكَ الْمَرَضِ الْعَائِقِ عَنْ السّيْرِ الْحَثِيثِ إلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ وَالْمِحْنَةُ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الْأَدْوَاءُ حَتّى يَكُونَ فِيهَا هَلَاكُهُ . وَمِنْهَا : أَنّ الشّهَادَةَ عِنْدَهُ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ أَوْلِيَائِهِ وَالشّهَدَاءُ هُمْ خَوَاصّهُ وَالْمُقَرّبُونَ مِنْ عِبَادِهِ وَلَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الصّدّيقِيّةِ إلّا الشّهَادَةُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبّ أَنْ يَتّخِذَ مِنْ عِبَادِهِ شُهَدَاءَ تُرَاقُ دِمَاؤُهُمْ فِي مَحَبّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ وَيُؤْثِرُونَ رِضَاهُ وَمَحَابّهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَلَا سَبِيلَ إلَى نَيْلِ هَذِهِ الدّرَجَةِ إلّا بِتَقْدِيرِ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهَا مِنْ تَسْلِيطِ الْعَدُوّ .
[ إهْلَاكُ الْأَعْدَاءِ بَعْدَ ازْدِيَادِ بَغْيِهِمْ ]
[ بَسْطُ الْآيَاتِ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا ]
(18/119)
وَمِنْهَا : أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ وَيَمْحَقَهُمْ قَيّضَ لَهُمْ الْأَسْبَابَ الّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا هَلَاكَهُمْ وَمَحْقَهُمْ وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ كُفْرِهِمْ بَغْيُهُمْ وَطُغْيَانُهُمْ وَمُبَالَغَتُهُمْ فِي أَذَى أَوْلِيَائِهِ وَمُحَارَبَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ وَالتّسَلّطِ عَلَيْهِمْ فَيَتَمَحّصُ بِذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ وَيَزْدَادُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ مِنْ أَسْبَابِ مَحْقِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لَا يُحِبّ الظّالِمِينَ وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [ آل عِمْرَانَ 139 140 ] فَجَمَعَ لَهُمْ فِي هَذَا الْخِطَابِ بَيْنَ تَشْجِيعِهِمْ وَتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِحْيَاءِ عَزَائِمِهِمْ وَهِمَمِهِمْ وَبَيْنَ حُسْنِ التّسْلِيَةِ وَذِكْرِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الّتِي اقْتَضَتْ إدَالَةَ الْكُفّارِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ { إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } [ آل عِمْرَانَ 140 ] فَقَدَ اسْتَوَيْتُمْ فِي الْقَرْحِ وَالْأَلَمِ وَتَبَايَنْتُمْ فِي الرّجَاءِ وَالثّوَابِ كَمَا قَالَ { إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَا يَرْجُونَ } [ النّسَاءُ 104 ] فَمَا بَالُكُمْ
(18/120)
تَهِنُونَ وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ الْقَرْحِ وَالْأَلَمِ فَقَدْ أَصَابَهُمْ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الشّيْطَانِ وَأَنْتُمْ أُصِبْتُمْ فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِي .
[ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ ]
ثُمّ أَخْبَرَ أَنّهُ يُدَاوِلُ أَيّامَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا بَيْنَ النّاسِ وَأَنّهَا عَرَضٌ حَاضِرٌ
[ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ]
ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يَتَمَيّزَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَيَعْلَمُهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْلُومِينَ فِي غَيْبِهِ وَذَلِكَ الْعِلْمُ الْغَيْبِيّ لَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَإِنّمَا يَتَرَتّبُ الثّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْلُومِ إذَا صَارَ مُشَاهَدًا وَاقِعًا فِي الْحِسّ .
[ حُبّ اللّهِ لِلشّهَدَاءِ ]
(18/121)
ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ اتّخَاذُهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ فَإِنّهُ يُحِبّ الشّهَدَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَقَدْ أَعَدّ لَهُمْ أَعْلَى الْمَنَازِلِ وَأَفْضَلَهَا وَقَدْ اتّخَذَهُمْ لِنَفْسِهِ فَلَا بُدّ أَنْ يُنِيلَهُمْ دَرَجَةَ الشّهَادَةِ . وَقَوْلُهُ { وَاللّهُ لَا يُحِبّ الظّالِمِينَ } [ آل عِمْرَانَ 140 ] تَنْبِيهٌ لَطِيفُ الْمَوْقِعِ جِدّا عَلَى كَرَاهَتِهِ وَبُغْضِهِ لِلْمُنَافِقِينَ الّذِينَ اِنْخَذَلُوا عَنْ نَبِيّهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَشْهَدُوهُ وَلَمْ يَتّخِذْ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ لِأَنّهُ لَمْ يُحِبّهُمْ فَأَرْكَسَهُمْ وَرَدّهُمْ لِيَحْرِمَهُمْ مَا خَصّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا أَعْطَاهُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْهُمْ فَثَبّطَ هَؤُلَاءِ الظّالِمِينَ عَنْ الْأَسْبَابِ الّتِي وَفّقَ لَهَا أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ .
[ وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ]
ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى فِيمَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَهُوَ تَمْحِيصُ الّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ تَنْقِيَتُهُمْ وَتَخْلِيصُهُمْ مِنْ الذّنُوبِ وَمِنْ آفَاتِ النّفُوسِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ خَلّصَهُمْ وَمَحّصَهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَتَمَيّزُوا مِنْهُمْ فَحَصَلَ لَهُمْ تَمْحِيصَانِ تَمْحِيصٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَتَمْحِيصٌ مِمّنْ كَانَ يُظْهِرُ أَنّهُ مِنْهُمْ وَهُوَ عَدُوّهُمْ .
[ وَيَمْحَقُ الْكَافِرِينَ ]
[ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا . ...]
[ ولَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ . ..... ]
(18/122)
ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ مَحْقُ الْكَافِرِينَ بِطُغْيَانِهِمْ وَبَغْيِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ ثُمّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ حُسْبَانَهُمْ وَظَنّهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنّةَ بِدُونِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَالصّبْرِ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ وَإِنّ هَذَا مُمْتَنِعٌ بِحَيْثُ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ ظَنّهُ وَحَسِبَهُ . فَقَالَ { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ } [ آل عِمْرَانَ 142 ] أَيْ وَلَمّا يَقَعْ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَيَعْلَمُهُ فَإِنّهُ لَوْ وَقَعَ لَعَلِمَهُ فَجَازَاكُمْ عَلَيْهِ بِالْجَنّةِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَى الْوَاقِعِ الْمَعْلُومِ لَا عَلَى مُجَرّدِ الْعِلْمِ فَإِنّ اللّهَ لَا يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى مُجَرّدِ عِلْمِهِ فِيهِ دُونَ أَنْ يَقَعَ مَعْلُومُهُ ثُمّ وَبّخَهُمْ عَلَى هَزِيمَتِهِمْ مِنْ أَمْرٍ كَانُوا يَتَمَنّوْنَهُ وَيَوَدّونَ لِقَاءَهُ فَقَالَ { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [ آل عِمْرَانَ 143 ] . قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : وَلَمّا أَخْبَرَهُمْ اللّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيّهِ بِمَا فَعَلَ بِشُهَدَاءِ بَدْرٍ مِنْ الْكَرَامَةِ رَغِبُوا فِي الشّهَادَةِ فَتَمَنّوْا قِتَالًا يَسْتَشْهِدُونَ فِيهِ فَيَلْحَقُونَ إخْوَانَهُمْ فَأَرَاهُمْ اللّهُ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَسَبّبَهُ لَهُمْ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ انْهَزَمُوا إلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ مِنْهُمْ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ }
(18/123)
[ وَمَا مُحَمّدٌ إلّا رَسُولٌ ...... أَفَإِنْ مَاتَ ]
[ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ اللّهِ . ...]
[ وَكَأَيّنْ مِنْ نَبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ . ....]
(18/124)
وَمِنْهَا : أَنّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَثَبّتَهُمْ وَوَبّخَهُمْ عَلَى انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ إنْ مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ قُتِلَ بَلْ الْوَاجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَيَمُوتُوا عَلَيْهِ أَوْ يُقْتَلُوا فَإِنّهُمْ إنّمَا يَعْبُدُونَ رَبّ مُحَمّدٍ وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوتُ فَلَوْ مَاتَ مُحَمّدٌ أَوْ قُتِلَ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ فَكُلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَمَا بُعِثَ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُخَلّدَ لَا هُوَ وَلَا هُمْ بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالتّوْحِيدِ فَإِنّ الْمَوْتَ لَا بُدّ مِنْهُ سَوَاءٌ مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ بَقِيَ وَلِهَذَا وَبّخَهُمْ عَلَى رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ لَمّا صَرَخَ الشّيْطَانُ إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ فَقَالَ { وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ } [ آل عِمْرَانَ 144 ] وَالشّاكِرُونَ هُمْ الّذِينَ عَرَفُوا قَدْرَ النّعْمَةِ فَثَبَتُوا عَلَيْهَا حَتّى مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا فَظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعِتَابِ وَحُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَارْتَدّ مَنْ ارْتَدّ عَلَى عَقِبَيْهِ وَثَبَتَ الشّاكِرُونَ عَلَى
(18/125)
دِينِهِمْ فَنَصَرَهُمْ اللّهُ وَأَعَزّهُمْ وَظَفّرَهُمْ بِأَعْدَائِهِمْ وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ جَعَلَ لِكُلّ نَفْسٍ أَجَلًا لَا بُدّ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ ثُمّ تَلْحَقَ بِهِ فَيَرِدُ النّاسُ كُلّهُمْ حَوْضَ الْمَنَايَا مَوْرِدًا وَاحِدًا وَإِنْ تَنَوّعَتْ أَسْبَابُهُ وَيَصْدُرُونَ عَنْ مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ مَصَادِرَ شَتّى فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَنْبِيَائِهِ قُتِلُوا وَقُتِلَ مَعَهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَمَا وَهَنُوا عِنْدَ الْقَتْلِ وَلَا ضَعُفُوا وَلَا اسْتَكَانُوا بَلْ تَلَقّوْا الشّهَادَةَ بِالْقُوّةِ وَالْعَزِيمَةِ وَالْإِقْدَامِ فَلَمْ يَسْتَشْهِدُوا مُدْبِرِينَ مُسْتَكِينِينَ أَذِلّةً بَلْ اُسْتُشْهِدُوا أَعِزّةً كِرَامًا مُقْبِلِينَ غَيْرَ مُدْبِرِينَ وَالصّحِيحُ أَنّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا . ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمّا اسْتَنْصَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَأُمَمُهُمْ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنْ اعْتِرَافِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ رَبّهُمْ أَنْ يُثَبّتَ أَقْدَامَهُمْ وَأَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَقَالَ { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عِمْرَانَ 147 ] لَمّا
(18/126)
عَلِمَ الْقَوْمُ أَنّ الْعَدُوّ إنّمَا يُدَالُ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنّ الشّيْطَانَ إنّمَا يَسْتَزِلّهُمْ وَيَهْزِمُهُمْ بِهَا وَأَنّهَا نَوْعَانِ تَقْصِيرٌ فِي حَقّ أَوْ تَجَاوُزٌ لِحَدّ وَأَنّ النّصْرَةَ مَنُوطَةٌ بِالطّاعَةِ قَالُوا : رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ثُمّ عَلِمُوا أَنّ رَبّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنْ لَمْ يُثَبّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرْهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا هُمْ عَلَى تَثْبِيتِ أَقْدَامِ أَنْفُسِهِمْ وَنَصْرِهَا عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَسَأَلُوهُ مَا يَعْلَمُونَ أَنّهُ بِيَدِهِ دُونَهُمْ وَأَنّهُ إنْ لَمْ يُثَبّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرْهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا وَلَمْ يَنْتَصِرُوا فَوَفّوْا الْمَقَامَيْنِ حَقّهُمَا : مَقَامَ الْمُقْتَضِي وَهُوَ التّوْحِيدُ وَالِالْتِجَاءُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَمَقَامَ إزَالَةِ الْمَانِعِ مِنْ النّصْرَةِ وَهُوَ الذّنُوبُ وَالْإِسْرَافُ ثُمّ حَذّرَهُمْ سُبْحَانَهُ مِنْ طَاعَةِ عَدُوّهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُمْ إنْ أَطَاعُوهُمْ خَسِرُوا الدّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الّذِينَ أَطَاعُوا الْمُشْرِكِينَ لَمّا انْتَصَرُوا وَظَفِرُوا يَوْمَ أُحُدٍ . ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ فَمَنْ وَالَاهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ .
[ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ . .. ]
(18/127)
ثُمّ أَخْبَرَهُمْ أَنّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ الرّعْبَ الّذِي يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ وَالْإِقْدَامِ عَلَى حَرْبِهِمْ وَأَنّهُ يُؤَيّدُ حِزْبَهُ بِجُنْدٍ مِنْ الرّعْبِ يَنْتَصِرُونَ بِهِ عَلَى أَشَدّ شَيْءٍ خَوْفًا وَرُعْبًا وَاَلّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِالشّرْكِ لَهُمْ الْأَمْنُ وَالْهُدَى وَالْفَلَاحُ وَالْمُشْرِكُ لَهُ الْخَوْفُ وَالضّلَالُ وَالشّقَاءُ .
[ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ ]
ثُمّ أَخْبَرَهُمْ أَنّهُ صَدَقَهُمْ وَعْدَهُ فِي نُصْرَتِهِمْ عَلَى عَدُوّهِمْ وَهُوَ الصّادِقُ الْوَعْدِ وَأَنّهُمْ لَوْ اسْتَمَرّوا عَلَى الطّاعَةِ وَلُزُومِ أَمْرِ الرّسُولِ لَاسْتَمَرّتْ نُصْرَتُهُمْ وَلَكِنْ انْخَلَعُوا عَنْ الطّاعَةِ وَفَارَقُوا مَرْكَزَهُمْ فَانْخَلَعُوا عَنْ عِصْمَةِ الطّاعَةِ فَفَارَقَتْهُمْ النّصْرَةُ فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ عُقُوبَةً وَابْتِلَاءً وَتَعْرِيفًا لَهُمْ بِسُوءِ عَوَاقِبِ الْمَعْصِيَةِ وَحُسْنِ عَاقِبَةِ الطّاعَةِ . ثُمّ أَخْبَرَ أَنّهُ عَفَا عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلّهِ وَأَنّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . قِيلَ لِلْحَسَنِ كَيْفَ يَعْفُو عَنْهُمْ وَقَدْ سَلّطَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ حَتّى قَتَلُوا مِنْهُمْ مَنْ قَتَلُوا وَمَثّلُوا بِهِمْ وَنَالُوا مِنْهُمْ مَا نَالُوهُ ؟ فَقَالَ لَوْلَا عَفْوُهُ عَنْهُمْ لَاسْتَأْصَلَهُمْ وَلَكِنْ بِعَفْوِهِ عَنْهُمْ دَفَعَ عَنْهُمْ عَدُوّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى اسْتِئْصَالِهِم
[ إذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ . ...]
[ شَرْحُ فَأَثَابَكُمْ غَمّا بِغَمّ ]
(18/128)
ثُمّ ذَكّرَهُمْ بِحَالِهِمْ وَقْتَ الْفِرَارِ مُصْعِدِينَ أَيْ جَادّينَ فِي الْهَرَبِ وَالذّهَابِ فِي الْأَرْضِ أَوْ صَاعِدِينَ فِي الْجَبَلِ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نَبِيّهِمْ وَلَا أَصْحَابِهِمْ وَالرّسُولُ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ إلَى عِبَادِ اللّهِ أَنَا رَسُولُ اللّهِ فَأَثَابَهُمْ بِهَذَا الْهَرَبِ وَالْفِرَارِ غَمّا بَعْدَ غَمّ غَمّ الْهَزِيمَةِ وَالْكَسْرَةِ وَغَمّ صَرْخَةِ الشّيْطَانِ فِيهِمْ بِأَنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ . وَقِيلَ جَازَاكُمْ غَمّا بِمَا غَمَمْتُمْ رَسُولَهُ بِفِرَارِكُمْ عَنْهُ وَأَسْلَمْتُمُوهُ إلَى عَدُوّهِ فَالْغَمّ الّذِي حَصَلَ لَكُمْ جَزَاءً عَلَى الْغَمّ الّذِي أَوْقَعْتُمُوهُ بِنَبِيّهِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَظْهَرُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا : أَنّ قَوْلَهُ { لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ } تَنْبِيهٌ عَلَى حِكْمَةِ هَذَا الْغَمّ بَعْدَ الْغَمّ وَهُوَ أَنْ يُنْسِيَهُمْ الْحُزْنَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ أَصَابَهُمْ مِنْ الْهَزِيمَةِ وَالْجِرَاحِ فَنَسُوا بِذَلِكَ السّبَبَ وَهَذَا إنّمَا يَحْصُلُ بِالْغَمّ الّذِي يَعْقُبُهُ غَمّ آخَرُ . الثّانِي : أَنّهُ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ فَإِنّهُ حَصَلَ لَهُمْ غَمّ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ ثُمّ أَعْقَبَهُ غَمّ الْهَزِيمَةِ ثُمّ غَمّ الْجِرَاحِ الّتِي أَصَابَتْهُمْ ثُمّ غَمّ الْقَتْلِ ثُمّ غَمّ سَمَاعِهِمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ قُتِلَ ثُمّ غَمّ ظُهُورِ أَعْدَائِهِمْ عَلَى الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَمّيْنَ اثْنَيْنِ خَاصّةً بَلْ غَمّا مُتَتَابِعًا لِتَمَامِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ . الثّالِثُ أَنّ قَوْلَهُ
(18/129)
" بِغَمّ " مِنْ تَمَامِ الثّوَابِ لَا أَنّهُ سَبَبُ جَزَاءِ الثّوَابِ وَالْمَعْنَى : أَثَابَكُمْ غَمّا مُتّصِلًا بِغَمّ جَزَاءً عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنْ الْهُرُوبِ وَإِسْلَامِهِمْ نَبِيّهُمْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ وَتَرْكِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ لَهُ فِي لُزُومِ مَرْكَزِهِمْ وَتَنَازُعِهِمْ فِي الْأَمْرِ وَفَشَلِهِمْ وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يُوجِبُ غَمّا يَخُصّهُ فَتَرَادَفَتْ عَلَيْهِمْ الْغُمُومُ كَمَا تَرَادَفَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُهَا وَمُوجِبَاتُهَا وَلَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُمْ بِعَفْوِهِ لَكَانَ أَمْرًا آخَرَ . وَمِنْ لُطْفِهِ بِهِمْ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنّ هَذِهِ الْأُمُورَ الّتِي صَدَرَتْ مِنْهُمْ كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ الطّبَاعِ وَهِيَ مِنْ بَقَايَا النّفُوسِ الّتِي تَمْنَعُ مِنْ النّصْرَةِ الْمُسْتَقِرّةِ فَقَيّضَ لَهُمْ بِلُطْفِهِ أَسْبَابًا أَخْرَجَهَا مِنْ الْقُوّةِ إلَى الْفِعْلِ فَتَرَتّبَ عَلَيْهَا آثَارُهَا الْمَكْرُوهَةُ فَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنّ التّوْبَةَ مِنْهَا وَالِاحْتِرَازَ مِنْ أَمْثَالِهَا وَدَفْعَهَا بِأَضْدَادِهَا أَمْرٌ مُتَعَيّنٌ لَا يَتِمّ لَهُمْ الْفَلَاحُ وَالنّصْرَةُ الدّائِمَةُ الْمُسْتَقِرّةُ إلّا بِهِ فَكَانُوا أَشَدّ حَذَرًا بَعْدَهَا وَمَعْرِفَةً بِالْأَبْوَابِ الّتِي دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا .
وَرُبّمَا صَحّتْ الْأَجْسَامُ بِالْعِلَلِ
[ ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُعَاسًا]
[ مَعْنَى ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ ]
(18/130)
ثُمّ إنّهُ تَدَارَكَهُمْ سُبْحَانَهُ بِرَحْمَتِهِ وَخَفّفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْغَمّ وَغَيّبَهُ عَنْهُمْ بِالنّعَاسِ الّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ أَمْنًا مِنْهُ وَرَحْمَةً وَالنّعَاسُ فِي الْحَرْبِ عَلَامَةُ النّصْرَةِ وَالْأَمْنِ كَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْر ٍ وَأَخْبَرَ أَنّ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ النّعَاسُ فَهُوَ مِمّنْ أَهَمّتْهُ نَفْسُهُ لَا دِينُهُ وَلَا نَبِيّهُ وَلَا أَصْحَابُهُ وَأَنّهُمْ يَظُنّونَ بِاَللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ وَقَدْ فُسّرَ هَذَا الظّنّ الّذِي لَا يَلِيقُ بِاَللّهِ بِأَنّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَأَنّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلّ وَأَنّهُ يُسْلِمُهُ لِلْقَتْلِ وَقَدْ فُسّرَ بِظَنّهِمْ أَنّ مَا أَصَابَهُمْ لَمْ يَكُنْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَلَا حِكْمَةَ لَهُ فِيهِ فَفُسّرَ بِإِنْكَارِ الْحِكْمَةِ وَإِنْكَارِ الْقَدَرِ وَإِنْكَارِ أَنْ يُتِمّ أَمْرَ رَسُولِهِ وَيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَهَذَا هُوَ ظَنّ السّوْءِ الّذِي ظَنّهُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ( سُورَةِ الْفَتْحِ حَيْثُ يَقُولُ { وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ السّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدّ لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [ الْفَتْحُ 6 ] وَإِنّمَا كَانَ هَذَا ظَنّ السّوْءِ وَظَنّ الْجَاهِلِيّةِ الْمَنْسُوبَ إلَى أَهْلِ الْجَهْلِ وَظَنّ غَيْرِ الْحَقّ لِأَنّهُ ظَنّ غَيْرِ مَا يَلِيقُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَذَاتِهِ الْمُبَرّأَةِ مِنْ كُلّ
(18/131)
عَيْبٍ وَسُوءٍ بِخِلَافِ مَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَتَفَرّدِهِ بِالرّبُوبِيّةِ وَالْإِلَهِيّهِ وَمَا يَلِيقُ بِوَعْدِهِ الصّادِقِ الّذِي لَا يُخْلِفُهُ وَبِكَلِمَتِهِ الّتِي سَبَقَتْ لِرُسُلِهِ أَنّهُ يَنْصُرُهُمْ وَلَا يَخْذُلُهُمْ وَلِجُنْدِهِ بِأَنّهُمْ هُمْ الْغَالِبُونَ فَمَنْ ظَنّ بِأَنّهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَلَا يُتِمّ أَمْرَهُ وَلَا يُؤَيّدُهُ وَيُؤَيّدُ حِزْبَهُ وَيُعْلِيهِمْ وَيُظْفِرُهُمْ بِأَعْدَائِهِ وَيُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِمْ وَأَنّهُ لَا يَنْصُرُ دِينَهُ وَكِتَابَهُ وَأَنّهُ يُدِيلُ الشّرْكَ عَلَى التّوْحِيدِ وَالْبَاطِلَ عَلَى الْحَقّ إدَالَةً مُسْتَقِرّةً يَضْمَحِلّ مَعَهَا التّوْحِيدُ وَالْحَقّ اضْمِحْلَالًا لَا يَقُومُ بَعْدَهُ أَبَدًا فَقَدْ ظَنّ بِاَللّهِ ظَنّ السّوْءِ وَنَسَبَهُ إلَى خِلَافِ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ فَإِنّ حَمْدَهُ وَعِزّتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَإِلَهِيّتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ وَتَأْبَى أَنْ يُذَلّ حِزْبُهُ وَجُنْدُهُ وَأَنْ تَكُونَ النّصْرَةُ الْمُسْتَقِرّةُ وَالظّفَرُ الدّائِمُ لِأَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ الْعَادِلِينَ بِهِ فَمَنْ ظَنّ بِهِ ذَلِكَ فَمَا عَرَفَهُ وَلَا عَرَفَ أَسَمَاءَهُ وَلَا عَرَفَ صِفَاتِهِ وَكَمَالَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَمَا عَرَفَهُ وَلَا عَرَفَ رُبُوبِيّتَهُ وَمُلْكَهُ وَعَظَمَتَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدّرَ مَا قَدّرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ لِحِكْمَةٍ صَدَرَ عَنْ مَشِيئَةٍ مُجَرّدَةٍ عَنْ حِكْمَةٍ وَغَايَةٍ مَطْلُوبَةٍ هِيَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ فَوْتِهَا وَأَنّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ
(18/132)
الْمَكْرُوهَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهَا لَا يَخْرُجُ تَقْدِيرُهَا عَنْ الْحِكْمَةِ لِإِفْضَائِهَا إلَى مَا يُحِبّ وَإِنْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً لَهُ فَمَا قَدّرَهَا سُدًى وَلَا أَنْشَأَهَا عَبَثًا وَلَا خَلَقَهَا بَاطِلًا { ذَلِكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ } وَأَكْثَرُ النّاسِ يَظُنّونَ بِاَللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ السّوْءِ فِيمَا يَخْتَصّ بِهِمْ وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ وَلَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ إلّا مَنْ عَرَفَ اللّهَ وَعَرَفَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَعَرَفَ مُوجِبَ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ فَمَنْ قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَأَيِسَ مِنْ رُوحِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ جَوّزَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَذّبَ أَوْلِيَاءَهُ مَعَ إحْسَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ وَيُسَوّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ خَلْقَهُ سُدًى مُعَطّلِينَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنّهْيِ وَلَا يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ وَلَا يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ بَلْ يَتْرُكُهُمْ هَمَلًا كَالْأَنْعَامِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ لَنْ يَجْمَعَ عَبِيدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِلثّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي دَارٍ يُجَازِي الْمُحْسِنَ فِيهَا بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ وَيُبَيّنَ لِخَلْقِهِ حَقِيقَةَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَيُظْهِرَ لِلْعَالَمِينَ كُلّهِمْ صِدْقَهُ وَصِدْقَ رُسُلِهِ وَأَنّ أَعْدَاءَهُ كَانُوا هُمْ الْكَاذِبِينَ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ يُضِيعُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ الصّالِحَ الّذِي عَمِلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَلَى
(18/133)
امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَيُبْطِلُهُ عَلَيْهِ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ أَنّهُ يُعَاقِبُهُ بِمَا لَا صُنْعَ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا إرَادَةَ فِي حُصُولِهِ بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَى فِعْلِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ بِهِ أَوْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَيّدَ أَعْدَاءَهُ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الّتِي يُؤَيّدُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَيُجْرِيهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ يُضِلّونَ بِهَا عِبَادَهُ وَأَنّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلّ شَيْءٍ حَتّى تَعْذِيبُ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ فَيُخَلّدُهُ فِي أَسْفَلَ السّافِلِينَ وَيُنَعّمُ مَنْ اسْتَنْفَدَ عُمُرَهُ فِي عَدَاوَتِهِ وَعَدَاوَةِ رُسُلِهِ وَدِينِهِ فَيَرْفَعُهُ إلَى أَعْلَى عِلّيّينَ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ فِي الْحُسْنِ سَوَاءٌ وَلَا يُعْرَفُ امْتِنَاعُ أَحَدِهِمَا وَوُقُوعُ الْآخَرِ إلّا بِخَبَرٍ صَادِقٍ وَإِلّا فَالْعَقْلُ لَا يَقْضِي بِقُبْحِ أَحَدِهِمَا وَحُسْنِ الْآخَرِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ بَاطِلٌ وَتَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ وَتَرْكُ الْحَقّ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ وَإِنّمَا رَمَزَ إلَيْهِ رُمُوزًا بَعِيدَةً وَأَشَارَ إلَيْهِ إشَارَاتٍ مُلْغِزَةً لَمْ يُصَرّحْ بِهِ وَصَرّحَ دَائِمًا بِالتّشْبِيهِ وَالتّمْثِيلِ وَالْبَاطِلِ وَأَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ أن يُتْعِبُوا أَذْهَانَهُمْ وَقُوَاهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِي تَحْرِيفِ كَلَامِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْوِيلِهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَيَتَطّلَبُوا لَهُ وُجُوهَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ وَالتّأْوِيلَاتِ(18/134)
الّتِي هِيَ بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْكَشْفِ وَالْبَيَانِ وَأَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى عُقُولِهِمْ وَآرَائِهِمْ لَا عَلَى كِتَابِهِ بَلْ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَحْمِلُوا كَلَامَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ مِنْ خِطَابِهِمْ وَلُغَتِهِمْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يُصَرّحَ لَهُمْ بِالْحَقّ الّذِي يَنْبَغِي التّصْرِيحُ بِهِ وَيُرِيحَهُمْ مِنْ الْأَلْفَاظِ الّتِي تُوقِعُهُمْ فِي اعْتِقَادِ الْبَاطِلِ فَلَمْ يَفْعَلْ بَلْ سَلَكَ بِهِمْ خِلَافَ طَرِيقِ الْهُدَى وَالْبَيَانِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ فَإِنّهُ إنْ قَالَ إنّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى التّعْبِيرِ عَنْ الْحَقّ بِاللّفْظِ الصّرِيحَ الّذِي عَبّرَ بِهِ هُوَ وَسَلَفُهُ فَقَدْ ظَنّ بِقُدْرَتِهِ الْعَجْزَ وَإِنْ قَالَ إنّهُ قَادِرٌ وَلَمْ يُبَيّنْ وَعَدَلَ عَنْ الْبَيَانِ وَعَنْ التّصْرِيحِ بِالْحَقّ إلَى مَا يُوهِمُ بَلْ يُوقِعُ فِي الْبَاطِلِ الْمُحَالِ وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ فَقَدْ ظَنّ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ظَنّ السّوْءِ وَظَنّ أَنّهُ هُوَ وَسَلَفُهُ عَبّرُوا عَنْ الْحَقّ بِصَرِيحِهِ دُونَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنّ الْهُدَى وَالْحَقّ فِي كَلَامِهِمْ وَعِبَارَاتِهِمْ . وَأَمّا كَلَامُ اللّهِ فَإِنّمَا يُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِهِ التّشْبِيهُ وَالتّمْثِيلُ وَالضّلَالُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُتَهَوّكِينَ ظَنّ السّوْءِ وَمِنْ الظّانّينَ بِهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ كَانَ مُعَطّلًا مِنْ
(18/135)
الْأَزَلِ إلَى الْأَبَدِ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يُوصَفُ حِينَئِذٍ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ ثُمّ صَارَ قَادِرًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَعْلَمُ الْمَوْجُودَاتِ وَلَا عَدَدَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا النّجُومِ وَلَا بَنِي آدَمَ وَحَرَكَاتِهِمْ وَأَفْعَالَهُمْ وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَعْيَانِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ لَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ وَلَا عِلْمَ لَهُ وَلَا إرَادَةَ وَلَا كَلَامَ يَقُولُ بِهِ وَأَنّهُ لَمْ يُكَلّمْ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ وَلَا يَتَكَلّمُ أَبَدًا وَلَا قَالَ وَلَا يَقُولُ وَلَا لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ يَقُومُ بِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَأَنّ نِسْبَةَ ذَاتِهِ تَعَالَى إلَى عَرْشِهِ كَنِسْبَتِهَا إلَى أَسْفَلِ السّافِلِينَ وَإِلَى الْأَمْكِنَةِ الّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا وَأَنّهُ أَسْفَلُ كَمَا أَنّهُ أَعْلَى فَقَدْ ظَنّ بِهِ أَقْبَحَ الظّنّ وَأَسْوَأَهُ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ لَيْسَ يُحِبّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَيُحِبّ الْفَسَادَ كَمَا يُحِبّ الْإِيمَانَ وَالْبِرّ وَالطّاعَةَ وَالْإِصْلَاحَ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ لَا يُحِبّ وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ وَلَا يَسْخَطُ وَلَا يُوَالِي أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ أَحَدٌ وَأَنّ ذَوَاتَ الشّيَاطِينِ فِي الْقُرْبِ مِنْ ذَاتِهِ كَذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ
(18/136)
الْمُقَرّبِينَ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُفْلِحِينَ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ يُسَوّي بَيْنَ الْمُتَضَادّيْنِ أَوْ يُفَرّقُ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ أَوْ يُحْبِطُ طَاعَاتِ الْعُمْرِ الْمَدِيدِ الْخَالِصَةِ الصّوَابِ بِكَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ تَكُونُ بَعْدَهَا فَيَخْلُدُ فَاعِلُ تِلْكَ الطّاعَاتِ فِي النّارِ أَبَدَ الْآبِدِينَ بِتِلْكَ الْكَبِيرَةِ وَيُحْبِطُ بِهَا جَمِيعَ طَاعَاتِهِ وَيُخَلّدُهُ فِي الْعَذَابِ كَمَا يُخَلّدُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَقَدْ اسْتَنْفَدَ سَاعَاتِ عُمْرِهِ فِي مَسَاخِطِهِ وَمُعَادَاةِ رُسُلِهِ وَدِينِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ ظَنّ بِهِ خِلَافَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ أَوْ عَطّلَ حَقَائِقَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ أَنّ لَهُ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا أَوْ أَنّ أَحَدًا يَشْفَعُ عِنْدَهُ بِدُونِ إذْنِهِ أَوْ أَنّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَسَائِطَ يَرْفَعُونَ حَوَائِجَهُمْ إلَيْهِ أَوْ أَنّهُ نَصَبَ لِعِبَادِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ يَتَقَرّبُونَ بِهِمْ إلَيْهِ وَيَتَوَسّلُونَ بِهِمْ إلَيْهِ وَيَجْعَلُونَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَيَدْعُونَهُمْ وَيُحِبّونَهُمْ كَحُبّهِ وَيَخَافُونَهُمْ وَيَرْجُونَهُمْ فَقَدْ ظَنّ بِهِ أَقْبَحَ الظّنّ وَأَسْوَأَهُ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يَنَالُ مَا عِنْدَهُ بِمَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ كَمَا يَنَالُهُ بِطَاعَتِهِ وَالتّقَرّبِ إلَيْهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ خِلَافَ حِكْمَتِهِ وَخِلَافَ مُوجَبِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَهُوَ مِنْ
(18/137)
ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ إذَا تَرَكَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعَوّضْهُ خَيْرًا مِنْهُ أَوْ مَنْ فَعَلَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يَغْضَبُ عَلَى عَبْدِهِ وَيُعَاقِبُهُ وَيَحْرِمُهُ بِغَيْرِ جُرْمٍ وَلَا الْمَشِيئَةِ وَمَحْضِ الْإِرَادَةِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ إذَا صَدَقَهُ فِي الرّغْبَةِ وَالرّهْبَةِ وَتَضَرّعَ إلَيْهِ وَسَأَلَهُ وَاسْتَعَانَ بِهِ وَتَوَكّلَ عَلَيْهِ أَنّهُ يُخَيّبُهُ وَلَا يُعْطِيهِ مَا سَأَلَهُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ وَظَنّ بِهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يُثِيبُهُ إذَا عَصَاهُ بِمَا يُثِيبُهُ بِهِ إذَا أَطَاعَهُ وَسَأَلَهُ ذَلِكَ فِي دُعَائِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ خِلَافَ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ وَخِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ إذَا أَغْضَبَهُ وَأَسْخَطَهُ وَأَوْضَعَ فِي مَعَاصِيهِ ثُمّ اتّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَلِيّا وَدَعَا مَنْ دُونِهِ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا حَيّا أَوْ مَيّتًا يَرْجُو بِذَلِكَ أَنْ يَنْفَعَهُ عِنْدَ رَبّهِ وَيُخَلّصَهُ مِنْ عَذَابِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي بُعْدِهِ مِنْ اللّهِ وَفِي عَذَابِهِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يُسَلّطُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْدَاءَهُ تَسْلِيطًا مُسْتَقِرّا دَائِمًا فِي حَيَاتِهِ وَفِي مَمَاتِهِ وَابْتَلَاهُ بِهِمْ لَا يُفَارِقُونَهُ فَلَمّا مَاتَ اسْتَبَدّوا بِالْأَمْرِ دُونَ وَصِيّةٍ وَظَلَمُوا أَهْلَ بَيْتِهِ وَسَلَبُوهُمْ
(18/138)
حَقّهُمْ وَأَذَلّوهُمْ وَكَانَتْ الْعِزّةُ وَالْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ لِأَعْدَائِهِ وَأَعْدَائِهِمْ دَائِمًا مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَلَا ذَنْبٍ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ الْحَقّ وَهُوَ يَرَى قَهْرَهُمْ لَهُمْ وَغَصْبَهُمْ إيّاهُمْ حَقّهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ دِينَ نَبِيّهِمْ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ وَجُنْدِهِ وَلَا يَنْصُرُهُمْ وَلَا يُدِيلُهُمْ بَلْ يُدِيلُ أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ أَبَدًا أَوْ أَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ حَصَلَ هَذَا بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَلَا مَشِيئَتِهِ ثُمّ جَعَلَ الْمُبَدّلِينَ لِدِينِهِ مُضَاجِعِيهِ فِي حُفْرَتِهِ تُسَلّمُ أُمّتُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ كُلّ وَقْتٍ كَمَا تَظُنّهُ الرّافِضَةُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ أَقْبَحَ الظّنّ وَأَسْوَأَهُ سَوَاءٌ قَالُوا : إنّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُمْ وَيَجْعَلَ لَهُمْ الدّوْلَةَ وَالظّفَرَ أَوْ أَنّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ذَلِكَ فَهُمْ قَادِحُونَ فِي قُدْرَتِهِ أَوْ فِي حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَذَلِكَ مِنْ ظَنّ السّوْءِ بِهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ الرّبّ الّذِي فَعَلَ هَذَا بَغِيضٌ إلَى مَنْ ظَنّ بِهِ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَفْعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ لَكِنْ رَفَوْا هَذَا الظّنّ الْفَاسِدَ بِخَرْقٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَاسْتَجَارُوا مِنْ الرّمْضَاءِ بِالنّارِ فَقَالُوا : لَمْ يَكُنْ هَذَا بِمَشِيئَةِ اللّهِ وَلَا لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِهِ وَنَصْرِ أَوْلِيَائِهِ فَإِنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ وَلَا هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَظَنّوا بِهِ ظَنّ إخْوَانِهِمْ الْمَجُوسِ وَالثّنَوِيّةِ بِرَبّهِمْ وَكُلّ مُبْطِلٍ وَكَافِرٍ وَمُبْتَدِعٍ مَقْهُورٍ مُسْتَذَلّ
(18/139)
فَهُوَ يَظُنّ بِرَبّهِ هَذَا الظّنّ وَأَنّهُ أَوْلَى بِالنّصْرِ وَالظّفَرِ وَالْعُلُوّ مِنْ خُصُومِهِ فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ بَلْ كُلّهُمْ إلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ يَظُنّونَ بِاَللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ السّوْءِ فَإِنّ غَالِبَ بَنِي آدَمَ يَعْتَقِدُ أَنّهُ مَبْخُوسُ الْحَقّ نَاقِصُ الْحَظّ وَأَنّهُ يَسْتَحِقّ فَوْقَ مَا أَعْطَاهُ اللّهُ وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ ظَلَمَنِي رَبّي وَمَنَعَنِي مَا أَسْتَحِقّهُ وَنَفْسُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ بِلِسَانِهِ يُنْكِرُهُ وَلَا يَتَجَاسَرُ عَلَى التّصْرِيحِ بِهِ وَمَنْ فَتّشَ نَفْسَهُ وَتَغَلْغَلَ فِي مَعْرِفَةِ دَفَائِنِهَا وَطَوَايَاهَا رَأَى ذَلِكَ فِيهَا كَامِنًا كُمُونَ النّارِ فِي الزّنَادِ فَاقْدَحْ زِنَادَ مَنْ شِئْت يُنْبِئْك شَرَارُهُ عَمّا فِي زِنَادِهِ وَلَوْ فَتّشْت مَنْ فَتّشْته لَرَأَيْت عِنْدَهُ تَعَتّبًا عَلَى الْقَدَرِ وَمَلَامَةً لَهُ وَاقْتِرَاحًا عَلَيْهِ خِلَافَ مَا جَرَى بِهِ وَأَنّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا فَمُسْتَقِلّ وَمُسْتَكْثِرٌ وَفَتّشْ نَفْسَك هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ ذَلِكَ .
فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ
وَإِلّا فَإِنّي لَا إِخَالُك نَاجِيًا
(18/140)
فَلْيَعْتَنِ اللّبِيبُ النّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَلْيَتُبْ إلَى اللّهِ تَعَالَى وَلِيَسْتَغْفِرْهُ كُلّ وَقْتٍ مِنْ ظَنّهِ بِرَبّهِ ظَنّ السّوْءِ وَلْيَظُنّ السّوءَ بِنَفْسِهِ الّتِي هِيَ مَأْوَى كُلّ سُوءٍ وَمَنْبَعُ كُلّ شَرّ الْمُرَكّبَةُ عَلَى الْجَهْلِ وَالظّلْمِ فَهِيَ أَوْلَى بِظَنّ السّوءِ مِنْ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْدَلِ الْعَادِلِينَ وَأَرْحَمِ الرّاحِمِينَ الْغَنِيّ الْحَمِيدِ الّذِي لَهُ الْغِنَى التّامّ وَالْحَمْدُ التّامّ وَالْحِكْمَةُ التّامّةُ الْمُنَزّهُ عَنْ كُلّ سُوءٍ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ فَذَاتُهُ لَهَا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلّ وَجْهٍ وَصِفَاتُهُ كَذَلِكَ وَأَفْعَالُهُ كَذَلِكَ كُلّهَا حِكْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَرَحْمَةٌ وَعَدْلٌ وَأَسْمَاؤُهُ كُلّهَا حُسْنَى
فَلَا تَظُنّنّ بِرَبّك ظَنّ سَوْءٍ فَإِنّ اللّهَ أَوْلَى بِالْجَمِيلِ
وَلَا تَظُنّنّ بِنَفْسِكَ قَطّ خَيْرًا وَكَيْفَ بِظَالِمٍ جَانٍ جَهُولِ
وَقُلْ يَا نَفْسُ مَأْوَى كُلّ سُوءٍ أَيُرْجَى الْخَيْرُ مِنْ مَيْتٍ بَخِيلِ
وَظُنّ بِنَفْسِكَ السّوآى تَجِدْهَا كَذَاكَ وَخَيْرُهَا كَالْمُسْتَحِيلِ
وَمَا بِكَ مِنْ تُقًى فِيهَا وَخَيْرٍ فَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرّبّ الْجَلِيلِ
وَلَيْسَ بِهَا وَلَا مِنْهَا وَلَكِنْ مِنْ الرّحْمَنِ فَاشْكُرْ لِلدّلِيلِ
(18/141)
وَالْمَقْصُودِ مَا سَاقَنَا إلَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ } [ آل عِمْرَانَ 154 ] ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ الْكَلَامِ الّذِي صَدَرَ عَنْ ظَنّهِمْ الْبَاطِلِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ { هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ } [ آل عِمْرَانَ 154 ] وَقَوْلُهُمْ { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } [ آل عِمْرَانَ 154 ] فَلَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى وَالثّانِيَةِ إثْبَاتَ الْقَدَرِ وَرَدّ الْأَمْرِ كُلّهِ إلَى اللّهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقْصُودَهُمْ بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى لَمَا ذُمّوا عَلَيْهِ وَلَمَا حَسُنَ الرّدّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ { قُلْ إِنّ الْأَمْرَ كُلّهُ لِلّهِ } [ سُورَةُ آلُ عِمْرَانَ ] وَلَا كَانَ مَصْدَرَ هَذَا الْكَلَامِ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسّرِينَ إنّ ظَنّهُمْ الْبَاطِلَ هَا هُنَا : هُوَ التّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ وَظَنّهُمْ أَنّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ إلَيْهِمْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ تَبَعًا لَهُمْ يَسْمَعُونَ مِنْهُمْ لَمَا أَصَابَهُمْ الْقَتْلُ وَلَكَانَ النّصْرُ وَالظّفَرُ لَهُمْ فَأَكْذَبَهُمْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي هَذَا الظّنّ الْبَاطِلِ الّذِي هُوَ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ وَهُوَ الظّنّ الْمَنْسُوبُ إلَى أَهْلِ الْجَهْلِ الّذِينَ يَزْعُمُونَ بَعْدَ نَفَاذِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الّذِي لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ نَفَاذِهِ أَنّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى دَفْعِهِ وَأَنّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ إلَيْهِمْ لَمَا نَفَذَ الْقَضَاءُ فَأَكْذَبَهُمْ اللّهُ
(18/142)
بِقَوْلِهِ { قُلْ إِنّ الْأَمْرَ كُلّهُ لِلّهِ } فَلَا يَكُونُ إلّا مَا سَبَقَ بِهِ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ وَجَرَى بِهِ عِلْمُهُ وَكِتَابُهُ السّابِقُ وَمَا شَاءَ اللّهُ كَانَ وَلَا بُدّ شَاءَ النّاسُ أَمْ أَبَوْا وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ شَاءَهُ النّاسُ أَمْ لَمْ يَشَاءُوهُ وَمَا جَرَى عَلَيْكُمْ مِنْ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ فَبِأَمْرِهِ الْكَوْنِيّ الّذِي لَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ سَوَاءٌ كَانَ لَكُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَأَنّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَقَدْ كُتِبَ الْقَتْلُ عَلَى بَعْضِكُمْ لَخَرَجَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ مِنْ بُيُوتِهِمْ إلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلَا بُدّ سَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْرِ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ إبْطَالًا لِقَوْلِ الْقَدَرِيّةِ النّفَاةِ الّذِينَ يُجَوّزُونَ أَنْ يَقَعَ مَا لَا يَشَاؤُهُ اللّهُ وَأَنْ يَشَاءَ مَا لَا يَقَعُ .
فَصْلٌ [ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ ]
ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حِكْمَةٍ أُخْرَى فِي هَذَا التّقْدِيرِ هِيَ ابْتِلَاءُ مَا فِي صُدُورِهِمْ وَهُوَ اخْتِبَارُ مَا فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالنّفَاقِ فَالْمُؤْمِنُ لَا يَزْدَادُ بِذَلِكَ إلّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا وَالْمُنَافِقُ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ لَا بُدّ أَنْ يَظْهَرَ مَا فِي قَلْبِهِ عَلَى جَوَارِحِهِ وَلِسَانِهِ .
[ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ](18/143)
ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى : وَهُوَ تَمْحِيصُ مَا فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ تَخْلِيصُهُ وَتَنْقِيَتُهُ وَتَهْذِيبُهُ فَإِنّ الْقُلُوبَ يُخَالِطُهَا بِغَلَبَاتِ الطّبَائِعِ ؟ وَمَيْلِ النّفُوسِ وَحُكْمِ الْعَادَةِ وَتَزْيِينِ الشّيْطَانِ وَاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ مَا يُضَادّ مَا أُودِعَ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْبِرّ وَالتّقْوَى فَلَوْ تُرِكَتْ فِي عَافِيَةٍ دَائِمَةٍ مُسْتَمِرّةٍ لَمْ تَتَخَلّصْ مِنْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَلَمْ تَتَمَحّصْ مِنْهُ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الْعَزِيزِ أَنْ قَيّضَ لَهَا مِنْ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا مَا يَكُونُ كَالدّوَاءِ الْكَرِيهِ لِمَنْ عَرَضَ لَهُ دَاءٌ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ طَبِيبُهُ بِإِزَالَتِهِ وَتَنْقِيَتِهِ مِنْ جَسَدِهِ وَإِلّا خِيفَ عَلَيْهِ مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْهَلَاكُ فَكَانَتْ نِعْمَتُهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةِ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ تُعَادِلُ نِعْمَتُهُ عَلَيْهِمْ بِنَصْرِهِمْ وَتَأْيِيدِهِمْ وَظَفَرِهِمْ بِعَدُوّهِمْ فَلَهُ عَلَيْهِمْ النّعْمَةُ التّامّةُ فِي هَذَا وَهَذَا .
[ إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ ]
(18/144)
ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ تَوَلّي مَنْ تَوَلّى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الصّادِقِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَنّهُ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ فَاسْتَزَلّهُمْ الشّيْطَانُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ حَتّى تَوَلّوْا فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ جُنْدًا عَلَيْهِمْ ازْدَادَ بِهَا عَدُوّهُمْ قُوّةً فَإِنّ الْأَعْمَالَ جُنْدٌ لِلْعَبْدِ وَجُنْدٌ عَلَيْهِ وَلَا بُدّ فَلِلْعَبْدِ كُلّ وَقْتٍ سَرِيّةٌ مِنْ نَفْسِهِ تَهْزِمُهُ أَوْ تَنْصُرُهُ فَهُوَ يَمُدّ عَدُوّهُ بِأَعْمَالِهِ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ أَنّهُ يُقَاتِلُهُ بِهَا وَيَبْعَثُ إلَيْهِ سَرِيّةً تَغْزُوهُ مَعَ عَدُوّهِ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ أَنّهُ يَغْزُو عَدُوّهُ فَأَعْمَالُ الْعَبْدِ تَسُوقُهُ قَسْرًا إلَى مُقْتَضَاهَا مِنْ الْخَيْرِ وَالشّرّ وَالْعَبْدُ لَا يَشْعُرُ أَوْ يَشْعُرُ وَيَتَعَامَى فَفِرَارُ الْإِنْسَانِ مِنْ عَدُوّهِ وَهُوَ يُطِيقُهُ إنّمَا هُوَ بِجُنْدٍ مِنْ عَمَلِهِ بَعَثَهُ لَهُ الشّيْطَانُ وَاسْتَزَلّهُ بِهِ
[ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ ]
[ أَوَلَمّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ]
[ إثْبَاتُ الْقَدَرِ وَالسّبَبِ ]
(18/145)
ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ عَفَا عَنْهُمْ لِأَنّ هَذَا الْفِرَارَ لَمْ يَكُنْ عَنْ نِفَاقٍ وَلَا شَكّ وَإِنّمَا كَانَ عَارِضًا عَفَا اللّهُ عَنْهُ فَعَادَتْ شَجَاعَةُ الْإِيمَانِ وَثَبَاتُهُ إلَى مَرْكَزِهَا وَنِصَابِهَا ثُمّ كَرّرَ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ أَنّ هَذَا الّذِي أَصَابَهُمْ إنّمَا أُتُوا فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَبِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ فَقَالَ { أَوَلَمّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّى هَذَا ؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عِمْرَانَ 165 ] وَذَكَرَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِيمَا هُوَ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ فِي السّوَرِ الْمَكّيّةِ فَقَالَ { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشّورَى : 30 ] وَقَالَ { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النّسَاءُ 79 ] فَالْحَسَنَةُ وَالسّيّئَةُ هَا هُنَا : النّعْمَةُ وَالْمُصِيبَةُ فَالنّعْمَةُ مِنْ اللّهِ مَنّ بِهَا عَلَيْك وَالْمُصِيبَةُ إنّمَا نَشَأَتْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِك وَعَمَلِك فَالْأَوّلُ فَضْلُهُ وَالثّانِي عَدْلُهُ وَالْعَبْدُ يَتَقَلّبُ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ جَارٍ عَلَيْهِ فَضْلُهُ مَاضٍ فِيهِ حُكْمُهُ عَدْلٌ فِيهِ قَضَاؤُهُ . وَخَتَمَ الْآيَةَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ { إِنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } بَعْدَ قَوْلِهِ { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } إعْلَامًا لَهُمْ بِعُمُومِ قُدْرَتِهِ مَعَ عَدْلِهِ وَأَنّهُ عَادِلٌ قَادِرٌ وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتُ الْقَدَرِ وَالسّبَبِ فَذَكَرَ السّبَبَ وَأَضَافَهُ إلَى
(18/146)
نُفُوسِهِمْ وَذَكَرَ عُمُومَ الْقُدْرَةِ وَأَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ فَالْأَوّلُ يَنْفِي الْجَبْرَ وَالثّانِي يَنْفِي الْقَوْلَ بِإِبْطَالِ الْقَدَرِ فَهُوَ يُشَاكِلُ قَوْلَهُ { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ } [ التّكْوِيرُ 30 ] .
[ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ ]
[ وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ نَافَقُوا ]
(18/147)
وَفِي ذِكْرِ قُدْرَتِهِ هَا هُنَا نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنّ هَذَا الْأَمْرَ بِيَدِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَأَنّهُ هُوَ الّذِي لَوْ شَاءَ لَصَرَفَهُ عَنْكُمْ فَلَا تَطْلُبُوا كَشْفَ أَمْثَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا تَتّكِلُوا عَلَى سِوَاهُ وَكَشَفَ هَذَا الْمَعْنَى وَأَوْضَحَهُ كُلّ الْإِيضَاحِ بِقَوْلِهِ { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ } وَهُوَ الْإِذْنُ الْكَوْنِيّ الْقَدَرِيّ لَا الشّرْعِيّ الدّينِيّ كَقَوْلِهِ فِي السّحْرِ { وَمَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ } [ الْبَقَرَةُ 102 ] ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ حِكْمَةِ هَذَا التّقْدِيرِ وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ عِلْمَ عِيَانٍ وَرُؤْيَةٍ يَتَمَيّزُ فِيهِ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْآخَرِ تَمْيِيزًا ظَاهِرًا وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ هَذَا التّقْدِيرِ رَدّ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَجَوَابَهُ لَهُمْ وَعَرَفُوا مُؤَدّى النّفَاقِ وَمَا يَئُولُ إلَيْهِ وَكَيْفَ يُحْرَمُ صَاحِبُهُ سَعَادَةَ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيَعُودُ عَلَيْهِ بِفَسَادِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَلّهِ كَمْ مِنْ حِكْمَةٍ فِي ضِمْنِ هَذِهِ الْقِصّةِ بَالِغَةٍ وَنِعْمَةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَابِغَةٍ وَكَمْ فِيهَا مِنْ تَحْذِيرٍ وَتَخْوِيفٍ وَإِرْشَادٍ وَتَنْبِيهٍ وَتَعْرِيفٍ بِأَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالشّرّ وَمَا لَهُمَا وَعَاقِبَتُهُمَا .
[ وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا ]
[ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّهِ ]
[ لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ](18/148)
ثُمّ عَزّى نَبِيّهُ وَأَوْلِيَاءَهُ عَمّنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي سَبِيلِهِ أَحْسَنَ تَعْزِيَةٍ وَأَلْطَفَهَا وَأَدْعَاهَا إلَى الرّضَى بِمَا قَضَاهُ لَهَا فَقَالَ { وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ آل عِمْرَانَ 169 - 170 ] فَجَمَعَ لَهُمْ إلَى الْحَيَاةِ الدّائِمَةِ مَنْزِلَةَ الْقُرْبِ مِنْهُ وَأَنّهُمْ عِنْدَهُ وَجَرَيَانَ الرّزْقِ الْمُسْتَمِرّ عَلَيْهِمْ وَفَرَحِهِمْ بِمَا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَهُوَ فَوْقَ الرّضَى بَلْ هُوَ كَمَالُ الرّضَى وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِإِخْوَانِهِمْ الّذِينَ بِاجْتِمَاعِهِمْ بِهِمْ يَتِمّ سُرُورُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِمَا يُجَدّدُ لَهُمْ كُلّ وَقْتٍ مَنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَذَكّرَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ الّتِي إنْ قَابَلُوا بِهَا كُلّ مِحْنَةٍ تَنَالهُمْ وَبَلِيّةٍ تَلَاشَتْ فِي جَنْبِ هَذِهِ الْمِنّةِ وَالنّعْمَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ الْبَتّةَ وَهِيَ مِنّتُهُ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إلَيْهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ الضّلَالِ الّذِي كَانُوا فِيهِ قَبْلَ إرْسَالِهِ إلَى الْهُدَى وَمِنْ الشّقَاءِ إلَى الْفَلَاحِ وَمِنْ الظّلْمَةِ إلَى النّورِ وَمِنْ الْجَهْلِ إلَى الْعِلْمِ فَكُلّ بَلِيّةٍ
(18/149)
وَمِحْنَةٍ تَنَالُ الْعَبْدَ بَعْدَ حُصُولِ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ لَهُ أَمْرٌ يَسِيرٌ جِدّا فِي جَنْبِ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ كَمَا يَنَالُ النّاسَ بِأَذَى الْمَطَرِ فِي جَنْبِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ فَأَعْلَمَهُمْ أَنّ سَبَبَ الْمُصِيبَةِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لِيَحْذَرُوا وَأَنّهَا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ لِيُوَحّدُوا وَيَتّكِلُوا وَلَا يَخَافُوا غَيْرَهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ الْحِكَمِ لِئَلّا يَتّهِمُوهُ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَلِيَتَعَرّفَ إلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَسَلّاهُمْ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِمّا هُوَ أَجَلّ قَدْرًا وَأَعْظَمُ خَطَرًا مِمّا فَاتَهُمْ مِنْ النّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَعَزّاهُمْ نَالُوهُ مِنْ ثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ لِيُنَافِسُوهُمْ فِيهِ وَلَا يَحْزَنُوا عَلَيْهِمْ فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزّ جَلَالِهِ. أ هـ {زاد المعاد حـ 3 صـ 196 ـ 216}(18/150)
قوله تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}
مناسبة الآيات لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أزاح سبحانه وتعالى العلل وشفى الغلل وختم بأنه لا مفر من القدر ، فلم يبق عند أهل الإيمان إلا ما طبع عليه الإنسان من الأسف على فقد الإخوان ، وكان سرور المفقود يبرد غلة الموجود بشرهم بحياتهم وما نالوه من لذاتهم ؛ ولما كان العرب بعيدين قبل الإسلام من اعتقاد الحياة بعد الموت خاطب الذي لا ريب في علمه بذلك إشارة إلى أنه لا يفهمه حق فهمه سواه ، كما أشار إليه قوله في البقرة {ولكن لا تشعرون} [ البقرة : 153 ] فقال تعالى عاطفاً على قل محبباً في الجهاد ، إزالة لما بغضه به المنافقون من أنه سبب الموت : {ولا تحسبن الذين قتلوا} أي وقع لهم القتل في هذه الغزوة أو غيرها {في سبيل الله} أي الملك الأعظم ، والله أعلم بمن يقتل في سبيله {أمواتاً} أي الآن {بل} هم {أحياء} وبين زيادة شرفهم معبراً عن تقربهم بقوله : {عند ربهم} أي المحسن إليهم في كل حال ، فكيف في حال قتلهم فيه حياة ليست كالحياة الدنيوية! فحقق حياتهم بقوله {يرزقون} أي رزقاً يليق بحياتهم {فرحين بما آتاهم الله} أي الحاوي لجميع الكمال من ذلك الفوز الكبير {من فضله} لأنه لو حاسبهم على أقل نعمة من نعمة لم توف جميع أعمالهم بها لأن أعمالهم من نعمه ، فأعلمنا سبحانه وتعالى بهذا تسلية وحسن تعزية أن لم يفت منهم إلا حياة الكدر التي لا مطمع لأحد في بقائها وإن طال المدى ، وبقيت لهم حياة الصفاء التي لا انفكاك لها ولا آخر لنعيمها بغم يلحقهم ولا فتنة تنالهم ولا حزن يعتريهم ولا دهش يلم بهم في وقت الحشر ولا غيره ، فلا غفلة لهم ، فكان ذلك مذهباً لحزن من خلفوه ومرغباً لهم في الأسباب الموصلة إلى مثل حالهم ، وهذا - والله سبحانه وتعالى أعلم - معنى الشهادة ، أي أنهم ليست لهم حال غيبة ، لأن دائم الحياة بلا كدر أصلاً كذلك.(18/151)
ولما ذكر سرورهم بما نالوه ذكر سرورهم بما علموه لمن هو على دينهم فقال : {ويستبشرون} أي توجد لهم البشرى وجوداً عظيم الثبات حتى كأنهم يوجدونها كلما أرادوا {بالذين لم يلحقوا بهم} أي في الشهادة في هذه الغزوة.
ثم بين ذلك بقوله : {من خلفهم} أي في الدنيا.
ثم يبن المبشر به فقال : {ألاّ خوف عليهم} أي على إخوانهم في آخرتهم {ولا هم يحزنون} أي أصلاً ، لأنه لا يفقد منه شيء ، بل هم كل لحظة في زيادة ، وهذا أعظم البشرى لمن تركوا على مثل حالهم من المؤمنين ، لأنهم يلحقونهم في مثل ذلك ، لأن السبب واحد ، وهو منحة الله لهم بالقتل فيه ، أو مطلق الإيمان لمطلق ما هم فيه من السعادة بغير قيد الشهادة.
ولما ذكر سرورهم لأنفسهم تارة ولإخوانهم أخرى كرره تعظيماً له وإعلاماً بأنه في الحقيقة عن غير استحقاق.
وإنما هو مجرد مَنّ فقال : {يستبشرون بنعمة من الله} أي ذي الجلال والإكرام ، كبيرة {وفضل} أي منه عظيم {وأن الله} أي الملك الأعظم الذي لا يقدره أحد حق قدره {لا يضيع أجر المؤمنين} أي منهم ومن غيرهم ، بل يوفيهم أجرهم على أعمالهم ويفضل عليهم ، ولو شاء لحاسبهم على سبيل العدل ، ولو فعل ذلك لم يكن لهم شيء. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 180 ـ 181}
وقال الفخر :
(18/152)
اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا : الجهاد يفضي إلى القتل ، كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد ، والقتل شيء مكروه ، فوجب الحذر عن الجهاد ، ثم إن الله تعالى بين أن قولهم : الجهاد يفضي إلى القتل باطل ، بأن القتل إنما يحصل بقضاء الله وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء الله وقدره ، فمن قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه ، ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل ، ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم أن القتل في سبيل الله شيء مكروه ، وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل الله أحياه الله بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة ، وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله إلى أجل مراتب الفرح والسرور ؟ فأي عاقل يقول إن مثل هذا القتل يكون مكروها ، فهذا وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 72}
وقال ابن عاشور :
قوله : { ولا تحسبن } عطف على { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت } [ آل عمران : 168 ] ، فلمّا أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العِنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سُدًى ، فقيل لهم : إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال ، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم ، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة ، فقال : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم.
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم تعليماً له ، وليُعلِّم المسلمين ، ويجوز أن يكون جارياً على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 282}(18/153)
فصل
قال القرطبى :
لمّا بيّن الله تعالى أنّ ما جرى يوم أُحُد كان امتحانا يُميّز المنافق من الصَّادق ، بيّن أن من لم ينْهَزِم فقُتل له الكرامةُ والحياةُ عنده.
والآية في شُهَداء أُحُد.
وقيل : نزلت في شهداء بئر مَعُونة.
وقيل : بل هي عامّة في جميع الشهداء.
وفي مصنف أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " "لمّا أُصيب إخوانكم بأُحُد جعل الله أرواحهم في جَوْف طَير خضر تَرِد أنهار الجنة تأكُل من ثمارها وتأوِي إلى قناديلَ من ذهب معلَّقةٍ في ظِلّ العَرْش فلما وجدوا طِيب مأْكَلِهم ومَشْرَبهم ومَقِيلهم قالوا مَن يُبلِّغ إخوانَنَا عنّا أنّا أحياءٌ في الجنة نُرْزَق لئلا يَزْهَدوا في الجهاد ولا يَنْكُلوا عند الحرب فقال الله سبحانه أنا أبلغهم عنكم" قال فأنزل الله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } إلى آخر الآيات " وروى بقِيّ بن مَخْلَد " عن جابر قال : لقِيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يا جابر ما لي أراك مُنَكِّساً مُهْتَمّاً" ؟ قلت : يا رسول الله ، اسْتُشْهِد أبِي وترك عِيالاً وعليه دَيْنٌ ؛ فقال : "ألاَ أُبَشِّرك بما لقي اللَّهُ عزّ وجلّ به أباك" ؟ قلت : بلى يا رسول الله.
قال : "إن الله أحْيَا أباك وكلمه كِفاحاً وما كلّم أحد قطُّ إلاَّ من وراء حجاب فقال له يا عبدي تَمنّ أُعْطِك قال يا رب فرُدّني إلى الدنيا فأُقْتَل فيك ثانيةً فقال الربّ تبارك وتعالى إنه قد سبق مِني أنهم ( إليها ) لا يرجعون قال يا ربّ فأبلغ مَن ورائي" فأنزل الله عزّ وجلّ { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } الآية " أخرجه ابن ماجه في سُنَنه ، والتَّرمذِيّ في جامعه وقال : هذا حديث حسن غرِيب.(18/154)
وروى وكيع عن سالم بن الأفْطَس عن سعيد بن جبير { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } قال : لما أُصيب حمزة بن عبد المطّلب ومُصْعَب بن عُمير ورأوا ما رُزقوا من الخير قالوا : ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رَغْبَةً ؛ فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } إلى قوله : { لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين }.
وقال أبو الضحى : نزلت هذه الآية في أهل أُحُد خاصّةً.
والحديثُ الأوّل يقتضي صحةَ هذا القول.
وقال بعضهم : نزلت في شهداء بَدْر وكانوا أربعة عشر رجلاً ؛ ثمانيةٌ من الأنصار ، وستة من المهاجرين.
وقيل : نزلت في شهداء بئر مَعُونة ، وقصتهم مشهورة ذكرها محمد بن إسحاق وغيره.
وقال آخرون : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة وسرور تحسّروا وقالوا : نحن في النعمة والسرور ، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور.
فأنزل الله تعالى هذه الآية تَنْفِيساً عنهم وإخباراً عن حال قتلاهم.
قلت : وبالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النّزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياءٌ في الجنة يُرزقون ، ولا مَحالَة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب ، وأرواحهم حيّة كأرواح سائر المؤمنين ، وفُضّلوا بالرزق في الجنّة من وقت القَتْل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 268 ـ 269}(18/155)
فائدة
قال فى روح البيان :
قال القاشانى الأفصح الأبلغ أن يجعل الخطاب فى { ولا تحسبن } لكل أحد لأنه أمر خطير يجب أن يبشر به كل واحد لتتوفر دواعيهم إلى الجهاد وليتيقنوا بحسن الجزاء وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم فالمراد به نهى الأمة وتنبيهم على حالهم وإلا فرسول الله أجل مرتبة من ذلك الحسبان. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 153}
فصل
قال الفخر :
هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد ، لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين ، والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين ، والله تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين إلى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل ، وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل إلى نعيم الدنيا وربما لم يصل ، وبتقدير أن يصل إليه فهو حقير وقليل ، ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم ، ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم ، واذا كان الأمر كذلك ظهر أن الإقبال على الجهاد أفضل من تركه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 72}(18/156)
فائدة
قال أبو السعود :
قال الإمام الواحدي : الأصحُ في حياة الشهداءِ ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن أرواحَهم في أجواف طيورٍ خُضْرٍ وأنهم يُرزقون ويأكْلون ويتنعمون. ورُوي عنه عليه السلام أنه قال : " لما أصيب إخوانُكم بأحُدٍ جعل الله أرواحَهم في أجواف طيورٍ خضْرٍ تدور في أنهار الجنة " وروي : " ترِدُ أنهارَ الجنةِ وتأكُل من ثمارها وتسرَح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديلَ من ذهب معلقةٍ في ظل العرشِ " وفيه دَلالةٌ على أن روحَ الإنسانِ جسمٌ لطيفٌ لا يفنى بخراب البَدَن ولا يتوقف عليه إدراكُه وتألُّمه والتذاذُه ، ومن قال بتجريد النفوسِ البشريةِ يقول : المرادُ أن نفوسَ الشهداءِ تتمثل طيوراً خُضْراً أو تتعلق بها فتلتذّ بما ذكر. وقيل : المرادُ أنها تتعلق بالأفلاك والكواكبِ فتلتذ بذلك وتكتسب زيادةَ كمالٍ. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 112}
وقال الآلوسى :
والقول بأن أرواحهم تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال قول هابط إلى الثرى ، ولا أظن القائل به قرع سمعه الروايات الصحيحة والأخبار الصريحة بل لم يذق طعم الشريعة الغراء ولا تراءى له منهج المحجة البيضاء وخبر القناديل لا ينور كلامه ولا يزيل ظلامه (1) فلعمري إن حال الشهداء وحياتهم وراء ذلك. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 122 ـ 123}
________________
(1) الحديث موجود فى صحيح مسلم برقم (1887) وسيأتى لاحقا إن شاء الله.(18/157)
بحث نفيس للعلامة الإمام فخر الدين الرازى
قال عليه الرحمة :
اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء ، فإما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا ، فإن كان المراد منه هو الحقيقة ، فإما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، أو المراد أنهم أحياء في الحال ، وبتقدير أن يكون هذا هو المراد ، فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية ، فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية.
الاحتمال الأول : أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، قد ذهب إليه جماعة من متكلمي المعتزلة ، منهم أبو القاسم الكعبي قال : وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى ، كانوا يقولون : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون إلى خير ، وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد ، فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل إليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة.
واعلم أن هذا القول عندنا باطل ، ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : أن قوله : {بَلْ أَحْيَاء} ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية ، فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر.
الحجة الثانية : إنه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والإحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة ، ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فإنه تعالى قال : {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [ نوح : 25 ] والفاء للتعقيب ، والتعذيب مشروط بالحياة ، وأيضا قال تعالى : {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [ غافر : 46 ] واذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب ، فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الإحسان والاثابة كان ذلك أولى.(18/158)
الحجة الثالثة : أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول عليه الصلاة والسلام : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك ، أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} لأنه عليه الصلاة والسلام لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف ، وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب اليهم.
فإن قيل : إنه عليه الصلاة والسلام وإن كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة ، فجاز أن يبشره الله بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور.
قلنا : قوله : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} إنما يتناول الموت لأنه قال : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا} فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة ، وقوله : {يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ} فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان فزال هذا السؤال.
الحجة الرابعة : قوله تعالى : {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ} والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا ، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة ، والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة ، فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة ، وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره.(18/159)
الحجة الخامسة : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفة الشهداء : " أن أرواحهم في أجواف طير خضر وإنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله تعالى بنا كي يرغبوا في الجهاد فقال الله تعالى : أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى هذه الآية "
وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية ، فقال : سألنا عنها فقيل لنا إن الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء ، وفي رواية في روضة خضراء ، وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ثم قال : ما تريد يا عبد الله بن عمرو أن فعل بك فقال يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيها مرة أخرى " والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التوتر ، فكيف يمكن إنكارها ؟ طعن الكعبي في هذه الروايات وقال : إنها غير جائزة لأن الأرواح لا تتنعم ، وإنما يتنعم الجسم إذا كان فيه روح لا الروح ، ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة ، وأيضا : الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الارواح في حواصل الطير ، وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح ، وهذا يناقض كونها في حواصل الطير.
والجواب : أما الطعن الأول : فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم ، وسنبين أن الأمر ليس كذلك ، وأما الطعن الثاني : فهو مدفوع لأن القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات ، فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال.(18/160)
وأما الوجه الثاني : من الوجوه المحتملة في هذه الآية هو أن المراد أن الشهداء أحياء في الحال ، والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح ، ومنهم من أثبتها للبدن ، وقبل الخوض في هذا الباب يجب تقديم مقدمة ، وهي أن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية ، ويدل عليه أمران : أحدهما : أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال ، والتبدل ، والانسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره ، والباقي مغاير للمتبدل ، والذي يؤكد ما قلناه : أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا ، وأنه يكون في أول الأمر صغير الجثة ، ثم إنه يكبر وينمو ، ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره فصح ما قلناه.
الثاني : أن الإنسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، فثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس ، ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم.
والدهن في السمسم ، وماء الورد في الورد.
ويحتمل أن يكون جوهراً قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم ، وعلى كلا المذهبين فإنه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا ، وان قلنا إنه أماته الله إلا أنه تعالى يعيد الحياة إليه ، وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر ، كما في هذه الآية ، وعن عذاب القبر كما في قوله : {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [ نوح : 25 ] فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك ، فظاهر الآية دال عليه ، فوجب المصير إليه ، والذي يؤكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل.
أما القرآن فآيات :(18/161)
إحداها : {يا أَيَّتُهَا النفس المطمئنة * ارجعى إلى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فادخلى فِى عِبَادِى * وادخلى جَنَّتِى} [ الفجر : 27 30 ] ولا شك أن المراد من قوله : {ارجعى إلى رَبّكِ} الموت.
ثم قال : {فادخلى فِى عِبَادِى} وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت ، وهذا يدل على ما ذكرناه ، وثانيها : {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ} [ الأنعام : 61 ] وهذا عبارة عن موت البدن.
ثم قال : {ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله مولاهم الحق} [ الأنعام : 62 ] فقوله : {رُدُّواْ} ضمير عنه.
وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة ، فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن ، وثالثها : قوله : {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ * وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ} [ الواقعة : 88 89 ] وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت ، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : " من مات فقد قامت قيامته " والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته ، وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند الله ، وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام : " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسلام يوم بدر كان ينادي المقتولين ويقول : " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا " فقيل له : يا رسول الله إنهم أموات ، فكيف تناديهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنهم أسمع منكم " أو لفظاً هذا معناه ، وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام : " أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار " وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد.
وأما المعقول فمن وجوه :
(18/162)
الأول : وهو أن وقت النوم يضعف البدن ، وضعفه لا يقتضي ضعف النفس ، بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات ، فإذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس ، فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس.
الثاني : وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ ، وجفافه يؤدي إلى الموت ، وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الالهية ، وهو غاية كمال النفس ، فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن ، وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن.
الثالث : أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن ، وذلك لأن النفس إنما تفرح وتبتهج بالمعارف الالهية ، والدليل عليه قوله تعالى : {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [ الرعد : 28 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس إلا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا ، فإنا نرى أن الإنسان إذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان ، أو بالفوز بمنصب ، أو بالوصول إلى معشوقه ، قد ينسى الطعام والشراب ، بل يصير بحيث لو دعي إلى الأكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه ، والعارفون المتوغلون في معرفة الله تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم إذا لاح لهم شيء من تلك الأنوار ، وانكشف لهم شيء من تلك الأسرار ، لم يحسوا ألبتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية ، وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن ، وإذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن ، ولتكن هذه الاقناعيات كافية في هذا المقام.(18/163)
واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الإشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه ، وإذا عرفت هذه القاعدة فنقول : قال بعض المفسرين : أرواح الشهداء أحياء وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة ، والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي" ".
واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله : {أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ} ولفظ "عند" فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله : {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [ الأنبياء : 19 ] فإذا فهمت السعادة الحاصلة للملائكة بكونهم عند الله ، فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند الله ، وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة.
الوجه الثالث : في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للأجساد ، والقائلون بهذا القول اختلفوا ، فقال بعضهم : إنه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات اليها ، ومنهم من قال : يتركها في الارض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها ، ومن الناس من طعن فيه وقال : إنا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع ، فاما أن يقال إن الله تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب اليها ، أو يقال : إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله تعالى ، ويؤلفها ويرد الحياة اليها ويوصل الثواب اليها ، وكل ذلك مستبعد ، ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد ، فإن جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة.
(18/164)
الوجه الرابع : في تفسير هذه الآية أن نقول : ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم ، بل المراد بعض المجازات وبيانه من وجوه :
الأول : قال الأصم البلخي : إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين ، وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة ، صح أن يقال : إنه حي وليس بميت ، كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتقع به أحد : إنه ميت وليس بحي ، وكما يقال للبليد : إنه حمار ، وللمؤذي إنه سبع ، وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال له : ما مات من خلف مثلك ، وبالجملة فلا شك أن الإنسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا ، فإنه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي.
الثاني : قال بعضهم مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم ، وانها لا تبلى تحت الأرض ألبتة.
واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشهداء ، أمر بأن ينادى : من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع ، قال جابر : فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان ، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما.
والثالث : أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات ، فهذا مجموع ما قيل في هذه الآية والله أعلم بأسرار المخلوقات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 72 ـ 76}(18/165)
من فوائد العلامة الجصاص فى الآية
قال عليه الرحمة :
وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }.
زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَحْيَاءً فِي الْجَنَّةِ ، قَالُوا : لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَجَازَ الْقَوْلُ بِالرَّجْعَةِ وَمَذْهَبِ أَهْلِ التَّنَاسُخِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَالَ الْجُمْهُورُ : " إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُنِيلُهُمْ مِنْ النَّعِيمِ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ إلَى أَنْ يُفْنِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ فِنَاءِ الْخَلْقِ ، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ " ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلِأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ فَائِدَتِهِ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ أَحْيَاءً مَعَ سَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، إذْ الْجَنَّةُ لَا يَكُونُ فِيهَا مَيِّتٌ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا وَصْفُهُ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَرِحُونَ عَلَى الْحَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِاَلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ قَدْ لَحِقُوا بِهِمْ.(18/166)
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَحْتَ الْعَرْشِ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ } ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَأَبِي حُذَيْفَةَ وَوَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِ التَّنَاسُخِ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ فِي ذَلِكَ رُجُوعُهُمْ إلَى دَارِ الدُّنْيَا فِي خِلَقٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فِي قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } وَأَخْبَرَ أَنَّ إحْيَاءَ الْمَوْتَى مُعْجِزَةٌ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَذَلِكَ يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَجْعَلُهُمْ حَيْثُ يَشَاءُ.
وقَوْله تَعَالَى : { عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } مَعْنَاهُ : حَيْثُ لَا يَقْدِرُ لَهُمْ أَحَدٌ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ إلَّا رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلَيْسَ يَعْنِي بِهِ قُرْبَ الْمَسَافَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ بِالْمَسَافَةِ ؛ إذْ هُوَ مِنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ.
وَقِيلَ : عِنْدَ رَبِّهِمْ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُهُمْ هُوَ دُونَ النَّاسِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 332 ـ 333}(18/167)
فصل
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد وقرىء بالياء ، وفيه وجوه :
أحدها : ولا يحسبن رسول الله.
والثاني : ولا يحسبن حاسب ، والثالث : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً قال : وقرىء {تَحْسَبَنَّ} بفتح السين ، وقرأ ابن عامر {قُتِلُواْ} بالتشديد والباقون بالتخفيف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 76}
فصل
قال القرطبى :
إذا كان الشَّهيد حيّاً حُكماً فلا يصلى عليه ، كالحيّ حِسّاً.
وقد اختلف العلماء في غُسل الشهداء والصّلاة عليهم ؛ فذهب مالك والشافعيّ وأبو حنيفة والثّوْريّ إلى غُسل جميع الشّهداء والصَّلاة عليهم ؛ إلاَّ قتيلَ المُعتَرك في قتال العدوّ خاصة ؛ لحديث جابر قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " "ادفنوهم بدمائهم" يعني يوم أُحُد ولم يُغسِّلهم " ، رواه البخاريّ.
وروى أبو داود عن ابن عباس قال : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أُحُد أن يُنزَع عنهم الحديدُ والجلودُ وأن يُدفَنُوا بِدمائهم وثيابهم " وبهذا قال أحمدُ وإسحاقُ والأوزاعيّ وداود بن عليّ وجماعةُ فُقَهاء الأمصار وأهل الحديث وابنُ عُلَيَّة.
وقال سعيد بن المُسَيّب والحَسَن : يُغسّلون.
قال أحدهما : إنما لن تُغَسِّل شهداء أُحُد لكثرتهم والشُّغل عن ذلك.
قال أبو عُمَر : ولم يقل بقول سعيد والحسن هذا أحد من فقهاء الأمصار إلاَّ عبيد الله بن الحسن العَنْبَري ، وليس ما ذكروا من الشُّغل عن غُسل شهداء أُحُد علّة ؛ لأن كل واحد منهم كان له وليٌّ يشتَغل به ويقوم بأمره.
والعلّة في ذلك والله أعلم.
ما جاء في الحديث في دمائهم " أنها تأتي يوم القيامة كريح الْمِسك " فَبَانَ أن العلّة ليست الشُّغل كما قال من قال في ذلك ، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر ، وإنما هي مسألة اتباع للأثر الذي نقله الكافّة في قتلى أُحُد لم يُغسّلوا.
وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن.
بقوله عليه السَّلام في شهداء أُحُد : " أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة " قال : وهذا يدل على خصوصهم وأنه لا يَشْرَكهم في ذلك غيرهم.
قال أبو عمر : وهذا يشبه الشذوذ ، والقول بترك غُسلهم أولى ؛ لثبوت ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قَتلى أُحُد وغيرهم.(18/168)
ورَوى أبو داود عن جابر قال : رُمِيَ رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرِج في ثيابه كما هو.
قال : ونحن مع رسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الصلاة عليهم فاختلف العلماء في ذلك أيضاً ؛ فذهب مالك واللّيث والشافعيّ وأحمد وداود إلى أنه لا يُصلّى عليهم ؛ لحديث جابر قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول : "أيُّهما أكثر أخْداً للقرآن" ؟ فإذا أُشير له إلى أحدِهما قدّمه في اللَّحد وقال : "أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يُغسّلوا ولم يُصل عليهم " وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام : يصلى عليهم.
وروَوْا آثاراً كثيرة أكثرها مراسيل.
أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى على حمزة وعلى سائر شهداء أُحد.
وأجمع العلماء على أن الشّهيد إذا حُمل حَيّاً ولم يَمت في الْمعتَرَك وعاش وأكلَ فإنه يصلى عليه ؛ كما قد صُنع بعمر رضي الله عنه.
واختلفوا فيمن قُتل مظلوماً كقتيل الخوارج وقُطّاع الطريق وشبه ذلك ؛ فقال أبو حنيفة والثّوري : كل من قتل مظلوماً لم يُغسّل ، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد ؛ وهو قول سائر أهلِ العِراق.
ورَوَوْا من طُرِق كثيرةٍ صحاح عن زيد بن صُوحان ، وكان قتل يوم الجَمَل : لا تَنزِعوا عنّي ثوباً ولا تَغسِلوا عني دَماً.
وثبت عن عمار بن ياسر أنه قال مثلَ قول زيد ابن صُوحان.
وقُتل عمار بن ياسِر بِصفّين ولم يغسّله عليّ.
وللشافعي قولان : أحدهما يُغسّل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب ؛ وهذا قول مالك.
قال مالك : لا يُغسّل من قتله الكفار ومات في المُعترك.
وكل مقتول غيرِ قتيلِ المُعتَرك قتيل الكفار فإنه يُغسّل ويُصلَّى عليه.
وهذا قول أحمد ابن حنبل رضي الله عنه.
والقول الآخر للشافعيّ لا يُغسّل قتيل البُغاة.
(18/169)
وقول مالك أصحّ ؛ فإنّ غُسل الموتى قد ثبت بالإجماع ونَقْلِ الكافّة.
فَواجبٌ غُسلُ كلِّ ميت إلا من أخرجه إجماعٌ أو سُنّةٌ ثابتة.
وبالله التوفيق.
العدوّ إذا صبّح قوماً في منزلهم ولم يَعلموا به فقتَلَ منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعتَرك ، أو حكم سائر الموتى ؛ وهذه المسألة نزلت عندنا بقُرطُبَة أعادها الله : أغَارَ العدوّ قَصَمه الله صَبيحَةَ الثّالثِ من رَمضانَ المُعظّم سنةَ سَبعٍ وعشرين وسِتّمائة والناس في أجْرانهم على غَفلة ، فقتَل وأسَر ، وكان من جُملة من قُتل والدي رحمه الله ؛ فسألت شيخنا المقرىء الأُستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال ؛ غَسّله وصلّ عليه ، فإن أباك لم يُقتَل في المُعتَرك بين الصَّفين.
ثم سألت شيخنا ربيعَ بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع بن أُبيّ فقال : إن حكمه حكم القتلى في المعترك.
ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن عليّ بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا : غسّله وكفّنه وصلّ عليه ؛ ففعلت.
ثم بعد ذلك وقَفتُ على المسألة في "التّبصرة" لأبي الحسن اللّخميّ وغيرها ، ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسّلته ، وكنت دفنته بدمه في ثيابه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 270 ـ 272}. بتصرف يسير.
قوله تعالى {بَلْ أَحْيَاء}
فصل
قال الفخر :
قوله : {بَلْ أَحْيَاء} قال الواحدي : التقدير : بل هم أحياء ، قال صاحب "الكشاف" : قرىء {أَحْيَاء} بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء.(18/170)
وأقول : إن الزجاج قال : ولو قرىء {أَحْيَاء} بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء ، وطعن أبو علي الفارسي فيه فقال : لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك والأمر بالشك غير جائز على الله ، ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب إليه أحد من علماء أهل اللغة ، وللزجاج أن يجيب فيقول : الحسبان ظن لا شك ، فلم قلتم إنه لا يجوز أن يأمر الله بالظن ، أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن.
وأقول : هذه المناظرة من الزجاج وأبي علي الفارسي تدل على أنه ما قرىء {أَحْيَاء} بالنصب بل الزجاج كان يدعي أن لها وجها في اللغة ، والفارسي نازعه فيه ، وليس كل ما له وجه في الإعراب جازت القراءة به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 76 ـ 77}
قوله تعالى : {عِندَ رَبّهِمْ}
فصل
قال الفخر :
فيه وجوه :
أحدها : بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا الله تعالى.
والثاني : هم أحياء عند ربهم ، أي هم أحياء في علمه وحكمه ، كما يقال : هذا عند الشافعي كذا ، وعند أبي حنيفة بخلافه.
والثالث : أن {عِندَ} معناه القرب والإكرام ، كقوله : {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [ الأنبياء : 19 ] وقوله : {الذين عِندَ رَبّكَ} [ الأعراف : 206 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 77}(18/171)
وقال ابن عاشور :
ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } فعلِمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح ، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح ، غير مضمحلّة ، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم ، ومسرّتهم بإخوانهم ، ولذلك كان قوله : { عند ربهم } دليلاً على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم ، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم ، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق ، ونبضات القلب ، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس ، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائماً لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة.
فإن علّقنا { عند ربهم } بقوله : أحياء كما هو الظاهر ، فالأمر ظاهر ، وإن علقناه بقوله : { يرزقون } فكذلك ، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشىء عنها كائناً عند الله ، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويَّة ، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 282 ـ 283}
فصل
قال القرطبى :
هذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى أنه يكفر الذنوب ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : " القتل في سبيل الله يكفّر كل شيء إلا الدّين كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفاً " قال علماؤنا ذِكر الدَّين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم ، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجِراحه وغير ذلك من التَّبِعات ، فإن كل هذا أوْلى ألاّ يُغفَر بالجهاد من الدَّين فإنه أشد ، والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنَّة الثابتة.
روى عبد الله بن أُنَيْس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر الله العباد أو قال الناس ، شكَّ همّام ، وأوْمَأَ بيده إلى الشام عُراة غُرْلا بُهْماً.(18/172)
قلنا : ما بُهْمٌ ؟ قال : ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه مَن قَرُب وَمَن بَعُد أنا الملِك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلِمة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلِمة حتّى اللطْمة.
قال قلنا : كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة غرلا.
قال : بالحسنات والسيئات "
أخرجه الحارث بن أبي أسامة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " "أتدرون من المفلِس" ؟ .
قالوا : المفلِس فِينا من لا دِرهم له ولا متاع.
فقال : "إن المفْلِس من أُمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شَتَم هذا وقَذَف هذا وأكلَ مالَ هذا وسفكَ دَمَ هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنِيت حسناته قبل أن يُقْضى ما عليه أخِذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" " وقال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قُتل في سبيل الله ثم أُحْيَي ثم قتل ثم أُحيي ثم قُتل وعليه دَيْن ما دخل الجنة حتى يُقْضى عنه " وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نفس المؤمن معلَّقة ما كان عليه دَيْن " وقال أحمد بن زُهَير : سئل يحيى بن مَعِين عن هذا الحديث فقال : هو صحيح.
فإن قيل : فهذا يدل على أن بعض الشهداء لا يدخلون الجنة من حين القتل ، ولا تكون أرواحهم في جَوف طيرٍ كما ذكرتم ، ولا يكونون في قبورهم ، فأيْنَ يكونون ؟ قلنا : قد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بَارِقٌ يخرج عليهم رزقهم من الجنة بُكْرَةً وعَشِيّاً " فلعلهم هؤلاء.
والله أعلم.
ولهذا قال الإمام أبو محمد بن عطية : وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة يجمعها أنهم { يُرْزَقُونَ }.
(18/173)
وقد أخرج الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه عن سليم بن عامر قال سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " شهيد البحر مثلُ شهِيدَيْ البَرِّ والمائدُ في البحر كالمُتَشَحِّط في دَمِه في البر وما بين المَوْجَتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله عزّ وجلّ وكّل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولّى قَبضَ أرواحهم ويَغْفِر لشهيد البرّ الذنوبَ كلَّها إلا الدَّين ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والديْن ".
الدَّين الذي يُحْبس به صاحبه عن الجنة والله أعلم هو الذي قد ترك وفاء ولم يُوص به.
أو قَدر على الأداء فلم يؤدّه ، أو ادانه في سَرَف أو في سفهٍ ومات ولم يوفّه.
وأما من ادان في حق واجب لِفافةٍ وعُسْر ومات ولم يَتْرُك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله ؛ لأن على السلطان فرضاً أن يؤدّيَ عنه دينه ، إما من جملة الصدقات ، أو من سهم الغارمين ، أو من الفَيْء الراجع على المسلمين.
قال صلى الله عليه وسلم : " من ترك دَيْناً أو ضَياعاً فعلى الله ورسوله ومن ترك مالاً فلورثته " أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 272 ـ 274}. بتصرف يسير.
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } الآية.(18/174)
نهى الله تبارك وتعالى في هذه الآية عن ظن الموت بالشهداء ، وصرح بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله ، يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولم يبين هنا هل حياتهم هذه في البرزخ يدرك أهل الدنيا حقيقتها أو لا ؟ ولكنه بين في سورة البقرة أنهم لا يدركونها بقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُون } [ البقرة : 154 ] لأن نفي الشعور يدل على نفي الإدراك من باب أولى كما هو ظاهر. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 256}
قوله : {يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن المتكلمين قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فقوله : {يُرْزَقُونَ} إشارة إلى المنفعة ، وقوله : {فَرِحِينَ} إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم ، وأما الحكماء فإنهم قالوا : إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الإلهية كانت مبتهجة من وجهين : أحدهما : أن تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الالهية.
والثاني : بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة ، قالوا : وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول ، فقوله : {يُرْزَقُونَ} إشارة إلى الدرجة الأولى وقوله : {فَرِحِينَ} إشارة إلى الدرجة الثانية ، ولهذا قال : {فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} يعني أن فرحهم ليس بالرزق ، بل بايتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه ، والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق ، ومن طلب الحق لغيره فهو محجوب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 77}
وقال ابن عاشور :
وقولُه : { فرحين } حال من ضمير { يرزقون }.(18/175)
والاستبشار : حصول البشارة ، فالسين والتاء فيه كما هما في قوله تعالى : { واستغنى اللَّه } [ التغابن : 6 ] وقد جمع اللَّهُ لهم بين المسرّة بأنفسهم والمسرّة بمن بقي من إخوانهم ، لأنّ في بقائهم نكاية لأعدائهم ، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنّون هلاك أعدائهم ، لأنّ في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 283}
قوله تعالى : {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل ، وإن كان لهم فضل.
وأصله من البَشرة ؛ لأن الإنسان إذا فَرِح ظهر أثر السّرور في وجهه.
وقال السّدّي : يؤتى الشهيد بِكتابٍ فيه ذكرُ من يَقْدَمُ عليه من إخوانه ، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقُدومِه في الدنيا.
وقال قَتادةُ وابن جُريْج والرّبيعُ وغيرُهم : استبشارهم بأنهم يقولون : إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيّهم ، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثلَ ما نحن فيه ؛ فيسرّون ويفرحون لهم بذلك.
وقيل : إن الإشارة بالاستبشار للذين لم يَلحقوا بهم إلى جميع المؤمنين وإن لم يُقتَلوا ، ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دِين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه ؛ فهم فَرِحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
ذهب إلى هذا المعنى الزجّاج وابن فُورَك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 275}(18/176)
وقال ابن عاشور :
المراد { بالذين لم يلحقوا بهم } رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم ، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة.
و { من خلفهم } تمثيل بمعنى من بعدهم ، والتقدير : ويستبشرون بالذين لم يصيروا إلى الدار الآخرة مِن رفاقهم بأَمْنِهم وانتفاءِ ما يُحْزنهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 283}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الذين سلموا كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر.
أما الأول : فهو أن يقال : إن الشهداء يقول بعضهم لبعض : تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا ، فهو قوله : {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم }.
وأما الثاني : فهو أن يقال : إن الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ، والمراد بقوله : {لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ} هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء ، لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم ، دليله قوله تعالى : {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً * درجات مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} [ النساء : 95 96 ] فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم ، وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم ، هذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني والزجاج.(18/177)
واعلم أن التأويل الأول أقوى من الثاني ، وذلك لأن حاصل الثاني يرجع إلى استبشار بعض المؤمنين ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة ، وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين ، فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك ، وأيضا : فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول ، لأن منازل الأنبياء والصديقين فوق منازل الشهداء ، قال تعالى : {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [ النساء : 69 ] وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص.
أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 77 ـ 78}
قال الآلوسى :
{ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم أي يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء وهو أنهم عند قتلهم في سبيل الله تعالى يفوزون كما فازوا ويحوزون من النعيم كما حازوا ، وإلى هذا ذهب ابن جريج وقتادة ، وقيل : إنه منصوب بنزع الخافض أي لئلا ، أو بأن لا وهو معمول ليستبشرون واقع موقع المفعول من أجله أي يستبشرون بقدوم إخوانهم الباقين بعدهم إليهم لأنهم لا خوف عليهم الخ ، فالاستبشار حينئذ ليس بالأحوال.(18/178)
ويؤيد هذا ما روي عن السدي أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا ، فضمير ، عليهم وما بعده على هذا راجع إلى الذين الأول ، وعلى الأول إلى الثاني ، ومن الناس من فسر الذين لم يلحقوا بالمتخلفين في الفضل عن رتبة الشهداء وهم الغزاة الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى ولم يقتلوا بل بقوا حتى ماتوا في مضاجعهم ، فإنهم وإن لم ينالوا مراتب الشهداء إلا أن لهم أيضاً فضلاً عظيماً بحيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لمزيد فضل الجهاد ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر من الآية وإن كان فضل الغزاة وإن لم يقتلوا مما لا يتناطح فيه كبشان ، وأن على كل تقدير هي المخففة واسمها ضمير الشأن وخبرها الجملة المنفية ، والمعنى لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم فإن الله تعالى يتولاهم ولا هم يحزنون على ما خلفوا من أموالهم لأن الله تعالى قد أجزل لهم العوض ، أو لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه لأن الله تعالى محص ذنوبهم بالشهادة ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا فرحاً بالآخرة ، أو لا خوف عليهم في الدنيا من القتل فإنه عين الحياة التي يجب أن يرغب فيها فضلاً عن أن يخاف ويحذر ولا هم يحزنون على المفارقة ، وقيل : إن كلا هذين المنفيين فيما يتعلق بالآخرة ، والمعنى أنهم لا يخافون وقوع مكروه من أهوالها ، ولا يحزنون من فوات محبوب من نعيمها ، وهو وجه وجيه.
والمراد بيان دوام انتفاء ذلك لا بيان انتفاء دوامه كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعاً فإن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام ؛ وقد تقدمت الإشارة إليه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 123 ـ 124}(18/179)
وقال ابن عاشور :
وقوله : { ألا خوف عليهم } بدل اشتمال ، و( لا ) عاملة عمل ليس ومفيدة معناها ، ولم يُبن اسم ( لا ) على الفتح هنا لظهور أنّ المقصود نفي الجنس ولا احتمال لنفي الوحدة فلا حاجة لبناء النكرة على الفتح ، وهو كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع : " زوجي كلَيْلِ نِهَامَة ، لا حرٌّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سَآمَهْ " برفع الأسماء النكرات الثلاثة.
وفي هذا دلالة على أنّ أرواح هؤلاء الشهداء مُنحت الكشفَ على ما يسرّها من أحوال الذين يهمّهم شأنهم في الدنيا.
وأنّ هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله ، وقد يكون خاصّاً الأحوال السارّة لأنّها لذّة لها.
وقد يكون عامّاً لِجميع الأحوال لأنّ لذّة الأرواح تحصل بالمعرفة ، على أنّ الإمام الرازي حَصَر اللذّة الحقيقية في المعارف.
وهي لذّة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء ، ولو كانت سيئة.
وفي الآية بشارة لأصحاب أُحُد بأنّهم لا تلحقهم نكبة بعد ذلك اليوم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 283 ـ 284}
فائدة
قال الفخر :
الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل ، والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي ، فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة ، ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 78}
فائدة
قال ابن الجوزى :
وفي ماذا يرتفع "الخوف" و"الحزن" عنهم ؟ فيه قولان.
أحدهما : لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم ، ولا يحزنون على ما خلفوا من أموالهم.
والثاني : لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه ، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحاً بالآخرة. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 502}(18/180)
فصل
قال الفخر :
إنه تعالى بين أنهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم على ما ذكر فهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم ، وإنما أعاد لفظ {يَسْتَبْشِرُونَ} لأن الاستبشار الأول كان بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، والاستبشار الثاني كان بأحوال أنفسهم خاصة.
فإن قيل : أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار ؟
قلنا : الجواب من وجهين :
الأول : أن الاستبشار هو الفرح التام فلا يلزم التكرار.
والثاني : لعل المراد حصول الفرح بما حصل في الحال ، وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 78}
وقال الآلوسى :
{ يَسْتَبْشِرُونَ } مكرر للتأكيد وليتعلق به قوله تعالى : { بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين }(18/181)
فحينئذ يكون بياناً وتفسيراً لقوله سبحانه : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ آل عمران : 170 ] لأن الخوف غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء ، والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار فمن كان متقلباً في نعمة من الله تعالى وفضل منه سبحانه فلا يحزن أبداً ، ومن جعلت أعماله مشكورة غير مضيعة فلا يخاف العاقبة ، ويجوز أن يكون بيان ذلك النفي بمجرد قوله جل وعلا : { بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ } من غير ضم ما بعده إليه ، وقيل : الاستبشار الأول : بدفع المضار ولذا قدم ، والثاني : بوجود المسار أو الأول : لإخوانهم ، والثاني : لهم أنفسهم ، ومن الناس من أعرب يستبشرون بدلاً من الأول ولذا لم تدخل واو العطف عليه ، ومن الله متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وجمع الفضل والنعمة مع أنهما كثيراً ما يعبر بهما عن معنى واحد إما للتأكيد وإما للإيذان بأن ما خصهم به سبحانه ليس نعمة على قدر الكفاية من غير مضاعفة سرور ولذة ، بل زائد عليها مضاعف فيها ذلك ، ونظيره قوله تعالى : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] وعطف { وَأَنْ } على فضل أو على نعمة وعلى التقديرين مضمون ما بعدها داخل في المستبشر به. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 124}
قوله تعالى {بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ}
قال ابن عاشور :
والنعمة : هي ما يكون به صلاح ، والفضل : الزيادة في النعمة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 284}(18/182)
قال الفخر :
الآية تدل على أن استبشارهم بسعادة إخوانهم أتم من استبشارهم بسعادة أنفسهم ، لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الإخوان ، وهذا ، تنبيه من الله تعالى على أن فرح الإنسان بصلاح أحوال إخوانه ومتعلقيه ، يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه بصلاح أحوال نفسه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 78}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}
أي بجنة من الله.
ويقال : بمغفرة من الله.
{ وَفَضْلٍ } هذا لزيادة البيان.
والفضل داخل في النعمة ، وفيه دليل على اتساعها ، وأنها ليست كنِعَم الدنيا.
وقيل : جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد ؛ روى التِّرمذيّ عن المِقْدام بن مَعْدِيكرِب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للشَّهيد عند الله ستُّ خِصال كذا في الترمذيّ وابن ماجه "سِتّ" ، وهي في العدد سبع يغفر له في أوّل دُفعة ويرى مَقعده من الجنة ويُجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاجُ الوَقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويُزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العِين ويُشَفَّع في سبعين من أقاربه " قال : هذا حديث حسن صحيح غريب.
وهذا تفسير للنّعمة والفضل.
والآثار في هذا المعنى كثيرة.
ورُوي عن مجاهد أنه قال : السيوف مفاتيح الجنة.(18/183)
ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أكرم الله تعالى الشهداء بخمس كرامات لم يُكرم بها أحداً من الأنبياء ولا أنا أحدها أن جميع الأنبياء قبض أرواحَهم مَلَكُ الموت وهو الذي سيقبض رُوحي وأما الشهداء فالله هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ولا يُسلّط على أرواحهم مَلَكُ الموت ، والثاني أن جميع الأنبياء قد غُسِّلوا بعد الموت وأنا أُغَسَّل بعد الموت والشهداء لا يُغَسَّلُون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا ، والثالث أن جميع الأنبياء قد كُفِّنوا وأنا أُكَفَّن والشهداء لا يُكَفَّنون بل يُدفنون في ثيابهم ، والرابع أن الأنبياء لما ماتوا سُمُّوا أمواتا وإذا مِت يقال قد مات والشهداء لا يُسَمَّون مَوْتَى ، والخامس أن الأنبياء تُعطَى لهم الشفاعةُ يوم القيامة وشفاعتي أيضاً يوم القيامة وأما الشهداء فإنهم يشفعون في كل يوم فيمن يشفعون ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 275 ـ 276}
قوله تعالى {وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين}
فصل
قال الفخر :
المقصود من الآية بيان أن الذي تقدم من إيصال الثواب والسرور العظيم إلى الشهداء ليس حكما مخصوصاً بهم ، بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب ، فإن الله سبحانه يوصل إليه ذلك الأجر والثواب ولا يضيعه ألبتة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 78 ـ 79}
فصل
قال الفخر :
الآية عندنا دالة على العفو عن فساق أهل الصلاة لأنه بإيمانه استحق الجنة فلو بقي بسبب فسقه في النار مؤبداً مخلداً لما وصل إليه أجر إيمانه ، فحينئذ يضيع أجر المؤمنين على إيمانهم وذلك خلاف الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 79}(18/184)
بحث نفيس للإمام القرطبى
قال عليه الرحمة :
باب ما جاء أن أرواح الشهداء في الجنة دون أرواح غيرهم
يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة وهذه حالة مختصة بغير الشهداء .
و في صحيح مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فقال : [ أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث نشاء ؟ ففعل بهم ذلك ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ] .
فصل : قلت : وهنا اعتراضات خمسة :
الأول : إن قيل : ما قولكم في الحديث الذي ذكرتم ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ؟ قلنا : هو عموم يخصصه ما ذكرناه ، فهو محمول على غير الشهداء .(18/185)
الثاني : فإن قيل : فقد روى مالك عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ؟ قلنا : قال أهل اللغة تعلق بضم اللام تأكل . يقال علقت تعلق علوقاً . ويروى يعلق بفتح اللام وهو الأكثر ومعناه : تسرح وهذه حالة الشهداء لا غيرهم بدليل الحديث المتقدم . وقوله تعالى : بل أحياء عند ربهم يرزقون ولا يرزق إلا حي فلا يتعجل الأكل والنعيم لأحد إلا للشهيد في سبيل الله بإجماع من الأمة . حكاه القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين ، وغير الشهيد بخلاف هذا الوصف إنما يملأ عليه قبره خضراً ويفسح له فيه . وقوله :
نسمة المؤمن . أي روح المؤمن الشهيد . يدل عليه قوله في نفس الحديث حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يبعثه .
الثالث : فإن قيل : فقد جاء أنه الأرواح تتلاقى في السماء والجنة في السماء يدل على قوله عليه السلام : إذا دخل رمصان فتحت أبواب السماء وفي رواية أبواب الجنة ؟ قلنا : لا يلزم من تلاقي الأرواح في السماء أن يكون تلاقيها في الجنة ، بل أرواح المؤمنين غير الشهداء تارة تكون في الأرض على أفنية القبور ، وتارة في السماء لا في الجنة . وقد قيل إنها تزور قبورها كل يوم جمعة على الدوام ، ولذلك تستحب زيارة القبور ليلة الجمعة ويوم الجمعة وبكرة السبت فيما ذكر العلماء . والله أعلم .(18/186)
قال ابن العربي : وبحديث الجرائد يستدل الناس على أن الأرواح في القبور تعذب أو تنعم ، وهو أبين في ذلك من حديث ابن عمر في الصحيح إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي لأن عرض مقعده ليس فيه بيان عن موضعه الذي يراه منه ، وحديث الجرائد نص على أن أولئك يعذبون في قبورهم . وكذلك حديث اليهود .
قلت : ويحتمل على ما ذكرناه والله أعلم : أن يكون قوله عليه السلام : ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا وروحه في قبره إلا عرفه ورد عليه السلام حتى لا تتناقض الأخبار . والله أعلم .
الرابع : فإن قيل فقد قال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه .
و هذا يدل على أن ببعض الشهداء لا يدخلون الجنة ، من حين القتل ولا تكون أرواحهم في جوف طير ، ولا تكون في قبورهم فأين تكون ؟ قلنا : قد خرج ابن وهب بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً فلعلهم هؤلاء أو من منعه من دخول الجنة حقوق الآدميين إذ الدين ليس مختصاً بالمال على ما يأتي .
و لهذا قال علماؤنا أحوال الشهداء طبقات مختلفة ومنازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون ، وقد تقدم قوله عليه السلام : من مات مريضاً مات شهيداً وغدى وريح برزقه من الجنة وهذا نص في أن الشهداء مختلفو الحال وسيأتي : كم الشهداء ؟ إن شاء الله تعالى .(18/187)
الخامس : فإن قيل : فقد روي ابن ماجه عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لشهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر ، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله عز وجل ، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا لدين ، ولشهيد البحر الذنوب كلها والدين ؟ قلنا : الدين إذا أخذه المرء في حق واجب لفاقة أو عسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله تعالى لا يحيسه عن الجنة إن شاء الله شهيداً كان أو غيره ، لأن على السلطان فرضاً أن يؤدي عنه دينه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ترك ديناً أو ضياعاً فعلى الله ورسوله ، ومن ترك مالاً فلورثته فإن لم يؤد عنه السلطان فإن الله تعالى يقضي عنه ويرضى خصمه .
والدليل على ذلك ما رواه ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الدين يقتص أو مقتص من صاحبه يوم القيامة إذا مات إلا من تدين في ثلاث خلال : الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين ليتقوى به لعدو الله وعدوه ، ورجل يموت عنده رجل مسلم لا يجد ما يكفنه فيه ويواريه إلا بدين ، ورجل خاف على نفسه العزبة فينكح خشية على دينه . فإن الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة ، وأما من دان في سفه أو سرف فمات ولم يوفه أو ترك له وفاء ولم يوص به أو قدر على الأداء فلم يوفه ، فهذا الذي يجس به صاحبه عن الجنة حتى يقع القصاص بالحسنات والسيئات على ما يأتي فيحتمل أن يكون قوله عليه السلام في شهيد البحر عاماً في الجميع(18/188)
وهو الأظهر لأنه لم يفرق بين دين ودين ويحتمل أن يكون قوله فيمن أدان ولم يفرط في الأداء وكان عزمه ونيته الأداء لا إتلاف المال على صاحبه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه . ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله خرجه البخاري .
على أن حديث أبي أمامة في إسناده لين ، وأعلى منه إسناداً وأقوى ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين ولم يخص براً من بحر . وكذلك ما رواه أبو قتادة : أن رجلاً قال : يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر الله عني خطاياي ؟ فقال له رسول الله : نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف قلت ؟ فقال : أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر الله عني خططاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وأنت صابر محتبل ومقبل غي مدبر إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك .
وخرج أبو نعيم الحافظ بإسناده عن قاضي البصريين شريح عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول يا ابن آدم فيم أضعت حقوق الآدميين ؟ فيم أذهبت أموالهم ؟ فيقول : يا رب لم أفسده ولكن أصبت إما غرقاً أو حرقاً فيقول الله عز وجل : أنا أحق من قضى عنك اليوم فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة . رواه من طرق . وقال يزيد بن هارون في حديثه [ فيدعو الله تعالى بشيء فيضعه في ميزانه فيثقل ] . غريب من حديث شريح تفرد به صدقة بن أبي موسى عن أبي عمران الجوني .(18/189)
قلت : هذا نص في قضاء الله سبحانه الدين إذا لم يؤخذ على سبيل الفساد والحمد لله الموفق للسداد ، والمبين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ما أبهم واستغلق من مشكل على العباد ، وقد قال بعض العلماء : إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى وإنما قيل لها : المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ، ويتنسمون من طيب ريحها ، وهي تسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل من نور تحت العرش وما ذكرناه أولاً أصح والله أعلم.
وقد روى ابن المبارك : أخبرنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان قال : حدث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أرواح المؤمنين في طير كحالزرازير يتعارفون ، يرزقون من الجنة . أخبرنا ابن لهيعة قال : حدثني يززيد بن أبي حبيب أن منصور بن أبي منصور ، حدثه قال سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، فقلت أخبرني عن أرواح المسلمين أين هي حين يتوفون ؟ قال : ما تقولون أنتم يا أهل العراق ؟ قلت : لا أدري . قال : فإنها صور طير بيض فيظل العرش وأرواح الكافرين في الأرض السابعة . وذكر الحديث .
قلت : فهذه حجة من قال : إن أرواح المؤمنين كلهم في الجنة والله أعلم . على أنه يحتمل أن يدخله من التأويل ما تقدم والله أعلم فيكون بالمعنى : أرواح المؤمنين الشهداء وكذا فقلت : أخبرني عن أرواح المؤمنين الشهداء . والله أعلم .
وروى ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد أنه سمعه ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إن أرواح الشهداء تجول في طير خضر .(18/190)
فصل : وقع في حديث ابن مسعود : أرواحهم في جوف طير خضر وفي حديث مالك : نسمة المؤمن طائر وروى الأعمش عن عبد الله بن مرة قال : سئل عبد الله بن مسعود عن أرواح الشهداء ؟ فقال : أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحتة العرش تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم ترجع إلى قناديلها . وذكر الحديث .
وروى ابن شهاب عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أرواح الشهداء طير خضر تعلق في شجر الجنة وهذا كله مطابق لحديث مالك فهو أصح من رواية من روى أن أرواحهم في جوف طير خضر . قاله أبو عمر في الاستذكار.
وقال أبو الحسن القابسي : أنكر العلماء قول من قال في حواصل طير لأنها رواية غير صحيحة ، لأنها إذا كانت كذلك فهي محصورة مضيق عليها .
قلت : الرواية صحيحة لأنها في صحيح مسلم بنقل العدل عن العدل فيحتمل أن تكون الفاء بمعنى على فيكون المعنى أرواحهم على جوف طير خضر كما قال تعالى : ولأصلبنكم في جذوع النخل أي على جذوع النخل وجائز أن يسمى الظهر : جوفاً : إذا هو محيط به ومشتمل عليه . قال أبو محمد عبد الحق : وهو حسن جداً .(18/191)
وذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب الإفصاح المنعم على جهات مختلفة . منها ما هو طائر يعلق من شجر الجنة . ومنها ما هو في حواصل طير خضر . ومنها ما يأوي في قناديل تحت العرش . ومنها ما هو في حواصل طير بيض . ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير . ومنها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة . ومنها ما هو في صور تخلق لهم من ثواب أعمالهم . ومنها ما تسرح وتعود إلى جثتها تزورها . ومنها ما تتلقى أرواح المقبوضين . وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل . ومنها ما هو في كفالة آدم . ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام . وهذا قول حسن فإنه يجمع الأخبار حتى لا تتدافع ، والله بغيبه أعلم وأحكم. أ هـ {التذكرة فى أحوال الموتى حـ 1 صـ 175 ـ 180}(18/192)
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب البديع ، الطباق في قوله : لقد منّ الله الآية ، إذ التقدير منّ الله عليهم بالهداية ، فيكون في هذا المقدّر.
وفي قوله : في ضلال مبين ، وفي : يقولون بأفواههم ، والقول ظاهر ويكتمون.
وفي قالوا لإخوانهم وقعدوا ، إذ التقدير حين خرجوا وقعدوا هم.
وفي : أمواتاً بل أحياء وفي : فرحين ويحزنون.
والتكرار في : وليعلم المؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا الاختلاف متعلق العلم.
وفي فرحين ويستبشرون.
والتجنيس المغاير في : أصابتكم مصيبة ، والمماثل في : أصابتكم قد أصبتم.
والاستفهام الذي يراد به الإنكار في : أو لما أصابتكم.
والاحتجاج النظري في : قل فادرأوا عن أنفسكم.
والتأكيد في : ولا هم يحزنون.
والحذف في عدة مواضع لا يتم المعنى إلا بتقديرها. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 120}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
" الذين " مفعول أول ، و" أمواتاً " مفعول ثانٍ ، والفاعلُ إما ضمير كل مخاطب ، أو ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم في نظائره وقرأ حُمَيْد بن قَيْس وهشام - بخلاف عنه - " يحسبن " بياء الغيبة ، وفي الفاعل وجهان :
أحدهما : أنه مُضْمَر ، إما ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم أو ضمير مَنْ يَصْلح للحسبان - أي : حاسب.
الثاني : قاله الزمخشري : وهو أن يكون " الذين قتلوا " قال : ويجوز أن يكون " الذين قتلوا " فاعلاً والتقديرُ : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً ، أي : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً.
فإن قلت : كيف جاز حذف المفعول الأول ؟ قلتُ : هو - في الأصلِ - مبتدأ ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : " بل أحياء " أي : هم أحياءٌ ؛ لدلالة الكلام عليهما.(18/193)
وردَّ عليه أبو حيان بأن هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديم الضمير على مفسره ، وذلك لا يجوز إلا في أبواب محصورةٍ ، وعَدَّ منه باب رُبُّهُ رَجُلاً ، نعم رجلاً زيد ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأيه سيبويه ، والبدل على خلاف فيه ، وضمير الأمرِ ، قال : " وزاد بعضُ أصحابِنَا أن يكون المفَسِّرُ خبراً للضمير " وبأن حذف أحد مفعولي " ظن " اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليل جِداً ، نص عليه الفارسيُّ ، ومنعه ابنُ ملكون ألبتة.
قال شهابُ الدينِ : " وهذا من تحملاته عليه ، أما قوله : يؤدي إلى تقديم المضمر... إلى آخره ، فالزمخشريُّ لم يقدره صناعةً ، بل إيراداً للمعنى المقصود ، ولذلك لَمّا أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدَّره بلفظ " أنفسهم " المنصوبة وهي المفعول الأول ، وأظن الشيخ يتوهم أنها مرفوعة ، تأكيداً للضمير في " قتلوا " ولم ينتبه أنه إنما قدرها مفعولاً أول منصوبة ، وأما تَمْشِية قوله على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك وما عليه من ابن ملكون ، وستأتي مواضعُ يضطر هو وغيره إلى حَذْف أحدِ المفعولينِ ، كما ستقف عليه قريباً.
وتقدم الكلامُ على مادة " حسب " ولغاتها ، وقراءاتها ، وقُرِئَ " تحسبن " - بفتح السين - قاله الزمخشريُّ وقرأ ابن عامر " قتّلوا " - بالتشديد - وهشام وحده في " ما " ماتوا وما قتلوا " والباقون بالتخفيف ، فالتشديد للتكثير ، والتخفيفُ صالح لذلك ، وقرأ الجمهورُ " أحياءٌ " رفعاً ، على تقدير : بل هُمْ أحياءٌ ، وقرأ ابنُ ابي عَبْلَة " أحياءً " وخرَّجها أبو البقاء على وجهين :
أحدهماك أن يكون عطفاً على " أمواتاً " قال : " أمواتاً " قال : " كما تقول : ما ظننت زيداً قائماً بل قاعداً ".
(18/194)
الثاني : - وإليه ذهب الزمخشري - أيضاً - أن يكون بإضمار فعل ، تقديره : بَلِ أحسبهم أحياءً ، وهذا الوجهُ سبق إليه أبة إسحاق ، الزجاجِ ، إلا أن الفارسيَّ ردَّه عليه - في الإغفال - وقال ، لأن الأمر يقينٌ ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يُضمرَ فيه إلا فعلُ المحسبة ، فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلاً غير المحسبة ، اعتقدهم ، أو اجعلهم ، وذلك ضعيفٌ ؛ إذ لا دَلاَلَةَ في الكلامِ على ما يُضْمَر.
قال شهابُ الدينِ : وهذا تحامُل من أبي عليٍّ أما قوله : إن الأمر يقينٌ ، يعني أن كونهم أحياء أمر متيقن ، فكيف يقال فيه : أحسبهم - بفعل يقتضي الشك - وهذا غير لازم ؛ لأن " حسب " قد تأتي لليقين.
قال الشاعر : [ الطويل ]
حَسِبْتُ التُّقَى وَالمَجْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ... رَبَاحاً إذَا ما المَرْءُ أصبَحَ ثَاقِلا
وقال آخر : [ الطويل ]
شَهِدْت وَفَاتُونِي وَكُنْتُ حَسِبْتُنِي... فَقيراً إلى أن يَشْهَدوُا وَتَغِيبي
ف " حسب " - في هذين البيتين - لليقين ؛ لأن المعنى على ذلك. وقوله : لذلك ضعيف ، يعني من حيث عدم الدلالة اللفظية ، وليس كذلك ، بل إذا أرشَدَ المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءُ - لدلالة المعنى عليه - من غير ضَعْفٍ - وإن كانَ دلالةُ اللَّفظِ أحسنَ - وأما تقديره هو : اعتقدهم أو جعلهم ، قال الشيخ : هذا لا يصح ألبتة سواءٌ جعلت : اجعلهم بمعنى اخلقهم ، أو صيِّرهم أو سمِّهم ، أو الْقهم.
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً لـ " أحياء " على قراءة الجمهورِ.
الثاني : أن يكون ظرفاً لـ " أحياء " لأن المعنى : يحيون عند ربهم.
الثالث : أن يكون ظرفاً لـ " يرزقون " أي : يقع رزقهم في هذا المكانِ الشريفِ.
(18/195)
الراع : أن يون صفة لـ " أحياء " فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور ، ونصب على قراءة ابن أبي عبلة.
الخامس : أن يكون حالاً من الضمير المستكن في " أحياء ". أي : يحيون مرزوقين. والمراد بالعندية : المجاز عن قربهم بالتكرمة.
وقيل : { عِندَ رَبِّهِمْ } أي : في حكمه ، كما تقول : هذه المسألةُ عند الشافعي كذا ، وعنده غيره كذا.
قال ابنُ عطية " وهو على حَذف مضاف ، أي : عند كرامة ربهم ". ولا حاجةَ إليه ؛ لأن الأولَ أليق.
قوله : { يُرْزَقُونَ } فيه أربعةُ وجهٍ :
أحدها : أن يكون خبراً ثالثاً لـ " أحياء " أو ثانياً - إذا لم نجعل الظرفَ خبراً.
الثاني : أنها صفة لـ " أحياء : " - بالاعتبارين المتقدمين - فإن أعربنا الظرف وصفاً - أيضاً - فيكون هذا جاء على وعديله ؛ لأنه أقرب إلى المفرد.
الثالث : أنه حال من الضمير في " أحياء " أي : يحيون مرزوقين.
الرابع : أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف ، إذا جعلته صفة. وليس ذلك مختصاً بجعله صفة فقط ، بل لو جعلته حالاً جاز ذلك - أيضاً - وهذه تُسمى الحالَ المتداخلة ، ولو جعلته خبراً كان كذلك ".
قوله : { فَرِحِينَ } فيه خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون حالاً من الضمير في " أحياء ".
ثانيها : أن يكون حالاً من الضمير في الظرف.
ثالثها : أن يكون حالاً من الضمير في { يُرْزَقُونَ }.
رابعها : أنه منصوبٌ على المَدْح.
خامسها : أنه صفة لـ " أحياء ".
وهذا مختص بقراءة ابن أبي عبلة و" بما " يتعلق بـ " فرحين ".
قوله : { مِن فَضْلِهِ } في " من " ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن معناها السببية ، أي بسببب فضله ، أي : الذي آتاهم الله متسبب عن فضله.
الثاني : أنها لابتداء الغايةِ ، وعلى هذين الوجهين تتعلق بـ " آتاهم ".(18/196)
الثالث : أنها للتبعيض ، أي : بعض فضله ، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف ، على أنه حال من الضمير العائدِ على الموصول ولكنه حُذِف ، والتقدير : بما آتاهموه كائناً من فَضْلهِ.
قوله : " ويستبشرون " فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون من باب عطفِ الفعلِ على الاسم ؛ لكون الفعل في تأويله ، فيكون عطفاً على " فرحين " كأنه قيل : فرحين ومُسْتَبْشِرِين ، ونظَّروه بقوله تعالى : { فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ].
الثاني : أنه - أيضاً - يكون من باب عطف الفعل على الاسم ، ولكن لا لأن الاسم في تأويل الفعل ، قال أبو البقاء هو معطوف على " فرحين " لأن اسم الفاعل - هنا - يُشْبه الفعل المضارع يعني أن " فرحين " بمنزلة يفرحون ، وكأنه جعله من باب قوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله } [ الحديد : 18 ] والتقديرُ الأولُ أولى ، لأن الاسم - وهو " فرحين " لا ضرورة بنا إلى أن نجعله في محل رفع فعل مضارع - حتى يتأول الاسم به - والفعل فَرْع فينبغي أن يُرَدَّ إليه.
وإنما فعلنا ذلك في الآية ؛ لأن " أل " الموصولة بمعنى : الذي و" الذي " لا يُوصَل إلا بجملة أو شبهها ، وذلك الشبهُ - في الحقيقة - يتأول بجملة.
الثالث : أن يكون مُستأنفاً ، والواو للعطف ، عطفت فعلية على اسمية.
الرابع : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يستبشرون ، وحينئذٍ يجوز وجهان :
أحدهما : أن تكون الجملة حاليةً من الضمير المستكن في " فرحين " أو من العائد المحذوف من " آتاهم " وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جعلنا إياها حالاً ؛ لأن المضارعَ المثبت لا يجوز اقترانه بواو الحال لما تقدم مراراً.
الثاني من هذين الوجهين : أن تكون استئنافية ، عطف جملة اسمية على مثلها.(18/197)
و " استفعل " - هنا - ليست للطلب ، بل تكون بمعنى المجرد ، نحو : استغنى الله - بمعنى : غَنِيَ ، وقد سُمِع بَشِر الرجل - بكسر العين - فيكون استبشر بمعناه ، قاله ابنُ عطية. ويجوز أن يكون مطاوع أبشَرَ ، نحو : أكانَهُ فاستكان ، وأراحه فاستراح ، وأشلاه فاستشلى ، وأحكمَه فاستحكم - وهو كثيرٌ - وجعله أبو حيّان أظهر ؛ من حيث إن المطاوعَة تدل على الاستفعال عن الغيرِ ، فحصلت لهم البُشرى بإبشار الله تعالى ، وهذا لا يلزم إذَا كان بمعنى المجردِ.
قوله : { مِّنْ خَلْفِهِمْ } في هذا الجارّ وجهان :
أحدهما : أنه متعلق بـ " لم يلحقوا " على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم ، وهم قد تقدموهم.
الثاني : أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فعل " لم يلحقوا " على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم ، وهم قد تقدموهم.
الثاني : أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فاعل " يلحقوا بهم " ، أي : لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلِّفين عنهم - أي : في الحياة.
قوله : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن " أن " وما في حيِّزِها في محل جَرّ ، بدلاً من " بالذين " بدل اشتمال ، أي : يستبشرون بعد خوفهم وحُزْنهم ، فهو المستبشَر به في الحقيقة ، لأن الذواتَ لا يُسْتَبْشَرُ بها.
الثاني : أنها في محل نَصْبٍ ؛ على أنها مفعول من أجله ، أي : لأنهم لا خوف عليهم.
و " أن " - هذه - هي المخفَّفة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة النفي بعدها في محل الخبر.
فإن قيل : الذوات لا يُسْتبشر بها - كما تقدم - فكيف قال : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ }.
فالجوابُ أن ذلك على حَذْفِ مُضَافٍ مناسبٍ ، تقديره : ويَسْتبشرون بسلامةِ الذين ، أو لحوقهم بهم في الدرجة.
(18/198)
وقال مكيٌّ - بعد أن حكى أنها بدلُ اشتمالٍ - : ويجوز أن يكون في موضع نَصْب ، على معنى : بأن لا وهذا - هو بعينه - وجه البدل المتقدّم ، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهُمّ إلا أن يعني أنها - وإن كانت بدلاً من " الذين " - ليست في محل جَرٍّ ، بل في محل نَصْبٍ ، لأنها سقطت منها الباء ؛ فإن الأصل : بان لا ، وإذا حُذِف منها حرفُ الجرِ كانت في محل نصبٍ على رأي سيبويه والفرَّاء - وهو بعيدٌ.
قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ } قرأ الكِسائيُّ بِكَسْرِ " أن " على الاستئنافِ.
وقال الزمخشري : إن قراءة الكسرِ اعتراضٌ.
واستشكلَ كونها اعتراضاً ؛ لأنها لم تقع بين شيئن متلازمين.
ويمكن أن يُجاب عنه بأن " الذين استجابوا " يجوز أن يكون تابعاً لـ " الذين لم يلحقوا " - نعتاً ، أو بدلاً ، على ما سيأتي - فعلى هذا لا يتصور الاعتراض.
ويؤيدُ كونها الاستئناف قراءةُ عبد الله ومصحفُه : والله لا يضيع ، وقرأ باقي السبعةِ بالفتحِ ؛ عَطْفاً على قوله : " بنعمة " لأنها بتأويل مصدر ، أي : يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل منه وعدم إضاعةِ الله أجْرَ المؤمنين.
فإن قيل : لم قال : " يستبشرون " من غير عطف ؟
فالجوابُ فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه استئنافٌ متعلِّقٌ بهم أنفسهم ، دون " الذين لم يلحقوا بهم " لاختلافِ متعلِّقٍ البشارتين.
الثاني : أنه تأكيدٌ الأولِ ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل مُتَعَلِّقِ الاستبشارِ الأولِ ، وإليهِ ذَهَبَ الزمخشري.
الثالثُ : أنه بدلٌ من الفعل الأول ، ومعنى كونه بدلاً : أنه لما كان متعلقه بياناً لمتعلق الأول حَسُن أن يقال : بدل منه ، وإلا فكيف يبدل فعلٌ من فعل موافقٍ له لفظاً ومعنًى ؟ وهذا في المعنى يئول إلى وجه التأكيد.(18/199)
الرابعُ : أنه حال من فاعل " يحزنون " و" يحزنون " عاملٌ فيه ، أي : ولا هم يحزنون حال كونهم مستبشرين بنعمة. وهو بعيدٌ ، لوجهين :
أحدهما : أن الظاهر اختلافُ مَنْ نفي عنه الحُزْن ومن استبشرَ.
الثاني : أن نفي الحزن ليس مقيَّداً ليكون أبلغ في البشارة ، والحال قَيْدٌ فيه ، فيفوت هذا المعنى. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 45 ـ 54}. بتصرف.
فصل في فضل الجهاد في سبيل الله
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلاّ جهاد في سبيل وإيمان بي وتصديق برسلي فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة.
والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلاّ جاء يوم القيامة كهيئته حين يكلم لونه لون دم وريحه ريح مسك.
والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني.(18/200)
والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم اغزوا فأقتل " لفظ ( ق ) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها " ( ق ) عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها " عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل ميت يختم على عمله إلاّ المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر " أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ومن سأل الله القتل في سبيل الله صادقاً من نفسه ثم مات أو قتل كان له أجر شهيد ، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ومن خرج به خراج في سبيل الله فإن عليه طابع الشهداء " أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الترمذي مفرقاً في موضعين ( ق ) عن أبي سعيد قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أي الناس أفضل ؟ قال : مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال ثم من قال رجل في شعب من الشعاب يعبد الله "(18/201)
وفي رواية يتقي الله ويدع الناس من شره ( خ ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً وتصديقاً فإن شعبه وريه وروثه وبوله في ميزانة يوم القيامة يعني حسنات " ( ق ) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أحد يدخل الجنة فيحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلاّ الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة وفي رواية لما يرى من فضل الشهادة " ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يغفر للشهيد كل ذنب إلى الدين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما يجد الشهيد من مس القتل إلاّ كما يجد أحدكم من القرصة " أخرجه الترمذي ؛ وللنسائي نحوه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته " أخرجه أبو داود. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 297 ـ 298}
وقال الثعالبى :
عن مَسْرُوقٍ قال ، سَأَلْنَا ابْنَ مَسْعُودٍ عن هذه الآية : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } ، فقال : أَمَّا أَنَا ، فَقَدْ سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ ، يَعْنِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم : " أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقةٌ بِالعَرْشِ ، تَسْرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ، ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلْكَ القَنَادِيلِ... " الحديثَ إلى آخره أ هـ .(18/202)
ومن الآثار الصحيحةِ الدالَّة على فَضْلِ الشُّهداءِ ما رواه مالكٌ في "الموطَّإ" ؛ أنه بلَغَهُ أنَّ عمرو بْنَ الجَمُوحِ ، وعبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الأنصارِيَّيْنِ ثُمَّ السُّلَمِيَّيْنِ كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قبرهما ، وكان قَبْرُهما ممَّا يَلِي السَّيْلَ ، وكانا في قَبْرٍ واحدٍ ، وهما مِمَّن استشهد يَوْمَ أُحُدٍ ، فحفر عنهما ليغيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا ، فَوُجِدَا لم يُغَيَّرا ، كأنما ماتا بالأمْسِ ، وكان أحدُهُما قَدْ جُرِحَ فَوَضَعَ يَدَهُ على جُرْحِهِ ، فَدُفِنَ ، وهو كذلك ، فَأُمِيطَتْ يده عَنْ جُرْحِهِ ، ثم أرْسِلَتْ ، فَرَجَعَتْ ، كما كانَتْ ، وكان بَيْنَ أُحُدٍ ، وبَيْنَ يَوْمَ حُفِرَ عَنْهُمَا سِتٌّ وأربعون سنَةً ، قال أبو عمر في "التمهيد" : حديثُ مالكٍ هذا يتَّصلُ من وجوهٍ صحاحٍ بمعنى واحدٍ متقاربٍ ، وعبد اللَّه بن عمرو هذا هو والدُ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ ، وعَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ هو ابنُ عَمِّه ، ثم أسند أبو عمر ، عن جابرِ بنِ عبْدِ اللَّهِ ، قال : لما أراد معاويةُ أنْ يُجْرِيَ العَيْنَ بأُحُدٍ ، نُودِيَ بالمدينةِ : مَنْ كان له قتيلٌ ، فليأت قتيله ، قال جابرٌ : فأتيناهم ، فأخرجْنَاهم رطَاباً يَتَثَنَّوْنَ ، فأصابَتِ المِسْحَاةُ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فانفطرت دَماً ، قال أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ : "لاَ يُنْكِرُ بَعْدَ هَذَا مُنْكَرٌ أَبداً" وفي رواية : "فاستخرجهم يعني : معاويةَ ، بعد سِتٍّ وأربعين سنَةً لَيِّنَةً أجسادُهم ، تتثنى أطرافهم" ، قال أبو عمر : الذي أصابَتِ المِسْحَاةُ أصبُعَهُ هو حمزةُ ( رضي اللَّه عنه ).(18/203)
ثم أسند عَنْ جابِرٍ قال : رأَيْتُ الشهداءَ يَخْرجُونَ على رِقَابِ الرجَالِ ؛ كأنهم رجَالٌ نُوَّمٌ ؛ حتى إذا أَصَابَتِ المِسْحَاةُ قَدَمَ حمزةَ ( رضي اللَّه عنه ) : "فانثعبت دَماً" انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 332 ـ 333}
وقال ابن كثير :
عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فقال : أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال : "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ : هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا ؟ فَقَالُوا : أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا ؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا : يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا" (1). وقد روي نحوه عن أنس وأبي سعيد.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد، حدثنا حَمَّاد، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ، لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلا الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ".
انفرد به مسلم من طريق حماد (2).
____________
(1) صحيح مسلم برقم (1887)
(2) المسند (3/126) وصحيح مسلم برقم (1877) لكن من طريق حميد وقتادة عن أنس به.(18/204)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله المديني، حدثنا سفيان، عَن محمد بن علي بن رَبيعة السلمي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال : قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "أما عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ : تَمَنَّ عَلَيَّ ، فَقَالَ لَهُ : أُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ : إِنِّي قَضَيْتُ الْحُكْمَ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ".
انفرد به أحمد من هذا الوجه (1)
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر -وهو عبد الله بن عَمْرو بن حَرام الأنصاري رضي الله عنه-قتل يوم أحد شهيدا. قال البخاري : وقال أبو الوليد، عن شعبة عن ابن المُنْكَدِر قال : سمعت جابرا قال : لما قُتِل أبي جعلتُ أبكي وأكشفُ الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينْهَوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تَبْكِهِ - أو : مَا تَبْكِيهِ - ما زَالَتِ الْملائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها حَتَّى رُفِعَ". وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : لما قتلَ أبي يوم أحد، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي... وذكر تمامة بنحوه (2).
_____________
(1) المسند (3/361)
(2) صحيح البخاري برقم (4080) وصحيح مسلم برقم (2471) وسنن النسائي (4/13)(18/205)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عَمْرو بن سعيد، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ،
فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ ، وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ مُنْقَلَبِهِم قَالُوا : يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا، لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ" فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ. فَأَنزلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } وما بعدها".
هكذا رواه [الإمام] أحمد، وكذا رواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وَهْب، عن إسماعيل بن عَيَّاش عن محمد بن إسحاق به (1) ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس فذكره، وهذا أثبت (2). وكذا رواه سفيان الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس.
_____________
(1) المسند (1/265) وتفسير الطبري (7/385)
(2) سنن أبي داود برقم (2520) والمستدرك (2/297) وقال : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.(18/206)
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (1).
وكذا قال قتادة، والربيع، والضحاك : إنها نزلت في قتلى أحد.
حديث آخر : قال أبو بكر بن مَرْدُويَه : حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا هارون بن سليمان أنبأنا علي بن عبد الله المديني، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري، سمعت طلحة بن خِرَاش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : "يا جابر، مَا لِي أراك مُهْتَما ؟ " قال : قلت : يا رسول الله، استشهد أبي وترك دَينا وعيالا. قال : فقال : "ألا أُخْبِرُكَ ؟ مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا -قال علي : الكفَاح : المواجهة -فَقَالَ : سَلْني أعْطكَ. قَالَ : أَسْأَلُكَ أنْ أُرَدَّ إلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : إنَّهُ سَبَقَ مِنِّي القول أنَّهُمْ إلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ. قَالَ : أيْ رَبِّ : فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي. فَأَنزلَ اللهُ [عَزَّ وجَلَّ] { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } الآية.
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سبيط الأنصاري، عن أبيه، عن جابر، به نحوه. وكذا رواه البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق علي بن المديني، به (2).
______________
(1) المستدرك (2/387)
(2) دلائل النبوة للبيهقي (3/299)(18/207)
وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري، وهو عيسى بن عبد الرحمن، إن شاء الله، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة [رضي الله عنها] قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر : "يَا جَابِرُ، ألا أُبَشِّرُكَ ؟ قال : بلى. بشّرك الله بالخير. قال شَعَرْتُ أنَّ اللهَ أحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ : تَمَنَّ عَلَيَّ عَبْدِي مَا شِئْتَ أُعْطِكَه. قَالَ : يَا رَبِّ، مَا عَبَدْتُكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ. أتَمَنَّى عَلَيْكَ أنْ تَرُدَّنِي إلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ مَعَ نَبِيَّكَ، وأُقْتَلَ فِيْكَ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ : إنَّهُ سَلَفَ مِنِّي أنَّهُ إلَيْهَا [لا] يَرْجعُ" (1).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا الحارث بن فُضَيْل الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا".
تفرد به أحمد، وقد رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، وعَبَدة عن محمد بن إسحاق، به. وهو إسناد جيد (2).
وكان الشهداء أقسام : منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله أعلم.
_______________
(1) دلائل النبوة للبيهقي (3/298)
(2) المسند (1/266) وتفسير الطبري (7/387)(18/208)
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ؛ فإن الإمام أحمد، رحمه الله، رواه عن [الإمام] محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، عن مالك بن أنس الأصبحي، رحمه الله، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نَسَمةُ الْمؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلق في شَجِر الجَنَّةِ، حتى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ" (1).
قوله : "يعلق" أي : يأكل.
وفي هذا الحديث : "إنَّ روحَ الْمؤْمنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الْجَنَّةِ".
وأما أرواح الشهداء، فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا على الإيمان. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 161 ـ 164}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيات
قال عليه الرحمة :
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)}
الحياة بذكر الحق بعد ما تتلف النفوس في رضاء الحق أتَمُّ من البقاء بنعمة الخلق مع الحجبة عن الحق.
______________
(1) المسند (3/455)(18/209)
ويقال إن الذي وارثُه الحي الذي لم يزل فليس بميت - وإن قُتِل : وإن كانت العبدان للموت أُنْشِئَتْ... فقتل امرئ في الله - لا شكَّ - أفضلُ
قوله : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } : مَنْ علم أن أحباءه ينتظرونه وهم في الرَّفَه والنعمة لا يهنأ بعيش دون التأهب والإلمام بهم والنزول عليهم.
قوله تعالى { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}
عِلَّةُ استبشارهم وموجبه فضلٌ من الله ونعمة منه ، أي لولا فضله ونعمته بهم وإلا متى استبشروا ؟ فليس استبشارهم بالنعمة إنما استبشارهم بأنهم عبادُه وأنه مولاهم ، ولولا فضله ونعمته عليهم لما كانت لهم هذه الحالة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 296}(18/210)
قوله تعالى : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذم المنافقين برجوعهم من غير أن يصيبهم قرح ، ومدح أحوال الشهداء ترغيباً في الشهادة ، وأحوال من كان على مثل حالهم ترغيباً في النسج على منوالهم ، وختم بتعليق السعادة بوصف الإيمان ، أخذ يذكر ما أثمر لهم إيمانهم من المبادرة إلى الإجابة إلى ما يهديهم إليه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لم يحمل على التخلف عن أمره من غير عذر إلا صريح النفاق فقال : {الذين استجابوا} أي أوجدوا الإجابة في الجهاد إيجاداً مؤكداً محققاً ثابتاً ما عندهم من خالص الإيمان {لله والرسول} أي لا لغرض مغنم ولا غيره ، ثم عظم صدقهم بقوله - مثبتاً الجار لإرادة ما يأتي من إحدى الغزوتين إلا استغراق ما بعد الزمان - : {من بعد ما أصابهم القرح }.
ولما كان تعليق الأحكام بالأوصاف حاملاً على التحلي بها عند المدح قال سبحانه وتعالى : {للذين أحسنوا} وعبر بما يصلح للبيان والبعض ليدوم رغبهم ورهبهم فقال : {منهم واتقوا أجر عظيم} وهذه الآيات من تتمة هذه القصة سواء قلنا : إنها إشارة إلى غزوة حمراء الأسد ، أو غزوة بدر الموعد ، فإن الوعد كان يوم أحد - والله الهادي. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 181}
فصل في سبب نزول الآية
قال الفخر :
في سبب نزول هذه الآية قولان :
الأول : وهو الأصح أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا ، وقالوا إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم ؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم ، فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة ، فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال : لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال ، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه ، قيل كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهو من المدينة على ثلاثة أميال ، فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا ، وروي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى ، وكان كل ذلك لإثخان الجراحات فيهم ، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة.(18/211)
والثاني : قال أبو بكر الأصم : نزلت هذه الآية في يوم أحد لما رجع الناس إليه صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم ، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنها بعد أن مثلوا بحمزة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا ، وصلى عليهم ، صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم ، وذكروا أن صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة فقال عليه الصلاة والسلام للزبير : ردها لئلا تجزع من مثلة أخيها ، فقالت : قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى ، فقال للزبير : فدعها تنظر إليه ، فقالت خيرا واستغفرت له.
وجاءت امرأة قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي قالت : إن كل مصيبة بعدك هدر ، فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية ، وأكثر الروايات على الوجه الأول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 79 ـ 80}
فصل
قال الفخر :
استجاب : بمعنى أجاب ، ومنه قوله : {فَلْيَسْتَجِيبُواْ إلى} [ البقرة : 186 ] وقيل : أجاب ، فعل الاجابة واستجاب طلب أن يفعل الإجابة ، لأن الأصل في الاستفعال طلب الفعل ، والمعنى أجابوا وأطاعوا الله في أوامره وأطاعوا الرسول من بعد ما أصابهم الجراحات القوية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 80}
قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ}
فصل
قال الفخر :
في قوله : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ} وجوه :
الأول : {أَحْسَنُواْ} دخل تحته الائتمار بجميع المأمورات ، وقوله : {واتقوا} دخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات ، والمكلف عند هذين الأمرين يستحق الثواب العظيم.(18/212)
الثاني : أحسنوا في طاعة الرسول في ذلك الوقت ، واتقوا الله في التخلف عن الرسول ، وذلك يدل على أنه يلزمهم الاستجابة للرسول وإن بلغ الأمر بهم في الجراحات ما بلغ من بعد أن يتمكنوا معه من النهوض.
الثالث : أحسنوا : فيما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، واتقوا ارتكاب شيء من المنهيات بعد ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 80}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : " الذين استجابوا " فيه ستة أوْجُهٍ :
أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ }.
وقال مَكيٌّ : ابتداء وخبره " من بعدما أصابهم القرح " وهذا غلطٌ ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة ، بل " من بعد " متعلقٌ بـ " استجابوا ".
الثاني : أنه خبر مبتدأ مُضْمَر ، أي : هم الذين.
الثالث : أنه منصوب بإضمار " أعني " وهذانِ الوجهانِ يشملهما قولك : القطع.
الرابع : أنه بدل من " المؤمنين ".
الخامس : أنه بدلٌ من " الذين لم يلحقوا " قَالَه مَكّيٌّ.
السادسُ : أنه نعتٌ لـ " المؤمنين " ويجوزُ فيه وجهٌ سابعٌ ، وهو أن يكون نعتاً لقوله : " الذين لم يلحقوا " قياساً على جَعْلِهِ بدلاً منهم عند مكيٍّ.
و " ما " في قوله : { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ } مصدرية ، و" الذين أحسنوا " خَبَرٌ مقدَّمٌ ، و" منهم " فِيهِ وَجْهَان :
أحدهما : أنه حالٌ من الضمير في " أحسنوا " وعلى هذا ف " من " تكون تبعيضية.
الثاني : أنها لبيان الجنسِ.(18/213)
قال الزمخشري : " مثلها في قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] لأن الذين استجابوا لله والرسولِ قد أحسنوا كلهم لا بعضهم ". و" أجر " مبتدأ مؤخَّر ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره ، إما مُستأنفة ، أو حالٌ - إن لم يُعْرَب " الذين استجابوا " مبتدأ - وإما خبرٌ - إنْ أعربناه مبتدأ - كما تقدم تقريره.
والمرادُ : أحسنوا فما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله واتقوا ارتكابَ شيءٍ من المنهيات. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 54 ـ 55}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)}
للاستجابة مزية وفضيلة على الإجابة من حيث الإشارة لا من مقتضى العربية وهو أنه يستجيب طوعاً لا كرهاً ، فهم استجابوا لله من غير انطواء على تحمل مشقة بل بإشارة القلب ومحبة الفؤاد واختيار الروح واستحلاء تحمُّل الحُكْم. فالاستجابة للحق بوجوده ، والاستجابة للرسول - عليه السلام - بالتخلُّق بما شرع من حدوده.
استجابة الحق بالتحقق بالصفاء في حق الربوبية ، واستجابة الرسول عليه السلام بالوفاء في إقامة العبودية.
{ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ } : في ابتداء معاملاتهم قبل ظهور أنوار التجلي على قلوبهم ، وابتسام الحقائق في أسرارهم.
{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ } : " الإحسان أن تعبد الله كأنَّك تراه... " - وهو المشاهدة والتقوى -... " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " - وهو المراقبة في حال المجاهدة.
{ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لأهل البداية مؤجَّلاً ، ولأهل النهاية مُعجَّلاً. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 297}(18/214)
قوله تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}
مناسبة الآيتين لما قبلهما
قال البقاعى :
ولما كان قول نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس عند الصحابة رضي الله عنهم صدقاً لا شك فيه لما قام عندهم من القرائن ، فكان بمنزلة المتواتر الذي تمالأ عليه الخلائق ، وكانت قريش أعلى الناس شجاعة وأوفاهم قوة وأعرقهم أصالة فكانوا كأنهم جميع الناس ، كان التعبير - بصيغة في قوله : {الذين قال لهم الناس} أي نعيم أو ركب عبد القيس {إن الناس} يعني قريشاً {قد جمعوا لكم فاخشوهم} أمدح للصحابة رضي الله عنهم من التعبير عمن أخبرهم ومن جمع لهم بخاص اسمه أو وصفه.
ولما كان الموجب لأقدامهم على اللقاء بعد هذا القول الذي لم يشكوا في صدقه ثبات الإيمان وقوة الإيقان قال تعالى : {فزادهم} أي هذا القول {إيماناً} لأنه ما ثناهم عن طاعة الله ورسوله {وقالوا} ازدراء بالخلائق اعتماداً على الخالق {حسبنا} أي كافينا {الله} أي الملك الأعلى في القيام بمصالحنا.
ولما كان ذلك هو شأن الوكيل وكان في الوكلاء من يذم قال : {ونعم الوكيل} أي الموكول إليه المفوض إليه جميع الأمور ؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا : إن الناس قد جمعوا لكم.
وقال : كان آخر كلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل ".(18/215)
ولما كان اعتمادهم على الله سبباً لفلاحهم قال {فانقلبوا} أي فكان ذلك سبباً لأنهم انقلبوا ، أي من الوجه الذي ذهبوا فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم {بنعمة} وعظمها بإضافتها إلى الاسم الأعظم فقال : {من الله} أي الذي له الكمال كله {وفضل} أي من الدنيا ما طاب لهم من طيب الثناء بصدق الوعد ومضاء العزم وعظيم الفناء والجرأة إلى ما نالوه.
عند ربهم حال كونهم {لم يمسسهم سوء} أي من العدو خوفوه ولا غيره {واتبعوا} أي مع ذلك بطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغاية جهدهم {رضوان الله} أي الذي له الجلال والجمال فحازوا أعظم فضله {والله} أي الذي لا كفوء له {ذو عظيم} أي في الدارين على من يرضيه ، فستنظرون فوق ما تؤملون ، فليبشر المجيب ويغتم ويحزن المتخلف ، ولعظم الأمر كرر الاسم الأعظم كثيراً. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 184 ـ 185}
فصل
قال الفخر :
المراد بقوله : {الذين} من تقدم ذكرهم ، وهم الذين استجابوا لله والرسول ، وفي المراد بقوله : {قَالَ لَهُمُ الناس} وجوه : الأول : أن هذا القائل هو نعيم بن مسعود كما ذكرناه في سبب نزول هذه الآية ، وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الإنسان الواحد ، لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله أو يرضون بقوله ، حسن حينئذ إضافة ذلك الفعل إلى الكل ، قال الله تعالى : {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادرأتم فِيهَا} [ البقرة : 72 ] {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] وهم لم يفعلوا ذلك وإنما فعله أسلافهم ، إلا أنه أضيف إليهم لمتابعتهم لهم على تصويبهم في تلك الأفعال فكذا ههنا يجوز أن يضاف القول إلى الجماعة الراضين بقول ذلك الواحد.(18/216)
الثاني : وهو قول ابن عباس ، ومحمد بن إسحاق : أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان ، فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جعلا.
الثالث : قال السدي : هم المنافقون ، قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بعد لميعاد أبي سفيان : القوم قد أتوكم في دياركم ، فقتلوا الأكثرين منكم ، فإن ذهبتهم إليهم لم يبق منكم أحد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 81}
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } الْآيَةَ.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ : " إنَّ الَّذِينَ قَالُوا كَانُوا رَكْبًا وَبَيْنَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ لِيَحْبِسُوهُمْ عِنْدَ مُنْصَرِفِهِمْ مِنْ أُحُدٍ لَمَّا أَرَادُوا الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ ".
وَقَالَ السُّدِّيُّ : " هُوَ أَعْرَابِيٌّ ضَمِنَ لَهُ جُعْلًا عَلَى ذَلِكَ " ؛ فَأَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى اسْمِ النَّاسِ عَلَى الْوَاحِدِ عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا وَاحِدًا ، فَهَذَا عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْعُمُومِ وَأَرَادَ بِهِ الْخُصُوصَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَمَّا كَانَ النَّاسُ اسْمًا لِلْجِنْسِ وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ ، تَنَاوَلَ ذَلِكَ أَقَلَّهُمْ وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظُ الْجِنْسِ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ : إنْ كَلَّمْت النَّاسَ فَعَبْدِي حَرٌّ : إنَّهُ عَلَى كَلَامِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظُ الْجِنْسِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 333}
فصل
قال البقاعى
ومما يجب التنبيه له أن البيضاوي قال تبعاً للزمخشري : إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر الموعد في سبعين راكباً ، وفي تفسير البغوي أن ذلك كان في حمراء الأسد ، فإن حمل على أن الركبان من الجيش كان ذلك عددهم وأن الباقين كانوا مشاة فلعله ، وإلا فليس كذلك ، وأما في حمراء الأسد فإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن المشركين هموا بعد انفصالهم من أحد بالرجوع ، فأراد أن يرهبهم وأن يريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فنادى مناديه يوم الأحد - الغد من يوم أُحد - بطلب العدو وأن لا يخرج معه إلا من كان حاضراً معه بالأمس ، فأجابوا بالسمع والطاعة ، فخرج في أثرهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، ولا يشك في أنهم أجابوا كلهم ، ولم يتخلف منهم أحد ، وقد كانوا في أحد نحو سبعمائة ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج معه لأحد لم يشهد القتال يوم أحد ، واستأذنه رجال لم يشهدوها فمنعهم إلا ما كان من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه أذن له لعلة ذكرها في التخلف عن أحد محمودة.(18/217)
قال الواقدي : ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل من الأمس ، فدفعه إلى علي رضي الله عنه ، ويقال : إلى أبي بكر رضي الله عنه ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه مشجوج وهو مجروح ، في وجهه أثر الحلقتين ، ومشجوج في جبهته في أصول الشعر ، ورباعيته قد سقطت ، وشفته قد كلمت من باطنها وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة ، وركبتاه مجحوشتان بأبي هو وأمي ووجهي وعيني! فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فركع ركعتين والناس قد حشدوا ، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ ، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، فدعا بفرسه على باب المسجد ، وتلقاه طلحة رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الدرع والمغفر وما يرى منه إلا عيناه فقال : يا طلحة سلاحك! قال : قلت : قريب ، قال : فأخرج ، أعدو فألبس درعي ولأنا أهم بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مني بجراحي ، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلحة فقال : " أين ترى القوم الآن ؟ قال : هم بالسيالة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك الذي ظننت! أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا! " ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى عسكر بحمراء الأسد ، قال جابر رضي الله عنه : وكان عامة زادنا التمر ، وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيراً حتى وافت الحمراء ، وساق جزوراً فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم في النهار بجمع الحطب ، فإذا أمسوا أمر أن توقد النيران ، فيوقد كل رجل ناراً ، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نار حتى نرى من المكان البعيد ، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه حتى كان(18/218)
ما كبت الله به عدونا فهنا ظاهر في أنهم كانوا خمسمائة رجل - والله أعلم - ويؤيده ذلك ما نقل من أخبار المثقلين بالجراح - قال الواقدي : جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه والجراح في الناس فاشية ، عامة بني عبد الأشهل جريح ، بل كلهم - رضي الله عنهم! فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تطلبوا عدوكم ، قال : يقول أسيد بن حضير رضي الله عنه وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها : سمعاً وطاعة لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وجاء سعد بن عبادة رضي الله عنه قومه بني ساعده فآمرهم بالمسير ، فلبسوا ولحقوا ، وجاء أبو قتادة رضي الله عنه أهل خربى وهم يداوون الجراح فقال : هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدو ، فوثبوا إلى سلاحهم وما عرجوا على جراحاتهم - رضي الله عنهم! فخرج من بني سلمة رضي الله عنهم أربعون جريحاً ، وبالطفيل بن النعمان رضي الله عنه ثلاثة عشر جرحاً ، وبقطبه بن عامر بن حديدة رضي الله عنه تسع جراحات حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلم ببئر أبي عتبة إلى رأس الثنية عليهم السلاح ، قد صفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية قال : (18/219)
" اللهم ارحم بني سلمة! " وحدث ابن إسحاق والواقدي أن عبد الله بن سهل ورافع بن سهل رضي الله عنهما كان بهما جراح كثيرة ، فلما بلغهما النداء قال أحدهما لصاحبه : والله إن تركنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لغَبنا والله ما عندنا دابة نركبها وما ندري كيف نصنع! قال عبد الله : انطلق بن ، قال رافع : لا والله ما بي مشي! قال أخوه : انطلق بنا نتجارّ ، فخرجا يزحفان فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة ويمشي الآخر عقبة حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العشاء وهو يوقدون النيران ، فأتى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال : " ما حبسكما ؟ فأخبراه بعلتهما ، فدعا لهما بخير وقال : إن طالت بكم مدة كانت لكم مراكب من خيل وبغال وإبل ، وليس ذلك بخير لكم " وأما غزوة بدر الموعد فروى الواقدي - ومن طريقه الحاكم في الإكليل - كما حكاه ابن سيد الناس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج في هذه الغزوة في ألف وخمسمائة من أصحابه رضي الله عنهم ، وكان الخيل عشرة قال الواقدي : وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الموسم : يا محمد! لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد ، فما أعلمكم إلا أهل الموسم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " ليرفع ذلك إلى عدوه : ما أخرجنا إلا موعد أبي سفيان وقتال عدونا ، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد ثم جالدناكم قبل أن نبرح من منزلنا هذا ، فقال الضمري : بل نكف أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك ". أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 181 ـ 183}
وقال الفخر :
(18/220)
واعلم أن أهل المغازي اختلفوا ، فذهب الواقدي إلى تخصيص الآية الأولى بواقعة حمراء الأسد ، والآية الثانية ببدر الصغرى ، ومنهم من يجعل الآيتين في وقعة بدر الصغرى ، والأول أولى لأن قوله تعالى : {مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح} كأنه يدل على قرب عهد بالقرح ، فالمدح فيه أكثر من المدح على الخروج على العدو من وقت إصابة القرح لمسه ، والقول الآخر أيضا محتمل.
والقرح على هذا القول يجب أن يفسر بالهزيمة ، فكأنه قيل : إن الذين انهزموا ثم أحسنوا الأعمال بالتوبة واتقوا الله في سائر أمورهم ، ثم استجابوا لله وللرسول عازمين على الثواب موطنين أنفسهم على لقاء العدو ، بحيث لما بلغهم كثرة جموعهم لم يفتروا ولم يفشلوا ، وتوكلوا على الله ورضوا به كافياً ومعيناً فلهم أجر عظيم لا يحجبهم عنه ما كان منهم من الهزيمة إذ كانوا قد تابوا عنها والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 83}
قوله تعالى {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إيمانا}
فصل
قال الفخر :
المراد بالناس هو أبو سفيان وأصحابه ورؤساء عسكره ، وقوله : {قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} أي جمعوا لكم الجموع ، فحذف المفعول لأن العرب تسمي الجيش جمعا ويجمعونه جموعا ، وقوله : {فاخشوهم} أي فكونوا خائفين منهم ، ثم إنه تعالى أخبر أن المسلمين لما سمعوا هذا الكلام لم يلتفتوا إليه ولم يقيموا له وزنا ، فقال تعالى : {فَزَادَهُمْ إيمانا}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 81}
فائدة
قال الفخر :
الضمير في قوله : {فَزَادَهُمْ} إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان : الأول : عائد إلى الذين ذكروا هذه التخويفات.(18/221)
والثاني : أنه عائد إلى نفس قولهم ، والتقدير : فزادهم ذلك القول إيمانا ، وإنما حسنت هذه الإضافة لأن هذه الزيادة في الإيمان لما حصلت عند سماع هذا القول حسنت إضافتها إلى هذا القول وإلى هذا القائل ، ونظيره قوله تعالى : {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً} [ نوح : 6 ] وقوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [ فاطر : 42 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 81}
فصل
قال الفخر :
المراد بالزيادة في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا إليه ، بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار ، وعلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه ثقل ذلك أو خف ، لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة ، وكانوا محتاجين إلى المداواة ، وحدث في قلوبهم وثوق بأن الله ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة ، فهذا هو المراد من قوله تعالى : {فَزَادَهُمْ إيمانا }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 81 ـ 82}
فصل
قال القرطبى :
وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه على أقوال.
والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان الذي هو تاجٌ واحدٌ ، وتصديق واحد بشيء مّا ، إنما هو معنًى فَرْدٌ ، لا يدخل معه زيادة إذا حصل ، ولا يبقى منه شيء إذا زال ؛ فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلَّقاته دون ذاته.(18/222)
فذهب جمع من العلماء إلى أنه يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه ، لا سيما أن كثير من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون باباً فأعلاها قول لا إله إلا اللَّهُ وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " أخرجه الترمذيّ ، وزاد مسلم " والحياء شُعْبَةٌ من الإيمان " وفي حديث عليّ رضي الله عنه : " إن الإيمان ليبدو لُمَظَةً بيضاء في القلب ، كلما ازداد الإيمان ازدادت اللُّمَظَة " وقوله "لمظة" قال الأصمعيّ : اللمظة مثل النُّكْتة ونحوها من البياض ؛ ومنه قيل : فرس ألْمَظ ، إذا كان بجَحْفَلته شيء من بياض.
والمحدّثون يقولون "لمظة" بالفتح.
وأما كلام العرب فبالضم ؛ مثل شُبهة ودهمة وخُمرة.
وفيه حُجّةٌ على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد وينقص.
ألا تراه يقول ؛ كلما ازداد النفاق اسود القلب حتى يسودّ القلب كلّه.
ومنهم من قال : إن الإيمان عَرَض ، وهو لا يَثْبُتُ زمانين ؛ فهو للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللصُّلحاء متعاقب ، فيزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن ، وباعتبار دوام حضوره.
وينقص بتوالي الغَفَلات على قلب المؤمن.
أشار إلى هذا أبو المعالي.
وهذا المعنى موجود في حديث الشفاعة ، حديثِ أبي سعيد الخُدْرِيّ أخرجه مسلم.(18/223)
وفيه : " فيقول المؤمنون يا ربَّنا إخواننا كانوا يصومون ويُصلّون ويَحجُّون فيُقال لهم أخرجوا من عرفتم فتُحَرَّم صُورهُم على النار فيُخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نِصفِ ساقَيْه وإلى رُكبتيه ثم يقولون رَبَّنا ما بَقِيَ فيها أحدٌ ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مِثقالَ دينار من خير فأخرجوه فيُخرِجون خلقاً كثيراً ثم يقولون رَبَّنا لم نَذَرْ فيها أحداً ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مِثقَال نِصفِ دِينار من خير فأخرجوه فيُخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون رَبَّنا لم نَذَرْ فيها ممن أمرتنا أحداً ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مِثقَال ذَرَّةٍ من خير فأخرجوه " وذكر الحديث.
وقد قيل : إن المراد بالإيمان في هذا الحديث أعمالُ القلوب ؛ كالنّية والإخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك.
وسمّاها إيماناً لكونها في محل الإيمان أو عنى بالإيمان ، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو كان منه بسبب.
دليل هذا التأويل قولُ الشافعين بعد إخراج من كان في قلبه مثقالُ ذرّة من خير : "لم نَذَرْ فيها خيراً" مع أنه تعالى يُخرج بعد ذلك جموعاً كثيرة ممن يقول لا إله إلا الله ، وهم مؤمنون قطعاً ؛ ولو لم يكونوا مؤمنين لما أخرجهم.
ثم إن عُدِم الوجود الأوّل الذي يُرَكَّب عليه المِثْل لم تكن زيادةٌ ولا نقصان.
وقُدّر ذلك في الحركة.
فإن الله سبحانه إذا خَلق علْماً فَرْداً وخلق معه مِثْلَه أو أمثالَه بمعلومات فقد زاد علمه ؛ فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص ، أي زالت الزيادة.
وكذلك إذا خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها.(18/224)
وذهب قوم من العلماء إلى أن زيادة الإيمان ونقصَه إنما هو من طريق الأدلة ، فتزيد الأدلّة عند واحد فيقال في ذلك : إنها زيادة في الإيمان ؛ وبهذا المعنى على أحد الأقوال فُضّل الأنبياء على الخلق ، فإنهم عَلِموه من وجوه كثيرة ، أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها.
وهذا القول خارج عن مقتضى الآية ؛ إذ لا يُتصوّر أن تكون الزيادة فيها من جهة الأدلة.
وذهب قوم : إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفرائض والأخبار في مدّة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابرَ الدّهر.
وهذا إنما هو زيادة إيمان ؛ فالقول فيه إنّ الإيمان يزيد قول مَجازِيّ ، ولا يُتصوّر فيه النقص على هذا الحدّ ، وإنما يتصوّر بالإضافة إلى من عُلِم. فاعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 280 ـ 282}
وقال الآلوسى
{ فَزَادَهُمْ إيمانا } الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده ، أو لله تعالى ، وتعقب أبو حيان "الأول بأنه ضعيف من حيث إنه لا يزيد إيماناً إلا النطق به لا هو في نفسه ، وكذا الثالث بأنه إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع لا على المفرد فيقال : مفارقه شابت باعتبار الإخبار عن الجمع ، ولا يجوز مفارقه شاب باعتبار مفرقه شاب" ، وفي كلا التعقيبين نظر ، أما الأول : فقد نظر فيه الحلبي بأن المقول هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان ، وأما الثاني : فقد نظر فيه السفاقسي بأنه لا يبعد جوازه بناءاً على ما علم من استقراء كلامهم فيما له لفظ وله معنى من اعتبار اللفظ تارة والمعنى أخرى.
والمراد أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم بالله تعالى وازدادوا طمأنينة واظهروا حمية الإسلام.(18/225)
واستدل بذلك من قال : إن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصاناً وهذا ظاهر إن جعلت الطاعة من جملة الإيمان وأما إن جعل الإيمان نفس التصديق والاعتقاد فقد قالوا في ذلك : إن اليقين مما يزداد بالألف وكثرة التأمل وتناصر الحجج بلا ريب ، ويعضد ذلك أخبار كثيرة ، ومن جعل الإيمان نفس التصديق وأنكر أن يكون قابلاً للزيادة والنقصان يؤول ما ورد في ذلك باعتبار المتعلق ، ومنهم من يقول : إن زيادته مجاز عن زيادة ثمرته وظهور آثاره وإشراق نوره وضيائه في القلب ونقصانه على عكس ذلك ، وكأن الزيادة هنا مجاز عن ظهور الحمية وعدم المبالاة بما يثبطهم ، وأنت تعلم أن التأويل الأول هنا خفي جداً لأنه لم يتجدد للقوم بحسب الظاهر عند ذلك القول شيء يجب الإيمان به كوجوب صلاة أو صوم مثلاً ليقال : إن زيادة إيمانهم باعتبار ذلك المتعلق وكذا التزام التأويل الثاني في الآيات والآثار التي لم تكد تتمنطق بمنطقة الحصر بعيد غاية البعد.
فالأولى القول بقبول الإيمان الزيادة والنقصان من غير تأويل ، وإن قلنا : إنه نفس التصديق وكونه إذا نقص يكون ظناً أو شكاً ويخرج عن كونه إيماناً وتصديقاً مما لا ظن ولا شك في أنه على إطلاقه ممنوع.
نعم قد يكون التصديق بمرتبة إذا نزل عنها يخرج عن كونه تصديقاً وذاك مما لا نزاع لأحد في أنه لا يقبل النقصان مع بقاء كونه تصديقاً ، وإلى هذا أشار بعض المحققين. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 126 ـ 127}
وقال ابن عاشور :
الظاهر أنّ الإيمان أطلق هنا على العمل ، أي العزم على النصر والجهاد ، وهو بهذا المعنى يزيد وينقص.
ومسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة قديمة ، والخلاف فيها مبنيّ على أنّ الأعمال يطلق عليها اسم الإيمان ، كما قال تعالى : { وما كان اللَّه ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] يعني صَلاتكم.(18/226)
أمّا التَّصديق القلبي وهو عقد القلب على إثبات وجود الله وصفاته وبعثة الرسل وصدق الرسول ، فلا يقبل النقص ، ولا يقبل الزيادة ، ولذلك لا خلاف بين المسلمين في هذا المعنى ، وإنّما هو خلاف مبني على اللفظ ، غير أنّه قد تقرّر في علم الأخلاق أنّ الاعتقاد الجازم إذا تكررت أدلّته ، أو طال زمانه ، أو قارنته التجارب ، يزداد جلاء وانكشافاً ، وهو المعبّر عنه بالمَلَكة ، فلعلّ هذا المعنى ممّا يراد بالزيادة ، بقرينة أنّ القرآن لم يطلق وصف النقص في الإيمان بل ما ذكر إلا الزيادة ، وقد قال إبراهيمُ عليه السلام : { بلى ولكن ليطمئنّ قلبي } [ البقرة : 260 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 286 }
فصل
قال الفخر :
الذين يقولون إن الإيمان عبارة لا عن التصديق بل عن الطاعات ، وإنه يقبل الزيادة والنقصان ، احتجوا بهذه الآية ، فإنه تعالى نص على وقوع الزيادة ، والذين لا يقولون بهذا القول قالوا : الزيادة إنما وقعت في مراتب الإيمان وفي شعائره ، فصح القول بوقوع الزيادة في الإيمان مجازا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 82}
فصل
قال الفخر :
هذه الواقعة تدل دلالة ظاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره ، وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن الآخر فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء ، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف ، ثم إنه سبحانه قلب القضية ههنا ، فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب ، وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من الله تعالى ، وإنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 82}(18/227)
فائدة
قال الجصاص :
وقَوْله تَعَالَى : { فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا } فِيهِ إخْبَارٌ بِزِيَادَةِ يَقِينِهِمْ عِنْدَ زِيَادَةِ الْخَوْفِ وَالْمِحْنَةِ ؛ إذْ لَمْ يَبْقَوْا عَلَى الْحَالِ الْأُولَى بَلْ ازْدَادُوا عِنْدَ ذَلِكَ يَقِينًا وَبَصِيرَةً فِي دِينِهِمْ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَحْزَابِ : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا } فَازْدَادُوا عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّبْرِ عَلَى جِهَادِهِمْ.
وَفِي ذَلِكَ أَتَمُّ ثَنَاءً عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَكْمَلُ فَضِيلَةً ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِمْ وَنَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ ، وَأَنْ نَقُولَ : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وَأَنَّا مَتَى فَعَلْنَا ذَلِكَ أَعْقَبَنَا ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ وَصَرْفُ كَيَدِ الْعَدُوِّ وَشَرِّهِمْ مَعَ حِيَازَةِ رِضْوَانِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ }. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 333}(18/228)
قوله تعالى {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}
فصل
قال الفخر :
المراد أنهم كلما ازدادوا إيمانا في قلوبهم أظهروا ما يطابقه فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال ابن الانباري : {حَسْبُنَا الله} أي كافينا الله ، ومثله قول امرىء القيس :
وحسبك من غنى شبع وري.. أي يكفيك الشبع والري ، وأما ( الوكيل ) ففيه أقوال : أحدها : أنه الكفيل.
قال الشاعر :
ذكرت أبا أروى فبت كأنني.. بَرِدِّ الأمور الماضيات وكيل
اراد كأنني برد الأمور كفيل.
الثاني : قال الفراء : الوكيل : الكافي ، والذي يدل على صحة هذا القول أن "نعم" سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقاً للذي قبلها ، تقول : رازقنا الله ونعم الرازق ، وخالقنا الله ونعم الخالق ، وهذا أحسن من قول من يقول : خالقنا الله ونعم الرازق ، فكذا ههنا تقدير الآية : يكفينا الله ونعم الكافي.
الثالث : الوكيل ، فعيل بمعنى مفعول ، وهو الموكول إليه ، والكافي والكفيل يجوز أن يسمى وكيلا ، لأن الكافي يكون الأمر موكولا إليه ، وكذا الكفيل يكون الأمر موكولا إليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 82}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } أي كافينا الله.
وحسب مأخوذ من الإحساب ، وهو الكفاية.
قال الشاعر :
فتملأ بيتنا إقْطاً وَسَمْناً . . .
وَحَسْبُكَ من غِنًى شِبَعٌ ورِيُّ
روى البخاريّ عن ابن عباس قال في قوله تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } إلى قوله : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } قالها إبراهيم الخليل عليه السَّلام حين ألْقِيَ في النَار.
وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 282}(18/229)
فصل
قال ابن عاشور :
وقولهم : { حسبنا الله ونعم الوكيل } كلمة لعلّهمُ ألهموها أو تلقّوها عن النبي صلى الله عليه وسلم وحسب أي كاف ، وهو اسم جامد بمعنى الوصف ليس له فعل ، قالوا : ومنه اسمه تعالى الحَسيب ، فهو فعيل بمعنى مُفعل.
وقيل : الإحساب هو الإكفاء ، وقيل : هو اسم فعل بمعنى كفى ، وهو ظاهر القاموس.
وردّه ابن هشام في توضيحه بأنّ دخول العوامل عليه نحو { فإنّ حسبك الله } ، وقولهم : بحسبك درهم ، ينافي دعوى كونه اسم فعل لأنّ أسماء الأفعال لا تدخل عليها العوامل ، وقيل : هو مصدر ، وهو ظاهر كلام سيبويه.
وهو من الأسماء اللازمة للإضافة لفظاً دون معنى ، فيبنى على الضمّ مثل : قبلُ وبعدُ ، كقولهم : اعطه درهيمن فَحَسْبُ ، ويتجدّد له معنى حينئذ فيكون بمعنى لا غير.
وإضافته لا تفيده تعريفاً لأنّه في قوة المشتقّ ولذلك توصف به النكرة ، وهو ملازم الإفراد والتذكير فلا يثنّى ولا يجمعُ ولا يؤنّث لأنّه لجموده شابَه المصدر ، أو لأنّه لمّا كان اسم فعل فهو كالمصدر ، أو لأنّه مصدر ، ، وهو شأن المصادر ، ومَعناها : إنّهم اكتفوا بالله ناصراً وإن كانوا في قِلّة وضعف.
وجملة { ونعم الوكيل } معطوفة على { حسبنا الله } في كلام القائلين ، فالواو من المحكي لا من الحكاية ، وهو من عطف الإنشاء على الخبر الذي لا تطلب فيه إلا المناسبة.
والمخصوص بالمدح محذوف لتقدّم دليله.
و { الوكيل } فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه.(18/230)
يقال : وكل حاجته إلى فلان إذا اعتمد عليه في قضائها وفوّض إليه تحصيلها ، ويقال للذي لا يستطيع القيام بشؤونه بنفسه : رَجل وَكَل بفتحتين أي كثير الاعتماد على غيره ، فالوكيل هو القائم بشأن من وكّله ، وهذا القيام بشأن الموكِّل يختلف باختلاف الأحوال الموكّل فيها ، وبذلك الاختلاف يختلف معنى الوكيل ، فإن كان القيام في دفع العداء والجور فالوكيل الناصر والمدافع { قل لست عليكم بوكيل } [ الأنعام : 66 ] ، ومنه { فمن يجادل اللَّه عنهم يوم القيامة أمَّن يكون عليهم وكيلاً } [ النساء : 109 ].
ومنه الوكيل في الخصومة ، وإن كان في شؤون الحياة فالوكيل الكافل والكافي منه : { أن لا تتخذوا من دوني وكيلاً } [ الإسراء : 2 ] كما قال : { قد جعلتم الله عليكم كفيلاً } [ النحل : 91 ] ولذلك كان من أسمائه تعالى : الوكيل ، وقولُه : { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } ومنه الوكيل على المال ، ولذلك أطلق على هذا المعنى أيضاً اسم الكفيل في قوله تعالى : { وقد جعلتم اللَّه عليكم كفيلاً }.
وقد حمل الزمخشري الوكيل على ما يشمل هذا عند قوله تعالى : { وهو على كل شيء وكيل } في سورة [ الأنعام : 102 ] ، فقال : وهو مالك لكلّ شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال.
وذلك يدل على أنّ الوكيل اسم جامع للرقيب والحافظ في الأمور التي يُعني الناس بحفظها ورقابتها وادّخارها ، ولذلك يتقيّد ويتعمّم بحسب المقامات. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 286 ـ 287}(18/231)
وقال الآلوسى :
{ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله } أي محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه ، والدليل على أن حسب بمعنى محسب اسم فاعل وقوعه صفة للنكرة في هذا رجل حسبك مع إضافته إلى ضمير المخاطب فلولا أنه اسم فاعل وإضافته لفظية لا تفيده تعريفاً كإضافة المصدر ما صح كونه صفة لرجل كذا قالوا ، ومنه يعلم أن المصدر المؤل باسم الفاعل له حكمه في الإضافة ، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة التي قبلها.
{ وَنِعْمَ الوكيل } أي الموكول إليه ففعيل بمعنى مفعول والمخصوص بالمدح محذوف هو ضميره تعالى ، والظاهر عطف هذه الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية التي قبلها ، والواو إما من الحكاية أو من المحكي فإن كان الأول وقلنا بجواز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب لكونهما حينئذٍ في حكم المفردين فأمر العطف ظاهر من غير تكلف التأويل لأن الجملة المعطوف عليها في محل نصب مفعول قالوا لكن القول بجواز هذا العطف بدون التأويل عند الجمهور ممنوع لا بد له من شاهد ولم يثبت.
وإن كان الثاني وقلنا بجواز عطف الإنشاء على الإخبار مطلقاً كما ذهب إليه الصفار أو قلنا : بجواز عطف القصة على القصة أعني عطف حاصل مضمون إحدى الجملتين على حاصل مضمون الأخرى من غير نظر إلى اللفظ كما أشار إلى ذلك العلامة الثاني فالأمر أيضاً ظاهر ، وإن قلنا : بعدم جواز ذلك كما ذهب إليه الجمهور فلا بد من التأويل إما في جانب المعطوف عليه أو في جانب المعطوف ، والذاهبون إلى الأول قالوا : إن الجملة الأولى وإن كانت خبرية صورة لكن المقصود منها إنشاء التوكل أو الكفاية لا الإخبار بأنه تعالى كاف في نفس الأمر ، والذاهبون إلى الثاني اختلفوا فمنهم من قدر قلنا أي وقلنا نعم الوكيل.(18/232)
واعترض بأنه تقدير لا ينساق الذهن إليه ولا دلالة للقرينة عليه مع أنه لا يوجد بين الإخبار بأن الله تعالى كافيهم والإخبار بأنهم قالوا نعم الوكيل مناسبة معتد بها يحسن بسببها العطف بينهما ، ومنهم من جعل مدخول الواو معطوفاً على ما قبله بتقدير المبتدأ إما مؤخراً لتناسب المعطوف عليه فإن حسبنا خبر ، والله مبتدأ بقرينة ذكره في المعطوف عليه ومجىء حذفه في الاستعمال وانتقال الذهن إليه ، وإما مقدماً رعاية لقرب المرجع مع ما سبق.(18/233)
واعترض بأنه لا يخفى أنه بعد تقدير المبتدأ لو لم يؤل نعم الوكيل بمقول في حقه ذلك تكون الجملة أيضاً إنشائية إذ الجملة الإسمية التي خبرها إنشاء إنشائية كما أن التي خبرها فعل فعلية بحسب المعنى كيف لا ولا فرق بين نعم الرجل زيد ، وزيد نعم الرجل في أن مدلول كل منهما نسبة غير محتملة للصدق والكذب ، وبعد التأويل لا يكون المعطوف جملة نعم الوكيل بل جملة متعلق خبرها نعم الوكيل والإشكال إنما هو في عطف نعم الوكيل إلا أن يقال يختار هدّا ، ويقال : الجواب عن شيء قد يكون بتقرير ذلك الشيء وإبداء شيء آخر وقد يكون بتغيير ذلك الشيء ، وما ههنا من الثاني فمن حيث الظاهر المعطوف هو جملة نعم الوكيل فيعود الإشكال ، ومن حيث الحقيقة هو جملة هو مقول فلا إشكال لكن يرد أنه بعد التأويل يفوت إنشاء المدح العام الذي وضع أفعال المدح له بل يصير للإخبار بالمدح الخاص ، وهو أنه مقول في حقه نعم الوكيل وأيضاً مقولية المقول المذكور فيه إنما تكون بطريق الحمل والإخبار عنه بنعم الوكيل فلا بدّ من تقدير مقول في حقه مرة أخرى ، ويلزم تقديرات غير متناهية وكأنه لهذا لم يؤل الجمهور الإنشاء الواقع خبراً بذلك وإنما هو مختار السعد رحمه الله تعالى ، وقد جوز بعضهم على تقدير كون الواو من المحكي عطف نعم الوكيل على حسبنا باعتبار كونه في معنى الفعل كما عطف { جَعَلَ } على { فَالِقُ } في قوله تعالى : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً } [ الأنعام : 96 ] على رأي فحينئذٍ يكون من عطف الجملة التي لها محل من الإعراب على المفرد لأنه إذ ذاك خبر عن المفرد ، وبعض المحققين يجوزون ذلك لا من عطف الإنشاء على الإخبار وهذا وإن كان في الحقيقة لا غبار عليه إلا أن أمر العطف على الخبر بناءاً على ما ذكره الشيخ الرضي من أن نعم الرجل بمعنى المفرد وتقديره(18/234)
أي رجل جيد أظهر كما لا يخفى ، ومن الناس من ادعى أن الآية شاهد على جواز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب بناءاً على أن الواو من الحكاية لا غير.
ولا يخفى عليك أنه بعد تسليم كون الواو كذلك فيها لا تصلح شاهداً على ما ذكر لجواز أن يكون قالوا مقدراً في المعطوف بقرينة ذكره في المعطوف عليه فيكون من عطف الجملة الفعلية الخبرية ، على الجملة الفعلية الخبرية ، ثم إن الظاهر كما يقتضي أن يكون في الآية عطف على الإخبار وفيه الخلاف الذي عرفت كذلك يقتضي عطف الفعلية على الاسمية وفيه أيضاً خلاف مشهور كعكسه ومما ذكرنا في أمر الإنشاء والإخبار يستخرج الجواب عن ذلك ، وقد أطال العلماء الكلام في هذا المقام وما ذكرناه قليل من كثير ووشل من غدير ، ثم إن هذه الكلمة كانت آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار كما أخرجه البخاري في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد الرزاق وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) " ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء وقال : حسبي الله ونعم الوكيل.
وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف ". أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 127 ـ 128}(18/235)
قوله تعالى : {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ}
فصل
قال الفخر :
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج والمعنى : وخرجوا فانقلبوا ، فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه ، كقوله : {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} [ الشعراء : 63 ] أي فضرب فانفلق ، وقوله : {بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ} قال مجاهد والسدي : النعمة ههنا العافية ، والفضل التجارة ، وقيل : النعمة منافع الدنيا ، والفضل ثواب الآخرة ، وقوله : {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} لم يصبهم قتل ولا جراح في قول الجميع {واتبعوا رضوان الله} في طاعة رسوله {والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا ، وفي ذلك إلقاء الحسرة في قلوب المتخلفين عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم مما فاز به هؤلاء ، وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزوا ، فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 82}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { فانقلبوا بنعمة من الله } تعقيب للإخبار عن ثبات إيمانهم وقولِهم : حسبنا الله ونعم الوكيل ، وهو تعقيب لمحذوف يدلّ عليه فعل { فانقلبوا } ، لأنّ الانقلاب يقتضي أنَّهم خرجوا للقاء العدوّ الذي بلغ عنهم أنّهم جمعوا لَهم ولم يَعبأوا بخويف الشيطان ، والتقدير : فخرجوا فانقلبوا بنعمة من الله.
والباء للملابسة أي ملابسين لِنعمة وفضل من الله.
فالنعمة هي ما أخذوه من الأموال ، والفضلُ فضل الجهاد.
ومعنى لم يمسسهم سوء لم يلاقوا حرباً مع المشركين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 287}
وقال أبو حيان :
وختمها بقوله : {والله ذو فضل عظيم} ، مناسب لقوله : { بنعمة من الله وفضل } تفضل عليهم بالتيسير والتوفيق في ما فعلوه ، وفي ذلك تحسير لمن تخلف عن الخروج حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء من الثواب في الآخرة والثناء الجميل في الدنيا.(18/236)
وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزواً ؟ فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو ، ورضي عنهم.
وهذه عاقبة تفويض أمرهم إليه تعالى ، جازاهم بنعمته ، وفضله ، وسلامتهم واتباعهم رضاه. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 125}
وقال الآلوسى :
{ والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } حيث تفضل عليهم بما تفضل ، وفيما تقدم مع تذييله بهذه الآية المشتملة على الاسم الكريم الجامع وإسناد { ذُو فَضْلٍ } إليه ووصف الفضل بالعظم إيذان بأن المتخلفين فوتوا على أنفسهم أمراً عظيماً لا يكتنه كنهه وهم أحقاء بأن يتحسروا عليه تحسراً ليس بعده. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 129}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } في فاعل " فزادهم " ثلاثة أوجهٍ :
الأول - وهو الأظهرُ - : أنه ضميرٌ يعود على المصدر المفهوم من " قال " أي فزادهم القول بكيتَ وكيتَ إيماناً ، كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ].
الثاني : أنه يعود على المقول - الذي هو { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } كأنه قيل : قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيماناً.
الثالث : أنه يعود على " الناس " إذا أريد به فَرْدٌ واحد - كما نُقِلَ في سبب النزول - وهو نعيم بن مسعود الأشْجَعِيّ.
واستضعف أبو حيّان الوجهين الأخيرَيْنِ ، قال : " وهما ضعيفانِ ؛ من حيثُ إنّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به ، لا هو في نفسه ، ومن حيثُ إنّ الثاني إذا أطلقَ على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع ، لا على المفرد. تقول : مفارقة شابت - باعتبار الإخبار عن الجمع - ولا يجوز : مفارقة شاب - باعتبار : مَفْرِقُهُ شَابَ ".(18/237)
قال شهابُ الدّين : " وفيما قاله نَظَر ؛ لأن المقولَ هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان - وأما قولُهُ : تجري على الجمع ، لا على المفرد ، فغير مُسَلَّم ، ويعضده أنهم نَصُّوا على أنه يجوز اعتبار لفظ الجمع الواقع موقع المُثَنَّى تارةً ، ومعناه تارةً أخْرَى ، فأجازوا : رؤوس الكبشينِ قطعتهن ، وقطعتهما ، وإذا ثبت ذلك في الجمع الواقع موقع المثنى ، فليَجز في الواقع موقع المفرد. ولقائلٍ أن يفرق بينهما ، وهو أنه إنما جاز أن يراعى معنى التثنية - المعبر عنها بلفظ الجمع - لقربها منه ؛ من حيثُ إنّ كلاً منهما فيه ضم شيء إلى مثله. بخلاف المفرد ، فإنه بعيدٌ من الجمع ؛ لعدم الضمِّ ، فلا يلزمُ من مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاة معنى المفردِ.
قوله : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ } في متعلق باء " بنعمة " وجهانِ :
أحدهما : أنها متعلقة بنفس الفعل على أنها باء التعدية ؟
الثاني : أنها تتعلَّق بمحذوف ، على أنَّها حال من الضمير في " انقلبوا " والباء على هذه المصاحبة ، كأنه قيل : فانقلبوا ملتبسين بنعمة ومصاحبين لها. والتقدير : وخرجوا فانقلبوا ، وحذف الخروجُ ؛ لأن الانقلابَ يدل عليه ، كقول : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي : فضرب فتنفلق ومعنى الآية : " فانقلبوا " بعافية ، لم يلقوا عدواً " وفضل " تجارة وربح ، وهو ما أصابوا من السوق.
قوله : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } هذه الجملة في محل نصب على الحال - أيضاً - وفي ذي الحال وجهان :
أحدهما : أنه فاعل " انقلبوا " أي : انقلبوا سالمين من السوء.(18/238)
الثاني : أنه الضمير المستكن في " بنعمة " إذا كانت حالاً ، والتقدير : فانقلبوا منعَّمينَ بريئينَ من السوء. والعاملُ فيها : العامل في بنعمة فهما حالان متداخلان ، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً بـ " لم " وفيها ضمير ذي الحال جاز دخول الواو وعدمه فمن الأول قوله تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } [ الأنعام : 93 ] وقول كعب : [ البسيط ]
لا تَأخُذَنِّي بِأقْوالِ الوُشَاةِ وَلَمْ... أذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقَاوِيلُ
ومن الثَّاني هذه الآية ، وقوله : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } [ الأحزاب : 25 ] وقول [ قيس ] بن الأسلت :
وَأضْرِبُ الْقَوْنَسَ يَوْمَ الْوَغَى... بِالسَّيْفِ لَمْ يَقْصُرْ بِهِ بَاعِي
وبهذا يُعْرَف غَلَط الأستاذ ابن خروف ؛ حيث زعم أنّ الواوَ لازَمةٌ في مِثْلِ هَذَا ، سواء كان في الجملة ضمير ، أو لَمْ يَكُنْ.
قوله : { واتبعوا } يجوز في هذه الجملة وجهانِ :
الأول : أنا عطف على " انقلبوا ".
الثاني : أنها حال من فاعل " انقلبوا " - أيضاً - ويكون على إضمار " قد " أي : وقد اتبعوا. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 58 ـ 60}. بتصرف.(18/239)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
قال عليه الرحمة :
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}
لم يلتَبِسْ على ظواهرهم شيءٌ مِنْ أحوال الدنيا إلا انفتحت لهم - في أسرارهم - طوالع من الكشوفات ، فازدادوا يقيناً على يقين.
ومن أمارات اليقين استقلالُ القلوب بالله عند انقطاع المُنَى مِن الخَلْق في توهم الإنجاد والإعانة.
قوله تعالى { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}
كذا سُنَّة الحق - سبحانه - مع مَنْ صَدَق في التجائه إليه أن يمهد مقيله في ظل كفايته ؛ فلا البلاء يمسه ، ولا العناء يصيبه ، ولا النَّصَبَ يُظِلُّه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 297 ـ 298}(18/240)
قوله تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما جزاهم سبحانه على أمثال ذلك بما وقع لهم من فوزهم بالسلامة والغنيمة بفضل من حاز أوصاف الكمال وتنزه عن كل نقص بما له من رداء الكبرياء والجلال ، ورغبهم فيما لديه لتوليهم إياه ، أتبع ذلك بما يزيدهم بصيرة من أن المخوف لهم مَن كيده ضعيف وأمره هين خفيف واهٍ سخيف وهو الشيطان ، وساق ذلك مساق التعليل لما قبله من حيازتهم للفضل وبعدهم عن السوء بأن وليهم الله وعدوهم الشيطان فقال التفاتاً إليهم بزيادة في تنشيطهم أو تشجيعهم وتثبيتهم : {إنما ذلكم} أي القائل الذي تقدم أنه الناس {الشيطان} أي الطريد البعيد المحترق.
ولما نسب القول إلأيه لأنه الذي زينه لهم حتى أشربته القلوب وامتلأت به الصدور ، كان كأنه قيل : فماذا عساه يصنع ؟ فقال : {يخوف} أي يخوفكم {أولياءه} لكنه أسقط المفعول الأول إشارة إلى أن تخويفه يؤول إلى خوف أوليائه ، لأنه أولياء الرحمن إذا ثبتوا لأجله أنجز لهم ما وعدهم من النصرة على أولياء الشيطان ، وإلى أن من خاف من تخويفه وعمل بموجب خوفه ففيه ولاية له تصحح إضافته إليه قلت أو كثرت.
ولما كان المعنى أنه يشوش بالخوف من أوليائه ، تسبب عنه النهي عن خوفهم فقال : {فلا تخافوهم} أي لأن وليهم الشيطان {وخافون} أي فلا تعصوا أمري ولا تتخلفوا أبداً عن رسولي {إن كنتم مؤمنين} أي مباعدين لأولياء الشيطان بوصف الإيمان. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 185}(18/241)
فصل
قال الفخر :
اعلم أن قوله : {الشيطان} خبر {ذلكم} بمعنى : إنما ذلكم المثبط هو الشيطان {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} جملة مستأنفة بيان لتثبيطه ، أو {الشيطان} صفة لاسم الاشارة و{يُخَوّفُ} الخبر ، والمراد بالشيطان الركب ، وقيل : نعيم بن مسعود ، وسمي شيطاناً لعتوه وتمرده في الكفر ، كقوله : {شياطين الإنس والجن} [ الأنعام : 112 ] وقيل : هو الشيطان يخوف بالوسوسة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 83}
وقال الآلوسى :
{ إِنَّمَا ذلكم } الإشارة إلى المثبط بالذات أو بالواسطة ، والخطاب للمؤمنين وهو مبتدأ ، وقوله : { الشيطان } بمعنى إبليس لأنه علم له بالغلبة خبره على التشبيه البليغ ، وقوله تعالى : { يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ } جملة مستأنفة مبينة لشيطنته ، أو حال كما في قوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ].
ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة على التشبيه أيضاً ، ويحتمل أن يكون مجازاً حيث جعله هو ويخوف هو الخبر ، وجوز أن يكون ذا إشارة إلى قول المثبط فلا بدّ حينئذ من تقدير مضاف أي قول الشيطان ، والمراد به إبليس أيضاً ولا تجوز فيه على الصحيح ، وإنما التجوز في الإضافة إليه لأنه لما كان القول بوسوسته وسببه جعل كأنه قوله. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 132}
قوله تعالى : {يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ}
فصل
قال القرطبى :
قال ابن عباس وغيره : المعنى يخوفكم أولياءه ؛ أي بأوليائه ، أو من أوليائه ؛ فحذف حرف الجر ووصل الفعل إلى الاسم فنصب.
كما قال تعالى : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } أي لينذركم ببأس شديد ؛ أي يخوّف المؤمن بالكافر.
وقال الحسن والسُّدِّي : المعنى يخوّف أولياءه المنافقين ؛ ليقعدوا عن قتال المشركين.
فأما أولياء الله فإنهم لا يخافونه إذا خوّفهم.(18/242)
وقد قيل : إن المراد هذا الذي يخوّفكم بجمع الكفار شيطانٌ من شياطين الإنس ؛ إمّا نُعيم بن مسعود أو غيره ، على الخلاف في ذلك كما تقدّم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 282 ـ 283}
وقال الفخر :
أما قوله تعالى : {يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ} ففيه سؤال : وهو أن الذين سماهم الله بالشيطان إنما خوفوا المؤمنين ، فما معنى قوله : {الشيطان يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ} والمفسرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه :
الأول : تقدير الكلام : ذلكم الشيطان يخوفكم بأوليائه ، فحذف المفعول الثاني وحذف الجار ، ومثال حذف المفعول الثاني قوله تعالى : {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليم} [ القصص : 7 ] أي فإذا خفت عليه فرعون ، ومثال حذف الجار قوله تعالى : {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [ الكهف : 2 ] معناه : لينذركم ببأس وقوله : {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} [ غافر : 15 ] أي لينذركم بيوم التلاق ، وهذا قول الفراء ، والزجاج ، وأبي علي.
قالوا : ويدل عليه قراءة أبي بن كعب {يخوفكم بأوليائه }.
القول الثاني : أن هذا على قول القائل : خوفت زيدا عمرا ، وتقدير الآية : يخوفكم أولياءه ، فحذف المفعول الأول ، كما تقول : أعطيت الأموال ، أي أعطيت القوم الأموال ، قال ابن الأنباري : وهذا أولى من ادعاء جار لا دليل عليه وقوله : {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا} أي لينذركم بأساً وقوله : {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} أي لينذركم يوم التلاق والتخويف يتعدى إلى مفعولين من غير حرف جر تقول : خاف زيد القتال ، وخوفته القتال وهذا الوجه يدل عليه قراءة ابن مسعود {يخوفكم أَوْلِيَاءهُ }.(18/243)
القول الثالث : أن معنى الآية : يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين ، والمعنى الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره ، فأما أولياء الله ، فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره ومراده منهم ، وهذا قول الحسن والسدي ، فالقول الأول فيه محذوفان ، والثاني فيه محذوف واحد ، والثالث لا حذف فيه.
وأما الأولياء فهم المشركون والكفار ، وقوله : {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} الكناية في القولين الأولين عائدة إلى الأولياء.
وفي القول الثالث عائدة إلى {الناس} في قوله : {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [ آل عمران : 173 ] {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} فتقعدوا عن القتال وتجنبوا {وَخَافُونِ} فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يعني أن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 83 ـ 84}
وقال القرطبى :
{ فَلاَ تَخَافُوهُمْ } أي لا تخافوا الكافرين المذكورين في قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ }.
أو يرجع إلى الأولياء إن قلت : إن المعنى يخوّف بأوليائه أي يخوّفكم أولياءه.
قوله تعالى : { وَخَافُونِ } أي خافون في ترك أمري إن كنتم مصدّقين بوعدي.
والخوف في كلام العرب الذُّعْر.
وخَاوَفَنى فلان فَخُفْتُه ، أي كنتُ أشدّ خوفاً منه.
والخَوفاءُ المَفَازَة لا ماء بها.
ويُقال : ناقةٌ خَوْفَاء وهي الجُرْبَاء.
والخافة كالخريطة من الأَدَم يُشْتَارُ فيها العَسَل.
قال سَهلُ بنُ عبد الله : اجتمع بعض الصدّيقين إلى إبراهيم الخَلِيلِ فقالوا : ما الخوفُ ؟ فقال : لا تأمن حتى تبلغ المأمن.
قال سهل : وكان الربيع بن خيثم إذا مرَّ بِكِيرٍ يُغْشَى عليه ؛ فقيل لعليّ بن أبي طالب ذلك ؛ فقال : إذا أصابه ذلك فأعلموني.
(18/244)
فأصابه فأعلموه ، فجاءه فأدخل يده في قميصه فوجد حركته عالية فقال : أشهد أنّ هذا أخوف ( أهل ) زمانِكم.
فالخائف من الله تعالى هو أن يخَافَ أن يُعاقبَه إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة ؛ ولهذا قيل : ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه ، بل الخائفُ الذي يترك ما يخَافُ أن يُعذَّب عليه.
ففرض الله تعالى على العباد أن يخافوه فقال : { وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } وقال : { وَإِيَّايَ فارهبون }.
ومدح المؤمنين بالخوف فقال : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ }.
ولأرباب الإشارات في الخوف عبارات مرجعها إلى ما ذكرنا.
قال الأستاذ أبو عليّ الدَّقاق : دخلت على أبي بكر بن فُورَك رحمه الله عائداً ، فلما رآني دَمعتْ عيناه ، فقلت له : إنّ الله يعافيك ويَشفِيك.
فقال لي : أترى أنِّي أخاف من الموت ؟ إنما أخاف مما وراء الموت.
وفي سُنن ابن ماجه عن أبي ذَرٍّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّي أرى ما لا تَرَوْن وأسمع ما لا تسمعون أطّت السماء وحُقّ لها أن تَئِط ما فيها موضع أربِع أصابع إلاَّ وَمَلَكٌ واضعٌ جبهتَه ساجداً لله واللَّهِ لو تعلمون ما أعلم لضَحِكتم قليلاً ولبكيَتَمْ كثيراً وما تلذّذتم بالنساء على الفُرُشَات ولخرجتم إلى الصُّعُدات تَجْأَرُون إلى الله واللَّهِ لَودِدْت أني كنت شجرة تُعْضَد " خرّجه الترمذيّ وقال : حديث حسَن غريب.
ويُروى من غير هذا الوجه أن أبا ذَرٍّ قال : "لوَدِدْت أنّي كنت شجرة تُعْضَد". والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 283 ـ 284}(18/245)
قوله تعالى { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
قال الآلوسى :
وقوله تعالى : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن كان الخطاب للمتخلفين فالأمر فيه واضح ، وإن كان للخارجين كان مساقاً للإلهاب والتهييج لهم لتحقق إيمانهم ، وإن كان للجميع ففيه تغليب ، وأيّاً مّا كان فالجزاء محذوف ، وقيل : إن كان الخطاب فيما تقدم للمؤمنين الخلص لم يفتقر إلى الجزاء لكونه في معنى التعليل ، وإن كان للآخرين افتقر إليه وكأن المعنى إن كنتم مؤمنين فخافوني وجاهدوا مع رسولي لأن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله تعالى على خوف الناس. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 132}
سؤال : فإن قال قائل : وكيف قيل : "يخوف أولياءه" ؟ وهل يخوف الشيطان أولياءه ؟ [وكيف] ؟
قيل إن كان معناه يخوّفكم بأوليائه"يخوف أولياءه" ؟ قيل : ذلك نظير قوله : ( لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ) [سورة الكهف : 2] بمعنى : لينذركم بأسه الشديد، وذلك أن البأس لا يُنذر، وإنما ينذر به.
وقد كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : معنى ذلك : يخوف الناسَ أولياءه، كقول القائل : "هو يُعطي الدراهم، ويكسو الثياب"، بمعنى : هو يعطي الناس الدراهم ويكسوهم الثياب، فحذف ذلك للاستغناء عنه.
قال الطبرى :
وليس الذي شبه [من] ذلك بمشتبه، لأن"الدراهم" في قول القائل : "هو يعطي الدراهم"، معلوم أن المعطَى هي"الدراهم"، وليس كذلك"الأولياء" -في قوله : "يخوف أولياءه"- مخوَّفين، بل التخويف من الأولياء لغيرهم، فلذلك افترقا. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 417}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
" إنما " حرف مكفوف بـ " ما " عن العمل وقد تقدم الكلام فيها أول الكتاب. وفي إعراب هذه الجملة خمسةُ أوجهٍ :(18/246)
الأول : أن يكون " ذلكم " مبتدأ ، " والشيطان " خبره ، و" يخوف أولياءه " حال ؛ بدليل وقوع الحالِ الصريحةِ في مثل هذا التركيب ، نحو قوله : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] وقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ].
الثاني : أن يكون " الشيطان " بدلاً ، أو عطف بيان ، و" يخوف " الخبر ، ذكره أبو البقاء.
الثالث : أن يكون " الشيطان " نعتاً لاسم الإشارة ، و" يخوف " على أن يرادَ بـ " الشيطان " نعيم ، أو أبو سفيان - ذكره الزمخشري قال أبو حيّان : " وإنما قال : والمراد بـ " الشيطان " نعيم ، أو أبو سفيان ؛ لأنه لا يكون نعتاً - والمراد به إبليس - لأنه إذ ذاك - يكون علماً بالغلبة ، إذ أصله صفة - كالعيُّوق - ثم غلب على إبليس كما غلب العيُّوق على النَّجْمِ الَّذِي ينطلق عليه " وفيه نظرٌ.
الرابع : أن يكون " ذلكم " مبتدأ ، و" الشيطان " خبر ، و" يخوف " جملةٌ مستأنفةٌ ، بيان لشيطنته ، والمراد بالشَّيْطانِ هو المثبط للمؤمنين.
الخامس : أن يكون " ذلكم " مبتدأ ، و" الشيطان " مبتدأ ثانٍ ، و" يخوف " خبر الثاني ، والثاني وخبره خبرُ الأول ؛ قاله ابنُ عطيةَ ، وقال : " وهذا الإعرابُ خير - في تناسق المعنى - من أن يكون " الشيطان " خبر " ذلكم " لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة ".
(18/247)
ورَدَّ عليه أبو حيّان هذا الإعراب - إن كان الضمير في " أولياءه " عائداً على " الشيطان " لخُلُوِّ الجملة الواقعة خبراً عن رابط يربطها بالمبتدأ - وليست نفس المبتدأ في المعنى ، نحو : هِجِّيرى أبِي بكر لا إلَه إلا الله وإن كان عائداً على " ذلكم " - ويراد بـ " ذلكم " غير الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد [ يضرب غلامها ] ، والمعنى : إنما ذلكم الركب ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أنتم أولياؤه ، أي : أولياء الركب ، أو أولياء أبي سفيان - والمشار إليه بـ " ذلكم " هل هو عين أو معنى ؟ فيه احتمالان :
أحدهما : أنه إشارةٌ إلى ناسٍِ مخصوصين - كَنُعَيْم وأبيب سفيانَ وأشياعهما - على ما تقدم.
الثاني : إشارة إلى جميع ما جرى من أخبارِ الركبِ وإرسال أبي سفيان وجزع من جزع - وعلى هذا التقدير فلا بُدَّ من حذف مضافٍ ، أي : فعل الشيطان ، وقدَّره الزمخشري : قول الشيطانِ ، أي : قوله السابق ، وهو : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } [ آل عمران : 173 ] وعلى كلا التقديرين - أعني كون الإشارة لأعيان أو معان - فالإخبار بـ " الشيطان " عن " ذلكم " مجاز ؛ لأن الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعال الصادرة من الكفار - ليست نفس الشيطان ، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جَازَ ذلك.
قوله : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } قد تقدم ما محله من الإعراب. والتضعيفُ فيه للتعدية ، فإنه قَبْلَ التَّضْعيف متعدٍّ إلى واحدٍ ، وبالتضعيف يكتسب ثانياً ، وهو من باب " أعطى " ، فيجوز حذف مفعوليه ، أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً ، وهو في الآية الكريمة يحتمل أوجُهاً :
(18/248)
أحدها : أنْ يكون المفعولُ الأولُ محذوفاً ، تقديره : يخوفكم أولياءه ، ويقوِّي هذا التقديرَ قراءة ابن عبَّاسٍ وابن مسعود هذه الآية كذلك ، والمراد بـ " أولياءه " - هنا - الكفارُ ، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ ، أي : شر أوليائه ؛ لأن الذوات لا يخاف منها.
الثاني : أن يكون المفعول الثاني هو المحذوف ، و" أولياءه " هو الأول ، والتقدير : يخوف أولياءه شَرَّ الكفار ، ويكون المراد بـ " أولياءه " - على هذا الوجه - المنافقين ومَنْ في قلبه مرضٌ ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج.
والمعنى : أن تخويفه بالكفار إنما يحصل للمنافقين الذين هم أولياؤه ، وأما أنتم فلا يصل إليكم تخويفه قاله الحسنُ والسُّدِّي.
الثالث : أن المفعولين محذوفان ، و" أولياءه " نعتٌ - على إسقاط حرف الجر - والتقدير : يخوفكم الشر بأوليائه. والباء للسبب ، أي : بسبب أوليائه فيكونون هم كآلةِ التخويف لكم.
قالوا : ومثل حذف المفعول الثاني قوله تعالى : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] أي : فإذا خِفْتِ عليه فرعونَ. ومثال حذف الجارّ قوله تعالى : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } [ الكهف : 2 ] معناه لينذركم ببأسٍ ، وقوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } [ غافر : 15 ]. وهذا قول الفرّاء والزّجّاج وأبي عليّ ، قالوا : ويدل عليه قراءة أبَيٍّ والنَّخَعِيِّ : يخوفكم بأوليائه.
قال شهابُ الدّينِ : فكأن هذا القائل رأى قراءة أبَيّ والنخعيّ " يخوف بأوليائه " فظن أنَّ قراءة الجمهورِ مثلها في الأصل ، ثم حُذِفتَ الباء ، وليس كذلك ، بل تُخَرَّج قراءةُ الجمهورِ على ما تقدم ؛ إذ لا حاجةَ إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له.
وأما قراءة أبَيّ فيحتمل أن تكون الباء زائدة ، كقوله : [ البسيط ]
(18/249)
...................................... سُودُ الْمَحَاجِرِ لا يَقْرَانَ بِالسُّوَرِ
فتكون كقراءة الجمهور في المعنى.
ويحتمل أن تكون للسبب ، والمفعولان محذوفان - كما تقدم.
قوله : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } في الضمير المنصوب ثلاثةُ أوجهٍ :
الأول - وهو الأظهر - : أنه يعود على " أولياءه " أي : فلا تخافوا أولياءَ الشيطان ، هذا إن أريد بالأولياء كفار قريش.
الثاني : أنه يعود على " الناس " من قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] إن كان المراد بـ " أولياءه " المنافقين.
الثالث : أنه يعود على " الشيطان " قال أبو البقاء : " إنما جمع الضمير ؛ لأن الشيطان جنس " والياء في قوله : " وخافوني " من الزوائد ، فإثبتها أبو عمرو وصلاً ، وحَذَفَها وقفاً - على قاعدته - والباقون يحذفونها مطلقاً.
وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ، أو متقدم - عند مَنْ يرى ذلك - وهذا من باب الإلهاب والتهييج. إلا فهم ملتبسون بالإيمان. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 62 ـ 65}. بتصرف.
لطيفة
قال ابن عادل :
فصل في ورود الخوف في القرآن الكريم
ورد الخوف على ثلاثةِ أوجهٍ :
الأول : الخوفُ بعينه ، كهذه الآية.
الثاني : الخوف : القتال ، قال تعالى : { فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [ الأحزاب : 19 ] أي : إذا ذهب القتال.
الثالث : الخوف : العِلْم ، قال تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] وقوله : { وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 51 ]. أي : يعلمون وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } [ النساء : 35 ] أي : علمتم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 65}(18/250)
ومن لطائف العلامة الفيروزابادى
قال عليه الرحمة :
( بصيرة فى الخوف )
وهو توقُّع مكروه عن أَمارة مظنونة أَو معلومة، كما أَن الرجاءَ والطمع توقع محبوب عن أَمارة مظنونة أَو معلومة، ويضادّ الخوف الأَمن.
ويستعمل ذلك فى الأُمور الأَخروية والدّنيويّة.
وقوله تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} قد فسّر بعرفتم.
وحقيقته : وإِن وقع لكم خوف من ذلك لمعرفتكم.
والخوف من الله لا يراد به ما يخطِر بالبال من الرّعب كاستشعار الخوف، بل إِنَّما يراد به الكفّ عن المعاصى وتحرّى الطَّاعات.
ولذلك قيل : لا يعدُّ خائفاً من لم يكن للذُّنوب تاركاً.
والخوف أَجلّ منازل السّالكين وأَنفعها للقلب.
وهو فرض على كلِّ أَحد.
قال تعالى : {وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} وقال : {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} ومدح الله تعالى أَهله فى كتابه وأَثنى عليهم فقال : {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَائِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} فى مسند الإِمام أَحمد وجامع التِّرمذى "عن عائشة رضى الله عنها قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : "الذين يؤتون ما آتَوْا وقلوبهم وجلة" أَهو الَّذى يسرق ويشرب الخمر ويزنى ؟ قال : لا يا ابنة الصّديق : ولكنَّه الرّجل يصوم ويصلِّى ويتصدّق ويخاف أَن لا يقبل منه" وقال الحسن : عملوا والله الصَّالحات واجتهدوا فيها، وخافوا أَن تُردّ عليهم.
وقال الجنيد : الخوف توقع العقوبة على مجرى الأَنفاس.
وقيل : الخوف : اضطراب القلب وحركته من تذكُّر المَخُوف.(18/251)
وقيل الخوف : هرب القلب من حلول المكروه وعند استشعاره.
وقيل : الخوف العلم بمجارى الأَحكام.
وهذا سبب الخوف لا نفسه.
وقال أَبو حفص : الخوف سوط الله يقوِّم به الشاردين عن بابه.
وقال : الخوف سراج فى القلب يبصر به ما فيه من الخير والشرّ.
وكلّ واحد إِذا خِفْته هربت منه إِلاَّ الله فإِنَّك إِذا خفته هربت إِليه.
وقال إِبراهيم بن سفيان : إِذا سكن الخوفُ القلب أَحرق مواضع الشَّهوات منه وطرد الدّنيا عنه.
وقال ذو النُّون : الناس على الطَّريق ما لم يَزلْ عنهم الخوف، فإِذا زال عنهم الخوف ضَلُّوا عن الطَّريق.
والخوف ليس مقصوداً لذاته بل مقصود لغيره.
والخوف المحمود الصَّادق : ما حال بين صاحبه ومحارم الله، فإِذا تجاوز ذلك خيف منه اليأْس والقنوط.
وقال أَبو عثمان : صِدْق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهراً وباطناً.
وقال الأَنصارى : الخوف هو الانخلاع عن طمأْنينة الأَمن بمطالعة الخَبر يعنى الخروج من سكون الأَمن باستحضار ما أَخبر اللهُ به من الوعد والوعيد.
وأَمّا التخويف من الله فهو الحَثُّ على التحرُّز.
وعلى ذلك قوله تعالى : {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} ونهى الله تعالى عن مخافة الشيطان والمبالاة بتخويفه، فقال {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} أَى لا تأْتمروا للشيطان وأْتمروا لله تعالى.
ويقال تخوّفناهم أَى تنقَّضاهم تنقُّصا اقتضاه الخوف منهم.
وقوله : {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي} فخوفه منهم أَلاَّ يراعوا الشريعة ولا يحفظوا نظام الدّين، لا أَن يرثوا ماله كما ظنَّه بعض الجهلة.
فالقُنْيات الدّنيويّة أَخسُّ عند الأَنبياءِ من أَن يُشفقوا عليها.
والخيفة : الحالة الَّتى عليها الإِنسان من الخوف.(18/252)
قال تعالى : {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} واستعمل استعمال الخوف.
قال تعالى {وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} وتخصيصُ لفظِ الخيفة تنبيه أَنَّ الخوف منهم حالة لازمة لا تفارقهم.
والتخوّف : ظهور الخوف من الإِنسان.
قال تعالى : {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ}.
وقد ورد فى القرآن الخوف على خمسة وجوه :
الأَوّل : بمعنى القتل والهزيمة {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ} أَى القتل.
الثَّانى : بمعنى الحرب والقتال {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أَى إِذا انجلى الحرب {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} أَى الحرب.
الثالث : بمعنى العلم والدّراية {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} أَى عِلم {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أَى يعلما {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} أَى علمتم.
الرّابع : بمعنى النقص {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أَى تنقُّص.
الخامس : بعنى الرُّعب والخشية من العذاب والعقوبة {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً}.(18/253)
وفى مواضع كثيرة قُرِن الخوف فى القرآن بـ "لا" النَّافية وبـ "لا" النَّاهية، نحو {لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} {لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ} {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى} {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} {لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى} {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ}. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 140 ـ 142}(18/254)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}
الإشارة في تسليط دواعي الشيطان على قلوب الأولياء صدق فرارهم إلى الله ؛ كالصبيِّ الذي يُخوَّف بشيء يفزع الصبيان ، فإذا خاف لم يهتدِ إلى غير أمه ، فإذا أتى إليها آوَتْه إلى نفسها ، وضمَّتهُ إلى نَحْرِها ، وألصقَتْ بِخَدِّه خدَّها.
كذلك العبد إذا صدق في ابتهاله إلى الله ، ورجوعه إليه عن مخالفته ، آواه إلى كنف قربته ، وتداركه بحسن لطفه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 298}(18/255)
قوله تعالى : { وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما مدح سبحانه وتعالى المسارعين في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وختم ذلك بالنهي عن الخوف من أولياء الشيطان ، أعقبه بذم المسارعين في الكفر والنهي عن الحزن من أجلهم.
ولما كان أكثر الناس - كالمنافقين الراجعين عن أحد ، ثم المقاتلين القائلين : هل لنا من الأمر من شيء - أرجفوا إلى أبي عامر وعبد الله بن أبيّ لأخذ الأمان من أبي سفيان ، ثم ركب عبد القيس أو نعيم بن مسعود ، ثم من استجاب من أهل المدينة وأرجف بما قالوا في ثبط المؤمنين ، وكان ذلك مما يخطر بالبال تمادي أيام الكفر وأهله غالبِين ، ويقدح في رجاء قصر مدته ، ويوجب الحزن على ذلك ، قال تعالى قاصراً الخطاب على أعظم الخلق وأشفقهم وأحبهم في صلاحهم {ولا يحزنك الذين يسارعون} أي يسرعون إسراع من يسابق خصماً {في الكفر} ثم علل ذلك بقوله : {إنهم لن يضروا الله} أي الذي له جميع العظمة {شيئاً} أي دينه بإذلال أنصاره والقائمين به ، وحذف المضاف تفخيماً له وترغيباً فيه حيث جعله هو المضاف إليه.
ولما نفى ما خيف من أمرهم كان مظنة السؤال عن الحاكم لهم على المسارعة فقيل جواباً : {يريد الله} أي الذي له الأمر كله {ألاّ يجعل لهم حظاً} أي نصيباً {في الآخرة} ولما كانت المسارعة في ذلك عظيمة ختمت الآية بقوله : {ولهم عذاب عظيم} قد عم جميع ذواتهم ، لأن المسارعة دلت على أن الكفر قد ملأ أبدانهم ونفوسهم وأرواحهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 185 ـ 186}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في سبب نزول الآية على وجوه :(18/256)
الأول : أنها نزلت في كفار قريش ، والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم ، والمعنى : لا يحزنك من يسارع في الكفر بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك ، فإنهم بهذا الصنيع إنما يضرون أنفسهم ولا يضرون الله ، ولا بد من حمل ذلك على أنهم لن يضروا النبي وأصحابه من المؤمنين شيئا ، وإذا حمل على ذلك فلا بد من حمله على ضرر مخصوص ، لأن من المشهور أنهم بعد ذلك ألحقوا أنواعا من الضرر بالنبي عليه الصلاة والسلام ، والأولى أن يكون ذلك محمولا على أن مقصودهم من جمع العساكر إبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة ، وهذا المقصود لا يحصل لهم ، بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم ، ويعظم أمرك ويعلو شأنك.
الثاني : أنها نزلت في المنافقين ، ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصرة والظفر ، أو بسبب أنهم كانوا يقولون إن محمداً طالب ملك ، فتارة يكون الأمر له ، وتارة عليه ، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب ، وهذا كان ينفر المسلمين عن الإسلام ، فكان الرسول يحزن بسببه.
قال بعضهم : إن قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش فوقع الغم في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك السبب ، فإنه عليه السلام ظن أنهم بسبب تلك الردة يلحقون به مضرة.
فبين الله أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك قال القاضي : ويمكن أن يقوي هذا الوجه بأمور : الأول : أن المستمر على الكفر لا يوصف بانه يسارع في الكفر ، وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الايمان.
الثاني : أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن ، فاستوجب ذلك ، ثم أحبط.(18/257)
الثالث : أن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود ، فلما قدر النبي صلى الله عليه وسلم الانتفاع بايمانهم ، ثم كفروا حزن صلى الله عليه وسلم عند ذلك لفوات التكثير بهم ، فآمنه الله من ذلك وعرفه أن وجود إيمانهم كعدمه في أن أحواله لا تتغير.
القول الرابع : أن المراد رؤساء اليهود : كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم لمتاع الدنيا.
قال القفال رحمه الله : ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار بدليل قوله تعالى : {يأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر} [ المائدة : 41 ] إلى قوله : {وَمِنَ الذين هِادُواْ} [ المائدة : 41 ] فدلت هذه الآية على أن حزنه كان حاصلا من كل هؤلاء الكفار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 84 ـ 85}
فصل
قال القرطبى :
قراءة نافع بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع إلاَّ في الأنبياء { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] فإنه بفتح الياء وبضم الزاي.
وضِده أبو جعفر.
وقرأ ابن مُحَيْصِن كلّها بضم الياء و( كسر ) الزاي.
والباقون كلّها بفتح الياء وضمّ الزاي.
وهما لغتان : حَزَنَني الأمر يَحْزُنُنِي ، وأحْزَنَنِي أيضاً وهي ( لغة ) قليلة ؛ والأولى أفصح اللّغتين ؛ قاله النحاس.
وقال الشاعر في "أحزن" :
مضى صُحْبِي وأحْزَنَنِي الدِّيارُ . . .
وقراءة العامة "يُسَارِعُونَ".
وقرأ طلحة "يُسْرِعون في الكفر".
قال الضحّاك : هم كفار قريش.
وقال غيره : هم المنافقون.
وقيل : هو ما ذكرناه قبلُ.
وقيل : هو عامّ في جميع الكفار.
ومُسارعتهم في الكفر المظاهرةُ على محمد صلى الله عليه وسلم.(18/258)
قال القُشَيريّ : والحُزْن على كُفرِ الكافر طاعة ؛ ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُفرِط في الحُزن على كفر قومه ، فنُهي عن ذلك ؛ كما قال : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } وقال : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً }. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 284 ـ 285}
فائدة
قال الآلوسى :
{ وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يسارعون فِى الكفر } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه إليه تشريفاً له بالتسلية مع الإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشؤونه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 132}
سؤال : فإن قيل : كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر ؟
فالجواب لا يحزنك فعلهم ، فإنك منصور عليهم. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 508}
فصل
قال الفخر :
في الآية سؤال : وهو أن الحزن على كفر الكافر ومعصية العاصي طاعة ، فكيف نهى الله عن الطاعة ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أنه كان يفرط ويسرف في الحزن على كفر قومه حتى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به ، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه ألا ترى إلى قوله تعالى : {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} [ فاطر : 8 ]
الثاني : أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ويعينوا عليك ، ألا ترى إلى قوله : {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم ، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 85}(18/259)
فصل
قال الآلوسى :
ومعنى : { يسارعون فِى الكفر } يقعون فيه سريعاً لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه ، ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بفي دون إلى الشائع تعديتها بها كما في { سَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ آل عمران : 133 ] وغيره ، وأوثر ذلك قيل : للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله سبحانه : { يسارعون فِى الخيرات } [ الأنبياء : 90 ] في حق المؤمنين ، وأما إيثار كلمة إلى في آيتها فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها والموصول فاعل { يَحْزُنكَ } وليست الصلة علة لعدم الحزن كما هو المعهود في مثله لأن الحزن من الوقوع في الكفر هو الأمر اللائق لأنه قبيح عند الله تعالى يجب أن يحزن من مشاهدته فلا يصح النهي عن الحزن من ذلك ، بل العلة هنا ما يترتب على تلك المسارعة من مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم إلا أنه عبر بذلك مبالغة في النهي.
والمراد لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 132}(18/260)
وقال ابن عاشور :
ومعنى { يسارعون في الكفر } يتوغّلون فيه ويَعجَلون إلى إظهاره وتأييده والعمل به عند سنوح الفرص ، ويحرصون على إلقائه في نفوس الناس ، فعبّر عن هذا المعنى بقوله : { يسارعون } ، فقيل : ذلك من التضمين ضمّن يسارعون معنى يقعون ، فعدّي بفي ، وهي طريقة "الكشاف" وشروحه ، وعندي أنّ هذا استعارة تمثيلية : شبّه حال حرصهم وجدّهم في تفكير الناس وإدخال الشكّ على المؤمنين وتربّصهم الدوائر وانتهازهم الفرص بحال الطالب المسارع الى تحصيل شيء يخشى أن يَفوته وهو متوغّل فيه متلبس به ، فلذلك عدّي بفي الدالة على سرعتهم سرعة طالب التمكين ، لا طالب الحصول ، إذ هو حاصل عندهم ولو عدّي بإلى لفهم منه أنّهم لم يكفروا عند المسارعة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 288}
قوله تعالى {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً}
قال الفخر :
والمعنى أنهم لن يضروا النبي وأصحابه شيئاً ، وقال عطاء : يريد : لن يضروا أولياء الله شيئاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 85}
وقال الآلوسى :
المراد لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك ، ويدل على ذلك إيلاء قوله تعالى :
{ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } رداً وإنكاراً لظن الخوف ، والكلام على حذف مضاف ، والمراد أولياء الله مثلاً للقرينة العقلية عليه ، وفي حذف ذلك وتعليق نفي الضرر به تعالى تشريف للمؤمنين وإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى ، وفي ذلك مزيد مبالغة في التسلية ، و{ شَيْئاً } في موضع المصدر أي لن يضروه ضرراً ما ، وقيل : مفعول بواسطة حرف الجر أي لن يضروه بشيء ما أصلاً ، وتأويل يضروا بما يتعدى بنفسه إلى مفعولين مما لا داعي إليه ، ولعل المقام يدعو إلى خلافه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 133}(18/261)
وقال ابن عاشور :
وجملة { إنهم لن يضروا الله شيئاً } تعليل للنهي عن أن يحزنه تسارعهم الى الكفر بعلّة يوقن بها الرسول عليه الصلاة والسلام.
وموقع إنّ في مثل هذا المقام إفادة التعليل ، وإنّ تُغني غناء فاء التسبّب ، كما تقدّم غير مرّة.
ونفي { لن يضروا الله } مراد به نفي أن يعطّلوا ما أراده إذ قد كان الله وعد الرسول إظهار دينه على الدّين كلّه ، وكان سعي المنافقين في تعطيل ذلك ، نهي الله رسوله أن يحزن لما يبدو له من اشتداد المنافقين في معاكسة الدعوة ، وبيّن له أنّهم لن يستطيعوا إبطال مراد الله ، تذكيراً له بأنه وعده بأنّه متمّ نوره.
ووجه الحاجة إلى هذا النهي : هو أنّ نفس الرسول ، وإن بلغت مرتقى الكمال ، لا تعدو أن تعتريها في بعض أوقات الشدّة أحوال النفوس البشرية : من تأثير مظاهر الأسباب ، وتوقّع حصول المسبّبات العادية عندها ، كما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
وهو في العريش ، وإذا انتفى إضرارهم الله انتفى إضرارهم المؤمنين فيما وعدهم الله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 289}
وقال القرطبى :
{ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } أي لا ينقصون من مَلْك الله وسلطانه شيئاً ؛ يعني لا ينقص بكفرهم.
وكما رُوي عن أبي ذَرٍّ " عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رَوى عن الله تبارك وتعالى أنه قال : "يا عبادِي إني حرّمت الظُّلَم على نفسي وجعلته بينكم مُحرَّماً فلا تَظَالَموا.
يا عبادِي كلُّكم ضالٌّ إلاَّ من هَدَيْتُه فاستهدوني أهْدِكم.
يا عبادي كلُّكم جائعٌ إلاَّ من أطعمته فاستطعمُوني أُطْعِمْكم.
يا عبادي كلكم عارٍ إلاَّ من كَسْوتُه فاسْتكْسُوني أَكْسُكم.
يا عبادي إنكم تُخطِئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم.(18/262)
يا عبادي إنكم لن تَبلغوا ضَرِّي فَتُضرُّوني ولن تَبلْغُوا نفعي فَتَنْفَعُوني.
يا عبادي لو أن أوّلَكم وآخرَكم وإنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أَتْقَى قلبِ رجُلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً.
يا عبادي لو أن أوّلَكُمْ وآخركُم وإنْسَكُم وجِنَّكُم كانوا على أفْجَر قلبِ رجُلٍ واحدٍ ما نَقَصَ ذلك من مُلْكِي شيئاً.
يا عبادي لو أن أوّلَكُم وآخرَكُمْ وإنْسَكُم وجِنَّكم قاموا في صَعيدٍ واحدٍ فَسألُوني فأعطيتُ كُلّ إنسان مَسْألَتَه ما نَقَصَ ذلك مما عندي إلاَّ كما يَنْقُضُ المِخْيَطُ إذا أدْخِلَ البحر.
يا عبادي إنما هي أعمالُكُم أُحْصِيها لكم ثم أُوَفِّيكُم إياها فمن وَجَد خَيْراً فليَحْمَدِ الله ومن وَجَد غيرَ ذلك فلا يَلُوَمَنَّ إلاَّ نَفْسَه" " خَرّجَهُ مسلم في صحيحه والترمذي وغيرهما ، وهو حديث عظيم فيه طول يكتب كله.
وقيل : معنى { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } أي لن يَضُرُّوا أولياء الله حين تركوا نصرهم إذ كان الله عزّ وجلّ ناصِرهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 285 ـ 286}
قوله تعالى {يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الآخرة}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي نصيباً.
والحظّ النصيب والجَدّ.
يُقال : فلان أحظّ من فلان ، وهو محظوظ.
وجمع الحَظ أحاظٍ على غير قياس.
قال أبو زيد : يُقال رجل حَظِيظ ، أي جديدٌ إذا كان ذا حظّ من الرزق.
وحَظِظْت في الأمر أحَظّ.
وربما جُمع الحظ أحُظّاً.
أي لا يَجعل لهم نصيباً في الجنة.
وهو نَصّ في أن الخير والشر بإرادة الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 286}(18/263)
وقال الآلوسى :
{ يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الآخرة } استئناف لبيان الموجب لمسارعتهم كأنه قيل : لِمَ يسارعون في الكفر مع أنهم لا ينتفعون به ؟ فأجيب بأنه تعالى يريد أن لا يجعل لهم نصيباً مّا من الثواب في الآخرة فهو يريد ذلك منهم فكيف لا يسارعون ، وفيه دليل على أن الكفر بإرادة الله تعالى وإن عاقب فاعله وذمه لأن ذلك لسوء استعداده المقتضي إفاضة ذلك عليه ، وذكر بعض المحققين أن في ذكر الإرادة إيذاناً بكمال خلوص الداعي إلى حرمانهم وتعذبيهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين ، وزعم بعضهم أنه مبني على مذهب الاعتزال وليس كذلك كما لا يخفى لأنه لم يقل لم يرد كفرهم ولا رمز إليه ، وصيغة المضارع للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها ، ويرجع إلى دوام واستمرار منشأ هذا المراد وهو الكفر ففيه إشارة إلى بقائهم على الكفر حتى يهلكوا فيه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 133}
وقال ابن عاشور :
وجملة { يريد الله } استئناف لبيان جزائهم على كفرهم في الآخرة ، بعد أن بيّن السلامة من كيدهم في الدنيا والمعنى : أنّ الله خذلهم وسلبهم التوفيق فكانوا مسارعين في الكفر لأنّه أراد أن لا يكون لهم حظّ في الآخرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 289}
فصل
قال الفخر :
إنه رد على المعتزلة ، وتنصيص على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى ، قال القاضي : المراد أنه يريد الإخبار بذلك والحكم به.
واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين :
الأول : أنه عدول عن الظاهر ،
والثاني : بتقدير أن يكون الأمر كما قال ، لكن الاتيان بضد ما أخبر الله عنه وحكم به محال فيعود الإشكال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 85}(18/264)
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم وشدة العذاب. وبين في موضع آخر : أنه لا يمهلمهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء ، فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة ، كقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَضَّرِّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون } [ الأعراف : 94-95 ] وقوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } [ الأنعام : 42-43 ] إلى قوله : { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُون } [ الأنعام : 44 ].
وبين في موضع آخر : أن ذلك الاستدراج من كيده المتين ، وهو قوله : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين } [ القلم : 44-45 ].(18/265)
وبين في موضع آخر : أن الكفار يغترون بذلك الاستدراج فيظنون أنه من المسارعة لهم في الخيرات ، وأنهم يوم القيامة يؤتون خيراً من ذلك الذي أوتوه في الدنيا ، كقوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55-56 ] وقوله : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدا } [ مريم : 77 ] وقوله : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] وقوله : { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] وقوله : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } [ سبأ : 35 ] الآية. كما تقدم ، والبأساء : الفقر والفاقة ، والضراء : المرض على قول الجمهور ، وهما مصدران مؤنثان لفظاً بألف التأنيث الممدودة. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 258}
فصل
قال الفخر :
قالت المعتزلة : الإرادة لا تتعلق بالعدم ، وقال أصحابنا ذلك جائز ، والآية دالة على قول أصحابنا لأنه قال : {يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الأخرة} فبين أن إرادته متعلقة بهذا العدم.
قالت المعتزلة : المعنى أنه تعالى ما أراد ذلك كما قال : {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [ البقرة : 185 ] قلنا : هذا عدول عن الظاهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 85}(18/266)
فائدة
قال أبو حيان :
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هل قيل : لا يجعل الله لهم حظاً في الآخرة ، وأي فائدة في ذكر الإرادة ؟ ( قلت ) : فائدته الإشعار بأن الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف قط ، حين يسارعون في الكفر تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى أن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم انتهى.
وفيه دسيسة اعتزال لأنه استشعر أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة موجبة ، أن سبب ذلك هو مريد له تعالى وهو : الكفر.
ومن مذهبه أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يشاؤه ، فتأول تعلق إرادته بانتفاء حظهم من الآخرة بتعلقها بانتفاء رحمته لهم لفرط كفرهم.
ونقل الماوردي في يريد ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يحكم بذلك.
والثاني : يريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط أعمالهم بكفرهم.
والثالث : يريد يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم قاله : ابن إسحاق. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 127}
فائدة
قال الفخر :
الآية تدل على أن النكرة في موضع النفي تعم ، إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل تهديد الكفار بهذه الآية ثم قال : {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} وهذا كلام مبتدأ والمعنى أنه كما لاحظ لهم ألبتة من منافع الآخرة فلهم الحظ العظيم من مضار الآخرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 85}(18/267)
وقال الآلوسى :
{ وَلَهُمْ } مع هذا الحرمان من الثواب بالكلية { عَذَابٌ عظِيمٌ } لا يقدر قدره ، نقل عن بعضهم أنه لما دلت المسارعة في الشيء على عظم شأنه وجلالة قدره عند المسارع وصف عذابه بالعظم رعاية للمناسبة وتنبيهاً على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته في نفسه ، وقيل : إنه لما دل قوله تعالى : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } على عظم قدر من قصدوا إضراره وصف العذاب بالعظم إيذاناً بأن قصد إضرار العظيم أمر عظيم يترتب عليه العذاب العظيم ، والجملة إما حال من الضمير في لهم أي يريد الله تعالى حرمانهم من الثواب معداً لهم عذاب عظيم ، وإما مبتدأة مبينة لحظهم من العذاب إثر بيان أن لا شيء لهم من الثواب.
وزعم بعضهم أن هاتين الجملتين في موضع التعليل للنهي السابق ، وأن المعنى ولا يحزنك أنهم يسارعون في إعلاء الكفر وهدم الإسلام لا خوفاً على الإسلام ولا ترحماً عليهم أما الأول : لن يضروا الله شيئاً فلا يقدرون على هدم دينه الذي يريد إعلاءه ، وحينئذ لا حاجة إلى إرادة أولياء الله ، وأما الثاني : فلأنه يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم.
واستأنس له بأنه كثيراً ما وقع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إيقاعه نفسه الكريمة في المشقة لهدايتهم وعن كونه ضيق الصدر لكفرهم وخوطب بأنه ما عليك إلا البلاغ ولست عليهم بمسيطر ولا يخلو عن بعد. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 133 ـ 134}
وقال أبو السعود :
{ وَلَهُمْ } مع ذلك الحِرمانِ الكلي { عَذَابٌ عظِيمٌ } لا يقادَرُ قدرُه ، قيل : لمّا دلت المسارعةُ في الشيء على عِظَم شأنِه وجلالةِ قدرِه عند المسارِعِ وُصف عذابُه بالعِظَم رعايةً للمناسبة وتنبيهاً على حقارة ما سارعوا فيه وخساستِه في نفسه. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 116}(18/268)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين } قرأ نافع " يُحزنك " - بضم حرف المضارعة - من " أحزن " - رباعياً - في سائر القرآن إلا التي في قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] فإنه كالجماعة. والباقون بفتح الباء - من " حزنه " ثلاثياً - فقيل : هما من باب ما جاء فيه فَعَل وأفْعَل بمعنى.
وقيل : باختلاف معنى ، فَحَزَنَه : جَعَل فيه حُزْناَ - نحو : دهنه وكحله ، أي : جعل فيه دهناً وكحلاً - وأحزنته : إذا جعلته حزيناً. ومثل حَزَنَه وأحْزَنَه فَتَنَه وأفتَنَه ، قال سيبويه : " وقال بعضُ العربِ : أحزنت له الحُزْن ، وأحزنته : عرَّضته للحُزْن. قاله أبو البقاء وقد تقدم اشتقاق هذه اللفظة في " البقرة ".
قال شهابُ الدينِ : " والحق أن حزنه لغتان فاشيتان ، لثبوتهما متواترتين - وإن كان أبو البقاء قال : إن أحزن لغة قليلة ، ومن عجيب ما اتفق أن نافعاً - رحمه الله - يقرأ هذه المادة من " أحزن " إلا التي في الأنبياء - كما تقدم - وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرأها من " حزنه " - ثلاثياً - إلا التي في الأنبياء ، وهذا من الجمع بين اللغتين ، والقراءة سنة مُتَّبَعَة ".
وقرأ الجماعة : " يسارعون " بالفتح والإمالة ، وقرأ النحوي " يسرعون " - من أسرع - في جميع القرآن ، قال ابن عطيةَ : " وقراءة الجماعة أبلغ ؛ لأن مَنْ يسارع غيرَه أشد اجتهاداً من الذي يُسرع وحده ".
قوله : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } في نصب " شيئاً " وَجْهَانِ :
أحدهما : أنه مصدر ، أي : لا يضرونه شيئاً من الضرر.
الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي : لن يضروه بشيء. وهكذا كل موضع أشبهه ففيه الوجهان. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 65 ـ 66}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)}
زاد في قوة قلبه بما جدَّدَ من تأكيد العهد ، بأنه لا يشْمِتُ به عدوًّا ، ولا يُوَصِّل إليه من قِبَلِهم سوءاً. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 298}(18/269)
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان قبول نعيم وركب عبد القيس لذلك الجعل الذي هو من أسباب الكفر شرى الكفر بالإيمان عقب بقوله : {إن الذين اشتروا الكفر} أي فأخذوه {بالإيمان} أي فتركوه ، وأكد نفي الضرر وأبده فقال : {لن يضروا الله} أي الذي لا كفوء له {شيئاً} لما يريد سبحانه وتعالى من الإعلاء للإسلام وأهله ، وختمها بقوله : {ولهم عذاب أليم} لما نالوه من لذة العوض في ذلك الشرى كما هي العادة في كل متجدد من الأرباح والفوائد. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 186}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنا لو حملنا الآية الأولى على المنافقين واليهود ، وحملنا هذه الآية على المرتدين لا يبعد أيضا حمل الآية الأولى(18/270)
على المرتدين ، وحمل هذه الآية على اليهود ، ومعنى اشتراء الكفر بالإيمان منهم ، أنهم كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنون به قبل مبعثه ويستنصرون به على أعدائهم ، فلما بعث كفروا به وتركوا ما كانوا عليه ، فكأنهم أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه ، ولا يبعد أيضا حمل هذه الآية على المنافقين ، وذلك لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان ، فإذا خلوا إلى شياطينهم كفروا وتركوا الإيمان ، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالايمان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 85 ـ 86}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى.
قال في الآية الأولى : {الذين يسارعون فِى الكفر إنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} [ آل عمران : 176 ] وقال في هذه الآية : {إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} والفائدة في هذا التكرار أمور :
أحدها : أن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لا شك أنهم كانوا كافرين أولا ، ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك ، وهذا يدل على شدة الاضطراب وضعف الرأي وقلة الثبات ، ومثل هذا الإنسان لا خوف منه ولا هيبة له ولا قدرة له ألبتة على إلحاق الضرر بالغير.
وثانيها : أن أمر الدين أهم الأمور وأعظمها ، ومثل هذا مما لا يقدم الإنسان فيه على الفعل أو على الترك إلا بعد إمعان النظر وكثرة الفكر ، وهؤلاء يقدمون على الفعل أو على الترك في مثل هذا المهم العظيم بأهون الأسباب وأضعف الموجبات ، وذلك يدل على قلة عقلهم وشدة حماقتهم ، فأمثال هؤلاء لا يلتفت العاقل اليهم.(18/271)
وثالثها : أن أكثرهم إنما ينازعونك في الدين ، لا بناء على الشبهات ، بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا ، ومن كان عقله هذا القدر ، وهو أنه يبيع بالقليل من الدنيا السعادة العظيمة في الآخرة كان في غاية الحماقة ، ومثله لا يقدر في إلحاق الضرر بالغير ، فهذا هو الفائدة في إعادة هذه الآية ، والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 86}
لطيفة
قال القرطبى :
{ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } كرّر للتأكيد.
وقيل : أي من سوء تدبيره استبدال الإيمان بالكفر وبيعه به ؛ فلا يخاف جانبَه ولا تدبيره. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 286}
وقال ابن عاشور :
تكرير لجملة { إنهم لن يضروا الله شيئاً } قصد به ، مع التأكيد ، إفادةُ هذا الخبر استقلالاً للاهتمام به بعد أن ذكر على وجه التعليل لتسلية الرسول.
وفي اختلاف الصلتين إيماء إلى أنّ مضمون كل صلة منهما هو سبب الخبر الثابت لمَوصُولها ، وتأكيد لقوله : { إنهم لن يضروا الله شيئاً } المتقدّم ، كقول لبيد :
كدُخان نارٍ سَاطِع أسْنَامُها
بعد قوله :
كدُخان مُشْعَلَةٍ يُشَبّ ضِرامُها
مع زيادة بيان اشتهارهم هم بمضمون الصلة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 289 ـ 290}(18/272)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان } أي أخذوا الكفر بدلاً من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضاً عما تركوا ولهذا وضع { اشتروا } موضع بدلوا فإن الأول أظهر في الرغبة وأدل على سوء الاختيار ، وقوله تعالى : { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } تقدم الكلام فيه ، وفيه هنا تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم كأنه قيل : وإنما يضرون أنفسهم ، والمراد من الموصول هنا ما أريد منه هناك والتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ببيان علته بتغيير عنوان الموضوع فإن ما ذكر في حيز الصلة لكونه علماً في الخسران الكلي والحرمان الأبدي صريح في لحوق ضرره بأنفسهم وعدم تعديه إلى غيرهم أصلاً ، ودال على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ورزانة الرأي ورصانة التدبير من مضارة أولياء الله تعالى الذين تكفل سبحانه لهم بالنصر وهي أعز من جليمة وأمنع من لهاة الليث ، وجوز أن يراد بالموصول هنا عام ، ويراد به هناك خاص وهو ما عدا ما ذهب إليه الحسن فيه ، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقرير القواعد الكلية لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام ، وجوز الزمخشري أن يكون الأول عاماً للكفار وهذا خاصاً بالمنافقين وأفردوا بالذكر لأنهم أشدّ منهم في الضرر والكيد ، واعترض بأن إرادة العام هناك مما لا يليق بفخامة شأن التنزيل لما أن صدور المسارعة في الكفر بالمعنى المذكور وكونها مظنة لإيراث الحزن لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يفهم من النهي عنه إنما يتصور ممن علم اتصافه بها وأما من لا يعرف حاله من الكفرة الكائنين في الأماكن البعيدة فإسناد المسارعة المذكورة إليهم واعتبار كونها من مبادىء حزنه عليه الصلاة والسلام مما لا وجه له ، ويمكن أن يقال : إن القائل بالعموم في الأول لم يرد بالكفار مقابل المؤمنين حيث كانوا وعلى أي حال(18/273)
وجدوا بل ما يشمل المتخلفين والمرتدين مثلاً ممن يتوقع إضرارهم له صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يرد هذا الاعتراض.
وقيل : المراد من الأول المنافقون أو من ارتدوا مما هنا اليهود ، والمراد من الإيمان إما الإيمان الحاصل بالفعل كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة كما هو شأن اليهود مثلاً ، وإما الإيمان الاستعدادي الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق والدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس كما هو دأب جميع الكفرة ما عدا ذلك وإما القدر المشترك بين الجميع كما هو دأب الجميع فتفطن.
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم والجملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم بذكر غاية إيلامه بعد ذكر نهاية عظمه ، أو مقررة للضرر الذي آذنت به الجملة الأولى قيل : لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك ، نقله مولانا شيخ الإسلام. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 134}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)}
إنْ أضَرُّوا فما أضروا إلا بأنفسهم ، وإنْ أصَرُّوا فما أصَرُّوا إلا على خسرانهم :
فما نحن عذِّبْنَا بِبُعْدِ ديارهم... ولا نحن ساقتنا إليهم نوازعُ. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 299}(18/274)
قوله تعالى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان مما اشترى به الكفر رجوع المنافقين عن أحد الذي كان سبباً للإملاء لهم قال سبحانه وتعالى : {ولا يحسبن الذين كفروا} أي بالله ورسوله {إنما نملي} أي أن إملاءنا أي إمهالنا وإطالتنا {لهم خير لأنفسهم} ولما نفى عنهم الخير بهذا النهي تشوفت النفس إلى ما لهم فقال : {إنما نملي لهم} أي استدراجاً {ليزدادوا إثماً} وهو جميع ما سبق العلم الأزلي بأنهم يفعلونه ، فإذا بلغ النهاية أوجب الأخذ.
ولما كان الرجوع المسفر عن السلامة مظنة لعزهم في هذه الدار الفانية عند من ظن حسن ذلك الرأي ؛ عوضوا عنه الإهانة الدائمة فقال سبحانه وتعالى : {ولهم عذاب مهين }. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 186}
وقال ابن عاشور :
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ}
عطف على قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } [ آل عمران : 169 ] والمقصود مقابلة الإعلام بخلاف الحسبان في حالتين : إحداهما تلوح للناظر حالة ضرّ ، والأخرى تلوح حالة خير ، فأعلم الله أن كلتا الحالتين على خلاف ما يتراءى للناظرين.
ويجوز كونه معطوفا على قوله : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ آل عمران : 176 ] إذ نهاه عن أن يكون ذلك موجباً لحزنه ، لأنهم لا يضرّون الله شيئاً ، ثم ألقى إليه خبراً لقصد إبلاغه إلى المشركين وإخوانهم المنافقين : أن لا يحسبوا أن بقاءهم نفع لهم بل هو إملاء لهم يزدادون به آثاماً ، ليكون أخذُهم بعد ذلك أشدّ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 290}(18/275)
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد ، والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت اليها ، وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله ، ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد ، لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة ، وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ، فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل.
فهذا بيان وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 86}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقرأه الجمهور { ولا يَحسبنّ الذين كفروا } بياء الغيبة وفاعلُ الفعل ( الذين كفروا ) ، وقرأه حمزة وحده بتاء الخطاب.
فالخطاب إما للرسول عليه السلام وهو نهي عن حسبان لم يقع ، فالنهي للتحذير منه أو عن حسبان هو خاطر خطر للرسول صلى الله عليه وسلم غير أنّه حسبان تعجّب ، لأنّ الرسول يعلم أنّ الإملاء ليس خيراً لهم ، أو المخاطب الرسول والمقصود غيره ، ممّن يظنّ ذلك من المؤمنين على طريقة التعريض مثل { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } [ الزمر : 65 ] ، أو المراد من الخطاب كلّ مخاطب يصلح لذلك.
وعلى قراءة الياء التحتية فالنهي مقصود به بلوغه إليهم ليعلموا سوء عاقبتهم ، ويُمِرَّ عيشهم بهذا الوعيد ، لأنّ المسلمين لا يحسبون ذلك من قبل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 290}
فصل
قال الفخر :
"ما" في قوله : {أَنَّمَا} يحتمل وجهين :(18/276)
أحدهما : أن يكون بمعنى الذي فيكون التقدير : لا تحسبن الذين كفروا أن الذين نمليه خير لأنفسهم ، وحذف الهاء من "نملي" لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك : الذي رأيت زيد ، والآخر : أن يقال : "ما" مع ما بعدها في تقدير المصدر ، والتقدير : لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 87}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { أنما نملي لهم خير لأنفسهم } ( أَنّ ) أخت ( إنّ ) المكسورة الهمزة ، و( ما ) موصولة وليست الزائدة ، وقد كتبت في المصحف كلمة واحدة كما تكتب إنّما المركبة من ( إن ) أخت ( أنّ ) و( ما ) الزائدةِ الكافّةِ ، التي هي حرف حصر بمعنى ( مَا ) و( إلاّ ) ، وكان القياس أن تكتب مفصولة وهو اصطلاح حدث بعد كتابة المصاحف لم يكن مطّرداً في الرسم القديم ، على هذا اجتمعت كلمات المفسّرين من المتقدّمين والمتأخّرين.
وأنا أرى أنّه يجوز أن يكون ( أنّما ) من قوله : { أنما نملي خير لأنفسهم } هي أنّما أخت إنّما المكسورة وأنّها مركّبة من ( أنّ ) و( ما ) الكافّة الزائدة وأنها طريق من طرق القصر عند المحقّقين ، وأنّ المعنى : ولا يحسبنّ الذين كفروا انحصار إمهالنا لهم في أنّه خير لهم لأنّهم لمّا فرحوا بالسلامة من القتل وبالبقاء بقيد الحياة قد أضمروا في أنفسهم اعتقاد أنّ بقاءهم ما هو إلاّ خير لهم لأنّهم يحسبون القتل شرّاً لهم ، إذ لا يؤمنون بجزاء الشهادة في الآخرة لكفرهم بالبعث.
فهو قصر حقيقي في ظنّهم.
ولهذا يكون رسمهم كلمة ( أنَّما ) المفتوحة الهمزة في المصحف جارياً على ما يقتضيه اصطلاح الرسم.(18/277)
و { أنّما نملي لهم خير لأنفسهم } هو بدل اشتمال من { الذين كفروا } ، فيكون سادّاً مسدّ المفعولين ، لأنّ المبدل منه صار كالمتروك ، وسلكت طريقة الإبدال لما فيه من الإجمال ، ثمّ التفصيل ، لأنّ تعلّق الظنّ بالمفعول الأول يستدعي تشوّف السامع للجهة التي تعلَّق بها الظنّ ، وهي مدلول المفعول الثاني ، فإذا سمع ما يسدّ مسدّ المفعولين بعد ذلك تمكّن من نفسه فضْل تمكّن وزاد تقريراً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 291}
فائدة
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" : "ما" مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة ، واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب ، وأما في قوله : {أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ} فههنا يجب أن تكون متصلة لأنها كافة بخلاف الأولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 87}
فائدة
قال ابن عاشور :
والإملاء : الإمهال في الحياة ، والمراد به هنا تأخير حياتهم ، وعدمُ استئصالهم في الحرب ، حيث فرحوا بالنصر يوم أُحُد ، وبأنّ قتلى المسلمين بوم أحُد كانوا أكثر من قتلاهم.(18/278)
ويجوز أن يراد بالإملاء التخلية بينهم وبين أعمالهم في كيد المسلمين وحربهم وعدم الأخذ على أيديهم بالهزيمة والقتل كما كان يوم بدر ، يقال : أملى لفرسه إذا أرخى له الطِّوَل في المرعى ، وهو مأخوذ من الملْو بالواو وهو سيرُ البعير الشديدُ ، ثم قالوا : أمليت للبعير والفرس إذا وسَّعت له في القيد لأنّه يتمكّن بذلك من الخَبَب والركض ، فشُبِّه فعله بشدّة السير ، وقالوا : أمليت لزيد في غيّه أى تركته : على وجه الاستعارة ، وأملى الله لفلان أخّر عقابه ، قال تعالى : { وأملي لهم إن كيدي متين } [ الأعراف : 183 ] واستعير التملّي لطول المدّة تشبيهاً للمعقول بالمحسوس فقالوا : ملأَّك الله حبيبَك تمليئة ، أي أطال عمرك معه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 290 ـ 291}
فصل
قال القرطبى :
المعنى : لا يحسبن هؤلاء الذين يُخَوّفون المسلمين ؛ فإن الله قادر على إهلاكهم.
وإنما يُطوِّل أعمارهم ليعملوا بالمعاصي ، لا لأنه خير لهم.
ويُقال : "أنما نملِي لهم" بما أصابوا من الظَّفَر يومَ أُحُد لم يكن ذلك خيراً لأنفسهم ؛ وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة.
ورُوي عن ابن مسعود أنه قال : ما من أحد بَرّ ولا فاجر إلاَّ والموتُ خير له ، لأنه إِنْ كان بَرّاً فقد قال الله تعالى : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } وإن كان فاجراً فقد قال الله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً }. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 286 ـ 287}
فائدة
قال أبو حيان :
قال الزمخشرى :
( فإن قلت ) : كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضاً لله تعالى في إملائه لهم ؟ ( قلت ) : هو علة الإملاء ، وما كلّ علة بغرض.
ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ ، وليس شيء منها بغرض لك ، وإنما هي علل وأسباب.(18/279)
فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإملاء ، وسبباً فيه.
( فإن قلت ) : كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء ، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب ؟ ( قلت ) : لمّا كان في علم الله المحيط بكلّ شيء أنَّهم مزدادون إثماً ، فكان الإملاء وقع لأجله وبسببه على طريق المجاز انتهى كلامه.
وكله جار على طريقة المعتزلة.
وقال الماتريدي : المعتزلة تناولوها على وجهين : أحدهما : على التقديم والتأخير.
أي : ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادو إثماً ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم.
الثاني : أنّ هذا إخبار منه سبحانه وتعالى عن حسبانهم فيما يؤول إليه أمرهم في العاقبة ، بمعنى أنهم حسبوا أن إمهالهم في الدّنيا وإصابتهم الصحة والسلامة والأموال خير لأنفسهم في العاقبة ، بل عاقبة ذلك شرٌّ.
وفي التأويل إفساد النظم ، وفي الثاني تنبيه على من لايجوز تنبيهه.
فإنّ الأخبار عن العاقبة يكون لسهو في الابتداء أو غفله ، والعالم في الابتداء لا ينبه نفسه انتهى كلامه.
وكتبوا ما متصلة بأن في الموضعين.
قيل : وكان القياس الأولى في علم الخط أن تكتب مفصوله ، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا تخالف ، ونتبع سنة الإمام في المصاحف.
وأما الثانية ، فحقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون العمل ، ولا يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي.
ولا مصدرية ، لأن لازم كي لا يصحّ وقوعها خبر للمبتدأ ولا لنواسخه.
وقيل : اللام في ليزدادوا للصيرورة. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 129}. بتصرف يسير.
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر من وجوه :
الأول : أن هذا الاملاء عبارة عن اطالة المدة ، وهي لا شك أنها من فعل الله تعالى ، والآية نص في بيان أن هذا الاملاء ليس بخير ، وهذا يدل على أنه سبحانه فاعل الخير والشر.(18/280)
الثاني : أنه تعالى نص على أن المقصود من هذا الاملاء هو أن يزدادوا الاثم والبغي والعدوان ، وذلك يدل على أن الكفر والمعاصي بإرادة الله ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب مهين.
الثالث : أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا خير لهم في هذا الإملاء ، أنهم لا يحصلون إلا على ازدياد البغي والطغيان ، والاتيان بخلاف مخبر الله تعالى مع بقاء ذلك الخير جمع بين النقيضين وهو محال ، وإذا لم يكونوا قادرين مع ذلك الاملاء على الخير والطاعة مع أنهم مكلفون بذلك لزم في نفسه بطلان مذهب القوم.
قالت المعتزلة :
أما الوجه الأول : فليس المراد من هذه الآية أن هذا الاملاء ليس بخير ، إنما المراد أن هذا الاملاء ليس خيرا لهم من أن يموتوا كما مات الشهداء يوم أحد ، لأن كل هذه الآيات في شأن أحد وفي تثبيط المنافقين المؤمنين عن الجهاد على ما تقدم شرحه في الآيات المتقدمة ، فبين تعالى أن إبقاء الكافرين في الدنيا وإملاءه لهم ليس بخير لهم من أن يموتوا كموت الشهداء ، ولا يلزم من نفي كون هذا الاملاء أكثر خيرية من ذلك القتل ، أن لا يكون هذا الاملاء في نفسه خيرا.
(18/281)
وأما الوجه الثاني : فقد قالوا : ليس المراد من الآية أن الغرض من الاملاء إقدامهم على الكفر والفسق بدليل قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [ الذاريات : 56 ] وقوله : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} [ النساء : 64 ] بل الآية تحتمل وجوها من التأويل : أحدها : أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة كقوله تعالى : {فالتقطه ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [ القصص : 8 ] وقوله : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [ الأعراف : 179 ] وقوله : {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ} [ إبراهيم : 30 ] وهم ما فعلوا ذلك لطلب الإضلال ، بل لطلب الاهتداء ، ويقال : ما كانت موعظتي لك إلا لزيادة في تماديك في الفسق إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك ، وثانيها : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم وثالثها : أنه تعالى لما أمهلهم مع علمه بأنهم لا يزدادون عند هذا الامهال إلا تماديا في الغي والطغيان ، أشبه هذا حال من فعل الاملاء لهذا الغرض والمشابهة أحد أسباب حسن المجاز.
(18/282)
ورابعها : وهو السؤال الذي ذكرته للقوم وهو أن اللام في قوله : {لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} غير محمول على الغرض باجماع الأمة ، أما على قول أهل السنة فلأنهم يحيلون تعليل أفعال الله بالأغراض ، وأما على قولنا فلأنا لا نقول بأن فعل الله معلل بغرض التعب والايلام ، بل عندنا أنه تعالى لم يفعل فعلا إلا لغرض الإحسان ، وإذا كان كذلك فقد حصل الاجماع على أن هذه اللام غير محمولة على التعليل والغرض ، وعند هذا يسقط ما ذكرتم من الاستدلال ، ثم بعد هذا : قول القائل : ما المراد من هذه اللام غير ملتفت إليه ، لأن المستدل إنما بنى استدلاله على أن هذه اللام للتعليل ، فإذا بطل ذلك سقط استدلاله.
وأما الوجه الثالث : وهو الإخبار والعلم فهو معارض بأن هذا لو منع العبد من الفعل لمنع الله منه ، ويلزم أن يكون الله موجباً لا مختارا ، وهو بالاجماع باطل.
والجواب عن الأول : أن قوله : {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ} معناه نفي الخيرية في نفس الأمر ، وليس معناه أنه ليس خيرا من شيء آخر ، لأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا عند ذكر الراجح والمرجوح ، فلما لم يذكر الله ههنا إلا أحد الأمرين عرفنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر.
وأما السؤال الثاني : وهو تمسكهم بقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [ الذاريات : 56 ] وبقوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ} [ النساء : 64 ].
فجوابه : أن الآية التي تمسكنا بها خاص ، والآية التي ذكرتموها عام ، والخاص مقدم على العام.
(18/283)
وأما السؤال الثالث : وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو عدول عن الظاهر ، وأيضاً فإن البرهان العقلي يبطله ؛ لأنه تعالى لما علم أنهم لا بد وأن يصيروا موصوفين بازدياد الغي والطغيان ، كان ذلك واجب الحصول لأن حصول معلوم الله واجب ، وعدم حصوله محال ، وإرادة المحال محال ، فيمتنع أن يريد منهم الإيمان ، ويجب أن يريد منهم ازدياد الغي والطغيان ، وحينئذ ثبت أن المقصود هو التعليل وأنه لا يجوز المصير إلى لام العاقبة.
وأما السؤال الرابع : وهو التقديم والتأخير.
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : أن التقديم والتأخير ترك للظاهر.
وثانيها : قال الواحدي رحمه الله : هذا إنما يحسن لو جازت قراءة {أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ} بكسر "إنما" وقراءة {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} بالفتح.
ولم توجد هذه القراءة ألبتة.
وثالثها : أنا بينا بالبرهان القاطع العقلي أنه يجب أن يكون مراد الله من هذا الإملاء حصول الطغيان لا حصول الإيمان ، فالقول بالتقديم والتأخير ترك للظاهر والتزام لما هو على خلاف البرهان القاطع.
وأما السؤال الخامس : وهو قوله : هذه اللام لا يمكن حملها على التعليل.
فجوابه أن عندنا يمتنع تعليل أفعال الله لغرض يصدر من العباد ، فأما أن يفعل تعالى فعلا ليحصل منه شيء آخر فهذا غير ممتنع ، وأيضاً قوله : {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} تنصيص على أنه ليس المقصود من هذا الاملاء إيصال الخير لهم والاحسان إليهم ، والقوم لا يقولون بذلك ، فتصير الآية حجة عليهم من هذا الوجه.
وأما السؤال السادس : وهو المعارضة بفعل الله تعالى.
فالجواب : أن تأثير قدرة الله في إيجاد المحدثات متقدم على تعلق علمه بعدمه ، فلم يمكن أن يكون العلم مانعاً عن القدرة.
(18/284)
أما في حق العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلق علم الله بعدمه ، فصلح أن يكون هذا العلم مانعاً للعبد عن الفعل ، فهذا تمام المناظرة في هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 87 ـ 89}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } استئناف واقع موقع التعليل للنهي عن حسبان الإملاء خيراً ، أي ما هو بخير لأنّهم يزدادون في تلك المدّة إثماً.
و ( إنما ) هذه كلمة مركّبة من ( إِنّ ) حرف التوكيد و( ما ) الزائدة الكافّة وهي أداة حصر أي : ما نملي لهم إلاّ ليزدادوا إثماً ، أي فيكون أخذهم به أشدّ فهو قصر قلب.
ومعناه أنّه يملي لهم ويؤخّرهم وهم على كفرهم فيزدادون إثماً في تلك المدّة ، فيشتدّ عقابهم على ذلك ، وبذلك لا يكون الإملاء لهم خيراً لهم ، بل هو شرّ لهم.
واللام في { ليزدادوا إثماً } لام العاقبة كما هي في قوله تعالى : { ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] أي : إنما نملي لهم فيزدادون إثماً ، فلمّا كان ازدياد الإثم ناشئاً عن الإملاء ، كان كالعلّة له ، لا سيما وازدياد الإثم يعلمه الله فهو حين أملَى لهم علم أنّهم يزدادون به إثماً ، فكان الازدياد من الإثم شديد الشبه بالعلّة ، أمّا علّة الإملاء في الحقيقة ونفس الأمر فهي شيء آخر يعلمه الله ، وهو داخل في جملة حكمة خلق أسباب الضلال وأهله والشياطين والأشياء الضارّة.
وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام ، وهي ممّا استأثر الله بعلم الحكمة في شأنه.
وتعليلُ النهي على حسبان الإملاء لهم خيراً لأنفسهم حاصل ، لأنّ مداره على التلازم بين الإملاء لهم وبين ازديادهم من الإثم في مدّة الإملاء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 291 ـ 292}(18/285)
فائدة
قال القرطبى :
والآية نصٌّ في بطلان مذهب القدرية ؛ لأنه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي ، وتوالي أمثاله على القلب.
كما تقدم بيانه في ضده وهو الإيمان.
وعن ابن عباس قال : ما من بَرّ ولا فاجر إلاَّ والموت خير له ثم تلا : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } وتلا { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } أخرجه رزِين. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 288}
فصل
قال الفخر :
اتفق أصحابنا أنه ليس لله تعالى في حق الكافر شيء من النعم الدينية ، وهل له في حقه شيء من النعم الدنيوية ، اختلف فيه قول أصحابنا ، فالذين قالوا ليس له في حقه شيء من النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية ، وقالوا هذه الآية دالة على أن إطالة العمر وإيصاله إلى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة ، لأنه تعالى نص على أن شيئاً من ذلك ليس بخير ، والعقل أيضا يقرره وذلك لأن من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فإنه لا يعد ذلك إلا طعام إنعاما ، فإذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة ، وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر ، وانه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات إلا أن نقول : تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 89}
قوله تعالى {ولهم عذاب مهين}(18/286)
لطيفة
قال الآلوسى :
وإنما وصف عذابهم بالإهانة لأنه كما قال شيخ الإسلام لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر وصفه به ليكون جزاؤهم جزاءاً وفاقاً قاله شيخ الإسلام ويمكن أن يقال إن ذلك إشارة إلى رد ما يمكن أن يكون منشأ لحسبانهم وهم أنهم أعزة لديه عز وجل إثر الإشارة إلى ردّه بنوع آخر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 136}
لطيفة
قال السمرقندى :
روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من بر وفاجر إلا والموت خير له ، لأنه إن كان براً فقد قال الله تعالى : { لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } [ آل عمران : 198 ] وإن كان فاجراً فقد قال الله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً }. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 292}
لطيفة
قال أبو حيان :
ووصف تعالى عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث : بعظيم ، وأليم ، ومهين.
ولكل من هذه الصفات مناسبة تقتضي ختم الآية بها.
أما الأولى فإن المسارعة في الشيء والمبادرة في تحصيله والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه ، وأنه من النفاسة والعظم بحيث يتسابق فيه ، فختمت الآية بعظم الثواب وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر إشعاراً بخساسة ما سابقوا فيه.
وأما الثانية فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان ، ومن عادة المشتري الاغتباط بما اشتراه والسرور به والفرح ، فختمت الآية لأن صفقته خسرت بألم العذاب ، كما يجده المشتري المغبون في تجارته.
وأما الثالثة فإنه ذكر الإملاء وهو الإمتاع بالمال والبنين والصحة وكان هذا الإمتاع سبباً للتعزز والتمتع والاستطاعة فختمت الآية بإهانة العذاب لهم.(18/287)
وأن ذلك الإملاء المنتج عنه في الدنيا التعزز والاستطالة مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 129 ـ 130}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قرأ الجمهور " يحسبن " بالغيبة ، وحمزة بالخطاب ، وحكى الزّجّاج عن خلق كثير كقراءة حمزة إلا أنهم كسروا " أنما " ونصبوا " خير " وأنكرها ابن مجاهدٍ - وسيأتي إيضاح ذلك - وقرأ يحيى بن وثاب بالغيبة وكسر " إنما ". وحكى عنه الزمخشري - أيضاً - أنه قرأ بكسر " أنما " الأولى وفتح الثانية مع الغيبة ، فهذه خَمْسُ قراءاتٍ.
فأما قراءة الجمهور ، فتخريجها واضح ، وهو أنه يجوز أن يكون الفعل مسنداً إلى " الذين " و" أن " وما اتصل بها سادَّة مسد المفعولين - عند سيبويه - أو مسدَّ أحدهما ، والآخر محذوف عند الأخفش - ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب ، يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحسبن النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا أن يكون " الذين كفروا " مفعولاً أول ، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة ، لتتحد هذه القراءة - على هذا الوجه - مع قراءة حمزة رحمه الله ، وسيأتي تخريجها.
و " ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، فيكون العائد محذوفاً ، لاستكمال الشروط ، أي : الذي نمليه ويجوز أن تكون مصدرية - أي : إملاءنا - وهي اسم " إن " و" خير " خبرها.
قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن تكون كافةً ، وزائدة ؛ إذ لو كان كذلك لانتصب " خير " بـ " نملي " واحتاجت " أن " إلى خبر ، إذا كانت " ما " زائدة ، أو قدر الفعل يليها ، وكلاهما ممتنع " انتهى. وهي من الواضحات. وكتبوا " أنماط - في الموضعين - متصلة ، وكان من حق الأولى الفصل ؛ لأنها موصولة.
وأما قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوال الناس وتخاريجهم ، حتى أنه نُقل عن ابن أبي حاتم أنها لحن.(18/288)
قال النحاس : وتابَعَهُ على ذلك [ جماعة ] وهذا لا يُلتفت إليه ، لتواترها ، وفي هنا تخريجها ستة أوجُهٍ :
أحدها : أن يكون فاعل " تحسبن " ضمير النبي صلى الله عليه وسلم و" الذين كفروا " مفعول أول ، و" أنما نملي لهم خير " مفعول ثان ، ولا بُدَّ - على هذا التخريج - من حَذْفِ مضافٍ ، إما من الأول ، تقديره : ولا تحسبن شأنَ الذين ، وإما من الثَّاني ، تقديره : أصحاب أن إملاءنا خير لهم.
وإنما احتجْنَا إلى هذا التأويل ؛ لأن " أنما نملي " بتأويل مصدر ، والمصدر معنى من المعاني لا يَصْدُقُ على " الذين كفروا " والمفعول الثاني في هذا البابِ هُوَ الأولُ في المعنى.
الثاني : أن يكون " أنما نملي لهم " بدلاً من " الذين كفروا ". وإلى هذا ذهب الكسائي ، والفرّاء ، وتبعهما جماعة ، منهم الزَّجَّاج والزمخشري ، وابنُ الباذش ، قال الكسائي والفرّاء : وجه هذه القراءة التكرير والتأكيد ، والتقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ، ولا تحسبن أنما نملي.
قال الفرّاءُ : ومثله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ } [ الزخرف : 66 ] أي " ما ينظرون إلا أن تأتيهم. انتهى.
ورد بعضهم قولَ الكسائيِّ والفرَاءِ ، بأن حَذْفَ المفعولِ الثاني - في هذه الأفعالِ - لا يجوز عند أحد. وهذا الردُّ ليس بشيءٍ ؛ لأن الممنوعَ إنما هو حذف الاقتصارِ - وقد تقدم تحقيق ذلك.
وقال ابنُ الباذش : ويكون المفعول الثاني قد حُذِف ؛ لدلالة الكلامِ عليه ، ويكون التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا خَيْريَّةَ إملاءنا لهم ثابتة ، أو واقعة.
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف صح مَجِيءُ البدلِ ، ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصارُ بفعل الحسبانِ على مفعولٍ واحدٍ ؟
(18/289)
قلتُ : صحَّ ذلك من حيثُ إنّ التعويلَ على البدل والمبدل منه في حكم المُنَحَّى ، ألا تراك تقول : جَعَلْتُ متاعَك بعضَه فوقَ بَعْضٍ ، مع امتناع سكوتك على : متاعك.
وهذا البدلُ بدلُ اشتكالٍ - وهو الظاهرُ - أو يدل كُلٍّ من كُلٍّ ، ويكون على حَذْف مضافٍ ، تقديره : ولا تحسبن إملاء الذين ، فحذف " إملاء " وأبدل منه : " أنما نملي " قولان مشهوران.
الثالثُ : وهو أغربها - : أن يكون " الذين كفروا " فاعلاً بـ " تحسبن " على تأويل أن تكون التاء في الفعل للتأنيث ، كقوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } [ الشعراء : 105 ] أي : ولا تحسبن القوم الذين كفروا ، و" الذين " وضصْف للقوم ، كقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ } [ الأعراف : 137 ]. فعلى هذا تتحدد هذه القراءة مع قراءة الغيبة ، وتخريجها كتخريجها ، ذك ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيره المُسمَّى بـ " اللُّباب ". وفيه نظر ؛ من حيث إن " الذين " جارٍ مَجْرَى جمع المذكر السالم ، والجمع المذكر السالم لا يجوز تأنيث فعله - عند البصريين - لا يجوزُ : قامت الزيدون ، ولا : تقوم الزيدون. وأما اعتذاره عن ذلك بأن " الذين " صفة للقوم - الجائز تأنيث فِعلهم - وإنما حذف ، فلا ينفعه ؛ لأن الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ لا بالمقدَّر ، لا يجيز أحدٌ من البصريين : قامت المسلمون - على إرادة : القوم المسلمون - ألبتة.
وقال أبو الحسن الحوفيُّ : " أن " وما عملت فيه من موضع نصب على البدل ، و" الذين " المفعول الأول ، والثاني محذوف.
وهو معنى قول الزمخشريَّ المتقدم.
(18/290)
الرابع : أن يكون : " أنما نملي لهم " بدلاً من : " الذين كفروا " بدل اشتمال - أي : إملاءنا - و" خير " بالرفع - خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو خير لأنفسهم ، والجملة هي المفعول الثاني ، نقل ذلك أبو شامة عن بعضهم ، ثم وقال : قُلْتُ : ومثل هذه القراءة بيت الحماسةِ.
فِينَا الأنَاةُ ، وَلبَعْضُ الْقَوْمِ يَحْسَبُنَا... أَنَّا بِطَاءٌ ، وَفِي إبْطَائِنَا سَرَعُ
كذا جاءت الرواية بفتح " أنا " بعد ذكر المفعول الأول ، فعلى هذا يجوز أن تقول : حسبت زيداً أنه قائم ، أي : حسبته ذا قيام.
فوجه الفتح أنها وقعت مفعولاً ، وهي ما عملت فيه من موضع مفرد ، وهو المفعول الثاني لـ " حسبت " انتهى.
وفيما قاله نظرٌ ؛ لأن النحاة نصُّوا على وجوب كسر " إن " إذا وقعت مفعولاً ثانياً ، والأول اسم عين ، وأنشدوا البيتَ المذكورَ على ذلك ، وعلَّلوا وجوب الكسر بأنا لو فتحنا لكانت في محل مصدر ، فيلزم منه الأخبار بالمعنى عن العين.
الخامس : أن يكون " الذين كفروا " مفعولاً به ، و{ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } في موضع المفعول الثاني ، و{ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } مبتدأ وخبر اعترض به بين مفعولي " تحسبن " ففي الكلام تقديم وتأخير ، نُقِل ذلك عن الأخفشِ.
قال أبو حاتم : وسمعتُ الأخفشَ يذكر فتح " أن " - يحتج به لأهل القَدَر لنه كان منهم - ويجعله على التقديم والتأخير ، [ أي ] : ولا تحسبنَّ الذين كفروا أنما نثمْلي لهم ليزدادوا إثماً ، إنما نملي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم. انتهى.(18/291)
وإنما جاز أن تكون " أن " المفتوحة مبتدأ بها أول الكلام ؛ لأن مذهبَ الأخفش ذلك ، وغيره يمنع ذلك ، فإن تقدم خبرها عليها - نحو : ظني أنك منطلق ، أو " أما " التفصيلية ، نحو أما أنك منطلق فعندي ، جاز ذلك إجماعاً. وقول أبي حاتم : يذكر فتح " أن " يعني بها التي في قوله : " أنما نملي لهم خير ". ووجه تمسُّك القدرية أن الله تعالى لا يجوز أن يُمْلِي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم ، لأنه يجب - عندهم - رعاية الأصلح.
السادس : قال المهدويّ : وقال قوم : قدم " الذين كفروا " توكيداً ، ثم حالهم ، من قوله : " أنما نملي لهم " رداً عليهم ، والتقديرُ : ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم.
وأما قراءة يحيى - بكسر " إنَّما " مع الغيبة - فلا تخلو إما أن يُجْعَلَ الفعلُ مسنداً إلى " الذين " أو إلى ضميرٍ غائبٍ ، فإن كانت الأولى كانت " أنما " وما في حيِّزها معلقة لـ " تحسبن " وإن لم تكن اللام في خبرها لفظاً ، فهي مقدرة ، فيكون " إنّما " - بالكسر - في موضع نَصْبٍ ؛ لأنها معلقة لفعل الحسبان من نية اللام ، ونظير ذلك تعليق أفعال القلوبِ عن المفعولينِ الصريحين - بتقدير لام الابتداء - في قوله [ البسيط ] :
كَذَاكَ أدَّبتُ حَتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي... أَنِّي وَجَدْتُ مِلاَكُ الشَّيْمَةِ الأدَبُ
فلولا تقدير اللاتم لوجب نصب " ملاك " و" الأدب ". وكذلك في الآية لولا تقدير اللام لوجب فتح " إنما ".
ويجوز أن يكون المفعول الأول قد حُذِف - وهو ضمير الأمرِ والشأنِ - وقد قيل بذلك في البيت ، وهو الأحسنُ فيه.
والأصلُ : لا تحسبنه - أي الأمر - و" إنما نملي لهم " في موضع المفعول الثاني ، وهي المفسرة للضمير وإن كان الثاني كان " الذين " مفعولاً أول ، و" أنما نملي " في موضع المفعول الثاني.
(18/292)
وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشريُّ ، فقد خرَّجَها هو ، فقال : على معنى : ولا تحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم - كما يفعلون - وإنما هو ليتوبوا ، ويدخلوا في الإيمان ، وقوله : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } اعتراض بين الفعل ومعموله ، ومعناه : إن إملاءنا خيرٌ لأنفسهم إن عملوا فيه ، وعرفوا إنعام الله عليهم ، بتفسيح المُدَّةِ ، وترك المعاجلةِ بالعقوبة. انتهى.
فعلى هذا يكون " الذين " فاعلاً ، و" أنما " - المفتوحة - سادة مسد المفعولين ، أحدهما - على الخلاف - واعترض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله. قال النَّحَّاسُ : قراءة يحيى بن وَثَّابٍ - بكسر " إن " فيهما جميعاً - حسنة ، كما تقول : حسبت عمراً أبوه خارجٌ.
وأما ما حكاه الزّجّاج - قراءةً - عن خلق كثير ، وهو نصب " خير " على الظاهر من كلامه ، فقد ذكر نخريجها ، على أن { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } بدل من " الذين كفروا " و" خيراً " مفعول ثانٍ ، ولا بد من إيراد نَصِّه ، قال - رحمه الله - : مَنْ قرأ : " ولا يحسبن " بالياء ، لم يَجُزْ عند البصريين إلا كسر " إن " والمعنى : لا يجسبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم ، ودخلت " إن " مؤكِّدةً ، فإذا فتحت صار المعنى : وزلا يبسحبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم ، قال : وهو عندي يجوز في هذا الموضع على البدل من " الذين " والمعنى : ولا يحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم ، وقد قرأ بها خلقٌ كثير ، ومثل هذه القراءة من الشعر قول الشاعر : [ الطويل ]
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكَ وَاحِدٍ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
جعل " هلكه " بدلاً من " قيس " والمعنى : فما كان هلك قيس هلك واحدٍ ، 1ه.
(18/293)
يعني : " هلك " - الأول - بدل من المرفوع ، فبقي " هلك واحد " منصوباً ، خبراً لـ " ما كان " كذلك : " أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ " " أن " واسمها - وهي " ما " الموصولة - وصلتها ، والخبر - وهو " لَهُم " في محل نصب ، بدلاً من " الَّذِينَ كَفَرُوا " فبقي " خَيْراً " منصوباً على أنه مفعول ثانٍ لـ " تضحْسَبَنَّ ". إلا أن الفارسي قد رد هذا على أبي إسحاقَ بان هذه القراءة لم يقرأ بها أحد - أعني نصب " خَيْراً " - قال أبو علي الفارسي : لا يصح البدل ، إلا بنصب " خَيْرٌ " من حيثُ كان المفعول الثاني لـ " حسبت " فكما انتصب " هلكَ واحدٍ " في البيت - لما أبدل الأول من " قيس " - بأنه خبر لـ " كان " كذلك ينتصب " خَيْرٌ لَهُمْ " إذا أُبْدِل الاملاء من " الَّذِينَ كَفَرُوا " بأنه مفعول ثانٍ لـ " تَحْسَبَنَّ ".
قال : وسألت أحمد بن مُوسَى عنها ، فزعم أن أحداً لم يقرأ بها يعني بـ " أحمد " هذا أبا بكر بن مجاهد الإمام المشهور ، وقال - في الحجة - : " الَّذِينَ كَفَرُوا " في موضع نصب ؛ بأنها المفعول الأول ، والمفعول الثاني هو الأول - في هذا الباب - في المعنى ، فلا يجوزُ - إذَنْ - فتح " إن " في قوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } لأن إملاءهم لا يكون إياهم. فإن قُلْتَ : لِمَ لا يجوز الفتح في " أن " وجعلها بدلاً من " الَّذِينَ كَفَرُوا " كقوله تعالى : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] وكما كان " أن " من قوله تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ } [ الأنفال : 7 ] ؟
(18/294)
قيل : لا يجوز ذلك ؛ لأنك إذا أبدلت " أن " من " الذين كفروا " كما أبدلت " أنَّ " من " إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ " لزمك أن تنصب " خَيْراً " على تقدير : لاَ تَحْسَبَنَّ إملاء الذين كفروا خيراً لأنفسهم ، من حيثُ كان المفعولُ لـ " تَحْسَبَنَّ ".
انتهى ما رد به عليه ، فلم يَبْقَ إلا الترجيح بين نَقْل الزجَّاج وابنِ مجاهد.
قال شهاب الدين : ولا شك أن ابنَ مجاهدٍ أَعْنَى بالقراءات ، إلا أن الزَّجَّاجَ ثقةٌ ، ويقول : قرأ به خلقٌ كثيرٌ وهذا يبعد غلطه فيه ، والإثبات مقدم على النفي ، وما ذكره أبو علي - من قوله : وإذا لم يجز لا كسر " إن ".... الخ - هذا - أيضاً مما لم يقرأ به أحد ".
قال مَكِّي : " وجه القراءة لمن قرأ بالتاء - يعني بتاء الخطاب - أن يكسر " إنَّما " فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ، ولم يقرأ به أحدٌ علمته ". وقد نقل أبو البقاء أن نصب " خَيْراً " قراءة شاذة قال : وقد قرئَ شَاذَّاً بالنصب ، على أن يكون " لأَنْفُسِهِمْ " خبر " أن " و" لَهُمْ " تبيين ، أو حال من " خَيْر ".
يعني : أنه لما جعل " لأَنْفُسِهِم " الخبر ، جعل " لَهُمط إما تبييناً ، تقديره : أعني لهم وإما حالاً من النكرة المتأخرة ، لأنه كان في الأصل صفة لها. والظاهر - على هذه القراءة - ما تقدم من كون " لَهُمْ " هو الخبر ، ويكون " لأَنْفُسِهِمْ " في محل نصب ؛ صفة لـ " خَيْرٌ " - كما كان صفة له في قراءة الجمهور.
ونقل - أيضاً - قراءة كسر " أن " وهي قراءة يحيى ، وخرجها على أنها جواب قسم محذوف ، والقسم وجوابه يسد مَسَدَّ المفعولينِ ، ولا حاجة إلى ذلك ، بل تخريجها على ما تقدم أَوْلَى ؛ لأن الأصل عدم الحذفِ.
(18/295)
والإملاء : الأمهالُ والمَدُّ في العمرِ ومنه مَلاَوَةُ الدهر - للمدة الطويلة - يقال : مَلَوْتُ من الدهر مَلْوَةً ومِلْوَةً ومُلْوَةً ومَلاوةً ومِلاَوَةً ومُلاَوَةً بمعنىً واحد.
قال الأصمعيُّ : يقال أملى عليه الزمان - أي : طال - وأملى له - أي : طوَّل له وأمهله - قال أبو عبيدة : ومه : الملا - للأرض الواسعة - والمَلَوَان : الليل والنهار ، وقولهم : مَلاَّكَ الله بِنعَمِه أي : مَنَحَكَها عُمْراً طَوِيلاً - .
وقيل : المَلَوَانِ : تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما ، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشّاعرِ : [ الطويل ]
نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِمٌ مَلَوَاهُمَا... عَلَى كُلِّ حَلِ المَرْءِ يَخْتَلِفَانِ
فلو كانا الليلَ والنَّهارِ لما أُضِيف إليهما ؛ إذ الشيءُ لا يُضاف إلى نفسه. فقوله : " أنما نملي لهم " أصل الياء واوٌ ، ثم قُلِبَت لوقوعها رابعة.
قوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } قد تقدم أن يحيى بن وثَّاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذا فيما نقله الزمخشريُّ وتقدم تخريجُها ، إلا أن أبا حيّان قال : إنه لم يَحْكِها عنه غير الزمخشريِّ بل الَّذِينَ نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسر الأولى فقط ، قال : وإنما الزمخشريُّ - لولوعه بنْصرة مذهبه - يروم رد كل شيء إليه.
قل شهابُ الدِّينِ : وهذا تحامُلٌ عليه ؛ لأنه ثقةٌ ، لا ينقل ما لم يُرْوَ. وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان :
الأول : أنها جملة مستأنفة ، تعليلٌ للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالُهُمْ يحسبون الإملاء خيراً ؟ فقيل " { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } و" إنّ " - هنا مكفوفة بـ " ما " ولذلك كُتِبَتْ متصلة - على الأصل ولا يجوز أن تكون موصولة - اسمية ولا حرفية - لأن لام " كي " لا يصح وقوعها خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه.
(18/296)
الثاني : أنّ هذه الجملة تكريرٌ للأولى.
قال أبو البقاء : وقيل : " إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ " تكريرٌ لَهُمْ " تكريرٌ للأول ، و" لِيَزْدَادوا " هو المفعول الثاني لـ " تَحْسَبَنَّ " على قراءة التاء ، والتقدير : ولا تحسبنّ يا محمد إملاء الذين كفروا ليزدادوا إيماناً ، بل ليزدادوا إثماً. ويُرْوَى عن بعض الصحابة أنه قرأها كذلك.
قال شِهَابُ الدينِ : وفي هذا نظر ، من حيث إنه جعل " لِيَزْدَادوا " هو المفعول الثاني ، وقد تقدم أن لام " كي " لا تقع خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه ، ولأن هذا إنما يتم له على تقدير فتح الثانيةِ ، وقد تقدم أنّ أحداً لم ينقلها عن يحيى إلا الزمخشريّ والذي يقرأ " تَحْسَبَنَّ " - بتاء الخطاب - لا يفتحها ألبتة.
واللام في " ليزدادوا " فيها وجهان :
أحدهما : أنها لام " كي ".
والثاني : أنها لامُ الصَّيْرُورَةِ.
قوله : " وَلَهُم عَذَابٌ مُهِينٌ " في هذه الواو قولان :
أحدهما : أنها للعطف ؟
والثاني : أنها للحالِ ، وظاهرُ قول الزمخشريُّ أنها للحالِ في قراءة يَحْيى بن وثَّاب فقط ؛ فإنه قال : فإن قلت : ما معنى القراءة - يعني : قراءة يحيى التي نقلها هو عنه ؟
قلتُ : معناه : ولا تحسبوا أن إملاءه لزيادة الإثم والتعذيب ، والواو للحال ، كأنه قيل : ليزدادوا إثْماً مُعَدًّا لهم عذابٌ مهينٌ.
قال أبو حيَّان : بعد ما ذكر من إنكاره عليه نَقْل فَتْح الثانية عن يحيى كما تقدم - : " ولما قَرَّرَ في هذه القراءة أن المعنى على نَهْي الكافر أن يحسب أنما يُملي اللهُ لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي [ لزيادة ] الخير ، كان قوله : { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحالِ ، حتى يزول هذا التدافعُ الذي بين هذه القراءة ، وبين ظاهر آخر الآية. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 68 ـ 75}
(18/297)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}
ومن تمام المكر بهم ، والمبالغة في عقوبتهم أَنَّا نعذِّبهم وهم لا يشعرون ؛ { سِنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 182 ] نملي لهم فيظنون ذلك إنعاماً ، ولا يحسبونه انتقاماً ، فإذا برزت لهم كوامنُ التقدير عند مغاراتهاعلموا أنهم لفي خسران ، وقد اتَّضح لكلِّ ذي بصيرة أن ما يكون سببَ العصيان وموجبَ النسيان غيرُ معدودٍ من جملة الإنعام. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 299}(18/298)
قوله تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان مطلق المسارعة أعم مما بالعوض ، وهو أعم مما بالرجوع ، جاء نظم الآيات على ذاك ؛ ولما كشفت هذه الوقعة جملة من المغيبات من أعظمها تمييز المخلص فعلاً أو قولاً من غيره ، أخبر تعالى أن ذلك من أسرارها على وجه يشير إلى النعي على المنافقين بتأخيرهم أنفسهم بالرجوع وغيره فقال مشيراً بخطاب الأتباع إلى مزيد علمه صلى الله عليه وسلم وعلو درجته لديه وعظيم قربه منه سبحانه وتعالى : {ما كان الله} أي مع ما له من صفات الكمال.
ولما كان ترك التمييز غير محمود ، عبر بفعل الوذر ، وأظهر موضع الإضمار لإظهار شرف الوصف تعظيماً لأهله فقال : {ليذر المؤمنين} أي الثابتين في وصف الإيمان {على ما أنتم عليه} من الاختلاط بالمنافقين ومن قاربهم من الذين آمنوا على حال الإشكال للاقتناع بدعوى اللسان دليلاً على الإيمان {حتى يميز الخبيث من الطيب} بأن يفضح المبطل وإن طال ستره بتكاليف شاقة وأحوال شيديدة ، لا يصبر عليها إلا المخلص من العباد ، المخلصون في الاعتقاد {وما كان الله} لاختصاصه بعلم الغيب {ليطلعكم على الغيب} أي وهو الذي لم يبرز إلى عالم الشهادة بوجه لتعلموا به الذي في قلوبهم مع احتمال أن يكون الرجوع للعلة التي ذكروها في الظاهر والقول لشدة الأسف على إخوانهم {ولكن الله} أي الذي له الأمر كله {يجتبي} أي يختار اختياراً بليغاً {من رسله من يشاء} أي فيخبر على ألسنتهم بما يريد من المغيبات كما أخبر أنهم برجوعهم للكفر أقرب منهم للإيمان ، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
ولما تسبب عن هذا وجوب الإيمان به قال : {فآمنوا بالله} أي في عالم الغيب والشهادة ، له الأسماء الحسنى {ورسله} في أنه أرسلهم وفي أنهم صادقون في كل ما يخبرون به عنه.
ولما كان التقدير : فإنكم إن لم تؤمنوا كان لكم ما تقدم من العذاب العظيم الأليم المهين ، عطف عليه قوله : {وإن تؤمنوا} أي بالله ورسله {وتتقوا} أي بالمداومة على الإيمان وما يقتضيه من العمل الصالح {فلكم أجر عظيم} أي منه أنه لا يضركم كيد أعدائكم شيئاً كما تقدم وعدكم به. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 187}(18/299)
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذه الآية من بقية الكلام في قصة أحد ، فأخبر تعالى أن الأحوال التي وقعت في تلك الحادثة من القتل والهزيمة ، ثم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اياهم مع ما كان بهم من الجراحات إلى الخروج لطلب العدو ، ثم دعائه اياهم مرة أخرى إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان ، فأخبر تعالى أن كل هذه الأحوال صار دليلا على امتياز المؤمن من المنافق ، لأن المنافقين خافوا ورجعوا وشمتوا بكثرة القتلى منكم ، ثم ثبطوا وزهدوا المؤمنين عن العود إلى الجهاد ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم وإظهارهم أنهم منكم ومن أهل الإيمان بل كان يجب في حكمته إلقاء هذه الحوادث والوقائع حتى يحصل هذا الامتياز ، فهذا وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 89 ـ 90}
وقال الآلوسى :
{ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } كلام مستأنف مسوق لوعد المؤمنين ووعيد المنافقين بالعقوبة الدنيوية وهي الفضيحة والخزي إثر بيان عقوبتهم الأخروية ، وقدم بيان ذلك لأنه أمس بالإملاء لازدياد الآثام ، وفي هذا الوعد والوعيد أيضاً ما لا يخفى من التسلية له صلى الله عليه وسلم كما في الكلام السابق ، وقيل : الآية مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم ، ولا يخفى أنه بعيد فضلاً عن كونه أقرب ، والمراد من المؤمنين المخلصون والخطاب على ما يقتضيه الذوق لعامة المخلصين والمنافقين ففيه التفات في ضمن التلوين ، والمراد بما هم عليه اختلاط بعضهم ببعض واستواؤهم في إجراء أحكام الإسلام عليهم ، وإلى هذا جنح المحققون من أهل التفسير ، وقال أكثرهم : إن الخطاب للمنافقين ليس إلا ففيه تلوين فقط ، وذهب أكثر أهل المعاني إلى أنه للمؤمنين خاصة ففيه تلوين والتفات أيضاً.(18/300)
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس وابن جرير وغيره عن قتادة أنه للكفار ، ولعل المراد بهم المنافقون وإلا فهو بعيد جداً. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 236}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}
استئناف ابتدائي ، وهو رجوع إلى بيان ما في مصيبة المسلمين من الهزيمة يوم أُحُد من الحِكم النافعة دُنيا وأخرى ، فهو عود إلى الغرض المذكور في قوله تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين } [ آل عمران : 166 ] بيّن هنا أنّ الله لم يرد دوام اللبس في حال المؤمنين والمنافقين واختلاطهم ، فقدّر ذلك زماناً كانت الحكمة في مثله تقتضي بقاءه وذلك أيّام ضعف المؤمنين عقب هجرتهم وشدّة حاجتهم إلى الاقتناع من الناس بحسن الظاهر حتّى لا يبدأ الانشقاق من أوّل أيّام الهجرة ، فلمّا استقرّ الإيمان في النفوس ، وقرّ للمؤمنين الخالصين المُقام في أمْن ، أراد الله تعالى تنهية الاختلاط وأن يميز الخبيث من الطيّب وكان المنافقون يكتمون نفاقهم لمَّا رأوا أمر المؤمنين في إقبال ، ورأوا انتصارهم يوم بدر ، فأراد الله أن يفضحهم ويظهر نفاقهم ، بأن أصاب المؤمنين بقَرح الهزيمة حتّى أظهر المنافقون فرحهم بنصرة المشركين ، وسجّل الله عليهم نفاقهم بادياً للعيان كما قال :
جَزَى الله المصائبَ كلّ خير
عرفتُ بها عدوّي من صديقي... أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 292}
فصل
قال القرطبى :
قال أبو العالية : سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرّقون بها بين المؤمن والمنافق ؛ فأنزل الله عزّ وجلّ : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ } الآية.
واختلفوا مَن المخاطب بالآية على أقوال.(18/301)
فقال ابن عباس والضحاك ومقاتِل والكلبيّ وأكثر المفسرين : الخطاب للكفار والمنافقين.
أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق وعداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال الكلبيّ : إن قريشاً من أهل مكة قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : الرجلُ منا تزعم أنه في النار ، وأنه إذا ترك دِيننا واتبع دينكَ قلتَ هو من أهل الجنةا فأخبرنا عن هذا من أين هو ؟ وأخبرنا مَن يأتيك منا ؟ ومَن لم يأتك ؟ .
فأنزل الله عزّ وجلّ { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ } من الكفر والنفاق "حتى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ".
وقيل : هو خطاب للمشركين.
والمراد بالمؤمنين في قوله : { لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ } من في الأصلاب والأرحام ممن يؤمن.
أي ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم لهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك ، حتى يفرق بينكم وبينهم ؛ وعلى هذا { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ } كلام مستأنف.
وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين.
وقيل : الخطاب للمؤمنين.
أي وما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق ، حتى يميِّز بينكم بالمحنة والتكليف ؛ فتعرفوا المنافق الخبيث ، والمؤمن الطيب.
وقد مَيَّزَ يوم أُحُد بين الفريقين.
وهذا قول أكثر أهل المعاني. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 288 ـ 289}
فصل
قال الفخر :
قد ذكرنا أن معنى الآية : ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق واشباهه حتى يميز الخبيث من الطيب ، أي المنافق من المؤمن.
واختلفوا بأي شيء ميز بينهم وذكروا وجوها :(18/302)
أحدها : بإلقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة ، فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وعلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره.
وثانيها : أن الله وعد بنصرة المؤمنين وإذلال الكافرين ، فلما قوي الإسلام عظمت دولته وذل الكفر وأهله ، وعند ذلك حصل هذا الامتياز.
وثالثها : القرائن الدالة على ذلك ، مثل إن المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام وقوته ، والمنافقين كانوا يغتمون بسبب ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 90}
فائدة
قال ابن عاشور :
ومعنى { ما كان الله ليذر المؤمنين } نفي هذا عن أن يكون مراداً لله نفياً مؤكَّداً بلام الجُحود ، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } [ آل عمران : 79 ] إلخ...
فقوله : { على ما أنتم عليه } أي من اختلاط المؤمن الخالص والمنافق ، فالضمير في قوله : { أنتم عليه } مخاطب به المسلمون كلّهم باعتبار من فيهم من المنافقين.
والمراد بالمؤمنين المؤمنون الخُلَّص من النفاق ، ولذلك عبّر عنهم بالمؤمنين ، وغيّر الأسلوب لأجل ذلك ، فلم يقل : ليذركم على ما أنتم عليه تنبيهاً على أنّ المراد بضمير الخطاب أكثر من المراد بلفظ المؤمنين ، ولذلك لم يقل على ما هم عليه.
وقوله : { حتى يميز الخبيث من الطيب } غاية للجحود المستفاد من قوله : { ما كان الله ليذر } المفيد أنّ هذا الوَذْر لا تتعلّق به إرادة الله بعد وقت الإخبار ولا واقعاً منه تعالى إلى أن يحصل تمييز الخبيث من الطيّب ، فإذا حصل تمييز الخبيث من الطّيب صار هذا الوذر ممكناً ، فقد تتعلّق الإرادة بحصوله وبعدم حصوله ، ومعناه رجوع إلى حال الاختيار بعد الإعلام بحالة الاستحالة.(18/303)
ولحتّى استعمال خاصّ بعد نفي الجحود ، فمعناها تنهية الاستحالة : ذلك أنّ الجحود أخصّ من النفي لأنّ أصل وضع الصيغة الدلالة على أنّ ما بعد لام الجحود مناف لحقيقة اسم كان المنفية ، فيكون حصوله كالمستحيل ، فإذا غيّاه المتكلّم بغاية كانت تلك الغاية غاية للاستحالة المستفادة من الجحود ، وليست غاية للنفي حتّى يكون مفهومها أنّه بعد حصول الغاية يثبت ما كان منفياً ، وهذا كلّه لمح لأصل وضع صيغة الجحود من الدلالة على مبالغة النفي لا لغلبة استعمالها في معنى مطلق النفي ، وقد أهمل التنبيه على إشكال الغاية هنا صاحب "الكشاف" ومتابعوه ، وتنّبه لها أبو حيّان ، فاستشكلها حتّى اضطرّ إلى تأوّل النفي بالإثبات ، فجعل التقدير : إنّ الله يخلّص بينكم بالامتحان ، حتّى يميز.
وأخذ هذا التأويل من كلام ابنِ عطية ، ولا حاجة إليه على أنّه يمكن أن يتأوّل تأويلاً أحسن ، وهو أن يجعل مفهوم الغاية معطّلاً لوجود قرينة على عدم إرادة المفهوم ، ولكن فيما ذكرته وضوح وتوقيف على استعمال عربيّ رشيق.
و ( مِنْ ) في قوله : { من الطيب } معناها الفصْل أي فصل أحد الضدين من الآخر ، وهو معنى أثبته ابن مالك وبحث فيه صاحب "مغني اللبيب" ، ومنه قوله تعالى : { واللَّه يعلم المفسد من المصلح } وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : { واللَّه يعلم المفسد من المصلح } في سورة [ البقرة : 220 ].
وقيل : الخطاب بضمير ما أنتم } للكفار ، أي : لا يترك الله المؤمنين جاهلين بأحوالكم من النفاق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 293 ـ 294}(18/304)
لطيفة
قال الآلوسى :
وعبر عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيلاً على كل منهما بما يليق به وإشعاراً بعلة الحكم ، وأفرد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل إيذاناً بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما ، وتعليق الميز بالخبيث مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم قاله بعض المحققين ، وقيل : إنما قدم الخبيث على الطيب وعلق به فعل الميز إشعاراً بمزيد رداءة ذلك الجنس فإن الملقى من الشيئين هو الأدون. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 136 ـ 137}
فصل
قال الفخر :
ههنا سؤال ، وهو أن هذا التمييز إن ظهر وانكشف فقد ظهر كفر المنافقين ، وظهور الكفر منهم ينفي كونهم منافقين ، وإن لم يظهر لم يحصل موعود الله.
وجوابه : أنه ظهر بحيث يفيد الامتياز الظني ، لا الامتياز القطعي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 90}
قوله تعالى {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب}
قال القرطبى :
{ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } يا معشر المؤمنين.(18/305)
أي ما كان الله ليعيِّن لكم المنافقين حتى تعرفوهم ، ولكن يظهر ذلك لكم بالتكليف والمحنة ، وقد ظهر ذلك في يوم أُحُد ؛ فإن المنافقين تخلفوا وأظهروا الشماتة ، فما كنتم تعرفون هذا الغيب قبل هذا ، فالآن قد أطلع الله محمداً عليه السَّلام وصحبه على ذلك.
وقيل : معنى { ليطلعكم } أي وما كان ( الله ) ليعلمكم ما يكون منهم.
فقوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ ( عَلَى الْغَيْبِ ) } على هذا متصل ، وعلى القولين الأوّلين منقطع.
وذلك أن الكفار لما قالوا : لِمَ لَمْ يوح إلينا ؟ قال : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } أي على من يستحق النبوّة ، حتى يكون الوحي باختياركم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 289}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { وما كان الله ليطلعكم } عطف على قوله : { ما كان الله ليذر } يعني أنّه أراد أن يميز لكم الخبيث فتعرفوا أعداءكم ، ولم يكن من شأن الله إطلاعكم على الغيب ، فلذلك جعل أسباباً من شأنها أن تستفزّ أعداءكم فيظهروا لكم العداوة فتطلّعوا عليهم ، وإنّما قال : { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } لأنّه تعالى جعل نظام هذا العالم مؤسّساً على استفادة المسبّبات من أسبابها ، والنتائج من مقدّماتها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 294}(18/306)
وقال الفخر :
معناه أنه سبحانه حكم بأن يظهر هذا التمييز ، ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم الله على غيبه فيقول : إن فلانا منافق وفلانا مؤمن ، وفلانا من أهل الجنة وفلانا من أهل النار ، فإن سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه ، بل لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات مثل ما ذكرنا من وقوع المحن والآفات ، حتى يتميز عندها الموافق من المنافق ، فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع من الغيب فهو من خواص الأنبياء ، فلهذا قال : {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} أي ولكن الله يصطفي من رسله من يشاء فخصهم بإعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق.
ويحتمل ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان ، ويحتمل أيضا أن يكون المعنى : وما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول ، بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة ، ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 90 ـ 91}
قال ابن عاشور :
وقوله : { ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } يجوز أنّه استدراك على ما أفاده قوله : { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } حتّى لا يجعله المنافقون حجّة على المؤمنين.
في نفي الوحي والرسالة ، فيكون المعنى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب إلاّ ما أطلع عليه رسوله ومن شأن الرسول أن لا يفشي ما أسرّه الله إليه كقوله : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحد إلا من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ، 27 ] الآية ، فيكون كاستثناء من عموم { ليطلعكم }.(18/307)
ويجوز أنّه استدراك على ما يفيده { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } من انتفاء اطّلاع أحد على علم الله تعالى فيكون كاستثناء من مفاد الغيب أي : إلاّ الغيب الراجع الى إبلاغ الشريعة ، وأمّا ما عداه فلم يضمن الله لرسله إطلاعهم عليه بل قد يطلعهم ، وقد لا يطلعهم ، قال تعالى : { وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعملهم } [ الأنفال : 60 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 294}
وقال النسفى :
{ وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } أي ولكن الله يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأن في الغيب كذا وأن فلاناً في قلبه النفاق وفلاناً في قلبه الإخلاص ، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة نفسه. والآية حجة على الباطنية فإنهم يدعون ذلك العلم لإمامهم فإن لم يثبتوا النبوة له صاروا مخالفين للنص حيث أثبتوا علم الغيب لغير الرسول ، وإن أثبتوا النبوة له صاروا مخالفين لنص آخر وهو قوله { وَخَاتَمَ النبيين } [ الأحزاب : 40 ]. أ هـ {تفسير النسفى حـ 1 صـ 194}(18/308)
وقال الآلوسى :
{ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } ومن هنا جعل مولانا شيخ الإسلام ما قبل الاستدراك تمهيداً لبيان الميز الموعود به على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفاً لهم ، والاستدراك إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الإجمال وأن المعنى ما كان الله ليترك المخلصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادي حتى يخرج المنافقين من بينهم ، وما يفعل ذلك بإطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حكي عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ويخلصكم مما تكرهون ، وذكر أنه قد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله تعالى قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله تعالى ، فيجعل ذلك عياراً على عقائدكم وشاهداً بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور ، فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به ، وتعقبه بأن الاستدراك باجتباء الرسل المنبىء عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في أن المراد إظهار تلك السرائر بطريق الوحي لا بطريق التكليف بما يؤدي إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء.(18/309)
وأنت تعلم أن دعوى أن الاستدراك صريح فيما ادعاه من المراد مما لا يكاد يثبته الدليل ، ولهذا قيل : إن حاصل المعنى ليس لكم رتبة الاطلاع على الغيب وإنما لكم رتبة العلم الاستدلالي الحاصل من نصب العلامات والأدلة ، والله تعالى سيمنحكم بذلك فلا تطمعوا في غيره فإن رتبة الاطلاع على الغيب لمن شاء من رسله ، وأين أنتم من أولئك المصطفين الأخيار ؟ نعم ما ذكره هذا المولى أظهر وأولى ، وقد سبقه إليه أبو حيان ، والمراد من قوله سبحانه : { لِيُطْلِعَكُمْ } إما ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب أو ليطلع جميعكم أي أنه تعالى لا يطلع جميعكم على ذلك بل يختص به من أراد ، وأيد الأول بأن سبب النزول أكثر ملاءمة له.
فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن الكفرة قالوا إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت.(18/310)
ونقل الواحدي عن السدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عرضت على أمتي في صورها كما عرضت عليَّ آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فاستهزءوا قالوا : يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله تعالى هذه الآية" وقال الكلبي : قالت قريش : "تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله تعالى عليه غضبان وأن من تبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله تعالى عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأيد الثاني بأن ظاهر السوق يقتضيه قيل : والحق اتباع السوق ويكفي أدنى مناسبة بالقصة في كونها سبباً للنزول على أن في سند هذه الآثار مقالاً حتى قال بعض الحفاظ في بعضها : إني لم أقف عليه ، وقد روي عن أبي العالية ما يخالفها وهو أن المؤمنين سئلوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فنزلت ، والاجتباء الاستخلاص كما روي عن أبي مالك ويؤول إلى الاصطفاء والاختيار وهو المشهور في تفسيره ، ويقال جبوت المال وجبيته بالواو والياء فياء يجتبي هنا إما على أصلها أو منقلبة من واو لانكسار ما قبلها ، وعبر به للإيذان بأن الوقوف على الأسرار الغيبية لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل تقاصرت عنه همم الأمم واصطفاه على الجماهير لارشادهم.
و { مِنْ } لابتداء الغاية وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب أمر متين له أصل أصيل جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم.(18/311)
وقيل : إنها للتبعيض فإن الاطلاع على المغيبات مختص ببعض الرسل ، وفي بعض الأوقات حسبما تقتضيه مشيئته تعالى ولا يخفى أن كون ذلك في بعض الأوقات مسلم ، وأما كونه مختصاً ببعض الرسل ففي القلب منه شيء.
ولعل الصواب خلافه ولا يشكل على هذا أن الله تعالى قد يطلع على الغيب بعض أهل الكشف ذوي الأنفس القدسية لأن ذلك بطريق الوراثة لا استقلالاً وهم يقولون : إن المختص بالرسل عليهم السلام هو الثاني على أنه إذا كان المراد ما أيده السوق بعد هذا الاستشكال وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 137 ـ 138}
قوله تعالى {فآمنوا بالله ورسله}
قال الفخر :
المقصود أن المنافقين طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بوقوع الحوادث المكروهة في قصة أحد ، فبين الله تعالى أنه كان فيها مصالح.
منها تمييز الخبيث من الطيب ، فلما أجاب عن هذه الشبهة التي ذكرتموها قال : {فآمنوا بالله ورسله} يعني لما دلت الدلائل على نبوته وهذه الشبهة التي ذكرتموها في الطعن في نبوته فقد أجبنا عنها ، فلم يبق إلا أن تؤمنوا بالله ورسله ، وإنما قال : {وَرُسُلِهِ} ولم يقل : ورسوله لدقيقة ، وهي أن الطريق الذي به يتوصل إلى الاقرار بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام ليس إلا المعجز وهو حاصل في حق محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجب الاقرار بنبوة كل واحد من الأنبياء ، فلهذه الدقيقة قال : {وَرُسُلِهِ} والمقصود التنبيه على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحد ، فمن أقر بنبوة واحد منهم لزمه الاقرار بنبوة الكل ، ولما أمرهم بذلك قرن به الوعد بالثواب فقال : {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ، وهو ظاهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 91}(18/312)
وقال ابن عاشور :
وقوله : { فآمنوا بالله ورسله } إن كان خطاباً للمؤمنين فالمقصود منه الإيمان الخاصّ ، وهو التصديق بأنّهم لا ينطقون عن الهوى ، وبأنّ وعد الله لا يخلف ، فعليهم الطاعة في الحرب وغيره أو أريد الدوام على الإيمان ، لأنّ الحالة المتحدّث عنها قد يتوقع منها تزلزل إيمان الضعفاء ورواج شبه المنافقين ، وموقع { وإن تؤمنوا وتتقوا } ظاهر على الوجهين ، وإن كان قوله : { فآمنوا } خطاباً للكفار من المنافقين بناء على أنّ الخطاب في قوله : { على ما أنتم عليه } وقوله : { ليطلعكم على الغيب } للكفّار فالأمر بالإيمان ظاهر ، ومناسبة تفريعه عمّا تقدّم انتهاز فرص الدعوة حيثما تأتّت. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 294}
قال العلامة الآلوسى :
وتعميم الأمر مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه صلى الله عليه وسلم مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته ، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولاً أولياً ، وقد يقال : إن المراد من الإيمان بالله تعالى أن يعلموه وحده مطلعاً على الغيب.
ومن الإيمان برسله أن يعلموهم عباداً مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحي إليهم في أمر الشرائع ، وكون المراد من الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه سبحانه وتعالى لا يترك المخلصين على الاختلاط حتى يميز الخبيث من الطيب بنصب العلامات وتحصيل العلم الاستدلالي بمعرفة المؤمن والمنافق.
ومن الإيمان برسله الإيمان بأنهم المترشحون للاطلاع على الغيب لا غيرهم بعيد كما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 138}(18/313)
لطيفة
قال القرطبى :
{ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي الجنة.
ويذكر أن رجلاً كان عند الحجّاج بن يوسفَ الثَّقَفِيّ مِنَجِّماً ؛ فأخذ الحجاج حَصَياتٍ بِيده قد عَرف عددها فقال للمُنَجِّم : كم في يدي ؟ فحسَب فأصاب المنَجِّم.
فأغفله الحجّاج وأخذ حَصَياتٍ لم يُعدّهنّ فقال للمنجم ؛ كم في يدي ؟ فحسَب فأخطأ ، ثم حسَب أيضاً فأخطأ ؛ فقال : أيها الأمير ، أظنك لا تعرف عدد ما في يدك ؟ قال لا.
قال : فما الفرق بينهما ؟ فقال : إن ذاك أحْصيتَه فخرج عن حدّ الغيب ، فحسَبتُ فأصبتُ ، وإنّ هذا لم تَعرف عددَها فصار غَيْباً ، ولا يعلم الغيب إلاَّ الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 290}
وقال الآلوسى :
{ وَإِن تُؤْمِنُواْ } أي بالله تعالى ورسله حق الإيمان { وَتَتَّقُواْ } المخالفة في الأمر والنهي أو تتقوا النفاق { فَلَكُمْ } بمقابلة ذلك فضلاً من الله تعالى { أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا يكتنه ولا يحد في الدنيا والآخرة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 138 ـ 139}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
اللام في " ليذر " تُسمَّى لامَ الجحودِ ، ويُنْصَب بعدها المضارع بإضمار " أن " ولا يجوز إظهارها. والفرق بين لام " كي " أن هذه - على المشهور - شرطها أن تكون بعد كون منفي ، ومنهم من يشترط مضي الكونِ ، ومنهم من لم يشترط الكون.
وفي خبر " كان " - هنا - وما أشبه قولان :
أحدهما : قولُ البصريينَ - أنه محذوفٌ ، وأن اللامَ مقوية لتعدية ذلك الخبرِ المقدَّر لِضَعْفه ، والتقدير : ما كان الله مُريداً لأن يَذَر ، و" أن يذر " هو مفعول " مريداً " والتقديرُ : ما كان اللهُ مُريداً ترك المؤمنين.(18/314)
الثاني : قول الكوفيين - أن اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي ، وأن الفعل بعدها هو خبرُ كانَ واللامُ عندهم هي العاملةُ النصْبَ في الفعل بنفسها ، لا بإضمار " أن " والتقدير عندهم : ما كان الله ليذرَ المؤمنين.
وضعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنّ النصب قد وُجِد بعد هذه اللامِ ، فإن كان النصبُ بها نفسها فليست زائدةً ، وإن كان النصبُ بإضمار " أن " فسَد من جهة المعنى لأن " أن " وما في حيزها بتأويل مصدر ، والخبر في باب " كان " هو الاسم في المعنى ، فيلزم أن يكون المصدر - الذي هو معنى من المعاني - صادقاً على اسمها ، وهو مُحَالٌ.
وجوابه : أما قوله : إن كان النصبُ بها فليست زائدةً ممنوع ؛ لأن العملَ لا يمنع الزيادةَ ، ألا ترى انَّ حروف الجَرِّ تُزاد ، وهي عاملة وكذلك " أن " عند الأخفشِ ، و" كان " في قول الشاعر : [ الوافر ]
............................ وَجِيرَان لَنَا كَانُوا كِرَام
كما تقدم تحقيقه و" يذر " فعل لا يتصرف - كَيَدَعُ - استغناء عنه بتصرُّف [ مرادفه ] - وحُذِفت الواو من " يذر " من غير موجب تصريفي ، وإنما حُمِلَت على " يدع " لأنها بمعناها ، و" يدع " حُذِفت منه الواوُ لموجب ، وهو وقوع الواو بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة وأما الواو في " يذر " فوقعت بين ياء وفتحةٍ أصليةٍ. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } [ البقرة : 278 ].
قوله : { حتى يَمِيزَ } حتى - هنا - قيل : هي الغائية المجرَّدة ، بمعنى " إلى " والفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " وقد تقدم تحقيقه في " البقرة ".
(18/315)
فإن قيل الغاية - هنا - مشكلة - على ظاهر اللفظ - لأنه يصير المعنى : أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية - وهي التمييز بين الخبيثِ والطَّيِّبِ - ومفهومه أنه إذا وُجِدَت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه.
هذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية ، وليس المعنى على ذلك قَطْعاً ، ويصيرُ هذا نظيرُ قولكَ : لا أكَلِّم زيداً حتى يقدم عمرو ، فالكلام منتفٍ إلى قدوم عمرو.
فالجوابُ عنه : " حَتّى " غاية لمن يفهم من معنى هذا الكلام ، ومعناه : أنه - تعالى - يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أن يميز الخبيثَ من الطيبِ.
وقرأ حمزة [ والكسائي ] - هنا وفي الأنفال - " يُمَيِّزَ " بالتشديد - والباقون بالتخفيف ، وعن ابن كثيرٍ - أيضاً - " يُميز " من " أماز " فهذه ثلاث لغاتٍ ، يقال : مَازَه وميَّزه وأمازه. والتشديد والهمزة ليسا للنقل ؛ لأنّ الفِعْلَ - قبلهما - مُتَعَد ، وإنما " " فعّل " - بالتشديد - و" أفعل " بمعنى : المجرد. وهل " ماز " و" مَيَّز " بمعنًى واحدٍ ، أو بمعنيين مختلفين ؟ قولان. ثم القائلونَ بالفرق اختلفوا ، فقال بعضهم : لا يقال : ماز ، إلا في كثير ، فأما واحدٌ من واحدٍ فميَّزت ، ولذلك قال أبو مُعاذٍ : يقال ميَّزتُ بين الشيئين تَمْييزاً ، ومِزْت بين الأشياء مَيْزاً.
وقال بعضُهُمْ عكس هذا - مزت بين الشيئين مَيْزاً ، وميَّزت بين الأشياء تمييزاً - وهذا هو القياس ، فإنَّ التضعيفَ يؤذن بالتكثير ، وهو لائقٌ بالمتعددات ، وكذلك إذا جعلتَ الواحد شيئين قلت : فَرَقْت : - بالتخفيف - ومنه : فرق الشعر ، وإن جعلته أشياء ، قلت : فرَّقْتها تَفْرِيقاً.
(18/316)
ورجَّح بعضُهم " مَيَّز " - بالتشديد - بأنه أكثر استعمالاً ، ولذلك لم يستعملوا المصدر إلا منه ، قالوا : التمييز ، ولم يقولوا : المَيْز - يعني لم يقولوه سماعاً ، وإلا فهو جائز قياساً.
قوله : " وَلكِنَّ " هذا استدراكٌ من معنى الكلامِ المتقدمِ ؛ لأنه تعالى - لما قال : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ } أَوْهَمَ ذلك أنه لا يُطْلِعُ أحداً على غيبه ؛ لعموم الخطابِ - فاستدرك الرُّسُلَ. والمعنى : { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي } أي يصطفي { مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } فَيَطْلِعُهُ على الغيبِ ، فهو ضِدٌّ لما قبله في المعنى ، وقد تقدم أنها بين ضِدَّيْنِ ونقيضَيْن ، وفي الخلافين خلافٌ.
يَجْتَبِي : يصطفي ويختار ، من : جَبَوْت المال والماء ، وجبيتهما - لغتان - فالياء في يجتبي يُحْتَمَل أن تكون على أصلها ، ويُحْتَمل أن تكون منقلبةً عن واوٍ ؛ لانكسارِ ما قبلها.
ومفعول " يَشَاءُ " محذوفٌ ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى ، والتقدير : يشاءُ إطلاعه على الغيب. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 77 ـ 83}. بتصرف.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}
جمعهم اليومَ من حيث الأشخاص والمباني ، ولكنه فرَّقهم في الحقائق والمعاني ؛ فَمِنْ طيِّبةٍ سجيته ، وزمن خبيئةٍ طِينَتُه. وهم وإن كانوا مشائب ففي بصيرة الخواص هم ممتازون.
{ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ } : فإنَّ أسرار الغيب لا تظهر للمتلوثين بأدناس البشرية ، وإن الحق سبحانه مستأثر بعلم ما جلَّ وقلَّ ، فيختص من يشاء من أنبيائه بمعرفة بعض أسراره. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 299 ـ 300}(18/317)
قوله تعالى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان من جملة مباني السورة الإنفاق ، وتقدم في غير آية مدح المتقين به وحثهم عليه ، وتقدم أن الكفار سارعوا في الكفر : أبو سفيان بالإنفاق في سبيل الشيطان على من يخذل الصحابة ، ونعيم أو عبد القيس بالسعي في ذلك.
وكان المبادرون إلى الجهاد قد تضمن فعلهم السماح بما آتاهم الله من الأنفس والأموال ، وكان الله سبحانه وتعالى قد أخبر لما لهم عنده من الحياة التي هي خير من حياتهم التي أذهبوها في حبه ، والرزق الذي هو أفضل مما أنفقوا في سبيله ، ذم الله سبحانه وتعالى الباخلين بالأنفس والأموال في سبيل الله فقال راداً الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم لأنه أمكن لسروره وأوثق في إنجاز الوعد : {ولا تحسبن} أي أنت يا خير البرية - هذا على قراءة حمزة ، وعند الباقين الفاعل الموصول في قوله : {الذين يبخلون} أي عن الحقوق الشرعية {بما آتاهم الله} أي بجلاله وعز كماله {من فضله} أي لا لاستحاقهم له ببخلهم {هو خيراً لهم} أي لتثمير المال بذلك {بل هو} أي البخل {شر لهم} لأنهم مع جعل الله البخل مَتلفة لأموالهم {سيطوقون} أي يفعل من يأمره بذلك كائناً من كان بغاية السهولة عليه {ما يخلوا به} أي يجعل لهم بوعد صادق لا خلف فيه بعد الإملاء لهم طوقاً بأن يجعله شجاعاً أي حية عظيمة مهولة ، تلزم الإنسان منهم ، محيطة بعنقه ، تضربه في جانبي وجهه {يوم القيامة} لأن الله سبحانه وتعالى يرثه منهم بعد أن كان خوّلهم فيه ، فيجعله بسبب ذلك التخويل عذاباً عليهم ، روى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع ، له زبيبتان ، يطوقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - يقول : أنا مالك! أنا كنزك! - ثم تلا هذه الآية ".(18/318)
ولما كان هذا طلباً منهم للإنفاق ، وكان الطالب منا محتاجاً إلى ما يطلبه ، وكان ذو المال إذا علم أنه ذاهب وأن ماله موروث عنه تصرف فيه ؛ أخبر تعالى بغناه على وجه يجرئهم على الإنفاق فقال عاطفاً على ما تقديره : لأنه ثمرة كونه من فضله فلله كل ما في أيديهم : {ولله} أي الذي له الكمال كله {ميراث السماوات والأرض} أي اللذين هذا مما فيهما ، بأن يعيد سبحانه وتعالى جميع الأحياء وإن أملى لهم ، ويفنى سائر ما وهبهم من الأعراض ، ويكون هو الوارث لذلك كله.
ولما كانت هذه الجمل في الإخبار عن المغيبات دنيا وأخرى ، وكان البخل من الأفعال الباطنة التي يستطاع إخفاؤها ودعوى الاتصاف بضدها كان الختم بقوله : {والله} أي الملك الأعظم.
ولما كان منصب النبي صلى الله عليه وسلم الشريف في غاية النزاهة صرف الخطاب إلى الأتباع في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو ، وهو أبلغ في الوعيد من تركه على مقتضى السياق من الغيبة في قراءتهما ، وقدم الجار إشارة إلى أن علمه بأعمالهم بالغ إلى حد لا تدرك عظمته لأن ذلك أبلغ في الوعيد الذي اقتضاه السياق : {بما تعملون خبير }. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 188 ـ 189}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع ههنا في التحريض على بذل المال في الجهاد ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 91}(18/319)
فائدة
قال ابن عاشور :
الظاهر أنّ هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين ، فإنّهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، كما حكى الله عنهم في سورة النساء ( 37 ) بقوله : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } وكانوا يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضُّوا ، وغير ذلك ، ولا يجوز بحال أن يكون نازلاً في شأن بعض المسلمين لأنّ المسلمين يومئذ مبرّؤون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان ، ولذلك قال معظم المفسّرين : إنّ الآية نزلت في منع الزكاة ، أي فيمن منعوا الزكاة ، وهل يمنعها يومئذ إلاّ منافق.
ولعلّ مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أنّ بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أُحُد.
ومعنى حسبانه خيراً أنّهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصّلوا عن دفعه بمعاذير قُبلت منهم.
أمّا شمولها لِمنع الزكاة ، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس ، فبدلالة فحوى الخطاب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 295}
فصل
قال القرطبى :
وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله ، وأداء الزكاة المفروضة.
وهذه كقوله : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } الآية.
ذهب إلى هذا جماعةٌ من المتأوّلين ، منهم ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وأبو مالك والسّدِّي والشَّعْبِيّ قالوا : ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } هو الذي ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " "من آتاه الله مالاً فلم يُؤَدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شُجاعاً أقْرَعَ له زَبِيبتان يُطَوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بِلهزمتيه ثم يقول أنا مالُك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } الآية " أخرجه النسائي.(18/320)
وخرّجه ابن ماجه " عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما مِن أحدٍ لا يُؤدِّي زكاةَ مالِهِ إِلاَّ مُثِّل له يومَ القيامة شُجاع أقْرَعُ حتى يُطَوَّقَ به في عنقه" ثم قرأ علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم مِصداقه من كتاب الله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } الآية " وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما من ذي رَحِمٍ يأتي ذَا رَحِمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل به عليه إلاَّ أخرج له يوم القيامة شُجاعٌ من النار يتلمظّ حتى يُطَوِّقه " وقال ابن عباس أيضاً : إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ذلك مُجاهد وجماعة من أهل العلم.
ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ } على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به ؛ فهو من الطاقة كما قال تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } [ البقرة : 184 ] وليس من التّطويق.
وقال إبراهيم النَّخَعِيّ : معنى { سَيُطَوَّقون } سيُجعل لهم يوم القيامة طَوْقٌ من النار.
وهذا يجري مع التأويل الأوّل ( أي ) قول السدي.
وقيل : يُلزَمون أعمالهم كما يلزم الطّوق العنق ؛ يقال : طُوِّق فلان عملَه طَوْقَ الحمامة ، أي ألزِم عمله.
وقد قال تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ].
ومن هذا المعنى قولُ عبد الله بن جَحْش لأبي سفيان :
أبلِغْ أبا سفيان عن . . .
أمْرٍ عواقبُه ندامه
دارَ ابن عمِّك بِعتَها . . .
تقضي بها عنك الغرامهْ
وَحَلِيفكُم باللَّه ربِّ . . .
الناسِ مجتهِدُ القَسَامهْ
اذهب بها اذهب بها . . .
طُوِّقتَها طوقَ الحمامهْ
وهذا يجري مع التأويل الثاني.
والبُخْل والبَخَل في اللغة أن يَمنع الإنسانُ الحقَّ الواجبَ عليه.(18/321)
فأما من منَع ما لاَ يجب عليه فليس ببخيل ؛ لأنه لا يُذَمّ بذلك.
وأهل الحجاز يقولون : يَبْخَلُون وقد بَخلُوا.
وسائر العرب يقولون : بَخِلُوا يَبْخَلُون ؛ حكاه النحاس.
وبَخِل يَبْخَل بُخْلاً وَبَخَلاً ؛ عن ابن فارس. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 291 ـ 293}
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} بالتاء والباقون بالياء ، أما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فقال الزجاج : معناه ولا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم ، فحذف المضاف لدلالة يبخلون عليه ، وأما من قرأ بالياء المنقطة من تحت ففيه وجهان : الأول : أن يكون فاعل {يَحْسَبَنَّ} ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ضمير أحد ، والتقدير : ولا يحسبن رسول الله أو لا يحسبن أحد بخل الذين يبخلون خيراً لهم.
الثاني : أن يكون فاعل {يَحْسَبَنَّ} هم الذين يبخلون ، وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا ، وتقديره : ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيراً لهم ، وإنما جاز حذفه لدلالة يبخلون عليه ، كقوله : من كذب كان شراً له ، أي الكذب ، ومثله :
إذا نهى السفيه جرى إليه.. أي السفه ، وأنشد الفراء
هم الملوك وأبناء الملوك هم.. والآخذون به والسادة الأول
فقوله به : يريد بالملك ولكنه اكتفى عنه بذكر الملوك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 91}
قال الطبرى :
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي (1) ، قراءة من قرأ : ( " وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ " ) بالتاء، بتأويل : ولا تحسبن، أنت يا محمد، بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم ثم ترك ذكر"البخل"، إذ كان في قوله : "هو خيرًا لهم" دلالة على أنه مراد في الكلام، إذ كان قد تقدمه قوله : "الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله".
_______________
(1) تقدم الرد مرارا على مثل هذا الكلام.(18/322)
وإنما قلنا : قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء، لأن"المحسبة" من شأنها طلب اسم وخبر، فإذا قرئ قوله : "ولا يحسبن الذين يبخلون" بالياء : لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله : "هو خيرًا لهم" خبرًا عنه. وإذا قرئ ذلك بالتاء، كان قوله : "الذين يبخلون" اسمًا له قد أدّى عن معنى"البخل" الذي هو اسم المحسبة المتروك، وكان قوله : "هو خيرًا لهم" خبرًا لها، فكان جاريًا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح. فلذلك اخترنا القراءة بـ"التاء" في ذلك على ما بيناه، وإن كانت القراءة بـ"الياء" غير خطأ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب.
قال أبو جعفر : وأما تأويل الآية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك : ولا تحسبن، يا محمد، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال، فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات، هو خيرًا لهم عند الله يوم القيامة، بل هو شر لهم عنده في الآخرة. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 431}
فصل
قال الفخر :
هو في قوله : {هُوَ خَيْراً لَّهُمْ} تسميه البصريون فصلا ، والكوفيون عماداً ، وذلك لأنه لما ذكر "يبخلون" فهو بمنزلة ما إذا ذكر البخل ، فكأنه قيل : ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم ، وتحقيق القول فيه أن للمبتدأ حقيقة ، وللخبر حقيقة ، وكون حقيقة المبتدأ موصوفا بحقيقة الخبر أمر زائد على حقيقة المبتدأ وحقيقة الخبر ، فإذا كانت هذه الموصوفية أمرا زائدا على الذاتين فلا بد من صيغة ثالثة دالة على هذه الموصوفية وهي كلمة "هو". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 92}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع ، وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا ، وأن يكون علما.(18/323)
فالقول الأول : إن هذا الوعيد ورد على البخل بالمال ، والمعنى : لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم ، بل هو شر لهم ، وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم ، وهو المراد من قوله : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله : {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض }.
والقول الثاني : أن المراد من هذا البخل : البخل بالعلم ، وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ، فكان ذلك الكتمان بخلا ، يقال فلان يبخل بعلمه ، ولا شك أن العلم فضل من الله تعالى قال الله تعالى : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} [ النساء : 113 ] ثم إنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والأنجيل ، فإذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك بخلا.
واعلم أن القول الأول أولى ، ويدل عليه وجهان :
الأول : أنه تعالى قال : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا إلى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية ، ولو فسرناها بالمال لم نحتج إلى المجاز فكان هذا أولى.
الثاني : أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن ، ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم ، إلا على سبيل التكلف ، فكان الأول أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 92}
فصل
قال الفخر :
أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب ، وان منع التطوع لا يكون بخلا ، واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أن الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل ، والوعيد لا يليق إلا الواجب.(18/324)
وثانيها : أنه تعالى ذم البخل وعابه ، ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به.
وثالثها : وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل ، وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه ، فيكون لا محالة تاركا التفضل ، فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة ، تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا.
ورابعها : قال عليه الصلاة والسلام : " وأي داء أدوأ من البخل " ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف.
وخامسها : أنه كان لو تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا باخراج الكل.
وسادسها : أنه تعالى قال : {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} [ البقرة : 3 ] وكلمة "من" للتبعيض ، فكان المراد من هذه الآية : الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله ، ثم إنه تعالى قال في صفتهم : {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} [ البقرة : 5 ] فوصفهم بالهدى والفلاح ، ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك.
فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب ، إلا أن الإنفاق الواجب أقسام كثيرة ، منها انفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم ، ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة ، ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم ، فههنا يجب عليهم انفاق الأموال على من يدفعه عنهم ، لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس ، ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطراً فإنه يجب عليه أن يدفع إليه مقدار ما يستبقي به رمقه ، فكل هذه الاتفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 92 ـ 93}(18/325)
فائدة
قال ابن العربى :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ، وَالشُّحُّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } وَالْإِيثَارُ مُسْتَحَبٌّ ، وَسُمِّيَ مَنْعُهُ شُحًّا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَثَبَتَ بِرِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ ؛ فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يَتَصَدَّقَ سَبَغَتْ وَوَفَرَتْ حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتُعَفِّيَ أَثَرَهُ ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ تَقَلَّصَتْ وَلَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا ، فَهُوَ يُوَسِّعُ وَلَا تُوَسَّعُ }.
وَهَذَا مِنْ الْأَمْثَالِ الْبَدِيعَةِ ، بَيَانُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 396 ـ 397 }(18/326)
فائدة
قال ابن عاشور عن البخل :
وهو ضدّ الجود ، فهو الانقباض عن إعطاء المال بدون عوض ، هذا حقيقته ، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرّة عليه إلاَّ مجازاً ، وقد ورد في أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم " البخيل الذي أُذكُر عنده فلا يصلّي عليّ " ويقولون : بخِلت العين بالدموع ، ويرادف البخلَ الشحّ ، كما يرادف الجودَ السخاء والسماح. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 296}
فصل في ثمرة البخل وفائدته.
قال القرطبى :
وهو ما رُوي " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : "من سَيدكم" قالوا الجَدّ ابن قيس على بُخْلٍ فيه.
فقال صلى الله عليه وسلم : "وأيُّ داء أَدْوَى من البخل" قالوا : كيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : "إن قوماً نزلوا بساحل البحر فكَرِهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا : ليبعد الرجال منّا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف بِبُعْد النساء ؛ وتعتذر النساء ببُعْد الرجال ؛ ففعلوا وطال ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء" " ذكره الماوردي في كتاب "أدب الدنيا والدين". والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 293}
فصل
قال القرطبى :
واختلف في البُخْل والشُّحّ ؛ هل هما بمعنى واحد أو بمعنين.
فقيل : البخل الامتناع من إخراج ما حصل عندك.
والشُّح : الحِرصُ على تحصيل ما ليس عندك.
وقيل : إن الشُّح هو مع حِرص.
وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظُلماتٌ يوم القيامة واتقوا الشُّحَّ فإن الشُّح أهلك من كان قبلكم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " وهذا يردّ قول من قال : إن البخلَ منعُ الواجب ، والشحَّ منعُ المستحبّ.
إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم ، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة.(18/327)
ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجتمع غُبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم في مِنِخَرىْ رجلٍ مُسلمٍ أبداً ولا يجتمع شحُّ وإيمانٌ في قلب رجل مسلم أبداً " وهذا يدل على أن الشُّحَ أشدّ في الذم من البخل ؛ إلا أنه قد جاء ما يدل على مساواتهما وهو قوله وقد سئل : أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال : "لا" وذكر المارودي في كتاب "أدب الدنيا والدين" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : "من سيدّكم" قالوا : الجدّ بن قيس على بُخْل فيه ؛ الحديث. وقد تقدم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 293}
قوله تعالى {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة}
فصل
قال الفخر :
في تفسير هذا الوعيد وجوه :
الأول : أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم.
قيل : إنه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالأطواق تلتوي في أعناقهم ، ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم ، فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها ، وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى جهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم ، فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم.
ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم ، ونظيره قوله تعالى : {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [ التوبة : 35 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول : أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي.(18/328)
القول الثاني : في تفسير قوله : {سَيُطَوَّقُونَ} قال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [ البقرة : 184 ] قال المفسرون : يكلفونه ولا يطيقونه ، فكذا قوله : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الاتيان به ، فيكون ذلك توبيخا على معنى : هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا.
والقول الثالث : أن قوله : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} أي سيلزمون إثمه في الآخرة ، وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا ، يقال منه : فلان كالطوق في رقبة فلان ، والعرب يعبرون عن تأكيد الزام الشيء بتصييره في العنق ، ومنه يقال : قلدتك هذا الأمر ، وجعلت هذا الأمر في عنقك قال تعالى : {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِى عُنُقِهِ} [ الإسراء : 13 ].
القول الرابع : إذا فسرنا هذا البخل بالبخل بالعلم كان معنى {سَيُطَوَّقُونَ} أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار ، قال عليه الصلاة والسلام : " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة " والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق.
واعلم أن تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم غير بعيد ، وذلك لأن اليهود والنصارى موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به.
(18/329)
قال تعالى في صفتهم : {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} [ النساء : 53 ] وقال أيضا فيهم : {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} [ النساء : 37 ] وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله : {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [ آل عمران : 181 ] وذلك من أقوال اليهود ، ولا يبعد أيضاً أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم ، وفي البخل بالمال ، ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 93 ـ 94}
وقال الآلوسى :
{ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } بيان لكيفية شريته لهم ، والسين مزيدة للتأكيد ، والكلام عند الأكثرين إما محمول على ظاهره ، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله تعالى مالا فلم يؤد زكاته مُثّلَ له شجاع أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية " وأخرج غير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله تعالى إياه فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوّقه " ثم قرأ الآية.
وأخرج عبد الرزاق وغيره عن إبراهيم النخعي أنه قال : يجعل ما بخلوا به طوقاً من نار في أعناقهم.(18/330)
وذهب بعضهم إلى أن الظاهر غير مراد ، والمعنى كما قال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يأتون ، وقال أبو مسلم : سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه للإيذان بكمال المناسبة بينهما ، ومن أمثالهم تقلدها طوق الحمامة ، وكيفما كان فالآية نزلت في مانعي الزكاة كما روي ذلك عن الصادق وابن مسعود والشعبي والسدي وخلق آخرين وهو الظاهر ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته التي نطقت بها التوراة ، فالمراد بالبخل كتمان العلم وبالفضل التوراة التي أوتوها ، ومعنى سيطوقون ما قاله أبو مسلم ، أو المراد أنهم يطوّقون طوقاً من النار جزاء هذا الكتمان.
فالآية حينئذ نظير قوله صلى الله عليه وسلم : " من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار " وعليه يكون هذا عوداً إلى ما انجرّ منه الكلام إلى قصة أحد ، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب قيل : ويعضده أن كثيراً من آيات بقية السورة فيهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 139 ـ 140}
فصل
قال الفخر :
قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على القطع بوعيد الفساق ، وذلك لأن من يلزمه هذه الحقوق ولا تسقط عنه هو المصدق بالرسول وبالشريعة ، أما قوله : {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} فلأنه يؤدي إلى حرمان الثواب وحصول النار ، وأما قوله : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} فهو صريح بالوعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 94}
قوله تعالى {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض}
فصل
قال الفخر :
فيه وجهان :
الأول : وله ما فيها مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره.(18/331)
فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ، ونظيره قوله تعالى : {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [ الحديد : 7 ]
والثاني : وهو قول الأكثرين : المراد أنه يفنى أهل السموات والأرض وتبقى الأملاك ولا مالك لها إلا الله ، فجرى هذا مجرى الوراثة إذ كان الخلق يدعون الأملاك ، فلما ماتوا عنها ولم يخلفوا أحدا كان هو الوارث لها ، والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جمع المالكين إلا ملك الله سبحانه وتعالى ، فيصير كالميراث. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 94}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } أخبر تعالى ببقائه ودوام مُلكه.
وأنه في الأبد كهو في الأزل غنيٌّ عن العالمين ، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم ؛ فتبقى الأملاك والأَموال لا مُدَّعى فيها.
فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق ، وليس هذا بميراث في الحقيقة ؛ لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن مَلكَهُ من قبل ، والله سبحانه وتعالى مالكُ السمواتِ والأرضِ وما بينهما ، وكانت السموات وما فيها ، والأرض وما فيها له ، وأن الأموال كانت عارية عند أربابها ؛ فإذا ماتوا رُدَّت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل.
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا } [ مريم : 40 ] الآية.
والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن يُنفقوا ولا يَبْخَلُوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى ، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 293}(18/332)
وقال أبو السعود :
{ وَللَّهِ } وحده لا لأحد غيرِه استقلالاً أو اشتراكاً { مِيرَاثُ السموات والأرض } أي ما يتوارثه أهلُهما من مال وغيرِه من الرسالات التي يتوارثها أهلُ السمواتِ والأرض فما لهم يبخلون عليه بمُلكه ولا يُنفقونه في سبيله ؟ أو أنه يرث منهم ما يُمسِكونه ولا ينفقونه في سبيله تعالى عند هلاكِهم وتدوم عليهم الحسرةُ والندامة. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 120}
وقال الآلوسى :
{ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض } أي لله تعالى وحده لا لأحد غيره استقلالا أو اشتراكاً ما في السموات والأرض مما يتوارث من مال وغيره كالأحوال التي تنتقل من واحد إلى آخر كالرسالات التي يتوارثها أهل السماء مثلاً فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله وابتغاء مرضاته ، فالميراث مصدر كالميعاد وأصله موراث فقلبت الواو ياءاً لانكسار ما قبلها ، والمراد به ما يتوارث ، والكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه ، ويجوز أنه تعالى يرث من هؤلاء ما في أيديهم مما بخلوا به وينتقل منهم إليه حين يهلكهم ويفنيهم وتبقى الحسرة والندامة عليهم ، ففي الكلام على هذا مجاز قال الزجاج : أي إن الله تعالى يفني أهلهما فيبقيان بما فيهما ليس لأحد فيهما ملك فخوطبوا بما يعلمون لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثاً ملكاً له. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 140}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { ولله ميراث السموات والأرض } تذييل لموعظة البَاخلين وغيرهم : بأنّ المال مال الله ، وما من بخيل إلاّ سيذهب ويترك ماله ، والمتصرّف في ذلك كلّه هو الله ، فهو يرث السماوات والأرض ، أي يستمرّ ملكه عليهما بعد زوال البشر كلّهم المنتفعين ببعض ذلك ، وهو يملك ما في ضمنهما تبعاً لهما. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 296 ـ 297}(18/333)
وقال الفقيه السمرقندى ـ رحمه الله ـ :
قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض } يعني إذا هلك الخلق كلهم أهل السموات من الملائكة ، وأهل الأرض من الإنس والجن وسائر الخلق ، ويبقى رب العالمين ثم يقول : { يَوْمَ هُم بارزون لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ].
فلا يجيب أحد فيرد على نفسه فيقول : {لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] فذلك قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض } يعني يهلك أهل السموات والأرض ولم يبق لأحد ملك.
وإنما سمي ميراثاً على وجه المجاز ، لأن القرآن بلغة العرب ، وكانوا يعرفون أن من رجع الملك إليه يكون ميراثاً على وجه المجاز ، وأما في الحقيقة فليس بميراث ، لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئاً لم يكن يملكه من قبل ، والله عز وجل مالكهما ، وكانت السموات وما فيها والأرض وما فيها له ، وإنما كانت الأموال عارية عند أربابها ، فإذا ماتوا رجعت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل.
ومعنى الآية أن الله تعالى أمر عباده أن ينفقوا ولا يبخلوا ، قبل أن يموتوا ويتركوا المال ميراث الله لله تعالى ، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 294}
وقال ابن عطية :
وقوله تعالى : { ولله ميراث السماوات } خطاب على ما يفعله البشر دال على فناء الجميع وأنه لا يبقى مالك إلى الله تعالى وإن كان ملكه تعالى على كل شيء لم يزل. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 547}
سؤال : فإن قال قائل : فما معنى قوله : "له ميراث السموات والأرض"، و"الميراث" المعروف، هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته، ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده ؟(18/334)
قيل : إن معنى ذلك ما وصفنا، من وصفه نفسه بالبقاء، وإعلام خلقه أنه كتِب عليهم الفناء. وذلك أنّ ملك المالك إنما يصير ميراثًا بعد وفاته، فإنما قال جل ثناؤه : "ولله ميراث السموات والأرض"، إعلامًا بذلك منه عبادَه أن أملاك جميع خلقه منتقلة عنهم بموتهم، وأنه لا أحد إلا وهو فانٍ سواه، فإنه الذي إذا أهلك جميع خلقه فزالت أملاكهم عنهم، لم يبق أحدٌ يكون له ما كانوا يملكونه غيره. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 440 ـ 441}
قوله تعالى {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
قال الفخر :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {بِمَا يَعْمَلُونَ} بالياء على المغايبة كناية عن الذين يبخلون ، والمعنى والله بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه ، والباقون قرؤا بالتاء على الخطاب ، وذلك لأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله : {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [ آل عمران : 179 ] والله بما تعملون خبير فيجازيكم عليه ، والغيبة أقرب إليه من الخطاب قال صاحب الكشاف : الياء على طريقة الالتفات ، وهي أبلغ في الوعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 94}
وقال أبو السعود :
{ والله بِمَا تَعْمَلُونَ } من المنع والبخلِ { خَبِيرٌ } فيجازيكم على ذلك. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لتربية المهابةِ ، والالتفاتُ للمبالغة في الوعيد ، والإشعارِ باشتداد غضبِ الرحمن الناشىءِ من ذكر قبائحِهم. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 121}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وتضمنت هذه الآيات فنوناً من البلاغة والبديع.
الاختصاص في : أجر المؤمنين.
والتكرار في : يستبشرون ، وفي : لن يضروا الله شيئاً ، وفي : اسمه في عدة مواضع ، وفي : لا يحسبن الذين كفروا ، وفي ذكر الإملاء.
والطباق في : اشتروا الكفر بالإيمان ، وفي : ليطلعكم على الغيب.(18/335)
والاستعارة في : يسارعون ، وفي : اشتروا ، وفي : نملي وفي : ليزدادوا إثماً ، وفي : الخبيث والطيب.
والتجنيس المماثل في : فآمنوا وإن تؤمنوا.
والالتفات في : أنتم إن كان خطاباً للمؤمنين ، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم عليه ، وإن كان خطاباً لغيرهم كان من تلوين الخطاب ، وفي : تعملون خبير فيمن قرأ بتاء الخطاب.
والحذف في مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 134}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قرأ حمزة بالخطاب في " تَحْسَبَنَّ " والباقون بالغيبة فأما قراءة حمزة فـ " الّذِينَ " مفعول أول ، و" خَيْراً " هو المفعول الثّاني ، ولا بد من حَذْف مضَاف ؛ ليصدقَ الخبرُ على " المبتدأ ، وتقديره : ولا تحسبن بُخْل الّذين يبخلون.
قال أبو البقاء : " وهو ضَعِيفٌ ؛ لأن فيه إضمار البخلِ قبل ذِكْر ما يدل عليه ".
وفيه نظر ؛ لأن دلالة المحذوفِ قد تكون متقدمةً ، وقد تكون متأخرة ، وليس هذا من بابِ الإضمارِ في شيءٍ ، حتَّى يشترطَ فيه تقدُّم ما يدل على ذلك الضمير.
و " هو " فيه وجهان :
الأول : أنه فَصل بين مفعولي " يَحْسَبَنَّ ".
والثاني - قاله أبو البقاء - : أنه توكيدٌ ، وهو خطأٌ ؛ لأنَّ المضمَرَ لا يؤكِّد المظهر. والمفعولُ الأولُ اسم مظهرٌ ، ولكنه حُذِف - كما تقدم - وبعضُهم يُعَبِّر عنه ، فيقول : أُضْمِر المفعولُ الأولُ - يعني حذف فلا يعبر عنه بهذه العبارة.
و " هو " - في هذه المسألة - تتعينُ فصيلتُه لأنه لا يخلو إمّا أن يكونَ مبتدأً ، أو بدلاً ، أو توكيداً ، والأول مُنْتَفٍ ؛ لنَصْب ما بعده - وهو خير - وكذلك الثاني ؛ لأنه كان يلزمُ أن يوافقَ ما قبله في الإعراب ، فكان ينبغي أن يقال : إياه ، لا " هُوَ " وكذلك الثالثُ - كما تقدم.(18/336)
أما قراءة الجماعة ، فيجوز أن يكونَ الفعلُ مُسْنَداً إلى ضميرِ غائبٍ - إما الرسولُ ، أو حاسب ما - ويجوز أن يكونَ مسنداً إلى الذين فإن كان مسنداً إلى ضمير غائب ، ف " الذِينَ " مفعول أولٌ ، على حذف مضافٍ ، ما تقدّم في قراءة حمزة ، أي : بُخْل الذين ، والتقدير : ولا يحسبنَّ الرسولُ - أو أحد - بُخْلَ الذين يبخلون خيراً لأنفسهم. و" هُوَ " فَصْل - كما تقدم - فتتحد القراءتان معنى وتخريجاً. وإن كان مسنداً إلى " الذِينَ " ففي المفعول الأول وجهان :
أحدهما : أنه محذوف ؛ لدلالة " يَبْخَلُونَ " عليه ، كأنه قيل : ولا يحسبن الباخلون بُخْلَهم هو خيراً لهم و" هو " فَصْل.
قال ابن عطية : " ودل على هذا البخل " يَبْخَلون " كما دَلَّ " السَّفيه " على السَّفهِ في قول الشاعر :
إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إلى خِلاَفِ
أي : جرى إلى السفه.
قال أبو حيّان : وليست الدلالةُ فيهما سواء ، لوجهين :
أحدهما : أن الدالَّ في الآية هو الفعلُ ، وفي البيتِ هُوَ اسم الفاعِل ، ودلالةُ الفعلِ على المصدرِ أقوى من دلالة اسم الفاعل ، ولذلك كَثر إضمار المصدرِ ؛ لدلالة الفعل عليه - في القرآن وكلام العربِ - ولم يؤثر دلالةُ اسم الفاعل على المصدر ، إنما جاء في هذا البيتِ ، أو في غيره أن وُجد أن في الآية حَذفاً لظاهرٍ ؛ إذ قدَّروا المحذوف " بخلهم " وأما فهو إضمارٌ لا حذفٌ.(18/337)
الوجه الثاني : أن المفعول نفس " هُوَ " وهو ضمير البخل الذي دلَّ عليه " يَبْخَلُونَ " - كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] - قاله أبو البقاء. وهو غلطٌ أيضاً ، لأنه كان ينبغي أن يأتي به بصيغة المنصوب ، فيقول : " إياه " لكونه منصوباً بـ " يَحْسَبَن " ولا ضرورة بنا إلى أن نَدَّعِيَ أنه من باب استعارة الرفع مكان النصب كقولهم : ما أنا كأنت ، ولا أنتَ كأنا.
وفي الآية وجهٌ غريبٌ ، خرَّجه أبو حيَّان ، قال : " وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسنداً لِـ " الذِينَ " وذلك أن " يَحْسَبْنَّ " يطلب مفعولين ، و" يَبْخَلُونَ " يطلب مفعولاً بحرف جَر فقوله " ما أتاهم " يَطْلبه " يَحْسَبَنَّ " على أن يكون المفعول الأول ، ويكون " هُوَ " فَصْلاً ، و" خَيْراً " المفعول الثاني ، ويطلبه " يَبْخَلونَ " بتوسُّط حرف الجَر ، فأعمل الثانيَ - على الفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن - وهو " يَبْخَلونَ " فعدي بحرف الجر ، وأخذ معمواه ، وحذف معمول " يَحْسَبَنَّ " الأول ، وبقي معموله الثاني ؛ لأنه لم يتنازع فيه ، إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأولِ ، وساغ حذفه - وحده - كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو قلت : زيد منطلقٌ ؟ لأن رأيت وقلت - في هذه المسألة - تنازعا في زيدٌ منطلقٌ ، وفي الآية لم يتنازعا إلاَ في الأولِ ، وتقدير المعنى : ولا يحسبن ما آتاهم اللهُ من فَضْلِه هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به ، فَعَلَى هذا التقدير يكون " هُوَ " فصلاً لـ " ما آتاهم " المحذوف ، لا لبخلهم المقدَّر في قول الجماعة.(18/338)
ونظير هذا التركيبِ " ظَنَّ الذي مَرَّ بهند هي المنطلقة ، المعنى : ظن هند الشخص الذي مر بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأولُ ، فأعمل الفعل الثانيَ فيه ، وبقي الأول يطلب محذوفاً ، ويطلب الثاني مثبتاً ، إذ لم يقعْ فيه التنازعُ.
ومع غرابة هذا التخريج ، وتطويله بالتنظير والتقدير ، فيه نظر ؛ وذلك أن النحويين نصوا على أنه إذا أعملنا الفعل الثانيَ ، واحتاج الأول إلى ضمير المتنازع فيه ، فإن كان يطلبه مرفوعاً أضمر فيه ، وإن كان يطلبه غيرَ مرفوع حُذِف ، إلا أن يكون أحد مفعولي " ظن " فلا يحذف ، بل يُضْمَر ويُؤخر وعللوا ذلك بأنه لو حذف لبقي خبر دون مخبر عنه - أو بالعكس - وهذا مذهبُ البصريين ، وفيه بحثٌ ، لأن لقائلٍ أن يقول : حُذِف اختصاراً ، لا اقتصاراً ، وأنتم تجيزون حذف أحدهما اختصاراً في غير التنازع ، فليَجُزْ في التنازع ؛ إذْ لا فارق ، وحينئذ يَقْوَى تَخْرِيجُ الشَّيْخِ بهذا البحثِ ، أو يلتزم القول بمذهب الكوفيين ، فإنهم يُجِيزون الحّذْف فيما نحن فيه.(18/339)
وذكر مكيٌّ ترجيحَ كُلٍّ من القراءتين ، فقال : " فأما القراءة بالتاء - وهي قراءة حمزة - فإنه جعل المخاطب هو الفاعل ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم و" الذِينَ " مفعول أول - على تقدير حَذْف مضاف ، وإقامة المضاف إليه - الذين - مُقامه - و" هو " فصل ، و" خَيْراً " مفعول ثانٍ ، تقديره : ةلا تحسبن يا محمد بُخلل الذين يَبْخَلُون خَيْراً لهم ، ولا بد من هذا الإضمار ، ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى ، وفيها نظرٌ ؛ لجواز ما في الصلة تفسير ما قبل الصلة ، على أن في هذه مزية على القراءة بالياء ؛ لأمك إذا حذفْتَ المفعول أبقيتَ المضافَ إليه يقوم مقامه ، ولو حذفت المفعولَ في قراءة الياء لم يَبْقَ ما يقوم مقامه. وفي القراءة بالياء - أيضاً - مزية على القراءة بالتاء ، وذلك أنك حذفت البُخْلَ بعد تقدُّم " يَبْخَلُونَ " وفي القراءة بالتاء حذفتَ البُخْلَ قبل إتيان " يَبْخَلونَ " وجعلْتَ ما في صلة " الذِينَ " تفسيرَ من قبل الصلة ، فالقراءتان متوازيتان في القوة والضَّعف ".
والميراثُ : مصدر كالميعاد ، وياؤه منقلبة عن واو ، لانكسار ما قبلها - وهي ساكنةٌ - لأنها من الوراثة كالميقات والميزان - من الوقت والوزن - وقرأ أبو عمرو وابن كثير " يَعْمَلُونَ " بالغيبةِ ، جَرْياً على قوله : { الذين يَبْخَلُونَ } - والباقون بالخطابِ ، وفيها وجهانِ :
أحدهما : أنه التفات ، فالمراد : الذين يبخلون.
الثاني : أنه رَدَّ على قوله : { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ }. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 82 ـ 85}. بتصرف يسير.(18/340)
موعظة : قل للذين شغلهم في الدنيا غرورهم إنما في غد ثبورهم ما نفعهم ما جمعوا إذا جاء محذورهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم فكيف غابت عن قلوبهم وعقولهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم أخذ المال إلى دار ضرب العقاب فجعل في بودقة ليحمي ليقوي العذاب فصفح صفائح كي يعم الكي الإهاب ثم جيء بمن عن الهدى قد غاب يسعى إلى مكان لا مع قوم يسعى نورهم ثم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم إذا لقيهم الفقير لقي الأذى فإن طلب منهم شيئا طار منهم لهب الغضب كالجذا فإن لطفوا به قالوا أعنتكم ذا وسؤال هذا لذا ولو شاء ربك لأغنى المحتاج وأعوز ذا ونسوا حكمة الخالق في غنى ذا وفقر ذا واعجبا كم يلقاهم من غم إذا ضمتهم قبورهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم سيأخذها الوارث منهم غير تعب ويسأل عنها الجامع من أين اكتسب ما اكتسب ألا إن الشوك له وللوارث الرطب أين حرص الجامعين أين عقولهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم لو رأيتهم في طبقات النار يتقلبون على جمرات الدرهم والدينار وقد غلت اليمين مع اليسار لما بخلوا مع الإيسار لو رأيتهم في الجحيم يسقون من الحميم وقد ضج صبورهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم كم كانوا يوعظون في الدنيا وما فيهم من يسمع كم خوفوا من عقاب الله وما فيهم من يفزع كم أنبئوا بمنع الزكاة وما فيهم من يدفع فكأنهم بالأموال وقد انقلبت شجاعا أقرع فما هي عصا موسى ولا طورهم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم(18/341)
( حكاية ) : روي عن محمد بن يوسف الفريابي قال : خرجت أنا وجماعة من أصحابي في زيارة أبي سنان رحمه الله فلما دخلنا عليه وجلسنا عنده قال : قوموا بنا نزور جارا لنا مات أخوه ونعزيه فيه فقمنا معه ودخلنا على ذلك الرجل فوجدناه كثير البكاء والجزع على أخيه فجلسنا نسليه ونعزيه وهو لا يقبل تسلية ولا تعزية فقلنا : أما تعلم أن الموت سبيل لا بد منه ! قال : بلى ولكن أبكي على ما أصبح وأمسى فيه أخي من العذاب فقلنا له : هل أطلعك الله على الغيب ؟ قال : لا ولكن لما دفنته وسويت التراب عليه وانصرف الناس جلست عند قبره إذ صوت من قبره يقول : آه أقعدوني وحيدا أقاسي العذاب قد كنت أصلي قد كنت أصوم قال : فأبكاني كلامه فنبشت عنه التراب لأنظر حاله وإذا القبر يشتعل عليه نارا وفي عنقه طوق من نار فحملتني شفقة الأخوة ومددت يدي لأرفع الطوق عن رقبته فاحترقت أصابعي ويدي ثم أخرج إلينا يده فإذا هي سوداء محترقة قال فرددت عليه التراب وانصرفت فكيف لا أبكي على حاله وأحزن عليه ؟ فقلنا : فما كان أخوك يعمل في الدنيا ؟ قال : كان لا يؤدي الزكاة من ماله قال فقلنا هذا تصديق قول الله تعالى :
{ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة }
و أخوك عجل له العذاب في قبره إلى يوم القيامة قال : ثم خرجنا من عنده وأتينا أبا ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرنا له قصة الرجل وقلنا له : يموت اليهودي والنصراني ولا نرى فيهم ذلك ! فقال : أولئك لا شك أنهم في النار وإنما يريكم الله في أهل الإيمان لتعتبروا قال الله تعالى : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد }(18/342)
فنسأل الله العفو والعافية إنه جواد كريم. أ هـ {الكبائر / للذهبى صـ 35 ـ 36}
فصل
قال حجة الإسلام الغزالى عليه الرحمة :
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما خلق الله جنة عدن قال لها تزيني فتزينت ثم قال لها أظهري أنهارك فأظهرت عين السلسبيل وعين الكافور وعين التسنيم فتفجر منها في الجنان أنهار الخمر وأنهار العسل واللبن ثم قال لها أظهري سررك وحجالك وكراسيك وحليك وحللك وحور عينك فأظهرت فنظر إليها فقال تكلمي فقالت طوبى لمن دخلني فقال الله تعالى وعزتي لا أسكنك بخيلا
وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز أف للبخيل لو كان البخل قميصا ما لبسته ولو كان طريقا ما سلكته
وقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه إنا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاء لكننا نتصبر
وقال محمد بن المنكدر كان يقال إذا أراد الله بقوم شرا أمر الله عليهم شرارهم وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم
وقال علي كرم الله وجهه في خطبته إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم وقال عبد اللهبن عمرو الشح أشد من البخل لأن الشحيح هو الذي يشح على ما في يد غيره حتى يأخذه ويشح بما في يده فيحبسه والبخيل هو الذي يبخل بما في يده
وقال الشعبي لا أدري أيهما أبعد غورا في نار جهنم البخل أو الكذب وقيل ورد على أنوشروان حكيم الهند وفيلسوف الروم فقال للهندي تكلم فقال خير الناس من ألفى سخيا وعند الغضب وقورا وفي القول متأنيا وفي الرفعة متواضعا وعلى كل ذي رحم مشفقا
وقام الرومي فقال من كان بخيلا ورث عدوه ماله ومن قل شكره لم ينل النجح وأهل الكذب مذمومون وأهل النميمة يموتون فقراء ومن لم يرحم سلط عليه من لا يرحمه(18/343)
وقال الضحاك في قوله تعالى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا قال البخل أمسك الله تعالى أيديهم عن النفقة في سبيل الله فهم لا يبصرون الهدى
وقال كعب ما من صباح إلا وقد وكل به ملكان يناديان اللهم عجل لممسك تلفا
وعجل لمنفق خلفا
وقال الأصمعي سمعت أعرابيا وقد وصف رجلا فقال لقد صغر فلان في عيني لعظم الدنيا في عينه وكأنما يرى السائل ملك الموت إذا أتاه
وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أرى أن أعدل بخيلا لأن البخل يحمله على الاستقصاء فيأخذ فوق حقه خيفة من أن يغبن فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة
وقال علي كرم الله وجهه والله ما استقصى كريم قط حقه
قال الله تعلى عرف بعضه وأعرض عن بعض وقال الجاحظ ما بقي من اللذات إلا ثلاث دم البخلاء وأكل القديد وحك الجرب
وقال بشر بن الحارث البخيل لا غيبة له قال النبي صلى الله عليه وسلم إنك إذا لبخيل ومدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا صوامة قوامة إلا أن فيها بخلا قال فما خيرها إذن
وقال بشر النظر إلى البخيل يقسي القلب ولقاء البخلاء كرب على قلوب المؤمنين
وقال يحيى بن معاذ ما في القلب للأسخياء إلا حب ولو كانوا فجارا وللبخلاء إلا بغض ولو كانوا أبرارا
وقال ابن المعتز أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه
ولقي يحيى بن زكريا عليهما السلام
إبليس في صورته فقال له يا إبليس أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك قال أحب الناس إلي المؤمن البخيل وأبغض الناس إلي الفاسق السخي قال له لم قال لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي الخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله ثم ولى وهو يقول لولا أنك يحيى لما أخبرتك حكايات البخلاء(18/344)
قيل كان بالبصرة رجل موسر بخيل فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة ببيض فأكل منه فأكثر وجعل يشرب الماء فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت فجعل يتلوى فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب فقال لا بأس عليك تقيأ ما أكلت فقال هاه أتقيأ طباهجة ببيض الموت ولا ذلك
وقيل أقبل أعرابي يطلب رجلا وبين يديه تين فغطى التين بكسائه فجلس الأعرابي فقال له الرجل هل تحسن من القرآن شيئا قال نعم فقرأ والزيتون وطور سينين فقال وأين التين قال هو تحت كسائك
ودعا بعضهم أخا له ولم يطعمه شيئا فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه وأخذه مثل الجنون فأخذ صاحب البيت العود وقال له بحياتي أي صوت تشتهي أن أسمعك قال صوت المقلى
ويحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلا قبيح البخل فسئل نسيب له كان يعرفه عنه فقال له قائل صف لي مائدته فقال هي فتر في فتر وصحافه منقورة من حب الخشخاش قيل فمن يحضرها قال الكرام الكاتبون قال فما يأكل معه أحد قال بلى الذباب فقال سوأتك بدت وأنت خاص به وثوبك مخرق قال أنا والله ما أقدر على إبرة أخيطه بها ولو ملك محمد بيتا من بغداد إلى النوبة مملوءا إبرا ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يطلبون منه إبرة ويسألونه إعارتهم إياها ليخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر ما فعل ويقال كان مروان بن أبي حفصة لا يأكل اللحم بخلا حتى يقرم إليه فإذا قرم إليه أرسل غلامه فاشترى له رأسا فأكله فقيل له(18/345)
نراك لا تأكل إلا الرءوس في الصيف والشتاء فلم تختار ذلك قال نعم الرأس أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا يستطيع أن يغبنني فيه وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه إن مس عينا أو أذنا أو خدا وقفت على ذلك وآكل منه ألوانا عينه لونا وأذنه لونا ولسانه لونا وغلصمته لونا ودماغه لونا وأكفى مؤونة طبخه فقد اجتمعت لي فيه مرافق
وخرج يوما يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله مالي عليك إن رجعت بالجائزة فقال إن أعطيت مائة ألف أعطيتك درهما فأعطي ستين ألف فأعطاها أربعة دوانق
واشترى مرة لحما بدرهم فدعاه صديق له فرد اللحم إلى القصاب بنقصان دانق وقال أكره الإسراف
وكان للأعمش جار وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول لو دخلت فأكلت كسرة وملحا فيأبى عليه الأعمش فعرض عليه ذات يوم فوافق جوع الأعمش فقال سر بنا فدخل منزله فقرب إليه كسرة وملحا فجاء سائل فقال له رب المنزل بورك فيك فأعاد عليه المسألة فقال له بورك فيك فلما سأل الثالثة قال له اذهب والله وإلا خرجت إليك بالعصا قال فناداه الأعمش وقال اذهب ويحك فلا والله ما رأيت أحدا أصدق مواعيد منه هو منذ مدة يدعوني على كسرة وملح فوالله ما زادني عليهما. أ هـ {الإحياء حـ 3 صـ 255 ـ 257}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}
مَن آثرَ شيئاً على الله لم يبارِك له فيه ؛ فلا يدوم له - في الدنيا - بذلك استمتاع ، ولا للعقوبة عليه - في الآخرة - عنه دفاع. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 300}(18/346)
قوله تعالى : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)}
مناسبة الآيتين لما قبلهما
قال البقاعى :
ولما كان العمل شاملاً لتصرفات الجوارح كلها من القلب واللسان وسائر الأركان قال - دالاًّ على خبره بسماع ما قالوه متجاوزين وهدة البخل إلى حضيض القبح مريدين التشكيك لأهل الإسلام بما يوردونه من الشبه قياساً على ما يعرفونه من أنفسهم من أنه - كما تقدم - لا يطلب إلا محتاج - : {لقد سمع الله} أي الذي له جميع الكمال {قول الذين قالوا} أي من اليهود {إن الله} أي الملك الأعظم {فقير} أي لطلبه القرض {ونحن أغنياء} لكونه يطلب منا ، وهذا رجوع منه سبحانه وتعالى إلى إتمام ما نبه عليه قبل هذه القصة من بغض أهل الكتاب لأهل هذا الدين وحسدهم لهم وإرادة تشكيكهم فيه للرجوع عنه على أسنى المناهج وأعلى الأساليب.
ولما تشوفت النفوس إلى جزائهم على هذه العظيمة ، وكانت الملوك إذا علمت انتقاص أحدها وهي قادرة عاجلته لما عندها من نقص الأذى بالغيظ قال سبحانه وتعالى مهدداً لهم مشيراً إلى أنه على غير ذلك : {سنكتب} أي على عظمتنا لإقامة الحجة عليهم على ما يتعارفونه في الدنيا {ما قالوا} أي من هذا الكفر وأمثاله ، والسين للتأكيد ، ويجوز أن تكون على بابها من المهلة للحث على التوبة قبل ختم رتب الشهادة ، وسيأتي في الزخرف له مزيد بيان.(18/347)
ولما كان هذا اجتراء على الخالق أتبعه اجتراءهم على أشرف الخلائق فقال - مشيراً بإضافة المصدر إلى ضميرهم ، وبجمع التكسير الدال على الكثير إلى أنهم أشد الناس تمرداً تمرناً على ارتكاب العظائم ، وأن الاجتراء على أعظم أنواع الكفر قد صار لهم خلقاً - : {وقتلهم الأنبياء} أي الذي أقمناهم فيهم لتجديد ما أوهوه من بنيان دينهم ، ولما لم يكن في قتلهم شبهة أصلاً يقال : {بغير حق} فهو أعظم ذمّاً مما قبله من التعبير بالفعل المضارع في قوله {ويقتلون الأنبياء بغير حق} [ آل عمران : 112 ].
ثم عطف على قوله {سنكتب} قوله : {ونقول} أي بما لنا من الجلال {ذوقوا} أي بما نمسكم به من المصائب في الدنيا والعقاب في الأخرى كما كنتم تذوقون الأطعمة التي كنتم تبخلون بها فلا تؤدون حقوقها {عذاب الحريق} جزاء على ما أحرقتم به قلوب عبادنا ، ثم بين السبب فيه بقوله : {ذلك} أي العذاب العظيم {بما قدمت أيديكم} أي من الكفر بقتلهم وبغيره {وأن} أي وبسبب أن {الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {ليس بظلام} أي بذي ظلم {للعبيد} ولو لم يعذبكم لكان ترككم على صورة الظلم لمن عادوكم فيه واشتد أذاكم لهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 189 ـ 190}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن في كيفية النظم وجهين :
الأول : أنه تعالى لما أمر المكلفين في هذه الآيات ببذل النفس وبذل المال في سبيل الله وبالغ في تقرير ذلك ، شرع بعد ذلك في حكاية شبهات القوم في الطعن في نبوته.(18/348)
فالشبهة الأولى : أنه تعالى لما أمر بإنفاق الأموال في سبيله قالت الكفار : أنه تعالى لو طلب الإنفاق في تحصيل مطلوبه لكان فقيرا عاجزا ، لأن الذي يطلب المال من غيره يكون فقيرا ، ولما كان الفقر على الله تعالى محالا ، كان كونه طالبا للمال من عبيده محالا ، وذلك يدل على أن محمدا كاذب في إسناد هذا الطلب إلى الله تعالى.
الوجه الثاني : في طريق النظم أن أمة موسى عليه السلام كانوا إذا أرادوا التقرب بأموالهم إلى الله تعالى ، فكانت تجيء نار من السماء فتحرقها ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم بذل الأموال في سبيل الله قالوا له لو كنت نبياً لما طلبت الأموال لهذا الغرض ، فإنه تعالى ليس بفقير حتى يحتاج في إصلاح دينه إلى أموالنا ، بل لو كنت نبياً لكنت تطلب أموالنا لأجل أن تجيئها نار من السماء فتحرقها ، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبي ، فهذا هو وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 94 ـ 95}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه يبعد من العاقل أن يقول إن الله فقير ونحن أغنياء ، بل الإنسان إنما يذكر ذلك إما على سبيل الاستهزاء أو على سبيل الإلزام ، وأكثر الروايات أن هذا القول إنما صدر عن اليهود ، روي أنه صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسنا ، فقال فنحاص اليهودي : إن الله فقير حتى سألنا القرض ، فلطمه أبو بكر في وجهه وقال : لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك ، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله ، فنزلت هذه الآية تصديقاً لأبي بكر رضي الله عنه.(18/349)
وقال آخرون : لما أنزل الله تعالى {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [ البقرة : 245 ] قالت اليهود : نرى إله محمد يستقرض منا ، فنحن إذن أغنياء وهو فقير ، وهو ينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا ، وأرادوا قوله : {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً }.
واعلم أنه ليس في الآية تعيين هذا القائل ، إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : إن يد الله مغلولة : يعنون أنه بخيل بالعطاء وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في هذه الآية.
وثانيها : ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر.
وثالثها : أن القول بالتشبيه غالب على اليهود ، ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات ، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير.
والوجه الرابع : أن موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون.
فموسى عليه السلام لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا : لما كان الاله قادرا فأي حاجة به إلى جهادنا ، وكذا ههنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا : لما كان الإله غنيا فأي حاجة به إلى أموالنا.
فكان إسنادهم هذه الشبهة إلى اليهود لائقا من هذا الوجه ، وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك.
(18/350)
والأظهر أنهم قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، يعني لو صدق محمد في أن الاله يطلب المال من عبيده لكان فقيرا ، ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذا الإخبار ، أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية ، فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 95 ـ 96}
وقال الآلوسى :
{ لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه بيت المدراس(18/351)
فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله تعالى وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله تعالى من فقر وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه كما تضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم وأنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنياً عنا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله تعالى فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : يا رسول الله قال قولاً عظيماً يزعم أن الله تعالى شأنه فقير وهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله تعالى مما قال فضربت وجهه فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص تصديقاً لأبي بكر رضي الله تعالى عنه هذه الآية ، وأنزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } [ آل عمران : 186 ] الآية.(18/352)
وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما أنزل الله تعالى : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] قال : يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني.
وأخرج الضياء وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } فقالوا : يا محمد فقير ربك يسأل عباده القرض ؟ فأنزل الله تعالى الآية ، والجمع على الروايتين الأوليين مع كون القائل واحداً لرضا الباقين بذلك ، وتخصيص هذا القول بالسماع مع أنه تعالى سميع لجميع المسموعات كناية تلويحية عن الوعيد لأن السماع لازم العلم بالمسموع وهو لازم الوعيد في هذا المقام فهو سماع ظهور وتهديد لا سماع قبول ورضا كما في سمع الله لمن حمده وإنما عبر عن ذلك بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماجة بحيث لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع ولهذا أنكروه ، ولكون إنكارهم القول بمنزلة إنكار السمع أكده تعالى بالتأكيد القسمي ، وفيه أيضاً من التشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد ما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 140 ـ 141}
فائدة
قال الفخر :
ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعة ، لأنه تعالى قال : {الذين قَالُواْ} وظاهر هذا القول يفيد الجميع.
وأما ما روي أن قائل هذا القول هو فنحاص اليهودي ، فهذا يدل على أن غيره لم يقل ذلك ، فلما شهد الكتاب أن القائلين كانوا جماعة وجب القطع بذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 96}(18/353)
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : { لقد سمع الله } تهديد ، وهو يؤذن بأنّ هذا القول جراءة عظيمة ، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن ، لأنهم أتوا بهاته العبارة بدون محاشاة ، ولأنّ الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر ، ولذلك قال تعالى : { لقد سمع } المستعمل في لازم معناه ، وهو التهديد على كلام فاحش ، إذ قد علم أهل الأديان أنّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فليس المقصود إعلامهم بأنّ الله علم ذلك بل لازمه وهو مقتضى قوله : { سنكتب ما قالوا }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 297}
قوله تعالى : {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ}
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة {سيكتب} بالياء وضمها على ما لم يسم فاعله {الله وَقَتْلِهِمُ الأنبياء} برفع اللام على معنى سيكتب قتلهم ، والباقون بالنون وفتح اللام إضافة إليه تعالى.
قال صاحب "الكشاف" : وقرأ الحسن والأعرج {سيكتب} بالياء وتسمية الفاعل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 96}
قال الطبرى :
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين : ( " سَيُكْتَبُ مَا قَالُوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ " ) بالياء من"سيكتب" وبضمها، ورفع"القتل"، على مذهب ما لم يسمّ فاعله، اعتبارًا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله : "ونقول ذوقوا"، يذكر أنها في قراءة عبد الله : "ويُقَالُ".(18/354)
فأغفل قارئ ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تُنسب إلى عبد الله، وخالف الحجة من قرأة الإسلام. وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ : "سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء" على وجه ما لم يسم فاعله، أن يقرأ : "ويقال"، لأن قوله : "ونقول" عطف على قوله : "سنكتب". فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرآ جميعًا على مذهب ما لم يسم فاعله، أو على مذهب ما يسمى فاعله. فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسم فاعله، والآخر على وجه ما قد سُمِّي فاعله، من غير معنى ألجأه على ذلك، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب. (1)
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : "سَنَكْتُب" بالنون"وقَتْلَهُمْ" بالنصب، لقوله : "وَنَقُول"، ولو كانت القراءة في"سيكتب"
بالياء وضمها، لقيل : "ويقال"، على ما قد بيّنا. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 445 ـ 446}
فصل
قال الفخر :
هذا وعيد على ذلك القول وهو يحتمل وجوها :
أحدها : أن يكون المراد من كتبه عليهم إثبات ذلك عليهم وأن لا يلغى ولا يطرح ، وذلك لأن الناس إذا أرادوا إثبات الشيء على وجه لا يزول ولا ينسى ولا يتغير كتبوه ، والله تعالى جعل الكتبة مجازا عن إثبات حكم ذلك عليهم.
الثاني : سنكتب ما قالوا في الكتب التي تكتب فيها أعمالهم ليقرؤا ذلك في جرائد أعمالهم يوم القيامة ، والثالث : عندي فيه احتمال آخر ، وهو أن المراد : سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق إلى يوم القيامة شدة تعنت هؤلاء وجهلهم وجهدهم في الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما قدروا عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 96}
_________________
(1) اعتراض فى غير موضعه فالقراءة متواترة ومن ثم فلا قيمة لهذا الاعتراض ، فكيف تخطأ قراءة قرأ بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ ؟ !!! والله أعلم.(18/355)
وقال الآلوسى :
{ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } أي سنكتبه في صحائف الكتبة ، فالإسناد مجازي والكتابة حقيقة ، أو سنحفظه في علمنا ولا نهمله فالإسناد حقيقة والكتابة مجاز ، والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبداً تدوينه وإثباته لكونه في غاية العظم والهول ، كيف لا وهو كفر بالله تعالى سواء كان عن اعتقاد أو استهزاء بالقرآن وهو الظاهر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 141}
قوله تعالى {وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقّ}
فائدة
قال الفخر :
الفائدة في ضم أنهم قتلوا الأنبياء إلى أنهم وصفوا الله تعالى بالفقر ، هي بيان أن جهل هؤلاء ليس مخصوصاً بهذا الوقت ، بل هم منذ كانوا ، مصرون على الجهالات والحماقات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 96}
فصل
قال الفخر :
في إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء وجهان :
أحدهما : سنكتب ما قال هؤلاء ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي الفريقين بما هو أهله ، كقوله تعالى : {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} أي قتلها أسلافكم {وَإِذْ نجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} [ البقرة : 49 ] {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [ البقرة : 50 ] والفاعل لهذه الأشياء هو أسلافهم ، والمعنى أنه سيحفظ على الفريقين معاً أقوالهم وأفعالهم.
والوجه الثاني : سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم ، ونكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
وعن الشعبي أن رجلا ذكر عنده عثمان رضي الله عنه وحسن قتله ، فقال الشعبي : صرت شريكا في دمه ، ثم قرأ الشعبي {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} [ آل عمران : 183 ] فنسب لهؤلاء قتلهم وكان بينهما قريب من سبعمائة سنة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 96}
قال القرطبى :
جعل الرضا بالقتل قتْلا ؛ رضي الله عنه.(18/356)
قلت : وهذه مسألة عُظْمَى ، حيث يكون الرضا بالمعصية معصيةً.
وقد روى أبو داود عن العُرْس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهِدَها فكرِهها وقال مرة فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فَرِضِيها كان كمن شهِدَها " وهذا نص. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 294 ـ 295}
قوله تعالى : {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}
قال الفخر :
المراد أنه تعالى ينتقم من هذا القائل بأن يقول له ذق عذاب الحريق ، كما أذقت المسلمين الغصص ، والحريق هو المحرق كالأليم بمعنى المؤلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 97}
وقال الآلوسى :
{ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } أي وننتقم منهم بواسطة هذا القول الذي لا يقال إلا وقد وجد العذاب.
والحريق بمعنى المحرق وإضافة العذاب إليه من الإضافة البيانية أي العذاب الذي هو المحرق لأن المعذب هو الله تعالى لا الحريق ، أو الإفاضة للسبب لتنزيله منزلة الفاعل كما قاله بعض المحققين "والذوق كما قال الراغب وجود الطعم في الفم ؛ وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر فإنه يقال له : أكل" ، ثم اتسع فيه فاستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات ، وذكره هنا كما قال ناصر الدين لأن العذاب مرتب على قولهم الناشىء عن البخل والتهالك على المال وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله للخوف من فقدانه ، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال ، ولك أن تقول : إن اليهود لما قالوا ما قالوا وقتلوا من قتلوا فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء غصصاً وشبوا في أفئدتهم نار الغيرة والأسف وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب فعوضوا هذا العذاب الشديد ، وقيل : لهم ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم أولياء الله تعالى في الدنيا ما يكرهون.(18/357)
والقائل لهم ذلك كما قال الضحاك خزنة جهنم ، فالإسناد حينئذ مجازي ، وفي هذه الآية مبالغات في الوعيد حيث ذكر فيها العذاب والحريق والذوق المنبىء عن اليأس فقد قال الزجاج : ذق كلمة تقال لمن أيس عن العفو أي ذق ما أنت فيه فلست بمتخلص منه والمؤذن بأن ما هم فيه من العذاب والهوان يعقبه ما هو أشد منه وأدهى ، والقول للتشفي المنبىء عن كمال الغيظ والغضب وفيما قبلها ما لا يخفى أيضاً من المبالغات ، وقرأ حمزة { سيكتب } بالياء والبناء للمفعول {وَقَتْلِهِمُ} بالرفع ، ويقول بصيغة الغيبة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 141 ـ 142}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { ونقول ذوقوا عذاب الحريق } عُطف أثرُ الكتب عَلى الكتب أي سيجازون عن ذلك بدون صفح ، { ونقول ذوقوا } وهْو أمر الله بأن يَدخلوا النار.
والذوق حقيقته إدراك الطُّعوم ، واستعمل هنا مجازاً مرسلاً في الإحساس بالعذاب فعلاقته الإطلاق ، ونكتته أنّ الذوق في العرف يستتبع تكرّر ذلك الإحساس لأنّ الذوق يتبعه الأكل ، وبهذا الاعتبار يصحّ أن يكون "ذوقوا" استعارة.
وقد شاع في كلام العرب إطلاق الذوق على الإحساس بالخير أو بالشرّ ، وورد في القرآن كثيراً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 298}
فائدة
قال الفخر :
يحتمل أن يقال له هذا القول عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب ويحتمل أن يكون هذا كناية عن حصول الوعيد ، وإن لم يكن هناك قول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 97}
فائدة
قال ابن عطية :
{ ذوقوا عذاب الحريق } وخلطت الآية الآباء مع الأبناء في الضمائر ، إذ الآباء هم الذين طوقوا لأبنائهم الكفر وإذ الأبناء راضون بأفعال الآباء متبعون لهم ، والذوق مع العذاب مستعار ، عبارة عن المباشرة ، إذ الذوق من أبلغ أنواعها وحاسته مميزة جداً. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 548}(18/358)
لطيفة
قال أبو حيان :
ولما كان الصادر منهم قولاً وفعلاً ناسب أن يكون الجزاء قولاً وفعلاً ، فتضمن القول والفعل قوله تعالى : { ونقول ذوقوا عذاب الحريق }.
وفي الجمع بين القول والفعل أعظم انتقام ، ويقال للمنتقم منه : أحس وذق.
وقال أبو سفيان لحمزة رضي الله عنه لما طعنه وحشي : ذق عقق ، واستعير لمباشرة العذاب الذوق ، لأن الذوق من أبلغ أنواع المباشرة ، وحاستها متميزة جداً.
والحريق : المحرق فعيل بمعنى مفعل ، كأليم بمعنى مؤلم.
وقيل : الحريق طبقة من طباق جهنم.
وقيل : الحريق الملتهب من النار ، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة ، والملتهبة أشدها.
والظاهر أنَّ هذا القول يكون عند دخولهم جهنم.
وقيل : قد يكون عند الحساب ، أو عند الموت.
أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 136}
فصل
قال الفخر :
لقائل أن يقول : إنهم أوردوا سؤالا وهو أن من يطلب المال من غيره كان فقيرا محتاجا ، فلو طلب الله المال من عبيده لكان فقيرا وذلك محال ، فوجب أن يقال : إنه لم يطلب المال من عبيده ، وذلك يقدح في كون محمد عليه الصلاة والسلام صادقا في ادعاء النبوة فهو هو شبهة القوم فأين الجواب عنها ؟ وكيف يحسن ذكر الوعيد على ذكرها قبل ذكر الجواب عنها ؟
فنقول : إذا فرعنا على قول أصحابنا من أهل السنة والجماعة قلنا : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، فلا يبعد أن يأمر الله تعالى عبيده ببذل الأموال مع كونه تعالى أغنى الأغنياء.(18/359)
وإن فرعنا على قول المعتزلة في أنه تعالى يراعي المصالح لم يبعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد : منها : أن إنفاق المال يوجب زوال حب المال عن القلب ، وذلك من أعظم المنافع ، فإنه إذا مات فلو بقي في قلبه حب المال مع أنه ترك المال لكان ذلك سببا لتألم روحه بتلك المفارقة ، ومنها : أن يتوسل بذلك الإنفاق إلى الثواب المخلد المؤبد ، ومنها : أن بسبب الإنفاق يصير القلب فارغا عن حب ما سوى الله ، وبقدر ما يزول عن القلب حب غير الله فإنه يقوى في حب الله ، وذلك رأس السعادات ، وكل هذه الوجوه قد ذكرها الله في القرآن وبينها مراراً وأطوارا ، كما قال : {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا} [ الكهف : 46 ] وقال : {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [ الأعلى : 17 ] وقال : {ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ} [ التوبة : 72 ] وقال : {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [ يونس : 58 ] فلما تقدم ذكر هذه الوجوه على الاستقصاء كان إيراد هذه الشبهة بعد تقدم هذه البينات محض التعنت ، فلهذا اقتصر الله تعالى عند ذكرها على مجرد الوعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 97}
قوله تعالى : {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ}
فائدة
قال الفخر :
إنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد ذكر سببه فقال : {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي هذا العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله وأقدمتم على قتل الأنبياء ، فيكون هذا العقاب عدلا لا جورا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 97}
فائدة
قال القرطبى :(18/360)
وخصّ الأيْدِي بالذكر ليدلّ على تولّى الفعل ومباشرته ؛ إذ قد يُضاف الفعل إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به ؛ كقوله : { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ } [ القصص : 4 ] وأصل { أَيْدِيكُمْ } أيديكم فحذفت الضمة لثقلها. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 295}
فصل
قال الفخر :
قال الجبائي : الآية تدل على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم تلك الذنوب ، وفيه بطلان قول المجبرة : إن الله يعذب الأطفال بغير جرم ، ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب ، ويدل على كون العبد فاعلا ، وإلا لكان الظلم حاصلا.
والجواب : أن ما ذكرتم معارض بمسألة الداعي ومسألة العلم على ما شرحناه مراراً وأطوارا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 97}
فصل
قال الفخر :
لقائل أن يقول : {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [ فصلت : 46 ] يفيد نفي كونه ظلاما ، ونفي الصفة يوهم بقاء الأصل ، فهذا يقتضي ثبوت أصل الظلم.
أجاب القاضي عنه بأن العذاب الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما ، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا ، وهذا يؤكد ما ذكرنا أن إيصال العقاب إليهم يكون ظلما لو لم يكونوا مذنبين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 98}
وقال الثعالبى :
قيل : المراد هنا نفْيُ القليلِ والكثيرِ مِنَ الظُّلْم ؛ كقول طَرَفَةَ : [ الطويل ].
وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً... وَلَكِنْ متى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ
ولا يريدُ : أنه قدْ يحلُّ التلاعَ قليلاً.
وزاد أبو البقاءِ وجْهاً آخر ، وهو أنْ يكون على النَّسَبِ ، أي : لا ينسب سبحانه إلى ظُلْمٍ ، فيكون من باب بَزَّاز وعَطَّار. انتهى ، قلتُ : وهذا القولُ أحْسَنُ ما قيل هنا ، فمعنى وما ربُّكَ بظَلاَّم ، أي : بذي ظُلْم. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 337}(18/361)
وقال أبو حيان :
وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير ، وهذا تكثير بسبب المتعلق.
وذهب بعضهم إلى أن فعالاً قد يجيء لا يراد به الكثرة ، كقول طرفة :
ولست بحلال التلاع مخافة . . .
ولكن متى يسترقد القوم أرفد
لا يريد أنه قد يحل التلاع قليلاً ، لأن عجز البيت يدفعه ، فدلّ على نفي البخل في كل حال ، وتمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة ، وقيل : إذا نفى الظلم الكثير اتبع القليل ضرورة ، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضرر كان للظلم القليل المنفعة أترك.
وقال القاضي : العذاب الذي توعد أن يفعله بهم : لو كان ظالماً لكان عظيماً ، فنفاه على جد عظمه لو كان ثابتاً والعبيد جمع عبد ، كالكليب.
وقد جاء اسم الجمع على هذا الوزن نحو الضيفن وغيره من جمع التكسير ، جواز الإخبار عنه إخبار الواحد كأسماء الجموع ، وناسب لفظ هذا الجمع دون لفظ العباد ، لمناسبة الفواصل التي قبله مما جاءت على هذا الوزن ، كما ناسب ذلك في سورة فصلت ، وكما ناسب لفظ العباد في سورة غافر ما قبله وما بعده.
قال ابن عطية : وجمع عبداً في هذه الآية على عبيد لأنه مكان تشقيق وتنجية من ظلم انتهى كلامه.
ولا تظهر لي هذه العلة التي ذكرها في هذا الجمع.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فلم عطف قوله : وأن الله ليس بظلام للعبيد ، { على ما قدمت أيديكم } وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكاً لاجتراحهم السيئات في استحقاقهم العذاب ؟ ( قلت ) : معنى كونه غير ظلام للعبيد : أنه عادل عليهم ، ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثب المحسن انتهى.
وفيه رائحة الاعتزال. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 137}(18/362)
لطيفة
قال ابن عاشور :
وعطف قوله : { وأن الله ليس بظلام للعبيد } على مجرور الباء ، ليكون لهذا العذاب سببان : ما قدّمتْه أيديهم ، وعَدْل الله تعالى ، فما قدّمت أيديهم أوجب حصول العذاب ، وعدْل الله أوجب كون هذا العذاب في مقداره المشاهد من الشدّة حتّى لا يظنّوا أن في شدّته إفراطاً عليهم في التعذيب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 298}
فصل نفيس
قال الآلوسى
{ ذلك } إشارة إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد ، وللإشارة إلى عظم شأنه وبعد منزلته في الهول والفظاعة أتى باسم الإشارة مقروناً باللام والكاف وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي بسبب أعمالكم التي قدمتموها كقتل الأنبياء وهذا القول الذي تكاد السموات يتفطرن منه ، والمراد من الأيدي الأنفس والتعبير بها عنها من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جل العمل عليه ، يجوز أن لا يتجوز في الأيدي بل يجعل تقديمها الذي هو عملها عبارة عن جميع الأعمال التي أكثرها أو الكثير منها يزاول باليد على طريق التغليب.
{ وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } عطف على ما { قَدَّمْتُ } فهو داخل تحت حكم باء السببية وسببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء وإليه ذهب الفحول من المفسرين وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بقوله : وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعاً ولا عقلاً حتى ينتهض نفي الظلم سبباً للتعذيب.(18/363)
وخلاصته المعارضة بطريق القياس الاستثنائي بأنه لو كان ترك التعذيب ظلماً لكان نفي الظلم سبباً للتعذيب لكن ترك التعذيب ليس بظلم فنفي الظلم لا يكون سبباً له ، وأجيب بأن منشأ هذا الاعتراض عدم الفرق بين السبب والعلم الموجبة ، والفرق مثل الصبح ظاهر فإن السبب وسيلة محضة لا يوجب حصول المسبب كما أن القلم سبب الكتابة غير موجب إياها ، والعدل اللازم من نفي الظلم سبب لعذاب المستحق وإن لم يوجبه.
فالاستدلال بعدم الإيجاب على عدم السببية فاسد جداً ، وأما قولهم في العدل المقتضي الخ فهو بيان لمقتضاه إذا خلى وطبعه ، وتقرير لكونه وسيلة ولا يلزم منه إيجاب الاثابة والمعاقبة على ما ينبىء عنه قوله سبحانه في الحديث القدسي : " سبقت رحمتي غضبي " ، وخلاصة هذا أن الملازمة بين المقدم والتالي في القياس الاستثنائي ممنوعة بأنه لم لا يجوز أن لا يكون ترك التعذيب ظلماً ويكون نفي الظلم سبباً بأن يكون السبب سبباً غير موجب ولا محذور حينئذ.(18/364)
لا يقال يحتمل أن يكون مبنى ذلك الاعتراض على المفهوم المعتبر عند الشافعي لا على كون السبب موجباً لأنا نقول : إن أريد بالمفهوم مفهوم قوله سبحانه : { وَأَنَّ الله } الخ فنقول : حاصله أن العدل سبب لعذاب المستحقين ، والمفهوم منه أن العدل لا يكون سبباً لعذاب غير المستحقين وهو معنى متفق عليه لا نزاع فيه ، وإن أريد أن المفهوم من قولنا سبب تعذيبهم كونه تعالى غير ظالم أنه تعالى لو لم يعذبهم لكان ظالماً فنقول هو مع بعده عن سياق كلام المعترض من قبيل الاستدلال بانتفاء السبب على انتفاء المسبب فيكون مبنياً على كون المراد بالسبب السبب الموجب كما قلنا ويرد عليه ما أوردناه ولا يكون من باب المفهوم في شيء وإن أريد غير هذا وذاك فليبين حتى نتكلم عليه ، ومن الناس من دفع الاعتراض بأن حاصل معنى الآية وقع العذاب عليكم ولم يترك بسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد وهو بمنطوقه يدل على أن نفي الظلم لا يكون سبباً لترك التعذيب من مستحقه ولا يدل على كون الظلم سبباً لترك التعذيب بل له سبب آخر وهو لطفه تعالى فلا يرد الاعتراض ، وأنت تعلم بأن هذا ذهول عن مقصود المعترض أيضاً فإنّ دلالة الكلام على كون الظلم سبباً لترك التعذيب وعدمها خارج عن مطمح نظره على ما عرفت من تقرير كلامه على أنه إذا كان المراد بالسبب السبب الموجب على ما هو مبنى كلام ذلك المولى فدلالته عليه ظاهرة فإن وجود السبب الموجب كما يكون سبباً لوجود المسبب يكون عدمه سبباً لعدمه كما في طلوع الشمس ووجود النهار فالعدل أعني نفي الظلم إذا كان سبباً لتعذيب المستحق يكون عدمه أعني الظلم سبباً لعدم التعذيب ، وقيل : إنه عطف على ما قدمت للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيِّدة بانتفاء ظلمه تعالى إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم.(18/365)
وتعقبه أيضاً مولانا شيخ الإسلام بقوله : وأنت خبير بأن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه ، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعي أن جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين انتهى ، ولا يخفى عليك أن أن لا يعذبهم بذنوبهم في كلام القيل معطوف على قوله : أن يعذبهم ، والمعنى أن ذكر هذا القيد رفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لاحتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن شرعاً وعقلاً.
وقوله : للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة الخ أراد به أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبه بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب فيكون حاصل معنى الآية إن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر ، فإذا علمت هذا ظهر لك أن تزييف المولى كلام صاحب القيل بأن إمكان تعذيبه تعالى الخ ناشىء عن الغفلة عن مراده ، فإن كلامه ليس في منافاة هذين الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وكذا قوله عقيب ذلك ، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعي الخ ناشىء عن الغفلة أيضاً لأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المخاطبين وتبكيتهم في الاعتراف بتقصيراتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم.(18/366)
فالقول بالاحتياج في صورة وعدمه في صورة ركيك جداً ، ثم إنه لا تدافع بين هذا القيل وبين ما نقل أولاً عن فحول المفسرين حيث جعل المعطوف هناك سبباً وههنا قيداً للسبب لأن المراد بالسبب الوسيلة المحضة كما أشرنا إليه فيما سبق فهو وسيلة سواء اعتبر سبباً مستقلاً أو قيداً للسبب ، نعم بينهما على ما سيأتي إن شاء الله تعالى تدافع يتراءى من وجه آخر لكنه أيضاً غير وارد كما سنحققه بحوله تعالى.(18/367)
والحاصل أن العطف هنا مما لا بأس به وهو الظاهر وإليه ذهب من ذهب ويجوز أن يجعل وإليه ذهب شيخ الإسلام أن وما بعدها في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم ، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلاً عن كونه ظالماً بالغاً لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها ، وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم ، ومن هنا يعلم الجواب عما قيل : إن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ونفي الكثرة لا ينفي أصله بل ربما يشعر بوجوده ، وأجيب عن ذلك أيضاً بأنه نفي لأصل الظلم وكثرته باعتبار آحاد من ظلم فالمبالغة في ظلام باعتبار الكمية لا الكيفية ، وبأنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى القليل لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره مع زيادته نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركاً ، وبأن ظلام للنسب كعطار أي لا ينسب إليه الظلم أصلاً وبأن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب فلو كان تعالى ظالماً سبحانه لكان ظلاماً فنفى اللازم لنفي الملزوم ، واعترض بأنه لا يلزم من كون صفاته تعالى في أقصى مراتب الكمال كون المفروض ثبوته كذلك بل الأصل في صفات النقص على تقدير ثبوتها أن تكون ناقصة ، وأجيب بأنه إذا فرض ثبوت صفة له تعالى تفرض بما يلزمها من الكمال ، والقول بأن هذا في صفات الكمال دون صفات النقص إنما يوجب عدم ثبوتها لا ثبوتها ناقصة ، وسيأتي
إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في هذا المقام. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 142 ـ 144}(18/368)
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن ذكر الأيدي على سبيل المجاز ، لأن الفاعل هو الإنسان لا اليد ، إلا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل اليها على سبيل المجاز ، ثم في هذه الآية ذكر اليد بلفظ الجمع فقال : {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} وفي آية أخرى ذكر بلفظ التثنية فقال : {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [ الحج : 10 ] والكل حسن متعارف في اللغة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 98}
فصل
قال ابن عطية :
وقوله تعالى : { ذلك بما قدمت أيديكم } توبيخ وتوقيف داخل فيما يقال لهم يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون خطاباً لمعاصري النبي عليه السلام يوم نزول الآية ، ونسب هذا التقديم إلى اليد إذ هي الكاسبة للأعمال في غالب أمر الإنسان ، فأضيف كل كسب إليها ، ثم بين تعالى : أنه يفعل هذا بعدل منه فيهم ووضع الشيء موضعه ، والتقدير : وبأن الله { ليس بظلام للعبيد } وجمع " عبداً " في هذه الآية على عبيد ، لأنه مكان تشفيق وتنجية من ظلم. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 548 ـ 549}
سؤال : فإن قيل : كيف قال : {وأن الله ليس بظلام للعبيد} و{ظلام} صيغة مبالغة من الظلم . ولا يلزم من نفى الظلام نفى الظالم ؛ وعلى العكس يلزم . فهلا قيل : ليس بظالم ليكون أبلغ فى نفى الظلم عن ذاته المقدسة ؟
قلنا : صيغة المبالغة جىء بها لكثرة العبيد لا لكثرة الظلم ، كما فى قوله تعالى { ولا يظلم ربك أحدا} وقال {علام الغيب} و{علام الغيوب} لما أفرد المفعول لم يأت بصيغة المبالغة ، ولما جمعه أتى بصيغة المبالغة .
ونظيره قولهم : زيد ظالم لعبده ، وعمرو ظلام لعبيده ؛ فهما فى الظلم سيان . وكذا قوله تعالى {محلقين رؤوسكم} ، فشدد لكثرة الفاعلين لا لتكرر الفعل.
الثانى : أن العذاب من العظيم القدر وكثير العدل لولا سبق الجناية يكون أفحش وأقبح من الظلم ممن ليس عظيم القدر كثير العدل . فيطلق عليه اسم الظلام باعتبار زيادة قبح الفعل منه لا باعتبار تكرره.
فحاصله زيادة صيغته . فأصل الظلم ـ لو وجد من الله تعالى وتقدس ـ لكان أعظم من ألف ظلم يوجد من عبيده باعتبار زيادة وصف القبح. أ هـ {تفسير الرازى صـ 70 ـ 71}
نظيره قوله تعالى {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} .
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { قالوا إِنَّ } العامل في " إنَّ هو " قاَلُوا " ف " إنَّ " وما في حيِّزها منصوب المحل بـ " قَالُوا " لا بالقول ، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني بين المصدر ، وهو " قَوْلَ " وبين الفعلِ وهو " قَالُوا " تَنَازعَا في " إنَّ " لأنه مصدر ، وهذا يُخَرَّج على قول الكوفيين في إعمال الأول ، وهو قولٌ ضعيفٌ ، ويزداد هنا ضَعفاً بأنَّ الثاني فِعْل ، والأول مصدرٌ ، وإعمال الفعل أَقْوَى ".(18/369)
وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع ، و'نما الضعف عنده من جهة إعمالِ الأولِ ، فلو قدَّرْنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده ، لكنه منع من ذلك مانع آخر ، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ، ولا يجوز حذفه ، وهو - هنا - غير مذكور ، فدلَّ على أنها ليستْ عنده من التنازع على قول الكوفيين ، وهو ضعيفٌ كما ذكر.
وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملة على ما أسندوه إليه - تعالى - وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف.
قوله : { سَنَكْتُبُ } قرأ حمزة بالياء ، مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله ، و" ما " وصلتها قائم مقام الفاعل ، و" قَتْلُهم " - بالرفع - عَطْفاً على الموصول ، و" يَقُولُ " - بياء الغيبة - والمعنى : سيحفظ عليهم. والباقون بالنون للمتكلم العظيم ، ف " ما " منصوبة المحل ، و" قَتْلَهُمْ " بالنصب عَطْفاً عليها ، و" نَقُولُ " بالنون - والمعنى : سنأمر الحفظةَ بالكتابةِ.
وقرأ طلحة بن مُصَرَِّف " سَتُكْتَبُ " - بتاء التأنيث - على تأويل " مَا قَالُوا " بـ " مَقَالَتُهُمْ ". وقرأ ابن مسعود - وكذلك هي في مصحفه - سنكتب ما يقولون ويقال. والحسنُ والعرج " سَيَكْتُب " - بالغيبة - مبنياً للفاعل ، أي : الله تعالى : أو الملك.
و " ما " - في جميع ذلك - يجوز أن تكون موصولة اسمية - وهو الظاهر - وحذف العائدُ لاستكمال شروطِ الْحَذْفِ ، تقديره : سنكتب الذي يقولونه - ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : قولهم - ويراد به - إذ ذاك - المفعول به ، أي : مقولتهم ، كقولهم : ضَرْب الأمير.
(18/370)
قوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ } مبتدأ وخبر ، تقديره : ذلك مستحق بما قدمت ، كذا قدره أبو البقاء ، وفيه نظر. و" ما " يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة ، و" ذلك " إشارةٌ إلى ما قدَّم من عقابهم ، وهذه الجملة تحتملُ وجهينِ :
أحدهما : أن تكون في محلِّ نَصْبٍ بالقول ؛ عَطْفاً على " ذُوقُوا " كأنه قيل : ونقول لهم - أيضاً - ذلك بما قدمت أيديكم ، وُبِّخُوا بذلك ، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب.
الثاني : أن لا تكونَ داخلةً في حكاية القولِ ، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزولِ الآيةِ. وذكرت الأيدي ؛ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَل بها ، قال القرطبيُّ : " وخص الأيدي بالذكر ؛ ليدل على تَوَلي الفعل ومباشرته ؛ إذ قد يضاف الفعلُ إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به ، كقوله : { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ } [ القصص : 4 ] وأصل " أيْدِيكُمْ " أيْدِيُكُم ، فحُذِفت الضمةُ ؛ لثقلها.
قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } عطف على " ما " المجرورة بالباء ، أي : ذلك العقاب حاصل بسبب كَسْبكم ، وعدم ظُلْمه لكم.
فإن قيل : إن " ظلاماً " صيغة مبالغة ، تقتضي التكثير ، فهي أخص من " ظالم " ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، فإذا قلت : زيد ليس بظلامٍ ، أي : ليس كثير الظُّلم - مع جواز أن يكون ظالماً وإذا قُلْتَ : ليس بظالم ، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى : { لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ؟ فالجوابُ من وجوهٍ :
الأول : أن " فَعَّالاً " قد لا يُراد به [ التكثير ] ، كقول طرَفة : [ الطويل ]
وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً... وَلكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمَ أرْفِدِ
(18/371)
لا يريد - هنا - أنه قد يحل التلاع قليلاً ؛ لأن ذلك يدفعه آخر البيت الذي يدل على نَفْي البخل على كل حالٍ ، وأيضاً تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.
الثاني : أنه للكثرة ، ولكنه لما كان مقابلاً بالعباد - وهم كثيرون - ناسب أن يقابلَ الكثيرَ بالكثيرِ.
الثالث : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليلُ ضرورة ؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق مَنْ يجوز عليه النفع والضر - كان للظلم القليل المنفعة أترك.
الرابع : أن يكون على النسب ، أي : لا يُنسَب إليه ظُلم ، فيكون من باب بَزَّازٍ وعَطَّارٍ ، كأنه قيل : ليس بذي ظلم ألبتة. ذكر هذه الأربعة أبو البقاء.
وقال القاضي أبو بكرٍ : العذاب الذي توعد أن يفعلَه بهم ، لو كان ظُلْماً لكان عظيماً ، فنفاه على حَدِّ عِظْمِه لو كان ثابتاً.
وقال الراغبُ : " العبيد - إذا أُضيف إلى الله تَعَالَى - أعم من العباد ، ولهذا قال : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] فنبَّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته ، ومن انتسب إلى غيره من الذين يُسَمَّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك ".
وكأن الراغبَ قد قدّم الفرق بين " عبيد " و" عباد " فقال : وجمع العَبْد - الذي هو مسترق - عبيد وقيل : عِبِدَّى وجمع العبَدْ - الذي هو العابد - عباد ، وقد تقدم اشتقاقُ هذه اللَّفْظَةِ وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة " ق ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 88 ـ 92}. بتصرف.(18/372)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
قال عليه الرحمة :
{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)}
هذا الخطاب لو كان بين المخلوقين لكان شكوى. والشكوى إلى الأولياء من الأعداء سُنَّةُ الأحباب.
ويقال علم أن في المؤمنين مَنْ يغتاب الناس ، وذلك قبيح من قالتهم ، فَأَظْهَرَ قُبْحاً فوق ذلك ليتصاغر قبح قول المؤمنين بالإضافة إلى قبح قول الكفار ، فكأنه قال : لئن قبحت قالتهم في الاغتياب فأقبحُ من قولهم قولُ الكفار حيث قالوا في وصفنا ما لا يليق بنعمتنا.
وفيه أيضاً إشارة إلى الدعاء إلى الخَلْق ، والتجاوز عن الخَصْم ، فإن الله - سبحانه - لم يسلبهم ما أولاهم مع قبيح ما ارتكبوه من التقصير في حقوقه.
قوله : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } : هذه الكلمة من موجبات الخجلة لأهل التقصير بأدقّ إشارة ؛ يعني أنهم وإنْ نَسُوا أحوالهم وأقوالَهم فإنا ننشر لهم ما كتبنا عليهم قال قائلهم :
صحائفُ عِنْدِي للعِتاب طويتها... سَتُنْشَرُ يوماً والعتابُ يطولُ
سأصبر حتى يجمع الله بيننا... فإنْ نلتقِ يوماً فسوف أقول
قوله : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ للعَبِيدِ } هذا لو كان من مخلوقٍ مع مخلوق لأشبه العذر مما عمله به ، فكأنه - سبحانه - يقول : " عبدي : هذا الذي تلقاه - اليوم - من العقوبة لأن الذنب لك ، ولو لم تفعله لما عذَّبنُك ". أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 300 ـ 301}(18/373)
قوله تعالى { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان القربان من جنس النفقات ومما يتبين به سماح النفوس وشحها حسن نظم آية القربان هنا بقوله - رادّاً شبة لهم أخرى ومبيناً قتلهم الأنبياء : {الذين قالوا} تقاعداً عما يجب عليهم من المسارعة بالإيمان {إن الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {عهد إلينا} وقد كذبوا في ذلك {ألا نؤمن لرسول} أي كائن من كان {حتى يأتينا بقربان} أي عظيم نقربه لله تعالى ، فيكون متصفاً بأن {تأكله النار} عند تقريبه له وفي ذلك أعظم بيان لأنهم ما أرادوا - بقولهم {إن الله فقير} حيث طلب الصدقة - إلا التشكيك حيث كان التقرب إلى الله بالمال من دينهم لاذي يتقربون إلى الله به ، بل وادعوا أنه لا يصح دين بغيره.
ولما افتروا هذا التشكيك أمر سبحانه بنقضه بقوله : {قل قد جاءكم رسل} فضلاً عن رسول.(18/374)
ولما كانت مدتهم لم تستغرق الزمان الماضي أثبت الجار فقال {من قبلي} كزكريا وابنه يحيى وعيسى عليه السلام {بالبينات} أي من المعجزات {وبالذي قلتم} أي من القربان فإن الغنائم لم تحل - كما في الصحيح - لأحد كان قبلنا ، فلم تحل لعيسى عليه السلام فلم تكن مما نسخه من أحكام التوراة ، وقد كانت تجمع فتنزل نار من السماء فتأكلها إلا إن وقع فيها غلول {فلم قتلتموهم} أي قتَلَهم أسلافكم ورضيتم أنتم بذلك فشاركتموهم فيه {إن كنتم صادقين} أي في أنكم تؤمنون لمن أتاكم على الوجه الذي ذكرتموه ، وفي ذلك رد على الفريقين : اليهود المدعين أنهم قتلوه الزاعمين أنه عهد إليهم في الإيمان بمن أتاهم بذلك ، والنصارى المسلمين لما ادعى اليهود من قتله المستلزم لكونه ليس بإله. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 190}
وقال الفخر :
اعلم أن هذه هي الشبهة الثانية للكفار في الطعن في نبوته صلى الله عليه وسلم ، وتقريرها أنهم قالوا : إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، وأنت يا محمد ما فعلت ذلك فوجب أن لا تكون من الأنبياء ، فهذا بيان وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 98}
فصل
قال الفخر :
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وزيد بن التابوب ، وفنحاص بن عازوراء وغيرهم ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتاباً ، وقد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، ويكون لها دوي خفيف ، تنزل من السماء ، فإن جئتنا بهذا صدقناك ، فنزلت هذه الآية.(18/375)
قال عطاء : كانت بنو اسرائيل يذبحون لله ، فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت ، والسقف مكشوف فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه ، وبنو اسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي خفيف ولا دخان لها فتأكل كل ذلك القربان.
واعلم أن للعلماء فيما ادعاه اليهود قولين :
الأول وهو قول السدى : أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط ، وذلك أنه تعالى قال في التوراة : من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام.
فإنهما إذا أتيا فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان تأكله النار.
قال : وكانت هذه العادة باقية إلى مبعث المسيح عليه السلام ، فلما بعث الله المسيح ارتفعت وزالت.
القول الثاني : إن ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة ، ويدل عليه وجوه :
أحدها : أنه لو كان ذلك حقاً لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان ، ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك ، فإن معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان.
وثانيها : أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء ، فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة ، بل لما ظهرت المعجزة القاهرة على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب القطع بنبوته سواء ظهرت هذه المعجزة أو لم تظهر.
وثالثها : أنه إما أن يقال إنه جاء في التوراة أن مدعي النبوة وإن جاء بجميع المعجزات فلا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه المعجزة المعينة ، أو يقال جاء في التوراة أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة سواء كانت المعجزة هي مجيء النار ، أو شيء آخر ، والأول باطل ، لأن على هذا التقدير لم يكن الاتيان بسائر المعجزات دالا على الصدق ، وإذا جاز الطعن في سائر المعجزات جاز الطعن أيضاً في هذه المعجزة المعينة.(18/376)
وأما الثاني : فإنه يقتضي توقيت الصدق على ظهور مطلق المعجزة ، لا على ظهور هذه المعجزة المعينة ، فكان اعتبار هذه المعجزة عبثا ولغوا ، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الشبهة بالكلية ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 98 ـ 99}
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي رحمه الله : القربان البر الذي يتقرب به إلى الله ، وأصله المصدر من قولك قرب قربانا ، كالكفران والرجحان والخسران ، ثم سمى به نفس المتقرب به ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة " يا كعب الصوم جُنَّةٌ والصلاة قربان " أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة فقال : {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صادقين}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 99}
فصل
قال الفخر :(18/377)
اعلم أنه تعالى بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد ، بل على سبيل التعنت ، وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام ، وهم أظهروا هذا المعجز ، ثم إن اليهود سعوا في قتل زكرياء ويحيى ، ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضاً ، وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت ، إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم ، ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه ، وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد عليه الصلاة والسلام متعنتين ، وإذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد ، لم يجب في حكمة الله إسعافهم بذلك ، لا سيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 99}
فائدة
قال الفخر :
المراد بقوله : {وبالذى قُلْتُمْ} هو ما طلبوه منه ، وهو القربان الذي تأكله النار.(18/378)
واعلم أنه تعالى لم يقل : قد جاءكم رسل من قبلي بالذي قلتم ، بل قال : {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ} والفائدة : أن القوم قالوا : إن الله تعالى وقف التصديق بالنبوة على ظهور القربان الذي تأكله النار ، فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم : إن الأنبياء المتقدمين أتوا بهذا القربان ، لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم ، لاحتمال أن الإتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها ، والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط ، لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط ، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الإلزام واردا ، أما لما قال : {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ} كان الإلزام واردا ، لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق ، ولما أتوا بهذا القربان فقد أتوا بالشرط ، وعند الإتيان بهما كان الإقرار بالنبوة واجبا ، فثبت أنه لولا قوله : {جَاءكُمْ. ..
بالبينات} لم يكن الإلزام واردا على القوم ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 100}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
أبدل { الذين قالوا إن الله عهد } من { الذين قالوا إن الله فقير } [ آل عمران : 181 ] لذكر قولة أخرى شنيعة منهم ، وهي كذبهم على الله في أنّه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أنّ لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان ، أي حتّى يذبح قرباناً فتأكله نار تنزل من السماء ، فتلك علامة القبول ، وقد كان هذا حصل في زمن موسى عليه السلام حين ذُبح أوّل قربان على النحو الذي شَرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرّب فأحرقتْه.
كما في سفر اللاويين.
إلاّ أنه معجزة لا تطّرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأنّ معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمّة.(18/379)
وفي الحديث : " ما من الأنبياء نبيء إلاّ أوتي من الآيات ما مثله آمَن عليه البشر ، وإنّما كان الذي أوتيتُ وحْياً أوحى الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة " فقال الله تعالى لنبيّه : { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم }.
وهذا الضرب من الجدل مبنيّ على التسليم ، أي إذا سلّمنا ذلك فليس امتناعكم من اتّباع الإسلام لأجل انتظار هذه المعجزة فإنّكم قد كذّبتم الرسل الذين جاؤوكم بها وقتلتموهم ، ولا يخفي أنّ التسليم يأتي على مذهب الخصم إذ لا شكّ أنّ بني إسرائيل قتلوا أنبياء منهم بعد أن آمنوا بهم ، مثل زكرياء ويحيى وأشعياء وأرمياء ، فالإيمان بهم أوّل الأمر يستلزم أنهم جاؤوا بالقُربان تأكله النار على قولهم ، وقتلهم آخراً يستلزم أنّ عدم الثبات على الإيمان بالأنبياء شنشنة قديمة في اليهود وأنّهم إنّما يتّبعون أهواءهم ، فلا عجب أن يأتي خلَفُهم بمثل ما أتى به سلفهم.
وقوله : { إن كنتم صادقين } ظاهر في أنّ ما زعموه من العهد لهم بذلك كذب ومعاذير باطلة.
وإنّما قال : { وبالذي قلتم } عُدل إلى الموصول للاختصار وتسجيلاً عليهم في نسبة ذلك لهم ونظيره قوله تعالى : { وقال لأوتينّ مالاً وولَداً إلى قوله : ونرثه ما يقول } [ مريم : 77 ، 80 ] أي نرث ماله وولده. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 299}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
يجوز في محل " الذِينَ " الألقاب الثلاثة ، فالجَرّ من ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنه صفة للفريق المخصوصين بإضافة " قَوْلَ " إليه - في قوله : " قول الذين قالوا ".
الثاني : أنه بدل منه.
الثالث : أنه صفة لـ " الْعَبِيد " أي : ليس بظلاَّم للعبيد الذين قالوا كيتَ وكيتَ ، قاله الزَّجَّاجُ قال ابنُ عطيَّة : " وهذا مفسد للمعنى والوصف ".(18/380)
والرفعُ على القطع - بإضمار مبتدأ - أي : هم الذين ، وكذلك النصب على القطع - أيضاً - بإضمار فعلٍ لائقٍ ، أي : أذم الذين.
قوله : " أن لا نؤمن " في " أنْ " وجهان :
أحدهما : أنها عَلَى حَذْف حرف الجرِّ ، والأصل : في أن لا نؤمنَ ، وحينئذ يجيء فيها المذهبانِ المشهورانِ أهي في محلِّ جَرٍّ ، أو نَصْبٍ.
الثاني : أنها مفعول بها ، على تَضْمين " عَهِدَ " معنى ألزم ، تقول : عهدت إليه كذا - أي : ألزمته إياه - فهي - على هذا - في محل نصب فقط.
و " أن " تُكْتَب متصلة ، ومنفصلة ، اعتباراً بالأصل ، أو بالإدغام. ونقل أبو البقاء أن منهم من يَحذفُها في الخط ، اكتفاءً بالتشديد ، وحكى مكي - عن المبرد - أنَّها إن أدُغِمَتْ بغير غنة كتبت متصلة ، إلا فمنفصلة. ونُقِل عن بعضهم أنها كانت مخففة كتبت منفصلة وإن كانت ناصبة كتبت متصلة.
والفرق أن المخففةَ مَعَهَا ضمير مقدر ، فكأنه فاصل بينهما ، بخلاف الناصبة ، وقول أهل الخط - في مثل هذا - : تكتب متصلة ، عبارة عن حَذْفها في الخط بالكلية ؛ اعتباراً بلفظ الإدغام ، لا أنهم يكتبون [ متصلة ] ، ويثبتون لها بعضَ صورتها ، فيكتبون : أنْلاَ ، والدليل على ذلك أنهم لما قالوا في " أم من " و" أم ما " ونحوه بالاتصال ، إنما يعنون به كتابة حرف واحدٍ ، فيكتبون أمَّن ، وأما ، وفَهم أبو البقاء أن الاتصالَ في ذلك عبارة عن كتابتهم لها في بعض صورتها ملتصقة بـ " لا " ، والدليل على أنه فهم ذلك أنه قال : ومنهم مَنْ يحذفها في الخط ؛ اكتفاءً بالتشديد.
فجعل الحذف قسيماً للفصل والوصل ، ولا يقول أحَدٌ بهذا.
وتعدى " نؤمن " باللام ؛ لتضمُّنه معنى الاعتراف. وقد تقدم في أول " البقرة ".
وقرأ عيسى بن عمر " بقُرُبان " - بضمتين - .
قال القرطبيُّ : " كما قيل - في جمع ظُلْمة - ظلمات وفي حجرة - حجرات ".
(18/381)
قال ابن عطيةَ : إتباعاً لضمة القاف ، وليس بِلُغَةٍ ؛ لأنه ليس في الكلام فعلان - بضم الفاء والعين - .
وحكى سيبويه : السُّلُطان - بضمِّ اللمِ - وقال : إنّ ذلك على الإتباع.
قال أبو حيان : " ولم يَقل سيبويه : إن ذلك على الإتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلامِ فِعِلان ولا فِعُلان ، ولا شيئاً من هذا النحو ، ولكنه جاء فُعُلاَن - وهو قليل - قالوا : السلطان ، وهو اسم ، وقتل الشَّارحُ لكلام سيبويه : صاحبُ هذه اللغةِ لا يسكن ولا يُتبع ، وكذا ذَكَر التصرفيونَ أنه بناء مُسْتقل ، قالوا : فيما لحقه زيادتانِ بعد اللامِ ، وعلى فعلان - ولم يجيء فُعُلان إلا اسماً ، وهو قليلٌ ، نحو سُلُطان ".
قال شهاب الدِّينِ : " أما ابن عَطِيّةَ فمسلم أنه وَهِم في النقل عن سيبويه في " سلطان " خاصةٌ ، ولكن قوله في " قُربَانٍ " صحيح ولأن أهل التصريف لم يستثنوا إلا السُّلُطان ".
والقُرْبان - في الأصل - مصدر ، ثم سُمِّي به المفعول ، كالرَّهْن ، فإنه في الأصل مصدر ، ولا حاجة إلى حذف مضاف ، وزعم أبو البقاء أنه على حَذْف مضاف - أي : تقريب قُرْبان - قال : " أي : يُشْرَع لنا ذلك ".
وقوله : { تَأْكُلُهُ النار } صفة لِـ " قُرْبَانٌ " وإسناد الأكل إليها مجاز ، عبَّرَ عَنْ إفنائها الأشياء بالأكل.
قوله : { مِّن قَبْلِي بالبينات } كلاهما متعلق بـ " جَاءَكُم " والباءُ تحتمل المعية والتعدية ، أي : مصاحبين للآيات. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 92 ـ 94}(18/382)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)}
تقوَّلوا على الله - سبحانه - فيما تعللوا به من تَرْكِ الإيمان ، فقالوا : لقد أُمِرْنَا ألا نصدِّق أحداً إلا لو أتانا بقربان يتقرب به إلى السماء ، وتنزل نار من السماء ، فتأخذ القربان عياناً ببصر ، فقال تعالى قلْ لهم إن من تقدَّمني من الأنبياء عليهم السلام أَتَوْكم بما اقترحتم عليّ من القربان ، ثم لم تؤمنوا ، فلو أجبتكم إليه لن تؤمنوا بي أيضاً ؛ فإن مَنْ أقصته السوابق - فلو خاطَبَتْه الشمسُ بلسان فصيح ، أو سجدت له الجبالُ رآها بلحظٍ صحيح - لم يَلِجْ العرفان في قلبه ، وما ازداد إلا شكاً على شك. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 301}(18/383)
قوله تعالى : { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت هذه السورة متضمنة لكثير من الدقائق التي أخفوها من كتابهم الذي جعلوه قراطيس ، يبدونها ويخفون كثيراً ، وفي هذه الآية بخصوصها من ذلك ما يقتضي تصديقه صلى الله عليه وسلم وكان سبحانه عالماً بأن أكثرهم يعاندون سبب عن ذلك أن سلاه في تكذيب المكذبين منهم بقوله : {فإن كذبوك} فكان كأنه قيل : هذا الذي أعلمتك به يوجب تصديقك ، فإن لم يفعلوا بل كذبوا {فقد} ولما كان السياق لإثبات مبالغتهم في الغلظة والجفاء والكفر وعدم الوفاء وكانت السورة سورة التوحيد ، والرسل متفقون عليه ، وقد أتى كل منهم فيه بأنهى البيان وأزال كل لبس أسقط تاء التأنيث لأنها ربما دلت على نوع ضعف فقال : {كذب رسل} ولما كانت تسلية الإنسان بمن قاربه في الزمان أشد أثبث الجار فقال {من قبلك} أي فلك فيهم مسلاة وبهم أسوة {جآءو بالبينات} أي من المعجزات {والزبر} أي من الصحف المضمنة للمواعظ والحكم الزواجر والرقائق التي يزبر العالم بها عن المساوي {والكتاب المنير} أي الجامع للأحكام وغيرها.
الموضح لأنه الصراط المستقيم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 191}
فصل
قال الفخر :
في قوله : {فَإِن كَذَّبُوكَ} وجوه :
أحدها : فإن كذبوك في قولك أن الأنبياء المتقدمين جاؤا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم ، فقد كذب رسل من قبلك : نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب وغيرهم.
والثاني : أن المراد : فإن كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك ، ولعل هذا الوجه أوجه ، لأنه تعالى لم يخصص ، ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم ، ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج.(18/384)
والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء ، بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم ، مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك ، ومع هذا فإنهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة ، فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى ، وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت ، فأما البينات فهي الحجج والمعجزات ، وأما الزبر فهي الكتب ، وهي جمع زبور ، والزبور الكتاب ، بمعنى المزبور أي المكتوب ، يقال : زبرت الكتاب أي كتبته ، وكل كتاب زبور.
قال الزجاج : الزبور كل كتاب ذي حكمة ، وعلى هذا : الأشبه أن يكون معنى الزبور من الزبر الذي هو الزجر ، يقال : زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل ، وسمي الكتاب زبوراً لما فيه من الزبر عن خلاف الحق ، وبه سمي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ.
وقرأ ابن عباس {وبالزبر} أعاد الباء للتأكيد وأما "المنير" فهو من قولك أنرت الشيء أي أوضحته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 100 ـ 101}
فائدة
قال الفخر :
المراد من البينات المعجزات ثم عطف عليها الزبر والكتاب ، وهذا يقتضي أن يقال إن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم ، وذلك يدل على أن أحدا من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم ، فالتوراة والإنجيل والزبور والصحف ما كان شيء منها معجزة ، وأما القرآن فهو وحده كتاب ومعجزة ، وهذا أحد خواص الرسول عليه الصلاة والسلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 101}(18/385)
فصل
قال الفخر :
عطف "الكتاب المنير" على "الزبر" مع أن الكتاب المنير لا بد وأن يكون من الزبر ، وإنما حسن هذا العطف لأن الكتاب المنير أشرف الكتب وأحسن الزبر ، فحسن العطف كما في قوله : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [ الأحزاب : 7 ] وقال : {مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [ البقرة : 98 ] ووجه زيادة الشرف فيه إما كونه مشتملا على جميع الشريعة ، أو كونه باقياً على وجه الدهر ، ويحتمل أن يكون المراد بالزبر : الصحف ، وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل والزبور. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 101}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ فَإِن كَذَّبُوكَ } فيما جئتهم به.
{ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } جاءوا بمثل ما جئت به ، والجملة جواب للشرط لكن باعتبار لازمها الذي دل عليه المقام فإنه لتسليته صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه واليهود له ، واقتصر مجاهد على الثاني كأنه قيل فإن كذبوك فلا تحزن وتسل ، وجعل بعضهم الجواب محذوفاً وهذا تعليلاً له ومثله كثير في الكلام.(18/386)
وقال عصام الملة : لا حاجة إلى التأويل ، والقول بالحذف إذ المعنى إن يكذبوك فتكذيبك تكذيب رسل من قبلك حيث أخبروا ببعثتك ، وفي ذلك كمال توبيخهم وتوضيح صدقه صلى الله عليه وسلم وتسلية له ليس فوقها تسلية ، ونظر فيه بأن التسلية على ما ذهب إليه الجمهور أتم إذ عليه تكون المشاركة بينه صلى الله عليه وسلم وبين إخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام في تكذيب المكذبين شفاهاً وصريحاً وعلى الثاني لا شركة إلا في التكذيب لكنه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم شفاهي وصريح ، وبالنسبة إلى المرسلين ليس كذلك ، ولا شك لذي ذوق أن الأول أبلغ في التسلية ، وعليه يجوز في { مِنْ } أن تتعلق بكذب وأن تتعلق بمحذوف وقع صفة لرسل أي كائنة من قبلك.
وعلى الثاني : يتعين الثاني ويشعر بالأول الذي عليه الجمهور وصف الرسل بقوله سبحانه : { جَاءوا بالبينات } أي المعجزات الواضحات الباهرات { والزبر } جمع زبور كالرسول والرسل وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته بمعنى حسنته قاله الزجاج ، وقيل : الزبر المواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته { والكتاب المنير } أي الموضح أو الواضح المستنير.(18/387)
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه القرآن ، ومعنى مجيء الرسل به مجيئهم بما اشتمل عليه من أصول الدين على ما يشير إليه قوله تعالى فيه : { وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين } [ الشعراء : 196 ] على وجه ، وعن قتادة أن المراد به الزبر والشيء يضاعف بالاعتبار وهو واحد ، وقيل : المراد به التوراة والإنجيل والزبور وهو في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء هو والحكمة متعاطفين في عامة المواقع ، ووجه إفراد الكتاب بناءاً على القول الأول ظاهر ، ولعل وجه إفراده بناءاً على القول الثاني والثالث ، وإن أريد منه الجنس الصادق بالواحد والمتعدد الرمز إلى أن الكتب السماوية وإن تعدّدت فهي من بعض الحيثيات كشيء واحد.
وقرأ ابن عامر وبالزبر بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات بأن يراد بها المعجزات غير الكتب لأن إعادة العامل تقتضي المغايرة ولولاها لجاز أن يكون من عطف الخاص على العام.
ومن الغريب القول بأن المراد بالبينات الحروف باعتبار أسمائها كألف ولام ، وبالزبر الحروف باعتبار مسمياتها ورسمها كأب ، وبالكتاب الحروف المجتمعة المتلفظ بها كلمة وكلاماً.
وادعى أهل هذا القول : أن لكل من ذلك معاني وأسراراً لا يعقلها إلا العالمون فهم يبحثون عن الكلمة باعتبار لفظها وباعتبار كل حرف من حروفها المرسومة وباعتبار اسم كل حرف منها الذي هو عبارة عن ثلاثة حروف ، ولا يخفى أن هذا اصطلاح لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه.
والظاهر من تتبع الآثار الصحيحة أنه لم يثبت فيه عن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم شيء ودون إثبات ذلك الموت الأحمر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 144 ـ 145}(18/388)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ } ليس جواباً ، بل الجوابُ محذوف ، أي : فقل ، ونحوه ؛ لأن هذا قد مضَى وتحقَّق ، والجملة من " جَاءُوا " في محل رفع ، صفة لِـ " رُسُلٌ " و" مِنْ قَبْلِكَ " متعلق بـ " كُذِّبَ " والباء في " بِالبَيِّنَاتِ " تحتمل الوجهين ، كنظيرتها.
ومعنى الآية : فإن كذبوك في قولك : إنَّ الأنبياء المتقدمين أتَوْا بالقُرْبان.
ويحتمل أن يكون المعنى : فإن كذبوك في أصل النبوة - وهو أولى - والمرادُ بالبيناتِ المعجزاتِ.
وقرأ الجمهورُ : " وَالزبر والكتاب " - من غير باء الجر - وقرأ ابنُ عامر " وَبِالزُّبُرِ " - بإعادتها - وهشام وحده عنه " وَبِالكِتَابِ " - بإعادتها أيضاً - وهي في مصاحف الشاميين كقراءة ابنِ عامر ، فَمَنْ لم يأتِ بها اكتفى بالعطفِ ، ومن أتى بها كان ذلك تأكيداً.
والزُّبر : جمع زَبُور - بالفتح - ويقال : بالضم أيضاً - وهل هما بمعنىً واحد أو مختلفان ؟ سيأتي الكلام عليهما - إن شاء الله تعالى - في النساء في قوله : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ النساء : 163 ]. واشتقاقه من زَبَرْتُ : أي : كتبتُ وزَبَرْته : قرأتهُ ، وَزَبرْته : حسَّنت كتابتَه ، وزَبَرْته : زَجَرته. فزبور - بالفتح - فَعُول بمعنى مفعول - كالركوب بمعنى : المركوب - والحلوب - بمعنى المحلوب - والمعنى : الكُتُب المزبورة ، أي : المكتوبة ، والزُّبُر : جمع زبور ، وهو الكتاب.
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
لمَنْ طَلَلٌ أبصَرْتُهُ فَشَجانِي... كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِي
وقيل : اشتقاق من الزَّبْر - بمعنى : الزجر : تقول : زبرت الرجل : أي : نهرته. وزبرت البئر : أي : طويتها بالحجارة.
فإن قيل : لِمَ عطف " الْكِتَابِ المُنِيرِ " على " الزُّبُرِ " مع أن الكتاب المنير من الزُّبُر ؟(18/389)
فالجوابُ : لأن الكتاب المنير أشرف الكتب ، وأحسن الزبر ، فحسُن العطف ، كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ]. وقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ]. ووجه شرفه : كونه مشتملاً على جميع الشريعة ، أو كونه باقياً على وَجْه الدَّهْر.
وقيل : المراد بـ " الزُّبُر " الصُّحُف ، والمراد بـ " الْكِتَابِ الْمُنِيرِ " التوراة والإنجيل والزبور.
و " الْمُنِير " اسم فاعل من أنار ، أي : أضاء ، وهو الواضح. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 95 ـ 96}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)}
أي عادة الكفار تكذيب الرسل : وعلى هذا النحو درج سَلَفُهمْ ، وبهديهم اقتدى خَلَفُهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 302}(18/390)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى : "فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير" وفى سورة الملائكة[فاطر] : "وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور"، ورد فى هاتين الآيتين المفعول المقام مقام الفاعل وهو رسل مكسر والاسم المجموع جمع تكسير يجوز فيه التذكير والتأنيث فورد فى الآية الأولى"فقد كذب" على رعى التذكير ولم يقرأ بغيره وفى الآية الثانية "فقد كذبت" على معنى التأنيث لزوما أيضا مع وحدة اللفظ فى المرفوع المفعول وما يجوز فيه من التذكير والتأنيث فيسأل عن ذلك.
والجواب عن ذلك والله أعلم أن كلا الآيتين مراعى فيه ما يلى تابعا للمرفوع من الوصف فى الأولى وما عطف فى الثانية. أما الأولى فقال تعالى"جاؤوا بالبينات". ولا يمكن هنا إلا هذا فجرى على ما هو الأصل فى جمع المذكر المكسر من التذكير فلم تلحق الفعل علامة التأنيث ، وأما آية الملائكة فلحقت التاء الفعل رعيا لما عطف على الآية من قوله تعالى : "وإلى الله ترجع الأمور" فليس فى هذا إلا التأنيث سواء بنى الفعل للفاعل أو للمفعول فنوسب بين الآيتين فقيل"كذبت" على الجائز الفصيح فى تأنيث المجموع المكسر ليحصل التناسب ولا يمكن عكس الوارد فى الآيتين والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل حـ 1 صـ 128}(18/391)
قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تقدم في قصة أحد رجوع المنافقين وهزمية بعض المؤمنين مما كان سبب ظفر الكافرين ، وعاب سبحانه ذلك عليهم بأنهم هربوا من موجبات السعادة والحياة الأبدية إلى ما لا بد منه ، وإلى ذلك أشار بقوله : {قل لو كنتم في بيوتكم} [ آل عمران : 154 ] {ولئن قتلتم في سبيل الله} [ آل عمران : 157 ] {قل فادرءوا عن أنفسكم الموت} [ آل عمران : 168 ] {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله} [ آل عمران : 169 ] وغير ذلك مما بكتهم به في رجوعهم حذر الموت وطلب امتداد العمر ، مع ما افتتح به من أن موت هذا النبي الكريم وقتله ممكن كما كان من قبله من إخوانه من الرسل على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام! وختم بالإخبار بأنه وقع قتل كثير من الرسل ، فكان ذلك محققاً لأنه لا يصان من الموت خاص ولا عام ، مضموماً إلى ما نشاهد من ذلك في كل لحظة ؛ صوَّر ذلك الموت بعد أن صار مستحضراً للعيان تصويراً أوجب التصريح به إشارة إلى أن حالهم في هربهم ورجوعهم وما تبع ذلك من قولهم حال من هو في شك منه فقال تعالى : {كل نفس} أي منفوسة من عيسى وغيره من أهل الجنة والنار {ذآئقة الموت} أي وهو المعنى الذي يبطل معه تصرف الروح في البدن وتكون هي باقية بعد موته لأن الذائق لا بد أن يكون حال ذوقه حيّاَ حساساً ، ومن يجوز عليه ذوق الموت يجوز عليه ذوق النار ، وهو عبد محتاج ، فالعاقل من سعى في النجاة منها والإنجاء كما فعل الخلص الذين منهم عيسى ومحمد عليهما أفضل الصلاة وأزكى السلام ، وكان نظمها بعد الآيات المقتضية لتوفية الأجور بالإثابة عليها وأنه ليس بظلام للعبيد شديد الحسن ، وذلك مناسب أيضاً لختم الآية بالتصريح لتوفية الأجور يوم الدين ، وأن الزحزحة عن النار ودخول الجنة لهو الفوز ، لا الشح في الدنيا بالنفس والمال الذي ربما كان سبباً لامتداد(18/392)
العمر وسعة المال بقوله : {وإنما توفون} أي تعطون {أجوركم} على التمام جزاء على ما عملتموه من خير وشر {يوم القيامة} وأما ما يكون قبل ذلك من نعيم القبر ونحوه فبعض لا وفاء {فمن زحزح} أي أبعد في ذلك اليوم إبعاداً عظيماً سريعاً {عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} أي بالحياة الدائمة والنعيم الباقي.
والمعنى أن كل نفس توفى ما عملت ، فتوفى أنت أجرك على صبرك على أذاهم ، وكذا من أطاعك ، ويجازون هم على ما فرطوا في حقك فيقذفون في غمرة النار ، وكان الحصر إشارة إلى تقبيح إقبالهم على الغنيمة وغيرها من التوسع العاجل ، أي إنما مقتضى الدين الذي دخلتم فيه هذا ، وذلك ترهيباً من الالتفات إلى تعجل شيء من الأجر في الدنيا - كما قال أبو بكر رضي الله عنه في أول إسلامه : وجدت بضاعة بنسيئة ، ما وقعت على بضاعة قط أنفس منها ، وهي لا إله إلا الله.(18/393)
فالحاصل أن " كل نفس " أي حذرة من الموت ومستسلمة {ذائقة الموت} أي فعلام الاحتراس منه بقعود عن الغزو أو هرب من العدو! {وإنما توفون أجوركم} أي يا أهل الإسلام التي وعدتموها على الأعمال الصالحة {يوم القيامة} أي فما لكم تريدون تعجلها بإسراعكم إلى الغنائم أو غيرها مما يزيد في أعراض الدنيا فتكونوا ممن تعجل طيباته في الحياة الدنيا {فمن} أي فحيث علم أنه لا فوز في الدنيا إلا بما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى تسبب عن ذلك أنه من {زحزح عن النار} أي بكونه وفي أجره ولم يتعجل طيباته {وأدخل الجنة} أي بما عمل من الصالحات فحاز الحياة الدائمة مع الطيبات الباقية {فقد فاز} أي كل الفوز ، ولما صح أنه لا فوز إلا ذلك صح قوله : {وما الحياة الدنيا} أي التي أملي لهم فيها وأزيلت عن الشهداء {إلا متاع الغرور} أي المتاع الذي يدلس الشيطان أمره على الناس حتى يغتروا به فيغبنوا بترك الباقي وأخذ الأشياء الزائلة بانقضاء لذاتها والندم على شهواتها بالخوف من تبعاتها.
وفي ذلك أيضاً مناسبة من وجه آخر ، وهو أنه لما سلاه سبحانه وتعالى بالرسل - الذين لازموا الصبر والاجتهاد في الطاعة حتى ماتوا - وأممهم.(18/394)
وتركوا ما كان بأيديهم عاجزين عن المدافعة ، ولم يبق إلا ملكه سبحانه وتعالى ، وأن الفريقين ينتظرون الجزاء ، فالرسل لتمام الفوز ، والكفار لتمام الهلاك ؛ أخبر أن كل نفس كذلك ، ليجتهد الطائع ويقتصر العاصي ، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين رجعوا عن أحد خوف القتل وقالوا عن الشهداء : {لو أطاعونا ما قتلوا} أي إن الذي فررتم منه لا بد منه ، والحياة التي آثرتموها متاع يندم عليه من محضه للتمتع كما يندم المغرور بالمتاع الذي غر به ، فالسعيد من سعى في أن يكون موته في رضى مولاه الذي لا محيص له عن الرجوع إليه والوقوف بين يديه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 191 ـ 193}
وقال ابن عاشور :
هذه الآية مرتبطة بأصل الغرض المسوق له الكلام ، وهو تسلية المؤمنين على ما أصابهم يوم أُحُد ، وتفنيد المنافقين في مزَاعمهم أنّ الناس لو استشاروهم في القتال لأشاروا بما فيه سلامتهم فلا يهلكوا ، فبعد أنّ بيّن لهم ما يدفع توهّمهم أنّ الانهزام كان خذلاناً من الله وتعجّبهم منه كيف يلحق قوماً خرجوا لنصر الدين وأن لا سبب للهزيمة بقوله : { إنما استزلهم الشيطان } [ آل عمران : 155 ] ثم بيّن لهم أنّ في تلك الرزّية فوائد بقول الله تعالى : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } [ آل عمران : 153 ] وقوله : { وليعلم المؤمنين } [ آل عمران : 166 ] ، ثم أمرهم بالتسليم لله في كلّ حال فقال : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } [ آل عمران : 166 ] وقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } [ آل عمران : 156 ] الآية.(18/395)
وبيّن لهم أنّ قتلى المؤمنين الذين حزِنوا لهم إنّما هم أحياء ، وأنّ المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم لا يضيع الله أجرهم ولا فَضْلَ ثباتهم ، وبيّن لهم أنّ سلامة الكفّار لا ينبغي أن تُحزن المؤمنين ولا أن تسرّ الكافرين ، وأبطل في خلال ذلك مقال المنافقين بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } [ آل عمران : 154 ] وبقوله : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا } [ آل عمران : 168 ] إلى قوله : { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 168 ] ختم ذلك كلّه بما هو جامع للغرضين في قوله تعالى : { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } لأنّ المصيبة والحزن إنّما نشآ على موت من استشهد من خيرة المؤمنين ، يعني أنّ الموت لمّا كان غاية كلّ حيّ فلو لم يموتوا اليوم لماتوا بعدَ ذلك فلا تأسفوا على موت قتلاكم في سبيل الله ، ولا يفتنكم المنافقون بذلك ، ويكون قوله بعده : { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } قصر قلب لتنزيل المؤمنين فيما أصابهم من الحزن على قتلاهم وعلى هزيمتهم ، منزلة من لا يترقّب من عمله إلاّ منافع الدنيا وهو النصر والغنيمة ، مع أنّ نهاية الأجر في نعيم الآخرة ، ولذلك قال : { توفون أجوركم } أي تكمل لكم ، وفيه تعريض ، بأنّهم قد حصلت لهم أجور عظيمة في الدنيا على تأييدهم للدين : منها النصر يوم بدر ، ومنها كفّ أيدي المشركين عنهم في أيام مقامهم بمكّة إلى أن تمكّنوا من الهجرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 200 ـ 201}
فصل
قال الفخر :
قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت }.
اعلم أن المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين :(18/396)
أحدهما : أن عاقبة الكل الموت ، وهذه الغموم والأحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها ، والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل إليه.
والثاني : أن بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسيء ، ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء ، وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 101}
فائدة
قال القرطبى :
{ ذَآئِقَةُ الموت } من الذّوق ، وهذا مما لا مَحِيص عنه للإنسان ، ولا محيد عنه لحيوان.
وقد قال أميّة بن أبي الصلت :
من لم يمت عَبْطَةً يُمت هَرَماً . . .
لِلموت كأسٌ والمرء ذائِقُها
وقال آخر :
الموتُ بابٌ وكُّل الناس داخِلهُ . . .
فليتَ شِعْرِىَ بعد الباب ما الدَّار. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 297}
وقال الآلوسى
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } أي نازل بها لا محالة فكأنها ذائقته وهو وعد ووعيد للمصدق والمكذب وفيه تأكيد للتسلية له صلى الله عليه وسلم لأن تذكر الموت واستحضاره مما يزيل الهموم والأشجان الدنيوية.
وفي الخبر "أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكر في كثير إلا وقلله ولا في قليل إلا وكثره" وكذا العلم بأن وراء هذه الدار داراً أخرى يتميز فيها المحسن عن المسيء ويرى كل منهما جزاء عمله ، وهذه القضية الكلية لا يمكن إجراؤها على عمومها لظاهر قوله تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله } [ الزمر : 68 ] وإذا أريد بالنفس الذات كثرت المستثنيات جداً ، وهل تدخل الملائكة في هذا العموم ؟ قولان ، والجمهور على دخولهم.(18/397)
فعن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] قالت الملائكة : مات أهل الأرض فلما نزل { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } قالت الملائكة : متنا ، ووقوع الموت للأنفس في هذه النشأة الحيوانية الجسمانية مما لا ريب فيه إلا أن الحكماء بنوا ذلك على أن هذه الحياة لا تحصل إلا بالرطوبة والحرارة الغريزيتين.
ثم إن الحرارة تؤثر في تحليل الرطوبة ، فإذا قَلت الرطوبة ضعفت الحرارة ولا تزال هذه الحال مستمرة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت ، ومن هنا قالوا : إن الأرواح المجردة لا تموت ولا يتصور موتها إذ لا حرارة هناك ولا رطوبة ، وقد ناقشهم المسلمون في ذلك والمدار عندهم على حرارة الكاف ورطوبة النون ، ولعلهم يفرقون بين موت وموت ، وقد استدل بالآية على أن المقتول ميت وعلى أن النفس باقية بعد البدن لأن الذائق لا بد أن يكون باقياً حال حصول المذوق فتدبر ، وقرأ اليزيدي { ذَائِقَةُ الموت } بالتنوين ونصب الموت على الأصل ؛ وقرأ الأعمش { ذَائِقَةُ الموت } بطرح التنوين مع النصب كما في قوله :
فألفيته غير مستعتب...
ولا ذاكراً لله إلا قليلاً
وعلى القراءات الثلاث { كُلُّ نَفْسٍ } مبتدأ وجاز ذلك وإن كان نكرة لما فيه من العموم ، و{ ذَائِقَةُ } الخبر ، وأنث على معنى { كُلٌّ } لأن { كُلُّ نَفْسٍ } نفوس ولو ذكر في غير القرآن على لفظ { كُلٌّ } جاز. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 145 ـ 146}
فائدة
قال أبو حيان :
{ كل نفس ذائقة الموت } تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدنيا وأهلها ، والوعد بالنجاة في الآخرة بذكر الموت ، والفكرة فيه تهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره.(18/398)
ولمّا تقدّم ذكر المكذبين الكاذبين على الله من اليهود والمنافقين وذكرهم المؤمنين ، نبهوا كلهم على أنهم ميتون ومآلهم إلى الآخرة ، ففيها يظهر الناجي والهالك ، وأنَّ ما تعلقوا به في الدنيا من مال وأهل وعشيرة إنما هو على سبيل التمتع المغرور به ، كلها تضمحل وتزول ولا يبقى إلا ما عمله الإنسان ، وهو يوفاه في الآخرة ، يوفى على طاعته ومعصيته.
وقال محمد بن عمر الرازي : في هذه الآية دلالة على أن النفس لا تموت بموت البدن ، وعلى أن النفس.
غير البدن انتهى.
وهذه مكابرة في الدلالة ، فإنّ ظاهر الآية يدل على أن النفس تموت.
قال أيضاً : لفظ النفس مختص بالأجسام انتهى.
وقرأ اليزيدي : ذائقة بالتنوين ، الموت بالنصب ، وذلك فيما نقله عنه الزمخشري.
ونقلها ابن عطية عن أبي حيوة ، ونقلها غيرهما عن الأعمش ، ويحيى ، وابن أبي إسحاق.
وقرأ الأعمش فيما نقله الزمخشري ذائقة بغير تنوين الموت بالنصب ومثله :
فألفيته غر مستعتب . . .
ولا ذاكر الله إلا قليلا
حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، كقراءة من قرأ { قل هو الله أحد.
الله الصمد } بحذف التنوين من أحد { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } لفظ التوفية يدل على التكميل يوم القيامة ، فما قبله من كون القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، هو بعض الأجور.
وما لم يدخل الجنة أو النار فهو غير موفى.
والذي يدل عليه السياق أنّ الأجور هي ما يترتب على الطاعة والمعصية ، وإن كان الغالب في الاستعمال أنّ الأجر هو ما يترتب على عمل الطاعة.
ولهذا قال ابن عطية : وخص تعالى ذكر الأجور لشرفها ، وإشارة إلى مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمّته.
ولا محالة أنّ يوم القيامة يقع فيه توفية الأجور ، وتوفية العقوبات انتهى. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 138 ـ 139}(18/399)
موعظة
قال الإمام ابن عطية ـ رحمه الله ـ :
إن الموت أمر كبار لمن أنجد وأغار وكأس تدار فيمن أقام أو سار وباب تسوقك إليه يد الأقدار ويزعجك فيه حكم الاضطرار ويخرج بك إما إلى الجنة وإما إلى النار
خبر - علم الله - يصم الأسماع ويغير الطباع ويكثر من الآلام والأوجاع
واعلموا أنه لو لم يكن في الموت إلا الإعدام وانحلال الأجسام ونسيانك أخرى الليالي والأيام لكان والله لأهل اللذات مكدرا ولأصحاب النعيم مغيرا ولأرباب العقول عن الرغبة في هذه الدار زاجرا ومنفرا كما قال مطرف بن عبد الله بن الشخير
إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيما لا موت فيه فكيف ووراءه يوم يعدم فيه الجواب وتدهش فيه الألباب وتفنى في شرحه الأقلام والكتاب ويترك النظر فيه والاهتمام به الأولياء والأحباب
واعلموا رحمكم الله أن الناس في ذكر الموت على ضروب فمنهم المنهمك في لذاته المثابر على شهواته المضيع فيها مالا يرجع من أوقاته لا يخطر الموت له على بال ولا يحدث نفسه بزوال قد أطرح أخراه واكب على دنياه واتخذ إلهه هواه فأصمه ذلك وأعماه وأهلكه وأرداه
فإن ذكر له الموت نفر وشرد وإن وعظ أنف وبعد وقام في أمره الأول وقعد قد حاد عن سواء نهجه ونكب عن طريق فلجه وأقبل على بطنه وفرجه تبت يداه وخاب مسعاه وكأنه لم يسمع قول الله عز وجل ( كل نفس ذائقة الموت ) ولا سمع قول القائل فيه وفي أمثاله حيث قال
( يا راكب الروع للذاته ... كأنه في أتن عير )
( وآكلا كل الذي يشتهي ... كأنه في كلأ ثور )
( وناهضا إن يدع داعي الهوى ... كأنه من خفة طير )
( وكل ما يسمع أو ما يرى ... كأنما يعنى به الغير )
( إن كؤوس الموت بين الورى ... دائرة قد حثها السير )
( وقد تيقنت وإن أبطأت ... أن سوف يأتيك بها الدور )
(18/400)
( ومن يكن في سيره جائرا ... تالله ما في سيرها جور )
ثم ربما أخطر الموت بخاطره وجعله من بعض خواطره فلا يهيج منه إلا غما ولا يثير من قلبه إلا حزنا مخافة أن يقطعه عما يؤمل أو يفطمه عن لذة في المستقبل وربما فر بفكره منه ودفع ذلك الخاطر عنه ويا ويحه كأنه لم يسمع قول الله عز وجل ( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ) ولا قول القائل
( فر من الموت أو اثبت له ... لا بد من أنك تلقاه )
( واكتب بهذي الدار ما شئته ... فإن في تلك ستقراه )
وكذلك من كان قلبه متعلقا بالدنيا وهمه فيها ونظره مصروفا إليها وسعيه كله لها وهو مع ذلك من طلابها المحرومين وأبنائها المكدودين لم ينل منها حظا ولا رقى منها مرقى ولا نجح له فيها مسعى إن ذكر له الموت تصامم عن ذكره ولم يمكنه من فكره وتمادى على أول أمره رجاء أن يبلغ ما أمل أو يدرك بعض ما تخيل فعمره ينقص وحرصه يزيد وجسمه يخلق وأمله جديد وحتفه قريب ومطلبه بعيد
يحرص حرص مقيم ويسير إلى الآخرة سير مجد كأن الدنيا حق اليقين والآخرة ظن من الظنون وفي مثل هذا قيل
( أتحرص يا ابن آدم حرص باق ... وأنت تمر ويحك كل حين )
( وتعمل طول دهرك في ظنون ... وأنت من المنون على يقين )
وهذا إذا ذكر الموت أو ذكر به لم يخف أن يقطع عليه مهما من الأغراض قد كان حصله ولا عظيما من الآمال في نفسه قد كان أدركه لأنه لم يصل إليه ولا قدر عليه لكنه يخاف أن يقطعه في المستقبل عن بلوغ أمل يحدث به نفسه ويخدع به حسه وهو يرى فيه يومه كما قد رأى فيه أمسه
قد ملأ قلبه بتلك الأحاديث المشغلة والأماني المرذلة والوساوس المتلفة قد جعلها ديدنه ودينه وإيمانه ويقينه
وربما ضاق ذرعه بالدنيا وطال همه فيها من تعذر مراده عليه وقلة تأتيه له فتمنى الموت إذ ذاك ليستريح بزعمه وهذا من جهله بالموت وبما بعد الموت والذي يستريح بالموت غيره والذي يفرح به سواه إنما الفرح من وراء الصراط والراحة بعد المغفرة. أ هـ { العاقبة في ذكر الموت حـ 1 صـ 26 ـ 28}(18/401)
وقال ابن الجوزى :
مجلس في قوله تبارك وتعالى { كل نفس ذائقة الموت }
قيل لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة متنا وعزة الله فعند ذلك أيقن كل ذي عقل وروح أنه هالك
وأنشدوا
أيضحك من للموت فيه نصيب
وينعم عيشا إن ذا لعجيب
ويأكل والأيام تأكل عمره
وليس له جسم لذاك يذوب
ومن عرف الرحمن لم يهن قلبه
نعيم ولم ينفك عنه نحيب
بعدت عن الورد الرضي بزلة
وبي قطعت دون الوصول ذنوب
قال الله تعالى { كل نفس ذائقة الموت } آل عمران 185 يموت كل صغير وكبير يموت كل أمير ووزير يموت كل عزيز وحقير يموت كل غني وفقير يموت كل نبي وولي يموت كل نجي وتقي يموت كل زاهد وعابد يموت كل مقر وجاحد يموت كل صحيح وسقيم يموت كل مريض وسليم كل نفس تموت غير ذي العزة والجبروت
وأنشدوا
ألا كل مولود فللموت يولد
ولست أرى حيا عليها يخلد
تجرد من الدنيا فإنك إنما
خرجت من الدنيا وأنت مجرد
وأنت وإن خولت مالا وكثرة
فإنك في الدنيا على ذاك أوحد
وأفضل شيء نلت منها فإنه
متاع قليل يضمحل وينفد
فكم من عزيز أعقب الذل عزه
فأصبح مذموما وقد كان يحمد
} فلا تحمد الدنيا ولكن فذمها
وما بال شيء ذمه الله يحمد
49 ذكر الموت
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال أكثروا ذكر هازم اللذات ومفرق الجماعات
وتوسدوه إذا نمتم واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم واعمروا به مجالسكم فإنه معقود بنواصيكم يعني بما وكل به منكم ويفسد نعيمكم ويخرب مصانعكم ويفنيكم كما أفنى من كان قبلكم فلا تنسوه فإنه لا ينساكم ولا تغفلوا عنه فإنه ليس بغافل عنكم
وأنشدوا
يا جار أحبابه شهورا
وجار أمواته دهورا
ليس سرورا يعود حزنا
إذا تأملته سرورا
وروي عن عيسى عليه السلام أنه قال ما من مولود يولد إلا وفي سرته من تراب الأرض التي يموت فيها
وأنشدوا
أمر على المقابر كل حين
ولا أدري بأي الأرض قبري(18/402)
وأفرح بالغني إن زاد مالي
ولا ابكي على نقصان عمري
ما أحسن حال من ذكر الموت فعمل لخلاصه قبل الفوت وأشغل نفسه بخدمة مولاه وقدم من دنياه لأخراه ورغب في دار لا يزول نعيمها ولا يهان كريمها
وأنشدوا
الموت لا شك آت فاستعد له
إن اللبيب بذكر الموت مشغول
فكيف يلهو بعيش أو يلذ به
من التراب على عينيه مجعول
روي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا
50 حكاية عن الربيع
وقيل للربيع رحمه الله ألا تجلس معنا نتحدث فقال إن ذكر الموت إذا فارق قلبي ساعة فسد على قلبي
وأنشدوا
ما أغفل الناس عن وعيد
قربه الليل والنهار
والعار ما جرت المعاصي
وليس في النائبات عار
ويحك ما تصنع المنايا
تأتي فتخلى لها الديار
فلا قلوب لها عيون
ولا عيون لها اعتبار
عباد الله اسعوا في فكاك رقابكم وأجهدوا أنفسكم في خلاصها قبل أن تزهق فوالله ما بين أحدكم وبين الندم والعلم بأنه قد زلت به القدم إلا أن يحوم عقاب المنية عليه ويفوق سهامها إليه فإذا الندم لا ينفع وإذا العذر لا يصنع وإذا النصير لا يدفع وإذا الشفيع لا يشفع وإذا الذي فات لا يسترجع وإذا البائس المحابي به في النجاة لا يطمع
فكأني بك يا أخي وقد صرخ عليك النسوان وبكى عليك الأهل والإخوان وفقدك الولدان ونفخ لفرقتك الجيران ونادى عليك المنادي قد مات فلان بن فلان
ثم نقلت عن الأحباب وحملت إلى أرماس التراب وأضجعوك في محل ضنك قصير السمك مهول منظره كثير وعره مغشى بالوحشة
عرفته مهول الصريح مطبق الصفيح على غير مهاد ولا وداد ولا مقدمة زاد ولا استعداد
وأنشدوا
المرء يخدعه مناه
والدهر يسرع في بلاه
يا ذا الشبية لا تكن
ممن تعبده هواه
واعلم بأن المرء مرتهن
بما كسبت يداه
والناس في غفلاتهم
والموت دائرة رحاه
} الحمد لله الذي
يبقى ويهلك ما سواه. أ هـ {بستان الواعظين صـ 143 ـ 145}(18/403)
فصل
قال الفخر :
في قوله : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} سؤال : وهو أن الله تعالى يسمى بالنفس قال : {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} [ المائدة : 116 ] وأيضاً النفس والذات واحد فعلى هذا يدخل الجمادات تحت اسم النفس ، ويلزم على هذا عموم الموت في الجمادات ، وأيضاً قال تعالى : {فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله} [ الزمر : 68 ] وذلك يقتضي أن لا يموت الداخلون في هذا الاستثناء ، وهذا العموم يقتضي موت الكل ، وأيضاً يقتضي وقوع الموت لأهل الجنة ولأهل النار لأن كلهم نفوس.
وجوابه : أن المراد بالآية المكلفون الحاضرون في دار التكليف بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية : {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} فإن هذا المعنى لا يتأتى إلا فيهم ، وأيضا العام بعد التخصيص يبقى حجة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 101}
وقال الخازن :
فإن قلت الحور والولدان نفوس مخلوقة في الجنة لا تذوق الموت فما حكم لفظ كل في قوله كل نفس ذائقة الموت ؟ قلت لفظة كل لا تقتضي الشمول والإحاطة بدليل قوله تعالى وأوتيت من كل شي ولم تؤت ملك سليمان فتكون الآية من العام المخصوص ويحتمل أن يكون المراد بهم المكلفين بدليل سياق الآية. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 305}
فصل
قال الفخر :
زعمت الفلاسفة أن الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية ، وذلك لأن هذه الحياة الجسمانية لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية ، ثم إن الحرارة الغريزية تؤثر في تحليل الرطوبة الغريزية ، ولا تزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت ، فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة.(18/404)
قالوا وقوله : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} يدل على أن النفوس لا تموت بموت البدن ، لأنه جعل النفس ذائقة الموت ، والذائق لا بد وأن يكون باقيا حال حصول الذوق ، والمعنى أن كل نفس ذائقة موت البدن ، وهذا يدل على أن النفس غير البدن ، وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن ، وأيضا : لفظ النفس مختص بالأجسام ، وفيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختصة بالحياة الجسمانية ، فأما الأرواح المجردة فلا ، وقد جاء في الروايات ما هو خلاف ذلك ، فإنه روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [ الرحمن : 26 ] قالت الملائكة مات أهل الأرض ، ولما نزل قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} قالت الملائكة متنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 102}
فائدة
قال ابن الجوزى :
وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير ، وتزهيد في الدنيا ، وتنبيه على اغتنام الأجل. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 517}
فصل نفيس وجامع فى أحكام الموتى للإمام القرطبى
قال عليه الرحمة :
اعلم أن للموت أسباباً وأماراتٍ ؛ فمن علامات موت المؤمن عَرَقُ الجبين.
أخرجه النَّسائي من حديث بُريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المؤمن يموت بِعَرَق الجَبِين " وقد بيّناه في "التذكرة" فإذا احتُضِر لُقِن الشهادة ؛ لقوله عليه السلام : " لَقِنوا موتاكم لا إله إلا الله " لتكون آخر كلامه فيُختَم له بالشهادة ؛ ولا يعاد عليه منها لئلا يضجَر.
ويستحبّ قراءة "يسا" ذلك الوقت ؛ لقوله عليه السلام : " اقرءوا يس على موْتاكم " أخرجه أبو داود.(18/405)
وذكر الآجُرِّي في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ميتٌ يُقرأ عنده سورة يس إِلا هُوِّن عليه الموت " فإذا قُضي وتَبِع البصرُ الروح كما أخبر صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وارتفعت العبادات : وزال التكليف ، توجّهت على الأحياء أحكام ؛ منها تغميضُه ، وإعلامُ إخوانه الصُلحَاء بموته ؛ وكَرِهه قوم وقالوا : هو من النعى.
والأول أصحّ ، وقد بيّناه في غير هذا الموضع.
ومنها الأخذ في تجهيزه بالغسل والدّفن لِئَلا يُسرع إليه التغيرّ ؛ قال صلى الله عليه وسلم لقوم أخَّروا دفن ميتهم : " عّجلوا بدفن جيفتكم " وقال : " أسرعوا بالجنازة " الحديث ، وسيأتي.
الثالثة فأما غسله فهو سُنّة لجميع المسلمين حاشا الشَّهيد على ما تقدم.
وقيل : غسله واجب.
قاله القاضي عبد الوهاب.
والأول : مذهب الكتاب ، وعلى هذين القولين العلماءُ.
وسبب الخلاف قوله عليه السلام لأم عطية في غسلها ابنته زينب ، على مافي كتاب مسلم.
وقيل : هي أم كلثوم ، على ما في كتاب أبي داود : " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رَأَيْتُنّ ذلك " الحديث.
وهو الأصل عند العلماء في غسل الموتى.
فقيل : المراد بهذا الأمر بيانُ حكم الغسل فيكون واجبا.
وقيل : المقصود منه تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب.
قالوا ويدّل عليه قوله : "إن رَأَيْتُن ذلك" وهذا يقتضي إخراج ظاهر الأمر عن الوجوب ؛ لأنه فوّضه إلى نظرهن.
قيل لهم : هذا فيه بُعدٌ ؛ لأن ردّك "إن رأيتن " إلى الأمر ، ليس السابق إلى الفهم بل السابق رجوع هذا الشرط إلى أقرب مذكور ، وهو "أكثر من ذلك" أو إلى التخيير في الأعداد.
وعلى الجملة فلا خلاف في أن غسل الميت مشروع معمول به في الشريعة لا يُترك.
وصفته كصفة غسل الجنابة على ما هو معروف.(18/406)
ولا يجاوز السبع غسلات في غُسل الميت بإجماع ؛ على ما حكاه أبو عمر.
فإن خرج منه شيء بعد السبع غِسل الموضع وحده ، وحكمه ، وحكمه حكم الجُنب إذا أحدث بعد غسله.
فإذا فرغ من غسله كفّنه في ثيابه وهي :
والتكفين واجب عند عامة العلماء ، فإن كان له مال فمن رأس ماله عند عامّة العلماء ، إلا ما حكى عن طاوس أنه قال : من الثلث كان المال قليلا أو كثيرا.
فإن كان الميت ممن تلزم غيره نفقته في حياته من سيّد إن كان عبداً أو أب أو زوج أو ابن فعلى السيد باتفاق ، وعلى الزوج والأب والابن باختلاف.
ثم على بيت المال أو على جماعة المسلمين على الكفاية.
والذي يتعيّن منه بتعيين الفرض سَتْرُ العورة ؛ فإن كان فيه فضل غير أنه لا يعم جميع الجسد غطى رأسه ووجهه ؛ إكراما لوجهه وسترا لما يظهر من تغيّر محاسنه.
والأصل في هذا قصّة مُصعب بن عُمير ، فإنه ترك يوم أحد نَمِرة كان إذا غُطِّي رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غُطِّي رجلاه خرج رأسه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ضَعوها مما يلي رأسَه واجعلوا على رجليه من الإذخر " أخرج الحديث مسلم.
والوتر مستحب ؛ عند كافة العلماء في الكَفن ، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حَدّ.
والمستحب منه البياض ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفّنوا فيها موتاكم " أخرجه أبو داود.
وكُفّن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية من كُرْسُف.
والكفن في غير البياض جائز إلا أن يكون حريرا أو خَزَّا.
فإن تشاحّ الورثة في الكفن قضي عليهم في مثل لباسه في جُمعته وأعياده ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " إذا كَفّن أحدكُم أخاه فَلْيُحسِّن كفنه " أخرجه مسلم.
إلا أن يوصي بأقل من ذلك.
فإن أوصى بسَرفٍ قيل : يبطل الزائد.
وقيل : يكون في الثلث.(18/407)
والأول أصح ؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تُسْرِفُوا }.
وقال أبو بكر : إنه للمهلة.
فإذا فرغ من غسله وتكفينه ووُضع على سريره واحتمله الرجال على أعناقهم وهي :
فالحكم الإسراع في المشي ؛ لقوله عليه السلام : " أسرعوا بالجنازة فإن تَكُ صالحةً فخيرٌ تُقدِّمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشرّ تضعونه عن رقابكم " لا كما يفعله اليوم الجهّال في المشي رُويدا ، والوقوف بها المرّةَ بعد المرّة ، وقراءة القرآن بالألحان إلى ما لا يحل ولا يجوز حسب ما يفعله أهل الديار المصرية بموتاهم.
روى النَّسائي : أخبرنا محمد بن عبدالأعلى قال حدّثنا خالد قال أنبأنا عُيينة بن عبد الرحمن قال حدّثني أبي قال : شَهدت جنازة عبد الرحمن بن سَمُرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير ، فجعل رجال من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون : رُويدا رُويدا ، بارك الله فيكم! فكانوا يَدِبُونَ دبيبا ، حتى إذا كنا ببعض طريق المِرْبَد لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه على بغلة فلما رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسَّوْط فقال : خلوا! فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها لنكاد نرمُل بها رَمْلاً ، فانبسط القومُ.
وروى أبو ماجدة " عن ابن مسعود قال : سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة فقال : "دون الخبَبَ إن يكن خيرا يَعجّل إليه وإن يكن غير ذلك فبعداً لأهل النار" " الحديث.
قال أبو عمر : والذي عليه جماعة العلماء في ذلك الإسراع فوق السجيّة قليلا ، والعجلة أحبّ إليهم من الإبطاء.
و يكره الإسراع الذي يَشقّ على ضعَفة الناس ممن يتبعها.
وقال إبراهيم النَّخَعي : بَطِّئوا بها قليلا ولا تَدِبُّوا دبيب اليهود والنصارى.(18/408)
وقد تأوّل قوم الإسراع في حديث أبي هريرة تعجيل الدفن لا المشي ، وليس بشيء لما ذكرنا.
وبالله التوفيق.
وأما الصلاة عليه فهي واجبَة على الكفاية كالجهاد.
وهذا هو المشهور من مذاهب العلماء.
مالك وغيره.
" لقوله صلى الله عليه وسلم في النجاشي : "قوموا فصلّوا عليه" "
وقال أصْبغ : إنها سُنة.
ورُوي عن مالك.
وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان في "براءة".
وأمّا دفنه في التراب ودسه وسَتره فذلك واجب ؛ لقوله تعالى : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } [ المائدة : 31 ].
وهناك يذكر حكم بنيان القبر وما يستحب منه ، وكيفية جعل الميت فيه.
ويأتي في "الكهف" حكم بناء المسجد عليه ، إن شاء الله تعالى.
فهذه جملة من أحكام الموتى وما يجب لهم على الأحياء.
وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبّوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدّموا " أخرجه مسلم.
وفي سُنن النسَّائي عنها أيضاً قالت : ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالكٌ بسوء فقال : " لا تذكروا هَلْكاكم إلا بخير ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 289 ـ 301}. بتصرف يسير.
فائدة
قال الفخر :
قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} يدل على أن المقتول يسمى بالميت وإنما لا يسمى المذكى بالميت بسبب التخصيص بالعرف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 102}(18/409)
فوائد ولطائف لغوية
قال العلامة ابن الجوزى :
باب الموت
الموت حادث تزول معه الحياة والموتة الواحدة من الموت والموتان الموت أيضا يقال وقع في الإبل موتان شديد والموتة شبه الجنون يعتري الإنسان ومؤته - بالهمز أرض بها قتل جعفربن أبي طالب عليه السلام والموتان الأرض لم تحي بعد بزرع ولا إصلاح وكذلك الموات وذكر بعض المفسرين أن الموت في القرآن على سبعة أوجه - أحدها الموت نفسه ومنه قوله تعالى في آل عمران ( كل نفس ذائقة الموت ) وفي الزمر ( إنك ميت وإنهم ميتون ) وفي الجمعة ( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم )
والثاني النطفة ومنه قوله تعالى في البقرة ( وكنتم أمواتا فأحياكم ) وفي المؤمن ( ربنا أمتنا اثنتين ( وأحييتنا اثنتين ) فالموتة الأولى كونهم نطفا والثالث الضلال ومنه قوله تعالى في الأنعام ( أو من كان ميتا فأحييناه ) وفي النمل ( فإنك لا تسمع الموتى ) وفي الملائكة ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) والرابع الجدب ومنه قوله تعالى في الأعراف ( فسقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء ) وفي فاطر ( فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها ) وفي يس ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ) وفي الزخرف ( فأنشرنا به بلدة ميتا ) كل بلد ميت في القرآن فالمراد به الأرض المجدبة والخامسة الحرب ومنه قوله تعالى في آل عمران ( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ) والسادس الجماد - ومنه قوله تعالى في النحل ( أموات غير أحياء ) يعني الأوثان والسابع الكفر ومنه قوله تعالى في آل عمران ( وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ) فالميت ها هنا
الكافر وبعضهم يلحقه بقسم النطفة وقد ألحق بعضهم وجها ثامنا فقالوا والموت الطاعون ومنه قوله تعالى ( في البقرة ) ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ) وليس كما قال وإنما معناه حذر الموت بالطاعون لأنه كان قد نزل بهم وهذا قول ابن عباس. أ هـ {نزهة الأعين النواظر صـ 569 ـ 571}(18/410)
قوله تعالى : {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة}
فصل
قال الفخر :
بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم.
والسعادة بلا خوف الانقطاع ، وكذا القول في جانب العقاب فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة ، نعوذ بالله منه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 102}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } فأجْرُ المؤمن ثواب ، وأجر الكافر عقاب ، ولم يعتدّ بالنعمة والبلية في الدنيا أجراً وجزاء ؛ لأنها عرصةَ الفناء. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 302}
وقال الآلوسى
{ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } أي تعطون أجزية أعمالكم وافية تامة { يَوْمُ القيامة } أي وقت قيامكم من القبور ، فالقيامة مصدر والوحدة لقيامهم دفعة واحدة ، وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم من خير أو شر تصل إليهم قبل ذلك اليوم ، ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري والطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة مرفوعاً " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران "
، وقيل : النكتة في ذلك أنه قد يقع الجزاء ببعض الأعمال في الدنيا ، ولعل من ينكر عذاب القبر تتعين عنده هذه النكتة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 146}(18/411)
لطيفة
قال ابن عطية :
{ وإنما } حاصرة على التوفية التي هي على الكمال ، لأن من قضي له بالجنة فهو ما لم يدخلها غير موفى ، وخص تعالى ذكر " الأجور " لشرفها وإشارة مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، ولا محالة أن المعنى : أن يوم القيامة تقع توفية الأجور وتوفية العقاب. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 550}
قوله تعالى : {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ}
فصل
قال الفخر :
الزحزحة التنحية والإبعاد ، وهو تكرير الزح ، والزح هو الجذب بعجلة ، وهذا تنبيه على أن الإنسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار ، وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " الدنيا سجن المؤمن ".
واعلم أنه لا مقصود للإنسان وراء هذين الأمرين ، الخلاص عن العذاب ، والوصول إلى الثواب ، فبين تعالى أن من وصل إلى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " وقرأ قوله تعالى : {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فاز} وقال عليه الصلاة والسلام : " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 102 ـ 103}
وقال القرطبى :
{ وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } ظَفِر بما يرجو ، ونجا مما يخاف.(18/412)
وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سَرّه أن يُزَحزَح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيّته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويأتي إلى الناس الذي يُحب أن يُؤتى إليه " عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةِ فَقَدْ فَازَ } ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 302}
لطيفة
قال ابن عاشور :
وإنّما جُمع بين { زُحزح عن النار وأدخل الجنة } ، مع أنّ في الثاني غنية عن الأوّل ، للدلالة على أنّ دخول الجنة يشتمل على نعمتين عظيمتين : النجاة من النار ، ونعيم الجنّة.
ومعنى { فقد فاز } نال مبتغاه من الخير لأنّ ترتّب الفوز على دخول الجنّة والزحزحة عن النار معلوم فلا فائدة في ذكر الشرط إلاّ لهذا.
والعرب تعتمد في هذا على القرائن ، فقد يكون الجواب عين الشرط لبيان التحقّق ، نحو قول القائل : من عرفني فقد عرفني ، وقد يكون عينه بزيادة قيد نحو قوله تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } وقد يكون على معنى بلوغ أقصى غايات نوع الجواب والشرط كما في هذه الآية وقوله : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } على أحد وجهين ، وقول العرب : "مَنْ أدرك مَرْعَى الصَّمَّان فقَدْ أدرك" وجميع ما قرّر في الجواب يأتي مثله في الصفة ونحوها كقوله : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 201 ـ 202}(18/413)
قوله تعالى {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور}
قال الفخر :
الغرور مصدر من قولك : غررت فلاناً غروراً شبه الله الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور ، وعن سعيد بن جبير : أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة ، وأما من طلب الآخرة بها فإنها نعم المتاع ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 103}
وقال القرطبى :
{ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } أي تَغرّ المؤمنَ وتَخدَعُه فَيظُن طول البقاء وهي فانية.
والمتاع ما يُتمتع به وينتفع ؛ كالفأس والقِدْر والقَصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه ؛ قاله أكثر المفسرين.
قال الحسن : كخضرة النبات ، ولعب البنات لا حاصل له.
وقال قَتادة : هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها ؛ فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع.
ولقد أحسن من قال :
هي الدارُ دار الأذى والقَذَى . . .
ودارُ الفناء ودارُ الغِيرَ
فلو نلتَها بحذافيرها . . .
لمُتّ ولم تَقْض منها الوَطَرْ
أيَا مَن يؤمّل طولَ الخلود . . .
وطُولُ الخلود عليه ضَرَرْ
إذا أنت شِبْت وبان الشَباب . . .
فلا خير في العيش بعد الكِبَر
والغَرور ( بفتح الغين ) الشيطان ؛ يَغُر الناس بالتّمنية والمواعيد الكاذبة.
قال ابن عرفة : الغرور ما رأيتَ له ظاهراً تّحبه ، وفيه بَاطِن مكروه أو مجهول.
والشيطان غَرور ؛ لأنه يحمل على محاب النفس ، ووراء ذلك ما يسوء.
قال : ومن هذا بيع الغَرَر ، وهو ما كان له ظاهرُ بيع يَغُرّ وباطنٌ مجهول. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 302}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن فساد الدنيا من وجوه :
أولها : أنه لو حصل للإنسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره ، لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا ،(18/414)
وثانيها : أن الإنسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر ، ولكما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد ، فإن الإنسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك ، بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته ،
وثالثها : أن الإنسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات ، ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة علمت أن الدنيا متاع الغرور ، وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال : لين مسها قاتل سمها.
وقال بعضهم : الدنيا ظاهرها مطية السرور ، وباطنها مطية الشرور. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 103}
لطيفة
قال فى روح البيان :
قال بعض المشايخ :
العباد على قسمين فى أعمارهم فرب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده كأعمار بنى إسرائيل إذ كان الواحد منهم يعيش الألف ونحوها ولم يحصل على شىء مما تحصل لهذه الأمة مع قصر أعمارها ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده كعمر من فتح عليه من هذه الأمة فوصل إلى عناية الله بلمحة. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 168}
فصل
قال ابن كثير
يخبر تعالى إخبارًا عامًا يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخرًا كما كان أولا.(18/415)
وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإذا انقضت المدة وفَرَغَت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية -أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ؛ ولهذا قال : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز الأويسي، حدثنا علي بن أبي علي اللِّهْبِيّ عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبى طالب، رضي الله عنه، قال : لما تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسّه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } إن في الله عَزَاءً من كل مُصِيبة، وخَلَفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال جعفر بن محمد : فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال : أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر، عليه السلام (1).
وقوله : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } أي : من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة، فقد فاز كل الفوز.
___________
(1) ذكره السيوطي في الدر (2/399) وإسناده ضعيف ومتنه منكر.(18/416)
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا محمد بن عَمْرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَوْضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئم : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } (2).
__________
(2) ورواه أحمد في مسنده (2/438) والترمذي في السنن برقم (3292)، والحاكم في المستدرك (2/299) وقال : "على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة به. وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة وله شواهد من حديث سهل بن سعد في الصحيحين كما سيأتي، ومن حديث أنس بن مالك عند أحمد في المسند (3/141) انظر الكلام عليه موسعا في : السلسلة الصحيحة للألباني برقم (1978).
هذا حديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه (3) بدون هذه الزيادة، وقد رواه بدون
____________
(3) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6415)، ومسلم في صحيحه برقم (1881).
هذه الزيادة أبو حاتم، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن عمرو هذا. ورواه ابن مردويه [أيضا] من وجه آخر فقال :
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، أنبأنا حُمَيْد بن مسعدة، أنبأنا عمرو بن علي، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لموضع سَوط أحَدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها". قال : ثم تلا هذه الآية : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }
(18/417)
وتقدّم عند قوله تعالى : { وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ما رواه الإمام أحمد، عن وَكيع عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عَمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أحَبَّ أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة، فلتدركه مَنِيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ولْيَأْتِ إلى الناس ما يُحِبُّ أن يؤتى إليه" (4).
____________
(4) المسند (2/191)
وقوله : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } تصغيرًا لشأن الدنيا، وتحقيرًا لأمرها، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة، كما قال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى : 16، 17] [وقال تعالى : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ } [الرعد : 26] وقال تعالى : { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ] } [النحل : 96]. وقال تعالى : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [القصص : 60] وفي الحديث : "واللهِ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يَغْمِسُ أحدُكُم إصبعه في اليَمِّ، فلينظر بِمَ تَرْجِع إليه ؟ " (1).
وقال قتادة في قوله : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } هي متاع، هي متاع، متروكة، أوشكت -والله الذي لا إله إلا هو-أن تَضْمَحِلَّ عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 177 ـ 179}
________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (2858) والترمذي برقم (2323) وابن ماجة في السنن برقم (4108) من حديث المستورد ابن شداد رضي الله عنه.(18/418)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } مبتدأ وخبر ، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة العموم والإضافة.
والجمهور على " ذَائِقَةٌ المَوْتَ " بالتنوين والنَّصْب في " الْمَوْتِ " على الأصل.
وقرأ الأعمشُ بعدم التنوين ونَصْب " الْمَوْت " وذلك على حَذْف التنوين ؛ لالتقاء الساكنين وإرادته وهو كقول الشاعرِ : [ المتقارب ]
فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَبٍ... وَلاَ ذَاكِرَ اللهَ إلاَّ قَلِيلا
- بنصب الجلالة - وقراءة مَنْ قرأ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله } [ الإخلاص : 1 ، 2 ] - بحذف التنوين من " أحَدٌ " لالتقاء الساكنين.
[ ونقل ] أبو البقاء - فيها - قراءةً غريبةً ، وتخريجاً غريباً ، قال : " وتقرأ شاذاً - أيضاً - ذَائِقُهُ الْمَوْتُ على جعل الهاء ضمير " كل " على اللفظ ، وهو مبتدأ وخبرٌ ، وإذا صحت هذه قراءةٌ فتكون " كل " مبتدأ ، و" ذَائِقُهُ " خبر مقدَّم ، و" الْمَوْتُ " مبتدأ مؤخرٌ ، والجملة خبر " كُلّ " وأضيف " ذائق " إلى ضمير " كل " باعتبار لفظها ، ويكون هذا من باب القلب في الكلام ؛ لأن النفس هي التي تذوق الموت وليس الموت يذوقها ، وهنا جعل الموت هو الذي يذوق النفس ، قَلْباً للكلامِ ؛ لفهم المعنى ، كقولهم : عَرَضْتُ الناقة على الحوض ، ومنه قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار } [ الأحقاف : 34 ] وقولك : أدخلت القلنسوة في رأسي.
وقول الشَّاعرِ : [ البسيط ]
مِثْلُ القَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ... نَجْرَانَ ، أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجَرُ
الأصل : عرضت الحوض على الناقة ، ويوم تُعْرَض النار على الذين كفروا ، وأدخلت رأسي في القلنسوة ، وبلغت سوآتهم هَجَرَ ، فقلبت. وسيأتي خلافُ النّاسِ في القلب في موضعه إن شاء الله - تعالى - .(18/419)
وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا التأنيث في " ذائقة " إنما هو باعتبار معنى " كلٍّ " قال : " لأن كل نفس نفوس ، فلو ذكر على لفظ " كل " جاز ، يعني أنه لو قيل : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ } جاز ، وقد تَقَدَّمَ أول البقرة أنه يجب [ اعتبار ] لفظ ما يُضافُ إليه إذا كان نكرة ولا يجوز أن يعتبر " كل " وتحقيق هذه المسألةِ هناك.
قوله : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ } " ما " كافة لِـ " إن " عن العمل ، قال مكيٌّ : " ولا يحسبن أن تكون " ما " بمعنى الذي ، لأنه يلزم رفع " أجورُكم " ولم يقرأ به أحَدٌ ، ولأنه يصير التقدير : وأن الذي توفَّوْنَهُ أجوركم ، كقولك : إنّ الذي أكرمته عمرو ، وأيضاً فإنك تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء ".
يعني لو كانت " ما " موصولة لكانت اسم " إن " فيلزم - حينئذٍ - رفع " أجوركم " على أنه خبرها ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] ف " ما " - هنا - يجوز أن تكون بمعنى الذي ، أو مصدرية ، تقديره : إنَّ الذي صنعوه ، أو إن صُنْعَهم ، ولذلك رفع " كِيْدُ " ، خبرها. وقوله : وأيضاً فإنك تفرق... ، يعني أن " يَوْمَ الْقِيَامَة " متعلق بـ " تُوَفَّوْنَ " فهو من تمام الصلة - التي هي الفعل ومعموله - ولا يُخْبَر عن موصول إلا بعد تمام صلته ، وهذا وإن كان من الواضحات ، إلا أن فيه تنبيهاً على أصول العلم.
(18/420)
قوله : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار } أدغم أبو عمرو الحاء في العين ، قالوا : لطول الكلمة ، وتكرير الحاء ، دون قوله : { ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] وقوله : { المسيح عِيسَى } [ آل عمران : 45 ] ونُقِل عنه الإدغامُ مطلقاً ، وعدمه مطلقاً والنحويون يمنعون ذلك ، ولا يُجيزونه إلا بعد أن يقلبوا العين حاء ويُدْغِموا الحاء فيها ، قالوا : لأن الأقوى لا يُدْغَم في الأضْعَف ، وهذا عكس الإدغامِ ، أن تقلب فيه الأول للثاني إلا في مسألتين : إحداهما : هذه ، والثانية : الحاء في الهاء ، نحو : امدح حلالاً - بقلب الهاء حاء أيضاً - ولذلك طعن بعضهم على قراءةِ أبي عمرو ، ولا يُلْتَفَت إليه.. ومعنى الكلام ، { فَمَن زُحْزِحَ } أي : نُحِّي وأزيل عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
قوله : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } المتاع : ما يتَمَتَّع به ، وينتفع [ به الناسُ - [ كالقِدْرِ ] والقصعة - ثم يزول ولا يبقى قاله أكثرُ المفسّرين.
وقال الحَسَن : هو كخضرة النبات ، ولعب البنات ، ولا حاصل له.
وقال قتادة : هي متاع متروك : يوشك أن يضمحِلَّ ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله - تعالى - ما استطاع.
وقوله : " الْغُرور " يجوز أن يكون مصدراً من قولك : غَرَرْتَ فلاناً غُرُوراً ، شبه بالمتاع الذي يُدَلس به على المستام ، ويغر عليه حتى يشتريه ، ثم يظهر فَسَادُهُ لَهُ ، ومنه الحديث : " نهى عن بيع الغرر " ويجوز أن يكون جَمْعاً.
وقرأ عبد الله لفتح الغين وفسرها بالشيطان أن يكون فَعُولاً بمعنى مفعول ، أي : متاع الغُرُور ، أي : المخدوع : وأصل الغَرَر : الخدع.(18/421)
قال سعيدُ بن جُبَيْرٍ : هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة ، وأما مَنْ طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 97 ـ 100}. بتصرف.
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وتضمنت هذه الآيات التجنيس المغاير في قوله : الذين قالوا : والمماثل في : قالوا ، وسنكتب ما قالوا ، وفي : كذبوك فقد كذب.
والطباق في : فقير وأغنياء ، وفي : الموت والحياة ، وفي : زحزح عن النار وأدخل الجنة.
والالتفات في : سنكتب ونقول ، وفي : أجوركم ، إذ تقدمه كل نفس.
والتكرار في : لفظ الجلالة ، وفي البينات.
والاستعارة في : سنكتب على قول من لم يجعل الكتابة حقيقة ، وفي : قدّمت أيديكم ، وفي : تأكله النار ، وفي : ذوقوا وذائقة.
والمذهب الكلامي في فلم قتلتموهم.
والاختصاص في : أيديكم.
والإشارة في : ذلك ، والشرط المتجوز فيه.
والزيادة للتوكيد في : وبالزبر وبالكتاب في قراءة من قرأ كذلك.
والحذف في مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 140}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}
أي كأسُ الموت توضع على كفِّ كلِّ حيٍّ فمن تحلاَّها طيِّبَةً نفُسه أوْرَثَتْهُ سُكْرَ الوَجْد ، ومن تجرَّعَها على وجه التعبس ، وقع في وهْدَةِ الرّدِّ ، وَوُسِمَ بِكَيِّ الصَّدّ ، ثم يوم القيامة : فمن أُجِير من النار وصل إلى الراحة الكبرى ، ومن صُلِّيَ بالسعير وقع في المحنة الكبرى.
{ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلآَّ مَتَاعُ الغُرُورِ } : لأن ما هو آتِ فقريبٌ. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 302}.
تم الجزء الثامن عشر من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع عشر وأوله قوله تعالى
{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) }(18/422)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء التاسع عشر
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(19/3)
الجزء التاسع عشر
من الآية {186} من سورة آل عمران
وحتى الآية { 3 } من سورة النساء(19/4)
قوله تعالى { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما سلى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم لما بما لقي إخوانه من الرسل وبأنه لا بد من الانقلاب إليه ، فيفوز من كان من أهل حزبه ، ويشقى من والى أعداءه وذوي حزبه ؛ أعاد التسلية على وجه يشمل المؤمنين ، وساقها مساق الإخبار بحلول المصائب الكبار التي هي من شعائر الأخيار في دار الأكدار المعلية لهم في دار القرار فقال - مؤكداً لأن الواقف في الخدمة ينكر أن يصيبه معبوده بسوء ، هذا طبع البشر وإن تطبّع بخلافه ، وأفاد ذكره قبل وقوعه تهوينه بتوطين النفس عليه ، وأفاد بناؤه للمفعول أن المنكى البلاء لا كونه من جهة معينة - : {لتبلون} أي تعاملون معاملة المختبر لتبيين المؤمن من المنافق {في أموالكم} أي بأنواع الإنفاق {وأنفسكم} أي بالإصابة في الجهاد وغيره ، فكما نالكم ما نالكم من الأذى بإذني ليلحقنكم بعده من الأذى ما أمضيت به سنتي في خلص عبادي وذوي محبتي ، وكان إيلاء ذلك للآية التي فيها الإشارة إلى أن توفية الأجور للأعمال الصالحة مما ينيل الفوز مناسباً من حيث الترغيب في كل ما يكون سبباً لذلك من الصبر على ما يبتلي به سبحانه وتعالى من كل ما يأمر به من التكاليف ، أو يأذن فيه من المصائب ، وقدم المال لأنه - كما قيل - عديل الروح ، وربما هان على الإنسان الموت دون الفقر المؤدي إلى الذل بالشماتة والعار بما تقصر عنه يده بفقده من أفعال المكارم ، وما أحسن ذكر هذه الآية إثر قصة أحد التي وقع فيها القتل بسبب الإقبال على المال ، وكان ذكرها تعليلاً لبغضة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار.(19/5)
ولما كان يومها يوم بلاء وتمحيص ، وكان ربما أطمع في العافية بعده ، فتوطنت النفس على ذلك فاشتد انزعاجها بما يأتي من أمثاله ، وليس ذلك من أخلاق المشمرين أراد سبحانه وتعالى توطين النفوس على ما طبعت عليه الدار من الأثقال والآصار ، فأخبر أن البلاء لم ينقص به ، بل لا بد بعده من بلايا وسماع أذى من سائر الكفار ، ورغب في شعار المتقين : الصبر الذي قدمه في أول السورة ثم قبل قصة أحد ، وبناها عليه معلماً أنه مما يستحق أن يعزم عليه ولا يتردد فيه فقال : {ولتسمعن} أي بعد هذا اليوم {من الذين} ولما كان المراد تسوية العالم بالجاهل في الذم نزه المعلم عن الذكر فبنى للمفعول قوله : {أوتوا الكتاب} ولما كان إيتاؤهم له لم يستغرق الزمن الماضي أدخل الجار فقال : {من قبلكم} أي من اليهود والنصارى {ومن الذين أشركوا} أي من الأميين {أذى كثيراً} أي من الطعن في الدين وغيره بسبب هذه الوقعة أو غيرها {وإن تصبروا} أي تتخلقوا بالصبر على ذلك وغيره {وتتقوا} أي وتجعلوا بينكم وبين ما يسخط الله سبحانه وتعالى وقاية بأن تغضوا عن كثير من أجوبتهم اعتماداً على ردهم بالسيوف وإنزال الحتوف {فإن ذلك} أي الأمر العالي الرتبة {من عزم الأمور} أي الأشياء التي هي أهل لأن يعزم على فعلها ، ولا يتردد فيه ، ولا يعوق عنه عائق ، فقد ختمت قصة أحد بمثل ما سبقت دليلاً عليه من قوله : {قد بدت البغضاء من أفواههم} [ آل عمران : 118 ] إلى أن ختم بقوله : {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} [ آل عمران : 120 ] ما أخبر به هنا بأنه من عزم الأمور. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 193 ـ 194}(19/6)
وقال أبو السعود :
{ لَتُبْلَوُنَّ } شروعٌ في تسلية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وممن معه من المؤمنين عما سيلقَوْنه من جهة الكفرةِ من المكاره إثرَ تسليتِهم عما قد وقع منهم ليوطِّنوا أنفسَهم على احتماله عند وقوعِه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبرِ والثباتِ ، فإن هجومَ الأوجالِ مما يزلزل أقدامَ الرجالِ وللاستعدادِ للكروب مما يهوِّن الخطوبَ. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 123}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} [ آل عمران : 185 ] زاد في تسليته بهذه الآية ، فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد ، فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم ، من الايذاء بالنفس والايذاء بالمال ، والغرض من هذا الإعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع ، وذلك لأن الإنسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فإذا انزل البلاء عليه شق ذلك عليه ، أما إذا كان عالما بأنه سينزل ، فإذا نزل لم يعظم وقعه عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 103}
فائدة
قال القرطبى :
هذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأُمته والمعنى : لتُختبرنّ ولتُمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء بالإنفاق في سبيل الله وسائر تكاليف الشرع.
والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب.
وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 303}
فصل
قال الفخر :
{لَتُبْلَوُنَّ} لتختبرن ، ومعلوم أنه لا يجوز في وصف الله تعالى الاختبار لأنه طلب المعرفة ليعرف الجيد من الردىء ، ولكن معناه في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 104}(19/7)
وقال أبو السعود :
وأصلُ البلاء الاختبارُ أي تُطلب الخِبرةُ بحال المُختَبِر بتعريضه لأمر يشُقُّ عليه غالباً ملابستُه ومفارقتُه ، وذلك إنما يُتصورُ حقيقةً مما لا وقوفَ له على عواقب الأمورِ ، وأما من جهة العليم الخبيرِ فلا يكونُ إلا مجازاً من تمكينه للعبدِ من اختيار أحدِ الأمرين أو الأمورِ قبل أن يرتب عليه شيئاً هو من مباديه العاديةِ كما مر. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 123}
فائدة
قال الآلوسى
{ لَتُبْلَوُنَّ } جواب قسم محذوف أي والله لتختبرن ، والمراد لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأفعال الحسنة ولا يصح حمل الابتلاء على حقيقته لأنه محال على علام الغيوب كما مر ، والخطاب للمؤمنين أو لهم معه صلى الله عليه وسلم ، وإنما أخبرهم سبحانه بما سيقع ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبر والثبات فإن هجوم البلاء مما يزيد في اللأواء والاستعداد للكرب مما يهون الخطب ولتحقيق معنى الابتلاء لهذا التهوين أتى بالتأكيد ، وقد يقال : أتى به لتحقيق وقوع المبتلى به مبالغة في الحث على ما أريد منهم من التهيؤ والاستعداد ، وعلى أي وجه فالجملة مسوقة لتسلية أولياء الله تعالى عما سيلقونه من جهة أعدائه سبحانه إثر تسليتهم عما وقع منهم ، وقيل : إنما سيقت لبيان أن الدنيا دار محنة وابتلاء ، وأنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا إثر بيان أنها متاع الغرور ، ولعل الأول أولى كما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 147}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في معنى هذا الابتلاء فقال بعضهم : المراد ما ينالهم من الشدة والفقر وما ينالهم من القتل والجرح والهزيمة من جهة الكفار ، ومن حيث ألزموا الصبر في الجهاد.(19/8)
وقال الحسن : المراد به التكاليف الشديدة المتعلقة بالبدن والمال ، وهي الصلاة والزكاة والجهاد.
قال القاضي : والظاهر يحتمل كل واحد من الأمرين فلا يمتنع حمله عليهما. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 104}
فصل
قال البغوى :
{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } الآية قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج : نزلت الآية في أبي بكر وفنحاص بن عازوراء. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص بن عازوراء سيد بني قينقاع ليستمدّه ، وكتب إليه كتابًا وقال لأبي بكر رضي الله عنه "لا تفتاتَنَّ عليّ بشيء حتى ترجع" فجاء أبو بكر رضي الله عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال : قد احتاج ربُّك إلى أن نمده ، فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تفتاتَنَّ علي بشيء حتى ترجع" فكف فنزلت هذه الآية.
وقال الزهري : نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ويسبُّ المسلمين ، ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ويشبب بنساء المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله" ؟ .
فقال محمد بن مسلمة الأنصاري : أنا لك يا رسول الله ، أنا أقتله قال : "فافعل إن قدرت على ذلك".
فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثًا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق نفسه ، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه وقال له : لم تركتَ الطعامَ والشرابَ ؟ قال : يا رسول الله قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا فقال : إنما عليك الجهد.(19/9)
فقال : يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول قال : قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك ، فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسَلْكانُ بن سلام وأبو نائلة ، وكان أخا كعب من الرضاعة ، وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبو عيسى بن جُبير فمشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجّههم ، وقال : "انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم" ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في ليلة مقمرة.
فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدّموا أبا نائلة فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدا الشعر ، وكان أبو نائلة يقول الشعر ، ثم قال : ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكْتُمْ عليّ قال أفعل قال : كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاءً عادتنا العربُ ورمونا عن قوس واحدة ، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس ، فقال كعب : أنا ابن الأشرف أمَا والله لقد كنت أخبرتك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا ، فقال أبو نائلة : إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا طعامَك ونرهنك ونوثّق لك وتحسن في ذلك قال : أترهنوني أبناءكم قال : إنا نستحي إن يعير أبناؤنا فيقال هذا رهينةُ وَسْقٍ وهذا رهينة وسْقَينْ قال : ترهنوني نساءكم قالوا : كيف نرهُنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك وأية امرأة تمتنع منك لجمالك ؟ ولكنا نرهنك الحلقة يعني : السلاح وقد علمت حاجتنا إلى السلاح ، قال : نعم وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا رآه فوعده أن يأتيه فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره.
(19/10)
فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ليلا فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس ، فوثب من ملحفته فقالت امرأته : أسمع صوتا يقطر منه الدم ، وإنك رجل محارب وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة فكلِّمْهم من فوق الحصن فقال : إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة وإن هؤلاء لو وجدوني نائمًا ما أيقظوني ، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب ، فنزل إليهم فتحدث معهم ساعة ثم قالوا : يا بن الأشرف هل لك إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز نتحدث فيه بقية ليلتنا هذه ؟ قال : إن شئتم ؟ فخرجوا يتماشون وكان أبو نائلة قال : لأصحابه إني فاتل شعره فأشّمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه ، ثم إنه شامَ يدَه في فودِ رأسه ثم شَمَّ يدَه فقال : ما رأيت كالليلة طيبَ عروس قط ، قال : إنه طيب أم فلان يعني امرأته ، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة فعاد لمثلها ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال : اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحةً لم يبق حولَنَا حصن إلا أوقدت عليه نار ، قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله ، وقد أُصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا ، فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث ونزفه الدم ، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارَنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه وتفل على جُرح صاحبنا.
(19/11)
فرجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود وقعتنا بعدو الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه" فوثب مُحَيَّصَةُ بن مسعود على سُنَيْنَة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حُوَيِّصَة بن مسعود إذْ ذَاك لم يُسْلم وكان أسنَّ من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول : أيْ عدو الله قتلته أما والله لرُبّ شحم في بطنك من ماله.
قال محيصة : والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك ، قال : لو أمركَ محمد بقتلي لقتلتني ؟ قال : نعم قال والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب ؟ ! فأسلم حويصة وأنزل الله تعالى في شأن كعب : { لَتُبْلَوُنّ }. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 146 ـ 148}
فائدة
قال الآلوسى
{ فِى أموالكم } بالفرائض فيها والجوائح ، واقتصر بعض على الثاني مدعياً أن الأول الممثل في كلامهم بالإنفاق المأمور به في سبيل الله تعالى ، والزكاة لا يليق نظمه في سلك الابتلاء لما أنه من باب الإضعاف لا من قبيل الإتلاف ، وفيه نظر تقدم في البقرة الإشارة إليه ، وعن الحسن الاقتصار على الأول.
والأولى القول بالعموم { وَ } في { أَنفُسَكُمْ } بالقتل والجراح والأسر والأمراض وفقد الأقارب وسائر ما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد ، وقدم الأموال على الأنفس للترقي إلى الأشرف.
أو لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 147}
فصل
قال الفخر :
قوله تعالى {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً}(19/12)
فصل
قال الفخر :
المراد منه أنواع الإيذاء الحاصلة من اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين ، وذلك لأنهم كانوا يقولون عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وكانوا يطعنون في الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما يقدرون عليه ، ولقد هجاه كعب بن الأشرف ، وكانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما المشركون فهم كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ويجمعون العساكر على محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ويثبطون المسلمين عن نصرته ، فيجب أن يكون الكلام محمولا على الكل إذ ليس حمله على البعض أولى من حمله على الثاني. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 104}
وقال الآلوسى :
{ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أي من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى.
والتعبير عنهم بذلك إما للإشعار بمدار الشقاق والإيذان بأن ( بعض ) ما يسمعونه منهم مستند على زعمهم إلى الكتاب.
وإما للإشارة إلى عظم صدور ذلك المسموع منهم.
وشدة وقعه على الأسماع حيث إنه كلام صدر ممن لا يتوقع صدوره منه لوجود زاجر عنه معه وهو إيتاؤه الكتاب كما قيل : والتصريح بالقبلية إما لتأكيد الإشعار وتقوية المدار وإما للمبالغة في أمر الزاجر عن صدور ذلك المسموع من أولئك المسمعين { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } وهم كفار العرب { أَذًى كَثِيراً } كالطعن في الدين وتخطئة من آمن والافتراء على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والتشبيب بنساء المؤمنين. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 147}
فصل
قال القرطبى :
وكان صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان بها اليهود والمشركون ، فكان هو وأصحابه يسمعون أذًى كثيراً.(19/13)
وفي الصحيحين أنه عليه السلام مرّ بابن أُبَيّ وهو عليه السلام على حمار فدعاه إلى الله تعالى فقال ابن أُبَيّ : إن كان ما تقول حقّاً فلا تؤذنَا به في مجالسنا! ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه.
وقبض على أنفه لئلا يصيبه غبار الحمار ، فقال ابن رَوَاحة نعم يا رسول الله ، فاغْشنَا في مجالسنا فإنا نحبّ ذلك.
واستب المشركون الذين كانوا حول ابن أُبَيّ والمسلمون ، وما زال النبيّ صلى الله عليه وسلم يسكّنهم حتى سَكنوا.
ثم دخل على سعد بن عُبادة يعوده وهو مريض ، فقال : "ألم تسمع ما قال فلان" فقال سعد : أعف عنه واصفح ، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نَزل ، وقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرة على أن يتوِّجوه ويعصبوه بالعصابة ؛ فلما ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكَهُ شَرِقَ به ، فذلك فعل به ما رأيت.
فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت هذه الآية.
قيل : هذا كان قبل نزول القتال ، ونَدَب الله عبادَه إلى الصبر والتقوى وأخبر أنه من عزم الأمور.
وكذا في البخاريّ في سياق الحديث ، أن ذلك كان قبل نزول القتال.
والأظهر أنه ليس بمنسوخ ؛ فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبداً مندوب إليها ، وكان عليه السلام مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويُدَاريهم ، ويصفح عن المنافقين ، وهذا بيِّن. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 303 ـ 304}
قوله تعالى {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور}(19/14)
فصل
قال الفخر :
قال المفسرون : بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى فنحاص اليهودي يستمده ، فقال فنحاص قد احتاج ربك إلى أن نمده ، فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه : لا تغلبن على شيء حتى ترجع إلي ، فتذكر أبو بكر رضي الله عنه ذلك وكف عن الضرب ونزلت هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 104}
فصل
قال الفخر :
للآية تأويلان :
الأول : أن المراد منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال ، والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة ، وإنما أوجب الله تعالى ذلك لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين ، كما قال : {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [ طه : 44 ] وقال : {قُل لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [ الجاثية : 14 ] والمراد بهذا الغفران الصبر وترك الانتقام وقال تعالى : {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً} [ الفرقان : 72 ] وقال : {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [ الأحقاف : 35 ] وقال : {ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} [ فصلت : 34 ] قال الواحدي رحمه الله : كان هذا قبل نزول آية السيف.
قال القفال رحمه الله : الذي عندي أن هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقيب قصة أحد ، والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول صلى الله عليه وسلم على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم ، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال.
والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه ، واعلم أن قول الواحدي ضعيف ، والقول ما قاله القفَّال.(19/15)
الوجه الثاني في التأويل : أن يكون المراد من الصبر والتقوى : الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والانكار عليهم ، فأمروا بالصبر على مشاق الجهاد ، والجري على نهج أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الإنكار على اليهود والاتقاء عن المداهنة مع الكفار ، والسكوت عن إظهار الإنكار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 104 ـ 105}
قال الآلوسى :
{ وَإن تَصْبِرُواْ } على تلك الشدائد عند ورودها { وَتَتَّقُواْ } أي تتمسكوا بتقوى الله تعالى وطاعته والتبتل إليه بالكلية والإعراض عما سواه بالمرة بحيث يستوي عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه { فَإِنَّ ذلك } إشارة إلى المذكور ضمناً من الصبر والتقوى.
وما فيه من معنى البعد إما لكونه غير مذكور صريحاً على ما قيل ، أو للإيذان بعلو درجة هذين الأمرين وبعد منزلتهما.
وتوحيد حرف الخطاب إما باعتبار كل واحد من المخاطبين اعتناءاً بشأن المخاطب به ، وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير ( ملاحظة ) خصوصية أحوال المخاطبين. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 148}
فصل
قال الفخر :
الصبر عبارة عن احتمال المكروه ، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى ، لأن الإنسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي ، وفيه وجه آخر : وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الاساءة بالاساءة تفضي إلى ازدياد الإساءة ، فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا ، وأمر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة ، فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 105}(19/16)
قوله تعالى {مِنْ عَزْمِ الأمور}
قال الفخر :
قوله : {مِنْ عَزْمِ الأمور} أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه ، وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه ، فتأخذ نفسه لا محالة به ، والعزم كأنه من جملة الحزم وأصله من قول الرجل : عزمت عليك أن تفعل كذا ، أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه ، فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفاً بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه ، ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون معناه : فإن ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 105}
وقال الآلوسى :
{ مِنْ عَزْمِ الأمور } أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف والعز ، أو مما عزمه(19/17)
الله تعالى وأوجبه على عباده ، وعلى كلا التقديرين فالعزم مصدر بمعنى المعزوم وهو مأخوذ من قولهم عزمت الأمر كما نقله الراغب والأشهر عزمت على الأمر ، ودعوى أنه لم يسمع سواه غير مسموعة كدعوى عدم صحة نسبة العزم إليه تعالى لأنه توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله وهو محال عليه تعالى ، ومما يؤيد صحة النسبة أنه قرىء { فَإِذَا عَزَمْتَ } [ آل عمران : 159 ] بضم التاء وهو حينئذٍ بمعنى الإرادة والإيجاب ، ومنه قول أم عطية رضي الله تعالى عنها : "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا" وما في حديث آخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة ، وقولهم : عزمات الله تعالى كما نقله الأزهري ومن هذا الباب قول الفقهاء : ترك الصلاة زمن الحيض عزيمة ، والجملة تعليل لجواب ( الشرط ) ( 1 ) واقع موقعه كأنه قيل : وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم أو فقد أحسنتم أو نحوهما فإن ذلك الخ ، وجوز أن يكون { ذلك } إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فحينئذٍ تكون الجملة بنفسها جواب الشرط ، وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى ، وزعم بعضهم أن هذا الأمر الذي أشارت إليه الآية كان قبل نزول آية القتال وبنزولها نسخ ذلك ، وصحح عدم النسخ وأن الأمر بما ذكر كان من باب المداراة التي لا تنافي الأمر بالقتال ، وسبب نزول هذه الآية في قول ما تقدمت الإشارة إليه ، وأخرج الواحدي عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وسار يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ(19/18)
وذلك قبل أن يسلم عبد الله فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشي المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال : لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله تعالى ، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبيّ : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ، وقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له : يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبيّ قال : كذا وكذا فقال سعد : يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله تعالى بالحق الذي نزل عليك ، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله تعالى ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق فغص بذلك فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 148}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
ذكر في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين سيبتلون في أموالهم وأنفسهم ، وسيسمعون الأذى الكثير من أهل الكتاب والمشركين ، وأنهم إن صبروا على ذلك البلاء والأذى واتقوا الله ، فإن صبرهم وتقاهم من عزم الأمور ، أي من الأمور التي ينبغي العزم والتصميم عليها لوجوبها.(19/19)
وقد بين في موضع آخر أن من جملة هذا البلاء : الخوف والجوع وأن البلاء في الأنفس والأموال هو النقص فيها ، وأوضح فيه نتيجة الصبر المشار إليها هنا بقوله : { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } وذلك الموضع هو قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون } [ البقرة : 155-157 ] وبقوله : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] ويدخل في قوله : { وَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ } الصبر عند الصدمة الأولى ، بل فسره بخصوص ذلك بعض العلماء ، ويدل على دخوله فيه قوله قبله : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ التغابن : 11 ].
وبين في موضع آخر : أن خصلة الصبر لا يعطاها إلا صاحب حظ عظيم وبخت كبير ، وهو قوله : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 35 ] وبين في موضع آخر : أن جزاء الصبر لا حساب له ، وهو قوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب } [ الزمر : 10 ]. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 259}(19/20)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { لَتُبْلَوُنَّ } هذا جوابُ قَسَم محذوف ، تقديره : والله لَتُبْلَوُنّ ، وهذه الواو هي واو الضمير ، والواو التي هي لام الكلمة حُذَفَتْ لأمر تصريفيِّ ، وذلك أن أصله : لَتُبْلَوُّنَنَّ ، فالنون الأولى للرفع ، حُذِفَتْ لأجل نونِ التوكيد ، وتحرَّكت الواوُ [ الأولى ] - التي هي لامُ الكلمةِ - وانفتح ما قبلَهَا فقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى ساكنان - الألف وواو الضمير - فحُذَفَتْ الألف ؛ لئلا يلتقيا ، وضُمَّتْ الواو ؛ دلالةً على المحذوف.
وإنْ شئتَ قلت : استُقْبِلَتْ الضمةُ على الواو الأولى ، فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الواوُ الأولى وحُرِّكت الثانية بحركة مجانسةٍ ، دلالةً على المحذوف. ولا يجوز قَلْبُ مثل هذه الواوِ همزةً ؛ [ لأن حركتها عارضةٌ ] ولذلك لم [ تُقلَب ] ألِفاً ، وإن تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلَها.
ويقال للواحدِ من المذكَّر : لتُبْلَوَنَّ يا رجلُ وللاثنين : لتبليانِّ يا رجلانِ ، ولجماعة الرجال : لتبلوُنَّ. وأصل " لَتسْمعنَّ " : لَتَسْمَعُونَنَّ ، ففعل فيه ما تقدم ، إلا أن هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير ؛ لأن قَبْلَهَا حَرْفاً صحيحاً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 100}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
{ لَتُبْلَوُنّ َ}
استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ وأنصار الرسل من البلوى ، وتنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ ، وأكّد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء ، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة.(19/21)
فأصل { لتبلونّ } لتبلووننّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان : واو الرفع ونون التوكيد الشديدة ، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلاً في الكلمة فصار لتبْلَوُنّ.
وكذلك القول في تصريف قوله تعالى : { ولتسمعنّ } وفي توكيده.
والابتلاء : الاختبار ، ويراد به هنا لازمه وهو المصيبة ، لأنّ في المصائب اختباراً لمقدار الثبات.
والابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد ، وتلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة.
والابتلاء في الأنفس هو القتل والجراح.
وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أُحُد وبعده.
والأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] كما تقدّم آنفاً ، ولذلك وصفه هنا بالكثير ، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالباً ، وكلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل ، فأمَرَهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر ، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده ، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد ، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب والسلم ، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف ، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أُحُد ، وهي بعد الأمر بالقتال.
قاله القفّال.
وقوله : { فإن ذلك } الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر والتقوى بتأويل : فإنّ المذكور.
و ( عزم الأمور ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العَزم ، ووصفَ الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة ، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي من الأمور المعزوم عليها.
والعزم إمضاء الرأي وعدم التردّد بعد تبيين السداد.(19/22)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى:"وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور" وفى سورة لقمان:"واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" بغير لام فى خبر إن فى الآيتين وفى سورة الشورى:"ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور" فزيد فى هذه الآية اللام المذكورة فى الخبر فقيل:"لمن عزم الأمور" فللسائل أن يسأل عن الفرق.(19/23)
والجواب والله أعلم اختلاف ما وقع الحض على الصبر عليه فى هذه الآيات وأشير اليه بذلك وأنه من عزم الأمور أما الأولى فإن قبلها:"لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا" فوقع الأخبار بالابتلاء فى الأموال والأنفس وسماع الأذى ممن ذكر فعرفوا بثلاث ضروب وأمروا بالصبر عليها وهو أربعة أشياء بالتفت التفصيل فى المسموع منه الأذى واعلموا أن الصبر عليها من عزم الأمور وأما آية لقمان فأشير فيها بذلك إلى أربع خصال أمر بها لقمان لبنه وذلك قوله:"يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك" وأتبعت بقوله تعالى:"إن ذلك من عزم الأمور" والأربعة فى الآيتين من العدد القليل وأما آية الشورى فالاشارة فيها بقوله"إن ذلك" إلى اثنى عشر مطلوبا من لدن قوله تعالى:"فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا" وهذه اشارة إلى التنزه عن ذلك ثم قيل للذين آمنوا:"وعلى ربهم يتوكلون" فالاشارة إلى الايمان والتوكل والتزام ذلك ثم قال تعالى:"والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون" فهذه التزامات ثلاثة ثم قال:"والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون" فهذه التزامات أربع ثم قال:"والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون" فأشار إلى أن هؤلاء لا يظلمون أحدا وان أقصى ما يقع منهم الانتصار ممن يظلمهم وذلك مباح لهم غير قبيح وقد قيل بقوله بعد:"وجزاء سيئة سيئة مثلها" ثم عرف بحال أجل من ذلك وأعلى عملا فقال:"فمن عفا وأصلح فأجره على الله" وأعلم مع علو هذا الملتزم أن المنتصر من ظلمه ما عليه من سبيل وإنما السبيل إنما هو على ظالمى الناس والباغين، وبعد هذه الخصال النيفة على العشر قال تعالى فى التزام جميعها:"إن ذلك لمن عزم الأمور"(19/24)
فناسب كثرة هذه الخصال الجليلة زيادة اللام المؤكدة فى قوله"إن ذلك لمن عزم الأمور" ولم يكن فى الآيتين
قبلها كثرة فناسبها عدم زيادة اللام على أن ما ختمت به آية الشورى من قوله:"فمن عفا وأصلح فأجره على الله" وهى الخصلة الشاهدة بكمال الإيمان للمتصف بها فلو لم يكن قبل قوله:"إن ذلك لمن عزم الأمور" غيرها لكانت بمعناها أعم من الخصال المذكورة فى آية آل عمران إذ تلك الخصال داخلة تحت هذه الخصلة الجليلة ومن منطوياتها فناسب ذلك أتم المناسبة ولم يكن العكس ليناسب والله سبحانه أعلم. أ هـ {ملاك التأويل حـ 1 صـ 128 ـ 129}(19/25)
قال تعالى : { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] والمراد هنا العزم في الخيرات ، قال تعالى : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وقال : { ولم نجد له عزما } [ طه : 115 ].
ووقع قوله : { فإن ذلك من عزم الأمور } دليلاً على جواب الشرط ، والتقدير : وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 302 ـ 303}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}
كفاهم أكثر أسباب الضر بما أخبرهم عن حلولها بهم قبل الهجوم ، وعرّفهم أن خير الأمْرَيْن لهم إيثار الصبر واختيار السكون تحت مجاري الأقدار. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 302}(19/26)
قوله تعالى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما قدم سبحانه وتعالى في أوائل قصص اليهود أنه أخذ على النبيين الميثاق بما أخذ ، وأخبرهم أنه من تولى بعد ذلك فهو الفاسق ، ثم أخبر بقوله : {قد جائكم رسل من قبلي} [ آل عمران : 183 ] {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك} [ آل عمران : 184 ] أن النبيين وفوا بالعهد ، وأن كثيراً من أتباعهم خان ؛ ثنى هنا بالتذكير بذلك العهد على وجه يشمل العلماء بعد الإخبار بسماع الأذى المتضمن لنقضهم للعهد ، فكان التذكير بهذا الميثاق كالدليل على مضمون الآية التي قبلها ، وكأنه قيل : فاذكروا قولي لكم {لتبلون} واجعلوه نصب أعينكم لتوطنوا أنفسكم عليه ، فلا يشتد جزعكم بحلول ما يحل منه {و} اذكروا {إذ أخذ الله} الذي لا عظيم إلا هو {ميثاق الذين }.
ولما كانت الخيانة من العالم أشنع ، وكان ذكر العلم دون تعيين المعلم كافياً في ذلك بنى للمجهول قوله : {أوتوا الكتاب} أي في البيان ، فخافوا فما آذوا إلا أنفسهم ، وإذا آذوا أنفسهم بخيانة عهد الله سبحانه وتعالى كانوا في أذاكم اشد وإليه أسرع ، أو يكون التقدير : واذكروا ما أخبرتكم به عند ما أنزله بكم ، واصبروا لتفوزوا ، واذكروا إذ اخذ الله ميثاق من قبلكم فضيعوه كيلا تفعلوا فعلهم ، فيحل بكم ما حل بهم من الذل والصغار في الدنيا مع ما يدخر في الآخرة من عذاب النار.(19/27)
هذا ما كان ظهر لي أولاً ، ثم بان أن الذي لا معدل عنه أنه لما انقضت قصة أحد وما تبعها إلى أن ختمت بعد الوعظ بتحتم الموت الذي فر من فر منهم منه وخوّف الباقين أمره بمثل ما تقدم أن جعلها دليلاً عليه من بغض أهل الكتاب وما تبعه ؛ عطف على " إذا " المقدرة لعطف {وإذ غدوت} [ آل عمران : 121 ] عليها - قوله : {وإذ أخذ الله} أي اذكروا ذلك يدلكم على عداوتهم ، واذكروا ما صح عندكم من إخبار الله تعالى المشاهد بإخبار من أسلم من الأحبار والقسيسين أن الله أخذ {ميثاق الذين أوتوا الكتاب} أي من اليهود والنصارى بما أكد في كتبه وعلى ألسنة رسله : {ليبيننه} أي الكتاب {للناس ولا يكتمونه} أي نصيحة منهم لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المؤمنين وعامتهم ليؤمنوا بالنبي المبشر به {فنبذوه} أي الميثاق بنبذ الكتاب {ورآء ظهورهم} حسداً لكم وبغضاً ، وهو تمثيل لتركهم العمل به ، لأن من ترك شيئاً وراءه نسيه {واشتروا به} ولما كان الثمن الذي اشتروه خسارة لا ربح فيه أصلاً على العكس مما بذلوه على أنه ثمن ، وكان الثمن إذا نض زالت مظنة الربح منه عبر عنه بقوله : {ثمناً} وزاد في بيان سفههم بقوله : {قليلاً} أي بالاستكثار من المال والاستئمار للرئاسة ، قكتموا ما عندهم من العلم بهذا النبي الكريم {فبئس ما يشترون} أي لأنه مع فنائه أورثهم العار الدائم والنار الباقية ، وعبر عن هذا الأخذ بالشراء إعلاماً بلجاجهم فيه ، ونبه بصيغة الافتعال على مبالغتهم في اللجاج. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 194 ـ 195}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن في كيفية النظم وجهين :(19/28)
الأول : أنه تعالى لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وأجاب عنه أتبعه بهذه الآية ، وذلك لأنه تعالى أوجب عليهم في التوراة والإنجيل على أمة موسى وعيسى عليهما السلام ، أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على صحة دينه وصدق نبوته ورسالته ، والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل : كيف يليق بكم إيراد الطعن في نبوته ودينه مع أن كتبكم ناطقة ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوته ودينه.
الثاني : أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد صلى الله عليه وسلم احتمال الأذى من أهل الكتاب ، وكان من جملة ايذائهم للرسول صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوته ، فكانوا يحرفونها ويذكرون لها تأويلات فاسدة ، فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 105}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } هذا متّصل بذكر اليهود ؛ فإنهم أمِروا بالإيمان بمحمد عليه السلام وبيانِ أمره ، فكتموا نعته.
فالآية توبيخ لهم ، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم.
قال الحسن وقتادة : هي في كل من أُوتي عِلم شيء من الكتاب.
فمن عَلم شيئاً فليُعلِّمه ، وإيّاكم وكتمانَ العلم فإنه هَلكة.
وقال محمد بن كعب : لا يحلّ لعالم أن يسكت على علمه ، ولا للجاهل أن يسكت على جهله ؛ قال الله تعالى { وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } الآية.
وقال : { فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ].
وقال أبو هريرة : لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدّثتكم بشيء ؛ ثم تلا هذه الآية { وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب }.(19/29)
وقال الحسن بن عمارة : أتيت الزُّهرِي بعد ما ترك الحديث ، فألفيتُه على بابه فقلت : إن رأيتَ أن تحدثني.
فقال : أمَا علمتَ أني تركتُ الحديث ؟ فقلت : إمّا أن تُحدّثني وإمّا أن أُحدّثك.
قال حدّثني.
قلت : حدّثني الحَكَم ابن عُتَيبة عن يحيى بن الجزار قال سمعت عليّ بن أبي طالب يقول : ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يُعلِّموا.
قال : فحدّثني أربعين حديثاً. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 304 ـ 305}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن كثير وأبو بكر وعاصم وأبو عمرو {ليبيننه ولا يكتمونه} بالياء فيهما كناية عن أهل الكتاب ، وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب الذي كان حاصلا في وقت أخذ الميثاق ، أي فقال لهم : لتبيننه ، ونظير هذه الآية قوله : {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إسراءيل لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [ البقرة : 83 ] بالتاء والياء وأيضا قوله : {وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِى الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرض} [ الإسراء : 4 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 105 ـ 106}
قال الطبرى :
والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان ، صحيحةٌ وجوههما ، مستفيضتان في قرأة الإسلام ، غير مختلفتي المعاني ، فبأيتهما قرأ القارئ فقد أصاب الحق والصواب في ذلك. غير أن الأمر في ذلك وإن كان كذلك ، فإن أحب القراءتين إليّ أن أقرأ بها : (" لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ " ) ، بالياء جميعًا ، استدلالا بقوله : "فنبذوه" ، إذ كان قد خرج مخرج الخبر عن الغائب على سبيل قوله : "فنبذوه" حتى يكون متَّسقًا كله على معنى واحد ومثال واحد. ولو كان الأول بمعنى الخطاب ، لكان أن يقال : "فنبذتموه وراء ظهوركم" أولى ، من أن يقال : "فنبذوه وراء ظهورهم". أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 463}(19/30)
فائدة
قال الآلوسى
{ وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب } والمراد بهم إما أحبار اليهود خاصة وإليه ذهب ابن جبير وهو المروي عن ابن عباس من طريق عكرمة ، وإما ما يشملهم وأحبار النصارى وهو المروي عنه من طريق علقمة وإنما ذكروا بعنوان إيتاء الكتاب مبالغة في تقبيح حالهم ، وقيل : رمزاً إلى أن أخذ الميثاق كان في كتابهم الذي أوتوه ، وروى سعيد بن جبير أن أصحاب عبد الله يقرءون وإذ أخذ ربك من الذين أوتوا الكتاب ميثاقهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 149}
فصل
قال الفخر :
الكلام في كيفية أخذ الميثاق قد تقدم في الآية المتقدمة ، وذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوردوا الدلائل في جميع أبواب التكاليف وألزموهم قبولها ، فالله سبحانه وتعالى إنما أخذ الميثاق منهم على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فذلك التوكيد والالزام هو المراد بأخذ الميثاق.
وعن سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : إن أصحاب عبد الله يقرؤن {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} [ آل عمران : 81 ] فقال أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
واعلم أن إلزام هذا الإظهار لا شك أنه مخصوص بعلماء القوم الذين يعرفون ما في الكتاب ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 106}
فائدة
قال الفخر :
الضمير في قوله : {لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان : قال سعيد بن جبير والسدي : هو عائد إلى محمد عليه السلام ، وعلى هذا التقدير يكون الضمير عائدا إلى معلوم غير مذكور ، وقال الحسن وقتادة : يعود إلى الكتاب في قوله : {أُوتُواْ الكتاب} أي أخذنا ميثاقهم بأن يبينوا للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 106}(19/31)
فائدة
قال الفخر :
إنما قال : ولا تكتمونه ولم يقل : ولا تكتمنه ، لأن الواو واو الحال دون واو العطف ، والمعنى لتبيننه للناس غير كاتمين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 106}
سؤال : فإن قيل : البيان يضاد الكتمان ، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهيا عن الكتمان ، فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان ؟
قلنا : المراد من البيان ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل ، والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المعطلة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 106}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مختصا باليهود والنصارى فإنه لا يبعد أيضاً دخول المسلمين فيه ، لأنه أهل القرآن وهو أشرف الكتب.
حكي أن الحجاج أرسل إلى الحسن وقال : ما الذي بلغني عنك ؟ فقال : ما كل الذي بلغك عني قلته : ولا كل ما قلته بلغك ، قال : أنت الذي قلت : إن النفاق كان مقموعا فأصبح قد تعمم وتقلد سيفاً ، فقال : نعم ، فقال : وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه ، قال : لأن الله أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
وقال قتادة : مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب ، وكان يقول : طوبى لعالم ناطق ، ولمستمع واع ، هذا علم علما فبذله ، وهذا سمع خيرا فوعاه ، قال عليه الصلاة والسلام : " من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من نار " وعن علي رضي الله عنه : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 106}
قوله تعالى : {فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}
فصل
قال الفخر :(19/32)
المراد أنهم لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه ، والنبذ وراء الظهر مثل الطرح وترك الاعتداد ، ونقيضه : جعله نصب عينه وإلقاؤه بين عينيه وقوله : {واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} معناه أنهم أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا ، فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئاً منه لغرض فاسد ، من تسهيل على الظلمة وتطييب لقلوبهم ، أو لجر منفعة ، أو لتقية وخوف ، أو لبخل بالعلم دخل تحت هذا الوعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 106 ـ 107}
وقال الآلوسى :
{ فَنَبَذُوهُ } أي طرحوا ما أخذ منهم من الميثاق { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه أصلاً فإن النبذ وراء الظهر تمثيل واستعارة لترك الاعتداد وعدم الالتفات وعكسه جعل الشيء نصب العين ومقابلها { واشتروا بِهِ } أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه ، وقيل : الضمير للعهد والأول أولى ، والمعنى أخذوا بدله { ثَمَناً قَلِيلاً } من حطام الدنيا الفانية وأعراضها الفاسدة { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } أي بئس شيئاً يشترونه ذلك الثمن فما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس وجملة يشترونه صفته ، والمخصوص بالذم محذوف ، وقيل : { مَا } مصدرية فاعل بئس والمخصوص محذوف أي بئس شراؤهم هذا الشراء لاستحقاقهم به العذاب الأليم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 149 ـ 150}(19/33)
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : { فنبذوه } عُطف بالفاء الدالّة على التعقيب للإشارة إلى مسارعتهم إلى ذلك ، والذين نبذوه هم علماء اليهود في عصورهم الأخيرة القريبة من عهد الرسالة المحمّدية ، فالتعقيب الذي بين أخذ الميثاق عليهم وبين نبذهم إيّاه منظور فيه إلى مبادرتهم بالنبذ عقب الوقت الذي تحقّق فيه أثر أخذِ الميثاق ، وهو وقت تأهّل كلّ واحد من علمائهم لتبيين الكتاب وإعلانه فهو إذا أنس من نفسه المقدرة على فهم الكتاب والتصرّف في معانيه بادر باتّخاذ تلك المقدرة وسيلة لسوء التأويل والتحريف والكتمان.
ويجوز أن تكون الفاء مستعملة في لازم التعقيب ، وهو شدّة المسارعة لذلك عند اقتضاء الحال إيّاه والاهتمام به وصرف الفكرة فيه.
ويجوز أن يكون التعقيب بحسب الحوادث التي أساؤوا فيها التأويل واشتروا بها الثمن القليل ، لأنّ الميثاق لمّا كان عامّاً كانت كلّ جزئية مأخوذاً عليها الميثاق ، فالجزئية التي لم يعملوا فيها بالميثاق يكون فيها تعقيب ميثاقها بالنبذ والاشتراء.
والنبذ : الطرح والإلقاء ، وهو هنا مستعار لعدم العمل بالعهد تشبيهاً للعهد بالشيء المنبوذ في عدم الانتفاع به.
ووراء الظُّهور هنا تمثيل للإضاعة والإهمال ، لأنّ شأن الشيء المهتمّ به المتنافس فيه أن يجعل نصب العين ويحرس ويشاهد.
قال تعالى : { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ].
وشأن الشيء المرغوب عنه أن يستدبر ولا يلتفت إليه ، وفي هذا التمثيل ترشيح لاستعارة النبذ لإخلاف العهد.(19/34)
والضميران : المنصوب والمجرور ، يجوز عودهما إلى الميثاق أي استخفّوا بعهد الله وعوّضوه بثمن قليل ، وذلك يتضمّن أنّهم أهملوا ما واثقوا عليه من تبيين الكتاب وعدم كتمانه ، ويجوز عودهما إلى الكتاب أي أهملوا الكتاب ولم يعتنوا به ، والمراد إهمال أحكامه وتعويض إقامتها بنفع قليل ، وذلك يدلّ على نوعي الإهمال ، وهما إهمال آياته وإهمال معانيه.
والاشتراء هنا مجاز في المبادلة والثمن القليل ، وهو ما يأخذونه من الرُّشَى والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامّة على تأييد المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة ، وتأويل كلّ حكم فيه ضرب على أيْدي الجبابرة والظلمة بما يُطلق أيديهم في ظلم الرعيّة من ضروب التأويلات الباطلة ، وتحذيرات الذين يصدعون بتغيير المنكر.
وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلاّ أنّ حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتّحَاد جنس الحكم والعلّة فيه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 304 ـ 305}
فصل
قال الآلوسى
واستدل بالآية على وجوب إظهار العلم وحرمة كتمان(19/35)
شيء من أمور الدين لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارهم واستجذاب لمبارهم ونحو ذلك ، وفي الخبر " من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار " ، وروى شالثعلبي بإسناده عن الحسن بن عمارة قال : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدثني ؟ فقال : أما علمت أني تركت الحديث ؟ فقلت : إما أن تحدثني وإما أن أحدثك ؟ فقال : حدثني فقلت : حدثني الحكم ابن عيينة عن نجم الخراز قال : سمعت علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه يقول : ما أخذ الله تعالى على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ، قال : فحدثني أربعين حديثاً ، وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم وتلا هذه الآية.
وأخرج ابن سعد عن الحسن لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثكم بكثير مما تسألون عنه ، ويؤيد الاستدلال بالآية على ما ذكر ما أخرجه ابن جرير عن أبي عبيدة قال : جاء رجل إلى قوم من المسجد وفيهم عبد الله بن مسعود فقال : إن كعباً يقرئكم السلام ويبشركم أن هذه الآية { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب } الخ ليست فيكم ، فقال له عبد الله : وأنت فاقرئه السلام أنها نزلت وهو يهودي وأراد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن كعباً لم يعرف ما أشارت إليه وإن نزلت في أهل الكتاب. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 150}(19/36)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } هذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو ، وابن كثيرٍ ، وأبو بكر بالياء ، جرياً على الاسم الظاهر - وهو كالغائب - وحَسَّن ذلك قوله - بعده - : " فَنَبَذُوهُ " والباقون بالتاء ؛ خطاباً على الحكاية ، تقديره : وقلنا لهم ، وهذا كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 83 ] بالتاء والياء كما تقدم تحريره.
قوله : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : واو الحال ، والجملة بعدها نصب على الحال ، أي : لتبينُنَّه غيرَ كاتمين. الثاني : أنها للعَطْف ، والفعل بعدها مُقْسَم عليه - أيضاً - وإنما لم يُؤَكِّدْ بالنون ؛ لأنه منفيّ ، كما تقول : واللهِ لا يقومُ زيدٌ - من غير نون - وقال أبو البقاء : " ولم يأتِ بها في " تَكْتُمُونَ " اكتفاءً بالتوكيد في الأول ؛ " تَكْتُمُونَهُ " توكيد ".
وظاهر عبارته أنه لو لم يكنْ بعد مؤكَّد بالنون لزم توكيده ، وليس كذبك ؛ لما تقدم. وقوله : لأنه توكيدٌ ، يعني أن نفي الكتمان فُهمَ من قوله : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } فجاء قوله : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } توكيداً في المعنى.
واستحسن أبو حيَّان هذا الوجه - أعني : جَعْل الواو عاطفةً لا حاليةً - قال : " وهذا الوجه - عندي - أعْربَ وأفصح ؛ لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ قبل " لا " لا تدخل عليه واوُ الحال ".
وغيره يقول : إنه يمتنع إذا كانَ مضارعاً مُثْبَتاً ، فيُفهم من هذا أن المضارعَ المنفيَّ بكُلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه.
وقرأ عبد الله : لَيُبَينونَه - من غير توكيد - قال ابنُ عطيَّة : " وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد قال سيبويه ".
والمعروفُ - من مذهب البصريين - لزومهما معاً ، والكوفيون يجيزون تعاقُبَهما في سعةَ الكلامَ.(19/37)
وأنشدوا : [ الطويل ]
وَعَيْشِكِ - يا سَلْمَى - لأوقِنُ أنَّني... لِمَا شِئْتِ مُسْتْلٍ ، وَلَوْ أنَّهُ الْقَتْلُ
وقال الآخرُ : [ المتقارب ]
يَمِيناً لأبْغَضُ كُلَّ امْرِئٍ... يُزَخْرِفُ قَوْلاً وَلاَ يَفْعَلُ
فأتى باللام وحدها. وقد تقدم تحقيقُ هذا.
وقرأ ابنُ عباس : ميثاق النبيين لتبيننه للناس ، فالضمير في قوله : { فَنَبَذُوهُ } يعود على { الناس } المبيَّن لهم ؛ لاستحالة عَوْدِهِ على النبيين ، وكان قد تقدم في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] أنه - في أحد الأوجه - على حذف مضاف ، أي : أولاد النبيين ، فلا بُعْدَ في تقديره هنا - أعني : قراءة ابن عباس - . أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 102 ـ 103}.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}
أخبر أنهم أبرموا عهودهم أن لا يزولوا عن وفائه ، ولكنهم نقضوا أسباب الذِّمام بما صاروا إليه من الكفران ، ثم تبيَّن أنَّ ما اعتاضوا من ذهاب الدين من أعراض يسيرة لم يُبارَكْ لهم فيه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 303}(19/38)
قوله تعالى { لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأنهم احتووا على المال والجاه بما كتموا من العلم وأظهروا من خلافه المتضمن لمحبة أهل دينهم فيهم وثنائهم عليهم بأنهم على الدين الصحيح وأنهم أهل العلم ، فهم أهل الاقتداء بهم ؛ قال سبحانه وتعالى مخبراً عن مآلهم تحذيراً من مثل حالهم على وجه يعم كل امرىء : {لا تحسبن} على قراءة الجماعة بالغيب {الذين يفرحون بما آتوا} أي مما يخالف ظاهره باطنه.
وتوصلوا به إلى الأغراض الدنيوية من الأموال والرئاسة وغير ذلك ، أي لا يحسبن أنفسهم ، وفي قراءة الكوفيين ويعقوب بالخطاب المعنى : لا تحسبنهم أيها الناظر لمكرهم ورواجهم بسببه في الدنيا واصلين إلى خير {ويحبون أن يحمدوا} أي ويجد الثناء بالوصف الجميل عليهم {بما لم يفعلوا} أي بذلك الباطن الذي لم يفعلوه ، قال ابن هشام في السيرة : أن يقول الناس : علماء ، وليسوا بأهل علم ، لم يتحملوهم على هدى ولا حق.
ولما تسبب عن ذلك العلمُ بهلاكهم قال : {فلا تحسبنهم} أي تحسبن أنفسهم ، على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيب وضم الباء وعلى قراءة الجماعة المعنى : لا تحسبنهم أيها الناظر {بمفازة من العذاب} بل هم بمهلكة منه {ولهم عذاب أليم }. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 195}
وقال ابن عاشور :
{ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا }
تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدّث عنهم ببيان حالة خُلقهم بعد أن بيّن اختلال أمانتهم في تبليغ الدين ، وهذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبّر عنهم بالمَوصول للتوصّل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشرّ والخسّة ثم لا يقف عند حدّ الانكسار لما فعل أو تطَلُّب الستر على شنعته ، بل يرتقي فيترقّب ثناء الناس على سوء صنعه ، ويتطلّب المحمدة عليه.(19/39)
وقيل : نزلت في المنافقين ، والخطاب لكلّ من يصلح له الخطاب ، والموصول هنا بمعنى المعرّف بلام العهد لأنّ أريد به قوم معيَّنون من اليهود أو المنافقين ، فمعنى { يفرحون بما أتوا } أنّهم يفرحون بما فعلوا ممّا تقدّم ذكره ، وهو نبذ الكتاب والاشتراء به ثمناً قليلاً وإنّما فرحهم بما نالوا بفعلهم من نفع في الدنيا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 305}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذا من جملة ما دخل تحت قوله : {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً} [ آل عمران : 186 ] فبين تعالى أن من جملة أنواع هذا الأذى أنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ، ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البر والتقوى والصدق والديانة ، ولا شك أن الإنسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال ، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمصابرة عليها ، وبين ما لهم من الوعيد الشديد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 107}
فصل
قال القرطبى :
ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخُدْرِي أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلّفوا عنه وفرحوا بمَقْعدهم خِلافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحَلفوا ، وأحبّوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ؛ فنزلت { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } الآية.
وفي الصحيحين أيضاً أن مَرْوان قال لبوّابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : لئن كان كل امرىء منّا فرح بما أُوتِيَ وأحبّ أن يُحمد بما لم يفعل معذَّباً لنعذّبن أجمعون.
فقال ابن عباس : ما لَكم ولهذه الآية! إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب.(19/40)
ثم تلا ابن عباس { وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } و{ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ }.
وقال ابن عباس : سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ؛ فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستَحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتَوْا من كتمانهم إياه ، وما سألهم عنه.
وقال محمد بن كعب القُرَظِي : نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كتموا الحق ، وأتوا ملوكهم من العلم ما يوافقهم في باطلهم ، { واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي بما أعطاهم الملوك من الدنيا ؛ فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
فأخبر أن لهم عذاباً أليماً بما أفسدوا من الدِّين على عباد الله.
وقال الضحاك : إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبيّاً في آخر الزمان يَخْتم به النبوّة ؛ فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم ؟ فقال اليهود طمعاً في أموال الملوك : هو غير هذا ، فأعطاهم الملوك الخزائن ؛ فقال الله تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } الملوكَ من الكذب حتى يأخذوا عَرَض الدنيا.
والحديث الأوّل خلاف مقتضى الحديث الثاني.
ويحتمل أن يكون نزولها على السببين لاجتماعهما في زمن واحد ، فكانت جواباً للفريقين ، والله أعلم.
وقوله : واستحمدوا بذلك إليه ، أي طلبوا أن يحمدوا.
(19/41)
وقول مَرْوان : لئن كان كلّ امرىء منا الخ دليلٌ على أن العموم صِيَغاً مخصوصة.
وأن "الذين" منها.
وهذا مقطوع به من تفهّم ذلك من القرآن والسُّنّة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 306 ـ 307}
قال الطبرى :
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية ، قول من قال : "عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله جل وعز أنه أخذ ميثاقهم ، ليبين للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه ، لأن قوله : "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية ، في سياق الخبر عنهم ، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك.
فإذْ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : لا تحسبن ، يا محمد ، الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناسَ أمرك ، وأنك لي رسول مرسل بالحق ، وهم يجدونك مكتوبًا عندهم في كتبهم ، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك ، وبيان أمرك للناس ، وأن لا يكتموهم ذلك ، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك ، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك ، ومخالفتهم أمري ، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم ، واتباع لوحيه وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه ، وهم من ذلك أبرياء أخلياء ، لتكذيبهم رسوله ، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم ، لم يفعلوا شيئًا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه"فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم". أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 471 ـ 472}
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتاء المنقطة من فوق ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء المنقطة من تحت ، وكذا في قوله : {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} أما القراءة الأولى ففيها وجهان : أحدهما : أن يقرأ كلاهما بفتح الباء.(19/42)
والثاني : أن يقرأ كلاهما بضم الباء ، فمن قرأ بالتاء وفتح الباء فيهما جعل التقدير : لا تحسبن يا محمد ، أو أيها السامع ، ومن ضم الباء فيهما جعل الخطاب للمؤمنين : وجعل أحد المفعولين الذين يفرحون ، والثاني : بمفازة وقوله : {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} تأكيد للأول وحسنت إعادته لطول الكلام ، كقولك : لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك في كذا وكذا فلا تظنه صادقا ، وأما القراءة الثانية وهي بالياء المنقطة من تحت في قوله : {لا تَحْسَبَنَّ} ففيها أيضا وجهان : الأول : بفتح الباء وبضمها فيهما جعل الفعل للرسول صلى الله عليه وسلم والباقي كما علمت.
والوجه الثاني : بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو ، ووجهه أنه جعل الفعل للذين يفرحون ولم يذكر واحدا من مفعوليه ، ثم أعاد قوله : {فَلاَ تَحْسَبَنَّ} بضم الباء وقوله : {هُمْ} رفع باسناد الفعل إليه ، والمفعول الأول محذوف والتقدير : ولا تحسبن هؤلاء الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 107}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى وصف هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بفعلهم ويحبون أيضا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، والمفسرون ذكروا فيه وجوها :
الأول : أن هؤلاء اليهود يحرفون نصوص التوراة ويفسرونها بتفسيرات باطلة ويروجونها على الاغمار من الناس ، ويفرحون بهذا الصنع ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والديانة والعفاف والصدق والبعد عن الكذب ، وهو قول ابن عباس ، وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك ، فإنهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان مطلوبهم ، ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العفاف والصدق والدين(19/43)
والثاني : روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروا بخلافه ، وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بذلك التلبيس ، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يثني عليهم بذلك ، فأطلع الله رسوله على هذا السر.
والمعنى أن هؤلاء اليهود فرحوا بما فعلوا من التلبيس وتوقعوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء.
والثالث : يفرحون بما فعلوا من كتمان النصوص الدالة على مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من إتباع دين إبراهيم ، حيث ادعوا أن إبراهيم عليه السلام كان على اليهودية وأنهم على دينه.
الرابع : أنه نزل في المنافقين فإنهم يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث أنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا ، ثم كانوا يتوقعون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحمدهم على الإيمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم.
الخامس : قال أبو سعيد الخدري نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو ، ويفرحون بقعودهم عنه فإذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم ، ثم طمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني عن المسلمين المجاهدين.
السادس : المراد منه كتمانهم ما في التوراة من أخذ الميثاق عليهم بالاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالإقرار بنبوته ودينه ، ثم إنهم فرحوا بكتمانهم لذلك وإعراضهم عن نصوص الله تعالى ، ثم زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.
(19/44)
واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل ، لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد ، وهو أن الإنسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به ، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والاقبال على طاعة الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 107 ـ 108}
فصل
قال الفخر :
في قوله : {بِمَا أَتَوْاْ} بحثان :
الأول : قال الفراء : قوله : {بِمَا أَتَوْاْ} يريد فعلوه كقوله : {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} [ النساء : 16 ] وقوله : {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [ مريم : 27 ] أي فعلت.
قال صاحب "الكشاف" : أتى وجاء ، يستعملان بمعنى فعل ، قال تعالى : {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [ مريم : 61 ] {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} ويدل عليه قراءة أبي {يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُواْ }.
البحث الثاني : قرىء آتوا بمعنى أعطوا ، وعن علي رضي الله عنه {بِمَا أُوتُواْ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 108}
قوله تعالى {بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب}
قال الفخر :
قوله : {بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب} أي بمنجاة منه ، من قولهم : فاز فلان إذا نجا ، وقال الفراء : أي ببعد من العذاب ، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه ، وذكر ذلك في قوله : {فَقَدْ فَازَ} ثم حقق ذلك بقوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ولا شبهة أن الآية ، واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذاهم.
ثم قال : {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} أي لهم عذاب أليم ممن له ملك السموات والأرض ، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 108}(19/45)
لطيفة
قال ابن عاشور :
وقد جاء تركيب الآية على نظم بديع إذ حُذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأوّل لدلالة ما يدلّ عليه وهو مفعول { فلا تحسبنّهم } ، والتقدير : لا يحسبنّ الذين يفرحون إلخ أنْفسَهم.
وأعيد فعل الحسبان في قوله : { فلا تحسبنهم } [ آل عمران : 188 ] مسنداً إلى المخاطب على طريقة الاعتراض بالفاء وأتي بعده بالمفعول الثاني : وهو { بمفازة من العذاب } [ آل عمران : 188 ] فتنازعه كلا الفعلين.
وعلى قراءة الجمهور : { لا تَحسبنّ الذين يفرحون } [ آل عمران : 188 ] بتاء الخطاب يكون خطاباً لغير معيّن ليعمّ كلّ مخاطب ، ويكون قوله : { فلا تحسبنهم } اعتراضاً بالفاء أيضاً والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم مع ما في حذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأول ، وهو محلّ الفائدة ، من تشويق السامع إلى سماع المنهي عن حسبانه.
وقرأ الجمهور فلا تحسبنّهم : بفتح الباء الموحدة على أنّ الفعل لخطاب الواحد ؛ وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بضم الباء الموحدة على أنّه لخطاب الجمع ، وحيث إنّهما قرءا أوّله بياء الغيبة فضمّ الباء يجعل فاعل ( يحسبنّ ) ومفعوله متّحدين أي لا يحسبون أنفسهم ، واتّحاد الفاعل والمفعول للفعل الواحد من خصائص أفعال الظنّ كما هنا وألحقت بها أفعال قليلة ، وهي : ( وَجد ) و( عَدِم ) و( فَقَدَ ).
وأمّا سين "تحسبنّهم" فالقراءات مماثلة لما في سين { يحسبنّ }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 306}(19/46)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { لاَ تَحْسَبَنَّ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمر " يَحْسَبَنَّ " و" فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ " - بالياء فيهما ، ورفع ياء " تَحْسَبَنَّهُم " وقرأ الكوفيونَ بتاءِ الخطابِ ، وفتح الباء فيهما معاً ، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول ، وتاء الخطاب في الثاني ، وفتح الباء فيهما معاً ، وقُرِئَ شاذاً بتاء الخطاب وضَمِّ الباء فيهما معاً ، وقرئ فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما ، وفتح الباء فيهما أيضاً فهذه خَمْس قراءاتٍ ، فأما قراءة ابن كثيرٍ وأبي عمرو ففيهما خمسةُ أوجهٍ ، وذلك : لأنه لا يخلو إما أن يُجْعَلَ الفعل الأول مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ ، أو إلى الموصولِ ، فإنْ جعلناه مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ ، الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره - ففي المسألة وجهان : ِ
أحدهما : أنَّ " الَّذِينَ " مفعول أوّل ، والثاني محذوفٌ ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه ، وهو " بِمَفَازَةٍ " والتقدير : لا يحسبن الرسول - أو حاسب - الذين يفرحون بمفازة ، فأسند الفعل الثاني لضميرِ " الَّذِينَ " ومفعولاه الضمير المنصوب ، و" بِمَفاَزَةٍ ".
الثاني : أن " الَّذِينَ " مفعول أول - أيضاً - ومفعوله الثاني هو " بِمَفَازَةٍ " الملفوظ به بعد الفعل الثاني ، ومفعول الفعل الثاني محذوف ؛ لدلالة مفعول الأول عليه ، والتقدير : لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك ، والعمل كما تقدم ، وهذا بعيد جِداً ، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول لكلامٍ طويلٍ من غير حاجةٍ ، والفاء - على هذين الوجهين - عاطفة ؛ والسببية فيها ظاهرة.
وإن جعلناه مسنداً إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجهٍ :
أولها : أن الفعل الأول حُذِفَ مفعولاه ، اختصاراً ؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما ، تقديره : ولا يحسبن الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين.(19/47)
كقول الآخر : [ الطويل ]
بأيِّ كِتَابٍ ، أمّ بِأيَّةِ سُنَّةٍ... تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وَتحْسَبُ
أي : وتحسب حبهم عاراً ، فحذفت مفعولي الفعل الثاني ؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما ، وهو عكس الآيةِ الكريمةِ ، حيث حذف فيها من الفعلِ الأولِ.
ثانيها : أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا.
قال أبو علي " تَحْسَبَنَّ " لم يقع على شيء و" الَّذيِنَ " رفع به ، وقد تجيء هذه الأفعال لَغْواً ، لا في حُكْمِ الجُمَل المفيدة ، نحو قوله : [ الطويل ]
وَمَا خِلْتُ أبْقَى بِيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ... عِرَاضُ الْمَذَاكِي المُسْنِفَاتِ الْقَلائِصا
المذاكي : الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان ، الواحد : مُذَك مثل المُخَلف من الإبل وفي المثل : جريُ المذكيات غِلاب.
والمُسْنفات : اسم مفعول ، يقال : سنفت البعير أسنفه ، سنفاً ، إذا كففته بزمامه وأنت راكبه وأسنف البعير لغة في سنفه وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه ، يتعدى ولا يتعدى وكانت العربُ تركب الإبلَ ، وتجنب الخيل ، تقول : الحرب لا تبقى مودة وقال الخليلُ : العربُ تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيدٌ ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيدٌ.
يعني أبو علي أنها في هذه الأماكن مُلْغَاة ، لا مفعول لها.
ثالثها : أن يكون المفعول الأول للفعل الأول محذوفاً ، والثاني هو نفس " بِمَفَازَةٍ " ويكون " فَلاَ يَحْسَبَنهُمْ " توكيداً للفعل الأول ، وهذا رأي الزمخشريِّ ؛ فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة - : " على أن الفعل لِـ { الذين يَفْرَحُونَ } والمفعول الأول محذوف ، على معنى : لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى : لا يحسبنهم أنفسهم الذين يفرحون فائزين ، و" فلا يحسبنهم " تأكيد ".
(19/48)
قال أبو حيّان : " وتقدم لنا الرَّدُّ على الزمخشريّ في تقديره : لا يحسبنهم الذين في قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } [ آل عمران : 178 ] وأن هذا التقدير لا يصح ".
قال شهابُ الدِّينِ : قد تقدَّم ذلك والجواب عنه ، لكن ليس هو في قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] بل في قوله : { ولا يَحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله } من قراءة من قرأ بياء الغيبة ، فهناك ردَّ عليه بما قال ، وقد أجيب عنه والحمد لله ، وإنما نبهت على ذلك لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد.
ويجوز أن يقالَ : في تقرير هذا الوجه الثالث - : أنه حذف من إحدى الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر وذلك أن " بِمَفَازَةٍ " مفعول ثانٍ للفعل الأول ، حذفت من الفعل الثاني ، و" هُمْ " في " فلا يحسبنهم " مفعول أول للفعل الثاني ، وهو محذوفٌ من الأولِ.
وإذا عرفت ذلك فالفعلُ الثاني - على هذه الأوجه الثلاثة - تأكيدٌ للأول.
وقال مكِّيٌّ : إن الفعل الثاني بدلٌ من الأولِ.
وفي تسمية مثل هذا بدلاً نظر لا يخفى ، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر ، فهو يرجع إلى معنى التأكيد. وكذلك قال بعضهم : والثاني مُعَاد على طريق البدل ، مشوباً بمعنى التأكيدِ.
وعلى هذين القولين - أعني كونه تأكيداً ، أو بدلاً - فالفاء زائدة ، ليست عاطفة ولا جواباً.
(19/49)
قوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } أصله : تحسبونَنَّهم ، بنونين - الأولى نون الرفع ، والثانية للتوكيد - وكتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة. وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل ، وهو خاص بباب الظن ، وبعدم وفقد دون سائر الأفعال. لو قلت : " أكرمتُني " ، أي : " أكرمت أنا نفسي " لم يجز.
وأما قراءة الكوفيين فالفعلانِ فيها مسندان إلى ضمير المخاطب إما الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من يصلح للخطاب - والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثيرٍ ، على قولنا إن الفعلَ الأولَ مسندٌ لضميرٍ غائبٍ ، والفعل الثاني تأكيدٌ للأولِ ، أو بدلٌ منه ، والفاء زائدة ، كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير ، على قولنا : إن الفعلين مسندان للموصول ؛ لأن الفاعل فيهما واحد ، واستدلوا على أن الفاء زائدة بقول الشاعر : [ الكامل ]
لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِساً أهْلَكْتُهُ... فَإذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذلِكَ فَاجْزَعِي
وقول الآخر : [ الكامل ]
لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِرْمُهَا... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ
وقول الآخر : [ الكامل ]
حَتَّى تَرَكْتُ العَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ... فَيَقُلْنَ : لا تَبْعَدْ ، وَقُلْتُ لَهُ : ابْعَدِ
إلا أنَّ زيادةَ الفاءِ ليس رأي الجمهورِ ، إنما قال به الأخفش.
(19/50)
وأما قراءة نافع وابن عامرٍ - بالغيبة في الأولِ ، والخطاب في الثاني - فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين ، والكلام فيهما يؤخذ مما تقدم ، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير ، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به ، إلا أنه ممتنع - هنا - أن يكون الفعل الثاني تأكيداً للأول ، أو بدلاً منه ؛ لاختلاف فاعليهما ، فتكون الفاء - هنا - عاطفةً ليس إلا ، وقال أبو علي في الحُجة - : إن الفاءَ زائدة ، والثاني بدلٌ من الأولِ ، قال : " وليس هذا موضع العطف لأن الكلامَ لم يتم ، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يُذْكَر بَعْدُ ".
وفيه نظرٌ ؛ لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.
وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين ، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيينَ.
وأما قراءةُ الغيبةِ وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندانِ إلى ضميرٍ غائبٍ ، أي : لا يحسبن الرسولُ ، أو حاسبٌ.
والكلامُ في المفعولينِ للفعلينِ ، كالكلام في القراءة التي قبلها ، والثاني من الفعلين تأكيدٌ ، أو بدلٌ ، والفاءُ زائدةٌ - على هاتينِ القرائتينِ - لاتحادِ الفاعلِ.
وقرأ النَّخعِيُّ ، ومروان بن الحكمِ " بما آتوا " ممدوداً ، أي : أعْطُوا ، وقرأ علي بن أبي طالبٍ " أوتوا " مبنياً للمفعول.
قوله : { مِّنَ العذاب } فيه وجهانِ :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه صفة لِـ " مَفَازَةٍ " أي : بمفازة كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنَا " مَفَازَةٍ " مكاناً ، أي بموضع فَوْز.
قال أبو البقاء : " لأن المفازةَ مكان ، والمكانُ لا يعملُ ".
(19/51)
يعني فلا يكون متعلقاً بها ، بل محذوف ، على أنه صفة لها ، إلا أن جعله صفة مشكل ؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها { مِّنَ العذاب } اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارُّ شيئاً خاصاً حتى يُصبح المعنى تقديره : بمفازة منجيةٍ من العذابِ ، وفيه الإشكالُ المعروفُ ، وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوف - في مثله - إلا كَوْناً مطلقاً.
الثاني : أن يتعلق بنفس " مفازة " على أنها مصدر بمعنى الفَوْز ، تقول : فزت منه أي : نَجَوْت ، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء ؛ لأنها مبنيةٌ عليها ، وليست الدالة على التوحيد.
كقوله : [ الطويل ]
فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنكَ وَرَهْبَةٌ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالمَوَارِدِ
فأعمل " رهبة " في " عقابك " وهو مفعول صريح ، فهذا أولى.
قال أبو البقاء : " ويكون التقدير : فلا تحسبنهم فائزين ، فالمصدر في موضع اسم الفاعلِ ".
فإن أراد تفسير المعنى فذاك ، وإن أراد أنه بهذا التقدير - يصح التعلُّق ، فلا حاجة إليه ؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظاً ومعنىً.
أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 104 ـ 109}. بتصرف.
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ لاَ تَحْسَبَنَّ } خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب أي لا تظنن.(19/52)
{ الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ } أي بما فعلوا وبه قرأ أبيّ ، وقرىء { بِمَا أَتَوْاْ } و{ بِمَا أُوتُواْ } وروى الثاني عن عليّ كرم الله تعالى وجهه { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ } أي أن يحمدهم الناس ؛ وقيل : المسلمون ، وقيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم { بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم من طريق العوفي : هم أهل الكتاب أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق وحرفوا الكلام عن مواضعه وفرحوا بذلك وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصيام ، وفي رواية البخاري وغيره عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه" ، وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير أنهم يفرحون بكتمانهم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نطق بها كتابهم ويحبون أن يحمدوا بأنهم متبعون دين إبراهيم عليه السلام ، فعلى هذا يكون الموصول عبارة عن المذكورين سابقاً الذين أخذ ميثاقكم ، وقد وضع موضع ضميرهم ، وسبقت الجملة لبيان ما يستتبع أعمالهم المحكية من العذاب إثر بيان قباحتها ، وفي ذلك من التسلية أيضاً ما لا يخفى ، وقد أدمج فيها بيان بعض آخر من شنائعهم وفضائحهم وهو إصرارهم على القبيح وفرحهم بذلك ومحبتهم لأن يوصفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلة ، وأخرج سبحانه ذلك مخرج المعلوم إيذاناً بشهرة اتصافهم به.(19/53)
وقيل : إن الموصول عبارة عن أناس منافقين وهم طائفة معهودون من المذكورين وغيرهم ، وأيد ذلك بما أخرجه الشيخان والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية ؛ وروي مثل ذلك عن رافع بن خديج وزيد بن ثابت وغيرهما ، وقيل : المراد بهؤلاء المنافقون كافة ، وقد كان أكثرهم من اليهود.(19/54)
وادعى بعضهم أنه الأنسب بما في حيز الصلة لشهرة أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف منزل ، وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم في الغاية القاصية من العداوة ، ولا يخفى عليك أنه وإن سلم كونه أنسب إلا أنه لم يوجد فيما نعلم من الآثار الصحيحة ما يؤيده ، ومن هنا يعلم بعد القول بأن الأولى إجراء الموصول على عمومه شاملاً لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ، ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من الفضائل منتظماً للمعهودين انتظاماً أولياً على أنه قد اعترض بأن انتظام المعهودين مطلقاً فضلاً عن كونه أولياً غير مسلم إلا إذا عمم ما في بما أتوا بحيث يشمل الحسنات الحقيقية وغيرها أما إذا خص بالحسنات كما يوهمه ظاهر هذا القول فلا يسلم الانتظام لأن أولئك الفرحين لم يأتوا بحسنة في نفس الأمر ليفرحوا بها فرح إعجاب كما لا يخفى ، ولعل الأمر في هذا سهل ، نعم يزيده بعداً ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والبيهقي في "الشعب" من طريق حميد بن عبد الرحمن أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرىء منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون ، فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب ، ثم تلا(19/55)
{ وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب } [ آل عمران : 187 ] إلى آخر الآيتين فإن لو كان الأولى إجراء الموصول على عمومه لأجراه حبر الأمة وترجمان القرآن ، وأزال الإشكال بتقييد الفرح بفرح الإعجاب كما فعل صاحب هذا القول ولا يلزم من كلام الحبر على هذا عدم حرمة الفرح فرح إعجاب وحب الحمد بما لم يفعل بالمرة بل قصارى ما يلزم منه عدم كون ذلك مفاد الآية كما قيل وهو لا يستلزم عدم كونه مفاد شيء أصلاً ليكون ذلك قولاً بعدم الحرمة ، كيف وكثير من النصوص ناطق بحرمة ذلك حتى عده البعض من الكبائر فليفهم
و{ بِمَفَازَةٍ } وتصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور على ما قال شيخ الإسلام للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة وقطع أطماعهم الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية وعليه كان مبنى فرحهم ، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم فللتعريض بحسبانهم المذكور لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته صلى الله عليه وسلم.
وأنت تعلم أن تعليل التصدير بما ذكر على تقدير إجراء الموصول على عمومه على ما مر غير ظاهر إلا أن يقال بالتغليب.
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بيان لثبوت فرد من العذاب لا غاية له في المدة والشدة إثر ما أشير إليه من عدم نجاتهم من مطلق العذاب ويلوح بذلك الجملة الإسمية والتنكير التفخيمي والوصف وجوز أن يكون هذا إشارة إلى العذاب الأخروي ويحمل نفي النجاة من العذاب فيما تقدم على نفي العذاب العاجل وهو كونهم مذمومين مردودين فيما بين الناس لأن لباس الزور لا يبقى وينكشف حال صاحبه ويفتضح. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 150 ـ 152}. بتصرف يسير.
ومن فوائد ابن الجوزى فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } وقرأ أهل الكوفة : لا تحسبنَّ بالتاء.(19/56)
وفي سبب نزولها ثمانية أقوال.
أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سأل اليهود عن شيء ، فكتموه ، وأخبروه بغيره ، وأروه أنهم قد أخبروه به ، واستحمدوا بذلك إِليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ، فنزلت هذه الآية.
والثاني : أنها نزلت في قوم من اليهود ، فرحوا بما يصيبون من الدنيا ، وأحبّوا أن يقول الناس : إنهم علماء ، وهذا القول ، والذي قبله عن ابن عباس.
والثالث : أن اليهود قالوا : نحن على دين إبراهيم ، وكتموا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير.
والرابع : أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن ، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها : أن محمداً ليس بنبي ، فاثبتوا على دينكم ، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به ، ففرحوا بذلك ، وقالوا : نحن أهل الصوم والصلاة ، وأولياء الله.
فنزلت هذه الآية ، هذا قول الضحاك ، والسدي.
والخامس : أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقالوا : نحن على رأيكم ، ونحن لكم ردء ، وهم مستمسكون بضلالتهم ، فأرادوا أن يحمدهم نبي لله بما لم يفعلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة.
والسادس : أن ناساً من اليهود جهزوا جيشاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واتفقوا عليهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله إبراهيم النخعي.
والسابع : أن قوماً من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها ، فحمدوهم ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا ، فنزلت هذه الآية ، ذكره الزجاج.
والثامن : أن رجالاً من المنافقين كانوا يتخلفون عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم ، اعتذروا إليه ، وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.(19/57)
فنزلت هذه الآية ، قاله أبو سعيد الخدري ، وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين ، وما قبله من الأقوال يدل على أنها في اليهود.
وفي الذي أتوا ثمانية أقوال.
أحدها : أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق.
والثاني : تبديلهم التوراة.
والثالث : إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب.
والرابع : إضلالهم الناس.
والخامس : اجتماعهم على تكذيب النبي.
والسادس : نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضده.
والسابع : اتفاقهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه أقوال من قال : هم اليهود.
والثامن : تخلُّفهم في الغزوات ، وهذا قول من قال : هم المنافقون.
وفي قوله تعالى : { ويحبُّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } ستة أقوال.
أحدها : أحبوا أن يُحمدوا على إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه.
والثاني : أحبوا أن يقول الناس : هم علماء ، وليسوا كذلك.
والثالث : أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة ، والصيام ، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن عباس.
والرابع : أحبوا أن يحمدوا على قولهم : نحن على دين إبراهيم ، وليسوا عليه ، قاله سعيد بن جبير.
والخامس : أحبوا أن يحمدوا على قولهم : إنا راضون بما جاء به النبي ، وليسوا كذلك ، قاله قتادة.
وهذه أقوال من قال : هم اليهود.
والسادس : أنهم كانوا يحلفون للمسلمين ، إذا نصروا : إنا قد سررنا بنصركم ، وليسوا كذلك ، قاله أبو سعيد الخدري ، وهو قول من قال : هم المنافقون.
قوله تعالى : { فلا يحسبُنهم } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، فلا يحسبُنهم ، بالياء وضم الباء.
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، بالتاء ، وفتح الباء.(19/58)
قال الزجاج : إنما كررت "تحسبنهم" لطول القصة ، والعرب تعيد إذا طالت القصة "حسبت" ، وما أشبهها ، إعلاماً أن الذي يجرى متصل بالأول ، وتوكيداً له ، فتقول : لا تظننَّ زيداً إذا جاء وكلمك بكذا وكذا ، فلا تظننَّه صادقاً.
قوله تعالى : { بمفازة } قال ابن زيد ، وابن قتيبة ، بمنجاة. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 522 ـ 525}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)}
إن مَنْ باشر رؤيةَ الخلْق قلبُه ، ولاَحَظَهم بِسِرِّه فلا تظننَّ أنَّ عقوبتَهم مؤخرةٌ إلى يوم القيامة ، بل ليسوا من العذاب - في الحال - بمفازة ، وأيُّ عذابِ أشدُّ من الردِّ إلى الخلْق والحجاب عن الحق ؟ . أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 303}(19/59)
قوله تعالى { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر بهلاكهم دل عليه بحال من فاعل " يحسب " فقال تعالى : {ولله} أي الذي له جميع صفات الكمال وحده {ملك السماوات والأرض} أي لا يقع في فكرهم ذلك والحال أن ملكه محيط بهم ، وله جميع ما يمكنهم الانحياز إليه ، وله ما لا تبلغه قُدَرُهم من ملك الخافقين فهو بكل شيء محيط {والله} أي الذي له جميع العظمة {على كل شيء قدير} وهو شامل القدرة ، فمن كان في ملكه كان في قبضته ، ومن كان في قبضته كان عاجزاً عن التفصي عما يريد به ، لأنه الحي القيوم الذي لا إله إلا هو - كما افتتح به السورة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 196}
قال القرطبى :
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) }
هذا احتجاج على الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ، وتكذيب لهم.
وقيل : المعنى لا تظُنّن الفرحين ينجون من العذاب ؛ فإن لله كلّ شيء ، وهم في قبضة القدِير ؛ فيكون معطوفاً على الكلام الأوّل ، أي إنهم لا ينجون من عذابه ، يأخذهم متى شاء.
{ والله على كُلِّ شَيْءٍ } أي مُمْكن { قَدِيرٌ } وقد مضى في "البقرة". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 308}(19/60)
وقال أبو السعود :
{ وَللَّهِ } أي خاصةً { مُلْكُ السموات والأرض } أي السلطانُ القاهرُ فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيفما يشاء ويريد ، إيجاداً وإعداماً إحياءً وإماتةً تعذيباً وإثابةً من غير أن يكون لغيره شائبةُ دخلٍ في شيء من ذلك بوجه من الوجوه ، فالجملةُ مقرِّرة لما قبلها ، وقوله تعالى : { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } تقريرٌ لاختصاص مُلكِ العالَمِ الجُسماني المعبَّر عنه بقُطريه به سبحانه وتعالى قادراً على الكل بحيث لا يشِذ من ملكوته شيءٌ من الأشياء يستدعي كونَ ما سواه كائناً ما كان مقدوراً له ومن ضرورته اختصاصُ القدرةِ به تعالى واستحالةُ أن يشاركه شيءٌ من الأشياء في القُدرة على شيء من الأشياء فضلاً عن المشاركة في ملك السمواتِ والأرضِ ، وفيه تقريرٌ لما مر من ثبوت العذابِ الأليمِ لهم وعدمِ نجاتِهم منه. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ والإشعارِ بمناطِ الحكمِ ، فإن شمولَ القدرةِ لجميع الأشياءِ من أحكام الألوهيةِ مع ما فيه من الإشعار باستقلال كلَ من الجملتين بالتقرير. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 127}(19/61)
وقال الآلوسى :
{ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } تقرير لما قبله حيث أفاد أن لله وحده السلطان القاهر في جميع العالم يتصرف فيه كيفما يشاء ويختار إيجاداً وإعداماً إحياءاً وإماتة تعذيباً وإثابة ، ومن هو كذلك فهو مالك أمرهم لا راد له عما أراد بهم { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } تقرير إثر تقرير والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة مع الإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألوهية والرمز إلى استقلال كل من الجملتين بالتقرير ، وقيل : مجموع الجملتين مسوق لرد قول اليهود السابق { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } [ آل عمران : 181 ] وضعف بالبعد ولو قيل وفيه ردّ لهان الأمر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 152 ـ 153}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}
الإشارة من هذا الآية ها هنا إلى غناه - سبحانه - عمَّا في الكون ، وكيف يحتاج إليهم ؟ ! ولكنهم لا يجدون عنه خَلَفاً ، ولا عليه بَدَلاً. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 303}(19/62)
قوله تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر هذا الملك العظيم وختم بشمول القدرة دل على ذلك بالتنبيه على التفكر فيه الموجب للتوحيد الذي هو المقصد الأعظم من هذه السورة الداعي إلى الإيمان الموجب للمفازة من العذاب ، لأن المقصود الأعظم من إنزال القرآن تنوير القلوب بالمعرفة ، وذلك لا يكون إلا بغاية التسليم ، وذلك هو اتباع الملة الحنيفية ، وهو متوقف على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، فبدأ سبحانه وتعالى السورة بدلائل صدقه بإعجاز القرآن بكشفه - مع الإعجاز بنظمه على لسان النبي الأمي - للشبهات وبيانه للخفيات ، وأظهر مكابرة أهل الكتاب ، وفضحهم أتم فضيحة ، فلما تم ذلك على أحسن وجه منظماً ببدائع الحكم من الترغيب والترهيب شرع في بث أنوار المعرفة بنصب دلائلها القريبة وكشف أستارها العجيبة فقال : {إن في خلق السماوات والأرض} أي على كبرهما وما فيهما من المنافع ، ونبه على التغير الدال على المغير بقوله : {واختلاف الليل والنهار} أي اختلافاً هو - كما ترون - على غاية الإحكام بكونه على منهاج قويم وسير لا يكون إلا بتقدير العزيز العليم {لآيات} أي على جميع ما جاءت به الرسل عن الخالق ، وزاد الحث على التفكر والتهييج إليه والإلهاب من أجله بقوله : {لأولي الألباب} وذكر سبحانه وتعالى في أخت هذه الآية في سورة البقرة ثمانية أنواع من الأدلة واقتصر هنا على ثلاثة ، لأن السالك يفتقر في ابتداء السلوك إلى كثرة الأدلة.(19/63)
فإذا استنار قلت حاجته إلى ذلك ، وكان الإكثار من الأدلة كالحجاب الشاغل له عن استغراق القلب في لجج المعرفة ، واقتصر هنا من آثار الخلق على السماوية لأناه أقهر وأبهر والعجائب فيها أكثر ، وانتقال القلب منها إلى عظمته سبحانه وتعالى وكبريائه أشد وأسرع ، وختم تلك بما هو لأول السلوك : العقل ، وختم هذه بلبه لأنها لمن تخلص من وساوس الشيطان وشوائب هواجس الوهم المانعة من الوصول إلى حق اليقين بل علم اليقين. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 196 ـ 197}
وقال ابن عاشور :
هذا غرض أُنف بالنسبة لما تتابع من أغراض السورة ، انتُقل به من المقدّمات والمقصد والمتخلِّلات بالمناسبات ، إلى غرض جديد هو الاعتبار بخلق العوالم وأعراضها والتنويه بالذين يعتبرون بما فيها من آيات.
ومِثْل هذا الانتقال يكون إيذاناً بانتهاء الكلام على أغراض السورة ، على تفنّنها ، فقد كان التنقّل فيها من الغرض إلى مشاكله وقد وقع الانتقال الآن إلى غرض عامّ : وهو الاعتبار بخلق السماوات والأرض وحال المؤمنين في الاتّعاظ بذلك ، وهذا النحو في الانتقال يعرض للخطيب ونحوه من أغراضه عقب إيفائها حقّها إلى غرض آخر إيذاناً بأنّه أشرف على الانتهاء ، وشأن القرآن أن يختم بالموعظة لأنّها أهمّ أغراض الرسالة ، كما وقع في ختام سورة البقرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 307}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق ، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والإلهية والكبرياء والجلال ، فذكر هذه الآية.(19/64)
قال ابن عمر : قلت لعائشة : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب ، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ، ثم قال لي : يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي ، فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب مرادك قد أذنت لك.
فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ، ثم قام يصلي ، فقرأ من القرآن وجعل يبكي ، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض ، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي ، فقال له : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال : " يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا " ، ثم قال : " ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة : {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض} " ثم قال : " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " وروي : ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها.
وعن علي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر إلى السماء ويقول : إن في خلق السموات والأرض.
وحكى أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة.
فعبدها فتى من فتيانهم فما أظلته السحابة ، فقالت له أمه : لعل فرطة صدرت منك في مدتك ، قال : ما أذكر ، قالت : لعلك نظرة مرة إلى السماء ولم تعتبر قال نعم ، قالت : فما أتيت إلا من ذلك.
(19/65)
واعلم أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة البقرة ، وذكرها هنا أيضا ، وختم هذه الآية في سورة البقرة بقوله : {لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [ البقرة : 164 ] وختمها ههنا بقوله : {لأيات لأُوْلِى الألباب} وذكر في سورة البقرة مع هذه الدلائل الثلاثة خمسة أنواع أخرى ، حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل ، وههنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة : وهي السموات والأرض ، والليل والنهار ، فهذه أسئلة ثلاثة :
السؤال الأول : ما الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين ؟
والسؤال الثاني : لم اكتفى ههنا باعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية ؟
والسؤال الثالث : لم قال هناك : {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [ البقرة : 164 ] وقال ههنا : {لأُوْلِى الألباب }.
(19/66)
فأقول والله أعلم بأسرار كتابه : إن سويداء البصيرة تجري مجرى سواد البصر فكما أن سواد البصر لا يقدر أن يستقصي في النظر إلى شيئين ، بل إذا حدق بصره نحو شيء تعذر عليه في تلك الحالة تحديق البصر نحو شيء آخر ، فكذلك ههنا إذا حدق الإنسان حدقة عقله نحو ملاحظة معقول امتنع عليه في تلك الحالة تحديق حدقة العقل نحو معقول آخر ، فعلى هذا كلما كان اشتغال العقل بالالتفات إلى المعقولات المختلفة أكثر ، كان حرمانه عن الاستقصاء في تلك التعقلات والادراكات أكثر ، فعلى هذا : السالك إلى الله لا بد له في أول الأمر من تكثير الدلائل ، فإذا استنار القلب بنور معرفة الله صار اشتغاله بتلك الدلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة الله ، فالسالك في أول أمره كان طالباً لتكثير الدلائل ، فعند وقوع هذا النور في القلب يصير طالباً لتقليل الدلائل ، حتى إذا زالت الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير الله كمل فيه تجلى أنوار معرفة الله ، وإليه الإشارة بقوله : {فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى} [ طه : 12 ] والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما ، وقيل له : إنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل.
(19/67)
إذا عرفت هذه القاعدة ، فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل ، ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها ، تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لا بد له من تقليل الالتفات إلى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول ، فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية ، التنبيه على ما ذكرناه ، ثم إنه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية ، التي هي الدلائل الأرضية ، وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر ، والعجائب فيها أكثر ، وانتقال القلب منها إلى عظمة الله وكبريائه أشد ، ثم ختم تلك الآية بقوله : {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وختم هذه الآية بقوله : {لأُوْلِى الألباب} لأن العقل له ظاهر وله لب ، ففي أول الأمر يكون عقلا ، وفي كمال الحال يكون لبا ، وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه ، فهذا ما خطر بالبال ، والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 109 ـ 110}
قال رحمه الله :
قوله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } تقدّم معنى هذه الآية في "البقرة" في غير موضع.
فختم تعالى هذه السورة بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته ؛ إذ لا تصدر إلا عن حَيّ قيّوم قدير قُدّوس سلامٍ غنيٍّ عن العالمين ؛ حتى يكون إيمانُهم مستنداً إلى اليقين لا إلى التقليد.
{ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } الذين يستعملون عقولهم في تأمّل الدلائل.
(19/68)
ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لما نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم قام يُصلي ، فأتاه بِلالٌ يُؤْذِنُه بالصلاة ، فرآه يَبْكي فقال : يا رسول الله ، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر! فقال : " "يا بلالُ ، أفلا أكون عبداً شكوراً ولقد أنزل الله عليّ الليلة آية { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } ثم قال : " وَيْلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها" ".
قال العلماء : يستحبّ لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه ، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر الآيات اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما وسيأتي ؛ ثم يصلّي ما كُتب له ، فيجمع بين التفكّر والعمل ، وهو أفضل العمل على ما يأتي بيانه في هذه الآية بعد هذا.
ورُوي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة "آل عمران" كل ليلة ، خرّجه أبو نصر الوائلي السِّجِسْتانِيّ الحافظ في كتاب "الإبانة" من حديث سليمان بن موسى عن مظاهر بن أسلم المخزوميّ عن المَقْبُريّ عن أبي هريرة.
وقد تقدّم أوّل السورة عن عثمان قال : من قرأ آخر آل عمران في ليلة كُتب له قيام ليلة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 310}. بتصرف يسير.(19/69)
من فوائد أبى السعود فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السموات } جملةٌ مستأنفة سيقت لتقرير ما سبق من اختصاصه تعالى بالسلطان القاهرِ والقُدرة التامةِ صُدِّرت بكلمة التأكيدِ اعتناءً بتحقيق مضمونِها أي في إنشائها على ما هي عليه في ذواتها وصفاتِها من الأمور التي يَحار في فهم أجلاها العقولُ { والأرض } على ما هي عليه ذاتاً وصفةً { واختلاف اليل والنهار } أي في تعاقُبهما في وجه الأرضِ وكونِ كلَ منهما خِلْفةً للآخر بحسَب طلوعِ الشمسِ وغروبِها التابعَين لحركات السمواتِ وسكونِ الأرض ، أو في تفاوتهما بازدياد كلَ منهما بانتقاص الآخرِ وانتقاصِه بازدياده ، باختلاف حالِ الشمسِ بالنسبة إلينا قُرباً وبُعداً بحسب الأزمنةِ أو في اختلافهما وتفاوتِهما بحسب الأمكنةِ ، أما في الطول والقِصَر فإن البلادَ القريبةَ من القُطب الشماليِّ أيامُها الصيفيةُ أطولُ ولياليها الصيفيةُ أقصرُ من أيام البلادِ البعيدةِ منه ولياليها ، وأما في أنفسها فإن كرويةَ الأرضِ تقتضي أن يكون بعضُ الأماكنِ ليلاً وفي مقابله نهاراً وفي بعضها صباحاً وفي بعضها ظهراً أو عصراً أو غيرَ ذلك.(19/70)
والليلُ قيل : إنه اسمُ جنسٍ يُفرَّق بين واحدِه وجمعِه بالتاء كتمْر وتمرةٍ ، والليالي جمعُ جمعٍ والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحفظ له جمعٌ ، والليالي جمعُ ليلةٍ وهو جمعٌ غريبٌ كأنهم توهموا أنها ليلاةٌ كما في كَيْكة وكياكي كأنها جمعُ كيكاة ، والنهارُ اسمٌ لما بين طلوعِ الفجرِ وغروبِ الشمسِ قاله الراغب ، وقال ابن فارس : هو ضياءُ ما بينهما ، وتقديمُ الليلِ على النهار إما لأنه الأصل فإن غُررَ الشهورِ تظهر في الليالي ، وإما لتقدمه في الخلفية حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } أي نزيلُه منه فيخلُفه { لاَيَاتٍ } اسمُ إن دخلته اللامُ لتأخُّره عن خبرها ، والتنكيرُ للتفخيم كماً وكيفاً أي لآياتٍ كثيرةً عظيمةً لا يُقادر قدرُها دالةٌ على تعاجيب شؤونِه التي من جُملتها ما مر من اختصاص المُلكِ العظيمِ والقدرةُ التامةُ به سبحانه.
وعدمُ التعرضِ لما ذُكر في سورة البقرة من الفُلك والمطرِ وتصريفِ الرياحِ والسحابِ لما أن المقصودَ هاهنا بيانُ استبدادِه تعالى بما ذُكر من المُلك والقدرةِ فاكتُفي بمعظم الشواهدِ الدالةِ على ذلك ، وأما هناك فقد قُصِد في ضمن بيانِ اختصاصِه تعالى بالألوهية بيانُ اتصافِه تعالى بالرحمة الواسعةِ فنُظمت دلائلُ الفضلِ والرحمةِ في سلك دلائلِ التوحيدِ فإن ما فصل هناك ( هو ) من آيات رحمتِه تعالى كما أنه من آيات ألوهيتِه ووحدتِه.(19/71)
{ لأِوْلِى الألباب } أي لذوي العقول المجلُوَّة الخالصةِ عن شوائب الحسِّ والوهمِ المتجرِّدَين عن العلائق النفسانيةِ المتخلّصين من العوائق الظُلمانيةِ ، المتأملين في أحوال الحقائقِ وأحكامِ النعوتِ ، المراقبين في أطوار الملكِ وأسرارِ الملكوتِ ، المتفكرين في بدائع صنائعِ الملِكِ الخلاق ، المتدبرين في روائع حُكمِه المودَعةِ في الأنفس والآفاق ، الناظرين إلى العالم بعين الاعتبارِ والشهودِ ، المتفحّصين عن حقيقة سرِّ الحقِّ في كل موجود ، المثابرين على مراقبته وذِكراه غيرَ ملتفتين إلى شيء مما سواه إلا من حيث إنه مرآةٌ لمشاهدة جمالِه وآلةٌ لملاحظة صفاتِ كمالِه ، فإن كلَّ ما ظهر في مظاهر الإبداعِ وحضر محاضِرَ التكوينِ والاختراع سبيلٌ سوِيّ إلى عالم التوحيد ودليلٌ قوي على الصانع المجيدِ ناطقٌ بآيات قدرتِه ، فهل من سامع واعٍ ومخبِرٍ بأنباء علمِه وحكمتِه فهل له من داعٍ يكلم الناسَ على قدر عقولِهم ويرُدّ جوابَهم بحسب مقولِهم ، يحاور تارة بأوضح عبارةٍ ويلوّح أخرى بألطفِ إشارةٍ مراعياً في الحوار إبهامَهم وتصريحَهم : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } فتأمل في هذه الشؤونِ والأسرارِ إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار. عن عائشة رضي الله عنها أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " هل لك يا عائشةُ أن تأذني لي الليلةَ في عبادة ربي ؟ " فقلت : يا رسولَ الله إني لأُحِبُّ قُربَك وأحِبُّ هواك قد أذِنت لك ، فقام إلى قِربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يُكثر من صب الماءِ ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموعُ حِقْوَيه ثم جلس فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعَه قد بلت الأرضَ فأتاه بلالٌ يؤْذِنه بصلاة الغداةِ فرآه(19/72)
يبكي فقال له : يا رسولَ الله أتبكي وقد غفَر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " يا بلال أفلا أكونُ عبداً شكوراً ؟ " ثم قال : " ومالي لا أبكي وقد أنزل الله تعالى علي هذه الليلةِ إن في خلق السموات والأرض ؟ " الخ ، ثم قال : " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " وروي : " ويلٌ لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأملْها " وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : " إن في خلق السموات والأرض " الخ. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 127 ـ 128}(19/73)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }.
الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا مِنْ جِهَاتٍ : أَحَدُهَا : تَعَاقُبُ الْأَعْرَاضِ الْمُتَضَادَّةِ عَلَيْهَا مَعَ اسْتِحَالَةِ وُجُودِهَا عَارِيَّةً مِنْهَا ، وَالْأَعْرَاضُ مُحْدَثَةٌ ، وَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْمُحْدَثَ فَهُوَ مُحْدَثٌ.
وَقَدْ دَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْأَجْسَامِ لَا يُشْبِهُهَا ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يُشْبِهُ فِعْلَهُ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ ؛ إذْ كَانَ خَالِقُهَا وَخَالِقُ الْأَعْرَاضِ الْمُضَمَّنَةِ بِهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَضْدَادِهَا ؛ إذْ مَا لَيْسَ بِقَادِرٍ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الْفِعْلُ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهَا قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ وُجُودِهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِصَانِعٍ قَدِيمٍ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَاجَ الْفَاعِلُ إلَى فَاعِلٍ آخَرَ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا عَالِمٌ مِنْ حَيْثُ اسْتَحَالَ وُجُودُ الْفِعْلِ الْمُتْقَنِ الْمُحْكَمِ إلَّا مِنْ عَالِمٍ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَكِيمٌ عَدْلٌ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ عَالِمٌ بِقُبْحِهِ فَلَا تَكُونُ أَفْعَالُهُ إلَّا عَدْلًا وَصَوَابًا.(19/74)
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَشْبَهَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يُشْبِهَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا ، فَإِنْ أَشْبَهَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ مِثْلُهَا ، وَإِنْ أَشْبَهَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُشَبَّهِينَ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ اشْتَبَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي حُكْمِ الْحُدُوثِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ.
وَيَدُلُّ وُقُوفُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ أَنَّ مُمْسِكَهَا لَا يُشْبِهُهَا ، لِاسْتِحَالَةِ وُقُوفِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ مِنْ جِسْمٍ مِثْلِهَا.
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُضَمَّنَةِ بِهَا.
وَدَلَالَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُحْدَثَانِ لِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إيجَادِهَا وَلَا عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهَا ، وَقَدْ اقْتَضَيَا مُحْدَثًا مِنْ حَيْثُ كَانَا مُحْدَثَيْنِ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ حَادِثٍ لَا مُحْدِثَ لَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثُهُمَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُشْبِهٌ لِلْأَجْسَامِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إحْدَاثِ مِثْلِهَا.
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُشْبِهَ لِلْجِسْمِ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْحُدُوثِ ، فَلَوْ كَانَ فَاعِلُهُمَا حَادِثًا لَاحْتَاجَ إلَى مُحْدِثٍ ، ثُمَّ كَذَلِكَ يَحْتَاجُ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ ، وَذَلِكَ مُحَالٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ صَانِعٍ قَدِيمٍ لَا يُشْبِهُ الْأَجْسَامَ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 334 ـ 335}(19/75)
قوله تعالى { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}
مناسبة الآيتين لما قبلهما
قال البقاعى :
ولما كان كل مميز يدعي أنه في الذروة من الرشاد نعتهم بما بين من يعتد بعقله فقال : {الذين يذكرون الله} أي الذي ليس في خلقه لهما ولا لغيرهما شك ، وله جميع أوصاف الكمال.
ولما كان المقصود الدوام وكان قد يتجوز به عن الأكثر ، عبر عنه لهذا التفصيل نفياً لاحتمال التجوز ودفعاً لدعوى العذر فقال : {قياماً وقعوداً} ولما كان أكثر الاضطجاع على الجنب قال : {وعلى جنوبهم} أي في اشتغالهم بأشغالهم وفي وقت استراحتهم وعند منامهم ، فهم في غاية المراقبة.
ولما بدأ من أوصافهم بما يجلو أصداء القلوب ويسكنها وينفي عنها الوساوس حتى استعدت لتجليات الحق وقبول الفيض بالفكر لانتفاء قوة الشهوة وسورة الغضب وقهرهما وضعف داعية الهوى ، فزالت نزغات الشيطان ووساوسه وخطرات النفس ومغالطات الوهم قال : {ويتفكرون} أي على الأحوال.
ولما كانت آيات المعرفة إما في الآفاق وإما في الأنفس ، وكانت آيات الآفاق أعظم {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} [ غافر : 57 ].
قال : {في خلق السماوات والأرض} على كبرهما واتساعهما وقوة ما فيهما من النافع لحصر الخلائق فيعلمون - بما في ذلك من الأحكام مع جري ما فيهما من الحيوان الذي خلقا لأجله على غير انتظام - أن وراء هذه الدار داراً يثبت فيها الحق وينفى الباطل ويظهر العدل ويضمحل الجور ، فيقولون تضرعاً إليه وإقبالاً عليه : {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {ما خلقت هذا} أي الخلق العظيم المحكم {باطلاً} أي لأجل هذه الدار التي لا تفصل فيها على ما شرعت القضايا ، ولا تنصف فيها الرعاة الرعايا ، بل إنما خلقته لأجل دار أخرى ، يكون فيها محض العدل ، ويظهر فيها الفصل.(19/76)
ولما كان الاقتصار على هذه الدار مع ما يشاهده من ظهور الأشرار نقصاً ظاهراً وخللاً بيناً نزهوه عنه فقالوا : {سبحانك} وفي ذلك تعليم العباد أدب الدعاء بتقديم الثناء قبله ، وتنبيه على أن العبد كلما غزرت معرفتة زاد خوفه فزاد تضرعه ، فإنه يحسن منه كل شيء من تعذيب الطائع وغيره ، ولولا أن ذلك كذلك لكان الدعاء بدفعه عبثاً ، وما أحسن ختمها حين تسبب عما مضي تيقنهم أن أمامنا داراً يظهر فيها العدل مما هو شأن كل أحد في عبيده ، فيعذب فيها العاصي وينعم فيها الطائع ، كما هو دأب كل ملك في رعيته بقولهم رغبة في الخلاص في تلك الدار : {فقنا عذاب النار} على وجه جمع بين ذكر العذاب المختتم به آية محبّي المحمدة بالباطل ، والنار المحذر منها في {فمن زحزح عن النار} [ آل عمران : 185 ] ثم تعقبها بقولهم معظمين ما سألوا دفعه من العذاب ليكون موضع السؤال أعظم ، فيدل على أن الداعية في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه أتم ، مكررين الوصف المقتضي للإحسان مبالغة في إظهار الرغبة استمطاراً للإجابة : {ربنآ} وأكدوا مع علمهم بإحاطة علم المخاطب إعلاماًَ بأن حالهم في تقصيرهم حال من أمن النار حثاً لأنفسهم على الاجتهاد في العمل فقالوا : {إنك من تدخل النار} أي للعذاب {فقد أخزيته} أي أذللته وأهنته إهانة عظيمة بكونه ظالماً.
وختمها بقوله : {وما للظالمين من أنصار} الحاسم لطمع من يظن منهم أنه بمفازة من العذاب ، وأظهر موضع الإضمار لتعليق الحكم بالوصف والتعميم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 197 ـ 198}(19/77)
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بالعبودية ، وأصناف العبودية ثلاثة أقسام : التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، فقوله تعالى : {يَذْكُرُونَ الله} إشارة إلى عبودية اللسان ، وقوله : {قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ} إشارة إلى عبودية الجوارح والأعضاء ، وقوله : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض} إشارة إلى عبودية القلب والفكر والروح ، والانسان ليس إلى هذا المجموع ، فإذا كان اللسان مستغرقا في الذكر ، والأركان في الشكر ، والجنان في الفكر ، كان هذا العبد مستغرقا بجميع أجزائه في العبودية ، فالآية الأولى دالة على كمال الربوبية ، وهذه الآية دالة على كمال العبودية ، فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق إلى الحق ، وفي نقل الأسرار من جانب عالم الغرور إلى جناب الملك الغفور. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 110}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلوا ابن آدم منها في غالب أمره ، فكأنها تحصُر زَمانه.
ومن هذا المعنى قولُ عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
أخرجه مسلم.
فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغيرُ ذلك.
وقد اختلف العلماء في هذا ؛ فأجاز ذلك عبد الله بن عمرو وابن سِيرين والنَّخعِيّ ، وكره ذلك ابن عباس وعطاء والشعبيّ.
والأوّل أصح لعموم الآية والحديث.
قال النَّخعيّ : لا بأس بذكر الله في الخلاء فإنه يَصعد.
المعنى : تَصعد به الملائكة مكتوباً في صحفهم ؛ فحذف المضاف.
دليله قوله تعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ].(19/78)
وقال : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الإنفطار : 10-11 ] ولأن الله عز وجل أمر عباده بالذكر على كل حال ولم يستثن فقال : { اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] وقال : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] وقال : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] فعمّ.
فذاكر الله تعالى على كل حالاته مُثابٌ مَأجُور إن شاء الله تعالى.
وذكر أبو نعيم قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدّثني أبي قال حدّثنا وكِيع قال حدّثنا سفيان عن عطاء بن أبي مَرْوان عن أبيه عن كَعب الأحبار قال : قال موسى عليه السلام : "يا ربّ أقريبٌ أنت فأُناجِيك أم بعيد فأُنَادِيك قال : يا موسى أنا جليسُ مَن ذكرني قال : يا ربّ فإنا نكون من الحال على حال نُجِلّك ونُعظّمك أن نَذْكُرك قال : وما هي ؟ قال : الجنابة والغائط قال : يا موسى اذكرني على كل حال".
وكراهية من كَرِه ذلك إمّا لتنزيه ذِكر الله تعالى في المواضع المرغوب عن ذكره فيه ككراهية قراءة القرآن في الحمّام ، وإما إبقاء على الكِرام الكاتبين على أن يحلّهم موضع الأقذار والأنجاس لكتابة ما يلفِظ به ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 310 ـ 311}(19/79)
وقال الآلوسى :
{ الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } في موضع جرّ على أنه نعت { لأولي } [ آل عمران : 190 ] ويجوز أن يكون في موضع رفع أو نصب على المدح ، وجعله مبتدأ والخبر محذوف تقديره يقولون : ربنا آمنا بعيد لما فيه من تفكيك النظم ، ويزيده بعداً ما أخرجه الأصبهاني في "الترغيب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينادي مناد يوم القيامة أين أولو الألباب ؟ قالوا : أي أولي الألباب تريد ؟ قال : { الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً } الخ عقد لهم لواء فاتبع القوم لواءهم وقال لهم ادخلوها خالدين " والظاهر أن المراد من الذكر الذكر باللسان لكن مع حضور القلب إذ لا تمدح بالذكر بدونه بل أجمعوا على أنه لا ثواب لذاكر غافل ، وإليه ذهب كثير ، وعدّ ابن جريج قراءة القرآن ذكراً فلا تكره للمضطجع القادر ، نعم نص بعض الشافعية على كراهتها له إذا غطى رأسه للنوم ، وقال بعض المحققين : المراد به ذكره تعالى مطلقاً سواء كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال ، وسواء قارنه ذكر اللسان أو لا ، والمعنى عليه الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره واستغراق سرائرهم في مراقبته ، وعليه فيحمل ما حكي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وعروة بن الزبير ، وجماعة رضي الله تعالى عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم : أما قال الله تعالى : { يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً } فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم على أن مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها وليس مرادهم به تفسيرها وتحقيق مصداقها على التعيين وإلا لاضطجعوا وذكروا أيضاً ليتم التفسير وتحقيق المصداق.(19/80)
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود في الآية أنه قال : إنما هذا في الصلاة إذا لم تستطع قائماً فقاعداً وإن لم تستطع قاعداً فعلى جنب ، وكذلك أمر صلى الله عليه وسلم عمران بن حصين ، وكانت به بواسير كما أخرجه البخاري عنه وبهذا الخبر احتج الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن المريض يصلي مضطجعاً على جنبه الأيمن مستقبلاً بمقادم بدنه ولا يجوز له أن يستلقي على ظهره على ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وجعل الآية حجة على ذلك بناءاً على أنه لما حصر أمر الذاكر في الهيئات المذكورة دل على أن غيرها ليس من هيئته والصلاة مشتملة على الذكر فلا ينبغي أن تكون على غير هيئته محل تأمل ، وتخصيص ابن مسعود الذكر بالصلاة لا ينتهض حجة على أنه بعيد من سياق النظم الجليل وسباقه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 157 ـ 158}
فصل
قال الفخر :
للمفسرين في هذه الآية قولان :
الأول : أن يكون المراد منه كون الإنسان دائم الذكر لربه ، فإن الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة ، ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلا على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه ألبتة.
والقول الثاني : أن المراد من الذكر الصلاة ، والمعنى أنهم يصلون في حال القيام ، فإن عجزوا ففي حال القعود ، فإن عجزوا ففي حال الاضطجاع ، والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال ، والحمل على الأول أولى لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر ، وقال عليه الصلاة والسلام : " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 110 ـ 111}
قال ابن عاشور :
وقيل : أراد أحوال المصلّين : من قادر ، وعاجز ، وشديد العجز.
وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 308}(19/81)
فصل
قال القرطبى :
وإذا كانت الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلّي قائماً ، فإن لم يستطع فقاعداً ، فإن لم يستطع فعلى جَنبه ؛ كما ثبت " عن عِمران بن حُصين قال : كان بي البَواسِير فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال : "صلِّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جُنْب" " رواه الأئمة : وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلِّي قاعداً قبل موته بعام في النافلة ؛ على ما في صحيح مسلم.
وروى النَّسائيّ عن عائشة رضي الله عنها قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي متربّعاً.
قال أبو عبد الرحمن : لا أعلم أحداً روى هذا الحديث غير أبي داود الحَفَرِيّ وهو ثقة ، ولا أحسَب هذا الحديث إلا خطأ ، والله أعلم.
واختلف العلماء في كيفية صلاة المريض والقاعد وهيئتها ؛ فذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه يتربّع في قيامه ، وقاله البُوَيْطِيّ عن الشافعيّ.
فإذا أراد السجود تهيّأ للسجود على قدر ما يطيق ، قال : وكذلك المتنفل.
ونحوه قول الثوري ، وكذلك قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد.
وقال الشافعيّ في رواية المُزَنيّ : يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد.
وُروي هذا عن مالك وأصحابِه ؛ والأوّل المشهور وهو ظاهر المدوّنة.
وقال أبو حنيفة وزفر : يجلس كجلوس التشهد ، وكذلك يركع ويسجد.
قال : فإن لم يستطع القعود صلَّى على جنبه أو ظهره على التخيير ؛ هذا مذهب المدوّنة وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلِّي على ظهره ، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ثم على جنبه الأيسر.
وفي كتاب ابن الموّاز عكسه ، يصلِّي على جنبه الأيمن ، وإلا فعلى الأيسر ، وإلا فعلى الظهر.
وقال سحنون : يصلِّي على الأيمن كما يجعل في لحده ، وإلا فعلى ظهره وإلا فعلى الأيسر.
وقال مالك وأبو حنيفة : إذا صلَّى مضطجعاً تكون رجلاه مما يلي القِبلة.(19/82)
والشافعيّ والثوريّ : يصلي على جنبه ووجهه إلى القِبلة.
فإن قوِي لخفة المرض وهو في الصلاة ؛ قال ابن القاسم : إنه يقوم فيما بقي من صلاته ويبنِي على ما مضى ؛ وهو قول الشافعيّ وزفر والطبريّ.
وقال أبو حنيفة وصاحباه يعقوب ومحمد فيمن صلَّى مضطجعاً ركعة ثم صحّ : إنه يستقبل الصلاة من أوّلها ، ولو كان قاعداً يركع ويسجد ثم صحّ بنى في قول أبي حنيفة ولم يَبْنِ في قول محمد.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا افتتح الصلاة قائماً ثم صار إلى حدّ الإيماء فليَبْن ؛ وروى عن أبي يوسف.
وقال مالك في المريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود وهو يستطيع القيام والجلوس : إنه يصلِّي قائماً ويومىء إلى الركوع ، فإذا أراد السجود جلس وأومأ إلى السجود ؛ وهو قول أبي يوسف وقياس قول الشافعيّ.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يصلِّي قاعداً.
وأما صلاة الراقد الصحيح فروي من حديث عِمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره ، وهي : "صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد".
قال أبو عمر : وجمهور أهل العلم لا يُجيزُون النافلَة مضطجعاً ؛ وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلِّم وهو حسين ابن ذَكْوان عن عبد الله بن برَيْدة عن عِمران بن حصين ، وقد اختلف على حسين في إسناده ومتنه اختلافا يوجب التوقف عنه ، وإن صحّ فلا أدري ما وجهه ؛ فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعاً لمن قدر على القعود أو على القيام فوجهه هذه الزيادة في هذا الخبر ، وهي حجة لمن ذهب إلى ذلك.
وإن أجمعوا على كراهة النافلة راقداً لمن قدر على القعود أو القيام ، فحديث حسين هذا إمّا غلط وإما منسوخ.
(19/83)
وقيل : المراد بالآية الذين يستدلون بخلق السموات والأرض على أن المتغيِّر لا بدّ له من مُغيِّر ، وذلك المغير يجب أن يكون قادراً على الكمال ، وله أن يبعث الرسل ، فإن بعث رسولاً ودل على صدقه بمعجزة واحدة لم يبق لأحد عذر ؛ فهؤلاء هم الذين يذكرون الله على كل حال ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 311 ـ 311}. بتصرف يسير.
فائدة
قال الفخر :
يحتمل أن يكون المراد بهذا الذكر هو الذكر باللسان ، وأن يكون المراد منه الذكر بالقلب ، والأكمل أن يكون المراد الجمع بين الأمرين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 111}
لطيفة
قال أبو حيان :
وعلى الظاهر من تفسير الذكر فتقديم القيام ، لأن الذكر فيه أخف على الإنسان ، ثم انتقل إلى حالة القعود والذكر فيه أشق منه في حالة القيام ، لأن الإنسان لا يقعد غالباً إلا لشغل يشتغل به من صناعة أو غيرها.
ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود ، لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل.
ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زماناً ، فبدىء بالقيام لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود ، ثم بالقعود إذ زمانه أطول ، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود.
ألا ترى أنَّ الليل جميعه هو زمان الاضطجاع ، وهو مقابل لزمان القعود والقيام ، وهو النهار ؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة ، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة.
فمن قدر على القيام لا يصلي قاعداً ، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعاً ، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل الأفضلية ، إذ الأفضل التنفل قائماً ثم قاعداً ثم مضطجعاً.
وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى : يذكرون الله قياماً بأوامره ، وقعوداً عن زواجره ، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه.(19/84)
وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب ، وقريب من الباطنية. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 145 ـ 146}
فصل
قال الفخر :
قال الشافعي رضي الله عنه : إذا صلى المريض مضطجعاً وجب أن يصلي على جنبه ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : بل يصلى مستلقياً حتى إذا وجد خفة قعد ، وحجة الشافعي رضي الله عنه ظاهر هذه الآية ، وهو أنه تعالى مدح من ذكره على حال الاضطجاع على الجنب ، فكان هذا الوضع أولى.
واعلم أن فيه دقيقة طبية وهو أنه ثبت في المباحث الطبية أن كون الإنسان مستلقياً على قفاه يمنع من استكمال الفكر والتدبر ، وأما كونه مضطجعاً على الجنب فإنه غير مانع منه ، وهذا المقام يراد فيه التدبر والتفكر ، ولأن الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق ، فكان هذا الوضع أولى ، لكونه أقرب إلى اليقظة ، وإلى الاشتغال بالذكر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 111}
قوله تعالى {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض}
فصل
قال الفخر :(19/85)
اعلم أنه تعالى رغب في ذكر الله ، ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله ، بل رغب في الفكر في أحوال السموات والأرض ، وعلى وفق هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام : " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق " والسبب في ذلك أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة ، إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة ، فإذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها ، وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " من عرف نفسه عرف ربه " معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم ، ومن عرف نفسه بالامكان عرف ربه بالوجوب ، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء ، فكان التفكر في الخلق ممكنا من هذا الوجه ، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة ، فإذن لا يتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول : إنه ليس بجوهر ولا عرض ، ولا مركب ولا مؤلف ، ولا في الجهة ، ولا شك أن حقيقته المخصوصة مغايرة لهذه السلوب ، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله المدهوش المتحير في هذا الموقف فلهذا السبب نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في الله ، وأمر بالتفكر في المخلوقات ، فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآيات بذكره ، ولما ذكر الفكر لم يأمر بالتفكر فيه ، بل أمر بالفكر في مخلوقاته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 111}(19/86)
قال الآلوسى :
{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض } عطف على { يَذَّكَّرُونَ } وعطفه على الأحوال السابقة غير ظاهر وتقديم الذكر في تلك الحالات على التفكر لما أن فيهما الاعتراف بالعبودية ، والعبد مركب من النفس الباطنة والبدن الظاهر ، وفي الأول : إشارة إلى عبودية الثاني ، وفي الثاني : إشارة إلى عبودية الأول لأن التفكر إنما يكون بالقلب والروح ، وفي بيان العبودية بعد الفراغ من آيات الربوبية ما لا يخفى من اللطف ، وقيل : قدم الأول لأنه إشارة إلى النظر في الأنفس وأخر الثاني لأنه إشارة إلى النظر في الآفاق ولا شبهة في تقدم الأول على الثاني ، وصرح مولانا شيخ الإسلام بأن هذا بيان للتفكر في أفعاله تعالى ، وما تقدم بيان للتفكر في ذاته تعالى على الإطلاق ، والذي عليه أئمة التفسير أنه سبحانه إنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته جل شأنه وعز سلطانه ، وقد ورد هذا النهي في غير ما حديث ، فقد أخرج أبو الشيخ والأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال : " لا تفكروا في الله تعالى ولكن تفكروا فيما خلق " وعن عمرو بن مرة قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون فقال : " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق " وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في الله تعالى " ، وعن ابن عباس تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله تعالى إلى غير ذلك ففي كون الأول بياناً للتفكر في ذاته سبحانه على الإطلاق نظر على أن بعض الفضلاء ذكر في تفسيره أن التفكر في الله سبحانه محال لما أنه يستدعي الإحاطة بمن هو بكل شيء محيط فتدبر ، وقيل : قدم الذكر على الدوام على التفكر للتنبيه على(19/87)
أن العقل لا يفي بالهداية ما لم يتنور بنور ذكر الله تعالى وهدايته فلا بد للمتفكر من الرجوع إلى الله تعالى ورعاية ما شرع له ، وأن العقل المخالف للشرع لبس الضلال ولا نتيجة لفكره إلا الضلال ، والخلق إما بمعنى المخلوق على أن الإضافة بمعنى في أي يتفكرون فيما خلق في السموات والأرض أعم من أن يكون بطريق الجزئية منهما أو بطريق الحلول فيهما ، أو على أنها بيانية أي في المخلوق الذي هو السموات والأرض ، وإما باق على مصدريته أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعهما بما فيهما من عجائب المصنوعات ودقائق الأسرار ولطائف الحكم ويستدلون بذلك على الصانع ووحدته الذاتية وأنه الملك القاهر والعالم القادر والحكيم المتقن إلى غير ذلك من صفات الكمال ، ويجرّهم ذلك إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وتحقيق المعاد وثبوت الجزاء ، ولشرافة هذه الثمرة الحاصلة من التفكر مع كونه من الأعمال المخصوصة بالقلب البعيدة عن مظان الرياء كان من أفضل العبادات ، وقد أخرج أبو الشيخ في "العظمة" عن ابن عباس قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة ، وأخرج ابن سعد عن أبي الدرداء مثله ، وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعاً مثله ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة " ، وعنه أيضاً مرفوعاً بينما رجل مستلق ينظر إلى النجوم وإلى السماء فقال والله إني لأعلم أن لك رباً وخالقاً اللهم اغفر لي فنظر الله تعالى له فغفر له ، وأخرج ابن المنذر عن عون قال : سألت أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء ؟ قالت : التفكر والاعتبار.(19/88)
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عامر بن قيس قال : سمعت غير واحد لا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر ، واقتصر سبحانه على ذكر التفكر في خلق السموات والأرض ولم يتعرض جل شأنه لإدراج اختلاف الليل والنهار في ذلك السلك مع ذكره فيما سلف وشرف التفكر فيه أيضاً كما يقتضيه التعليل ، وظاهر ما أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعاً " تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة " إما للإيذان بظهور اندراج ذلك فيما ذكر لما أن الاختلاف من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض على ما أشير إليه ، وإما للإشعار بمسارعة المذكورين إلى الحكم بالنتيجة لمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في إثبات المطلوب. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 158 ـ 159}
وقال أبو السعود :
{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض } عطفٌ على { يَذَّكَّرُونَ } منتظمٌ معه في حيِّز الصلةِ(19/89)
فلا محلَّ له من الإعراب ، وقيل : محلُّه النصبُ على أنه معطوفٌ على الأحوال السابقةِ وليس بظاهر ، وهو بيانٌ لتفكرهم في أفعاله سبحانه إثرَ بيانِ تفكرِهم في ذاته تعالى على الإطلاق وأشار إلى نتيجته التي يؤدّي إليها من معرفة أحوالِ المعادِ حسبما نطقت به ألسنةُ الرسلِ وآياتُ الكتبِ ، فكما أنها آياتٌ تشريعيةٌ هاديةٌ للخلق إلى معرفته تعالى ووجوبِ طاعتِه كذلك المخلوقاتُ آياتٌ تكوينيةٌ مرشدةٌ لهم إلى ذلك ، فالأُولى منبِّهاتٌ لهم على الثانية ودواعٍ إلى الاستشهاد بها كهذه الآيةِ الكريمةِ ونحوِها مما ورد في مواضعَ غيرِ محصورةٍ من التنزيل ، والثانيةُ مؤيِّداتٌ للأولى وشواهدُ دالةٌ على صحة مضمونِها وحقّيةِ مكنونِها ، فإن من تأمل في تضاعيف خلقِ العالَمِ على هذا النمطِ البديعِ قضى باتصاف خالقِه تعالى بجميع من نطقت به الرسلُ والكتبُ من الوجوب الذاتيِّ والوَحدةِ الذاتيةِ والمُلك القاهِرِ والقُدرةِ التامةِ والعلمِ الشاملِ والحِكمةِ البالغةِ وغيرِ ذلك من صفات الكمالِ ، وحكمَ بأن مَن قدَر على إنشائه بلا مثال يِحتذيه أو قانونٍ ينتحيه فهو على إعادته بالبعث أقدرُ ، وحكمَ بأن ذلك ليس إلا لحكمة باهرةٍ هي جزاءُ المكلَّفين بحسب استحقاقِهم المنوطِ بأعمالهم أي علومِهم واعتقاداتِهم التابعةِ لأنظارهم فيما نُصب لهم من الحُجج والدلائلِ والأَماراتِ والمَخايلِ وسائرِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك ، فإن العملَ غيرُ مختصَ بعمل الجوارحِ بل متناولٌ للعمل القلبيِّ ، وهو أشرفُ أفراده لما أن لكلٍ من القلب والقالَب عملاً خاصاً.(19/90)
ومن قضية كونِ الأولِ أشرفَ من الثاني كونُ عملِه أيضاً أشرفَ من عملِه ، كيف لا ، ولا عملَ بدون معرفتِه تعالى التي هي أولُ الواجباتِ على العباد ، والغايةُ القُصوى من الخلق على ما نطَق به عز وجل : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أي ليعرفونِ كما أَعرَب عنه قولُه عليه الصلاة والسلام : " يقول الله تعالى : "كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأُعرف " وإنما طريقُها النظرُ والتفكرُ فيما ذُكر من شؤونه تعالى. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال : " لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ متى فإنه كان يُرفع له كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرض "
قالوا : وإنما كان ذلك التفكّرَ في أمر الله تعالى ولذلك قال عليه السلام : " لا عبادةَ مثلُ التفكر " وقد عرفت أنه مستتبِعٌ لتحقيق ما جاءت به الشريعةُ الحقةُ ، وإلا لما فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } بقوله عليه الصلاة والسلام : " أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارم الله تعالى " فإن التورعَ عن محارمه سبحانه موقوفٌ على معرفة الحلالِ والحرامِ المنوطةِ بالكتاب والسنة ، فحينئذ تتصادقُ الآياتُ التكوينيةُ وتتوافق الأدلةُ السمعيةُ والعقليةُ وهو السرُّ في نظم ما حُكي عن المتفكرين من الأمور المستدعِيةِ للإيمان بالشريعة في سلك نتيجةِ تفكُّرِهم كما ستقف عليه.(19/91)
وإظهارُ خلقِ السمواتِ والأرضِ مع كفاية الإضمارِ لإبراز كمالِ العنايةِ ببيان حالِهم ، والإيذانِ بكون تفكرِهم على وجه التحقيقِ والتفصيلِ وعدمِ التعرضِ لإدراج اختلافِ المَلَوْينِ في سلك التفكر مع ذكره فيما سلف إما للإيذان بظهور اندراجِه فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعةِ لأحوال السمواتِ والأرضِ كما أشير إليه ، وإما للإشعار بمسارعتهم إلى الحُكم بالنتيجة بمجرد تفكرِهم في بعض الآياتِ من غير حاجةٍ إلى بعض آخَرَ منها في إثبات المطلوب. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 129 ـ 130}
فصل
قال الثعالبى :
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السموات والأرض } ، قال ابنُ رُشْدٍ : والتفكُّر مِنَ الأعمال ؛ كما قاله مالك ( رحمه اللَّه ) ، وهو مِنْ أشرف الأعمال ؛ لأنه مِنْ أعمال القُلُوب التي هي أشْرَفُ الجوارحِ ؛ أَلاَ ترى أنه لا يُثَابُ أحدٌ على عملٍ مِنْ أعمال الجَوَارح مِنْ سائر الطَّاعات ، إلاَّ مع مشارَكَةِ القُلُوبِ لها بإخلاص النِّيَّة للَّه ( عَزَّ وجَلَّ ) في فعلها. انتهى من "الَبَيانِ والتحصيل".
قال ابنُ بَطَّال : إن الإنسان إذا كَمُل إيمانه ، وكَثُر تفكُّره ، كان الغالِبُ علَيْه الإشفاقَ والخَوْف. انتهى.
قال ابنُ عطاءِ اللَّهِ : الفِكْرَةُ سَيْر القَلْب في ميادين الاعتبار ، والفَكْرَةِ سِرَاجُ القَلْب ، فإذا ذَهَبَتْ ، فلا إضاءة له.
قُلْتُ : قال بعض المحقِّقين : وذلك أن الإنسان إذا تفكَّر ، عَلِم ، وإذا عَلِمَ ، عَمِلَ.(19/92)
قال ابنُ عَبَّاد : قال الإمام أبو القاسم القُشَيْريُّ ( رحمه اللَّه ) : التفكُّر نعتُ كلِّ طالب ، وثمرتُهُ الوصولُ بشرط العِلْمِ ، ثم فِكْرُ الزاهدين : في فناءِ الدنيا ، وقلَّةِ وفائها لطلاَّبها ؛ فيزدادُونَ بالفِكْرِ زهْداً ، وفِكْرُ العابدين : في جَميلِ الثوابِ ، فيزدادُونَ نَشَاطاً ورغبةً فيه ، وفِكْرُ العارفين : في الآلاء والنعماء ؛ فيزدادُونَ محبَّةً للحَقِّ سبحانه. انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 341 ـ 342}
فائدة
قال القرطبى :
وحكي أن سفيان الثوريّ رضي الله عنه صلَّى خلف المقام ركعتين ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، فلما رأى الكواكب غشي عليه ، وكان يبول الدّم من طول حزنه وفكرته.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما رجل مستلقٍ على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لكِ رباً وخالقاً اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له " وقال صلى الله عليه وسلم : " لا عبادة كتفكر " ورُوي عنه عليه السلام قال : " تفكر ساعةٍ خير من عبادة سنة " وروى ابن القاسم عن مالك قال : قيل لأم الدرداء : ما كان أكثر شأن أبي الدرداء ؟ قالت : كان أكثر شأنه التفكر.
قيل له : أفترى التفكر عمل من الأعمال ؟ قال : نعم ، هو اليقين.
وقيل لابن المسيّب في الصلاة بين الظهر والعصر ، قال : ليست هذه عبادة ، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله.
وقال الحسن : تفكر ساعة خير من قيام ليلة ؛ وقاله ابن عباس وأبو الدرداء.
وقال الحسن : الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته.
ومما يتفكر فيه مخاوف الآخرة من الحشر والنشر والجنة ونعيمها والنار وعذابها.(19/93)
ويروى أن أبا سليمان الدارانيّ رضي الله عنه أخذ قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف ، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام لذلك متفكراً حتى طلع الفجر ؛ فقال له : ما هذا يا أبا سليمان ؟ قال : إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تفكرت في قول الله تعالى { إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ والسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ } تفكرت في حالي وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة ، فما زلت في ذلك حتى أصبحت.
قال ابن عطية : "وهذا نهاية الخوف ، وخير الأُمور أوساطها ، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج ، وقراءة علم كتاب الله تعالى ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهَم ويُرجى نفعه أفضل من هذا". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 114 ـ 115}
وقال ابن كثير :
وقال الشيخ أبو سليمان الداراني : إني لأخرجُ من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عَلَي فيه نِعْمَة ، أوْ لِي فيه عِبْرَة. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "التفكر والاعتبار".
وعن الحسن البصري أنه قال : تَفَكُّر سَاعَة خير من قيام ليلة. وقال الفُضَيل : قال الحسن : الفكرة مِرْآة تريك حَسنَاتك وسيئاتك. وقال سفيان بن عيينة : الفكرة نور يدخل قلبك. وربما تمثل بهذا البيت :
إذا المرء كانت له فكْرَةٌ... ففي كل شيء له عبرَة...
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : طُوبَى لمن كان قِيلُه تذكّرًا ، وصَمْته تَفكُّرًا ، ونَظَره عبرًا.
وقال لقمان الحكيم : إن طول الوحدة ألْهَمُ للفكرة ، وطولَ الفكْرة دليل على طَرْق باب الجنة.
وقال وهب بن مُنَبِّه : ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهم ، وما فهم امرؤ قط إلا علم ، وما علم امرؤ قط إلا عمل.
وقال عمر بن عبد العزيز : الكلام بذكر الله ، عز وجل ، حَسَن ، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة.
(19/94)
وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم ، وشاهدوا الموقف بقلوبكم ، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار ، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها ، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرْفع صَريعا من بين أصحابه ، قد ذهب عقله.
وقال عبد الله بن المبارك : مَرَّ رجل برَاهبٍ عند مَقْبَرة ومَزْبَلَة ، فناداه فقال : يا راهب ، إن عندك كَنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعْتَبَر ، كنز الرجال وكنز الأموال.
وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه ، يأتي الخَرِبة فيقف على بابها ، فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهْلُك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [القصص : 88].
وعن ابن عباس أنه قال : ركعتان مقتصدتان في تَفكُّر ، خير من قيام ليلة والقلب ساه.
وقال الحسن : يا ابن آدم ، كُلْ في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلثه الآخر تتنفَّس للفكرة.
وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة.
وقال بِشْر بن الحارث الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.
وقال الحسن ، عن عامر بن عبد قيس قال : سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان ، أو نور الإيمان ، التفكر.
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : يا ابن آدم الضعيف ، اتق الله حيثما كنت ، وكُنْ في الدنيا ضَيْفًا ، واتَّخِذِ المساجدَ بيتا ، وعَلِّم عينيك البكاء ، وجَسَدك الصَّبْر ، وقلبك الفِكْر ، ولا تهتم برزق غد.
(19/95)
وعن أمير المؤمنين عُمَرَ بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، أنه بكى يوما بين أصحابه ، فسُئل عن ذلك ، فقال : فَكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تَنْقَضي حتى تكدرها مرارتُها ، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادّكر.
وقال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحُسَين بن عبد الرحمن : نزهَة المؤمن الفكَرْ... لذّة المؤمن العِبرْ...
نحمدُ اللهَ وَحْدَه... نحْنُ كل عَلَى خَطَرْ...
رُبّ لاهٍ وعُمْرُه... قد تَقَضّى وما شَعَرْ...
رُبّ عيش قَدْ كَانَ فو... ق المُنَى مُونقَ الزَهَرْ...
في خَرير من العيُو... ن وَظل من الشَّجَرْ...
وسُرُور من النَّبا... ت وَطيب منَ الثَمَرْ...
غَيَّرَتْه وَأهْلَهُ سرعةُ الدّهْر بالغَيرْ ...
نَحْمَد الله وحده... إنّ في ذا لمعتبر...
إن في ذَا لَعبرةً... للبيب إن اعْتَبَرْ...
(19/96)
وقد ذمّ الله تعالى مَنْ لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته ، فقال : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ. وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف : 105 ، 106] ومدح عباده المؤمنين : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قائلين { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا } أي : ما خلقت هذا الخلق عَبَثًا ، بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا ، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا : { سُبْحَانَكَ } أي : عَنْ أن تخلق شيئا باطلا { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي : يا من خَلَق الخلق بالحق والعدل يا من هو مُنزه عن النقائص والعيب والعبث ، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وَقيضْنَا لأعمال ترضى بها عنا ، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم ، وتجيرنا به من عذابك الأليم. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 184 ـ 186}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله ، فكلما كانت أفعاله أشرف وأعلى كان وقوف العقل على كمال ذلك الفاعل أكمل ، ولذلك إن العامي يعظم اعتقاده في القرآن ولكنه يكون اعتقادا تقليديا إجمالياً ، أما المفسر المحقق الذي لا يزال يطلع في كل آية على أسرار عجيبة ، ودقائق لطيفة ، فإنه يكون اعتقاده في عظمة القرآن أكمل.(19/97)
إذا عرفت هذا فنقول : دلائل التوحيد محصورة في قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى : {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [ غافر : 57 ] ولما كان الأمر كذلك لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم ، وكيف لا نقول ذلك ولو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة ، رأى في تلك الورقة عرقا واحداً ممتدا في وسطها ، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ، ثم يتشعب منها عروق دقيقة.
(19/98)
ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسراراً عجيبة ، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم ، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة وكيفية التدبير في إيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه ، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان ، عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم ، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له ألبتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السموات والأرض ، وإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين ، بل يسلم أن كل ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة وإن كان لا سبيل له إلى معرفتها ، فعند هذا يقول : سبحانك! والمراد منه اشتغاله بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم ، ثم عند ذلك يشتغل بالدعاء فيقول : فقنا عذاب النار.
(19/99)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال : أشهد أن لك ربا وخالقا ، اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له " وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا عبادة كالتفكر " وقيل : الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض " قالوا : وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة الله ، لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 112}
فائدة
قال الفخر :
دلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر في دلائل الذات والصفات وأن التقليد أمر باطل لا عبرة به ولا التفات إليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 112}
فصل
قال القرطبى :
قال ابن العربيّ : اختلف الناس أي العملين أفضل : التفكر أم الصلاة ؛ فذهب الصوفية إلى أن التفكر أفضل ؛ فإنه يثمر المعرفة وهو أفضل المقامات الشرعية.
وذهب الفقهاء إلى أن الصلاة أفضل ؛ لما ورد في الحديث من الحث عليها والدعاء إليها والترغيب فيها.
وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه بات عند خالته مَيْمُونَة ، وفيه : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ الآيات العشر الخواتم من سورة آل عمران ، وقام إلى شَنّ معلَّق فتوضأ وضوءاً خفيفاً ثم صلى ثلاث عشر ركعة ؛ الحديث.
فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين التفكر في المخلوقات ثم إقباله على صلاته بعده ؛ وهذه السنة هي التي يعتمد عليها.
فأما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يوماً وليلة وشهراً مفكراً لا يفتر ؛ فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر ، ولا مستمرّة على السنن.
______________
(1) بعض هذه الأخبار يحتاج إلى سند. والله أعلم.
فائدة(19/100)
قال ابن عطية : وحدّثني أبي عن بعض علماء المشرق قال : كنت بائتاً في مسجد الأقْدَام بمصر فصلّيت العتمة فرأيت رجلاً قد اضطجع في كساء له مسجًّى بكسائه حتى أصبح ، وصلينا نحن تلك الليلة ؛ فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس ، فاستعظمت جراءته في الصَّلاة بغير وضوء ؛ فلما فرغت الصَّلاة خرج فتبِعته لأعِظه ، فلما دنوت منه سمعته ينشد شعراً :
مُسجّى الجسِم غائبٌ حاضر . . .
مُنْتَبِه القلبِ صامِتٌ ذاكِر
منقبض في الغُيوب منبسِط . . .
كذاك من كان عارفاً ذاكِر
يَبيتُ في ليلهِ أخا فِكَرٍ . . .
فهو مَدَى الليلِ نائمٌ ساهر
قال : فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة ، فانصرفتُ عنه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 115}
قوله : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا سبحانك فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
فصل
قال الفخر :
في الآية إضمار وفيه وجهان ، قال الواحدي رحمه الله : التقدير : يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا ، وقال صاحب "الكشاف" : أنه في محال الحال بمعنى يتفكرون قائلين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 113}
فائدة
قال الفخر :
هذا : في قوله : {مَا خَلَقْتَ هَذا} كناية عن المخلوق ، يعني ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا ، وفي كلمة {هذا} ضرب من التعظيم كقوله : {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} [ الإسراء : 9 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 113}
وقال الآلوسى :
والعدول عن الضمير إلى اسم الإشارة للإشارة إلى أنها مخلوقات عجيبة يجب أن يعتنى بكمال تمييزها استعظاماً لها.(19/101)
والمعنى ربنا ما خلقت هذا المخلوق أو المتفكر فيه العظيم الشأن عارياً عن الحكمة خالياً عن المصلحة كما ينبىء عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه العادمين من جناح النظر قداماه وخوافيه ، بل خلقته مشتملاً على حكم جليلة منتظماً لمصالح عظيمة تقف الأفكار حسرى دون الإحاطة بها وتكل أقدام الأذهان دون الوقوف عليها بأسرها ، ومن جملتها أن يكون مداراً لمعايش العباد ومناراً يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما نطقت به كتبك وجاءت به رسلك. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 160}. بتصرف يسير.
فصل
قال الفخر :
قالت المعتزلة : إن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد ولأجل الحكمة ، والمراد منها رعاية مصالح العباد ، واحتجوا عليه بهذه الآية لأنه تعالى لو لم يخلق السموات والأرض لغرض لكان قد خلقها باطلا ، وذلك ضد هذه الآية قالوا : وظهر بهذه الآية أن الذي تقوله المجبرة : إن الله تعالى أراد بخلق السموات والأرض صدور الظلم والباطل من أكثر عباده وليكفروا بخالقها ، وذلك رد لهذه الآية ، قالوا : وقوله : {سبحانك} تنزيه له عن خلقه لهما باطلا ، وعن كل قبيح ، وذكر الواحدي كلاما يصلح أن يكون جوابا عن هذه الشبهة فقال : الباطل عبارة عن الزائل الذاهب الذي لا يكون له قوة ولا صلابة ولا بقاء ، وخلق السموات والأرض خلق متقن محكم ، ألا ترى إلى قوله : {مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} [ الملك : 3 ] وقال : {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} [ النبأ : 12 ] فكان المراد من قوله : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} هذا المعنى ، لا ما ذكره المعتزلة.
فإن قيل : هذا الوجه مدفوع بوجوه :(19/102)
الأول : لو كان المراد بالباطل الرخو المتلاشي لكان قوله : {سبحانك} تنزيها له عن أن يخلق مثل هذا الخلق ، ومعلوم أن ذلك باطل.
الثاني : أنه إنما يحسن وصل قوله : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه لأن التقدير : ما خلقته باطلا بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة ، وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك ، فقنا عذاب النار ، لأنه جزاء من عصى ولم يطع ، فثبت أنا إذا فسرنا قوله : {وَمَا خَلَقْتُ هَذا باطلا} بما ذكرنا حسن هذا النظم ، أما إذا فسرناه بأنك خلقته محكما شديد التركيب لم يحسن هذا النظم.
الثالث : أنه تعالى ذكر هذا في آية أخرى فقال : {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} [ ص : 27 ] وقال في آية أخرى : {وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خلقناهما إِلاَّ بالحق} [ الدخان : 38 ، 39 ] وقال في آية أخرى : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً} [ المؤمنون : 115 ] إلى قوله : {فتعالى الله الملك الحق} [ المؤمنون : 116 ] أي فتعالى الملك الحق عن أن يكون فعله عبثا ، وإذا امتنع أن يكون عبثا فبأن يمتنع كونه باطلا أولى.
والجواب : اعلم أن بديهة العقل شاهدة بأن الموجود إما واجب لذاته ، وإما ممكن لذاته ، وشاهده أن كل ممكن لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته ، وليس في هذه القضية تخصيص بكون ذلك الممكن مغايرا لأفعال العباد ، بل هذه القضية على عمومها قضية يشهد العقل بصحتها ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الخير والشر بقضاء الله.
(19/103)
وإذا كان كذلك امتنع يكون المراد من هذه الآية تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح ، إذا عرفت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون تأويل الآية ما حكيناه عن الواحدي : قوله : ولو كان كذلك لكان قوله : {سبحانك} تنزيها له عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة وذلك باطل.
قلنا : لم لا يجوز أن يكون المراد : ربنا ما خلقت هذا رخوا فاسد التركيب بل خلقته صلبا محكما ، وقوله : {سبحانك} معناه أنك وإن خلقت السموات والأرض صلبة شديدة باقية فأنت منزه عن الاحتياج إليه والانتفاع به فيكون قوله : {سبحانك} معناه هذا.
قوله ثانيا : إنما حسن وصل قوله : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} به إذا فسرناه بقولنا ، قلنا لا نسلم بل وجه النظم أنه لما قال : {سبحانك} اعترف بكونه غنياً عن كل ما سواه ، فعندما وصفه بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة فقال : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وهذا الوجه في حسن النظم إن لم يكن أحسن مما ذكرتم لم يكن أقل منه ، وأما سائر الآيات التي ذكرتموها فهي دالة على أن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بكونها عبثا ولعبا وباطلا ، ونحن نقول بموجبه ، وإن أفعال الله كلها حكمة وصواب ، لأنه تعالى لا يتصرف إلا في ملكه وملكه ، فكان حكمه صوابا على الإطلاق فهذا ما في هذه المناظرة والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 113 ـ 114}
فصل
قال الفخر :
احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أنه سبحانه خلق هذه الأفلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة ، وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع سكان هذه البقعة الارضية ، قالوا : لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ، وذلك رد للآية.(19/104)
قالوا : وليس لقائل أن يقول الفائدة فيها الاستدلال بها على وجود الصانع المختار ، وذلك لأن كل واحد من كرات الهواء والماء يشارك الافلاك والكواكب في هذا المعنى ، فحينئذ لا يبقى لخصوص كونه فلكا وشمسا وقمرا فائدة ، فيكون باطلا وهو خلاف هذا النص.
أجاب المتكلمون عنه : بأن قالوا : لم لا يكفي في هذا المعنى كونها أسباباً على مجرى العادة لا على سبيل الحقيقة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 114}
قال الآلوسى :
وأنت تعلم أن القول بإيداع القوى في الفلكيات بل وفي جميع الأسباب مع القول بأنها مؤثرة بإذن الله تعالى مما لا بأس به بل هو المذهب المنصور الذي درج عليه سلف الأمة وحققناه فيما قبل وهو لا ينافي استناد الكل إلى مسبب الأسباب ولا يزاحم جريان الأمور كلها بقضائه وقدره تعالى شأنه ، نعم القول بأن الفلكيات ونحوها مؤثرة بنفسها ولو لم يأذن الله تعالى ضلال واعتقاده كفر ، وعلى ذلك يخرج ما وقع في الخبر " من قال : أمطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله تعالى مؤمن بالكوكب ومن قال : أمطرنا بفضل الله تعالى فهو مؤمن بالله تعالى كافر بالكوكب " فليحفظ. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 162}
قوله تعالى : {سبحانك}
فصل
قال الفخر :
هذا إقرار بعجز العقول عن الإحاطة بآثار حكمة الله في خلق السموات والأرض ، يعني : أن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر ، وهو أن خالقها ما خلقها باطلا ، بل خلقها لحكم عجيبة ، وأسرار عظيمة ، وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 114}
فائدة
قال الفخر :
المقصود منه تعليم الله عباده كيفية الدعاء ، وذلك أن من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم الثناء ثم يذكر بعده الدعاء كما في هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 114}(19/105)
قوله تعالى : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى ، وأبدانهم في طاعة الله ، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ، ولولا أنه يحسن من الله تعذيبهم وإلا لكان هذا الدعاء عبثاً ، فإن كان المعتزلة ظنوا أن أول الآية حجة لهم ، فليعلموا أن آخر هذه الآية حجة لنا في أنه لا يقبح من الله شيء أصلا ، ومثل هذا التضرع ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم في قوله : {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} [ الشعراء : 82 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 114 ـ 115}
وقال الآلوسى :
{ سبحانك } أي تنزيهاً لك مما لا يليق بك ، ثم لما استغرقوا في بحار العظمة والجلال وبلغوا هذا المبلغ الأعظم وتحققوا أن من قدر على ما ذكر من الإنشاء بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه واتصف بالقدرة الشاملة والحكمة الكاملة كان على إعادة من نطقت الكتب السماوية بإعادته أقدر ، وإن ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هي جزاء المكلفين بحسب استحقاقهم المنوط بأعمالهم القلبية والقالبية طلبوا النجاة مما يحيق بالمقصرين ويليق بالمخلين فقالوا :
{ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي فوفقنا للعمل بما فهمنا من الدلالة ، ومن هنا قيل : إن الفاء لترتب الدعاء بالاستعاذة من النار على ما دل عليه ربنا ما خلقت هذا باطلاً من وجوب الطاعة واجتناب المعصية كأنه قيل : فنحن نطيعك فقنا عذاب النار التي هي جزاء من عصاك ، وسبحانك مصدر منصوب بفعل محذوف ، والجملة معترضة لتقوية الكلام وتأكيده ، ولا ينافي ذلك كونها مؤكدة لنفي العبث عن خلقه.(19/106)
وبعضهم قال : بهذا التأكيد ولم يقل بالاعتراض ، وجعل ما بعد الفاء مترتباً على التنزيه المدلول عليه بسبحانك وادعى أنه الأظهر لاندراج تنزهه تعالى عن ردّ سؤال الخاضعين الملتجئين إليه فيه ، ولا يخفى تفرع المسألة على التنزيه عن خيبة رجاء الراجين ، وقيل : إنه جواب شرط مقدر وأن التقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا عذاب النار الذي هو جزاء الذين لم ينزهوا أو لم يوحدوا. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 160 ـ 161}
فائدة
قال ابن عاشور :
فإن قلت : كيف تواطأ الجمع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكّر مع اختلاف تفكيرهم وتأثّرهم ومقاصدهم.
قلت : يحتمل أنّهم تلقَّوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يلازمونه عند التفكّر وعقبَه ، ويحتمل أنّ الله ألهمهم إيّاه فصار هجيراهم مثلَ قوله تعالى : { وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا } [ البقرة : 285 ] الآيات.
ويدلّ لذلك حديث ابن عباس في "الصحيح" قال : " بتّ عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران " إلى آخر الحديث.
ويجوز عندي أن يكون قوله : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } حكاية لتفكّرهم في نفوسهم ، فهو كلام النفس يشترك فيه جميع المتفكّرين لاستوائهم في صحّة التفكّر لأنّه تنقل من معنى إلى متفرّع عنه ، وقد استوى أولو الألباب المتحدّث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني ، فأوّل التفكّر أنتج لهم أنّ المخلوقات لم تخلق باطلاً ، ثم تفرّع عنه تنزيه الله وسؤاله أن يقيهم عذاب النار ، لأنّهم رأوا في المخلوقات طائعاً وعاصياً ، فعلموا أنّ وراء هذا العالم ثَواباً وعقاباً ، فاستعاذوا أن يكونوا ممّن حقّت عليه كلمة العذاب.(19/107)
وتوسّلوا إلى ذلك بأنّهم بذَلوا غاية مقدورهم في طلب النجاة إذ استجابوا لمنادي الإيمان وهو الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسألوا غفران الذنوب ، وتكفير السيئات ، والموتَ على البر إلى آخره...
فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التفكّرات وربّما زاد عليها ، ولمّا نزلت هذه الآية وشاعت بينهم ، اهتدى لهذا التفكير من لم يكن انتبه له من قبل فصار شائعاً بين المسلمين بمعانيه وألفاظه.
ومعنى { ما خلقتَ هذا باطلاً } أي خلقاً باطلاً ، أو ما خلقت هذا في حال أنّه باطل ، فهي حال لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات ، كقوله : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } [ الدخان : 38 ] فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أنّ هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة ، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيراً.
وجيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم : { فقنا عذاب النار } لأنّه ترتّبَ على العلم بأنّ هذا الخلق حقّ ، ومن جملة الحقّ أن لا يستوي الصالح والطالح ، والمطيع والعاصي ، فعلموا أنّ لكلّ مستقرّاً مناسباً فسألوا أن يكونوا من أهل الخير المجنّبين عذاب النار. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 308 ـ 309}(19/108)
فائدة
قال الآلوسى :
واستدل الطبرسي بالآية "على أن الكفر والضلال والقبائح ليست خلقاً لله تعالى لأن هذه الأشياء كلها باطلة بالإجماع وقد نفى الله سبحانه ذلك حكاية عن أولي الألباب الذين رضي قولهم بأنه لا باطل فيما خلقه سبحانه فيجب بذلك القطع بأن القبائح كلها ليست مضافة إليه عز شأنه ومنفية عنه" خلقاً وإيجاداً وفيه نظر لأن الأشياء كلها سواء من حيث إنها خلق الله تعالى ومشتملة على المصالح والحكم كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى : { أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] وتفاوتها إنما هو باعتبار نسبة بعضها إلى بعض وكون بعضها متعلق الأمر والبعض الآخر متعلق النهي مثلاً لا باعتبار كون البعض مشتملاً على الحكمة والبعض الآخر عارياً عنها ، فالقبائح من حيث إنها خلق الله تعالى ليست باطلة لأ الباطل كما علمت هو ما لا فائدة فيه مطلقاً ، أو ما لا فائدة فيه يعتدّ بها أو ما لا يقصد به فائدة وهي ليست كذلك لاشتمالها في أنفسها على الحكم والفوائد الجمة التي لا يبعد قصد الله تعالى لها مع غناه الذاتي عنها ولا يشترط كون تلك الفوائد لمن صدرت على يده وإلا لزم خلو كثير من مخلوقاته تعالى عن الفوائد ، وتسميتها قبائح إنما هي باعتبار كونها متعلق النهي لحكمة أيضاً وهو لا يستدعي كونها خالية عن الحكمة بل قصارى ذلك أنه يستلزم عدم رضاه سبحانه بها شرعاً المستدعي ذلك للعقاب عليها بسبب أن إفاضتها كانت حسب الاستعداد الأزلي فدعوى أن هذه الأشياء كلها باطلة باطلة كدعوى الإجماع على ذلك وكأن القائل لم يفهم معنى الباطل فقال ما قال.
واستدل بها بعضهم أيضاً على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وهو مبني ظاهراً على أن الباطل العبث بالمعنى الثالث وقد علمت أن معنى العبث ليس محصوراً فيه وبفرض الحصر لا بأس بهذا القول على ما ذهب كثير من المحققين لكن مع القول بالغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير كما أشرنا إليه في البقرة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 161}(19/109)
فصل فى بيان حقيقة الفكر وثمرته
قال حجة الإسلام الغزالى رحمه الله :
بيان حقيقة الفكر وثمرته
اعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة
ومثاله أن من مال إلى العاجلة وآثر الحياة الدنيا وإراد أن يعرف أن الآخرة أولى بالإيثار من العاجلة فله طريقان أحدهما أن يسمع من غيره أن الآخرة أولى بالإيثار من الدنيا فيقلده ويصدقه من غير بصيرة بحقيقة الأمر فيميل بعمله إلى إيثار الآخرة اعتمادا على مجرد قوله وهذا يسمى تقليدا ولا يسمى معرفة
والطريق الثاني أن يعرف أن الأبقى أولى بالإيثار ثم يعرف أن الآخرة أبقى
فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار ولا يمكن تحقق المعرفة بأن الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين
فإحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصل به إلى المعرفة الثالثة يسمى تفكرا واعتبارا وتذكرا ونظرا وتأملا وتدبرا
أما التدبر والتأمل والتفكر فعبارات مترادفة على معنى واحد ليس تحتها معان مختلفة
وأما اسم التذكر والاعتبار والنظر فهى مختلفة المعانى وإن كان أصل المسمى واحد كما أن اسم الصارم والمهند والسيف يتوارد على شيء واحد ولكن باعتبارات مختلفة
فالصارم يدل على السيف من حيث هو قاطع والمهند يدل عليه من حيث نسبته إلى موضعه والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشعار بهذه الزوائد
فكذلك الاعتبار ينطلق على إحضار المعرفتين من حيث إنه يعبر منهما إلى معرفة ثالثة وإن لم يقع العبور ولم يمكن إلا الوقوف على المعرفتين فينطلق عليه اسم التذكر لا اسم الاعتبار وأما النظر والتفكر فيقع عليه من حيث إن فيه طلب معرفة ثالثة فمن ليس يطلب المعرفة الثالثة لا يسمى ناظرا فكل متفكر فهو متذكر وليس كل متذكر متفكرا(19/110)
وفائدة التذكار تكرار المعارف على القلب لترسخ ولا تنمحى عن القلب
وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة
فهذا هو الفرق بين التذكر والتفكر
والمعارف إذا اجتمعت في القلب وازدوجت في القلب على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى فالمعرفة نتاج المعرفة
فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل من ذلك نتاج آخر
وهكذا يتمادى النتاج وتتمادى العلوم ويتمادى الفكر إلى غير نهاية وإنما تنسد طريق زيادة المعارف بالموت
أو بالعوائق وهذا لمن يقدر على استثمار العلوم ويهتدى إلى طريق التفكير
وأما أكثر الناس فإنما منعوا الزيادة في العلوم لفقدهم رأس المال وهو المعارف التى بها تستثمر العلوم كالذى لا بضاعة له فإنه لا يقدر على الربح وقد يملك البضاعة ولكن لا يحسن صناعة التجارة فلا يربح شيئا فكذلك قد يكون معه من المعارف ما هو رأس مال العلوم ولكن ليس يحسن استعمالها وتأليفها وإيقاع الازدواج المفضى إلى النتاج فيها
ومعرفة طريق الاستعمال والاستثمار تارة تكون بنور إلهى في القلب يحصل بالفطرة كما كان للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وذلك عزيز جدا وقد تكون بالتعلم والممارسة وهو الأكثر
ثم المتفكر قد تحضره هذه المعارف وتحصل له الثمرة وهو لا يشعر بكيفية حصولها ولا يقدر على التعبير عنها لقلة ممارسته لصناعة التعبير في الإيراد
فكم من إنسان يعلم أن الآخرة أولى بالإيثار علما حقيقيا ولو سئل عن سبب معرفته لم يقدر على إيراده والتعبير عنه مع أنه لم تحصل معرفته إلا عن المعرفتين السابقتين وهو أن الأبقى أولى بالإيثار وأن الآخرة أبقى من الدنيا فتحصل له معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار فرجع حاصل حقيقة التفكر إلى إحضار معرفتين للتوصل بهما إلى معرفة ثالثة
وأما ثمرة الفكر فهى العلوم والأحوال والأعمال ولكن ثمرته الخاصة(19/111)
العلم لا غير نعم إذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح
فالعمل تابع الحال والحال تابع العلم والعلم تابع الفكر
فالفكر إذن هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها وهذا هو الذى يكشف لك فضيلة التفكر وأنه خير من الذكر والتذكر لأن الفكر ذكر وزيادة
وذكر القلب خير من عمل الجوارح بل شرف العمل لما فيه من الذكر
فإذن التفكر أفضل من جملة الأعمال ولذلك قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة فقيل هو الذى ينقل من المكاره إلى المحاب ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة وقيل هو الذى يحدث مشاهدة وتقوى ولذلك قال تعالى لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا وإن أردت أن تفهم كيفية تغير الحال بالفكر فمثاله ما ذكرناه من أمر الآخرة فإن الفكر يعرفنا أن الآخرة أولى بالإيثار فإذا رسخت هذه المعرفة يقينا في قلوبنا تغيرت القلوب إلى الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا
وهذا ما عنيناه بالحال إذ كان حال القلب قبل هذه المعرفة حب العاجلة والميل إليها والنفرة عن الآخرة وقلة الرغبة فيها
وبهذه المعرفة تغير حال القلب وتبدلت إرادته ورغبته ثم أثمر تغير الإرادة أعمال الجوارح في إطراح الدنيا والإقبال على أعمال الآخرة
فههنا خمس درجات أولاها التذكر وهو إحضار المعرفتين في القلب وثانيتها التفكر وهو طلب المعرفة المقصودة منهما والثالثة حصول المعرفة المطلوبة واستنارة القلب بها
والرابعة تغير حال القلب عما كان بسبب حصول نور المعرفة
والخامسة خدمة الجوارح للقلب بحسب ما يتجدد له من الحال(19/112)
فكما يضرب الحجر على الحديد فيخرج منه نار يستضىء بها الموضع فتصير العين مبصرة بعد أن لم تكن مبصرة وتنتهض الأعضاء للعمل فكذلك زناد نور المعرفة هو الفكر فيجمع بين المعرفتين كما يجمع بين الحجر والحديد ويؤلف بينهما تأليفا مخصوصا كما يضرب الحجر على الحديد ضربا مخصوصا فينبعث نور المعرفة كما تنبعث النار من الحديد ويتغير القلب بسبب هذا النور حتى يميل إلى ما لم يكن يميل إليه كما يتغير البصر بنور النار فيرى ما لم يكن يراه
ثم تنتهض الأعضاء للعمل بمقتضى حال القلب كما ينتهض العاجز عن العمل بسبب الظلمة للعمل عند إدراك البصر ما لم يكن يبصره
فإذن ثمرة الفكر العلوم والأحوال والعلوم لا نهاية لها والأحوال التى تتصور أن تتقلب على القلب لا يمكن حصرها
ولهذا لو أراد مريد أن يحصر فنون الفكر ومجاريه وأنه فيماذا يتفكر لم يقدر عليه لأن مجارى الفكر غير محصورة وثمراته غير متناهية. أ هـ {الإحياء حـ 4 صـ 425 ـ 427}(19/113)
قوله تعالى {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا للظالمين مِنْ أنصار}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ، ليكون موقع السؤال أعظم ، لأن من سأل ربه أن يفعل شيئاً أو أن لا يفعله ، إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد ، والدعاء لا يتصل بالإجابة إلا إذا كان مقروناً بالإخلاص ، فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 115}
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي : الإخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض.
قال الزجاج : أخزى الله العدو ، أي أبعده وقال غيره : أخزاه الله أي أهانه ، وقال شمر بن حمدويه أخزاه الله أي فضحه الله ، وفي القرآن {وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى} [ هود : 78 ] وقال المفضل : أخزاه الله أي أهلكه وقال ابن الانباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة.
ثم قال صاحب "الكشاف" : {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أي قد أبلغت في إخزائه وهو نظير ما يقال : من سبق فلاناً فقد سبق ، ومن تعلم من فلان فقد تعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 115}(19/114)
فصل
قال الفخر :
قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن ، وذلك لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاه الله لدلالة هذه الآية ، والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : {يَوْمَ لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا.
والجواب : أن قوله {يَوْم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} [ التحريم : 8 ] لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقا ، وإنما يقتضي أن لا يحصل الإخزاء حال ما يكون مع النبي ، وهذا النفي لا يناقضه إثبات الإخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الإثبات في وقت آخر ، هذا هو الذي صح عندي في الجواب ، وذكر الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه : أحدها : أنه نقل عن سعيد بن المسيب والثوري وقتادة أن قوله : {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} مخصوص بمن يدخل النار للخلود ، وهذا الجواب عندي ضعيف ، لأن مذهب المعتزلة أن كل فاسق دخل النار فإنما دخلها للخلود ، فهذا لا يكون سؤالا عنهم.
ثانيها : قال : المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها ، وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله : {يَوْم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} [ التحريم : 8 ] يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الإطلاق ، وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النار ، فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة ، وثالثها : قال : الإخزاء يحتمل وجهين :
أحدهما : الإهانة والإهلاك ،
والثاني : التخجيل ، يقال : خزي خزاية إذا استحيا ، وأخزاه غيره إذا عمل به عملا يخجله ويستحيى منه.(19/115)
واعلم أن حاصل هذا الجواب : أن لفظ الإخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك ، واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعا ، وإذا كان كذلك جاز أن يكون المنفى بقوله : {يَوْم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} غير المثبت في قوله : {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وعلى هذا يسقط الاستدلال ، إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى إذا كان لفظ الإخزاء مشتركا بين هذين المفهومين ، أما إذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد ، وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحدي نوعين تحت جنس واحد ، سقط هذا الجواب لأن قوله : {لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} لنفي الجنس وقوله : {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} لإثبات النوع ، وحينئذ يحصل بينهما منافاة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 115 ـ 116}
وقال العلامة ابن عطية :
إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة هادمة لقدره ، وإنما الخزي التام للكفار. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 556}
وقال محمد بن أبى بكر الرازى :
فإن قيل : كيف قال : {ربنا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وقال فى موضع آخر {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} ويلزم من هذا أن لا يدخل المؤمنين النار كما قالت المعتزلة والخارجية ؟
قلنا : {أخزيته} بمعنى أذللته وأهنته من الخزى وهو الذل والهوان ، وقوله {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} من الخزاية وهو النكال والفضيحة ، فكل من يدخل النار يذل ، وليس كل من يدخلها ينكل به ويفضح.
أو المراد بالآية الأولى إدخال الإقامة والخلود لا إدخال تحلة القسم المدلول عليها بقوله تعالى {وإن منكم إلا واردها} أراد إدخال التطهير الذى يكون لبعض المؤمنين بقدر ذنوبهم.
وقيل : إن قوله تعالى {يوم لا يخزي الله النبي} كلام تام ، وقوله تعالى {والذين آمنوا معه} كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله. أ هـ {تفسير الرازى صـ 72 ـ 73}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقولهم : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار ، كما توذن به ( إنّ ) المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا.
والخزي مصدر خزِيَ يَخْزَى بمعنى ذلّ وهان بمرأى من الناس ، وأخزاه أذلّه على رؤوس الأشهاد ، ووجه تعليل طلب الوقاية من النار بأنّ دخولها خزي بعد الإشارة إلى موجب ذلك الطلب بقولهم : { عذاب النار } أنّ النار مع ما فيها من العذاب الأليم فيها قهر للمعذَّب وإهانة علنية ، وذلك معنى مستقرّ في نفوس الناس ، ومنه قول إبراهيم عليه السلام : { ولا تخزني يومَ يبعثون } [ بالشعراء : 87 ] وذلك لظهور وجه الربط بين الشرط والجزاء ، أي من يدخل النار فقد أخزيته.(19/116)
والخزي لا تطيقه الأنفس ، فلا حاجة إلى تأويل تأوّلوه على معنى فقَد أخزيته خزياً عظيماً.
ونظّره صاحب "الكشاف" بقول رُعاة العرب : "من أدْرَكَ مَرْعَى الصَّمَّان فقد أدرك" أي فقد أدرك مرعى مخصباً لئلاّ يكون معنى الجزاء ضروري الحصول من الشرط فلا تظهر فائدة للتعليق بالشرط ، لأنّه يخلي الكلام عن الفائدة حينئذ.
وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : { فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز } [ آل عمران : 185 ].
ولأجل هذا أعقبوه بما في الطباع التفادي به عن الخزي والمذلّة بالهرع إلى أحلافهم وأنصارهم ، فعلموا أن لا نصير في الآخرة للظالم فزادوا بذلك تأكيداً للحرص على الاستعاذة من عذاب النار إذ قالوا : { وما للظالمين من أنصار } أي لأهل النار من أنصار تدفع عنهم الخزي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 309}
فصل
قال الفخر :
احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزي وكل من دخل النار فإنه يخزى ، فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار ، إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن ، والمؤمن لا يخزى.(19/117)
إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى : {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِىء إلى أَمْرِ} [ الحجرات : 9 ] سمي الباغي حال كونه باغياً مؤمناً ، والبغي من الكبائر بالاجماع ، وأيضا قال تعالى : {يا أيها الذين ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [ البقرة : 178 ] سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمناً ، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ، وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لقوله : {يَوْم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } [ التحريم : 8 ] ولقوله : {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} [ آل عمران : 194 ].
ثم قال تعالى : {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} [ آل عمران : 195 ] وهذه الاستجابة تدل على أنه تعالى لا يخزي المؤمنين ، فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار ، وإنما قلنا إن كل من دخل النار فإنه يخزى لقوله تعالى : {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار.
والجواب عنه ما تقدم : أن قوله : {يَوْم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} [ التحريم : 8 ] لا يدل على نفي الإخزاء مطلقاً ، بل يدل على نفي الإخزاء حال كونهم مع النبي ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقت آخر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 116}
قوله تعالى {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}
فصل
قال الفخر :(19/118)
قوله : {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} عام دخله الخصوص في مواضع منها : أن قوله تعالى : {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا} [ مريم : 71 72 ] يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار ، وأهل الثواب يصانون عن الخزي.
وثانيها : أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار ، وهم أيضا يصانون عن الخزي.
قال تعالى : {عَلَيْهَا ملائكة غِلاَظٌ شِدَادٌ} [ التحريم : 6 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 116}
فصل
قال الفخر :
احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني ، قالوا : لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي ، والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني ، فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 116}
فصل
قال الفخر :
احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين ، وقالوا : الخزي هو الهلاك ، فقوله : {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} معناه فقد أهلكته ، ولو كانوا يخرجون من النار إلى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك.
والجواب : أنا لا نفسر الخزي بالإهلاك بل نفسره بالإهانة والتخجيل ، وعند هذا يزول كلامكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 117}(19/119)
قوله تعالى {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}
قال البيضاوى :
{ وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } أراد بهم المدخلين ، ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن ظلمهم سبب لإِدخالهم النار وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص منها ، ولا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة لأن النصر دفع بقهر. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 132}
فصل
قال الفخر :
المعتزلة تمسكوا به في نفي الشفاعة للفساق ، وذلك لأن الشفاعة نوع نصرة ، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع.
والجواب من وجوه :
الأول : أن القرآن دل على أن الظالم بالإطلاق هو الكافر ، قال تعالى : {والكافرون هُمُ الظالمون} [ البقرة : 254 ] ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم خصصوا أنفسهم بنفي الشفعاء والأنصار حيث قالوا : {فَمَا لَنَا مِن شافعين وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [ الشعراء : 101 ]
وثانيها : أن الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن الله ، قال تعالى : {مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [ البقرة : 255 ] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادراً على النصرة إلا بعد الإذن ، وإذا حصل الإذن لم يكن في شفاعته فائدة في الحقيقة ، وعند ذلك يظهر أن العفو إنما حصل من الله تعالى ، وتلك الشفاعة ما كان لها تأثير في نفس الأمر ، وليس الحكم إلا لله ، فقوله : {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} يفيد أنه لا حكم إلا الله كما قال : {أَلاَ لَهُ الحكم} [ الأنعام : 62 ] وقال : {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [ الإنفطار : 19 ] لا يقال : فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين بهذا الحكم فائدة ، لأنا نقول : بل فيه فائدة لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدنيا بالفوز بالثواب والنجاة من العقاب ، فلهم يوم القيامة هذه الحجة.
اما الفساق فليس لهم ذلك ، فصح تخصيصهم بنفي الأنصار على الإطلاق.(19/120)
الثالث : أن هذه الآية عامة وواردة بثبوت الشفاعة خاصة والخاص مقدم على العام ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 117}
فصل
قال الفخر :
المعتزلة تمسكوا في أن الفاسق لا يخرج من النار ، قالوا : لو خرج من النار لكان من أخرجه منها ناصرا له ، والآية دالة على أنه لا ناصر له ألبتة.
والجواب : المعارضة بالآيات الدالة على العفو كما ذكرناه في سورة البقرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 117}
من فوائد أبى السعود فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } مبالغةٌ في(19/121)
استدعاء الوقايةِ وبيانٌ لسببه. وتصديرُ الجملةِ بالنداء للمبالغةِ في التضرع والجُؤار ، وتأكيدُها لإظهار كمالِ اليقينِ بمضمونها والإيذانِ بشدة الخوفِ ، وإظهارُ النارِ في موضع الإضمارِ لتهويلِ أمرِها ، وذكرُ الإدخالِ في مورد العذابِ لتعيين كيفيتِه وتبيينِ غاية فظاعتِه. قال الواحدي : للإخزاء معانٍ متقاربةٌ يقال : أخزاه الله أي أبعده ، وقيل : أهانه ، وقيل : أهلكه ، وقيل : فضحه. قال ابن الأنباري : الخزيُ لغةً الهلاكُ بتلف أو بانقطاع حجةٍ أو بوقوع في بلاء ، والمعنى فقد أخزيته خِزياً لا غايةَ وراءَه كقولهم : من أدرك مَرْعى الصمّانِ فقد أدرك ، أي المرعى الذي لا مرعى بعدَه ، وفيه من الإشعار بفظاعة العذابِ الروحاني ما لا يخفى. وقولُه تعالى : { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } تذييلٌ لإظهار نهايةِ فظاعةِ حالِهم ببيان خلودِ عذابِهم بفُقدان من ينصُرهم ويقوم بتخليصهم ، وغرضُهم تأكيدُ الاستدعاءِ ووضعُ الظالمين موضعَ ضميرِ المُدخَلين لذمهم والإشعارِ بتعليل دخولِهم النارَ بظلمهم ووضعِهم الأشياء في غير مواضعِها ، وجمعُ الأنصارِ بالنظر إلى جمع الظالمين أي ما لظالم من الظالمين نصيرٌ من الأنصار ، والمرادُ به من ينصُر بالمدافعة والقهر فليس في الآية دِلالةٌ على نفي الشفاعةِ ، على أن المرادَ بالظالمين هم الكفارُ. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 131}(19/122)
ومن فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } مبالغة في استدعاء الوقاية من النار وبيان لسببه ، وصدرت الجملة بالنداء مبالغة في التضرع إلى معود الإحسان كما يشعر به لفظ الرب ، وعن ابن عباس أنه كان يقول : اسم الله تعالى الأكبر رب رب ، والتأكيد بأن الإظهار كمال اليقين بمضمون الجملة ، والإيذان بشدّة الخوف ووضع الظاهر موضع الضمير للتهويل ، وذكر الإدخال في موارد العذاب لتعيين كيفيته وتبيين غاية فظاعته والإخزاء كما قال الواحدي جاء لمعان متقاربة فعن الزجاج يقال : أخرى الله تعالى العدو أي أبعده ، وقيل : أهانه ، وقيل : فضحه ، وقيل : أهلكه ، ونقل هذا عن المفضل ، وقيل : أحله محلاً وأوقفه موقفاً يستحى منه.
وقال ابن الأنباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو بانقطاع حجة أو بوقوع في بلاء ؛ والمراد فقد أخزيته خزياً لا غاية وراءه ، ومن القواعد المقررة أنه إذا جعل الجزاء أمراً ظاهر اللزوم للشرط سواء كان اللزوم بالعموم والخصوص كما في قولهم : من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك ، أو بالاستلزام كما في هذه الآية يحمل على أعظم أفراده وأخصها لتربية الفائدة ، ولهذا قيد الخزي بما قيد.(19/123)
واحتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وذلك لأنه رتب فيها العذاب الروحاني وهو الإخزاء بناءاً على أنه الإهانة والتخجيل على الجسماني الذي هو إدخال النار ، وجعل الثاني شرطاً والأول جزاءاً ، والمراد من الجملة الشرطية الجزاء والشرط قيد له فيشعر بأنه أقوى وأفظع وإلا لعكس كما قال الإمام الرازي وأيضاً المفهوم من قوله تعالى : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ آل عمران : 191 ] طلب الوقاية منه ، وقوله سبحانه : { رَبَّنَا } الخ دليل عليه فكأنه طلب الوقاية من المذكور لترتب الخزي عليه فيدل على أنه غاية يخاف منه كما قاله بعض المحققين واحتج بها المعتزلة على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن لأنه إذا أدخله الله تعالى النار فقد أخزاه والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : { يَوْمٌ لاَّ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً عسى رَبُّكُمْ } [ التحريم : 8 ] ، وأجيب بأنه لا يلزم من أن لا يكون من آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم مخزياً أن لا يكون غيره وهو مؤمن كذلك ، وأيضاً الآية ليست عامة لقوله تعالى : { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا } [ مريم : 71 ، 72 ] فتحمل على من أدخل النار للخلود وهم الكفار ، وهو المروي عن أنس وسعيد بن المسيب وقتادة وابن جريج.
وأيضاً يمكن أن يقال : إن كل من يدخلها مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبة أهل الكبائر منهم الخروج ، وقوله تعالى : { يَوْمٌ لاَّ } [ التحريم : 8 ] الخ نفي الخزي فيه على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهو نفس الخزي المخلد ، وأيضاً يحتمل أن يقال : الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك والمثبت هو الأول والمنفي هو الثاني ، وحينئذ لا يلزم التنافي.(19/124)
واحتجت المرجئة بها على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله تعالى : { المتقون يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] وقوله سبحانه : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : { يَوْمٌ لاَّ يُخْزِى الله النبى } [ التحريم : 8 ] الخ والمدخل في النار مخزي لهذه الآية ، وأجيب بمنع المقدمات بأسرها أما الأولى فباحتمال أن لا يسمى بعد القتل مؤمناً وإن كان قبل مؤمناً ، وأما الأخريان فبخصوص المحمول وجزئية الموضوع كما تقرر آنفاً.
{ وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } أي ليس لكل منهم ناصر ينصره ويخلصه مما هو فيه ، والجملة تذييل لإظهار فظاعة حالهم ، وفيه تأكيد للاستدعاء ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين لذمهم والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم ، وتمسكت المعتزلة بنفي الأنصار على نفي الشفاعة لسائر المدخلين ، وأجيب بأن الظالم على الإطلاق هو الكافر لقوله تعالى : { والكافرون هُمُ الظالمون } [ البقرة : 254 ] ، وقيل : نفي الناصر لا يمنع نفي الشفيع لأن النصر دفع بقوة والشفاعة تخليص بخضوع وتضرع وله وجه ، والقول بأن العرف لا يساعده غير متجه.(19/125)
وقال في "الكشف" : الظاهر من الآية أن من دخل النار لا ناصر له من دخولها أما إنه لا ناصر له من الخروج بعد الدخول فلا ، وذلك لأنه عام في نفي الافراد مهمل بحسب الأوقات ، والظاهر التقييد بما يطلب النصر أولا لأجله كمن أخذ يعاقب فقلت : ما له من ناصر لم يفهم منه أن العقاب لا ينتهي بنفسه وأنه بعد العقاب لم يشفع بل فهم منه لم يمنعه أحد مما حل به ، ثم إن سلم التساوي لم يدل على النفي ، وأجاب غير واحد على تقدير عموم الظالم وعدم الفرق بين النصر والشفاعة بأن الأدلة الدالة على الشفاعة وهي أكثر من أن تحصى مخصصة للعموم ، وقد تقدم ما ينفعك هنا. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 162 ـ 163}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { الذين يَذْكُرُونَ الله } فيه خمسة أوجهٍ :
أحدهما : أنه نعت لِـ { لأُوْلِي الألباب } فهو مجرور.
ثانيها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين.
ثالثها : أنه منصوب بإضمار أعني. وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع كما تقدم.
رابعها : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : يقولون : ربنا. قاله أبو البقاء.
خامسها : أنه بدل من { لأُوْلِي الألباب } ذكره مكِّيٌّ ، والأول أحسنها.
و { قِيَاماً وَقُعُوداً } حالانِ من فاعلٍ { يَذْكُرُونَ } و{ وعلى جُنُوبِهِمْ } حال - أيضاً - فيتعلق بمحذوف ، والمعنى : يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين ، فعطف الحال المؤوَّلة على الصريحة ، عكس الآية الأخْرَى - وهي قوله تعالى : { دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [ يونس : 12 ] - حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة.
و { قِيَاماً وَقُعُوداً } جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن ، وحينئذ يتأوَّلان على معنى : ذوي قيام وقعود ، ولا حاجة إلى هذا.
قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ } فيه وجهان :(19/126)
أظهرهما : أنها عطف على الصلة ، فلا محلَّ لها.
والثاني : أنها في محل نصبٍ على الحالِ ، عطفاً على { قِيَاماً } أي : يذكرونه متفكِّرين.
فإن قيل : هذا مضارع مثبت ، فكيف دخلت عليه الواو ؟ .
فالجوابُ : أن هذه واو العطف ، والممنوع إنما هو واو الحال.
و " خَلْق " فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على أصْله ، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة ، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله.
الثاني : أنه بمعنى المفعول ، أي : في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف ، أي : يتفكرون فيما أودع اللهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها.
وقال أبو البقاء : " وأن يكون بمعنى المخلوق ، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى ".
قال شِهَابُ الدّينِ : " وهذا كلامٌ متهافتٌ ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه ، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل ".
قوله : { رَبَّنَآ } هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف ، تقديره : يقولون ، والجملة القولية فيها وجهان :
أظهرهما : أنها حال من فاعل " يَتَفَكَّرُونَ " أي : يتفكرون قائلين قائلين ربنا ، وإذا أعربنا " يَتَفَكَّرُونَ " حالاً - كما تقدم - فيكون الحالان متداخلين.
والوجه الثاني : " هَذَا " إشارة إلى الخلق ، إن أريد به المخلوق ، وأجاز أبو البقاء - حال الإشارة إليه بـ " هذا " - أن يكون مصدراً على حاله ، لا بمعنى المخلوق ، وفيه نظرٌ.
أو إلى السّموات والأرض - وإن كانا شيئين ، كل منهما جمع - لأنهما بتأويلِ هذا المخلوق العجيب ، أو لأنهما في معنى الجَمْعِ ، فأشير إليهما كما يُشار إلى لفظِ الجمعِ.
قوله : " بَاطِلاً " في نصبه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : خَلْقاً باطلاً ، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالاً من ضمير ذلك المصدر.
الثاني : أنه حالٌ من المفعولِ به ، وهو " هَذَا ".
(19/127)
الثالث : أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ - وهو الباء - والمعنى : ما خلقتهما بباطلٍ ، بل بحَقٍّ وقُدْرَةٍ.
الرابع : أنه مفعول من أجله ، و" فاعل " قد يجيء مصدراً ، كالعاقبة ، والعافية.
الخامس : أنه مفعولٌ ثانٍ لـ " خلق " قالوا : و" خلق " إذا كانت بمعنى " جَعَلَ " التي تتعدى لاثنين ، تعدّت لاثنين. وهذا غيرُ معروفٍ عند أهلِ العربيةِ ، بل المعروف أن " جعل " إذا كانت بمعنى " خلق " تعدت لواحدٍ فقط.
وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالاً مِنْ " هَذَا " وهي حالٌ لا يُسْتَغنَى عَنْهَا ؛ لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ ، وهي كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [ الدخان : 38 ].
قوله : { سُبْحَانَكَ } تقدم إعرابه ، وهو معترض بين قوله : { رَبَّنَآ } وبين قوله : { فَقِنَا }.
وقال أبو البقاء : " دخلت الفاء لمعنى الجزاءِ ، والتقدير : إذا نَزهناك ، أو وحَّدْناك فقنا ".
وهذا لا حاجةَ إليه ، بل التسبب فيها ظاهرٌ ؛ تسبب عن قولهم : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ } طلبهم وقاية النار.
وقيل : هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه { سُبْحَانَكَ } من معنى الفعل ، أي : سبحانك فقنا. وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء.
قوله : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار } " من " شرطية ، مفعول مقدم ، واجب التقديم ، لأن له صدرَ الكلام ، و" تُدْخِل " مجزوم بها ، و{ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } جوابٌ لها.
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين :
الأول : أن تكون " من " منصوبة بفعل مقدَّر ، يُفَسِّره قوله : { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ }. وهذا غلطٌ ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسَّر على ما هو منصوب ، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط ؛ لأنه لا يتقدم على الشرط.
(19/128)
الثاني : أن تكون " مَنْ " مبتدأ ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ. وهذان الوجهان غلط ، والله أعلم. وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع ؛ خبراً لِـ " إنَّ ". ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً - والأكثر الرباعي ، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً - إذا افتضح - وخزايةً - إذا استحيا - فالفعلُ واحدٌ ، وإنما يتميز بالمصدرِ.
قال الواحديُّ : الإخزاء - في اللغو - يَرِدُ على معانٍ يقرب بعضُها من بعض.
قال الزَّجَّاجُ : أخْزَى الله العدُوَّ : أي : أبعده.
وقال غيره : أخزاه اللهُ : أي : أهانه.
وقال شمر : أخزاه اللهُ : أي : فضحه ، وفي القرآن : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } [ هود : 78 ].
وقال المفضَّلُ : أخزاه الله : أي : أهلكه.
وقال ابنُ الأنباري : الخِزْي - في اللغة - الهلاك بتلف أو انقطاع حجة ، أو وقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة.
وقال الزمخشريُّ : " فَقَدْ أخْزَيْتَهُ " أي : أبلغت في إخزائه.
قوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } " مِنْ " زائدة ، لوجودِ الشَّرْطَيْنِ ، وفي مجرورها وجهانِ :
أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره في الجارّ قبله ، وتقديمه - هنا - جائزٌ لا واجبٌ ؛ لأنَّ النفي مسوَّغٌ وحَسَّن تقديمه كونُ مبتدئه فاصلةً.
الثاني : أنه فاعل بالجارِّ قبله ، لاعتماده على النفي ، وهذا جائزٌ عند الجميعِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 111 ـ 118}. بتصرف يسير.(19/129)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
قال عليه الرحمة :
قوله تعالى : { لأُوْلِى الأَلْبَابِ } : أولو الألباب هم الذين صَحَتْ عقولُهم من سِكْر الغفلة. وأمارة مَنْ كان كذلك أن يكون نظرُه بالحق ؛ فإذا نظر من الحقِّ إلى الحقِّ استقام نظره ، وإذا نظر من الخَلْق إلى الحق انتكست نعمته ، وانقلبت أفكاره مُورِّثَةً للشبهة.
قوله تعالى : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا } الآية.
استغرق الذكرُ جميعَ أوقاتهم ؛ فإن قاموا فبذكره ، وإن قعدوا أو ناموا أو سجدوا فجملة أحوالهم مستهلكة في حقائق الذكر ، فيقومون بحق ذكره ويقعدون عن إخلاف أمره ، ويقومون بصفاء الأحوال ويقعدون عن ملاحظتها والدعوى فيها.
ويذكرون الله قياماً على بساط الخدمة ثم يقعدون على بساط القربة.
ومَنْ لم يَسْلَمْ في بداية قيامه عن التقصير لم يسلم له قعودٌ في نهايته بوصف الحضور.
والذكر طريق الحق - سبحانه - فما سلك المريدون طريقاً أصحَّ وأوضح من طريق الذكر ، وإن لم يكن فيه سوى قوله : " أنا جليس من ذكرني " لكان ذلك كافياً.
والذكر عنوان الولاية ، وبيان الوصلة ، وتحقيق الإرادة ، وعلامة صحة البداية ، ودلالة صفاء النهاية ، فليس وراء الذكر شيء ، وجميع الخصال المحمودة راجعة إلى الذكر ، ومُنْشَأَةٌ عن الذكر.
قوله جلّ ذكره : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ }.
التفكر نعمة كل طالب ، وثمرته الوصال بشرط العلم ، فإذا سلم الذكر عن الشوائب ورد صاحبه على مناهل التحقيق ، وإذا حصل الشهود والحضور سما صاحبه عن الفكر إلى حدود الذكر ، فالذكر سرمد.
ثم فكر الزاهدين في فناء الدنيا وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكرة زهداً فيها.
وفكر العابدين في جميل الثواب فيزدادون نشاطاً عليه ورغبةً فيه.
وفكر العارفين في الآلاء والنعم فيزدادون محبةً للحق سبحانه.
قوله جلّ ذكره : { سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }.
التسبيح يشير إلى سبح الأسرار في بحار التعظيم.
قوله تعالى {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}
من ابتليته في الآجل بالحرقة فقد أخزيته ، ومن ابتليته بالفرقة في العاجل فقد أشقيته ، ومن أوليته بِيُمْنِ الوصلة فقد آويته وأدنيته.
أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 304 ـ 306}. بتصرف يسير.(19/130)
قوله تعالى { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ابتهلوا بهاتين الآيتين في الإنجاء عن النار توسلوا بذكر مسارعتهم إلى إجابة الداعي بقولهم {ربنآ} ولما كانت حالهم - لمعرفتهم بأنهم لا ينفكون عن تقصير وإن بالغوا في الاجتهاد ، لأنه لا يستطيع أحد أن يقدر الله حق قدره - شبيهة بحال من لم يؤمن ؛ اقتضى المقام التأكيد إشارة إلى هضم أنفسهم بالاعتراف بذنوبهم فقالوا مع علمهم بأن المخاطب عالم بكل شيء : {إننا} فأظهروا النون إبلاغاً في التأكيد {سمعنا منادياً} أي من قبلك ، وزاد في تفخيمه بذكر ما منه النداء مقيداً بعد الإطلاق بقوله : {ينادي} قال محمد بن كعب القرظي : هو القرآن ، ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت اللام تصلح للتعليل ومعنى " إلى " عبر بها فقيل : {للإيمان} ثم فسروه تفخيماً له بقولهم : {أن آمنوا بربكم} ثم أخبر بمسارعتهم إلى الإجابة بقولهم : {فآمنا} أي عقب السماع.(19/131)
ثم أزالوا ما ربما يظن من ميلهم إلى ربوة الإعجاب بقولهم تصريحاً بما أفهمه التأكيد لمن علمه محيط : {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا} أي التي أسلفناها قبل الإيمان بأن تقبل منا الإيمان فلا تزيغ قلوبنا ، فيكون جابّاً لما قبله عندك كما كان جابّاً له في ظاهر الشرع ، وكذا ما فرط منا بعد الإيمان ولو كان بغير توبة ، وإليه الإشارة بقولهم : {وكفر عنا سيآتنا} أي بأن توفقنا بعد تشريفك لنا بالإيمان لاجتناب الكبائر بفعل الطاعات المكفرة للصغائر {وتوفنا مع الأبرار} أي ليس لنا سيئات. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 198 ـ 199}
وقال الآلوسى :
{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان } على معنى القول أيضاً ، وهو كما قال شيخ الإسلام : حكاية لدعاء آخر مبني على تأملهم في الدليل السمعي بعد حكاية دعائهم السابق المبني على تفكرهم في الأدلة القطعية ، ولا يخفى أن ذلك التفكر مستدع في الجملة لهذا القول ، وفي تصدير مقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى معوّد الإحسان والإفضال ، وفي التأكيد إيذان بصدور ذلك عنهم بوفور الرغبة ومزيد العناية وكمال النشاط. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 163}
فصل
قال الفخر :
في المنادي قولان :
أحدهما : أنه محمد عليه الصلاة والسلام وهو قول الأكثرين ، والدليل عليه قوله تعالى : {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ} [ النحل : 125 ] {وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ} [ الأحزاب : 46 ] {أَدْعُو إلى الله} [ يوسف : 108 ](19/132)
والثاني : أنه هو القرآن ، قالوا إنه تعالى حكى عن مؤمني الإنس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله : {إنَّا سمعنا قرآناً عجباً يَهْدِى إِلَى الرشد فَئَامَنَّا بِهِ} [ الجن : 1 ، 2 ] قالوا : والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه ، قالوا : وهذا وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف ، لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد ، وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك ، فصار كأنه يدعو إلى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل ، كما قيل في جهنم : {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} [ المعارج : 17 ] إذ كان مصيرهم اليها ، والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ ، ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان ، قال الشاعر :
يا واضع الميت في قبره.. خاطبك الدهر فلم تسمع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 117 ـ 118}
فائدة
قال الآلوسى
والتنوين في المنادى للتفخيم وإيثاره على الداعي للإشارة إلى كمال اعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى القريب والبعيد لما فيه من الإيذان برفع الصوت ، وقد كان شأنه الرفيع صلى الله عليه وسلم في الخطب ذلك الرفع حقيقة ، ففي الخبر كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم.. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 163}
فصل
قال الفخر :
في قوله : {يُنَادِى للإيمان} وجوه :(19/133)
الأول : أن اللام بمعنى "إلى" كقوله : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [ المجادلة : 8 ] {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} [ المجادلة : 3 ] {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [ الزلزلة : 5 ] {الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا} [ الأعراف : 43 ] ويقال : دعاه لكذا والى كذا ، وندبه له واليه ، وناداه له وإليه ، وهداه للطريق وإليه ، والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى : أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا.
الثاني : قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ، أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي بأن آمنوا ، كما يقال : جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا.
والثالث : أن هذه اللام لام الأجل والمعنى : سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس ، أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض ، ألا تراه قال : {أن آمنوا بربكم} أي لتؤمن الناس ، وهو كقوله : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} [ النساء : 64 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 118}
لطيفة
قال الآلوسى :
وفي إطلاق المنادى أولاً حيث قال سبحانه : { مُنَادِياً } ولم يذكر ما دعي له ، ثم قوله عز شأنه بعد : { يُنَادِى للإيمان } ما لا يخفى من التعظيم لشأن المنادى والمنادى له ، ولو قيل من أول الأمر { مُنَادِياً للإيمان } لم يكن بهذه المثابة ، وحذف المفعول الصريح لينادي إيذاناً بالعموم أي ينادي كل واحد. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 164}
سؤال وجوابه
قال الفخر :
ههنا سؤال وهو أن يقال : ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي ؟(19/134)
وجوابه : ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالإيمان تفخيما لشأن المنادي ، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان ، ونظيره قولك : مررت بهاد يهدي للاسلام ، وذلك لأن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لاطفاء النائرة ، أو لاغاثة المكروب ، أو الكفاية لبعض النوازل ، وكذلك الهادي ، وقد يطلق على من يهدي للطريق ، ويهدي لسداد الرأي ، فإذا قلت ينادي للإيمان ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 118}
قوله تعالى {ربنا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء : أولها : غفران الذنوب ، وثانيها : تكفير السيئات ، وثالثها : أن تكون وفاتهم مع الأبرار.
أما الغفران فهو الستر والتغطية ، والتكفير أيضا هو التغطية ، يقال : رجل مكفر بالسلاح ، أي مغطى به ، والكفر منه أيضا ، وقال لبيد :
في ليلة كفر النجوم ظلامها.. إذا عرفت هذا : فالمغفرة والتكفير بحسب اللغة معناهما شيء واحد.
أما المفسرون فذكروا فيه وجوها :
أحدها : أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الالحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب ،
وثانيها : المراد بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنف ،
وثالثها : أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة ، وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة ،
ورابعها : أن يكون المراد بالاول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية وذنبا ، وبالثاني : ما أتى به الإنسان مع جهله بكونه معصية وذنبا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 118 ـ 119}(19/135)
وقال الآلوسى :
{ رَبَّنَا } تكرير كما قيل للتضرع وإظهار لكمال الخضوع وعرض للاعتراف بربوبيته تعالى مع الإيمان به { فاغفر لَنَا } مرتب على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته كما تدل عليه الفاء أي فاستر لنا { ذُنُوبَنَا } أي كبائرنا { وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا } أي صغائرنا ، وقيل : المراد من الذنوب ما تقدم من المعاصي ، ومن السيئآت ما تأخر منها ، وقيل : الأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية ، والثاني ما أتى به من الجهل بذلك ، والأول هو التفسير المؤثور عن ابن عباس.
وأيد بأنه المناسب للغة لأن الذنب مأخوذ من الذنب بمعنى الذيل ، فاستعمل فيما تستوخم عاقبته وهو الكبيرة لما يعقبها من الإثم العظيم ، ولذلك تسمى تبعة اعتباراً بما يتبعها من العقاب كما صرح به الراغب ، وأما السيئة فمن السوء وهو المستقبح ولذلك تقابل بالحسنة فتكون أخف ، وتأييده بأن الغفران مختص بفعل الله تعالى والتكفير قد يستعمل في فعل العبد كما يقال : كفّر عن يمينه وهو يقتضي أن يكون الثاني أخف من الأول على تحمل ما فيه إنما يقتضي مجرد الأخفية.
وأما كون الأول الكبائر والثاني الصغائر بالمعنى المراد فلا يجوز يراد بالأول والثاني ما ذكر في القول الثالث ، فإن الأخفية وعدمها فيه مما لا سترة عليه كما لا يخفى ، ثم المفهوم من كثير من عبارات اللغويين عدم الفرق بين الغفران والتكفير بل صرح بعضهم بأن معناهما واحد.(19/136)
وقيل : في التكفير معنى زائد وهو التغطية للأمن من الفضيحة ، وقيل : إنه كثيراً ما يعتبر فيه معنى الإذهاب والإزالة ولهذا يعدى بعن والغفران ليس كذلك ، وفي ذكر { لَنَا } و{ عَنَّا } في الأية مع أنه لو قيل : فاغفر ذنوبنا وكفر سيئآتنا لأفاد المقصود إيماء إلى وفور الرغبة في هذين الأمرين ، وادعى بعضهم أن الدعاء الأول متضمن للدعاء بتوفيق الله تعالى للتوبة لأنه السبب لمغفرة الكبائر وأن الدعاء الثاني متضمن لطلب التوفيق منه سبحانه للاجتناب عن الكبائر لأنه السبب لتكفير الصغائر ، وأنت تعلم المغفرة غير مشروطة بالتوبة عند الأشاعرة.
وأن بعضهم احتج بهذه الآية على ذلك حيث إنهم طلبوا المغفرة بدون ذكر التوبة بل بدون التوبة بدلالة فاء التعقيب كذا قيل ، وسيأتي تحقيق ما فيه فتدبر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 164 ـ 165}
سؤال : فإن قيل : ما فائدة قوله {ربنا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا} وتكفير السيئات داخل فى غفران الذنوب ؟
قلنا الغفران مجرد فضل ، والتكفير محو السيئات بالحسنات. أ هـ {تفسير الرازى صـ 73}
قوله تعالى {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار}
فصل
قال الفخر :
وأما قوله : {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} ففيه بحثان : الأول : أن الأبرار جمع بر أو بار ، كرب وأرباب ، وصاحب وأصحاب ،
الثاني : ذكر القفال في تفسير هذه المعية وجهين :
الأول : أن وفاتهم معهم هي أن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة ، قد يقول الرجل أنا مع الشافعي في هذه المسألة ، ويريد به كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد ،
والثاني : يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف ، أي هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفا.
والثالث : أن يكون المراد منه كونهم في جملة أتباع الأبرار وأشياعهم ، ومنه قوله : {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين} [ النساء : 69 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 119}(19/137)
وقال الآلوسى :
{ وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } أي مخصوصين بالانخراط في سلكهم والعدّ من زمرتهم ولا مجال لكون المعية زمانية إذ منهم من مات قبل ، ومن يموت بَعْدُ ، وفي طلبهم التوفي وإسنادهم له إلى الله تعالى إشعار بأنهم يحبون لقاء الله تعالى ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه.
ونكتة قولهم { مَعَ الأبرار } دون أبراراً التذلل ، وأن المراد لسنا بأبرار فاسلكنا معهم واجعلنا من أتباعهم ، وفي "الكشف" إن في ذلك هضماً للنفس وحسن أدب مع إدماج مبالغة لأنه من باب وهو من العلماء بدل عالم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 165}. بتصرف يسير.
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية أعني قوله تعالى حكاية عنهم : {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} والاستدلال به من وجهين :
الأول : أنهم طلبوا غفران الذنوب ولم يكن للتوبة فيه ذكر ، فدل على أنهم طلبوا المغفرة مطلقا ، ثم إن الله تعالى أجابهم إليه لأنه قال في آخر الآية : {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} [ آل عمران : 195 ] وهذا صريح في أنه تعالى قد يعفو عن الذنب وان لم توجد التوبة.
والثاني : وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أخبروا عن أنفسهم بأنهم آمنوا ، فعند هذا قالوا : فاغفر لنا ذنوبنا ، والفاء في قوله : {فاغفر} فاء الجزاء وهذا يدل على أن مجرد الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من الله ، ثم إن الله تعالى أجابهم إليه بقوله : {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} فدلت هذه الآية على أن مجرد الإيمان سبب لحصول الغفران ، إما من الابتداء وهو بأن يعفو عنهم ولا يدخلهم النار أو بأن يدخلهم النار ويعذبهم مدة ثم يعفو عنهم ويخرجهم من النار ، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على حصول العفو. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 119}(19/138)
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في حق أصحاب الكبائر مقبولة يوم القيامة ، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن هؤلاء المؤمنين طلبوا من الله غفران الذنوب مطلقا من غير أن قيدوا ذلك بالتوبة ، فأجاب الله قولهم وأعطاهم مطلوبهم فإذا قبل شفاعة المؤمنين في العفو عن الذنب ، فلأن يقبل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيه كان أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 119}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
" سمع " إن دخلت على ما يصح أن يُسْمَعَ - نحو : سمعتُ كلامكَ وقراءتك - تَعَدَّتْ لواحدٍ ، فإن دخلت على ما يصح سماعهُ - بأن كان ذاتاً - فلا يصحُّ الاقتصارُ عليه وَحْدَه ، بل لا بد من الدلالة على شيء يُسْمَع ، نحو سمعتُ رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم ، وللنحويين - في هذه المسألة - قولانِ :
أحدهما : أنها تتعدى فيه - أيضاً - إلى مفعولٍِ واحدٍ ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة ، أو حالاً ، إن كان معرفة.
والثاني : - قول الفارسيُّ وجماعة - : أنها تتعدى لاثنين ، والجملة في محلِّ الثاني منهما ، فعلى قول الجمهورِ يكون " يُنَادِي " في محل نَصْبٍ ، لأنهُ صفةٌ لمنصوبٍ قبلهُ ، وعلى قول الفارسيِّ يكون في محل نصْبٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ.
وقال الزمخشريُّ : " تقول : سمعت رجلاً يقولُ كذا ، وسمعت زيداً يتكلمُ ، فتوقع الفعل على الرجل ، وتحذف المسموع ؛ لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالاً منه ، فأغناك عن ذِكْره ، ولولا الوصف أو الحالُ لم يكن منه بُدٌّ ، وأن تقول : سمعتُ كلامَ فلانٍ أو قَوْلَهُ ".
وهذا قولُ الجمهورِ المتقدم ذِكره.(19/139)
إلا أن أبا حيّان اعترض عليه ، فقال " وقوله : ولولا الوصفُ أو الحالُ... إلى آخره ، ليس كذلك ، بل لا يكونُ وَصْفٌ ولا حالٌ ، ويدخل " سَمِعَ " على ذات على مسموع ، وذلك إذا كان في الكلام ما يُشْعِر بالمسموع - وإن لم يكن وَصْفاً ولا حالاً - ومنه قوله تعالى : { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } [ الشعراء : 72 ] فأغنى ذكر طرف الدعاء عن ذكر المسموع ".
وأجاز أبو البقاء في " يُنَادِي " أن تكون في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير المستكن في " مُنَادِياً ". فإن قيل : ما الفائدة في الجمع بين " مُنَادِياً " و" يُنَادِي " ؟
فأجاب الزمخشريُّ بأنه ذَكَر النداء مطلقاً ، ثم مقيَّداً بالإيمانِ ، تفخيماً لشأن المُنَادِي ؛ لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ ينادي للإيمان ، ونحوه قولك : مررت بهادٍ يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادِيَ إذا أطلق ذهب الوَهم إلى منادٍ للحرب ، أو لإطفاء الثائرة ، أو لإغاثة المكروبِ ، أو لكفاية بعض النوازلِ ، أو لبعض المنافعِ وكذلكَ الهادي يُطلق على مَنْ يهدي للطريق ، ويهدي لسدادِ الرأي ، وغير ذلك فإذا قُلْتَ : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام فقد رَفَعْتَ من شأن المنادِي والهادي وفخّمته.
وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبةٍ :
أحدها : التوكيد ، نحو : قُم قَائِماً.
الثاني : أنه وصل به ما حسَّن التكرير ، وهو الإيمان.
الثالث : أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون " سَمِعَ " مقروناً بالنداء بذكر ما ليس بنداءٍ ، فلمَّا قال : " يُنَادي " محذوفٌ ، أي : ينادي في الناس ، وبجوز ألا يُرادَ مفعول ، نحو : أمات وأحيا.
ونادى ودعا يتعديان باللام تارةٌ ، وب " إلى " أخرى ، وكذلك نَدَبَ.
(19/140)
قال الزمخشريُّ : وذلك أن معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً ، فاللام في موضعها ولا حاجةَ إلى أن يقالَ : إنها بمعنى " إلى " ولا أنها بمعنى الباء ، ولا أنها لام العلة - أي : لأجل الإيمان - كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملاً على الرشد وكان كل مَنْ تأمَّلَه وَصَلَ به إلى الهدى - إذا وفَّقه الله لذلك - صار كأن يدعو إلى الهُدَى ، وينادي يما فيه من أنواعِ الدلائلِ ، كما قيل - في جهنم - : { تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى } [ المعارج : 17 ] إذْ كان مصيرهم إليها.
قوله : " أَنْ آمَنُوا " في " أن " قولان :
أحدهما : أنها تفسيرية ؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه ، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعرابِ.
ثانيهما : أنها مصدرية ، وصلت بفعل الأمرِ ، وفي وَصْلِها به نظرٌ ، من حيثُ إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية ، واستدلوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم. كتبت إليه بأن قُمْ فهي - هنا - مصدرية [ ليس إلا ، وإلا يلزم عدم تعلُّق حرف الجر ، وإذا قيل بأنها مصدرية ] فالأصل التعدي إليها بالباء ، أي : بأن آمنوا ، فيكون فيها المذهبانِ المشهورانِ - الجرُّ والنصبُ.
قوله : " فآمَنَّا " عطف على ما " سَمِعْنَا " والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبولِ وتسبب الإيمانِ على السَّماع من غير مُهْلَة ، والمعنى : فآمنا بربنا.
قوله : { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } اعلم أنهم قد طلبوا من الله في هذا الدعاءِ ثلاثةَ أشياءٍ :
أحدهَا : غفران الذنوب ، والغفران : هو الستر والتغطية.
ثانيها : التكفير ، وهو التغطية - أيضاً - يقال : رجل مُكَفَّرٌ بالسِّلاح - أي : مُغَطَّى - ومنه الكُفْر - أيضاً -
(19/141)
قال الشاعرُ : [ الكامل ]
....................... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلاَمُهَا
فالمغفرة والتكفير - بحسب اللغة - معناهما شيء واحد ، وأما المفسرون فقال بعضهم : المرادُ بهما شيءٌ واحدٌ ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد ؛ لأن الإلحاحَ والمبالغة في الدعاء أمرٌ مطلوبٌ.
وقيل : المرادُ بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنفُ.
وقيل : المرادُ بالغُفْران ما يزول بالتوبة ، وبالتكفير ما تكفِّره الطاعةُ العظيمةُ.
وقيل : المرادُ بالأولِ : ما أتى به الإنسانُ مع العلمِ بكونهِ معصية ، وبالثاني ما أتى به مع الجَهْل.
ثالثها : قوله : { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } أي : توفَّنا معدودين في صُحْبَتِهم ، فيكون الظرفُ متعلِّقاً بما قَبْلهُ ، وقيل : تُجَوَّزَ به عن الزمان ويجوز أن يكون حالاً من المفعول ، فيتعلق بمحذوف.
وأجازَ مَكِّيٍّ ، وأبو البقاءِ : أن يكون صفة لموصوف محذوف ، أي : أبراراً مع الأبرارِ ، كقوله : [ الوافر ]
كأنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أقَيْشٍ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ
أي : كأنك جمل من جمال.
قال أبو البقاء : " [ تقديره ] أبراراً مع الأبرار ، وأبراراً - على هذا - حالٌ ". والأبرار يجوز أن يكونَ جمع بارّ - كصاحب وأصحاب ، ويجوز أن يكون جمع بَرٍّ ، بزنة : كَتِف وأكتاف ، ورَبّ وأرْبَاب.أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 6 صـ 119 ـ 121}. بتصرف.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)}
يعني أَجَبْنَا الداعي ولكن أنت الهادي ، فلا تَكِلْنَا إلينا ، ولا ترفع ظلَّ عنايتك عَنَّا.
والإيمان الدخول في مُوجِبات الأَمَان ، وإنما يؤمِن بالحق من أَمَّنَه الحق ، فأَمَانُ الحق للعبد - الذي هو إجارته - يوجِب إيمانَ العبدِ بالحق الذي هو تصديقه ومعرفته.
{ وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } : وهم المختصون بحقائق التوحيد ، القائمون لله بشرائط التفريد ، والواقفون مع الله بخصائص التجريد. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 306 ـ 307}(19/142)
قوله تعالى { رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الله سبحانه وتعالى هو المالك التام الملك ، فهو ذو التصرف المطلق الذي لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء ؛ أشار إلى ذلك بقوله ملقناً لهم مكرراً صفة الإحسان تنبيهاً على مزيد الابتهال والتضرع والتخضع والتخشع : {ربنا وآتنا ما وعدتنا} ثم أشار إلى صدق هذا الوعد بحرف الاستعلاء الدال على الالتزام والوجوب فقال : {على رسلك} أي من إظهار الدين والنصر على الأعداء وحسن العاقبة وإيراث الجنة في مثل قوله تعالى : {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات} [ البقرة : 25 ] وفي الدعاء بذلك إشارة إلى أنه لا يجب على الله سبحانه وتعالى شيء ولو تقدم به وعده الصادق وإن كنا نعتقد أنه لا يبدل القوة لديه {ولا تخزنا يوم القيامة} أي بالمؤاخذة بالسيئاتن ثم أرشدهم إلى الإلهاب والتهييج مع التنبيه على ما نبه عليه أولاً من أنه لا يجب عليه شيء بقوله باسطاً لهم بلذة المنادمة بالمخاطبة : {إنك لا تخلف الميعاد }. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 199}
فصل
قال الفخر :
قوله : {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على} فيه حذف المضاف ثم فيه وجوه :
أحدها : وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك.(19/143)
وثانيها : وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك ، والدليل عليه أن هذه الآية مذكورة عقيب ذكر المنادي للإيمان وهو ، الرسول وعقيب قوله : {آمنا} وهو التصديق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 120}
فائدة
قال ابن عاشور :
والمراد بالرسل في قوله : { على رسلك } خصوص محمد صلى الله عليه وسلم أطلق عليه وصف "رسل" تعظيماً لقوله تعالى : { فلا تحسبن اللَّه مخلف وعده رسله } [ إبراهيم : 47 ].
ومنه قوله تعالى : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } [ الفرقان : 37 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 311}
سؤال وجوابه
قال الفخر :
ههنا سؤال : وهو أن الخلف في وعد الله محال ، فكيف طلبوا بالدعاء ما علموا أنه لا محالة واقع ؟
والجواب عنه من وجوه :
الأول : أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعل ، بل المقصود منه إظهار الخضوع والذلة والعبودية ، وقد أمرنا بالدعاء في أشياء نعلم قطعا أنها توجد لا محالة ، كقوله : {قُل رَّبّ احكم بالحق} [ الأنبياء : 112 ] وقوله : {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} [ غافر : 7 ].
والوجه الثاني في الجواب : أن وعد الله لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم ، بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم ، فإنه تعالى وعد المتقين بالثواب ، ووعد الفساق بالعقاب ، فقوله : {وَءاتِنَا مَا وعدتنا} معناه : وفقنا للاعمال التي بها نصير أهلا لوعدك ، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي ، وعلى هذا التقدير يكون المقصود من هذه الآية طلب التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية.
الوجه الثالث : أن الله تعالى وعد المؤمنين بأن ينصرهم في الدنيا ويقهر عدوهم ، فهم طلبوا تعجيل ذلك ، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 120}(19/144)
وقال القرطبى :
إن قيل : ما وجه قولهم { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد ؛ فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأوّل : أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة ، فسألوا أن يكونوا ممن وُعِد بذلك دون الْخزِي والعِقاب.
الثاني : أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع ؛ والدعاء مُخّ العبادة.
وهذا كقوله : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] وإن كان هو لا يقضِي إلاَّ بالحق.
الثالث : سألوا أن يُعطوا ما وعِدوا به من النصر على عدوّهم معجَّلا ؛ لأنها حكاية عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسألوه ذلك إعزازاً للدّين. والله أعلم.
وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من وعده الله عزّ وجلّ على عمل ثواباً فهو مُنْجِزٌ له رحمة وَمن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار " والعرب تذمّ بالمخالفة في الوعد وتمدح بذلك في الوعيد ؛ حتى قال قائلهم :
ولا يرهَبُ ابن العمّ ما عِشتُ صَوْلَتِي . . .
ولا أخْتَفِي من خَشْيَة المتَهَدِّدِ
وإنِّي متى أوْعدتُه أو وعدته . . .
لَمْخلِفُ إيْعادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 318}(19/145)