الأول : أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح إما للجهل ، أو العجز ، أو الحاجة ، وكل ذلك على الله محال لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض ، وهذه المالكية تنافي الجهل والعجز والحاجة ، وإذا امتنع ثبوت هذه الصفات في حقه تعالى امتنع كونه فاعلاً للقبيح
والثاني : أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجه من الوجوه كان لقائل أن يقول : إنا نشاهد وجود الظلم في العالم ، فإذا لم يكن وقوعه بإرادته كان على خلاف إرادته ، فيلزم كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً وذلك محال.(15/398)
فأجاب الله تعالى عنه بقوله {وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} أي أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر ، ولما كان قادراً على ذلك خرج عن كونه عاجزاً ضعيفاً لا أنه تعالى أراد منهم ترك المعصية اختياراً وطوعاً ليصيروا بسبب ذلك مستحقين للثواب فلو قهرهم على ترك المعصية لبطلت هذه الفائدة ، فهذا تلخيص كلام المعتزلة في هذه الآية ، وربما أوردوا هذا الكلام من وجه آخر ، فقالوا : المراد من قوله {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} إما أن يكون هو لا يريد أن يظلمهم أو أنه لا يريد منهم أن يظلم بعضهم بعضاً فإن كان الأول فهذا لا يستقيم على قولكم ، لأن مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء عن الذنب بأشد العذاب لم يكن ظلماً ، بل كان عادلاً ، لأن الظلم تصرف في ملك الغير ، وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه فاستحال كونه ظالماً وإذا كان كذلك لم يكن حمل الآية على أنه لا يريد أن يظلم الخلق وإن حملتم الآية على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضاً ، فهذا أيضاً لا يتم على قولكم لأن كل ذلك بإرادة الله وتكوينه على قولكم ، فثبت أن على مذهبكم لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح والجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى لا يريد أن يظلم أحداً من عباده ؟ قوله الظلم منه محال على مذهبكم فامتنع التمدح به قلنا : الكلام عليه من وجهين
الأول : أنه تعالى تمدح بقوله {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [ البقرة : 255 ] وبقوله {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [ الأنعام : 14 ] ولا يلزم من ذلك صحة النوم والأكل عليه فكذا ههنا(15/399)
الثاني : أنه تعالى إن عذب من لم يكن مستحقاً للعذاب فهو وإن لم يكن ظلماً في نفسه لكنه في صور الظلم ، وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله {وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [ الشورى : 40 ] ونظائره كثيرة في القرآن هذا تمام الكلام في هذه المناظرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 152 ـ 153}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
نُدِيمُ مخاطبتنا معك على دوام الأوقات في كل قليل وكثير ، عمارة لسبيل الوداد : {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا للعَالَمِينَ} وأنَّى يجوز الظلم في وصفه تقديراً ووجوداً - والخلق كلُّهم خَلْقُه - والحكمُ عليهم حُكْمُه ؟. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 269}(15/400)
قوله تعالى {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان أمرهم بالإقبال عليه ونهيهم عن الإعراض عنه ربما أوقع في وهم أنه غير قادر على ضبطهم أو محتاج إلى ربطهم أزال ذلك دالاً على أنه غني عن الظلم بقوله : {ولله} الملك الأعلى {ما} أي كل شيء {في السماوات و} كل {ما في الأرض} من جوهر وعرض مِلكاً ومُلكاً.
ولما كان المقصود سعة الملك لم يضمر لئلا يظن تخصيص الثاني بما في حيز الأول فقال : {وإلى الله} الذي لا أمر لأحد معه {ترجع الأمور} أي كلها ، التي فيهما والتي في غيرهما ، فلا داعي له إلى الظلم ، لأنه غني عن كل شيء وقادر على كل شيء. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 134 ـ 135}
وقال القرطبى :
{وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} قال المهدويّ : وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلماً للعالمين ، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وما في الأرض ( في قبضته ، وقيل : هو ابتداء كلام ، بيّن لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض ) له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 169}
قال أبو السعود :
{وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} أي له تعالى وحده من غير شِرْكةٍ أصلاً ، ما فيهما من المخلوقات الفائتةِ للحصر مُلكاً وخلقاً إحياءً وإماتةً وإثابةً وتعذيباً ، وإيرادُ كلمةِ {مَا} إما لتغليب غيرِ العقلاءِ وإما لتنزيلهم منزلةَ غيرِهم إظهاراً لحقارتهم في مقام بيانِ عظمتِه تعالى {وإلى الله} أي إلى حُكمه وقضائِه لا إلى غيره شِرْكةً أو استقلالاً. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 70}
وقال الآلوسى :
{وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له سبحانه وحده ما فيهما من المخلوقات ملكاً وخلقاً وتصرفاً والتعبير بـ {ما} للتغليب أو للإيذان بأن غير العقلاء بالنسبة إلى عظمته كغيرهم {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} أي أمورهم فيجازي كلاًّ بما تقتضيه الحكمة من الثواب والعقاب ، وتقديم الجار للحصر أي إلى حكم الله تعالى وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالاً ، والجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين ، وقيل : معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة ، وقرأ يحيى بن وثاب ( ترجع ) بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 27}(15/401)
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا بقوله {وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} على كونه خالقاً لأعمال العباد ، فقالوا لا شك أن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض ، فوجب كونها له بقوله {وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} وإنما يصح قولنا : إنها له لو كانت مخلوقة له فدلت هذه الآية على أنه خالق لأفعال العباد.
أجاب الجبائي عنه بأن قوله {لِلَّهِ} إضافة ملك لا إضافة فعل ، ألا ترى أنه يقال : هذا البناء لفلان فيريدون أنه مملوكه لا أنه مفعوله ، وأيضاً المقصود من الآية تعظيم الله لنفسه ومدحه لإلهية نفسه ، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الفواحش والقبائح ، وأيضاً فقوله {مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} إنما يتناول ما كان مظروفاً في السموات والأرض وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض.
أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الإضافة إضافة الفعل بدليل أن القادر على القبيح والحسن لا يرجح الحسن على القبيح إلا إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى فعل الحسن ، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله تعالى دفعاً للتسلسل ، وإذا كان المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية ، وثبت أن مجموع القدرة والداعية بخلق الله تعالى ثبت أن فعل العبد مستند إلى الله تعالى خلقاً وتكويناً بواسطة فعل السبب ، فهذا تمام القول في هذه المناظرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 153 ـ 154}
فصل
قال الفخر : (15/402)
قوله تعالى {وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} زعمت الفلاسفة أنه إنما قدم ذكر ما في السموات على ذكر ما في الأرض لأن الأحوال السماوية أسباب للأحوال الأرضية ، فقدم السبب على المسبب ، وهذا يدل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية ، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلق الله وتكوينه فيكون الجبر لازماً أيضاً من هذا الوجه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 154}
فائدة
قال الفخر :
قال تعالى : {وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} فأعاد ذكر الله في أول الآيتين والغرض منه تأكيد التعظيم ، والمقصود أن منه مبدأ المخلوقات وإليه معادهم ، فقوله {وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول وقوله {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} إشارة إلى أنه هو الآخر ، وذلك يدل إحاطة حكمه وتصرفه وتدبيره بأولهم وآخرهم ، وأن الأسباب منتسبة إليه وأن الحاجات منقطعة عنده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 154}
فائدة
قال ابن عطية :
وذكر الطبري : أن بعض البصريين نظر قوله تعالى : {وإلى الله} فأظهر الاسم ، ولم يقل إليه بقول الشاعر :
لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغنى والْفَقيرا
وما جرى مجراه ، وقاله الزجّاج ، وحكي أن العرب تفعل ذلك إرادة تفخيم الكلام والتنبيه على عظم المعنى.(15/403)
قال القاضي أبو محمد : والآية تشبه البيت في قصد فخامة النظم ، وتفارقه من حيث الآية جملتان مفترقتان في المعنى ، فلو تكررت جمل كثيرة على هذا الحد لحسن فيها كلها إظهار الاسم ، وليس التعرض بالضمير في ذلك بعرف ، وأما البيت وما أشبهه فالضمير فيه هو العرف ، إذ الكلام في معنى واحد ، ولا يجوز إظهار الاسم إلا في المعاني الفخمة في النفوس من التي يؤمن فيها اللبس على السامع ، وقرأ بعض السبعة ، " تَرجع الأمور " بفتح التاء على بناء الفعل للفاعل ، وقد تقدم ذكر ذلك. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 488}
فائدة
قال الفخر :
كلمة {إلى} في قوله {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} لا تدل على كونه تعالى في مكان وجهة ، بل المراد أن رجوع الخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلا حكمه ولا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 154}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
قالوا وتضمنت هذه الآيات الطباق : في تبيضّ وتسودّ ، وفي اسودّت وابيضّت ، وفي أكفرتم بعد إيمانكم ، وفي بالحق وظلماً.
والتفصيل : في فأمّا وأمّا.
والتجنيس : المماثل في أكفرتم وتكفرون.
وتأكيد المظهر بالمضمر في : ففي رحمة الله هم فيها خالدون.
والتكرار : في لفظ الله.
ومحسنه : أنه في جمل متغايرة المعنى ، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر ، لأن في ذكره دلالة على تفخيم الأمر وتعظيمه ، وليس ذلك نظير.
لا أرى الموت يسبق الموت شيء . . .
لاتحاد الجملة.
لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصداً للتفخيم.
والإشارة في قوله : تلك ، وتلوين الخطاب في فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم ، والتشبيه والتمثيل في تبيض وتسودّ ، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 29 ـ 30}(15/404)
بحث نفيس للعلامة الجصاص
قال عليه الرحمة :
بَابُ فَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ}
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وَالْآخَرُ : أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ إذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} وَحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ هُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ وَيَجْعَلُ مَخْرَجَ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْخُصُوصِ فِي قَوْلِهِ : {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} مَجَازًا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} وَمَعْنَاهُ : " ذُنُوبَكُمْ ".
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، كَالْجِهَادِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَتَكْفِينِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَدَفْنِهِمْ ، وَلَوْلَا أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَمَا سَقَطَ عَنْ الْآخَرِينَ بِقِيَامِ بَعْضِهِمْ بِهِ.(15/405)
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} وَقَالَ فِيمَا حَكَى عَنْ لُقْمَانَ : {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقَالَ تَعَالَى : {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ}.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فَهَذِهِ الْآيُ وَنَظَائِرُهَا مُقْتَضِيَةٌ لِإِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَهِيَ عَلَى مَنَازِلَ : أَوَّلُهَا تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ إذَا أَمْكَنَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَكَانَ فِي نَفْيِهِ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ إذَا أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِلِسَانِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِمَا وَصَفْنَا فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ.(15/406)
كَمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ قَالَ : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ : أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ : سَمِعْت طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ قَالَ : قَدَّمَ مَرْوَانُ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : خَالَفْت السُّنَّةَ كَانَتْ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ ؛ قَالَ : تُرِكَ ذَلِكَ يَا أَبُو فُلَانٍ قَالَ شُعْبَةُ : وَكَانَ لَحَّانًا فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقَالَ : أَمَّا هَذَا الْمُتَكَلِّمُ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ}.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ}.(15/407)
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ تَغْيِيرَهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ تَغْيِيرُهُ بِلِسَانِهِ ، ثُمَّ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ إنْكَارِهِ بِقَلْبِهِ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ بَيْنَهُمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ ، وَأَعَزُّ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرُوا إلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ}.(15/408)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {إنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَك ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} إلَى قَوْلِهِ : {فَاسِقُونَ}.
ثُمَّ قَالَ : كَلًّا وَاَللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا.
} قَالَ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ الْحَنَّاطُ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ ، وَزَادَ فِيهِ : {أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ}.(15/409)
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ
النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يُنْكِرَهُ ثُمَّ لَا يُجَالِسَ الْمُقِيمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَلَا يُؤَاكِلَهُ ، وَلَا يُشَارِبَهُ.
وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَكَانُوا بِمُؤَاكَلَتِهِمْ إيَّاهُمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ لَهُمْ تَارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} مَعَ مَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنْكَارِهِ بِلِسَانِهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَنْفِهِ مَعَ مُجَالَسَتِهِ وَمُؤَاكَلَتِهِ وَمُشَارَبَتِهِ إيَّاهُ.
، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ قَالَ : أَخْبَرَنَا خَالِدُ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا : {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : {إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ}.(15/410)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْعَتَكِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِيُّ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ : سَأَلْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْت : {يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا ، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك يَعْنِي بِنَفْسِك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ كَقَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ.
قَالَ : وَزَادَنِي غَيْرُهُ : قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ.
} وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَهُمَا حَالَانِ : حَالٌ يُمْكِنُ فِيهَا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ(15/411)
وَإِزَالَتُهُ ، فَفُرِضَ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ إزَالَةُ ذَلِكَ بِيَدِهِ أَنْ يُزِيلَهُ ؛ وَإِزَالَتُهُ بِالْيَدِ تَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ : مِنْهَا أَنْ لَا يُمْكِنَهُ إزَالَتُهُ إلَّا بِالسَّيْفِ ، وَأَنْ يَأْتِيَ عَلَى نَفْسِ فَاعِلِ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
كَمَنْ رَأَى رَجُلًا قَصَدَهُ أَوْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِقَتْلِهِ أَوْ بِأَخْذِ مَالٍ أَوْ قَصَدَ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إنْ أَنْكَرَهُ بِالْقَوْلِ أَوْ قَاتَلَهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ} ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ إلَّا بِقَتْلِ الْمُقِيمِ عَلَى هَذَا الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَرْضًا عَلَيْهِ.
وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ وَدَفْعَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ انْتَهَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ ، وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ أَنْكَرْهُ بِالدَّفْعِ بِيَدِهِ أَوْ بِالْقَوْلِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَفْعُهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَةُ هَذَا الْمُنْكَرِ إلَّا بِأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ.(15/412)
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ غَصَبَ مَتَاعَ رَجُلٍ : " وَسِعَكَ قَتْلُهُ حَتَّى تَسْتَنْقِذَ الْمَتَاعَ وَتَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ " وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي السَّارِقِ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ : " وَسِعَكَ أَنْ تَتْبَعَهُ حَتَّى تَقْتُلَهُ إنْ لَمْ يَرُدَّ الْمَتَاعَ ".
قَالَ مُحَمَّدٌ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اللِّصِّ الَّذِي يَنْقُبُ الْبُيُوتَ : " يَسَعُكَ قَتْلُهُ " وَقَالَ فِي رَجُلٍ يُرِيدُ قَلْعَ سِنِّك ، قَالَ فَلَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ إذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا يُعِينُك النَّاسُ عَلَيْهِ " وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ.
وَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ إلَّا بَعْدَ الْفَيْءِ إلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْمُنْكَرِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ} يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِتَغْيِيرِهِ بِيَدِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ قَتْلُهُ حَتَّى يُزِيلَهُ.
وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصْحَابِ الضَّرَائِبِ وَالْمُكُوسِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَمْتِعَةِ النَّاسِ : إنَّ دِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ وَوَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ.(15/413)
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ ، وَلَا التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ إذَا كَانُوا مُقْدِمِينَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِحَظْرِهِ ، وَمَتَى أَنْذَرَهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعُوا مِنْهُ حَتَّى لَا يُمْكِنَ تَغْيِيرُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ ، فَجَائِزٌ قَتْلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ ، وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ تَرْكُهُمْ لِمَنْ خَافَ إنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ أَنْ يُقْتَلَ ؛ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ اجْتِنَابَهُمْ وَالْغِلْظَةَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَهِجْرَانَهُمْ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُوبِقَاتِ مُصِرًّا عَلَيْهَا مُجَاهِرًا بِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَتَغْيِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِيَدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ ، وَذَلِكَ إذَا رَجَا أَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ أَنْ يَزُولُوا عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ ، فَإِنْ لَمْ يَرْجُ ذَلِكَ ، وَقَدْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ وَسِعَهُ السُّكُوتُ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُجَانِبَهُمْ وَيُظْهِرَ هِجْرَانَهُمْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ}.(15/414)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَزُولُوا عَنْ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي تَقِيَّةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ " مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهُ بِالْقَوْلِ فَأَبَاحَ لَهُ السُّكُوتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى : {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} : مُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْك ، فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْك فَعَلَيْك نَفْسُك.
وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَيْضًا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : إذَا لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَآرَاءَهُمْ فَأَنْتَ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِمْ وَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامّ ، وَأَبَاحَ تَرْكَ النَّكِيرِ بِالْقَوْلِ فِيمَنْ هَذِهِ حَالُهُ.(15/415)
وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ : قَدْ أَعْيَانِي أَنْ أَعْلَمَ مَا فُعِلَ بِمَنْ أَمْسَكَ عَنْ الْوَعْظِ مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ ، فَقُلْت لَهُ : أَنَا أُعَرِّفُك ذَلِكَ ، اقْرَأْ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ قَوْله تَعَالَى : {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ} قَالَ : فَقَالَ لِي : أَصَبْت وَكَسَانِي حُلَّةً.
فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ وَمَنْ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ ، فَجَعَلَ الْمُمْسِكِينَ عَنْ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِيهِ فِي الْعَذَابِ.
وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِأَعْمَالِهِمْ غَيْرَ مُنْكِرِينَ لَهَا بِقُلُوبِهِمْ ، وَقَدْ نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إلَى مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا مُتَوَالِينَ لِأَسْلَافِهِمْ الْقَاتِلِينَ لِأَنْبِيَائِهِمْ ، بِقَوْلِهِ : {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِاَلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَا قَتَلْتُمُوهُمْ} وَبِقَوْلِهِ : {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَأَضَافَ الْقَتْلَ إلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرُوهُ ، وَلَمْ يَقْتُلُوهُ ؛ إذْ كَانُوا رَاضِينَ بِأَفْعَالِ الْقَاتِلِينَ ؛ فَكَذَلِكَ أَلْحَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَنْهَ عَنْ السُّوءِ مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ بِفَاعِلِيهِ ؛ إذْ كَانُوا بِهِ رَاضِينَ وَلَهُمْ عَلَيْهِ مُتَوَالِينَ.(15/416)
فَإِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِلْمُنْكَرِ بِقَلْبِهِ ، وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي وَعِيدِ فَاعِلِيهِ ، بَلْ هُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَحَدَّثَنَا مَكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطِيَّةَ الْكُوفِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ : سَمِعْت ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ : لَمَّا بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ قَتْلُ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغَ بَكَى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَمُوتُ ، فَخَلَوْت بِهِ فَقَالَ : كَانَ وَاَللَّهِ رَجُلًا عَاقِلًا ، وَلَقَدْ كُنْت أَخَافُ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرَ ؛ قُلْت : وَكَيْفَ كَانَ سَبَبُهُ ؟ قَالَ : كَانَ يَقْدُمُ وَيَسْأَلُنِي ، وَكَانَ شَدِيدَ الْبَذْلِ لِنَفْسِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَكَانَ شَدِيدَ الْوَرَعِ ، كُنْت رُبَّمَا قَدَّمْت إلَيْهِ الشَّيْءَ فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ ، وَلَا يَرْضَاهُ ، وَلَا يَذُوقُهُ وَرُبَّمَا رَضِيَهُ فَأَكْلَهُ ، فَسَأَلَنِي عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، إلَى أَنْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ فَرِيضَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لِي : مُدَّ يَدَك حَتَّى أُبَايِعَك فَأَظْلَمَتْ الدُّنْيَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ؛ فَقُلْت : وَلِمَ ؟ قَالَ : دَعَانِي إلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ فَامْتَنَعْت عَلَيْهِ وَقُلْت لَهُ إنْ قَامَ بِهِ رَجُلٌ وَحْدَهُ قُتِلَ ، وَلَمْ يَصْلُحْ لِلنَّاسِ أَمْرٌ ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا صَالِحِينَ وَرَجُلًا يَرْأَسُ عَلَيْهِمْ مَأْمُونًا عَلَى دَيْنِ اللَّهِ لَا يَحُولُ.(15/417)
قَالَ : وَكَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّمَا قَدِمَ عَلَى تَقَاضِي الْغَرِيمِ الْمُلِحِّ كُلَّمَا قَدِمَ عَلَيَّ تَقَاضَانِي ، فَأَقُولُ لَهُ : هَذَا أَمْرٌ لَا يَصْلُحُ بِوَاحِدٍ مَا أَطَاقَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى عَقَدَتْ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ ، وَهَذِهِ فَرِيضَةٌ لَيْسَتْ كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْفَرَائِضِ يَقُومُ بِهَا الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَهَذَا مَتَى أُمِرَ بِهِ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَشَاطَ بِدَمِهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ فَأَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ.
وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ لَمْ يَجْتَرِئْ غَيْرُهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ فَقَدْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِك وَنُقَدِّسُ لَك قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ثُمَّ خَرَجَ إلَى مَرْوَ حَيْثُ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ ، فَكَلَّمَهُ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ فَأَخْذَهُ ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَعِبَادُهُمْ حَتَّى أَطْلَقُوهُ ، ثُمَّ عَاوَدَهُ فَزَجْرَهُ ، ثُمَّ عَاوَدَهُ ثُمَّ قَالَ : مَا أَجِدُ شَيْئًا أَقُومُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِك وَلَأُجَاهِدَنَّك بِلِسَانِي لَيْسَ لِي قُوَّةٌ بِيَدِي ، وَلَكِنْ يَرَانِي اللَّهُ ، وَأَنَا أُبْغِضُك فِيهِ فَقَتْلَهُ.(15/418)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبُ فَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي لُزُومِ فَرْضِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْسَانِ لِبَعْضِ الْفُرُوضِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فُرُوضَ غَيْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَهُ لِلصَّلَاةِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ الصَّوْمِ وَسَائِرَ الْعِبَادَاتِ ؟ فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ سَائِرَ الْمَعْرُوفِ ، وَلَمْ يَنْتَهِ عَنْ سَائِرِ الْمَنَاكِيرِ فَإِنَّ فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ.(15/419)
وَقَدْ رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : {اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ عَمِلْنَا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْءٌ إلَّا عَمِلْنَاهُ وَانْتَهَيْنَا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمُنْكَرِ إلَّا انْتَهَيْنَا عَنْهُ ، أَيَسَعُنَا أَنْ لَا نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَا نَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ : مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ ، وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْهُ كُلِّهِ} ، فَأَجْرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَجْرَى سَائِرِ الْفُرُوضِ فِي لُزُومِ الْقِيَامِ بِهِ مَعَ التَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ.
وَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَفُقَهَائِهَا سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ وُجُوبَ ذَلِكَ إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ وَجُهَّالِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالسِّلَاحِ ، وَسَمُّوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِتْنَةً إذَا اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى حَمْلِ السِّلَاحِ وَقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ ، مَعَ مَا قَدْ سَمِعُوا فِيهِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} وَمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ مِنْ وُجُوبِ قِتَالِهَا بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ.(15/420)
وَزَعَمُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَإِنَّمَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ السُّلْطَانِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْيَدِ بِغَيْرِ سِلَاحٍ ، فَصَارُوا شَرًّا عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَعْدَائِهَا الْمُخَالِفِينَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْعَدُوا النَّاسَ عَنْ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَعَنْ الْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الظُّلْمَ وَالْجَوْرَ.
حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَغَلُّبِ الْفُجَّارِ بَلْ الْمَجُوسِ ، وَأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ذَهَبَتْ الثُّغُورُ وَشَاعَ الظُّلْمُ وَخَرِبَتْ الْبِلَادُ وَذَهَبَ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَظَهَرَتْ الزَّنْدَقَةُ وَالْغُلُوُّ وَمَذَاهِبُ الثَّنَوِيَّةِ وَالْخُرَّمِيَّةِ وَالْمَزْدَكِيَّةِ وَاَلَّذِي جَلَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ ؛ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ : أَخْبَرَنَا إسْرَائِيلُ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ}.(15/421)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُصْعَبٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ : سَمِعْت أَبَا عُمَارَةَ قَالَ : سَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ رَشِيدٍ يَقُولُ : سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : أَنَا حَدَّثْت إبْرَاهِيمَ الصَّائِغَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ}. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 315 ـ 321}.
تم الجزء الخامس عشر من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس عشر وأوله قوله تعالى
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) }(15/422)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء السادس عشر
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(16/3)
الجزء السادس عشر
من الآية {110} من سورة آل عمران
وحتى الآية {136} من نفس السورة(16/4)
قوله تعالى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان من رجوع الأمور إليه هدايته من يشاء وإضلاله من يشاء قال - مادحاً لهذه الأمة ليمعنوا في رضاه حمداً وشكراً ومؤيساً لأهل الكتاب عن إضلالهم ليزدادوا حيرة وسكراً : {كنتم خير أمة} أي وجدتم على هذا الوصف الثابت لكم جبلة وطبعاً.
ثم وصف الأمة بما يدل على عموم الرسالة وأنهم سيقهرون أهل الكتاب فقال : {أخرجت للناس} ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعة لغيرهم على ما هم عليه من المكنة بقوله : {تأمرون} أي على سبيل التجدد والاستمرار {بالمعروف} أي كل ما عرفه الشرع وأجازه {وتنهون عن المنكر} وهو ما خالف ذلك ، ولو وصل الأمر إلى القتال ، مبشراً لهم بأنه قضى في ألأزل أنهم يمتثلون ما أمرهم به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} إراحة لهم من كلفة النظر في أنهم هل يمتثلون فيفلحوا ، وإزاحة لحملهم أعباء الخطر بكونهم يعانون عليه ليفوزوا ويربحوا ، فصارت فائدة الأمر كثيرة الثواب بقصد امتثال الواجب ، وللترمذي - وقال : حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه يقول في هذه الآية : " أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله سبحانه وتعالى " وللبخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : " أنتم خير الناس للناس ، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام ".(16/5)
ولما أخبر عنهم بهذا الوصف الشريف في نفسه أتبعه ما زاده شرفاً ، وهو أنهم فعلوه في حال إيمانهم فهو معتبر به لوجود شرطه الذي هو أساس كل خير فقال {وتؤمنون} أي تفعلون ذلك والحال أنكم تؤمنون {بالله} أي الملك الأعلى الذي تاهت الأفكار في معرفة كنه ذاته ، وارتدت نوافذ أبصار البصائر خاسئة عن حصر صفاته ، أي تصدقون أنبياءه ورسله بسببه في كل ما أخبروا به قولاً وفعلاً ظاهراً وباطناً ، وتفعلون جميع أوامره وتنهون عن جميع مناهيه ؛ وهذا يفهم أن من لم يؤمن كإيمانهم فليس من هذه الأمة أصلاً ، لأن الكون المذكور لا يحصل إلا بجميع ما ذكر ، وكرر الاسم الأعظم زيادة في تعظيمهم ، وقد صدق الله ومن أصدق من الله حديثاً!
قال الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري في خطبة كتاب الاستيعاب : روى ابن القاسم عن مالك أنه سمعه يقول : لما دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب فقال : ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشير وصلبوا على الخشب بأشد اجتهاداً من هؤلاء - انتهى.
ولما كان من المعلوم أن التقدير : وذلك خير لكم ، عطف عليه قوله : {ولو آمن أهل الكتاب} أي أوقعوا الإيمان كما آمنتم بجميع الرسل وجميع ما أنزل عليهم في كتابهم وغيره ، ولم يفرقوا بين شيء من ذلك {لكان} أي الإيمان {خيراً لهم} إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العرض القليل الفاني والرئاسة التافهة ، وتركهم الغنى الدائم والعز الباهر الثابت.
ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفاً : {منهم المؤمنون} أي الثابتون في الإيمان ، ولكنهم قليل {وأكثرهم الفاسقون} أي الخارجون من رتبة الأوامر والنواهي خروجاً يضمحل معه خروج غيرهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 135 ـ 136}
فصل
قال الفخر :(16/6)
في النظم وجهان
الأول : أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان ، وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين ، كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية ، ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم ، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة ، وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة ، وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف
الثاني : أن الله تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} [ آل عمران : 106 ] وكمال حال السعداء وهو قوله {وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ} [ آل عمران : 107 ] نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} [ آل عمران : 108 ] يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة ، ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 155}
فصل
قال الفخر : (16/7)
لفظة {كَانَ} قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله {كُنتُمْ} على وجوه الأول : أن ( كان ) ههنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر ، والمعنى : حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة ، ويكون قوله {خَيْرَ أُمَّةٍ} بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين الثاني : أن ( كان ) ههنا ناقصة وفيه سؤال : وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها.
والجواب عنه : أن قوله ( كان ) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ، ولا يدل ذلك على انقطاع طارىء بدليل قوله {استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [ نوح : 10 ] قوله {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [ الفتح : 14 ] إذا ثبت هذا فنقول : للمفسرين على هذا التقدير أقوال
أحدها : كنتم في علم الله خير أمة
وثانيها : كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وهو كقوله {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [ الفتح : 29 ] إلى قوله {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التوراة} [ الفتح : 29 ] فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر
وثالثها : كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة
ورابعها : كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس
وخامسها : قال أبو مسلم قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} تابع لقوله {وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ} [ آل عمران : 107 ] والتقدير : أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة : كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه ، ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله(16/8)
وسادسها : قال بعضهم : لو شاء الله تعالى لقال ( أنتم ) وكان هذا التشريف حاصلاً لكلنا ولكن قوله {كُنتُمْ} مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهم السابقون الأولون ، ومن صنع مثل ما صنعوا وسابعها : كنتم مذ آمنتم خير أمة تنبيهاً على أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة مذ كانوا.
الاحتمال الثالث : أن يقال ( كان ) ههنا زائدة ، وقال بعضهم قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} هو كقوله {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [ الأعراف : 86 ] وقال في موضع آخر {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ} [ الأنفال : 26 ] وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة : قال ابن الأنباري : هذا القول ظاهر الاختلال ، لأن ( كان ) تلغى متوسطة ومؤخرة ، ولا تلغى متقدمة ، تقول العرب : عبد الله كان قائم ، وعبد الله قائم كان على أن كان ملغاة ، ولا يقولون : كان عبد الله قائم على إلغائها ، لأن سبيلهم أن يبدؤا بما تنصرف العناية إليه ، والمعنى لا يكون في محل العناية ، وأيضاً لا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصاب خبره ، وإذا عمل الكون في الخبر فنصبه لم يكن ملغى.
الاحتمال الرابع : أن تكون ( كان ) بمعنى صار ، فقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين بالله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 155 ـ 156}(16/9)
وقال الآلوسى :
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير كذا قيل ، وقيل : هو من تتمة الخطاب الأول في قوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] وتوالت بعد هذا خطابات المؤمنين من أوامر ونواهي واستطرد بين ذلك من يبيض وجهه ومن يسود وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول تحريضاً على الانقياد والطواعية وكان ناقصة ولا دلالة لها في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على انقطاع أو دوام ، وقد تستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى نحو { وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } [ الأحزاب : 40 ] وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم انفكاكه نحو { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } [ الكهف : 54 ] ، وذهب بعض النحاة إلى أنها تدل بحسب الوضع على الانقطاع كغيرها من الأفعال الناقصة والمصحح هو الأول وعليه لا تشعر الآية بكون المخاطبين ليسوا خير أمة الآن ، وقيل : المراد كنتم في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم أي في علمهم كذلك ، وقال الحسن : معناه أنتم خير أمة ، واعترض بأنه يستدعي زيادة كان وهي لا تزاد في أول الجملة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 27}
وقال ابن عاشور :
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله }.
يتنزّل هذا منزلة التَّعليل لأمرهم بالدّعوة إلى الخير ، وما بعده فإن قوله { تأمرون بالمعروف } حال من ضمير كنتم ، فهو موذن بتعليل كونهم خيرَ أمَّة فيترتب عليه أنّ ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم ، إن لم يكن مفروضاً من قبل ، وأن يؤكد عليهم فرضه ، إن كان قد فرض عليهم من قبل.(16/10)
والخطاب في قوله { كنتم } إمَّا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابن عبَّاس.
قال عمر : هذه لأوّلنَا ولا تكون لآخِرنا.
وإضافة خير إلى أمّة من إضافة الصفة إلى الموصوف : أي كنتم أمَّة خير أمَّة أخرجت للنَّاس ، فالمراد بالأمّة الجماعة ، وأهل العصر النبوي ، مثل القَرن ، وهو إطلاق مشهور ومنه قوله تعالى : { وادّكَر بعد أمَّة } [ يوسف : 45 ] أي بعد مدة طويلة كمدة عصر كامل.
ولا شكّ أن الصحابة كانوا أفضل القرون التي ظهرت في العالم ، لأن رسولهم أفضل الرسل ، ولأن الهدى الذي كانوا عليه لا يماثله هدى أصحاب الرسل الذين مضوا ، فإن أخذت الأمة باعتبار الرسول فيها فالصحابة أفضل أمة من الأمم مع رسولها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " خير القرون قرني " والفضل ثابت للجموع على المجموع ، وإن أخذت الأمة من عدا الرسول ، فكذلك الصحابة أفضل الأمم التي مضت بدون رُسلها ، وهذا تفضيل للهدى الذي اهتدوا به ، وهو هدى رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته.
وإمّا أن يكون الخطاب بضمير { كنتم } للمسلمين كلّهم في كلّ جيل ظهروا فيه ، ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمّة لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر ، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة ، فمن التغيير على الأهل والولد ، إلى التغيير على جميع أهل البلد ، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمّة أوجب فضيلة لجميع الأمّة ، لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائقها ، وفي هذا ضمان من الله تعالى بأنّ ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى.(16/11)
وفعل ( كان ) يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى ، دون دلالة على استمرار ، ولا على انقطاع ، قال تعالى { وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 96 ] أي وما زال ، فمعنى { كنتم خير أمة } وجدتم على حالة الأخيرية على جميع الأمم ، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها ، لأنّهم اتّصفوا بالإيمان ، والدّعوة للإسلام ، وإقامته على وجهه ، والذبّ عنه النقصانَ والإضاعة لتحقّق أنّهم لمّا جُعل ذلك من واجبهم ، وقد قام كُلّ بما استطاع ، فقد تحقّق منهم القيام به ، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله ، كُلّما سنح سانح يقتضيه ، فقد تحقّق أنهم خير أمَّة على الإجمال فأخبر عنهم بذلك.
هذا إذا بنَينا على كون الأمر في قوله آنفاً { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ آل عمران : 104 ] وما بعده من النهي في قوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } [ آل عمران : 105 ] الآية ، لم يكن حاصلاً عندهم من قبل.
ويجوز أن يكون المعنى : { كنتم خير أمة } موصوفين بتلك الصّفات فيما مضى تفعلونها إمَّا من تلقاء أنفسكم ، حرصاً على إقامة الدّين واستحساناً وتوفيقاً من الله في مصادفتكم لمرضاته ومراده ، وإمّا بوجوب سابق حاصل من آيات أخرى مثل قوله : { وتواصوا بالحق } [ العصر : 3 ] وحينئذٍ فلمَّا أمرهم بذلك على سبيل الجزم ، أثنى عليهم بأنَّهم لم يكونوا تاركيه من قبل ، وهذا إذا بنَينا على أنّ الأمر في قوله { ولتكن منكم أمة } [ آل عمران : 104 ] تأكيداً لما كانوا يفعلونه ، وإعلام بأنَّه واجب ، أو بتأكيد وجوبه على الوجوه التي قدّمتها عند قوله { ولتكن منكم أمة }.(16/12)
ومن الحيرة التجاء جمع من المفسرين إلى جعل الإخبار عن المخاطبين بكونهم فيما مضى من الزمان أمة بمعنى كونهم كذلك في علم الله تعالى وقَدَره أو ثبوت هذا الكون في اللوح المحفوظ أو جعل كان بمعنى صار.
والمراد بأمَّة عمومُ الأمم كلّها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 187 ـ 189}
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن إجماع الأمة حُجَّة ، وتقريره من وجهين
الأول : قوله تعالى : {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق} [ الأعراف : 159 ] ثم قال في هذه الآية {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} فوجب بحكم هذه الآية أن تكون هذه الأمة أفضل من أولئك الذين يهدون بالحق من قوم موسى ، وإذا كان هؤلاء أفضل منهم وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق إذ لو جاز في هذه الآية أن تحكم بما ليس بحق لامتنع كون هذه الأمة أفضل من الأمة التي تهدي بالحق ، لأن المبطل يمتنع أن يكون خيراً من المحق ، فثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق ، وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة.
الوجه الثاني : وهو ( أن الألف واللام ) في لفظ {المعروف} ولفظ {المنكر} يفيدان الاستغراق ، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف ، وناهين عن كل منكر ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقاً وصدقاً لا محالة فكان حجة ، والمباحث الكثيرة فيه ذكرناها في الأصول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 156}(16/13)
فائدة
قال الفخر :
قال الزجاج : قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} ظاهر الخطاب فيه مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنه عام في كل الأمة ، ونظيره قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [ البقرة : 183 ] {كتب عَلَيْكُم القصاص} [ البقرة : 178 ] فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ ، ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 156}
فصل
قال الفخر :
قال القفال رحمه الله : أصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد فأمة نبينا صلى الله عليه وسلم هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به والإقرار بنبوته ، وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته أنهم أمته إلا أن لفظ الأمة إذا أطلقت وحدها وقع على الأول ، ألا ترى أنه إذا قيل أجمعت الأمة على كذا فهم منه الأول وقال عليه الصلاة والسلام : " أمتي لا تجتمع على ضلالة " وروي أنه عليه الصلاة والسلام يقول يوم القيامة " أمتي أمتي " فلفظ الأمة في هذه المواضع وأشباهها يفهم منه المقرون بنبوته ، فأما أهل دعوته فإنه إنما يقال لهم : إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم إلا لفظ الأمة بهذا الشرط. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 156}
قوله تعالى {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
أما قوله {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ففيه قولان الأول : أن المعنى كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار ، فقوله {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها
والثاني : أن قوله {لِلنَّاسِ} من تمام قوله {كُنتُمْ} والتقدير : كنتم للناس خير أمة ، ومنهم من قال : {أُخْرِجَتْ} صلة ، والتقدير : كنتم خير أمة للناس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 156 ـ 157}
وقال ابن عاشور :
وقوله { أخرجت للناس } الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار كقوله تعالى { فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار } [ طه : 88 ] أي أظهر بصوغه عجلاً جسداً.(16/14)
والمعنى : كنتم خير الأمم التي وجدت في عالم الدنيا.
وفاعل { أخرجت } معلوم وهو الله موجد الأمم ، والسائق إليها ما به تفاضلها.
والمراد بالناس جميع البشر من أوّل الخليقة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 189}
فصل
قال القرطبى :
وإذا ثبت بنَصِّ التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم ؛ فقد روى الأئمّة من حديث عِمران بن حصين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " ( الحديث ) وهذا يدل على أن أوّل هذه الأمة أفضل ممن بعدهم ، وإلى هذا ذهب معظم العلماء ، وأن من صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرّة في عمره أفضل ممن يأتي بعده ، وأن فضيلة الصحبة لا يعدِلها عمل.
وذهب أبو عمر بن عبد البِّر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة ، وأن قوله عليه السَّلام : " خير الناس قرني " ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول.
وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهِرين للإيمان وأهلِ الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود ، وقال لهم : ما تقولون في السارق والشارب والزاني.
وقال مُوَاجهةً لمن هو في قرنه : " لا تسبوا أصحابي " و" قال لخالد بن الوليد في عمّار : "لا تسب من هوخير منك" " وروى أبو أمَامة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبع مرّات لمن لم يرني وآمن بي " وفي مسند أبي داود الطيالِسِيّ عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال : كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " "أتدرون أي الخلق أفضل إيماناً" قلنا الملائكة.
قال : "وحق لهم بل غيرهم" قلنا الأنبياء.(16/15)
قال : "وحق لهم بل غيرهم" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني يجِدون ورقا فيعملون بما فيها فهم أفضل الخلق إيماناً" " وروى صالح بن جبير عن أبي جُمْعَة قال : " قلنا يا رسول الله ، هل أحد خير منا ؟ قال : "نعم قوم يجِيئون من بعدكم فيجدون كتاباً بين لوحين فيؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني" " وقال أبو عمر : وأبو جمعة له صحبة واسمه حَبِيب بن سِبَاع ، وصالح بن جبير من ثِقَات التابعين.
وروى أبو ثعلبة الخشنِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " "إن أمامكم أياماً الصّابر فيها على دينه كالقابض على الجَمْر للعامل فيها أجر خمسين رجلاً يعمل مثل عمله"قيل : يا رسول الله ، منهم ؟ قال : "بل منكم" " قال أبو عمر : وهذه اللفظة { بَلِ مِّنكُمْ } قد سكت عنها بعض المحدّثين فلم يذكرها.
وقال عمر بن الخطاب في تأويل قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال : من فعل مثل فعلِكم كان مثلكم.
ولا تعارض بين الأحاديث ؛ لأن الأوّل على الخصوص ، والله الموفِّق.(16/16)
وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب : إن قرنه إنما فُضِّل لأنهم كانوا غُرَبَاء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرِهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم ، وإن أواخر هذه الأمّة إذا أقاموا الدِّين وتمسّكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهَرَج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضاً غُرَبَاء ، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زَكَتْ أعمال أوائلهم ، و( مما ) يشهد لهذا قوله عليه السَّلام : " بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء " ويشهد له أيضاً حديث أبي ثعلبة ، ويشهد له أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : " أُمَّتي كالمطر لا يُدْرَى أوّلُه خيرٌ أم آخره " ذكره أبو داود الطيالسِيّ وأبو عيسى الترمذي ، ورواه هشام بن عبيد الله الرازي عن مالكٍ عن الزهري عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل أمتي مثل المطرِ لا يُدْرَى أوّله خيرٌ أم آخره " ذكره الدارقطنِي في مسند حديث مالك.
قال أبو عمر : هشام بن عبيد الله ثقةٌ لا يختلفون في ذلك.
وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إليّ بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها ؛ فكتب إليه سالم : إن عملت بسيرة عمر ؛ فأنت أفضل من عمر لأن زمانك ليس كزمان عمر ، ولا رجالك كرجال عمر.
وكتب إلى فقهاء زمانه ، فكلُّهم كتب إليه بمثل قول سالم.
وقد عارض بعض الجِلّة من العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : " خير الناس قرنِي " بقوله صلى الله عليه وسلم : " خير الناس من طال عمره وحَسُن عملُه وشرُّ الناس من طال عمره وساء عمله " قال أبو عمر : فهذه الأحاديث تقتضي مع تَوَاتُر طرقها وحسنها التّسْويةَ بين أوّلِ هذه الأمّة وآخرِها.(16/17)
والمعنى في ذلك ما تقدّم ذكره من الإيمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين ، ويكثر فيه الفسق والهَرَج ، ويُذَلّ المؤمنُ ويُعَزُّ الفاجر ويعود الدين غَرِيباً كما بدا غَرِيباً ويكون القائمُ فيه كالقابض على الجمر ، فيستوي حينئذ أوّل هذه الأمّة بآخرها في فضل العمل إلاَّ أهل بدَرُ والحُديبية ، ومن تدبّر آثار هذا الباب بان له الصّواب ، والله يؤتي فضله من يشاء. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 171 ـ 173}
قوله تعالى : {تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله }
قال الفخر :
اعلم أن هذا كلام مستأنف ، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية ، كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم ، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ، فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات ، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان ، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 157}(16/18)
وقال الآلوسى :
{ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } فإنه وإن كان استئنافاً مبيناً لكونهم خير أمة أو صفة ثانية لأمة على ما قيل إلا أنه يفهم الشرطية والمتبادر من المعروف الطاعات ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس في الآية أن المعنى تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقرّوا بما أنزل الله تعالى وتقاتلونهم عليهم ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف وتنهونهم عن المنكر والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر وكأنه رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على الفرد الكامل وإلا فلا قرينة على هذا التخصيص.(16/19)
{ وَتُؤْمِنُونَ بالله } أريد بالإيمان به سبحانه الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا آمن بالله تعالى على الحقيقة وحقيقة الإيمان بالله تعالى أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به فلو أخل بشيء منه لم يكن من الإيمان بالله تعالى في شيء ، والمقام يقتضيه لكونه تعريضاً بأهل الكتاب وأنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به كما يشعر بذلك التعقيب بنفي الإيمان عنهم مع العلم بأنهم مؤمنون في الجملة وأيضاً المقام مقام مدح للمؤمنين بكونهم خير أمة أخرجت للناس وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها المعلل للخيرية فلو لم يرد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لم يكن مدحاً فلا يصلح للتعليل والعطف يقتضيه وإنما أخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجوداً ورتبة كما هو الظاهر لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما أظهر في الدلالة على الخيرية ، ويجوز أن يقال قدمهما عليه للاهتمام وكون سوق الكلام لأجلهما ، وأما ذكره فكالتتميم ، ويجوز أيضاً أن يكون ذلك للتنبيه على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر مما اشتمل عليه الإيمان بالله تعالى لأنه من وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولو قيل قدما وأخر للاهتمام وليرتبط بقوله تعالى :
{ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } لم يبعد. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 28}(16/20)
وقال ابن عاشور :
وإنّما قدّم { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } على قوله { وتؤمنون بالله } لأنهما الأهم في هذا المقام المسوق للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحاصلة من قوله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ آل عمران : 104 ] والاهتمام الذي هو سبب التقديم يختلف باختلاف مقامات الكلام ولا ينظر فيه إلى ما في نفس الأمر لأنّ إيمانهم ثابت محقّق من قبل.
وإنَّما ذكر الإيمان بالله في عداد الأحوال التي استحقوا بها التفضيل على الأمم ، لأنّ لكلّ من تلك الأحوال الموجبة للأفضلية أثراً في التفَّضيل على بعض الفرق ، فالإيمان قصد به التفضيل على المشركين الذين كانوا يفتخرون بأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته وقد ردّ الله ذلك صريحاً في قوله : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله } [ التوبة : 19 ] وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قصد به التفضيل على أهل الكتاب ، الذين أضاعوا ذلك بينهم ، وقد قال تعالى فيهم { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } [ المائدة : 79 ].
فإن قلت إذا كان وجه التفضيل على الأمم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، فقد شاركنا في هذه الفضيلة بعض الجماعات من صالحي الأمم الذين قبلنا ، لأنَّهم آمنوا بالله على حسب شرائعهم ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، لتعذّر أن يترك الأمم بالمعروف لأنّ الغيرة على الدين أمر مرتكز في نفوس الصادقين من أتباعه.(16/21)
قلت : لم يثبت أن صالحي الأمم كانوا يلتزمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إمّا لأنه لم يكن واجباً عليهم ، أو لأنَّهم كانوا يتوسعّون في حل التقية ، وهذا هارون في زمن موسى عبدت بنو إسرائيل العجل بمرأى منه ومسمع فلم يغيّر عليهم ، وقد حكى الله محاورة موسى معه بقوله { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي } [ طه : 92 94 ] وأما قوله تعالى { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ آل عمران : 113 ، 114 ] الآية فتلك فئة قليلة من أهل الكتاب هم الذين دخلوا في الإسلام مثل عبد الله بن سلام ، وقد كانوا فئة قليلة بين قومهم فلم يكونوا جمهرة الأمّة.(16/22)
وقد شاع عند العلماء الاستدلال بهذه الآية على حجيّة الإجماع وعصمته من الخطأ بناء على أن التعريف في المعروف والمنكر للاستغراق ، فإذا أجمعت الأمَّة على حكم ، لم يجز أن يكون ما أجمعوا عليه منكراً ، وتعيّن أن يكون معروفاً ، لأنّ الطائفة المأمورة بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في ضمنهم ، ولا يجوز سكوتها منكر يقع ، ولا عن معروف يترك ، وهذا الاستدلال إن كان على حجية الإجماع بمعنى الشرع المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة فهو استدلال صحيح لأن المعروف والمنكر في هذا النوع بديهي ضروري ، وإن كان استدلالاً على حجية الإجماعات المنعقدة عن اجتهاد ، وهو الذي يقصده المستدلون بالآية ، فاستدلالهم بها عليه سفسطائي لأنّ المنكر لا يعتبر منكراً إلاّ بعد إثبات حكمه شرعاً ، وطريق إثبات حكمه الإجماع ، فلو أجمعوا على منكر عند الله خطأ منهم لما كان منكراً حتَّى ينهي عنه طائفة منهم لأنّ اجتهادهم هو غاية وسعهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 189 ـ 191}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } مدح هذه الأمّة ما أقاموا ذلك واتصفوا به.
فإذا تركوا التغيير وتَواطَئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذَّمِّ ، وكان ذلك سبباً لهلاكهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 173}
فائدة
قال أبو حيان :
وحكم عليهم بأنهم خيرُ أمة ، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي : سبقهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبدارهم إلى نصرته ، ونقلهم عنه علم الشريعة ، وافتتاحهم البلاد.
وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل.(16/23)
وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها ، لأنّهم سببٌ في إيجادها ، إذْ هم الذين سنوها ، وأوضحوا طريقها " من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً ". أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 30 ـ 31}
أسئلة وأجوبة للإمام الفخر :
السؤال الأول : من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم ؟ .
والجواب : قال القفال : تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد ، وأقواها ما يكون بالقتال ، لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة ، وأنكر المنكرات : الكفر بالله ، فكان الجهاد في الدين محملاً لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع ، وتخليصه من أعظم المضار ، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات ، ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع ، لا جرم صار ذلك موجباً لفضل هذه الأمة على سائر الأمم ، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية : قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقروا بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه و"لا إله إلا الله" أعظم المعروف ، والتكذيب هو أنكر المنكر.(16/24)
ثم قال القفال : فائدة القتال على الدين لا ينكره منصف ، وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الألف والعادة ، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه ، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ، ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق ، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم.
السؤال الثاني : لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد وأن يكون مقدماً على كل الطاعات ؟ .
والجواب : أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة ، ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة ، فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل ، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم ، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية ، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ، وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير ، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير ، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان.
السؤال الثالث : لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه.(16/25)
والجواب : الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوّة ، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً ، والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقاً لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول ، فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان الاقتصار على ذكر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 157 ـ 158}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
في " كان " هذه - ستة أقوال :
أحدها : أنها ناقصة على بابها - وإذا كانت كذلك ، فلا دلالة لها على مُضِيٍّ وانقطاع ، بل تصلح للانقطاع نحو : كان زيدٌ قائماً ، وتصلح للدوام ، كقوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ، وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] ، فهي - هنا - بمنزلة : لم يزل ، وهذا بحسب القرائن.
وقال الزمخشري : " كان عبارة عن وجود الشيء في زمنٍ ماضٍ ، على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارئ ، ومنه قوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } ، وقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ]. كأنه قيل : وُجِدتم خيرَ أمة ".
قال أبو حيان : قوله : " لم يدل على عدم سابق " ، هذا إذا لم يكن بمعنى : " صار " ، فإذا كان بمعنى : " صار " دلت على عدم سابق ، فإذا قلتَ : كان زيدٌ عالماً - بمعنى : صار زيدٌ عالماً - دل على أنه نقل من حالة الجَهْل إلى حالة العلم.(16/26)
وقوله : " ولا على انقطاع طارئ " ، قد ذكرنا - قبل - أن الصحيح أنها كسائر الأفعال ، يدل لفظ المُضِيّ منها على الانقطاع ، ثم قد يستعمل حيث لا انقطاع ، وفرق بين الدلالة والاستعمال ؛ ألا ترى أنك تقول : " هذا اللفظ يدل على العموم " ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم ، بل يراد الخصوص.
وقوله : كأنه قيل : " وجدتم خير أمة " ، هذا يعارض قوله : إنها مثل قوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } ؛ لأن تقديره : وجدتم خير أمة يدل على أنها التامة ، وأن { خَيْرَ أُمَّةٍ } حال ، وقوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } لا شك أنها - هنا - الناقصة ، فتعارضا.
قال شهابُ الدين : " لا تعرُضَ ؛ لأن هذا تفسير معنًى ، لا إعراب ".
الثاني : أنها بمعنى : " صرتم " ، و" كان " تأتي بمعنى : " صار " كثيراً.
كقوله : [ الطويل ]
بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كأنَّهَا... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي : صارت فراخاً.
الثالث : أنها تامة ، بمعنى : " وجدتم " ، و{ خَيْرَ أُمَّةٍ } - على هذا منصوب على الحال ، أي : وجدتم على هذه الحال.
الرابع : أنها زائدة ، والتقدير : أنتم خير أمة ، وهذا قول مرجوح ، أو غلط ، لوجهين :
أحدهما : أنها لا تزاد أولاً ، وقد نقل ابنُ مالك الاتفاق على ذلك.
الثاني : أنها لا تعمل في " خير " مع زيادتها.
وفي الثاني نظر ، إذ الزيادة لا تنافي العمل ، لما تقدم عند قوله : " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " ؟
الخامس : أنها على بابها ، والمراد : كنتم في علم الله ، أو في اللوح المحفوظ ، أو في الأمم السالفة ، مذكورين بأنكم خير أمة.
السادس : أن هذه الجملة متصلة بقوله : " ففي رحمة الله " ، أي : فيقال لهم يوم القيامة : " كنتم خير أمة " ، وهو بعيد جِدًّا.(16/27)
قوله : { أُخْرِجَتْ } يجوز في هذه الجملة أن تكون في مَحَلِّ جَرٍّ ؛ نعتاً لـ " أمةٍ " - وهو الظاهر - وأن تكون في محل نصب ؛ نعتاً لـ " خَيْر " ، وحينئذ يكون قد روعي لفظ الاسم الظاهر بعد وروده بعد ضمير الخطاب ، ولو روعي ضمير الخطاب لكان جائزاً - أيضاً - وذلك أنه إذا تقدم ضميرُ حاضرٍ - متكلِّماً كان أو غائباً أو ماطباً - ثم جاء بعده خبره اسماً ظاهراً ، ثم جاء بعد ذلك الاسم الظاهر ما يصلح أن يكون وصفاً له كان للعرب فيه طريقان :
أحدهما : مراعاة ذلك الضمير السابق ، فيطابقه بما في تلك الجملة الواقعة صفة للاسم الظاهر.
الثانية : مراعاة ذلك الاسم الظاهر ، فيبعد الضمير عليه منها غائباً ، وذلك كقولك : أنت رجل يأمر بالمعروف ، بالخطاب ، مراعاة لـ " أنت " ، وبالغيبة ، مراعاة للفظ " رجل " ، وأنا امرؤ أقول الحق - بالمتكلم ؛ مراعاة لـ " أنا " ويقول الحقّ ، مراعاة لمرئٍ ، وبالغيبة مراعة للفظ امرئ ، ومن مراعاة الضمير قوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] ، وقوله : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ".
وقول الشاعر : [ الطويل ]
وَأنْتَ امْرُؤٌ قَدْ كَثَّأتْ لَكَ لِحْيَةٌ... كَأنَّكَ مِنْهَا قَاعِدٌ في جُوَالِقِ
ولو قيل : - في الآية الكريمة- : أخْرِجْتُمْ ؛ مراعاة لـ " كُنْتُمْ " لكان جائزاً - من حيث اللفظ - ولكن لا يجوز أن يُقْرأ به ؛ لأن القراءةَ سنَّة مُتَّبَعَةٌ ، فالأولَى أن تُجْعَل الجملة صفة لـ " أمَّةٍ " ، لا لـ " خَيْرَ " ن لتناسب الخطاب في قوله : { تَاْمُرُونَ }.
قوله : { لِلنَّاسِ } فيه أوجه :(16/28)
أحدها : أن تتعلق بـ { أُخْرِجَتْ } ومعناه : ما أخرج الله أمة خيراً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث : " ألا وَإنَّ هَذِه الأمة تُوفِّي سبعين أمة ، أنتم خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى ".
الثاني : أنه متعلق بـ " خَيْرَ " أي : أنتم خير الناس للناس.
قال أبو هريرة : معناه : كنتم خير الناس للناس ؛ تجيئون بهم في السلاسل ، فتُدْخلونهم في الإسلام.
وقال قتادة : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر نبيٌّ قبله بالقتال ، فهم يقاتلون الكفار ، فيُدْخلونهم في الإسلام ، فهم خير أمةٍ للناس.
والفرق بينهما - من حيث المعنى - أنه لا يلزم أن يكونوا أفضلَ الأمم - في الوجه الثاني - من هذا اللفظ بل من موضع آخرَ.
الثالث : أنه متعلِّق - من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب ، بـ " تَأمُرُونَ " على أن مجرورَها مفعول به ، فلما تقدم ضَعُفَ العامل ، فَقُوِّيَ بزيادة اللام ، كقوله : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] أي : إن كنتم تعبرون الرؤيا.
قوله : { تَأْمُرُونَ } في هذه الجملة أوجُهٌ :
الأول : أنها خبر ثان لِ " كُنْتُمْ " ، ويكون قد راعى الضمير المتقدم - في " كُنْتُمْ " ، ولو راعى الخبر لقال : يأمرون - بالغيبة ، وقد تقدم تحقيقه.
الثاني : أنها في محل نصب على الحال ، قاله الراغب وابن عطية.
الثالث : أنها في محل نصب ؛ نعتاً لِ { خَيْرَ أُمَّةٍ } ، وأتى بالخطاب لما تقدم ، قاله الحوفي.(16/29)
الرابع : أنها مستأنفة ، بيَّن بها كونهم خير أمة ، كأنه قيل : السبب في كونكم خير الأمم هذه الخصال الحميدة ، والمقصود بيان علة تلك الخيرية - كقولك : زيد كريم ؛ يُطعِم الناسَ ويكسوهم - لأن ذِكْرَ الحكم مقروناً بالوصف المناسِب له يُشْعِر بالعلِّيَّةِ ، فها هنا لما ذكر - عقيب الخيرية - أمْرَهم بالمعروف ، ونَهْيَهُم عن المنكر ، أوجب أن تكون تلك الخيرية لهذا السبب ، وهذا أغرب الأوجه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 462 ـ 467}
فصل
قال الخازن :
عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن بعدهم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن "
زاد في رواية : " ويحلفون ولا يستحلفون "
عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " قوله : " خير الناس قرني " يعني أصحابي القرن أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه الزمان الزمان الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم ، وقيل القرن أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة.
عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي فلو أن أحداً أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " النصيف النصف.(16/30)
وقال ابن عباس في رواية عطاء في قوله : كنتم خير أمة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال الزّجاج قوله كنتم خير أمة الخطاب فيه مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه عام في كل أمة ونظيره قوله : " كتب عليكم الصيام ، كتب عليكم القصاص " فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ ، ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا عن " بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال أنتم الأمة تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وأصل الأمة الجماعة المجتمعة على الشيء.
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الجماعة الموصوفين بالإيمان بالله عز وجل وبمحمد صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى.
قالوا : ومن يأبى ؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى " عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يجمع أمتي او قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار " أخرجه الترمذي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل " أخرجه أبو داود عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل أمتي كمثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله " أخرجه الترمذي(16/31)
وله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أهل الجنة عشرون ومائة صف ، ثمانون من هذه الأمة ، وأربعون من سائر الأمم " وله عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " باب أمتي الذي يدخلون من الجنة عرضه مسيرة الراكب المسرع المجد ثلاثاً ثم إنهم يتضاغطون عليه حتى تكاد مناكبهم تزول " قال الترمذي سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه وقال لخالد بن أبي بكر مناكير عن سالم بن عبدالله زاد غيره في الحديث وهم شركاء الناس في سائر الأبواب عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أمتي من يشفع في الفئام من الناس ومنهم من يشفع في القبيلة ومنهم من يشفع للعصبة من يشفع للواحد " أخرجه الترمذي
عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً أو سبعمائة ألف سماطين متماسكين آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر " عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب ومع كل ألف سبعون ألفاً وثلاث حثيات من حثيات ربي " أخرجه الترمذي.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي " وقوله تعالى : { أخرجت للناس } معناه كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار ومعنى أخرجت أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وقيل معناه كنتم للناس خير أمة أخرجت
عن أبي هريرة قال : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال : خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام ، وقيل : أخرجت صلة والتقدير كنتم خير أمة للناس وقيل معناه كنتم للناس خير أمة للناس وقيل معناه ما أخرج للناس أمة خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 264 ـ 265}(16/32)
فصل نفيس فى فضل هذه الأمة
قال العلامة ابن كثير ـ رحمه الله ـ :
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }.
قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، عن سفيان ، عن مَيْسَرة ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال : خَيْرَ الناس للناس ، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام (1).
وهكذا قال ابن عباس ، ومُجاهد ، وعِكْرِمة ، وعَطاء ، والربيع بن أنس ، وعطية العَوْفيّ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } يعني : خَيْرَ الناس للناس.
والمعنى : أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ؛ ولهذا قال : { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }
قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا شريك ، عن سِماك ، عن عبد الله بن عُمَيرة عن زوج [ذُرّةَ] بنت أبي لَهَب ، [عن درة بنت أبي لهب] قالت : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ، فقال : يا رسول الله ، أيّ الناس خير ؟ فقال : "خَيْرُ النَّاسِ أقْرَؤهُمْ وأتقاهم للهِ ، وآمَرُهُمْ بِالمعروفِ ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ" (2).
ورواه أحمد في مسنده ، والنسائي في سننه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث سماك ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة (3).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4557).
(2) المسند (6/432).
(3) المسند (1/319) والنسائي في السنن الكبرى (11072) والمستدرك (2/294) وقال الحاكم : "صحيح الإسناد على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.(16/33)
والصحيح أن هذه الآية عامةٌ في جميع الأمة ، كل قَرْن بحسبه ، وخير قرونهم الذين بُعثَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم الذين يَلونهم ، ثم الذين يلونهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي : خيارا { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] } الآية.
وفي مسند الإمام أحمد ، وجامع الترمذي ، وسنن ابن ماجة ، ومستدرك الحاكم ، من رواية حكيم بن مُعَاوية بن حَيْدَة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً ، أنْتُمْ خَيْرُهَا ، وأنْتُمْ أكْرَمُ عَلَى اللهِ عزَّ وجَلَّ" (1).
وهو حديث مشهور ، وقد حَسَّنه الترمذي. ويروى من حديث معاذ بن جبل ، وأبي سعيد [الخدري] نحوه.
وإنما حازت هذه الأمة قَصَبَ السَّبْق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أشرفُ خلق الله أكرم الرسل على الله ، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يُعْطه نبيًّا قبله ولا رسولا من الرسل. فالعمل [على] منهاجه وسبيله ، يقوم القليلُ منه ما لا يقوم العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا ابن زُهَير ، عن عبد الله -يعني ابن محمد بن عقيل-عن محمد بن علي ، وهو ابن الحنفية ، أنه سمع علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ". فقلنا : يا رسول الله ، ما هو ؟ قال : " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا ، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ". تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وإسناده حسن (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو العلاء الحسن بن سَوَّار ، حدثنا لَيْث ، عن معاوية عن بن أبي حُلَيْس يزيد بن مَيْسَرَةَ قال : سمعت أم الدرداء ، رضي الله عنها ، تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها ، يقول إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَا عِيسَى ، إنِّي بَاعِثٌ بَعْدَكَ أُمَّةً ، إنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا وشَكَرُوا ، وإنْ أصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا ، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ". قال : يَا رَبِّ ، كَيْفَ هَذَا لهُمْ ، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ ؟ . قال : "أُعْطِيهِمْ مِن حِلْمِي وعلمي" (3).
__________
(1) المسند (4/447) وسنن الترمذي برقم (3001) وسنن ابن ماجة برقم (4287) والمستدرك (4/84).
(2) المسند (1/98) وقال الهيثمي في المجمع (1/260) : "فيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيئ الحفظ. وقال الترمذي : صدوق وقد تكلم فيه بعض العلماء من قبل حفظه ، وسمعت محمد البخاري يقول : كان أحمد بن حنبل وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل. قلت : فالحديث حسن".
(3) المسند (6/450).(16/34)
وقد وردت أحاديثُ يناسب ذكرُها هاهنا :
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا المسعودي ، حدثنا بُكَيْر بن الأخْنَس ، عن رجل ، عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أُعْطِيتُ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْر ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي ، عز وجَلَّ ، فَزَادَنِي مَعَ كُل وَاحِدٍ سبعين ألفًا". فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : فرأيت أن ذلك آتٍ على أهل القرى ، ومصيبٌ من حافات البوادي (1).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا هشام بن حسان ، عن القاسم بنِ مهران ، عن موسى بن عبيد ، عن ميمون بن مهران ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنَّ رَبِّي أعْطَانِي سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، بِغَيْرِ حِسَابٍ". فقال عمر : يا رسول الله ، فهلا استزدته ؟ فقال : "اسْتَزَدْتُهُ فَأَعْطَانِي مَعَ كُلِّ رَجُلٍ سَبْعِينَ أَلْفًا ". قال عمر : فهلا استزدته ؟ قال : "قَدِ اسْتَزَدْتُهُ فأعْطَانِي هكَذَا". وفرج عبد الله بن بكر بين يديه ، وقال عبد الله : وبسط باعيه ، وحثا عبد الله ، قال هشام : وهذا من الله لا يدرى ما عدده (2).
_____________
(1) المسند (1/6) وقال الهيثمي في المجمع (10/410) : "فيه المسعودي وقد اختلط وتابعيه لم يسم ، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
(2) المسند (1/197) وفي إسناده القاسم بن مهران وموسى بن عبيد وهما مجهولان ، وبقية رجاله رجال الصحيح.(16/35)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليَمان ، حدثنا إسماعيل بن عَيّاش ، عن ضَمْضم بن زُرْعة قال : قال شُرَيح بن عبيد : مَرِضَ ثَوْبَان بحِمْص ، وعليها عبد الله بن قُرْط الأزْدِي ، فلم يَعُدْه ، فدخل على ثوبان رجل من الكَلاعيين عائدًا ، فقال له ثوبان : [أتكتب ؟ قال : نعم : فقال : اكتب ، فكتب للأمير عبد الله بن قرط ، "من ثوبان] مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما بعد : فإنه لو كان لموسى وعيسى ، عليهما السلام ، بحضرتك خَادم لعدته" ثم طوى الكتاب وقال له : أتبلغه إياه ؟ فقال : نعم. فانطلقَ الرجلُ بكتابه فدفعه إلى ابن قرط ، فلما رآه قام فَزِعا ، فقال الناس : ما شأنه ؟ أحدث أمر ؟ فأتى ثوبان حتى دخل عليه فعاده ، وجلس عنده ساعة ثم قام ، فأخذ ثوبان بردائه وقال : اجلس حتى أحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول : "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا ، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ ، مَعَ كُلِّ ألفٍ سَبْعُونَ ألْفًا".
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حِمْصِيّون فهو حديث صحيح (1) ولله الحمد.
طريق أخرى : قال الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبْريق الحِمْصي ، حدثنا محمد بن
__________
(1) المسند (5/280).(16/36)
إسماعيل -يعني ابن عَيَّاش-حدثنا أبي ، عن ضَمْضَم بن زُرْعة ، عن شُرَيح بن عبيد ، عن أبي أسماء الرَحَبيّ ، عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنَّ رَبِّي ، عَزَّ وجَلَّ ، وَعَدَنِي مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا لا يُحَاسَبُونَ ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا". هذا لعله هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي ، بين شريح وبين ثوبان (1) والله أعلم.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حُصَين ، عن ابن مسعود قال : أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، ثم غَدَوْنا إليه فقال : "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الثَّلاثَةُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ النَّفَرُ ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ مُوسَى ، عليه السلام ، ومَعَهُ كَبْكَبَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَأَعْجَبُونِي ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ ؟ فَقِيلَ لِي : هَذَا أَخُوكَ مُوسَى ، مَعَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ". قال : "قُلْتُ : فَأَيْنَ أُمَّتِي ؟ فَقِيلَ : انْظُرْ عَنْ يَمِينِكَ. فَنَظَرْتُ فَإِذَا الظِّرَابُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ فَقِيلَ لي : قَدْ رَضِيتَ ؟ فَقُلْتُ "رَضِيتُ يَا رَبِّ ، [رَضِيتُ يَا رَبِّ ] " قَالَ : "فَقِيلَ لِي : إِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ". فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "فِدَاكُمْ أَبِي وَأُمِّي إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ السَّبْعِينَ أَلْفًا فَافْعَلُوا فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الظِّرَابِ فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الأفُقِ ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ثَمَّ أُناسًا يَتَهَاوَشُونَ". فَقَامَ عُكاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ : ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم.أي من السبعين ، فدعا له. فقام رجل آخر فَقَالَ : ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم
_________________
(1) المعجم الكبير (2/92) ورواه أيضا في مسند الشاميين رقم (1682).(16/37)
فَقَالَ : "قَدْ سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَة". قَالَ : ثُمَّ تَحَدَّثْنَا فَقُلْنَا : لمَنْ (6) تُرَوْنَ هؤلاء السبعين الألف ؟ قوم وُلِدُوا في الإسلام لم يُشْرِكُوا بالله شيئا حتى ماتوا. فبلغ ذلك النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : "هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (1).
هكذا رواه أحمد بهذا السَّنَد وهذا السياق ، ورواه أيضا عن عبد الصمد ، عن هشام ، عن قتادة ، بإسناده مثله ، وزاد بعد قوله : "رَضِيتُ يَا رَبِّ رضيت يا رب" قال رَضِيتَ ؟ قُلْتُ : "نَعَمْ". قَالَ : انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ قال : "فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ ". فقال : رَضِيتَ ؟ قُلْتُ : "رَضِيتُ". وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه ، تفرد به أحمد ولم يخرجوه (2).
حديث آخر : قال أحمد بن مَنِيع : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز ، حدثنا حَمّاد ، عن عاصم ، عن
__________
(1) المسند (1/401).
(2) المسند (1/420).(16/38)
زر ، عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم : "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ بِالْمَوْسِمِ فَرَاثَتْ عَلَيَّ أُمَّتِي ، ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئاتُهُمْ ، قَدْ مَلَؤوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ" ، فَقَالَ : أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقُلْتُ : "نَعَمْ". قَالَ : فَإِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَهُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ". فَقَامَ عُكاشَةُ فَقَالَ : يَا رسول اللَّه ، ادعُ اللَّه أن يجعلني منهم فقال : "أنْتَ مِنْهُمْ" فقام رجل آخر فقال : [ادع الله أن يجعلني منهم فقال] سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَةُ". رواه الحافظ الضِّياء المقْدِسيّ ، قال : هذا عندي على شرط مسلم (1).
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا محمد بن محمد الجُذُوعيّ القاضي ، حدثنا عُقْبة بن مكْرم. حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن هشام بنِ حسان عن محمد بن سِيرين ، عن عِمْران بن حُصَين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يَدْخُل الجَنَّة مِنْ أمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَاب وَلا عَذَابٍ". قيل : من هم ؟ قال : "هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". رواه مسلم من طريق هشام بن حسان ، وعنده ذكر عكاشة (2).
___________
(1) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2646) "موارد" وأبو يعلى في مسنده (9/233) والبزار في مسنده (4/204) كلهم من طريق حماد عن عاصم به.
(2) المعجم الكبير (18/183) وصحيح مسلم برقم (216).(16/39)
حديث آخر : ثبَتَ في الصحيحين من رواية الزُّهْرِي ، عن سعيد بن الْمُسَيَّب ، أن أبا هريرة حدثه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ وَهُمْ سَبْعُونَ ألفًا ، تُضِيء وُجُوهُهُمْ إضَاءة الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ". فقال أبو هريرة : فقام عُكَاشة بن مِحْصَن الأسدي يرفع ، نَمِرَةً عليه فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ". ثم قام رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم فقال : "سَبَقَكَ بِهَا عكاشَةُ" (1).
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا أبو غَسَّان ، عن أبي حازم ، عن سَهْلِ بن سَعْد ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لَيدخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا -أوْ سَبْعُمِائة ألفٍ-آخِذٌ بَعْضُهُمْ ببعض ، حَتَّى يدخل أوَّلُهُمْ وآخِرُهُمُ الْجَنَّةَ ، وَوجُوهُهُم عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْرِ".
أخرجه البخاري ومسلم جميعًا ، عن قُتَيْبةَ عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سَهْل به (2).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6542) وصحيح مسلم برقم (216).
(2) المعجم الكبير (6/142) وصحيح البخاري برقم (6554) وصحيح مسلم برقم (219).(16/40)
حديث آخر : قال مسلم بن الحجّاج في صحيحه : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا حُصَيْن بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جُبَير فقال : أيُّكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحةَ ؟ قلتُ : أنا. ثم قُلتُ : أما إني لم أكن في صلاة ، ولكني لُدغْتُ : قال : فما صنعتَ ؟ قلتُ : استرقَيْتُ. قال : فما حملك على ذلك ؟ قلتُ : حديث حدَّثَنَاه الشعبي. قال : وما حدثكم الشعبي ؟ قلت : حَدَّثَنَا عن بُرَيْدَة بن الحُصَيب الأسلمي أنه قال : لا رُقْيَةَ إلا مِنْ عَيْنٍ أو حُمّة. فقال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن حدثنا ابنُ عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "عُرضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ ، فَرَأيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ والنَّبِيَّ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ ، إذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي ، فَقِيلَ لِي : هَذَا مُوسَى وقوْمُهُ ، وَلَكِنِ انْظُرْ إلَى الأفقِ. فَنَظَرتُ ، فَإذا سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَقِيلَ لِي : انْظُرْ إلَى الأفُقِ الآخَرِ ، فَإذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَقِيلَ لِي : هَذِهِ أُمَّتُكَ ومعَهُم سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجنة بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَلا عَذَابٍ". ثم نهَضَ فدخل منزله ، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم : فلعلهم الذين وُلِدُوا في الإسلام فلم يُشْرِكوا بالله شيئا ، وذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ ؟ " فأخبروه ، فقال : "هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرقُونَ وَلا يَتَطيرونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". فقام عكاشة بن مِحصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم قال : (16/41)
"أنْتَ مِنْهُمْ". ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم. قال : "سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ".
وأخرجه البخاري عن أُسَيد بن زيد ، عن هُشَيم وليس عنده ، "لا يرقون" (1).
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا رَوْح بن عبادة. حدثنا ابن جُرَيج ، أخبرني أبو الزُّبَيْر ، أنه سمع جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر حديثًا ، وفيه : "فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا ، لا يُحَاسَبُونَ ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، كأَضْوَإِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ". وذكر بقيته ، رواه مسلم من حديث رَوْح ، غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم (2).
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش ، عن محمد بن زياد ، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "وَعَدنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألفًا ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا ، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ. وَثَلاثُ حَثياتٍ مِنْ حَثَيات ربِّي عزَّ وجَلَّ".
وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار ، عن إسماعيل بن عياش ، به ، وهذا إسناد جيد (3).
طريق أخرى عن أبي أمامة : قال ابن أبي عاصم : حدثنا دُحَيم ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا
__________
(1) صحيح مسلم برقم (220) وصحيح البخاري برقم (5752 ، 3410 ، 5705 ، 6541 ، 6472).
(2) المسند (3/283).
(3) السنة لابن أبي عاصم برقم (589) والمعجم الكبير (8/129).(16/42)
صفوان بن عَمرو ، عن سليم بن عامر ، عن أبي اليمان الهوزَني - واسمه عامر بن عبد الله بن لُحيّ ، عن أبي أمامة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ". قال يزيد بن الأخنس : والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا مثل الذباب الأصهب في الذباب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فَإنَّ اللهَ وَعَدَنِي سَبْعِينَ ألْفًا ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألفًا ، وَزَادَنِي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ". وهذا أيضًا إسناد حسن (1).
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خُلَيْد ، حدثنا أبو تَوْبة ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني عامر بن زيد البُكَالي أنه سمع عُتْبة بن عبْد السلمي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ ، ثُمَّ يَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِينَ ألْفًا ، ثم يَحْثي رَبِّي ، عز وجل ، بِكفيْهِ ثَلاثَ حَثَيَات". فكبر عمر وقال : إن السبعين الأوَلَ يُشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم ، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر.
قال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة : لا أعلم لهذا الإسناد علة. والله أعلم (2).
___________
(1) السنة لابن أبي عاصم برقم (588).
(2) المعجم الكبير (17/126 ، 127) ورواه الطبراني أيضا في المعجم الأوسط (1/254) بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في المجمع (10/413) : "وفيه عامر بن زيد البكالي ، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه ، وبقية رجاله ثقات".(16/43)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام -يعني الدَّستَوائي-حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، حدثنا عطاء بن يَسَار أن رِفَاعة الجُهَنيّ حدّثه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكُدَيد -أو قال بقُدَيْد-فذكر حديثا ، وفيه : ثم قال : وَعَدَنِي رَبِّي ، عَزَّ وَجَلَّ ، أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَإِنِّي لأرْجُو ألا يَدْخُلُوهَا حَتَّى تَبوؤُوا أْنتُمْ ومَنْ صَلَحَ مِنْ أزْوَاجِكُمْ وذرياتكم مَسَاكِنَ فِي الْجَنَّةِ".
قال الضياء [المقدسي] وهذا عندي على شرط مسلم (1).
حديث آخر : قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة ، عن النَّضْر بن أنس ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الجنة مِنْ أُمَّتِي أرْبَعمِائَةِ ألْفٍ". قال أبو بكر : زدنا يا رسول الله. قال : والله هكذا فقال عمر : حسبك يا أبا بكر. فقال أبو بكر : دعني ، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا فقال عمر : إن شاء الله أَدْخَل خَلْقه الجنة بكفٍّ واحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "صَدَقَ عُمَرُ".
__________
(1) المسند (4/16).(16/44)
هذا الحديث بهذا الإسناد انفرد به عبد الرزاق (1) قاله الضياء. وقد رواه الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني :
حدثنا محمد بن أحمد بن مَخْلَد ، حدثنا إبراهيم بن الْهيْثَم البَلدِي ، حدثنا سليمان بن حَرْب ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "وَعَدَنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي مِائَةَ ألْف". فقال أبو بكر : يا رسول الله ، زدنا قال : "وهكذا" -وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك-قلت يا رسول الله ، زدنا. فقال عمر : إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بِحَفْنَةٍ واحدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صَدَقَ عُمَرُ". هذا حديث غريب من هذا الوجه وأبو هلال اسمه : محمد بن سُلَيْم الراسبي ، بصري (2).
طريق أخرى عن أنس : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا عبد القاهر بن السُّرِّي السلمي ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا". قالوا : زدنا يا رسول الله. قال : "لِكُلِّ رَجُلٍ سَبْعُونَ ألْفًا" قالوا : زدنا -وكان على كثيب -فقال : هكذا ، وحثا بيده. قالوا : يا رسول الله ، أبْعدَ الله من دخل النار بعد هذا ، وهذا إسناد جيد ، رجاله ثقات ، ما عدا عبد القاهر بن السري ، وقد سئل عنه ابن معين ، فقال : صالح (3).
_____________
(1) المصنف لعبد الرزاق برقم (20556) ورواه من طريقه أحمد في المسند (3/165) وابن أبي عاصم في السنة برقم (590).
(2) الحلية لأبي نعيم (2/344) ورواه أحمد في مسنده (3/193) من طريق أبي هلال عن قتادة به.
(3) مسند أبي يعلى (6/417).(16/45)
حديث آخر : روى الطبراني من حديث قتادة ، عن أبي بكر بن أنس ، عن أبي بكر بن عُمَير عن أبيه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي ثَلاثَمائة ألْفٍ الْجَنَّةَ". فقال عمير : يا رسول الله ، زدنا. فقال هكذا بيده. فقال عمير يا رسول الله ، زدنا. فقال عمر : حَسْبك ، إنّ الله إنْ شاء أدخل الناس الجنة بِحفْنَةٍ -أو بِحَثْيَةٍ-واحدة. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : "صَدَقَ عُمَرُ" (1).
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا أحمد بن خُلَيْد ، حدثنا أبو تَوْبة ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني عبد الله بن عامر ، أن قيسا الكندي حَدّث أن أبا سعيد الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ ، ويَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِين ألْفًا ، ثم يَحْثِي رَبِّي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ بِكَفَّيْهِ". كذا قال قيس ، فقلت لأبي سعيد : أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، بأذني ، ووعاه قلبي. قال أبو سعيد : فقال -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- : "وَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ ، عز وجل ، يَسْتَوْعِبُ مُهَاجِرِي أمتي ، ويُوَفِّي الله بقيته مِنْ أعْرَابِنَا".
وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر ، عن أبي تَوْبَة الربيع بن نافع بإسناده ، مثله.
__________
(1) المعجم الأوسط (1/257) وقال الهيثمي في المجمع (10/409) : "رجاله ثقات".(16/46)
وزاد : قال أبو سعيد : فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين ألف ألْف.
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن مَرْثَد الطبراني ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عَيّاش ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم بن زُرْعة ، عن شُرَيح بن عبيد ، عن أبي مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمَا وَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ لَيُبْعَثَنَّ مِنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ مِثْلَ اللَّيْلِ الأسْوَدِ ، زُمْرةٌ جَمِيعُهَا يَخْبطُونَ الأرضَ ، تَقُولُ الملائِكةُ : لِمَ جَاءَ مَعَ مُحَمَّدٍ أكْثَرُ مِمَّا جَاءَ مَعَ الأنْبِيَاءِ ؟ ". وهذا إسناد حسن (1).
نوع آخر من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها بكرامتها على الله ، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة.
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا ابن جُرَيج ، أخبرني أبو الزبير ، عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إنِّي لأرْجُو أنْ يَكُونَ مَنْ يَتَّبِعُنِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُبْعَ الْجَنَّةِ". قال : فكبَّرنا. ثم قال : "أَرْجُو أنْ يَكُونُوا ثلثَ النَّاسِ". قال : فكبرنا. ثم قال : "أَرْجُو أنْ تَكُونُوا الشَّطْرَ". وهكذا رواه عن رَوْح ، عن ابن جُرَيج ، به. وهو على شرط مسلم (2).
____________
(1) المعجم الكبير (3/297) وقال الهيثمي في المجمع (10/404) : "وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف".
(2) قال الهيثمي في المجمع (10/402) : "رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ، ورجال البزار رجال الصحيح وكذا أحد أسانيد أحمد".(16/47)
وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن عَمْرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنِّةِ ؟ " فكبرنا. ثم قال : "أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلَ الْجَنَّةِ ؟ " فكبرنا. ثم قال : "إنِّي لأرْجُو أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة" (1).
طريق أخرى عن ابن مسعود : قال الطبراني : حدثنا أحمد بن القاسم بن مُساور ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني الحارث بن حَصِيرة ، حدثني القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كَيْفَ أَنْتُمْ وَرُبْعُ الْجَنَّةِ لَكُمْ ولِسَائر الناس ثلاثة أرْبَاعِهَا ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "كَيْفَ أَنْتُمْ وثُلُثُهَا ؟ " قالوا : ذاك أكثر. قال : "كَيْفَ أَنْتَمْ والشَّطْرُ لَكُمْ ؟ " قالوا : ذاك أكثر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أهْلُ الْجَنّةِ عِشْرُونَ وَمَائةُ صَفٍّ ، لَكُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًا".
قال الطبراني : تفرد به الحارث بن حَصيرة (2).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6528 ، 6642) وصحيح مسلم برقم (221).
(2) المعجم الكبير (10/208) ورواه أحمد في مسنده (1/453) من طريق عفان عن عبد الواحد بن زياد به. قال الهيثمي في المجمع (10/403) : "رجالهم رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وقد وثق".(16/48)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا ضرار بن مُرَّة أبو سَنان الشيباني ، عن محارب بن دِثَار ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ، هَذِه الأمَّةُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُون صَفا".
وكذلك رواه عن عفان ، عن عبد العزيز ، به. وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان ، به وقال : هذا حديث حسن. ورواه ابن ماجة من حديث سفيان الثوري ، عن عَلْقَمة بن مَرْثَد ، عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه ، به (1).
حديث آخر : رَوَى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا خالد بن يزيد البَجَلي ، حدثنا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّتِي".
تفرد به خالد بن يزيد البَجَلي ، وقد تكلم فيه ابن عَدِيّ (2).
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا موسى بن غيلان ، حدثنا هاشم بن مَخْلَد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سفيان ، عن أبي عمرو ، عن أبيه عن أبي هريرة قال : لما نزلت { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة : 38 ، 39 ] } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَنْتُمْ رُبْعُ أهْلِ الْجَنَّةِ ، أَنْتُمْ ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، أَنْتُمْ ثُلُثَا أَهْلِ الْجَنَّةِ" (3).
____________
(1) المسند (5/355 ، 347) وسنن الترمذي برقم (2546) وسنن ابن ماجة برقم (4289).
(2) المعجم الكبير (10/348) ورواه ابن عدي في الكامل (3/13) وقال : "أحاديثه كلها لا يتابع عليها لا إسنادا ولا متنا ، ولم أر للمتقدمين فيه قولا ، بل غفلوا عنه وهو عندي ضعيف".
(3) ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق الطبراني به (7/101) ونقل عن الطبراني قوله : "تفرد برفعه ابن المبارك عن الثوري. وأبو عمرو اسمه محمد والد أسباط بن محمد الكوفي القرشي".(16/49)
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولا الْجَنَّةَ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُوَدِ [و] للنصارى بَعْدَ غَدٍ".
رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا بنحوه (1) ورواه مسلم أيضا عن طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَنَحْنُ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ". وذكر تمام الحديث (2).
حديث آخر : روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الزهري ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (896 ، 3486 ، 3487) ومسلم برقم (855).
(2) صحيح مسلم برقم (855).(16/50)
عن سعيد بن المسيَّب ، عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الأنْبِيَاءِ كُلُّهُمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا ، وَحُرِّمَتْ عَلَى الأمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أمتِي".
ثم قال : تفرد به ابن عقيل ، عن الزهري ، ولم يرو عنه سواه. وتفرد به زُهير بن محمد ، عن ابن عقيل ، وتفرد به عَمْرو بن أبي سلمة ، عن زهير.
وقد رواه أبو أحمد بن عَدِيّ الحافظ فقال : حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق ، حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي عَتَّاب ، حدثنا أبو حفص التِّنيسي -يعني عمرو بن أبي سلمة-حدثنا صدقة الدمشقي. عن زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الزهري.
ورواه الثَّعْلَبي : حدثنا أبو عباس المَخْلَدي ، أخبرنا أبو نُعْم عبد الملك بن محمد ، أخبرنا أحمد بن عيسى التنيسي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، حدثنا صدقة بن عبد الله ، عن زهير بن محمد ، عن ابن عقيل ، به (1).
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم ، كما قال قتادة : بَلَغَنَا أن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] في حجة حجّها رأى من الناس سُرْعة فقرأ هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ثم قال : من سَرَّه أن يكون من تلك الأمة فَلْيؤدّ شَرْط الله فيها. رواه ابن جرير.
ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله : { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] [المائدة : 79] }. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 93 ـ 103}
______________
(1) أطراف الغرائب والأفراد (ق21) لابن القيسراني ، والكامل لابن عدي (4/129) ورواه البغوي في تفسيره (2/91) من طريق الثعلبي. ونقل ابن أبي حاتم في العلل (2/227) عن أبي زرعة : "هذا الحديث منكر لا أدري كيف هو".(16/51)
قوله تعالى : {وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ}
قال الفخر :
فيه وجهان الأول : ولو آمن أهل الكتاب بهذا الدين الذي لأجله حصلت صفة الخيرية لأتباع محمد عليه الصلاة والسلام لحصلت هذه الخيرية أيضاً لهم ، فالمقصود من هذا الكلام ترغيب أهل الكتاب في هذا الدين
الثاني : إن أهل الكتاب إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العلوم ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة ، فكان ذلك خيراً لهم مما قنعوا به.
واعلم أنه تعالى أتبع هذا الكلام بجملتين على سبيل الابتداء من غير عاطف إحداهما : قوله {مّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [ آل عمران : 110 ] وثانيتهما : قوله {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}
قال صاحب "الكشاف" : هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ، ولذلك جاء {آمن} غير عاطف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 158}
فائدة
قوله تعالى : {وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ}
قال الفخر :
يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال ، فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضاً صفة الخيرية والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 156}(16/52)
قوله تعالى {مّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون}
قال الآلوسى :
{ مّنْهُمُ المؤمنون } كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن شعبة. { وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } أي الخارجون عن طاعة الله تعالى وعبر عن الكفر بالفسق إيذاناً بأنهم خرجوا عما أوجبه كتابهم ، وقيل : للإشارة إلى أنهم في الكفار بمنزلة الكفار في العصاة لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي منهم أشنع وأفظع. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 28}
وقال ابن عاشور :
{ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } أي منهم من آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فصدق عليه لقب المؤمن ، مثل عبد الله بن سلام ، وكان اسمه حُصيناً وهو من بني قينقاع ، وأخيه ، وعمته خالدة ، وسعية أو سنعة بن غريض بن عاديا التيماوي ، وهو ابن أخي السموأل بن عاديا ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن سعية القرظي ، وأسد بن عبيد القرظي ، ومخيريق مِن بني النضير أو من بني قينقاع ، ومثل أصْحمة النَّجاشي ، فإنَّه آمن بقلبه وعوّض عن إظهاره إعمالَ الإسلام نصره للمسلمين ، وحمايته لهم ببلده ، حتَّى ظهر دين الله ، فقبل الله منه ذلك ، ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بأنَّه كان مؤمناً وصلّى عليه حين أوحي إليه بموته.
ويحتمل أن يكون المعنى من أهل الكتاب فريق متقّ في دينه ، فهو قريب من الإيمان بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وهؤلاء مثل من بقي متردّداً في الإيمان من دون أن يتعرّض لأذى المسلمين ، مثل النَّصارى من نجران ونصارى الحبشة ، ومثل مخيريق اليهودي قبل أن يسلم ، على الخلاف في إسلامه ، فإنَّه أوصى بماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد بإيمانهم صدق الإيمان بالله وبدينهم.(16/53)
وفريق منهم فاسق عن دينه ، محرّف له ، مناوٍ لأهل الخير ، كما قال تعالى : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } مثل الذين سَمُّوا الشاة لرسول الله يوم خيْبر ، والذين حاولوا أن يرموا عليه صخرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 191 ـ 192}
سؤالان :
السؤال الأول : الألف واللام في قوله {المؤمنون} للاستغراق أو للمعهود السابق ؟ .
والجواب : بل للمعهود السابق ، والمراد : عبد الله بن سلاّم ورهطه من اليهود ، والنجاشي ورهطه من النصارى.
السؤال الثاني : الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق.
والجواب : الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه فيكون مردوداً عند الطوائف كلهم ، لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره ، والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقاً فيما بينهم ، فكأنه قيل أهل الكتاب فريقان : منهم من آمن ، والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم ، فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 158}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { لَكَانَ خَيْرًا } اسم " كان " ضمير يعود على المصدر المدلول عليه بفعله ، والتقدير لكان الإيمان خيراً لهم كقولهم : " من كذب كان شراً له " أي : كان الكذب شراً له ، كقوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ].
وقول الشاعر : [ الوافر ]
1573- إذَا نُهِيَ السَّفِيةُ جَرَى إلَيْهِ... وَخَالفَ ، وَالسَّفِيةُ إلى خِلاَفِ
أي : جرى إليه السفه.
والمفضل عليه محذوف ، أي : خيراً لهم من كُفْرهم ، وبقائهم على جَهْلهم.
وقال ابن عطية : ولفظة " خير " صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كُفْرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظه " خير " من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة " أفضل " ، و" أحب " وما جرى مجراها.(16/54)
قال أبو حيان : " وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أوْلَى - إذا أمكن ذلك - وقد أمكن ذلك ؛ إذ الخيرية مطلقة ، فتحصل بأدْنى مشاركة ".
قوله : { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } جملة مستأنفة ، سِيقت للإخبار بذلك.
قال الزمخشريّ : " هما كلامان واردان على طريق الاستطراد ، عند إجراء ذِكْر أهل الكتاب ، كما يقول القائل - إذا ذكر فلاناً - من شأنه كيت وكيت - ولذلك جاء من غير عاطف ".
الألف واللام في قوله : { الْمُؤْمِنُونَ } للعهد ، لا للاستغراق ، والمراد عبد الله بن سلام ورهطه من " الليهود " ، والنجاشي ورَهْطه من " النصارى ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 469 ـ 470}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ تأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ }.
لمّا كان المصطفى صلوات الله عليه أشرفَ الأنبياء كانت أُمَّتُه - عليه السلام - خيرَ الأمم. ولمَّا كانوا خيرَ الأمم كانوا أشرفَ الأمم ، ولمَّا كانوا أشرف الأمم كانوا أشْوَقَ الأمم ، فلمَّا كانوا أشوق الأمم كانت أعمارُهم أقْصَرَ الأعمار ، وخَلقَهم آخِرَ الخلائق لئلا يطولَ مُكْثُهم تحت الأرض. وما حصلت خيريتُهم بكثرة صلواتهم وعبادتهم ، ولكن بزيادة إقبالهم ، وتخصيصه إياهم. ولقد طال وقوف المتقدمين بالباب ولكن لما خرج الإذنُ بالدخول تقدَّم المتأخرون :
وكم باسطين إلى وَصْلِنا... أكُفَّهُم لم ينالوا نصيبا
{ وَلَو آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمْ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ }.
لو دَخَلَ الكافةُ تحت أمرنا لوصلوا إلى حقيقة العزِّ في الدنيا والعقبى ، ولكن بَعُدُوا عن القبول في سابق الاختيار فصار أكثرُهم موسوماً بالشِّرْك. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 169 ـ 270}. بتصرف يسير.(16/55)
قوله تعالى : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت مخالفة الأكثر قاصمة خفف عن أوليائه بقوله : {لن يضروكم} ولما كان الضر- كما تقدم عن الحرالي - إيلام الجسم وما يتبعه من الحواس ، والأذى إيلام النفس وما يتبعها من الأحوال ، أطلق الضر هنا على جزء معناه وهو مطلق الإيلام ، ثم استثنى منه فقال : {إلا أذى} أي بألسنتهم ، وعبر بذلك لتصوير مفهومي الأذى والضر ليستحضر في الذهن ، فيكون الاستثناء أدل على نفي وصولهم إلى المواجهة {وإن يقاتلوكم} أي يوماً من الأيام {يولوكم} صرح بضمير المخاطبين نصاً في المطلوب {الأدبار} أي انهزاماً ذلاً وجبناً.
ولما كان المولي قد تعود له كرة بعد فرة قال - عادلاً عن حكم الجزاء لئلا يفهم التقييد بالشرط مشيراً بحرف التراخي إلى عظيم رتبة خذلانهم - : {ثم لا ينصرون} أي لا يكون لهم ناصر من غيرهم أبداً وإن طال المدى ، فلا تهتموا بهم ولا بأحد يمالئهم من المنافقين ، وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً! لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 136}(16/56)
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما رغب المؤمنين في التصلب في إيمانهم وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} رغبهم فيه من وجه آخر ، وهو أنهم لا قدرة لهم على الاضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ، ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين ، وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم ، وكل ذلك تقرير لما تقدم من قوله {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [ آل عمران : 100 ] فهذا وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 158 ـ 159}
فائدة
قال الفخر :
قوله {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً} معناه : أنه ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان ، إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، وإما بإظهار كلمة الكفر ، كقولهم {عُزَيْرٌ ابن الله} [ التوبة : 30 ] و{المسيح ابن الله} [ التوبة : 30 ] و{الله ثالث ثلاثة} [ المائدة : 73 ] وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل ، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع ، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين ، ومن الناس من قال : إن قوله {إِلاَّ أَذىً} استثناء منقطع وهو بعيد ، لأن كل الوجوه المذكورة يوجب وقوع الغم في قلوب المسلمين والغم ضرر ، فالتقدير لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى ، فهو استثناء صحيح ، والمعنى لن يضروكم إلا ضرراً يسيراً ، والأذى وقع موقع الضرر ، والأذى مصدر أذيت الشيء أذى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 159}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } يعني كذبهم وتحريفهم وبُهْتَهم ؛ لا أنَّه تكون لهم الغَلَبَة ؛ عن الحسن وقتادة.
فالاستثناء متَّصِل ، والمعنى لن يضروكم إلاَّ ضراً يسيراً ؛ فوقع الأذى موقع المصدر.(16/57)
فالآية وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، أن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام إلاَّ إيذاء بالبهت والتحريف ، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين.
وقيل : هو منقطع ، والمعنى لن يضروكم ألْبَتّة ، لكن يؤذونكم بما يُسمِّعونكم.
قال مقاتل : إن رءوس اليهود : كعب وعديّ والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وكنانة وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم : عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم ؛ فأنزل الله تعالى : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } يعني باللسان ، وتَمّ الكلام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 173 ـ 174}
قوله تعالى : {وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}
قال الفخر :
{وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} وهو إخبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لصاروا منهزمين مخذولين {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} أي إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة ألبتة ، ومثله قوله تعالى : {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} [ الحشر : 12 ] قوله {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ} [ آل عمران : 12 ] وقوله {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [ القمر : 44 ، 45 ] وكل ذلك وعد بالفتح والنصرة والظفر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 159}
وقال القرطبى :
{ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار } يعني منهزمين ، وتمّ الكلام.
{ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } مستأنف ؛ فلذلك ثبتت فيه النون.
وفي هذه الآية معجزة للنبيّ عليه السَّلام ؛ لأن من قاتله من اليهود ولاه دبره. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 174}
وقال العلامة أبو حيان : (16/58)
{ وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } ، هذه مبالغة في عدم مكافحة الكفار للمؤمنين إذا أرادوا قتالهم ، بل بنفس ما تقع المقابلة ولوا الأدبار ، فليسوا ممن يغلب ويقتل وهو مقبل على قرنه غير مدبر عنه.
وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها ، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين ، لأنّ حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه ، أو النصر المستمد من الله ، وكلاهما ليس لهم.
وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور ، لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور ، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب.
ولذلك ورد في القرآن مستعملاً دون لفظ الظهور لقوله تعالى : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } { ومن يولهم يومئذ دبره } ثم لا ينصرون : هذا استئنافُ إخبار أنّهم لا ينصرون أبداً.
ولم يشرك في الجزاء فيجزم ، لأنه ليس مرتباً على الشرط ، بل التولية مترتبة على المقاتلة.
والنصر منفى عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، إذ منع النصر سببه الكفر.
فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء ، كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على لن يضروكم إلا أذى.
وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط.
قال :
وثم للتراخي ، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط.
والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام.
قال تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط.
وثمَّ هنا ليست للمهلة في الزمان ، وإنما هي للتراخي في الإخبار.
فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسرّ للنفس. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 32 ـ 33}(16/59)
وقال الآلوسى :
وفي هذه الآية دلالة واضحة على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ولكونها من الإخبار بالغيب الذي وافقه الواقع لأن يهود بني قينقاع وبني قريظة والنضير ويهود خيبر حاربوا المسلمين ولم يثبتوا ولم ينالوا شيئاً منهم ولم تخفق لهم بعد ذلك راية ولم يستقم أمر ولم ينهضوا بجناح. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 29}
وقال ابن عاشور :
وقوله { ثم لا ينصرون } احتراس أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة ، أو متأمّلين في الأمر.
وفي العدول عن جعله معطوفاً على جملة الجواب إلى جعله معطوفاً على جملتي الشرط وجزائه معاً ، إشارة إلى أنّ هذا ديدنهم وهجيراهم.
لو قاتلوكم ، وكذلك في قتالهم غيركم.
وثمّ لترتيب الإخبار دالّة على تراخي الرتبة.
ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام.
وهو غير التّراخي المجازي ، لأن التّراخي المجازي أن يشبَّه ما ليس بمتأخّر عن المعطوف بالمتأخّر عنه.
وهذا كلّه وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين ، وأنّهم ينهزمون ، وإغراء للمسلمين بقتالهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 193}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة ، منها أن المؤمنين آمنون من ضررهم ، ومنها أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا ، ومنها أنه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها ، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا ، وما أقدموا على محاربة وطلب رياسة إلا خذلوا ، وكل ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 159}(16/60)
أسئلة وأجوبة
السؤال الأول : هب أن اليهود كذلك ، لكن النصارى ليسوا كذلك فهذا يقدح في صحة هذه الآيات قلنا : هذه الآيات مخصوصة باليهود ، وأسباب النزول على ذلك فزال هذا الإشكال.
السؤال الثاني : هلا جزم قوله {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }.
قلنا : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون ، والفائدة فيه أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم لا يجدون النصرة بعد ذلك قط بل يبقون في الذلة والمهانة أبداً دائماً.
السؤال الثالث : ما الذي عطف عليه قوله {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} ؟ .
الجواب : هو جملة الشرط والجزاء ، كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون وإنما ذكر لفظ {ثُمَّ} لإفادة معنى التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الأخبار بتوليتهم الأدبار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 159}
من فوائد العلامة ابن عطية فى الآية
قال عليه الرحمة :
قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } معناه : لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال ، وإنما هو أذى بالألسنة ، فالاستثناء متصل ، وقال الحسن ، وقتادة وغيرهما : " الأذى " هو تحريفهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه.(16/61)
قال القاضي أبو محمد : وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفراداً ، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء ، وضرب الجزية ، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحداً عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه ، وهكذا هي فصاحة العرب ، ومن هذا المعنى في التحقير قول ثمامة بن أثال : يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت ، فقوله : ذا دم ، روي بالذال منقوطة ، وبالدال غير منقوطة ، فذم بفتح الذال وبكسرها أراد بها الذمام ، وأما الدال غير المنقوطة ، فيحتمل أنه أرد التعظيم لأمر نفسه ، وذلك بأحد وجهين : إما أن يريد الوعيد ، أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك ، وإما أن يريد تقتل ملكاً يستشفى بدمه ، كما كانت العرب تعتقد في دماء الملوك ، فهذا استعطاف لا وعيد ، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي ، وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا المعنى ، ويحتمل كلام ثمامة ، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر العظيم ، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود : وهل أعمد من رجل قتلتموه ؟ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز ، حين قال له : لأقتلنك ، قال إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر شيئاً فكأن ثمامة أراد : إن تقتلني تقتل حيواناً حقيراً شأنه ، كما يقتل كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ ؟ فالآية تنظر إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عيظم في نفسه تنبيهاً لهم ، وأخبر الله تعالى في قوله : { وإن يقاتلوكم } الآية ، بخبر غيب صححه الوجود ، فهي من آيات محمد صلى الله عليه وسلم ، وفائدة الخبر هي في قوله : { ثم لا ينصرون(16/62)
} أي لا تكون حربهم معكم سجالاً وخص { الأدبار } بالذكر دون الظهر تخسيساً للفارّ ، وهكذا هو حيث تصرف. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 490}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { إِلاَّ أَذًى } فيه وجهان :
أحدهما : أنه متصل ، وهو استثناء مفرَّغ من المصدر العام ، كأنه قيل : لن يضروكم ضرراً ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به - من كلمة سوء ونحوها - إمَّا بالطعن في محمد وعيسى - عليهما السلام - وَإمَّا بإظهار كلمة الكفر - كقولهم : عيسى ابنُ الله ، وعُزَيْر ابن الله ، وإن الله ثالث ثلاثة ، وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل ، وإما بتخويف ضعفةِ المسلمين.
الثاني : أنه منقطع ، أي : لن يضروكم بقتال وغَلَبَة ، لكن بكلمة أذًى ونحوها.
قال بعض العلماء : وهذا بعيد ، لأن الوجوه المذكورة توجب وقوع الغَمِّ في قلوب المسلمين ، والغم ضرر. فالتقدير : لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى ، فهو استثناء صحيح ، والمعنى : لا يضروكم إلا ضَرَراً يَسِيراً.
أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 470}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إن الحق سبحانه وتعالى لا يسلط على أوليائه إلا بمقدار ما يصدق إلى الله فرارهم ، فإذا حق فرارهم أكرم لديه قرارهم ، وإن استطالوا على الأولياء بموجب حسبانهم انعكس الحال عليهم بالصغار والهوان. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 270}(16/63)
قوله تعالى { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر عنهم سبحانه وتعالى بهذا الذل أتبعه الإخبار بأنه في كل زمان وكل مكان معاملة منه لهم بضد ما أرادوا ، فعوضهم عن الحرص على الرئاسة إلزامهم الذلة ، وعن الإخلاد إلى المال إسكانهم المسكنة ، وأخبر أن ذلك لهم طوق الحمامة غير مزائلهم إلى آخر الدهر باقٍ في أعقابهم بأفعالهم هذه التي لم ينابذهم فيها الأعقاب فقال سبحانه وتعالى مستأنفاً : {ضربت عليهم الذلة} وهي الانقياد كرهاً ، وأحاطت بهم كما يحيط البيت المضروب بساكنه {أين ما ثقفوا} أي وجدهم من هو حاذق خفيف فطن في كل مكان وعلى كل حال {إلا} حال كونهم معتصمين {بحبل} أي عهد وثيق مسبب للأمان ، وهو عهد الجزية وما شاكله {من الله} أي الحائز لجميع العظمة {وحبل من الناس} أي قاطبة : الذي آمنوا وغيرهم ، موافقٍ لذلك الحبل الذي من الله سبحانه وتعالى.(16/64)
ولما كان الذل ربما كان مع الرضى ولو من وجه قال : {وبآءو} أي رجعوا عما كانوا فيه من الحال الصالح {بغضب من الله} الملك الأعظم ، ملازمٍ لهم ، ولما كان الوصفان قد يصحبهما اليسار قال : {وضربت} أي مع ذلك {عليهم} أي كما يضرب البيت {المسكنة} أي الفقر ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل ، فكأنه قيل : لم استحقوا ذلك ؟ فقيل : {ذلك} أي الإلزام لهم بما ذكر {بأنهم} أي أسلافهم الذي رضوا هم فعلهم {كانوا يكفرون} أي يجددون الكفر مع الاستمرار {بآيات الله} اي الملك الأعظم الذي له الكمال كله ، وذلك أعظم الكفر لمشاهدتهم لها مع اشتمالها من العظم على ما يليق بالاسم الأعظم {ويقتلون الأنبياء} أي الآتين من عند الله سبحانه وتعالى حقاً على كثرتهم بما دل عليه جمع التكسير ، فهو أبلغ مما في أولها الأبلغ مما في البقرة ليكون ذمهم على سبيل الترقي كما هي قاعدة الحكمة.
(16/65)
ولما كانوا معصومين ديناً ودنيا قال : {بغير حق} أي يبيح قتلهم ؛ ثم علل إقدامهم على هذا الكفر بقوله : {ذلك} أي الكفر والقتل العظيمان {بما عصوا وكانوا} أي جبلة وطبعاً {يعتدون} أي يجددون تكليف أنفسهم الاعتداء ، فإن الإقدام على المعاصي والاستهانة بمجاوزة الحدود يهوّن الكفر ، فقال الأصفهاني : قال أرباب المعاملات : من ابتلى بترك الآداب وقع في ترك السنن ، ومن ابتلى بترك السنن وقع في ترك الفرائض ، ومن ابتلى بترك الفرائض وقع في استحقار الشريعة ، ومن ابتلى بذلك وقع في الكفر ، والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا ، وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم الآن ، قال في السفر الثاني : وقال الله سبحانه وتعالى جميع هذه الآيات كلها : أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق ، لا تكون لك آلهة أخرى ، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ، ومما في الماء أسفل الأرض ، لا تسجدن لها ولا تعبدنها ، لأني أنا الرب إلهك إله غيور ، أجازي الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف ، وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحبائي وحافظي وصاياي. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 137 ـ 138}
قال الفخر :
قد ذكرنا تفسير هذه اللفظة في سورة البقرة ، والمعنى جعلت الذلة ملصقة ربهم كالشيء يضرب على الشيء فيلصق به ، ومنه قولهم : ما هذا علي بضربة لازب ، ومنه تسمية الخراج ضريبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 160}
فصل
قال الفخر :
الذلة هي الذل ، وفي المراد بهذا الذل أقوال
الأول : وهو الأقوى أن المراد أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم فهو كقوله تعالى : {اقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [ البقرة : 191 ].(16/66)
ثم قال تعالى : {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله} والمراد إلا بعهد من الله وعصمة وذِمام من الله ومن المؤمنين لأن عند ذلك تزول الأحكام ، فلا قتل ولا غنيمة ولا سبي
الثاني : أن هذه الذلة هي الجزية ، وذلك لأن ضرب الجزية عليهم يوجب الذلة والصغار
والثالث : أن المراد من هذه الذلة أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً ، بل هم مستخفون في جميع البلاد ذليلون مهينون.
واعلم أنه لا يمكن أن يقال المراد من الذلة هي الجزية فقط أو هذه المهانة فقط لأن قول {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله} يقتضي زوال تلك الذلة عند حصول هذا الحبل والجزية والصغار والدناءة لا يزول شيء منها عند حصول هذا الحبل ، فامتنع حمل الذلة على الجزية فقط ، وبعض من نصر هذا القول ، أجاب عن هذا السؤال بأن قال : إن هذا الاستثناء منقطع ، وهو قول محمد بن جرير الطبري ، فقال : اليهود قد ضربت عليهم الذلة ، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا فلا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة ، فقوله {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله} تقديره لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس.
(16/67)
واعلم أن هذا ضعيف لأن حمل لفظ {إِلا} على ( لكن ) خلاف الظاهر ، وأيضاً إذا حملنا الكلام على أن المراد : لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس لم يتم هذا القدر فلا بد من إضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه والإضمار خلاف الأصل ، فلا يصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة فإذا كان لا ضرورة ههنا إلى ذلك كان المصير إليه غير جائز ، بل ههنا وجه آخر وهو أن يحمل الذلة على كل هذه الأشياء أعني : القتل ، والأسر ، وسبي الذراري ، وأخذ المال ، وإلحاق الصغار ، والمهانة ، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام ، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام ، وهو أخذ القليل من أموالهم الذي هو مسمى بالجزية ، وبقاء المهانة والحقارة والصغار فيهم ، فهذا هو القول في هذا الموضع ، وقوله {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ} أي وجدوا وصودفوا ، يقال : ثقفت فلاناً في الحرب أي أدركته ، وقد مضى الكلام فيه عند قوله {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [ البقرة : 191 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 160 ـ 161}
قوله تعالى {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله}
فصل
قال الفخر :
قوله {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله} فيه وجوه
الأول : قال الفرّاء : التقدير إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، وأنشد على ذلك :
رأتني بحبلها فصدت مخافة.. وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
واعترضوا عليه ، فقالوا : لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته ، لأن الموصول هو الأصل والصلة فرع فيجوز حذف الفرع لدلالة الأصل عليه ، أما حذف الأصل وإبقاء الفرع فهو غير جائز
الثاني : أن هذا الاستثناء واقع على طريق المعنى ، لأن معنى ضرب الذلة لزومها إياهم على أشد الوجوه بحيث لا تفارقهم ولا تنفك عنهم ، فكأنه قيل : لا تنفك عنهم الذلة ، ولن يتخلصوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس(16/68)
الثالث : أن تكون الباء بمعنى ( مع ) كقولهم : اخرج بنا نفعل كذا ، أي معنا ، والتقدير : إلا مع حبل من الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 161}
فصل
قال الفخر :
المراد من حبل الله عهده ، وقد ذكرنا فيما تقدم أن العهد إنما سمي بالحبل لأن الإنسان لما كان قبل العهد خائفاً ، صار ذلك الخوف مانعاً له من الوصول إلى مطلوبه ، فإذا حصل العهد توصل بذلك العهد إلى الوصول إلى مطلوبه ، فصار ذلك شبيهاً بالحبل الذي من تمسك به تخلص من خوف الضرر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 161}
سؤال : فإن قيل : إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس وذلك يقتضي المغايرة فكيف هذه المغايرة ؟
قلنا : قال بعضهم : حبل الله هو الإسلام ، وحبل الناس هو العهد والذمة ، وهذا بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال : أو حبل من الناس ، وقال آخرون : المراد بكلام الحبلين العهد والذمة والأمان ، وإنما ذكر تعالى الحبلين لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين هو الأمان المأخوذ بإذن الله وهذا عندي أيضاً ضعيف ، والذي عندي فيه أن الأمان الحاصل للذمي قسمان
أحدهما : الذي نص الله عليه وهو أخد الجزية
والثاني : الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد فالأول : هو المسمى بحبل الله والثاني : هو المسمى بحبل المؤمنين والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 161}
فوائد لغوية
قال ابن عادل : (16/69)
قوله : { أَيْنَ مَا ثُقِفُوا } ، " أيْنَمَا " اسم شرط ، وهي ظرف مكان ، و" ما " مزيدة فيها ، ف " ثُقِفُوا " في محل جزم بها ، وجواب الشرط إما محذوف - أي : أينما ثُقِفُوا غلبوا وذُلّوا ، دلَّ عليه قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } ، وإما نفس " ضُرِبَتْ " ، عند مَنْ يُجيز تقديم جواب الشرط عليه ، ف { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } لا محل له - على الأول ، ومحله جزم على الثاني.
قوله : { إلاَّ بِحَبْلٍ } هذا الجار في محل نَصْب على الحال ، وهو استثناء مفرَّغ من الأحوال العامة.
قال الزمخشري : " وهو استثناء من أعَمِّ عامّة الأحوال ، والمعنى : ضُرِبَتْ عليهم الذلة في عامة الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله ، وحبل الناس ، فهو استثناء متصل ".
قال الزجّاج والفرَّاء : هو استثناء منقطع ، فقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فحذف ما يتعلق به الجار.
كقول حميد بن ثور الهلالي : [ الطويل ]
1574- رَأتْنِي بِحَبْلَيْهَا ، فَصَدَّتْ مَخَافَةً... وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ ، فَرُوقُ
أراد : أقبلت بحبليها ، فحذف الفعل ؛ للدلالة عليه.
ونظَّره ابنُ عطية بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] قال : " لأن بادئ الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنَّما في الكلام محذوف ، يدركه فَهْمُ السامع الناظر في الأمر ، وتقديره : - في أمتنا - فلا نجاة من الموت إلا بحبل ".
(16/70)
قال أبو حيان : " وعلى ما قدره لا يكون استثناءً منقطعاً ؛ لأنه مستثنًى من جملة مقدَّرة ، وهي : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير ، فلا يكون استثناء المنقطع - كما قرره النحاة - على قسمين : منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه لا يمكن فيه ذلك - ومنه هذه الآية - على تقدير الانقطاع - إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحَبْل من الناس يُنَجيهم من القتل ، والأسر ، وسَبي الذراري ، واستئصال أموالهم ؛ ويدل على أنه منقطع الإخبار بذلك في قوله تعالى - في سورة البقرة- : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ البقرة : 61 ] ، فلم يستثنِ هناك ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 472 ـ 473}.
قوله تعالى : {وَبَاءُو بِغَضَبٍ مّنَ الله}
قال الفخر :
قد ذكرنا أن معناه : أنهم مكثوا ، ولبثوا وداموا في غضب الله ، وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان ، ومنه : تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه ، والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه ، وسواء قولك : حل بهم الغضب وحلوا به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 161}
قوله تعالى : {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة}
قال الفخر :
الأكثرون حملوا المسكنة على الجزية وهو قول الحسن قال وذلك لأنه تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة عنهم ، والباقي عليهم ليس إلا الجزية ، وقال آخرون : المراد بالمسكنة أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنياً موسراً ، وقال بعضهم : هذا إخبار من الله سبحانه بأنه جعل اليهود أرزاقاً للمسلمين فيصيرون مساكين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 161}
قوله تعالى : {ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ}
قال الفخر : (16/71)
المعنى : أنه تعالى ألصق باليهود ثلاثة أنواع من المكروهات
أولها : جعل الذلة لازمة لهم
وثانياً : جعل غضب الله لازماً لهم
وثالثها : جعل المسكنة لازمة لهم ، ثم بيّن في هذه الآية أن العلة لإلصاق هذه الأشياء المكروهة بهم هي : أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ، وهنا سؤالات :
السؤال الأول : هذه الذلة والمسكنة إنما التصقت باليهود بعد ظهور دولة الإسلام ، والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم بأدوار وأعصار ، فعلى هذا الموضع الذي حصلت فيه العلة وهو قتل الأنبياء لم يحصل فيه المعلول الذي هو الذلة والمسكنة ، والموضع الذي حصل فيه هذا المعلول لم تحصل فيه العلة ، فكان الإشكال لازماً.
والجواب عنه : أن هؤلاء المتأخرين وإن كان لم يصدر عنهم قتل الأنبياء عليهم السلام لكنهم كانوا راضين بذلك ، فإن أسلافهم هم الذين قتلوا الأنبياء وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم ، فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل القبيح فعلاً لآبائهم وأسلافهم مع أنهم كانوا مصوبين لأسلافهم في تلك الأفعال.
السؤال الثاني : لم كرر قوله {ذلك بِمَا عَصَواْ} وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير للتأكيد ، لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد ، والعصيان أقل حالاً من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان ؟ .
والجواب من وجهين
(16/72)
الأول : أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء ، وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية ، وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالاً فحالاً ، ونور الإيمان يضعف حالاً فحالاً ، ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر ، وإليه الإشارة بقوله {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [ المطففين : 14 ] فقوله {ذلك بِمَا عَصَواْ} إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات ، من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن ، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة ، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر
الثاني : يحتمل أن يريد بقوله {ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ} من تقدم منهم ، ويريد بقوله {ذلك بِمَا عَصَواْ} من حضر منهم في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا لا يلزم التكرار ، فكأنه تعالى بيّن علة عقوبة من تقدم ، ثم بيّن أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجباً لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 162}(16/73)
فائدة
قال ابن عطية :
وقوله تعالى : { ذلك بما عصوا } حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول ، قاله الطبري والزجّاج وغيرهما. والذي أقول : إن الإشارة بـ { ذلك } الأخير إنما هي إلى كفرهم وقتلهم ، وذلك أن الله تعالى ، استدرجهم فعاقبهم على العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء ، وهو الذي يقول أهل العلم : إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في معصية ، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى الطاعة ، وذلك موجود في الناس إذا تؤمل ، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره متقرر في غير ما موضع من كتاب الله ، وقال قتادة رحمه الله عندما فسر هذه الآية : اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 491}(16/74)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } أي ذلة هدر النفس والمال والأهل ، وقيل : ذلة التمسك بالباطل وإعطاء الجزية ، قال الحسن : أذلهم الله تعالى فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين وهذا من ضرب الخيام والقباب كما قاله أبو مسلم ، قيل : ففيه استعارة مكنية تخييلية ، وقد يشبه إحاطة الذلة واشتمالها عليهم بذلك على وجه الاستعارة التبعية ، وقيل : هو من قولهم : ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه فالمعنى ألزموا الذلة وثبتت فيهم فلا خلاص لهم منها { أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ } أي وجدوا ، وقيل : أخذوا وظفر بهم ، و{ أَيْنَمَا } شرط ، وما زائدة وثقفوا في موضع جزم وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أو هو بنفسه على رأي { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس } استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، والمعنى على النفي أي لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال الأموال. وقيل : أي إلا في حال أن يكونوا متلبسين بالإسلام واتباع سبيل المؤمنين فإنهم حينئذٍ يرتفع عنهم ذل التمسك والإعطاء { وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله } أي رجعوا به وهو كناية عن استحقاقهم له واستيجابهم إياه من قولهم باء فلان بفلان إذا صار حقيقاً أن يقتل به ، فالمراد صاروا أحقاء بغضبه سبحانه والتنوين للتفخيم والوصف مؤكد لذلك { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } فهم في الغالب مساكين وقلما يوجد يهودي يظهر الغنى.(16/75)
{ ذلك } أي المذكور من المذكورات { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله } الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ } أصلاً ، ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء عليهم السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار ، وقيل : معناه أن ضرب الذلة وما يليه كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو معلل بعصيانهم واعتدائهم ، والتعبير بصيغة الماضي والمضارع لما مر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 29 ـ 30}
ومن فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة }.
يعود ضمير ( عليهم ) إلى { وأكثرهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] وهو خاص باليهود لا محالة ، وهو كالبيان لقوله { ثم لا ينصرون }.
والجملة بيَانيّة لذكر حال شديد من شقائهم في الدنيا.
ومعنى ضرب الذلّة اتَّصالها بهم وإحاطتها ، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبّهت الذلّة ، وهي أمر معقول ، بقية أو خيمة شملتهم وشبّه اتّصالها وثباتها بضرب القبة وشَدّ أطنابها ، وقد تقدّم نظيره في البقرة.
و { ثُقفُوا } في الأصل أخذوا في الحرب { فإمّا تثقفنّهم في الحرب } [ الأنفال : 57 ] وهذه المادة تدلّ على تمكّن من أخذ الشيء ، وتصرّف فيه بشدّة ، ومنها سمي الأسْر ثِقافاً ، والثقاف آلة كالكلُّوب تكسر به أنابيب قنا الرّماح.
قال النابغة :
عَضّ الثِّقَافِ على صُمّ الأنَابِيب
والمعنى هنا : أينما عثر عليهم ، أو أينما وجدوا ، أي هم لا يوجدون إلا محكومين ، شبّه حال ملاقاتهم في غير الحرب بحال أخذ الأسير لشدّة ذلّهم.(16/76)
وقوله { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } الحبل مستعار للعهد ، وتقدّم ما يتعلق بذلك عند قوله تعالى { فقد استمسك بالعروة الوثقى } في سورة البقرة ( 256 ) وعهد الله ذمّته ، وعهد النَّاس حلفهم ، ونصرهم ، والاستثناء من عموم الأحوال وهي أحوال دلّت عليها الباء التي للمصاحبة.
والتَّقدير : ضربت عليهم الذلّة متلبِّسين بكُلّ حال إلاّ متلبّسين بعهد من الله وعهد من النَّاس ، فالتَّقدير : فذهبوا بذلّة إلاّ بحبل من الله.
والمعنى لا يسلمون من الذلّة إلاّ إذا تلبَّسُوا بعهد من الله ، أي ذمّة الإسلام ، أو إذا استنصروا بقبائل أولى بأس شديد ، وأمّا هم في أنفسهم فلا نصر لهم.
وهذا من دلائل النُّبوّة فإنّ اليهود كانوا أعزّة بيثربَ وخيبر والنضير وقريظة ، فأصبحوا أذلّة ، وعمَّتهم المذلّة في سائر أقطار الدنيا.
{وباءوا بغضب من الله} أي رجعوا وهو مجاز لمعنى صاروا إذ لا رجوع هنَا.
والمسكنة الفقر الشَّديد مشتقة من اسم المسكين وهو الفقير ، ولعلّ اشتقاقه من السكون وهو سكون خيالي أطلق على قلّة الحيلة في العيش.
والمراد بضرب المسكنة عليهم تقديرها لهم وهذا إخبار بمغيّب لأن اليهود المخبر عنهم قد أصابهم الفقر حين أخذت منازلهم في خيبر والنَّضِير وقينُقاع وقُريظةَ ، ثُمّ بإجلائهم بعد ذلك في زمن عمر.
{ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }.
الإشارة إلى ضرب الذلّة المأخوذ من { ضربت عليهم الذلّة }.
ومعنى { يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء } تقدّم عند قوله تعالى : { إنّ الذين يكفرون بآيات الله } [ آل عمران : 21 ] أوائل هذه السورة.(16/77)
وقوله : { ذلك بما عَصوا وكانوا يعتدون } يحتمل أن يكون إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حقّ ، فالباء سبب السبب ، ويحتمل أن يكون إشارة ثانية إلى ضرب الذلّة والمسكنة فيكون سبباً ثانياً.
( وما ) مصدرية أي بسبب عصيانهم واعتدائهم ، وهذا نشر على ترتيب اللفّ فكفرهم بالآيات سببه العصيان ، وقتلهم الأنبياء سببه الاعتداء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 193 ـ 194}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
علَمُ الهجران لا ينكتم ، وسِمَةُ البُعْد لا تَخْفَى ، ودليل القطيعة لا يستتر ؛ فهم في صغار الطرد ، وذُلِّ الرد ، يعتبر بهم أولو الأبصار ، ويغترُّ بهم أضرابُهم من الكفار الفُجَّار. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 271}(16/78)
قوله تعالى { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)}
مناسبة الآيات لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان السياق ربما أفهم أنهم كلهم كذلك قال مستأنفاً نافياً لذلك : {ليسوا سوآء} أي في هذه الأفعال ، يثني سبحانه وتعالى على من أقبل على الحق منهم وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً بعيداً ولا قريباً.
ثم استأنف قوله بياناً لعدم استوائهم : {من أهل الكتاب} فأظهر لئلا يتوهم عود الضمير على خصوص من حكم بتكفيرهم {أمة} أي جماعة يحق لها أن تؤم {قائمة} أي مستقيمة على ما أتاها به نبيها في الثبات على ما شرعه ، متهيئة بالقيام للانتقال عنه عند مجيء الناسخ الذي بشر به ووصفه.
غير زائغة بالإيمان ببعضه والكفر ببعضه.
ثم ذكر الحامل على الاستقامة فقال : {يتلون} أي يتعابعون مستمرين {آيات الله} أي علامات ذي الجلال والإكرام المنزلة الباهرة التي لا لبس فيها {آناء الليل} أي ساعاته {وهم يسجدون} أي يصلون في غاية الخضوع.
ثم ذكر ما أثمر لهم التهجد فقال : {يؤمنون} وكرر الاسم الأعظم إشارة إلى استحضارهم لعظمته فقال : {بالله} أي الذي له من الجلال وتناهي الكمال ما حير العقول.(16/79)
وأتبعه اليوم الذي تظهر فيه عظمته كلها ، لأنه الحامل على كل خير فقال : {واليوم الآخر} أي إيماناً يعرف أنه حق بتصديقهم له بالعمل الصالح بما يرد عليهم من المعارف التي ما لها من نفاد ، فيتجدد تهجدهم فتثبت استقامتهم.
ولما وصفهم بالاستقامة في أنفسهم في أنفسهم وصفهم بأنهم يقوّمون غيرهم فقال : {ويأمرون بالمعروف} أي مجددين ذلك مستمرين عليه {وينهون عن المنكر} لذلك ، ولما ذكر فعلهم للخير ذكر نشاطهم في جميع أنواعه فقال : {ويسارعون في الخيرات} ولما كان التقدير : فأولئك من المستقيمين ، عطف عليه : {وأولئك} أي العالو الرتبة {من الصالحين} إشارة إلى أن من لم يستقم لم يصلح لشيء ، وأرشد السياق إلى أن التقدير : وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات.
ولما كان التقدير : فما فعلوا من خير فهو بعين الله سبحانه وتعالى ، يشكره لهم ، عطف عليه قوله : {وما تفعلوا} أي أنتم {من خير} من إنفاق أو غيره {فلن تكفروه} بل هو مشكور لكم بسبب فعلكم ، وبني للمجهول تأدباً معه سبحانه وتعالى ، وليكون على طريق المتكبرين.
وعطف على ما تقديره : فإن الله عليم بكل ما يفعله الفاعلون ، قوله : {والله} أي المحيط بكل شيء {عليم بالمتقين} من الفاعلين الذين كانت التقوى حاملة لهم على كل خير ، فهو يثيبهم أعظم الثواب ، ويغيرهم فهو يعاقبهم بما يريد من العقاب ، هذا على قراءة الخطاب ، وأما على قراءة الغيبة فأمرها واضح في نظمها بما قلته. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 138 ـ 139}
فصل
قال الفخر : (16/80)
اعلم أن في قوله {لَيْسُواْ سَوَاء} قولين أحدهما : أن قوله {لَيْسُواْ سَوَاء} كلام تام ، وقوله {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} كلام مستأنف لبيان قوله {لَيْسُواْ سَوَاء} كما وقع قوله {تَأْمُرُونَ بالمعروف} [ آل عمران : 110 ] بياناً لقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [ آل عمران : 110 ] والمعنى أن أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم ليسوا سواء ، وهو تقرير لما تقدم من قوله {مّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} ، ثم ابتدأ فقال : {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} وعلى هذا القول احتمالان أحدهما : أنه لما قال : {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} كان تمام الكلام أن يقال : ومنهم أمة مذمومة ، إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر وتحقيقه أن الضدين يعلمان معاً ، فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما ، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر.
قال أبو ذؤيب :
دعاني إليها القلب إني لامرؤ.. مطيع فلا أدري أرشد طلابها
أراد ( أم غي ) فاكتفى بذكر الرشد عن ذكر الغي ، وهذا قول الفراء وابن الأنباري ، وقال الزجاج : لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة ، لأن ذكر الأمة المذمومة قد جرى فيما قبل هذه الآيات فلا حاجة إلى إضمارها مرة أخرى ، لأنا قد ذكرنا أنه لما كان العلم بالضدين معاً كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر ، وهذا كما يقال زيد وعبد الله لا يستويان زيد عاقل ديّن زكي ، فيغني هذا عن أن يقال : وعبد الله ليس كذلك ، فكذا ههنا لما تقدم قوله {لَيْسُواْ سَوَاء} أغنى ذلك عن الإضمار.
(16/81)
والقول الثاني : أن قوله {لَيْسُواْ سَوَاء} كلام غير تام ولا يجوز الوقف عنده ، بل هو متعلق بما بعده ، والتقدير : ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأمة مذمومة ، فأمة رفع بليس وإنما قيل {لَّيْسُواْ} على مذهب من يقول : أكلوني البراغيث ، وعلى هذا التقدير لا بد من إضمار الأمة المذمومة وهو اختيار أبي عبيدة إلا أن أكثر النحويين أنكروا هذا القول لاتفاق الأكثرين على أن قوله أكلوني البراغيث وأمثالها لغة ركيكة ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 163}
فصل
قال الآلوسى
{ لَيْسُواْ سَوَاء } أخرج ابن إسحق والطبراني والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد وتبعه إلا أشرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله تعالى في ذلك { لَيْسُواْ سَوَاء } إلى قوله سبحانه وتعالى : { وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصالحين } ( آل عمران ؛ 114 ) والجملة على ما قاله مولانا شيخ الإسلام تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب ، وضمير الجمع لأهل الكتاب جميعاً لا للفاسقين ( منهم ) خاصة وهو اسم ليس وسواء خبره ، وإنما أفرد لكونه في الأصل مصدراً والوقف هنا تام على الصحيح والمراد بنفي المساواة نفي المشاركة في أصل الاتصاف بالقبائح المذكورة لا نفي المساواة في الاتصاف بمراتبها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصاف ومثله كثير في الكلام. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 33}
فصل
قال الفخر :
في المراد بأهل الكتاب قولان(16/82)
الأول : وعليه الجمهور : أن المراد منه الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام ، روي أنه لما أسلم عبد الله بن سلاّم وأصحابه قال لهم بعض كبار اليهود : لقد كفرتم وخسرتم ، فأنزل الله تعالى لبيان فضلهم هذه الآية ، وقيل : إنه تعالى لما وصف أهل الكتاب في الآية المتقدمة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك ، بل فيهم من يكون موصوفاً بالصفات الحميدة والخصال المرضية ، قال الثوري : بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء ، وعن عطاء : أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام.
(16/83)
والقول الثاني : أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان ، وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم ، قال تعالى : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} [ فاطر : 32 ] ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : " أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم " وقرأ هذه الآية ، قال القفال رحمه الله : ولا يبعد أن يقال : أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب ، فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا ، ولم يبعد أيضاً أن يقال : المراد كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله بأهل الكتاب ، كأنه قيل : أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا ، يستويان ؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيداً لما تقدم من قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [ آل عمران : 110 ] وهو كقوله {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [ السجدة : 18 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 164}(16/84)
وقال الآلوسى :
{ مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من الإبهام ، وقال أبو عبيدة : إنه مع الأول كلام واحد ، وجعل أمة اسم ليس والخبر سواء فهو على حد أكلوني البراغيث ، وقيل : أمة مرفوع بسواء وضعف كلا القولين ظاهر ، ووضع { أَهْلِ الكتاب } موضع الضمير زيادة في تشريفهم والاعتناء بهم والقائمة من قام اللازم بمعنى استقام أي : أمة مستقيمة على طاعة الله تعالى ثابتة على أمره لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه ، وحكي عن ابن عباس وغيره ، وزعم الزجاج أن الكلام على حذف مضاف والتقدير ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة ، وفيه أنه عدول عن الظاهر من غير دليل. والمراد من هذه الأمة من تقدم في سبب النزول ، وجعل بعضهم أهل الكتاب عاماً لليهود والنصارى وعد من الأمة المذكورة نحو النجاشي وأصحابه ممن أسلم من النصارى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 33}
فصل
قال ابن عاشور :
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}
استئناف قصد به إنصاف طائفة من أهل الكتاب ، بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمّهم ، تأكيداً لِما أفاده قولُه { منهم المؤمنون وأكثرُهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] فالضمير في قوله { ليسوا } لأهل الكتاب المتحدّث عنهم آنفاً ، وهم اليهود ، وهذه الجملة تتنزّل من التي بعدها منزلة التمهيد.
و ( سواء ) اسم بمعنى المماثل وأصله مصدر مشتق من التسوية.
وجملة { من أهل الكتاب أمة قائمة الخ...
مبيّنة لإبهام ليسوا سواء } والإظهار في مقام الإضمار للاهتمام بهؤلاء الأمة ، فلأمّة هنا بمعنى الفريق.(16/85)
وإطلاق أهل الكتاب عليهم مجاز باعتبار ما كان كقوله تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] لأنهم صاروا من المسلمين.
وعدل عن أن يقال : منهم أمَّة قائمة إلى قوله من أهل الكتاب : ليكون ذا الثناء شاملاً لصالحي اليهود ، وصالحي النَّصارى ، فلا يختصّ بصالحي اليهود ، فإن صالحي اليهود قبل بعثة عيسى كانوا متمسّكين بدينهم ، مستقيمين عليه ، ومنهم الَّذين آمنوا بعيسى واتّبعوه ، وكذلك صالحو النَّصارى قبل بعثة محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا مستقيمين على شريعة عيسى وكثير منهم أهل تهجَّد في الأديرة والصّوامع وقد صاروا مسلمين بعد البعثة المحمدية.
والأمَّة : الطائفة والجماعة.
ومعنى قائمة أنه تمثيل للعمل بدينها على الوجه الحقّ ، كما يقال : سوق قائمة وشريعة قائمة.
والآناء أصله أأنْاء بهمزتين بوزن أفعال ، وهو جمع إنى بكسر الهمزة وفتح النُّون مقصوراً ويقال أنى بفتح الهمزة قال تعالى : { غير ناظرين إنَاه } [ الأحزاب : 53 ] أي منتظرين وقته. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 195}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية.
الصفة الأولى : أنها قائمة وفيها أقوال
الأول : أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما} [ الفرقان : 64 ] وقوله {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ الليل} [ المزمل : 20 ] وقوله {قُمِ الليل} [ المزمل : 2 ] وقوله {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} [ البقرة : 238 ] والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة.(16/86)
والقول الثاني : في تفسير كونها قائمة : أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [ آل عمران : 75 ] أي ملازماً للاقتضاء ثابتاً على المطالبة مستقصياً فيها ، ومنه قوله تعالى : {قَائِمَاً بالقسط} [ آل عمران : 18 ].
وأقول : إن هذه الآية دلّت على كون المسلم قائماً بحق العبودية وقوله {قَائِمَاً بالقسط} يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال : {أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [ البقرة : 40 ] وهذا قول الحسن البصري ، واحتج عليه بما روي أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله : إن أناساً من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه ، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال : " أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود " ، قال الحسن : متحيرون مترددون " أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية " وفي رواية أخرى قال عند ذلك : " إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى ، وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوةً وعشياً والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني " فهذا الخبر يدل على أن الثبات على هذا الدين واجب وعدم التعلق بغيره واجب ، فلا جرم مدحهم الله في هذه الآية بذلك فقال : {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ }.
القول الثالث : {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي مستقيمة عادلة من قولك : أقمت العود فقام بمعنى استقام ، وهذا كالتقرير لقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 164 ـ 165}
قوله تعالى : {يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء الليل}
قال الفخر : (16/87)
آيات الله قد يراد بها آيات القرآن ، وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته والمراد ههنا الأولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 165}
قوله تعالى : {وَهُمْ يَسْجُدُونَ}
فصل
قال الفخر :
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} وفيه وجوه
الأول : يحتمل أن يكون حالاً من التلاوة كأنهم يقرؤن القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن القفال رحمه الله روى في "تفسيره" حديثاً : أن ذلك غير جائز ، وهو قوله عليه السلام : " ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً "
الثاني : يحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله تعالى وهو كقوله {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما} [ الفرقان : 64 ] وقوله {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاء الليل ساجدا وَقَائِماً يَحْذَرُ الأخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ} [ الزمر : 9 ] قال الحسن : يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه ، وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط
الثالث : يحتمل أن يكون المراد بقوله {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل والصلاة تسمى سجوداً وسجدة وركوعاً وركعة وتسبيحاً وتسبيحة ، قال تعالى : {واركعوا مَعَ الراكعين} [ البقرة : 43 ] أي صلوا وقال : {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [ الروم : 17 ] والمراد الصلاة
الرابع : يحتمل أن يكون المراد بقوله {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي يخضعون ويخشعون لله لأن العرب تسمي الخشوع سجوداً كقوله {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} [ النحل : 49 ] وكل هذه الوجوه ذكرها القفال رحمه الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 165}
فوائد لغوية
قال ابن عادل : (16/88)
الظاهر في هذه أنّ الوقف على " سَوَاءٌ " تام ؛ فإن الواو اسم " ليس " و" سواء " خبر ، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم.
ولا معنى : أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر ؛ لقوله : { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] ، فانتفى استواؤهم.
و " سواء " - في الأصل - مصدر ، ولذلك وُحِّدَ ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة.
قال أبو عبيدة : الواو في " لَيْسُوا " علامة جمع ، وليست ضميراً ، واسم " ليس " - على هذا - " أمة " و" قَائِمَةٌ " صفتها ، وكذا " يَتْلُونَ " ، وهذا على لغة " أكلوني البراغيث ".
كقول الآخر : [ المتقارب ]
يَلُومَونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخِي... لِ أهْلِي ، فَكُلُّهُمْ بعَذْلِ أَلُومُ
قالوا : وهي لغة ضعيفة ، ونازع السُّهَيْلِيّ النحويين في كونها ضعيفةً ، ونسبها بعضُهم إلى شنوءة ، وكثيراً ما جاء عليها الحديث ، وفي القرآن مثلُها. وسيأتي تحقيقها في المائدة.
قال ابنُ عطية : وما قاله أبو أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ ، ولم يبيِّن وَجْهَ الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم " ليس " هو { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } فقط ، وأنه لا محذوفَ ثَمَّ ؛ إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قُدِّر - ثَمَّ - محذوف لم يكن قول أبي عبيدةَ خطأً مردوداً إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة وقد تقدم ما فيها. والتقدير الذي يصح به المعنى : أي : ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِرَ ، وأمة كافرة ، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ.
(16/89)
وقال الفرَّاءُ : إن الوقفَ لا يتم على " سَوَاءً " فجعل الواو اسم " ليس " ، و" سَوَاءً " خبرها - كما قال الجمهور - و" أمَّةٌ " مرتفعة بـ " سَوَاءً " ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستوياً ، من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِر ، وأمة كافرة ، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ.
وقال الفرَّاءُ : إن الوقفَ لا يتم على " سَوَاءً " فجعل الواو اسم " ليس " ، و" سَوَاءً " خبرها - كما قال الجمهور - و" أمَّةٌ " مرتفعة بـ " سَوَاءً " ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستوياً ، من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِر ، وأمة كافرة ، فحُذِفَت هذه الجملةُ المعادلة ؛ لدلالة القسم الأول عليها ؛ فإن مذهب العرب إذا ذُكِرَ أحد الضدين ، أغْنَى عن ذِكر الضِّدِّ الآخَر.
قال أبو ذُؤيب : [ الطويل ]
دَعَانِي إلَيْهَا الْقَلْبُ إنِّي لأمْرِهَا... سَمِيعٌ ، فَمَا أدْرِي أرُشْدٌ طِلاَبُها ؟
والتقدير : أم غي ، فحذف الغَيّ ؛ لدلالة ضِدِّه عليه.
ومثله قول الآخر : [ الطويل ]
أرَاكَ ، فَمَا أدْرِي أهَمٌّ هَمَمْتُهُ... وَذُو الْهَمِّ قِدْماً خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ
أي أهم هممته أم غيره ؟ فحذف ؛ للدلالة ، وهو كثير.
قال الفراء : " لأن المساواة تقتضي شيئين " ، كقوله : { سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد } [ الحج : 25 ] ، وقوله : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [ الجاثية : 21 ].
وقد ضُعِّفَ قَوْلُ الفراء من حيث الحذف ، ومن حيث وَضع الظاهر مَوْضِعَ المُضْمَر ؛ إذ الأصل : منهم أمة قائمة ، فوضع أهل الكتاب موضع المضمر.
(16/90)
والوجه أن يكون { لَيْسُواْ سَوَآءً } جملة تامة ، وقوله : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ } جملة برأسها ، وقوله : { يَتْلُونَ } جملة أخرى ، مبينة لعدم استوائهم - كما جاءت الجملة من قوله : { تَأْمُرُونَ بالمعروف } [ آل عمران : 110 ] مبيِّنة للخيريَّةِ.
ويجوز أن يكون { يَتْلُونَ } في محل رفع ، صفة لـ " أمَّةٌ ".
ويجوز أن يكون حالاً من " أمَّةٌ " ؛ لتخصُّصِها بالنعت.
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " قَائِمة " ، وعلى كونها حالاً من " أمَّةٌ " يكون العامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الجار.
ويجوز أن يكون حالاً من الضميرِ المستكن في هذا الجار ، لوقوعه خبراً لـ " أمَّة ".
قوله : { آنَآءَ الليل } ظرف لـ " يتلون " ، والآناء : الساعات ، واحده : أنَى - بفتح الهمزة والنون ، بزنة عصا -أو إنَى بكسر الهمزة ، وفتح النون ، بزنة مِعًى ، أو أنْي - بالفتح والسكون بزنة ظَبْي ، أو إنْي - بالكسر والسكون ، بزنة نِحْي - أو إنْو - بالكسر والسكون مع الواو ، بزنة جرو - فالهمزة في " آناء " منقلبة عن ياء ، على الأقوال الأربعة - كرداء - وعن واو على القول الأخير ، نحو كساء.
قال القفال : كأن التأنِّيَ مأخوذ منه ، لأنه انتظار الساعات والأوقات ، وفي الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة- : " آذيت وآنيت " أي : دافعت الأوقات. وستأتي بقية هذه المادة في مواضعها.
ولا يجوز أن يكون " آناء الليل " ظرفاً لِ " قَائِمَةٌ ".
(16/91)
قال أبو البقاءِ : " لأن " قَائِمَةٌ " قد وُصِفَتْ ، فلا يجوز أن تعمل فيما بعد الصفة " ، وهذا على تقدير أن يكون " يَتْلُونَ " وَصْفاً لِ " قائمة " ، وفيه نظر ؛ لأن المعنَى ليس على جَعْل هذه الجملةِ صفة لما قبلها ، بل على الاستئناف للبيان المتقدم ، وعلى تقدير جَعْلها صفة لما قبلها ، فهي صفة لـ " أمَّةٌ " ، لا لِ " قَائِمَةٌ " ؛ لأن الصفة لا توصَف إلا أن يكون معنى الصفة الثانية لائقاً بما قبلها ، نحو : مررت برجل ناطقٍ فصيح ، ففصيح صفة لناطق ؛ لأن معناه لائق به ، وبعضهم يجعله وَصْفاً لرجل.
وإنما المانع من تعلُّق هذا الظرف بـ " قَائِمَةٌ " ما ذكرناه من استئناف جملته.
قوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } يجوز أن يكون حالاً من فاعل " يَتْلُونَ " أي : يَتْلُونَ القرآن ، وهم ساجدون ، وهذا قد يكون في شريعتهم - مشروعية التلاوة في السجود - بخلاف شرعنا ، قال عليه السلام " ألاَ إنِّي نُهِيتُ أن أقرأ القُرآنَ رَاكِعاً ، أو سَاجِداً " ، وبهذا يرجح قول من يقول إنهم غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " قَائِمَةٌ " قاله أبو البقاء.
وفيه ضعف ؛ للاستئناف المذكور. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 475 ـ 479}. بتصرف يسير.
من فوائد العلامة ابن عطية فى الآية
قال رحمه الله :
لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب ، عقب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان ، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة ، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين ، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه.(16/92)
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا النظر أن جميع اليهود على عوج من وقت عيسى ، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقط ، أو يكون اليهود في معنى الأمة القائمة إلى وقت عيسى ، ثم ينتقل الحكم في النصارى ، ولفظ { أهل الكتاب } يعم الجميع ، والضمير في { ليسوا } لمن تقدم ذكره في قوله { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] وما قال أبو عبيدة من أن الآية نظيرة قول العرب أكلوني البراغيث خطأ مردود ، وكذلك أيضاً ما حكي عن الفراء أن { أمة } مرتفعة بـ { سواء } على أنها فاعلة كأنه قال : لا تستوي أمة كذا وإن في الآخر الكلام محذوفاً معادلاً تقديره وأمة كافرة ، فأغنى القسم الأول عن ذكرها ودل عليه كما قال أبو ذؤيب :
عَصَيْتُ إليْها الْقَلْبَ إنّي لأَمْرِها... سَمِيعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها ؟
المعنى أم غيّ ، فاقتصر لدلالة ما ذكر عليه.
قال القاضي أبو محمد : وإنما الوجه أن الضمير في { ليسوا } يراد به من تقدم ذكره ، و{ سواء } خبر ليس ، و{ من أهل الكتاب } مجرور فيه خبر مقدم ، و{ أمة } رفع بالابتداء قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود ، معهم ، قال الكفار من أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم ، فأنزل الله تعالى في ذلك { ليسوا سواء } الآية ، وقال مثله قتادة وابن جريج.
قال القاضي أبو محمد : وهو أصح التأويلات ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : معنى الآية : ليس اليهود وأمة محمد سواء ، وقاله السدي.(16/93)
قال القاضي أبو محمد : فمن حيث تقدم ذكر هذه الآمة في قوله { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] وذكر أيضاً اليهود قال الله لنبيه { ليسوا سواء } و{ الكتاب } على هذا جنس كتب الله وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط ، والمعنى : { من أهل الكتاب } وهم أهل القرآن أمة قائمة : واختلف عبارة المفسرين في قوله { قائمة } فقال مجاهد : معناه عادلة ، وقال قتادة والربيع وابن عباس : معناه قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية ، وقال السدي : القائمة القانتة المطيعة.
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يرجع إلى معنى واحد من الاعتدال على أمر الله ، ومنه قيل للدنانير أو الدراهم الوازنة قائمة وهذه الآية تحتمل هذا المعنى وأن لا تنظر اللفظة إلى هيئة الأشخاص وقت تلاوة آيات الله ، ويحتمل أن يراد بـ { قائمة } وصف حال التالين في { آناء الليل } ، ومن كانت هذه حاله فلا محالة أنه معتدل على أمر الله ، وهذه الآية في هذين الاحتمالين مثل ما تقدم في قوله : { إلا ما دمت عليه قائماً } [ آل عمران : 75 ] و{ يتلون } معناه : يسردون ، و{ آيات الله } في هذه الآية هي كتبه ، و" الآناء " : الساعات واحدها " إني " بكسر الهمزة وسكون النون ، ويقال فيه " أني " بفتح الهمزة ، ويقال " إنَى " بكسر الهمزة وفتح النون والقصر ، ويقال فيه " أنى " بفتح الهمزة ويقال " إِنْو " بكسر الهمزة وسكون النون وبواو مضمومة ومنه قول الهذيلي : [ البسط ]
حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ الْقدْحِ مِرَّتهُ... في كلُّ إنيٍ قضاه الليل ينتعل(16/94)
وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة ، إذا بعض الناس يقوم أول الليل ، وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عبارة { آناء الليل } بالقيام ، وهكذا كان صدر هذه الأمة ، وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل أو قبله بشيء ، وحينئذ كان يقوم الأكثر ، والقيام طول الليل قليل وقد كان في الصالحين من يلتزمه ، وقد ذكر الله تعالى القصد من ذلك في سورة المزمل ، وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية ، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه ، وأما عبارة المفسرين في { آناء الليل } ، فقال الربيع وقتادة وغيرهما : { آناء الليل } ساعات الليل ، وقال عبد الله بن كثير : سمعنا العرب تقول { آناء الليل } ساعات الليل ، وقال السدي : { آناء الليل } جوف الليل.(16/95)
قال القاضي أبو محمد : وهذا قلق ، أما أن جوف الليل جزء من الآناء ، وقال ابن مسعود : نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم احتبس عنا ليلة عن صلاة العشاء وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى ليل ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع ، فقال : أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة ، فأنزل الله تعالى : { ليسوا سواء } الآية ، فالمراد بقوله : { يتلون آيات الله آناء الليل } صلاة العشاء ، وروى سفيان الثوري عن منصور أنه قال : بلغني أن هذه الآية نزلت في المصلين بين العشاءين وقوله تعالى : { وهم يسجدون } ذهب بعض الناس إلى أن السجود هنا عبارة عن الصلاة ، سماها بجزء شريف منها كما تسمى في كثير من المواضع ركوعاً ، فهي على هذا جملة في موضع الحال ، كأنه قال : يتلون آيات الله آناء الليل مصلين ، وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة مقطوعة من الكلام الأول ، أخبر عنهم أنهم أيضاً أهل سجود.
قال القاضي أبو محمد : ويحسن هذا من جهة أن التلاوة آناء الليل قد يعتقد السامع أن ذلك في غير الصلاة ، وأيضاً فالقيام في قراءة العلم يخرج من الآية على التأويل الأول ، وثبت فيها على هذا الثاني فـ { هم يسجدون } على هذا نعت عدد بواو العطف ، كما تقول : جاءني زيد الكريم والعاقل. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 492 ـ 493}
ومن فوائد الإمام الزمخشرى
قال رحمه الله :
الضمير في { لَّيْسُواْ } لأهل الكتاب ، أي ليس أهل الكتاب مستوين.
وقوله : { مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } كلام مستأنف لبيان قوله : { لَيْسُواْ سَوَاءً } كما وقع قوله : { تَأْمُرُونَ بالمعروف } [ آل عمران : 110 ] بياناً لقوله { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } { أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } مستقيمة عادلة ، من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى استقام ، وهم الذين أسلموا منهم.(16/96)
وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود ، لأنه أبين لما يفعلون ؛ وأدل على حسن صورة أمرهم.
وقيل : عنى صلاة العشاء ، لأن أهل الكتاب لا يصلونها.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه :
أخَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : " أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم ، وقرأ هذه الآية " وقوله : { يَتْلُونَ } و{ يُؤْمِنُونَ } في محل الرفع صفتان لأمّة ، أي أمّة قائمة تالون مؤمنون ، وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل.
ساجدين ، ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عُزيراً ، وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض.
ومن الإيمان باليوم الآخر ، لأنهم يصفونه بخلاف صفته.
ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنهم كانوا مداهنين.
ومن المسارعة في الخيرات ، لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها.
والمسارعة في الخير : فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع في توليه والقيام به وآثر الفور على التراخي { وَأُوْلئِكَ } الموصوفون بما وصفوا به { مِنَ } جملة { الصالحين } الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم واستحقوا ثناءه عليهم.
ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 431 ـ 432}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ }.
ذكر هنا من صفات هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب أنها قائمة. أي : مستقيمة على الحق وأنها تتلو آيات الله آناء الليل وتصلي وتؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.(16/97)
وذكر في موضع آخر أنها تتلو الكتاب حق تلاوته وتؤمن بالله وهو قوله : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ البقرة : 121 ].
وذكر في موضع آخر أنهم يؤمنون بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم وأنهم خاشعون لله لا يشترون بآياته ثمناً قليلاً. وهو قوله : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } [ آل عمران : 199 ]. وذكر في موضع آخر أنهم يفرحون بإنزال القرآن وهو قوله تعالى : { والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [ الرعد : 36 ] ، وذكر في موضع آخر أنهم يعلمون أن إنزال القرآن من الله حق ، وهو قوله : { والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق } [ الأنعام : 114 ] الآية ، وذكر في موضع آخر أنهم إذا تلي عليهم القرآن خروا لأذقانهم سجداً وسبحوا ربهم وبكوا ، وهو قوله : { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } [ الإسراء : 107-109 ].(16/98)
وقال في بكائهم عند سماعه أيضاً : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } [ المائدة : 83 ] وذكر في موضع آخر أن هذه الطائفة من أهل الكتاب ، تؤتى أجرها مرتين وهو قوله : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [ القصص : 51-54 ]. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 241}
فصل
قال العلامة الثعالبى :
روى أبو هريرةَ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنَّهُ قَالَ : " يَنْزِلُ رَبَّنَا تَبَارَكَ وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ ، فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي ؛ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي ؛ فَأُعْطِيهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي ؛ فَأَغْفِرَ لَهُ " رواه الجماعةُ ، أعني : الكتبَ الستَّة ؛ البخاريَّ ، ومُسْلِماً ، وأبا داوُدَ ، والتِّرمذيَّ ، والنَّسائيَّ ، وابْنَ مَاجَة ، وفي بعضِ الطُّرُق : "حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ" ، زاد ابْنُ ماجَة : "فَلِذَلِكَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الصَّلاَةَ آخِرَ اللَّيْلِ على أَوَّلِهِ".(16/99)
وعن عمرو بْنِ عَبَسَة أَنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ ، فإنِ استطعت أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ ، فَكُنْ " رواه أبو داوُد ، والتِّرمذيُّ ، والنَّسَائِيُّ ، والحَاكِمُ في "المستدرك" ، واللفظ للتِّرمذيِّ ، وقال : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وقال الحاكمُ : صحيحٌ على شرطِ مُسْلِمٍ. اه من "السلاح".
وعن أبي أُمَامَةَ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ : " جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرَ ، ودُبُرَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ " ، رواه الترمذيُّ والنسائيُّ ، وقال الترمذيُّ : هذا حديثٌ حسنٌ ، وفي روايةٍ : " جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرَ أرجى " ، أو نحو هذا. أ هـ من "السلاح".
ومما يدْخُلُ في ضِمْنِ قوله سبحانه : { ويسارعون فِي الخيرات } ؛ أن يكون المرءُ مغْتَنِماً للخَمْس ؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " اغتنم خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ " ؛ فَيَكُونُ متى أَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ خَيْراً ، بادر إليه ، ولم يسوِّف نفسه بالأمل ، فهذه أيضاً مسارعةٌ في الخيرات ، وذكر بعض النَّاس قال : دخلْتُ معَ بَعْضِ الصَّالحين في مَرْكَبٍ ، فقُلْتُ له : ما تقُولُ ( أصْلَحَكَ اللَّه ) في الصَّوْمِ في السَّفر ؟ فقال لي : إنها المبادرةُ ، يا ابْنَ الأخِ ، قال المحدِّث : فجاءني ، واللَّهِ ، بجوابٍ ليس من أجوبة الفُقَهَاء. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 201 ـ 202}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
كما غَايَرَ بين النور والظلام مغايرة تضاد فكذلك أثبت منافاة بين أحوال الأولياء وأحوال الأعداء ، ومتى يستوي الضياء والظلمة ، واليقين والتُّهمة ، والوصلة والفرقة ، والبعاد والألفة ، والمعتكف على البِساط والمنصرف عن الباب ، والمتصف بالولاء والمنحرف عن الوفاء ؟ هيهات يلتقيان! فكيف يتفقان أو يستويان ؟ ! أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 271}(16/100)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى { يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } صِفَةٌ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ فَكَانُوا مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تَجِبُ إزَالَةُ الْمُنْكَرِ مِنْ طَرِيقِ اعْتِقَادِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ كَمَا وَجَبَ فِي سَائِرِ الْمَنَاكِيرِ مِنْ الْأَفْعَالِ ؟ قِيلَ لَهُ : هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ دَاعِيًا إلَى مَقَالَتِهِ فَيُضِلُّ النَّاسَ بِشُبْهَتِهِ فَإِنَّهُ تَجِبُ إزَالَتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا أَمْكَنَ.
وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ دَاعٍ إلَيْهَا فَإِنَّمَا يُدْعَى إلَى الْحَقِّ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْحَقِّ وَتَبَيُّنِ فَسَادِ شُبْهَتِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ بِسَيْفِهِ وَيَكُونُ لَهُ أَصْحَابٌ يَمْتَنِعُ بِهِمْ عَنْ الْإِمَامِ فَإِنْ خَرَجَ دَاعِيًا إلَى مَقَالَتِهِ مُقَاتِلًا عَلَيْهَا فَهَذَا الْبَاغِي الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِهِ حَتَّى يَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.(16/101)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْكُوفَةِ يَخْطُبُ فَقَالَ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ : لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ ، فَقَطَعَ خُطْبَتَهُ وَقَالَ : " كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ ، أَمَا إنَّ لَهُمْ عِنْدَنَا ثَلَاثًا أَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ حَقَّهُمْ مِنْ الْفَيْءِ مَا كَانَتْ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَيْدِينَا ، وَلَا نَمْنَعَهُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَهُ ، وَلَا نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا ".
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا وَكَانَ
ابْتَدَأَهُمْ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بِالدُّعَاءِ حِينَ نَزَلُوا حَرُورَاءَ وَحَاجَّهُمْ حَتَّى رَجَعَ بَعْضُهُمْ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي سَائِرِ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ مَا لَمْ يَخْرُجُوا دَاعِينَ إلَى مَذَاهِبِهِمْ لَمْ يُقَاتَلُوا ، وَأَقَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ كُفْرًا ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إقْرَارُ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِ إلَّا بِجِزْيَةٍ.
وَلَيْسَ يَجُوزُ إقْرَارُ مَنْ كَفَرَ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى الْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ لِإِعْطَائِهِ بَدِيًّا جُمْلَةَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ ، فَمَتَى نَقَضَ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ صَارَ مُرْتَدًّا.(16/102)
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، كَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ ، فَتَجُوزُ عِنْدَهُ مُنَاكَحَاتُهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَوِّجُوهُمْ وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُنْتَحِلُونَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِهِ ، كَمَا أَنَّ مَنْ انْتَحَلَ النَّصْرَانِيَّةَ أَوْ الْيَهُودِيَّةَ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمْسِكًا بِسَائِرِ شَرَائِعِهِمْ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ : " لَوْ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ فِي بَعْضِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَكْفُرُ أَهْلُهَا ، كَانَ فِي وَصَايَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ ، يَجُوزُ مِنْهَا مَا يَجُوزُ مِنْ وَصَايَا الْمُسْلِمِينَ وَيَبْطُلُ مِنْهَا مَا يَبْطُلُ مِنْ وَصَايَاهُمْ ".
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُقِرُّوا عَلَى نِفَاقِهِمْ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَوْ وَقَفْنَا عَلَى
نِفَاقِهِمْ لَمْ نُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ نَقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ.(16/103)
وَأَهْلُ الذِّمَّةِ إنَّمَا أَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ الْمُنْتَحِلِينَ لِلْإِسْلَامِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ ، فَحُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ مَتَى وَقَفْنَا عَلَى مَذْهَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ ، وَلَا يَقْتَصِرُ فِي إجْرَائِهِ حُكْمَ الْكُفَّارِ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظٍ عَسَى أَنْ يَكُونَ غَلَطُهُ فِيهِ دُونَ الِاعْتِقَادِ دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ عَنْ ضَمِيرِهِ فَيُعْرِبَ لَنَا عَنْ اعْتِقَادِهِ بِمَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهُ ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الِاسْتِتَابَةِ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 222 ـ 224}(16/104)
قوله تعالى {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر}
فصل
قال الفخر :
الصفة الرابعة : قوله {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} واعلم أن اليهود كانوا أيضاً يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة ، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} وقد بينا أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي ، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ولا يحترزون عن معاصي الله ، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد.
واعلم أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله ، وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، فقوله {يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم وقوله {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية ، وذلك أكمل أحوال الإنسان ، وهي المرتبة التي يقال لها : إنها آخر درجات الإنسانية وأول درجات الملكية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 166}(16/105)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } إمَّا استئناف ، وإما أحوال ، وجيء بالجملة الأولى اسميةً ؛ دلالةً على الاستقرار ، وصُدِّرَتْ بضميرٍ ، وثَنَّى عليه جملة فعلية ، ليتكرر الضمير ، فيزداد بتكراره توكيداً.
وجيء بالخبر مضارعاً ؛ دلالةً على تجدُّدِ السجود في كل وقت ، وكذلك جيء بالجُمَل التي بعدها أفعالاً مضارعة.
ويحتمل أن يكون { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } خبراً ثانياً ، لقوله : " هُمْ " ، ولذلك ترك العاطف ولو ذكره لكان جائزاً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 479}.
قوله تعالى {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر}
فصل
قال الفخر :
الصفة الخامسة : قوله {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف}.
الصفة السادسة : قوله {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاماً وفوق التمام فكون الإنسان تاماً ليس إلا في كمال قوته العملية والنظرية وقد تقدم ذكره ، وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين ، وذلك بطريقين ، إما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف ، أو بمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : {يَأْمُرُونَ بالمعروف} أي بتوحيد الله وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} أي ينهون عن الشرك بالله ، وعن إنكار نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، واعلم أن لفظ المعروف والمنكر مطلق فلم يجز تخصيصه بغير دليل ، فهو يتناول كل معروف وكل منكر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 166}
قوله تعالى {ويسارعون فِى الخيرات}
فصل
قال الفخر :
الصفة السابعة : قوله {ويسارعون فِى الخيرات} وفيه وجهان
أحدهما : أنهم يتبادرون إليها خوف الفوت بالموت ، والآخر : يعملونها غير متثاقلين.(16/106)
فإن قيل : أليس أن العجلة مذمومة قال عليه الصلاة والسلام : " العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن " فما الفرق بين السرعة وبين العجلة ؟ قلنا : السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه ، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه ، فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين ، لأن من رغب في الأمر ، آثر الفور على التراخي ، قال تعالى : {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} [ آل عمران : 133 ] وأيضاً العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى} [ طه : 84 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 166}
قوله تعالى {وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصالحين}
فصل
قال الفخر :
الصفة الثامنة : قوله {وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصالحين} والمعنى وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله تعالى ورضيهم ،
واعلم أن الوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول ، أما القرآن ، فهو أن الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال : بعد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم {وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين} [ الأنبياء : 86 ] وذكر حكاية عن سليمان عليه السلام أنه قال : {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين} [ النمل : 19 ] وقال : {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ} [ التحريم : 4 ] وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد ، وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك في العقائد ، أو في الأعمال ، فإذا كان كل ما حصل من باب ما ينبغي أن يكون ، فقد حصل الصلاح ، فكان الصلاح دالاً على أكمل الدرجات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 166 ـ 167}(16/107)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } صفة أخرى لأمة ، وجوز أن تكون حالاً على طرز ما قبلها وإن شئت كما قال أبو البقاء استأنفتها ، والمراد بهذا الإيمان الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول ، وخص الله تعالى اليوم الآخر بالذكر إظهاراً لمخالفتهم لسائر اليهود فيما عسى أن يتوهم متوهم مشاركتهم لهم فيه لأنهم يدّعون أيضاً الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لكن لما كان ذلك مع قولهم : { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف ما نطقت به الشريعة المصطفوية جعل هو والعدم سواء.
{ وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } إشارة إلى وفور نصيبهم من فضيلة تكميل الغير إثر الإشارة إلى وفوره من فضيلة تكميل النفس ، وفيه تعريض بالمداهنين الصادين عن سبيل الله تعالى { ويسارعون فِى الخيرات } أي يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات خوف الفوات بالموت مثلا ، أو يعملون الأعمال الصالحة راغبين فيها غير متثاقلين لعلمهم بجلالة موقعها وحسن عاقبتها وهذه صفة جامعة لفنون الفضائل والفواضل وفي ذكرها تعريض بتباطؤ اليهود وتثاقلهم عن ذلك ، وأصل المسارعة المبادرة وتستعمل بمعنى الرغبة ، واختيار صيغة المفاعلة للمبالغة ، وقيل : ولم يعبر بالعجلة للفرق بينها وبين السرعة فإن السرعة التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الإبطاء وهو مذموم ، والعجلة التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة وضدها اوناة وهي محمودة ، وإيثار ( في ) على إلى وكثيراً ما تتعدى المسارعة بها للإيذان كما قال شيخ الإسلام : بأنهم مستقرون في أصل الخير متقلبون في فنونه لا أنهم خارجون ( عنها ) منتهون إليها ؛ وصيغة جمع القلة هنا تغني عن جمع الكثرة كما لا يخفى.(16/108)
{ وَأُوْلئِكَ } أي الموصوفون بتلك الصفات الجليلة الشأن بسبب اتصافهم بها كما يشعر به العدول عن الضمير { مّنَ الصالحين } أي من عداد الذين صلحت عند الله تعالى حالهم وهذا رد لقول اليهود : ما آمن به إلا شرارنا. وقد ذهب الجل إلى أن في الآية استغناءاً بذكر أحد الفريقين عن الآخر على عادة العرب من الاكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر ، والمراد ومنهم من ليسوا كذلك. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 34 ـ 35}
قوله تعالى : {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ والله عَلِيمٌ بالمتقين}
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ} بالياء على المغايبة ، لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب ، يتلون ويسجدون ويؤمنون ويأمرون وينهون ويسارعون ، ولن يضيع لهم ما يعلمون ، والمقصود أن جهال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلاّم إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان ، قال تعالى بل فازوا بالدرجات العظمى ، فكان المقصود تعظيمهم ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ، ثم هذا وإن كان بحسب اللفظ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره من مؤمني أهل الكتاب ، فإن سائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلة.(16/109)
وأما الباقون فإنهم قرؤا بالتاء على سبيل المخاطبة فهو ابتداء خطاب لجميع المؤمنين على معنى أن أفعال مؤمني أهل الكتاب ذكرت ، ثم قال : وما تفعلوا من خير معاشر المؤمنين الذين من جملتكم هؤلاء ، فلن تكفروه ، والفائدة أن يكون حكم هذه الآية عاماً بحسب اللفظ في حق جميع المكلفين ، ومما يؤكد ذلك أن نظائر هذه الآية جاءت مخاطبة لجميع الخلائق من غير تخصيص بقوم دون قوم كقوله {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} [ البقرة : 197 ] {وما تفعلوا من خير يوف إليكم} {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} وأما أبو عمرو فالمنقول عنه أنه كان يقرأ هذه الآية بالقراءتين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 167}
قال الطبرى :
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : "وما يفعلوا ، من خير فلن يُكفروه" ، بالياء في الحرفين كليهما ، يعني بذلك الخبرَ عن الأمة القائمة ، التالية آيات الله.
وإنما اخترنا ذلك ، لأن ما قبل هذه الآية من الآيات ، خبر عنهم. فإلحاق هذه الآية إذْ كان لا دلالة فيها تدل على الانصراف عن صفتهم بمعاني الآيات قبلها ، أولى من صرفها عن معاني ما قبلها. وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ. (1)
فتأويل الآية إذًا ، على ما اخترنا من القراءة : وما تفعل هذه الأمة من خير ، وتعمل من عملٍ لله فيه رضًى ، فلن يكفُرهم الله ذلك ، يعني بذلك : فلن يبطل الله ثوابَ عملهم ذلك ، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه ، ولكنه يُجزل لهم الثواب عليه ، ويسني لهم الكرامة والجزاء. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 131 ـ 132}. بتصرف يسير.
______________
(1) تقدم الرد على مثل هذا القول فلا يجوز الترجيح بين القراءات المتواترة وهى من بلاغات القرآن وفصاحته التى تبهر العقول وتأخذ بمجامع القلوب لمن تأمل. والله أعلم.(16/110)
فصل
قال الفخر :
{فَلَنْ تكفروه} أي لن تمنعوا ثوابه وجزاءه وإنما سمي منع الجزاء كفر لوجهين
الأول : أنه تعالى سمى إيصال الثواب شكراً قال الله تعالى : {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] وقال : {فأولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [ الإسراء : 19 ] فلما سمى إيصال الجزاء شكراً سمى منعه كفراً والثاني : أن الكفر في اللغة هو الستر فسمي منع الجزاء كفراً ، لأنه بمنزلة الجحد والستر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 167}
سؤال : فإن قيل : لم قال : {فَلَنْ تكفروه} فعداه إلى مفعولين مع أن شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد يقال شكر النعمة وكفرها ؟ .
قلنا : لأنا بينا أن معنى الكفر ههنا هو المنع والحرمان ، فكان كأنه قال : فلن تحرموه ، ولن تمنعوا جزاءه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 167}
فصل
قال الفخر :
احتج القائلون بالموازنة من الذاهبين إلى الإحباط بهذه الآية فقال : صريح هذه الآية يدل على أنه لا بد من وصول أثر فعل العبد إليه ، فلو انحبط ولم ينحبط من المحبط بمقداره شيء لبطل مقتضى هذه الآية ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [ الزلزلة : 7 ، 8 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 167}
سؤال : فإن قيل : " شكر " و" كفر " لا يتعديان إلا إلى واحد ، يقال : شكر النعمة ، وكفرها - فكيف تعدّى - هنا - لاثنين أولهما قام مقام الفاعل ، والثاني : الهاء في " يكفروه " ؟ .
فقيل : إنه ضُمِّن معنى فعل يتعدى لاثنين - كحرم ومنع ، فكأنه قيل : فلن يُحْرَموه ، ولن يُمْنَعُوا جزاءه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 482}.
قوله تعالى : {والله عَلِيمٌ بالمتقين}
قال الفخر : (16/111)
{والله عَلِيمٌ بالمتقين} والمعنى أنه تعالى لما أخبر عن عدم الحرمان والجزاء أقام ما يجري مجرى الدليل عليه وهو أن عدم إيصال الثواب والجزاء إما أن يكون للسهو والنسيان وذلك مُحالٌ في حقِّه ؛ لأنه عليم بكل المعلومات ، وإما أن يكون للعجز والبخل والحاجة وذلك محال لأنه إله جميع المحدثات ، فاسم الله تعالى يدل على عدم العجز والبخل والحاجة ، وقوله {عَلِيمٌ} يدل على عدم الجهل ، وإذا انتفت هذه الصفات امتنع المنع من الجزاء ، لأن منع الحق لا بد وأن يكون لأجل هذه الأمور والله أعلم ، إنما قال : {عَلِيمٌ بالمتقين} مع أنه عالم بالكل بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 167 ـ 168}
وقال العلامة الطبرى :
فتأويل الآية إذًا ، على ما اخترنا من القراءة : وما تفعل هذه الأمة من خير ، وتعمل من عملٍ لله فيه رضًى ، فلن يكفُرهم الله ذلك ، يعني بذلك : فلن يبطل الله ثوابَ عملهم ذلك ، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه ، ولكنه يُجزل لهم الثواب عليه ، ويسني لهم الكرامة والجزاء. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 132}
وقال العلامة أبو السعود :
{ والله عَلِيمٌ بالمتقين } تذييلٌ مقرِّرٌ ما قبله ، فإن علمَه تعالى بأحوالهم يستدعي تَوْفيةَ أجورِهم لا محالة ، والمرادُ بالمتقين إما الأمةُ المعهودةُ ، وضع موضِعَ الضميرِ العائدِ إليهم مدحاً لهم وتعييناً لعُنوان تعلّقِ العلمِ بهم وإشعاراً بمناط إثابتِهم هو التقوى المنطويةُ على الخصائص السالفةِ وإما جنسُ المتقين عموماً وهم مندرجون تحت حُكمِه اندراجاً أولياً. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 74}(16/112)
لطيفة
قال البيضاوى :
{ والله عَلِيمٌ بالمتقين } بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل ، وأن الفائز عند الله هو أهل التقوى. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 81}
من فوائد العلامة ابن عاشور فى الآية
قال عليه الرحمة :
{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}
تذييل للجمل المفتتحة بقوله تعالى : { من أهل الكتاب أمَّة قائمة } [ آل عمران : 113 ] إلى قوله { من الصالحين } [ آل عمران : 114 ] وقرأ الجمهور : تفعلوا بالفوقية فهو وعد للحاضرين ، ويعلم منه أنّ الصّالحين السَّابقين مثلهم ، بقرينة مقام الامتنان ، ووقوعه عقب ذكرهم ، فكأنَّه قيل : وما تفعلوا من خير ويَفعلوا.
ويجوز أن يكون إلتفاتاً لخطاب أهل الكتاب.
وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف بياء الغيبة عائداً إلى أمّة قائمة.
والكفر : ضد الشكر أي هو إنكار وصول النَّعمة الواصلة.
قال عنترة :
نبئْتُ عَمْرا غيرَ شاكر نعمتي
والكفْرُ مَخْبَثَة لِنَفْسسِ المنعم...
وقال تعالى { واشكروا لي ولا تكفرون } وأصل الشكر والكفر أن يتعديا إلى واحد ، ويكون مفعولهما النّعمة كما في البيت.
وقد يجعل مفعولهما المنعم على التوسّع في حذف حرف الجرّ ، لأن الأصل شكرت له وكفرت له.
قال النابغة :
شكرتُ لك النعمي
وقد جمع بين الاستعمالين قوله تعالى { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] وقد عدّي { تُكْفَروه } هنا إلى مفعولين : أحدهما نائب الفاعل ، لأن الفعل ضمّن معنى الحرمان.
والضّمير المنصوب عائد إلى خير بتأويل خير بجزاء فعل الخير على طريقة الاستخدام وأطلق الكفر هنا على ترك جزاء فعل الخير ، تشبيهاً لفعل الخير بالنَّعمة.(16/113)
كأنّ فاعل الخير أنعم على الله تعالى بنعمته مثل قوله { إن تُقرضوا الله قرضاً حسناً } [ التغابن : 17 ] فحذفّ المشبّه ورمز إليه بما ه من لوازم العرفية.
وهو الكفر ، على أنّ في القرينة استعارة مصرّحة مثل { ينقضون عهدَ الله } [ البقرة : 27 ].
وقد أمتنّ الله علينا إذ جعل طاعتنا إيّاه كنعمة عليه تعالى ، وجعل ثوابها شُكراً ، وتَرْك ثوابها كفراً فنفاه.
وسمّى نفسه الشكور.
وقد عدّي الكفر أن هنا إلى النعمة على أصل تعديته. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 196 ـ 197}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
لن يخيبَ عن بابه قاصد ، ولم يخسر عليه ( تاجر ) ، ولم يستوحش معه مصاحب ، ولم يَذِلّ له طالب. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 271}(16/114)
قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما رغبهم في الإنفاق بما يشمل كل خير وأخبرهم بأنه عالم بدقة وجله ، وأخبر أن ذلك كان دأب إسرائيل عليه الصلاة والسلام على وجه أنتج أن بنيه كاذبون في ادعائهم أنهم على ملة جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ثم حذر منهم وختم ما ختمه بالمتقين بالترغيب في الخير بما اندرج فيه الإنفاق الذي قدم أول السورة أنه من صفة المتقين المستغفرين بالأسحار التي هي أشرف آناء الليل وكان مما يمنع منه خوفُ الفقر والنزول عن حال الموسرين من الكفار المفاخرين بالإكثار المعيرين بالإقلال من المال والولد وقوفاً مع الحال الدنيوي ، وكان قد أخبر أنه لا يقبل من أحد منهم في الآخرة ملء الأرض ذهباً ، أعقب هذا بمثل ذلك على وجه أعم فقال - واصفاً أضداد من تقدم ، نافياً ما يعتقدون من أن أعمالهم الصورية تنفعهم - : {إن الذين كفروا} أي بالله بالميل عن المنهج القويم وإن ادعوا الإيمان به نفاقاً أو غيره {لن تغني عنهم أموالهم} أي وإن كثرت {ولا أولادهم} وإن عظمت {من الله} أي الملك الذي لا كفوء له {شيئاً} أي من الإغناء تأكيداً لما قرر من عدم نصرة أهل الكتاب الذين حملهم على إيثار الكفر على الإيمان استجلاب الأموال والرئاسة على الأتباع على وجه يعم جميع الكفار - كما قال في أول السورة - سواءً.
ولما كان التقدير : فأولئك هم الخاسرون ، عطف عليه قوله : {وأولئك أصحاب النار} أي هم مختصون بها ، ثم استأنف ما يفيد ملازمتها فقال : {هم فيها خالدون}. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 139}
وقال الفخر : (16/115)
اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب ، وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب جامعاً بين الزجر والترغيب والوعد والوعيد ، فلما وصف من آمن من الكفار بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار ، فقال : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 168}
فصل
قال الفخر :
في قوله {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} قولان
الأول : المراد منه بعض الكفار ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً
أحدها : قال ابن عباس : يريد قريظة والنضير ، وذلك لأن مقصود رؤساء اليهود في معاندة الرسول ما كان إلا المال والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً} [ البقرة : 41 ]
وثانيها : أنها نزلت في مشركي قريش ، فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله ولهذا السبب نزل فيه قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئياً} [ مريم : 74 ] وقوله {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزبانية} [ العلق : 17 ، 18 ]
وثالثها : أنها نزلت في أبي سفيان ، فإنه أنفق مالاً كثيراً على المشركين يوم بدر وأحد في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
__________
(1) لا يخفى ما فى هذا الوجه من الفساد والبطلان فإن أبا سفيان قد أسلم وحسن إسلامه فصار من أهل السعادة وهذا يتنافى ما عجز الآية وهو قوله تعالى {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} والأولى ـ والله أعلم ـ حمل الآية على من مات كافرا.(16/116)
والقول الثاني : أن الآية عامة في حق جميع الكفار ، وذلك لأنهم كلهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال ، وكانوا يعيرون الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالفقر ، وكان من جملة شبههم أن قالوا : لو كان محمد على الحق لما تركه ربه في هذا الفقر والشدة ولأن اللفظ عام ، ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراؤه على عمومه ، وللأولين أن يقولوا : إنه تعالى قال بعد هذه الآية {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} [ آل عمران : 177 ] فالضمير في قوله {يُنفِقُونَ} عائد إلى هذا الموضع ، وهو قوله {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} ثم إن قوله {يُنفِقُونَ} مخصوص ببعض الكفار ، فوجب أن يكون هذا أيضاً مخصوصاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 168}(16/117)
فصل
قال الفخر :
إنما خص تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال وأنفع الحيوانات هو الولد ، ثم بيّن تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما ألبتة في الآخرة ، وذلك يدل على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بطريق الأولى ، ونظيره قوله تعالى : {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [ الشعراء : 88 ، 89 ] وقوله {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [ البقرة : 48 ] الآية وقوله {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ} [ آل عمران : 91 ] وقوله {وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} [ سبأ : 37 ] ولما بيّن تعالى أنه لا انتفاع لهم بأموالهم ولا بأولادهم ، قال : {وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 168 ـ 169}
وقال ابن عطية :
وخص الله تعالى " الأموال والأولاد " بالذكر لوجوه.
منها أنها زينة الحياة الدنيا ، وعظم ما تجري إليه الآمال ، ومنها أنها ألصق النصرة بالإنسان وأيسرها ، ومنها أن الكفار يفخرون بالآخرة لا همة لهم إلا فيها هي عندهم غاية المرء وبها كانوا يفخرون على المؤمنين ، فذكر الله أن هذين اللذين هما بهذه الأوصاف لا غناء فيهما من عقاب الله في الآخرة ، فإذا لم تغن هذه فغيرها من الأمور البعيدة أحرى أن لا يغني. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 494}
فائدة
قال البغوى :
{ وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وإنما جعلهم من أصحابها لأنهم أهلها لا يخرجون منها ولا يفارقونها ، كصاحب الرجل لا يفارقه. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 94}(16/118)
فصل
قال الفخر :
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة لا يبقون في النار أبداً فقالوا قوله {وَأُوْلئِكَ أصحاب النار} كلمة تفيد الحصر فإنه يقال : أولئك أصحاب زيد لا غيرهم وهم المنتفعون به لا غيرهم ولما أفادت هذه الكلمة معنى الحصر ثبت أن الخلود في النار ليس إلا للكافر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 169}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئاً } مؤكداً لذلك ولهذا فصل.
والمراد من الموصول إما سائر الكفار فإنهم فاخروا بالأموال والأولاد حيث قالوا : { نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] فرد الله تعالى عليهم بما ترى عليهم ، وإما بنو قريظة وبنو النضير حيث كانت معالجتهم بالأموال والأولاد. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : مشركو قريش وقيل وقيل ولعل من ادعى العموم وهو الظاهر قال بدخول المذكورين دخولاً أولياً ، والمراد من الإغناء الدفع ، ويقال : أغنى عنه إذا دفع عنه ضرراً لولاه لنزل به أي لن تدفع عنهم يوم القيامة أموالهم التي عولوا عليها في المهمات ولا من هو أرجى من ذلك وأعظم عندهم وهم أولادهم من عذاب الله تعالى لهم شيئاً يسيراً منه ، وقال بعضهم : المراد بالاغناء الإجزاء ، ويقال : ما يغني عنك هذا أي ما يجزي عنك وما ينفعك ، ومن للبدل أو الابتداء ، وشيئاً مفعول مطلق أي لن يجزي عنهم ذلك من عذاب الله تعالى شيئاً من الإجزاء ، وعلى التفسير الأول للإغناء وجعل هذا معنى حقيقياً له دونه يقال بالتضمين وأمر المفعولية عليه ظاهر لتعديه حينئذ.(16/119)
{ وَأُوْلئِكَ } أي الموصوفون بالكفر بسبب كفرهم { أصحاب النار } أي ملازموها وهو معنى الأصحاب عرفاً. { هُمْ فِيهَا خالدون } تأكيد لما يراد من الجملة الأولى واختيار الجملة الاسمية للايذان بالدوام والاستمرار وتقديم الظرف محافظة على رؤوس الآي. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 35 ـ 36}
وقال ابن عاشور :
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
استئناف ابتدائي للانتقال إلى ذكر وعيد المشركين بمناسبة ذكر وعد الذين آمنوا من أهل الكتاب.
وإنَّما عطف الأولاد هنا لأن الغَناء في متعارف النَّاس يكون بالمال والولد ، فالمال يدفع به المرءُ عن نفسه في فداء أو نحوه ، والولد يدافعون عن أبيهم بالنصر ، وقد تقدّم القول في مثله في طالعة هذه السورة.
وكرّر حرف النَّفي مع المعطوف في قوله { ولا أولادهم } لتأكيد عدم غناء أولادهم عنهم لدفع توّهم ما هو متعارف من أن الأولاد لا يقعدون عن الذبّ عن آبائهم.
ويتعلق { من الله } بفعل { لن تغني } على معنى ( من ) الابتدائية أي غناء يصدر من جانب الله بالعفو عن كفرهم.
وانتصب ( شيئاً ) على المفعول المطلق لفعل { لن تغني } أي شيئاً من غٍناء.
وتنكير شيئاً للتقليل.
وجملة { وأولئك أصحاب النار } عطف على جملة { لن تغني عنه أموالهم ولا أولادهم }.
وجيء بالجملة معطوفة ، على خلاف الغالب في أمثالها أن يكون بدون عطف ، لقصد أن تكون الجملة منصبّاً عليها التَّأكيد بحرف ( إنّ ) فيكمل لها من أدلَّة تحقيق مضمونها خمسة أدلة هي : التّأَكيد بـ { إن } ، وموقع اسم الإشارة ، والإخبار عنهم بأنَّهم أصحاب النَّار ، وضمير الفصل ، ووصف خالدون. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 197}(16/120)
وقال العلامة الطبرى :
وهذا وعيدٌ من الله عز وجل للأمة الأخرى الفاسقة من أهل الكتاب ، الذين أخبر عنهم بأنهم فاسقون ، وأنهم قد باؤوا بغضب منه ، ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله.
يقول تعالى ذكره : "إن الذين كفروا" ، يعني : الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به وبما جاءهم به من عند الله "لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا" ، يعني : لن تدفع أمواله التي جمعها في الدنيا ، وأولاده الذين ربَّاهم فيها ، شيئًا من عقوبة الله يوم القيامة إن أخرها لهم إلى يوم القيامة ، ولا في الدنيا إنْ عجَّلها لهم فيها.
وإنما خصّ أولاده وأمواله ، لأن أولاد الرجل أقربُ أنسبائه إليه ، وهو على ماله أقدر منه على مال غيره ، وأمرُه فيه أجوز من أمره في مال غيره. فإذا لم يغن عنه ولده لصلبه ، وماله الذي هو نافذ الأمر فيه ، فغير ذلك من أقربائه وسائر أنسبائه وأموالهم ، أبعد من أن تغني عنه من الله شيئا.
ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله : "وأولئك أصحاب النار". وإنما جعلهم أصحابها ، لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها ، كصاحب الرجل الذي لا يفارقه ، وقرينه الذي لا يزايله.
ثم وكد ذلك بإخباره عنهم إنهم"فيها خالدون" ، أنّ صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها ، إذْ كان من الأشياء ما يفارق صاحبه في بعض الأحوال ، ويزايله في بعض الأوقات ، وليس كذلك صحبة الذين كفروا النارَ التي أصْلوها ، ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع. نعوذ بالله منها ومما قرَّب منها من قول وعمل. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 133 ـ 134}(16/121)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)}
لا في الحال لهم بدل ولا في المآل عنهم خلف. في عاجلهم خَسِروا ، وفي آجلهم في قطعٍ وهجْرٍ ، وبلاءٍ وخُسْرٍ ، وعذابٍ ونُكْر. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 272}(16/122)
قوله تعالى { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان ربما قيل : فما حال ما يبدلونه في المكارم ويواسون به في المغارم ؟ ضرب لذلك مثلاً جعله هباء منثوراً ، ضائعاً وإن كثر بوراً ، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً ، بقوله سبحانه وتعالى جواباً لهذا السؤال : {مثل ما ينفقون} أي من المال ، وحقر قصدهم بتحقير محطه فقال : {في هذه الحياة الدنيا} أي على وجه القربة أو غيرها ، لكونهم ضيعوا الوجه الذي به يقبل ، وهو الإخلاص.(16/123)
ومثل إنفاقهم له ومثل حرث أصيب بالريح {كمثل ريح فيها صر} أي برد شديد {أصابت حرث قوم} موصوفين بأنهم {ظلموا أنفسهم} أي بالبناء على غير أساس الإيمان {فأهلكته} فمثل ما ينفقون في كونه لم ينفعهم في الدنيا بإنتاج ما أرادوا في الدنيا وضرهم في الدارين ، أما في الدنيا فبضياعه في غير شيء ، وأما في الآخرة فبالمعاقبة عليه لتضييع أساسه وقصدهم الفاسد به ، مثل الزرع الموصوف فإنه لم ينفع أهله الموصوفين ، بل ضرهم في الدنيا بضياعه ، وفي الآخرة بما قصدوا به من المقصود الفاسد ، ومثل إنفاقهم له في كونه ضرهم ولم ينفعهم مثل الريح في كونها ضرت الزرع ولم تنفعه ، فلما كانت الريح الموصوفة أمراً مشاهداً جلياً جعلت في إهلاكها مثلاً لضياع أنفاقهم الذي هو أمر معنوي خفي ، ولما كان الزرع المحترق أمراً محسوساً جعل فيما حصل له بعد التعب من العطب مثالاً لأمر معقول ، وهو أموالهم في كون إنفاقهم إياها لم يثمر لهم شيئاً غير الخسارة والتعب ، فالمثلان ضياع الرزع والإنفاق ، وضياع الزرع أظهر فهو مثل لضياع الإنفاق لأنه أخفى ، وقد بان أن الآية من الاحتباك : حذف أولاً مثل الإنفاق لدلالة الريح عليه ، وثانياً الحرث لدلالة ما ينفق عليه.(16/124)
ولما كان سبحانه وتعالى موصوفاً بأنه الحكم العدل القائم بالقسط وأنه لا ينسى خيراً فعل قال دفعاً لتوهم أن ذلك بخس : {وما ظلمهم} أي الممثل بهم والممثل لهم {الله} الملك الأعظم الغنيّ الغِِنى المطلق لأنه المالك المطلق ، وقد كفروا ، أما الممثل لهم فبكونهم أنفقوا على غير الوجه الذي شرعه ، وأما الممثل بهم فبكونهم لم يحرسوا زرعهم بالطاعات ، وفي الآية دليل على أن أهل الطاعات تحرس ضوائعهم من الآفات وتخرق فيها العادات ، ثم قال : {ولكن} لوما كان الممثل لأجلهم الذين كفروا أعم من أن يموتوا عليه أو يسلموا لم يعبر في الظلم بما تقتضيه الجبلة من فعل الكون وقال : الأساس بكفرهم ، وأن ظلمهم مقصور على أنفسهم ، لا يتعداها إلى غيرها وإن ظهر لإنفاقهم نكاية في عدوهم ، فإن العاقبة لما كانت للمؤمنين كانت نكايتهم كالعدم ، بل هي زيادة في وبالهم ، فهي من ظلمهم لأنفسهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 139 ـ 140}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً ، ثم إنهم ربما أنفقوا أموالهم في وجوه الخيرات ، فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك ، فأزال الله تعالى بهذه الآية تلك الشبهة ، وبيّن أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات ، وإن كانوا قد قصدوا بها وجه الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 169}
فصل
قال الفخر :
المثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما يشبه به ، وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم ، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع.
فإن قيل : فعلى هذا التقدير مثل إنفاقهم هو الحرث الذي هلك ، فكيف شبه الإنفاق بالريح الباردة المهلكة.(16/125)
قلنا : المثل قسمان : منه ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين ، وهذا هو المسمى بالتشبيه المركب ، ومنه ما حصلت المشابهة فيه بين المقصود من الجملتين ، وبين أجزاء كل واحدة منهما ، فإذا جعلنا هذا المثل من القسم الأول زال السؤال ، وإن جعلناه من القسم الثاني ففيه وجوه الأول : أن يكون التقدير : مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون ، كمثل الريح المهلكة للحرث الثاني : مثل ما ينفقون ، كمثل مهلك ريح ، وهو الحرث الثالث : لعلّ الإشارة في قوله {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} إلى ما أنفقوا في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع العساكر عليه ، وكان هذا الإنفاق مهلكاً لجميع ما أتوا به من أعمال الخير والبر ، وحينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار وتقديم وتأخير ، والتقدير : مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث ، وهذا الوجه خطر ببالي عند كتابتي على هذا الموضع ، فإن انفاقهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم أنواع الكفر ومن أشدها تأثيراً في إبطال آثار أعمال البر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 169 ـ 170}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في تفسير هذا الإنفاق على قولين(16/126)
الأول : أن المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة سماه الله إنفاقاً كما سمى ذلك بيعاً وشراء في قوله {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} [ التوبة : 111 ] إلى قوله {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ} [ التوبة : 111 ] ومما يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [ آل عمران : 92 ] والمراد به جميع أعمال الخير وقوله تعالى : {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} [ البقرة : 188 ] والمراد جميع أنواع الانتفاعات.
والقول الثاني : وهو الأشبه أن المراد إنفاق الأموال ، والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم} [ آل عمران : 10 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 170}
فائدة
قال ابن عاشور :
ضَرَبَ لأعمالهم المتعلّقة بالأموال مثلاً ، فشبّه هيئة إنفاقهم المعجب ظاهرُها ، المخيِّببِ آخِرُها ، حين يحبطها الكفر ، بهيئة زرع أصابته ريح باردة فأهلكته ، تشبيه المعقول بالمحسوس.
ولمَّا كان التَّشبيه تمثيلياً لم يُتَوخ فيه مُوالاةُ ما شبّه به إنفاقهم لأداةِ التَّمثيل ، فقيل : كمثل ريح ، ولم يُقل : كمثل حَرْث قوم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 198}
فصل
قال الفخر :
قوله {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} المراد منه جميع الكفار أو بعضهم ، فيه قولان :(16/127)
الأول : المراد بالإخبار عن جميع الكفار ، وذلك لأن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبقَ منه أثر ألبتة في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر وإن كان لمنافع الآخرة لم ينتفع به في الآخرة لأن الكفر مانع من الانتفاع به ، فثبت أن جميع نفقات الكفار لا فائدة فيها في الآخرة ، ولعلّهم أنفقوا أموالهم في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل ، وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيراً كثيراً فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلاً لآثار الخيرات ، فكان كمن زرع زرعاً وتوقع منه نفعاً كثيراً فأصابته ريح فأحرقته فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف ، هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات ، أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه الخيرات لكنه كان من المعاصي مثل إنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم ، فالذي قلناه فيه أسد وأشد ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} [ الفرقان : 23 ] وقال : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [ الأنفال : 36 ] وقوله {والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [ النور : 39 ] فكل ذلك يدل على الحسنات من الكفار لا تستعقب الثواب ، وكل ذلك مجموع في قوله تعالى : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [ المائدة : 27 ] وهذا القول هو الأقوى والأصح.(16/128)
واعلم أنا إنما فسرنا الآية بخيبة هؤلاء الكفار في الآخرة ، ولا يبعد أيضاً تفسيرها بخيبتهم في الدنيا ، فإنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر وتحملوا المشاق ، ثم انقلب الأمر عليهم ، وأظهر الله الإسلام وقواه فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة.
والقول الثاني : المراد منه الإخبار عن بعض الكفار ، وعلى هذا القول ففي الآية وجوه
الأول : أن المنافقين كانوا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولكن على سبيل التقية والخوف من المسلمين ، وعلى سبيل المداراة لهم ، فالآية فيهم ،
الثاني : نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على الرسول عليه السلام
الثالث : نزلت في إنفاق سفلة اليهود على أحبارهم لأجل التحريف والرابع : المراد ما ينفقون ويظنون أنه تقرب إلى الله تعالى مع أنه ليس كذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 170 ـ 171}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في {الصر} على وجوه
الأول : قال أكثر المفسرين وأهل اللغة : الصر البرد الشديد وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد
والثاني : أن الصر : هو السموم الحارة والنار التي تغلي ، وهو اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر ابن الأنباري ، قال ابن الأنباري : وإنما وصفت النار بأنها {فِيهَا صِرٌّ} لتصويتها عند الالتهاب ، ومنه صرير الباب ، والصرصر مشهور ، والصرة الصيحة ومنه قوله تعالى : {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِى صَرَّةٍ} [ الذاريات : 29 ] وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما في {فِيهَا صِرٌّ} قال فيها نار ، وعلى القولين فالمقصود من التشبيه حاصل ، لأنه سواء كان برداً مهلكاً أو حراً محرقاً فإنه يصير مبطلاً للحرث والزرع فيصح التشبيه به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 171}(16/129)
فائدة
قال ابن عاشور :
وفي قوله { فيها صرّ } إفادة شدّة برد هذه الريح ، حتَّى كأنّ جنس الصر مظروف فيها ، وهي تحمله إلى الحرث.
والحرث هنا مصدر بمعنى المفعول : أي محروثَ قوم أي أرضاً محروثة والمراد أصابت زرعَ حرث.
وتقدّم الكلام على معاني الحرث عند قوله تعالى { والأنعام والحرث } [ آل عمران : 14 ] في أول السورة.
وقوله { ظلموا أنفسهم } إدماج في خلال التمثيل يكسب التمثيل تفظيعاً وتشويهاً وليس جُزءاً من الهيئة المشبّه بها.
وقد يذكر البلغاء مع المُشَبَّه به صفات لا يقصدون منها غير التحسين أو التقبيح كقول كعب بن زهير :
شُجَّت بذي شبم من ماء مَحْنيَة...
صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمول
تنفي الرّياحُ القذى عنه وأفرطهُ...
من صَوْب سَارِيَةٍ بيض يعاليل
فأجرى على الماء الذي هو جزء المشبّه به صفات لا أثر لها في التشبيه.
والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدّة ، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة ، وجيء بقوله { مثل ما ينفقون } غير معطوف على ما قبله لأنّه كالبيان لقوله { لن تغني عنهم أموالهم }.
وقوله { وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } الضمائر فيه عائدة على الذين كفروا.
والمعنى أنّ الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسبّبوا في ذلك ، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطاً في قبول الأعمال ، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلماً لهم ، وفيه إيذان بأنّ الله لا يخالف وعده من نفي الظلم عن نفسه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 198 ـ 199}
فصل
قال الفخر :(16/130)
المعتزلة احتجوا بهذه الآية على صحة القول بالإحباط ، وذلك لأنه كما أن هذه الريح تهلك الحرث فكذلك الكفر يهلك الإنفاق ، وهذا إنما يصح إذا قلنا : إنه لولا الكفر لكان ذلك الإنفاق موجباً لمنافع الآخرة وحينئذ يصح القول بالإحباط ، وأجاب أصحابنا عنه بأن العمل لا يستلزم الثواب إلا بحكم الوعد ، والوعد من الله مشروط بحصول الإيمان ، فإذا حصل الكفر فات المشروط لفوات شرطه ؛ لأن الكفر أزاله بعد ثبوته ، ودلائل بطلان القول بالإحباط قد تقدمت في سورة البقرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 171}
قوله تعالى : {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ}
سؤال : لم لم يقتصر على قوله {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} وما الفائدة في قوله {ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } ؟ .
قلنا : في تفسير قوله {ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} وجهان
الأول : أنهم عصوا الله فاستحقوا هلاك حرثهم عقوبة لهم ، والفائدة في ذكره هي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه شيء ، وحرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بالكلية ولا يحصل منه منفعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب بالكلية لأنه وإن كان يذهب صورة فلا يذهب معنى ، لأن الله تعالى يزيد في ثوابه لأجل وصول تلك الأحزان إليه
والثاني : أن يكون المراد من قوله {ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} هو أنهم زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقته ، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وعلى هذا التفسير يتأكد وجه التشبيه ، فإن من زرع لا في موضعه ولا في وقته يضيع ، ثم إذا أصابته الريح الباردة كان أولى بأن يصير ضائعاً ، فكذا ههنا الكفار لما أتوا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤم كفرهم امتنع أن لا يصير ضائعاً ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 171}(16/131)
قوله تعالى : {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
قال الفخر :
والمعنى أن الله تعالى ما ظلمهم حيث لم يقبل نفقاتهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث أتوا بها مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله تعالى ،
قال صاحب "الكشاف" : قرىء {ولكن} بالتشديد بمعنى ولكن أنفسهم يظلمونها ، ولا يجوز أن يراد ، ولكنه أنفسهم يظلمون على إسقاط ضمير الشأن ، لأنه لا يجوز إلا في الشعر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 171}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
والمثل : الشبه الذي يصير كالعلم ؛ لكثرة استعماله فيما يشبه به. و" ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية وما بعدها محذوف لاستكمال الشروط أي " ينفقونه ". وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم ، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع.
قوله : { كَمَثَلِ رِيحٍ } خبر المبتدأ ، وعلى هذا الظاهر - أعني : تشبيه الشيء المنفق بالريح - استشكل التشبيه ؛ لأن المعنى على تشبيهه بالحرث - أي : الزرع - لا بالريح ، وقد أجيب عن ذلك بوجوه :
أحدها : أنه من باب التشبيه المركب ، بمعنى أنه تقابل الهيئة المجتمعة بالهيئة المجتمعة ، وليس تقابل الأفراد بالأفراد كما مر في أول سورة البقرة عند قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ } وهذا اختيار الزمخشري.
ثانيها : أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين ، فذكر أحد المشبَّهين ، وترك ذكر الآخر وذكر أحد المشبهين به ، فقد حذف من كل اثنين ما يدل عليه نظيره ، كما مر في قوله تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ } [ البقرة : 171 ] ، وهو اختيار ابن عطية ، قال : " وهذا غاية البلاغة والإعجاز ".(16/132)
وثالثها : أنه على حذف مضاف ، إمَّا من الأول ، تقديره : مثل مهلك ما ينفقونه ، وإما من الثاني ، تقديره : كمثل مهلك ريح ، وهذا الثاني أظهر ؛ لأنه يؤدِّي - في الأول - إلى تشبيه الشيء المُنْفَق - المُهْلَك - بالريح ، وليس المعنى عليه ، ففيه عَوْدٌ لما فُرَّ منه.
وذكر أبو حيان التقدير المشار إليه ، ولم ينبه عليه اللهم إلا أن يريد بـ " مهلك " اسم مصدر ، أي : مثل إهلاك ما ينفقون ، ولكن يحتاج إلى تقدير مثل هذا المضاف - أيضاً - قبل " رِيح " تقديره : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح.
وقيل : التقدير : مثل الكفر - في إهلاك ما ينفقون - كمثل الريح المهلكة للحرث.
وقال ابن الخطيب : " لعل الإشارة في قوله : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ } إلى ما أنفقوا في إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم في جَمْع العساكر عليه ، فكان هذا الإنفاق مهلكاً لجميع ما أتَوْا به من أعمال البر والخير ، حينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار ، وتقديم وتأخير ، والتقدير : مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به - قبل ذلك - من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث ".
وهذا فيه نظر ؛ لأن الكفار لا يثبت لهم عملُ برٍّ ، حتى تحبطه النفقة المذكورة ، قال تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ].
وقد يمكن أن يجاب عنه بأنه إن كان المراد بالذين كفروا : أهل الكتاب ، فقد كانت لهم أعمال بر قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن كان المراد : المشركين ، فلا يُحْكَم عليهم إلا بعد البعثة ، قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ].(16/133)
ويجوز في " ما " أن تكون موصولة اسمية ، وعائدها محذوف - أي : مثل ما ينفقونه - وأن تكون ما مصدرية ، وحينئذ يكون قد شبه إنفاقهم - في عدم نفعه - بالريح الموصوفة بهذه الصفة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.
قوله : { فِيهَا صِرٌّ } في محل جر ، نعتاً لـ " ريح " ، ويجوز أن يكون { فِيهَا صِرٌّ } : جملة من مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون " فيها " - وحده - هو الصفة ، و" صِرٌّ " فاعل له - وجاز ذلك ؛ لاعتماد الجار على الموصوف - وهذا أحسن ؛ لأن الأصل في الأوصاف : الإفراد ، وهذا قريب منه.
والصِّرّ : قال ابْنُ عبَّاسٍ ، وقَتَادَةُ ، والسُّدِّيُّ ، وابْنُ زَيْدٍ ، وأكثر أهل اللغة : إنه البرد الشديد ، المحْرِق.
قال الشاعر : [ البسيط ]
لا تَعْدِلِينَ أتَاوِيِّينَ تَضْربُهُمْ... نَكْبَاءُ صِرٌّ بِأصْحَابِ الْمُحِلاَّتِ
وقيل : الصِّرُّ بمعنى : الصرصر - وهو البرد-.
قالت ليلى الأخيلية : [ الطويل ]
وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلأ الْ... جِفَانَ سَرِيعاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ
مأخوذ من الشد والتعقيد ، ومنه الصُّرَّة - للعُقْدة - وأصَرَّ على كذا : لَزِمَه.
وقال أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ ، وابْنُ الأنْبَارِي : هي السَّمُومُ الحَارَّة.
وقال الزجاج : الصَّرْصَر : صوت لهيب النار - في الريح - من صَرَّ الشيءُ ، يَصِرُّ ، صَريراً - أي : صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروف ، ومنه صرير الباب ، والصرة : الصيحة ، قال تعالى : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ].
(16/134)
وروى ابْنُ الأنْبَارِيِّ - بإسناده - عن ابْنِ عَبَّاسٍ ، في قوله : { فِيهَا صِرٌّ } قال : فيها نار. وعلى القولين ، فالمقصود من التشبيه حاصل ؛ لأنه - سواء كان بَرْداً مُهْلِكاً ، أو حَرًّا مُحْرِقاً - يبطل الحرث والزرع ، وإذا عُرِف هذا ، فإن قلنا : الصِّرّ : البَرْد الشديد ، أو هو صوت النار ، أو هو صوت الريح ، فَظَرْفِيَّة الريح له واضحة ، وإن كان الصِّرُّ صفة الريح - كالصرصر - فالمعنى : فيها قِرَّة صر - كما تقول : برد بارد - وحُذِفَ الوصوف ، وقامت الصفة مقامه ، أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة.
كقوله : [ الوافر ]
...................... وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي
ومنه قوله : إن ضيعني فلان ، ففي الله كافٍ ، المعنى : الرحمن كافٍ ، الله كافٍ ، وهذا فيه بُعْد.
قوله : " أصَابَتْ " هذه الجملة في محل جَرّ - أيضاً - صفة لـ " رِيح ".
ولا يجوز أن يكون صفة لـ " صر " ؛ لأنه مذكَّر ، وبدأ أولاً بالوَصْف بالجار ؛ لأنه قريب من المفرد ، ثم بالجملة ، هذا إن أعربنا " فِيهَا " - وحده - صفة ، ورفعنا به " صِرٌّ " ، أما إذا أعربناه خبراً مقدماً ، أو " صِرٌّ " مبتدأ ، فهما جملة - أيضاً-.
(16/135)
قوله : { ظَلَمُوا } صفة لـ " قوم " ، والضمير في { ظَلَمَهُمُ } يعود على القوم ذوي الحرث ، أي : ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصي التي كانت سبباً في إهلاكهم ؛ أو لأنهم زرعوا في غير موضع الزرع ، أو في غير وقته ؛ لأن الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وبهذا يتأكد وَجْه الشبه ؛ لأن الزرع - لا في موضعه ، ولا في وقته - يضيع ، ثم أصابته الريح الباردة ، فكان أولى بالضياع ، وكذا - هاهنا - الكفار لما أتَوْا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤمُ كُفْرِهم ، فصار ضائعاً ، والله أعلم.
وجوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره : أن يعود الضمير على المنفقين ، وإليه نَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ ، ورجحه بأن أصحاب الحرث لم يُذْكَروا للرد عليهم ، ولا لتبيين ظلمهم ، بل لمجرد التشبيه.
وقوله : { ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } العامَّة على تخفيف " لكن " ، وهي استدراكية ، و" أنْفُسَهُمْ " مفعول مقدَّم ، قُدِّم للاختصاص ، أي : لم يقع وبالُ ظلمهم إلاَّ بأنفسهم خاصَّة ، لا يتخطاهم ، ولأجل الفواصل - أيضاً -.
وقرأها بعضُهم مشدَّدة ، ووجهها أن تكون " أنْفُسَهُمْ " اسمها ، و" يَظْلِمُونَ " الخبر ، والعائد من الجملة الخبريَّة على الاسم محذوف ، تقديره : ولكن أنفسهم يظلمونها ، فحذف ، وحسَّنَ حذفَه كَوْنُ الفعلِ فاصلة ، فلو ذكر مفعوله ، لفات هذا الغرض.
وقد خرجه بعضهم على أن يكون اسمها ضمير الأمر والقصة - حُذِفَ للعلم به ، و" أنْفُسَهُمْ " مفعول مقدم لـ " يَظْلِمُونَ " كما تقدم والجملة خبر لها.
وقد رُدَّ هذا بأن حذف اسم هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة.
كقوله : [ الخفيف ]
إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الْكَنِيسَةَ يَوْماً... يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وَظِبَاءَ(16/136)
على أن بعضهم لا يُقصره على الضرورة ، مستشهداً بقوله - عليه السلام- : " إنَّ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرون ".
قال : تقديره : إنه ، ويعزى هذا للكسائي.
وقد ردَّه بعضُهم ، وخرَّج الحديثَ على زيادة " من " والتقدير : إن أشد الناس.
والبصريون لا يُجِيزون زيادة " من " في مثل هذا التركيب لما تقدم وإنما يُجيزها الأخفش. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 483 ـ 487}. بتصرف يسير.
من فوائد ابن عطية فى الآية
قال رحمه الله :
وقوله تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } الآية ، معناه : المثال القائم في النفوس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثوراً ، وذهابه كالمثال القائم في النفوس من زرع قوم نبت واخضرّ وقوي الأمر فيه فهبت عليه { ريح فيها صر } محرق فأهلكته ، فوقع التشبيه بين شيئين وشيئين ، ذكر الله عز وجل أحد الشيئين المشبهين وترك ذكر الآخر ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازي المذكور الأول ، وترك ذكر الآخر ، ودل المذكور أن على المتروكين ، وهذه غاية البلاغة والإيجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع } [ البقرة : 171 ] ، وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، " تنفقون " بالتاء على معنى قل لهم يا محمد ، و{ مثل } رفع بالابتداء وخبره في محذوف به تتعلق الكاف من قوله { كمثل } ، و{ ما } بمعنى الذي وجمهور المفسرين على أن { ينفقون } يراد به الأموال التي كانوا ينفقونها في التحنث وفي عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك عندهم قربة ، وقال السدي : { ينفقون } معناه من أقوالهم التي يبطنون ضدها.(16/137)
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأنه يقتضي أن الآية في منافقين والآية إنما هي في كفار يعلنون مثل ما يبطنون ، وذهب بعض المفسرين إلى أن { ينفقون } يراد به أعمالهم من الكفر ونحوه ، أي هي " كالريح التي فيها صر " ، فتبطل كل ما لهم من صلة رحم وتحنث بعتق ونحوه ، كما تبطل الريح الزرع ، وهذا قول حسن لولا بعد الاستعارة في الإنفاق ، و" الصر " البرد الشديد ، المحرق لكل ما يهب عليه وهو معروف قال ابن عباس وجمهور المفسرين : " الصر " البرد ، وتسميه العرب الضريب ، وذهب الزجّاج وغيره : إلى أن اللفظة من التصويت ، من قولهم صر الشيء ، ومنه الريح الصرصر ، قال الزجاج ، فالصر صوت النار التي في الريح.
قال القاضي : " الصر " هو نفس جهنم الذي في الزمهرير يحرق نحواً مما تحرق النار ، و" الحرث " شامل للزرع والثمار ، لأن الجميع مما يصدر عن إثارة الأرض ، وهي حقيقة الحرث ، ومنه الحديث لا زكاة إلا في عين أو حرث أو ماشية ، وقال عز وجل : { ظلموا أنفسهم } فما بال هذا التخصيص والمثل صحيح ، وإن كان الحرث لمن لم يظلم نفسه ؟ فالجواب أن ظلم النفس في هذه الآية تأوله جمهور المفسرين بأنه ظلم بمعاصي الله ، فعلى هذا وقع التشبيه بحرث من هذه صفته ، إذ عقوبته أوخى واخذ الله له أشد والنقمة إليه أسرع وفيه أقوى ، كما روي في جوف العير وغيره ، وأيضاً فمن أهل العلم من يرى أن كل مصائب الدنيا فإنما هي بمعاصي العبيد ، وينتزع ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على قوله : إن كل حرث تحرقه ريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه ، وذهب بعض الناس ونحا إليه المهدوي : إلى أن قوله تعالى : { حرث قوم ظلموا أنفسهم } معناه زرعوا في غير أوان الزرعة.(16/138)
قال أبو محمد : وينبغي أن يقال في هذا : { ظلموا أنفسهم } بأن وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل ، ويخص هؤلاء بالذكر لأن الحرق فيما جرى هذا المجرى أو عب وأشد تمكناً ، وهذا المنزع يشبه من جهة ما قول امرىء القيس : [ المتقارب ]
وسالفة كَسحوقِ اللَّيا... نِ أَضرِمَ فيها الغويُّ السعرُ
فخصص الغويّ لأنه يلقي النار في النخلة الخضراء الحسنة التي لا ينبغي أن تحرق ، فتطفىء النار عن نفسها رطوبتها بعد أن تتشذب وتسود ، فيجيء الشبه حسناً ، والرشيد لا يضرم النار إلا فيما يبس واستحق فهو يذهب ولا يبقى منه ما يشبه به ، والضمير في { ظلمهم } للكفار الذين تقدم ضميرهم في { ينفقون } وليس هو للقوم ذوي الحرث لأنهم لم يذكروا ليرد عليهم ، ولا ليبين ظلمهم وأيضاً فقوله : { ولكن أنفسهم يظلمون } ، يدل على فعل الحال في حاضرين. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 494 ـ 495}(16/139)
ومن فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياة الدنيا } كالدليل لعدم إغناء الأموال ، ولعل عدم بيان إغناء الأولاد ظاهر لأنهم إن كانوا كفاراً وهو الظاهر كان حكمهم وإن كانوا مسلمين كانوا عليهم لا لهم في الدنيا ، وبغضهم لهم في الآخرة { يَوْمَ تبلى السرائر } [ الطارق : 9 ] و{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } [ القلم : 42 ] وتبريهم منهم حين يفر المرء من أمه وأبيه أظهر من أن يخفى ، وما موصولة والعائد محذوف أي ينفقونه والإشارة للتحقير ، والمراد تمثيل جميع صدقات الكفار ونفقاتهم كيف كانت وهو المروي عن مجاهد وقيل : مثل لما ينفقه الكفار مطلقاً في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لما أنفقه قريش يوم بدر وأحد لما تظاهروا عليه عليه الصلاة والسلام ، وقيل : لما أنفقه سفلة اليهود على علمائهم المحرفين أي حال ذلك وقصته العجيبة.
{ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي برد شديد قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة ، وقال الزجاج الصر صوت لهيب النار وقد كانت في تلك الريح ، وقيل أصل الصر كالصرصر الريح الباردة ، وعليه يكون معنى النظم ريح فيها ريح باردة وهو كما ترى محتاج إلى التوجيه ، وقد ذكر فيه أنه وارد على التجريد كقوله :
ولولا ذاك قد سومت مهري... وفي الرحمن للضعفاء كاف(16/140)
أي هو كاف ومنع بعضهم كونه في الأصل الريح الباردة وإنما هو مصدر بمعنى البرد كما قال الحبر واستعماله فيما ذكر مجاز وليس بمراد ، وقيل : إنه صفة بمعنى بارد إلا أن موصوفه محذوف أي برد بارد فهو من الإسناد المجازي كظل ظليل وفيه بعد لأن المعروف في مثله ذكر الموصوف وأما حذفه وتقديره فلم يعهد ، وقيل : هو في الأصل صوت الريح الباردة من صر القلم والباب صريراً إذا صوت ، أو من الصرة الضجة والصيحة وقد استعمل هنا على أصله ، وفيه أن هذا المعنى مما لم يعهد في الاستعمال ، والريح واحدة الرياح ، وفي "الصحاح" والأرياح ، وقد تجمع على أرواح لأن أصلها الواو ، وإنما جاءت بالياء لانكسار ما قبلها فإذا رجعوا إلى الفتح عادت إلى الواو كقولك : أروح الماء وتروحت بالمروحة ، ويقال أيضاً : ريح وريحة كما قالوا : دار ودارة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى للعلماء من الكلام في هذا المقام ، وأفرد الريح لما في "البحر" أنها مختصة بالعذاب والجمع مختص بالرحمة ولذلك روي اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً.(16/141)
{ أَصَابَتْ حَرْثَ } أي زرع. { قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر والمعاصي فباءوا بغضب من الله تعالى وإنما وصفوا بذلك لما قيل : إن الإهلاك عن سخط أشد وأفظع أو لأن المراد الإشارة إلى عدم الفائدة في الدنيا والآخرة وهو إنما يكون في هلاك مال الكافر وأما غيره فقد يثاب على ما هلك له لصبره ، وقيل : المراد ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير وقتها { فَأَهْلَكَتْهُ } عن آخره ولم تدع له عيناً ولا أثراً عقوبة لهم على معاصيهم ، وقيل : تأديباً من الله تعالى لهم في وضع الشيء في غير موضعه الذي هو حقه وهذا من التشبيه المركب الذي توجد فيه الزبدة من الخلاصة والمجموع ولا يلزم فيه أن يكون ما يلي الأداة هو المشبه به كقوله تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ } [ يونس : 24 ] وإلا لوجب أن يقال : كمثل حرث لأنه المشبه به المنفق ، وجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمهلك ريح والمهلك اسم مفعول هو الحرث ، والوجه عند كونه مركباً قلة الجدوى والضياع ، ويجوز أن يكون من التشبيه المفرق فيشبه إهلاك الله تعالى بإهلاك الريح ، والمنفق بالحرث وجعل الله تعالى أعمالهم هباءاً منثوراً بما في الريح الباردة من جعله حطاماً ، وقرىء تنفقون بالتاء.(16/142)
{ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } الضمير إما للمنفقين أي ما ظلمهم بضياع نفقاتهم التي أنفقوها على غير الوجه اللائق المعتدّ به ، وإما للقوم المذكورين أي ما ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه لأنهم استحقوا ذلك وحينئذ يكون هذا النفي مع قوله تعالى : { ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } تأكيداً لما فهم من قبل إشعاراً وتصريحاً ، وقرىء ( ولكن ) بالتشديد على أن ( أنفسهم ) اسمها ، وجملة يظلمون خبرها والعائد محذوف ، والتقدير يظلمونها وليس مفعولاً مقدماً كما في قراءة التخفيف ، واسمها ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلاّ في الشعر كقوله :
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه... ولكن من يبصر جفونك يعشق
وتعين حذفه فيه لمكان من الشرطية التي لا تدخل عليها النواسخ وتقديم { أَنفُسِهِمْ } على الفعل للفاصلة لا للحصر وإلا لا يتطابق الكلام لأن مقتضاه وما ظلمهم الله ولكن هم يظلمون أنفسهم لا أنهم يظلمون أنفسهم لا غيرهم وهو في الحصر لازم ، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 36 ـ 37}(16/143)
فصل
قال الطبرى فى معنى الآية :
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : شَبَهُ ما ينفق الذين كفروا ، أي : شَبَهُ ما يتصدق به الكافر من ماله ، فيعطيه من يعطيه على وجه القُربة إلى ربّه وهو لوحدانية الله جاحد ، ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذب ، في أن ذلك غير نافعه مع كفره ، وأنه مضمحلّ عند حاجته إليه ، ذاهبٌ بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه كشبه ريح فيها برد شديد ، أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد "حرثَ قوم" ، يعني : زرع قوم قد أمَّلوا إدراكه ، ورجَوْا رَيْعه وعائدة نفعه "ظلموا أنفسهم" ، يعني : أصحاب الزرع ، عصوا الله ، وتعدَّوا حدوده "فأهلكته" ، يعني : فأهلكت الريح التي فيها الصرُّ زرعهم ذلك ، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم.
يقول تعالى ذكره : فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته ، حين يلقاه ، يبطل ثوابها ويخيب رجاؤه منها. وخرج المثَل للنفقة ، والمراد بـ "المثل" صنيع الله بالنفقة ، فبيَّن ذلك قوله : "كمثل ريح فيها صرٌّ" ، فهو كما قد بيّنا في مثله قوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) [سورة البقرة : 17] وما أشبه ذلك.
فتأويل الكلام ، : مثل إبطال الله أجرَ ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ، كمثل ريح فيها صر. وإنما جاز ترك ذكر"إبطال الله أجر ذلك" ، لدلالة آخر الكلام عليه ، وهو قوله : "كمثل ريح فيها صرٌّ" ، ولمعرفة السامع ذلك معناه.
قوله : { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) }(16/144)
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم ، من إحباطه ثواب أعمالهم وإبطاله أجورها ظلمًا منه لهم يعني : وضعًا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله ، بل وضَع فعله ذلك في موضعه ، وفعل بهم ما هم أهله. لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله وهم له بالوحدانية دائنون ، ولأمره مُتبعون ، ولرسله مصدقون ، بل كان ذلك منهم وهم به مشركون ، ولأمره مخالفون ، ولرسله مكذبون ، بعد تقدُّم منه إليهم أنه لا يقبل عملا من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له ، والإقرار بنبوة أنبيائه ، وتصديق ما جاءوهم به ، وتوكيده الحجج بذلك عليهم. فلم يكن بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك بعد
الإعذار إليه ، من إحباط وَفْر عمله له ظالمًا ، بل الكافرُ هو الظالم نفسه ، لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره ، ما أوردها به نار جهنم ، وأصلاها به سعير سقَرَ. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 134 ـ 138}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
ما وجدوا ميراث ما بذلوا لغير الله إلا حسراتٍ متتابعة ، وما حصلوا من حسباناتهم إلا على محن مترادفة ، وذلك جزاء من أعرض وتولّى. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 272}(16/145)
قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)}
مناسبة الآيتين لما قبلهما
قال البقاعى :
ولما كان الجمال بالمال لا سيما مع الإنفاق من أعظم المرغبات في الموالاة ، وكانت هذه الآية قد صيرت جميلة قبيحاً وبَذوله شحيحاً ؛ قال سبحانه وتعالى - مكرراً التنبيه على مكر ذوي الأموال والجمال الذين يريدون إيقاع الفتنة بينهم من اليهود والمنافقين ليضمحل أمرهم وتزول شوكتهم : {يا أيها الذين آمنوا} أي إيماناً صحيحاً مصدقاً ادعاؤه بالعمل الصالح الذي من أعظمه الحب في الله والبغض في الله {لا تتخذوا بطانة} أي من تباطنونهم بأسراركم وتختصونهم بالمودة والصفاء ومبادلة المال والوفاء {من دونكم} أي ليسوا منكم أيها المؤمنون ، وعبر بذلك إعلاماً بأنهم يهضمون أنفسهم وينزلونها عن علّي درجتها بموادتهم.
ثم وصفهم تعليلاً للنهي بقوله : {لا يألونكم خبالاً} أي يقصرون بكم من جهة الفساد ، ثم بين ذلك بقوله على سبيل التعليل أيضاً : {ودّوا ما عنتم} أي تمنوا مشقتكم.(16/146)
ولما كان هذا قد يخفى بيَّنه بقوله معللاً : {قد بدت البغضاء من أفواههم} أي هي بينة في حد ذاتها مع اجتهادهم في إخفائها ، لأن الإنسان إذا امتلأ من شيء غلبه بفيضه ، ولكنكم لحسن ظنكم وصفاء نياتكم لا تتأملونها فتأملوا.
ثم أخبر عن علمه سبحانه قطعاً وعلم الفطن من عباده بالقياس ظناً بقوله : {وما تخفي صدورهم أكبر} مما ظهر على سبيل الغلبة.
ثم استأنف على طريق الإلهاب والتهييج قوله : {قد بيَّنا} أي بما لنا من العظمة {لكم} أي بهذه الجمل {الآيات} أي الدالات على سعادة الدارين ومعرفة الشقي والسعيد والمخالف والمؤالف.
وزادهم إلهاباً بقوله : {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {تعقلون} ثم استانف الإخبار عن ملخص حالهم معهم فقال منبهاً أو مبدلاً الهاء من همزة الإنكار : {ها أنتم أولاء} أي المؤمنون المسلمون المستسلمون {تحبونهم} أي لاغتراركم بإقرارهم بالإيمان لصفاء بواطنكم {ولا} أي والحال أنهم لا {يحبونكم} لمخالفتهم لكم في الدين ، فإنهم كاذبون في إقرارهم بالإيمان {وتؤمنون} أي أنتم {بالكتاب كله} أي ويكفرون هم به كله ، إما بالقصد الأول وإما بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض {وإذا لقوكم قالوا} أي لكم {آمنا} لتغتروا بهم {وإذا خلوا} أي منكم ، وصوّر شدة حنقهم بقوله : {عضّوا عليكم} لما يرون من ائتلافكم وحسن أحوالكم {الأنامل من الغيظ} أي المفرط منكم ، ومن جعل الهاء في {ها أنتم} بدلاً عن همزة الاستفهام فالمراد عنده : أأنتم يا هؤلاء القرباء مني تحبونهم والحال أنهم على ما هم عليه من منابذتكم وأنتم على ما أنتم عليه من الفطنة بصفاء الأفكار وعليّ الآراء بقبولكم الحق كله ، لأن المؤمن كيس فطن ؛ فهو استفهام - وإن كان من وادي التوبيخ - المراد به التنبيه والتهييج المنقل من سافل الدركات إلى عالي الدرجات - والله الموفق.
(16/147)
ولما كانوا كأنهم قالوا : فما نفعل ؟ قال مخاطباً للرأس المسموع الأمر المجاب الدعاء : {قل} أي لهم {موتوا بغيظكم} أي ازدراء بهم ودعاء عليهم بدوام الغيظ من القهر وزيادته حتى يميتهم.
ولما كانوا يحلفون على نفي هذا ليرضوهم قال تعالى مؤكداً لما أخبر به لئلا يظن أنه أريد به غير الحقيقة : {إن الله} أي الجامع لصفات الكامل {عليم بذات الصدور} أي فلا تظنوا أنه أراد بعض ما يتجوز بالغيظ عنه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 141 ـ 142}
وقال ابن عاشور :
الآن إذ كشف الله دخائل مَنْ حولَ المسلمين من أهل الكتاب ، أتمّ كشف ، جاء موقع التحذير من فريق منهم ، والتحذير من الاغترار بهم ، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة ، وهؤلاء هم المنافقون ، للإخبار عنهم بقوله : { وإذا لقوكم قالوا آمنا } [ آل عمران : 119 ] الخ...
وأكثرهم من اليهود ، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج.
وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والإقناعات.
وحقّه الاستئناف الابتدائي كما هنا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 199}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم ؟ على أقوال :
الأول : أنهم هم اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظناً منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه ، وحجة أصحاب هذا القول أن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مخاطبة مع اليهود فتكون هذه الآية أيضاً كذلك(16/148)
الثاني : أنهم هم المنافقون ، وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية ، فالله تعالى منعهم عن ذلك ، وحجة أصحاب هذا القول أن ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} [ آل عمران : 119 ] ومعلوم أن هذا لا يليق باليهود بل هو صفة المنافقين ، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة : {وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِؤن} [ البقرة : 14 ]
الثالث : المراد به جميع أصناف الكفار ، والدليل عليه قوله تعالى : {بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ} فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهياً عن جميع الكفار وقال تعالى : {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [ الممتحنة : 1 ] ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : ههنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظاً ولا أحسن خطاً منه ، فإن رأيت أن تتخذه كاتباً ، فامتنع عمر من ذلك وقال : إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين ، فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي عن اتخاذ بطانة ، وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية ، فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاماً وآخرها إذا كان خاصاً لم يكن خصوص آخر الآية مانعاً من عموم أولها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 172}
فصل
قال الفخر : (16/149)
قال أبو حاتم عن الأصمعي : بطن فلان بفلان يبطن به بطوناً وبطانة ، إذا كان خاصاً به داخلاً في أمره ، فالبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع ، وبطانة الرجل خاصته الذين يبطنون أمره وأصله من البطن خلاف الظهر ، ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته ، والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد التقريب يسمى بطانة لأنه بمنزلة ما يلي بطنه في شدة القرب منه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 172}
فائدة
قال الفخر :
قوله تعالى : {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} نكرة في سياق النفي فيفيد العموم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 173}
قوله تعالى {مّن دُونِكُمْ}
قال الفخر :
من دونكم أي من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم ولفظ {مّن دُونِكُمْ} يحسن حمله على هذا الوجه كما يقول الرجل : قد أحسنتم إلينا وأنعمتم علينا ، وهو يريد أحسنتم إلى إخواننا ، وقال تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} [ آل عمران : 21 ] أي آباؤهم فعلوا ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 173}
فصل
قال القرطبى :
نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين بهذه الآية أن يَتَّخِذوا من الكفار واليهود وأهل الأهْوَاء دُخَلاءَ ووُلَجاء ، يفاوضونهم في الآراء ، ويسندون إليهم أمورهم.
ويُقال : كل من كان على خلاف مَذْهَبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه ؛ قال الشاعر :
عن الْمَرءِ لاَ تَسْألْ وَسَلْ عن قَرِينهِ . . .
فَكلُّ قَرِينٍ بِالمُقارن يَقْتَدِي
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " وروي عن ابن مسعود أنه قال : اعتبروا الناس بإخوانهم.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 178 ـ 179}
فائدة
قال الفخر :
في قوله {مّن دُونِكُمْ} احتمالان
أحدهما : أن يكون متعلقاً بقوله {لاَ تَتَّخِذُواْ} أي : لا تتخذوا من دونكم بطانة(16/150)
والثاني : أن يجعل وصفاً للبطانة والتقدير : بطانة كائنات من دونكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 173}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { مِّن دُونِكُمْ } أي من سواكم.
قال الفرّاء : { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ } أي سِوى ذلك.
وقيل : { مِن دُونِكم } يعني في السير وحسن المذهب.
ومعنى { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } لا يقصِّرون فيما فيه الفسادُ عليكم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 180}
سؤال : فإن قيل : ما الفرق بين قوله : لا تتخدوا من دونكم بطانة ، وبين قوله {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ} ؟ .
قلنا : قال سيبويه : إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وههنا ليس المقصود اتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة فكان قوله : لا تتخذوا من دونكم بطانة أقوى في إفادة المقصود. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 173}
فائدة
قال الفخر :
قيل {مِنْ} زائدة ، وقيل للنبيّين : لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 173}
فصل
قال القرطبى :
بيّن تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } يقول فساداً.
يعني لا يتركون الجهد في فسادكم ، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة ، على ما يأتي بيانه.
وروي عن أبي أمَامَة " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } قال : "هم الخوارج" " ورُوي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذِمّياً فكتب إليه عمر يعنِّفه وتلا عليه هذه الآية.(16/151)
وقدِم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه ، وجاء عمر كتابٌ فقال لأبي موسى : أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ؟ فقال : إنه لا يدخل المسجد.
فقال : لِم أجُنُبٌ هو ؟ قال : إنه نصراني ؛ فانتهره وقال : لا تُدْنِهم وقد أقصاهم الله ، ولا تُكرمهم وقد أهانهم الله ، ولا تَأْمَنهم وقد خوّنهم الله.
وعن عمر رضي الله عنه قال : لا تستعملوا أهل الكتاب إنهم يستحلون الرُّشا ، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى.
وقيل لعمر رضي الله عنه : إن هاهنا رجلاً من نصارى الحِيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك ؟ فقال : لا آخذ بِطانة من دون المؤمنين.
فلا يجوز استكتاب أهل الذِّمة ، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم.
قلت : وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأمناء وتَسوَّدُوا بذلك عند الجَهَلة الأغْبِياء من الوُلاة والأمراء.
روى البخاريّ عن أبي سعيدٍ الخدرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " ما بعث الله مِن نبيّ ولا استخلف مِن خليفةٍ إلاَّ كانت له بِطانتانِ بِطانة تأمره بالمعروف وتحضُّه عليه وبِطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه فالمعصوم من عَصَمَ اللَّهُ تعالى " وروى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تستضِيئوا بِنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عَرَبِيّاً " فسّره الحسن بن أبي الحسن فقال : أراد عليه السَّلام لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمداً.
قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب اللَّهِ عزّ وجلّ : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } الآية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 179 ـ 180}
(16/152)
سؤال : فإن قيل : هذه الآية تقتضي المنع من مصاحبة الكفار على الإطلاق ، وقال تعالى : {لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ} [ الممتحنة : 8 ] {إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم} [ الممتحنة : 9 ] فكيف الجمع بينهما ؟
قلنا : لا شك أن الخاص يقدم على العام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 173}
فصل فى سبب نزول الآية
قال السمرقندى :
نزلت الآية في شأن جماعة من الأنصار ، كانت بينهم وبين اليهود مواصلة وخاصية ، وكانوا على ذلك بعد الإسلام ، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك.
ويقال : كل من كان على خلاف مذهبه ودينه لا ينبغي له أن يحادثه ، لأنه يقال في المثل :
عن المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قرينه.
.. فَإِنَّ القَرِينَ بالمقارن يَقْتَدِي. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 266}
وقال الآلوسى
{ يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ } أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الآية ، (16/153)
وأخرج عبد بن حميد أنها نزلت في المنافقين من أهل المدينة نهي المؤمنون أن يتولوهم ، وظاهر ما يأتي يؤيده ، والبطانة خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره مأخوذ من بطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن لقربه وهي نقيض الظهارة ويسمى بها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث و( من ) متعلقة بـ لا تتخذوا أو بمحذوف وقع صفة لبطانة ، وقيل : زائدة ، و( دون ) إما بمعنى غير أو بمعنى الأدون والدنيء ، وضمير الجمع المضاف إليه للمؤمنين والمعنى لا تتخذوا الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواص من غير المؤمنين أو ممن لم تبلغ منزلته منزلتكم في الشرف والديانة ، والحكم عام وإن كان سبب النزول خاصاً فإن اتخاذ المخالف ولياً مظنة الفتنة والفساد ولهذا ورد تفسير هذه البطانة بالخوارج. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 37}
قوله تعالى : {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}
فصل
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" : يقال ( ألا ) في الأمر يألوا ، إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحاً ، ولا آلوك جهداً على التضمين ، والمعنى لا أمنعك نصحاً ولا أنقصك جهداً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 173}
فصل
قال الفخر :
الخبال : الفساد والنقصان ، وأنشدوا :
لستم بيد إلا يداً أبدا مخبولة العضد.. أي : فاسدة العضد منقوضتها ، ومنه قيل : رجل مخبول ومخبل ومختبل لمن كان ناقص العقل ، وقال تعالى : {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [ التوبة : 47 ] أي فساداً وضرراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 173}
فائدة
قال الفخر :
قوله {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادكم ، يقال : ما ألوته نصحاً ، أي ما قصرت في نصيحته ، وما ألوته شراً مثله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 173}(16/154)
قوله تعالى : {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ}
فصل
قال الفخر :
ما مصدرية كقوله {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [ غافر : 75 ] أي بفرحكم ومرحكم وكقوله {والسماء وَمَا بناها * والأرض وَمَا طحاها} [ الشمس : 5 ، 6 ] أي بنائه إياها وطحيه إياها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 174}
فائدة
قال أبو حيان :
وقال الراغب : المعاندة والمعانتة يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة أن تتحرّى مع الممانعة المشقة انتهى.
ويقال : عِنت بكسر النون ، وأصله انهياض العظم بعد جبره. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 42}
قال الفخر :
تقدير الآية : أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 174}
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي رحمه الله : لا محل لقوله {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} لأنه استئناف بالجملة وقيل : إنه صفة لبطانة ، ولا يصح هذا لأن البطانة قد وصفت بقوله {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} فلو كان هذا صفة أيضاً لوجب إدخال حرف العطف بينهما. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 174}
فصل
قال الفخر :
الفرق بين قوله {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} وبين قوله {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} في المعنى من وجوه
الأول : لا يقصرون في إفساد دينكم ، فإن عجزوا عنه ودوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر
الثاني : لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا ، فإذا عجزوا عنه لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم
والثالث : لا يقصرون في إفساد أموركم ، فإن لم يفعلوا ذلك لمانع من خارج ، فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 174}
قوله تعالى : {قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم}
فصل
قال الفخر : (16/155)
الأفواه جمع الفم ، والفم أصله فوه بدليل أن جمعه أفواه ، يقال : فوه وأفواه كسوط وأسواط ، وطوق وأطواق ، ويقال رجل مفوه إذا أجاد القول ، وأفوه إذا كان واسع الفم ، فثبت أن أصل الفم فوه بوزن سوط ، ثم حذفت الهاء تخفيفاً ثم أقيم الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 174}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم.
والبغضاء : البغض ، وهو ضدّ الحُبِّ.
والبغضاء مصدر مؤنث.
وخصّ تعالى الأفواه بالذِّكر دون الألسنة إشارةً إلى تَشدُّقهم وثَرْثَرَتهم في أقوالهم هذه ، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه.
ومن هذا المعنى نهيه عليه السَّلام أن يشتحِي الرجل فاه في عِرض أخيه.
معناه أن يفتح ؛ يُقال : شحى الحمار فاه بالنهيق ، وشحى الفَمُ نفسه.
وشحى اللِّجَامُ فمَ الفرس شَحْياً ، وجاءت الخيل شَواحِيَ : فاتحاتٍ أفواهَها.
ولا يفهم من هذا الحديث دليلُ خطاب على الجواز فيأخذ أحدٌ في عِرض أخيه هَمْساً ؛ فإن ذلك يُحرمُ باتفاق من العلماء.
وفي التنزيل { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } [ الحجرات : 12 ] الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم : " إن دِماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام " فذِكر الشَّحْو إنما هو إشارة إلى التشدّق والانبساط ، فاعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 180 ـ 181}
وقال النسفى :
{ قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم } لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضه للمسلمين. أ هـ {تفسير النسفى حـ 1 صـ 174}(16/156)
وقال الطبرى :
قوله تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ }
يعني بذلك جل ثناؤه : قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون ، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم "من أفواههم" ، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم ، إقامتهم على كفرهم ، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمونَ من الضلالة. فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان ، لأن ذلك عداوة على الدين ، والعداوة على الدين العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما ، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك. فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين ، ومقامهم عليه ، أبينُ الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة.
وقد قال بعضهم : معنى قوله : "قد بدت البغضاء من أفواههم" ، قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان ، إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر ، بإطلاع بعضهم بعضًا على ذلك. وزعم قائلو هذه المقالة أنّ الذين عنوا بهذه الآية أهل النفاق ، دون من كان مصرحًا بالكفر من اليهود وأهل الشرك. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 145}
فصل
قال الفخر :
قوله {قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم} إن حملناه على المنافقين ففي تفسيره وجهان
الأول : أنه لا بد في المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقتة لطريق المخالصة في الود والنصيحة ، ونظيره قوله تعالى : {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول} [ محمد : 30 ](16/157)
الثاني : قال قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك ، أما إن حملناه على اليهود فتفسير قوله {قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم} فهو أنهم يظهرون تكذيب نبيّكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق ، ومن اعتقد في غيره الإصرار على الجهل والحمق امتنع أن يحبه ، بل لا بد وأن يبغضه ، فهذا هو المراد بقوله {قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 174}
قال الآلوسى :
{ قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم } أي ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم وفحوى كلماتهم لأنهم لشدة بغضهم لكم لا يملكون أنفسهم ولا يقدرون أن يحفظوا ألسنتهم ، وقال قتادة : ظهور ذلك فيما بينهم حيث أبدى كل منهم ما يدل على بغضه للمسلمين لأخيه ، وفيه بعد إذ لا يناسبه ما بعده. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 38}
فصل
قال القرطبى :
وفي هذه الآية دليل على أن شهادة العدوّ على عدوّه لا يجوز ، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز ؛ ورُوي عن أبي حنيفة جواز ذلك.
وحكى ابن بَطّال عن ابن شعبان أنه قال : أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدوّ على عدوّه في شيء وإن كان عدلاً ، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 181}
وقال ابن الجوزى :
قال القاضي أبو يعلى : وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة ، ولهذا قال أحمد : لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 447}(16/158)
قوله تعالى : {وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}
قال الفخر :
يعني الذي يظهر على لسان المنافق من علامات البغضاء أقل مما في قلبه من النفرة ، والذي يظهر من علامات الحقد على لسانه أقل مما في قلبه من الحقد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 174}
قوله تعالى : {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأيات إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}
قال الفخر :
{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأيات إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي من أهل العقل والفهم والدراية ، وقيل : {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} الفصل بين ما يستحقه العدو والولي ، والمقصود بعثهم على استعمال العقل في تأمل هذه الآية وتدبر هذه البينات ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 174}
وقال ابن عاشور :
( والآيات ) في قوله : { قد بينا لكم الآيات } بمعنى دلائل سوء نوايا هذه البطانة كما قال : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } [ الحجر : 75 ] ولم يزل القرآن يربّي هذه الأمّة على إعمال الفكر ، والاستدلال ، وتعرّف المسبَّبات من أسبابها في سائر أحوالها : في التَّشريع ، والمعاملة ليُنشئها أمَّة علم وفطنة.
ولكون هذه الآيات آياتِ فراسةٍ وتوسّم ، قال : { إن كنتم تعقلون } ولم يقل : إن كنتم تعلمون أو تفقهون ، لأنّ العقل أعمّ من العلم والفقه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 201}(16/159)
فائدة
قال الآلوسى :
{ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي إن كنتم من أهل العقل ، أو إن كنتم تعلمون الفضل بين الولي والعدو ، أو إن كنتم تعلمون مواعظ الله تعالى ومنافعها ، وجواب ( إن ) محذوف لدلالة الكلام عليه ، ثم إن هذه الجمل ما عدا وما تخفي صدورهم أكبر لأنها حال لا غير جاءت مستأنفات جواباً عن السؤال عن النهي وترك العطف بينها إيذاناً باستقلال كل منها في ذلك ، وقيل : إنها في موضع النعت لبطانة إلا قد بينا لظهور أنها لا تصلح لذلك ، والأول أحسن لما في الاستئناف من الفوائد وفي الصفات من الدلالة على خلاف المقصود أو إيهامه لا أقل وهو تقييد النهي وليس المعنى عليه ، وقيل : إن ودوا ما عنتم بيان وتأكيد لقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } فحكمه حكمه وما عدا ذلك مستأنف للتعليل على طريق الترتيب بأن يكون اللاحق علة للسابق إلى أن تكون الأولى علة للنهي ويتم التعليل بالمجموع أي لا تتخذوهم بطانة لأنهم لا يألونكم خبالاً لأنهم يودّون شدّة ضرركم بدليل أنهم قد تبدو البغضاء من أفواههم وإن كانوا يخفون الكثير ولا بد على هذا من استثناء قد بينا إذ لا يصلح تعليلا لبدو البغضاء ويصلح تعليلاً للنهي فافهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 38}
وقال الطبرى :
"إن كنتم تعقلون" ، يعني : إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه ، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ، ومبلغ عائدته عليكم. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 148}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { مِّن دُونِكُمْ } يجوز أن يكون صفةً لـ " بِطَانَةً " ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة من غيركم.
وقدره الزمخشريّ : من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون.
ويجوز أن يتعلق بفعل النهي ، وجوَّز بعضُهم أن تكون " من " زائدة ، والمعنى : دونكم في العمل والإيمان.(16/160)
وبطانة الرجل : خاصَّته الذين يُبَاطنهم في الأمور ، ولا يُظْهِر غيرَهم عليها ، مشتقة من البطن ، والباطن دون الظاهر ، وهذا كما استعاروا الشعارَ والدِّثار في ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : " النَّاسُ دثار ، والأنْصَارُ شِعَار ".
والشعَارُ : ما يلي الجسد من الثياب. ويقال : بَطَنَ فلانٌ بفلانٍ ، بُطُوناً ، وبِطَانة.
قال الشاعر : [ الطويل ].
أولَئِكَ خُلْصَانِي ، نَعَمْ وَبِطَانَتِي... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ
فالبطانة مصدر يُسمَّى به الواحد والجمع ، وأصله من البطن ، ومنه : بطانة الثوب غير ظهارته.
فإن قيل : قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً } نكرة في سياق النفي ، فيقتضي العموم في النهي عن مصاحبة الكفار ، وقد قال تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } [ الممتحنة : 8 ] فكيف الجمع فيهما.
فالجواب : أن الخاص مقدَّم على العام.
قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ } لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذَكَر علَّة النهي ، وهي أمور :
أحدها : قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } يقال : ألا في الأمر ، يَألُو فيه ، أي : قصَّر - نحو غزا يغزو - فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى. واختلف في نصب " خَبَالاً " على وجوه :
أحدها : أنه مفعول ثانٍ ، وإنما تعدَّى لاثنين ؛ للتضمين.
قال الزمخشري : يقال : ألا في الأمر ، يألو فيه - أي : قصَّر - ثم استُعْمِل مُعَدًّى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نُصْحاً ، ولا آلوك جُهْداً ، على التضمين ، والمعنى : لا أمنعك نُصْحاً ولا أنقُصُكَهُ.
(16/161)
الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، والأصل : لا يألونكم في خبال ، أو في تخبيلكم ، أو بالخبال ، كما يقال : أوجعته ضرباً ، وهذا غير منقاسٍ ، بخلاف التضمين ؛ فإنه ينقاس ، وإن كان فيه خلافٌ واهٍ.
الثالث : أن ينتصب على التمييز ، وهو - حينئذ - تمييز منقول من المفعولية ، والأصل : لا يألون خبالكم ، أي : في خبالكم ، ثم جعل الضمير - المضاف إليه - مفعولاً بعد إسقاط الخافض فنُصِبَ الخبال - الذي كان مضافاً - تمييزاً ، ومثله قوله : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] على أن " عُيُوناً " بدل بعض من كل ، وفيه حذف العائد ، أي : عيوناً منها ، وعلى هذا التخريج ، يجوز أن يكون " خَبَالاً " يدل اشتمال من " كم " والضمي ر أيضاً محذوف أي : " خبالاً منكم " وهذا وَجْه رابع.
الخامس : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : متخبلين.
السادس : قال ابْنُ عَطِيَّةَ : معناه : لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم.
فعلى هذا - الذي قدره - يكون المضمر ، و" خَبَالاً " منصوبين على إسقاط الخافض ، وهو اللام ، وهذه الجملة فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها جُمْلة استئنافية ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جِيءَ بها ، وبالجُمَل التي بعدها ، لبيان حال الطائفة الكافرة ، حتى ينفروا منها ، فلا يتخذوها بطانة ، وهو وجه حسن.
الثاني : أنها جملة في موضع نصب ؛ حال من الضمير المستكن في " دُونِكُمْ " على أن الجار صفة لبطانة.
الثالث : أنها في محل نصب ؛ نعتاً لـ " بِطَانةً " - أيضاً-.
والألْو - بزنة الغزو - التقصير - كما تقدم-.
قال زهير : [ الطويل ]
سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمِي لِكَيْ يُدْرِكُوهُمُ... فَلَمْ يَفْعَلُوا ، وَلَم يُليمُوا ، وَلَمْ يَأْلُوا
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
(16/162)
وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ... بِمُذْرِكِ أطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِي
يقال : آلَى ، يُولِي - بزنة أكرم ، فأبدِلَت الهمزةُ الثانية ألفاً.
وأنشدوا : [ الوافر ]
...................... فَمَا آلَى بَنِيَّ وَلاَ أسَاءُوا
ويقال : ائتلَى ، يأتلي - بزنة اكتسب يكتسب-.
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
ألاَ رُبَّ خَصْمٍ فِيَكِ ألْوَى رَدَدْتُهُ... نَصِيحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِي
فيتحد لفظ آلى بمعنى قصَّر ، وآلى بمعنى حَلفَ - وإن كان الفرق بينهما ثابتاً من حيث المادة ؛ لأن لامه من معنى الحلف ياء ، ومن معنى التقصير واو.
قال الراغب : وألَوْتُ فلاناً ، أي : أوْليته تقصيراً - نحو كسبته ، أي : أوْليته كَسْباً - وما ألوته جهداً ، أي : ما أوليته تقصيراً بحسب الجهد ، فقولك : جهداً ، تمييز.
وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] أي : لا يُقَصِّرون في طلب الخبال ، ولا يدعون جهدهم في مضرتكم ، قال تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } [ النور : 22 ].
قيل : هو " يفتعل " من ألوت.
وقيل : هو من آليت ، أي : حلفت.
والخبال : الفساد ، وأصله ما يلحق الحيوان من مَرَض ، وفتور ، فيورثه فساداً واضطراباً ، يقال منه : خبله وخَبَّله - بالتخفيف والتشديد ، فهو خابل ، ومُخَبَّل ، ومخبول ، والمخبل : الناقص العقل ، قال تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] ، ويقال : خَبْل ، وخَبَل ، وخَبَال وفي الحديث : " مَنْ شَرِبَ الَْمْرَ ثَلاَثاً كَانَ حَقًّا على اللهِ أن يَسقيه مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ ".
وقال زهير بن أبي سُلْمى : [ الطويل ]
(16/163)
هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا... وَإنْ يُسْألُوا يُعْطُوا ، وَإن يُيْسِرُوا يُغْلُوا
والمعنى في هذا البيت : أنهم إذا طُلِب منهم إفساد شيء من إبلهم أفسدوه ، وهذا كناية عن كرمهم.
قوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } هذه العلة الثانية ، وفي هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : وهو الأظهر - أن تكون مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب - كما هو الظاهر في التي قبلها.
والثاني : أنها نعت لـ " بِطَانَةً " فمحلُّها نصب.
قال الواحدي : " ولا يصح هذا ؛ لأن البطانة قد وُصِفَت بقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } ، ولو كان هذا صفة - أيضاً- ، لوجب إدخال حرف العطف بينهما ".
والثالث : أنها حال من الضمير في " يَألونَكُمْ " ، و" ما " مصدرية ، و" عَنِتُّمْ " صلتها ، وهي وصلتها مفعول الودادة ، أي : عنتكم ، أي : مقتكم.
وقال الراغب : " المعاندة ، والمعانتة ، يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة : أن يتحرى مع الممانعة المشقة ".
قوله : { قَدْ بَدَتِ البغضآء } هذه الجملة كالتي قبلها ، وقرأ عبد الله " بَدَا " - من غير تاء - لأن الفاعل مؤنَّث مجازيّ ؛ ولأنها في معنى البغض ، والبغضاء : مصدر - كالسراء والضراء - يقال منه : بَغُضَ الرجل ، فهو بغيض ، كظَرُفَ فهو ظَرِيفٌ.(16/164)
قوله : { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } متعلق بـ " بَدَتْ " و" مِنْ " لابتداء الغاية ، وجوَّز ابو البقاء أن يكون حالاً ، أي : خارجة من أفواههم ، والأفواه : جمع فَم ، وأصله فوه ، فلامه هاء ، يدل على ذلك جمعه على أفواه ، وتصغيره على " فُوَيْه " ، والنسب إليه على فوهي ، وهل وزنه فَعْل - بسكون العين- أو " فَعَل " - بفتح العين- ؟ خلاف للنحويين ، ثم حذفوا لامه تخفيفاً ، فبقي آخرهُ حرف علة ، فأبدلوه ميماً ؛ لقُرْبهِ منها ؛ لأنهما من الشفة ، وفي الميم هُوِيٌّ في الفم يضارع المد الذي في الواو.
وهذا كله إذا أفردوه عن الإضافة ، فإن أضافوه لَمْ يُبْدلوا حرفَ العلة.
كقوله : [ البسيط ]
فَوهٌ كَشقِّ الْعَصَا لأْياً تُبَيِّنُهُ... أسَكُّ مَا يَسْمَعُ الأصْوَاَ مَضلُومُ
عكس الأمر في الطرفين ، فأتى بالميم في حال الإضافة ، وبحرف العلة في القطع عنها. فمن الأول قوله : [ الرجز ]
يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهُ... وخصَّه الفارسيُّ وجماعة بالضرورة ، وغيرهم جوَّزه سعة ، وجعل منه قوله : " لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ".
ومن الثاني قوله : [ الرجز ]
خَالَطَ مِنْ سَلْمَى خَيَاشِيمَ وَفَا... أي : وفاها ، وإنما جاز ذلك ؛ لأن الإضافة كالمنطوق بها.
وقالت العرب : رجل مفوَّه - إذا كان يجيد القولَ - وأَفْوَه : إذا كان واسعَ الفم.
قال لبيد : [ الوافر ]
................. وَمَا فَاهُوا بِهِ أبَداً مُقِيمُ
وفي الفم تسع لغات ، وله أربع مواد : ف م ه. ف م و. ف م ي. ف م م ؛ بدليل أفواه ، وفموين ، وفميين ، وأفمام.
(16/165)
قوله : { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } يجوز أن تكون " ما " بمعنى : الذي ، والعائد محذوف - أي : تخفيه فحذف - وأن تكون مصدرية - أي : وإخفاء صدورهم - وعلى كلا التقديرين ، ف " ما " مبتدأ و" أكبر " خبره ، والمفضَّل عليه محذوف ، أي : أكبر من الذي أبدَوْهُ بأفواههم.
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } شرط ، حذف جوابه ، لدلالة ما تقدم عليه ، أو هو ما تقدم - عند من يرى جوازه-.
والمعنى : إن كنتم من أهل العقل ، والفهم ، والدراية.
وقيل : إن كنتم تعقلون الفَصْل بين ما يستحقه الولِيّ والعدُوّ ، والمقصود منه : استعمال العقل في تأمل هذه الآيات ، وتدبُّر هذه البينات. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 488 ـ 495}. بتصرف يسير.
من فوائد ابن عطية فى الآية
قال رحمه الله :
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يتخذوا من الكفار واليهود أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم ويفاوضونهم في الآراء ويستنيمون إليهم ، وقوله : { من دونكم } يعني من دون المؤمنين ، ولفظة " دون " تقتضي فيما أضيف إليه أنه معدوم من القصة التي فيها الكلام ، فشبه الأخلاء بما يلي بطن الإنسان من ثوبه ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان ، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله ، وقوله : { لا يألونكم خبالاً } معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم ، تقول : ما ألوت في كذا أي ما قصرت بل اجتهدت ومنه قول زهير :
جرى بعدهم قوم لكي يلحقوهم... فلم يلحقوا ولم يليموا ولم يألوا(16/166)
أي لم يقصروا ، والخبل والخبال : الفساد ، وقال ابن عباس : كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من اليهود للجوار والحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، فنزلت الآية في ذلك ، وقال أيضاً ابن عباس وقتادة والربيع والسدي : نزلت في المنافقين : نهى الله المؤمنين عنهم ، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً " فسره الحسن بن أبي الحسن ، فقال أراد عليه السلام ، لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم ( محمداً ).(16/167)
قال القاضي : ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنامة إليهم ، وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميماً فكتب إليه عمر يعنفه ، وتلا عليه هذه الآية ، وقيل لعمر : إن هاهنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم ، أفلا يكتب عنك ؟ فقال : إذاً أتخذ بطانة من دون المؤمنين ، و{ ما } في قوله ، { ما عنتّم } مصدرية ، فالمعنى : { ودوا } عنتكم ، و" العنت " : المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت : أي شاقة ، وقوله تعالى : { ذلك لمن خشي العنت } [ النساء : 35 ] معناه المشقة إما في الزنا وإما في ملك الإرب قال السدي : معناه " ودوا " ما ضللتم ، وقال ابن جريج : المعنى " ودوا " أن تعنتوا في دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي ، وقوله تعالى : { قد بدت البغضاء من أفواههم } يعني بالأقوال ، فهم فوق المتستر الذي تبدوا البغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه ، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه ، معناه : أن يفتح فاه به يقال شحّى الحمار فاه بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس ، والنهي في أن يأخذ أحد عرض أخيه همساً راتب ، فذكر التشحي إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط وقوله : { وما تخفي صدورهم أكبر } إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود : " قد بدا البغضاء " بتذكير الفعل ، لما كانت { البغضاء } بمعنى البغض ، ثم قال تعالى للمؤمنين ، { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } تحذيراً وتنبيهاً ، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا وكذا. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 496 ـ 497}(16/168)
فصل
قال ابن كثير فى معنى الآية :
يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة ، أي : يُطْلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم ، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خَبَالا أي : يَسْعَوْنَ في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن ، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة ، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم.
وقوله : { لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } أي : من غيركم من أهل الأديان ، وبطانة الرجل : هم خاصّة أهله الذين يطلعون على داخل أمره.
وقد روى البخاري ، والنسائي ، وغيرهما ، من حديث جماعة ، منهم : يونس ، ويحيى بن سعيد ، وموسى بن عقبة ، وابن أبي عتيق -عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِي وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ : بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخيرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَم اللهُ ". { صحيح البخاري برقم (6611 ، 7198) والنسائي في الكبرى برقم (8755)}.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو أيوب محمد بن الوَزَّان ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن أبي حَيّان التيمي عن أبي الزِّنْباع ، عن ابن أبي الدِّهْقانة قال : قيل لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : إن هاهنا غُلاما من أهل الحِيرة ، حافظ كاتب ، فلو اتخذته كاتبا ؟ فقال : قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين. { تفسير ابن أبي حاتم (2/550) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (8/658) من طريق أبي حيان التيمي به ورواه عبد بن حميد في تفسيره كما في الدر (2/300)}.(16/169)
ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة ، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ؛ ولهذا قال تعالى : { لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ }.
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق بن إسرائيل ، حدثنا هُشَيم ، حدثنا العَوَّام ، عن الأزهر بن راشد قال : كانوا يأتون أنَسًا ، فإذا حَدَّثهم بحديث لا يدرون ما هو ، أتَوا الحسن -يعني البصري-فيفسره لهم. قال : فحدَّث ذات يوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ ، ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا فلم يدروا ما هو ، فأتوا الحسن فقالوا له : إن أنسا حَدّثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا فقال الحسن : أما قوله : "ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا : محمد صلى الله عليه وسلم. وأما قوله : "لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ" يقول : لا تستشيروا المشركين في أموركم. ثم قال الحسن : تصديق ذلك في كتاب الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ }.
هكذا رواه الحافظ أبو يعلى ، رحمه الله ، وقد رواه النسائي عن مجاهد بن موسى ، عن هشيم. ورواه الإمام أحمد ، عن هُشَيم بإسناده مثله ، من غير ذكر تفسير الحسن البصري. { رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9375) والطبري في تفسيره (7/142) من طريق هشيم بسياق أبي يعلى به ، ورواه أحمد في مسنده (3/99) والنسائي في السنن (8/176) من غير ذكر تفسير الحسن البصري}.
(16/170)
وهذا التفسير فيه نظر ، ومعناه ظاهر : "لا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيّا أي : بخط عربي ، لئلا يشابه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان نَقْشُه محمد رسول الله ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن يَنْقُشَ أحد على نقشه. وأما الاستضاءة بنار المشركين ، فمعناه : لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم ، بل تَبَاعَدُوا منهم وهَاجروا من بلادهم ؛ ولهذا روى أبو داود [رحمه الله] لا تَتَرَاءَى نَاراهُمَا" وفي الحديث الآخر : "مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ أَوْ سَكَنَ مَعَهُ ، فَهُوَ مِثْلُهُ" ؛ فحَمْلُ الحديث على ما قاله الحسن ، رحمه الله ، والاستشهاد عليه بالآية فيه نظر ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } أي : قد لاح على صَفَحات وجوههم ، وفلتات ألسنتهم من العداوة ، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل ؛ ولهذا قال : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 106 ـ 108}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
الركون إلى الضد - بعد تبين المشاق - إعانة على الحال بما لا يبلغه كيد العدو ، فأشار الحقُّ - سبحانه - على المسلمين بالتحرز عن الاعتراض ، وإظهار البراءة عن كل غير ، ودوام الخلوص للحق - سبحانه - بالقلب والسر. وأخبر أن مضادات القوم للرسول صلى الله عليه وسلم أصلية غير طارئة عليهم ، وكيف لا ؟ وهو صلوات الله عليه محلُّ الإقبال وهم محل الإعراض. ومتى يجتمع الليلُ والنهار ؟ !. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 272 ـ 273}(16/171)
قوله تعالى {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}
استئناف ابتدائي ، قصد منه المقابلة بين خُلق الفريقين ، فالمؤمنون يحبّون أهل الكتاب ، وأهل الكتاب يبغضونهم ، وكلّ إناء بما فيه يرشح ، والشأن أنّ المحبَّة تجلب المحبَّة إلاّ إذا اختلفت المقاصد والأخلاق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 201}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { هَآ أَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ } يعني المنافقين ؛ دليله قوله تعالى : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا } ؛ قاله أبو العالية ومقاتل.
والمحبة هنا بمعنى المصافاة ، أي أنتم أيها المسلمون تُصافونهم ولا يُصافونكم لنِفاقهم.
وقيل : المعنى تريدون لهم الإسلام وهم يريدون لكم الكفر.
وقيل : المراد اليهود ؛ قاله الأكثر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 181}
فصل
قال الفخر :
إنه تعالى ذكر في هذه الآية أموراً ثلاثة ، كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه فالأول : قوله {تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} وفيه وجوه :
أحدها : قال المفضل {تُحِبُّونَهُمْ} تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} لأنهم يريدون بقاءكم على الكفر ، ولا شك أنه يوجب الهلاك(16/172)
الثاني : {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بسبب كونكم مسلمين الثالث : {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم
الرابع : قال أبو بكر الأصم {تُحِبُّونَهُمْ} بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر
الخامس : {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} لأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وهم يبغضون الرسول ومحب المبغوض مبغوض
السادس : {تُحِبُّونَهُمْ} أي تخالطونهم ، وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} أي لا يفعلون مثل ذلك بكم.
واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين ، فالكل داخل تحت الآية ، ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعياً من حيث الطبع ، ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 175}
وقال الآلوسى :
والمراد بمحبة المؤمنين لهم المحبة العادية الناشئة من نحو الإحسان والصداقة ، ومثلها وإن كان غريباً يلام عليه إذا وقع من المؤمنين في حق أعداء الدين الذين يتربصون بهم ريب المنون لكن لا يصل إلى الكفر وإنما لم يصل إليه باعتبار آخر لا يكاد يقع من أولئك المخاطبين ، وقيل : المراد : تحبونهم لأنكم تريدون الإسلام لهم وتدعونهم إلى الجنة ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال وفي ذلك الهلاك ، ولا يخفى ما فيه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 39}(16/173)
فائدة
قال ابن عاشور :
وتركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل هأنا تقدم في قوله تعالى في سورة [ البقرة : 85 ] : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } ولمّا كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قيل : هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } فالعَجب من محبّة المؤمنين إيّاهم في حال بغضهم المؤمنين ، ولا يذكر بعد اسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلاّ والقصد التعجّب من مضمون تلك الجملة.
وجملة { ولا يحبونكم } جملة حال من الضمير المرفوع في قوله : { تحبونهم } لأنّ محلّ التّعجيب هو مجموع الحالين.
وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط ، ولكنَّه مجرد إيقاظ ، ولذلك عقّبه بقوله : { وتؤمنون بالكتاب كله } فإنَّه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد إيمان المؤمنين ، لأنّ المؤمنين لمَّا آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه ، وأدخلوا فيه التّحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتّباع ما ليس بحقّ.
وهذان النظران ، منّا ومنهم ، هما أصل تسامح المسلمين مع قوّتهم ، وتصَلُّب أهل الكتابين مع ضعفهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 201 ـ 202}
قوله تعالى : {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ}
فائدة
قال الفخر :
في الآية إضمار ، والتقدير : وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به ، وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معاً فكان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 175}
قال القرطبى :
والكتاب اسم جنس ؛ قال ابن عباس : يعنى بالكُتُب.
واليهود يؤمنون بالبعض ؛ كما قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } [ البقرة : 91 ]. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 181 ـ 182}(16/174)
فائدة
قال الفخر :
ذكر ( الكتاب ) بلفظ الواحد لوجوه
أحدها : أنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم : كثر الدرهم في أيدي الناس
وثانيها : أن المصدر لا يجمع إلا على التأويل ، فلهذا لم يقل الكتب بدلاً من الكتاب ، وإن كان لو قاله لجاز توسعاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 175}
فصل
قال الفخر :
تقدير الكلام : أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ، ونظيره قوله تعالى : {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} [ النساء : 104 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 176}
فائدة
قال ابن عطية :
وقوله { وتؤمنون بالكتاب كله } يقتضي أن الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب ، ويعترضها أن منافقي اليهود لم يخفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن ، كما كان المنافقون من العرب يفعلون ، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيت القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم : { آمنا } معناه : صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم ، أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا المودة ، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة ، وهذا منزع قد حفظ أن كثيراً من اليهود كان يذهب إليه ، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم { آمنا } ، " عض الأنامل من الغيظ " ، وليس هو ما يقتضي الارتداد كما هو في قوله تعالى : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم } [ البقرة : 14 ] بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة ، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال : هم الإباضية.
قال القاضي أبو محمد : وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس إلى يوم القيامة. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 497}(16/175)
قال أبو حيان :
وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن إلاَّ ما روي من أمر زيد فيه نظر ، فإنه قد روى أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك ، ذكره البيهقي وغيره.
ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك ، إذ وجد ذلك في جنسهم.
وكثيراً ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة ، ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره 43}
قوله تعالى : {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ}
قال الفخر :
المعنى : أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة ، وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل ، كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه ، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان ، صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان : إنه يعض يده غيظاً وإن لم يكن هناك عض ، قال المفسرون : وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم.
ثم قال تعالى : {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به ، والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 176}
فائدة
قال ابن عاشور :
وعضّ الأنامل كناية عن شدّة الغيظ والتحسّر.(16/176)
وإن لم يكن عَضّ أنامل محسوساً ، ولكن كنّي به عن لازمه في المتعارف ، فإنّ الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذلك الانفعال ، فقد تكون مُعِينة على دفع انفعاله كقتل عدوّه ، وفي ضدّه تقبيل من يحبّهُ ، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله ، كتخبّط الصّبي في الأرض إذا غضب ، وضَرب الرجل نفسه من الغضب ، وعضّه أصابعه من الغيظ ، وقرعه سنّه من النَّدم ، وضرب الكفّ بالكفّ من التحسّر ، ومن ذلك التأوّه والصّياح ونحوها ، وهي ضروب من علامات الجزع ، وبعضها جبلّي كالصياح ، وبعضها عادي يتعارفه النَّاس ويكثر بينهم ، فيصيرون يفعلونه بدون تأمّل ، وقال الحارث بن ظالم المري :
فأقبل أقوام لئام أذلّة
يعضّون من غيظ رؤوس الأباهم...
وقوله : { عليكم } على فيه للتَّعليل ، والضّمير المجرور ضمير المسلمين ، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معيّنة ، أي على التئامكم وزوال البغضاء ، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } [ آل عمران : 100 ] ، ونظير هذا التعليق قول الشاعر :
لتقرعِنّ على السنّ من ندم
إذا تذكرتِ يوما بعضَ أخلاقي...
و { من الغيظ } ( من ) للتعليل.
والغيظ : غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 202 ـ 203}(16/177)
قال الآلوسى :
{ قُلْ } يا محمد بلسانك ، وقيل : المراد حدث نفسك بإذلالهم وإعزاز الإسلام من غير أن يكون هناك قول ، وقيل : هو خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم على عداوتهم وحث لهم على خطابهم خطاب الخصماء فإنه لا أقطع للمحبة من جراحة اللسان فالمقصود على هذا من قوله تعالى : { مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } مجرد الخطاب بما يكرهونه ، والصحيح الذي اتفقت عليه كلمتهم أنه دعاء عليهم وكون ذلك مما فيه خفاء إذ لا يخاطب المدعو عليه بل الله تعالى ويسأل منه ابتلاؤه لا خفاء في خفائه وأنه غفلة عن قولهم قاتلك الله تعالى ، وقولهم : دم بعز ، وبت قرير عين ، وغيره مما لا يحصى ، والمراد كما قيل : الدعاء بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به ، وهذا عند العلامة الثاني من كناية الكناية حيث عبر بدعاء موتهم بالغيظ عن ملزومه الذي هو دعاء ازدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة الإسلام وعز اسمه وذلك لأن مجرد الموت بالغيظ أو ازدياده ليس مما يحسن أن يطلب ويدعى به.
وتعقب بأن المجاز على المجاز مذكور وأما الكناية على الكناية فنادرة وقد صرح بها السبكي في "قواعده الأصولية" ونقل فيها خلافاً ، ومع هذا الفرق بين الكناية بالوسائط والكناية على الكناية مما يحتاج إلى التأمل الصادق ولعله فرق اعتباري ، وأيضاً ما ذكره من أن مجرد الموت بالغيظ الخ مدفوع بأنه يمكن أن يكون المحسن لذلك ما فيه من الإشارة إلى ذمهم حيث إنهم قد استحقوا هذا الموت الفظيع والحال الشنيع. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 40}(16/178)
وقال ابن عاشور :
وقوله : { قل موتوا بغيظكم } كلام لم يقصد به مخاطبون معيَّنون لأنَّه دعاء على الَّذين يعضّون الأنامل من الغيظ ، وهم يفعلون ذلك إذا خلوا ، فلا يتصوّر مشافهتهم بالدّعاء على التَّعيين ولكنَّه كلام قصد إسماعه لكلّ من يعلم من نفسه الاتّصاف بالغيظ على المسلمين وهو قريب من الخطاب الَّذي يقصد به عموم كُل مخاطب نحو : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ السجدة : 12 ].
والدعاء عليهم بالموت بالغيظ صريحهُ طلب موتهم بسبب غيظهم ، وهو كناية عن ملازمة الغيظ لهم طول حياتهم إن طالت أو قصرت ، وذلك كناية عن دوام سبب غيظهم ، وهو حسن حال المسلمين ، وانتظام أمرهم ، وازدياد خيرهم ، وفي هذا الدعاء عليهم بلزوم ألم الغيظ لهم ، وبتعجيل موتهم به ، وكلّ من المعنيين المكني بهما مراد هنا ، والتكنّي بالغيظ وبالحسد عن كمال المغيظ منه المحسود مشهور ، والعرب تقول : فلان محسَّد ، أي هو في حالة نعمة وكمال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 203}
وقال السمرقندى :
{ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } يقول موتوا بحنقكم على وجه الدعاء ، والطرد واللعن ، لا على وجه الأمر والإيجاب ، لأنه لو كان على وجه الإيجاب ، لماتوا من ساعتهم.
كما قال في موضع آخر : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أحياهم إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } [ البقرة : 243 ] ، فماتوا من ساعتهم ، فهاهنا لم يرد به الإيجاب.
وقال الضحاك : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } ، يعني أنكم تخرجون من الدنيا بهذه الحسرة ، والغيظ يعني اللفظ لفظ الأمر ، والمراد به الخبر ، يعني أنكم تموتون بغيظكم. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 267}(16/179)
سؤال : فإن قيل : قوله {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} أمر لهم بالإقامة على الغيظ ، وذلك الغيظ كفر ، فكان هذا أمراً بالإقامة على الكفر وذلك غير جائز.
قلنا : قد بينا أنه دعاء بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام فسقط السؤال
وأيضاً فإنه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 176}
وقال القرطبى :
إن قيل : كيف لم يموتوا والله تعالى إذا قال لشيء : كن فيكون.
قيل عنه جوابان : أحدهما قال فيه الطبريّ وكثير من المفسرين : هو دعاء عليهم.
أي قل يا محمد أدام الله غيظكم إلى أن تموتوا.
فعلى هذا يتجه أن يدعو عليهم بهذا مُوَاجهةً وغيرَ مواجهة بخلاف اللّعْنَة.
الثاني : أن المعنى أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون ، فإن الموت دون ذلك.
فعلى هذا المعنى زال معنى الدعاء وبقي معنى التقْرِيع والإغَاظَة.
ويجري هذا المعنى مع قول مسافر ابن أبي عمرو :
ويتمنّى في أُرُومتنا . . .
ونَفْقَأ عينَ من حسدا
وينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ }. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 182 ـ 183}
لطيفة
قال أبو حيان :
قال بعض شيوخنا : هذا ليس بأمر جازم ، لأنه لو كان أمراً لماتوا من فورهم كما جاء فقال لهم الله : موتوا.
وليس بدعاء ، لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة ، فإن دعوته لا ترد.
وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير ، وليس بخبر لأنه لو كان خبر الوقع على حكم ما أخبر به يعني ولم يؤمن أحد بعد ، وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع كقوله : اعملوا ما شئتم ، إذا لم تستح فاصنع ما شئت. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 44 ـ 45}
قوله تعالى : {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}
فصل
قال الفخر : (16/180)
( ذات ) كلمة وضعت لنسبة المؤنث كما أن ( ذو ) كلمة وضعت لنسبة المذكر والمراد بذات الصدور الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه فكانت ذات الصدور ، والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما حصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 176}
فصل
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" يحتمل أن تكون هذه الآية داخلة في جملة المقول وأن لا تكون
أما الأول : فالتقدير : أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم ، وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه
أما الثاني : وهو أن لا يكون داخلاً في المقول فمعناه : قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من إطلاعي إياك على ما يسرون ، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك ، وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم ويجوز أن لا يكون ، ثم قول وأن يكون قوله {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك ، والله تعالى أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 176}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ } قد تقدم نظيره.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " ها " للتنبيه ، و" أنْتُمْ " مبتدأ و" أولاءِ " خبره ، و" تُحِبُّونَهُمْ " في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة.
ويجوز أن يكون " أولاء " بمعنى : الذي ، و" تُحِبُّونَهُمْ " صلة له ، والموصول مع الصلة خبر.
قال الفرَّاء : " أولاَءِ " خبر ، و" يحبونهم " خبر بعد خبر.(16/181)
ويجوز أن يكون " أولاء " في موضع نصب بفعل محذوف ، فتكون المسالة من باب الاشتغال ، نحو : أنا زيداً ضربته.
قوله : { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } يحتمل أن يكون استئناف إخبار ، وأن يكون جملة حالية.
قوله : { عَلَيْكُمْ } متعلق بـ " عَضُّوا " ، وكذلك { مِنَ الغيظ } و" مِنْ " فيه لابتداء الغاية ، ويجوز أن يكون بمعنى اللام ، فيفيد العِلِّيَّةَ - أى : من أجل الغيظ-.
وجوز أبو البقاء - في " عَلَيْكُمْ " ، وفي { مِنَ الغيظ } - أن يكونا حالين ، فقال : " ويجوز أن يكون حالاً ، أي : حنقين عليكم من الغيظ. { ومِنَ الغيظ } متعلق بـ " عَضُّوا " أيضاً ، و" مِنْ " لابتداء الغاية ، أي : من أجل الغيظ ، ويجوز أن يكون حالاً ، أي : مغتاظين ". انتهى.
وقوله : و" من " لابتداء الغاية - أي : من أجل الغيظ كلام متنافر ؛ لأن التي للابتداء لا تفسَّر بمعنى : " من أجل " ، فإنه معنى العلة ، والعلة والابتداء متغايران ، وعلى الجملة ، فالحالية - فيهما - لا يظهر معناها ، وتقديره الحال ليس تقديراً صناعيًّا ؛ لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة.
والعَضّ : الأزم بالأسنان ، وهو تحامُل الأسنان بعضها على بعض ، يقال : عَضِضْتُ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
.................... كَفَحْلِ الْهِجَانِ يَنْتَحِي لِلْعَضِيضِ
جعل الباء زائدة في المفعول ؛ إذ الأصل : يعضون خلفنا الأنامل.
وقال آخر : [ المتقارب ]
قَدَ افْنَى أنَامِلَهُ أزْمُهُ... فَأضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا
وقال الحارث بن ظالم المري : [ الطويل ]
وَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئاماً أذِلَّةً... يَعُذُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُءُوسَ الأبَاهِمِ
وقال آخر : [ البسيط ]
إذَا رَأوْنِي - أطَالَ اللهُ غَيْظَهُمُ... عَضُّوا مِنَ الْغَيظِ أطْرَافَ الأبَاهِيمِ
(16/182)
والعَضّ كله بالضاد ، إلا في قولهم : عَظَّ الزمان - أي : اشتد - وعظت الحرب ، فإنهما بالظاء - أخت الطاء-.
قال الشاعر : [ الطويل ]
وَعَظُّ زَمَانٍ - يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ... مِنَ الْمَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ
قال شهاب الدين : " وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء : وعضُّ زمان - بالضاد ".
والعُضُّ - بضم الفاء - عَلَف من نوًى مرضوض وغيره ، ومنه : بَعير عُضَاضِيّ - أي : سمين - كأنه منسوب إليه ، وأعَضَّ القومُ - إذا أكلت إبلُهم ذلك ، والعِضّ - بكسر الفاء - الرجل الداهية ، كأنهم تصوروا عَضَّه وشدته.
وزمن عضوض - أي : جدب ، والتَّعْضوض : نوع من التمر ، سُمِّيَ بذلك لشدة مضغه وصعوبته.
والأنامل : جمع أنملة - وهي رؤوس الأصابع.
قال الرُّماني : واشتقاقها من النمل - هذا الحيوان المعروف - شبهت به لدقتها ، وسرعة تصرفها وحركتها ، ومنه قالوا للنمام : " نمل ومنمل " لذلك.
قال الشاعر : [ المتقارب ]
وَلَسْتُ بِذِي نَيْرَبٍ فِيهِمُ... وَلاَ مُنْمِشٍ فيهِمُ مُنْمِلِ
وفي ميمها الضم والفتح.
والغيظ : مصدر غاظه ، يغيظه- أي : أغضبه -. وفسره الراغب بأنه أشد الغضب ، قال : وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دَمِ قلبه. وإذا وصف به الله تعالى ، فإنما يراد به الانتقام. والتغيظ : إظهار الغيظ ، وقد يكون مع ذلك صوت ، قال تعالى : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] ، والجملة من قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } معطوفة على { تُحِبُّونَهُمْ } ، ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة.
(16/183)
قال الزمخشري : والواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله ، وهم - مع ذلك - يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم.
قال أبو حيان : " وهو حسن ، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو أنه جعل الواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } والمضارع المثبت - إذا وقع حالاً - لا تدخل عليه واو الحال ، تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز : ويضحك ، فأما قولهم : قمت وأصُكُّ عينه ، ففي غاية الشذوذ ، وقد أوِّل على إضمار مبتدأ ، أي : وأنا أصُكّ عينه ، فتصير الجملة اسمية ، ويحتمل هذا التأويل هنا : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله ، لكنَّ الأولَى ما ذكرنا من كونها للعطف ".
يعني : فإنه لا يُحْوِج إلى حَذْف ، بخلاف تقديره مبتدأ ، فإنه على خلاف الأصل.
قوله : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } يجوز أن تكون الباء للحال ، أي : موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم ، وهو كناية عن كثرة افسلام وفُشوِّه ؛ لأنه كلما ازداد الإيمان ازداد غيظهم ، ويجوز أن تكون للسببية أي : بسبب غَيْظكم ، وليس بالقويّ.
وقوله : { مُوتُواْ } صورته أمر ومعناه الدعاء ، فيكون دُعَاءً عليهم بأن يزداد غَيْظُهم ، حتى يهلكوا به ، والمراد من ازدياد الغيظ : ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام ، وعِزِّ أهْلِه ، وما لهم في ذلك من الذُّلِّ ، والخِزْي ، والعار.
وقيل : معناه الخبر ، أي : أن الأمر كذلك.
(16/184)
وقد قال بعضهم : إنه لا يجوز أن يكون بمعنى : الدعاء ؛ لأنه لو كان أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة ؛ فإنَّ دعوته لا ترد ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآيةِ ، [ وليس بخبر ] ؛ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أخبره ، ولم يؤمن أحدٌ بعدُ ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ ، والتهديد ، كقوله تعالى : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] و" إذَا لَمْ تَستَحْي فاصْنَعْ مَا شِئْتَ ".
وهذا - الذي قاله - ليس بشيء ؛ لأن مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء - إن قُصِد به الدعاء - ولا تحت الخبر ، إن قُصِد به الإخبار.
قوله : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، أخبر - تعالى - بذلك ؛ لأنهم كانوا يُخفون غيظَهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد ، ويحتمل أن يكون من جملة المقول ، أي : قُلْ لهم : كذا ، وكذا ، فيكون في محل نصب بالقول ، ومعنى قوله : { بِذَاتِ } أي : بالُمضْمَرات ، ذوات الصدور ، ف " ذَات " - هنا - تأنيث " ذي " بمعنى صاحب ؛ فحُذِف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ، أي : عَلِيمٌ بالمضمرات صاحبة الصدُور ، و" ذو " جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها ، وعدم انفكاكها عنها ، نحو أصحاب النار ، وأصحاب الجنة.
والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي ، والصوارف الموجودة فيه.
واختلفوا في الوقف على هذه اللفظة ، هل يوقف عليها بالتاء ، أو بالهاء ؟ .
فقال الأخفش ، والفَرَّاءُ ، وابن كيسان : الوقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف.
(16/185)
وقال الكسائي ، والجَرْمِيّ : يوقف عليها بالهاء ، لأنها تاء تأنيث ، كهي في صاحبة ، وموافقة الرسم أوْلَى ؛ فإنَّهُ قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء ، فإذا وقفنا - هنا - بالتاء ، وافقنا تلك اللغة ، والرسم ، بخلاف عكسه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 495 ـ 500}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { هَا أَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ }.
أنتم بقضية كرمكم تصفو - عن الكدورات - قلوبكم ؛ فتغلبكم الشفقة عليهم ، وهم - لعتوِّهم وخُلْفِهم - يكيدون لكم ما استطاعوا ، ولفرط وحشتهم لا تترشح منهم إلا قطرات غيظهم. فَفَرِّغْ - يا محمد - قلبك منهم.
{ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }.
دَعْهُمْ ينفردوا بمقاساة ما تداخلهم من الغيظ ، واستريحوا بقلوبكم عمَّا يَحِلُّ بهم ، فإن الله أولى بعباده ؛ يوصل إلى مَنْ يشاء ما يشاء. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 273}(16/186)
موعظة
قال حجة الإسلام عليه الرحمة :
واحذر صحبة أكثر الناس فإنهم لا يقيلون عثرة ولا يغفرون زلة ولا يسترون عورة ويحاسبون على النقير والقطمير ويحسدون على القليل والكثير ينتصفون ولا ينصفون ويؤاخذون على الخطأ والنسيان ولا يعفون يغرون الإخوان على الإخوان بالنميمة والبهتان فصحبة أكثرهم خسران وقطيعتهم رجحان إن رضوا فظاهرهم الملق وإن سخطوا فباطنهم الحنق لا يؤمنون في حنقهم ولا يرجون في ملقهم ظاهرهم ثياب وباطنهم ذئاب يقطعون بالظنون ويتغامزون وراءك بالعيون ويتربصون بصديقهم من الحسد ريب المنون يحصون عليك العثرات في صحبتهم ليواجهوك بها في غضبهم ووحشتهم ولا تعول على مودة من لم تخبره حق الخبرة بأن تصحبه مدة في دار أو موضع واحد فتجربه في عزله وولايته وغناه وفقره أو تسافر معه أو تعامله في الدينار والدرهم أو تقع في شدة فتحتاج إليه فإن رضيته في الأحوال فاتخذه أبا لك إن كان كبيرا أو ابنا لك إن كان صغيرا أو أخاك إن كان مثلك
فهذه جملة آداب المعاشرة مع أصناف الخلق. أ هـ {الإحياء حـ 2 صـ 212}(16/187)
قوله تعالى {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان ما أخبرت به هذه الجمل من بغضهم وشدة عداوتهم محتاجاً ليصل إلى المشاهدة إلى بيان دل عليه بقوله : {إن تمسسكم} أي مجرد مس {حسنة تسؤهم} ولما كان هذا دليلاً شهودياً ولكنه ليس صريحاً أتبعه الصريح بقوله : {وإن تصبكم} أي بقوة مرها وشدة وقعها وضرها {سيئة يفرحوا بها} ولما كان هذا أمراً مبكتاً غائظاً مؤلماً داواهم بالإشارة إلى النصر مشروطاً بشرط التقوى والصبر فقال : {وإن تصبروا وتتقوا} أي تكونوا من أهل الصبر والتقوى {لا يضركم كيدهم شيئاً} ثم علل ذلك بقوله : {إن الله} أي ذال الجلال والإكرام {بما يعملون محيط} أي فهو يعد لكل كيد ما يبطله ، والمعنى على قراءة الخطاب : بعملكم كله ، فمن صبر واتقى ظفرته ، ومن عمل على غير ذلك انتقمت منه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 142}
وقال الفخر :
واعلم أن هذه الآية من تمام وصف المنافقين ، فبيّن تعالى أنهم مع ما لهم من الصفات الذميمة والأفعال القبيحة مترقبون نزول نوع من المحنة والبلاء بالمؤمنين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 177}
فصل
قال الفخر : (16/188)
المس أصله باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء ( ماساً ) على سبيل التشبيه فيقال : فلان مسّه التعب والنصب ، قال تعالى : {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ ق : 38 ] وقال : {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِى البحر} [ الإسراء : 67 ]
قال صاحب "الكشاف" : المس ههنا بمعنى الإصابة ، قال تعالى : {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} [ التوبة : 50 ] وقوله {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [ النساء : 79 ] وقال : {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [ المعارج : 20 ، 21 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 177}
وقال ابن عطية :
ذكر الله تعالى المس في الحسنة ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة ، وهي عبارة عن التمكن.
لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه ، أو فيه.
فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 498}
فصل
قال الفخر :
المراد من الحسنة ههنا منفعة الدنيا على اختلاف أحوالها ، فمنها صحة البدن وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة والأُلفة بين الأحباب والمراد بالسيئة أضدادها ، وهي المرض والفقر والهزيمة والانهزام من العدو وحصول التفرق بين الأقارب ، والقتل والنهب والغارة ، فبيّن تعالى أنهم يحزنون ويغتمون بحصول نوع من أنواع الحسنة للمسلمين ويفرحون بحصول نوع من أنواع السيئة لهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 177}(16/189)
فائدة
قال الفخر :
يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء ، والأنثى سيئة أي : قبح ، ومنه قوله تعالى : {سَاء مَا يَعْمَلُونَ} [ المائدة : 66 ] والسوأى ضد الحسنى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 177}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } قرأ السُّلَميّ بالياء والباقون بالتاء.
واللفظ عام في كل ما يحسُن ويسوء.
وما ذكره المفسرون من الخِصْب والجَدْب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم إلى غير ذلك من الأقوال أمثلة وليس باختلاف.
والمعنى في الآية : أن من كانت هذه صفته من شدّة العداوة والحِقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين ، لم يكن أهلاً لأن يتخذ بطانة ، لا سِيما في هذا الأمر الجسيم من الجهاد الذي هو مِلاك الدنيا والآخرة ؛ ولقد أحسن القائل في قوله :
كلّ العداوةِ قد تُرجَى إفاقتُها . . .
إلاّ عداوة مَن عاداك مِنْ حسدِ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 183}(16/190)
وقال الآلوسى :
{ إِن تَمْسَسْكُمْ } أيها المؤمنون { حَسَنَةٌ } نعمة من ربكم كالألفة واجتماع الكلمة والظفر بالأعداء { تَسُوْهُمْ } أي تحزنهم وتغظهم { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ } أي محنة كإصابة العدو منكم واختلاف الكلمة فيما بينكم { يَفْرَحُواْ } أي يبتهجوا { بِهَا } وفي ذلك إشارة إلى تناهي عداوتهم إلى حد الحسد والشماتة ، والمس قيل : مستعار للإصابة فهما هنا بمعنى ، وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله تعالى : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } [ التوبة : 50 ] وقوله سبحانه : { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } [ المعارج : 20 ، 21 ] والتعبير هنا بالمسّ مع الحسنة وبالإصابة مع السيئة لمجرد التفنن في التعبير ، وقال بعض المحققين : الأحسن والأنسب بالمقام ما قيل : إنه للدلالة على إفراطهم في السرور والحزن لأن المسّ أقل من الإصابة كما هو الظاهر فإذا ساءهم أقلّ خير نالهم فغيره أولى منه ، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت ويرق الحاسد فغيره أولى فهم لا ترجى موالاتهم أصلاً فكيف تتخذونهم بطانة ؟ ا والقول بأنه لا يبعد أن يقال : إن ذلك إشارة إلى أن ما يصيبهم من الخير بالنسبة إلى لطف الله تعالى معهم خير قليل وما يصيبهم من السيئة بالنسبة لما يقابل به من الأجر الجزيل عظيم بعيد كما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 40}
لطيفة
قال أبو حيان :
والنكرة هنا في سياق الشرط بأن تعم عموم البدل ، ولم يأت معرفاً لإيهام التعيين بالعهد ، ولإيهام العموم الشمولي.
وقابل الحسنة بالسيئة ، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 45}
لطيفة
قال ابن عادل :
قال أبو العباس : وردت الحسنةُ على خمسةِ أوجُه : (16/191)
الأول : بمعنى : النصر والظفَر ، قال تعالى : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] أي : نَصْر وَظفَر.
الثاني : بمعنى : التوحيد ، قال تعالى : { مَن جَآءَ بالحسنة } [ الأنعام : 160 ] أي : بالتوحيد.
الثالث : الرَّخَاء : قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله } [ النساء : 78 ] أي : رخاء.
الرابع : بمعنى : العاقبة ، قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } [ الرعد : 6 ] أي بالعذاب قبل العاقبةِ.
الخامس : القول بالمعروف ، قال تعالى : { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } [ الرعد : 22 ] أي : بالقول المعروف.
فصل
والسيئة - أيضاً - على خمسة أوجه :
الأول : بمعنى : الهزيمة - كما تقدم - كقوله : { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } [ آل عمران : 120 ] أي : هزيمة.
الثاني : الشرك ، قال تعالى : { وَمَن جَآءَ بالسيئة } [ الأنعام : 160 ] أي : بالشرك.
الثالث : القحط ، قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] أي : قحط ، ومثله قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ].
الرابع : العذاب ، قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة } [ الرعد : 6 ].
الخامس : القول الرديء ، قال تعالى : { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } [ الرعد : 22 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 500 ـ 501}.
قوله تعالى : {وَإن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}
قال الفخر : (16/192)
{وَإن تَصْبِرُواْ} يعني على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم {وَتَتَّقُواْ} كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 177}
وقال ابن عاشور :
وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }.
أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقّي أذى العدوّ : بأن يتلقّوه بالصّبر والحذر ، وعبّر عن الحذر بالاتّقاء أي اتّقاء كيدهم وخداعهم ، وقوله { لا يَضِركم كيدهم شيئاً } أي بذلك ينتفي الضرّ كلّه لأنّه أثبت في أوّل الآيات أنّهم لا يضرّون المؤمنين إلاّ أذى ، فالأذى ضرّ خفيف ، فلمَّا انتفى الضرّ الأعظم الَّذي يحتاج في دفعه إلى شديدِ مقاومة من القتال وحراسة وإنفاق ، كان انتفاء ما بَقي من الضرّ هيّناً ، وذلك بالصّبر على الأذى ، وقلّة الاكتراث به ، مع الحذر منهم أن يتوسّلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضرّاً عظيماً.
وفي الحديث : " لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللَّهِ يدعون له نِدّاً وهو يرزقهم ". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 204}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {لاَ يَضُرُّكُمْ} بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء ، وهو من ضاره يضيره ، ويضوره ضوراً إذا ضرَّه ، والباقون {لاَ يَضُرُّكُمْ} بضم الضاد والراء المشددة وهو من الضر ، وأصله يضرركم جزماً ، فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة ، اتباعاً لأقرب الحركات وهي ضمة الضاد ، وقال بعضهم : هو على التقديم والتأخير تقديره : ولا يضركم كيدهم شيئاً إن تصبروا وتتقوا ،
قال صاحب "الكشاف" : وروى المفضل عن عاصم {لاَ يَضُرُّكُمْ} بفتح الراء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 177}(16/193)
وقال ابن عادل :
وقرأ الباقون : { يَضُرُّكُمْ } بضم الضاد ، وتشديد الراء مرفوعة ، وفي هذه القراءة أوجه :
الأول : أن الفعل مرتفع ، وليس بجواب للشرط ، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط ، وذلك أنه على نية التقديم ؛ إذ التقدير : لا يضركم إن تصبروا وتتقوا ، فلا يضركم ، فحذف فلا يضركم الذي هو الجواب ، لدلالة ما تقدم عليه ، ثم أخر ما هو دليل على الجواب ، وهذا تخريج سيبويه وأتباعه ، إنما احتاجوا إلى ارتكاب ذلك ، لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجزم ، ومثله قول الراجز :
يا أقْرَعُ بْنَ حَابسٍ يَا أقْرَعُ... إنَّكَ إنْ يُصْرَع أخُوكَ تُصْرَعُ
برفع " تصرع " الأخير-.
وكذلك قوله : [ البسيط ]
وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ... يَقُولُ : لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
برفع " يقول " - إلاَّ أن هذا النوع مطّرد ، بخلاف ما قبله - أعني : كون فعل الشرط والجزاء مضارعين - فإن المنقول عن سيبويه ، وأتباعه وجوب الجزم ، إلا في ضرورة.
كقوله : [ الرجز ]
...................... إنَّك إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وتخريجه هذه الآية على ما تقدم عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورة
الوجه الثاني : أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدَّرة ، وهي وما بعدها الجواب في الحقيقة ، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفِع ليس إلاَّ كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ].
والتقدير : فلا يضركم ، والفاء حذفت في غير محل النزاع.
كقوله : [ البسيط ]
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلانِ(16/194)
أي : فالله يشكرها ، وهذا الوجه نقله بعضهم عن المبرد ، وفيه نظر ؛ من حيث إنهم ، لما أنشدوا البيت المذكور ، نقلوا عن المبرد أنه لا يُجَوَّز حَذْفَ هذه الفاء - ألبتة - لا ضرورة ، ولا غيرها - وينقلون عنه أنه يقول : إنما الرواية في هذا البيت : [ البسيط ]
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ... وردوا عليه بأنه إذا صحَّت روايةٌ ، فلا يقدح فيها غيرُها ، ونقله بعضُهم عن الفراء والكسائي ، وهذا أقرب.
الوجه الثالث : أن الحركة حركة إتباع ؛ وذلك أن الأصل : " لاَ يَضْرُرْكُمْ ". بالفك وسكون الثاني جَزْماً ، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخر فعل سكن ثانيهما - جَزْماً ، أو وَقْفاً - فللعرب فيه مذهبان :
الجزم : وهو لغة تميم.
والفك : وهو لغة الحجاز.
لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك ، فاضطررنا إلى تحريك المِثْل الثاني ، فحَرَّكْناه بأقرب الحركات إليه ، وهي الضمة التي على الحرف قبله ، فحرَّكناه بها ، وأدْغمنا ما قبله فيه ، فهو مجزوم تقديراً ، وهذه الحركة - في الحقيقة - حركة إتباع ، لا حركة إعراب ، بخلافها في الوجهين السابقين ، فإنها حركة إعراب.
واعلم أنه متى أدغم هذا النوع ، فإما أن تكون فاؤُه مضمومةً ، أو مفتوحةً ، أو مكسورةً ، فإن كانت مضمومة - كالآية الكريمة.
وقولهم : مُدَّ - ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام :
الضم للإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين ، فتقول : مُدَّ ومُدُّ ومُدِّ.
وينشدون على ذلك قول الشاعر : [ الوافر ]
فغُضّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ... فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا
بضم الضاد ، وفتحها ، وكسرها - على ما تقرر - وسيأتي أن الآية قُرِئَ فيها بالأوُجه الثلاثةِ.
(16/195)
وإن كانت فاؤه مفتوحةً ، نحو عَضَّ ، أو مكسورة ، نحو فِرَّ ، كان في اللام وجهان : الفتح ، والكسر ؛ إذ لا وَجْهَ للضمِّ ، لكن لك في نحو فِرَّ أن تقول : الكسر من وجهين : إما الإتباع ، وإما التقاء الساكنين ، وكذلك لك في الفتح - نحو عَضَّ - وجهان - أيضاً- : إما الإتباع ، وإمَّا التخفيف.
هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب ، فأما إذا اتصل به ضمير الغائب - نحو رُدَّهُ - ففيه تفصيل ولغات ليس هذا موضعها.
وقرأ عاصم - فيما رواه المفضَّل- : بضم الضاد ، وتشديد الراء مفتوحة - على ما تقدم من التخفيف - وهي عندهم أوجه من ضم الراء.
وقرأ الضحاك بن مزاحم : " لا يَضُرِّكُمْ " بضم الضاد ، وتشديد الراء المكسورة - على ما تقدم من التقاء الساكنين. وكأن ابْنُ عَطِيَّةَ لم يحفظها قراءةً ؛ فإنه قال : فأما الكسر فلا أعرفه قراءةً.
وعبارة الزجَّاج في ذلك متجوَّز فيها ؛ إذْ يظهر من روح كلامه أنها قراءة وقد بينا أنها قراءة.
وقرأ أبيّ : " لا يَضْرُرْكُمْ " بالفكّ ، وهي لغة الحجاز.
والكيد : المكر والاحتيال.
وقال الراغب : هو نوع من الاحتيال ، وقد يكون ممدوحاً ، وقد يكون مذموماً ، وإن كان استعماله في المذموم أكثر.
قال ابْنُ قُتَيْبَةَ : وأصله من المشقة ، من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي : يجود بها في غمرات الموت ، ومشقاته.
ويقال : كِدْتُ فلاناً ، أكيده - كبعته أبيعُه.
قال الشاعر : [ الخفيف ]
مَنْ يَكِدْنِي بسَيِّءٍ كُنْتُ مِنْهُ... كَالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ وَالْوَرِيدِ
و " شَيْئاً " منصوب نصب المصادر ، أي : شيئاً من الضرر ، وقد تقدم نظيره. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 501 ـ 504}.
فائدة
قال الفخر :
الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه ، وابن عباس فسّر الكيد ههنا بالعداوة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 177}(16/196)
فصل
قال الفخر :
معنى الآية : أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين.
وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية كما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [ الذاريات : 56 ] فمن وفى بعهد العبودية في ذلك فالله سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات ، وإليه الإشارة بقوله {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [ الطلاق : 2 ، 3 ] إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره ، وقال بعض الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسد فاجتهد في اكتساب الفضائل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 177 ـ 178}
فائدة
قال النسفى :
وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى.
وقال الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك. أ هـ {تفسير النسفى حـ 1 صـ 175}
قوله تعالى : {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
قال الطبرى :
وقوله : "إنّ الله بما يعملون محيطٌ" ، يقول جل ثناؤه : إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبيله ، والعداوة لأهل دينه ، وغير ذلك من معاصي الله "محيط" بجميعه ، حافظ له ، لا يعزب عنه شيء منه ، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله ، ويذيقهم عقوبته عليه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 158}
فصل
قال الفخر :
قرىء بما يعملون بالياء على سبيل المغايبة بمعنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه ، ومن قرأ بالتاء على سبيل المخاطبة ، فالمعنى أنه عالم محيط بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم أهله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 178}(16/197)
فصل
قال الفخر :
إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز ، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه ، وذلك من صفات الأجسام ، لكنه تعالى لما كان عالماً بكل الأشياء قادراً على كل الممكنات ، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها ، ومنه قوله {والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ} [ البروج : 20 ] وقال : {والله مُحِيطٌ بالكافرين} [ البقرة : 19 ] وقال : {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [ طه : 110 ] وقال : {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شَىْء عَدَداً} [ الجن : 28 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 178}
فائدة
قال الفخر :
إنما قال : {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ولم يقل إن الله محيط بما يعملون لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه ، أعني وليس المقصود ههنا بيان كونه تعالى عالماً ، بينا أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها ، فلا جرم قد ذكر العمل ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 178}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
قالوا : وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البلاغة والفصاحة.
منها : الوصل والقطع في { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة }.
والتكرار : في أصحاب النار هم.
والعدول عن اسم الفاعل إلى غيره : في يتلون وما بعده ، وفي يظلمون.
والاكتفاء بذكر بعض الشيء عن كله إذا كان فيه دلالة على الباقي في : يؤمنون بالله واليوم الآخر.
والمقابلة : في تأمرون وتنهون ، وفي المعروف والمنكر.
ويجوز أن يكون طباقاً معنوياً ، وفي حسنة وسيئة ، وفي تسؤهم ويفرحوا.
والاختصاص : في عليم بالمتقين ، وفي أموالهم ولا أولادهم ، وفي كمثل ريح ، وفي حرث قوم ظلموا أنفسهم ، وفي بذات الصدور.
والتشبيه : في مثل ما ينقون ، وفي بطانة ، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد التأويلين ، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة.(16/198)
شبه حصولهما بالمس والإصابة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، والصحيح أن هذه استعارة.
وفي محيط شبه القدرة على الأشياء والعلم بها بالشيء المحدق بالشيء من جميع جهاته ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
والتجنيس المماثل : في ظلمهم ويظلمون ، وفي تحبونهم ولا يحبونكم ، وفي تؤمنون وآمنا ، وفي من الغيظ وبغيظكم.
والالتفات : في وما تفعلوا من خير فلن تكفروه على قراءة من قرأ بالتاء ، وفي ما تعملون محيط على أحد الوجهين.
وتسمية الشيء باسم محله : في من أفواههم عبر بها عن الألسنة لأنها محلها.
والحذف في مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 46 ـ 47}(16/199)
قوله تعالى { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان ما تضمنته هذه الآية من الإخبار ومن الوعد ومن الوعيد منطوقاً ومفهوماً محتاجاً إلى الاجتلاء في صور الجزئيات ذكرهم سبحانه وتعالى بالوقائع التي شوهدت فيها أحوالهم من النصر عند العمل بمنطوق الوعد من الصبر والتقوى وعدمه عند العمل بالمفهوم ، وشوهدت فيها أحوال عدوهم من المساءة عند السرور والسرور عد المساءة ، وذلك غني عن دليل لكونه من المشاهدات ، مشيراً إلى ذلك بواو العطف على غير مذكور ، مخاطباً لأعظم عباده فطنة وأقربهم إليه رتبة ، تهييجاً لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل من غير أدنى وقوف مع المألوف فقال تعالى : {وإذ} أي اذكر ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين صبرتم واتقيتم فنصرتم ، وحين ساءهم نصركم في كل ذلك في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة ، ثم في بدر ، ثم في غزوة بني قينقاع ونحو ذلك ، واذكر إذ لم يصبر أصحابك فأصيبوا ، وإذ سرتهم مصيبتكم في وقعة أحد إذ {غدوت} أي يا خاتم الأنبياء وأكرم المرسلين! {من أهلك} أي بالمدينة الشريفة صبيحة يوم الجمعة إلى أصحابك في مسجدك لتستشيرهم في أمر المشركين.
وقد نزلوا بأحد في أواخر يوم الأربعاء ، أو في يوم الخميس لقتالكم.
وبنى من {غدوت} حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبب شروع في مسببه فقال : {تبوىء} أي تنزل {المؤمنين} أي صبيحة يوم السبت وعبر بقوله : {مقاعد} إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم تقدم إلى كل أحد بالثبات في مركزه ، وأوعز إليه في أن لا يفعل شيئاً إلا بأمره لا سيما الرماة ، ثم ذكر علة ذلك فقال : {للقتال }.(16/200)
ولما كان التقدير : وتتقدم إليهم بأبلغ مقال في تشديد الأقوال والأفعال ، أشار تعالى إلى أنه وقع في غضون ذلك منه ومنهم كلام كثير خفي وجلي بقوله : {والله} أي والحال أن الملك الأعظم الذي أنتم في طاعته {سميع} أي لأقوالكم {عليم} أي بنياتكم في ذلك وغيره فاحذروه ، ولعله خص النبي صلى الله عليه وسلم بلذيذ الخطاب في التذكير تحريضاً لهم مع ما تقدمت الإشارة إليه على المراقبة تعريضاً لهم بأنهم خفوا مع الذين ذكرهم أمر بعاث حتى تواثبوا حين تغاضبوا إلى السلاح - كما ذكر في سبب نزول قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب} [ آل عمران : 100 ] ، فوقفوا عن نافذ الفهم وصافي الفكر خفة إلى ما أراد بهم عدوهم فاقتضى هذا التحذير كله ، ويؤيد ذلك إقباله في الخطاب عليهم عند نسبة الفشل إليها - كما يأتي قريباً ، ولعله إنما خص هذه الغزوة بالذكر دون ما ذكرت أن واو عطفها دلت عليه مما أيدوا فيه بالنصر لأن الشماتة بالمصيبة أدل على البغضاء والعداوة من الحزن بما يسر ، ودل ذكرها على المحذوف لأن المدعي فيما قبلها شيئان : المساءة بالحسنة ، والفرح والمسرة بالمصيبة ، فإذا برهن المتكلم على الثاني عليم ولا بد أنه حذف برهان الأول ، وأنه إنما حذفه - وهو حكيم - لنكتة ، وهي هنا عدم الاحتياج إلى ذكره لوضوحه بدلالة السياق مع واو العطف عليه ، وما تقدم من كونه غير صريح الدلالة في أمر البغض على أنه تعالى قد ذكر بدراً - كما ترى - بعد محكمة ستذكر ، وأطلق سبحانه وتعالى - كما عن الطبري وغيره - التبوء على ابتداء القتال بالاستشارة فإن الكفار لما نزلوا يوم الأربعاء ثاني عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة في سفح أحد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر فيهم ما يأتيه من الوحي بقية يوم الأربعاء ويوم الخميس وليلة(16/201)
الجمعة وباتت وجوه الأنصار في المسجد بباب النبي صلى الله عليه وسلم يحرسونه صلى الله عليه وسلم وحرست المدينة الشريفة ، ثم دعا الناس صبيحة يوم الجمعة فاستشارهم في أمرهم وأخبرهم برؤياه تلك الليلة : البقر المذبوحة ، والثلم في سيفه ، وإدخال يده في الدرع الحصينة ، وكان رأيه مع رأي كثير من الصحابة المكث في المدينة ، فإن قاتلوهم فيها قاتلهم الرجال مواجهة والنساء والصبيان من فوق الأسطحة ، وكان عبد الله بن أبيّ المنافق على هذا الرأي ، فلم يزل ناس ممن أكرمهم الله بالشهادة - منهم أسد الله وأسد رسوله عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه - يلحون عليه صلى الله عليه وسلم في الخروج إليهم حتى أجاب فدخل بيته ولبس لأمته بعد أن صلى الجمعة فندموا على استكراههم له صلى الله عليه وسلم وهو يأتيه الوحي ، فلما خرج إليهم أخبروه وسألوه في الإقامة إن شاء فقال : " ما كان ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ".
(16/202)
وفي رواية " حتى يلاقي " فأتى الشيخين - وهما أطمان - فعرض بهما عسكره ففرغ مع غياب الشمس ، ورآه المشركون حين نزل بهما ، واستعمل تلك الليلة على حرسه محمد ابن مسلمة ، واستعمل المشركون على حرسهم عكرمة بن أبي جهل ، ثم أدلج من سحر ليلة السبت ، وندب الأدلاء ليسيروا أمامه ، وحانت صلاة الصبح في الشوط وهم بحيث يرون المشركين ، فأمر بلالاً رضي الله عنه فأذن وأقام ، وصلى بأصحابه صلى الله عليه وسلم الصبح صفوفاً ، فانخزل عبد الله بن أبيّ بثلث العسكر فرجع وقال : أطاع الولدان ، ومن لا رأي له وعصاني ، وما ندري علام نقتل أنفسنا! وتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر ابن عبد الله -أحد بني سلمة وأحد من استشهد في ذلك اليوم وكلمه الله قبلاً - يناشدهم الله في الرجوع ، فلم يرجعوا فقال : أبعدكم الله! سيغني الله نبيه صلى الله عليه وسلم عنكم ، ورجع فوافق النبي صلى الله عليه وسلم يصف أصحابه ، وكادت طائفتان من الباقين - وهما بنو سلمة عشيرة عبد الله بن عمرو وبنو حارثة - أن تفشلا لرجوع المنافقين ، ثم ثبتهم الله تعالى ؛ ونزل صلى الله عليه وسلم الشعب من أحد ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وعبأ أصحابه وقال :
(16/203)
" لا يقاتلن أحد حتى نأمره! " وعين طائفة من الرماة وأنزلهم بعينين - جبيل هناك من ورائهم - وأوعز إليهم في أن لا يتغيروا منه حتى يأمرهم إن كانت له أو عليه ، حتى قال لهم : " إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تعينونا ، وإن رأيتمونا هزمناهم فلا تشركونا في الغنيمة ، وانضحوا الخيل عنا إذا أتت من ورائنا " وبرز صاحب لواء المشركين وطلب المبارزة ، فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله المسلم فحمله آخر وبرر فقتل ، وفعلوا ذلك واحداً بعد واحد حتى تموا عشرة كلهم يقتل ، فلما انكسرت قلوب المشركين بتوالي القتل في أصحاب اللواء أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فشدوا فهزموا المشركين وخلوا عسكرهم ونساءهم ، وكان الخيل كلما أتت من وراء المسلمين نضحهم الرماة بالنبل فرجعوا فلما وقع الصحابة رضي الله عنهم في نهب العسكر خلى الرماة ثغرهم ، فنهاهم أميرهم وحذرهم مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يطعه منهم إلا نحو العشرة ، فأتى أصحاب الخيل فقتلوا من بقي من الرماة ، ثم أتوا الصحابة رضي الله عنهم من ورائهم وهم ينتهبون ، فأسرعوا فيهم القتل ونادى إبليس : إن محمداً قد قتل ، فانهزم الصحابة رضوان الله عليهم ، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا قليل ما بين العشرة إلى الثلاثين - على اختلاف الأقوال ، فاستمر يحاول بهم العدو ، والله تعالى يحفظه ويدافع عنه حتى دنت الشمس للمغرب ، وصرف الله العدو ، فدفن النبي صلى الله عليه وسلم الشهداء وصف أصحابه رضي الله عنهم فأثنى على الله عز وجل ثناء عظيماً ، ذكر فيه فضله سبحانه وعدله ، وأن الملك ملكه يتصرف فيه كيف يشاء ، ورجع إلى المدينة الشريفة وقد أصابته الجراحة في مواضع من وجهه بنفسي هو وأبي وأمي ووجهي وعيني. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 142 ـ 145}(16/204)
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما قال : {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [ آل عمران : 120 ] أتبعه بما يدلهم على سنة الله تعالى فيهم في باب النصرة والمعونة ودفع مضار العدو إذا هم صبروا واتقوا ، وخلاف ذلك فيهم إذا لم يصبروا فقال : {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين للقتال ، فلما خالفوا أمر الرسول انهزموا ، ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين للقتال فلما أطاعوا أمر الرسول غلبوا واستولوا على خصومهم ، وذلك يؤكد قولنا ، وفيه وجه آخر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أُبي بن سلول المنافق ، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ هؤلاء المنافقين بطانة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 178 ـ 179}
وقال ابن عاشور :
وجود حرف العطف في قوله : { وإذ غدوت } مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدّمة مثل { ودوا ما عنتم } [ آل عمران : 118 ] ومثل { يفرحوا بها } [ آل عمران : 120 ] وعليه فهو آت كما أتَتْ نظائره في أوائل الآي والقِصص القرآنية ، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير : واذكر إذ غدوت.
ولا يأتي في هذا تعلّق الظرف بفعل ممَّا بعده لأنّ قوله : { تبوىء } لاَ يستقيم أن يكون مبدأ الغرض ، وقوله : { همت } لا يصلح لتعليق { إذ غدوت } لأنَّه مدخول ( إذْ ) أخرى.
ومناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدّم أنَّها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدّين ، المنافقين ، ولمَّا كان شأن المنافقين من اليهود وأهل يثرب واحداً ، ودخيلتهما سواء ، وكانوا يعملون على ما تدبّره اليهود ، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحُد ، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحُد كما تقدّم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 204 ـ 205}(16/205)
فصل
قال الفخر :
قوله {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} فيه ثلاثة أوجه
الأول : تقديره واذكر إذ غدوت
والثاني : قال أبو مسلم : هذا كلام معطوف بالواو على قوله {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [ آل عمران : 13 ] يقول : قد كان لكم في نصر الله تلك الطائفة القليلة من المؤمنين على الطائفة الكثيرة من الكافرين موضع اعتبار لتعرفوا به أن الله ناصر المؤمنين ، وكان لهم مثل ذلك من الآية إذ غدا الرسول صلى الله عليه وسلم يبوىء المؤمنين مقاعد للقتال
والثالث : العامل فيه محيط : تقديره والله بما يعملون محيط وإذ غدوت. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 179}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن هذا اليوم أي يوم هو ؟ فالأكثرون : أنه يوم أحد : وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحاق والربيع والأصم وأبي مسلم ، وقيل : إنه يوم بدر ، وهو قول الحسن ، وقيل إنه يوم الأحزاب وهو قول مجاهد ومقاتل ، حجة من قال هذا اليوم هو يوم أحد وجوه
الأول : أن أكثر العلماء بالمغازي زعموا أن هذه الآية نزلت في وقعة أُحد
الثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} [ آل عمران : 123 ] والظاهر أنه معطوف على ما تقدم ، ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، وأما يوم الأحزاب ، فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد لا يوم الأحزاب ، فكانت قصة أحد أليق بهذا الكلام لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} فثبت أن هذا اليوم هو يوم أحد(16/206)
الثالث : أن الانكسار واستيلاء العدو كان في يوم أحد أكثر منه في يوم الأحزاب لأن في يوم أحد قتلوا جمعاً كثيراً من أكابر الصحابة ولم يتفق ذلك يوم الأحزاب فكان حمل الآية على يوم أحد أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 179}
وقال أبو حيان :
وقال الحسن : كان هذا الغدو في غزوة الأحزاب.
وهو قول : مجاهد ، ومقاتل ، وهو ضعيف.
لأن يوم الأحزاب كان فيه ظفر المؤمنين ، ولم يجر فيه شيء مما ذكر في هذه الآيات بل قصتاهما متباينتان. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 48}
فائدة
قال ابن عطية :
ذهب الطبري رحمه الله إلى أن هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من الآيات والظاهر أنها استقبال أمر آخر ، لأن تلك مقاولة في شأن منافقي اليهود ، وهذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد ، فالعامل في { إذ } فعل مضمر تقديره واذكر ، وقال الحسن : هذا الغدو المذكور في هذه الآية " لتبويء المؤمنين " الذي كان في غزوة الأحزاب.
قال القاضي أبو محمد : وخالفه الناس ، والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 499}(16/207)
فصل
قال الفخر :
روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد الله وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم والله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل عدو علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر موضع وإن دخلوا قتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال آخرون : أخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لئلا يظنوا أنا قد خفناهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إني قد رأيت في منامي بقراً تذبح حولي فأولتها خيراً ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأوَّلته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم " فقال قوم من المسلمين من الذين فاتتهم ( بدر ) وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته ، فلما لبس ندم القوم ، وقالوا : بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحي يأتيه ، فقالوا له اصنع يا رسول الله ما رأيت ، فقال : " لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل " فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال ، فمشى على رجليه وجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال له تأخر ، وكان نزوله في جانب الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أُحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة ، وقال : ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا ، وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : " اثبتوا في هذا المقام ، فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار ، فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام " ، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما خالف(16/208)
رأي عبد الله بن أُبَيّ شق عليه ذلك ، وقال : أطاع الولدان وعصاني ، ثم قال لأصحابه : إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم ، وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا ، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعوكم ، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد عليه السلام ، فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بالمنافقين ، وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً ، فانهزم عبد الله بن أُبي مع ثلثمائة ، فبقيت سبعمائة ، ثم قواهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين ، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم ، وكان الله تعالى بشرهم بذلك ، طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر ، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع ، وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أراهم ما يحبون ، فأراد الله تعالى أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول عليه السلام وليعلموا أن ظفرهم إنما حصل يوم بدو ببركة طاعتهم لله ولرسوله ، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين ، فكثر عليهم المشركون وتفرق العسكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : {إِذَا تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ} [ آل عمران : 153 ] وشج وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه ، ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وسعد ، ووقعت الصيحة في العسكر أن محمداً قد قتل ، وكان رجل يكنى أبا سفيان من الأنصار نادى الأنصار وقال : هذا رسول الله ، فرجع إليه المهاجرون والأنصار ، وكان قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح ، فقال صلى الله عليه وسلم : " رحم الله رجلاً ذب عن إخوانه " وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى والله أعلم.(16/209)
والمقصود من القصة أن الكفار كانوا ثلاثة آلاف والمسلمون كانوا ألفاً وأقل ، ثم رجع عبد الله بن أُبي مع ثلثمائة من أصحابه فبقي الرسول صلى الله عليه وسلم مع سبعمائة ، فأعانهم الله حتى هزموا الكفار ، ثم لما خالفوا أمر الرسول واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم وانهزموا ووقع ما وقع ، وكل ذلك يؤكد قوله تعالى : {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [ آل عمران : 120 ] وأن المقبل من أعانه الله ، والمدبر من خذله الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 179 ـ 180}
فصل
قال الفخر :
يقال : بوأته منزلاً وبوأت له منزلاً أي أنزلته فيه ، والمباءة والباءة المنزل وقوله {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي مواطن ومواضع ، وقد اتسعوا في استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان ، ومنه قوله تعالى : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} [ القمر : 55 ] وقال : {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [ النمل : 39 ] أي من مجلسك وموضع حكمك وإنما عبر عن الأمكنة ههنا بالمقاعد لوجهين
الأول : وهو أنه عليه السلام أمرهم أن يثبتوا في مقاعدهم لا ينتقلوا عنها ، والقاعد في مكان لا ينتقل عنه فسمى تلك الأمكنة بالمقاعد ، تنبيهاً على أنهم مأمورون بأن يثبتوا فيها ولا ينتقلوا عنها ألبتة
والثاني : أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدو فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة فسميت تلك الأمكنة بالمقاعد لهذا الوجه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 180}
فوائد لغوية
قال أبو حيان :
وظاهر قوله : وإذ غدوت ، خروجه غدوة من عند أهله.
وفسر ذلك بخروجه من حجرة عائشة يوم الجمعة غدوة حين استشار الناس ، فمِنْ مشير بالإقامة وعدم الخروج إلى القتال.
وأن المشركين إنْ جاؤوا قاتلوهم بالمدينة ، وكان ذلك رأيه صلى الله عليه وسلم.(16/210)
ومن مشير بالخروج وهم : جماعة من صالحي المؤمنين فأتتهم وقعة بدر وتبوئة المؤمنين مقاعد للقتال ، على هذا القول هو أن يقسمَ أفطار المدينة على قبائل الأنصار.
وقيل : غدوه هو نهوضه يوم الجمعة بعد الصلاة وتبوئته في وقت حضور القتال.
وسماه غدواً إذ كان قد عزم عليه غدوة.
وقيل : غدوه كان يوم السبت للقتال.
ولما لم تكن تلك الليلة موافقة للغدو وكأنه كان في أهله ، والعامل في إذا ذكر.
وقيل : هو معطوف على قوله : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } أي وآية إذ غدوت ، وهذا في غاية البعد.
ولولا أنه مسطور في الكتب ما ذكرته.
وكذلك قولُ مَنْ جعل من في معنى مع ، أي : وإذ غدوت مع أهلك.
وهذه تخريجات يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب.
ومعنى تبويّء تنزل ، من المباءة وهي المرجع ومنه { لنبوئنهم من الجنة غرفاً } فليتبوأ مقعده من النار ، وقال الشاعر :
كم صاحب لي صالح . . .
بوّأته بيديّ لحدا
وقال الأعشى :
وما بوّأ الرحمن بيتك منزلا . . .
بشرقيّ أجياد الصفا والمحرم
ومقاعد : جمع مقعد ، وهو هناك مكان القعود.
والمعنى : مواطن ومواقف.
وقد استعمل المقعد والمقام في معنى المكان.
ومنه : { في مقعد صدق } { قبل أن تقوم من مقامك }
وقال الزمخشري : وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار انتهى.
أمّا إجراء قعد مجرى صار فقال أصحابنا : إنما جاء في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى ، وهي في قولهم : شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة ، أي صارت.
وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى : { فتقعد ملوماً } على أن معناه : فتصير ، لأن ذلك عند النحويين لا يطرد.
وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن الأعرابي : القعد الصيرورة ، والعرب تقول : قعد فلان أميراً بعدما كان مأموراً أي صار.(16/211)
وأمّا إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحداً عدّها في أخوات كان ، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار ، ولا ذكر لها خبراً إلا أبا عبد الله بن هشام الحضراوي فإنه قال في قول الشاعر :
على ما قام يشتمني لئيم . . .
إنها من أفعال المقاربة
وقال ابن عطية : لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أنّ الرماة إنما كانوا قعوداً ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً ، والمبارزة والسرعان يجولون.
وجمع المقاعد لأنه عيّن لهم مواقف يكونون فيها : كالميمنة والميسرة ، والقلب ، والشاقة.
وبيّن لكل فريق منهم موضعهم الذي يقفون فيه.
خرج صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الجمعة ، وأصبح بالشعب يوم السبت للنصف من شوال ، فمشى على رجليه ، فجعل يصفّ أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح.
إنْ رأى صدراً خارجاً قال : " تأخر " ، وكان نزوله في غدوة الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد.
وأمر عبد الله بنَ جبير على الرماة وقال لهم : " انصحوا عنا بالنبل " لا يأتونا من ورائنا ".
وتبوىء جملة حالية من ضمير المخاطب.
فقيل : هي حال مقدرة ، أي خرجت قاصد التبوئة ، لأن وقت الغدوّ لم يكن وقت التبوئة.
وقرأ الجمهور تبوىء من بوّأ.
وقرأ عبد الله : تبوِّىء من أبوأ ، عداه الجمهور بالتضعيف ، وعبد الله بالهمزة.
وقرأ يحيى بن وثاب : تبوى بوزن تحيا ، عداه بالهمزة ، وسهل لام الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو : يقرى في يقرىء.
وقرأ عبد الله : للمؤمنين بلام الجر على معنى : ترتب وتهيىء.
ويظهر أنَّ الأصل تعديته لواحد بنفسه ، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه ، إنما يتعدى بحرف جر.
وقرأ الأشهب : مقاعد القتال على الإضافة ، وانتصاب مقاعد على أنه مفعول ثان لتبوى.
(16/212)
ومَنْ قرأ للمؤمنين كان مفعولاً لتبوىء ، وعداه باللام كما في قوله : { وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت } وقيل : اللام في لابراهيم زائدة ، واللام في للقتال لام العلة تتعلق بتبوىء.
وقيل : في موضع الصفة لمقاعد.
وفي الآية دليل على أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر ويختارون لهم المواضع للحرب ، وعلى الأجناد طاعتهم قاله : الماتريدي.
وهو ظاهر. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 48 ـ 50}
فصل
قال الفخر :
قوله {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} يروى أنه عليه السلام غدا من منزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه إلى أحد ، وهذا قول مجاهد والواقدي ، فدل هذا النص على أن عائشة رضي الله عنها كانت أهلاً للنبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى : {الطيبات لِلطَّيّبِينَ والطيبون للطيبات} [ النور : 26 ] فدل هذا النص على أنها مطهرة مبرأة عن كل قبيح ، ألا ترى أن ولد نوح لما كان كافراً قال : {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [ هود : 46 ] وكذلك امرأة لوط. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 180 ـ 181}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
العامل في " إذْ " مضمَر ، تقديره : واذكر إذْ غدوت ، فينتصب المفعول به لا على الظرف ، وجوَّز أبو مسلم أن يكون معطوفاً على { فِئَتَيْنِ } في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } [ آل عمران : 13 ] أي : قد كان لكم آية في فئتين ، وفي إذْ غَدَوْتَ ، وهذا لا ينبغي أن يعرَّج عليه.
وقال بعضهم : العامل في " إذْ " " محيط " تقديره : بما يعملون محيط إذْ غَدَوْتَ.
قال بعضهم : وهذا لا يَصحّ ؛ لأن الواو في ( وَإِذْ ) يمنع في عمل ( مُحِيطٌ ) فيها.(16/213)
والغُدوّ : الخروج أول النهار ، يقال : غدا يغدو ، أي : خرج غدوة ، وفي هذا دليل على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال ؛ لأن المفسِّرين أجمعوا على أنه إنما خرج بعد أن صَلَّى الجمعة.
ويُسْتَعْمَل بمعنى : " صار " عند بعضهم ، فيكون ناقصاً ، يرفع الاسم ، وينصب الخبر ، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصاً ، وتَرُوحُ بِطَاناً ".
قوله : " من أهلك " متعلق بـ " غَدَوْتَ " ، وفي " مِنْ " وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية ، أي : من بين أهلك.
قال أبو البقاء : " وموضعه نصب ، تقديره فارقت أهلَك ".
قال شهابُ الدِّيْنِ : " وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب ، ولا تفسير معنى ؛ فإن المعنى على غير ما ذكر ".
الثاني : أنها بمعنى : " مع " أي : مع أهْلك ، وهذا لا يساعده لفظ ، ولا معنى.
قوله : " تبوئ " يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل : " غَدَوْتَ " ، وهي حال مقدرة ، أي : قاصداً تَبْوئةَ المؤمنين ؛ لأن وقت الغدو ليس وقتاً للتبوئة ، ويُحْتَمَل أن تكون حالاً مقارنة ؛ لأن الزمان متسع.
و " تبوئ " أي تُنزل ، فهو يتعدى لمفعولين ، إلى أحدهما بنفسه ، وإلى الآخر بحرف الجر ، وقد يُحْذَف - كهذه الآية - ومن عدم الحذف قوله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت } [ الحج : 26 ] وأصله من المباءة - وهي المرجع-.
قال الشاعر : [ الطويل ]
وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مُنْزِلاً... بِشَرْقيٍّ أجْيَادِ الصَّفَا وَالْمُحَرَّمِ
وقال آخر : [ مجزوء الكامل ]
كَمْ صَاحِبٍ لِيَ صَالِحٍ... بَوَّأتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
وقد تقدم اشتقاقه.
وقيل : اللام في قوله " لإبراهيم " مزيدة ، فعلى هذا يكون متعدياً لاثنين بنفسه.(16/214)
و " مقَاعِدَ " جمع مَقْعَد ، والمراد به - هنا - مكان القعود ، و" قعد " قد يكون بمعنى : " صار " في المثل خاصة.
قال الزمخشري : " وقد اتُّسِعَ في قَامَ ، وقَعَدَ ، حتى أجْرِيَا مُجْرَى صار ".
قال أبو حيان : أما إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار ، فقال بعض أصحابنا : إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل قولهم : شَحَذَ شَفْرَتَه حتَّى قَعَدَتْ كأنَّهَا حَرْبَةٌ ، ولذلك نُقِد على الزمخشري تخريجُه قوله تعالى : { فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً } [ الإسراء : 22 ] بمعنى تصير ؛ لأنه لا يَطَّرِد إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار.
قال شهابُ الدين : " وهذا - الذي ذكره الزمخشري - صحيح ، من كون قَعَد بمعنى : صار في غير ما أشار إليه هذا القائل ؛ حكى أبو عمر الزاهد - عن ابن الأعرابي - أن العرب تقول : قعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً ، أي : صار ".
ثم قال أبو حيان : وأما إجراء قام مُجْرَى صار ، فلا أعلم أحداً عدَّها في أخَوَاتِ " كان " ، ولا جعلها بمعنى " صار " إلا ابن هشام الخَضْراوي ، فإنه ذكر - في قول الشاعر : [ الوافر ]
عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
أنها من أفعال المقاربة.
قال شهابُ الدين : " وغيرُه من النحويين من يجعلها زائدةً ، وهو شاذٌّ ، أيضاً ".
وقرأ العامة : " تبوّئ " بعدَّوْه بالتضعيف ، وقرأ عبد الله : " تُبْوِئ " ، بسكون الباء فعدَّاه بالهمزة ، فهو مضارع أبْوَأ - كأكرم.
وقرأ يحيى بن وثَّاب " تُبْوِي " كقراءة عبد الله ، إلا أنه سَهَّل بإبدالها ياءً ، فصار لفظه كلفظ : يُحيي.(16/215)
وقرأ عبد الله : للمؤمنين - بلام الجر - كقوله : " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " وقد تقدم أن في هذه اللام قولين ، والظاهر أنها معدية ؛ لأنه قبل التضعيف ، والهمزة غيرُ متعدٍّ بنفسه. ويحتمل أن يكون قد ضمَّنه - هنا - تهيِّئ ، وترتِّب.
وقرأ الأشهب " مقاعد القتال " - بإضافتها للقتال - واللام في " لِلْقِتَالِ " - في قراءة الجمهور - فيها وجهان :
أوّلهما : - وهو أظهر - : أنها متعلقة بـ " تبوئ " على أنها لام العلة.
والثاني : أنها متعلقة بمحذوف ؛ لأنها صفة لِ " مَقَاعِدَ " أي : مقاعد كائنة ، ومُهَيَّأة للقتال ، ولا يجوز تعلقها بـ " مقاعد " ، وإن كانت مشتقة ؛ لأنها مكان ، والأمكنة لا تعمل. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 505 ـ 507}.
قوله تعالى : {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
قال الفخر :
{والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالكم عليم بضمائركم ونياتكم ، فإنا ذكرنا أنه عليه السلام شاور أصحابه في ذلك الحرب ، فمنهم من قال له : أقم بالمدينة ، ومنهم من قال : اخرج إليهم ، وكان لكل أحد غرض آخر فيما يقول ، فمن موافق ، ومن مخالف فقال تعالى : أنا سميع لما يقولون عليم بما يضمرون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 181}(16/216)
من فوائد العلامة أبى السعود فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَإِذْ غَدَوْتَ } كلامٌ مستأنفٌ سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدمِ الصبرِ والتقوى للضرر ، على أن وجودَهما مستتبِعٌ لما وُعِد من النجاة من مضرَّة كيدِ الأعداءِ وإذْ نُصبَ على المفعولية بمضمر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم خاصة مع عموم الخطابِ فيما قبله وما بعده له وللمؤمنين لاختصاص مضمونِ الكلامِ به عليه السلام أي واذكر لهم وقت غُدُوِّك ليتذكروا ما وقع فيه من الأحوال الناشئةِ عن عدم الصبرِ فيعلموا أنهم إن لزِموا الصبرَ والتقوى لا يضرُهم كيدُ الكفرةِ ، وتوجيهُ الأمرِ بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغةِ في إيجابها كُرْهاً واستحضارِ الحادثةِ بتفاصيلها كما سلف بيانُه في تفسير قولِه تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } الخ والمرادُ به خروجُه عليه السلام إلى أُحد وكان ذلك من منزل عائشةَ رضي الله عنها وهو المرادُ بقوله تعالى : { مِنْ أَهْلِكَ } أي من عند أهلِك { تبوئ المؤمنين } أي تنْزِلُهم أو تهيِّيءُ وتسوّي لهم { مقاعد } ويؤيده قراءتُه من قرأ تبويءُ المؤمنين ، والجملة حالٌ من فاعل غدوتَ لكن لا على أنها حالٌ مقدرةٌ أي ناوياً وقاصداً للتبْوِئة كما قيل بل على أن المقصودَ تذكيرُ الزمانِ الممتدِّ المتسعِ لابتداء الخروجِ والتبْوِئة وما يترتب عليها إذْ هو المُذكِّرُ للقصة ، وإنما عُبّر عنه بالغدو الذي هو الخروجُ غُدوةً مع كون خروجِه عليه السلام بعد صلاةِ الجمعةِ كما ستعرفه ، إذْ حينئذٍ وقعت التبوئةُ التي هي العُمدةُ في الباب إذِ المقصودُ بتذكير الوقت تذكيرُ مخالفتِهم لأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتزايُلِهم عن أحيازهم المعيَّنةِ لهم عند التبوئة وعدمِ صبرِهم ، وبهذا يتبين خللُ رأي من احتج به على جواز أداءِ صلاةِ الجمعة قبل الزوال ، (16/217)
واللام في قوله تعالى : { لِلْقِتَالِ } إما متعلقةٌ بتبوِّيء أي لأجل القتالِ وإما بمحذوف وقع صفةً لمقاعدَ أي كائنةً.
ومقاعدُ القتالِ أماكنُه ومواقِفُه فإن استعمالَ المقعدِ والمقامِ بمعنى المكانِ اتساعاً شائعٌ ذائعٌ كما في قوله تعالى : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } وقوله تعالى : { قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ }. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 77 ـ 78}
ومن فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَإِذْ غَدَوْتَ } أي واذكر إذ خرجت غدوة { مِنْ } عند { أَهْلِكَ } والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة والكلام مستأنف سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة عن مضرة كيد الأعداء وكان الخروج من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها { تُبَوّىء المؤمنين } أي توطنهم قاله ابن جبير وقيل : تنزلهم ، وقيل : تسوي وتهيء لهم ، ويؤيده قراءة للمؤمنين إذ ليس محل التقوية والزيادة غير فصيحة { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أي مواطن ومواقف ومقامات له ، وأصل المقعد والمقام محل القعود والقيام ثم توسع فيه فأطلق بطريق المجاز على المكان مطلقاً وإن لم يكن فيه قيام وقعود ، وقد يطلق على من به كقولهم المجلس السامي والمقام الكريم وجملة { تُبَوّىء } حال من فاعل { غَدَوْتَ } ولكون المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة لم يحتج إلى القول بأنها حال مقدرة أي ناوياً وقاصداً للتبوئة ، ومقاعد مفعول ثان لتبوىء والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله أو بمحذوف وقع صفة لمقاعد ، ولا يجوز كما قال أبو البقاء أن يتعلق به لأن المراد به المكان وهو لا يعمل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 41}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)}
أقامَه - صلى الله عليه وسلم - بتبوئه الأماكن للقتال ، فانْتُدِب لذلك بأمره ثم أظهر في ذلك الباب مكنونات سِرِّه ، فالمدار على قضائه وَقَدَرِه ، والاعتبار بإجرائه واختياره. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 274}(16/218)
قوله تعالى : { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان رجوع عبد الله بن أبي المنافق - كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة - من الأدلة على أن المنافقين فضلاً عن المصارحين بالمصارمة متصفون بما أخبر الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء مع أنه كان سبباً في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد في غاية المناسبة ، ولذلك افتتحها سبحانه وتعالى بقوله - مبدلاً من {إذ غدوت} دليلاً على ما قبله من أن بطانة السوء لا تألوهم خبالاً وغير ذلك - : {إذ همت طائفتان} وكانا جناحي العسكر {منكم} أي بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس {أن تفشلا} أي تكسلاً وتراخياً وتضعفاً وتجبناً لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم فترجعا ، كما رجع المنافقون {والله} أي والحال أن ذا الجلال والإكرام {وليهما} وناصرهما لأنهما مؤمنتان فلا يتأتى وقوع الفشل وتحققه منهما لذلك ، فليتوكلا عليه وحده لإيمانهما ، أو يكون التقدير : فالعجب منهما كيف تعتمدان على غيره سبحانه وتعالى لتضعفا بخذلانه {و} الحال أنه {على الله} أي الذي له الكمال كله وحده {فليتوكل المؤمنون} أي الذين صار الإيمان صفة لهم ثابتة ، أجمعون لينصرهم ، لا على كثرة عدد ولا قوة جلد ، والأحسن تنزيل الآية على الاحتباك ويكون أصل نظمها : والله وليهما لتوكلهما وإيمانهما فلم يمكن الفشل منهما ، فتولوا الله وتوكلوا عليه ليصونكم من الوهن ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون كلهم ليفعل بهم ذلك ، فالأمر بالتوكل ثانياً دال على وجوده أولاً ، وإثبات الولاية أولاً دال على الأمر بها ثانياً ، وفي البخاري في التفسير عن جابر رضي الله عنه قال : فينا نزلت {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} قال : نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل : {والله وليهما}. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 145 ـ 146}(16/219)
فصل
قال الفخر :
العامل في قوله {إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ} فيه وجوه
الأول : قال الزجاج : العامل فيه التبوئة ، والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت
الثاني : العامل فيه قوله {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
الثالث : يجوز أن يكون بدلاً من {إِذْ غَدَوْتَ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 181}
فصل
قال الفخر :
الطائفتان حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس لما انهزم عبد الله بن أُبي همت الطائفتان باتباعه ، فعصمهم الله ، فثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن العلماء من قال : إن الله تعالى أبهم ذكرهما وستر عليهما ، فلا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 181}
فصل
قال الفخر :
الفشل : الجبن والخور ، فإن قيل : الهم بالشيء هو العزم ، فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل والترك وذلك معصية فكيف بهما أن يقال والله وليهما ؟ .
والجواب : الهم قد يراد به العزم ، وقد يراد به الفكر ، وقد يراد به حديث النفس ، وقد يراد به ما يظهر من القول الدال على قوة العدو وكثرة عدده ووفور عدده ، لأن أي شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف من ظهر ذلك منه بأنه هم بأن يفشل من حيث ظهر منه ما يوجب ضعف القلب ، فكان قوله {إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} لا يدل على أن معصية وقعت منهما ، وأيضاً فبتقدير أن يقال : إن ذلك معصية لكنها من باب الصغائر لا من باب الكبائر ، بدليل قوله تعالى : {والله وَلِيُّهُمَا} فإن ذلك الهم لو كان من باب الكبائر لما بقيت ولاية الله لهما. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 181}(16/220)
فائدة
قال الماوردى :
وفي سبب همّهم بالفشل قولان :
أحدهما : أن عبد الله بن أبي سلول دعاهما إلى الرجوع عن لقاء المشركين يوم أحد ، فهمّا به ولم يفعلا ، وهذا قول السدي وابن جريج.
والثاني : أنهم اختلفوا في الخروج في الغدو والمقام حتى همّا بالفشل. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 420}
قوله تعالى : {والله وَلِيُّهُمَا}
فصل
قال الفخر :
في المعنى وجوه
الأول : أن المراد منه بيان أن ذلك الهم ما أخرجهما عن ولاية الله تعالى
الثاني : كأنه قيل : الله تعالى ناصرهما ومتولي أمرهما فكيف يليق بهما هذا الفشل وترك التوكل على الله تعالى ؟
الثالث : فيه تنبيه على أن ذلك الفشل إنما لم يدخل في الوجود لأن الله تعالى وليهما فأمدهما بالتوفيق والعصمة ، والغرض منه بيان أنه لولا توفيقه سبحانه وتسديده لما تخلص أحد عن ظلمات المعاصي ، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى بعده هذه الآية {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 181}
سؤال : فإن قيل : ما معنى ما روي عن بعضهم عند نزول هذه الآية أنه قال : والله ما يسرنا أنا لم نهم بما همت الطائفتان به ، وقد أخبرنا الله تعالى بأنه وليهما ؟ .
قلنا : معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 181 ـ 182}
قوله : {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}
قال الفخر :
التوكل : تفعل ، من وكل أمره إلى فلان إذا عتمد فيه كفايته عليه ولم يتوله بنفسه ، وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله ، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 182}(16/221)
فائدة
قال أبو السعود :
وإظهارُ الاسمِ الجليلِ للتبرك والتأميل فإن الألوهيةَ من موجبات التوكلِ عليه تعالى ، واللامُ في المؤمنين للجنس فيدخلُ فيه الطائفتان دخولاً أولياً ، وفيه إشعارٌ بأن وصفَ الإيمان من دواعي التوكلِ وموجباتِه. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 79}
فصل
قال القرطبى :
التوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير.
ووَاكل فلان إذا ضَيّع أمرَه مُتّكلاً على غيره.
واختلف العلماء في حقيقة التوكل ؛ فسئل عنه سهل ابن عبد الله فقال : قالت فرقة الرضا بالضّمان ، وقطع الطّمَع من المخلوقين.
وقال قوم : التوَكّل ترك الأسباب والركون إلى مُسبِّب الأسباب ؛ فإذا شغله السبب عن المسبِّب زال عنه اسم التوكل.
قال سَهْلٌ : من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله عز وجل يقول : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } [ الأنفال : 69 ] فالغنيمة اكتساب.
وقال تعالى : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] فهذا عَمَلٌ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب العبد المحترِف " وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقْرضون على السِرية.
وقال غيره : وهذا قول عامّة الفقهاء ، وأنّ التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بدّ منه من الأسباب من مَطعم ومَشرب وتحرّزٍ من عدوّ وإعدادِ الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة.(16/222)
وإلى هذا ذهب محققو الصوفية ، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب ؛ فإنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً ، بل السبب والمسبَّب فعل الله تعالى ، والكل منه وبمشيئته ؛ ومتى وقع من المتوكِّل ركونٌ إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم.
ثم المتوكلون على حالين : الأوّل حال المتمَكِّن في التوكُّل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه ، ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر.
الثاني حال غير المتَمكِّن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحياناً غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية ، والبراهين القطعية ، والأذواق الحالية ؛ فلا يزال كذلك إلى أن يُرَقِّيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين ، ويلحقه بدرجات العارفين. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 189 ـ 190}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { إِذْ هَمَّتْ } في هذا الظرف أوجه :
أحدها : أنه ظَرْف لـ { غَدَوْتَ }.
الثاني : أنه بدل من { وَإِذْ غَدَوْتَ } ، فالعامل ، فيه هو العامل في المُبْدَل منه.
الثالث : أنه ظرف لـ { تُبَوِّىءُ }.
وهذه الأوجه تحتاج إلى نقل تاريخي في اتحاد الزمانين.
الرابع : أن الناصب له " عَليمٌ " وحده - ذكره أبو البقاء.
الخامس : أن العامل فيه إما " سَمِيعٌ " ، وإما " عَلِيمٌ " على سبيل التنازع ، وتكون المسألة - حينئذ - من إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول ، لأضمر في الثاني.
قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
قال أبو حيان : " وهذا غير محرَّر ؛ لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين ، فتحريره أن يقال : عمل فيه معنى سميع ، أو عليم ، وتكون المسألة من التنازع ".(16/223)
قال شهاب الدين : " لم يرد الزمخشري بذلك إلا ما ذكرناه من إرادة التنازع ، ويصدق أن يقول : عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور ؛ لا أنهما عملا فيه معاً ، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدعاً قولاً ؛ إذ الفراء يرى ذلك ، ويقول - في نحو : ضربتُ وأكرمتُ زيداً : إن زيداً منصوب بهما ، وإنهما سُلِّطَا عليه معاً ".
قوله : { أن تَفْشَلاَ } متعلق بـ " هَمَّتْ " ؛ لأنه يتعدى بالباء ، والأصل : بأن تفشلا ، فيجري في محل " أن " الوجهان المشهوران.
والفشل : الجبن والخَوَر.
وقال بعضهم : الفشل في الرأي : العجز ، وفي البدن : الإعياء ، وعدم النهوض ، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر ، والفعل منه فَشِل - بكسر العين - وتفاشل الماء - إذا سال .
وقرأ عبد الله : والله وليهم ، كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ].
قوله : { وَعَلى الله } متعلق بقوله : { فَلْيَتَوَكَّلِ } ، قدم للاختصاص ، ولتناسب رؤوس الآي. وتقدم القول في نحو هذه الفاء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 510 ـ 512}. بتصرف يسير.
فصل
قال القرطبى :
قال الواقِدِيّ بإسناده عن نافع بن جبير قال : سمعت رجلاً من المهاجرين يقول : شهدت أحُداً فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ( ذلك ) يصرف عنه.
ولقد رأيت عبد الله ابن شِهاب الزّهْرِيّ يقول يومئذٍ : دَلُّونِي على محمد دلوني على محمد ، فلا نجوت إن نجا.
( وإنّ ) رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه ، فعاتبه في ذلك صفوان فقال : والله ما رأيته ، أحلِف بالله إنه مِنّا ممنوع خرجنا أربعةً فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله ( فلم نخلص إلى ذلك ).(16/224)
وأكَبّت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط في حفرة ، كان أبو عامر الرّاهب قد حفرها مكيدة للمسلمين ، فخرّ عليه السلام على جنبه واحتضنه طلحة حتى قام ، ومَصّ مالك بن سِنان والد أبي سعيد الخدرِيّ من جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الدّم ، وتشبّثت حلقتان من دِرع المِغفَر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجرّاح وعَضّ عليهما بِثَنِيتيه فسقطتا ؛ فكان أهْتَم يزينه هَتَمُه رضي الله عنه.
وفي هذه الغزاة قُتل حمزةُ رضي الله عنه ، قتله وحشِي ، وكان وَحْشِيّ مملوكاً لجبير بن مُطْعِم.
وقد كان جبير قال له : إن قتلت محمداً جعلنا لك أعِنّة الخيل ، وإن أنت قتلت عليّ بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلُّها سُود الحَدَق ، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حُرٌّ.
فقال وحشِيّ : أما محمد فعليه حافظٌ من الله لا يخلُص إليه أحدٌ.
وأما عليّ ما برز إليه أحد إلاّ قتله.
وأما حمزة فرجل شجاع ، وعسى أن أُصادفه فأقتله.
وكانت هِنْد كلما تهيّأ وَحْشِيٌ أو مرّت به قالت : إيْهاً أبا دَسَمَة اشف واستشف.
فكَمِن له خلف صَخْرة ، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين ؛ فلما رجع من حملته ومرّ بوحشِيّ زَرَقه بالمِزْرَاق فأصابه فسقط مَيِّتاً ، رحمه الله ورضي عنه.
قال ابن إسحاق : فبقرت هِنْدٌ عن كبد حمزة فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مُشْرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت :
نحنُ جَزَيْناكم بيَوْم بَدْر . . .
والحربُ بعد الحرب ذاتُ سُعْرِ
ما كان عن عُتْبَة لي من صَبْرٍ . . .
ولا أخِي وعَمِّه وبَكْري
شفَيْتُ نفسي وقضَيْتُ نَذْرِي . . .
شفيتَ وَحْشِيُّ غلَيلَ صَدْرِي
فشكْرُ وحْشِي عليّ عَمْرِي . . .
حتى تَرِمّ أعْظُمِي في قَبْرِي
فأجابتها هِنْدُ بنت أُثَاثة بن عَبّاد بن عبد المطلب فقالت : (16/225)
خَزِيتِ في بدْرٍ وبعد بدر . . .
يا بنت وَقّاعٍ عظيم الكُفْرِ
صبّحكِ اللَّهُ غَداةَ الفجرِ . . .
مِلْهَاشِمِيِّين الطِّوَال الزُّهْرِ
بكل قَطّاعٍ حُسَامٍ يَفْرِي . . .
حمزةُ لَيْثي وعَليٌّ صَقْرِي
إذْ رَامَ شَيْبَ وأبوكِ غَدْرِي . . .
فَخَضَبَا منه ضَوَاحِي النَّحْرِ
ونَذْرِك السّوءَ فشرّ نَذْرِ . . .
وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة رضي الله عنه :
بكت عيني وحق لها بُكاها . . .
وما يغني البكاء ولا العَوِيل
على أسَدِ الإله غَداة قالوا . . .
أحَمْزَةُ ذاكم الرّجل القتِيل
أُصيب المسلمون به جميعا . . .
هناك ، وقد أُصيب به الرّسول
أبا يَعْلَى لك الأركان هُدّت . . .
وأنت الماجد البَرّ الوَصُول
عليك سلام ربك في جِنانٍ . . .
مخالِطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيارِ صبراً . . .
فكل فعالِكم حسن جميل
رسول اللَّه مصطبِر كرِيم . . .
بأمر الله ينطِق إذ يقول
ألا من مُبْلِغ عنى لُؤَيّاً . . .
فبعد اليومِ دَائِلَةٌ تَدُول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا . . .
وقائِعنا بها يُشْفى الغَلِيل
نَسَبْتُم ضربَنا بِقَليبِ بَدْرٍ . . .
غداةَ أتاكم الموتُ العَجِيل
غَداةَ ثَوَى أبو جهل صريعاً . . .
عليه الطَّيْر حَائِمَةً تَجُول
وعُتْبَة وابنه خَرَّا جميعا . . .
وشَيْبَة عَضّه السيفُ الصّقِيل
ومَتْرَكُنا أُمَيَّةَ مُجْلَعِبّاً . . .
وفي حَيْزُومِه لَدْنٌ نبيل
وهَامَ بنِي ربيعة سائِلوها . . .
ففي أسيافِنا منها فُلُول
ألا يا هِنْدُ لا تبدي شَمَاتا . . .
بحمزةَ إن عِزّكم ذَليل
ألا يا هِنْدُ فابكي لا تَمَلِّي . . .
فأنتِ الوَالِهِ العَبْرَى الهَبُول
ورَثَتْه أيضاً أُختُه صفية ، وذلك مذكور في السيرة ، رضي الله عنهم أجمعين. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 187 ـ 189}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)}
يُبْرِزُ الجميعَ في صدار الاختيار ؛ كأنَّ الأمر إليهم في نفيهم وإتيانهم ، وفعلهم وتركهم ، وفي الحقيقة لا يتقلبون إلا بتصريف القبضة ، وتقليب القدرة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 274}(16/226)
فصل
قال العلامة الفيروزابادى :
( بصيرة فى التوكل )
وهو يقال على وجهين : يقال : توكَّلت لفلان بمعنى تولَّيت له. يقال : وكَّلته توكيلاً ، فتوكَّل لى. وتوكَّلت عليه بمعنى اعتمدته.
وقد أَمر الله تعالى بالتَّوكُّل فى خمسة عشر موضعاً من القرآن.
الأَوّل : إِن طلبتم النَّصر والفرج فتوكَّلوا علىّ : {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} إِلى قوله : {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} ، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
الثانى : إِذا أَعرضتَ عن أَعدائى فليكن رفيقك التَّوكُّل : {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.
الثَّالث : إِذا أَعرض عنك الخلْقُ اعْتَمِدْ على التَّوكُّل : {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}.
الرابع : إِذا تُلِى القرآن عليك ، أَو تلوته ، فاستَنِدْ على التوكُّل : {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
الخامس : إِذا طلبت الصّلح والإِصلاح بين قومٍ لا تتوسّل إِلى ذلك إِلاَّ بالتَّوكُّل : {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.
السّادس : إِذا وصلت قوافل القضاءِ استقبِلْها بالتَّوكُّل : {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا} الآية.
السّابع : إِذا نَصبتِ الأَعداءُ حِبالات المكر ادخُلْ أَنت فى أَرض التوكُّل {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} إِلى قوله : {فَعَلَى اللهِ توكَّلْتُ}.
الثامن : وإِذا عرفت أَنَّ مرجع الكلّ إِلينا ، وتقدير الكلّ منَّا ، وطِّنْ نفسك على فَرْش التوكُّل : {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}.(16/227)
التاسع : إِذا علمت أَنى الواحدُ على الحقيقة ، فلا يكن اتِّكالك إِلاَّ علينا : {قُلْ هُوَ رَبِّي لا اله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}.
العاشر : إِذا عرفت أَنَّ هذه الهداية من عندى ، لاقِها بالشُّكر ، والتَّوكُّل : {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} إِلى قوله : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
الحادى عشر : إِذا خشِيت بأْس أَعداءِ الله ، والشيطان الغدّار ، لا تلتجئ إِلاَّ إِلى بابنا : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
الثانى عشر : إِن أَردتَ أَن أَكون أَنا وكيلك فى كلّ حال ، فتمسّك بالتَّوكُّل فى كلّ حالٍ : {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}.
الثالث عشر : إِن أَردتَ أَن يكون الفردوس الأَعلى منزلك انزل فى مقام التوكُّل : {الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
الرابع عشر : إِن شئت النزول محلّ المحبّة اقصد أَولاً طريق التوكُّل : {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
الخامس عشر : إِن أَردتَ أَن أَكونَ لكَ ، وتكون لى ، فاستقرَّ على تَخْت التوكُّل : {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}. ثمّ اعلم أَنَّ التَّوكُل نصف الدّين ، والنصف الثانى الإِنابة. فإِنَّ الدّين استعانة ، وعبادة. فالتَّوكُّل هو الاستعانة ، والإِنابة هى العبادة.. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 2 صـ 87 ـ 88}(16/228)
من نفائس العلامة ابن القيم
قال عليه الرحمة والرضوان :
منزلة التوكل
فصل" ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التوكل
قال الله تعالى : {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [ المائده : 23 ] وقال : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [ إبراهيم : 11 ] وقال : {مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [ الطلاق : 3 ] وقال عن أوليائه : {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [ الممتحنة : 4 ] وقال لرسوله : {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [ الملك : 29 ] وقال لرسوله : {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [ النمل : 79 ] وقال له : {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [ النساء : 81 ] وقال له : {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [ الفرقان : 58 ] وقال له : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [ آل عمران : 159 ] وقال عن أنبيائه ورسله : {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [ إبراهيم : 12 ] وقال عن أصحاب نبيه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [ آل عمران : 173 ] وقال : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [ الأنفال : 2 ](16/229)
والقرآن مملوء من ذلك وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين قالوا له : {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}" [ آل عمران : 173 ]
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت : أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون"
وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه مرفوعا : "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا"
وفي السنن عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال يعني إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له : هديت ووقيت وكفيت فيقول الشيطان لشيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي"
التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة ومنزلته : أوسع المنازل وأجمعها ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل وكثرة حوائج العالمين وعموم التوكل ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار والطير والوحش والبهائم فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل وإن تباين متعلق توكلهم فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما عليه في الإيمان ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه وفي محابه وتنفيذ أوامره
(16/230)
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وحفظ حاله مع الله فارغا عن الناس
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه من رزق أو عافية أو نصر على عدو أو زوجة أو ولد ونحو ذلك
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش فإن أصحاب
هذه المطالب لا ينالونها غالبا إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم ويظفرهم بمطالبهم فأفضل التوكل : التوكل في الواجب أعني واجب الحق وواجب الخلق وواجب النفس وأوسعه وأنفعه : التوكل في التأثير في الخارج فى مصلحة دينية أو في دفع مفسدة دينية وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض وهذا توكل ورثتهم ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم فمن متوكل على الله في حصول الملك ومن متوكل في حصول رغيف ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله فإن كان محبوبا له مرضيا كانت له فيه العاقبة المحمودة وإن كان مسخوطا مبغوضا كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه وإن كان مباحا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه إن لم يستعن به على طاعاته والله أعلم
فصل : فلنذكر معنى التوكل ودرجاته وما قيل فيه
قال الإمام أحمد : التوكل عمل القلب ومعنى ذلك : أنه عمل قلبي ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح ولا هو من باب العلوم والإدراكات
ومن الناس : من يجعله من باب المعارف والعلوم فيقول : هو علم القلب بكفاية الرب للعبد ومنهم : من يفسره بالسكون وخمود حركة القلب فيقول : التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار
قال سهل : التوكل الاسترسال مع الله مع ما يريد(16/231)
ومنهم : من يفسره بالرضى فيقول : هو الرضى بالمقدور قال بشر الحافي : يقول أحدهم : توكلت على الله يكذب على الله لو توكل على الله رضي بما يفعل الله
وسئل يحيى بن معاذ : متى يكون الرجل متوكلا فقال : إذا رضي بالله وكيلا ومنهم : من يفسره بالثقة بالله والطمأنينة إليه والسكون إليه
قال ابن عطاء : التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقتك إليها ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها قال ذو النون : هو ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة وإنما يقوي العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه
وقال بعضهم : التوكل التعلق بالله في كل حال وقيل : التوكل أن ترد عليك موارد الفاقات فلا تسمو إلا إلى من إليه الكفايات
وقيل : نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك وقال ذو النون : خلع الأرباب وقطع الأسباب يريد قطعها من تعلق القلب بها لا من ملابسة الجوارح لها ومنهم : من جعله مركبا من أمرين أو أمور فقال أبو سعيد الخراز : التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب يريد : حركة ذاته في الأسباب بالظاهر والباطن وسكون إلى المسبب وركون إليه ولا يضطرب قلبه معه ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه
وقال أبو تراب النخشبي : هو طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة إلى الكفاية فإن أعطى شكر وإن منع صبر فجعله مركبا من خمسة أمور : القيام بحركات العبودية وتعلق القلب بتدبير
الرب وسكونه إلى قضائه وقدره وطمأنينته وكفايته له وشكره إذا أعطى وصبره إذا منع قال أبو يعقوب النهرجوري : التوكل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام : أما إليك فلا لأنه غائب عن نفسه بالله فلم ير مع الله غير الله
(16/232)
وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد
قال سهل بن عبدالله : من طعن في الحركة فقد طعن في السنة ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم والكسب سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته وهذا معنى قول أبي سعيد : هو اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب وقول سهل أبين وأرفع وقيل : التوكل قطع علائق القلب بغير الله وسئل سهل عن التوكل فقال : قلب عاش مع الله بلا علاقة وقيل : التوكل هجر العلائق ومواصلة الحقائق وقيل : التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال
وهذا من موجباته وآثاره لأنه حقيقته وقيل : هو ترك كل سبب يوصلك إلى مسبب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك وهذا صحيح من وجه باطل من وجه فترك الأسباب المأمور بها : قادح في التوكل وقد تولى الحق إيصال العبد بها وأما ترك الأسباب المباحة : فإن تركها لما هو أرجح منها مصلحة فممدوح وإلا فهو مذموم وقيل : هو إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية
يريد : استرسالها مع الأمر وبراءتها من حولها وقوتها وشهود ذلك بها بل بالرب وحده ومنهم : من قال : التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه ومنهم من قال : هو التفويض إليه في كل حال ومنهم : من جعل التوكل بداية والتسليم واسطة والتفويض نهاية
قال أبو علي الدقاق : التوكل ثلاث درجات : التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده وصاحب التسليم يكتفي بعلمه وصاحب التفويض يرضى بحكمه فالتوكل بداية والتسليم واسطة والتفويض نهاية فالتوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين
(16/233)
التوكل صفة العوام والتسليم صفة الخواص والتفويض صفة خاصة الخاصة التوكل صفة الأنبياء والتسليم صفة إبراهيم الخليل والتفويض صفة نبينا محمد وعليهم أجمعين هذا كله كلام الدقاق ومعنى هذا التوكل : اعتماد على الوكيل وقد يعتمد الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه وإرادة وشائبة منازعة فإذا سلم إليه زال عنه ذلك ورضي بما يفعله وكيله وحال المفوض فوق هذا فإنه طالب مريد ممن فوض إليه ملتمس منه أن يتولى أموره فهو رضى واختيار وتسليم واعتماد فالتوكل يندرج في التسليم وهو والتسليم يندرجان في التفويض والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل وحقيقة الأمر : أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة
التوكل إلا بها وكل أشار إلى واحد من هذه الأمور أو اثنين أو أكثر
فأول ذلك : معرفة بالرب وصفاته : من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء
الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل قال شيخنا رضي الله عنه : ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين : بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات
فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه ولا هو فاعل باختياره ولا له إرادة ومشيئة ولا يقوم به صفة فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف : كان توكله أصح وأقوى والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل : الدرجة الثانية : إثبات في الأسباب والمسببات فإن من نفاها(16/234)
فتوكله مدخول وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي : أن إثبات الأسباب يقدح في التوكل وأن نفيها تمام التوكل فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه فهو كالدعاء الذي جعله الله سببا في حصول المدعو به فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببا ولا جعل دعاءه سببا لنيل شيء فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله : إن كان قد قدر حصل توكل أو لم يتوكل دعا أو لم يدع وإن لم يقدر لم يحصل توكل أيضا أو ترك التوكل
وصرح هؤلاء : أن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة لهما إلا ذلك ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قدر له ومن غلاتهم من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطإ والنسيان عديم الفائدة إذ هو مضمون الحصول ورأيت بعض متعمقي هؤلاء في كتاب له لا يجوز الدعاء بهذا وإنما يجوزه تلاوة لا دعاء قال لأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه لأن الداعي بين الخوف والرجاء والشك في وقوع ذلك شك في خبر الله فانظر إلى ما قاد إنكار(16/235)
الأسباب من العظائم وتحريم الدعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدعاء به وبطلبه ولم يزل المسلمون من عهد نبيهم وإلى الآن يدعون به في مقامات الدعاء وهو من أفضل الدعوات وجواب هذا الوهم الباطل أن يقال : بقي قسم ثالث غير ما ذكرتم من القسمين لم تذكروه وهو الواقع وهو أن يكون قضى بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكل والدعاء فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب وقضى بحصوله إذا فعل العبد سببه فإذا لم يأت بالسبب امتنع المسبب وهذا كما قضى بحصول الولد إذا جامع الرجل من يحبلها فإذا لم يجامع لم يخلق الولد وقضى بحصول الشبع إذا أكل والري إذا شرب فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطريق فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة وقضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصالحة فإذا ترك الإسلام ولم يعمل الصالحات : لم يدخلها أبدا وقضى بإنضاج الطعام بإيقاد النار تحته
وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشق الأرض وإلقاء البذر فيها فما لم يأت بذلك لم يحصل إلا الخيبة فوزان ما قاله منكرو الأسباب : أن يترك كل من هؤلاء السبب الموصل ويقول : إن كان قضى لى وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج ونحوها فلا بد أن يصل إلي تحركت أو سكنت وتزوجت أو تركت سافرت أو قعدت وإن لم يكن قد قضى لي لم يحصل لي أيضا فعلت أو تركت
فهل يعد أحد هذا من جملة العقلاء وهل البهائم إلا أفقه منه فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة
فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ولكن من تمام التوكل : عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها
(16/236)
فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل : الدرجة الثالثة : رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل
فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده بل حقيقة التوكل : توحيد القلب فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول وعلى قدر تجريد التوحيد : تكون صحة التوكل فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة ومن ههنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب وهذا حق لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب وتعلق الجوارح بها فيكون منقطعا منها متصلا بها والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل : الدرجة الرابعة : اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه
إليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب ولا سكون إليها بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وعلامة هذا : أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق(16/237)
عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه قد حصنه من خوفها ورجائها فحاله حال من خرج عليه عدو عظيم لا طاقة له به فرأى حصنا مفتوحا فأدخله ربه إليه وأغلق عليه باب الحصن فهو يشاهد عدوه خارج الحصن فاضطراب قلبه وخوفه من عدوه في هذه الحال لا معنى له وكذلك من أعطاه ملك درهما فسرق منه فقال له الملك : عندي أضعافه فلا تهتم متى جئت إلي أعطيتك من خزائني أضعافه فإذا علم صحة قول الملك ووثق به واطمأن إليه وعلم أن خزائنه مليئة بذلك لم يحزنه فوته وقد مثل ذلك بحال الطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره وليس في قلبه التفات إلى غيره كما قال بعض العارفين : المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوي إليه إلا ثدي أمه كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه
فصل الدرجة الخامسة : حسن الظن بالله عز وجل فعلى قدر حسن ظنك
بربك ورجائك له يكون توكلك عليه ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله والتحقيق : أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه والله أعلم
فصل الدرجة السادسة : استسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه
وقطع منازعاته وبهذا فسره من قال : أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير
وهذا معنى قول بعضهم : التوكل إسقاط التدبير يعني الاستسلام لتدبير الرب لك وهذا في غير باب الأمر والنهي بل فيما يفعله بك لا فيما أمرك بفعله
فالاستسلام كتسليم العبد الذليل نفسه لسيده وانقياده له وترك منازعات نفسه وإرادتها مع سيده والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل الدرجة السابعة : التفويض وهو روح التوكل ولبه وحقيقته وهو إلقاء(16/238)
أموره كلها إلى الله وإنزالها به طلبا واختيارا لا كرها واضطرارا بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره : كل أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته وحسن ولايته له وتدبيره له فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه وقيامه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويضه أموره كلها إلى أبيه وراحته من حمل كلفها وثقل حملها مع عجزه عنها وجهله بوجوه المصالح فيها وعلمه بكمال علم من فوض إليه وقدرته وشفقته
فصل : فإذا وضع قدمه في هذه الدرجة انتقل منها إلى درجة الرضى وهي
ثمرة التوكل ومن فسر التوكل : بها فإنما فسره بأجلع ثمراته وأعظم فوائده فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله
وكان شيخنا رضي الله عنه يقول : المقدور يكتنفه أمران : التوكل قبله والرضى بعده فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية أو معنى هذا
قلت : وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم فى دعاء الاستخارة : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فهذا
توكل وتفويض ثم قال : فإنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة وتوسل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلا أو آجلا وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته عاجلا أو آجلا فهذا هو حاجته التي سألها فلم يبق عليه إلا الرضى بما يقضيه له فقال : واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به(16/239)
فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية التي من جملتها : التوكل والتفويض قبل وقوع المقدور والرضى بعده وهو ثمرة التوكل والتفويض علامة صحته فإن لم يرض بما قضى له فتفويضه معلول فاسد
فباستكمال هذه الدرجات الثمان يستكمل العبد مقام التوكل وتثبت قدمه فيه وهذا معنى قول بشر الحافي : يقول أحدهم : توكلت على الله يكذب على الله لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به وقول يحيى بن معاذ وقد سئل : متى يكون الرجل متوكلا فقال : إذا رضي بالله وكيلا
فصل وكثيرا ما يشتبه في هذا الباب المحمود الكامل بالمذموم الناقص
فيشتبه التفويض بالإضاعة فيضيع العبد حظه ظنا منه أن ذلك تفويض وتوكل وإنما هو تضييع لا تفويض فالتضييع في حق الله والتفويض في حقك
ومنه : اشتباه التوكل بالراحة وإلقاء حمل الكل فيظن صاحبه أنه متوكل وإنما هو عامل على عدم الراحة
وعلامة ذلك : أن المتوكل مجتهد في الأسباب المأمور بها غاية الاجتهاد مستريح من غيرها لتعبه بها والعامل على الراحة آخذ من الأمر مقدار ما تندفع به الضرورة وتسقط به عنه مطالبة الشرع فهذا لون وهذا لون
ومنه : اشتباه خلع الأسباب بتعطيلها فخلعها توحيد وتعطيلها إلحاد وزندقة فخلعها عدم اعتماد القلب عليها ووثوقه وركونه إليها مع قيامه بها وتعطيلها إلغاؤها عن الجوارح
ومنه : اشتباه الثقة بالله بالغرور والعجز والفرق بينهما : أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها كغارس الشجرة وباذر الأرض والمغتر العاجز : قد فرط فيما أمر به وزعم أنه واثق بالله والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود(16/240)
ومنه : اشتباه الطمأنينة إلى الله والسكون إليه بالطمأنينة إلى المعلوم وسكون القلب إليه ولا يميز بينهما إلا صاحب البصيرة كما يذكر عن أبي سليمان الداراني : أنه رأى رجلا بمكة لا يتناول شيئاإلا شربة من ماء زمزم فمضى عليه أيام فقال له أبو سليمان يوما : أرأيت لو غارت زمزم أي شيء كنت تشرب فقام وقبل رأسه وقال : جزاك الله خيرا حيث أرشدتني فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام ثم تركه ومضى
وأكثر المتوكلين سكونهم وطمأنينتهم إلى المعلوم وهم يظنون أنه إلى الله وعلامة ذلك : أنه متى انقطع معلوم أحدهم حضره همه وبثه وخوفه فعلم أن طمأنينته وسكونه لم يكن إلى الله
ومنه : اشتباه الرضى عن الله بكل ما يفعل بعبده مما يحبه ويكرهه بالعزم على ذلك وحديث النفس به وذلك شيء والحقيقة شيء آخر كما يحكى عن أبي سليمان أنه قال : أرجو أن أكون أعطيت طرفا من الرضى لو أدخلني النار لكنت بذلك راضيا
فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا عزم منه على الرضى وحديث نفس به ولو أدخله النار لم يكن من ذلك شيء وفرق بين العزم على الشيء وبين حقيقته
ومنه : اشتباه علم التوكل بحال المتوكل فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله فيظن أنه متوكل وليس من أهل التوكل فحال التوكل : أمر آخر من وراء العلم به وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها وحال المحب العاشق وراء ذلك وكمعرفة علم الخوف وحال الخائف وراء ذلك وهو شبيه بمعرفة المريض ماهية الصحة وحقيقتها وحاله بخلافها فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوى فيه بالحقائق والعوارض بالمطالب والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
فصل التوكل من أعم المقامات تعلقا بالأسماء الحسنى فإن له تعلقا(16/241)
خاصا بعامة أسماء الأفعال وأسماء الصفات فله تعلق باسم الغفار والتواب والعفو والرؤوف والرحيم وتعلق باسم الفتاح والوهاب والرزاق والمعطي والمحسن وتعلق باسم المعز المذل الحافظ الرافع المانع من جهة توكله عليه في إذلال أعداء دينه وخفضهم ومنعهم أسباب النصر وتعلق بأسماء القدرة والإرادة وله تعلق عام بجميع الأسماء الحسنى ولهذا فسره من فسره من الأئمة بأنه المعرفة بالله وإنما أراد أنه بحسب معرفة العبد يصح له مقام التوكل وكلما كان بالله أعرف كان توكله عليه أقوى
فصل وكثير من المتوكلين يكون مغبونا في توكله وقد توكل حقيقة
التوكل وهو مغبون كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله ويمكنه نيلها بأيسر شيء وتفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان والعلم ونصرة الدين والتأثير في العالم خبرا فهذا توكل العاجز القاصر الهمة كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء أو جوع يمكن زواله بنصف
رغيف أو نصف درهم ويدع صرفه إلى نصرة الدين وقمع المبتدعين وزيادة الإيمان ومصالح المسلمين والله أعلم
فصل : قال صاحب المنازل : التوكل : كلة الأمر إلى مالكه والتعويل على وكالته وهو من أصعب منازل العامة عليهم وأوهى السبل عند الخاصة لأن الحق تعالى قد وكل الأمور كلها إلى نفسه وأيأس العالم من ملك شيء منها
قوله : كلة الأمر إلى مالكه أي تسليمه إلى من هو بيده والتعويل على وكالته أي الاعتماد على قيامه بالأمر والاستغناء بفعله عن فعلك وبإرادته عن إرادتك
و الوكالة يراد بها أمران أحدهما : التوكيل وهو الاستنابة والتفويض والثاني : التوكل وهو التعرف بطريق النيابة عن الموكل وهذا من الجانبين فإن الله تبارك وتعالى يوكل العبد ويقيمه في حفظ ما وكله فيه والعبد يوكل الرب ويعتمد عليه(16/242)
فأما وكالة الرب عبده ففي قوله : تعالى {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [ الأنعام : ] قال قتادة : وكلنا بها الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرناهم يعني قبل هذه الآية وقال أبو رجاء العطاردي : معناه إن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء وهم الملائكة وقال ابن عباس ومجاهد : هم الأنصار أهل المدينة والصواب : أن المراد من قام بها إيمانا ودعوة وجهادا ونصرة فهولاء هم الذين وكلهم الله بها فإن قلت : فهل يصح أن يقال : إن أحدا وكيل الله قلت : لا فإن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة والله عز وجل
لا نائب له ولا يخلفه أحد بل هو الذي يخلف عبده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل على أنه لا يمتنع أن يطلق ذلك باعتبار أنه مأمور بحفظ ما وكله فيه ورعايته والقيام به وأما توكيل العبد ربه : فهو تفويضه إليه وعزل نفسه عن التصرف وإثباته لأهله ووليه ولهذا قيل في التوكل : إنه عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية وهذا معنى كون الرب وكيل عبده أي كافيه والقائم بأموره ومصالحه لأنه نائبه في التصرف فوكالة الرب عبده أمر وتعبد وإحسان له وخلعة منه عليه لا عن حاجة منه وافتقار إليه كموالاته وأما توكيل العبد ربه : فتسليم لربوبيته وقيام بعبوديته(16/243)
وقوله وهو : من أصعب منازل العامة عليهم لأن العامة لم يخرجوا عن نفوسهم ومألوفاتهم ولم يشاهدوا الحقيقة التي شهدها الخاصة وهي التي تشهد التوكيل فهم في رق الأسباب فيصعب عليهم الخروج عنها وخلو القلب منها والاشتغال بملاحظة المسبب وحده وأما كونه أو هي السبل عند الخاصة فليس على إطلاقه بل هو من أجل السبل عندهم وأفضلها وأعظمها قدرا وقد تقدم في صدر الباب : أمر الله رسوله بذلك وحضه عليه هو والمؤمنين ومن أسمائه المتوكل وتوكله أعظم توكل وقد قال الله له : {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [ النمل : 79 ] وفي ذكر أمره بالتوكل مع إخباره بأنه على الحق : دلالة على أن الدين بمجموعه في هذين الأمرين : أن يكون العبد على الحق في قوله وعمله واعتقاده ونيته وأن يكون متوكلا على الله واثقا به فالدين كله في هذين المقامين وقال رسل الله وأنبياؤه {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [ إبراهيم : 12 ] فالعبد آفته : إما من عدم الهداية وإما من عدم التوكل فإذا جمع التوكل إلى الهداية فقد جمع الإيمان كله
نعم التوكل على الله في معلوم الرزق المضمون والاشتغال به عن التوكل في نصرة الحق والدين : من أوهى منازل الخاصة أما التوكل عليه في حصول ما يحبه ويرضاه فيه وفي الخلق فهذا توكل الرسل والأنبياء عليهم السلام فكيف يكون من أوهى منازل الخاصة
قوله : لأن الحق قد وكل الأمور إلى نفسه وأيأس العالم من ملك شيء منها
(16/244)
جوابه : أن الذي تولى ذلك أسند إلى عباده كسبا وفعلا وإقدارا واختيارا وأمرا ونهيا استعبدهم به وامتحن به من يطيعه ممن يعصيه ومن يؤثره ممن يؤثر عليه وأمر بتوكلهم عليه فيما أسنده إليهم وأمرهم به وتعبدهم به وأخبر : أنه يحب المتوكلين عليه كما يحب الشاكرين وكما يحب المحسنين وكما يحب الصابرين وكما يحب التوابين
وأخبر : أن كفايته لهم مقرونة بتوكلهم عليه وأنه كاف من توكل عليه وحسبه وجعل لكل عمل من أعمال البر ومقام من مقاماته جزاء معلوما وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته فقال {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [ الطلاق : 4 ] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الآية [ النساء : 69 ] ثم قال في التوكل : {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [ الطلاق : 3 ] فانظر إلى هذا الجزاء الذي حصل للمتوكل ولم يجعله لغيره وهذا يدل على أن التوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه وليس كونه وكل الأمور إلى نفسه بمناف لتوكل العبد عليه بل هذا تحقيق كون الأمور كلها موكولة إلى نفسه لأن العبد إذا علم ذلك وتحققه معرفة : صارت حاله التوكل قطعا على من هذا شأنه لعلمه بأن الأمور كلها موكولة إليه وأن العبد لا يملك شيئا منها فهو لا يجد بدا
من اعتماده عليه وتفويضه إليه وثقته به من الوجهين : من جهة فقره وعدم ملكه شيئا ألبتة ومن جهة كون الأمر كله بيده وإليه والتوكل ينشأ من هذين العلمين
(16/245)
فإن قيل : فإذا كان الأمر كله لله وليس للعبد من الأمر شيء فكيف يوكل المالك على ملكه وكيف يستنيبه فيما هو ملك له دون هذا الموكل فالخاصة لما تحققوا هذا نزلوا عن مقام التوكل وسلموه إلى العامة وبقي الخطاب بالتوكل لهم دون الخاصة
قيل : لما كان الأمر كله لله عز وجل وليس للعبد فيه شيء ألبتة كان توكله على الله تسليم الأمر إلى من هو له وعزل نفسه عن منازعات مالكه واعتماده عليه فيه وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به إلى تصرفه بربه وكونه به سبحانه دون نفسه وهذا مقصود التوكل
وأما عزل العبد نفسه عن مقام التوكل : فهو عزل لها عن حقيقة العبودية
وأما توجه الخطاب به إلى العامة : فسبحان الله هل خاطب الله بالتوكل في كتابه إلا خواص خلقه وأقربهم إليه وأكرمهم عليه وشرط في إيمانهم أن يكونوا متوكلين والمعلق على الشرط يعدم عند عدمه
وهذا يدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل فمن لا توكل له : لا إيمان له قال الله تعالى : {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [ المائده : 23 ] وقال تعالى : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وقال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [ الأنفال : 2 ] وهذا يدل على انحصار المؤمنين فيمن كان بهذه الصفة
(16/246)
وأخبر تعالى عن رسله بأن التوكل ملجأهم ومعاذهم وأمر به رسوله في أربع مواضع من كتابه وقال : وقال موسى : {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [ يونس : 8485 ] فكيف يكون من أو هي السبل وهذا شأنه والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال : وهو على ثلاث درجات كلها تسير مسير العامة الدرجة الأولى
: التوكل مع الطلب ومعاطاة السبب على نية شغل النفس بالسبب مخافة ونفع الخلق وترك الدعوى يقول : إن صاحب هذه الدرجة يتوكل على الله ولا يترك الأسباب بل يتعطاها على نية شغل النفس بالسبب مخافة أن تفرغ فتشتغل بالهوى والحظوظ فإن لم يشغل نفسه بما ينفعها شغلته بما يضره لا سيما إذا كان الفراغ مع حدة الشباب وملك الجدة وميل النفس إلى الهوى وتوالي الغفلات كما قيل :
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة
ويكون أيضا قيامه بالسبب على نية نفع النفس ونفع الناس بذلك فيحصل له نفع نفسه ونفع غيره
وأما تضمن ذلك لترك الدعوى : فإنه إذا اشتغل بالسبب تخلص من إشارة الخلق إليه الموجبة لحسن ظنه بنفسه الموجب لدعواه فالسبب ستر لحاله ومقامه وحجاب مسبل عليه
ومن وجه آخر وهو أن يشهد به فقره وذله وامتهانه امتهان العبيد والفعلة فيتخلص من رعونة دعوى النفس فإنه إذا امتهن نفسه بمعاطاة الأسباب : سلم من هذه الأمراض فيقال : إذا كانت الأسباب مأمورا بها ففيها فائدة أجل من هذه الثلاث وهي المقصودة بالقصد الأول وهذه مقصودة قصد الوسائل وهي القيام بالعبودية والأمر الذي خلق له العبد وأرسلت به الرسل وأنزلت لأجله الكتب وبه قامت السموات والأرض وله وجدت الجنة والنار(16/247)
فالقيام بالأسباب المأمور بها : محض العبودية وحق الله على عبده الذي توجهت به نحوه المطالب وترتب عليه الثواب والعقاب والله سبحانه أعلم
فصل قال : الدرجة الثانية : التوكل مع إسقاط الطلب وغض العين عن
السبب اجتهادا لتصحيح التوكل وقمعا لشرف النفس وتفرغا إلى حفظ الواجبات قوله : مع إسقاط الطلب أي من الخلق لا من الحق فلا يطلب من أحد شيئا وهذا من أحسن الكلام وأنفعه للمريد فإن الطلب من الخلق فى الأصل محظور وغايته : أن يباح للضرورة كإباحة الميتة للمضطر ونص أحمد على أنه لا يجب وكذلك كان شيخنا يشير إلى أنه لا يجب الطلب والسؤال
وسمعته يقول في السؤال : هو ظلم في حق الربوبية وظلم في حق الخلق وظلم في حق النفس أما في حق الربوبية : فلما فيه من الذل لغير الله وإراقة ماء الوجه لغير خالقه والتعوض عن سؤاله بسؤال المخلوقين والتعرض لمقته إذا سأل وعنده ما يكفيه يومه
وأما في حق الناس : فبمنازعتهم ما في أيديهم بالسؤال واستخراجه منهم وأبغض ما إليهم : من يسألهم ما في أيديهم وأحب ما إليهم : من لا يسألهم فإن أموالهم محبوباتهم ومن سألك محبوبك فقد تعرض لمقتك وبغضك
وأما ظلم السائل نفسه : فحيث امتهنها وأقامها في مقام ذل السؤال ورضي لها بذل الطلب ممن هو مثله أو لعل السائل خير منه وأعلى قدرا وترك سؤال من ليس كمثله شىء وهو السميع البصير فقد أقام السائل نفسه مقام الذل وأهانها بذلك ورضي أن يكون شحاذا من شحاذ مثله فإن من تشحذه فهو أيضا شحاذ مثلك والله وحده هو الغني الحميد
فسؤال المخلوق للمخلوق سؤال الفقير للفقير والرب تعالى كلما سألته كرمت عليه ورضي عنك وأحبك والمخلوق كلما سألته هنت عليه وأبغضك ومقتك وقلاك كما قيل :
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب(16/248)
وقبيح بالعبد المريد : أن يتعرض لسؤال العبيد وهو يجد عند مولاه كل ما يريد وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا حديثي عهد ببيعة فقلنا قد بايعناك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلام نبايعك فقال أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وأسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا قال : ولقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا أن يناوله إياه
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم
وفيهما أيضا عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة : واليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا : هي المنفقة والسفلى : هي السائلة
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر"
وفي الترمذي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في الأمر الذي لا بد منه" قال الترمذي : حديث صحيح
(16/249)
وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل وفي السنن والمسند عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا أتكفل له بالجنة " فقلت : أنا فكان لا يسأل أحدا شيئا
وفي صحيح مسلم عن قبيصة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال : سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا"
فالتوكل مع إسقاط هذا الطلب والسؤال هو محض العبودية قوله : وغض العين عن التسبب اجتهادا في تصحيح التوكل معناه : أنه يعرض عن الاشتغال بالسبب لتصحيح التوكل بامتحان النفس لأن المتعاطي للسبب قد يظن أنه حصل التوكل ولم يحصله لثقته بمعلومه فإذا أعرض عن السبب صح له التوكل
وهذا الذي أشار إليه : مذهب قوم من العباد والسالكين وكثير منهم كان يدخل البادية بلا زاد ويرى حمل الزاد قدحا في التوكل ولهم في ذلك حكايات مشهورة وهؤلاء في خفارة صدقهم وإلا فدرجتهم ناقصة عن العارفين ومع هذا فلا يمكن بشرا ألبتة ترك الأسباب جملة
فهذا إبراهيم الخواص كان مجردا في التوكل يدقق فيه ويدخل البادية بغير زاد وكان لا تفارقه الإبرة والخيط والركوة والمقراض فقيل له : لم تحمل هذا وأنت تمنع من كل شيء فقال : مثل هذا لا ينقص من التوكل لأن لله علينا فرائض والفقير لا يكون عليه إلا ثوب واحد فربما تخرق ثوبه فإذا لم يكن(16/250)
معه إبرة وخيوط تبدو عورته فتفسد عليه صلاته وإذا لم يكن معه ركوة فسدت عليه طهارته وإذا رأيت الفقير بلا ركوة ولا إبرة ولا خيوط فاتهمه في صلاته
أفلا تراه لم يستقم له دينه إلا بالأسباب أو ليست حركة أقدامه ونقلها في الطريق والاستدلال على أعلامها إذا خفيت عليه من الأسباب
فالتجرد من الأسباب جملة ممتنع عقلا وشرعا وحسا
نعم قد تعرض للصادق أحيانا قوة ثقة بالله وحال مع الله تحمله على ترك كل سبب مفروض عليه كما تحمله على إلقاء نفسه في مواضع الهلكة ويكون ذلك الوقت بالله لا به فيأتيه مدد من الله على مقتضى حاله ولكن لا تدوم له هذه الحال وليست في مقتضى الطبيعة فإنها كانت هجمة هجمت عليه بلا استدعاء فحمل عليها فإذا استدعى مثلها وتكلفها لم يجب إلى ذلك وفي تلك الحال : إذا ترك السبب يكون معذورا لقوة الوارد وعجزه عن الاشتغال بالسبب فيكون في وارده عون له ويكون حاملا له فإذا أراد تعاطي تلك الحال بدون ذلك الوارد وقع في المحال وكل تلك الحكايات الصحيحة التي تحكي عن القوم فهي جزئية حصلت لهم أحيانا ليست طريقا مأمورا بسلوكها ولا مقدورة وصارت فتنة لطائفتين
وطائفة ظنتها طريقا ومقاما فعملوا عليها فمنهم من انقطع ومنهم من رجع ولم يمكنه الاستمرار عليها بل انقلب على عقبيه وطائفة قدحوا في أربابها وجعلوهم مخالفين للشرع والعقل مدعين لأنفسهم حالا أكمل من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ لم يكن فيهم أحد قط يفعل ذلك ولا أخل بشيء من الأسباب وقد ظاهر بين درعين يوم أحد ولم يحضر الصف قط عريانا كما يفعله من لا علم(16/251)
عنده ولا معرفة واستأجر دليلا مشركا على دين قومه يدله على طريق الهجرة وقد هدى الله به العالمين وعصمه من الناس أجمعين وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد وجميع أصحابه وهم أولو التوكل حقا وأكمل المتوكلين بعدهم : هو من اشتم رائحة توكلهم من مسيرة بعيدة أو لحق أثرا من غبارهم فحال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه محك الأحوال وميزانها بها يعلم صحيحها من سقيمها فإن هممهم كانت في التوكل أعلى من همم من بعدهم فإن توكلهم كان في فتح بصائر القلوب وأن يعبد الله في جميع البلاد وأن يوحده جميع العباد وأن تشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد فملؤا بذلك التوكل القلوب هدى وإيمانا وفتحوا بلاد الكفر وجعلوها دار إيمان وهبت رياح روح نسمات التوكل على قلوب أتباعهم فملأتها يقينا وإيمانا فكانت همم الصحابة رضى الله عنهم أعلى وأجل من أن يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعى فيجعله نصب عينيه ويحمل عليه قوى توكله قوله : وقمعا لشرف النفس يريد : أن المتسبب قد يكون متسببا بالولايات الشريفة في العبادة أو التجارات الرفيعة والأسباب التي له بها جاه وشرف في الناس فإذا تركها يكون تركها قمعا لشرف نفسه وإيثارا للتواضع
وقوله : وتفرغا لحفظ الواجبات أي يتفرغ بتركها لحفظ واجباتها التي تزاحمها تلك الأسباب والله أعلم
فصل قال : الدرجة الثالثة : التوكل مع معرفة التوكل النازعة إلى
الخلاص من علة التوكل وهي أن يعلم أن ملكة الحق تعالى للأشياء هي ملكة عزة(16/252)
لا يشاركه فيها مشارك فيكل شركته إليه فإن من ضرورة العبودية : أن يعلم العبد : أن الحق سبحانه هو مالك الأشياء وحده يريد أن صاحب هذه الدرجة متى قطع الأسباب والطلب وتعدى تينك الدرجتين فتوكله فوق توكل من قبله وهو إنما يكون بعد معرفته بحقيقة التوكل وأنه دون مقامه فتكون معرفته به وبحقيقته نازعة أي باعثة وداعية إلى تخلصه من علة التوكل أي لا يعرف علة التوكل حتى يعرف حقيقته فحينئذ يعرف التوكل المعرفة التي تدعوه إلى التخلص من علته ثم بين المعرفة التي يعلم بها علة التوكل فقال : أن يعلم أن ملكة الحق للأشياء ملكة عزة أي ملكة امتناع وقوة وقهر تمنع أن يشاركه في ملكه لشيء من الأشياء مشارك فهو العزيز في ملكه الذي لا يشاركه غيره في ذرة منه كما هو المنفرد بعزته التي لا يشاركه فيها مشارك فالمتوكل يرى أن له شيئا قد وكل الحق فيه وأنه سبحانه صار وكيله عليه وهذا مخالف لحقيقة الأمر إذ ليس لأحد من الأمر مع الله شيء فلهذا قال : لا يشاركه فيه مشارك فيكل شركته إليه فلسان الحال يقول لمن جعل الرب تعالى وكيله : فيماذا وكلت ربك أفيما هو له وحده أو لك وحدك أو بينكما فالثاني والثالث ممتنع بتفرده بالملك وحده والتوكيل في الأول ممتنع فكيف توكله فيما ليس لك منه شيء ألبتة فيقال ههنا أمران : توكل وتوكيل فالتوكل : محض الاعتماد والثقة والسكون إلى من له الأمر كله وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون : من أقوى أسباب توكله وأعظم دواعيه
فإذا تحقق ذلك علما ومعرفة وباشر قلبه حالا : لم يجد بدا من اعتماد قلبه على الحق وحده وثقته به وسكونه إليه وحده وطمأنينته به وحده لعلمه أن(16/253)
حاجاته وفاقاته وضروراته وجميع مصالحه كلها بيده وحده لا بيد غيره فأين يجد قلبه مناصامن التوكل بعد هذا فعلة التوكل حينئذ : التفات قلبه إلى من ليس له شركة في ملك الحق ولا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض هذه علة توكله فهو يعمل على تخليص توكله من هذه العلة نعم ومن علة أخرى وهي رؤية توكله فإنه التفات إلى عوالم نفسه وعلة ثالثة : وهي صرفه قوة توكله إلى شيء غيره أحب إلى الله منه فهذه العلل الثلاث : هي علل التوكيل وأما التوكل : فليس المراد منه إلا مجرد التفويض وهو من أخص مقامات العارفين كمان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم إني أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون : {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [ غافر : 4445 ] فكان جزاء هذا التفويض قوله : {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} فإن كان التوكل معلولا بما ذكره فالتفويض أيضا كذلك وليس فليس ولولا أن الحق لله ورسوله وأن كل ما عدا الله ورسوله فمأخوذ من قوله ومتروك وهو عرضة الوهم والخطأ : لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم ولا نجري معهم في مضمارهم ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان ومنازل السائرين كالنجوم الدراري ومن كان عنده علم فليرشدنا إليه ومن رأى في كلامنا زيغا أو نقصا وخطأ فليهد إلينا الصواب نشكر له سعيه ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم والله أعلم وهو الموفق. أ هـ {مدارج السالكين حـ 2 صـ 112 ـ 137}(16/254)
قوله تعالى { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان ظاهر الحال فيما أصاب الكفار من المسلمين في هذه الغزوة ربما كان سبباً في شك من لم يحقق بواطن الأمور ولا له أهلية النفوذ في الدقائق من عجائب المقدور في قوله تعالى : {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً} [ آل عمران : 10 ] {قل للذين كفروا ستغلبون} [ آل عمران : 12 ] ذكرهم الله تعالى نصره لهم في غزوة بدر ، وهم في القلة دون ما هم الآن بكثير ، مشيراً لهم إلى ما أثمره توكلهم من النصر ، وحالهم إذ ذاك حال الآيس منه ، ولذلك كانوا في غاية الكراهة للّقاء بخلاف ما كانوا عليه في هذه الكرة ، حثاً على ملازمة التوكل ، منبهاً على أنه لا يزال يريهم مثل ذلك النصر ويذيق الكفار أضعاف ذلك الهوان حتى يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر دينه الإسلام على الدين كله فقال - عاطفاً على ما تقديره : فمن توكل عليه نصره وكفاه وإن كان قليلاً فلقد نصركم الله أول النهار في هذه الغزوة حيث صبرتم واتقيتم بطاعتكم للرسول صلى الله عليه وسلم في ملازمة التعب والإقبال على الحرب وغير ذلك بما أمركم به صلى الله عليه وسلم ولم تضركم قلتكم ولا ضعفكم بمن رجع عنكم شيئاً - : {ولقد نصركم الله} بما له من صفات الجلال والجمال {ببدر} المشار إليها أول السورة بقوله تعالى : {قد كان لكم آية في فئتين التقتا} [ آل عمران : 13 ] لما صبرتم واتقيتم.(16/255)
ولما كانوا في عدد يسير أشار إليه بجمع القلة فقال : {وأنتم أذلة} أي فاذكروا ذلك واجعلوه نصب أعينكم لينفعكم ، وكان الإتيان بأمر بدر بعد آية الفشل المختتمة بالحث على التوكل في الغاية من حسن النظم ، وهو دليل أيضاً على منطوق قوله تعالى : {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} [ آل عمران : 120 ] كما كان أمر أحد دليلاً على منطوقها ومفهومها معاً : دل على منطوقها بنصرهم أول النهار عند صبرهم ، وعلى مفهومها بإدالة العدو عليهم عند فشلهم آخره - والله الموفق ؛ على أنك إذا أنعمت التأمل في قصة أحد من السير وكتب الأخبار علمت أن الظفر فيها ما كان إلا للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي الخبر به في قوله تعالى : {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} [ آل عمران : 52 ] ، فإن الصحابة رضي الله عنهم هزموهم - كما مضى - في أول النهار حتى لم يبق في عسكرهم أحد ولا بقي عند نسائهم حامٍ ، فلما خالف الرماة أمره صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على الغنيمة أراد الله تأديبهم وتعريفهم أن نصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم غير محتاجة في الحقيقة إليهم حين انهزموا حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم غير نفر يسير ما يبلغون الخمسين ، والكفار ثلاثة آلاف وخيلهم مائتان ، فاستمر عليه الصلاة والسلام في نحورهم يحاولهم ويصاولهم ، يرامونه مرة ويطاعنون أخرى ، ويجتمعون عليه كرة ويفترقون عنه أخرى ، والله تعالى يمنعه منهم بأيده ويحفظه بقوته حتى تدلت الشمس للغروب ، وقتل بيده صلى الله عليه وسلم أُبي بن خلف مبارزة ، تصديقاً لما كان أوعده به قبل الهجرة ، وخالطوه غير مرة ولم يمكنهم الله منه ولا أقدرهم على أسر أحد من أصحابه ، ثم ردهم خائبين بعد أن تراجع إليه من أصحابه في أثناء النهار ، ولم يرجع صلى الله عليه وسلم من أحد إلا بعد(16/256)
انصرافهم ودفن من استشهد من أصحابه ، وأما هم فاستمروا راجعين ولم يلووا على أحد ممن قتل منهم ، وهم اثنان وعشرون رجلاً من سرواتهم وحمال راياتهم ، وقال الجلال الخجندي في كتابه فردوس المجاهدين : إنه صح النقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن نصرته في يوم أحد - انتهى.
(16/257)
كفى على ذلك دليلاً ما نقل موسى بن عقبة - وسيرته أصح السير في غزوة الفتح - عن قائد الجيش بأحد أبي سفيان بن حرب أنه قال عندما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام : يا محمد! قد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك ، فوالله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت علي ، فلو كان إلهي محقاً وإلهك مبطلاً لقد ظهرت عليك ، وإنما كانت الهزيمة وقتل من قتل لحكم ومصالح لا تخفى على من له رسوخ في الشريعة وثبات قدم في السنن ، ويمكن أن تكون هذه القصة مندرجة في حكم النهي في القصة التي قبلها عن طاعة فريق من أهل الكتاب عطفاً على قوله تعالى : {نعمة} في قوله : {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} [ آل عمران : 103 ] لتشابه القصتين في الإصغاء إلى الكفار قولاً أو فعلاً ، المقتضي لهدم الدين من أصله ، لأن همّ الطائفتين بالفشل إنما كان من أجل رجوع عبد الله بن أبي المنافق حليف أهل الكتاب ومواليهم ومصادقهم ومصافيهم ، ويؤيد ذلك نهيه تعالى في أثناء هذه عن مثل ذلك بقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} [ آل عمران : 149 ] ، ويكون إسناد الفعل في {غدوت} ، وأمثاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد الإسناد إلى الجمع ، لأنه الرئيس فخطابه خطابهم ، ولشرف هذا الفعل ، فكان الأليق إفراده به صلى الله عليه وسلم ، وأما الفشل ونحوه فأسند إليهم وقصر- كما هو الواقع - عليهم.(16/258)
ولما امتن الله سبحانه عليهم بالنصرة في تلك الكرة سبب عن ذلك أمرهم بالتقوى إشارة إلى أنها السبب لدوام النعمة فقال : {فاتقوا الله} أي في جمع أوامره ونواهيه بأن التقوى التنزه عن المعاصي ، والشكر فعل ينبىء عن تعظيم المنعم ، وشكر الله صرف جميع ما أنعم به في طاعاته فحينئذ التقوى من الشكر فإن أريد العموم انحل الكلام إلى : اشكروا لعلكم تشكرون ، ولا يتحرر الجواب إلا بعد معرفة حقيقة التقوى لغة ؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي : الواقية ما وقاك الشر ، وكل شيء وقيت به شيئاً فهو وقاء له ووقاية ، وقوله سبحانه وتعالى : {لعلكم تشكرون} قال ابن عرفة - أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم به وقاية بينكم وبين النار - انتهى.
فاتضح أن حقيقة {واتقوا} : اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية ، وأن سبب اتخاذ الوقاية الخوف من ضاره فالظاهر - والله أعلم - أن اتقوا بمعنى : خافوا - مجازاً مرسلاً من إطلاق اسم المسبب على السبب ، فالمعنى : خافوا الله لتكونوا على رجاء من أن يحملكم خوفه على طاعته على سبيل التجديد والاستمرار ، ولئن سلمنا أن التقوى من الشكر فالمعنى : اشكروا هذا الشكر الخاص ليحملكم على جميع الشكر ، وغايته أنه نبه على أن هذا الفرد من الشكر هو أصل الباب الذي يثمر باقيه ، وهوالمراد بقول ابن هشام في السيرة : إن المعنى : فاتقوني ، فإنه شكر نعمتي ، ويجوز أن يكون : لعلكم تزدادون نعماً فتشكرون عليها - إقامة للمسبب مقام السبب - والله أعلم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 146 ـ 149}
وقال الفخر :
في كيفية النظم وجهان
(16/259)
الأول : أنه تعالى لما ذكر قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر ، وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الفقر والعجز ، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة ، ثم إنه تعالى سلّط المسلمين على المشركين فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى تحصيل غرضه ومطلوبه إلا بالتوكل على الله والاستعانة به والمقصود من ذكر هذه القصة تأكيد قوله {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [ آل عمران : 120 ] وتأكيد قوله {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [ آل عمران : 122 ]
الثاني : أنه تعالى حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل.
ثم قال : {والله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} يعني من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به هذا الفشل والجبن والضعف ؟ ثم أكد ذلك بقصة بدر فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ولكن لما كان الله ناصراً لهم فازوا بمطلوبهم وقهروا خصومهم فكذا ههنا ، فهذا تقرير وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 182}
وقال أبو السعود :
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لإيجاب الصبرِ والتقوى بتذكير ما ترتب عليهما من النصر إثرَ تذكيرِ ما ترتب على عدمهما من الضرر ، وقيل : لإيجاب التوكلِ على الله تعالى بتذكير ما يوجبه. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 79}
فائدة
قال الفخر :
في بدر أقوال
الأول : بدر اسم بئر لرجل يقال له بدر ؛ فسميت البئر باسم صاحبها هذا قول الشعبي
الثاني : أنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه وهذا قول الواقدي وشيوخه ، وأنكروا قول الشعبي وهو ماء بين مكة والمدينة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 182}(16/260)
فصل
قال الفخر :
{أَذِلَّةٍ} جمع ذليل قال الواحديّ : الأصل في الفعيل إذا كان صفة أن يجمع على فعلاء كظريف وظرفاء وكثير وكثراء وشريك وشركاء إلا أن لفظ فعلاء اجتنبوه في التضعيف لأنهم لو قالوا : قليل وقللاء وخليل وخللاء لاجتمع حرفان من جنس واحد فعدل إلى أفعلة لأن من جموع الفعيل : الأفعلة ، كجريب وأجربة ، وقفيز وأقفزة فجعلوه جمع ذليل أذلة ،
قال صاحب "الكشاف" : الأذلة جمع قلة ، وإنما ذكر جمع القلة ليدل على أنهم مع ذلهم كانوا قليلين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 182}
فائدة
قال النسفى :
وجاء بجمع القلة وهو "أذلة" ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلاً. أ هـ {تفسير النسفى حـ 1 صـ 176}
فصل
قال الفخر :
قوله {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} في موضع الحال ، وإنما كانوا أذلة لوجوه
الأول : أنه تعالى قال : {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [ المنافقون : 8 ] فلا بد من تفسير هذا الذل بمعنى لا ينافي مدلول هذه الآية ، وذلك هو تفسيره بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو ومعنى الذل الضعف عن المقاومة ونقيضه العز وهو القوة والغلبة ، روي أن المسلمين كانوا ثلثمائة وبضعة عشر ، وما كان فيهم إلا فرس واحد ، وأكثرهم كانوا رجالة ، وربما كان الجمع منهم يركب جملاً واحداً ، والكفار قريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة
الثاني : لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين واعتقادهم لأجل قلة عددهم وسلاحهم ، وهو مثل ما حكى الله عن الكفار أنهم قالوا {لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [ المنافقون : 8 ](16/261)
الثالث : أن الصحابة قد شاهدوا الكفار في مكة في القوة والثروة وإلى ذلك الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار ، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم واستعظامهم مقرراً في نفوسهم فكانوا لهذا السبب يهابونهم ويخافون منهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 182 ـ 183}
وقال القرطبى :
و "أذِلة" جمع ذليل.
واسم الذل في هذا الموضع مستعار ، ولم يكونوا في أنفسهم إلاَّ أعِزّة ، ولكن نسبتهم إلى عدوّهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند التأمل ذِلّتهم وأنهم يُغلبون.
والنصر العون ؛ فنصرهم الله يوم بَدْرٍ ، وقتل فيه صنادِيد المشركين ، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام ، وكان أوّل قتال قاتله النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم عن بُريدة قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة ، قاتل في ثمان منهنّ.
وفيه.
عن أبي إسحاق قال : لقيت زيد بن أرْقَم فقلت له : كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال تسع عشرة غزوة.
فقلت : فكم غزوتَ أنت معه ؟ فقال : سبع عشرة غزوة.
قال فقلت : فما أوّل غزوة غزاها ؟ قال : ذات العُسَير أو العشير.
وهذا كله مخالف لما عليه أهل التواريخ والسير.
قال محمد بن سعد في كتاب الطبقات له : إن غزواتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم سبع وعشرون غزوة ، وسراياه ست وخمسون ، وفي رواية ست وأربعون ، والتي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بَدْرٌ واحُد والمَريْسِيع والخَنْدَق وخَيْبَر وقُرَيْظَة والفتْحُ وحُنَيْن والطائف.
قال ابن سعد : هذا الذي اجتمع لنا عليه.
وفي بعض الروايات أنه قاتل في بني النضير وفي وادي القُرى مُنصرفه من خَيْبَر وفي الغَابَة.
وإذا تقرّر هذا فنقول : زيد وبُريدة إنما أخبر كل واحد منهما بما في علمه أو شاهده.
(16/262)
وقول زيد : "إن أوّل غزاة غزاها ذات العسيرة" مخالف أيضاً لما قال أهل التواريخ والسير.
قال محمد بن سعد : كان قبل غزوة العشيرة ثلاث غزوات ، يعني غزاها بنفسه.
وقال ابن عبد البر في كتاب الدرر في المغازي والسير.
أوّل غزاةٍ غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة وَدّان غزاها بنفسه في صَفَر ؛ وذلك أنه وصل إلى المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل ، أقام بها بقيةَ ربيع الأوّل ، وباقي العام كله إلى صفر من سنة اثنتين من الهجرة : ثم خرج في صفر المذكور واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ وَدّان فوادع بني ضَمْرة ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حَرْباً ، وهي المسماة بغزوة الأبْوَاء.
ثم أقام بالمدينة إلى ( شهر ) ربيع الآخر من السنة المذكورة ، ثم خرج فيها واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون حتى بلغ بَوَاط من ناحية رَضْوَى ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حرباً ، ثم أقام بها بقية ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى ، ثم خرج غازياً واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد ، وأخذ على طريق مِلْكٍ إلى العُسَيرْة.
قلت : ذكر ابن إسحاق " عن عمّار بن ياسر قال : كنت أنا وعليّ بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن يَنْبُع فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهراً فصالح بها بني مُدْلِج وحلفاءَهم من بني ضَمْرة فوادعهم ، فقال لي علي بن أبي طالب : هل لك أبا اليقظان أن تأتي هؤلاء ؟ نفر من بني مُدْلِج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون.
(16/263)
فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشِينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دَقْعَاء من الأرض فَنِمْنا فيه ؛ فوالله ماأهبنا إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدمه ؛ فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : "ما بالك يا أبا تراب" ؛ فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال : "ألا أُخبركم بأشقى الناس رجيلن" قلنا : بلى يا رسول الله ؛ فقال : "أُحَيْمِر ثمود الذي عقرالناقة والذي يضربك يا عليّ على هذه ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه حتى يَبَلّ منها هذه" " ووضع يده على لحيته.
فقال أبو عمر : فأقام بها بقية جمادي الأولى وليالي من جمادي الآخرة ، ووادع فيها بني مُدْلِج ثم رجع ولم يلق حرباً.
ثم كانت بعد غزوة بدرٍ الأولى بأيام قلائل ، هذا الذي لا يشك فيه أهل التواريخ والسير ، فزيد بن أرقم إنما أخبر عما عنده. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 190 ـ 192}(16/264)
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلة} وصف الله المؤمنين في هذه الآية بكونهم أذلة حال نصره لهم ببدر, وقد جاء في آية أخرى وصفه تعالى لهم بأن لهم العزة, وهي قوله تعالى : {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}, ولا يخفى ما بين العزة والذلة من التنافي والتضاد. والجواب ظاهر وهو أنّ معنى وصفهم بالذلة هو قلة عَددهم وعُددهم يوم بدر, وقوله تعالى : {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}نزل في غزوة المريسيع, وهي غزوة بني المصطلق, وذلك بعد أن قويت شوكة المسلمين, وكثر عَددهم, مع أن العزة والذلة يمكن الجمع بينهما باعتبار آخر وهو أن الذلة باعتبار حال المسلمين من قلة العَدد والعُدد, والعزة باعتبار نصر الله وتأييده, كما يشير إلى هذا قوله تعالى : {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيبات}, وقوله : {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة}, فإنّ زمن الحال هو زمن عاملها, فزمان النصر هو زمان كونهم أذلة, فظهر أنّ وصف الذلة باعتبار, ووصف العزة والنصر باعتبار آخر, فانفكت الجهة, والعلم عند الله. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 68}(16/265)
قوله تعالى : {فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
قال الفخر :
{فاتقوا الله} أي في الثبات مع رسوله {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته أو لعلّ الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام ، لأنه سبب له. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 183}
وقال الآلوسى :
{ فاتقوا الله } باجتناب معاصيه والصبر على طاعته ولم يصرح بالأمر بالصبر اكتفاءاً بما سبق وما لحق مع الإشعار على ما قيل بشرف التقوى وأصالتها وكون الصبر من مباديها اللازمة لها وفي ترتيب الأمر بها على الإخبار بالنصر إعلام بأن نصرهم المذكور كان بسبب تقواهم فمعنى قوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لعلكم تقومون بشكر ما أنعم به عليكم من النصر القريب بسبب تقواكم إياه ، ويحتمل أن يكون كناية أو مجازاً عن نيل نعمة أخرى توجب الشكر كأنه قيل : فاتقوا الله لعلكم تنالون نعمة من الله تعالى فتشكرونه عليها فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له ومستعد إياه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 44}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { بِبَدْرٍ } متعلق بـ { نَصَرَكُمُ } ، وفي الباء - حينئذ - قولان :
أحدهما : - وهو الأظهر - : أنها ظرفية ، أي : في بدر ، كقولك : زيد بمكة ، أي : في مكة.
الثاني : أن تتعلق بمحذوف على أنها باء المصاحبة ، فمحلُّها النصب على الحال ، أي : مصاحبين لبدر ، و" بدر " : اسم لماء بين مكة والمدينة ، سُمِّي بذلك لصفائه كالبدر.
وقيل : لاستدارته وقيل : اسم بئر لرجل يقال له : بدر ، وهو بدر بن كلدة ، قاله الشعبي ، وأنكر عليه بذكر الله - تعالى - مِنَّتَه عليهم بالنُّصْرَةِ يوم بدر وقيل : إنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه. قاله الواقدي وشيوخه.
وقيل : اسم وادٍ ، وكان يوم بدر السابع عشر من رمضان وكان يوم الجمعة ، لثمانية وعشرين شهراً من الهجرة.(16/266)
قوله : { وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } في محل نصب على الحال من مفعول : { نَصَرَكُمُ } و{ أَذِلَّةٌ } جمع ذليل وهو جمع قلة ؛ إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة ، و" فعيل " الوصف - قياس جمعه على فعلاء ، كظريف وظرفاء ، وشريف وشرفاء ، غلا أنه تُرِك في المضعَّف ؛ تخفيفاً ألا ترى إلى ما يؤدي إليه جمع ذليل وخليل على ذُللاء وخُللاء من الثقل ؟ أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 514}.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}
تذكير ما سَلَفَ من الإنْعَام فتحٌ لباب التملق في اقتضاء أمثاله في المُسْتَأنَف. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 274}(16/267)
فصل
قال الثعلبى :
ذكر مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
جميع ما غزا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنفسه ستّ وعشرون غزوة ،
فأول غزوة غزاها غزوة ودّان ،
وهي عزوة الأبواء ،
ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى ،
ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع ،
ثم غزوة بدر الأُولى بطلب كرز بن جابر ،
ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل الله فيها صناديد قريش ،
ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ماءً لبني سليم ،
ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب حتى بلغ قرقرة الكدر ،
ثم غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان إلى نجد ،
ثم غزوة نجران : موضع بالحجاز فوق الفرع ،
ثم غزوة أُحد ثم غزوة الأسد ،
ثم غزوة بني النضير ،
ثم غزوة ذات الرقاع من نجد ،
ثم غزوة بدر الأخيرة ،
ثم غزوة دومة الجندل ،
ثم غزوة الخندق ،
ثم غزوة بني قريظة ،
ثم غزوة بني لحيان ،
ثم غزوة بني قردة ،
ثم غزوة بني المصطلق من بني خزاعة لقي فيها ،
ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون ،
ثم غزوة خيبر ،
ثم غزوة الفتح : فتح مكة ،
ثم غزوة حنين لقي فيها ،
ثم غزوة الطائف حاصر فيها ،
ثم غزوة تبوك.
قاتل منها في تسع غزوات : غزوة بدر الكبرى ،
وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة ،
وأُحد في شوال سنة ثلاث ،
والخندق ،
وبني قريظة في شوال سنة أربع ،
وبني المصطلق ،
وبني لحيان في شعبان سنة خمس ،
وخيبر سنة ست ،
والفتح في رمضان سنة ثمان ،
وحنين في شوال سنة ثمان. فأوّل غزوة غزاها بنفسه وقاتل فيها بدر وآخرها تبوك.
ذكر سراياه {صلى الله عليه وسلم}
روي عن مقسم قال : كانت السرايا ستّاً وثلاثين ،
وهي غزوة عبيدة بن الحارث إلى حنا من أسفل ثنية المرة وهو ما بالحجارة ، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية الفايض وبعض الناس يقدم غزوة حمزة على غزوة عبيدة وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار من أرض الحجاز ، (16/268)
ثم غزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة ،
وغزوة زيد بن حارثة القردة ماء من مياه نجد ،
وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيعَ لقوا فيها ،
وغزوة منذر بن عمرو بئر معونة لقوا فيها ،
وغزوة أبي عبيدة الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق ،
وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بني عامر ،
وغزوة علي بن أبي طالب اليمن ،
وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلبِ ليث الكديدَ لقوا فيها الملوح ،
وغزوة علي بن أبي طالب إلى أبي عبد الله بن سعد من أهل فدك ،
وغزوة ابن أبي العوجاء السلمي أرض بني سليم أُصيب بها هو وأصحابه جميعاً ،
وغزوة عكاشة بن محصن العمرة ،
وغزوة أبي سلمة بن عبد الأسد قطن ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد لقوا فيها فقتل فيها مسعود بن عروة ،
وغزوة محمد بن مسلمة أخي بني حارثة إلى القرطاء موضع من هوزان ،
وغزوة بشير بن سعد بن كعب بن مرة لفدك ،
وغزوة بشير بن سعد أيضاً إلى حيان بلد من أرض خيبر ،
وغزوة زيد بن حارثة الجموم من أرض بني سليم ،
وغزوة زيد أيضاً جذام من أرض حسمي لقوا فيها ،
وغزوة زيد أيضاً إلى طرف من ناحية نخل من طريق العراق ،
وغزوة زيد أيضاً وادي القرى لقي بني فزارة ،
وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين
إحداهما التي أصاب فيها بشراً اليهودي ،
وغزوة عبد الله بن عتيك إلى حنين فأصاب بها أبا رافع بن أبي الحقيق.
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعث محمد بن مسلمة وأصحابه فيها من أُحد وبدر إلى كعب بن الأشرف فقتلوه ،
وبعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وهو بنخلة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليغزوه فقتله ،
وغزوة الأُمراء : زيد بن حارثة ،
وجعفر بن أبي طالب ،
وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام فأُصيبوا بها ،
وغزوة كعب بن عمرو الغفاري ذات الطلاح من أرض الشام فأُصيب بها هو وأصحابه جميعاً ، (16/269)
وغزوة عيينة بن حذيفة بن بدر الفزاري العنبر من بني تميم ،
وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث أرض بني مرة فأصاب بها مرداس بن نهيك وحليفاً لهم من جهينة ،
قتله أُسامة بن زيد ،
وهو الذي قال النبي {صلى الله عليه وسلم} لأسامة فيه : "من لك ؟
من لك لا إله إلاّ الله ؟
".
وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بُلَي وعذرة وغزوة ،
(أبي قتادة) وأصحابه إلى بطن إضم قبل الفتح لقوا فيها ،
وغزوة الخيط إلى سيف البحر وعليهم أبو عبيدة الجراح وغزوة عبد الرحمن بن عوف. أ هـ {الكشف والبيان حـ 3 صـ 140 ـ 141}(16/270)
قوله تعالى : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}
مناسبة الآيتين لما قبلهما
قال البقاعى :
ولما اشتملت هذه القصة على المصيبة التي سيقص الله كثيراً منها ، وهي مستوفاة في السير كان أنسب من قصها وبيان ما اتفق لها - لوعظ من يأتي - البداءةُ بتذكير من باشرها بما وعدهم الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قبل وقوع القتال من النصر المشروط بالصبر والتقوى تنبيهاً لهم على أن الخلل من جهتهم أتى ، ثم وعظمهم بالنهي عما منعهم النصر ، والأمر بما يحصله لهم كما سيحثهم على ذلك بما يقص عليهم من نبأ من قاتل مع الأنبياء قبلهم بأنهم لما أصابهم القتل لم يهنوا وعلموا أن الخلل من أنفسهم ، فبادروا إلى إصلاحه بأفعال المتقين من الصبر والتضرع والإقرار بالذنب ، فقال - مبدلاً من {إذ غدوت} عوداً على بدء تعظيماً للأمر حثاً على النظر في موارده ومصادره والتدبر لأوائله وأواخره - : {إذ تقول للمؤمنين} أي الذين شاورتهم في أمر أحد - وفي غمارهم المنافقون - لما زلزلوا برجوع أكثر المنافقين به ، حتى كاد بعض الثابتين أن يرجع ضعفاً وجبناً ، مع ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم به من تلك الرؤيا التي أولها بذبح يكون في أصحابه ، ليكون إقدامهم على بصيرة ، أو يصدهم ذلك عن الخروج إلى العدو كما كان ميل النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر أصحابه وإعلامهم إلى المكث في المدينة قال منكراً آتياً بأداة التأكيد للنفي : {ألن يكفيكم} أي أيها المؤمنون {أن يمدكم} إمداداً خفياً - بما أشار إليه الإدغام {ربكم} أي المتولي لتربيتكم ونصر دينكم {بثلاثة آلاف} ثم عظم أمرهم بقوله : {من الملائكة} ثم زاد في إعظامهم بأنهم من السماء بقوله : {منزلين} ثم تولى سبحانه وتعالى هو الجواب عنهم تحقيقاً للكفاية فقال : {بلى} أي يكفيكم ذلك ، ثم استأنف قوله : {إن تصبروا وتتقوا} أي توقعوا الصبر والتقوى لله ربكم ، فتفعلوا ما يرضيه وتنتهوا عما يسخطه(16/271)
{ويأتوكم} أي الكفار {من فورهم} أي وقتهم ، استعير للسرعة التي لا تردد فيها ، من : فارت القدر - إذا غلت {هذا} أي في هذه الكرة {يمددكم} أي إمداداً جلياً - بما أشار إليه إشارة لفظية : الفك ، وإشارة معنوية : التسويم {ربكم} أي المحسن إليكم بأكثر من ذلك {بخمسة آلاف من الملائكة} ثم بين أنهم من أعيان الملائكة بقوله : {مسومين} أي معلمين بما يعرف به مقامهم في الحرب ، والظاهر من التعبير بالتسويم إفهام القتال ، ومن الاقتصار على الإنزال عدمه ، ويكون فائدة نزولهم البركة بهم وإرهاب الكفار بمن يرونه منهم.
قال البغوي : قال ابن عباس ومجاهد : لم يقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون ، إنما يكونون عدداً ومدداً. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 149}
فصل نفيس
قال الفخر :
اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر ، أو يوم أُحد ويتفرع على هذين القولين بيان العامل في {إِذْ} فإن قلنا هذا الوعد حصل يوم بدر كان العامل في {إِذْ} قوله {نَصَرَكُمُ الله} [ آل عمران : 123 ] والتقدير : إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين ، وإن قلنا إنه حصل يوم أحد ، كان ذلك بدلاً ثانياً من قوله {وَإِذْ غَدَوْتَ }.
إذا عرفت هذا فنقول :
القول الأول : أنه يوم أحد ، وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق ، والحجة عليه من وجوه :
الحجة الأولى : أن يوم بدر إنما أمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ إِنّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الملائكة} [ الأنفال : 9 ] فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر ؟ .(16/272)
الحجة الثانية : أن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً أو ما يقرب منه والمسلمون كانوا على الثلث منهم لأنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر ، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة ، فصار عدد الكفار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فلا جرم وقعت الهزيمة على الكفار فكذلك يوم أحد كان عدد المسلمين ألفاً ، وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم ، كما في يوم بدر ، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ليصير عدد الكفار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين ، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم في هذا اليوم كما هزموهم يوم بدر ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة قلوب المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم ، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل إذا قلنا إن هذا الوعد إنما حصل يوم أحد.
الحجة الثالثة : أنه تعالى قال في هذه الآية {وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف من الملائكة مُسَومين} [ آل عمران : 125 ] والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم ، ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء ، فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم ، بل هم ذهبوا إلى الأعداء.
فإن قيل : لو جرى قوله تعالى : {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلافٍ مِنَ الملائكة} في يوم أحد ، ثم إنه ما حصل هذا الإمداد لزم الكذب.
والجواب عنه من وجهين(16/273)
الأول : أن إنزاله خمسة آلاف من الملائكة كان مشروطاً بشرط أن يصبروا ويتقوا في المغانم ثم أنهم لم يصبروا ولم يتقوا في المغانم بل خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط وأما إنزال ثلاثة آلاف من الملائكة فإنما وعد الرسول بذلك للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال وأمرهم بالسكون والثبات في تلك المقاعد ، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم إنما وعدهم بهذا الوعد بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد ، فلما أهملوا هذا الشرط لا جرم لم يحصل المشروط.
الوجه الثاني : في الجواب : لا نسلم أن الملائكة ما نزلت ، روى الواقدي عن مجاهد أنه قال : حضرت الملائكة يوم أُحد ولكنهم لم يقاتلوا ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى اللواء معصب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ملك أمد به ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال : كنت أرمي السهم يومئذ فيرده على رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه ، فظننت أنه ملك ، فهذا ما نقوله في تقرير هذا الوجه.
إذا عرفت هذا فنقول : نظم الآية على هذا التأويل أنه تعالى ذكر قصة أحد ، ثم قال : {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي يجب أن يكون توكلهم على الله لا على كثرة عددهم وعددهم فلقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فكذلك هو قادر على مثل هذه النصرة في سائر المواضع ، ثم بعد هذا أعاد الكلام إلى قصة أحد فقال : {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الملئكة }.
القول الثاني : أن هذا الوعد كان يوم بدر ، وهو قول أكثر المفسرين ، واحتجوا على صحته بوجوه.(16/274)
الحجة الأولى : أن الله تعالى قال : {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [ آل عمران : 123 ] {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} كذا وكذا ، فظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى نصرهم ببدر حينما قال الرسول للمؤمنين هذا الكلام ، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام يوم بدر.
الحجة الثانية : أن قلة العدد والعدد كانت يوم بدر أكثر وكان الاحتياج إلى تقوية القلب ذلك اليوم أكثر ، فكان صرف هذا الكلام إلى ذلك اليوم أولى.
الحجة الثالثة : أن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً غير مشروط بشرط ، فوجب أن يحصل ، وهو إنما حصل يوم بدر لا يوم أُحد ، وليس لأحد أن يقول إنهم نزلوا لكنهم ما قاتلوا لأن الوعد كان بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة ، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بد من الإعانة ، والإعانة حصلت يوم بدر ولم تحصل يوم أحد ، ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن دلائل الأولين فقالوا :
أما الحجة الأولى : وهي قولكم : الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أمد يوم بدر بألف من الملائكة.
فالجواب عنها : من وجهين
الأول : أنه تعالى أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف ، ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا بلى ، ثم قال : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف فقالوا بلى ، ثم قال لهم : إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف ، وهو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه :
" أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا نعم قال أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا نعم قال فإني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ".(16/275)
الوجه الثاني في الجواب : أن أهل بدر إنما أمدوا بألف على ما هو مذكور في سورة الأنفال ، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم ذلك لقلة عددهم ، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ثم إنه لم يأت قريشاً ذلك المدد ، بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش ، فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف.
وأما الحجة الثانية : وهي قولكم : إن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً فأنزل الله ألفاً من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف.
فالجواب : إنه تقريب حسن ، ولكنه لا يوجب أن لا يكون الأمر كذلك ، بل الله تعالى قد يزيد وقد ينقص في العدد بحسب ما يريد.
وأما الحجة الثالثة : وهي التمسك بقوله {وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ} [ آل عمران : 125 ].
فالجواب عنه : أن المشركين لما سمعوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد تعرضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى : أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة فهذا حاصل ما قيل في تقرير هذين القولين ، والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 183 ـ 185}
فائدة
قال أبو السعود :
{ إِذْ تَقُولُ } تلوينٌ للخطاب بتخصيصه برسول الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه والإيذانِ بأن وقوعَ النصرِ كان ببشارته عليه السلام { لَهُمْ } وإذ ظرفٌ لنصَرَكم قدِّم عليه الأمرُ بالتقوى لإظهار كمالِ العنايةِ به ، والمرادُ به الوقتُ الممتدُ الذي وقع فيه ما ذكر بعده وما طُويَ ذكرُه تعويلاً على شهادة الحالِ مما يتعلق به وجودُ النصرِ ، وصيغةُ المضارعِ لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها أي نصركم وقت قولك : { لِلْمُؤْمِنِينَ } حين أظهروا العجزَ عن المقاتلة. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 79 ـ 80}(16/276)
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيَكم أن يُمدَّكُم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة} الآية, هذه الآية تدل على أنّ المدد يوم بدر من الملائكة من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف, وقد ذكر تعالى في سورة الأنفال أنّ هذا المدد ألف بقوله : {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة} الآية.
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : أنه وعدهم بألف ثم صارت ثلاثة آلاف ثم صارت خمسة كما في هذه الآية.
الثاني : أن آية الأنفال لم تقتصر على الألف, بل أشارت إلى الزيادة المذكورة في آل عمران, ولا سيما في قراءة نافع : {بألف من الملائكة مردَفين} بفتح الدال على صيغة اسم المفعول, لأن معنى (مردفين) : متبوعين بغيرهم, وهذا هو الحق, وأما على قول من قال : "إن المدد المذكور في آل عمران في يوم أحد, والمذكور في الأنفال في يوم بدر" فلا إشكال على قوله, إلا أن غزوة أحد لم يأت فيها مدد الملائكة. والجواب : أن إتيان المدد فيها على القول به مشروط بالصبر والتقوى في قوله : {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم} الآية, ولمّا لم يصبروا ولم يتقوا لم يأت المدد, وهذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم, قاله بن كثير. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 68 ـ 69}(16/277)
فصل
قال ابن الجوزى :
وفي عدد الملائكة يوم بدر خسمة أقوال.
أحدها : خمسة آلاف ، قاله الحسن.
وروى جبير بن مطعم عن علي رضي الله عنه ، قال : بينا أنا أمتح من قليب بدر ، جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها ، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها ، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها ، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة ، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله ، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله ، وكنت عن يساره ، وهزم الله أعداءه.
والثاني : أربعة آلاف : قاله الشعبي.
والثالث : ألف ، قاله مجاهد.
والرابع : تسعة آلاف ، ذكره الزجاج.
والخامس : ثمانية آلاف ، ذكره بعض المفسرين. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 453}(16/278)
وقال الفخر :
اختلفوا في عدد الملائكة ، وضبط الأقوال فيها أن من الناس من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد ، فقالوا : لأن الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه ، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم ، فلا بد من التغاير وهو ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة بشرط أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد ، أما على تقدير الأول : فإن حملنا الآية على قصة بدر كان عدد الملائكة تسعة آلاف لأنه تعالى ذكر الألف ، وذكر ثلاثة آلاف ، وذكر خمسة آلاف ، والمجموع تسعة آلاف ، وإن حملناها على قصة أحد ، فليس فيها ذكر الألف ، بل فيها ذكر ثلاثة آلاف ، وخمسة آلاف ، والمجموع : ثمانية آلاف ، وأما على التقدير الثاني : وهو إدخال الناقص في الزائد فقالوا : عدد الملائكة خمسة آلاف ، ثم ضم إليها ألفان آخران ، فلا جرم وعدوا بالألف ثم ضم إليه ألفان فلا جرم وعدوا بثلاثة آلاف ، ثم ضم إليها ألفان آخران فلام جر وعدوا بخمسة آلاف ، وقد حكينا عن بعضهم أنه قال أمد أهل بدر بألف فقيل : إن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم : ألن يكفيكم يعني بتقدير أن يجيء المشركين مدد فالله تعالى يمدكم أيضاً بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ، ثم إن المشركين ما جاءهم المدد ، فكذا ههنا الزائد على الألف ما جاء المسلمين فهذه وجوه كلها محتملة ، والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 185 ـ 186}(16/279)
فصل
قال القرطبى :
نزول الملائكةِ سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى ، وإنما يحتاج إليه المخلوق فلْيَعْلَق القلب بالله ولْيَثِق به ، فهو الناصر بسبب وبغير سبب ؛ { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ].
لكن أخبر بذلك ليمتثل الخلقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل ، { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } [ الفتح : 23 ] ، ولا يَقْدَح ذلك في التوَكُّل.
وهو ردّ على من قال : إن الأسباب إنما سُنّت في حق الضعفاء لا للأقوياء ؛ فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا الأقوياء وغيرهم هم الضعفاء ؛ وهذا واضِحٌ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 195}
فصل
قال الفخر :
أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيما سواه كانوا عدداً ومدداً لا يقاتلون ولا يضربون ، وهذا قول الأكثرين ، وأما أبو بكر الأصم ، فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار ، واحتج عليه بوجوه :
الحجة الأولى : إن الملك الواحد يكفي في إهلاك الأرض ، ومن المشهور أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت المدائن الأربع لقوم لوط وبلغ جناحه إلى الأرض السابعة ، ثم رفعها إلى السماء وقلب عاليها سافلها ، فإذا حضر هو يوم بدر ، فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ؟ ثم بتقدير حضوره ، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة ؟ .
الحجة الثانية : أن أكابر الكفار كانوا مشهورين وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.(16/280)
الحجة الثالثة : الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس أو لا يراهم الناس فإن رآهم الناس فإما أن يقال إنهم رأوهم في صورة الناس أو في غير صورة الناس ، فإن كان الأول فعلى هذا التقدير صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف ، أو أكثر ، ولم يقل أحد بذلك ، ولأن هذا على خلاف قوله تعالى : {وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} [ الأنفال : 44 ] وإن شاهدوهم في صورة غير صور الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق فإن من شاهد الجن لا شك أنه يشتد فزعه ولم ينقل ذلك ألبتة.
وأما القسم الثاني : وهو أن الناس ما رأوا الملائكة فعلى هذا التقدير : إذا حاربوا وحزوا الرؤوس ، ومزقوا البطون وأسقطوا الكفار عن الأفراس ، فحينئذ الناس كانوا يشاهدون حصول هذه الأفعال مع أنهم ما كانوا شاهدوا أحداً من الفاعلين ، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات ، وحينئذ يجب أن يصير الجاحد لمثل هذه الحالة كافراً متمرداً ، ولما لم يوجد شيء من ذلك عرف فساد هذا القسم أيضاً.
الحجة الرابعة : أن هؤلاء الملائكة الذين نزلوا ، إما أن يقال : إنهم كانوا أجساماً كثيفة أو لطيفة ، فإن كان الأول وجب أن يراهم الكل وأن تكون رؤيتهم كرؤية غيرهم ، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك ، وإن كانوا أجساماً لطيفة دقيقة مثل الهواء لم يكن فيهم صلابة وقوة ، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول وكل ذلك مما ترونه.(16/281)
واعلم أن هذه الشبهة إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة ، فأما من يقر بهما فلا يليق به شيء من هذه الكلمات ، فما كان يليق بأبي بكر الأصم إنكار هذه الأشياء مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الأخبار قريب من التواتر ، روى عبد الله بن عمر قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ، ويقولون : لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر والشبهة المذكورة إذا قابلناها بكمال قدرة الله تعالى زالت وطاحت فإنه تعالى يفعل ما يشاء لكونه قادراً على جميع الممكنات ويحكم ما يريد لكونه منزّهاً عن الحاجات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 186 ـ 187}
وقال القرطبى :
وتظاهرت الروايات بأنّ الملائكة حضرت يوم بَدر وقاتلت ؛ ومن ذلك قول أبي أُسيدٍ مالكِ بنِ ربيعة وكان شهيد بدر : لوكنتُ معكم الآن بِبَدْر وَمَعِي بصرى لأريتُكم الشِّعْب الذي خرجتْ منه الملائكةُ ، لا أشك ولا أمْتَرِي.
رواه عقيل عن الزُّهريّ عن أبي حازم سلمَة بنِ دينار.
قال ابن أبي حاتم : لا يُعرف للزّهريّ عن أبي حازم غيرُ هذا الحديث الواحد ، وأبو أُسَيدٍ يُقال إنه آخر من مات من أهل بدر ؛ ذكره أبو عمر في الاستيعاب وغيره.
(16/282)
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال : لما كان يومِ بَدْر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألْفٌ ، وأصحابه ثلاثُ مائةٍ وتسعة عشر رجلاً ، فاستقبل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مدّ يدَيْه فجعل يَهْتِف بربِّه : " اللَّهُمَّ أنجِزْ لي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إن تَهْلِك هذه العَصَابَةُ مِن أهل الإسلام لاَ تُعْبَدُ فِي الأرْضِ " فما زال يَهْتِف بربه مادّاً يديْه مُستقبلَ القِبلة حتى سقط رداؤُه عن مَنْكِبَيْه ، فأتاه أبو بكر أخذَ رداءَه فألقاه على مَنْكِبَيْه ، ثم الْتَزَمَه من وَرائه وقال : يا نبيّ اللَّهِ ، كفاك مناشَدَتُك رَبَّك ، فإنه سيُنْجِزُ لك ما وَعَدَك ؛ فأنزل الله عزّ وجلّ : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] فأمدّه الله تعالى بالملائكة.
قال أبو زُمَيْل : فحدّثني ابن عباس قال : بيْنما رجلٌ من المسلمين يومئذ يَشْتَدّ في أثرَ رجل من المشركين أمامَه إذْ سمِع ضربةً بالسَّوْط فوقَه وصوتَ الفارِس يقول : أَقِدمْ حَيْزُومُ ، فنظر إلى المشرِك أمامه فَخرّ مستلقياً ، فنظر إليه فإذا هو قَدْ خُطِم أنفُه وشُقّ وجهُه ( كضربة السوط ) فاخْضَرّ ذلك أجْمَعُ.
فجاء الأنصاريّ فحدّث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صدقتَ ذلك من مَدَد السَّماء الثالثة " فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
وذكر الحديث.
وسيأتي تمامُه في آخر "الأنفال" إن شاء الله تعالى.
فتظاهرت السنة والقرآن على ما قاله الجمهور ، والحمد لله.
(16/283)
وعن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِجبْرَيل : "مَنِ القائلُ يوم بدر من الملائكة أقدم حَيْزُوم" ؟ فقال جبريل : "يا محمد ما كل أهل السماء أعرف" " وعن عليّ رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال : بينا أنا أمْتَح من قَلِيب بَدْر جاءت ريحٌ شديدة لم أرَ مثلها قَطّ ، ثم ذهبت ، ثم جاءت ريحٌ شديدة لم أرَ مثلها قط إلاَّ التي كانت قبلها.
قال : وأظنه ذكر : ثم جاءت ريحٌ شديدة ، فكانت الرِّيح الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الريح الثانية مِيكَائِيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو بكر عن يمينه ، وكانت الريح الثالثة إسْرَافِيل نزل في ألف من الملائكة عن مَيْسَرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة.
وعن سَهل بن حُنَيف رضي الله عنه قال : لقد رأيتُنا يوم بَدْر وأنّ أحدنَا يُشِير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسُه عن جسده قبل أن يَصِل إليه.
وعن الرّبيع بن أنس قال : كان الناس يوم بَدْر يعرفون قتلى الملائكة ممَّن قتلوهم بضربٍ فوقَ الأعْناق وعلى البَنَان مثل سِمَة النار قد أُحرِق به ؛ ذكر جميعه البَيْهَقِيّ رحمه الله.
وقال بعضهم : إن الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة ؛ لأن كلَّ موضع أصابتْ ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع ، حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود : أنت قتلتني ؟ اإنما قتلني الذي لم يصل سِنَانِي إلى سُنْبُك فرسه وإن اجتهدت.
وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين ؛ ولأنّ الله تعالى جعل أُولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة ؛ فكل عسكر صَبَر واحتسب تأتيهم الملائكة ويقاتلون معهم.
(16/284)
وقال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكةُ إلاَّ يوم بَدْر ، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً أو مدداً.
وقال بعضهم : إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يَدْعُون ويسبِّحون ، ويكثرون الذين يقاتلون يومئذ ؛ فعلى هذا لم تقاتل الملائكةُ يوم بدر وإنما حضروا للدعاء بالتثّبِيت ، والأوّل أكثر.
قال قتادة : كان هذا يوم بدر ، أمدّهم الله بألفٍ ثم صاروا ثلاثةَ آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف ؛ فذلك قوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] وقوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ } وقوله : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } فصبرَ المؤمنون يوم بَدْر واتقوا الله فأمدّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وَعَدَهُم ؛ فهذا كله يوم بدر.
وقال الحسن : فهؤلاء الخمسة آلاف رِدْءٌ للمؤمنين إلى يوم القيامة.
قال الشعبيّ : بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر أن كُرْز بن جابر المُحارِبيّ يريد أن يُمدّ المشركين فشق ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ؛ فأنزل الله تعالى { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } إلى قوله : { مُسَوِّمِينَ } فبلغ كُرْزاً الهزيمةُ فلم يُمدّهم ورجع ، فلم يمدهم الله أيضاً بالخمسة آلاف ، وكانوا قد مدّوا بألف.
وقيل : إنما وعد الله المؤمنين يوم بدر إن صبروا على طاعته ، واتقوا محارمه أن يمدّهم أيضاً في حروبهم كلها ، فلم يصبروا ولم يتقوا محارمه إلاَّ في يوم الأحزاب ، فأمدّهم حين حاصروا قُرَيْظة.(16/285)
وقيل : إنما كان هذا يوم أحُد ، وعدهم الله المدد إن صبروا ، فما صبروا فلم يُمدّهم بملَك واحد ، ولو أُمِدّوا لما هُزِمُوا ؛ قاله عكرمة والضحاك.
فإن قيل : فقد ثبت عن سعد بن أبي وَقّاص أنه قال : رأيت عن يَمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يومَ بَدْر رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشدّ القتال ، ما رأيتهما قبلُ ولا بعدُ.
قيل له : لعل هذا مختص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، خصّه بملكين يقاتلان عنه ، ولا يكون هذا إمداداً للصحابة ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 192 ـ 195}
فائدة
قال ابن عاشور :
وإنَّما جيء في النَّفي بحرف لَن الَّذي يفيد تأكيد النَّفي للإشعَار بأنّهم كانوا يوم بدر لقلّتهم ، وضعفهم ، مع كثرة عدوّهم ، وشوكته ، كالآيسين من كفاية هذا المدد من الملائكة ، فأوقع الاستفهام التَّقريري على ذلك ليكون تلقيناً لِمن يخالج نفسَه اليأس من كفاية ذلك العدد من الملائكة ، بأن يصرّح بما في نفسه ، والمقصود من ذلك لازمهُ ، وهذا إثبات أنّ ذلك العدد كاف. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 207}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في كيفية نصرة الملائكة قال بعضهم : بالقتال مع المؤمنين ، وقال بعضهم : بل بتقوية نفوسهم وإشعارهم بأن النصرة لهم وبإلقاء الرعب في قلوب الكفار ، والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم ، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوية القلب ، وزعم كثير من المفسرين أنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 187}(16/286)
فصل
قال الفخر :
قوله تعالى : {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} معنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر ، يقال كفاه أمر كذا إذا سد خلته ، ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال قال المفضل : ما كان على جهة القوة والإعانة قيل فيه أمده يمده ، وما كان على جهة الزيادة قيل فيه : مده يمده ومنه قوله {والبحر يَمُدُّهُ} [ لقمان : 27 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 187}
فصل
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" : إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله ومعنى {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} إنكار أن لا يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء بلن التي هي لتأكيد النفي للاشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عددهم كالآيسين من النصر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 187}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { إذْ تَقُولُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكر.
الثاني : إن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر ، فالعامل في " إذْ " قوله : { نَصَرَكُمُ الله } والتقدير : إذ نصركم الله ببدر ، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين.
وإن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد ، فيكون بَدَلاً من قوله : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ } [ آل عمران : 122 ] ، فهذه ثلاثة أوجه.
قوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } معنى الكفاية : هو سَدُّ الخلة ، والقيام بالأمر.
يقال : كَفَاهُ أمر كذا ، أي : سَدَّ خلته.
والإمداد : إعانة الجيش بالجيش ، وهو في الأصل إعطاء الشيء حالاً بعد حال.
قال المفضَّل : ما كان على جهة القوة والإعانة ، قيل فيه : أمَدَّه يُمِدُّه ، وما كان على جهة الزيادة ، قيل فيه : مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا ومنه : { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر } [ لقمان : 27 ].(16/287)
وقيل : المَدُّ في الشر ، والإمداد في الخير ؛ لقوله تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] وقوله : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } [ مريم : 79 ] وقال في الخير : { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف } [ الأنفال : 9 ] وقال : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِين } [ الإسراء : 6 ].
قوله : { أَن يُمِدَّكُمْ } فاعل ، { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } أي : ألن يكفيكم إمدادُ ربكم ، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار ، وجيء بـ " لن " دون " لا " ؛ لأنها أبلغ في النفي ، وفي مصحف أبيّ " ألا " بدون " لن " وكأنه قصد تفسير المعنى.
و " بثلاثة " متعلق بـ { يُمِدَّكُمْ }.
وقرأ الحسن البصريّ " ثلاثة آلافٍ " - بهاء - ساكنة في الوصل - وكذلك " بخمسة آلافٍ " كأنه أجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف ، وهي ضعيفة ؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال.
قال ابن عطية : ووجْه هذه القراءة ضعيف ؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذْ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول ، والهاء إنما هي أمارة وقف ، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضعَ ، من ذلك ما حكاه الفرَّاء من قولهم : أكلت لحما شاةٍ - يريدون لحم شاة - فَمَطلُوا الفتحةَ ، حتى نشأت عنها ألِفٌ ، كما قالوا في الوقف قالا - يريدون قال - ثم مَطَلُوا الفتحة في القوافي ، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت.
ومن ذلك في الشعر قوله : [ الكامل ]
يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ... زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُكْدَمِ
يريد : " ينبع " ، فمطل ومثله قول الآخر : [ الرجز ]
أقُولُ إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ... يَا نَاقَتَا مَا جُلْتُ مِنْ مَجَالِ(16/288)
يريد : " الكلكل " ، فمطل ومثله قول الشاعر : [ الوافر ]
فَأنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى... وَمَنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ
يريد : بمنتزح.
قال أبو الفتح : " فإذا جاز أن يعترض هذا [ الفتور ] والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما اثنان ".
قال أبو حيان - بعد نقل كلام ابن عطية- : " وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوَصْل مُجْرَى الوَقْف ، وإجراء الوَقْف مُجْرَى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة ، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوَصْل ، وإنما نظير هذا قولهم : ثلاثة اربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف في الإبدال ، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مُجْرى الوقف ؛ إذْ لا يكون هذا النقل إلا في الوَصْل ".
وقرئ شاذًّا - أيضاً - : بثلاثةْ آلاف - بتاء ساكنة ، وهي أيضاً من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن ، أهي تاء التأنيث التي كانت ، فسكنت فقط ، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء ؟ ولا طائل تحته.
قوله : { مِّنَ الملائكة } يجوز أن تكون " مِنْ " للبيان ، وأن تكون " مِنْ " ومجرورها في موضع الجر صفة لـ " لَثَلاثَةِ " أو لِ " آلافٍ ".
(16/289)
قوله : { مُنْزَلِينَ } صفة لـ " ثلاثة آلاف " ، ويجوز أن يكون حالاً من " الْمَلاَئِكَةِ " والأول أظهر. وقرأ ابن عامر " مُنزَّلين " - بالتضعيف - وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت : { إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء } [ العنكبوت : 34 ] إلا أنه هنا - اسم مفعول ، وهناك اسم فاعل.
والباقون خفَّفوها وقرأها ابن أبي عَبْلَة - هنا - مُنَزَّلين - بالتشديد مكسور الزاي ، مبنياً للفاعل.
وبعضهم قرأه كذلك ، إلا أنه خفف الزاي ، جعله من أنزل - كأكرم - والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية ، ففعَّل وأفْعل بمعنًى ، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالاًّ على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتنين الأخيرتين يون المفعول محذوفاً ، أي : منزلين النصر على المؤمنين ، والعذاب على الكافرين. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 515 ـ 522}. بتصرف يسير.
قوله تعالى : { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}
فصل
قال الفخر :
بلى : إيجاب لما بعد ( لن ) يعني بل يكفيكم الإمداد فأوجب الكفاية ، ثم قال : {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا} يعني والمشركون يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بأكثر من ذلك العدد وهو خمسة آلاف ، فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطة بثلاثة أشياء ، الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور ، فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم لم يوجد المشروط. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 187}
فصل
قال الفخر : (16/290)
الفور مصدر من : فارت القدر إذا غلت ، قال تعالى : {حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [ هود : 40 ] قيل إنه أول ارتفاع الماء منه ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة ، يقال جاء فلان ورجع من فوره ، ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو التراخي ، والمعنى حدة مجيء العدو وحرارته وسرعته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 187}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {مُسَوّمِينَ} بكسر الواو أي معلمين علموا أنفسهم بعلامات مخصوصة ، وأكثر الأخبار أنهم سوموا خيولهم بعلامات جعلوها عليها ، والباقون بفتح الواو ، أي سومهم الله أو بمعنى أنهم سوموا أنفسهم ، فكان في المراد من التسويم في قوله {مُسَوّمِينَ} قولان
الأول : السومة العلامة التي يعرف بها الشيء من غيره ، ومضى شرح ذلك في قوله {والخيل المسومة} [ آل عمران : 14 ] وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها ، وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : " سوموا فإن الملائكة قد سومت " قال ابن عباس : كانت الملائكة قد سوموا أنفسهم بالعمائم الصفر ، وخيولهم وكانوا على خيل بلق ، بأن علقوا الصوف الأبيض في نواصيها وأذنابها ، وروي أن حمزة بن عبد المطلب كان يعلم بريشة نعامة ، وأن علياً كان يعلم بصوفة بيضاء وأن الزبير كان يتعصب بعصابة صفراء وأن أبا دجانة كان يعلم بعصابة حمراء.(16/291)
القول الثاني : في تفسير المسومين إنه بمعنى المرسلين مأخوذاً من الإبل السائمة المرسلة في الرعي ، تقول أسمت الإبل إذا أرسلتها ، ويقال في التكثير سومت كما تقول أكرمت وكرمت ، فمن قرأ {مُسَوّمِينَ} بكسر الواو فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيلها على الكفار لقتلهم وأسرهم ، ومن قرأ بفتح الواو فالمعنى أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات والحشيش. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 188}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { بلى } حرف جواب ، وهو إيجاب للنفي في قوله : { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ } وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله : { يُمْدِدْكُمْ }.
والفوز : العجلة والسرعة ، ومنه : فارت القِدْرُ ، إذا اشتد غلبانها وسارع ما فيها إلى الخروج ، والفوز مصدر ، يقال : فَار يفُورُ فَوْراً ، قال تعالى : { حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور } [ هود : 40 ] ، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة ، يقال : جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة ؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه ، فالفَوْز - في الأصل - : مصدر ، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين : معنى " مِنْ فَورِهم هَذَا " : من وجههم هذا.
وقال مجاهد والضَّحَّاكُ : من غضبهم هذا ؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر.(16/292)
قوله : { مُسَوِّمِينَ } كقوله : { مُنزَلِينَ } ، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو ، على اسم الفاعل ، والباقون بفتحها على اسم المفعول ، فأما القراءة الأولى ، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى : أنهم سَوَّموا خَيْلَهم ، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان ، وتركوها كذلك ، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى.
ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم ، أو خيلهم.
روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ ، قال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ ، عليهم عمائمُ بِيضٌ ، قد أرسلوها بين أكتافهم.
وقال هشام بن عروة : عمائم صفر.
وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ ، إلا جبريل فبعمامة صفراء ، على مثال الزبير بن العوام.
قال قتادةُ والضَّحَّاكُ : كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها.
ورُوِيَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : " تسوموا ، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم " وأما القراءة الثانية ، فواضحة بالمعنيين المذكورين ، فمعنى السوم فيها : أن الله أرسلهم ، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين.
قال أبو زيد : سوم الرجل خَيْلَه ، أي أرسلها.
وحكى بعضهم : سومت غلامي ، أي : أرسلته ، ولهذا قال الأخفش : معنى " مُسَوَّمِينَ " مُرْسَلِين.
ومعنى السومة فيها : أن الله - تعالى - سومهم ، أي جعل عليهم علامة ، وهي العمائم ، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 522 ـ 523}.
من فوائد القرطبى فى الآية
قال رحمه الله :
ورُوي عن ابن عباس : تسوَّمَت الملائكة يوم بدر بالصّوف الأبيض في نَوَاصي الخيل وأذنابها.(16/293)
وقال عَبّاد بن عبد الله بن الزبير وهِشام ابن عُروة والكلبي : نزلت الملائكة في سِيما الزُّبِير عليهم عمائم صُفْر مُرْخَاة على أكتافهم.
وقال ذلك عبد الله وعروة ابنا الزبير.
وقال عبد الله : كانت ملاءة صفراء اعتم بها الزبير رضي الله عنه.
قلت : ودلت الآية على اتخاذ ( الشارة والعلامة للقبائل والكتائب يجعلها السلطان لهم ؛ لتتميّز كل قبيلة وكتِيبة من غيرها عند الحرب ، وعلى فضل الخيل البُلْق لنزول الملائكة عليها.
قلت : ولعلها نزلت عليها مُوافَقة لفرس المِقْدَاد ، فإنه كان أبْلَق ولم يكن لهم فرس غيره ، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق إكراماً للمقداد ؛ كما نزل جبريل مُعْتَجِراً بعمامة صفراء على مِثال الزبير ، والله أعلم.
ودلّت الآية أيضاً.
على لِباس الصّوف وقد لَبِسه الأنبياء والصالحون.
ورَوى أبو داود وابن ماجه واللفظ له عن أبي بُرْدة عن أبيه قال قال لي أبي : لو شهدتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابتنا السماء لحسِبت أن رِيحنا ريح الضّأن.
ولبس صلى الله عليه وسلم جُبّة رُومِيّة من صوفٍ ضيِّقة الكُمّين ؛ رواه الأئمة.
ولبِسها يُونُس عليه السَّلام ؛ رواه مسلم.
وسيأتي لهذا المعنى مزِيد بيان في "النحل" إن شاء الله تعالى.
قلت : وأما ما ذكره مجاهد من أن خيلهم كانت مَجْزوزة الأذناب والأَعْراف فبعيدٌ ؛ فإن في مصنف أبي داود عن عُتْبة بن عبدٍ السُّلمي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تقُصّوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها فإن أذنابها مَذَابُّها ومعارفها دفاؤها ونواصيها معقود فيها الخير " فقول مجاهد يحتاج إلى توقيف من أن خيل الملائكة كانت على تلك الصفة ، والله أعلم.(16/294)
ودلّت الآية على حُسْن الأبيض والأصفر من الألوان لنزول الملائكة بذلك ، وقد قال ابن عباس : من لبس نَعلاً أصْفَر قضيت حاجته.
وقال عليه السَّلام : " البسوا من ثيابكم البياض فإنه من خير ثيابكم وكفِّنوا فيه موتاكم وأما العمائم فتيجَان العرب ولباسها " ورَوى رُكَانة وكان صارع النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَصرعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال رُكَانَة : وسمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : " فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس " أخرجه أبو داود.
قال البخاري : إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضه من بعض. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 196 ـ 197}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
كان تسكينُ الحقِّ سبحانه لقلبِ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة من الله - سبحانه ، والربطُ على قلوب المؤمنين بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم - فلولا بقية بقيت عليهم ما ردَّهم في حديث النصرة إلى إنزال المَلَك ، وأنَّى بحديث المَلَك - والأمرُ كلُّه بِيَدِ المَلِك ؟ !. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 274 ـ 275}(16/295)
قوله تعالى { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)}
مناسبة الآيتين لما قبلهما
قال البقاعى :
ولما كان التقدير : وليس الإمداد بهم موجود للنصر ، وكان قد قدم في أول السورة قوله : {والله يؤيد بنصره من يشاء} [ آل عمران : 13 ] قال هنا قاصراً للأمر عليه : {وما جعله الله} أي الإمداد المذكور وذكره لكم على ما له من الإحاطة بصفات الكمال التي لا يحتاج مراقبها إلى شيء أصلاً {إلا بشرى }.
وما كانت الهزيمة عليهم في هذه الكرة ، وكان المقتول منهم أكثر قال : {لكم} لئلا يتوهم أن ذلك بشرى لضدهم ، ولمثل هذا قدم القلوب فقال : {ولتطمئن} وعلم أن التقدير - لتكون الآية من الاحتباك : لتستبشر نفوسكم به وطمأنينة لكم لتطمئن {قلوبكم به} أي الإمداد ، فحكم هنا بأنه بشرى مقيداً بلكم ، فكانت العناية بضمير أشد حتى كأنه قيل : إلا وبشرى لكم وطمأنينتكم ، فوجب تأخير ضميره عنهم ، والمعنى أنهم كانوا أولاً خائفين ، فلما وردت البشرى اطمأنوا بها رجاء أن يفعل بهم مثل ما فعل في بدر ، فلما اطمأنوا بها وقع النصر كما وقع به الوعد ثم لما اطمأنت قلوبهم إلى شيء ألزّ قوتها لأنه قد سبق لها نصر وسرور بضرب وطعن في بدر وغيرها فلمحت نحو شيء من ذلك ؛ حصلت الهزيمة ليصيروا إلى حق اليقين بأنه لا حول لهم ولا قوة ، ولذلك قال تعالى : {وما النصر} أي في ذلك غيره {إلا من عند الله} أي المستجمع لصفات الكمال ، لا بمدد ولا غيره فلا تجدوا في أنفسكم من رجوع من رجع ولا تأخر من تأخر ولا هزيمة من انهزم.(16/296)
ولما قدم أمر بدر هنا وأول السورة ، وتحقق بذلك ما له من العزة والحكمة قال : {العزيز} الذي لا يغالب ، فلا يحتاج إلى قتال أحد ولا يحتاج في نصره - إن قاتل - إلى معونة أحد {الحكيم} الذي يضع الأشياء في أتقن محالها من غير تأكيد أي الذي نصركم قبل هذه الغزوة وفي أول النهار فيها ، ليس لكم ولا لغيركم ناصر غيره ، فمتى التفت أحد إلى سواه وكله إليه فخذل ، فاحذروه لتطيعوه طاعة أولي الإحسان في كل أوان ، وهذا بخلاف ما في قصة بدر في الأنفال وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بها من المقال مما اقتضاه هناك الحال ، والحكيم رأس آية بإجماع أهل العلم - كما في الأنفال ، ولما قرر الوعد ذكر ثمرته فقال معلقاً الجار بيمددكم : {ليقطع} أي بالقتل {طرفاً} أي طائفة من كرامهم ، يهنون بهم {من الذين كفروا} أي ويهزم الباقين {أو يكبتهم} أي يكسرهم ويردهم بغيظهم مع الخزي أذلاء ، وأصل الكبت صرع الشيء على وجهه {فينقلبوا} أي كلهم مهزومين {خائبين} وذلك في كلتا الحالتين بقوتكم عليهم بالمد وضعفهم عنكم به ، ويجوز تعليق {ليقطع} بفعل التوكل ، أي فليتوكلوا عليه ليفعل بأعدائهم ما يشاءه من نصرهم عليهم ، فيقبل بهم إلى الإسلام رغبة أو رهبة ، أو يميتهم على كفرهم فيديم عذابهم مع عافيتهم منهم ؛ ورأيت في سير الإمام محمد بن عمر الواقدي ما يدل على تعليقه بجعل من قوله : {وما جعله الله إلا بشرى} أو بقوله : {ولتطمئن} وهو حسن أيضاً. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 150 ـ 151}
فصل
قال الفخر : (16/297)
الكناية في قوله {وَمَا جَعَلَهُ الله} عائدة على المصدر ، كأنه قال : وما جعل الله المدد والإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون فدل {يُمْدِدْكُمْ} على الإمداد فكنى عنه ، كما قال : {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [ الأنعام : 121 ] معناه : وإن أكله لفسق فدل {تَأْكُلُواْ} على الأكل فكنى عنه وقال الزجاج {وَمَا جَعَلَهُ الله} أي ذكر المدد {إِلاَّ بشرى} والبشرى اسم من الإبشار ومضى الكلام في معنى التبشير في سورة البقرة في قوله {وَبَشّرِ الذين ءَامَنُواْ} [ البقرة : 25 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 188}
قوله تعالى {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}
سؤال : قوله {وَلِتَطْمَئِنَّ} فعل وقوله {إِلاَّ بشرى} اسم وعطف الفعل على الاسم مستنكر ، فكان الواجب أن يقال إلا بشرى لكم واطمئناناً ، أو يقال إلا ليبشركم ولتطمئن قلوبكم به فلم ترك ذلك وعدل عنه إلى عطف الفعل على الاسم.
والجواب عنه من وجهين
الأول : في ذكر الإمداد مطلوبان ، وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر ، فأحدهما إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله {إِلاَّ بشرى}
والثاني : حصول الطمأنينة على أن إعانة الله ونصرته معهم فلا يجبنوا عن المحاربة ، وهذا هو المقصود الأصلي ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين هذين الأمرين في المطلوبية فكونه بشرى مطلوب ولكن المطلوب الأقوى حصول الطمأنينة ، فلهذا أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة ، فقال : {وَلِتَطْمَئِنَّ} ونظيره قوله {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [ النحل : 8 ] ولما كان المقصود الأصلي هو الركوب أدخل حرف التعليل عليها ، فكذا ههنا الثاني ؛ (16/298)
قال بعضهم في الجواب : الواو زائدة والتقدير وما جعله الله إلا بشرى لكم لتطمئن به قلوبكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 188 ـ 189}
قال ابن عادل :
قال أبو حيان : " ويناقش في قوله : عطف الفعل على الاسم ؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك كما ذكره ". انتهى.
قال شهَابُ الدِّينِ : " إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة ، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة ، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل ".
وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه : " هذا على تأويل : وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن ، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيكون التقدير : وما جعله الله إلا بشرى لكم ؛ لتطمئنَّ قلوبكم به ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 525}. بتصرف يسير.
قوله تعالى : {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله}
قال الفخر :
{وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} والغرض منه أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب
وقوله {العزيز الحكيم} فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته ، والحكيم إشارة إلى كمال علمه ، فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إجابة الدعوات ، وكل من كان كذلك لم يتوقع النصر إلا من رحمته ولا الإعانة إلا من فضله وكرمه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 189}
وقال ابن عاشور :
وجملة { وما النصر إلا من عند الله } تذييل أي كلّ نصر هو من الله لا من الملائكة.
وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا لأنَّهما أولى بالذكر في هذا المقام ، لأنّ العزيز ينصر من يريد نصره ، والحكيم يعلم من يستحق نصره وكيف يُعطاه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 212}(16/299)
وقال العلامة أبو حيان :
{ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } حصر كينونة النصر في جهته ، لا أنَّ ذلك يكون من تكثير المقاتلة ، ولا من إمداد الملائكة.
وذكر الإمداد بالملائكة تقوية لرجاء النصر لهم ، وتثبيتاً لقلوبهم.
وذكر وصف العزة وهو الوصف الدال على الغلبة ، ووصف الحكمة وهو الوصف الدال على وضع الأشياء مواضعها من : نصرٍ وخذلان وغير ذلك. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 55}
فصل
قال ابن عادل :
قال في هذه الآية : " لَكُمْ " وتركها في سورة الأنفال ؛ لأن تيك مختصر هذه ، فكان الإطناب - هنا- أوْلَى ؛ لأن القصة مكملة هنا ، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه ، وأخر - هنا - " به " وقدمه في سورة الأنفال ؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في " لَكُمْ " فأتبع الخطاب الخطاب ، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله : { العزيز الحكيم } وجاء بهما في جملة مستأنفة في سورة الأنفال ، في قوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] ؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم ، أي : لا يغالب ، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب ، فالنصر من عنده فاستعينوا به ، وتوكلوا عليه ؛ لأن العز والحُكْم له. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 525 ـ 526}.
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى } الكناية في " جَعَلَهُ " عائدة على المصدر ، أي : ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون ، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله ، وهو استثناء مفرغ ؛ إذ التقدير : وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى ، وشروط نصبه موجودة ، وهي اتحاد الفاعل ، والزمان ، وكونه مصدراً سبق للعلة.
والثاني : أنه مفعول ثانٍ لِ " جَعَل " على أنها تصييرية.(16/300)
والثالث : أنه بدل من الهاء في " جَعَلَهُ " قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد.
والبشرى : مصدر على " فُعْلَى " كالرُّجْعَى.
وقيل : اسم من الإبشار ، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ البقرة : 25 ].
قوله : { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيه وجهان :
أحدهما : أنًّه معطوف على " بُشْرَى " هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله ، وإنما جُرَّ باللام ؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب ، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط ، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه ، وقد تقدم ، والتقدير : وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة.
والثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : ولتطمئن قلوبكم ، فعلى ذلك ، أو كان كيت وكيت.
وقال أبو حيان : و" تطمئن " منصوب بإضمار " أن " بعد لام " كي " ، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر.
ثم نقل عن ابن عطية أنه قال : " اللام في { وَلِتَطْمَئِنَّ } متعلقة بفعل مضمر يدل عليه " جَعَلَهُ " ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، ولتطمئن به قلوبكم.
قال أبو حيان : " وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف { وَلِتَطْمَئِنَّ } على { بشرى } ، على الموضع ؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع ، ولا محرز هنا ؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود ، ومَنْ لم يشترط المحرز ، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم ".(16/301)
قال شهاب الدين : " وقد جعل بعضهم الواو في { وَلِتَطْمَئِنَّ } زائدة ، وهو لائق بمذهب الأخفش ، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى ، أي : أن البشرى عِلَّة للجَعْل ، والطمأنينة علة للبُشْرَى ، فهي علة العلة ".
والضميران في قوله { وَمَا جَعَلَهُ } ، و" بِهِ " يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم ، وهو قوله : " يمددكم ".
وقيل : يعودان على النصر.
وقيل : على التسويم.
وقيل : على التنزيل.
وقيل : على المدد.
وقيل : على الوعد.أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 524 ـ 525}.(16/302)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَمَا جَعَلَهُ الله } أي الإمداد المفهوم من الفعل المقدر المدلول عليه بقوة الكلام كأنه قيل : فأمدكم الله تعالى بما ذكر وما جعل الله تعالى ذلك الإمداد { إِلاَّ بشرى لَكُمْ } وقيل : الضمير للوعد بالإمداد ، وقيل : للتسويم أو للتنزيل أو للنصر المفهوم من نصركم السابق ومتعلق البشارة غيره ، وقيل : للإمداد المدلول عليه بأحد الفعلين ، والكل ليس بشيء كما لا يخفى ، والبشرى إما مفعول له ، و( جعل ) متعدية لواحد أو مفعول لها إن جعلت متعدية لاثنين ، وعلى الأول : الاستثناء مفرغ من أعم العلل أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة لشيء من الأشياء إلا للبشارة لكم بأنكم تنصرون ، وعلى الثاني : مفرغ من أعم المفاعيل أي وما جعله الله تعالى شيئاً من الأشياء إلا بشرى لكم. والجملة ابتداء كلام غير داخل في حيز القول بل مسوق من جنابه تعالى لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل عن التأثير بدون إذنه سبحانه وتعالى ، فإن حقيقة النصر مختص به عز اسمه ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته وهي معطوفة على فعل مقدر كما أشرنا إليه ، ووجه الخطاب نحو المؤمنين تشريفاً لهم وإيذاناً بأنهم هم المحتاجون لما ذكر ، وأما رسوله صلى الله عليه وسلم فغني عنه بما منّ به عليه من التأييد الروحاني والعلم الرباني.(16/303)
{ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } أي ولتسكن قلوبكم بالإمداد فلا تخافوا كثرة عدد العدو وقلة عددكم وهذا إما معطوف على { بُشْرىً } باعتبار الموضع وهو كالمعطوف عليه علة غائية للجعل إلا أنه نصب الأول لاجتماع شرائطه ولم ينصب الثاني لفقدانها ، وقيل : للإشارة أيضاً إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما في قوله تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] وإما متعلق بمحذوف معطوف على الكلام السابق أي ولتطمئن قلوبكم به ، فعل ذلك وهو أولى من تقدير بشركم كما فعل أبو البقاء ، والثاني متعين على الاحتمال الثاني في الأول.
{ وَمَا النصر } أي على الإطلاق فيندرج فيه النصر المعهود دخولاً أولياً { إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } المودع في الأسباب بمقتضى الحكمة قوة لا تأثر إلا به أو وما النصر المعهود إلا من عنده سبحانه وتعالى لا من الملائكة لأن قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب ولم يقاتلوا أو لأن قصارى أمرهم أنهم قاتلوا بتمكين الله تعالى لهم ولم يكن لهم فعل استقلالاً ولو شاء الله تعالى ما فعلوا على أن مجرد قتالهم لا يستدعي النصر بل لا بد من انضمام ضعف المقابلين المقاتلين ولو شاء الله تعالى لسلطهم عليهم فحيث أضعف وقوى ومكن وما مكن وبه حصل النصر كان ذلك منه سبحانه وتعالى.
والآية على هذا لا تكون دليلاً لمن زعم أن المسببات عند الأسباب لا بها وقد مر تحقيقه فتذكر ، وكذا لا دليل فيها على وقوع قتالهم ولا على عدمه لاحتمالها الأمرين ، وبكل قال بعض.(16/304)
والمختار ما روي عن مجاهد أن الملائكة لم يقاتلوا في غزواته صلى الله عليه وسلم إلا في غزوة بدر وإنما حضروا في بعضها بمقتضى ما علم الله تعالى من المصلحة مثل حضورهم حلق أهل الذكر ، وربما أعانوا بغير القتال كما صنعوا في غزوة أحد على قول ، فعن ابن إسحاق أن سعد بن مالك كان يرمي في غزوة أحد وفتى شاب كان ينبل له كلما فني النبل أتاه به وقال له : ارم أبا إسحاق ارم أبا إسحاق ، فلما انجلت المعركة سأل عن ذلك الرجل فلم يعرف ، وأنكر أبو بكر الأصم الإمداد بالملائكة ، وقال : إن الملك الواحد يكفي في إهلاك سائر أهل الأرض كما فعل جبريل عليه السلام بمدائن قوم لوط فإذا حضر هو مأموراً بالقتال فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ، وأيضاً أي فائدة في إرسال سائر الملائكة معه وهو القوي الأمين ، وأيضاً إن أكابر الكفار الموجودين في غزوة القتال قاتل كل منهم من الصحابة معلوم ولم يعلم أن أحداً من الملائكة قتل أحداً منهم ، وأيضاً لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أو لا ، وعلى الأول : يكون المشاهد من عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر ألوفاً عديدة ولم يقل بذلك أحد ، وهو أيضاً خلاف قوله تعالى : { وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] ولو كانوا في غير صورة ابن آدم لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ولو كان لنقل ألبتة ، وعلى الثاني : يلزم حز الرؤوس وتمزيق البطون ونحو ذلك من الكفار من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات وقد وقع بين جمعين سالم ومكسر فكان يجب أن يتواتر ويشتهر لدى الموافق والمخالف فحيث إنه لم يشتهر دلّ على أنه لم يكن ، وأيضاً أنهم لو كانوا أجساماً كثيفة وجب أن يراهم الكل وإن كانوا أجساماً لطيفة هوائية تعذر ثبوتهم على الخيل انتهى.(16/305)
ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ولا بمن يعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فعال لما يريد فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرس عن ذلك إذ نص القرآن ناطق بالإمداد ؛ ووروده في الأخبار قريب من المتواتر فكأن الأصم أصم عن سماعه أو أعمى عن رؤية رباعه ، وقد روى عبد بن عمير قال : لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر ، والتحقيق في هذا المقام كما قال بعض المحققين : إن التكليف ينافي الإلجاء وأنه تعالى شأنه وإن كان قادراً على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك بل بلا سبب ، وكذا هو قادر على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم لكنه سبحانه أراد إظهار هذا الدين على مهل وتدريج وبواسطة الدعوة وبطريق الابتلاء والتكليف فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى وله الحكم في الآخرة والأولى ، وبهذا يندفع كثير من تلك الشبه ، وإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام كان بعد انقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس فلا جرم أظهر الله تعالى القدرة وجعل عاليها سافلها ، وفي غزوة أحد كان الزمان زمان تكليف فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق عن المنافق والثابت عن المضطرب ولو أجري الأمر فيها كما أجري في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب ، ثم لا يخفى أن الملائكة إما أجسام لطيفة نورانية وإما أرواح شريفة قدسية.(16/306)
وعلى التقديرين لهم الظهور في صور بني آدم مثلاً من غير انقلاب العين وتبدل الماهية كما قال ذلك العارفون من المحققين في ظهور جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي ومثل هذا من وجه ولله تعالى المثل الأعلى ما صح من تجلي الله تعالى لأهل الموقف بصورة فيقول لهم : أنا ربكم فينكرونه فإن الحكم في تلك القضية صادق مع أن الله تعالى وتقدس وراء ذلك وهو سبحانه في ذلك التجلي باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق ، ومن سلم هذا ولا يسلمه إلا ذو قلب سليم لم يشكل عليه الإمداد بالملائكة وظهورهم على خيول غيبية ثابتين عليهما حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية والمصلحة الربانية ولا يلزم من ذلك رؤية كل ذي بصر لهم لجواز إحداث أمر مانع عنها إما في الرائي أو في المرئي ولا مانع من أنهم يرون أحياناً ويخفون أحياناً ويرى البعض ويخفى البعض ، وزمام ذلك بيد الحكيم العليم فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والشيء متى أمكن وورد به النص عن الصادق وجب قبوله ومجرد الاستبعاد لا يجدي نفعاً ولو ساغ التأويل لذلك لزم تأويل أكثر هذه الشريعة بل الشرائع بأسرها وربما أفضى ذلك إلى أمر عظيم ، فالواجب تسليم كل ممكن جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتفويض تفصيل ذلك وكيفيته إلى الله تعالى.
{ العزيز } أي الغالب الذي لا يغالب فيما قضى به ، وقيل : القادر على انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين وفي إجراء هذا الوصف هنا عليه تعالى إيذان بعلة اختصاص النصر به سبحانه. { الحكيم } أي الذي يضع الأشياء مواضعها ويفعل على ما تقتضيه الحكمة في سائر أفعاله ومن ذلك نصره للمؤمنين بواسطة إنزال الملائكة ، وفي الاتيان بهذا الوصف رد على أمثال الأصم في إنكارهم ما نطقت به الظواهر فسبحانه من عليم حكيم وعزيز حليم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 46 ـ 48}(16/307)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى : "وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم" وفى سورة الأنفال : "وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم". للسائل أن يسأل فيقول : مقصود الآيتين واحد فى الموضعين من حيث المعنى وهما لقوم بأعيانهم وهم أهل بدر رضى الله عنهم فما وجه زيادة"لكم" فى آية آل عمران ولم تزد فى الأخرى ؟ وتقديم القلوب على المجرور هنا وتأخيرها عنه فى آية الأنفال ؟ واستئناف تأكيد الإخبار بالصفتين العليتين فى سورة الأنفال بـ"إن" ولم تردا جاريتين على اسم الله سبحانه كما فى آل عمران ؟ فهذه ثلاث سؤالات.
والجواب عم الأول والثانى والله أعلم : أن آية آل عمران لما تقدم فيها قوله تعالى : "ويأتوكم من فورهم" والإخبار عن عدوهم فاختلط ذكر الطائفتين وضمهما كلام واحد فجردت البشارة لمن هدى منهما وأنها لأولياء الله المؤمنين فجيئ بضمير خطابهم متصلا بلام الجر المقتضية الاستحقاق فقيل"بشرى لكم" وبين أن قلوبهم هى المطمئنة بذلك فقيل"ولتطمئن قلوبكم به" ، فقدمت القلوب على المجرور اعتناء وبشارة ليمتاز أهلها ممن ليس لهم نصيب.
أما آية الأنفال فلم يتقدم فيها ذكر لغير المؤمنين فلم يحتج إلى الضمير الخطابى فى {لكم} وأيضا فإن آية الأنفال قد تقدم قبلها قوله تعالى : "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم" فأغنى عن عودته فيما بعده اكتفاء بما قد حصل مما تقدم من تخصيصهم بذلك.(16/308)
والجواب عن السؤال الثالث : أن آية الأنفال تقدم فيها أوعاد جليلة كقوله تعالى : "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم" ثم قال : "ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين" ثم قال : "ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون" فهذه أوعاد علية لم يتقدم إفصاح بمثلها فى آية آل عمران فناسبها تأكيد الوصفين العظيمين من قدرته جل وتعالى على كل شئ وحكمته فى أفعاله فقال : "إن الله عزيز حكيم" ، ولما لم يقع فى آية آل عمران إفصاح بما فى آية الأنفال وردت الصفتان تابعتين دون تأكيد وجاء كل على ما يناسب ولم يكن عكس الوارد فى تعقيب الآيتين ليناسب وذلك واضح والله أعلم. أ هـ { ملاك التأويل صـ 121}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ }.
أجرى الله - سبحانه - سُنَّتَه مع أوليائه أنه إذا ضعفت نِيَّاتُهم ، أو تناقصت إرادتهم أو أشْرفت قلوبهم على بعض فترة - أراهم من الألطاف ، وفنون الكرامات ما يُقَوِّي به أسباب عِرْفانهم ، وتتأكد به حقائق يقينهم.
فعلى هذه السُّنَّة أنزل هذا الخطاب. ثم قطع قلوبهم وأسرارهم عن الأغيار بالكلية فقال : { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ }. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 275}(16/309)
قوله تعالى : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)}
فصل
قال الفخر :
اللام في {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} متعلق بقوله {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم} والمعنى أن المقصود من نصركم بواسطة إمداد الملائكة هو أن يقطعوا طرفاً من الذين كفروا ، أي يهلكوا طائفة منهم ويقتلوا قطعة منهم ، قيل : إنه راجع إلى قوله {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} ، {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} ولكنه ذكر بغير حرف العطف لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف ، وهو كما يقول السيد لعبده : أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي حذف العاطف ، لأن البعض يقرب من البعض ، فكذا ههنا ، وقوله {طَرَفاً} أي طائفة وقطعة وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف ولم يحسن ذكر الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف ، وهذا يوافق قوله تعالى : {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ} [ التوبة : 123 ] وقوله {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [ الرعد : 41 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 189}
وقال أبو حيان : (16/310)
{ ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين } الطرف : من قتل ببدر هم سبعون من رؤساء قريش ، أو من قتل بأحد وهم اثنان وعشرون رجلاً على الصحيح.
وقال السدي : ثمانية عشر ، أو مجموع المقتولين في الوقعتين ثلاثة أقوال.
وكنى عن الجماعة بقوله : طرفاً ، لأن من قتله المسلمون في حرب هم طرف من الكفار ، إذ هم الذين يلون القاتلين ، فهم حاشية منهم.
فكان جميع الكفار رفقة ، وهؤلاء المقتولون طرفاً منها.
قيل : ويحتمل أن يراد بقوله : طرفاً دابراً أي آخراً ، وهو راجع لمعنى الطرف ، لأن آخر الشيء طرف منه { أو يكبتهم } : أي ليخزيهم ويغيظهم ، فيرجعوا غير ظافرين بشيء مما أملوه.
ومتى وقع النصر على الكفار ، فإما بقتل ، وإما بخيبة ، وإما بهما.
وهو كقوله : { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً }. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 55}
قوله تعالى : {أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}
قال الفخر :
الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه ، يقال : كبته فانكبت هذا تفسيره ، ثم قد يذكر والمراد به الإخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ والإذلال ، فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت ، وقوله {خَائِبِينَ} الخيبة هي الحرمان والفرق بين الخيبة وبين اليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع ، وأما اليأس فإنه قد يكون بعد التوقع وقبله ، فنقيض اليأس الرجاء ، ونقيض الخيبة الظفر ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 189}
فائدة
قال ابن عاشور :
وتنكير ( طرفاً ) للتفخيم ، ويقال : هو من أطراف العرب ، أي من أشرافها وأهل بيوتاتها.
ومَعنى { أو يكبتهم } يصيبهم بغمّ وكمد ، وأصل كبت كَبَد بالدال إذا أصابه في كَبده.(16/311)
كقولهم : صُدرَ إذا أصيب في صدره ، وكُلِيَ إذا أصيب في كُلْيَتِه ، ومُتِنَ إذا أصيب في مَتْنه ، ورُئي إذا أصيب في رِئته ، فأبدلت الدال تاء وقد تبدل التاء دالاً كقولهم : سَبَد رأسَه وسبَته أي حلقه.
والعرب تتخيّل الغمّ والحزن مقرّه الكبد ، والغضب مقرّه الصّدر وأعضاء التنفّس.
قال أبو الطيب يمدح سيف الدّولة حِين سفره عن أنطاكية :
لأَكْبِتَ حَاسداً وأرِي عَدُواً...
كأنَّهُمَا ودَاعُكَ والرّحيلُ
وقد استقرى أحوال الهزيمة فإنّ فريقاً قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين ، وفريقاً كبتُوا وانقلبوا خائبين ، وفريقاً مَنَّ الله عليهم بالإسلام ، فأسلموا ، وفريقاً عُذّبوا بالموت على الكفر بعد ذلك ، أو عذبوا في الدنيا بالذلّ ، والصغار ، والأسر ، والمَنّ عليهم يوم الفتح ، بعد أخذ بلدهم و"أو" بين هذه الأفعال للتقسيم.
وهذا القطع والكبت قد مضيا يوم بدر قبل نزول هذه الآية بنحو سنتين ، فالتَّعبير عنهما بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة العجيبة في ذلك النصر المبين العزيز النظير. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 212}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { لِيَقْطَعَ } في متعلق هذه اللام سبعة أوجه :
أحدها : أنها متعلقة بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله } قاله الحوفيّ ، وفيه بُعْدٌ ؛ لطول الفَصْل.
الثاني : أنها متعلقة بالنصر في قوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } والمعنى : أن المقصود من نصركم ، هو أن تقطعوا طرفاً من الذين كفروا ، أي : تملكوا طائفة منهم ، وتقتلوا قطعة منهم ، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ ، وهو الخبر.
الثالث : أنها متعلقة بما تعلَّق به الخبر ، وهو قوله : { مِنْ عِندِ الله } ، والتقدير : وما النصر إلا كائن ، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع.(16/312)
والرابع : أنها متعلقة بمحذوف ، تقديره : أمَدَّكُم ، أو نَصَرَكُم ، ليقطَعَ.
الخامس : أنها معطوفة على قوله : " ولتطمئن " حذف حرف لعطف لفهم المعنى ؛ لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف ، كقوله : { ثلاثة رابعهم كلبهم } وقول السيد لعبده : أكرمتك لتخدمني ، لتعينني ، لتقوم بخدمتي ، فحذف العاطف لقُرْب البعض من البعض ، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله : { وما النصر إلا من عند الله } اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهو ساقط الاعتبار.
السادس : أنها متعلقة بالجَعْل قاله ابن عطية.
السابع : أنها متعلقة بقوله : { يُمْدِدْكُمْ } وفيه بُعْدٌ ؛ للفواصل بينهما.
والطرف : المراد به : جماعة ، وطائفة ، وإنما حَسَُ ذِكْر الطرف - هنا- ولم يحسن ذكر الوسط ؛ لأنه لا وصول إلى الوَسَطِ إلا بعد الأخذ من الطرف ، وهذا يوافق قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ } [ التوبة : 123 ] وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [ الرعد : 41 ].
قوله : { مِّنَ الذين } يجوز أن يكون متعلِّقاً بالقَطْع ، فتكون " مِنْ " لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة لـ " طَرَفاً " وتكون " مِنْ " للتبعيض.
قوله : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } عطف على " لِيَقْطَعَ ".
و " أو " ؛ قيل : على بابها من التفصيل ، أي : ليقطع طرفاً من البعض ، ويكبت بعضاً آخرين.
وقيل : بل هي بمعنى الواو ، أي : يجمع عليهم الشيئين.
والكبت : الإصابة بمكروه.
وقيل : هو الصَّرع للوجْه واليدين ، وعلى هذين فالتاء أصلية ، ليست بدلاً من شيء ، بل هي مادة مستقلة.(16/313)
وقيل : أصله من كبده ، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وَجَعاً ، كقولك : رأسته ، أي : أصبت رأسه ، ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حُمَيد : أو يكبدَهم - بالدال - والعرب تُبْدِل التاء من الدال ، قالوا : هَرَتَ الثوبَ ، وهردَه ، وسَبَتَ رأسَه ، وسَبَدَه - إذا حَلَقَه-.
وقد قيل : إنّ قراءة لاحق أصلها التاء ، وإنما أُبدِلت دالاً ، كقولهم : سبد رأسه ، وهرد الثوب ، والأصل فيهما التاء.
قوله : { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } لن ينالوا خيراً مما كانوا يرجون من الظفر بكم.
والخيبة لا تكون إلا بعد التوقُّع ، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقُّع وقبلَه ، فنقيض اليأس الرجاء ، ونقيض الخيبة : الظفر يقال : خَابَ يَخِيبُ خَيْبَةً.
و { خَآئِبِينَ } نُصِبَ على الحال. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 526 ـ 528}. بتصرف يسير.(16/314)
من فوائد أبو السعود فى الآية
قال رحمه الله :
{ لِيَقْطَعَ } متعلقٌ بقوله تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ } ، وما بينهما تحقيقٌ لحقيقته وبيانٌ لكيفية وقوعِه والمقصورُ على التعليل بما ذُكر من البُشرى والاطمئنانِ إنما هو الإمدادُ بالملائكة على الوجه المذكورِ فلا يقدَح ذلك في تعليل أصلِ النصرِ بالقطع وما عُطف عليه أو بما تعلق به الخبرُ في قوله عز وعلا : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } على تقدير كونِه عبارةً عن النصر المعهودِ ، وقد أُشير إلى أن المعلَّلَ بالبشارة والاطمئنانِ إنما هو الإمدادُ الصوريُّ لا ما في ضِمنه من النصر المعنويِّ الذي هو مَلاكُ الأمر ، وأما تعلقُه بنفس النصرِ كما قيل فمع ما فيه من الفصل بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبي هو الخبرُ مُخلٌّ بسَداد المعنى ، كيف لا ومعناه قصرُ النصرِ المخصوصِ المعلَّلِ بعلل معيّنةٍ على الحصول من جهته تعالى ، وليس المرادُ إلا قصرَ حقيقةِ النصرِ أو النصرِ المعهودِ على ذلك ، والمعنى لقد نصركم الله يومئذ أو وما النصرُ الظاهرُ عند إمدادِ الملائكةِ إلا ثابتٌ من عند الله ليقطعَ أي يُهلِكَ ويَنْقُصَ { طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ } أي طائفةٌ منهم بقتل وأسر وقد وقع ذلك حيث قُتل من رؤسائهم وصناديدِهم سبعون وأُسر سبعون { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أي يخزيَهم ويُغيظَهم بالهزيمة ، فإن الكبتَ شدةُ غيظٍ أو وهنٌ يقع في القلب من كَبتَه بمعنى كَبده إذا ضرب كِبدَه بالغيظ والحُرقة ، وقيل : الكبتُ الإصابةُ بمكروه ، وقيل : هو الصرعُ للوجه واليدين ، فالتاء حينئذ غيرُ مُبْدَلةٍ وأو للتنويع { فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ } أي فينهزموا منقطعي الآمالِ غيرَ فائزين من مبتغاهم بشيء كما في قوله تعالى : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً }. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 82}(16/315)
فصل
قال ابن كثير فى معنى الآيتين :
وقوله : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } أي : وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالها إلا بشارةً لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا ، وإلا فإنما النصر من عند الله ، الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم ، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم ، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ. } [محمد : 4-6]. ولهذا قال هاهنا : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } أي : هو ذو العزة التي لا تُرام ، والحكمة في قَدره والإحكام.
ثم قال تعالى : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : أمركم بالجهاد والجلاد ، لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير ، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين. فقال : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا } أي : ليهلك أمة { مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أي : يخزيهم ويردهم بغيظهم لَمّا لم ينالوا منكم ما أرادوا ؛ ولهذا قال : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا } أي : يرجعوا { خَائِبِينَ } أي : لم يحصلوا على ما أمَّلُوا. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 114}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)}
إنَّ الله لا يُشْمِتُ بأوليائه عدواً ؛ فالمؤمن وإن أصابته نكبة ، فعدوُّه لا محالة يكبه الله في الفتنة والعقوبة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 275}(16/316)
قوله تعالى { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على طلب الإدالة عليهم ليمثل بهم كما مثلوا بعمه حمزة وعدة من أصحابه رضي الله عنهم قال تعالى : {ليس لك من الأمر} أي فيهم ولا غيرهم {شيء} موسطاً له بين المتعاطفات ، يعني من الإدالة عليهم بقتل أو هزيمة تدرك بهما ما تريد ، بل الأمر له كله ، إن أراد فعل بهم ما تريد ، وإن أراد منعك منه بالتوبة عليهم أو إماتتهم على الكفر حتف الأنف فيتولى هو عذابهم ، وذلك معنى قوله : {أو يتوب عليهم} أي كلهم بما يكشف عن قلوبهم من حجاب الغفلة فيرجعوا عما هم عليه من الظلم {أو يعذبهم} كلهم بأيديكم بأن تستأصلوهم فلا يفلت منهم أحد ، أو يعذبهم هو من غير واسطتكم بما يستدرجهم به مما يوجب إصرارهم حتى يموتوا على الكفر مع النصر عليكم وغيره مما هو لهم في صورة النعم الموجب لزيادة عقابهم.
ثم علل الأقسام الأربعة بقوله : {فإنهم ظالمون} وفي المغازي من صحيح البخاري معلقاً عن حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعت سالم بن عبد الله قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت {ليس لك من الأمر شيء} - إلى قوله : {ظالمون} " ورواه موصولاً في المغازي والتفسير والاعتصام عن سالم عن أبيه بغير هذا اللفظ ، وفيه " اللهم العن فلاناً وفلاناً ". أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 151}
فصل
قال الفخر :
في سبب نزول هذه الآية قولان
الأول : وهو المشهور : أنها نزلت في قصة أحد ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أوجه
أحدها : أنه أراد أن يدعو على الكفار فنزلت هذه الآية والقائلون بهذا ذكروا احتمالات(16/317)
أحدها : روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول : "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم" ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية
وثانيها : ما روى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أقواماً فقال : " اللّهم العن أبا سفيان ، اللّهم العن الحرث بن هشام ، اللّهم العن صفوان بن أُمية " فنزلت هذه الآية {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فتاب الله على هؤلاء وحسن إسلامهم (1)
وثالثها : أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال : " لأمثلن منهم بثلاثين " فنزلت هذه الآية ، قال القفال رحمه الله ، وكل هذه الأشياء حصلت يوم أحد ، فنزلت هذه الآية عند الكل فلا يمتنع حملها على كل الاحتمالات
الثاني : في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت بسبب أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله من ذلك وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الوجه الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر للمسلمين الذين انهزموا وخالفوا أمره ويدعو عليهم فنزلت الآية ، فهذه الاحتمالات والوجوه كلها مفرعة على قولنا إن هذه الآية نزلت في قصة أحد.
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
قَوْله : ( اِلْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا )
سَمَّاهُمْ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا .
قَوْله : ( وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ )
هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله . " أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ إِلَخْ " وَالرَّاوِي لَهُ عَنْ حَنْظَلَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّق . وَقَوْله : " سَمِعْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَخْ " وَهُوَ مُرْسَلٌ ، وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُس عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيد وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ حَدِيثِ اِبْن عُمَر ، لَكِنْ فِيهِ " اللَّهُمَّ اِلْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّة " قَالَ : " ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ : لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ " . قُلْت : وَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا اِحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نُزُول الْآيَة تَرَاخَى عَنْ قِصَّةِ أُحُدٍ ، لِأَنَّ قِصَّة رِعْلٍ وَذَكْوَانَ كَانَتْ بَعْدَهَا كَمَا سَيَأْتِي تِلْوَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِيهِ بُعْدٌ ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الَّذِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ قِصَّةِ أُحُدٍ ، وَاَللَّه أَعْلَم . وَيُؤَيِّد ذَلِكَ ظَاهِر قَوْله فِي صَدْرِ الْآيَةِ ( لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أَيْ يَقْتُلهُمْ ( أَوْ يَكْبِتَهُمْ ) أَيْ يُخْزِيَهُمْ ، ثُمَّ قَالَ : ( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) أَيْ فَيُسْلِمُوا ( أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ) أَيْ إِنْ مَاتُوا كُفَّارًا. أ هـ {فتح البارى حـ 7 صـ 366}(16/318)
القول الثاني : أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جمعاً من خيار أصحابه إلى أهل بئر معونة ليعلموهن القرآن فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم فجزع من ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم جزعاً شديداً ودعا على الكفار أربعين يوماً ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل وهو بعيد لأن أكثر العلماء اتفقوا على أن هذه الآية في قصة أحد ، وسياق الكلام يدل عليه وإلقاء قصة أجنبية عن أول الكلام وآخره غير لائق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 189 ـ 190}
وقال القرطبى :
ثبت في صحيح مسلم : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كُسِرت رَباعِيته يوم أُحُد ، وشُجّ في رأسه ، فجعل يسْلِتُ الدمَ عنه ويقول : "كيف يُفلح قوم شَجّوا رأس نبِيهم وكسروا رباعِيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى".
فأنزل الله تعالى { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ }.
الضحاك : هَمَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ على المشركين فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ }.
وقيل : استأذن في أن يدعو في استئصالهم ، فلما نزلت هذه الآية علم أن منهم من سيُسلِم وقد آمن كثير منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعِكرمة بن أبي جهل وغيرهم.
وروى الترمذي عن ابن عمر قال : وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو على أربعة نفر فأنزل الله عزّ وجلّ { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } فهداهم الله للإسلام.
وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 199}(16/319)
إشكال وجوابه
قال الفخر :
ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت في أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيه فعلاً ، وكانت هذه الآية كالمنع منه ، وعند هذا يتوجه الإشكال ، وهو أن ذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى ، فكيف منعه الله منه ؟ وإن قلنا إنه ما كان بأمر الله تعالى وبإذنه ، فكيف يصح هذا مع قوله {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [ النجم : 3 ] وأيضاً دلت الآية على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالأمر الممنوع عنه في هذه الآية إن كان حسناً فلم منعه الله ؟ وإن كان قبيحاً ، فكيف يكون فاعله معصوماً ؟ .
والجواب من وجوه
الأول : أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع منه كان مشتغلاً به فإنه تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [ الزمر : 65 ] وأنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك قط وقال : {يا أيها النبى اتق الله} [ الأحزاب : 1 ] فهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ، ثم قال : {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} وهذا لا يدل على أنه أطاعهم ، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغم الشديد ، والغضب العظيم ، وهو مثلة عمه حمزة ، وقتل المسلمين ، والظاهر أن الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل ، فلأجل أن لا تؤدي مشاهدة تلك المكاره إلى ما لا يليق من القول والفعل نص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته وتأكيداً لطهارته(16/320)
والثاني : لعله عليه الصلاة والسلام إن فعل لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل والأولى ، فلا جرم أرشده الله إلى اختيار الأفضل والأولى ، ونظيره قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} [ النحل : 126 ، 127 ] كأنه تعالى قال : إن كنت تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل ، ثم قال ثانياً : وإن تركته كان ذلك أولى ، ثم أمره أمراً جازماً بتركه ، فقال : {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله }.
الوجه الثالث : في الجواب : لعلّه صلى الله عليه وسلم لما مال قلبه إلى اللعن عليهم استأذن ربه فيه ، فنص الله تعالى على المنع منه ، وعلى هذا التقدير لا يدل هذا النهي على القدح في العصمة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 190 ـ 191}
فصل
قال الفخر :
قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء} فيه قولان
الأول : أن معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء وعلى هذا فنقل عن المفسرين عبارات
أحدهما : ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك
وثانيها : ليس لك من مسألة إهلاكهم شيء ، لأنه تعالى أعلم بالمصالح فربما تاب عليهم
وثالثها : ليس لك في أن يتوب الله عليهم ، ولا في أن يعذبهم شيء.(16/321)
والقول الثاني : أن المراد هو الأمر الذي يضاد النهي ، والمعنى : ليس لك من أمر خلقي شيء إلا إذا كان على وفق أمري ، وهو كقوله {أَلاَ لَهُ الحكم} [ الأنعام : 62 ] وقوله {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [ الروم : 4 ] وعلى القولين فالمقصود من الآية منعه صلى الله عليه وسلم من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية ، ثم اختلفوا في أن المنع من اللعن لأي معنى كان ؟ منهم من قال الحكمة فيه أنه تعالى ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب ، أو إن لم يتب لكنه علم أنه سيولد منه ولد يكون مسلماً براً تقياً ، وكل من كان كذلك ، فإن اللائق برحمة الله تعالى أن يمهله في الدنيا وأن يصرف عنه الآفات إلى أن يتوب أو إلى أن يحصل ذلك الولد فإذا حصل دعاء الرسول عليهم بالإهلاك ، فإن قبلت دعوته فات هذا المقصود ، وإن لم تقبل دعوته كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من اللعن وأمره بأن يفوض الكل إلى علم الله تعالى ، ومنهم من قال : المقصود منه إظهار عجز العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته ، هذا هو الأحسن عندي والأوفق لمعرفة الأصول الدالة على حقيقة الربوبية والعبودية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 191}
فصل
قال القرطبى :
قال علماؤنا : قوله عليه السَّلام : " كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم " استبعاد لِتوفيق مَن فَعل ذلك به.(16/322)
وقوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم ، ولما أُطْمع في ذلك قال صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبِياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : " رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " قال علماؤنا : فالحاكي في حديث ابن مسعود هو الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام ، وهو المحكي عنه ؛ بدليل ما قد جاء صريحاً مبَيِّناً.
أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لما كُسرت رَباعيته وشُجّ وجهه يوم أحُد شقّ ذلك على أصحابه شقّاً شديداً وقالوا : لو دعوت عليهما فقال : " إني لم أبعث لَعّاناً ولكني بعثت داعِياً ورحمة ، اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " فكأنه عليه السَّلام أوحي إليه بذلك قبل وقوع قضية أحُد ، ولم يعيّن له ذلك النّبيّ ؛ فلما وقع له ذلك تَعيَّن أنه المعنيُّ بذلك بدليل ما ذكرنا.
ويُبيِّنه أيضاً ما قاله عمر له في بعض كلامه : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله! لقد دعا نوح على قومه فقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] الآية.
ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا ؛ فقد وُطِيء ظهرك وأدْمي وجهك وكُسِرت ربَاعيتك فأبيت أن تقول إلاَّ خيراً ، فقلت : "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
وقوله : " اشتد غضب الله على قوم كسروا رباعية نبيهم " يعني بذلك المباشرَ لذلك ، وقد ذكرنا اسمه على اختلاف في ذلك ، وإنما قلنا إن خصوص في المباشر ؛ لأنه قد أسلم جماعة ممن شهد أحُداً وحسن إسلامهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 199 ـ 200}
فصل
قال الفخر :
ذكر الفرّاء والزجاج وغيرهما في هذه الآية قولين(16/323)
أحدهما : أن قوله {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} عطف على ما قبله ، والتقدير : ليقطع طرفاً من الذين كفروا ، أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم ، ويكون قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء} كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه ، كما تقول : ضربت زيداً ، فاعلم ذلك عمراً ، فعلى هذا القول هذه الآية متصلة بما قبلها.
والقول الثاني : أن معنى {أَوْ} ههنا معنى حتى ، أو إلا أن كقولك : لألزمنك أو تعطيني حقي والمعنى : إلا أن تعطيني أو حتى تعطيني ، ومعنى الآية ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم ، أو يعذبهم فتتشفى منهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 191}
قوله تعالى : {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}
فصل
قال الفخر :
قوله تعالى : {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} مفسر عند أصحابنا بخلق التوبة فيهم وذلك عبارة عن خلق الندم فيهم على ما مضى ، وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل قال أصحابنا : وهذا المعنى متأكد ببرهان العقل وذلك لأن الندم عبارة عن حصول إرادة في المضي متعلقة بترك فعل من الأفعال في المستقبل ، وحصول الإرادات والكراهات في القلب لا يكون بفعل العبد ، لأن فعل العبد مسبوق بالإرادة ، فلو كانت الإرادات فعلاً للعبد لافتقر العبد في فعل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ويلزم التسلسل وهو محال ، فعلمنا أن حصول الإرادة والكراهات في القلب ليس إلا بتخليق الله تعالى وتكوينه إبتداء ، ولما كانت التوبة عبارة عن الندم والعزم ، وكل ذلك من جنس الإرادات والكراهات ، علمنا أن التوبة لا تحصل للعبد إلا بخلق الله تعالى ، فصار هذا البرهان مطابقاً لما دل عليه ظاهر القرآن ، هو قوله {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}(16/324)
وأما المعتزلة فإنهم فسروا قوله {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 191 ـ 192}
فصل
قال القرطبى :
زعم بعض الكوفيين أن هذ الآية ناسخة للقُنُوت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله بعد الركوع في الركعة الأخيرة من الصبح ، واحتج.
بحديث ابن عمر أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر بعد رفع رأسه من الركوع فقال : " اللَّهُمَّ ربنا ولك الحمد في الآخرة ثم قال اللَّهُمَّ العن فلاناً وفلاناً " فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } الآية.
أخرجه البخاريّ ، وأخرجه مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة أتمّ منه.
وليس هذا موضع نسخ وإنما نَبّه الله تعالى نبيه على أن الأمر ليس إليه ، وأنه لا يعلم من الغيب شيئاً إلاَّ ما أعلمه ، وأن الأمر كله لله يتوب على من يشاء ويعجل العقوبة لمن يشاء.
والتقدير : ليس لك من الأمر شيء ولله ما في السموات وما في الأرض دونك ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء.
فلا نسخ ، والله أعلم ، وبَيّن بقوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } أن الأمور بقضاء الله وقدره رَدّاً على القدرية وغيرهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 200}
قوله تعالى : {فَإِنَّهُمْ ظالمون}
فصل
قال الفخر :
إن كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفر صح الكلام وهو أنه تعالى سماهم ظالمين ، لأن الشرك ظلم قال تعالى : {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [ لقمان : 13 ] وإن كان الغرض منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره صح الكلام أيضاً ، لأن من عصى الله فقد ظلم نفسه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 192}
فائدة
قال الفخر :(16/325)
يحتمل أن يكون المراد من العذاب المذكور في هذه الآية عذاب الدنيا ، وهو القتل والأسر وأن يكون عذاب الآخرة ، وعلى التقديرين فعلم ذلك مفوض إلى الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 192}
فائدة
قال الفخر :
قوله تعالى : {فَإِنَّهُمْ ظالمون} جملة مستقلة ، إلا أن المقصود من ذكرها تعليل حسن التعذيب ، والمعنى : أو يعذبهم فإنه إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 192}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { أَوْ يَتُوبَ } في نصبه أوجهٌ :
أحدها : أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبلَه ، تقديره : لِيقطَعَ ، أو يتوبَ عليهم ، أو يكبتهم ، أو يعذبهم.
وعلى هذا فيكون قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } جملة معترضة بين المتعاطِفَيْن ، والمعنى : إن الله تعالى هو المالك لأمرهم ، فإن شاء قطع طرفاً منهم ، أو هزمهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا ، أو يعذبهم إن تمادَوْا على كُفْرهم ، وإلى هذا التخريج ذهب جماعة من النحاة كالفراء ، والزجاج.
الثاني : أن " أو " هنا بمعنى " إلا أن " كقولهم : لألزمنك أو تقضين حقي أي : إلا أن تقتضينه.
الثالث : " أوْ " بمعنى : " حتى " ، أي : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب وعلى هذين القولين فالكلام متصل بقوله : { ليس لك من الأمر شيء } ، والمعنى : ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم بالإسلام ، فيحصل لك سرور بهدايتهم إليه ، أو يعذبهم بقتل ، أو نار في الآخرة ، فتشقى بهم ، وممن ذهب إلى ذلك الفراء ، وأبو بكر بن الأنباري ، قال الفراء : ومثل هذا من الكلام : لألزمنك أو تعطيني ، على معنى إلا أن تُعطيني وحتى تعطيني وأنشدوا في ذلك قول امرئ القيس : [ الطويل ]
فَقُلْتُ لَهُ : لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا... تُحَاوِلُ مُلْكاً ، أوْ تَمُوتَ ، فَُعْذَرَا(16/326)
أراد : حتى تموت ، أو : إلا أن تموت.
قال شهاب الدين : " وفي تقدير بيت امرئ القيس بـ " حتى " نظر ؛ إذ ليس المعنى عليه ؛ لأنه لم يفعل ذلك لأجل هذه الغاية ، والنحويون لم يقدروه إلا بمعنى : إلا أنْ ".
الثالث : منصوب بإضمار : " أنْ " عطفاً على قوله : " الأمر " ، كأنه قيل : ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم ، أو تعذيبهم شيء ، فلما كان في تأويل الاسم عُطِفَ على الاسم قبلَه ، فهو من باب قوله : [ الطويل ]
فَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أعِزَّةٌ... وَآلُ سُبَيْعٍ ، أوْ أسُوءَكَ عَلْقَمَا
وقوله : [ الوافر ]
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ ، وَتَقَرَّ عَيْنِي... أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
الرابع : أنه معطوف - بالتأويل المذكور - على " شَيءٌ " ، والتقدير : ليس لك من الأمر شيء ، أو توبة الله عليهم ، أو تعذيبهم ، أي : ليس لك - أيضاً - توبتهم ولا تعذيبهم ، إنما ذلك راجع إلى الله عز وجل.
وقرأ أبَيّ : أو يتوبُ ، أو يعذبهم ، برفعهما على الاستئناف في جملة اسمية ، أضْمِر مبتدؤُها ، أي : هو يتوبُ ، ويعذبُهم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 530 ـ 531}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
وجملة { ليس لك من الأمر شيء } معترضة بين المتعاطفات ، والخطاب للنَّبيء صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تُحْمَل على صريح لفظها ، فيكون المعنى نفي أن يكون للنَّبيء ، أي لقتاله الكفارَ بجيشه من المسلمين ، تأثير في حصول النَّصر يوم بدر ، فإن المسلمين كانوا في قلّة من كُلّ جانب من جوانب القتال ، أي فالنصر حصل بمحض فضل الله على المسلمين ، وهذا من معنى قوله : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ].(16/327)
ولفظ ( الأمر ) من قوله : { ليس لك من الأمر شيء } معناه الشأن ، و( أل ) فيه للعهد ، أي من الشأن الذي عرفتموه وهو النَّصر.
ويجوز أن تحمل الجملة على أنَّها كناية عن صرف النَّبيء عليْه الصلاة والسلام عن الاشتغال بشأن ما صنع الله بالَّذين كفروا ، من قطع طَرفهم ، وكبْتِهم أو توبة عليهم ، أو تعذيب لهم : أي فذلك موكول إلينا نحقّقُه متى أردنا ، ويتخلّف متى أردنا على حسب ما تقتضيه حكمتنا ، وذلك كالاعتذار عن تخلّف نصر المُسلمين يوم أحُد.
فلفظ ( الأمر ) بمعنى شأن المشركين.
والتعريفُ فيه عوض عن المضاف إليه ، أي ليس لك من أمرهم اهتمام.
وهذا تذكير بما كان للنَّبيء صلى الله عليه وسلم يوم بدر من تخوّف ظهور المشركين عليه ، وإلحاحه في الدّعاء بالنَّصر.
ولعلّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم كان يوَدّ استئصال جميع المشركين يوم بدر حيث وجد مقتضى ذلك وهو نزول الملائكة لإهلاكهم ، فذكّره الله بذلك أنَّه لم يقدّر استيصالهم جميعاً بل جعل الانتقام منهم ألواناً فانتقم من طائفة بقطع طرَف منهم ، ومن بقيّتهم بالكَبْتتِ ، وهو الحزن على قتلاهم ، وذهاب رؤسائهم ، واختلال أمورهم ، واستبقى طائفة ليتوب عليهم ويهديهم ، فيكونوا قوّة للمسلمين فيؤمنوا بعد ذلك ، وهم من آمن من أهل مكَّة قبل الفتح ، ويوم الفتح : مثل أبي سفيان ، والحارث بن هشام أخي أبي جهل ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وخالد بن الوليد ، وعذّب طائفة عذاب الدنيا بالأسر ، أو بالقتل : مثل ابن خَطل ، والنضْر بن الحارث ، فلذلك قيل له : "ليس لك من الأمر شيء".(16/328)
ووضعت هذه الجملة بين المتعاطفات ليظهر أنّ المراد من الأمر هو الأمر الدائر بين هذه الأحوال الأربعة من أحوال المشركين ، أي ليس لك من أمر هذه الأحوال الأربعة شيء ولكنّه موكول إلى الله ، هو أعلم بما سيصيرون إليه وجَعل هذه الجملة قبل قوله : { أو يتوب عليهم } استئناس للنَّبيء صلى الله عليه وسلم إذ قُدّم ما يدلّ على الانتقام منهم لأجله ، ثُمّ أردف بما يدلّ على العفو عنهم ، ثُمّ أردف بما يدلّ على عقابهم ، ففي بعض هذه الأحوال إرضاء له من جانب الانتصار له ، وفي بعضها إرضاء له من جانب تطويعهم له.
ولأجل هذا المقصد عاد الكلام إلى بقية عقوبات المشركين بقوله تعالى : { أو يعذبهم }.
ولكون التَّذكير بيوم بدر وقع في خلال الإشارة إلى وقعة أحُد ، كأنّ في هذا التَّقسيم إيماء إلى ما يصلح بياناً لِحكمة الهزيمة اللاحقة المسلمين يوم أحُد ، إذ كان في استبقاء كثير من المشركين ، لم يصبهم القتلُ يومئذ ، ادّخار فريق عظيم منهم للإسلام فيما بعد ، بَعْد أن حصل رعبهم من المسلمين بوقعة بدر ، وإن حسِبوا للمسلمين أي حساب بما شاهدوه من شجاعتهم يوم أحُد ، وإن لم ينتصروا.
ولا يستقيم أن يكون قوله : { ليس لك من الأمر شيء } متعلّقاً بأحوال يوم أحُد : لأنّ سياق الكلام ينبو عنه ، وحال المشركين يوم أحُد لا يناسبه قولُه : { ليقطع طرفاً من الذين كفروا } إلى قوله : { خائبين }.
ووقع في "صَحِيح مسلم" ، عن أنس بن مالك : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم شُجّ وجهه ، وكُسرت رباعيته يوم أحُد ، وجاء المسلمون يمسحون الدم عن وجه نبيّهم ، فقال النَّبيء عليْه السَّلام : " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم " أي في حال أنَّه يدعوهم إلى الخير عند ربّهم ، فنزلت الآية ، ومعناه : لا تستبْعِد فلاحهم.(16/329)
ولا شكّ أن قوله فنزلت هذه الآية مُتأوّل على إرادة : : فذُكِّر النَّبيء صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، لظهور أن ما ذكروه غير صالح لأن يكون سبباً لأنّ النَّبيء تعجّب من فلاحهم أو استبعده ، ولم يدّع لنفسه شيئاً ، أو عملاً ، حتَّى يقال : "ليس لك من الأمر شيء".
وروى الترمذي : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم دعا على أربعة من المشركين ، وسمّى أناساً ، فنزلت هذه الآية لنهيه عن ذلك ، ثُمّ أسلموا.
وقيل : إنَّه همّ بالدعاء ، أو استأذن الله أن يدعو عليهم بالاستيصال ، فنهى.
ويردّ هذه الوجوه ما في "صحيح مسلم" ، عن ابن مسعود ، قال : كأنِّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيئاً من الأنبياء ضربه قومه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ، وهو يقول : ربّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون.
وورد أنَّه لمَّا شجّ وجهه يوم أحُد قال له أصحابه : لو دعوت عليهم ، فقال : إنِّي لم أبعث لَعَّاناً ، ولكِنِّي بعثت داعياً ورحمة ، اللَّهُمّ اهْدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون.
وما ثبت من خُلقه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان لا ينتقم لنفسه.
وأغرَبَ جماعة فقالوا نزل قوله : { ليس لك من الأمر شيء } نسخاً لما كان يدعو به النَّبيء صلى الله عليه وسلم في قنوته على رِعْل ، وذكْوان ، وعُصية ، ولِحْيان ، الَّذين قتلوا أصحاب بئر معونة ، وسندهم في ذلك ما وقع في "البخاري" أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم لم يزل يدعو عليهم ، حتَّى أنزل الله : { ليس لك من الأمر شيء }.
قال ابن عطية : وهذا كلام ضعيف كله وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ.
وكيف يصحّ أن تكون نزلت لنسخ ذلك وهي متوسطة بين علل النَّصر الواقع يوم بدر.(16/330)
وتفسيرُ ما وقع في "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء على المشركين بعد نزول هذه الآية أخذاً بكامل الأدب ، لأنّ الله لمَّا أعلمه في هذا بما يدلّ على أن الله أعلَمُ بما فيه نفع الإسلام ، ونقمة الكفر ، ترك الدعاء عليهم إذ لعلّهم أن يسلموا.
وإذ جعلنا دعاءه صلى الله عليه وسلم على قبائل من المشركين في القنوت شرعاً تقررّ بالاجتهاد في موضع الإباحة لأن أصل الدعاء على العدوّ مباح ، فتركه لذلك بعد نزول هذه الآية ، من قبيل النسخ بالقياس ، نسخت حكم الإباحة التي هي استواء الفعل والترك بإثبات حكم أولوية الفعل.
ومنهم من أبعد المرمى ، وزعم أن قوله : { أو يتوب عليهم } منصوب بأن مضمرة وجوباً ، وأنّ ( أو ) بمعنى حتَّى : أي ليس لك من أمر إيمانهم شيء حتَّى يتوب الله عليهم ، أي لا يؤمنون إلاّ إذا تاب عليهم ، وهل يجهل هذا أحد حتَّى يحتاج إلى بيانه ، على أن الجملة وقعت بين علل النصر ، فكيف يشتّت الكلام ، وتنتثر المتعاطفات.
ومنهم من جعل { أو يتوب عليهم } عطفاً على قوله { الأمر } أو على قوله { شيء } ، من عطف الفعل على اسم خالص بإضمار أنْ على سبيل الجواز ، أي ليس لك من أمرهم أو توبتهم شيء ، أو ليس لك من الأمر شيء أو توبة عليهم.
فإن قلت : هلاّ جمع العقوبات متوالية : فقال ليقطع طرفاً من الَّذين كفروا ، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ، أو يتوبَ عليهم ، أو يعذّبهم ، قلت : روعي قضاء حقّ جمع النظير أولاً ، وجمع الضدّين ثانياً ، بجمع القَطْع والكبْتتِ ، ثم جمع التوبة والعذاب ، على نحو ما أجاب به أبو الطيب عن نقد من نقد قوله في سيف الدّولة :
وقفتَ وما في الموت شَكّ لواقف...
كأنَّك في جفن الردى وهو نائم
تَمُرّ بك الأبطال كَلْمى حزينة...
ووَجْهُك وَضّاح وثَغرك باسم(16/331)
إذ قدّم من صفتيه تشبيهه بكونه في جفن الردى لمناسبة الموت ، وأخَّر الحال وهي ووجهك وضّاح لمضادّة قوله كلمى حزينة ، في قصة مذكورة في كتب الأدب.
واللام الجارّة لام الملك ، وكاف الخطاب لمعيّن ، وهو الرسول عليه الصّلاة والسّلام.
وهذه الجملة تجري مجرى المثل إذ ركبت تركيباً وجيزاً محذوفاً منه بعض الكلمات ، ولم أظفر ، فيما حفظت من غير القرآن ، بأنَّها كانت مستعملة عند العرب ، فلعلّها من مبتكرات القرآن ، وقريب منها قوله : { وما أملك لك من اللَّه من شيء } [ الممتحنة : 4 ] وسيجيء قريب منها في قوله الآتي : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } [ آل عمران : 154 ] و{ يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } [ آل عمران : 154 ] فإن كانت حكاية قولهم بلفظه ، فقد دلّ على أنّ هذه الكلمة مستعملة عند العرب ، وإن كان حكاية بالمعنى فلا.
وقوله : { فإنهم ظالمون } إشارة إلى أنَّهم بالعقوبة أجدر ، وأنّ التّوبة عليهم إن وقعت فضل من الله تعالى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 213 ـ 216}(16/332)
وقال العلامة أبو السعود :
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء } اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوف عليه المتعلّقِ بالعاجل والمعطوفِ المتعلّقِ بالآجل لتحقيق أن لا تأثيرَ للمنصورين إثرَ بيانِ أن لا تأثيرَ للناصرين ، وتخصيصُ النفيِ برسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق تلوينِ الخطابِ للدلالة على الانتفاءِ من غيره بالطريق الأولى ، وإنما خُصّ الاعتراضُ بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبْتِ من مظانِّ أن يكونَ فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر مباشري القتالِ مدخَلٌ في الجملة { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ } عطفٌ على يكبِتَهم والمعنى أن مالِكَ أمرِهم على الإطلاق هو الله عز وجل نصرَكم عليهم ليُهلِكَهم أو يكبتَهم أو يتوبَ عليهم إن أسلموا أو يعذبَهم إن أصرّوا ( على الكفر ) وليس لك من أمرهم شيءٌ إنما أنت عبدٌ مأمورٌ بإنذارهم وجهادِهم والمرادُ بتعذيبهم التعذيبُ الشديدُ الأخرويُّ المخصوصُ بأشد الكفَرةِ كُفراً ، وإلا فمطلقُ التعذيبِ الأخرويِّ متحققٌ في الفريقين الأولين أيضاً ، ونظمُ التوبةِ والتعذيبِ المذكورِ في سلك العلةِ الغائيةِ للنصر المترتبةِ عليه في الوجود من حيث إن قبولَ توبتِهم فرْعُ تحققِها الناشىءِ من علمهم بحقية الإسلامِ بسبب غلبةِ أهلِه المترتبةِ على النصر ، وأن تعذيبَهم بالعذاب المذكورِ مترتبٌ على إصرارهم على الكفر بعد تبيُّنِ الحقِّ على الوجه المذكورِ. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 82 ـ 83}(16/333)
ومن فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ } عطف إما على { الأمر } أو على { شَىْء } بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء ، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم ، وفرقوا بين الوجهين بأنه على الأول : سلب ما يتبع التوبة والتعذيب منه صلى الله عليه وسلم بالكلية من القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة.
وعلى الثاني : سلب نفس التوبة والتعذيب منه عليه الصلاة والسلام يعني لا يقدر أن يجبرهم على التوبة ولا يمنعهم عنها ولا يقدر أن يعذبهم ولا أن يعفو عنهم فإن الأمور كلها بيد الله تعالى ، وعلى التقديرين هو من عطف الخاص على العام كما قال العلامة الثاني لكن في مجيء مثل هذا العطف بكلمة { أَوْ } نظر ، وتعقبه بعضهم بأن هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأن ولك أن تجعله بمعنى التكليف والإيجاب أي ليس ما تأمرهم به من عندك وليس الأمر بيدك ولا التوبة ولا التعذيب فليس هناك عطف الخاص على العام ، وفيه أن الحمل على التكليف تكلف ، والحمل على الشأن أرفع شأناً.(16/334)
ونقل عن الفراء وابن الأنباري أن { أَوْ } بمعنى إلا أن ، والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله تعالى عليهم بالإسلام فتفرح أو يعذبهم فتشتفي بهم وأياً مّا كان فالجملة كلام مستأنف سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة أحد أو ما يشبهها إثر بيان ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب من حيث إن كلاً منهما مبني على اختصاص الأمر كله بالله تعالى ومبني على سلبه عمن سواه ، وقيل : إن كل ما في هذه الآيات في غزوة أحد على ما أشرنا إليه ، وقيل : إن قوله تعالى : { أَوْ يَتُوبَ } الخ عطف على { فَيَنقَلِبُواْ } [ آل عمران : 127 ] أي يكون ثمرة خزيهم انقلابهم خائبين أو التوب عليهم أو تعذيبهم ، أو عطف على { يَكْبِتَهُمْ } [ آل عمران : 127 ] و{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء } اعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف المتعلق بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنصورين إثر بيان أن لا تأثير للناصرين وتخصيص النفي برسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاء من غيره من باب أولى وإنما خص الاعتراض بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبت من مظان أن يكون فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر مباشري القتال مدخل في الجملة ، والمعنى إن مالك أمرهم على الإطلاق وهو الله تعالى نصركم عليهم ليهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا ، وليس لك من أمرهم شيء إن أنت إلا عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم.(16/335)
والمراد بتعذيبهم التعذيب الشديد الأخروي المخصوص بأشد الكفرة كفراً وإلا فمطلق التعذيب الأخروي متحقق في الفريقين الأولين وحمله على التعذيب الدنيوي بالأسر واستيلاء المؤمنين عليهم خلاف المتبادر من التعذيب عند الإطلاق وكذا لا يلائم ظاهر قوله سبحانه : { فَإِنَّهُمْ ظالمون } فإنه في مقام التعليل لهذا التعذيب وأكثر ما يعلل به التعذيب الأخروي ، نعم حمله على التعذيب الدنيوي أوفق بالمعنى الذي ذكره الفراء وابن الأنباري لأن التشفي في الغالب إنما يكون في الدنيا ونظم التوبة والتعذيب الأخروي في سلك العلة الغائية للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشىء من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر الذي هو من الآيات الغر المحجلة وأن تعذيبهم المذكور شيء مسبب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى : (16/336)
{ لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] وإن فسر بالأسر مثلاً كان أمر التسبب مكشوفاً لا مرية فيه ، واستشكلت هذه الآية بناءاً على أنها تدل على ما في بعض الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم كان فعل فعلاً ومنع منه بأنه إن كان ذلك الفعل من الله تعالى فكيف منعه منه وإن لم يكن فهو قادح بالعصمة ومناف لقوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] ، وأجيب بأن ما وقع كان من باب خلاف الأولى نظراً إلى منصبه صلى الله عليه وسلم ، والنهي المفهوم من الكلام من باب الإرشاد إلى اختيار الأفضل ولا يعد ذلك من الهوى في شيء بناءاً على القول بأنه يصح للنبي أن يجتهد ويعمل بما أدى إليه اجتهاده المأذون به. وجوز أن يكون ذلك الفعل نفسه عن وحي وإذن من الله تعالى له صلى الله عليه وسلم به وأن النهي عن ذلك كان نسخاً لذلك الإذن وأياً مّا كان لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فافهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 50 ـ 51}(16/337)
ومن فوائد البيضاوى فى الآية
قال رحمه الله :
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْء } اعتراض. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ } عطف على قوله أو يكبتهم ، والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء ، وإنما أنت عبد مأمور لإِنذارهم وجهادهم. ويحتمل أن يكون معطوفاً على الأمر أو شيء بإضمار أن ، أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء. أو ليس لك من أمرهم شيء ، أو التوبة عليهم أو تعذيبهم. وأن تكون أو بمعنى إلا أن. أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتسر به أو يعذبهم فتشفي منهم. روي ( أن عتبة بن أبي وقاص شجهُ يوم أحد وكسر رباعيته ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم " فنزلت. وقيل هم أن يدعوا عليهم فنهاه الله لعلمه بأن فيهم من يؤمن. { فَإِنَّهُمْ ظالمون } قد استحقوا التعذيب بظلمهم. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 90}(16/338)
قوله تعالى { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان التقدير : بل الأمر له سبحانه وحده عطف عليه قوله - مبيناً لقدرته على ما قدم من فعله بهم على وجه أعم - : {ولله} أي الملك الأعظم وحده {ما في السماوات} أي كلها على عظمها من عاقل وغيره ، وعبر بـ " ما " لأن غير العاقل أكثر وهي به أجدر {وما في الأرض} كذلك مِلكاً ومُلكاً فهو يفعل في مِلكه ومُلكه ما يشاء ، وفي التعبير بـ " ما " أيضاً إشارة إلى أن الكفرة الذين السياق لهم في عداد ما لا يعقل.
ولما كانت الأقسام كلها راجعة إلى قسمين : عافية وعذاب ، قال - مترجماً لذلك مقرراً لقوله : {ليس لك من الأمر شيء} [ آل عمران : 128 ] : {يغفر لمن يشاء} أي منهم ومن غيرهم فيعطيه ما يشاء من خيري الدنيا والآخرة ويغنيه عن الربا وغيره {ويعذب من يشاء} بالمنع عما يريد من خيري الدارين ، لا اعتراض عليه ، فلو عذب الطائع ونعّم العاصي لحسن منه ذلك ، ولا يقبح منه شيء ، ولا اعتراض بوجه عليه ، هذا مدلول الآية وهو لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل.
ولما كان صلى الله عليه وسلم لشدة غيظه عليهم في الله جديراً بالانتقام منهم بدعاء أو غيره أشار له سبحانه إلى العفو للحث على التخلق بأخلاق الله الذي سبقت رحمته غضبه بقوله : {والله} أي المختص بالجلال والإكرام {غفور رحيم} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً ، مكرم بعد ذلك بأنواع الإكرام ، فانطبق ذلك على إيضاح {ليس لك} [ آل عمران : 128 ] وإفهامه الموجب لاعتقاد أن يكون له سبحانه وتعالى الأمر وحده.
ولما أنزل عليه ذلك وما في آخر النحل مما للصابرين والعافين حرم المثلة واشتد نهيه صلى الله عليه وسلم عنها ، فكان لا يخطب خطبة إلا منع منها. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 151 ـ 152}
وقال الفخر :
إن المقصود من هذا تأكيد ما ذكره أولاً من قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء} [ آل عمران : 28 ] والمعنى أن الأمر إنما يكون لمن له الملك ، وملك السموات والأرض وليس إلا لله تعالى فالأمر في السموات والأرض ليس إلا لله ، وهذا برهان قاطع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 192}(16/339)
وقال الآلوسى :
{ وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } كلام مستأنف سيق لبيان اختصاص ملكية جميع الكائنات به تعالى إثر بيان اختصاص طرف من ذلك به عز شأنه تقريراً لما سبق وتكملة له ؛ وتقديم الخبر للقصر ، و{ مَا } عامة للعقلاء وغيرهم تغليباً أي له سبحانه ما في هذين النوعين ، أو ما في هاتين الجهتين مُلكاً ومِلكاً وخلقاً واقتداراً لا مدخل لأحد معه في ذلك فالأمر كله له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 51}
فائدة
قال الفخر :
إنما قال : {مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} ولم يقل ( من ) لأن المراد الإشارة إلى الحقائق والماهيات ، فدخل فيه الكل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 192}
قوله تعالى {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء}
قال السمرقندى :
{ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } وقال الضحاك : يغفر لمن يشاء الذنب العظيم ، { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } على الذنب الصغير إذا أصرَّ على ذلك { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 270}
وقال أبو حيان :
{ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } لما تقدّم قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، أتى بهذه الجملة موضحةً أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته ، وناسب البداءة بالغفران ، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، ولم يشرط في الغفران هنا التوبة.
إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب ، ما عدا ما استثناه تعالى من الشرك.
وقال الزمخشري ما نصه عن الحسن رحمه الله : يغفر لمن يشاء بالتوبة ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين.
ويعذب من يشاء ، ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب.
وعن عطاء : يغفر لمن يتوب إليه ، ويعذب من لقيه ظالماً وأتباعه قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، تفسير بين لمن يشاء ، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون.(16/340)
ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات الله تعالى ، فيخبطون خبط عشواء ، ويطيبون أنفسهم بما يفترون.
عن ابن عباس من قولهم : يهب الذنب الكبير لمن يشاء ، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير.
انتهى كلامه.
وهو مذهب المعتزلة.
وذلك أن من مات مصراً على كبيرة لا يغفر الله له.
وما ذكره عن الحسن لا يصح ألبتّة.
ومذهب أهل السنة ؛ أنّ الله تعالى يغفر لمن يشاء وإنْ مات مصرًّا على كبيرة غير تائب منها. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 57}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أنه سبحانه له أن يدخل الجنة بحكم إلهيته جميع الكفار والمردة ، وله أن يدخل النار بحكم إلهيته جميع المقربين والصدّيقين وأنه لا اعتراض عليه في فعل هذه الأشياء ودلالة الآية على هذا المعنى ظاهرة والبرهان العقلي يؤكد ذلك أيضاً ، وذلك أن فعل العبد يتوقف على الإرادة وتلك الإرادة مخلوقة لله تعالى ، فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع ، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى ، فطاعة العبد من الله ومعصيته أيضاً من الله ، وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً ألبتة ، فلا الطاعة توجب الثواب ، ولا المعصية توجب العقاب ، بل الكل من الله بحكم إلهيته وقهره وقدرته ، فصح ما ادعيناه أنه لو شاء يعذب جميع المقربين حسن منه ، ولو شاء يرحم جميع الفراعنة حسن منه ذلك ، وهذا البرهان هو الذي دل عليه ظاهر قوله تعالى : {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 192 ـ 193}(16/341)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
وظاهر الآية يدل على أن مغفرة الله تعالى وتعذيبه غير مقيدين بشيء بل قد يدّعي أن التقييد مناف للسوق إذ هو لإثبات أنه سبحانه المالك على الإطلاق فله أن يفعل ما يشاء لا مانع له من مشيئته ولو كانت مغفرته مقيدة بالتوبة وتعذيبه بالظلم لم يكن فاعلاً لما يشاء بل لما تستدعيه التوبة أو الظلم ، فالآية ظاهرة في نفي الوجوب على الله تعالى وأنه يجوز أن يغفر سبحانه للمذنب ويعذب المصلح وهو مذهب الجماعة وذهب المعتزلة إلى أن المغفرة مشروطة بالتوبة فمن لم يتب لا يجوز أن يغفر له أصلاً ، وتمسكوا في ذلك بوجهين : الأول : الآيات والأحاديث الناطقة بوعيد العصاة ، (16/342)
الثاني : أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريراً له وإغراءاً للغير عليه وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، وحملوا هذه الآية على التقييد وخصوا أمثالها من المطلقات بالصغائر أو الكبائر المقرونة بالتوبة ، وقالوا : إن المراد يغفر لمن يشاء إذا تاب وجعلوا القرينة على ذلك أنه تعالى عقب قوله سبحانه : { أَوْ يُعَذّبَهُمْ } [ آل عمران : 128 ] بقوله جل شأنه : { فَإِنَّهُمْ ظالمون } [ آل عمران : 128 ] وهو دليل على أن الظلم هو السبب الموجب فلا تعذيب بدونه ولا مغفرة مع وجوده فهو مفسر { لِمَن يَشَاء } وأيدوا كون المراد ذلك بما روي عن الحسن في الآية { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } ولا يشاء أن يعذب إلا للمستوجبين ، وبما روي عن عطاء { يَغْفِرُ لِمَن } يتوب عليه { وَيُعَذّبُ مَن } لقيه ظالماً ؛ والجماعة تمسكوا بإطلاق الآيات ، وأجابوا عن متمسك المخالف ، أما عن الأول : فبأن تلك الآيات والأحاديث على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب ، والنزاع فيه على أن كثرة النصوص في العفو تخصص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد ، وأما عن الثاني : فبأن مجرد جواز العفو لا يوجب ظن عدم العقاب فضلاً عن الجزم به ، وكيف يوجب جواز العفو العلم بعدم العقاب والعمومات الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع بالنسبة إلى كل واحد وكفى به زاجراً فكيف يكون العلم بجواز العفو تقريراً وإغراءاً على الذنب مع هذا الزاجر.(16/343)
وأيضاً إن الكثير من المعتزلة خصوا مثل قوله تعالى : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] بالصغائر فلو كان جواز العفو مستلزماً كما زعموا للعلم بعدم العقاب لزم اشتراك الإلزام بأن يقال : إن المرتكب للصغائر إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريراً له وإغراءاً للغير عليه وفيه من الفساد ما فيه ، وما جعلوه قرينة على التقييد معارض بما يدل على الإطلاق أعني قوله : { وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } فإنه معطوف معنى على قوله جل اسمه : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء } [ آل عمران : 128 ] ويدل ذلك على أن له سبحانه التصرف المطلق وهو على خلاف ما يقولون حيث جعلوا تصرفه ومشيئته مقيداً بأن يكون على مقتضى الحكمة والحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب ولا يخفى أنه في حيز المنع لأن المشيئة والحكمة كلاهما من صفاته تعالى لا تتبع إحداهما الأخرى وبتقدير الاستتباع لا نسلم أن الحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب على أن تعقيب أو يعذبهم بقوله عز وجل : { فَإِنَّهُمْ ظالمون } [ آل عمران : 128 ] لا يدل على أكثر من أن الظلم مفض إلى التعذيب ومن يمنع الإفضاء إنما المنع على أن يكون تفسيراً { لِمَن يَشَاء } وأين الدلالة على أن كل ظلم كذلك ولا عموم للفظ ولا هو من قبيل مفهوم الصفة ليصلح متمسكاً في الجملة ، وما نقل عن الحسن وعطاء لا يعرف له سند أصلاً ومن ادعاه فليأت به إن كان من الصادقين ، ومما يدل على كذبه أن فيه حجراً على الرحمة الواسعة وتضييق مسالكها من غير دليل قطعي ولا يظن بمثل الحسن هذا القبيح سلمنا الصدق وعدم لزوم ما ذكر لكن قول الحسن ونحوه لا يترك له ظاهر الكتاب والحق أحق بالاتباع. فإن قال الخصم : نحن نتمسك في هذا المطلب بلزوم الخلف قلنا : يكون رجوعاً إلى الاستدلال بالمعقول ، وقد(16/344)
أذقناكم الموت الأحمر فيه لا بالآيات فتبقى دلالة هذه الآية على عمومها ، وهو مطلوبنا هنا على أن هذه الآية واردة في الكفار على أكثر الروايات ، ومعتقد الجماعة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان كما يفصح عنه قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] وليسوا محل خلاف بين الطائفتين فمن استدل بها من المعتزلة على غرضه الفاسد فقد ضل سواء السبيل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 51 ـ 53}
سؤال : فإن قيل : أليس أنه ثبت أنه لا يغفر للكفار ولا يعذب الملائكة والأنبياء ؟ .
قلنا : مدلول الآية أنه لو أراد لفعل ولا اعتراض عليه ، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل ، وهذا الكلام في غاية الظهور. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 193}
فصل
قال الطبرى فى معنى الآية :
يعني بذلك تعالى ذكره : ليس لك يا محمد ، من الأمر شيء ، ولله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها ، دونك ودونهم ، يحكم فيهم بما يشاء ، ويقضي فيهم ما أحب ، فيتوب على من أحب من خلقه العاصين أمرَه ونهيه ، ثم يغفر له ، ويعاقب من شاء منهم على جرمه فينتقم منه ، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح ، والرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 203}
قوله تعالى {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
قال الفخر :
المقصود بيان أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والإحسان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 193}(16/345)
وقال الآلوسى :
{ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } مع زيادة ، وفي تخصيص التذييل به إشارة إلى ترجيح جهة الإحسان والإنعام ، وفيه ما يؤيد مذهب الجماعة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 53}
فائدة
قال أبو حيان :
{ والله غفور رحيم } في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 57}
فصل
قال أبو السعود :
{ وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان اختصاصِ ملكوتِ كلِّ الكائناتِ به عز وجل إثرَ بيانِ اختصاصِ طرَفٍ من ذلك به سبحانه تقريراً لما سبق وتكملةً له. وتقديمُ الجارِّ للقصر ، وكلمةُ { مَا } شاملةٌ للعقلاء أيضاً تغليباً أي له ما فيهما من الموجودات خلقاً ومُلكاً لا مدخَلَ فيه لأحد أصلاً فله الأمرُ كلُّه { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } أن يغفرَ له مشيئةً مبنيةً على الحِكمة والمصلحة { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } أن يعذِّبَه بعمله مشيئةً كذلك. وإيثارُ كلمة { مِنْ } في الموضعين لاختصاص المغفرةِ والتعذيبِ بالعقلاء ، وتقديمُ المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمتِه تعالى غضبَه وبأنها من مقتَضيات الذاتِ دونه فإنه من مقتضيات سيئاتِ العُصاة ، وهذا صريحٌ في نفي وجوبِ التعذيبِ ، والتقييدُ بالتوبة وعدمِها كالمنافي له { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييلٌ مقرر لمضمون قوله تعالى : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } مع زيادة ، وفي تخصيص التذييلِ به دون قرينةٍ من الاعتناء بشأن المغفرةِ والرحمةِ ما لا يخفى. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 84}(16/346)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
قال عليه الرحمة :
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}
الإله من له الأمر والنهي ، فلمَّا لم يكن له في الإلهية نظير لم يكن له - ( صلى الله عليه وسلم ) - من الأمر والنهي شيء.
ويقال جرَّده - بما عرَّفه وخاطبه - عن كلِّ غيرٍ ونصيب ودعوى ، حيث أخبر أنه ليس له من الأمر شيء ، فإذا لم يَجُزْ أن يكون لسيِّد الأولين والآخرين شيء من الأمر فَمَنْ نزلت رتبتُه عن منزلته فمتى يكون له شيء من الأمر ؟
ويقال استأثر ( بِسَتْرِ عباده في حكمه ) فقال أنا الذي أتوب على من أشاء من عبادي وأعذِّب من أشاء ، والعواقب عليك مستورة ، وإنك - يا محمد - لا تدري سرى فيهم.
ويقال أقامه في وقتٍ مقاماً فقالت : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] رمى بقبضة من التراب فأصاب جميع الوجوه ، وقال له في وقت آخر : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ } ثم زاد في البيان فقال : { وَللهِ مَا فِى السَّمَواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ }. فإذا كان المُلْك ملكه ، والأمر أمره ، والحكم حكمه - فَمَنْ شاء عذَّبه ، ومن شاء قرَّبه ، ومن شاء هداه ، ومن شاء أغواه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 276}(16/347)
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}
مناسبة الآيات لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الختم بهاتين الصفتين ربما أطمع في انتهاك الحرمات لاتباع الشهوات فكان مبعداً لمتعاطيه من الرحمة مدنياً من النقمة ، وكان أعظم المقتضيات للخذلان تضييعهم للثغر الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه بسبب إقبالهم قبل إتمام هزيمة العدو على الغنائم للزيادة في الأعراض الدنيوية التي هي معنى الربا في اللغة إذ هو مطلق الزيادة أقبل تعالى عليهم بقوله : {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان ، صدقوا إيمانكم بأن {لا تأكلوا الربا} أي المقبح فيما تقدم أمره غاية التقبيح ، وهو كما ترى إقبال متلطف منادٍ لهم باسم الإيمان الناظر إلى الإنفاق المعرض عن التحصيل {ومما رزقناهم ينفقون} [ البقرة : 3 ] ؛ {والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} [ آل عمران : 17 ] ؛ {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [ آل عمران : 92 ] ناهٍ عن الالتفات إلى الدنيا بالإقبال على غنيمة أو غيرها بطريق الإشارة بدلالة التضمن ، إذ المطلق جزء المقيد ، ففي هذه العبارة التي صريحها ناهٍ عن الإقبال على الدنيا إقبالاً يوجب الإعراض عن الآخرة باستباحة أكل الربا المتقدم في البقرة من النهي عنه من المبالغة ما يردع من له أدنى تقوى ، ويوجب لمن لم يتركه وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [ البقرة : 278 ] ، {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} [ البقرة : 86 ].(16/348)
ولما كان في تركه الإثخان في العدو بعد زوال المانع منه بالهزيمة مع أن فيه من حلاوة الظفر ما يجل عن الوصف لأجل الغنيمة التي هي لمن غلب ، وليس في المبادرة إلى حوزها كبير فائدة ، دلالة على تناهي الحب للتكاثر ، ناسب المقام ربا التضعيف فقال : - أو يقال : لما كان سبب الهزيمة طلبهم الزيادة بالغنيمة ، وكان حب الزيادة حلالاً قد يجر إلى حبها حراماً ، فيجر إلى الربا المضاعف ، لأن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه قال - : {أضعافاً مضاعفة} أي لا تتهيؤوا لذلك بإقبالكم على مطلق الزيادة ، فإن المطلوب منكم بذل المال فضلاً عن الإعراض عنه فضلاً عن الإقبال عليه ، فالحاصل أنه دلت على الربا بمطابقتها ، وعلى مطلق الزيادة بتضمنها ، وهي من وادي قوله صلى الله عليه وسلم : " من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه "(16/349)
وختام الآية بقوله : {واتقوا الله} أي الملك الأعظم {لعلكم تفلحون} مشير إلى ذلك ، أي واجعلوا بينكم وبين مخالفة نهيه عن الربا وقاية بالإعراض عن مطلق محبة الدنيا والإقبال عليها ، لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطالب ، فمن له ملك الوجود وملكه فإنه دير بأن يعطيكم من ملكه إن اتقيتم ، ويمنعكم إن تساهلتم ، فهو نهي عن الربا بصريح العبارة ، وتحذير من أن يعودوا إلى ما صدر منهم من الإقبال على الغنائم قبل انفصال الحرب فعلاً وقوة بطريق الإشارة ، وهي من أدلة إمامنا الشافعي على استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، والذي دلنا على إرادة المعنى التضمني المجازي نظمها ، والناظم حكيم في سلك هذه القصة ووضعها في هذا الموضع ، فلا يقدح في ذلك أنه قد كان في هذه القصة أمر يصلح أن يكون سبباً لنزول هذه الآية ووضعها عنا ، لأن ذلك غير لازم ولا مطرد ، فقد كان حلفه صلى الله عليه وسلم أنه يمثل بسبعين منهم كما مثلوا بعمه حمزة رضي الله عنه سبباً لنزول آخر سورة النحل {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [ النحل : 126 ] إلى آخرها ، ولم توضع هنا ، والأمر الصالح لأن يكون سبباً لها ما روى أبو داود في سننه بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة أن عمروا بن أقيش رضي الله عنه كان له ربا في الجاهلية ، فكره أن يسلم حتى يأخذه ، فجاء يوم أحد فقال : أين بنو عمي ؟ قالوا : بأحد ، قال : أين فلان ؟ قالوا : بأحد ، قال : فأين فلان ؟ قالوا : بأحد ؛ فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم ، فلما رآه المسلمون قالوا : إليك عنا يا عمرو! قال : إني قد آمنت ، فقاتل حتى جرح ، فحمل إلى أهله جريحاً ، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال لأخته : سليه : حمية لقومك أو غضباً لهم ، أم غضباً لله عز وجل ؟ فقال : بل غضباً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمات(16/350)
فدخل الجنة وما صلى لله عز وجل صلاة.
والقصة في جزء عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي - بالمهملة ثم التحتانية ثم المعجمة - تخريج أبي القاسم عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز البغوي ، والجزء السابع عشر من المجالسة للدينوري من طريق حماد بن سلمة شيخ أبي داود ، ولفظ العيشي : إن عمرو بن وقش - وقال الدينوري : أقيش - كان له ربا في الجاهلية ، وكان يمنعه ذلك الربا من الإسلام حتى يأخذه ثم يسلم ، فجاء ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم - زاد الدينوري : وأصحابه بأحد فقال : أين سعد ابن معاذ ؟ وقال العيشي : فقال لقومه : أين سعد بن معاذ ؟ قالوا : هو بأحد ، قال الدينوري : فقال : أين بنو أخيه ؟ قالوا : بأحد ، فسأل عن قومه ، فقالوا : بأحد ، فأخذ سيفه ورمحه ولبس لأمته ، ثم أتى أحداً ؛ وقال الدينوري : ثم ذهب إلى أحد ، فلما رآه السملمون قالوا : إليك عنا يا عمرو! قال : إني قد آمنت! فقاتل فحمل إلى أهله جريحاً ، فدخل عليه سعد بن معاذ فقال - يعني لامرأته - : سليه! وقال العيشي : فقال لأخته : ناديه ، فقولي ؛ وقال الدينوري : فقالت : أجئت غضباً لله ورسوله أم حمية وغضباً لقومك ؟ فنادته ، فقال : جئت غضباً لله ورسوله! فمات فدخل الجنة ولم يصل لله قط ؛ وقال الدينوري : قال أبو هريرة : ودخل الجنة ، وما صلى لله صلاة.
(16/351)
ورواها ابن إسحاق والواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أنه كان يقول : حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِّ قط ؛ وقال الواقدي : أخبروني برجل يدخل الجنة لم يسجد لله قط ، فيسكت الناس ، فيقول أبو هريرة رضي الله عنه : هو أخو بني عبد الأشهل ؛ وقال ابن إسحاق : فإذا لم يعرفه الناس سألوا : من هو ؟ فيقول : أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش رضي الله تعالى عنه ؛ زاد ابن إحساق : قال الحصين - يعني شيخه : فقلت لمحمود بن لبيد : كيف كان شأن الأصيرم ؟ قال : كان يأبى الإسلام على قومه ، فلما كان يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد بدا له في الإسلام فأسلم ، ثم أخذ سيف فغدا حتى دخل في عرض الناس ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به ، فقالوا : والله إن هذا للأصيرم! ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لمنكر بذا الحديث! فسألوه ما جاء به ، فقالوا : ما جاء بك يا عمرو ؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام ؟ فقال : بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ، ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني.
(16/352)
ثم لم يلبث أن مات في أيديهم ، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إنه لمن أهل الجنة " والمعنى على هذا : يا أيها الذين يريدون الإيمان! لا تفعلوا مثل فعل الأصيرم في تأخير إيمانه لأجل الربا ، بل سابقوا الموت لئلا يأتيكم بغتة فتهلكوا ، أو يا أيها الذين أخبروا عن أنفسهم بالإيمان ورسوخ الإذعان في أنفسهم والإيقان بمر الزمان! افعلوا مثل فعله ساعة أسلم في صدق الإيمان وإسلام نفسه إلى ربه بركوب الأهوال في غمرات القتال من غير خوف ولا توقف ولا التفات إلى أمر دنيوي وإن عظم ؛ فقد بان أنه نبه بالإشارة إلى قصة بدر ثم بهذه الآية على أن من أعرض عن الدنيا حصلت له بعز وإن كان قليلاً ، ومن أقبل عليها فاتته بذل وإن كان كثيراً جليلاً ، لأن مَن له ملك السماوات والأرض يفعل ما يشاء ، ولا تفيد الآية إباحة مطلق الفضل في الربا ما لم ينته إلى الأضعاف المضاعفة ، لأن إفهامها لذلك معارض لمنطوق آيات البقرة الناهية عن مطلق الربا ، والمفهوم لا يعمل به إذا عارض منطوق نص آخر ، وهذا من مزيد الاعتناء بشأن الربا إذ حرم كل نوع منه في آية تخصه ، فحرم ربا الفضل في آيات البقرة ، ويلزم من ترحيمه تحريم ربا الأضعاف ، ثم نص عليه في هذه الآية ، فصار محرمأً مرتين : مفهوماً ومنطوقاً ، مع ما أفاد ذكره من النكت التي تقدم التنبيه عليها.
ولما كان الفائز بالمطالب قد لا يوقي المعاطب قال تعالى : {واتقوا النار} أي إن لم تكونوا ممن يتقيه سبحانه لذاته {التي أعدت} أي هيئت {للكافرين} أي بالله باستحلال الربا وغيره بالذات ، وللكافرين بالنعمة عصياناً بالعرض.
(16/353)
ولما كان الفائز السالم قد لا يكون مقرباً قال اتباعاً للوعيد بالوعد : {وأطيعوا الله} ذا الجلال والإكرام {والرسول} أي الكامل في الرسلية كمالاً ليس لأحد مثله ، أي في امتثال الأوامر واجتناب النواهي بالإخلاص {لعلكم ترحمون} أي لتكونوا على رجاء وطمع في أن يفعل بكم فعل المرحوم بالتقريب والمحبة وإنجاز كل ما وعد على الطاعة من نصره وغيره. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 152 ـ 156}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن من الناس من قال : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بارشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد ، أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال : {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا } وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء كلام ولا تعلق لها بما قبلها ، وقال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا ، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى الاقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم ، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 3}(16/354)
وقال أبو السعود :
{ يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا } كلامٌ مبتدأٌ مشتمِلٌ على ما هو مَلاكُ الأمرِ في كل باب لا سيما في باب الجهادِ من التقوى والطاعةِ وما بعدهما من الأمور المذكورةِ على نهج الترغيبِ والترهيبِ جيء به في تضاعيفِ القصةِ مسارعةً إلى إرشاد المخاطَبين إلى ما فيه ، وإيذاناً بكمالِ وجوبِ المحافظةِ عليه فيما هم فيه من الجهاد ، فإن الأمورَ المذكورةَ فيه مع كونها مناطاً للفوز في الدارين على الإطلاق عُمدةٌ في أمر الجهادِ ، عليها يدورُ فلكُ النُّصرةِ والغلَبة ، كيف لا ولو حافظوا على الصبر والتقوى وطاعةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لما لقُوا ما لقُوا ، ولعل إيرادَ النهي عن الربا في أثنائها لِما أن الترغيبَ في الإنفاق في السراء والضراءِ الذي عُمدتُه الإنفاقُ في سبيل الجهادِ متضمنٌ للترغيب في تحصيل المالِ فكان مظِنةَ مبادرةِ الناسِ طرق الاكتساب ومن جملتها الربا ، فنُهوا عن ذلك ، والمرادُ بأكله أخذُه ، وإنما عُبر عنه بالأكل لما أنه مُعظم ما يقصَد بالأخذ ، ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة تشنيعٍ. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 84}
وقال ابن عاشور :
قال ابن عطية : ولا أحفظ سبباً في ذلك مروياً.
وقال الفخر : من النّاس من قال : لمّا أرشد الله المؤمنين إلى الأصلح لهم في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنَّهي فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا } فلا تعلّق لها بما قبلها.
وقال القفّال : لمّا أنفق المشركون على جيوشهم أموالاً جمعوها من الربا ، خيف أن يدعُو ذلك المسلمين إلى الإقدام على الرّبا.
وهذه مناسبة مستبعدة.
وقال ابن عرفة : لمّا ذكر الله وعيد الكفار عقّبه ببيان أن الوعيد لا يخصّهم بل يتناول العصاة ، وذكر أحد صور العصيان وهي أكل الربا.(16/355)
وهو في ضعف ما قبله ، وعندي بادىء ذي بدء أن لا حاجة إلى اطّراد المناسبة ، فإن مدّة نزول السورة قابلة ، لأن تحدث في خلالها حوادث ينزل فيها قرآن فيكون من جملة تلك السورة ، كما بيّناه في المقدّمة الثَّامنة ، فتكون هاته الآية نزلت عقب ما نزل قبلها فكتبت هنا ولا تكون بَينهما مناسبة إذ هو ملحق إلحاقاً بالكلام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 216 ـ 217}
فائدة
قال القرطبى :
وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي ؛ لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] والحرب يؤذِن بالقتل ؛ فكأنه يقول : إِن لم تتقوا الربا هُزِمتم وقُتلتم.
فأمرهم بترك الربا ؛ لأنه كان معمولاً به عندهم ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 202}
فائدة
قال ابن عاشور :
ويتّجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النّهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة بما هو أوفى ممَّا في هذه السورة ، فالجواب : أنّ الظاهر أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول آية سورة البقرة فكانت هذه تمهيداً لتلك ، ولم يكن النّهي فيها بالغاً ما في سورة البقرة وقد روي أن آية البقرة نزلت بعد أن حَرّم الله الربا وأن ثقيفاً قالوا : كيف ننهى عن الربا ، وهومثل البيع ، ويكون وصف الربا بـ { أضعافاً مضاعفة } نهياً عن الربا الفاحش وسَكت عمّا دون ذلك ممّا لا يبلغ مبلغ الأضعاف ، ثمّ نزلت الآية الَّتي في سورة البقرة ويحتمل أن يكون بعض المسلمين داين بعضاً بالمراباة عقب غزوة أحُد فنزل تحريم الرّبا في مدّة نزول قصّة تلك الغزوة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 217}(16/356)
قوله تعالى {أضعافا مضاعفة }.
فائدة
قال الفخر :
كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل ، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل ذلك ، ثم إلى آجال كثيرة ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله : {أضعافا مضاعفة }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 3}
فائدة
قال الآلوسى :
وقال بعض المحققين : الضعف اسم ما يضعف الشيء كالثنى اسم ما يثنيه من ضعفت الشيء بالتخفيف فهو مضعوف على ما نقله الراغب بمعنى ضعفته ، وهو اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر فأكثر ، والنظر فيه إلى فوق بخلاف الزوج فإن النظر فيه إلى ما دونه فإذا قيل : ضعف العشرة لزم أن تجعلها عشرين بلا خلاف لأنه أول مراتب تضعيفها ، ولو قال : له عندي ضعف درهم لزمه درهمان ضرورة الشرط المذكور كما إذا قيل : هو أخو زيد اقتضى أن يكون زيد أخاه وإذا لزم المزاوجة دخل في الإقرار ، وعلى هذا له ضعفا درهم منزل على ثلاثة دراهم وليس ذلك بناءاً على ما يتوهم أن ضعف الشيء موضوعه مثلاه وضعفيه ثلاثة أمثاله ، بل ذلك لأن موضوعه المثل بالشرط المذكور.
وهذا مغزى الفقهاء في الأقارير والوصايا ، ومن البين أنهم ألزموا في ضعفي الشيء ثلاثة أمثاله ولو كان موضوع الضعف المثلين لكان الضعفان أربعة أمثال وليس مبناه العرف العامي بل الموضوع اللغوي كما قال الأزهري.(16/357)
ومن هنا ظهر أنه لو قال : له عليَّ الضعفان درهم ودرهم أو الضعفان من الدراهم لم يلزم إلا درهمان كما لو قال الأخوان ، ثم قال والحاصل أن تضعيف الشيء ضم عدد آخر إليه وقد يزاد وقد ينظر إلى أول مراتبه لأنه المتيقن ، ثم إنه قد يكون الشيء المضاعف مأخوذاً معه فيكون ضعفاه ثلاثة وقد لا يكون فيكون اثنين وهذا كله موضوع له في اللغة لا العرف ، وليس هذه الحال لتقييد المنهي عنه ليكون أصل الربا غير منهي بل لمراعاة الواقع ، فقد روى غير واحد أنه كان الرجل يربي إلى أجل فإذا حل قال للمدين : زدني في المال حتى أزيدك بالأجل فيفعل وهكذا عند ( محل ) كل أجل فيستغرق بالشيء الطفيف ماله بالكلية فنهوا عن ذلك ونزلت الآية ، وقرىء مضعفة بلا ألف مع تشديد العين. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 55}
وقال ابن عطية :
وقوله { أضعافاً } نصب في موضع الحال ، ومعناه : الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين ، فكان الطالب يقول : أتقضي أم تربي ؟ وقوله : { مضاعفة } إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام ، كما كانوا يصنعون ، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه ، ولذلك ذكرت حال التضعيف خاصة ، وقد حرم الله جميع أنواع الربا ، فهذا هو مفهوم الخطاب إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور ، وأيضاً فإن الربا يدخل جميع أنواعه التضعيف والزيادة على وجوه مختلفة من العين أو من التأخير ونحوه. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 507}(16/358)
فائدة
قال ابن عاشور :
وحكمة تحريم الرّبا هي قصد الشَّريعة حملَ الأمَّة على مواساة غنيِّها محتاجَها احْتياجاً عارضاً موقّتاً بالقرض ، فهو مرتبة دون الصدقة ، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة ، ومنها ندب كالصّدقة والسلفِ ، فإن انتدب لها المكلّف حرّم عليه طلب عوض عنها ، وكذلك المعروف كُلّه ، وذلك أن العادة الماضية في الأمم ، وخاصّة العرب ، أنّ المرء لا يتداين إلاّ لضرورة حياته ، فلذلك كان حقّ الأمَّة مواساته.
والمواساة يظهر أنَّها فرض كفاية على القادرين عليها ، فهو غير الَّذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعيْن والمتقارضين : للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلاّ أن الشرع ميّز هاته الواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية ، لا باختلاف أحوال المتعاقدين ، فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الرّبا في السلف ، ولو كان المستسلف غير محتاج ، بل كان طالبَ سعة وإثراءٍ بتحريك المال الَّذي يتسلّفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك ، وسمَح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتِّجارة ودين السَّلَم ، ولو كان الرّبح في ذلك أكثر من مقدار الرّبا تفرقة بين المواهي الشرعية.
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الرّبا البعدَ بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال ، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا ، فيكون تحريم الرّبا ، ولو كان قليلاً ، مع تجويز الربح من التِّجارة والشركات ، ولو كان كثيراً تحقيقاً لهذا المقصد.(16/359)
ولقد قضى المسلمون قروناً طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالرّبا ، ولم تكن ثروتهم أيّامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم ، أزمان كانت سيادة العالم بيدهم ، أو أزمان كانوا مستقلّين بإدارة شؤونهم ، فلمَّا صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية ، وارتبط المسلمون بغيرهم في التِّجارة والمعاملة ، وانتظمت سوق الثَّروة العالمية على قواعد القوانين الَّتي لا تتحاشى المراباة في المعاملات ، ولا تعْرف أساليب مواساة المسلمين ، دهش المسلمون ، وهم اليوم يتساءلون ، وتحريم الربا في الآية صريح ، وليس لما حرّمه الله مبيح.
ولا مخلص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تُبنى على أصول الشريعة في المصارف ، والبيوع ، وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمّال.
وحوالات الديون ومقاصّتها وبيعها.
وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كلّ فرقة كما أمر الله تعالى.
وقد تقدّم ذكر الربا والبيوع الربوية عند تفسير قوله تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس الآيات الخمس } من سورة [ البقرة : 275 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 218 ـ 219}
قوله تعالى {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
فصل
قال الفخر :
اعلم أن اتقاء الله في هذا النهي واجب ، وأن الفلاح يتوقف عليه ، فلو أكل ولم يتق زال الفلاح وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر وتفسير قوله : {لَعَلَّكُمْ} تقدم في سورة البقرة في قوله : {اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [ البقرة : 21 ] وتمام الكلام في الربا أيضا مر في سورة البقرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 3}(16/360)
وقال الآلوسى :
{ واتقوا الله } أي فيما نهيتم عنه ومن جملته أكل الربا { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي لكي تفلحوا أو راجين الفلاح ، فالجملة حينئذٍ في موضع الحال قيل : ولا يخفى أن اقتران الرجاء بالتخويف يفيد أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف فهما جناحاه اللذان يطير بهما إلى حضائر القدس. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 55}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } تحذير وتنفير من النَّار وما يوقع فيها ، بأنَّها معدودة للكافرين وإعدادها للكافرين.
عَدل من الله تعالى وحكمة لأنّ ترتّب الأشياء على أمثالها من أكبر مظاهر الحكمة ، ومَن أشركوا بالله مخلوقاته ، فقد استحقّوا الحرمان من رحماته ، والمسلمون لا يرضَون بمشاركة الكافرين لأنّ الإسلام الحقّ يوجب كراهية ما ينشأ عن الكفر.
وذاك تعريض واضح في الوعيد على أخذ الربا.
ومقابل هذا التنفير الترغيب الآتي في قوله : { وجنة عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين } [ آل عمران : 133 ] ، والتَّقوى أعلى درجات الإيمان.
وتعريف النار بهذه الصّلة يُشعر بأنَّه قد شاع بين المسلمين هذا الوصف للنَّار بما في القرآن من نحو قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] ، وقوله : { وبرزت الجحيم للغاوين } [ الشعراء : 91 ] الآية.(16/361)
وقال ابن عطية :
و { النار } في قوله : { واتقوا النار } هي اسم الجنس ، ويحتمل أن تكون للعهد ، ثم ذكر أنها { أعدت للكافرين } ، أي إنهم هم المقصود والمراد الأول ، وقد يدخلها سواهم من العصاة ، فشنع أمر النار بذكر الكفر ، وحسن للمؤمن أن يحذرها ويبعد بطاعة الله عنها وهذا كما قال في الجنة : أعدت للمتقين ، أي هم المقصود ، وإن كان يدخلها غيرهم من صبي ومجنون ونحوه ممن لا يكلف ولا يوصف بتقوى ، هذا مذهب أهل العلم في هذه الآية ، وحكى الماوردي وغيره ، عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن أكلة الربا إنما توعدهم الله بنار الكفرة ، إذ النار سبع طبقات ، العليا منها وهي جهنم للعصاة ، والخمس للكفار والدرك الأسفل للمنافقين ، قالوا : فأكلة الربا إنما يعذبون يوم القيامة بنار الكفرة لا بنار العصاة ، وبذلك توعدوا ، فالألف واللام على هذا في قوله { واتقوا النار } إنما هي للعهد. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 507}
وقال أبو حيان :
{ واتقوا الله لعلكم تفلحون } لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا ، أمر بتقوى الله إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهى الشرع عنه.
ثم ذكر أنّ التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز ، وأمر بها مطلقاً لا مقيداً بفعل الربا ، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى ، فلم يأت واتقوا الله في أكل الربا بل أمروا بالتقوى ، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 58}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { أَضْعَافاً } جمع ضعف ، ولما كان جمع قلة - والمقصود : الكثرة - أتبعه بما يدل على الكثرة وهو الوصف بقوله : { مُّضَاعَفَةً }.(16/362)
وقال أبو البقاء : { أَضْعَافاً } مصدر في موضع الحال من " الرِّبا " ، تقديره : مضاعفاً ، وتقدم الكلام على { أَضْعَافاً } ومفرده في البقرة.
وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامر : " مضعَّفة " - مشددة العين ، دون ألف.
والباقون بالألف والتخفيف ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة.
أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 532 ـ 533}
قوله تعالى {واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين}
فصل
قال القرطبى :
قال كثير من المفسرين : وهذا وعيد لمن استحل الربا ، ومن استحل الربا فإنه يكْفُر ( ويُكَفّر ).
وقيل : معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار ؛ لأن من الذنوب ما يستوجب به صاحبه نزع الإيمان ويخاف عليه ؛ من ذلك عقوق الوالدين.
وقد جاء في ذلك أثر : أن رجلا كان عاقا لوالديه يقال له عَلْقَمَة ؛ فقيل له عند الموت : قل لا إله إلا الله ، فلم يقدر على ذلك حتى جاءته أمه فرضيت عنه.
ومن ذلك قطيعة الرحم وأكل الربا والخيانة في الأمانة.
وذكر أبو بكر الورّاق عن أبي حنيفة أنه قال : أكثر ما ينزع الإيمان من العبد عند الموت.
ثم قال أبو بكر : فنظرنا في الذنوب التي تنزع الإيمان فلم نجد شيئاً أسرع نزعا للإيمان من ظلم العباد.
وفي هذه الآية دليل على أن النار مخلوقة رداً على الجَهْمِية ؛ لأن المعدوم لا يكون مُعَداً. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 202 ـ 203}(16/363)
وقال الآلوسى :
{ واتقوا النار } أي احترزوا عن متابعة المرابين وتعاطي ما يتعاطونه من أكل الربا المفضي إلى دخول النار { التى أُعِدَّتْ } أي هيئت { للكافرين } وهي الطبقة التي اشتد حرها وتضاعف عذابها وهي غير النار التي يدخلها عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها دون ذلك ، وفيه إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة الكفرة ، ويحتمل أن يقال : إن النار مطلقاً مخلوقة للكافرين معدّة لهم أوّلاً وبالذات ، وغيرهم يدخلها على وجه التبع فالصفة ليست للتخصيص ، وإلى هذا ذهب الجل من العلماء ، روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول : إن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله تعالى المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه وليس بنص في التخصيص. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 55 ـ 56}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } تحذير وتنفير من النَّار وما يوقع فيها ، بأنَّها معدودة للكافرين وإعدادها للكافرين.
عَدل من الله تعالى وحكمة لأنّ ترتّب الأشياء على أمثالها من أكبر مظاهر الحكمة ، ومَن أشركوا بالله مخلوقاته ، فقد استحقّوا الحرمان من رحماته ، والمسلمون لا يرضَون بمشاركة الكافرين لأنّ الإسلام الحقّ يوجب كراهية ما ينشأ عن الكفر.
وذاك تعريض واضح في الوعيد على أخذ الربا.
ومقابل هذا التنفير الترغيب الآتي في قوله : { وجنة عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين } [ آل عمران : 133 ] ، والتَّقوى أعلى درجات الإيمان.(16/364)
وتعريف النار بهذه الصّلة يُشعر بأنَّه قد شاع بين المسلمين هذا الوصف للنَّار بما في القرآن من نحو قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] ، وقوله : { وبرزت الجحيم للغاوين } [ الشعراء : 91 ] الآية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 219}
فائدة
قال الخازن :
وقال الواحدي : في الآية تقوية لرجاء المؤمنين رحمة من الله تعالى لأنه قال أعدت للكافرين فجعلها معدة للكافرين دون المؤمنين. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 275}
أسئلة وأجوبة
السؤال الأول : أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه ، فكيف قال : {واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين }.
والجواب : تقدير الآية : اتقوا أن تجحدوا تحريم الربا فتصيروا كافرين.
السؤال الثاني : ظاهر قوله : {أُعِدَّتْ للكافرين} يقتضي أنها ما أعدت إلا للكافرين ، وهذا يقتضي القطع بأن أحدا من المؤمنين لا يدخل النار وهو على خلاف سائر الآيات.
والجواب من وجوه : الأول : أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات أعد بعضها للكفار وبعضها للفساق فقوله : {النار التى أُعِدَّتْ للكافرين} إشارة إلى تلك الدركات المخصوصة التي أعدها الله للكافرين ، وهذا لا يمنع ثبوت دركات أخرى في النار أعدها الله لغير الكافرين.
الثاني : أن كون النار معدة للكافرين ، لا يمنع دخول المؤمنين ، فيها لأنه لما كان أكثر أهل النار هم الكفار فلأجل الغلبة لا يبعد أن يقال : انها معدة لهم ، كما أن الرجل يقول : لدابة ركبها لحاجة من الحوائح ، إنما أعددت هذه الدابة للقاء المشركين ، فيكون صادقا في ذلك وان كان هو قد ركبها في تلك الساعة لغرض آخر فكذا ههنا.(16/365)
الوجه الثالث : في الجواب : أن القرآن كالسورة الواحدة فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين وسائر الآيات دالة أيضا على أنها معدة لمن سرق وقتل وزنا وقذف ، ومثاله قوله تعالى : {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [ الملك : 8 ] وليس لجميع الكفار يقال ذلك ، وأيضا قال تعالى : {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون} [ الشعرا : 94 ] إلى قوله : {إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين} [ الشعرا : 98 ] وليس هذا صفة جميعهم ولكن لما كانت هذه الشرائط مذكورة في سائر السور ، كانت كالمذكورة ههنا ، فكذا فيما ذكرناه والله أعلم.
الوجه الرابع : أن قوله : {أُعِدَّتْ للكافرين} إثبات كونها معدة لهم ولا يدل على الحصر كما أن قوله : في الجنة {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [ آل عمران : 133 ] لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين والحور العين.
الوجه الخامس : أن المقصود من وصف النار بأنها أعدت للكافرين تعظيم الزجر ، وذلك لأن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي اذا علموا بانهم متى فارقوا التقوى أدخلوا النار المعدة للكافرين ، وقد تقرر في عقولهم عظم عقوبة الكفار ، كان انزجارهم عن المعاصي أتم ، وهذا بمنزلة أن يخوف الوالد ولده بأنك إن عصيتني أدخلتك دار السباع ، ولا يدل ذلك على أن تلك الدار لا يدخلها غيرهم فكذا ههنا.
السؤال الثالث : هل تدل الآية على أن النار مخلوقة الآن أم لا ؟
الجواب : نعم لأن قوله : {أُعِدَّتْ} إخبار عن الماضي فلا بد أن يكون قد دخل ذلك الشيء في الوجود. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 3 ـ 4}
من فوائد الزمخشرى فى الآية
قال رحمه الله :
{ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة } نهي عن الربا مع توبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه.(16/366)
كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل فاستغرق بالشيء الطفيف مال المديون { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين ( 131 ) } كان أبو حنيفة رحمه الله يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه.
وقد أمدّ ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين برحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله.
ومن تأمّل هذه الآية وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة والتمني على الله تعالى ، وفي ذكره تعالى "لعلّ" و"عسى" في نحو هذه المواضع وإن قال الناس ما قالوا ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى ، وصعوبة إصابة رضا الله ، وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 442}
وتعقبه أبو حيان بقوله :
وهو جار على مذهبه من تقنيط العاصي غير التائب من رحمة ربه ، وولوعه بمذهبه يجعله يحمل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله ، أو ما هو بعيد عنها. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 58}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
قال عليه الرحمة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)}
حرَّم الربا على العِباد ومنه إقراض الواحد باثنين تستردهما ، وسأل منك القرض الواحد بسبعمائة إلى ما لا نهاية له ، والإشارة فيه أن الكرم لا يليق بالخَلْق وإنما هو صفة الحق سبحانه.
{ واتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ للكَافِرِينَ } : دليل الخطاب أنَّ المؤمن لا يُعذِّبُ بها ، وإن عُذِّب بها مُدَّةٌ فلا يُخَلَّدُ فيها. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 276}(16/367)
قوله تعالى : {وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
قال الفخر :
ولما ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرة في القرآن ، وقال : محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد ، وقالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن حصول الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا عام فيدل الظاهر على أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء أنه ليس أهلا للرحمة وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 4}
وقال أبو حيان :
{ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } قيل : أطيعوا الله في الفرائض ، والرسول في السنن.
وقيل : في تحريم الربا ، والرسول فيما بلغكم من التحريم.
وقيل : وأطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
فإن طاعة الرسول طاعة الله قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال المهدوي : ذكر الرسول زيادة في التبيين والتأكيد والتعريف بأن طاعته طاعة الله.
وقال ابن إسحاق : هذه الآية هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد ، وانهزام من فرَّ ، وزوال الرماة من مركزهم.
وقيل : صيغتها الأمر ومعناها العتب على المؤمنين فيما جرى منهم من أكل الربا ، والمخالفة يوم أحد.
والرحمة من الله إرادة الخير لعبيده ، أو ثوابهم على أعمالهم. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 58}
لطيفة
قال أبو السعود :
وإيرادُ { لَعَلَّ } في الموضعين للإشعار بعزة منالِ الفلاحِ والرحمة. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 85}(16/368)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}
قَرَنَ طاعة الرسول صلوات الله عليه بطاعة نفسه تشريفاً لِقَدْرِه ، وتخفيفاً على الأمة حيث ردَّهم إلى صحبة شخص من أنفسهم ، فإنَّ الجنسَ إلى الجنسِ أسكنُ. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 277}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وقد تضمنت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبديع.
من ذلك العام المراد به الخاص : في من أهلك ، قال الجمهور : أراد به بيت عائشة.
فالاختصاص في : والله سميع عليم ، وفي : فليتوكل المؤمنون ، وفي : ما في السموات وما في الأرض ، وفي : يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء خص نفسه بذلك كقوله : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } { نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } وفي { العزيز الحكيم } لأن العز من ثمرات النصر ، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة.
والتشبيه : في ليقطع طرفاً ، شبه من قتل منهم وتفرّق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه وانخرم نظامه ، وفي : ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرّجل الساكن الحركة.
وفي : فينقلبوا خائبين شبه رجوعهم بلا ظفر ولا غنيمة بمن أمل خيراً من رجل فأمّه ، فأخفق أمله وقصده.
والطباق : في نصركم وأنتم أذلة ، النصر إعزاز وهو ضد الذل.
وفي : يغفر ويعذب ، الغفران ترك المؤاخذة والتعذيب المؤاخذة بالذنب.
والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في : أن يفشلا.
وبإقامة اللام مقام إلى في : ليس لك أي إليك ، أو مقام على : أي ليس عليك.
والحذف والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك والتجنيس المماثل في : أضعافاً مضاعفة.
وتسمية الشيء بما يؤول إليه في : لا تأكلوا سمَّى الأخذ أكلاً ، لأنه يؤول إليه. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 58 ـ 59}(16/369)
قوله تعالى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نهى عما منع النصر بالنهي عن الربا ، المراد بالنهي عنه الصرف عن مطلق الإقبال على الدنيا ، المشار إلى ذمها في قوله تعالى : {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [ آل عمران : 14 ] ، وأمر بما تضمن الفوز والنجاة والقرب ، وكان ذلك قد يكون مع التواني أمر بالمسارعة فيه توصلاً إلى ما أعد للذين اتقوا الموعودين بالنصر المشروط بتقواهم وصبرهم في قوله : {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم} [ آل عمران : 125 ] ، {وإن تصبرو وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} [ آل عمران : 120 ] الموصوفين بما تقدم في قوله تعالى في المقصد الثالث من دعائم هذه السورة {قل أأنبئكم بخير من ذلك للذين اتقوا} [ آل عمران : 15 ] ، على وجه أبلغ من ذلك بالمسارعة إلى ما يوجب المغفرة من الرب اللطيف بعباده ، وإلى ما يبيح الجنة أعدت للمتقين الذين تقدمت الإشارة إليهم في قوله تعالى : {واتقوا الله لعلكم تفلحون} [ آل عمران : 130 ] الذين يتخلون عن الأموال وجميع مصانع الدنيا فلا تمتد أعينهم إلى الازدياد من شيء منها ويتحلون بالزهد فيها والإنفاق لها في سبيل الله في مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهاد وغيره في السراء والضراء ، لا بالإقبال على الدنيا من غنيمة أو غيرها إقبالاً يخلّ ببعض الأوامر ، وبالصبر بكظم الغيظ عمن أصيب منهم بقتل او جراحة ، والعفو عمن يحسن العفو عنه في التمثيل بالقتل في أحد أو غير ذلك إرشاداً إلى أن لا يكون جهادهم إلا غضباً لله تعالى ، لا مدخل فيه لحظ من حظوظ النفس أصلاً ، وبالصبر أيضاً على حمل النفس على الإحسان إلى من أساء بذلك أو غيره كما فعل صلى الله عليه وسلم في فتح مكة بعد أن كان حلف ليمثلن بسبعين منهم مكان تمثيلهم بسيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله عمه حمزة ابن ساقي الحجيج عبد المطلب ، (16/370)
فإنه وقف صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الذي كان أعظم أيام الدنيا الذي أثبت فيه نور الإسلام عل مشرق الأرض ومغربها ، فهزم ظلام الكفر وضرب أوتاده في كل قطر على درج الكعبة وهم في قبضته فقال : " ما تظنون إني فاعل بكم يا معشر قريش ؟ قالوا : خيراً! أخ وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء " ، وبالاستغفار عنعمل الفاحشة من خذلان المؤمنين أو أكل الربا أو التولي عن قتال الأعداء ، وعن ظلم النفس من محبة الدنيا الموجب للإقبال على الغنائم التي كانت سبب الانهزام أو يغر ذلك مما أراد الله تعالى فقال تعالى : {وسارعوا} أي بأن تفعلوا في الطاعات فعل من يسابق خصماً {إلى مغفرة من ربكم} أي المحسن إليكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب بعمل ما يوجبها من التوبة والإخلاص وكل ما يزيل العقاب {وجنة} أي عظيمة جداً بعمل كل ما يحصل الثواب ، ثم بين عظمها بقوله : {عرضها السماوات والأرض} أي كعرضهما ، فكيف بطولها ، ويحتمل أن يكون كطولهما ، فهي أبلغ من آية الحديد - كما يأتي لما يأتي ، وعلى قراءة {سارعوا} بحذف الواو يكون التقدير : سارعوا بفعل ما تقدم ، فهو في معناه ، لا مغائر له. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 156 ـ 157}
وقال الآلوسى :
{ وَسَارِعُواْ } عطف على { أَطِيعُواْ } [ آل عمران : 132 ] أو { اتقوا } [ آل عمران : 131 ].(16/371)
وقرأ نافع وابن عامر بغير واو على وجه الاستئناف وهي قراءة أهل المدينة والشام ، والقراءة المشهورة قراءة أهل مكة والعراق أي بادروا وسابقوا ، وقرىء بالأخير { إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } أي أسبابهما من الأعمال الصالحة ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه سارعوا إلى أداء الفرائض ، وعن ابن عباس إلى الإسلام ، وعن أبي العالية إلى الهجرة ، وعن أنس بن مالك إلى التكبيرة الأولى ، وعن سعيد بن جبير إلى أداء الطاعات ، وعن يمان إلى الصلوات الخمس ؛ وعن الضحاك إلى الجهاد ، وعن عكرمة إلى التوبة ، والظاهر العموم ويدخل فيه سائر الأنواع ، وتقديم المغفرة على الجنة لما أن التخلية مقدمة على التحلية ، وقيل : لأنها كالسبب لدخول الجنة ، و{ مِنْ } متعلقة بمحذوف وقع نعتاً لمغفرة والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار مزيد اللطف بهم ووصف المغفرة بكونها من الرب دون الجنة تعظيماً لأمرها وتنويهاً بشأنها. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 56}
فصل
قال الفخر :
قرأ نافع وابن عامر {سارعوا} بغير واو ، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام ، والباقون بالواو ، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان ، فمن قرأ بالواو عطفها على ما قبلها والتقدير أطيعوا الله والرسول وسارعوا ، ومن ترك الواو فلأنه جعل قوله : {سارعوا} وقوله : {أَطِيعُواْ الله} [ آل عمران : 132 ] كالشيء الواحد ، ولقرب كل واحد منها من الآخر في المعنى أسقط العاطف.
والتنوين في { مَغْفِرَةٍ } للتعظيم ويؤيده الوصف ، وكذا في { جَنَّةُ } ويؤيده أيضاً وصفها بقوله سبحانه : { عَرْضُهَا السماوات والأرض }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 5}. بتصرف يسير.(16/372)
فصل
قال الفخر :
قالوا : في الكلام حذف والمعنى : وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن الموجب للمغفرة ليس إلا فعل المأمورات وترك المنهيات ، فكان هذا أمرا بالمسارعة إلى فعل المأمورات وترك المنهيات ، وتمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية في أن ظاهر الأمر يوجب الفور ويمنع من التراخي ووجهه ظاهر ، وللمفسرين فيه كلمات :
إحداها : قال ابن عباس : هو الإسلام أقول وجهه ظاهر ، لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير ، والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الاسلام.
الثاني : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : هو أداء الفرائض ، ووجهه أن اللفظ مطلق فيجب أن يعم الكل.
والثالث : أنه الإخلاص وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه : ووجهه أن المقصود من جميع العبادات الإخلاص ، كما قال : {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [ البينة : 5 ]
الرابع : قال أبو العالية : هو الهجرة.
والخامس : أنه الجهاد وهو قول الضحاك ومحمد بن اسحاق ، قال : لأن من قوله : {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [ آل عمران : 121 ] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أحد فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصة بما يتعلق بباب الجهاد.
السادس : قال سعيد بن جبير : انها التكبيرة الأولى.
والسابع : قال عثمان : انها الصلوات الخمس.
والثامن : قال عكرمة : إنها جميع الطاعات.
لأن اللفظ عام فيتناول الكل.
والتاسع : قال الأصم : سارعوا ، أي بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب ، والوجه فيه أنه تعالى نهى أولا عن الربا ، ثم قال : {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تقدم النهي عنه ، (16/373)
والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات والتوبة عن جميع المحظورات ، لأن اللفظ عام فلا وجه في تخصيصه ، ثم أنه تعالى بين أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة ، وإنما فصل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب ، والجنة معناها إيصال الثواب ، فجمع بينهما للإشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين ، فأما وصف الجنة بأن عرضها السموات : فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة ؛ لأن نفس السموات لا تكون عرضا للجنة ، فالمراد كعرض السموات والأرض. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 5}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض } تقديره كعرض فحذف المضاف ؛ كقوله : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] أي إِلا كخلق نفس واحدة وبعثها.
قال الشاعر :
حَسَبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتي عَنَاقاً . . .
وما هي وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ
يريد صوت عناق.
نظيره في سورة الحديد { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض } [ الحديد : 21 ]. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 203 ـ 204}(16/374)
فصل
قال الثعالبى :
وقوله سبحانه : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والأرض } ، أي : كعرض السموات والأرض ، قال ابنُ عبَّاس في تفسير الآية : تقرن السمواتُ والأرَضُونَ بعضها إلى بعض ؛ كما تبسطُ الثيابُ ، فذلك عَرْضُ الجَنَّة ؛ ولا يَعْلَمُ طولَهَا إلا اللَّه سبحانه ؛ وفي الحديثِ الصحيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَسَيَأْتِي عَلَيْهَا يَوْمٌ يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهَا كَمَا تَزْدَحِمُ الإبِلُ ، إذَا وَرَدَتْ خُمُصاً ظِمَاءً " وفي الصحيح : " إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ المُجِدُّ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا " فهذا كلُّه يقوِّي قولَ ابْنِ عَبَّاسِ ، وهو قولُ الجُمْهور : "إنَّ الجنَّة أَكْبرُ من هذه المخلوقاتِ المذْكُورة ، وهي ممتدَّة على السَّماء ؛ حيْثُ شاء اللَّه تعالى ، وذلك لا يُنْكَرُ ، فإن في حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إلاَّ كَدَرَاهِمَ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ، وَمَا الكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ". قال * ع * : فهذه مخلوقاتٌ أعظم بكثير جدًّا من السمواتِ والأرضِ ، وقدرةُ اللَّه أعْظَمُ مِنْ ذلك كلِّه ، قلتُ : قال الفَخْر وفي الآية وجْه ثانٍ ؛ أنَّ الجنَّة التي عرضُها مثْلُ عَرْضِ السمواتِ والأرضِ ، إنما تكونُ للرَّجُل الواحدِ ؛ لأن الإنسان يَرْغَبُ فيما يكون مِلْكاً له ، فلا بُدَّ أَنْ تصير الجَنَّة المملوكة لكلِّ أحد مقْدَارُها هكذا. اه.(16/375)
وقُدْرَةُ اللَّه تعالى أوسع ، وفَضْلُه أعظم ، وفي "صحيح مسلم" ، والترمذيِّ ، مِنْ حديث المُغَيرة بْنِ شُعْبَة ( رضي اللَّه عنه ) : " في سُؤَال موسى رَبَّهُ عَنْ أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً ، وَأَنَّهُ رَجُلٌ يَأْتِي بَعْدَ مَا يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ ، فَيُقَالُ لَهُ : أترضى أَنْ يَكُونَ لَكَ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ : رَضِيتُ ، أَيْ رَبِّ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ ، فَقَالَ فِي الخَامِسَةِ : رَضِيتُ ، أيْ رَبِّ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَكَ ذَلِكَ ، وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ ، فَيَقُولُ : رَضِيتُ ، أَيْ رَبِّ ، فَيُقَالُ لَهُ : فَإنَّ لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشتهت نَفْسُكَ ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ "
، قال أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفي البخاريِّ من طريقِ ابْنِ مسعودٍ ( رَضِيَ اللَّه عَنه ) : " إنَّ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّة ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً ، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ : ادخل الجَنَّةَ ، فَيَقُولُ : رَبِّ ، الجَنَّةُ ملأى ، فَيَقُولُ لَهُ : إنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مَرَّاتٍ " أ هـ .(16/376)
وفي "جامع التِّرمذيِّ" ، عن ابنِ عُمَرَ ( رضي اللَّه عنهما ) ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إلى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً " الحديثَ ، قال أبو عيسى ، وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مِنّ غير وَجْهٍ ، مرفوعًا وموقوفًا ، وفي الصَّحيحِ ما معناه : " إذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ ، تبقى فِيهَا فَضْلَةٌ ، فَيُنْشِيءُ اللَّهُ لَهَا خَلْقاً " ، أَوْ كما قال. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 210 ـ 211}
أسئلة وأجوبة :
السؤال الأول : ما معنى أن عرضها مثل عرض السموات والأرض وفيه وجوه :
الأول : أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله.
والثاني : أن الجنة التي يكون عرضها مثل عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملكا ، فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدارها هذا.
الثالث : قال أبو مسلم : وفيه وجه آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسموات والأرض على سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة ، تقول إذا بعت الشيء بالشيء الآخر : عرضته عليه وعارضته به ، فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر ، وكذا أيضا معنى القيمة لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء بالشيء حتى يكون كل واحد منهما مثلا للآخر.(16/377)
الرابع : المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله : {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} [ هود : 107 ] فان أطول الأشياء بقاء عندنا هو السموات والأرض ، فخوطبنا على وفق ما عرفناه ، فكذا ههنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 6}
وقال القرطبى :
واختلف العلماء في تأويله ؛ فقال ابن عباس : تُقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض ؛ فذلك عرض الجنة ، ولا يعلم طولها إلا الله.
وهذا قول الجمهور ، وذلك لا ينكر ؛ فإن في حديث أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاةٍ من الأرض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض " فهذه مخلوقات أعظم بكثير جداً من السموات والأرض ، وقدرة الله أعظم من ذلك كله.
وقال الكلبي : الجِنَان أربعة : جنة عدن وجنة المأوى وجنة الفردوس وجنة النعيم ، وكل جنة منها كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض.
وقال إِسماعيل السدي : لو كسرت السموات والأرض وصرن خردلا ، فبِكل خردلة جنة عرضها كعرض السماء والأرض.
وفي الصحيح : " إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنَّى ويتمنَّى حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى : لك ذلك وعشرة أمثاله " رواه أبو سعيد الخدري ، خرجه مسلم وغيره.
(16/378)
و " قال يعلى بن أبي مُرّة : لقيتُ التَنُّوخي رسول هِرقْلَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بِحمْص شيخا كبيرا قال : قدِمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلا عن يساره ، قال : فقلت من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية ؛ فإذا كتاب صاحبي : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار" "
وبمثل هذه الحجة استدل الفاروق على اليهود حين قالوا له : أرأيت قولكم "وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ" فأين النار ؟ فقالوا له : لقد نزعت بما في التوراة.
ونَبَّه تعالى بالعرض على الطول لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض ، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض.
قال الزُّهري : إنما وصف عرضها.
فأما طولها فلا يعلمه إلا الله ؛ وهذا كقوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } فوصف البِطَانَة بأحسن ما يعلم من الزينة ، إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن وأَتقن من البطائن. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 204 ـ 205}
السؤال الثاني : لم خص العرض بالذكر.
والجواب فيه وجهان :
الأول : أنه لما كان العرض ذلك فالظاهر أن الطول يكون أعظم ونظيره قوله : {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [ الرحمن : 54 ] وإنما ذكر البطائن لأن من المعلوم أنها تكون أقل حالا من الظهارة ، فاذا كانت البطانة هكذا فكيف الظهارة ؟ فكذا ههنا اذا كان العرض هكذا فكيف الطول
والثاني : قال القفال : ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال هذه دعوى عريضة ، أي واسعة عظيمة ، والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ، وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة.(16/379)
السؤال الثالث : أنتم تقولون : الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أن المراد من قولنا انها فوق السموات وتحت العرش ، قال عليه السلام : في صفة الفردوس " سقفها عرش الرحمن " وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إنك تدعو إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار.
" والمعنى والله أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب ، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل ، وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء ؟ فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة ، قيل فأين هي ؟ قال : فوق السموات السبع تحت العرش.
والوجه الثاني : أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن ، بل الله تعالى يخلقهما بعد قيام القيامة ، فعلى هذا التقدير لا يبعد أن تكون الجنة مخلوقة في مكان السموات ، والنار في مكان الأرض ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 6}
قوله تعالى : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}
قال الآلوسى :
{ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي هيئت للمطيعين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإنما أضيفت إليهم للإيذان بأنهم المقصودون بالذات وإن دخول غيرهم كعصاة المؤمنين والأطفال والمجانين بطريق التبع وإذا حملت التقوى في غير هذا الموضع ، وأما فيه فبعيد على التقوى عن الشرك لا ما يعمه وسائر المحرمات لم نستغن عن هذا القول أيضاً لأن المجانين مثلاً لا يتصفون بالتقوى حقيقة ولو كانت عن الشرك كما لا يخفى.(16/380)
وجوز أن يكون هناك جنات متفاوتة وأن هذه الجنة للمتقين الموصوفين بهذه الصفات لا يشاركهم فيها غيرهم لا بالذات ولا بالتبع ولعلها الفردوس المصرح بها في قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس " وفيه تأمل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 57}
فائدة
قال الفخر :
قوله تعالى : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}
ظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وقد سبق تقرير ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 6}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قرأ نافعُ ، وابْنُ عَامِرٍ : سارعوا - بدون واو - وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام.
والباقون بواو العطف ، وكذلك هي في مصاحف مكةَ والعراقِ ومصحف عثمانَ.
فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك ، أو أراد العطف ، لكنه حذف العاطفَ ؛ لقُرْب كل واحد منهما من الآخر في المعنى - كقوله تعالى : { ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] ، فإن قوله : { وسارعوا } ، وقوله : { وأطيعوا } كالشيء الواحد ، وقد تقدم ضعف هذا المذهب.
ومن أثبت الواو عطف جملة أمريةً على مثلها ، وبعد إتباع الأثر في التلاوة ، أتبع كل رسم مصحفه.
ورَوَى الكِسَائِيُّ : الإمالة في { وسارعوا } ، و{ أولئك يُسَارِعُونَ } [ المؤمنون : 61 ] ، و{ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات } [ المؤمنون : 56 ] وذلك لمكان الراء المكسورة.
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } صفة لِ " مَغْفِرَةٍ " ، و" مِنْ " للابتداء مجازاً.
فصل
قال بعضهم : في الكلام حذف ، والتقدير : وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم.
وفيه نظر ؛ لأن الموجب للمغفرة ، ليس إلا أفعال المأمورات ، وترك المنهيات ، فكان هذا أمراً بالمسارعة إلى فعل المأمورات ، وترك المنهيات.(16/381)
فصل
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى : "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض..الآية" ، وفى سورة الحديد : "سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض..الآية" ، والمراد فى الموضعين الحث على المبادرة إلى أفعال البر وجزيل الثواب للممتثل وقد اختلفت عبارة الأمر بذلك فى الموضعين فحذف المضاف فى الأولى وجئ فى الثانية بكاف التشبيه عوضا منه وقيل فى الأولى : "عرضها السماوات" على الجميع وأفرد فى الثانية فقيل : "عرضها كعرض السماء والأرض" فيها ثلاثة أسئلة.
والجواب عن الأول والله أعلم : أن المسارعة إلى الشئ قبل مسابقته قال تعالى : "أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون" وقد أوضحنا فى كتاب البرهان أن ترتيب السور بتوقيف على أصح المأخذين وأما ترتيب الآى فلا توقف فيه وأن ذلك كله معتمد على فيه غير ترتيب النزول ، وإذا ثبت هذا فوجه تقديم لفظ"سارعوا" تقديم المسارعة ووجه تأخير سابقوا بناء المسابقة على المسارعة ، ألا ترى أن المسارع إلى الشئ قد يحصل له ما سارع اليه وقد لا يحصل ولا يقال فى الغالب سبق إلا فيمن تحصل له مطلوبه هذا هو الأكثر والمسارعة متقدمة فى الرتبة قال تعالى : "أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون" وقال تعالى : "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" أى ثبتت وحقت لهم وعن على رضى الله عنه : سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وثنى أبو بكر وثلث عمر... ، وقيل فى قوله تعالى : "فالسابقات سبقا" أنها الملائكة تسبق الجن[إيصال الوحى إلى الأنبياء] فلما كانت المسارعة والمسابقة على ما ذكرنا ورد المتقدم فى الترتيب أولا والمتأخر ثانيا مراعاة للترتيب.(16/382)
والجواب عن الثانى : أن آية آل عمران على حذف المضاف كما تقدم أى عرضها مثل عرض السماوات والأرض وقد أفصحت آية الحديد بما يقوم مقام هذا المضاف ويحصل معناه وهو كاف التشبيه إذ معناها معنى مثل وحذف المضاف مما يكون كثيرا عند قصد المبالغة وكذا جعل الشئ نفس الشئ وهو مما يتقدم فى آية آل عمران وهو نحو قول الشاعر[رؤبة] :
إن الربيع الجود والخريفا يدا أبى العباس والصيوفا
وهذا كثير واليه يرجع الوارد فى قولهم : نهارك صائم وليلك قائم وباب ذلك مما يقصد به المبالغة فيجعل نفس الشئ وأنشد سيبويه رحمه الله نحوا من ذلك.
أما النهار ففى قيد وسلسلة والليل فى بطن منحوت من الساج
فجعل النهار فى قيد وسلسلة وجعل الليل فى بطن منحوت من السج مبالغة وإنما المجعول الشخص وقوله تعالى : "عرضها السماوات والأرض" يمكن إلحاقه بهذا القبيل وإن ظن أنه يباينه.
والجامع قصد المبالغة كأن السماوات والأرض إذا أوصل بعضها ببعض مصطفا نفس عرض الجنة ومن أبيات الكتاب :
لقد لمتنا يا أم غيلان فى السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
فنفى النوم عن الليل حين جعله نفس الشخص مبالغة كما فى البيت قبل ويمكن فى هذا كله حذف المضاف أى ذو ليل المطى وذو النهار وذو الليل.
قال الإمام[سيبويه]رحمه الله لما أنشد هذا البيت جعله للاسم ومن هذا الضرب ما يتخرج على حذف المضاف ويمتنع ما سواه نحو قوله[النابغة الجعدى] :
كأن غديرهم بجنوب سلى نعام قاق فى بلد قفار
أى كأن غديرهم غدير نعام قاق ، والغدير الصوت(16/383)
وتخريج آية آل عمران على هذا أوضح وكلا الضريبن يحرز المبالغة وبالجملة فقصد المبالغة فى مثل ما تقدم يستلزم فى الغالب الإيجاز إما بالحذف وإما بجعل الشئ نفس الشئ أو بتكرر لفظ يفهم بتكرره التهويل والتعظيم ويقوم مقام أوصاف وذكر أهوال كقوله تعالى : "الحاقة ما الحاقة" و"القارعة ما القارعة" ، وقد ذكر سيبويه رحمه الله هذه الضروب فى أبواب شتى لافتراقها فى أحكام تقتضى تفصيل التبويب مع اتفاقها فى ما ذكرنا وفى جرى الإيجاز فى جميعها ولما اتصل بقوله"عرضها" فى آية آل عمران وهو مبتدأ والخبر عنه مجموع فقيل"السماوات" فأفصح الجمع ما مهدناه من قصد المبالغة والتعظيم ثم أتبع ذلك ما يحرز مقصود ذلك من التعظيم والمبالغة أيضا وهو وصف من أعدت له الجنة الموصوفة ووسمهم بالمتقين وهو الذين وفوا بالإيمان وتوابعه التى بها يكمل مما ذكر فى آية"ليس البر" من لدن قوله تعالى : "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر" إلى قوله"أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون" ، ولم يكن قوله تعالى : "عرضها السماوات" بالجمع كقوله فى آية الحديد"كعرض السماء" فأفرد ولا قوله"أعدت للمتقين" كقوله فى آية الحديد"أعدت للذين آمنوا بالله ورسله" فلما تضمنت آية آل عمران من قصد المبالغة من هذه الجهات والقرائن التى ذكرنا ما لم تتضمن آية الحديد ناسب ذلك جعل العرض نفس السماوات والأرض من غير إفصاح بالمضاف المقدر الذى لابد منه عند بيان المعنى على ما تقدم ولما لم يقصد فى آية الحديد ذلك أفصح فيها بما يعطى معنى مثل وهى كاف التشبيه وورد كل على ما يناسب ويلائم.(16/384)
فإن قيل : لم خصت آية آل عمران بما تمهد من قصد المبالغة والتعظيم دون آية الحديد قلت : لبنائها على الحض على الجهاد وعظيم فضله وذكر قصة بدر واحد من لدن قوله"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال" إلى ما بعد الآية المتكلم فيها ولما يكن فى آية الحديد شئ من ذلك ناسب كلا ما ورد فيه والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل حـ 1 صـ 122 ـ 125}(16/385)
قوله : { عَرْضُهَا السماوات والأرض } [ لا بد فيه من حَذْف ؛ لأن نفس السموات ] لا تكون عرضاً للجنة ، فالتقدير : عرضها مثل عرض السموات والأرض ، يدل على ذلك قوله : " كعرض " ، والجملة في محل جر صفة لِ " جَنَّةٍ ".
قوله : { أُعِدَّتْ } يجوز أن يكون محلها الجَرّ ، صفة ثانية لِ " جَنَّةٍ " ، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من " جَنَّةٍ " ؛ لأنها لما وُصِفَتْ تخصَّصت ، فقَرُبَت من المعارف.
قال أبو حيان : " ويجوز أن يكون مستأنفاً ، ولا يجوز أن يكون حالاً من المضاف إليه ؛ لثلاثة أشياء :
أحدها : أنه لا عامل ، وما جاء من ذلك متأوَّل على ضَعْفه.
والثاني : أن العرض - هنا - لا يراد به : المصدر الحقيقي ، بل يراد به : المسافة.
الثالث : أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال ، وصاحبه بالخبر ".
يعني بالخبر : قوله : { السماوات } ، وهو رَدٌّ صحيح. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 534 ـ 539}. بتصرف يسير.(16/386)
قوله تعالى : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما وصف الجنة بين أهلها بقوله : {أعدت} أي الآن وفرغ منها {للمتقين} وهم الذين صارت التقوى شعارهم ، فاستقاموا واستمروا على الاستقامة ، ثم وصف المتقين بما تضمن تفصيل الطاعة المأمور بها قبل إجمالاً على وجه معرف بأسباب النصر إلى آخر ما قص من خبر الأنبياء الماضين ومن معهم من المؤمنين بادئاً بما هو أشق الأشياء ولا سيما في ذلك الزمان من التبر ومن المال الذي هو عديل الروح فقال : {الذين ينفقون} أي مما آتاهم الله ، وهو تعريض بمن أقبل على الغنيمة {في السراء والضراء} أي في مرضاة الله في حال الشدة والرخاء.
ولما ذكر أشق ما يترك ويبذل أتبعه أشق ما يحبس فقال : {والكاظمين} أي الحابسين {الغيظ} عن أن ينفذوه بعد أن امتلؤوا منه.
ولما كان الكاظم غيظه عن أن يتجاوز في العقوبة قد لا يعفو حثه على العفو بقوله : {والعافين} وعمم في الحكم بقوله : {عن الناس} أي ظلمهم لهم ولو كانوا قد قتلوا منهم أو جرحوهم.
ولما كان التقدير : فإن الله يحبهم لإحسانهم عطف عليه تنويهاً بدرجة الإحسان قوله : {والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب المحسنين} أي يكرمهم بأنواع الإكرام على سبيل التجديد والاستمرار. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 157}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بين أن الجنة معدة للمتقين ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الإنسان من اكتساب الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 7}
قوله تعالى : {الذين يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء والضراء}
فصل
قال الفخر :
فيه وجوه :
الأول : أن المعنى أنهم في حال الرخاء واليسر والقدرة والعسر لا يتركون الإنفاق ، وبالجملة فالسراء هو الغنى ، والضراء هو الفقر.
يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب ،
والثاني : أن المعنى أنهم سواء كانوا في سرور أو في حزن أو في عسر أو في يسر فإنهم لا يدعون الإحسان إلى الناس ،
الثالث : المعنى أن ذلك الإحسان والإنفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم ، أو ساءهم بأن كان على خلاف طبعهم فإنهم لا يتركونه ، وإنما افتتح الله بذكر الإنفاق لأنه طاعة شاقة ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة اليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 7}(16/387)
وقال الآلوسى :
{ فِى السَّرَّاء والضراء } أي في اليسر والعسر قاله ابن عباس ؛ وقيل : في حال السرور والاغتمام ، وقيل : في الحياة وبعد الموت بأن يوصي ، وقيل : فيما يسر كالنفقة على الولد والقريب وفيما يضر كالنفقة على الأعداء ، وقيل : في ضيافة الغني والإهداء إليه وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم ، وأصل السراء الحالة التي تسر والضراء الحالة التي تضر ، والمتبادر ما قاله الحبر ، والمراد إما ظاهرهما أو التعميم كما عهد في أمثاله أي أنهم لا يخلون في حال مّا بإنفاق ما قدروا عليه من كثير أو قليل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 58}
وقال ابن الجوزى :
ومعنى الآية : أنهم رغبوا في معاملة الله ، فلم يبطرهم الرخاء ، فينسيهم ، ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 460}
قوله تعالى : {والكاظمين الغيظ}
قال الفخر :
ومعنى قوله : {والكاظمين الغيظ} الذين يكفون غيظهم عن الإمضاء ويردون غيظهم في أجوافهم ، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم وهو كقوله : {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} [ الشورى : 37 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 7}
لطيفة
قال القرطبى :
الغيظ أصل الغضب ، وكثيرا ما يتلازمان لكن فُرْقَانُ ما بينهما.
أنّ الغيظ لا يظهر على الجوارح ، بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل مّا ولا بدّ ؛ ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم.
وقد فسر بعض الناس الغيظ بالغضب ؛ وليس بجيد ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 207}
فائدة
قال أبو السعود :
{ والكاظمين الغيظ } عطفٌ على الموصول ، والعدولُ إلى صيغة الفاعلِ للدِلالة على الاستمرار ، وأما الإنفاقُ فحيث كان أمراً متجدداً عبّر عنه بما يفيد الحدثَ وهو التجدد. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 85}(16/388)
فصل
قال الفخر :
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا " وقال عليه السلام : لأصحابه " تصدقوا " فتصدقوا بالذهب والفضة والطعام ، وأتاه الرجل بقشور التمر فتصدق به ، وجاءه آخر فقال والله ما عندي ما أتصدق به ، ولكن أتصدق بعرضي فلا أعاقب أحدا بما يقوله في حديثه ، فوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوم ذلك الرجل وفد ، فقال عليه السلام : " لقد تصدق منكم رجل بصدقة ولقد قبلها الله منه تصدق بعرضه " وقال عليه السلام : " من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء " وقال عليه السلام :
" ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء ومن جرعة غيظ كظمها " وقال عليه السلام " ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 7}
قوله تعالى : {والعافين عَنِ الناس}
فصل
قال الفخر :
قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا ، فنهي المؤمنون عن ذلك وندبوا إلى العفو عن المعسرين.(16/389)
قال تعالى : عقيب قصة الربا والتداين {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [ البقرة : 280 ] ويحتمل أن يكون كما قال في الدية : {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء} [ البقرة : 178 ] إلى قوله : {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [ البقرة : 280 ] ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مثلوا بحمزة وقال : " لأمثلن بهم " فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة ، فكان تركه فعل ذلك عفوا ، قال تعالى : في هذه القصة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين} [ النحل : 126 ] قال صلى الله عليه وسلم : " لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه " وروي عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه : ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء اليك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 8}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { والعافين عَنِ الناس } العفو عن الناس أَجلُّ ضُرُوب فعل الخير ؛ حيث يجوز للإنسان أن يعفو وحيث يتّجه حقه.
وكل من استحق عقوبة فتُرِكت له فقد عُفي عنه.
واختلف في معنى "عَن النَّاسِ" فقال أبو العالية والكلبي والزجاج : { والعافين عن الناس } يريد عن المماليك.
قال ابن عطية : وهذا حسن على جهة المثال ؛ إذ هُم الخَدَمَة فهم يذنبون كثيرا والقدرة عليهم متيسرة ، وإنفاذ العقوبة سهل ؛ فلذلك مثل هذا المفسَّر به.(16/390)
ورُوي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مَرَقَة حارّة ، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه ، فأراد ميمون أن يضربها ، فقالت الجارية : يا مولاي ، استعمل قول الله تعالى : { والكاظمين الغيظ }.
قال لها : قد فعلت ، فقالت : اعمل بما بعده { والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }.
فقال : قدَ عَفوتُ عنك.
فقالت الجارية : { والله يُحِبُّ المحسنين }.
قال ميمون : قد أحسنت إليكِ ، فأنت حرّة لوجه الله تعالى.
ورُوي عن الأحنف بن قيس مثله.
وقال زيد ابن سلم : { والعافين عَنِ الناس } عن ظلمهم وإساءتهم.
وهذا عام ، وهو ظاهر الآية.
وقال مقاتل بن حيان في هذه الآَية : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك : " إنّ هؤلاء من أمتي قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيرًا في الأمم التي مضت " فمدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم فقال : { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُون } [ الشورى : 37 ] وأثنى على الكاظمين الغيظ بقوله : { والعافين عَنِ الناس } ، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك.
ووردت في كظم الغيظ والعفو عن الناس وملْك النفس عند الغضب أحاديثُ ؛ وذلك من أعظم العبادة وجِهادِ النفس ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصُّرَعَةِ ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " وقال عليه السلام : " ما من جرعة يتجرّعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعةٍ غيظٍ في الله " وروى أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما أشدّ من كل شيء ؟ قال : "غضب الله".
قال فما ينجي من غضب الله ؟ قال : "لا تغضب" قال العرجي :
وإذا غضبت فكن وَقُوراً كاظما . . .
للغيظ تَبْصُر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفا تَصبُّر ساعة . . .
يرضى بها عنك الإله وتُرفع
وقال عروة بن الزبير في العفو :
لن يبلغ المجدَ أقوامٌ وإن شرفوا . . .(16/391)
حتى يُذِلُوا وإن عَزوا لأقوام
ويُشْتَموا فترى الألوانَ مُشرِقَة . . .
لا عَفْو ذُلِّ ولكن عَفْو إكرامِ
وروى أبو داود وأبو عيسى الترمذي عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحورِ شاء " قال : هذا حديث حسن غريب.
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا كان يوم القيامة ناد منادٍ من كان أجره على الله فليدخل الجنة فيقال من ذا الذي أجره على الله فيقوم العافون عن الناس يدخلون الجنة بغير حساب " ذكره الماوردي.
وقال ابن المبارك : كنت عند المنصور جالسا فأمر بقتل رجل ؛ فقلت : يا أمير المؤمنين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ بين يدي الله عز وجل من كانت له يد عند الله فليتقدّم فلا يتقدّم إلا من عفا عن ذنب " فأمر بإطلاقه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 207 ـ 208}
قوله تعالى : {والله يُحِبُّ المحسنين}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {والله يُحِبُّ المحسنين} فاعلم أنه يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون ، وأن تكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء.
واعلم أن الإحسان إلى الغير إما أن يكون بايصال النفع اليه أو بدفع الضرر عنه.(16/392)
أما إيصال النفع اليه فهو المراد بقوله : {الذين يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء والضراء} ويدخل فيه انفاق العلم ، وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين ، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الاساءة باساءة أخرى ، وهو المراد بكظم الغيظ ، وإما في الآخرة وهو أن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة ، وهو المراد بقوله تعالى : {والعافين عَنِ الناس} فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير ، ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال : {والله يُحِبُّ المحسنين} فان محبة الله للعبد أعم درجات الثواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 8}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { والله يُحِبُّ المحسنين } أي يثيبهم على إحسانهم.
قال سَري السّقَطي : الإحسان أن تحسن وقت الإمكان ، فليس كل وقت يمكنك الإحسان ؛ قال الشاعر :
بادِرْ بِخَيَرٍ إذا ما كنتَ مُقْتَدراً . . .
فليس في كلَّ وقتٍ أنت مُقتِدرُ
وقال أبو العباس الجُمَّاني فأحسن :
ليس في كُل ساعةٍ وأوَانٍ . . .
تَتَهيّأُ صنائعُ الإحسان
وإذا أَمْكَنتْ فبادِر إِليها . . .
حذَراً من تَعَذُّر الإمكان. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 208 ـ 209}(16/393)
وقال الآلوسى :
{ والله يُحِبُّ المحسنين } تذييل لمضمون ما قبله "وأل" إما للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولاً أولياً وإما للعهد عبر عنهم بالمحسنين على ما قيل : إيذاناً بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ويمكن أن يقال : الإحسان هنا بمعنى الإنعام على الغير على وجه عار عن وجوه القبح ، وعبر عنهم بذلك للإشارة إلى أنهم في جميع تلك النعوت محسنون إلى الغير لا في الانفاق فقط.
ومما يؤيد كون الإحسان هنا بمعنى الإنعام ما أخرجه البيهقي أن جارية لعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها فقالت : إن الله تعالى يقول : { والكاظمين الغيظ } فقال لها : قد كظمت غيظي قالت : { والعافين عَنِ الناس } قال : قد عفا الله تعالى عنك قالت : { والله يُحِبُّ المحسنين } قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى ، ورجح بعضهم العهد على الجنس بأنه أدخل في المدح وأنسب بذكره قبل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 59}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { الذين يُنفِقُونَ } يجوز في محله الألقاب الثلاثة ، فالجر على النعت ، أو البدل ، أو البيان ، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح ، ولما أخبر بأن الجنة مُعَدَّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث ، حتى يُقْتَدَى بهم في تلك الصفات.
قوله : { والكاظمين الغيظ } يجوز فيه الجر والنَّصب على ما تقدم قبله.
والكَظْم : الحبس ، يقال : كظم غيظه ، أي : حبسه ، وكَظَم القربة والسقاء كذلك ، والكظم - في الأصل - مخرج النفَس ، يقال : أخذ بكظمه ، أي : أخذ بمجرى نفسه.(16/394)
والكُظوم : احتباس النفس ، ويُعَبَّر به عن السكوت ، قال المبرد : تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه ، يقال : كَظَمْتُ السِّقَاءَ ، إذا ملأته وسددت عليه ، وكل ما سددت من مجرى ماء ، أو باب ، أو طريق ، فهو كَظْم ، والذي يُسَدّ به يقال له : الكظامة والسدادة ، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض : كظامة ، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة ، والمَكْظُوم : الممتلئ غيظاً ، وكأنه - لغيظه لا يستطيع أن يتكلم ، ولا يُخرج نفسه ، والكظيم : الممتلئ أسَفاً.
قال أبو طالب : [ الكامل ]
فَحَضَضْتُ قَوْمِي ، وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ... وَالْقَوْمُ مِنْ خَوْفِ المَنَايَا كُظَّزُ
وكظم البعيرُ جِرَّتَه ، إذا رَدَّها في جَوْفه ، وترك الاجترار.
ومنه قول الراعي : [ الكامل ]
فَأفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةِ... مِنْ ذِي الأبَاطِحِ إذْ رَعَيْنَ حَقِيلا
الحقيل ، قيل : نبت.
وقيل : موضع ، فعلى الأول هو مفعول به ، وعلى الثاني هو ظرف ، ويكون قد شذ جره بـ " في " ؛ لأنه ظرف مكان مختص ، ويكون المفعول محذوفاً ، أي : إذْ رعين الكلأ في حقيل ، ولا تقطع الإبلُ جِرَّتَها إلا عند الجهد والفزع فلا تجترّ.
ومنه قول أعشى باهلة يصف رجلاً يكثر نحر الإبل : [ البسيط ]
قَدْ تَكْظِمُ البُزْلُ مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ... حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجْوَافِهَا الْجِرَرُ
والجرر جمع جِرَّة. والكظامة : حلقة من حديد تكون في طرف الميزان تجمع فيها خيوطه ، وهي - أيضاً - السير الذي يُوصَل بوتر القَوْس.
والكظائم : خروق بين البئرين يجري منها الماء إلى الأخرى ، كل ذلك تشبيه بمجرى النفَس وتردّده فيه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 539 ـ 541}. بتصرف يسير.(16/395)
من فوائد ابن عاشور فى الآيتين
قال رحمه الله :
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { سارعوا } دون واو عطف.
تتنزّل جملة { سارعوا} منزلة البيان ، أو بدل الاشتمال ، لِجملة { وأطيعوا الله والرسول } لأنّ طاعة الله والرّسول مسارعة إلى المغفرة والجنَّة فلذلك فُصلت.
ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنّة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصّالحة جاز عطف الجملة على الجملة الأمر بالطّاعة ، فلذلك قرأ بقية العشرة { وسارعوا }.
بالعطف وفي هذه الآية ما ينبئنا بأنَّه يجوز الفصل والوصل في بعض الجمل باعتبارين.
والسرعة المشتقّ منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والفور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة ، ويَجوز أن تكون السرعة حقيقة ، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند النفير كقوله في الحديث : " وإذا استُنْفِرْتُمْ فانفِرُوا ".
والمسارعة ، على التقادير كلّها تتعلّق بأسباب المغفرة وأسباب دخول الجنة ، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلّق بالذات.
وجيء بصيغة المفاعلة ، مجرّدة عن معنى حصول الفعل من جانبين ، قصد المبالغة في طلب الإسراع ، والعرب تأتي بما يدلّ في الوضع على تكرّر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير ، ونظيره التثنية في قولهم : لبيك وسعديك ، وقوله تعالى : { ثم ارجع البصر كرتين } [ الملك : 4 ].
وتنكير ( مغفرة ] ووصلها بقوله : { من ربكم } مع تأتّي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربّكم ، لقصد الدّلالة على التَّعظيم ، ووصف الجنة بأنّ عرضها السماوات والأرض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التَّصريح بحرف التَّشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد.(16/396)
والعَرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول ، وليس هو المراد هنا ، ويطلق على الاتِّساع لأنّ الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق ، وهذا كقول العُديل :
ودونَ يدِ الحَجَّاج منْ أنْ تنالني
بساط بأيدِي الناعِجاتتِ عرِيضُ...
وذِكر السماوات والأرض جار على طريقة العرب في تمثيل شدّة الاتّساع.
وليس المراد حقيقة عرض السماوات والأرض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنَّة مخلوقة الآن ، وأنَّها في السماء ، وقيل : هو عرضها حقيقة ، وهي مخلوقة الآن لكنّها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش ، وقد رُوي : العرش سقف الجنة.
وأما من قال : إن الجنّة لم تخلق الآن وستخلق يوم القيامة ، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنّة منهم مُنذر بن سعيد البَلُّوطي الأندلسي الظاهري ، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الَّذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك.
وأدلّة الكتاب والسنّة ظاهرة في أنّ الجنَّة مخلوقة ، وفي حديث رؤيا رآها النَّبيء صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله : " إنّ جبريل وميكاييل قالا له : ارفع رأسك ، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب ، قالا : هذا منزلك ، قال : فقلت : دَعاني أدخُل منزلي ، قالا : إنَّه بقي لك عُمُر لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك ".
أعقب وصف الجنَّة بذكر أهلها لأنّ ذلك ممَّا يزيد التَّنويه به ، ولم يزل العقلاء يتخيّرون حسن الجوار كما قال أبو تمام :
مَنْ مُبْلِغُ أفْنَاءَ يعرُب كلّها
أني بَنيت الجارَ قبل المنزلِ...(16/397)
وجملةُ { أعدّت للمتّقين } استئناف بياني لأنّ ذكر الجنَّة عقب ذكر النَّار الموصوفة بأنَّها أعدّت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرّفوا مَن الذين أعدّت لهم : فإن أريد بالمتَّقين أكمل ما يتحقّق فيه التَّقوى ، فإعدادها لهم لأنَّهم أهلها فضلاً من الله تعالى الّذين لا يلجون النار أصلاً عدلاً من الله تعالى فيكون مقابلَ قوله : { واتقوا النار التي أُعدت للكافرين } [ آل عمران : 131 ] ، ويكون عصاة المؤمنين غير التَّائبين قد أخذوا بحظّ من الدارين ، لمشابهة حالهم حالَ الفريقين عدلاً من الله وفضلاً ، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه ، وأريد المتّقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنَّهم مقدّرون من أهلها في العاقبة.
وقد أجرى على المتَّقين صفات ثناءٍ وتنويه ، هي ليست جماع التَّقوى ، ولكن اجتماعها في محلّها مؤذن بأنّ ذلك المحلّ الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى ، وتلك هي مقاومة الشحّ المُطاع ، والهوَى المتَّبع.
الصفة الأولى : الإنفاق في السَّراء والضّراء.
والإنفاق تقدّم غير مرّة وهو الصدقة وإعطاء المال والسلاح والعُدة في سبيل الله.
والسرّاء فَعْلاء ، اسم لمصدر سرّه سَرّاَ وسُروراً.
والضّراء كذلك من ضَرّه ، أي في حالي الاتّصاف بالفرح والحزن ، وكأنّ الجمعَ بينهما هنا لأنّ السرّاء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم ، والضرّاء فيها ملهاة وقلّة مَوجدة.
فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تَدلّ على أنّ محبَّة نفع الغير بالمال ، الَّذي هو عزيز على النَّفس ، قد صارت لهم خلقاً لا يحجبهم عنه حاجب ولا ينشأ ذلك إلاّ عن نفس طاهرة.
الصفة الثَّانية : الكاظمين الغيظ.(16/398)
وكظم الغيظ إمساكه وإخفاؤه حتَّى لا يظهر عليه ، وهو مأخوذ من كظم القربة إذا ملأها وأمسك فمها ، قال المبرّد : فهو تمثيل للإمساك مع الامتلاء ، ولا شكّ أن أقوى القوى تأثيراً على النَّفس القوّة الغاضبة فتشتهي إظهار آثار الغضب ، فإذا استطاع إمساكَ مظاهرها ، مع الامتلاء منها ، دلّ ذلك على عزيمة راسخة في النَّفس ، وقهرِ الإرادةِ للشهوة ، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة.
الصفّة الثالثة : العفو عن النَّاس فيما أساؤوا به إليهم.
وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس لأنّ كظم الغيظ قد تعترضه ندامة فيستعدي على من غاظه بالحقّ ، فلمَّا وصفوا بالعفو عمّن أساء إليهم دلّ ذلك على أنّ كظم الغيظ وصف متأصّل فيهم ، مستمرّ معهم.
وإذا اجتمعت هذه الصفّات في نفسسٍ سهل ما دونها لديها.
وبجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيل الله تعالى ذكرها بقوله : { والله يحب المحسنين } لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحبّ المحسنين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 220 ـ 222}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
قال عليه الرحمة :
معناه سارعوا إلى علم يوجب لكم المغفرة ، فتقسمت القلوب وتوهمت أن ذلك أمرٌ شديد فقال صلى الله عليه وسلم : " الندم توبة " وإنما توجب المغفرةَ التوبةُ لأن العاصي هو الذي يحتاج إلى الغفران.
والناس في المسارعة على أقسام : فالعابدون يسارعون بقَدَمِهم في الطاعات ، والعارفون يسارعون بهممهم في القربات ، والعاصون يسارعون بندمهم بتجرُّع الحسرات. فَمَنْ سارع بِقَدَمِه وجد مثوبته ، ومن سارع بهممه وجد قربته ، ومن سارع بندمه وجد رحمته.(16/399)
ولمَّا ذكر الجنة وصفها بسعة العرض ، وفيه تنبيه على طولها لأن الطول في مقابلة العَرْض ، وحين ذكر المغفرة لم يذكر الطول والعرض ، فقومٌ قالوا : المغفرة من صفات الذات وهي بمعنى الرحمة فعلى هذا فمغفرته حُكْمُه بالتجاوز عن العبد وهو كلامه ، وصفة الذات تتقدس عن الطول والعرض.
ومن قال : مغفرته من صفات فِعْلِه قال لكثرة الذنوب لم يصف الغفران بالنهاية ، إشارةً إلى استغراقه جميع الذنوب.
قوله جلّ ذكره : { الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ }.
لا يدَّخِرُونَ عن الله شيئاً ، ويؤثِرونه على جميع الأشياء ، ينفقون أبدانهم على الطاعات وفنون الأوراد والاجتهاد ، وأموالهم في إفشاء الخيرات وابتغاء القربات بوجوه الصدقات ، وقلوبهم في الطلب ثم دوام المراعاة ، وأرواحهم على صفاء المحبَّات والوفاء على عموم الحالات ، وينفقون أسرارهم على المشاهدات في جميع الأوقات ؛ ينتظرون إشارات المطالبات ، متشمرين للبدار إلى دقيق المطالعات.
قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ } : يتجاوزون عن الخَلْق لملاحظاتهم إياهم بعين النسبة ، وأقوام يَحْلُمون على الخلق علماً بأن ذلك بسبب جُرْمِهم فيشهدونهم بعين التسلط ، وآخرون يكظمون الغيظ تحققاً بأن الحق سبحانه يعلم ما يقاسون فيهون عليهم التحمل ، وآخرون فنوا عن أحكام البشرية فوجدوا صافِيَ الدرجات في الذُّلِّ لأن نفوسهم ساقطة فانية ، وآخرون لم يشهدوا ذرة من الأغيار في الإنشاء والإجراء ؛ فعلموا أنَّ المنشئ الله ؛ فزالت خصوماتهم ومنازعاتهم مع غير الله لأنهم لمَّا أفردوه بالإبداع انقادوا لحكمه ؛ فلم يروا معه وجهاً غير التسليم لحكمه ، فأكرمهم الحق سبحانه بِبَرْدِ الرضاء ، فقاموا له بشرط الموافقة.
قوله : { والعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } فرضاً رأوه على أنفسهم لا فضلاً منهم على الناس ، قال قائلهم :
رُبَّ رام لي بأحجار الأذى... لم أجِدْ بُدَّاً من العطف عليه
{ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ } والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.. هذا في معاملة الحق ، وأما في معاملة الخلق فالإحسان أن تَدَعَ جميع حقِّك بالكلية كم كان على من كان ، وتقبل (... ) منه ولا تقلده في ذلك مِنَّة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 277 ـ 278}(16/400)
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر أنها للمحسنين إلى الغير ومن قاربهم أخبر أناه لمن دونهم في الرتبة من التائبين المحسنين إلى أنفسهم استجلاباً لمن رجع عن أحد من المنافقين ولغيرهم من العاصين فقال : {والذين إذا فعلوا} أي باشروا عن علم أوجهل فعله {فاحشة} أي من السيئات الكبار {أو ظلموا أنفسهم} أي بأي نوع كان من الذنوب ، لتصير الفاحشة موعوداً بغفرانها بالخصوص وبالعموم {ذكروا الله} أي بما له من كمال العظمة فاستحيوه وخافوه {فاستغفروا} الله ، أي فطلبوا المغفرة بالتوبة بشرطها {لذنوبهم} أي فإنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب.
ولما كان هذا مفهماً لأنه تعالى يغفر كل ذنب أتبعه تحقيق ذلك ونفي القدرة عليه عن غيره ، لأن المخلوق لا يمضي غفرانه لذنب إلا إذا كان مما شرع الله غفرانه ، فكان لا غافر في الحقيقة إلا الله قال مرغباً في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين : {ومن يغفر الذنوب} أي يمحو آثارها حتى لا تذكر ولا يجازى عليها {إلا الله} أي الملك الأعلى.(16/401)
ولما كان سبحانه وتعالى قد تفضل برفع القلم عن الغافل قال : {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} أي إنهم على ذنب. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 158}
وقال الفخر :
اعلم أن وجه النظم من وجهين :
الأول : أنه تعالى لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان :
أحدهما : الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات ، وهم الذين وصفهم الله بالانفاق في السراء والضراء ، وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس.
وثانيهما : الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله : {والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة} وبين تعالى أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى في كونها متقية ، وذلك لأن المذنب إذا تاب عن الذنب صار حاله كحال من لم يذنب قط في استحقاق المنزلة والكرامة عند الله.
والوجه الثاني : أنه تعالى ندب في الآية الأولى إلى الإحسان إلى الغير ، وندب في هذه الآية إلى الإحسان إلى النفس ، فان المذنب العاصي إذا تاب كانت تلك التوبة إحساناً منه إلى نفسه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 8 ـ 9}
فصل فى سبب نزول الآية
قال الفخر :
روى ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في رجلين ، أنصاري وثقفي ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد آخى بينهما ، وكانا لا يفترقان في أحوالهما ، فخرج الثقفي مع الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرعة في السفر ، وخلف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم ، فكان يفعل ذلك.
ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها ، فندم الرجل ، فلما وافى الثقفي مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير الأنصاري ، وكان قد هام في الجبال للتوبة ، فلما عرف الرسول صلى الله عليه وسلم سكت حتى نزلت هذه الآية.(16/402)
وقال ابن مسعود : قال المؤمنون للنبي صلى الله عليه وسلم : كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، فكان أحدهم إذا أذنب ذنباً أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره : اجدع أنفك ، افعل كذا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 9}
وقال القرطبى :
قال ابن عباس في رواية عطاء : نزلت هذه الآية في نَبْهَان التَّمار وكنيته أبو مُقْبِل أتَتْه امرأة حَسْنَاء باع منها تمراً ، فضمّها إلى نفسه وقبلها فندم على ذلك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية.
وذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : حدّثني أبو بكر وصَدَق أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما مِن عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له ثم تلا هذه الآية { والذين إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبَهُم } الآية ، والآية الأخرى { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَو يَظْلِمْ نَفْسَهُ } " وخرّجه الترمذي وقال : حديث حسن. وهذا عامُّ.
وقد تنزل الآية بسبب خاص ثم تتناول جميع مَن فعل ذلك أو أكثر منه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 209}
فصل
قال الفخر :
الفاحشة ههنا نعت محذوف والتقدير : فعلوا فعلة فاحشة ، وذكروا في الفرق بين الفاحشة وبين ظلم النفس وجوها :
الأول : قال صاحب "الكشاف" : الفاحشة ما يكون فعله كاملا في القبح ، وظلم النفس : هو أي ذنب كان مما يؤاخذ الإنسان به.
والثاني : أن الفاحشة هي الكبيرة ، وظلم النفس.(16/403)
هي الصغيرة ، والصغيرة يجب الاستغفار منها ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالاستغفار وهو قوله : {واستغفر لِذَنبِكَ} [ محمد : 19 ] وما كان استغفاره دالا على الصغائر بل على ترك الأفضل.
الثالث : الفاحشة : هي الزنا ، وظلم النفس : هي القبلة واللمسة والنظرة ، وهذا على قول من حمل الآية على السبب الذي رويناه ، ولأنه تعالى سمى الزنا فاحشة ، فقال تعالى : {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [ الإسراء : 32 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 9}
وقال أبو حيان :
قال ابن عباس : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة.
وقال مقاتل : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس سائر المعاصي.
وقال النخعي : الفاحشة القبائح ، وظلم النفس من الفاحشة وهو لزيادة البيان.
وقيل : جميع المعاصي وظلم النفس العمل بغير علم ولا حجة.
وقال الباقر : الفاحشة النظر إلى الأفعال ، وظلم النفس رؤية النجاة بالأعمال.
وقيل : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النفس الصغيرة.
وقيل : الفاحشة ما تظوهر به من المعاصي ، وقيل : ما أخفى منها.
وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ، وظلم النفس بالمعصية ، وقيل : الفاحشة الذنب الذي فيه تبعة للمخلوقين ، وظلم النفس ما بين العبد وبين ربه.
وهذه تخصيصات تحتاج إلى دليل.
وكثر استعمال الفاحشة في الزنا ، ولذلك قال جابر حين سمع الآية : زنوا ورب الكعبة. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 64}
قوله تعالى : {ذَكَرُواْ الله}
فصل
قال الفخر :
أما قوله : {ذَكَرُواْ الله} ففيه وجهان : (16/404)
أحدهما : أن المعنى ذكروا وعيد الله أو عقابه أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه ، فيكون من باب حذف المضاف ، والذكر ههنا هو الذي ضد النسيان وهذا معنى قول الضحاك ، ومقاتل ، والواقدي ، فان الضحاك قال : ذكروا العرض الأكبر على الله ، ومقاتل ، والواقدي.
قال : تفكروا أن الله سائلهم ، وذلك لأنه قال : بعد هذه الآية {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} وهذا يدل على أن الاستغفار كالأثر ، والنتيجة لذلك : الذكر ، ومعلوم أن الذكر الذي يوجب الاستغفار ليس إلا ذكر عقاب الله ، ونهيه ووعيده ، ونظير هذه الآية قوله : {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [ الأعراف : 201 ]
والقول الثاني : أن المراد بهذا الذكر ذكر الله بالثناء والتعظيم والاجلال ، وذلك لأن من أراد أن يسأل الله مسألة ، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله ، فهنا لما كان المراد الاستغفار من الذنوب قدموا عليه الثناء على الله تعالى ، ثم اشتغلوا بالاستغفار عن الذنوب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 9}
وقال الماوردى :
{ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِم } فيه قولان :
أحدهما : أنهم ذكروه بقلوبهم فلم ينسوه ، ليعينهم ذكره على التوبة والاستغفار.
والثاني : ذكروا الله قولاً بأن قالوا : اللهم اغفر لنا ذنوبنا ، فإن الله قد سهل على هذه الأمة ما شدد على بني إسرائيل ، إذ كانوا إذا أذنب الواحد منهم أصبح مكتوباً على بابه من كفارة ذنبه : اجدع أنفك ، اجدع أذنك ونحو ذلك ، فجعل الاستغفار ، وهذا قول ابن مسعود وعطاء بن أبي رباح. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 424}(16/405)
قوله تعالى : {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ}
قال الفخر :
المراد منه الإتيان بالتوبة على الوجه الصحيح ، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل ، فهذا هو حقيقة التوبة ، فأما الاستغفار باللسان ، فذاك لا أثر له في إزالة الذنب ، بل يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ، ولإظهار كونه منقطعاً إلى الله تعالى ، وقوله : {لِذُنُوبِهِمْ} أي لأجل ذنوبهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 9 ـ 10}
وقال القرطبى :
وقد تقدم في صدر هذه السورة سيد الاستغفار ، وأن وقته الأسحار.
فالاستغفار عظيم وثوابه جسيم ، حتى لقد روَى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فرّ من الزحف " ورَوى مَكْحُول عن أبي هريرة قال : ما رأيت أكثر استغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مكحول : ما رأيت أكثر استغفارا من أبي هريرة.
وكان مكحول كثير الاستغفار.
قال علماؤنا : الاستغفار المطلوب هو الذي يَحُلّ عَقْدَ الإصرار ويثبت معناه في الجنان ، لا التلفظ باللسان.
فأما من قال بلسانه : آستغفر الله ، وقلبه مِصرّ على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار ، وصغيرته لاحقة بالكبائر.
وروي عن الحسن البِصَري أنه قال : استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
قلت : هذا يقوله في زمانه ، فكيف في زماننا هذا الذي يُرى فيه الإنسانُ مُكِبّاً على الظلم! حريصاً عليه لا يُقلِع ، والسُّبْحَة في يده زاعماً أنه يستغفر الله من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف.
وفي التنزيل { وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً } [ البقرة : 231 ]. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 210 ـ 211}
قوله تعالى {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله}
قال الفخر : (16/406)
المقصود منه أن لا يطلب العبد المغفرة إلا منه ، وذلك لأنه تعالى هو القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة ، فكان هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه ، فصح أنه لا يجوز طلب الاستغفار إلا منه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 10}
وقال الخازن :
{ ومن يغفر الذنوب إلاّ الله } وصف نفسه بسعة الرحمة وقرب المغفرة وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلاّ إلى فضله وكرمه وإحسانه وعفوه ورحمته وفيه تنبيه على أن العبد لا يطلب المغفرة إلاّ منه وأنه القادر على عقاب المذنب وكذلك هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه فثبت أنه لا يجوز طلب المغفرة إلاّ منه. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 278}
وقال النسفى :
{ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } "من" مبتدأ و"يغفر" خبره ، وفيه ضمير يعود إلى "من" و"إلا الله" بدل من الضمير في "يغفر" والتقدير : ولا أحد يغفر الذنوب إلا الله ، وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وبيان لسعة رحمته وقرب مغفرته من التائب ، وإشعار بأن الذنوب وإن جلّت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم. أ هـ {تفسير النسفى حـ 1 صـ 180}
وقال أبو حيان :
قال الزمخشري : وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وأنَّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنّه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأنّ العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز.
وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط.
وأنّ الذنوب وإنْ جلت فإنَّ عفوه أجل ، وكرمه أعظم.
والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة انتهى.(16/407)
وهو كلام حسن ، غير أنه لم يخرج عن ألفاظ المعتزلة في قوله : وإنّ عدله يوجب المغفرة للتائب.
وفي قوله : وجب العفو والتجاوز ، ولو لم نعلم أن مذهبه الاعتزال لتأولنا كلامه بأن هذا الوجوب هو بالوعد الصادق ، فهو من جهة السمع لا من جهة العقل فقط. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 64 ـ 65}
قوله تعالى {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ}
قال القرطبى :
{ وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }.
الإصرار هو العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه.
ومنه صَرّ الدنانيرِ أي الرّبط عليها ؛ قال الحطيئة يصف الخيل :
عوابس بالشُّعْثِ الكُماة إذا ابتغوا . . .
عُلاَلَتها بالمُحْصَدَات أصَرَّتِ
أي ثبتت على عَدْوِها.
وقال قتادة : الإصرار الثبوت على المعاصي ؛ قال الشاعر :
يُصِرّ بالليل ما تُخْفِي شَوَاكِلُه . . .
يا ويحَ كلِّ مُصِرّ القلبِ خَتّار
قال سهل بن عبد الله : الجاهل ميّتٌ ، والناسي نائمٌ ، والعاصي سَكْران ، والمصِرّ هالك ، والإصرار هو التسويف ، والتسويف أن يقول : أتوب غداً ؛ وهذا دعوى النفس ، كيف يتوب غداً وغداً لا يملِكه!.
وقال غير سهل : الإصرار هو أن ينوي ألا يتوب فإذا نوى التوبة ( النصوح ) خرج عن الإصرار.
وقول سهلٍ أحسن.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا توبة مع إصرار ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 211}
قال الطبرى : (16/408)
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا ، قول من قال : "الإصرار" ، الإقامة على الذنب عامدًا ، وترك التوبة منه.
ولا معنى لقول من قال : "الإصرار على الذنب هو مواقعته" ، لأن الله عز وجل مدح بترك الإصرار على الذنب مُواقع الذنب ، فقال : "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفرُ الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون" ، ولو كان المواقع الذنب مصرًّا بمواقعته إياه ، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم. لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم ، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه ، وجهٌ.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما أصرَّ من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة".
فلو كان مواقع الذنب مصرًّا ، لم يكن لقوله"ما أصرَّ من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة" ، معنى لأن مواقعةَ الذنب إذا كانت هي الإصرار ، فلا يزيل الاسمَ الذي لزمه معنى غيره ، كما لا يزيل عن الزاني اسم"زان" وعن القاتل اسم"قاتل" ، توبته منه ، ولا معنى غيرها. وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصرٍّ عليه ، فمعلوم بذلك أن"الإصرار" غير المواقعة ، وأنه المقام عليه ، على ما قلنا قبل. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 225 ـ 226}. بتصرف يسير.
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن قوله : {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والتقدير : فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 10}(16/409)
فصل
قال القرطبى :
قال علماؤنا : الباعث على التّوبة وحلّ الإصرار إدامةُ الفكر في كتاب الله العزيز الغفّار ، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطِيعين ، وما وصفه من عذاب النار وتهدّد به العاصِين ، ودام على ذلك حتى قوِي خوفه ورجاؤه فدعا الله رَغَبا ورَهَبا ؛ والرّغْبَة والرّهبة ثمرة الخوف والرجاء ، يخاف من العِقاب ويرجو الثواب ، والله الموفق للصواب.
وقد قيل : إن الباعث على ذلك تنبيه إلهِيٌّ ينَبّه به من أراد سعادته ؛ لِقبح الذنوب وضررها إذ هي سُموم مهلكة.
قلت : وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى ، فإن الإنسان لا يتفكر في وعد الله ووعِيده إلا بتَنْبيهه ؛ فإذا نظر العبد بتوفيق الله تعالى إلى نفسه فوجدها مشْحُونة بذنوبٍ اكتسبها وسيئات اقترفها ، وانبعث منه الندمُ على ما فرّط ، وترك مثلَ ما سبق مخافةَ عقوبة الله تعالى صَدَق عليه أنه تائب ، فإن لم يكن كذلك كان مِصرّاً على المعصية وملازِماً لأسباب الهلكة.
قال سهل بن عبد الله : علامة التائب أن يشغله الذنب على الطعام والشراب : كالثلاثة الذين خُلِّفوا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 211 ـ 212}
فصل
قال القرطبى :
في قوله تعالى : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } حُجَّةٌ واضحة ودلالة قاطعة لما قاله سيف السنة ، ولسان الأمة القاضي أبو بكر بن الطيب : أن الإنسان يؤاخذ بما وطَّنَ عليه بضميره ، وعزم عليه بقلبه من المعصية.
قلت : وفي التنزيل { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وقال { فَأَصْبَحَتْ كالصريم }.
فعوقبوا قبل فعلهم بعزمهم وسيأتي بيانه.
وفي البخاري.(16/410)
" "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" " فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم وألغى إظهار السِّلاح ، وأنَصُّ من هذا ما خرّجه الترمذيّ من حديث أبي كبشة الأنماريّ وصححه مرفوعاً.
" إنما الدنيا لأربعةِ نفرٍ رجل أعطاه الله مالاً وعِلماً فهو يتّقي فيه ربّه ويصِلُ فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل ، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو ( صادق النية ) يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فأجرهما سواء ، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته عِلماً فهو ( يخبط في ماله بغير علم ) لا يتقي فيه ربه ولا يصِل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل ، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوِزرهما سواء " وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامّة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين ، ولا يُلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يَهُمُّ الإنسانُ به وإن وَطَّن عليه لا يؤاخذ به.
ولا حجة ( له ) في قوله عليه السلام : " من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فإن عمِلها كتبت سيئة واحدة " لأن معنى "فلم يعملها" فلم يعزم على عملها بدليل ما ذكرنا ، ومعنى "فإن عملها" أي أظهرها أو عزم عليها بدليل ما وصفنا. وبالله توفيقنا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 215}
قوله تعالى : {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
قال الفخر :
وقوله : {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فيه وجهان : (16/411)
الأول : أنه حال من فعل الإصرار ، والتقدير : ولم يصروا على ما فعلوا من الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محظورة محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل ، أما العالم بحرمته فإنه لا يعذر في فعله ألبتة.
الثاني : أن يكون المراد منه العقل والتمييز والتمكين من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاث ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 10}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فيه أقوال.
فقيل : أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها.
قال النحاس : وهذا قول حسن.
وقيل : { وَهُمْ يَعْلَمُون } أني أُعاقب على الإصرار.
وقال عبد الله بن عبيد ابن عُمير { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم إن تابوا تاب الله عليهم.
وقيل : { يَعْلَمُونَ } أنهم إن استغفروا غفر لهم.
وقيل : { يَعْلَمُونَ } بما حرّمتُ عليهم ؛ قاله ابن إسحاق.
وقال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبِي : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن الإصرار ضار ، وأن تركه خير من التمادِي.
وقال الحسن بن الفضل : { وَهُمْ يَعلْمَوُنَ } أن لهم رباً يغفر الذنب.
قلت : وهذا أخذه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يَحكِي عن ربه عز وجل قال : " أذنبَ عبدٌ ذنباً فقال اللّهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً فعَلِم أن له ربّاً يغفِر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أيْ ربِّ اغفر لي ذنبي فذكر مثله مرتين ، وفي آخره : اعمل ما شئتَ فقد غفرتُ لك " أخرجه مسلم.(16/412)
وفيه دليلٌ على صحة التوبة بعد نَقْضها بمُعاوَدة الذّنب ؛ لأن التوبة الأُولى طاعةٌ وقد انقضت وصحَّتْ ، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أُخرى مستأنفة ، والعود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه ؛ لأنه أضاف إلى الذنب نقض التوبة ، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها ؛ لأنه أضاف إليها ملازمة الإلْحَاح بباب الكريم ، وأنه لا غافر للذنوب سواه.
وقوله في آخر الحديث "اعمل ما شئت" أمرٌ معناه الإكرام في أحد الأقوال ؛ فيكون من باب قوله : { ادخلوها بِسَلامٍ } [ الحجر : 46 ].
وآخر الكلام خَبرٌ عن حال المخاطب بأنه مغفور له ما سلف من ذنبه ، ومحفوظ إن شاء الله تعالى فيما يستقبل من شأنه.
ودلّت الآية والحديثُ على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه ، قال صلى الله عليه وسلم : " إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه " أخرجاه في الصحيحين.
وقال :
يستوجبُ العفوَ الفتى إذَا اعتَرفْ . . .
بما جَنَى من الذنوب واقترفْ
وقال آخر :
أقرِرْ بذنبك ثم اطلُبْ تجاوُزَه . . .
إن الجُحُودَ جُحُودَ الذّنْب ذنبان
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو لم تُذْنِبُوا لذهب الله بكم ولَجَاء بقوم يُذنبون ويستغفرون فيغفر لهم " وهذه فائدة اسم الله تعالى الغفّار والتوّاب ، على ما بيناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 212 ـ 213}
فائدة
قال أبو حيان نقلا عن الزمخشرى :
وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون ، وتائبون ، ومصرّون.
وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه انتهى كلامه.(16/413)
وآخره على طريقته الاعتزالية من : أن من مات مصرًّا دخل النار ولا يخرج منها أبداً. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 65}
فائدة
قال الخطيب الشربينى :
تنبيه : لا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم أن لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم ، فقول الزمخشري في "الكشاف" وفي هذه الآيات بيان قاطع على أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون وتائبون ومصرون وأنّ الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ومن خلف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه جار على طريق الاعتزال من أن مرتكب الكبيرة إذا مات مصرّاً لا يدخل الجنة ونعوذ بالله من ذلك بل كل من مات على الإسلام يدخل الجنة وهو تحت المشيئة إن شاء الله عذبه ، وإن شاء عفا عنه. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 389}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة}
يجوز أن يكون معطوفاً على الموصول قبله ، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة ، وتكون الجملةُ من قوله : { والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] جملة اعتراض بين المتعاطفين.
ويجوز أن يكون " والذين " مرفوعاً بالابتداء ، و" أولَئِكَ " مبتدأ ثانٍ ، و" جَزَاؤهُمْ " مبتدأ ثالث ، و" مَغْفِرَةٌ " خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول.
وقوله : { إِذَا فَعَلُواْ } شرط ، وجوابه : { ذَكَرُواْ }.
قوله : { فاستغفروا } عطف على الجواب ، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول ، والمفعول الأول لـ " اسْتَغْفَرُوا " محذوف ، أي : استغفروا الله لذنوبهم ، وقد تقدم الكلام على " استغفر " ، وأنه تعدى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجر ، وليس هو هذه اللام ، بل " من " وقد يُحْذَف.
الفاحشة - هنا - نعت محذوف ، تقديره : فعلوا فِعْلَةً فاحشةً.
وأصل الفُحْش : القُبْح الخارج عن الحد ، فقوله : { فَاحِشَةً } يعني : قبيحة ، خارجة عما أذن الله فيه.
قال جَابِر : الفاحشة : الزنا ؛ لقوله تعالى : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } [ النساء : 15 ] ، وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ].
قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ } استفهام بمعنى : النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء.(16/414)
قوله : { إلاَّ الله } بدل من الضمير المستكن في " يَغْفِرُ " ، والتقدير : لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى ، والمختار - هنا - الرفع على البدل ، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ].
وقال أبو البقاء " مَنْ " مبتدأ ، " يَغْفِرُ " خبره ، و{ إلاَّ الله } فاعل " يَغْفِرُ " ، أو بدل من المضمر فيه ، وهو الوجه ؛ لأنك إذا جعلت " اللهُ " فاعلاً ، احتجْتَ إلى تقدير ضمير ، أي : ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله.
قال شهَابُ الدين : " وهذا الذي قاله - أعني : جعله الجلالة فاعلاً - يقرب من الغلط ؛ فإن الاستفهام - هنا - لا يُراد به حقيقته ، إنما يرادُ " النفي " ، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلاً من ذلك الضمير المستتر ، والعائد على " من " الاستفهامية ".
ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله ؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة ، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه.
قوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل { فاستغفروا } أي : ترتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى ، والاستغفار لذنوبهم ، وعدم إصرارهم عليها ، وتكون الجملة من قوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } - على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني ، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول.
فصل
وأصْل الإصرار : الثبات على الشيء.
قال الحسن : إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار ، حتى يتوب.
وقال السُّدِّي : الإصرار : السكوت وتَرْك الاستغفار.
وعن أبي نُصيرة قال : لقيت مولّى لأبي بكر ، فقلتُ له : أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً ؟ (16/415)
قال : نعم ، سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً ". وقيل : الإصرار : المداومة على الشيء ، وتَرْك الإقلاع عنه ، وتأكيد العزم على ألا يتركه ، من قولهم : صر الدنانير ، إذا ربط عليها ، ومنه : صُرَّة الدراهم - لما يربط منها-.
قال الحُطََيْئة : يصف خيلاً : [ الطويل ]
عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا... عُلاَلَتَها بِالْخُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ
أي : ثبتت ، وأقامت ، مداغومة على ما حملت عليه.
وقال الشاعر : [ البسيط ]
يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ... يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ
و " ما " في قوله : { على مَا فَعَلُواْ } يجوز أن تكون اسمية بمعنى : الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية.
قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل { فاستغفروا } ، وأن يكون حالاً من فاعل { يُصِرُّوا } ، والتقدير : ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة ؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل ، أما العالم بالحرمة ، فإنه لا يعذر.
ومفعول { يَعْلَمُونَ } محذوف للعلم به.
فقيل : تقديره : يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب ، قاله مجاهد.
وقيل : يعلمون أن تَرْكه أوْلَى ، قاله ابنُ عباس والحسن.
وقيل : يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها.
وقال ابْنُ عَبَّاسِ ، ومُقَاتِلٍ ، والحَسَنُ ، والكَلْبِيُّ : وهم يعلمون أنها معصية.
وقيل : وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار.
وقال الضَّحَّاكُ : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب ، وقال الحسن بن الفضل : وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب.
وقيل : وهم يعلمون أن الله تعالى ، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت-.(16/416)
وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 543 ـ 547}. بتصرف يسير.
فصل
قال القرطبى :
الذنوب التي يُتاب منها إمّا كُفْرٌ أو غيره ، فتوبة الكافر إيمانُه مع ندمِه على ما سلف من كفره ، وليس مجرّدُ الإيمان نفسَ توبة ، وغير الكفر إمّا حقٌّ لله تعالى ، وإمّا حقٌّ لغيره ، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه التَّركُ ؛ غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرّد الترك بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاءً كالصلاة والصوم ، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالْحِنث في الأيْمانِ والظِّهار وغير ذلك ، وأمّا حقوقُ الآدميّين فلا بدّ من إيصالها إلى مستحقيها ، فإن لم يوجَدوا تُصدّق عنهم ، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعسارٍ فعفو الله مأمولٌ ، وفضله مبذولٌ ؛ فكم ضمِن من التبِعات وبدّل من السيئات بالحسنات.
وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى. أ هـ
وقال رحمه الله أيضا :
ليس على الإنسان إذا لم يذكر ذَنْبه ويعلمْه أن يتوب منه بعينه ، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنباً تاب منه.
وقد تأوّل كثير من الناس فيما ذكر شيخنا أبو محمد عبد المعطي الأسكندرانيّ رضي الله عنه أن الإمام المحاسبيّ رحمه الله يرى أن التوبة من أجناس المعاصي لا تصح ، وأن الندم على جملتها لا يكفي ، بل لا بدّ أن يتوب من كل فعلٍ بجارحته وكل عقد بقلبه على التعيين.(16/417)
ظنوا ذلك من قوله ، وليس هذا مراده ، ولا يقتضيه كلامه ، بل حكم المكلَّف إذا عرف أفعاله ، وعرف المعصية من غيرها ، صحّتْ منه التوبة من جملة ما عرف ؛ فإنه إن لم يعرف كون فعله الماضي معصية لا يمكنه أن يتوب منه لا على الجملة ولا على التفصيل ؛ ومثاله رجل كان يتعاطى باباً من أبواب الربا ولا يعرف أنه رِبا فإذا سمع كلام الله عز وجل : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279-278 ] عظم عليه هذا التهديد ، وظن أنه سالم من الربا ، فإذا علم حقيقة الربا الآن ، ثم تفكر فيما مضى من أيامه وعلم أنه لابَسَ منه شيئاً كثيراً في أوقات متقدّمة ، صحّ أن يندم عليه الآن جملة ، ولا يلزمه تعيينُ أوقاته ، وهكذا كل ما واقع من الذنوب والسيئات كالغيبة والنَّميمة وغيرِ ذلك من المحرّمات التي لم يعرف كونها محرّمة ، فإذا فَقُه العبد وتفقَّد ما مضى من كلامه تاب من ذلك جملةً ، ونَدِم على ما فرّط فيه من حق الله تعالى ، وإذا استحلّ مَن كان ظلمه فحالَلَهُ على الجملة وطابت نفسه بترك حقه جاز ؛ لأنه من باب هبة المجهول ، هذا مع شُحِّ العبد وحرصه على طلب حقه ، فكيف بأكرم الأكرمين المتفضل بالطاعات وأسبابها والعفوِّ عن المعاصي صغارها وكبارها.(16/418)
قال شيخنا رحمه الله تعالى : هذا مراد الإمام ، والذي يدل عليه كلامه لمن تفقَّده ، وما ظنه به الظّانّ من أنه لا يصح الندم إلا على فِعلٍ فِعلٍ وحركةٍ حركةٍ وسكنةٍ سكنةٍ على التعيين هو من باب تكْلِيف ما لا يُطاق ، الذي لم يقع شرعاً وإن جاز عقلاً ، ويلزم عنه أن يعرف كم جرعة جرعها في شرب الخمر ، وكم حركة تحركها في الزنا ، وكم خطوة مَشاها إلى محرّم ، وهذا ما لا يطيقه أَحدٌ ، ولا تتأتّى منه توبة على التفصيل.
وسيأتي لهذا الباب مزيدُ بيان من أحكام التوبة وشروطها في "النساء" وغيرها إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 213 ـ 214}. بتصرف يسير.
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
إن كان عطفَ فريقٍ آخر ، فهم غيرُ المتّقين الكاملين ، بل هم فريق من المتّقين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ، وإن كان عطفَ صفات ، فهو تفضيل آخر لحال المتَّقين بأن ذُكر أوّلاً حال كمالهم ، وذكر بعده حال تداركهم نقائصهم.
والفاحشة الفَعلة المتجاوزة الحدّ في الفساد ، ولذلك جمعت في قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } [ النجم : 32 ] واشتقاقها من فَحُش بمعنى قال قولاً ذميماً ، كما في قول عائشة : "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحّشاً" ، أو فعلَ فعلاً ذميماً ، ومنه { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ].
ولا شك أنّ التَّعريف هنا تعريف الجنس ، أي فعلوا الفواحش ، وظلمُ النفس هو الذنوب الكبائر ، وعطفها هنا على الفواحش كعطف الفواحش عليها في قوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } [ النجم : 32 ].(16/419)
فقيل : الفاحشة المعصية الكبيرة ، وظلم النَّفس الكبيرة مطلقاً ، وقيل : الفاحشة هي الكبيرة المتعدية إلى الغير ، وظلم النَّفس الكبيرة القاصرة على النَّفس ، وقيل : الفاحشة الزنا ، وهذا تفسير على معنى المثال.
والذكر في قوله : { ذكروا الله } ذكر القلب وهو ذِكر ما يجب لله على عبده ، وما أوصاه به ، وهو الَّذي يتفرّع عنه طلب المغفرة ؛ وأمّا ذكر اللّسان فلا يترتّب عليه ذلك.
ومعنى ذكر الله هنا ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده.
والاستغفار : طلب الغَفْر أي الستر للذنوب ، وهو مجاز في عدم المؤاخذة على الذنب ، ولذلك صار يعدّي إلى الذنب باللام الدالة على التَّعليل كما هنا ، وقوله تعالى : { واستغفر لذنبك } [ غافر : 55 ].
ولمَّا كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة ، ونية إقلاع عن الذنب ، وعدم العودة إليه ، كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة ، إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمرّ عليه ، أو عازم على معاودته ، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من الذنب ، فلذلك عدّ الاستغفار هنا رتبة من مراتب التَّقوى.
وليس الاستغفار مجرّد قول ( أستغفر الله ) باللّسان والقائلُ ملتبس بالذنوب.
وعن رابعة العدوية أنَّها قالت : "استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار" وفي كلامها مبالغة فإنّ الاستغفار بالقول مأمور به في الدّين لأنَّه وسيلة لتذكّر الذنب والحيلة للإقلاع عنه.
وجملة { ومن يغفر الذنوب إلاّ الله } معترضة بين جملة { فاستغفروا } وجملة { ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا }.(16/420)
والاستفهام مستعمل في معنى النَّفي ، بقرينة الاستثناء منه ، والمقصود تسديد مبادرتهم إلى استغفار الله عقب الذنب ، والتعريض بالمشركين الَّذين اتّخذوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله ، وبالنَّصارى في زعمهم أنّ عيسى رفع الخطايا عن بني آدم ببلية صَلبه.
وقوله : { ولم يصروا } إتمام لركْني التَّوبة لأنّ قوله : { فاستغفروا لذنوبهم } يشير إلى الندم ، وقوله : { ولم يصروا } تصريح بنفي الإصرار ، وهذان ركنا التَّوبة.
وفي الحديث : " النَّدم توبة " ، وأما تدارك ما فرّط فيه بسبب الذنب فإنَّما يكون مع الإمكان ، وفيه تفصيل إذا تعذّر أو تعسّر ، وكيف يؤخذ بأقصى ما يمكن من التدارك.
وقوله : { ولم يصروا على ما فعلوا } حال من الضّمير المرفوع في "ذكروا" أي : ذكروا الله في حال عدم الإصرار.
والإصرار : المُقام على الذنب ، ونفيُه هو معنى الإقلاع.
وقوله : { وهم يعلمون } حال ثانية ، وحذف مفعول يعلمون لظهوره من المقام أي يعلمون سوء فعلهم ، وعظم غضب الربّ ، ووجوبَ التوبة إليه ، وأنَّه تفضّل بقبول التَّوبة فمحا بها الذنوب الواقعة.
وقد انتظم من قوله : { ذكروا الله فاستغفروا } وقوله : { ولم يصروا } وقوله : { وهم يعلمون } الأركان الثلاثة الَّتي ينتظم منها معنى التَّوبة في كلام أبي حامد الغزالي في كتاب التَّوبة من "إحياء علوم الدّين" إذ قال : "وهي عِلْم ، وحال ، وفعل.(16/421)
فالعلم هو معرفة ضرّ الذنوب ، وكونها حجاباً بين العبد وبين ربِّه ، فإذا علم ذلك بيقين ثار من هذه المعرفة تألّم للقلب بسبب فوات ما يحبّه من القرب من ربِّه ، ورضاه عنه ، وذلك الألم يسمّى ندماً ، فإذا غلب هذا الألم على القلب انبعثت منه في القلب حالة تسمّى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلّق بالحال والماضي والمستقبل ، فتعلّقه بالحال هو ترك الذنب ( الإقلاع ) ، وتعلّقه بالمستقبل هو العزم على ترك الذنب في المستقبل ( نفي الإصرار ) ، وتعلّقه بالماضي بتلافي ما فات".
فقوله تعالى : { ذكروا الله } إشارة إلى انفعال القلب.
وقوله : { ولم يصروا } إشارة إلى الفعل وهو الإقلاع ونفي العزم على العودة.
وقوله : { وهم يعلمون } إشارة إلى العلم المثير للانفعال النفساني.
وقد رتّبت هاته الأركان في الآية بحسب شدّة تعلّقها بالمقصود : لأنّ ذكر الله يحصل بعد الذنب ، فيبعث على التَّوبة ، ولذلك رتّب الاستغفار عليه بالفاء ، وأمَّا العلم بأنَّه ذنب ، فهو حاصل من قبل حصول المعصية ، ولولا حصوله لما كانت الفعلة معصية.
فلذلك جيء به بعد الذكر ونفي الإصرار ، على أنّ جملة الحال لا تدلّ على ترتيب حصول مضمونها بعد حصول مضمون ما جيء به قبلَها في الأخبار والصّفات.
ثُمّ إن كان الإصرار ، وهو الاستمرار على الذنب ، كما فُسِّر به كان نفيه بمعنى الإقلاع لأجل خَشية الله تعالى ، فلم يدلّ على أنَّه عازم على عدم العود إليه ، ولكنَّه بحسب الظاهر لا يرجع إلى ذنب ندِمَ على فعله ، وإن أريد بالإصرار اعتقاد العود إلى الذنب فنفيه هو التَّوبة الخالصة ، وهو يستلزم حصول الإقلاع معه إذ التلبّس بالذنب لا يجتمع مع العزم على عدم العود إليه ، فإنَّه متلبّس به من الآن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 222 ـ 225}(16/422)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام " قل للظلمة حتى لا يذكروني فإني أوجبت أن أذكر من ذكرني وذكري للظلمة باللعنة ". (1)
وقال لظَلَمَةِ هذه الأمة.
{ أَوْ ظَلَمُوا أنفُسَهُمْ ذِكَرُوا اللهَ } ثم قال في آخر الآية : { وََمن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ }.
ويقال فاحشةُ كلِّ أحد على حسب حاله ومقامه ، وكذلك ظلمهم وإن خطور المخالفات ببال الأكابر كفِعْلها من الأغيار ، قال قائلهم :
أنت عيني وليس من حق عيني... غضُّ أجفانها على الأقذاء
فليس الجُرْم على البساط كالذَّنب على الباب.
ويقال فعلوا فاحشة بركونهم إلى أفعالهم ، أو ظلموا أنفسهم بملاحظة أحوالهم ، فاستغفروا لذنوبهم بالتبري عن حركاتهم وسكناتهم علماً منهم بأنه لا وسيلة إليه إلا به ، فخلصهم من ظلمات نفوسهم. وإن رؤية الأحوال والأفعال لَظُلُمَاتٌ عند ظهور الحقائق ، ومَنْ طَهَّره الله بنور العناية صانه عن التورط في المغاليط البشرية. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 279}
_________________
(1) هذا الكلام يحتاج إلى سند. والله أعلم.(16/423)
قوله تعالى : {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أتم وصف السابقين وهم المتقون واللاحقين وهم التائبون قال - معلماً بجزائهم الذين سارعوا إليه من المغفرة والجنة مشيراً إليهم بأداة البعد تعظيماً لشأنهم على وجه معلم بأن أحدأً لا يقدر الله حق قدره - : {أولئك} أي العالو الرتبة {جزآؤهم مغفرة} أي لتقصيرهم أو لهفواتهم أو لذنوبهم ، وعظمها بقوله : {من ربهم} أي المسحن إليهم بكل إحسان ، وأتبع ذلك للإكرام فقال : {وجنات} أيّ جنات ، ثم بين عظمها بقوله : {تجري من تحتها الأنهار} حال كونكم {خالدين فيها} هي أجرهم على عملهم {ونعم أجر العاملين} هي ، هذا على تقدير أن تكون الإشارة لجميع الموصوفين ، وإن كانت للمستغفرين خاصة فالأمر واضح في نزول رتبتهم عمن قبلهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 158}
قوله تعالى : {أولئك جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وجنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار}
قال الفخر :
والمعنى أن المطلوب أمران :
الأول : الأمن من العقاب وإليه الاشارة بقوله : {مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ}
والثاني : إيصال الثواب اليه وهو المراد بقوله : {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خاالدين فِيهَا} ثم بين تعالى أن الذي يحصل لهم من ذلك وهو الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم وجزاء عليه بقوله : {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} قال القاضي : وهذا يبطل قول من قال إن الثواب تفضل من الله وليس بجزاء على عملهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 10}(16/424)
فائدة
قال ابن عاشور :
وجيء باسم الإشارة لإفادة أنّ المشار إليهم صاروا أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة ، لأجل تلك الأوصاف الَّتي استوجبوا الإشارة لأجلها.
وهذا الجزاء وهو المغفرة وعد من الله تعالى ، تفضّلا منه : بأن جعل الإقلاع عن المعاصي سبباً في غفران ما سلف منها.
وأمَّا الجنّات فإنَّما خلصت لهم لأجل المغفرة ، ولو أخذوا بسالف ذنوبهم لما استحقّوا الجنَّات فالكلّ فضل منه تعالى.
وقوله : { ونعم أجر العالمين } تذييل لإنشاء مدح الجزاء.
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره هو.
والواو للعطف على جملة { جزاؤهم مغفرة } فهو من عطف الإنشاء على الإخبار ، وهو كثير في فصيح الكلام ، وسمِّي الجزاء أجراً لأنَّه كان عن وعد للعامل بما عمل.
والتَّعريف في ( العاملين ) للعهد أي : ونعم أجر العاملين هذا الجزاء ، وهذا تفضيل له والعمل المجازي عليه أي إذا كان لأصناف العاملين أجور ، كما هو المتعارف ، فهذا نعم الأجر لعامل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 225}(16/425)
فائدة
قال أبو حيان :
وقال الزمخشري : قال أجر العاملين بعد قوله جزاؤهم ، لأنهما في معنى واحد ، وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل ، وأجر مستحق عليه ، لا كما يقول المبطلون.
وروي أن الله عزّ وجل أوحى إلى موسى عليه السلام : ما أقلَّ حياء من يطمعُ في جنتي بغير عمل ، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي ؟ وعن شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة.
وعن الحسن يقول الله يوم القيامة : جوزوا الصراط بعفوي ، وادخلوا الجنة برحمتي ، واقتسموها بأعمالكم.
وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها . . .
إن السفينة لا تجري على اليبس
انتهى ما ذكره ، والبيت الذي كانت رابعة تنشده هو لعبد الله بن المبارك.
وكلام الزمخشري جار على مذهبه الاعتزال من أن الإيمان دون عمل لا ينفع في الآخرة. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 66}
فصل
قال الآلوسى :
{ وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوص بالمدح محذوف أي وَنِعمَ أجر العاملين الجنة ، وعلى ذلك اقتصر مقاتل ، وذهب غير واحد أنه ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجنات.
وفي الجملة على ما نص عليه بعض المحققين وجوه من المحسنات :
أحدها : أنها كالتذييل للكلام السابق فيفيد مزيد تأكيد للاستلذاذ بذكر الوعد ،
وثانيها : في إقامة الأجر موضع ضمير الجزاء لأن الأصل ونعم هو أي جزاؤهم إيجاب إنجاز هذا الوعد وتصوير صورة العمل في العمالة تنشيطاً للعامل ،
وثالثها : في تعميم العاملين وإقامته مقام الضمير الدلالة على حصول المطلوب للمذكورين بطريق برهاني.(16/426)
والمراد من الكلام السابق الذي جعل هذا كالتذييل له إما الكلام الذي في شأن التائبين ، أو جميع الكلام السابق على الخلاف الذي ذكرناه آنفاً ، ومن ذهب إلى الأول قال : وكفاك في الفرق بين القبيلين وهما المتقون الذين أتوا بالواجبات بأسرها واجتنبوا المعاصي برمتها ، والمستغفرون لذنوبهم بعدما أذنبوا وارتكبوا الفواحش والظلم أنه تعالى فصل آية الأولين بقوله سبحانه وتعالى : { والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] المشعر بأنهم محسنون محبوبون عند الله تعالى ، وفصل آية الآخرين بقوله جلَّ وعلا : { وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المشعر بأن هؤلاء أجراء وأن ما أعطوا من الأجر جزاء لتداركهم بعض ما فوتوه على أنفسهم ، وأين هذا من ذاك ؟ وبعيد ما بين السمك والسماك ، ولا يخفى أنه على تقدير كون النعتين نعت رجل واحد كما حكي عن الحسن يمكن أن يقال : إن ذكر هذه الجملة عقيب تلك لما ذكره بعض المحققين وأي مانع من الإخبار بأنهم محبوبون عند الله تعالى وأن الله تعالى منجز ما وعدهم به ولا بدّ ، وكونهم إذا أذنبوا استغفروا وتابوا لا ينافي كونهم محسنين أما إذا أريد من الإحسان الإنعام على الغير فظاهر ، وأما إذا أريد به الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق أو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك كما صرح به في الصحيح فلأن ذلك لو نافى لزم أن لا يصدق المحسن إلا على نحو المعصوم ولا يصدق على من عبد الله تعالى وأطاعه مدة مديدة على أليق وجه وأحسنه ثم عصاه لحظة فندم أشد الندم واستغفر سيد الاستغفار ؛ ولا أظن أحداً يقول بذلك فتدبر.(16/427)
ثم إن في هذه الآيات على ما ذهب إليه المعظم دلالة على أن المؤمنين ثلاث طبقات ، متقين وتائبين ومصرين ، وعلى أن غير المصرين تغفر ذنوبهم ويدخلون الجنة ، وأما أنها تدل على أن المصرين لا تغفر ذنوبهم ولا يدخلون الجنة كما زعمه البعض فلا ؟ لأن السكوت عن الحكم ليس بياناً لحكمهم عند بعض ودالّ على المخالفة عند آخرين وكفى في تحققها أنهم مترددون بين الخوف والرجاء وأنهم لا يخلون عن تعنيف أقله تعييرهم بما أذنبوه مفصلا ويا له من فضيحة وهذا ما لا بد منه على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وحينئذ لم يتم لهم المغفرة الكاملة كما للتائبين على أن مقتضى ما في الآيات أن الجنة لا تكون جزاء للمصر ؛ وكذلك المغفرة أما نفي التفضل بهما فلا ، وهذا على أصل المعتزلة واضح للفرق بين الجزاء والتفضل وجوباً وعدم وجوب ، وأما على أصل أهل السنة فكذلك لأن التفضل قسمان : قسم مترتب على العمل ترتب الشبع على الأكل يسمى أجراً وجزاءاً وقسم لا يترتب على العمل فمنه ما هو تتميم للأجر كماً أو كيفاً كما وعده من الاضعاف وغير ذلك ، ومنه ما هو محض التفضل حقيقة واسماً كالعفو عن أصحاب الكبائر ورؤية الله تعالى في دار القرار وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى قاله بعض المحققين ، وذكر العلامة الطيبي أن قوله تعالى : { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } [ آل عمران : 131 ] وردت خطاباً لآكلي الربا من المؤمنين وردعاً لهم عن الإصرار على ما يؤديهم إلى دركات الهالكين من الكافرين وتحريضاً على التوبة والمسارعة إلى نيل الدرجات مع الفائزين من المتقين والتائبين ، فإدراج المصرين في هذا المقام بعيد المرمى لأنه إغراء وتشجيع على الذنب لا زجر ولا ترهيب فبين بالآيات معنى المتقين للترغيب والترهيب ومزيد تصوير مقامات الأولياء ومراتبهم ليكون حثاً لهم على(16/428)
الانخراط في سلكهم ولا بدّ من ذكر التائبين واستغفارهم وعدم الإصرار ليكون لطفاً لهؤلاء وجميع الفوائد التي ذكرت في قوله سبحانه وتعالى : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } [ آل عمران : 135 ] تدخل في المعنى ، فعلم من هذا أن دلالة { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } [ آل عمران : 135 ] مهجورة لأن مقام التحريض والحث أخرج المصرين ، والحاصل أن شرط دلالة المفهوم هنا منتف فلا يصح الاحتجاج بذلك للمعتزلة أصلاً. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 63 ـ 65}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { مِن رَّبِّهِمْ } في محل رفع ؛ نعتاً لِ " مَغْفِرَةٌ " ، و" مِنْ " للتبعيض ، أي : من مغفرات ربهم.
قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } حال من الضمير في { جَزَآؤُهُمْ } ؛ لأنه مفعول به في المعنى ؛ لأن المعنى : يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالاً مقدراً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من " جَنَّاتٌ " في اللفظ ، وهي لأصحابها في المعنى ؛ إذْ لو كان ذلك لبرز الضمير ، لجَرَيان الصفة على غير مَنْ هي له ، والجملة من قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } في محل رفع ؛ نعتاً لِ " جَنَّاتٌ ". وتقدم إعراب نظير هذه الجمل.
قوله : { وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوص بالمدح محذوف ، تقديره : ونِعْمَ أجر العاملين الجنة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 547}.(16/429)
من فوائد العلامة أبى السعود فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ أولئك } إشارةٌ إلى المذكورين آخِراً باعتبار اتصافِهم بما مرَّ من الصفات الحميدةِ ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببعيد منزلتِهم وعلوِّ طبقتِهم في الفضل ، وهو مبتدأٌ وقوله تعالى : { جَزَآؤُهُمْ } بدلُ اشتمالٍ منه وقوله تعالى : { مَغْفِرَةٌ } خبرٌ له أو جزاؤهم مبتدأٌ ثانٍ ومغفرةٌ خبر له ، والجملةُ خبرٌ لأولئك ، وهذه الجملةُ خبر لقوله تعالى { والذين إِذَا فَعَلُواْ } الخ على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ الأنسبُ بنظم المغفرةِ المنبئةِ عن سابقة الذنبِ في سلك الجزاءِ ، إذ على الوجهين يكون قولُه تعالى : { أولئك } الخ جملةً مستأنفةً مبينةً لما قبلها كاشفةً عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ، ولم يُذكَرْ من أوصاف الأولين ما فيه شائبةُ الذنبِ حتى يُذكَرَ في مطلَع الجزاءِ الشاملِ لهما المغفرةُ ، وتخصيصُ الإشارةِ بالآخِرين مع اشتراكهما في حكم إعدادِ الجنةِ لهما تعسُّفٌ ظاهر { مّن رَّبّهِمُ } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لمغفرةٌ مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنةٌ من جهته تعالى. والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحُكمِ والتشريفِ { وجنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } عطفٌ على مغفرةٌ ، والتنكيرُ المُشعِرُ بكونها أدنى من الجنة السابقةِ مما يؤيد رُجحانَ الوجهِ الأول { خالدين فِيهَا } حالٌ مقدّرةٌ من الضمير في جزاؤهم لأنه مفعولٌ به في المعنى لأنه في قوة يجزيهم الله جناتٌ خالدين فيها ، ولا مَساغَ لأن يكون حالاً من جناتٌ في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ لو كان كذلك لبرز الضمير.(16/430)
{ وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي ونعم أجرُ العاملين ذلك ، أي ما ذُكر من المغفرة والجناتِ ، والتعبيرُ عنهما بالأجر المشعرِ بأنهما يُستحقان بمقابلة العمل وإن كان بطريق التفضُّل لمزيد الترغيبِ في الطاعات والزجرِ عن المعاصي ، والجملةُ تذييلٌ مختصٌّ بالتائبين حسبَ اختصاصِ التذييلِ السابقِ بالأولين وناهيك مضمونُهما دليلاً على ما بين الفريقين من التفاوت النيِّرِ والتبايُنِ البيِّن ، شتانَ بين المحسنين الفائزين بمحبة الله عز وجل وبين العاملين الحائزين لأُجرتهم وعمالتِهم. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 87}.
لطيفة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى : "أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين" ، وفى سورة العنكبوت : "لنبوئنهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين".
للسائل أن يسأل عن وجه العطف فى الأولى وقوله فى الثانية : "نعم أجر العاملين" غير معطوف على ما قبله.
ووجه ذلك والله أعلم أن الآية الأولى لما وقع فيها ذكر الجزاء مفصلا معطوفا فقيل : " أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها" ناسبه أن عطفت الجملة الممدوح بها الجزاء فقيل : "ونعم أجر العاملين" ولما لم يفصل الجزاء فى سورة العنكبوت ولا وقع فيه عطف جاءت جملة المدح غير معطوفة ليتناسب النظم والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل حـ 1 صـ 125}.
تم الجزء السادس عشر من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السابع عشر وأوله قوله تعالى
{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) }(16/431)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء السابع عشر
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(17/3)
الجزء السابع عشر
من الآية {137} من سورة آل عمران
وحتى الآية {160} من نفس السورة(17/4)
قوله تعالى {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما فرغ من بيان الزلل الذي وقع لهم به الخلل ، والترهيب مما يوقع فيه ، والترغيب فيما ينجى منه في تلك الأساليب التي هي أحلى من رائق الزلال ولذيذ الوصال بعد طول المطال أخذ يشجعهم على الجهاد لذوي الفساد ، فبدأ بالسبب الأقوى ، وهو الأمر بمشاهدة مصارع من مضى من المكذبين برؤية ديارهم وتتبع آثارهم مع أنهم كانوا أشد خلقاً وأقوى همماً وأكثر عدداً وأحكم عدداً ، فقال تعالى معللاً للأمر بالمسارعة إلى المغفرة : {قد خلت} ولما كان العلم بالقريب في الزمان والمكان أتم ، وكان الذين وقعت فيهم السنن جميع أهل الأرض ، ولا في جميع الزمان ، أثبت الجار فقال : {من قبلكم} اي فلا تظنوا بما أملى لهم بهذه الإدالة أن نعمته انقطعت عنهم {سنن} أي وقائع سنها الله في القرون الماضية والأمم الخالية في المؤمنين والمكذبين ، وأحوال وطرائق كانت للفريقين ، فتأسوا بالمؤمنين وتوقعوا لأعدائكم مثل ما للمكذبين ، فانظروا وأنعموا التأمل في أحوال الفريقين وإن لم يحصل ذلك إلا بالسير في الكد والتعب الشديد {فسيروا في الأرض} أي للاتعاظ بأحوال تلك الأمم برؤية آثارهم لتضموا الخير إلى الخير ، وتعتبروا من العين بالأثر ، وتقرنوا بين النقل والنظر ، ولما كان الرجوع عن الهفوة واجباً على الفور عقب بالفاء قوله : {فانظروا} أي نظر اعتبار ، ونبه على عظمة المنظور فيه بأنه أهل لأن يستفهم عنه لأنه خرج عن العوائد فتعاظم إشكاله فقال : {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {المكذبين }. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 158 ـ 159}(17/5)
وقال الفخر :
اعلم أن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال : {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 10}
فائدة
قال ابن عاشور :
ابتدئت هاته المقدّمة بحقيقة تاريخية : وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية.
وجيء ب ( قد ) ، الدّالة على تأكيد الخبر ، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين ، مع أنّهم يقاتلون لنصر دين الله ، وبعد أن ذاقوا حلاوة النَّصر يوم بدر ، فبيّن الله لهم أنّ الله جعل سنّة هذا العامل أن تكون الأحوال فيه سجالاً ومداولة ، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية ، فقال : { قد خلت من قبلكم سنن }.
والله قادر على نصرهم ، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلاّ يغترّ من يأتي بعدهم من المسلمين ، فيحسب أنّ النَّصر حليفهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 225 ـ 226}
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي : أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية ، وأما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع ، وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه :
الأول : أنها فعلة من سن الماء يسنه اذا والى صبه ، والسن الصب للماء ، والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فإنه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد ، والسنة فعلة بمعنى مفعول ،
وثانيها : أن تكون من : سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن ، فالفعل المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة على معنى أنه مسنون ، (17/6)
وثالثها : أن يكون من قولهم : سن الابل اذا أحسن الرعي ، والفعل الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أحسن رعايته وإدامته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 10 ـ 11}
فصل
قال القرطبى :
هذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين ، والسُّنَن جمع سُنَّة وهي الطريق المستقيم.
وفلان على السنة أي على طريق الاسْتِوَاء لا يَميل إلى شيء من الأَهْواء ، قال الهذلِيّ :
فلا تَجْزَعَن مِنْ سُنَّة أنت سِرْتَها . . .
فأوّلُ راضٍ سُنَّةً مَن يَسيرها
والسنة : الإمام المتّبع المؤتَمُّ به ، يقال : سنّ فلانٌ سنة حسنة وسيئةً إذا عمل عملاً اقتُدِي به فيه من خيرٍ أو شر ، قال لبيد :
مِن مَعشرٍ سَنَّت لهم آباؤهم . . .
ولكلِّ قومٍ سنةٌ وإمامُها
والسنة الأُمّة ، والسنن الأُمَمُ ؛ عن المفضل.
وأنشد :
ما عايَنَ الناسُ من فَضْلٍ كفضلِهم . . .
ولا رَأُوا مِثَلهم في سالِفِ السُّننِ
وقال الزجاج : والمعنى أهل سنن ، فحذف المضاف.
وقال أبو زيد : أمثال.
عطاء : شرائع.
مجاهد : المعنى { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } يعني بالهلاك فيمن كذّب قبلكم كعادِ وثمود.
والعاقبة : آخر الأمر ، وهذا في يوم أُحد.
يقول فأنا أمهلهم وأمْلِي لهم وأستَدْرجهُم حتى يبلغ الكتاب أجله ، يعني بنصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 216}
وقال الآلوسى
{ قَدْ خَلَتْ } أي مضت { مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } أي وقائع في الأمم المكذبة أجراها الله تعالى حسب عادته ، وقال المفضل : إن المراد بها الأمم ، وقد جاءت السنة بمعنى الأمة في كلامهم ، ومنه قوله :
ما عاين الناس من فضل كفضلكم...
ولا رأوا مثلكم في سالف السنن(17/7)
وقال عطاء : المراد بها الشرائع والأديان ، فالمعنى قد مضت من قبلكم سنن وأديان نسخت ، ولا يخفى أن الأول أنسب بالمقام لأن هذا إما مساق لحمل المكلفين أو آكلي الربا على فعل الطاعة أو على التوبة من المعصية أو على كليهما بنوع غير ما سبق كما قيل وإما عود إلى تفصيل بقية القصة بعد تمهيد مبادي الرشد والصلاح وترتيب مقدمات الفوز والفلاح على رأي ، وذكر مضي الأديان ليس له كثير ارتباط بذلك ، وإن زعم بعضهم أن فيه تثبيتاً للمؤمنين على دين النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يهنوا بقول اليهود أن دين موسى عليه السلام لا ينسخ ولا يجوز النسخ على الله تعالى لأنه بداء وتحريضاً لليهود وحثاً على قبول دين الإسلام وإنذاراً لهم من أن يقع عليهم مثل ما وقع على المكذبين وتقوية لقلوب المؤمنين بأنه سينصرهم على المكذبين ، نعم إطلاق السنة على الشريعة أقرب من إطلاقها على الوقعة لأنها في الأصل الطريقة والعادة ، ومنه قولهم : سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، والجار والمجرور إما متعلق بخلت أو بمحذوف وقع حالاً من { سُنَنَ } أي سنن كائنة من قبلكم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 65}
فصل
قال الفخر :
المراد من الآية : قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة ، واختلفوا في ذلك ، فالاكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى : {فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم ، فرغب الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم الى الايمان بالله ورسله والاعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه ، (17/8)
وقال مجاهد : بل المراد سنن الله تعالى في الكافرين والمؤمنين ؛ فإن الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ، والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال : {فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر ، وأيضاً يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [ الصافات : 171 173 ] وقوله : {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [ الأعراف : 128 ، القصص : 83 ] وقوله : {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون} [ الأنبياء : 105 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 11}
وقال ابن عاشور :
والمعنى : قد مضت من قبلكم أحوال للأمم ، جارية على طريقة واحدة ، هى عادة الله في الخلق ، وهي أنّ قوّة الظالمين وعتّوهم على الضعفاء أمر زائل ، والعاقبة للمتّقين المحقّين ، ولذلك قال : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أي المكذّبين بِرسل ربّهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقّق ما بلغ من أخبارهم ، أو السؤال عن أسباب هلاكهم ، وكيف كانوا أولي قوة ، وكيف طغوا على المستضعفين ، فاستأصلهم الله أو لتطمئنّ نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدةَ عيان ، فإنّ للعيان بديع معنى لأنّ بَلَغتهم أخبار المكذّبين ، ومن المكذّبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرسّ ، وكلّهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم ، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 226 ـ 227}(17/9)
فصل
قال الفخر :
ليس المراد بقوله {فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا} الأمر بذلك لا محالة ، بل المقصود تعرف أحوالهم ، فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا ، ولا يمتنع أن يقال أيضا : إن لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر :
إن آثارنا تدل علينا.. فانظروا بعدنا إلى الآثار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 11}
وقال الآلوسى :
{ كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } أي آخر أمرهم الذي أدى إليه تكذيبهم لأنبيائهم ، والفاء للإيذان بسببية الخلو للسير والنظر أو الأمر بهما ، وقيل : المعنى على الشرط أي إن شككتم فسيروا الخ ، والخطاب على كل تقدير مساق للمؤمنين ، وقال النقاش : للكفار وفيه بعد و{ كَيْفَ } خبر مقدم لكان معلق لفعل النظر ، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل استعماله بالجار وتجريد الفعل عن تاء التأنيث لأن المرفوع مجازي التأنيث. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 65}
فصل
قال ابن عاشور :
وفي الآية دلالة على أهميِّة علم التَّاريخ لأنّ فيه فائدة السير في الأرض ، وهي معرفة أخبار الأوائل ، وأسباب صلاح الأمم وفسادها.
قال ابن عرفة : "السير في الأرض حسّي ومعنوي ، والمعنوي هو النظر في كتب التَّاريخ بحيث يحصل للنَّاظر العلم بأحوال الأمم ، وما يقرب من العلم ، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لِعجز الإنسان وقصوره".
وإنَّما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأنّ في المخاطبين مَن كانوا أمِّيين ، ولأنّ المشاهدة تفيد من لم يقرأ علماً وتقوّي عِلْم من قرأ التَّاريخ أو قصّ عليه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 227}(17/10)
قوله تعالى {هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ (138)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تكفلت هذه الجمل بالهداية إلى سعادة الدارين نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله على طريق الاستفتاح : {هذا بيان} أي يفيد إزالة الشبه {للناس} أي المصدقين والمكذبين {وهدى} أي إرشاد بالفعل {وموعظة} أي ترقيق {للمتقين}. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 159}
فصل
قال الفخر :
قوله تعالى : {هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ}
ويعني بقوله : {هذا} ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات ، ولا بد من الفرق بين البيان وبين الهدى وبين الموعظة ، لأن العطف يقتضي المغايرة فنقول فيه وجهان :
الأول : أن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة ، فالفرق أن البيان عام في أي معنى كان ، وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي.
وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين ، فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان : أحدهما : الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى.
الثاني : الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة.
الوجه الثاني : أن البيان هو الدلالة ، وأما الهدى فهو الدلالة بشرط كونها مفضية إلى الاهتداء ، وقد تقدم هذا البحث في تفسير قوله : {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [ البقرة : 2 ] في سورة البقرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 11}
فصل
قال الفخر :
في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين وجهان.
أحدهما : أنهم هم المنتفعون به ، فكانت هذه الأشياء في حق غير المتقين كالمعدومة ونظيره قوله تعالى : {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [ النازعات : 45 ] {إِنَّمَا تُنذِرُ مَّعَ مَنِ اتبع الذكر} [ يس : 11 ] {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [ فاطر : 28 ] وقد تقدم تقريره في تفسير قوله : {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ}(17/11)
الثاني : أن قوله : {هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ} كلام عام ثم قوله : {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} للمتقين مخصوص بالمتقين ، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية ، ولا شك أن هذا المعنى لا يحصل إلا في حق المتقين ، والله أعلم بالصواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 11 ـ 12}
وقال الطبرى :
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بـ"هذا".
فقال بعضهم : عنى بقوله"هذا" ، القرآن.
وقال آخرون : إنما أشير بقوله"هذا" ، إلى قوله : "قد خلت من قبلكم سُنن فسيروا في الأرض فانظرُوا كيف كان عاقبه المكذبين" ، ثم قال : هذا الذي عرَّفتكم ، يا معشر أصحاب محمد ، بيان للناس.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال : قوله : "هذا" ، إشارةٌ إلى ما تقدم هذه الآية من تذكير الله جل ثناؤه المؤمنين ، وتعريفهم حدوده ، وحضِّهم على لزوم طاعته والصبر على جهاد أعدائه وأعدائهم. لأن قوله : "هذا" ، إشارة إلى حاضر : إما مرئيّ وإما مسموع ، وهو في هذا الموضع إلى حاضر مسموع من الآيات المتقدمة.
فمعنى الكلام : هذا الذي أوضحتُ لكم وعرفتكموه ، بيانٌ للناس يعني بـ"البيان" ، الشرح والتفسير. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 231 ـ 232}. بتصرف يسير.
وقال العلامة ابن عطية :
كونه بياناً للناس ظاهر ، وهو في ذاته أيضاً هدى منصوب وموعظة ، لكن من عمي بالكفر وضل وقسا قلبه لا يحسن أن يضاف إليه القرآن ، وتحسن إضافته إلى " المتقين " الذين فيهم نفع وإياهم هدى ، وقال ابن إسحاق والطبري وجماعة : الإشارة ب { هذا } إلى قوله تعالى : { قد خلت من قبلكم سنن } الآية ، قال ابن إسحاق : المعنى هذا تفسير للناس إن قبلوه ، قال الشعبي : المعنى ، هذا بيان للناس من العمى. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 512}(17/12)
من فوائد العلامة أبى السعود فى الآية
قال رحمه الله :
{ هذا } إشارةٌ إلى ما سلف من قوله تعالى : { قَدْ خَلَتْ } إلى آخره { بَيَانٌ لّلنَّاسِ } أي تبيينٌ لهم ، على أن اللامَ متعلقةٌ بالمصدر أو كائنٌ لهم على أنها متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً له ، وتعريفُ الناس للعهد وهم المكذبون أي هذا إيضاحٌ لسوء عاقبةِ ما هم عليه من التكذيب فإن الأمرَ بالسير والنظرِ وإن كان خاصاً بالمؤمنين لكن العملَ بموجبه غيرُ مختصَ بواحد دون واحدٍ ففيه حملٌ للمكذبين أيضاً على أن ينظُروا في عواقب مَنْ قبلَهم من أهل التكذيبِ ويعتبروا بما يعانون من آثار دمارِهم وإن لم يكن الكلامُ مَسوقاً لهم { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } أي وزيادةُ بصيرةٍ وموعظةٍ لكم وإنما قيل : { لّلْمُتَّقِينَ } للإيذان بعلة الحُكمِ فإن مدارَ كونِه هدىً وموعظةً لهم إنما هو تقواهم. ويجوز أن يُرادَ بالمتقين الصائرين إلى التقوى والهدى والموعظة على ظاهرهما ، أي هذا بيانٌ لمآل أمرِ الناسِ وسوءِ مَغبّتِه ، وهدايةٌ لمن اتقى منهم وزجرٌ لهم عما هم عليه من التكذيب ، وأن يُراد به ما يعُمّهم ويعُم غيرَهم من المتقين بالفعل ، ويُرادَ بالهدى والموعظةِ أيضاً ما يعُم ابتداءَهما والزيادةَ فيهما ، وإنما قُدّم كونُه بياناً للمكذبين مع أنه غيرُ مَسوق له على كونه هدىً وموعظةً للمتقين ، مع أنه المقصودُ بالسياق لأن أولَ ما يترتب على مشاهدة آثارِ هلاكِ أسلافِهم ظهورُ حالِ أخلافِهم ، وأما زيادةُ الهدى أو أصلِه فأمرٌ مترتبٌ عليه ، وتخصيصُ البيانِ للناس مع شموله للمتقين أيضاً لما أن المرادَ به مجردُ البيانِ العاري عن الهدى والعظةِ ، والاقتصار عليهما في جانب المتقين مع ترتّبهما على البيان لما أنهما المقصِدُ الأصليُّ ، ويجوز أن يكون تعريفُ الناسِ للجنس أي هذا بيانٌ للناس كافةً ، وهدى وموعظةٌ للمتقين منهم خاصة. وقيل : كلمةُ هذا(17/13)
إشارةٌ إلى ما لُخِّص من أمر المتقين والتائبين والمُصِرِّين. وقوله تعالى : { قَدْ خَلَتْ } الآية ، اعتراضٌ للحث على الإيمان وما يُستحَقّ به ما ذُكر من أجر العاملين. وأنت خبيرٌ بأن الاعتراضَ لا بد أن يكون مقرِّراً لمضمون ما وقع في خلاله ، ومعاينةُ آثارِ هلاكِ المكذبين مما لا تعلقَ له بحال أحدِ الأصنافِ الثلاثةِ للمؤمنين وإن كان باعثاً على الإيمان زاجراً عن التكذيب ، وقيل : إشارةٌ إلى القرآن ولا يخفى بُعدُه. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 88 }
ومن فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
الإشارة إما إلى القرآن وهو المروي عن الحسن وقتادة وخدش بأنه بعيد عن السياق وإما إلى ما لخص من أمر الكفار والمتقين والتائبين ، وقوله سبحانه : { قَدْ خَلَتْ } [ آل عمران : 137 ] الآية اعتراض للبعث على الإيمان والتقوى والتوبة كما قيل ووجه الاعتراض لدفع الاعتراض بأن المعترضة مؤكدة للمعترض فيه وهنا ليس كذلك بأن تلك الآيات واردة على سبيل الترغيب والترهيب لآكلي الربا وهذه الآية دلت على الترهيب ومعناه راجع إلى الترغيب بحسب التضاد كما أن بعض الآيات الواردة في الرحمن للوعيد تعدّ من الآلاء بحسب الزجر عن المعاصي فيتأتى التوكيد دون نقص ، واعترض عليه بأنه تعسف ، وإما إلى ما سلف من قوله سبحانه : { قَدْ خَلَتْ } الخ ، وهو المروي عن أبي إسحاق ، واختاره الطبري والبلخي وكثير من المتأخرين.(17/14)
وأل في الناس للعهد ، والمراد بهم المكذبون ، والظرف إما متعلق ببيان أو بمحذوف وقع صفة لهم أي هذا إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر ( بالسير والنظر ) السابق وإن كان خاصاً بالمؤمنين على المختار لكن العمل بموجبه غير مختص بهم ففيه حمل للمكذبين أيضاً على أن ينظروا في عاقبة أسلافهم ليعتبروا بذلك ، والموعظة ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة ، والهدى بيان طريق الرشد ليسلك دون طريق الغي ، والفرق بينه وبين البيان أن الثاني إظهار المعنى كائناً ما كان ولكون المراد به هنا ما كان عارياً عن الهدى والعظة خصه بالناس مع أن ظاهره شامل للمتقين.
والمراد بهم مقابل المكذبين وكأنه وضع موضع الضمير بناءاً على أن المعنى وزيادة بصيرة وموعظة لكم للإيذان بعلة الحكم فإن مدار ذلك كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم وعدم تكذيبهم ، وقدم بيان كونه بياناً للمكذبين مع أنه غير مسوق له على بيان كونه هدى للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم ، وأما الهدى فأمر مترتب عليه والاقتصار على الأمرين في جانب المتقين مع ترتبهما على البيان لما أنهما المقصد الأصلي.
وقيل : أل في الناس للجنس.(17/15)
والمراد بيان لجميع الناس لكن المنتفع به المتقون لأنهم يهتدون به وينتجعون بوعظه وليس بالبعيد وجوز بعضهم أن يراد من المتقين الصائرون إلى التقوى فيبقى الهدى والموعظة بلا زيادة ، وإن يراد بهم ما يعمهم وغيرهم من المتقين بالفعل فيحتاج الهدى وما عطف عليه إلى اعتبار ما يعم الابتداء والزيادة فيه ، ولا يخفى ما في الثاني من زيادة البعد لارتكاب خلاف الظاهر في موضعين وأما الأول : ففيه بعد من جهة الارتكاب في موضع واحد وهو وإن شارك ما قلناه من هذه الحيثية إلا أن ما ارتكبناه يهدي إليه في الجملة التنوين الذي في الكلمة ولا كذلك ما ارتكبوه بل اعتبار الكمال المشعر به الإطلاق ربما يأباه ولعله لمجموع الأمرين هان أمر نزع الخف. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 65 ـ 66}
وقال ابن عاشور :
الإشارة إمَّا إلى ما تقدّم بتأويل المذكور ، وإمَّا إلى حاضر في الذهن عند تلاوة الآية وهو القُرآن.
والبيانُ : الإيضاح وكشف الحقائق الواقعة.
والهدى : الإرشاد إلى ما فيه خير النَّاس في الحال والاستقبال.
والموعظة : التحذير والتخويف.
فإن جعلت الإشارة إلى مضمون قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] الآية فإنَّها بيان لما غفلوا عنه من عدم التَّلازم بين النَّصر وحسن العاقبة ، ولا بين الهزيمة وسوء العاقبة ، وهي هدى لهم لينتزعوا المسببات من أسبابها ، فإن سبب النجاح حقاً هو الصلاح والاستقامة ، وهي موعظة لهم ليحذروا الفساد ولا يغترّوا كما اغترّت عاد إذ قالوا : "مَنْ أشَدّ مِنَّا قوّة". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 227}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { مِن قَبْلِكُمْ } يجوز أن يتعلق بـ " خَلَتْ " ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من { سُنَنٌ } ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون وَصْفاً ، فلما قُدِّمَ نُصبَ حالاً.(17/16)
والسُّنَن : جمع سُنَّة ، وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ، ومنه سُنَّة الأنبياء.
قال خالد الهُذَلِي لخاله أبي ذُؤيب : [ الطويل ]
فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةِ أنْتَ سِرْتَهَا... فَأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وقال آخر : [ الطويل ]
وَإنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ... تَأسَّوْا ، فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّآسِيَا
وقال لبيد : [ الكامل ]
مِنْ أمَّةٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإمامُهَا
وقال المفضَّل : السُّنَّة : الأمة ، وأنشد : [ البسيط ]
مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ... وَلاَ رَأوْا مِثْلَكم فِي سَالِفِ السُّنَنِ
ولا دليل فيه ؛ لاحتمال أن يكون معناه : أهل السنن.
وقال الخليل : سَنَّ الشيء بمعنى : صوره ، ومنه : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] أي : مُصَوَّر وقيل : سن الماء والدرع إذا صبهما ، وقوله : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } يجوز أن يكون منه ، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة.
وقيل : مسنون ، أي : متغير.
وقال بعض أهل اللغة : هي فُعْلة من سَنَّ الماء ، يسنه ، إذا والى صَبَّه ، والسَّنُّ : صَبُّ الماء والعرق نحوهما.
وأنشد لزهير : [ الوافر ]
نُعَوِّدُهَا الطراد كُلَّ يَوْمٍ... تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا الْقُرُونُ
أي : يُصب عليها من العرق ، شبَّه الطريقة بالماء المصبوب ، فإنه يتوالى جرْيُ الماء فيه على نَهْج واحد ، فالسُّنَّة بمعنى : مفعول ، كالغُرْفَةِ.
وقيل : اشتقاقها من سننت النَّصْل ، أسنّه ، سنًّا ، إذا حددته [ على المِسَن ] ، والمعنى : أن الطريقةَ الحسنةَ ، يُعْتَنَى بها ، كما يُعْتَنَى بالنَّصْل ونحوه.
(17/17)
وقيل : من سَنَّ الإبل ، إذا أحسن رعايتها ، والمعنى : أن صاحب السنة يقوم على أصحابه ، كما يقوم الراعي على إبله ، والفعل الذي سَنَّه النبي سُمِّيَ سُنَّةً بمعنى : أنه صلى الله عليه وسلم أحسن رعايته وإدامته. وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة.
قوله : { فَسِيرُواْ } جملة معطوفة على ما قبلها ، والتسبُّب في هذه الفاء ظاهر ، أي : سبب الأمر بالسير لتنظروا - نَظَرَ اعتبار - خُلُوَّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم.
وقال أبو البقاء : " ودخلت الفاء في " فَسِيرُوا " ؛ لأن المعنى على الشرط ، أي : إن شككتم فسيروا ".
وقوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } " كيف " خبر مقدم ، واجب التقديم ، لتضمُّنه معنى " الاستفهام " ، وهو معلق لـ " انْظُرُوا " قبله ، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض ؛ إذ الأصل : انظروا في كذا.
قوله : " للناس " يجوز أن يتعلقَ بالمصدر قبلَه ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه وَصْف له.
قوله : { لِّلْمُتَّقِينَ } يجوز أن يكون وَصْفاً - أيضاً - ويجوز أن يتعلق بما قبله ، وهو محتمل لأن يكونَ من التنازع ، وهو على إعمال الثاني للمحذوف من الأول. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 548 ـ 550}. بتصرف يسير.(17/18)
قوله تعالى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أمرهم بالمسارعة وأتبعها علتها ونتيجتها نهاهم عما يعوق عنها من قبل الوهن الذي عرض لهم عند رؤيتهم الموت فقال - ويجوز أن يعطف على ما تقديره : فتبينوا واهتدوا واتعظوا إن كنتم متقين ، وانظروا أخذنا لمن كان قبلكم من أهل الباطل وإن كان لهم دول وصولات ومكر وحيل - : {ولا تهنوا} أي في جهاد أعدائكم الذين هم أعداء الله ، فالله معكم عليهم ، وإن ظهروا يوم أحد نوع ظهور فسترون إلى من يؤول الأمر {ولا تحزنوا} أي على ما أصابكم منهم ولا على غيره مما عساه ينوبكم {و} الحال أنكم {أنتم الأعلون} أي في الدارين {إن كنتم مؤمنين} أي إن كان الإيمان - وهو التصديق بكل ما يأتي عن الله - لكم صفة راسخة ، فإنهم لا يهنون ؛ لأنكم بين إحدى الحسنيين - كما لم يهن من سيقص عليكم نبأهم ممن كانوا مع الأنبياء قبلكم لعلوكم عدوكم ، أما في الدنيا فلأن دينكم حق ودينهم باطل ، ومولاكم العزيز الحكيم الذي قد وعدكم الحق الملكَ الكبير لمن قتل ، والنصر والتوزر لمن بقي ، وهو حي قيوم ، ولا يخفى عليه شيء من أحوالكم ، فهو ناصركم وخاذلكم ، وأما في الآخرة فلأنكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وهم في النار عند ملائكة العذاب الغلاظ الشداد أبداً. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 159 ـ 160}
وقال الفخر :(17/19)
اعلم أن الذي قدمه من قوله : {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [ آل عمران : 137 ] وقوله : {هذا بيان للناس} [ آل عمران : 138 ] كالمقدمة لقوله : {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة ، لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور ، وصارت دولة أهل الحق عالية ، وصولة أهل الباطل مندرسة ، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم ، بل يجب أن يقوى قلبكم فإن الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة إليكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 12}
فصل
قال الآلوسى :
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } أخرج الواحدي عن ابن عباس أنه قال : "انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريدون أن يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر فأنزل الله تعالى هذه الآية : وثاب نفر من المسلمين فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم" وعن الزهري وقتادة أنها نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح.(17/20)
وعن الكلبي أنها نزلت بعد يوم أحد حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يخرج إلا من شهد معنا بالأمس فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله هذه الآية" ، وأياً ما كان فهي معطوفة على قوله تعالى : { فَسِيرُواْ فِى الأرض } [ آل عمران : 137 ] بحسب اللفظ ومرتبطة به بحسب المعنى إن قلنا إنه عود إلى التفصيل ، وبما تقدم من قصة أحد إن لم نقل ذلك وبه قال جمع ، وجعلوا توسيط حديث الربا استطراداً أو إشارة إلى نوع آخر من عداوة الدين ومحاربة المسلمين ، وبه يظهر الربط وقد مر توجيهه بغير ذلك أيضاً.
ومن الناس من جعل ارتباط هذه الآية لفظاً بمحذوف أي كونوا مجدين ولا تهنوا ، ومضى على الخلاف وهو تكلف مستغنى عنه ، والوهن الضعف أي لا تضعفوا عن قتال أعدائكم والجهاد في سبيل الله تعالى بما نالكم من الجراح ولا تحزنوا على ما أصبتم به من قتل الأعزة وقد قتل في تلك الغزوة خمسة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله بن جحش ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان بن شماس ، وسعد مولى عتبة رضي الله تعالى عنهم ، وسبعون من الأنصار ، وقيل : لا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ولا يخفى بعده والظاهر أن حقيقة النهي غير مرادة هنا بل المراد التسلية والتشجيع وإن أريدت الحقيقة فلعل ذلك بالنسبة إلى ما يترتب على الوهن والحزن من الآثار الاختيارية أي لا تفعلوا ما يترتب على ذلك. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 66 ـ 67}(17/21)
فصل
قال الفخر :
قوله : {وَلاَ تَهِنُواْ} أي لا تضعفوا عن الجهاد ، والوهن الضعف قال تعالى : حكاية عن زكريا عليه السلام {إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى} [ مريم : 4 ] وقوله : {وَلاَ تَحْزَنُواْ} أي على من قتل منكم أو جرح
وقوله : {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} فيه وجوه :
الأول : أن حالكم أعلى من حالهم في القتل لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد ، وهو كقوله تعالى : {أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا} [ آل عمران : 165 ] أو لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان ، أو لأن قتالهم للدين الباطل وقتالكم للدين الحق ، وكل ذلك يوجب كونكم أعلى حالا منهم.
الثاني : أن يكون المراد وأنتم الأعلون بالحجة والتمسك بالدين والعاقبة الحميدة.
الثالث : أن يكون المعنى وأنتم الأعلون من حيث إنكم في العاقبة تظفرون بهم وتستولون عليهم وهذا شديد المناسبة لما قبله ، لأن القوم انكسرت قلوبهم بسبب ذلك الوهن فهم كانوا محتاجين الى ما يفيدهم قوة في القلب ، وفرحا في النفس ، فبشرهم الله تعالى بذلك ، فأما قوله : {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ففيه وجوه :
الأول : وأنتم الأعلون إن بقيتم على إيمانكم ، والمقصود بيان أن الله تعالى إنما تكفل باعلاء درجتهم لأجل تمسكهم بدين الاسلام.
الثاني : وأنتم الأعلون فكونوا مصدقين لهذه البشارة إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.
والثالث : التقدير : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، فإن الله تعالى وعد بنصرة هذا الدين ، فإن كنتم من المؤمنين علمتم أن هذه الواقعة لا تبقى بحالها ، وأن الدولة تصير للمسلمين والاستيلاء على العدو يحصل لهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 12}(17/22)
وقال الثعالبى :
وقوله سبحانه : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } : المقصدُ هزُّ النفوسِ ، وإقامتها ، ويترتَّب من ذلك الطَّعْنُ على من نجم في ذلك اليَوْم نِفَاقُهُ أو اضطرب يقينه ، أي : لا يتحصَّل الوعد إلاَّ بالإيمان ، فالزموه. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 314}
فصل
قال القرطبى :
عزّاهم وسَلاّهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح ، وحثّهم على قتال عدوّهم ونهاهم عن العجز والفشل فقال { وَلاَ تَهِنُوا } أي لا تضعفوا ولا تجبنُوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم.
{ وَلاَ تَحْزَنُوا } على ظهورهم ، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة.
{ وأَنْتُم الاٌّعْلَوْنَ } أي لكم تكون العاقبة بالنصر والظفر { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي بصدق وَعْدِي.
وقيل : "إن" بمعنى "إذ".
قال ابن عباس : " انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل من المشركين ، يريد أن يعلُوا عليهم الجبل ؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : "اللّهم لا يعلُنّ علينا اللّهم لا قوة لنا إلا بك اللّهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر" " فأنزل الله هذه الآيات.
وثاب نفر من المسلمين رماة فصعِدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم ؛ فذلك قوله تعالى : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } يعني الغالبين على الأعداء بعد أُحد.
فلم يُخرِجوا بعد ذلك عسكراً إلاّ ظفِروا في كل عسكر كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيه واحدٌ من الصحابة كان الظفر لهم ، وهذه البلدان كلها إنما افتتِحت على عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم بعد انقراضهم ما افتتِحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتتحون في ذلك الوقت.(17/23)
وفي هذه الآية بيان فضلِ هذه الأُمة ؛ لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه ؛ لأنه قال لموسى : { إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } [ طاه : 68 ] وقال لهذه الأُمة : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ }.
وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الأعلى فهو سبحانه العلي ، وقال للمؤمنين : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ }. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 216 ـ 217}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
قوله : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } نهي للمسلمين عن أسباب الفشل.
والوهن : الضعف ، وأصله ضعف الذات : كالجسم في قوله تعالى : { ربِّ إنِّي وهَن العظم منِّي } [ مريم : 4 ] ، والحبْل في قول زهير
فأصبح الحَبْل منها خَلَقا...
وهو هنا مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأساً ، والشَّجاعة جبناً ، واليقين شكّاً ، ولذلك نهوا عنه.
وأمَّا الحزن فهو شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار.
والوهنُ والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة.
فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الاعتقاد ، كما يُنهى عن النسيان ، وكما يُنهى أحد عن فعل غيره في نحو لا أرَيَنّ فلاناً في موضع كذا أي لا تَتْركْه يحلّ فيه ، ولذلك قدّم على هذا النَّهي قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] إلخ...
وعقب بقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }.
وقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } ، الواو للعطف وهذه بشارة لهم بالنَّصر المستقبل ، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة.(17/24)
والتَّعليق بالشرط في قوله : { إن كنتم مؤمنين } قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان إذ قد علِم الله أنَّهم مؤمنون ولكنَّهم لمّا لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة ، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم : إن علمتم من أنفسكم الإيمان ، وجيء بإن الشرطية الَّتي من شأنها عدم تحقيق شرطها ، إتماماً لِهذا المقصد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 227 ـ 228}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله {ولا تهنوا}
الأصل : تُوْهِنوا ، فحُذِفت الواو ؛ لوقوعها بين تاء وكسرة في الأصل ، ثم أجْريت حروف المضارعة مُجْراها في ذلك ، ويقال : وَهَنَ - بالفتح في الماضي - يَهِنُ - بالكسر في المضارع.
ونُقِلَ أنه يُقال : وَهُن ، ووَهِنَ - بضم الهاء وكسر في الماضي - و" وَهَنَ " يُستعمل لازماً ومتعدياً ، تقول : وَهَنَ زيدٌ ، أي : ضَعُفَ ، قال تعالى : { وَهَنَ العظم مِنِّي } [ مريم : 4 ] ، ووَهَنْتُه وأضعفته ، ومنه الحديث : " وَهَنْتُهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ " ، والمصدر على الوهَن - بفتح الهاء وسكونها.
وقال زهير : [ البسيط ]
................... فَأصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِناً خَلَقَا
أي : ضعيفاً.
قوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } جملة حالية من فاعل { تَهِنُوا } ، أو { تَحْزَنُوا } ، والاستئناف فيها غير ظاهر ، و{ الأَعْلَوْنَ } جمع أعْلَى ، والأصل : أعْلَيَوْنَ ، فتحرَّكت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقُلبَت ألفاً فحُذِفت لالتقاء الساكنين ، وبقيَت الفتحةُ لتدلَّ عليها.
وإن شئت قُلْتَ : استثقلت الضمةُ على الياء ، فحُذِفت ، فالتقى ساكنان أيضاً - الياء والواو - فحُذِفتَ الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، وإنَّما احتجنا إلى ذلك ؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموماً ، لفظاً ، أو تقديراً. وهذا من مثال التقدير. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 551 }(17/25)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله تعالى { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}
يعني إذا قلتم بالله ( ووصلتم ) بالله فلا ينبغي أن تخافوا من غير الله ، ولا تَهِنوا ولا تضعفوا فإن النصرة من عند الله ، والغالب الله ، وما سوى الله فليس منهم ذرة ولا منهم سينة.
قوله : { إن كُنتُم مُّؤمِنِينَ } أي ينبغي للمؤمن ألا تظله مهابةٌ من غير الله. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 280}
فصل فى ذكر قصة غزوة أحد
قال السمرقندى عليه الرحمة :
وكانت القصة في ذلك أنهم لما غَلَبُوا المشركين يوم بدر ، وأصابوا منهم ما أصابوا وسنذكر قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى فرجع أبو سفيان بن حرب إلى مكة بالعير ، وانهزم المشركون ، وذهب عكرمة بن أبي جهل ، ورجال أُصِيب أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم ببدر إلى أبي سفيان بن حرب وهو رئيس مكة فكلموه ، وأتاه كل من كان له في ذلك العير مال ، فقالوا : إن محمداً قد قتل خياركم ، فاستعينوا بهذه الأموال على حربه ففعلوا.
قال الضحاك : فأعانهم أبو سفيان بمائة راحلة وما يصلحها من الزاد والسلاح ، فسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل ، وعليهم أبو سفيان بن حرب ، وكان في القوم خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعكرمة بن أبي جهل ، وذلك قبل دخولهم في الإسلام ، فلم يبقَ أحد من قريش إلا وخرج أهله معه وولده يجعلهم خلف ظهره ليقاتل عنهم.(17/26)
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس ، وقال في خطبته : " إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ فِي سَيْفِي ثلمَةُ فَأَوَّلْتُهَا مصِيبَةً فِي نَفْسِي ، وَرَأَيْتُ بُقُوراً قَدْ ذُبِحَتْ ، فَأَوَّلْتُهَا قَتْلَى فِي أَصْحَابِي ، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ ، فَأَوَّلْتُهَا المَدِينَةَ فَأَشِيرُوا عَلَيَّ " وكره الخروج إليهم ، فكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يخرج إليهم ، ولكنه كان منافقاً فقال : يا رسول الله لا تخرج إليهم فأنا ما خرجنا إلى عدوّ قط إلا أصاب منا ، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه.
فقال رجال من المسلمين ممن أكرمهم الله بالشهادة وغيرهم ممن فاتته بدر : اخرج لهم يا رسول الله ، لكي لا يرى أعداء الله أنا قد جَبُنَّا عنهم وضعفنا عن قتالهم.
فلم يزالوا به حتى دخل ولبس لأمته ، ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم وقد خرج الناس فقالوا : استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا : يا رسول الله : قد استكرهناك وما كان لنا ذلك ، فإن شئت فاخرج ، وإن شئت فاقعد.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " مَا يَنْبَغِي لِلنَّبِيِّ أَنْ يَضَعَ سِلاَحَهُ إِذَا لَبِسَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسار إلى أُحدٍ ، فانخذل عبد الله بن أبي ابن سلول.
قال في رواية الكلبي : فرجع معه ثلاثمائة من الناس ، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو سبعمائة رجل.
وقال في رواية الضحاك : فانخذل في ستمائة رجل من اليهود ، وبقي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ألف رجل من المؤمنين الطيبين.
(17/27)
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشِّعب من أحد ، وأمر عبد الله بن جبير على الرُّمَاة وقال لهم : " لاَ تَبْرَحُوا مِنْ هَذَا المَوْضِعِ ، وَاثْبُتُوا هاهنا إِنْ كَانَ الأَمْرُ عَلَيْنَا أَوْ لَنَا " وقال في رواية الكلبي : كان الرماةُ خمسين رجلاً.
وقَال في رواية الضحاك : كانوا سبعين رجلاً.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره إلى أُحد ، ودنا المشركون وأخذوا في الحرب ، فقامت هند امرأة أبي سفيان وصواحبتها حين حميت الحرب ، يضربن بالدُّفوف خلف قريش ويقلن :
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِق.
.. نَمْشِي على النَّمَارق
إِن تُقْبِلُوا نُعَانِق.
.. أَو تُدْبِرُوا نفارق
فِرَاقَ غَيْرَ وَامِق.
.. فقاتل أبو دجانة في نفر من المسلمين قتالاً شديداً ، وقاتل علي بن أبي طالب حتى انكسر سيفه ، وقاتل سعد بن أبي وقاص ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لسعد : " ارْمِ فَداكَ أَبِي وَأُمِّي " فقتلوا جماعة من المشركين ، وَصَدَقَهم الله وعده وأنزل نصره ، حتى كانت هزيمة القوم لا شكّ.
فكشفوهم عن عسكرهم قال الزبير : رأيت هنداً وصواحبتها هوارب ، فلما نظر الرماة إلى القوم وانهزموا ، أقبلوا على النهب فقال لهم عبد الله بن جُبَيْر : لا تَبْرحوا عن هذا الموضع ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عَهِدَ إليكم.
فلم يلتفتوا إلى قوله ، وظنوا أن المشركين قد انهزموا ؛ فبقي عبد الله بن جبير مع ثمانية نفر ، فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتي فارس من قِبَل الشِّعب ، فقتلوا من بقي من الرماة ، ودخلوا خلف أقفية المسلمين ، وتفرق المسلمون ورجع المشركون ، وحملوا حملةً واحدة ، فصار المسلمون ثلاثة أنواع : بعضهم جريح ، وبعضهم قتيل ، وبعضهم منهزم.
(17/28)
وكان مصعب بن عمير يَذُبُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتِلَ دونه ، ثم قاد زياد بن السكن فقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتِلَ ، وخلص الحرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقذف بالحجارة حتى وقع بشفتيه ، وأصيبت رباعيَتُه ، وكُلِمَتْ شفته ، وأدمي ساقه.
فقال سفيان بن عيينة : لقد أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين رجلاً ، كلهم جثوا بين يديه.
أو قال : كلهم يتقدم بين يديه.
ثم يقول : وجهي لوجهك الوفاء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك سلام الله غير مودع.
فرجع الذي قتل مصعب بن عمير ، فظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال للمشركين : قتلت محمداً.
فصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قُتل.
ويقال : كان ذلك إبليس لعنه الله ، فولى المسلمون هاربين متحيّرين ، وجاء إبليس لعنه الله ونادى بأعلى صوته في المدينة : ألا إن محمداً قد قتل وأَخَذَت النسوة في البكاء في البيوت ، فأقبل أَنَس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله في رِجَالٍ من المهاجرين والأنصار ، فقال : ما يُجْلسكم ؟ قالوا : قتل محمد.
فقال : ما تصنعون بالحياة بعده ؟ موتوا كراماً على ما مات عليه نبيُّكم.
ثم أقبل نحو العدو ، فقاتل حتى قتل.
قال كعب بن مالك : فأوّل من كنت عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ، عرفت عينيه من تحت المغفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأشار إليَّ أَن اسكت.
وقال أنس بن مالك : قد شجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول : " كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِالدَّمِ " وهو يدعوهم إلى ربهم.(17/29)
ويقال : إن أصحابه لما اجتمعوا قالوا : يا رسول الله ، لو دعوت الله على هؤلاء الذين صنعوا بك ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لَمْ أُبْعَثْ طَعَّاناً وَلاَ لَعَّاناً ، وَلَكِن بُعِثْتُ دَاعِياً وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ "
فجاءه أُبَيّ بن خلف الجمحي ، فقال : يا محمد لا نَجوتُ إن نجوتَ مني.
فهمَّ المسلمون بقتله ، فقال لهم.
"دَعُوهُ" حتى دنا منه ، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ورماه بها ، فخدشه في عنقه خدشاً غير كبير ، وقد كان ذلك لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقال : عندي فرس أعلفه كل يوم فرق ذرة ، أقتلك عليه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ الله " فلما خدشه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقه رجع إلى قريش وهو يقول : قتلني محمد.
فقالوا له : ما بك من طعن.
فقال : بلى ، لقد قال لي أنا أقتلك ، والله لو بصق علي بعد تلك المقالة لقتلني.
فمات قبل أن يصل إلى مكة في طريقها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً عند أحد ، وقد اجتمع عليه بعض أصحابه ، فعلت عليه فرقة من قريش في الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا " فأقبل عمر ورهط من المهاجرين ، فقاتلوهم حتى أهبطوهم من الجبل.
وقد كان جبير بن مطعم قال لمملوك له يقال له وحشي : إن أنت قتلت محمداً جعلت لك أعنة الخيل ، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلت لك مائة ناقة كلها سود الحدقة ، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حرٌّ.
فقال وَحْشي : أما محمد فعليه حافظ من الله تعالى لا يخلص إليه أحد ، وأما عَلَيُّ فما برز إليه رجل إلا قتله ؛ وأما حمزة فرجل شجاع ، فعسى أن أُصَادفه في غِرَّته فاقتله مكانه.(17/30)
وكانت هند كلما مرّ بها وَحْشي أو مرّت به هند قالت له : إيهاً أبا دسمة اشف واستشف.
فكمن وحشي خلف صخرة ، وكان حمزة حمل على قوم من المشركين ، فلما رجع من حملته مرّ بوحشي وهو خلف الصخرة ، فزرقه بمزراق فأصابه فسقط ، فذهبت هند ابنة عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى ، يجدعن الآذان والأنوف ، وشَقَّت هند بطن حمزة وأخذت كبده ومضغته ، ثم صعدت هند على صخرة وهي تنادي بأعلى صوتها : نَحْنُ جَزَيْنَاكم بيوم بَدْر.
وأقبل أبو سفيان وهو يصرخ بأعلى صوته : اعلُ هبل يوماً بيوم بدر.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر : " أَجِبْهُ يَا عُمَرَ " فأجابه عمر : الله أعلى وأجل لا سواه ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ثم ركب النبيّ صلى الله عليه وسلم بغلته ، وظاهر بين درعيه ، وأخرج يده من جيب الدرع ، وسلّ سيفه ذا الفقار ، وباشر القتال بنفسه ، وحمل على المشركين والتأم إليه المسلمون فأعانوه ، وهزم الله جمع المشركين ، وقُتل يومئذ من المسلمين سبعون رجلاً : أربعة نفر من المهاجرين ، وستة وستون من الأنصار.
وقتل يومئذ من المشركين تسعة عشر رجلاً أو أكثر ، وكثرت القروح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعزَّاهم الله تعالى : في ذلك بقوله تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ }. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 274 ـ 277}(17/31)
قوله تعالى : { إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نهاهم عما تقدم وبشرهم سلاهم وبصرهم بقوله : {إن يمسسكم قرح} أي مصيبة بإدالتهم عليكم اليوم {فقد مس القوم} أي الذين لهم من قوة المحاولة ما قد علمتم ، أي في يوم أحد نفسه وفي يوم بدر {قرح مثله} أي في مطلق كونه قرحاً وإن كان أقل من قرحكم في يوم أحد وأكثر منه في يوم بدر ، على أنه كما أنه ظفرهم - بعدما أصابهم وأنكأهم يوم بدر بالزهد الذي ليس بعده وهن - بقتل مثل من قتل منكم وأسر مثلكم ، ويوم أحد بالقتل والهزيمة أول النهار وهم أعداؤه ، فهو جدير بأن يظفركم بعد وهنكم وأنتم أولياؤه ، فكما لم يضعفهم وهنهم وهم على الباطل فلا تضعفوا أنتم وأنتم على الحق ، ترجون من الله ما لا يرجون ، فقد أدلناكم عليهم يوماً وأدلناهم عليكم آخر {وتلك الأيام} ولما نبه على تعظيمها بأداة البعد ، وكانت إنما تعظم بعظم أحوالها ذكر الحال المنبه عليها بقوله : {نداولها بين الناس} أي بأن نرفع من نشاء تارة ونرفع عليه أخرى.(17/32)
ولما كان التقدير : ليدال على من كانت له الدولة ، فيعلم كل أحد أن الأمر لنا بلا شريك ولا منازع عطف عليه قوله : {وليعلم الله} أي المحيط بجميع الكمال {الذين آمنوا} أي بتصديق دعوى الإيمان بنية الجهاد فيكرمهم ، ومعنى {ليعلم} أنه يفعل فعل من يريد علم ذلك بأن يبرز ما يعلمه غيباً إلى عالم الشهادة ليقيم الحجة على الفاعلين على ما يتعارفه الناس بينهم {ويتخذ منكم شهداء} أي بأن يجعل قتلهم عين الحياة التي هي الشهادة ، لا غيبة فيها ، فهو سبحانه وتعالى يزيد في إكرامهم بما صدقوا في إيمانهم بأن لا يكونوا مشهوداً عليهم أصلاً بفتنة في قبورهم ولا غيرها ولا يغفلوا بخوف ولا صعق ولا غيره ، فإن الله يحب المؤمنين ، وليعلم الذين ظلموا ويمحق منهم أهل الجحد والاعتداء {والله} أي الملك الأعلى {لا يحب الظالمين} أي الذين يخالف فعلهم قولهم ، فهو لا يستشهدهم ، وإنما يجعل قتلهم أول خيبتهم وعذابهم ، وفيه بشارة في ترغيب بأنه لا يفعل مع الكفرة فعل المحب ، لئلا يحزنوا على ما أصابهم ، ونذارة في تأديب بأنهم ما أخذوا إلا بتضييعهم الثغر الذي أمرهم به من التزموا طاعته وأمر الله بها في المنشط والمكره بحفظه ، وأقبلوا على الغنائم قبل أن يفرغوا من العدو ، والآية من الاحتباك : إثبات الاتخاذ أولاً دال على نفيه ثانياً ، وإثبات الكراهة ثانياً دال على المحبة أولاً. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 160}(17/33)
وقال الفخر :
واعلم أن هذا من تمام قوله : {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} [ آل عمران : 139 ] فبين تعالى أن الذي يصيبهم من القرح لا يجب أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو ، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك ، فاذا كانوا مع باطلهم ، وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب ، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 13}
لطيفة
قال الماوردى :
الفرق بيت المس واللمس فهو أن اللمس مباشرة بإحساس ، والمس مباشرة بغير إحساس. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 426}
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {قُرْحٌ} بضم القاف وكذلك قوله : {مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح} [ آل عمران : 172 ] والباقون بفتح القاف فيهما واختلفوا على وجوه :
فالأول : معناهما واحد ، وهما لغتان : كالجهد والجهد ، والوجد والوجد ، والضعف والضعف.
والثاني : أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد.
والثالث : أنه بالفتح مصدر وبالضم اسم.
والرابع : وهو قول الفرّاء أنه بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألم الجراحة.
والخامس : قال ابن مقسم : هما لغتان إلا أن المفتوحة توهم أنها جمع قرحة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 13}
قال الطبرى :
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ : "إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قَرْح مثله" ، بفتح"القاف" في الحرفين ، لإجماع أهل التأويل على أن معناه : القتل والجراح ، فذلك يدل على أن القراءة هي الفتح.
وكان بعض أهل العربية يزعُمُ أن"القَرح" و"القُرح" لغتان بمعنى واحد. والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 237}(17/34)
قال ابن عطية ولله دره :
هذه القراءات لا يظن إلا أنها مروية عن النبي عليه السلام : وبجميعها عارض جبريل عليه السلام مع طول السنين توسعة على هذه الأمة ، وتكملة للسبعة الأحرف حسب ما بيناه في صدر هذا التعليق ، وعلى هذا لا يقال : هذه أولى من جهة نزول القرآن بها ، وإن رجحت قراءة فبوجه غير وجه النزول ، قال أبو الحسن الأخفش : " القَرح " و" القُرح " مصدران بمعنى واحد ، ومن قال القَرح بالفتح الجراحات بأعيانها ، والقُرح بضم القاف ألم الجراحات قبل منه إذا أتى برواية ، لأن هذا مما لا يعلم بقياس ، وقال بهذا التفسير الطبري ، وقرأ الأعمش " إن تمسسكم " : بالتاء من فوق ، " قروح " بالجمع ، " فقد مس القوم قرح مثله " ، وقرأ محمد بن السميفع اليماني " قَرَح " بفتح القاف والراء ، قال أبو الفتح : هي لغة في القرح كالشل والشلل والطرد والطرد. هذا مذهب البصريين ، وليس هذا عندهم من تأثير حرف الحلق ، وأنا أميل في هذا إلى قول أصحابنا البغداديين ، في أن لحرف الحلق في مثل هذا أثراً معتمداً ، وقد سمعت بعض بني عقيل يقول : نحوه بفتح الحاء ، يريد نحوه ، ولو كانت الكلمة مبنية على فتح الحاء لأعلت الواو وكعصاة وفتاة ، وسمعت غيره يقول : أنا محموم بفتح الحاء قال ابن جني : ولا قرابة بيني وبين البصريين ولكنها بيني وبين الحق ، والحمد الله. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 512}
فصل
قال الفخر :
في الآية قولان :
أحدهما : إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مسهم يوم بدر ، وهو كقوله تعالى : {أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا} [ آل عمران : 165 ](17/35)
والثاني : أن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجرح والقتل ، لأنه قتل منهم نيف وعشرون رجلا ، وقتل صاحب لوائهم والجراحات كثرت فيهم وعقر عامة خيلهم بالنبل ، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 13}
فائدة
قال ابن عاشور :
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الايام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس }.
تسلية عمَّا أصاب المسلمين يوم أُحُد من الهزيمة بأن ذلك غير عجيب في الحرب ، إذ لا يخلو جيش من أن يغلب في بعض مواقع الحرب ، وقد سبق أنّ العدوّ غُلب.
والمسّ هنا الإصابة كقوله في سورة [ البقرة : 214 ] { مستهم البأساء والضراء } والقَرح بفتح القاف في لغة قريش الجرح ، وبضمِّها في لغة غيرهم ، وقرأه الجمهور : بفتح القاف ، وقرأه حمزة والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف : بضمّ القاف ، وهو هنا مستعمل في غير حقيقته ، بل هو استعارة للهزيمة الَّتي أصابتهم ، فإنّ الهزيمة تشبّه بالثلمة وبالانكسار ، فشبّهت هنا بالقرح حين يصيب الجسد ، ولا يصحّ أن يراد به الحقيقة لأنّ الجراح الَّتي تصيب الجيش لا يعبأ بها إذا كان معها النصر ، فلا شكّ أنّ التسلية وقعت عمّا أصابهم من الهزيمة.
والقوم هم مشركو مكة ومن معهم.
والمعنى إن هُزِمتم يوم أُحُد فقد هزم المشركون يوم بدر وكنتم كفافاً.
ولذلك أعقبه بقوله : وتلك الأيام نداولها بين الناس }.
والتَّعبير عمَّا أصاب المسلمين بصيغة المضارع في { يمسسكم } لقُربه من زمن الحال ، وعمّا أصاب المشركين بصيغة الماضِي لبعده لأنَّه حصل يوم بدر.(17/36)
فقوله : { فقد مس القوم قرح } ليس هو جواب الشرط في المعنى ولكنّه دليل عليه أغنى عنه على طريقة الإيجاز ، والمعنى : إن يمسكم قرح فلا تحْزنوا أو فلا تهنوا وهَناً بالشكّ في وعد الله بنصر دينه إذ قد مسّ القومَ قرح مثله فلم تكونوا مهزومين ولكنّكم كنتم كفافاً ، وذلك بالنِّسبة لقلّة المؤمنين نصر مبين.
وهذه المقابلة بما أصاب العدوّ يوم بدر تعيِّن أن يكون الكلام تسلية وليس إعلاماً بالعقوبة كما قاله جمع من المفسّرين.
وقد سأل هرقل أبا سفيان : كيف كان قتالكم له قال "الحرب بيننا سِجَال يَنَالُ مِنَّا وننال منه ، فقال هرقل : وكذلك الرسل تبتلَى وتكون لهم العاقبة". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 228 ـ 229}
سؤال : فإن قيل كيف قال : {قَرْحٌ مّثْلُهُ} وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين ؟
قلنا : يجب أن يفسر القرح في هذا التأويل بمجرد الانهزام لا بكثرة القتلى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 13}
قوله تعالى : {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس}
فصل
قال الفخر :
قال القفال : المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر ، يقال : تداولته الأيدي إذا تناقلته ومنه قوله تعالى : {كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ} [ الحشر : 7 ] أي تتداولونها ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً ، ويقال : الدنيا دول ، أي تنتقل من قوم الى آخرين ، ثم عنهم إلى غيرهم ، ويقال : دال له الدهر بكذا إذا انتقل اليه ، والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس لا يدوم مسارها ولا مضارها ، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوه ، ويوم آخر بالعكس من ذلك ، ولا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها.(17/37)
واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصرة الله منصب شريف وإعزاز عظيم ، فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه : الأول : أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الايمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الايمان ، وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الاسلام فيعظم ثوابه عند الله.
والثاني : أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي ، فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدباً له وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضبا من الله عليه.
والثالث : وهو أن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وأحوالها غير مستمرة ، وإنما تحصل السعادات المستمرة في دار الآخرة ، ولذلك فإنه تعالى يميت بعد الاحياء ، ويسقم بعد الصحة ، فاذا حسن ذلك فلم لا يحسن أن يبدل السراء بالضراء ، والقدرة بالعجز ، وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ثم قال : أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب ، فقال عمر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال ، فقال عمر رضي الله عنه لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، فقال : إن كان كما تزعمون ، فقد خبنا إذن وخسرنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 13 ـ 14}(17/38)
وقال ابن عاشور :
وقوله : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } الواو اعتراضية ، والإشارة بتلك إلى ما سيُذكر بعدُ ، فالإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن لقصد الاهتمام بالخبر وهذا الخبر مكنّى به عن تعليل للجواب المحذوف المدلول عليه بجملة : { فقد مس القوم قرح مثله }.
و { الأيَّام } يجوز أن تكون جمع يوم مراد به يوم الحرب ، كقولهم : يوم بدر ويوم بُعاث ويوم الشَّعْثَمَيْن ، ومنه أيّام العرب ، ويجوز أن يكون أطلق على الزّمان كقول طرفة :
وما تَنْقُصصِ الأيَّامُ والدهرُ يَنْفَدِ...
أي الأزمان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 229}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } القرح الجرح.
والضم والفتح فيه لغتان عن الكسائي والأخفش ؛ مثل عَقْر وعُقْر.
الفراء : هو بالفتح الجُرح ، وبالضم ألَمُه.
والمعنى : إن يمسسكم يوم أُحُدٍ قَرْح فقد مَسّ القوم يوم بَدْرٍ قَرْح مثله.
وقرأ محمد بن السَّمَيْقَع "قرح" بفتح القاف والراء على المصدر.
{ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } قيل : هذا في الحرب ، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه ، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليَهم ويُمَحِّصَ ذنوبهم ؛ فأما إذا لم يَعْصوا فإنّ حزب الله هم الغالبون.
وقيل : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ } من فَرَح وَغمّ وصحّةِ وسُقْم وغِنًى وفقْرٍ.
والدُّولَةُ الكَرَّة ؛ قال الشاعر :
فيومٌ لنا ويومٌ علينا . . .
ويومٌ نُسَاءُ ويَوْمٌ نُسَرّ
قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ } معناه ، وإنما كانت هذه المدَاولَةُ ليُرَى المؤمنُ من المنافق فيُمَيَّز بعضُهم من بعض ؛ كما قال : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجمعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَم المُؤْمِنِينَ.
ولِيَعْلَم الّذينَ نَافَقُوا }.(17/39)
وقيل : ليعلَم صبر المؤمنين ، العلمَ الذي يقع عليه الجزاء كما علمه غَيْباً قبل أن كَلّفَهم.
وقد تقدّم في "البقرة" هذا المعنى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 217 ـ 218}
قوله تعالى {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ}
فصل
قال الفخر :
الواو في قوله : {وليعلم الله الذين آمنوا} نظائره كثيرة في القرآن ، قال تعالى : {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [ الأنعام : 75 ] وقال تعالى : {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [ الأنعام : 113 ] والتقدير : وتلك الأيام نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم الله ، وإنما حذف المعطوف عليه للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ، ليسليهم عما جرى ، وليعرفهم أن تلك الواقعة وأن شأنهم فيها ، فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 14}
فائدة
قال السمرقندى :
{ وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ } يعني يتبين المؤمن من المنافق أنهم يشكون في دينهم أم لا ، لأن المؤمن المخلص يتبين حالُه عند الشدة والبلايا.
وهذا كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه : إن الذهب والفضة يختبران بالنار ، والمؤمن يختبر بالبلايا ، والاختبار من الله تعالى إظهار ما علم منه من قبل فذلك قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ } يعني ليبين لهم الله الذي يعلم إيمانه ، لأنه يعطى الثواب بما يظهر منه لا بما يعلم منه ، وكذلك العقوبة.
أَلاَ ترى أنه عَلِم من إبليس المعصية في المستقبل ثم لم يلعنه ما لم يظهر منه. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 277 ـ 278}(17/40)
وقال أبو السعود :
: { وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ } إما من باب التمثيلِ أي ليعامِلَكم معاملةَ من يريد أن يَعلمَ المخلِصين الثابتين على الإيمان من غيرهم ، أو العلمُ فيه مجازٌ عن التمييز بطريق إطلاقِ اسمِ السببِ على المسبَّب أي ليُميِّزَ الثابتين على الإيمان من غيرهم كما في قوله تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } أو هو على حقيقته معتبَرٌ من حيث تعلُّقُه بالمعلوم من حيث إنه موجودٌ بالفعل إذ هو الذي يدور عليه فلكُ الجزاءِ لا من حيث أنه موجودٌ بالقوة.
وإطلاقُ الإيمانِ مع أن المرادَ هو الرسوخُ والإخلاصُ فيه للإيذان بأن اسمَ الإيمانِ لا ينطلق على غيره ، والالتفاتُ إلى الغَيبة بإسناده إلى اسم الذاتِ المستجمِعِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بأن صدورَ كلِّ واحدٍ مما يُذكر بصدد التعليلِ من أفعاله تعالى باعتبار منشإٍ معيّنٍ من صفاته تعالى مغايرٌ لمنشإ الآخَر ، والجملةُ علةٌ لما هو فردٌ من أفراد مُطلقِ المداولةِ التي نطقَ بها قولُه تعالى : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس }. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 89 ـ 90}(17/41)
فصل
قال الفخر :
ظاهر قوله تعالى : {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ} مشعر بأنه تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم ، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ، ونظير هذه الآية في الإشكال قوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [ آل عمران : 142 ] وقوله : {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [ العنكبوت : 3 ] وقوله : {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا} [ الكهف : 12 ] وقوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [ محمد : 31 ] وقوله : {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول} [ البقرة : 143 ] وقوله {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [ هود : 7 ، الملك : 2 ] وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها ، فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها.
أجاب المتكلمون عنه : بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها ، فثبت أن التغيير في العلم محالا إلا أن اطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور ، يقال : هذا علم فلان والمراد معلومه ، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره ، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم ، فالمراد تجدد المعلوم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 14 ـ 15}
وقال ابن عاشور :
{ وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الكافرين }.(17/42)
عطف على جملة { وتلك الأيام نداولها بين الناس } ، فمضمون هذه علّة ثانية لجواب الشرط المحذوف المدلول عليه بقوله : { فقد مس القوم قرح مثله } وعلم الله بأنّهم مؤمنون متحقق من قبل أن يمسهم القرح.
فإن كان المراد من { الَّذين آمنوا } هنا معنى الَّذين آمنوا إيماناً راسخاً كاملاً فقد صار المعنى : أنّ علم الله برسوخ إيمانهم يحصل بعد مَسِّ القرح إيّاهم ، وهو معنى غير مستقيم ، فلذلك اختلف المفسّرون في المراد من هذا التَّعليل على اختلاف مذاهبهم في صفة العِلم ، وقد تقرّر في أصول الدّين أن الفلاسفة قالوا : إنّ الله عالم بالكلّيات بأسرها ، أي حقائق الأشياء على ما هي عليه ، علماً كالعِلم المبحوث عنه في الفلسفة لأنّ ذلك العلم صفة كمال ، وأنَّه يعلم الجزئيات من الجواهر والأعراض علماً بوجه كلّي.
ومعنى ذلك أنَّه يعلمها من حيث إنَّها غير متعلّقة بزمان ، مِثالُه : أن يعلم أنّ القمر جسم يوجد في وقت تكوينه ، وأنّ صفته تكون كذا وكذا ، وأنّ عوارضه النورانية المكتسبة من الشَّمس والخسوف والسَّير في أمد كذا.
أمَّا حصوله في زمانه عندما يقع تكوينه ، وكذلك حصول عوارضه ، فغير معلوم لله تعالى ، قالوا : لأنّ الله لو علم الجزئيات عند حصولها في أزمنتها للزم تغيّر علمه فيقتضي ذلك تغيّر القديم ، أو لزم جهل العالِم ، مثاله : أنَّه إذا علم أنّ القمر سيخسف ساعة كذا علماً أزلياً ، فإذا خسف بالفعل فلا يخلو إمّا أن يزول ذلك العلم فيلزم تغيّر العلم السابق فيلزم من ذلك تغيّر الذات الموصوفةِ به من صفة إلى صفة ، وهذا يستلزم الحدوث إذ حدوث الصّفة يستلزم حدوث الموصوف ، وإمّا أن لا يزول العلم الأول فينقلب العلمُ جهلاً ، لأنّ الله إنَّما علم أنّ القمر سيخسف في المستقبل والقمر الآن قد خسف بالفعل.(17/43)
ولأجل هذا قالوا : إنّ علم الله تعالى غير زماني.
وقال المسلمون كلّهم : إنّ الله يعلم الكلّيات والجزئيات قبل حصولها ، وعند حصولها.
وأجابوا عن شبهة الفلاسفة بأن العلم صفة من قبيل الإضافة أي نسبة بين العالِم والمعلوم ، والإضافات اعتباريات ، والاعتباريات عدميات ، أو هو من قبيل الصّفة ذات الإضافة : أي صفة وجودية لها تعلّق ، أي نسبة بينها وبين معلومها.
فإن كان العلم إضافة فتغيّرها لا يستلزم تغيّر موصوفها وهو العالم ، ونظَّروا ذلك بالقديم يوصف بأنَّه قبل الحادث ومعه وبعده ، من غير تغيّر في ذات القديم ، وإن كان العلم صفة ذات إضافة أي ذات تعلّق ، فالتغيّر يعتري تعلّقها ولا تتغيّر الصّفة فضلاً عن تغيّر الموصوف ، فعلمُ اللَّهِ بأن القمر سيخسف ، وعلمُه بأنَّه خاسف الآن ، وعلمُه بأنَّه كان خاسفاً بالأمس ، علم واحد لا يتغيّر موصوفة ، وإن تغيّرت الصّفة ، أو تغيّر متعلّقها على الوجهين ، إلاّ أن سلف أهل السنّة والمعتزلة أبوا التَّصريح بتغيّر التعلُّق ولذلك لم يقع في كلامهم ذكر تعلقين للعلم الإلهي أحدهما قديم والآخر حادث ، كما ذكروا ذلك في الإرادة والقدرة ، نظراً لكون صفة العلم لا تتجاوز غيرَ ذات العالم تجاوزاً محسوساً.
فلذلك قال سلفهم : إنّ الله يعلم في الأزل أنّ القمر سيخسف في سنتنا هذه في بلد كذا ساعة كذا ، فعند خسوف القمر كذلك عَلِم اللَّه أنَّه خسف بذلك العلم الأوّل لأنّ ذلك العلم مجموع من كون الفعل لم يحصل في الأزل ، ومن كونه يحصل في وقته فيما لا يزال ، قالوا : ولا يقاس ذلك على علمنا حين نعلم أنّ القمر سيخسف بمقتضى الحساب ثمّ عند خسوفه نعلم أنَّه تحقّق خسوفه بعلم جديد ، لأنّ احتياجنا لعلم متجدّد إنَّما هو لطريان الغفلة عن الأول.(17/44)
وقال بعض المعتزلة مثل جَهْم بن صَفْوَان وهِشام بن الحَكم : إنّ الله عالم في الأزل بالكلّيات والحقائق ، وأمَّا علمه بالجزئيات والأشخاص والأحوال فحاصل بعد حدوثها لأنّ هذا العلم من التصديقات ، ويلزمه عَدم سبق العلم.
وقال أبو الحُسين البصري من المعتزلة ، رادّاً على السلف : لا يجوز أن يكون علم الله بأنّ القمر سيخسف عين علمه بعد ذلك بأنَّه خسف لأمور ثلاثة : الأوّل التغايُر بينهما في الحقيقة لأنّ حقيقة كونه سيقع غيرُ حقيقة كونه وقع ، فالعلمُ بأحدهما يغاير العلم بالآخر ، لأنّ اختلاف المتعلّقين يستدعي اختلاف العالم بهما.
الثَّاني التغاير بينهما في الشرط فإنّ شرط العلم بكون الشيء سيقع هو عدم الوقوع ، وشرط العلم بكونه وقَع الوقوعُ ، فلو كان العلمان شيئاً واحداً لم يختلف شرطاهُما.
الثَّالث أنّه يمكن العلم بأنَّه وقع الجهل بأنَّه سيقع وبالعكس وغير المعلوم غير المعلوم ( هكذا عبّر أبو الحسين أي الأمر الغير المعلوم مغاير للمعلوم ) ولذلك قال أبو الحسين بالتزام وقوع التَّغير في علم الله تعالى بالمتغيِّرات ، وأنّ ذاته تعالى تقتضي اتّصافه بكونه عالماً بالمعلومات الَّتي ستقع ، بشرط وقوعها ، فيحدث العلم بأنَّها وجدت عند وجودها ، ويزول عند زوالها ، ويحصل علم آخر ، وهذا عين مذهب جهم وهشام.
ورُدّ عليه بأنَّه يلزم أن لا يكون الله تعالى في الأزل عالماً بأحوال الحوادث ، وهذا تجهيل.(17/45)
وأجاب عنه عبد الحكيم في "حاشية المواقف" بأنّ أبا الحسين ذهب إلى أنَّه تعالى يعلم في الأزل أنّ الحادث سيقع على الوصف الفلاني ، فلا جهل فيه ، وأنّ عدم شهوده تعالى للحوادث قبل حدوثها ليس بجهل ، إذ هي معدومة في الواقع ، بل لو علمها تعالى شهودياً حينَ عدمها لكان ذلك العلم هو الجهل ، لأنّ شهود المعدوم مخالف للواقع ، فالعلم المتغيّر الحادث هو العلم الشهودي.
فالحاصل أنّ ثمة علمين : أحدهما قديم وهو العلم المشروط بالشروط ، والآخر حادث وهو المعلوم الحاصلة عند حصول الشروط وليست بصفة مستقلّة ، وإنَّما هي تعلّقات وإضافات ، ولذلك جرى في كلام المتأخّرين ، من علمائنا وعلماء المعتزلة ، إطلاق إثباتتِ تعلّقٍ حادثثٍ لعلم الله تعالى بالحوادث.
وقد ذكر ذلك الشَّيخ عبد الحكيم في "الرسالة الخاقانية" الَّتي جعلها لِتحقيق علم الله تعالى غير منسوب لقائل ، بل عبّر عنه بقيل ، وقد رأيت التفتزاني جرى على ذلك في "حاشية الكشّاف" في هذه الآية فلعل الشَّيخ عبد الحكيم نسي أن ينسبه.
وتأويل الآية على اختلاف المذاهب : فأمَّا الّذين أبو إطلاق الحدوث على تعلّق العلم فقالوا في قوله : { وليعلم الله الذين آمنوا } أطلق العلم على لازمه وهو ثبوت المعلوم أي تميّزه على طريقة الكناية لأنَّها كإثبات الشيء بالبرهان ، وهذا كقول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلت والخطيّ يخطِر بينا...
لأَعْلَمَ مَن جَبَانَها مِنْ شجاعها
أي ليظهر الجبان والشُّجاع فأطلق العلم وأريد ملزومه.
ومنهم من جعل قوله : { وليعلم الله } تمثيلاً أي فعل ذلك فِعْلَ من يريد أن يعلم وإليه مال في "الكشاف" ، ومنهم من قال : العلّة هي تعلّق علم الله بالحادث وهو تعلّق حادث ، أي ليعلم الله الَّذين آمنوا موجودين.
قاله البيضاوي والتفتزاني في "حاشية الكشّاف".(17/46)
وإن كان المراد من قوله : { الذين آمنوا } ظاهرَهُ أي ليعلم من اتَّصف بالإيمان ، تعيّن التأويل في هذه الآية لاَ لأجل لزوم حدوث علم الله تعالى ، بل لأنّ علم الله بالمؤمنين من أهل أُحُد حاصل من قبلِ أن يمسّهم القرح ، فقال الزجاج : أراد العِلمَ الَّذي يترتّب عليه الجزاء وهو ثباتهم على الإيمان ، وعدم تزلزلهم في حال الشدّة ، وأشار التفتزاني إلى أنّ تأويل صاحب "الكشاف" ذلك بأنَّه وارد مورد التمثيل ، ناظر إلى كون العلم بالمؤمنين حاصلاً من قبل ، لا لأجل التحرّز عن لزوم حدوث العلم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 230 ـ 232}
فصل
قال الفخر :
في هذه الآية وجوه :
أحدها : ليظهر الإخلاص من النفاق والمؤمن من الكافر.
والثاني : ليعلم أولياء الله ، فأضاف الى نفسه تفخيما.
وثالثها : ليحكم بالامتياز ، فوضع العلم مكان الحكم بالامتياز ، لأن الحكم بالامتياز لا يحصل إلا بعد العلم.
ورابعها : ليعلم ذلك واقعاً منهم كما كان يعلم أنه سيقع ، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 15}(17/47)
فصل
قال الفخر :
العلم قد يكون بحيث يكتفى فيه بمفعول واحد ، كما يقال : علمت زيداً ، أي علمت ذاته وعرفته ، وقد يفتقر إلى مفعولين ، كما يقال : علمت زيداً كريما ، والمراد منه في هذه الآية هذا القسم الثاني ، إلا أن المفعول الثاني محذوف والتقدير : وليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالإيمان من غيرهم ، أي الحكمة في هذه المداولة أن يصير الذين آمنوا متميزين عمن يدعي الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام ، ويحتمل أن يكون العلم ههنا من القسم الأول ، بمعنى معرفة الذات ، والمعنى وليعلم الله الذين آمنوا لما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم ، أي ليعرفهم بأعيانهم إلا أن سبب حدوث هذا العلم ، وهو ظهور الصبر حذف ههنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 15}
قوله تعالى : {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء}
قال الفخر :
المراد منه ذكر الحكمة الثانية في تلك المداولة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 15}
في هذه الآية قولان :
الأول : يتخذ منكم شهداء على الناس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي ، فإن كونهم شهداء على الناس منصب عال ودرجة عالية.
والثاني : المراد منه وليكرم قوماً بالشهادة ، وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر ، وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر يقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة ، وأيضا القرآن مملوء من تعظيم حال الشهداء قال تعالى :(17/48)
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} [ آل عمران : 169 ] وقال : {وَجِىء بالنبيين والشهداء} [ الزمر : 69 ] وقال : {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [ النساء : 69 ] فكانت هذه المنزلة هي المنزلة الثالثة للنبوة ، وإذا كان كذلك فكان من جملة الفوائد المطلوبة من تلك المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 15}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } أي يكرمكم بالشهادة ؛ أي لِيُقتلَ قومٌ فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم.
وقيل : لهذا قيل شهيد : وقيل : سمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة وقيل : سمى شهيداً لأن أرواحهم احتضرت دار السلام ، لأنهم أحياء عند ربهم ، وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة ؛ فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة ، وهذا هو الصحيح على ما يأتي والشهادة فضلها عظيم ، ويكفيك في فضلها قوله تعالى : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ } [ التوبة : 111 ] الآية.
وقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.
تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 10 ] إلى قوله تعالى : { ذَلِكَ الفوز العظيم } [ الصَّف : 12 ].(17/49)
وفي صحيح البُسْتيّ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يجِد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدُكم من القُرْحة " وروى النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال : يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يُفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : " كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة " وفي البخاري : "من قُتل من المسلمين يوم أُحد" منهم حمزةُ واليَمَان والنضر بن أنس ومصعب بن عُمير.
حدّثني عمرو بن عليّ أن معاذ بن هشام قال حدّثني أبي عن قتادة قال : "ما نعلم حيّاً من أحياء العرب أكثر شهيداً أعزّ يوم القيامة من الأنصار قال قتادة : وحدّثنا أنس بن مالك أنه قُتل منهم يوم أُحُد سبعون ، ويوم بِئْر مَعُونَة سبعون ، ويوم اليَمَامَة سبعون.
قال : وكان بئر معونة على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويوم اليَمَامةَ على عهد أبي بكر يوم مُسَيْلِمة الكذّاب" وقال أنس : " أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعليّ بن أبي طالب وبه نيف وسِتون جراحة من طعنةٍ وضربةٍ ورمْيَةٍ ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسحها وهي تَلْتَئم بإذن الله تعالى كأن لم تكن ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 218 ـ 219}
فصل
قال الفخر :(17/50)
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى فقالوا : منصب الشهادة على ما ذكرتم ، فإن كان يمكن تحصيلها بدون تسليط الكفار على المؤمنين لم يبق لحسن التعليل وجه ، وإن كان لا يمكن فحينئذ يكون قتل الكفار للمؤمنين من لوازم تلك الشهادة ، فاذا كان تحصيل تلك الشهادة للعبد مطلوباً لله تعالى وجب أن يكون ذلك القتل مطلوباً لله تعالى ، وأيضاً فقوله : {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} تنصيص على أن ما به حصلت تلك الشهادة هو من الله تعالى ، وذلك يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 15}
وقال القرطبى :
في قوله تعالى : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } دليل على أن الإرادة غير الأمر كما يقوله أهل السنة ؛ فإن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين : حمزةَ وأصحابِه وأراد قتلهم ، ونهى آدم عن أكل الشجرة وأراده فواقَعه آدم ، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرِده فامتنع منه ؛ وعنه وقعت الإشارة بقوله الحق : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ } [ التوبة : 46 ].
وإِن كان قد أمر جميعهم بالجهاد ، ولكنه خلق الكَسَل والأسباب القاطعة عن المسِير فقعدوا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 219}
فصل
قال الفخر :
الشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء ، والمقتول من المسلمين بسيف الكفار شهيداً ، وفي تعليل هذا الاسم وجوه :
الأول : قال النضر بن شميل : الشهداء أحياء لقوله : {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} [ آل عمران : 169 ] فأرواحهم حية وقد حضرت دار السلام ، وأرواح غيرهم لا تشهدها ،
الثاني : قال ابن الانباري : لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة ، فالشهيد فعيل بمعنى مفعول ، (17/51)
الثالث : سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين ، كما قال تعالى : {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} [ البقرة : 143 ]
الرابع : سموا شهداء لأنهم كما قتلوا أدخلوا الجنة ، بدليل أن الكفار كما ماتوا أدخلوا النار بدليل قوله : {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [ نوح : 25 ] فكذا ههنا يجب أن يقال : هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله ، كما ماتوا دخلوا الجنة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 15 ـ 16}
فائدة
قال القرطبى :
رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال له : "خَيِّر أصحابك في الأسارى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفِداء على أن يقتل منهم عام المقبِل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا" " أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن.
فأنجز الله وعده بشهادة أوليائه بعد أن خَيَّرهم فاختاروا القتل. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 219}
قوله تعالى : {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين}
قال الفخر :
{والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي المشركين ، لقوله تعالى : {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [ لقمان : 13 ] وهو اعتراض بين بعض التعليل وبعض ، وفيه وجوه : الأول : والله لا يحب من لا يكون ثابتاً على الايمان صابراً على الجهاد.
الثاني : فيه إشارة إلى أنه تعالى إنما يؤيد الكافرين على المؤمنين لما ذكر من الفوائد ، لا لأنه يحبهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 15 ـ 16}(17/52)
وقال الآلوسى :
{ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } أي يبغضهم ، والمراد من الظالمين إما المنافقون كابن أبيّ وأتباعه الذين فارقوا جيش الإسلام على ما نقلناه فيما قبل فهم في مقابلة المؤمنين فيما تقدم المفسر بالثابتين على الإيمان الراسخين فيه الذين توافق ظواهرهم بواطنهم ، وإما بمعنى الكافرين المجاهرين بالكفر ، وأياً ما كان فالجملة معترضة لتقرير مضمون ما قبلها ، وفيها تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافر على الحقيقة وإنما يغله أحياناً استدراجاً له وابتلاءاً للمؤمن ، وأيضاً لو كانت النصرة دائماً للمؤمنين لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفأل ، والمقصود غير ذلك. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 69}
فصل
قال الشيخ الشنفيطى :
قوله تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ }.
المراد بالقرح الذي مس المسلمين هو ما أصابهم يوم أحد من القتل والجراح ، كما أشار له تعالى في هذه السورة الكريمة في مواضع متعددة كقوله : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } [ آل عمران : 143 ] وقوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } [ آل عمران : 140 ] الآية وقوله : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] وقوله : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } [ آل عمران : 153 ] ٍ ونحو ذلك من الآيات.(17/53)
وأما المراد بالقرح الذي مس القوم المشركين فيحتمل أنه هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر ، وعليه فإليه الإشارة بقوله : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } [ الأنفال : 12-13 ]
ويحتمل أيضاً أنه هزيمة المشركين أولاً يوم أُحد كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى ، وقد أشار إلى القرحين معاً بقوله : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } [ آل عمران : 165 ] فالمراد بمصيبة المسلمين القرح الذي مسهم يوم أُحُد ، والمراد بمصيبة الكفار بمثليها قبل القرح الذي مسهم يوم بدر. لأن المسلمين يوم أحد قتل منهم سبعون والكفار يوم بدر قتل منهم سبعون ، وأسر سبعون.
وهذا قول الجمهور وذكر بعض العلماء أن المصيبة التي أصابت المشركين هي ما أصابهم يوم أحد من قتل وهزيمة ، حيث قتل حملة اللواء من بني عبد الدار ، وانهزم المشركون في أول الأمر هزيمة منكرة وبقي لواؤهم ساقطاً حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية وفي ذلك يقول حسان :
فلولا لواء الحارثية أصبحوا... يباعون في الأسواق بيع الجلائب
وعلى هذا الوجه : فالقرح الذي أصاب القوم المشركين يشير إليه قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [ آل عمران : 152 ] الآية. ومعنى تحسونهم : تقتلونهم وتستأصلونهم وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل ومنه قول جرير :
تحسهم السيوف كما تسامى... حريق النار في أجم الحصيد
وقول الآخر :(17/54)
حسناهم بالسيف حساً فأصبحت... بقيتهم قد شردوا وتبددوا
وقول رؤبة :
إذا شكونا سنة حسوسا... تأكل بعد الأخضر اليبيسا
يعني بالسنة الحسوس : السنة المجدبة التي تأكل كل شيء ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن الآية قد يكون فيها احتمالان وكل منهما يشهد له قرآن ، وكلاهما حق فنذكرهما معاً ، وما يشهد لكل واحد منهما.
قال بعض العلماء : وقرينة السياق تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم أحد.
لأن الكلام في وقعة أحد ولكن التثنية في قوله مثليها تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم بدر. لأنه لم ينقل أحد أن الكفار يوم أحد أصيبوا بمثلي ما أصيب به المسلمون ، ولا حجة في قوله : { تَحُسُّونَهُمْ } [ آل عمران : 152 ]. لأن ذلك الحس والاستئصال في خصوص الذين قتلوا من المشركين ، وهم أقل ممن قتل من المسلمين يوم أحد ، كما هو معلوم.
فإن قيل : ما وجه الجمع بين الإفراد في قوله : { قَرْحٌ مِّثْلُهُ } [ آل عمران : 140 ] وبين التثنية في قوله : { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } [ آل عمران : 165 ] فالجواب والله تعالى أعلم أن المراد بالتثنية قتل سبعين وأسر سبعين يوم بدر ، في مقابلة سبعين يوم أحد ، كما عليه جمهور العلماء.
والمراد بإفراد المثل : تشبيه القرح بالقرح في مطلق النكاية والألم ، والقراءتان السبعيتان في قوله : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ } [ آل عمران : 140 ] بفتح القاف وضمها في الحرفين معناهما واحد فهما لغتان كالضعف والضعف.
وقال الفراء : القرح بالفتح الجرح وبالضم ألمه اه. ومن إطلاق العرب القرح على الجرح قول متمم بن نويرة التميمي :
قعيدك ألا تسمعيني ملامة... ولا تنكثي قرح الفؤاد فييجعا. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 244 ـ 245}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :(17/55)
قرأ الأخوان ، وأبو بكر : قُرْح - بضم القاف - وكذلك " القُرْحُ " معرَّفاً.
والباقون بالفتح فيهما.
فقيل : هما بمعنى واحد ، ثم اختلف القائلون بهذا.
فقال بعضهم : المراد بهما : الجُرْح نفسه ، وقال بعضهم- منهم الأخفش - المراد بهما المصدر ، يقال : قَرِحَ الجُرح ، يَقْرحُ ، قَرْحاً ، وقُرْحاً.
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
وَبُدِّلْتُ قَرْحاً دَامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ... لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أبْؤُسَا
والفتح لغة الحجاز ، والضم لغة تميم ، فهما كالضَّعْف والضُّعْف ، والكَرْه والكُرْه ، والوَجْد والوُجْد.
وقال بعضهم : المفتوح : الجُرْح ، والمضموم : ألَمُه ، وهو قول الفراء.
وقرأ ابن السميفع بفتح القاف والراء ، كالطرْد والطرَد.
وقال أبو البقاءِ : " وهو مصدر قَرِحَ يَقْرح ، إذا صار له قُرْحَة ، وهو بمعنى : دَمِيَ ".
وقُرِئَ قُرُح - بضمهما-.
قيل : وذلك على الإتباع كاليُسْر واليُسُر ، والطُّنْب والطُّنُب.
وقرأ الأعمش : " إن تمسسكم قروح " - بالتاء من فوق ، [ وصيغة الجمع في الفاعل ] ، وأصل المادة : الدلالة على الخُلُوص ، ومنه الماء القَرَاح ، الذي لا كُدُورةَ فيه.
قال الشاعر : [ الوافر ]
فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ ، وَكُنْتُ قَبْلاً... أكَادُ أغَصُّ بِالْمَاءِ الْقَرَاح
وأرض قرحة - أى : خالصة الطين - ومنه قريحة الرجل - أى : خالص طَبْعه-.
وقال الراغب : " القَرْح الأثر من الجراحة من شيء يُصيبه من خارج ، والقُرْح - يعني : بالضم - أثرها من شيء داخل - كالبشرة ونحوها- يقال : قَرَحْته ، نحو جَرَحْته.
قال الشاعر : [ البسيط ]
لا يُسْلِمُونَ قَرِيحاً حَلَّ وَسَطَهُمُ... يَوْمَ اللِّقَاءِ ، ولا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحُوا
أي : جرحوا. وقرح : خرج به قرح.
(17/56)
ويقال : قَرَحَ قلبُه ، وأقرحه الله - يعني : فَعَل وأفْعَل فيه بمعنًى - والاقتراح : الابتداع والابتكار ومنه : اقترح عليَّ فلانٌ كذا ، واقترحْتُ بِئراً : استخرجت منها ماءً قَرَاحاً. والقريحة - في الأصل - المكان الذي يجمتع فيه الماء المستنبط - ومنه استُعِيرت قريحةُ الإنسان - وفرس قارح ، إذا أصابه أثَرٌ من ظُهور نَابِهِ ، والأنْثَى قارحة ، وروضة قرحاء ، إذا كان في وسطها نَوْر ؛ وذلك لتشبيهها بالفرس القرحاء ".
قوله : { فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ } للنحويين - في مثل هذا - تأويل ، وهو أن يُقَدِّرُوا شيئاً مستقبلاً ؛ لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل - وقوله : { فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِثْلُهُ } ماضٍ مُحَقَّق - وذلك التأويل هو التبيين ، أي : فقد تَبَيَّن مَسُّ القرح للقوم وسيأتي له نظائر ، نحو : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ } [ يوسف : 26 ] و{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ].
وقال بعضهم : جواب الشرط محذوف ، تقديره : فتأسَّوا ، ونحو ذلك.
وقال أبو حيان : " ومَنْ زعم أن جواب الشرط هو " فَقَدْ مَسَّ " ، فهو ذاهل ".
قال شهابُ الدين : " غالب النحويين جعلوه جواباً ، متأولين له بما ذكرت ".
(17/57)
قوله : { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } يجوز في " الأيَّامُ " أن تكون خبراً لِـ " تِلْكَ " و" نُدَاوِلُهَا " جملة حالية ، العامل فيها معنى اسم الإشارة ، أي : إشيرُ إليها حال كونها مداوَلةً ، ويجوز أن تكون " الأيَّامُ " بدلاً ، أو عَطْفَ بيان ، أو نَعْتاً لاسم الإشارة ، والخبر هو الجملة من قوله : { نُدَاوِلُهَا } وقد مر نحوه في قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا } [ أل عمران : 108 ] إلا أن هناك لا يجيء القول بالنعت ؛ لما عرفت أنَّ اسم الإشارة لا ينعت إلا بذي أل و" بَيْنَ " متعلق بـ " نُدَاوِلُهَا " ، وجَوَّزَ أبُو البقاءِ أن يكون حالاً من مفعول " نُدَاوِلُهَا " ولَيْسَ بِشَيءٍ.
والمداوَلة : المناوَبة على الشيء ، والمُعَاودة ، وتعهَّده مرةَ بعد أخْرَى ، يقال : دَاوَلْتُ بينهم الشيء فتداولوه ، كأن " فَاعَل " بمعنى : " فَعَل ".
قال الشاعر : [ الكامل ]
تَرِدُ الْمِيَاهَ ، فَلاَ تَزَالُ تَدَاوُلاً... في النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّل وَسَمَاعِ
وأدال فلانٌ فلاناً : جعل له دولة.
وقال الفقَّال : المداولة : نَقْل الشيء من واحد إلى آخر ، يقال : تداولته الأيدي - إذا تناولته ومنه قوله تعالى : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ } [ الحشر : 7 ] أي : تتداولونها ، ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً ، ويقال : الدُّنيا دول ، أي : تنتقل من قوم إلى آخرين.
ويقال دال له الدهرُ بكذا - إذا انتقل إليه.
ويقال : دُولة ، ودَوْلة - بفتح الفاء وضمها - وقد قُرِئَ بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
واختلفوا ، هل اللفظتان بمعنًى ، أو بينهما فَرْقٌ.
فقال الراغب : " إنهما سِيَّانِ ، فيكون في المصدر لغتان ".
وفرَّق بعضُهم بينهما ، واختلف هؤلاء في الفرق.(17/58)
فقال بعضُهم : الدَّوْلَة - بالفتح - في الحرب والجاه ، وبالضم : في المال ، وهذا تردُّه القراءتان في سورة الحشر.
وقيل : بالضم اسم الشيء المتداوَل ، وبالفتح نفس المصدر ، وهذا قريب.
وقيل : بالضم هي المصدر ، وبالفتح الفَعْلة الواحدة ، فلذلك يقال : في دَوْلة فلان ؛ لأنها مرة في الدهر.
والدَّوْر والدَّوْل متقاربان في المعنى ، ولكن بينهما عموم وخصوص ؛ فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيويّ.
والدَّؤلُولُ : الداهية ، والجمع الدآليل والدُّؤلات.
وقرئ شاذًّا : " يُدَاوِلَهَا " - بياء الغيبة - وهو موافق لما قبله ، ولما بعده.
وقرأ العامةُ على الالتفات المفيد للتعظيم.
قوله : " وليعلم الله " ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين :
أحدهما : أن اللام صلة لفعل مُضْمَر ، يدل عليه أول الكلم ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا نُدَاوِلها.
الثاني : أن العامل فيها ( نُدَاوِلُهَا ) المذكور ، بتقدير : نداولها بين الناس ليظهر أمرهم ، ولنبين أعمالهم ، وليعلم الله الذين آمنوا ، فلما ظهر معنى اللام المضمر في " ليظهر " ، و" لتتبين " جرت مجرى الظاهرة ، فجاز العطف عليها.
وَجَوَّز أبو البقاء أن تكون الواو زائدة ، وعلى هذا ، فاللام متعلقة بـ ( نُدَاوِلُهَا ) من غير تقدير شيء ، ولكن هذا لا حاجة إليه.
ولم يَجْنَحْ إلى زيادة الواو إلا الأخفش في مواضع - ليس هذا منها - ووافقه بعض الكوفيين على ذلك.
وقدَّرَه الزَّمَخْشَرِيُّ : " فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم ". فقدر عاملاً ، وعلق به علة محذوفة ، عطف عليها هذه العلة.
(17/59)
قال أبو حيان : " ولم يُعَيِّن فاعل العلة المحذوفة ، إنما كَنَّى عنه بـ " كيت وكيت " ، ولا يُكَنَّى عن الشيء حتى يُعْرَف ، ففي هذا الوجه حذف العلة ، وحذف عاملها ، وإبهام فاعلها ، فالوجه الأول أظهر ؛ إذْ ليس فيه غير حذف العامل ". ويعني بالوجه الأول أنه قَدَّره : وليعلم الله فعلنا ذلك - وهو المداولة ، أو نَيْل الكفار منكم-.
وقال بعضهم : " اللام المتعلقة بفعل مُضْمَر ، إما بعده ، أو قبلَه ، أما الإضمار بعده فبتقدير : وليعلمَ الله الذين آمنوا فعلنا هذه المداولةَ ، وأما الإضمار قبلَه فعلى تقدير : وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور : منها : ليعلم الله الذين آمنوا ، ومنها : ليتخذ منكم شهداء ، ومنها : ليمحص الله الذي آمنوا ، ومنها : ليمحق الكافرين. فكل ذلك كالسبب والعِلَّةِ في تلك المداولة ". والعلم هنا - يجوز أن يتعدَّى لواحد ، قالوا : لأنه بمعنى : عَرَفَ - وهو مشكل ؛ لأنه لا يجوز وَصْف الله تعالى بذلك لما تقدم أن المعرفة تستدعي جَهْلاً بالشيء - أو أنَّها متعلقة بالذات دون الأحوال.
ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين ، فالثاني محذوف ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم.
والواو في قوله : { وَلِيَعْلَمَ الله } لها نظائر كثيرة في القرآن ، كقوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } [ الأنعام : 75 ] وقوله : { ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 113 ].
قوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } الظاهر أن " مِنْكُمْ " متعلِّق بالاتخاذ ، وجوزوا فيه أن يتعلق بمحذوف ، على أنه حال من " شُهَدَاءَ " ؛ لأنه - في الأصل - صفة له. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 553 ـ 559}. بتصرف.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)}
إن نالكم فينا مشقة فالذين تقدموكم لقوا مثل ما لقيتم ، ومُنوا بمثل ما به مُنيتم ، فمن صبر منهم ظفر ، ومَنْ ضجر مِنْ حَمْلِ ما لقي خَسِر ، والأيام نُوَبٌ والحالات دُوَلٌ ، ولا يخفى على الحق شيء. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 280}(17/60)
فصل فى عدد شهداء أحد
قال الإمام الذهبى رحمه الله :
عدد الشهداء
قد مر أن البخاري أخرج من حديث البراء أن المشركين أصابوا منا سبعين
وقال حماد بن سملة عن ثابت عن أنس قال : يا رب السبعين من الأنصار سبعين يوم أحد وسبعين يوم بئر معونة وسبعين يوم مؤتة وسبعين يوم اليمامة
وقال عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب قال : قتل من الأنصار في ثلاثة مواطن سبعون سبعون : يوم أحد ويوم اليمامة ويوم جسر أبي عبيد
وقال ابن جريج : أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : " قد أصبتم مثليها " قال : قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين
وأما ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة فقال : جميع من قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من قريش والأنصار : أربعة وأربعون أو قال : سبعة وأربعون رجلا
وجميع من قتل يوم أحد يعني من المشركين تسعة عشر رجلا
وقال موسى بن عقبة : جميع من استشهد من المسلمين من قريش والأنصار تسعة أو سبعة وأربعون رجلا
وقال ابن إسحاق : جميع من استشهد من المسلمين من المهاجرين والأنصار يوم أحد خمسة وستون رجلا . وجميع قتلى المشركين اثنان وعشرون
قلت : قول من قال سبعين أصح . ويحمل قول أصحاب المغازي هذا عدد من عرف اسمه من الشهداء فإنهم عدوا أسماء الشهداء وأنسابهم
قال ابن إسحاق : استشهد من المهاجرين : حمزة وعبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي حليف بني عبد شمس وهو ابن عمة رسول لله صلى الله عليه وسلم وقد دفن مع حمزة في قبر واحد
ومصعب بن عمير وعثمان بن عثمان ولقبه شماس وهو عثمان ابن عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمي بن عامر بن مخزوم القرشي المخزومي ابن أخت عتبة بن ربيعة هاجر إلى الحبشة وشهد بدرا . ولقب شماسا لملاحته(17/61)
ومن الأنصار : عمرو بن معاذ بن النعمان الأوسي أخو سعد وابن أخيه الحارث بن أوس بن معاذ والحارث بن أنس بن رافع وعمارة بن زياد بن السكن وسلمة وعمرو ابنا ثابت بن وقش
وعمهما : رفاعة بن وقش وصيفي بن قيظي وأخوه : حباب وعباد بن سهل وعبيد بن التيهان وحبيب بن زيد وإياس بن أوس الأشهيلون . واليمان أبو حذيفة حليف لهم . ويزيد بن حاطب بن أمية الظفري وأبو سفيان بن الحراث بن قيس وغسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر الراهب ومالك بن أمية ؛ وعوف بن عمرو وأبو حية بن عمرو ابن ثابت وعبد الله بن جبير بن النعمان أمير الرماة وأنس بن قتادة وخيثمة والد سعد بن خيثمة وحليفه : عبد الله بن سلمة العجلاني وسبيع بن حاطب بن الحارث وحليفه : مالك بن أوس وعمير بن عدي الخطمي
وكلهم من الأوس
واستشهد من الخزرج : عمرو بن قيس النجاري وابنه : قيس وثابت بن عمرو بن زيد وعامر بن مخلد وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة وعمرو بن مطرف وإياس بن عيد وأوس أخو حسان بن ثابت . وهو والد شداد بن أوس وأنس بن النضر بن ضمضم وقيس بن مخلد
وعشرتهم من بني النجار
وعبد لهم اسمه : كيسان وسلمة بن الحارث ونعمان بن عبد عمرو وهما من بني دينار بن النجار
ومن بني الحارث بن الخزرج : خارجة بن زيد بن أبي زهير وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير وأوس بن أرقم بن زيد أخو زيد بن أرقم
ومن بني خدرة : مالك بن سنان وسعيد بن سويد وعتبة بن ربيع
ومن بني ساعدة : ثعلبة بن سعد بن مالك . وثقف بن فروة وعبد الله بن عمرو بن وهب . وضمرة حليف لهم من جهينة
ومن بني عوف بن الخزرج ثم من بني سالم : عمرو بن إياس ونوفل بن عبد الله وعبادة بن الخشخاش والعباس بن عبادة بن نضلة . والنعمان بن مالك . والمجذر ابن ذياد البلوي حليف لهم
ومن بني الحبلي : رفاعة بن عمرو(17/62)
ومن بني سواد بن مالك : مالك بن إياس
ومن بني سلمة : عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام . وكنا متآخيين وصهرين فدفنا في قبر واحد
وخلاد بن عمرو بن الجموح
ومولاه أسير أبو أيمن مولى عمرو
ومن بني سواد بن غنم : سليم بن عمرو بن حديدة
ومولاه عنترة وسهيل بن قيس
ومن بني زريق : ذكوان بن عبد قيس وعبيد بن المعلى بن لوذان
قال ابن إسحاق : وزعم عاصم بن عمر بن قتادة أن ثابت بن وقش قتل يومئذ مع ابنيه
وذكر الواقدي جماعة قتلوا سوى من ذكرنا. أ هـ {تاريخ الإسلام حـ 2 صـ 199 ـ 204}(17/63)
قوله تعالى : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما قدم التنفير من الظلم دلالة على الاهتمام به أكمل ثمرات المداولة بقوله : {وليمحص} أي وليطهر {الله} أي ذو الجلال والإكرام {الذين أمنوا} أي إن أصيبوا ، ويجعل مصيبتهم سبباً لقوتهم {ويمحق الكافرين} أي شيئاً فشيئاً في تلك الحالتين بما يلحقهم من الرجس ، أما إذا كانت لهم فبالنقص بالقوة بالبطر الموجب للعكس ، وأما إذا كانت عليهم فبالنقص بالفعل الموجب للقطع بالنار. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 160 ـ 161}
قال الفخر :
{وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءَامَنُواْ} أي ليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم ، والمحص : في اللغة التنقية ، والمحق في اللغة النقصان ، وقال المفضل : هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء ، ومنه قوله تعالى : {يَمْحَقُ الله الربا} [ البقرة : 276 ] أي يستأصله.(17/64)
قال الزجاج : معنى الآية أن الله تعالى جعل الأيام مداولة بين المسلمين والكافرين ، فإن حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين ، وإن كانت الغلبة للمؤمنين على هؤلاء الكافرين كان المراد محق آثار الكافرين ومحوهم ، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين ، لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم ، وهذه مقابلة لطيفة في المعنى.
والأقرب أن المراد بالكافرين ههنا طائفة مخصوصة منهم وهم الذين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وإنما قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار ، بل كثير منهم بقي على كفره ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 16}
وقال العلامة أبو حيان :
{ وليمحص الله الذين آمنوا } أي يطهرهم من الذنوب ، ويخلصهم من العيوب ، ويصفيهم.
قال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي ومقاتل وابن قتيبة في آخرين : التمحيص الابتلاء والاختبار.
قال الشاعر :
رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففا . . .
فكشفه التمحيص حتى بداليا
وقال الزجاج : التنقية والتخليص ، وذكره عن : المبرد ، وعن الخليل.
وقيل : التطهير.
وقال الفراء : هو على حذف مضاف ، أي وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا.
{ ويمحق الكافرين } أي يهلكهم شيئاً فشيئاً.
والمعنى : أن الدولة إن كانت للكافرين على المؤمنين كانت سبباً لتمييز المؤمن من غيره ، وسبباً لاستشهاد من قتل منهم ، وسبباً لتطهير المؤمن من الذنب.
فقد جمعت فوائد كثيرة للمؤمنين ، وإن كان النصر للمؤمنين على الكافرين كان سبباً لمحقهم بالكلية واستئصالهم قاله : ابن عباس.
وقال ابن عباس أيضاً : ينقصهم ويقللهم ، وقاله : الفراء.
وقال مقاتل : يذهب دعوتهم.
وقيل : يحبط أعمالهم ، ذكره الزجاج ، فيكون على حذف مضاف.(17/65)
والظاهر أن المراد بالكافرين هنا طائفة مخصوصة ، وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لأنه تعالى لم يمحق كل كافر ، بل كثير منهم باق على كفره.
فلفظة الكافرين عام أريد به الخصوص.
قيل : وقابل تمحيص المؤمن بمحق الكافر ، لأن التمحيص إهلاك الذنوب ، والمحق إهلاك النفوس ، وهي مقابلة لطيفة في المعنى انتهى.
وفي ذكر ما يلحق المؤمن عند إدالة الكفار تسلية لهم وتبشير بهذه الفوائد الجليلة ، وأن تلك الإدالة لم تكن لهوانٍ بهم ، ولا تحط من أقدارهم ، بل لما ذكر تعالى. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 69}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ } التمحيص : التخليص من الشيء.
وقيل : المَحْص كالفَحْص ، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل ، والمَحْص : يقال في إبرازه عما هو متصل به ، يقال : مَحَصْتُ الذهب ، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث ، ومَحَص الثوب : إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره ، ومحص الظَّبْيُ : عدا. ف " محص " - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً ، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش : مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان.
وقال الخليل : التمحيص : التخليصُ من الشيء المعيب.
وقيل : هو الابتلاء والاختبار.
قال الشاعر : [ الطويل ]
رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً... فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا
وروى الواحِديُّ عن المبرد بسند متصل : مَحَصَ الحبلُ يمحص مَحْصاً - إذا ذهب زئبره حتى يتملص ، وحبل محيص ومليص بمعنًى واحدٍ ، قال : ويستحب في الفرس أن تُمَحَّصَ قوائمُه أي : تُخَلَّص من الرَّهَل.(17/66)
[ وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك ] - يصف فرساً- : [ البسيط ]
صُمُّ النُّسُورِ ، صِحَاحٌ ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ... رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ
أي : في قوائم متجرِّدات من اللحم ، ليس فيها إلا العظم والجلد.
قال المبرد : ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا : أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب.
قال الواحديُّ : " وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع ، والمَحْص - بسكون الحاء - " مصنوع " - وقال الخليل : يقال : مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب ".
وفي جعله محْصاً - بتسكين الحاء - مصنوعاً نظر ؛ لأن أهل اللغة نقلوه ساكنها ، وهو قياس مصدر الثلاثي. ومَحَصْت السيف والسنان : جَلَوتُهما حتى ذهب صدأهما.
قال أسامة الهذليّ : [ الطويل ]
وَشَقُّوا بِمَمْحُوصِ السِّفَانِ فُؤادَهُ... لَهُمْ قُتُرَاتٌ قَدْ بُنِيْنَ مَحَاتِد
أي : بمجلُوٍّ ، ومنه استُعِير ذلك في وَصْف الحبل بالملاسة والبريق.
قال العجاج : [ الرجز ]
شَدِيدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى... كَالْكَرِّ ، لا شَخْتٌ وَلاَ فِيهِ لَوَى
والشوى : الظهر ، قَصَره ضرورةً ، سُمِع : فعلتُه حتى انقطع شَوَاي ، أي : ظَهْري. والمحق - في اللغة - النقصان.
وقال المفضَّل : هو أن يذهب الشيءُ كلُّه ، حتَّى لا يُرَى منه شيء ، ومنه قوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } [ البقرة : 276 ] أي : يستأصله ، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 560 ـ 561}.(17/67)
من فوائد العلامة أبى السعود فى الآية
قال رحمه الله :
وقوله تعالى : { وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ } أي ليُصَفِّيَهم ويُطهرَهم من الذنوب ، عطفٌ على يتخذ ، وتكريرُ اللامِ لتذكير التعليلِ لوقوع الفصلِ بينهما بالاعتراض ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأن التمحيصِ ، وهذه الأمورُ الثلاثة عللٌ للمداولة المعهودةِ باعتبار كونِها على المؤمنين قُدِّمت في الذكر لأنها المحتاجةُ إلى البيان. ولعل تأخيرَ العلةِ الأخيرةِ عن الاعتراض لئلا يُتوَهَّمَ اندراجُ المذنبين في الظالمين ، أو ليقترِنَ بقوله عز وجل : { وَيَمْحَقَ الكافرين } فإن التمحيصَ فيه محوُ الآثارِ وإزالةُ الأوضارِ كما أن المَحْقَ عبارةٌ عن النقض والإذهابِ. قال المفضِّلُ : هو أن يذهبَ الشيءُ بالكلية حتى لا يرى منه شيءٌ ومنه قولُه تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } أي يستأصله وهذه علة للمداولة باعتبار كونها على الكافرين والمرادُ بهم الذين حاربوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحُدٍ وأصرّوا على الكفر وقد محقَهم الله عز وجل جميعاً. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 90 ـ 91}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من الفصاحة والبديع والبيان : من ذلك الاعتراض في : والله يحب المحسنين ، وفي : ومن يغفر الذنوب إلا الله ، وفي : والله لا يحب الظالمين.
وتسمية الشيء باسم سببه في : إلى مغفرة من ربكم.
والتشبيه في : عرضها السموات والأرض.
وقيل : هذه استعارة وإضافة الحكم إلى الأكثر في أعدّت للمتقين ، وهي معدة لهم ولغيرهم من العصاة.
والطباق في : السرّاء والضرّاء ، وفي : ولا تهنوا والأعلون ، لأن الوهن والعلو ضدان.
وفي آمنوا والظالمين ، لأن الظالمين هنا هم الكافرون ، وفي : آمنوا ويمحق الكافرين.(17/68)
والعام يراد به الخاص في : والعافين عن الناس يعني من ظلمهم أو المماليك.
والتكرار في : واتقوا الله ، واتقوا النار ، وفي لفظ الجلالة ، وفي والله يحب ، وذكروا الله ، وفي وليعلم الله ، والله لا يحب ، وليمحص الله ، وفي الذين ينفقون ، والذين إذا فعلوا.
والاختصاص في : يحب المحسنين ، وفي : وهم يعلمون ، وفي : عاقبة المكذبين ، وفي : موعظة للمتقين ، وفي : إن كنتم مؤمنين ، وفي : لا يحب الظالمين ، وفي : وليمحص الله الذين آمنوا ، وفي : ويمحق الكافرين.
والاستعارة في : فسيروا ، على أنه من سير الفكر لا القدم ، وفي : وأنتم الأعلون ، إذا لم تكن من علو المكان ، وفي : تلك الأيام نداولها ، وفي : وليمحص ويمحق ، والإشارة في هذا بيان.
وفي : وتلك الأيام.
وإدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في : إن كنتم مؤمنين ، إذا علق عليه النهي والحذف في عدة مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 69 ـ 70}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}
اختبارات الغيب سبك للعبد فباختلاف الأطوار يخلصه من المشائب فيصير كالذهب الخالص لا خَبَثَ فيه ، كذلك يصفو عن العلل فيتخلص لله.
{ وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ } في أودية التفرقة. { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً } [ الرعد : 17 ]. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 281}(17/69)
قوله تعالى { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان السياق يرشد إلى أن المعنى : أحسبتم أنه لا يفعل ذلك ، عادله بقوله : {أم حسبتم} أي يا من استكره نبينا على الخروج في هذا الوجه {أن تدخلوا الجنة} أي التي أعدت للمتقين {ولما يعلم الله} أي يفعل المحيط علماً وقدرة بالامتحان فعل من يريد أن يعلم {الذين جاهدوا منكم} أي أوقعوا الجهاد بصدق العزيمة ، ثم أمضوه بالفعل تصديقاً للدعوى {ويعلم الصابرين} أي الذين شأنهم الصبر عند الهزاهز والثبات عند جلائل المصائب تصديقاً لظاهر الغرائز ، فإن ذلك أعظم دليل على الوثوق بالله ووعده الذي هو صريح الإيمان. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 161}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى الوجوه التي هي الموجبات والمؤثرات في مداولة الأيام ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصلي لذلك ، فقال {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} بدون تحمل المشاق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 16}
فصل
قال الفخر :
أم : منقطعة ، وتفسير كونها منقطعة تقدم في سورة البقرة.(17/70)
قال أبو مسلم : في {أَمْ حَسِبْتُمْ} إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : {الم * أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [ العنكبوت : 1 2 ] وافتتح الكلام بذكر "أم" التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه ، يقولون : أزيداً ضربت أم عمرواً ، مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما ، قال : وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً ، فلما قال : {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} [ آل عمران : 139 ] كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر ، وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها ، وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا ، فلما كان كذلك ، فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 16 ـ 17}
وقال القرطبى :
"أم" بمعنى بل.
وقيل : الميم زائدة ، والمعنى أحسبتم يا من انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة كما دخل الّذين قُتلوا وصبروا على ألَمِ الجِراح والقتل من غير أن تَسْلُكوا طريقهم وتصبروا صبرهم لا ؛ حتى { يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ } أي عِلْم شهادة حتى يقع عليه الجزاء.
والمعنى : ولم تجاهدوا فيعلم ذلك منكم ؛ فلما بمعنى لم.
وفرق سيبويه بين "لم" و"لما" ، فزعم أن "لم يَفعلْ" نفى فَعَل ، وأن "لَمّا يفعلْ". نفى قد فَعَل. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 220}(17/71)
وقال ابن عاشور :
{ أم } هنا منقطعة ، هي بمعنى ( بل ) الانتقالية ، لأنّ هذا الكلام انتقال من غرض إلى آخر ، وهي إذا استعملت منقطعة تؤذن بأنّ ما بعدها استفهام ، لملازمتها للاستفهام ، حتَّى قال الزمخشري والمحقّقون : إنَّها لا تفارق الدلالة على الاستفهام بعدها ، وقال غيره : ذلك هو الغالب وقد تفارقه ، واستشهدوا على مفارقتها للاستفهام بشواهد تقبل التَّأويل.
فقوله : { أم حسبتم } عطف على جملة { ولا تهنوا } [ آل عمران : 139 ] وذلك أنَّهم لمّا مسّهم القرح فحزنوا واعتراهم الوهن حيث لم يشاهدوا مثل النَّصر الَّذي شاهدوه يوم بدر ، بيّن الله أنّ لا وجه للوهن للعلل الَّتي تقدّمت ، ثُمّ بيّن لهم هنا : أن دخول الجنَّة الَّذي هو مرغوبهم لا يحصل إذا لم يبذلوا نفوسهم في نصر الدّين فإذا حسبوا دخول الجنَّة يحصل دون ذلك ، فقد أخطأوا.
والاستفهام المقدّر بعد ( أم ) مستعمل في التَّغليط والنَّهي ، ولذلك جاء ب ( أم ) للدلالة على التغليط : أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنَّة دون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 233 ـ 234}
وقال الآلوسى :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } خطاب للمنهزمين يوم أحد وهو كلام مستأنف ( سيق ) لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من العلل الثلاث الأول ، و{ أَمْ } منقطعة مقدرة ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري ، وكونها متصلة وعديلها مقدر تكلف ، والإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادىء الفوز بالمطلب الأسنى والمقام الأعلى ، والمعنى بل لا ينبغي منكم أن تظنوا أنكم تدخلون الجنة وتفوزون بنعيمها وما أعد الله تعالى لعباده فيها. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 70}(17/72)
فصل
قال الفخر :
ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم ، والمراد وقوعه على نفي المعلوم ، والتقدير : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم ، وتقريره أن العلم متعلق بالمعلوم ، كما هو عليه ، فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم.
حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر ، وتمام الكلام فيه قد تقدم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 17}
فصل
قال الآلوسى :
{ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } حال من ضمير { تَدْخُلُواْ } مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عن العقول ، ولهذا قيل :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها...
إن السفينة لا تجري على اليبس
وورد عن شهر بن حوشب طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة ، ونفي العلم باعتبار تعلقه التنجيزي كما مر في الإثبات على رأي.(17/73)
ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق إذ التحقق ملزوم علم الله تعالى ، ونفي اللازم لازم نفي الملزوم وكثيراً ما يقال : ما علم الله تعالى في فلان خيراً ويراد ما فيه خير حتى يعلمه ، وهل يجري ذلك في نفي علمنا أم لا ؟ فيه تردد والذي قطع به صاحب "الانتصاف" الثاني ، وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد وهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز الأعظم منهم لما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة ، وفي ذلك رمز أيضاً إلى ترك الرياء ، وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس ، وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان انتقاء ذلك ، وعدم تحققه أصلاً وكيف تحقق صفة بدون موصوف ، وفي اختيار { لَّمّاً } على لم إشارة إلى أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناءاً على ما يفهم من كلام سيبويه أن ( لما ) تدل على توقع الفعل المنفي بها ، وقد ذكر الزجاج أنه إذا قيل : قد فعل فلان فجوابه لما يفعل ، وإذا قيل : فعل ؟ فجوابه لم يفعل ، فإذا قيل : لقد فعل ، فجوابه ما فعل كأنه قال : والله لقد فعل فقال المجيب : والله ما فعل ، وإذا قيل : هو يفعل يريد ما يستقبل ، فجوابه لا يفعل ، وإذا قيل : سيفعل ، فجوابه لن يفعل ، فقول أبي حيان : "إن القول بأن لما تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحداً من النحويين ذكره" غير متعدّ به ، نعم هذا التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الإنكار ، وقرىء ، { وَيَعْلَمَ } بفتح الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج ، وقد أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أومطلقاً ، ومن ذلك قوله :
إذا قلت قدني قال بالله حلفة...
لتغني عني ذا أنائك أجمعا(17/74)
على رواية فتح اللام ؛ وقيل : إن فتح الميم لاتباع اللام ليبقى تفخيم اسم الله عز اسمه ، و{ مّنكُمْ } حال من { الذين } و( من ) فيه للتبعيض ، فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 70 ـ 71}
فائدة
قال ابن عاشور :
و ( لَمَّا ) حرف نفي أختُ ( لم ) إلاّ أنَّها أشدّ نفياً من ( لم ) ، لأنّ ( لم ) لِنفي قول القائل فَعَل فلان ، و( لمّا ) لنفي قوله قد فعل فلان.
قاله سيبويه ، كما قال : إنّ ( لا ) لنفي يفعل و( لن ) لنفي سيفعل و( ما ) لنفي لقد فعل و( لا ) لنفي هو يفعل.
فتدلّ ( لَمَّا ) على اتِّصال النَّفي بها إلى زمن التكلّم ، بخلاف ( لم ) ، ومن هذه الدلالة استفيدت دلالة أخرى وهي أنّها تؤذن بأنّ المنفي بها مترقّب الثبوت فيما يستقبل ، لأنَّها قائمة مقام قولك استمرّ النَّفي إلى الآن ، وإلى هذا ذهب الزمخشري هنا فقال : و( لمّا ) بمعنى ( لم ) إلاّ أنّ فيها ضرباً من التوقُّع وقال في قوله تعالى : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } سورة [ الحجرَات : 14 ] : فيه دلالة على أنّ الأَعراب آمنوا فيما بعد.
والقول في علم الله تقدّم آنفاً في الآية قبل هذه.
وأريد بحالة نفي علم الله بالَّذين جاهدوا والصَّابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد والصّبر عنهم ، لأنّ الله إذا علم شيئاً فذلك المعلوم محقّق الوقوع فكما كنّى بعلم الله عن التّحقق في قوله : { وليعلم الله الذين آمنوا } [ آل عمران : 140 ] كنّى بنفي العلم عن نفي الوقوع.
وشرط الكناية هنا متوفّر وهو جواز إرادة المعنى الملزوم مع المعنى اللازم لِجواز إرادة انتفاء علم الله بجهادهم مع إرادة انتفاء جهادهم.(17/75)
ولا يرد ما أورده التفتزاني ، وأجاب عنه بأنّ الكناية في النفي بنيت على الكناية في الإثبات ، وهو تكلّف ، إذ شأن التراكيب استقلالها في مفادها ولوازمها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 234 ـ 235}
قوله تعالى : {وَيَعْلَمَ الصابرين}
قال الفخر :
أما قوله : {وَيَعْلَمَ الصابرين} فاعلم أنه قرأ الحسن {وَيَعْلَمَ الصابرين} بالجزم عطفاً على {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} وأما النصب فبإضمار أن ، وهذه الواو تسمى واو الصرف ، كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، أي لا تجمع بينهما ، وكذا ههنا المراد أن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان ، وقرأ أبو عمرو {وَيَعْلَمَ} بالرفع على تقدير أن الواو للحال.
كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
واعلم أن حاصل الكلام أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة ، فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر ، وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا ، والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله ، وهذان الأمران مما لا يجتمعان ، فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما ، وأيضاً حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى ، فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا ، ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحبوبات ، فإن الحب هو الذي لا ينقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء ، فإن بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقياً ، فلهذه الحكمة قال : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 17}(17/76)
وقال الآلوسى :
{ وَيَعْلَمَ الصابرين } نصب بإضمار أن ، وقيل : بواو الصرف ، والكلام على طرز لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما ، وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على رؤوس الآي ، وقيل : الفعل مجزوم بالعطف على المجزوم قبله وحرك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والاتباع ، ويؤيد ذلك قراءة الحسن { وَيَعْلَمَ الصابرين } بكسر الميم ، وقرىء { وَيَعْلَمَ } بالرفع على أن الواو للاستئناف أو للحال بتقدير وهو يعلم ، وصاحب الحال الموصول كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 71}
فصل
قال الشيخ الشنقيطى :
أنكر الله في هذه الآية على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكاليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه ، وبين غيره وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيب } [ البقرة : 214 ] وقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 16 ] وقوله : { الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } [ العنكبوت : 1-3 ].(17/77)
وفي هذه الآيات سر لطيف وعبرة وحكمة ، وذلك أن أبانا آدم كان في الجنة يأكل منها رغداً حيث شاء في أتم نعمة وأكمل سرور ، وأرغد عيش. كما قال له ربه : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى } [ طه : 118-119 ] ولو تناسلنا فيها لكنا في أرغد عيش وأتم نعمة ، ولكن إبليس عليه لعائن الله احتال بمكره وخداعه على أبوينا حتى أخرجهما من الجنة ، إلى دار الشقاء والتعب.
وحينئذ حكم الله تعالى أن جنته لا يدخلها أحد إلا بعد الابتلاء بالشدائد وصعوبة التكاليف. فعلى العاقل منا - معاشر بني آدم - أن يتصور الواقع ويعلم أننا في الحقيقة سبي سباه إبليس بمكره وخداعه من وطنه الكريم إلى دار الشقاء والبلاء ، فيجاهد عدوه إبليس ونفسه الأمارة بالسوء حتى يرجع إلى الوطن الأول الكريم ، كما قال العلامة ابن القيم تغمده الله برحمته :
ولكننا سبي العدو فهل ترى... نرد إلى أوطاننا ونسلم
ولهذه الحكمة أكثر الله تعالى في كتابه من ذكر قصة إبليس مع آدم لتكون نصب أعيننا دائماً. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 246}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى {أم حسبتم}
وفي " أم " - هذه - أوجه :
أظهرها : أنها منقطعة ، مقدَّرة بـ " بل " ، وهمزة الاستفهام ويكون معناه الإنكار عليهم.
وقيل : " أمْ " بمعنى الهمزة وحدها ، ومعناه كما تقدم التوبيخ والإنكار.
وقيل : هذا الاستفهام معناه النهي.(17/78)
قال أبو مسلم : " إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ، ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] وافتتح الكلام بذكر " أم " التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما ، لا يعينه ، يقولون : أزيد ضربت أم عمراً ؟ مع تيقُّن وقوع الضرب بأحدهما ، قال : وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً ، فلما قال : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } [ آل عمران : 139 ] كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تُؤمَرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدةٍ وَصَبْر ؟ ".
وقيل : هي متصلة.
قال ابنُ بَحْر : " هي عديلة همزة تقدر من معنى ما تقدم ، وذلك أن قوله : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } [ آل عمران : 140 ] و{ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } [ آل عمران : 140 ] إلى آخر القصة يقتضي أن نتبع ذلك أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمُّل مشقة ، وأن تجاهدوا ، فيعلم الله ذلك منكم واقعاً ".
و " أحسب " - هنا - على بابها من ترجيح أحد الطرفين ، و{ أَن تَدْخُلُواْ } ساد مسد المفعولين - على رأي سيبويه - ومسد الأول ، والثاني : محذوف - على رأي الأخفش.
قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } جملة حالية.
قال الزَّمَخْشَرِي : " و" لما " بمعنى " لم " ، إلا أنَّ فيه ضرباً من التوقُّع ، فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقُّعه فيما يستقبل ، وتقول : وعدتني أن تفعل كذا ولمَّا ، تريد : ولم تفعل ، وأنا أتوقَّع فِعْلَه ".
(17/79)
قال أبو حيان : " وهذا الذي قاله في " لما " - من أنها تدل على توقُّع الفعل المنفي بها فيما يستقبل - لا أعلم أحداً من النحويين ذكره ، بل ذكروا أنك إذا قلت : لما يخرج زيد ، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى ، متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار ، أما أنها تدل على توقُّعه في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يُقارب ما قاله الزمخشري ، قال : " لما " لتعريض الوجود بخلاف " لم ".
قال شِهَابُ الدين : والنحاة إنما فرَّقوا بينهما من جهة أن المنفي بـ " لَمْ " هو فعل غير مقرون بـ " قد " ، والمنفي بـ " لما " فعل مقرون بها ، و" قد " تدل على التوقُّع ، فيكون كلام الزمخشري صحيحاً من هذه الجهة ، ويدل على ما قلته - من كون " لم " لنفي فعل فلان ، و" لما " لنفي قد فعل - نصُّ سيبويه فمن دونه.
قال الزجاج إذا قيل فعل فلان ، فجوابه : لم يفعل ، وإذا قيل : قد فعل فلان ، فجوابه لما يفعل ؛ لأنه لما أُكِّد في جانب الثبوت بـ " قد " لا جرم أنه أكد في جانب النفي بكلمة " لما " ، وقد تقدم نظير هذه الآية في " البقرة " وظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم ، والمراد : وقوعه على نفي المعلوم ، والتقدير : أم حسبتم أن تدخلوا الجنةَ ، ولمَّا يصدر الجهادُ عنكم ؟
وتقريره : أن العلم متعلق بالمعلوم ، كما هو عليه ، فلما حَصَلَتْ هذه المطابقة - لا جرم - حَسُن إقامة كلِّ واحدٍ منهما مقامَ الآخر.
قوله : " مِنْكُمْ " حال من " الَّذِينَ ".
وقرأ العامة { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } بكسر الميم- على أصل التقاء الساكنين.
وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها ، وفيها وجهان :
الأول : أن الفتحة فتحة إتباع الميم لـ " اللام " قبلها.
(17/80)
الثاني : أنه على إرادة النون الخفيفة ، والأًصل : ولما يعلمن ، والمنفي بـ " لما " قد جاء مؤكداً بها ، كقول الشاعر : [ الرجز ]
يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا... شَيْخاً عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا
فلما حذفت النون بقي آخر الفعل مفتوحاً ، كقول الشاعر : [ الخفيف ]
لا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أن تَرْ... كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
وعليه تُخَرَّج قراءةُ : { أَلَم نَشْرَحَ } [ الشرح : 1 ] - بفتح الحاء-.
وقول الآخر : [ الرجز ]
مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أفْر... مِنْ يَوْمِ لَمْ يُقْدَرَ أوْ يَوْم قُدِرْ
قوله : " ويَعْلَمَ " العامة على فتح الميم ، وفيها تخريجان :
أحدهما : وهو الأشهر - أن الفعل منصوب ، ثم هل نصبه بـ " أن " مقدَّرة بعد الواو المقتضية للجمع كهي في قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، أي : لا تجمع بينهما - وهو مذهب البصريين - أو بواو الصرف - وهو مذهب الكوفيين - يعنون أنه كان من حق الفعل أن يُعْرَب بإعراب ما قبله ، فلما جاءت الواو صرفته إلى وجهٍ آخرَ من الإعراب.
الثاني : أن الفتحةَ فتحةُ التقاء الساكنين ، والفعل مجزوم ، فلما وقع بعده ساكنٌ آخر ، احتيج إلى تحريك آخرهِ ، فكانت الفتحة أوْلَى ؛ لأنها أخف ، وللإتباع لحركة اللام ، كما قيل ذلك في أحد التخريجين في قراءة " وَلَمَّا يَعْلَمَ اللهُ " بفتح الميم - والأول هو الوجه.
وقرأ الحسنُ وأبو حيوةَ وابنُ يَعْمُرَ : بكسر الميم ؛ عطفاً على " يَعْلَم " المجزوم بـ " لَمَّا ".
وقرأ عَبْدُ الوَارِثِ - عن أبي عَمْرو بْنِ العَلاَءِ - " وَيعْلَمُ " بالرفع ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنه مستأنف ، أخبر - تعالى - بذلك.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : " على أن الواو للحال ، كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون ".
(17/81)
قال أبُو حَيَّانَ : " ولا يصح ما قال ؛ لأن واو الحال لا تدخل على المضارع ، لا يجوز : جاء زيد ويضحك - تريد : جاء زيد يضحك ، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل ، فكما لا يجوز : جاء زيد وضاحكاً ، كذلك لا يجوز : جاء زيد ويضحك فإن أولَ على أن المضارع خبر لمبتدأ محذوف ، أمكن ذلك ، التقدير : وهو يعلم الصابرين.
كما أولوا قول الشاعر : [ المتقارب ]
................... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكا
أي : وأنا أرهنهم ".
قال شهابُ الدين : " قوله : لا تدخل على المضارع ، هذا ليس على إطلاقه ، بل ينبغي أن يقول : على المضارع المثبت ، أو المنفي بـ " لا " ؛ لأنها تدخل على المضارع المنفي بـ " لم ولمَّا ". وقد عُرِف ذلك مراراً ".
ومعنى الآية : أن دخول الجنة ، وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 562 ـ 565}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}
من ظنَّ أنه يصل إلى محل عظيم من دون مقاساة الشدائد ألقته أمانيه في مهواة الهلاك ، وإنَّ من عرف قَدْر مطلوبه سَهُلَ عليه بَذْلُ مجهوده : (.... ) وهو بلذاته على من يظن يخلع العذار وقال قائلهم :
إذا شام الفتى برق المعاني... فأهونُ فائتٍ طِيبُ الرُّقاد. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 281}(17/82)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير : فلقد كنتم تقولون : لئن خرجت بنا ليبتلين الله بلاء حسناً ، عطف عليه قوله : {ولقد} ويجوز أن يكون حالاً من فاعل {حسبتم} {كنتم تمنون الموت} أي الحرب ، عبر عنها به لأنها سببه ، ولقد تمنى بعضهم الموت نفسه بتمني الشهادة {من قبل أن تلقوه} أي رغبة فيما أعد الله للشهداء {فقد رأيتموه} أي برؤية قتل إخوانكم ، والضمير يصلح أن يكون للموت المعبر به عن الحرب ، وللموت نفسه برؤية أسبابه القريبة ، وقوله : {وأنتم تنظرون} بمعنى رؤية العين ، فهو تحقيق لإرادة الحقيقة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 161}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } أي الشهادة من قبل أن تلقوه.
وقرأ الأعمش { مِنْ قَبْلِ أَنْ تُلاَقُوهُ } أي من قبل القتل.
وقيل : من قبل أن تلقوا أسباب الموت ؛ وذلك أن كثيراً ممن لم يحضروا بدراً كانوا يتَمنَّون يوماً يكون فيه قِتال ، فلما كان يوم أُحُد انهزموا ، وكان منهم من تجلّد حتى قُتل ، ومنهم أنس بن النضر عم أنس بن مالك ، فإنه قال لما انكشف المسلمون : اللّهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، وباشر القتال وقال : إِيْهاً إنها ريح الجنةا إني لأجدها ، ومضى حتى استشهد.
قال أنس : فما عرفناه إلا ببنانه ووجدنا فيه بِضعاً وثمانين جراحة.
وفيه وفي أمثاله نزل { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ].
فالآية عِتاب في حق من انهزم ، لا سِيّما وكان منهم حَمْلٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم على الخروج من المدينة ، وسيأتي.(17/83)
وتَمنِّي الموت يرجع من المسلمين إلى تَمنِّي الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد ، لا إلى قتل الكفار لهم ؛ لأنه معصيةٌ وكفرٌ ولا يجوز إرادة المعصية ، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة ، فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدّى إلى القتل.
قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } قال الأخفش : هو تكرير بمعنى التأكيد لقوله : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } مثل { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ].
وقيل : معناه وأنتم بُصَرَاء ليس في أعينكم عِلَلٌ ؛ ( كما ) تقول : قد رأيت كذا وكذا وليس في عينيك عِلّة ، أي فقد رأيته رؤية حقيقة ؛ وهذا راجع إلى معنى التوكيد.
وقال بعضهم : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الآية إضمار ، أي فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلِمَ انهزمتم ؟. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 220 ـ 221}
وقال الآلوسى :
{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } خطاب لطائفة من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فلما وقع ما وقع ندموا فكانوا يقولون : ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد كما استشهدوا فلما أشهدهم الله تعالى أحداً لم يلبث إلا من شاء الله تعالى منهم.(17/84)
فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ولا بأس بتمنيها ولا يرد أن في تمني ذلك تمني غلبة الكفار لأن قصد المتمني الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير ، ولا يذهب إلى ذلك وهمه كما أن من يشرب دواء النصراني مثلاً يقصد الشفاء لا نفعه ولا ترويج صناعته ، وقد وقع هذا التمني من عبد الله بن رواحة من كبار الصحابة ولم ينكر عليه ، ويجوز أن يراد بالموت الحرب فإنها من أسبابه ، وبه يشعر كلام الربيع وقتادة فحينئذ المتمنى الحرب لا الموت.
{ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } متعلق بتمنون } مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوا وتعرفوا هوله ، وقرىء بضم اللام على حذف المضاف إليه ونية معناه وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل اشتمال أي كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك ، وقرىء ( تلاقوه ) من المفاعلة التي تكون بين اثنين وما لقيك فقد لقيته ، ويجوز أن يكون من باب سافرت والضمير عائد إلى ( الموت ) ، وقيل : إلى العدو المفهوم من الكلام وليس بشيء.(17/85)
{ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } أي ما تمنيتموه من الموت بمشاهدة أسبابه أو أسبابه ، والفاء فصيحة كأنه قيل : إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه ، وإيثار الرؤية على الملاقاة إما للإشارة إلى انهزامهم أو للمبالغة في مشاهدتهم له كتقييد ذلك بقوله سبحانه : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } لأنه في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي رأيتموه معاينين له ، وهذا على حد قولك : رأيته وليس في عيني علة أي رأيته رؤية حقيقية لا خفاء فيها ولا شبهة ، وقيل : تنظرون بمعنى تتأملون وتتفكرون أي وأنتم تتأملون الحال كيف هي ، وقيل : معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى كل حال فالمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين على تمنيهم الشهادة وهم لم يثبتوا حتى يستشهدوا ، أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمني الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 71 ـ 72}
ومن فوائد ابن عاشور فى الآية
قال عليه الرحمة :
كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز ، ليكون جامعاً بين الموعظة ، والمعذرة ، والملام ، والواو عاطفة أو حالية.(17/86)
والخطاب للأحياء ، لا محالة ، الَّذين لم يذوقوا الموت ، ولم ينالوا الشهادة ، والَّذين كان حظّهم في ذلك اليوم هو الهزيمة ، فقوله : { كنتم تمنّون الموت } أريد به تمنّي لقاء العدوّ يوم أُحُد ، وعدم رضاهم بأن يتحصّنوا بالمدينة ، ويقفوا موقف الدّفاع ، كما أشار به الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنّهم أظهروا الشجاعة وحبّ اللِّقاء ، ولو كان فيه الموت ، نظراً لقوة العدوّ وكثرته ، فالتمنّي هو تمنّي اللِّقاء ونصر الدّين بأقصى جهدهم ، ولمَّا كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كُلّ واحد منهم بتلف نفسه في الدّفاع ، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدوّ ، وهيّأ النَّصر لمن بقي بعده ، جعل تمنّيهم اللِّقاء كأنَّه تمنّي الموت من أوّل الأمر ، تنزيلاً لِغاية التمنّي منزلة مبدئه.
وقوله : { من قبل أن تلقوه } تعريض بأنَّهم تمنّوا أمراً مع الإغضاء عن شدّته عليهم ، فتمنّيهم إيّاه كتمنّي شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب.
وقوله : { فقد رأيتموه } أي رأيتم الموت ، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحقّقة ، الَّتي رؤيتها كمشاهدة الموت ، فيجوز أن يكون قوله : { فقد رأيتموه } تمثيلاً ، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدّة التوقّع ، كإطلاق الشمّ على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي :
وشممتُ ريح الموت من تلقائهم...
في مأزق والخيل لم تتبدّد
وكإطلاقه في قول ابن معد يكرب يوم القادسية : فضمّني ضمّة وَجَدْت منها ريحَ الموت.
والفاء في قوله : { فقد رأيتموه } فاء الفصيحة عن قوله : { كنتم تمنون } والتقدير : وأجبتم إلى ما تمنّيتم فقد رأيتموه ، أو التقدير : فإن كان تمنّيكم حقّاً فقد رأيتموه ، والمعنى : فأين بلاء من يتمنّى الموت ، كقول عباس بن الأحنف :
قالُوا خُراسانُ أقصى ما يُراد بنا...
ثُمّ القُفول فقدْ جِئْنا خُراسانا(17/87)
ومنه قوله تعالى : { فقد كذّبوكم بما تقولون } [ الفرقان : 19 ] وقوله في سورة الروم ( 56 ) : { فهذا يوم البعث }
{ وجملة وأنتم تنظرون } حال مؤكّدة لمعنى { رأيتُموه } ، أو هو تفريع أي : رأيتم الموت وكان حظّكم من ذلك النظر ، دون الغَناء في وقت الخطر ، فأنتم مبهوتون.
ومحلّ الموعظة من الآية : أنّ المرء لا يطلب أمراً حَتَّى يفكِّر في عواقبه ، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه.
ومحلّ المعذرة في قوله : { من قبل أن تلقوه } وقوله : { فقد رأيتموه } ومحلّ الملام في قوله : { وأنتم تنظرون }.
ويحتمل أن يكون قوله : { تمنون الموت } بمعنى تتمنَّوْن موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم ، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم ، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت ، وكأنَّه تعريض بهم بأنَّهم ليسوا بمقام من يتمنّى الشهادة.
إذ قد جبنوا وقت الحاجة ، وخفّوا إلى الغنيمة ، فالكلام ملام محض على هذا ، وليس تمنّي الشهادة بملوم عليه ، ولكن اللَّوم على تمنّي ما لا يستطيع كما قيل : ( إذا لم تستطع شيئاً فدعه ).
كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله ، ثُمّ أُحيا ثُمّ أقتل ثمّ أحيا ، ثمّ أقْتل " وقال عمر : " اللَّهم إنّي أسألك شهادة في سبيلك" وقال ابن رواحة :
لكنّني أسأل الرّحمانَ مغفرة...
وضربةً ذات فرغ تقذِف الزبدا
حتَّى يقولوا إذا مَرّوا على جَدثي...
أرشدَك الله من غازٍ وقد رشدا
وعلى هذا الاحتمال فالضّمير راجع إلى الموت ، بمعنى أسبابه ، تنزيلاً لرؤية أسبابه منزلة رؤيته ، وهو كالاستخدام ، وعندي أنَّه أقرب من الاستخدام لأنَّه عاد إلى أسباب الموت باعتبار تنزيلها منزلة الموت. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 235 ـ 237}(17/88)
وقال ابن كثير :
وقوله : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } أي : قد كنتم -أيها المؤمنون-قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم ، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم ، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه ، فدونَكم فقاتلوا وصابروا.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ ، فَإذَا لقيتموهم فَاصْبِرُوا ، وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ". (1)
ولهذا قال : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يعني : الموت شاهدتموه في لَمَعان السيوف وحدّ الأسِنّة واشتباك الرِّماح ، وصفوف الرجال للقتال.
والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخْييل ، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تَتَخَيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 127}
سؤال : فإن قلت : كيف يجوز تمني الشهادة وفي تمنيها تمني غلبة الكافر المسلم ؟
قلت : قصد متمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير ، ولا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن ، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من الشفاء ، ولا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ الله وتنفيقا لصناعته.
ولقد قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين نهض إلى مؤتة وقيل له ردكم الله :
لكِنَّني أَسْألُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً...
وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أو طَعْنَةً بِيَدي حَرَّانَ مُجْهِزَةً...
بِحَرْبَةَ تَنفُذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا
حَتَّى يَقُولُوا إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثي...
______________
(1) صحيح البخاري معلقا برقم (3021) وصحيح مسلم برقم (1741)(17/89)
أرشدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَد رَشَدا. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 449}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } قرأ البزي : بتشديد تاء " تَمَنَّوْنَ " ، ولا يمكن ذلك إلا في الوصل ، وقاعدته : أنه يصل ميم الجمع بواو ، وقد تقدم تحرير هذا عند قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [ البقرة : 267 ].
قوله : " مِن قَبْلِ " الجمهور على كسر اللام ؛ لأنها مُعْربة ؛ لإضافتها إلى " أنْ " وصلتها.
وقرأ مجاهد وابنُ جبير : { مِنْ قَبْلُ } بضم اللام ، وقطعها عن الإضافة ، كقوله تعالى : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] وعلى هذا فَـ " أنْ " وَصِلَتُها بدل اشتمال من " الْمَوْتَ " في محل نصب ، أي : تَمَنَّوْنَ لقاء الموت ، كقولك : رَهِبْتُ العَجُوَّ لقاءَه ، والضمير في " تَلْقَوْهُ " فيه وجهان :
أظهرهما : عوده على " الْمَوْتَ ".
والثاني : عوده على العدو ، وإن لم يجر له ذِكْر - لدلالة الحال عليه.
وقرأ الزُّهَرِيُّ ، والنخعيّ " تُلاَقُوه " ، ومعناه معنى " تَلْقَوْه " ؛ لأن " لقي " يستدعي أن يكون بين اثنين - بمادته - وإن لم يكن على المفاعلة.
قوله : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } الظاهر أن الرؤية بصرية ، فيكتفى بمفعول واحد.
وجوَّزوا أن تكون علمية ، فتحتاج إلى مفعولٍ ثانٍ ، هو محذوف ، أي : فقد علمتموه حاضراً - أي : الموت-.
إلا أن حَذْف أحد المفعولين في باب " ظن " ليس بالسَّهْل ، حتى إن بعضهم يَخُصُّه بالضرورة ، كقول عنترة : [ الكامل ]
وَلَقَدْ نَزَلْتِ ، فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ
أي : فلا تظني غيره واقعاً مني.(17/90)
قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } يجوز أن تكون جملة حالية - وهي حال مؤكِّدة - رفعت ما تحتمله الرؤية من المجاز ، أو الاشتراك بينها وبين رؤية القلب ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، بمعنى : وأنتم تنظرون في فعلكم - الآن - بعد انقضاء الحرب ، هل وَفَّيْتُمْ ، أو خالفتم ؟
وقال ابنُ الأنْبَارِي : " رَأيْتُمُوهُ " ، أي : قابلتموه { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حيث اختلف معناهما ؛ لأن الأول بمعنى : المقابلة والمواجهة ، والثاني بمعنى : رؤية العين.
وهذا - أعني : إطلاق الرؤية على المقابلة والمواجهة - غير معروف عند أهل اللسان ، وعلى تقدير صحته ، فتكون الجملة من قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملة حالية مبيِّنة - لا مؤكِّدة - لأنها أفادت معنًى زائداً على معنى عاملها.
ويجوز أن يقدَّر لِـ " تَنْظُرُونَ " مفعولاً ، ويجوز أن لا يُقَدَّر ؛ إذ المعنى : وأنتم من أهل النظر. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 565 ـ 566}
فصل
قال الثعالبى :(17/91)
فائدة
قال ابن عطية :
قوله { ولقد كنتم تمنون الموت } والسبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بدر يريد عير قريش مبادراً فلم يوعب الناس معه ، إذ كان الظن أنه لا يلقى حرباً ، فلما قضى الله ببدر ما قضى وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة ، كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر ، ولأنس بن النضر في ذلك كلام محفوظ ، فلما جاء أمر أحد -وحضر القتال لم يصدق كل المؤمنين ، فعاتبهم الله بهذه الآية وألزمهم تعالى تمني الموت من حيث تمنوا لقاء الرجال بالحديد ومضاربتهم به ، وهي حال في ضمنها في الأغلب الموت ، ولا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت ، فصار الموت كأنه المتمنى ، وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو قتل ، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادة والتنعيم. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 515}
قال الثعالبى :
وفي كلام * ع * (1) : بعضُ إجمالٍ ، وقد ترجم البخاريُّ تَمَنِّيَ الشهادةِ ، ثم أسند عن أبي هريرة ، قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ ؛ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي ، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوَدِدتُّ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ " وخرَّجه أيضًا مسلمٌ ، وخرَّج البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديث أنسٍ ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ ( عَزَّ وجَلَّ ) خَيْرٌ ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا ، وأَنَّ الدُّنْيَا لَهُ وَمَا فِيهَا ، إلاَّ الشَّهِيدَ ، لِمَا يرى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ ، فَإنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا ، فَيُقْتَلُ عَشْرَ مَرَّاتٍ ؛ لِمَا يرى مِنَ الكَرَامَةِ " اه.
فقد تبيَّن لك تمنِّي القَتْلِ في سبيل اللَّه بهذه النُّصُوصِ ؛ لما فيه من الكرامة.
وصَوَابُ كلام * ع * : أنْ يقول : وإِنما يتمنَّى القتلُ ؛ للواحقه ؛ من الشَّهادةِ والتنْعِيمِ. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 316}(17/92)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}
طوارق التمني بعد الصبر على احتمال المشاق ولكن :
إذا انسكبت دموعٌ في خُدُودٍ... تبيَّن من بكى ممن تباكى. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 281}(17/93)
بحث نفيس
قال فى الميزان :
كلام في الامتحان وحقيقته
لا ريب أن القرآن الكريم يخص أمر الهداية بالله سبحانه غير أن الهداية فيه لا تنحصر في الهداية الاختيارية إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال { "الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى" : طه - 50 }
فعمم الهداية لكل شئ من ذوى الشعور والعقل وغيرهم وأطلقها أيضا من جهة الغاية وقال أيضا {الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى : الأعلى - 3} والآية من جهة الإطلاق كسابقتها.
ومن هنا يظهر أن هذه الهداية غير الهداية الخاصة التى تقابل الإضلال فإن الله سبحانه نفاها وأثبت مكانها الضلال في طوائف والهداية العامة لا تنفى عن شئ من خلقه قال تعالى {والله لا يهدى القوم الظالمين : الجمعة - 5} وقال {والله لا يهدى القوم الفاسقين : الصف - 5} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وكذا يظهر أيضا أن الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامة للمؤمن والكافر كما في قوله تعالى {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا : الدهر - 3} وقوله {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى : حم السجدة - 17} فإن ما في هاتين الآيتين ونظائرهما من الهداية لا يعم غير أرباب الشعور والعقل وقد عرفت أن ما في قوله {ثم هدى} وقوله {والذى قدر فهدى} عام من حيث المورد والغاية جميعا
على أن الآية الثانية تفرع الهداية على التقدير والهداية الخاصة لا تلائم التقدير الذى هو تهيئة الأسباب والعلل لسوق الشئ إلى غاية خلقته وإن كانت تلك الهداية أيضا من جهة النظام العام في العالم داخلة في حيطة التقدير لكن النظر غير النظر فافهم ذلك.(17/94)
وكيف كان فهذه الهداية العامة هي هدايته تعالى كل شئ إلى كمال وجوده وإيصاله إلى غاية خلقته وهى التى بها نزوع كل شئ إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء واستكمال وأفعال وحركات وغير ذلك وللكلام ذيل طويل سنشرحه إن ساعدنا التوفيق إن شاء الله العزيز.
والغرض أن كلامه تعالى يدل على أن الأشياء إنما تنساق إلى غاياتها وآجالها بهداية عامة إلهية لا يشذ عنها شاذ وقد جعلها الله تعالى حقا لها على نفسه وهو لا يخلف الميعاد كما قال تعالى {إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى : الليل - 13} والآية كما ترى تعم بإطلاقها الهداية الاجتماعية للمجتمعات والهداية الفردية مضافة إلى ما تدل عليه الآيتان السابقتان.
فمن حق الأشياء على الله تعالى هدايتها تكوينا إلى كمالها المقدر لها وهدايتها إلى كمالها المشرع لها وقد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في التكوين وكيف يحيط به القضاء والقدر فإن النوع الإنساني له نوع وجود لا يتم أمره إلا بسلسلة من الأفعال الاختيارية الإرادية التى لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية وعملية فلا بد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة جيدة أو ردية فلابد لسائق التكوين أن يهيئ له سلسلة من الأوامر والنواهي الشريعة وسلسلة أخرى من الحوادث الاجتماعية والفردية حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل فيسعد أو يشقى ويظهر ما في مكمن وجوده وعند ذلك ينطبق على هذه الحوادث وهذا التشريع اسم المحنة والبلاء ونحوهما.(17/95)
توضيح ذلك أن من لم يتبع الدعوة الإلهية واستوجب لنفسه الشقاء فقد حقت عليه كلمة العذاب إن بقى على تلك الحال فكل ما يستقبله من الحوادث المتعلقة بها الأوامر والنواهي الإلهية ويخرج بها من القوة إلى الفعل تتم له بذلك فعلية جديدة من الشقاء وإن كان راضيا بما عنده مغرورا بما يجده فليس ذلك إلا مكرا إلهيا فإنه يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادة لأنفسهم ويخيب سعيهم في ما يظنونه فوزا لأنفسهم قال تعالى {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين : آل عمران - 54} وقال {ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله : فاطر - }43 وقال {ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون : الأنعام - 123} وقال {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين : الاعراف - 183} فما يتبجح به المغرور الجأهل بأمر الله أنه سبق ربه في ما أراده منه بالمخالفة والتمرد فإنه يعينه على نفسه فيما أراده قال تعالى {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون : العنكبوت - 4} ومن أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى {فلله المكر جميعا : الرعد - 42}.
فجميع هذه المماكرات والمخالفات والمظالم والتعديات التى تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينية وكل ما يستقبلهم من حوادث الأيام ويظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم ودعتهم إلى ذلك أهواؤهم مكر إلهي وإملاء واستدراج فإن من حقهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم وخاتمته وقد فعل والله غالب على أمره.
وهذه الأمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر والمعاصي إغواء منه لهم والنزوع إليها دعوة ووسوسة ونزعة ووحيا وإضلالا والحوادث الداعية وما يجرى مجراها زينة له ووسائل وحبائل وشبكات منه على ما سيجئ بيانه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.(17/96)
وأما المؤمن الذى رسخ في قلبه الإيمان فما تظهر منه من الطاعات والعبادات وكذا الحوادث التى تستقبله فيظهر منه عندها ذلك ينطبق عليها مفهوم التوفيق والولاية الإلهية والهداية بالمعنى الأخص نوع انطباق قال تعالى {والله يؤيد بنصره من يشاء : آل عمران - 13} وقال {والله ولى المؤمنين : آل عمران - 68} وقال {الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور : البقرة - }257 وقال {يهديهم ربهم بإيمانهم : يونس - 9} وقال {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس : الأنعام - 122} هذا إذا نسبت هذه الأمور إلى الله سبحانه ، وأما إذا نسبت إلى الملائكة فتسمى تأييدا وتسديدا منهم قال تعالى {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه : المجادلة - 22}.
ثم إنه كما أن الهداية العامة تصاحب الأشياء من بدء كونها إلى آخر أحيان وجودها ما دامت سالكة سبيل الرجوع إلى الله سبحانه كذلك المقادير تدفعها من ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى {والذى قدر فهدى : الأعلى - 3} فإن المقادير التى تحملها العلل والأسباب المحتفة بوجود الشئ هي التى تحول الشئ من حال أولى إلي حال ثانية وهلم جرا فهى لا تزال تدفع الأشياء من ورائها.
وكما أن المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال وهى آخر ما ينتهى إليه وجود الأشياء تجذبها من أمامها كما يدل عليه قوله تعالى {ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون : الاحقاف - 3} فإن الآية تربط الأشياء بغاياتها وهى الآجال والشيئان المرتبطان إذا قوى أحدهما على الآخر كان حاله بالنسبة إلى قرينه هو المسمى جذبا والآجال المسماة امور ثابتة غير متغيرة فهى تجذب الأشياء من أمامها وهو ظاهر.(17/97)
فالأشياء محاطة بقوى إلهية قوة تدفعها وقوة تجذبها وقوة تصاحبها وتربيها وهى القوى الأصلية التى تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة والرقباء والقرناء كالملائكة والشياطين وغير ذلك.
ثم إنا نسمى نوع التصرفات في الشئ إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه هل له صلوحه أو ليس له بالامتحان والاختبار فإنك إذا جهلت حال الشئ أنه هل يصلح لأمر كذا أو لا يصلح أو علمت باطن أمره ولكن أردت أن يظهر منه ذلك أوردت عليه أشياء مما يلائم المقصد المذكور حتى يظهر حاله بذلك هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه وتسمى ذلك امتحانا واختبارا واستعلاما لحاله أو ما يقاربها من الألفاظ.
وهذا المعنى بعينه ينطبق على التصرف الإلهي بما يورده من الشرائع والحوادث الجارية على أولي الشعور والعقل من الأشياء كالإنسان فإن هذه الأمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلى المقصد الذى يدعى إليه الإنسان بالدعوة الدينية فهى امتحانات إلهية.
وإنما الفرق بين الامتحان الإلهي وما عندنا من الامتحان أنا لا نخلو غالبا عن الجهل بما في باطن الأشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا والله سبحانه يمتنع عليه الجهل وعنده مفاتح الغيب فالتربية العامة الإلهية للإنسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة والسعادة امتحان لأنه يظهر ويتعين بها حال الشئ أنه من أهل أي الدارين دار الثواب أو دار العقاب.(17/98)
ولذلك سمى الله تعالى هذا التصرف الإلهى من نفسه أعنى التشريع وتوجيه الحوادث بلاء وابتلاء وفتنة فقال بوجه عام {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا : الكهف - 7} وقال {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا : الدهر - 2} وقال {ونبلوكم بالشر والخير فتنة : الأنبياء - 35} وكأنه يريد به ما يفصله قوله {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن : الفجر - 16} وقال {إنما أموالكم وأولادكم فتنة : التغابن - 15} وقال {ولكن ليبلو بعضكم ببعض : محمد - 4} وقال {كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون : الأعراف - 163} وقال {وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا : الأنفال - 17} وقال {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين : العنكبوت - 3} وقال في مثل إبراهيم {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات : البقرة - 124} وقال في قصة ذبح إسماعيل {إن هذا لهو البلاء المبين : الصافات - 106} وقال في موسى {وفتناك فتونا : طه - 40} إلى غير ذلك من الآيات.
والآيات كما ترى تعمم المحنة والبلاء لجميع ما يرتبط به الإنسان من وجوده وأجزاء وجوده كالسمع والبصر والحياة والخارج من وجوده المرتبط به بنحو كالأولاد والأزواج والعشيرة والأصدقاء والمال والجاه وجميع ما ينتفع به نوع انتفاع وكذا مقابلات هذه الأمور كالموت وسائر المصائب المتوجهة إليه وبالجملة الآيات تعد كل ما يرتبط به الإنسان من أجزاء العالم وأحوالها فتنة وبلاءا من الله سبحانه بالنسبة إليه.(17/99)
وفيها تعميم آخر من حيث الأفراد فالكل مفتنون مبتلون من مؤمن أو كافر وصالح أو طالح ونبى أو من دونه فهى سنة جارية لا يستثنى منها أحد.
فقد بان أن سنة الامتحان سنة إلهية جارية وهى سنة عملية متكئة على سنة أخرى تكوينية وهى سنة الهداية العامة الإلهية من حيث تعلقها بالمكلفين كالإنسان وما يتقدمها وما يتأخر عنها أعنى القدر والأجل كما مر بيانه.
ومن هنا يظهر أنها غير قابلة للنسخ فإن انتساخها عين فساد التكوين وهو محال ويشير إلى ذلك ما يدل من الآيات على كون الخلقة على الحق وما يدل على كون البعث حقا كقوله تعالى {ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى : الاحقاف - 3} وقوله تعالى {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون : المؤمنون - 115} وقوله تعالى {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون : الدخان - 39} وقوله تعالى {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت : العنكبوت - 5} إلى غيرها فإن جميعها تدل على أن الخلقة بالحق وليست باطلة مقطوعة عن الغاية وإذا كانت أمام الأشياء غايات وآجال حقة ومن ورائها مقادير حقة ومعها هداية حقة فلا مناص عن تصادمها عامة وابتلاء أرباب التكليف منها خاصة بأمور يخرج بالاتصال بها ما في قوتها من الكمال والنقص والسعادة والشقاء إلى الفعل وهذا المعنى في الإنسان المكلف بتكليف الدين امتحان وابتلاء فافهم ذلك.
ويظهر مما ذكرناه معنى المحق والتمحيص أيضا فإن الامتحان إذا ورد على المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل أو ورد على الجماعة فاقتضى امتياز المؤمنين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض صدق عليه اسم التمحيص وهو التمييز.(17/100)
وكذا إذا توالت الامتحانات الإلهية على الكافر والمنافق وفي ظاهرهما صفات وأحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجا ظهور ما في باطنهما من الخبائث وكلما ظهرت خبيثة أزالت فضيلة ظاهرية كان ذلك محقا له أي إنفادا تدريجيا لمحاسنها قال تعالى {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين : آل عمران - }141.
وللكافرين محق آخر من جهة ما يخبره تعالى أن الكون ينساق إلى صلاح البشر وخلوص الدين لله قال تعالى {والعاقبة للتقوى : طه - 132} وقال {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون : الأنبياء - 105}. أ هـ {الميزان حـ 4 صـ 31 ـ 36}(17/101)
قوله تعالى { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان التقدير : فانهزمتم عندما صرخ الشيطان كذباً : ألا إن محمداً قد قتل! ولم يكن لكم ذلك فإنكم إنما تعبدون رب محمد الحي القيوم وتقاتلون له ، وأما محمد فما هو بخالد لكم في الدنيا قال : {وما محمد إلا رسول} أي من شأنه الموت ، لا إله ، ثم قرر المراد من السياق بقوله : {قد خلت} أي بمفارقة أممهم ، إما بالموت أو الرفع إلى السماء ، ولما كان المراد أن الخلو منهم إنما كان في بعض الزمان الماضي لما مضى أثبت الجار فقال : {من قبله الرسل} أي فيسلك سبيلهم ، فاسلكوا أنتم سبيل من نصح نفسه من أتباعهم فاستمسك بنورهم.(17/102)
ولما سبب عن ذلك إنكار انهزامهم ودعتهم على تقدير فقده أنكر عليهم بقوله : {أفإن} ولما كان الملك القادر على ما يريد لا يقول شيئاً وإن كان فرضاً إلا فعله ولو على أقل وجوهه ، وكان في علمه سبحانه أنه صلى الله عليه وسلم يموت موتاً - لكونه على فراشه ، وقتلاً - لكونه بالسم ، قال : {مات} أي موتاً على الفراش {أو قتل} أي قتلاً {انقلبتم} أي عن الحال التي فارقكم عليها فأضعتم مشاعر الدين وتركتم مشاريع المرسلين! ثم قرر المعنى بقوله : {على أعقابكم} لئلا يظن أن المراد مطلق الانتقال وإن كان على الاستواء والانتقال إلى أحسن {ومن} أي انتقلتم والحال أنه من {ينقلب على عقبيه} أي بترك ما شرعه له نبيه أو التقصير فيه {فلن يضر الله} أي المحيط بجميع العظمة {شيئاً} لأنه متعالٍ عن ذلك بأن الخلق كلهم طوع أمره ، لا يتحركون حركة إلا على وفق مراده ، فلو أراد لهداهم أجمعين ، ولو أراد أضلهم أجمعين ، وإنما يضر ذلك المنقلب نفسه لكفره بالله ، وسيجزي الله الشاكرين ، ومن سار ثابتاً على المنهج السوي فإنما ينفع نفسه لشكره لله {وسيجزي الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {الشاكرين} أي كلهم ، فالآية من الاحتباك : أثبت الانقلاب وعدم الضر أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً ، والجزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 161 ـ 162}(17/103)
وقال ابن عطية :
هذا استمرار في عتبهم ، وإقامة لحجة الله عليهم ، المعنى : أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل ، قد بلغ كما بلغوا ، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطاً في ذلك ، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله ، و{ خلت } معناه مضت وسفلت ، وصارت إلى الخلاء من الأرض. وقرأ جمهور الناس " الرسل " بالتعريف ، وفي مصحف ابن مسعود " رسل " دون تعريف ، وهي قراءة حطان بن عبد الله ، فوجه الأولى تفخيم ذكر الرسل ، والتنويه ، بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى ، ووجه الثانية ، أنه موضع تيسير لأمر النبي عليه السلام في معنى الحياة ، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، فجي تنكير " الرسل " جارياً في مضمار هذا الاقتصاد به صلى الله عليه وسلم ، وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشي ، فمنه قوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] وقوله تعالى : { وما آمن معه إلا قليل } [ هود : 40 ] إلى غير ذلك من الأمثلة ، ذكر ذلك أبو الفتح ، والقراءة بتعريف " الرسل " أوجه في الكلام. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 516}(17/104)
فصل
قال الفخر :
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ، وأن لا ينتقلوا عن ذلك سواء كان الأمر لهم أو عليهم ، فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم ، والزبير والمقداد شدا على المشركين ثم حمل الرسول مع أصحابه فهزموا أبا سفيان ، ثم إن بعض القوم لما أن رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار ، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسملين ، ورمى عبدالله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه ، وأقبل يريد قتله ، فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة ، فظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قد قتلت محمدا ، وصرخ صارخ ألا إنَّ محمدا قد قتل ، وكان الصارخ الشيطان ، ففشا في الناس خبر قتله ، فهنالك قال بعض المسلمين : ليت عبدالله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.(17/105)
وقال قوم من المنافقين : لو كان نبيا لما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم والى دينكم ، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : يا قوم إن كان قد قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم اني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ، فقال : إن كان قد قتل فقد بلغ ، قاتلوا على دينكم ، ولما شج ذلك الكافر وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته ، احتمله طلحة بن عبيدالله ، ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم ، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ينادي ويقول : إلى عباد الله حتى انحازت اليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم ، فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين ، ومعنى الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} فسيخلو كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم ، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة والزام الحجة ، لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 17 ـ 18}
لطيفة
قال القرطبى :
أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ( وصفيّه ) باسمين مشتقّيْن من اسمه : محمَّد وأحْمَدُ ، تقول العرب : رجل مَحْمُودٌ ومُحَمَّد إذا كثُرت خصاله المحمودة ، قال الشاعر :
إلى الماجِد القَرْمِ الجَوَاد المحَمّدِ . . .
وقد مضى هذا في الفاتحة.
وقال عباس بن مِرداس :
يا خاتِم النُّبَاءِ إنّك مُرْسَلٌ . . .(17/106)
بالخَيْر كلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُداكا
إن الإله بنَى عليك مَحبَّةً . . .
في خَلْقِه ومُحَمّداً سَمّاكا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 222}. بتصرف يسير.
وقال الآلوسى :
ومحمد علم لنبينا صلى الله عليه وسلم منقول من اسم المفعول من حمد المضاعف لغة سماه به جده عبد المطلب لسابع ولادته لموت أبيه قبلها ولما سئل عن ذلك قال لرؤية رآها : رجوت أن يحمد في السماء والأرض ، ومعناه قبل النقل من يحمد كثيراً وضده المذمم ، وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ألم تروا كيف صرف الله تعالى عني لعن قريش وشتمهم يشتمون مذمماً وأنا محمد".
وقد جمع هذا الاسم الكريم من الأسرار ما لا يحصى حتى قيل : إنه يشير إلى عدة الأنبياء كإشارته إلى المرسلين منهم عليهم الصلاة والسلام وعبر عنه صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم هنا لأنه أول أسمائه وأشهرها وبه صرخ الصارخ. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 73}
وقال ابن عاشور :
ومحمد اسم رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم سمَّاه به جدّه عبد المطلب وقيل له : لِمَ سَمّيتَه محمّداً وليس من أسماء آبائك ؟ فقال : رجوت أن يحمده النَّاس.
وقد قيل : لم يسمّ أحد من العرب محمداً قبل رسول الله.
ذكر السهيلي في "الروض" أنّه لم يُسمّ به من العرب قبل ولادة رسول الله إلاّ ثلاثة : محمد بن سفيان بن مجاشع ، جدّ جدّ الفرزدق ، ومحمد بن أحَيْحَةَ بن الجُلاَح الأوسي.
ومحمد بن حمران مِن ربيعة.
وهذا الاسم منقول من اسم مفعول حَمَّده تحميداً إذا أكثر من حمده ، والرسول فَعول بمعنى مَفعول مثل قولهم : حَلُوب ورَكوب وجَزور. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 237}
فصل
قال الفخر :
قال أبو علي : الرسول جاء على ضربين :
أحدهما : يراد به المرسل ، والآخر الرسالة ، وههنا المراد به المرسل بدليل قوله : {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [ البقرة : 252 ] وقوله : {يا أيها الرسول بَلّغْ} [ المائدة : 67 ] وفعول قد يراد به المفعول ، كالركوب والحلوب لما يركب ويحلب والرسول بمعنى الرسالة كقوله :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم.. بسر ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة ، قال : ومن هذا قوله تعالى : {إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} [ طه : 47 ] ونذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 18}(17/107)
كلام نفيس لابن القيم
قال عليه الرحمة :
فَصْل فِي شَرْحِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَمِدَ فَهُوَ مُحَمّدٌ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْخِصَالِ الّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا وَلِذَلِكَ كَانَ أَبْلَغ مِنْ مَحْمُودٍ فَإِنّ مَحْمُودًا مِنْ الثّلَاثِيّ الْمُجَرّدِ وَمُحَمّدٌ مِنْ الْمُضَاعَفِ لِلْمُبَالَغَةِ فَهُوَ الّذِي يُحْمَدُ أَكْثَرَ مِمّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ مِنْ الْبَشَرِ وَلِهَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - سُمّيَ بِهِ فِي التّوْرَاةِ لِكَثْرَةِ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ الّتِي وُصِفَ بِهَا هُوَ وَدِينُهُ وَأُمّتُهُ فِي التّوْرَاةِ حَتّى تَمَنّى مُوسَى عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ هُنَاكَ وَبَيّنّا غَلَطَ أَبِي الْقَاسِم السّهَيْلِيّ حَيْثُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ وَأَنّ اسْمَهُ فِي التّوْرَاةِ أَحْمَد.
[ هَلْ أَحْمَدُ تَفْضِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٌ ](17/108)
وَأَمّا أَحْمَدُ فَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ أَفْعَلِ التّفْضِيلِ مُشْتَقّ أَيْضًا مِنْ الْحَمْدِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَيْ حَمْدُهُ لِلّهِ أَكْثَرُ مِنْ حَمْدِ غَيْرِهِ لَهُ فَمَعْنَاهُ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبّهِ وَرَجّحُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأَنّ قِيَاسَ أَفْعَلَ التّفْضِيلِ أَنْ يُصَاغَ مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ لَا مِنْ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ قَالُوا : وَلِهَذَا لَا يُقَالُ مَا أَضْرَبَ زَيْدًا وَلَا زَيْدُ أَضْرَبَ مِنْ عَمْرٍو بِاعْتِبَارِ الضّرْبِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ وَلَا : مَا أَشْرَبَهُ لِلْمَاءِ وَآكَلَهُ وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ وَقَالُوا : يَجُوزُ صَوْغُهُمَا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ وَمِنْ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَكَثْرَةُ السّمَاعِ بِهِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلّةِ عَلَى جَوَازِهِ تَقُولُ الْعَرَبُ : مَا أَشْغَلَهُ بِالشّيْءِ وَهُوَ مِنْ شَغَلَ فَهُوَ مَشْغُولٌ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ مَا أَوْلَعَهُ بِكَذَا وَهُوَ مِنْ أَوْلَعَ بِالشّيْءِ فَهُوَ مُولِعٌ بِهِ مَبْنِيّ لِلْمَفْعُولِ لَيْسَ إلّا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَا أَعْجَبَهُ بِكَذَا فَهُوَ مِنْ أُعْجِبَ بِهِ وَيَقُولُونَ مَا أَحَبّهُ إلَيّ فَهُوَ تَعَجّبٌ مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ وَكَوْنُهُ مَحْبُوبًا لَكُ وَكَذَا : مَا أَبْغَضَهُ إلَيّ وَأَمْقَتَهُ إلَيّ . وَهَاهُنَا مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ وَهِيَ أَنّك تَقُولُ مَا أَبْغَضَنِي لَهُ وَمَا أَحَبّنِي لَهُ وَمَا أَمْقَتَنِي لَهُ إذَا كُنْتَ أَنْتَ الْمُبْغِضَ الْكَارِهَ وَالْمُحِبّ الْمَاقِتَ فَتَكُونُ(17/109)
مُتَعَجّبًا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ وَتَقُولُ مَا أَبْغَضنِي إلَيْهِ وَمَا أَمْقَتَنِي إلَيْهِ وَمَا أَحَبّنِي إلَيْهِ إذَا كُنْت أَنْتَ الْبَغِيضُ الْمَمْقُوتُ أَوْ الْمَحْبُوبُ فَتَكُونُ مُتَعَجّبًا مِنْ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ فَمَا كَانَ بِاللّامِ فَهُوَ لِلْفَاعِلِ وَمَا كَانَ ب إلَى فَهُوَ لِلْمَفْعُولِ . وَأَكْثَرُ النّحَاةِ لَا يُعَلّلُونَ بِهَذَا . وَاَلّذِي يُقَالُ فِي عِلّتِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ إنّ اللّامَ فَيُقَالُ لِزَيْدٍ فَيُؤْتَى بِاللّامِ . وَأَمّا إلَى فَتَكُونُ لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَعْنَى فَتَقُولُ إلَى مَنْ يَصِلُ هَذَا الْكِتَابَ ؟ فَتَقُولُ إلَى عَبْدِ اللّهِ وَسِرّ ذَلِكَ أَنّ اللّامَ فِي الْأَصْلِ لِلْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ وَالِاسْتِحْقَاقِ إنّمَا يَكُونُ لِلْفَاعِلِ الّذِي يَمْلِكُ وَيَسْتَحِقّ وَ إلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَالْغَايَةُ مُنْتَهَى مَا يَقْتَضِيهِ الْفِعْلُ فَهِيَ بِالْمَفْعُولِ أَلْيَقُ لِأَنّهَا تَمَامُ مُقْتَضَى الْفِعْلِ وَمِنْ التّعَجّبِ مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ فِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم فَلَهُوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إذْ أُكَلّمُه وَقِيلَ إنّكَ مَحْبُوسٌ وَمَقْتُولٌ
مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الْأُسْدِ مَسْكَنُهُ بِبَطْنِ عَثّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ(17/110)
فَأَخْوَفُ هَاهُنَا مِنْ خِيفَ فَهُوَ مَخُوفٌ لَا مِنْ خَافَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَا أَجَنّ زَيْدًا مِنْ جُنّ فَهُوَ مَجْنُونٌ هَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ . قَالَ الْبَصْرِيّونَ : كُلّ هَذَا شَاذّ لَا يُعَوّلُ عَلَيْهِ فَلَا نُشَوّشُ بِهِ الْقَوَاعِدُ وَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ مِنْهُ عَلَى الْمَسْمُوعِ قَالَ الْكُوفِيّونَ : كَثْرَةُ هَذَا فِي كَلَامِهِمْ نَثْرًا وَنَظْمًا يَمْنَعُ حَمْلَهُ عَلَى الشّذُوذِ لِأَنّ الشّاذّ مَا خَالَفَ اسْتِعْمَالَهُمْ وَمُطّرِدَ كَلَامِهِمْ وَهَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ قَالُوا : وَأَمّا تَقْدِيرُكُمْ لُزُومَ الْفِعْلِ وَنَقْلَهُ إلَى فَعُلَ فَتَحَكّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَمَا تَمَسّكْتُمْ بِهِ مِنْ التّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ إلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهَا كَمَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ وَالْهَمْزَةُ فِي هَذَا الْبِنَاءِ لَيْسَتْ لِلتّعْدِيَةِ وَإِنّمَا هِيَ لِلدّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى التّعَجّبِ وَالتّفْضِيلِ فَقَطْ كَأَلِفِ فَاعِلٍ وَمِيمِ مَفْعُولٍ وَوَاوهُ وَتَاءِ الِافْتِعَالِ وَالْمُطَاوَعَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الزّوَائِدِ الّتِي تَلْحَقُ الْفِعْلَ الثّلَاثِيّ لِبَيَانِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الزّيَادَةِ عَلَى مُجَرّدِهِ فَهَذَا هُوَ السّبَبُ الْجَالِبُ لِهَذِهِ الْهَمْزَةُ لَا تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ . قَالُوا : وَاَلّذِي يَدُلّ عَلَى هَذَا أَنّ الْفِعْلَ الّذِي يُعَدّى بِالْهَمْزَةِ يَجُوزُ أَنْ يُعَدّى بَاءَ التّعْدِيَةِ نَحْوُ أَكْرِمْ بِهِ وَأَحْسِنْ بِهِ وَلَا يُجْمَعُ عَلَى الْفِعْلِ بَيْنَ تَعْدِيَتَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُمْ يَقُولُونَ مَا أَعْطَاهُ لِلدّرَاهِمِ وَأَكْسَاهُ لِلثّيَابِ وَهَذَا مِنْ أَعْطَى وَكَسَا(17/111)
الْمُتَعَدّي وَلَا يَصِحّ تَقْدِيرُ نَقْلِهِ إلَى عطو : إذَا تَنَاوَلَ ثُمّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التّعْدِيَةِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى فَإِنّ التّعَجّبَ إنّمَا وَقَعَ مِنْ إعْطَائِهِ لَا مِنْ عَطْوِهِ وَهُوَ تَنَاوُلُهُ وَالْهَمْزَةُ الّتِي فِيهِ هَمْزَةُ التّعَجّبِ وَالتّفْضِيلِ وَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ الّتِي فِي فِعْلِهِ فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ هِيَ لِلتّعْدِيَةِ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ عُدّيَ بِاللّامِ فِي نَحْوِ مَا أَضْرَبَهُ لِزَيْدٍ . . . إلَى آخِرِهِ فَالْإِتْيَانِ بِاللّامِ هَاهُنَا لَيْسَ لِمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ لُزُومِ الْفِعْلِ وَإِنّمَا أُتِيَ بِهَا تَقْوِيَةً لَهُ لَمّا ضَعُفَ بِمَنْعِهِ مِنْ التّصَرّفِ وَأُلْزِمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً خَرَجَ بِهَا عَنْ سُنَنِ الْأَفْعَالِ فَضَعُفَ عَنْ اقْتِضَائِهِ وَعَمَلِهِ فَقَوِيَ بِاللّامِ كَمَا يَقْوَى بِهَا عِنْدَ تَقَدّمِ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ وَعِنْدَ فَرْعِيّتِهِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الرّاجِحُ كَمَا تَرَاهُ . فَلْنَرْجِعْ إلَى الْمَقْصُودِ فَنَقُولُ تَقْدِيرُ أَحْمَدَ عَلَى قَوْلِ الْأَوّلِينَ أَحْمَدُ النّاسِ لِرَبّهِ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَحَقّ النّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِأَنْ يَحْمَدَ فَيَكُونُ كَمُحَمّدٍ فِي الْمَعْنَى إلّا أَنّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنّ مُحَمّدًا هُوَ كَثِيرُ الْخِصَالِ الّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا وَأَحْمَدُ هُوَ الّذِي يَحْمَدُ أَفْضَلَ مِمّا يَحْمَدُ غَيْرُهُ فَمُحَمّدٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالْكَمّيّةِ وَأَحْمَدُ فِي الصّفَةِ وَالْكَيْفِيّةِ فَيَسْتَحِقّ مِنْ الْحَمْدِ أَكْثَرَ مِمّا يَسْتَحِقّ غَيْرُهُ وَأَفْضَلَ مِمّا يَسْتَحِقّ غَيْرُهُ فَيُحْمَدُ أَكْثَرَ حَمْدٍ وَأَفْضَلَ(17/112)
حَمْدٍ حَمِدَهُ الْبَشَرُ . فَالِاسْمَانِ وَاقِعَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي مَدْحِهِ وَأَكْمَلُ مَعْنَى . وَلَوْ أُرِيدَ مَعْنَى الْفَاعِل لَسُمّيَ الْحَمّادَ أَيْ كَثِيرُ الْحَمْدِ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ حَمْدًا لِرَبّهِ فَلَوْ كَانَ اسْمُهُ أَحْمَدَ بِاعْتِبَارِ حَمْدِهِ لِرَبّهِ لَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الْحَمّادُ كَمَا سُمّيَتْ بِذَلِكَ أَمَتُهُ . وَأَيْضًا : فَإِنّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ إنّمَا اُشْتُقّا مِنْ أَخْلَاقِهِ وَخَصَائِصِهِ لِأَجْلِهَا اسْتَحَقّ أَنْ يُسَمّى مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَحْمَدُ وَهُوَ الّذِي يَحْمَدُهُ أَهْلُ السّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَأَهْلُ الدّنْيَا وَأَهْلُ الْآخِرَةُ لِكَثْرَةِ خَصَائِلِهِ الْمَحْمُودَةِ الّتِي تَفُوقُ عَدّ الْعَادّينَ وَإِحْصَاءَ الْمُحْصِينَ وَقَدْ أَشْبَعْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا كَلِمَاتٍ يَسِيرَةً اقْتَضَتْهَا حَالُ الْمُسَافِرِ وَتَشَتّتُ قَلْبِهِ وَتَفَرّقُ هِمّتِهِ وَبِاَللّهِ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ .
[ تفسير معنى المتوكل ](17/113)
وَأَمّا اسْمُهُ الْمُتَوَكّلُ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَرَأْت فِي التّوْرَاةِ صِفَةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ عَبْدِي وَرَسُولِيُ سَمّيْتُهُ الْمُتَوَكّلَ لَيْسَ بِفَظّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسّيّئَةِ السّيّئَةَ بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَقّ النّاسِ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنّهُ تَوَكّلَ عَلَى اللّهِ فِي إقَامَةِ الدّينِ تَوَكّلًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ .
[ تَفْسِيرُ الْمَاحِي ]
وَأَمّا الْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْمُقَفّي وَالْعَاقِبُ فَقَدْ فُسّرَتْ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ فَالْمَاحِي : هُوَ الّذِي مَحَا اللّهُ بِهِ الْكُفْرَ وَلَمْ يَمْحُ الْكُفْرَ بِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ مَا مُحِيَ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ بُعِثَ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُلّهُمْ كَفّارٌ إلّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ مَا بَيْنَ عُبّادِ أَوْثَانٍ وَيَهُودَ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَنَصَارَى ضَالّينَ وَصَابِئَةٍ دَهْرِيّةٍ لَا يَعْرِفُونَ رَبّا وَلَا مَعَادًا وَبَيْنَ عُبّادِ الْكَوَاكِبِ وَعُبّادِ النّارِ وَفَلَاسِفَةٍ لَا يَعْرِفُونَ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يُقِرّونَ بِهَا فَمَحَا اللّهُ سُبْحَانَهُ ظَهَرَ دِينُ اللّهِ عَلَى كُلّ دِينٍ وَبَلَغَ دِينُهُ مَا بَلَغَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ وَسَارَتْ دَعْوَتُهُ مَسِيرَ الشّمْسِ فِي الْأَقْطَار .
[ تَفْسِيرُ الْحَاشِرِ ](17/114)
وَأَمّا الْحَاشِرُ فَالْحَشْرُ هُوَ الضّمّ وَالْجَمْعُ فَهُوَ الّذِي يُحْشَرُ النّاسُ عَلَى قَدَمِهِ فَكَأَنّهُ بُعِثَ لِيُحْشَرَ النّاس .
[ تَفْسِيرُ الْعَاقِبِ ]
وَالْعَاقِبُ الّذِي جَاءَ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيّ فَإِنّ الْعَاقِبَ هُوَ الْآخِرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَاتَمِ وَلِهَذَا سُمّيَ الْعَاقِبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ جَاءَ بِعَقِبِهِمْ .
[ تَفْسِيرُ الْمُقَفّي ]
وَأَمّا الْمُقَفّي فَكَذَلِكَ وَهُوَ الّذِي قَفّى عَلَى آثَارٍ مَنْ تَقَدّمِهِ فَقَفّى اللّهُ بِهِ عَلَى آثَارِ مَنْ سَبَقَهُ مِنْ الرّسُلِ وَهَذِهِ اللّفْظَةُ مُشْتَقّةٌ مِنْ الْقَفْوِ يُقَالُ قَفَاهُ يَقْفُوهُ إذَا تَأَخّرَ عَنْهُ وَمِنْهُ قَافِيَةُ الرّأْسِ وَقَافِيَةُ الْبَيْتِ فَالْمُقَفّي : الّذِي قَفّى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الرّسُلِ فَكَانَ خَاتَمَهُمْ وَآخِرَهُمْ .
[ نَبِيّ التّوْبَة ](17/115)
وَأَمّا نَبِيّ التّوْبَةِ فَهُوَ الّذِي فَتَحَ اللّهُ بِهِ بَابَ التّوْبَةِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَتَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ تَوْبَةً لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ قَبْلَهُ . وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَكْثَرُ النّاسِ اسْتِغْفَارًا وَتَوْبَةً حَتّى كَانُوا يَعُدّونَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرّة ٍ رَبّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيّ إنّكَ أَنْتَ التّوّابُ الْغَفُورُ وَكَانَ يَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ تُوبُوا إلَى اللّهِ رَبّكُمْ فَإِنّي أَتُوبُ إلَى اللّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرّةٍ وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ أُمّتِهِ أَكْمَلُ مِنْ تَوْبَةِ سَائِرِ الْأُمَمِ وَأَسْرَعُ وَكَانَتْ تَوْبَةُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ حَتّى كَانَ مِنْ تَوْبَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ وَأَمّا هَذِهِ الْأُمّةُ فَلِكَرَامَتِهَا عَلَى اللّهِ تَعَالَى جَعَلَ تَوْبَتَهَا النّدَمَ وَالْإِقْلَاعَ .
[ نَبِيّ الْمَلْحَمَة ]
وَأَمّا نَبِيّ الْمَلْحَمَةِ فَهُوَ الّذِي بُعِثَ بِجِهَادِ أَعْدَاءِ اللّهِ فَلَمْ يُجَاهِدْ نَبِيّ وَأُمّتَهُ قَطّ مَا جَاهَدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأُمّتُهُ وَالْمَلَاحِمُ الْكِبَارُ الّتِي وَقَعَتْ وَتَقَعُ بَيْنَ أُمّتِهِ وَبَيْنَ الْكُفّارِ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا قَبْلَهُ فَإِنّ أُمّتَهُ يَقْتُلُونَ الْكُفّارَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ وَقَدْ أَوْقَعُوا بِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِمِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ أُمّةٌ سِوَاهُمْ .
[ نَبِيّ الرّحْمَة ](17/116)
وَأَمّا نَبِيُ الرّحْمَةِ فَهُوَ الّذِي أَرْسَلَهُ اللّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَرُحِمَ بِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلّهُمْ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ أَمّا الْمُؤْمِنُونَ فَنَالُوا النّصِيبَ الْأَوْفَرَ مِنْ الرّحْمَةِ وَأَمّا الْكُفّارُ فَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْهُمْ عَاشُوا فِي ظِلّهِ وَتَحْتَ حَبْلِهِ وَعَهْدِهِ وَأَمّا مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَأُمّتُهُ فَإِنّهُمْ عَجّلُوا بِهِ إلَى النّارِ وَأَرَاحُوهُ مِنْ الْحَيَاةِ الطّوِيلَةِ الّتِي لَا يَزْدَادُ بِهَا إلّا شِدّةَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ .
[ الْفَاتِح ]
وَأَمّا الْفَاتِحُ فَهُوَ الّذِي فَتَحَ اللّهُ بِهِ بَابَ الْهُدَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرْتَجًا وَفَتَحَ بِهِ الْأَعْيُنَ الْعُمْيَ وَالْآذَانَ الصّمّ وَالْقُلُوبَ الْغُلْفَ وَفَتَحَ اللّهُ بِهِ أَمْصَارَ الْكُفّارِ وَفَتَحَ بِهِ أَبْوَابَ الْجَنّةِ وَفَتَحَ بِهِ طُرُقَ الْعِلْمِ النّافِعِ وَالْعَمَلِ الصّالِحِ فَفَتَحَ بِهِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَالْقُلُوبَ وَالْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَمْصَارَ .
[ الْأَمِين ]
وَأَمّا الْأَمِينُ فَهُوَ أَحَقّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الِاسْمِ فَهُوَ أَمِينُ اللّهِ عَلَى وَحْيِهِ وَدِينِهِ وَهُوَ أَمِينُ مَنْ فِي السّمَاءِ وَأَمِينُ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمّونَهُ قَبْلَ النّبُوّةِ الْأَمِينَ .
[ الضّحُوكَ الْقَتّال ]
وَأَمّا الضّحُوكُ الْقَتّالُ فَاسْمَانِ مُزْدَوَجَانِ لَا يُفْرَدُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ اللّهِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ .
[ الْبَشِيرُ ](17/117)
وَأَمّا الْبَشِيرُ فَهُوَ الْمُبَشّرُ لِمَنْ أَطَاعَهُ بِالثّوَابِ وَالنّذِيرُ الْمُنْذِرُ لِمَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ وَقَدْ سَمّاهُ اللّهُ عَبْدَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ مِنْهَا قَوْلُه : { وَأَنّهُ لَمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ } [ الْجِنّ : 20 ] وَقَوْلُهُ { تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [ الْفُرْقَانُ : 1 ] وَقَوْلُهُ { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النّجْمُ 10 ] وَقَوْلُهُ { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ الْبَقَرَةُ 23 ] وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصّحِيحِ أَنّهُ قَالَ أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ [ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] وَلَا فَخْرَ وَسَمّاهُ اللّهُ سِرَاجًا مُنِيرًا وَسَمّى الشّمْسَ سِرَاجًا وَهّاجًا .
[ الْمُنِير ]
وَالْمُنِيرُ هُوَ الّذِي يُنِيرُ مِنْ غَيْرِ إحْرَاقٍ بِخِلَافِ الْوَهّاجِ فَإِنّ فِيهِ نَوْعُ إحْرَاقٍ وَتَوَهّجٍ. أ هـ {زاد المعاد حـ 1 صـ 87 ـ 94}(17/118)
فصل
قال ابن عاشور :
ومعنى { خلت } مضت وانقرضت كقوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] وقول امرىء القيس : ( مَن كان في العصر الخالي ) وقَصر محمداً على وصف الرسالة قَصْرَ موصوف على الصفة.
قصراً إضافياً ، لردّ ما يخالف ذلك ردّ إنكار ، سواء كان قصر قلب أو قصر إفراد.
والظاهر أنّ جملة { قد خلت من قبله الرسل } صفة "لرسول" ، فتكون هي محطّ القصر : أي ما هو إلاّ رسول موصوف بخلوّ الرسل قبله أي انقراضهم.
وهذا الكلام مسوق لردّ اعتقاد من يعتقد انتفاء خلوّ الرسلِ مِن قبله ، وهذا الاعتقاد وإن لم يكن حاصلاً لأحد من المخاطبين ، إلاّ أنَّهم لمّا صدر عنهم ما من شأنه أن يكون أثراً لهذا الاعتقاد ، وهو عزمهم على ترك نصرة الدّين والاستسلام للعدوّ كانوا أحرياء بأن ينزلوا منزلة من يعتقد انتفاء خلوّ الرسل مِن قبله ، حيث يجدون أتباعهم ثابتين على مللهم حتّى الآن فكان حال المخاطبين حال من يتوهّم التلازم بين بقاء الملّة وبقاء رسولها ، فيستدلّ بدوام الملّة على دوام رسولها ، فإذا هلك رسول ملّة ظنّوا انتهاء شرعه وإبطال اتّباعه.(17/119)
فالقصر على هذا الوجه قصر قلب ، وهو قلب اعتقادهم لوازم ضدّ الصّفة المقصور عليها ، وهي خلوّ الرسل قبله ، وتلك اللوازم هي الوهَن والتردّد في الاستمرار على نشر دعوة الإسلام ، وبهذا يشعر كلام صاحب "الكشّاف".
وجعَل السكاكي المقصور عليه هو وصف الرسالة فيكون محطّ القصر هو قوله : "رسول" دون قوله : { قد خلت من قبله الرسل } ويكون القصر قصرَ إفْراد بتنزيل المخاطبين منزلة من اعتقد وصفه بالرسالة مع التنزّه عن الهلاك ، حين رتَّبوا على ظنّ موته ظنوناً لا يفرضها إلاّ من يعتقد عصمته من الموت ، ويكون قوله : { قد خلت من قبله الرسل } على هذا الوجه استئنافاً لا صفة ، وهو بعيد ، لأنّ المخاطبين لم يصدر منهم ما يقتضي استبعاد خبر موته ، بل هم ظنّوه صدقاً.
وعلى كلا الوجهين فقد نُزّل المخاطبون منزلَة من يَجهل قصر الموصوف على هذه الصفة وينكره ، فلذلك خوطبوا بطريق النَّفي والاستثناء ، الَّذي كثر استعماله في خطاب من يجهل الحكم المقصورَ عليه وينكره دون طريق ، إنَّما كما بيّنه صاحب "المفتاح". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 237 ـ 238}
قوله تعالى : {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}
فصل
قال الفخر :
حرف الاستفهام دخل على الشرط وهو في الحقيقة داخل على الجزاء ، والمعنى أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل ، ونظيره قوله : هل زيد قائم ، فأنت إنما تستخبر عن قيامه ، إلا أنك أدخلت هل على الاسم والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 18}(17/120)
فصل
قال الفخر :
إنه تعالى بين في آيات كثيرة أنه عليه السلام لا يقتل قال : {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} [ الزمر : 30 ] وقال : {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [ المائدة : 67 ] وقال : {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [ الصف : 9 ] فليس لقائل أن يقول : لما علم أنه لا يقتل فلم قال {أو قتل} ؟
فإن الجواب عنه من وجوه :
الأول : أن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق جزأيها ، فإنك تقول : إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين ، فالشرطية صادقة وجزآها كاذبان ، وقال تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [ الأنبياء : 22 ] فهذا حق مع أنه ليس فيهما آلهة ، وليس فيهما فساد ، فكذا ههنا.
والثاني : أن هذا ورد على سبيل الإلزام ، فإن موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك ، والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لا يرجعون عن دينه ، فكذا ههنا ،
والثالث : أن الموت لا يوجب رجوع الأمة عن دينه ، فكذا القتل وجب أن لا يوجب الرجوع عن دينه ، لأنه فارق بين الأمرين ، فلما رجع إلى هذا المعنى كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين وهموا بالارتداد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 18 ـ 19}
فصل
قال الفخر :
قوله : {انقلبتم على أعقابكم} أي صرتم كفارا بعد إيمانكم ، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه رجع وراءه وانقلب على عقبه ونكص على عقبيه ، وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين : إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار : إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد.
وحاصل الكلام أنه تعالى بين أن قلته لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين :
الأول : بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم ، (17/121)
والثاني : أن الحاجة إلى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة اليه ، فلم يلزم من قتله فساد الدين ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 19}
فائدة
قال الفخر :
ليس لقائل أن يقول : إن قوله : {أفإن مات أو قتل} شك وهو على الله تعالى لا يجوز ، فإنا نقول : المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 19}
فصل
قال القرطبى :
هذه الآية أدلّ دليل على شجاعة الصديق وجراءته ، فإن الشجاعة والجرأة حدّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ، ولا مصيبة أعظم من موت النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم بيانه في "البقرة" فظهرت عنده شجاعته وعلمه.
قال الناس : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم عمر ، وخرس عثمان ، واستخفى عليّ ، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنْح ، الحديث ؛ كذا في البخاري.
وفي سنن ابن ماجه عن عائشة قالت : "لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عند امرأته ابنة خارجة بالعَوالي ، فجعلوا يقولون : لم يمت النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي.
فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبَّل بين عينيه وقال : أنت أكرم على الله من أن يميتك! مرتين ، قد والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر في ناحية المسجد يقول : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يموت حتى يقطع أيدي أُناس من المنافقين كثيرٍ وأرجلهم.(17/122)
فقام أبو بكر فصعِد المنبر فقال : من كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لم يمت ، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين }.
قال عمر : "فلكأنِّي لم أقرأها إلا يومئذ".
ورجع عن مقالته التي قالها فيما ذكر الوَائِلي أبو نصر عبيد الله في كتابه الإبانة : عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوى على مِنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد قبل أبي بكر فقال : أمّا بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وأَنها لم تكن كما قلتُ ، وإِني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهِده إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبُرَنا يريد أن يقول حتى يكون آخرنا موتا فاختار الله عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الوَائلي أبو نصر : المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم" وكان قال ذلك لعظيم ما ورد عليه ، وخشِي الفتنة وظهور المنافقين ، فلما شاهد قوّة يقينِ الصدّيقِ الأكبرِ أبي بكر ، وتفوّهه بقول الله عز وجل : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } [ آل عمران : 85 ] وقوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] وما قاله ذلك اليوم تَنَبّهَ وتثبّتَ وقال : كأني لم أسمع بالآية إلا من أبي بكر.
(17/123)
وخرج الناس يتلونها في سِكك المدينة ، كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم.
ومات صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين بلا اختلاف ، في وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتدّ الضحاء ، ودفن يوم الثلاثاء ، وقيل ليلة الأربعاء.
وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا . . .
وكنت بِنا بَرّاً ولم تك جافِياً
وكنت رحيماً هادياً ومُعلِّما . . .
ليَبْكِ عليك اليومَ من كان باكِيا
لعمرك ما أبكِي النبيَّ لِفقده . . .
ولكن لما أخشى من الهَرْجِ آتيا
كأنّ على قلبي لِذِكرِ محمدٍ . . .
وما خِفت من بعد النبي المكاوِيا
أفاطم صلى اللَّه رب محمدٍ . . .
على جَدَثٍ أمسى بيَثْرب ثَاوِيا
فِدًى لرسول اللَّه أُمِّي وخالتي . . .
وعمى وآبائي ونفسي وما لِيا
صدَقْتَ وبلّغتَ الرسالة صادقا . . .
ومتّ صَلِيبَ العودِ أبْلَجَ صافِيا
فلو أن رب الناس أبقى نبينا . . .
سعِدنا ، ولكن أمره كان ماضِيا
عليك من اللَّه السلام تحيةً . . .
وأُدْخِلت جناتٍ من العَدْن راضِيا
أرى حسنا أيتَمته وتركتَه . . .
يُبَكِّي ويدعو جده اليوم ناعِيا
فإن قيل : فلِم أُخِر دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لأهل بيت أخَّروا دفن ميتهم : " عجلوا دفن جيفتكم ولا تؤخروها "
فالجواب من ثلاثة أوجه : الأوّل ما ذكرناه من عدم اتفاقهم على موته.
الثاني لأنهم لا يعلمون حيث يدفنونه.
قال قوم في البَقِيع ، وقال آخرون في المسجد ، وقال قوم : يحبس حتى يحمل إلى أبيه إبراهيم.
حتى قال العالم الأكبر : سمعته يقول : "ما دفن نبيّ إلا حيث يموت" ذكره ابن ماجه والموطأ وغيرهما.
(17/124)
الثالث أنهم اشتغلوا بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة ، فنظروا فيها حتى استتب الأمر وانتظم الشمل واستوثقت الحال ، واستقرّت الخلافة في نصابها فبايعوا أبا بكر ، ثم بايعوه من الغد بيعة أُخرى عن ملأ منهم ورِضا ؛ فكشف الله به الكُرْبة من أهل الردّة ، وقام به الدّين ، والحمد لله رب العالمين.
ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنظروا في دفنه وغسّلوه وكفّنوه ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 222 ـ 224}. بتصرف يسير.
بحث نفيس
قال الآلوسى
وظاهر الآية يؤيد مذهب أهل السنة القائلين أن المقتول ميت بأجله أي بوقته المقدر له وأنه لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا يموت من غير قطع بامتداد العمر ولا بالموت بدل القتل إذ على تقدير عدم القتل لا قطع بوجود الأجل وعدمه فلا قطع بالموت ولا بالحياة ، وخالف في ذلك المعتزلة فذهب الكعبي منهم إلى أن المقتول ليس بميت لأن القتل فعل العبد والموت فعل الله سبحانه أي مفعوله وأثر صفته ، وأن للمقتول أجلين : أحدهما : القتل والآخر : الموت وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت ، وذهب أبو الهذيل إلى أن المقتول لو لم يقتل لمات ألبتة في ذلك الوقت.(17/125)
وذهب الجمهور منهم إلى أن القاتل قد قطع على المقتول أجله وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لولا القتل ، وليس النزاع بين الأصحاب والجمهور لفظياً كما رآه الأستاذ وكثير من المحققين حيث قالوا : إنه إذا كان الأجل زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكان المقتول ميتاً بأجله بلا خلاف من المعتزلة في ذلك إذ هم لا ينكرون كون المقتول ميتاً بالأجل الذي علمه الله تعالى وهو الأجل بسبب القتل ، وإن قيد بطلان الحياة بأن لا يترتب على فعل من العبد لم يكن كذلك بلا خلاف من الأصحاب فيه إذ هم يقولون بعدم كون المقتول ميتاً بالأجل غير المرتب على فعل العبد لأنا نقول حاصل النزاع أن المراد بأجل المقتول المضاف إليه زمان بطلان حياته بحيث لا محيص عنه ولا تقدم ولا تأخر على ما يشير إليه قوله تعالى : { أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] ويرجع الخلاف إلى أنه هل تحقق ذلك في حق المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات وإن لم يقتل يعش كذا في "شرح المقاصد" ، ولعله جواب باختيار الشق الأول ، وهو أن المراد زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكنه لا مطلقاً بل على ما علمه تعالى وقدره بطريق القطع وحينئذٍ يصلح محلاً للخلاف لأنه لا يلزم من عدم تحقق ذلك في المقتول كما يقوله المعتزلة تخلف العلم عن المعلوم لجواز أن يعلم تقدم موته بالقتل مع تأخر الأجل الذي لا يمكن تخلفه عنه ، وقد يقال : إنه يمكن أن يكون جواباً باختيار شق ثالث وهو المقدر بطريق القطع إذ لا تعرض في تقرير الجواب للعلم والمقدر أخص من الأجل المعلوم مطلقاً والفرق بينه وبين كونه جواباً باختيار الأول لكن لا مطلقاً اعتبار قيد العلم في الأجل الذي هو محل النزاع على تقدير(17/126)
اختيار الأول وعدم اعتباره فيه على اختيار الثالث وإن كان معلوماً في الواقع أيضاً فافهم ، ثم إن أبا الحسين ومن تابعه يدعون الضرورة في هذه المسألة وكذا الجمهور في رأي البعض ، وعند البعض الآخر هي عندهم استدلالية.
واحتجوا على مذهبهم بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات تزيد في العمر وبأنه لو كان المقتول ميتاً بأجله لم يستحق القاتل ذماً ولا عقاباً ولم يتوجه عليه قصاص ولا غرم دية ولا قيمة في ذبح شاة الغير لأنه لم يقطع أجلاً ولم يحدث بفعله موتاً ، وبأنه ربما يقتل في الملحمة والحرب ألوف تقضي العادة بامتناع اتفاق موتهم في ذلك الوقت بآجالهم ، وتمسك أبو الهذيل بأنه لو لم يمت المقتول لكان القاتل قاطعاً لأجل قدره الله تعالى ومغيراً لأمر علمه وهو محال ، والكعبي بقوله تعالى : { أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] حيث جعل القتل قسيماً للموت بناءاً على أن المراد بالقتل المقتولية وأنها نفس بطلان الحياة وأن الموت خاص بما لا يكون على وجه القتل ومتى كان الموت غير القتل كان للمقتول أجلان : أحدهما : القتل ، والآخر : الموت.(17/127)
وأجيب عن متمسك الأولين : الأول : بأن تلك الأحاديث أخبار آحاد فلا تعارض الآيات القطعية كقوله تعالى : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] أو بأن المراد من أن الطاعة تزيد في العمر أنها تزيد فيما هو المقصود الأهم منه وهو اكتساب الكمالات والخيرات والبركات التي بها تستكمل النفوس الإنسانية وتفوز بالسعادة الأبدية ، أو بأن العمر غير الأجل لأنه لغة الوقت ، وأجل الشيء يقال لجميع مدته ولآخرها كما يقال أجل الدين شهران أو آخر شهر كذا ، ثم شاع استعماله في آخر مدة الحياة ، ومن هنا يفسر بالوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيوان عنده على ما قررناه.
والعمر لغة مدة الحياة كعمر زيد كذا ومدة البقاء كعمر الدنيا وكثيراً ما يتجوز به عن مدة بقاء ذكر الناس الشخص للخير بعد موته ، ومنه قولهم : ذكر الفتى عمره الثاني ؛ ومن هنا يقال لمن مات وأعقب ذكراً حسناً وأثراً جميلاً : ما مات ، فلعله أراد صلى الله عليه وسلم أن تلك الطاعات تزيد في هذا العمر لما أنها تكون سبباً للذكر الجميل ، وأكثر ما ورد ذلك في الصدقة وصلة الرحم وكونهما مما يترتب عليهما ثناء الناس مما لا شبهة فيه قيل : ولهذا لم يقل صلى الله عليه وسلم في ذلك إنه يزيد في الأجل ، أو بأن الله تعالى كان يعلم أن هذا المطيع لو لم يفعل هذه الطاعة لكان عمره أربعين مثلاً لكنه علم أنه يفعلها ويكون عمره سبعين سنة فنسبة هذه الزيادة إلى تلك الطاعة بناءاً على علم الله تعالى أنه لولاها لما كانت هذه الزيادة.(17/128)
ومحصل هذا أنه سبحانه قدر عمره سبعين بحيث لا يتصور التقدم والتأخر عنه لعلمه بأن طاعته تصير سبباً لثلاثين فتصير مع أربعين من غير الطاعة سبعين ، وليس محصل ذلك أنه تعالى قدره سبعين على تقدير وأربعين على تقدير حتى يلزم تعدد الأجل والأصحاب لا يقولون به.
والثاني : بأن استحقاق الذم والعقاب وتوجه القصاص أو غرم الدية مثلاً على القاتل ليس بما يثبت في المحل من الموت بل هو بما اكتسبه وارتكبه من الإقدام على الفعل المنهي عنه الذي يخلق الله تعالى به الموت كما في سائر الأسباب والمسببات لا سيما عند ظهور أمارات البقاء وعدم ما يظن معه حضور الأجل حتى لو علم موت شاة بإخبار صادق معصوم ، أو ظهرت الإمارات المفيدة لليقين لم يضمن عند بعض الفقهاء ، والثالث : بأن العادة منقوضة أيضاً بحصول موت ألوف في وقت واحد من غير قتال ولا محاربة كما في أيام الوباء مثلاً على أن التمسك بمثل هذا الدليل في مثل هذا المطلب في غاية السقوط.(17/129)
وأجيب عن متمسك أبي الهذيل بأن عدم القتل إنما يتصور على تقدير علم الله تعالى بأنه لا يقتل وحينئذٍ لا نسلم لزوم المحال وبأنه لا استحالة في قطع الأجل المقدر الثابت لولا القتل لأنه تقرير للمعلوم لا تغيير له ، وعن متمسك الكعبي المخالف للمعتزلة والأشاعرة في إثبات الأجلين بأن القتل قائم بالقاتل وحال له لا للمقتول وإنما حاله الموت وانزهاق الروح الذي هو بإيجاد الله تعالى وإذنه ومشيئته وإرادة المقتولية المتولدة عن قتل القاتل بالقتل وهي حال المقتول إذ هي بطلان الحياة والتخصيص بما لا يكون على وجه القتل على ما يشعر به { أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] خلاف مذهبه من إنكار القضاء والقدر في أفعال العباد إذ بطلان الحياة المتولد من قتل القاتل أجل قدره الله تعالى وعينه وحدده ، ومعنى الآية كما أشرنا إليه أفئن مات حتف أنفه بلا سبب ، أو مات بسبب القتل ، فتدل على أن مجرد بطلان الحياة موت ومن هنا قيل : إن في المقتول معنيين قتلاً هو من فعل الفاعل وموتاً هو من الله تعالى وحده.
وذهبت الفلاسفة إلى مثل ما ذهب إليه الكعبي من تعدد الأجل فقالوا : إن للحيوان أجلاً طبيعياً بتحلل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين وآجالاً اخترامية تتعدد بتعدد أسباب لا تحصى من الأمراض والآفات ، وبيانه أن الجواهر التي غلبت عليها الأجزاء الرطبة ركبت مع الحرارة الغريزية فصارت لها بمنزلة الدهن للفتيلة المشعلة وكلما انتقصت تلك الرطوبات تبعتها الحرارة الغريزية في ذلك حتى إذا انتهت في الانتقاص وتزايد الجفاف انطفأت الحرارة كانطفاء السراج عند نفاد دهنه فحصل الموت الطبيعي وهو مختلف بحسب اختلاف الأمزجة وهو في الإنسان في الأغلب تمام مائة وعشرين سنة.(17/130)
وقد يعرض من الآفات مثل البرد المجمد والحرب المذوب وأنواع السموم وأنواع تفرق الاتصال وسوء المزاج ما يفسد البدن ويخرجه عن صلاحه لقبول الحياة إذ شرطها اعتدال المزاج فيهلك بسببه وهذا هو الأجل الاحترامي ، ويرد ذلك أنه مبني على قواعدهم من تأثير الطبيعة والمزاج وهو باطل عندنا إذ لا تأثير إلا له سبحانه وتلك الأمور عندنا أسباب عادية لا عقلية كما زعموا.
وادعى بعض المحققين أن النزاع بيننا وبين الفلاسفة كالنزاع بيننا وبين المعتزلة على رأي الأستاذ لفظي إذ هم لا ينكرون القضاء والقدر فالوقت الذي علم الله تعالى بطلان الحياة فيه بأي سبب كان واحد عندهم أيضاً ، وما ذكروه من الأجل الطبيعي نحن لا ننكره أيضاً لكنهم يجعلون اعتدال المزاج واستقامة الحرارة والرطوبة ونحو ذلك شروطاً حقيقة عقلية لبقاء الحياة ونحن نجعلها أسباباً عادية وذلك بحث آخر وسيأتي تتمة الكلام على هذه المسألة إذ الأمور مرهونة لأوقاتها ولكل أجل كتاب. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 76 ـ 78}
قوله تعالى : {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً}
قال الفخر :
{وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً} والغرض منه تأكيد الوعيد ، لأن كل عاقل يعلم أن الله تعالى لا يضره كفر الكافرين ، بل المراد أنه لا يضر إلا نفسه ، وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب : إن هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض ، ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا ههنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 19}(17/131)
قوله تعالى : {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين}
قال الفخر :
المراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين ، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به ، فلا جرم مدحهم الله تعالى بقوله : {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين}
وروى محمد ابن جرير الطبري عن علي رضي الله عنه أنه قال : المراد بقوله : {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} أبو بكر وأصحابه ، وروي عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين وهو من أحباء الله ، والله أعلم بالصواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 19}
وقال ابن عطية :
وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على عقبيه بل مضى على دينه قدماً حتى مات ، فمنهم سعد بن الربيع وتقضي بذلك وصيته إلى الأنصار ، ومنهم أنس بن النضر ، ومنهم الأنصاري الذي ذكر الطبري عنه بسند أنه مر عليه رجل من المهاجرين ، والأنصاريّ يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل : فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم.(17/132)
قال الفقيه أبو محمد : فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم قولهم : ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة : قال ابن إسحاق معنى { وسيجزي الله الشاكرين } أي من أطاعه وعمل بأمره ، وذكر الطبري بسند عن علي بن أبي طالب وذكر غيره : أنه قال في تفسير هذه الآية : " الشاكرون " : الثابتون على دينهم ، أبو بكر وأصحابه وكان يقول : أبو بكر أمير الشاكرين ، وهذه عبارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هي إلى صدع أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي عليه السلام وثبوته في ذلك الموطن ، وثبوته في أمر الردة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض وشاع موته ، هاج المنافقون وتكلموا ، وهموا بالاجتماع والمكاشفة ، أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه السلام ، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه السلام فسمع كلام عمر فقال له : اسكت ، فاستمر عمر في كلامه فتشهد أبو بكر فأصغى الناس إليه ، فقال : أما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى ، فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } ، وتلا الآية كلها ، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم ، قالت عائشة رضي الله عنها في البخاري : فنفع الله بخطبة عمر ، ثم بخطبة أبي بكر.
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 517}
لطيفة
قال أبو حيان :
{ وسيجزي الله الشاكرين } وعد عظيم بالجزاء.(17/133)
وجاء بالسين التي هي في قول بعضهم : قرينة التفسير في الاستقبال ، أي : لا يتأخر جزاء الله إياهم عنهم. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 75}
فصل
قال القرطبى :
في تغيير الحال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أنس قال : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كلّ شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كلّ شيء ، وما نَفَضْنا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا.
أخرجه ابن ماجه ، وقال : حدّثنا محمد بن بشّار أخبرنا عبد الرحمن بن مهديّ حدّثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : كنا نتّقِي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافةَ أن ينزل فينا القرآن ، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تَكلّمنا.
وأسند عن أُم سلمَة بنت أبي أُمية زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ( أنها قالت ) : كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام المُصَلِّي ( يصلي ) لم يَعْدُ بصرُ أحدهم موضع قدميْه ، فلما تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر ، فكان الناس إذا قام أحدهُم يصلي لم يَعْدُ بصر أحدهم موضع جبينه ، فتوفى أبو بكر وكان عمر ، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعْدُ بصر أحدهم موضع القبلة ، فكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة فتلفت الناس في الصلاة يميناً وشمالاً. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 225 ـ 226}(17/134)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
" ما " نافية ، ولا عمل لها هنا مطلقاً - أعني : على لغة الحجازيين والتميميِّين ؛ لأن التميميين لا يعملونها - ألبتة - والحجازيين يُعْملونها بشروط ، منها : ألا يَنْتَقضَ النفي بـ " إلا " إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله - وهو شبهها بـ " ليس " في نفي الحال - فيكون " مُحَمَّدٌ " مبتدأ ، و" رَسُولٌ " خبر.
هذا - [ أعني : إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها ] - مذهب الجمهور ، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ بـ " إلا ".
وأنشد : [ الطويل ]
وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بِأهْلِهِ... وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا
فنصب " منجنوناً " ، و" مُعَذَّباً " على خبر " ما " - وهما بعد " إلا " -.
ومثله قول الآخر : [ الوافر ]
وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَاراً... وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلاَّ نَكَالا
ف " حق " اسم " ما " و" نكالا " خبرها.
وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف ، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ ، والتقدير : وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِ " دَوَرَانَ " ثم حُذِفَ المضافُ ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب ، وكذا : " إلا مُعَذَّباً " تقديره : يُعَذَّبُ تعذيباً ، فحُذِف الفعلُ ، وأقيم " معذَّباً " مقام " تَعْذِيب " ، كقوله تعالى : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] أي : كل تمزيق. وكذا : " إلا نَكَالاً " ، وفيه من التكلُّف ما ترى.
و " مُحَمَّدٌ " هو المستغرق لجميع المحامد ؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل ، والتحميد فوق الحمد ، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال. وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه - جل جلاله - وهما محمد وأحمد.(17/135)
قال أهل اللغة : كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى " محمدا ".
قوله : { قَدْ خَلَتْ } في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في محل رفع ؛ صفة لِ " رَسُولٌ ".
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمي رالمستكن في " رَسُولٌ " ، وفيه نظر ؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد ، فلا تتحمل ضميراً.
قوله : " من قبله " فيه وجهان - أيضاً - :
أظهرهما : أنه معلق بـ " خلت ".
والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ ؛ حال من " الرُّسُلُ " مقدَّماً عليها ، وهي - حينئذ - حال مؤكِّدة ؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة.
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ " رُسُلٌ " - بالتنكير -.
قال أبُو الفَتْحِ : ووجها أنَّه موضع تيسير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد ، كقوله : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ].
وقوله : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ].
وقال أبُو البَقَاءِ : " وهو قريب من معنى " المعرفة. كأنه يريد أن المراد بالرسل " الجنس " ، فالنكرة قريب منه بهذه الحيثية ".
وقراءة الجمهور أولى ؛ لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم.
قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ } الهمزة لاستفهام الإنكار ، والفاء للعطف ، ورتبتها التقديم ؛ لأنها حرف عطف ، وإنما قُدِّمت الهمزة ؛ لأن لها صَدر الكلام ، وقد تقدم تحقيقه وأن الزمخشري يقدِّر بينهما فعلاً محذوفاً تعطف الفاء عليه ما بعدها.
قال ابن الخطيب كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيُّ : " الأوجه : أن يقدر محذوف بعد الهمزة ، وقبل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه ، ولو صُرِّحَ به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سُنَنَ أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على مِلَلِ أنبيائهم بعد وفاتهم.
(17/136)
وهذا هو مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ ، إلا أنَّ الزمخشريَّ - هنا - عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة ؛ فإنه قال : الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قَبْلَها على معنى " التسبيب " ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه - بموتٍ أو قَتْل - مع علمهم أن خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله ، وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسُّك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه ".
فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله : { قَدْ خَلَتْ } من غير تقدير جملة أخرى.
وقال أبو البقاء قريباً من هذا ؛ فإنه قال : " الهمزة عند سيبويه في موضعها ، والفاء تدل على تعلُّق الشرطِ بما قبله ".
لا يقال : إنه جعل الهمزة في موضعها ، فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها ؛ لأنه جعل هذا مقابلاً لمذهب يونس ؛ فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة - في مثل هذا التركيب - داخلة على جواب الشرط ، فهي في مذهبه في غير موضعها وسيأتي تحريره.
و " إن " شرطية ، و" مَاتَ " و" انْقَلَبْتُمْ " شرط وجزاء ، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يُغَيِّر سبباً من حكمها.
(17/137)
وزعم يونس أن الفعل الثاني - الذي هو جزاء الشرط - ليس هو جزاء للشرط ، وإنما هو المستفْهَم عنه ، وأن الهمزة داخلة عليه تقديراً ، فينوى به التقرير ، وحينئذ لا يكون جواباً ، بل الجواب محذوف ، ولا بد - إذ ذاك - من أن يكون فعل الشرط ماضياً ، إذْ لا يُحْذَف الجواب إلا والشرط ماضٍ ، ولا اعتبار بالشعر ؛ فإنه ضرورة ، فلا يجوز عنده أن تقول : إن تكرمني أكرمك ولا يجزنهما ، ولا بجزم الأول ورفع الثاني ، لأن الشرط مضارع. ولا أإن أكرمتني أكرمك - بجزم أكرمك ؛ لأنه ليس الجواب ، بل دال عليه ، والنية به التقديم ، فإن رفعت " أكرمك " وقلت : أإن أكرمتني أكرمك ، صح عنده.
فالتقدير عند يونس : أنقلبتم على أعقابكم إن مات محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته ، وبقول يونس قال كثير من المفسِّرين ؛ فإنهم يقولون : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ؛ لأن الغرض إنما هو أتنقلبون إن مات محمد ؟
وقال أبو البقاء : " وقال يونس : الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط ، تقديره : أتنقلبون إن مات ؟ لأن الغرض التنبيه ، أو التنبيخ على هذا الفعل المشروط ".
ومذهب سيبويه الحقُّ ؛ لوجهَيْن :
أحدهما : أنك لو قدمتَ الدجواب ، لم يكن للفاء وجه ؛ إذ لا يصح أن تقول : أتزوروني فإن زرتك. ومنه قوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ].
والثاني : أنَّ الهمزة لها صدر الكلام ، و" إنْ " لها صدر الكلام ، وقد وقعا في موضعهما ، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجوابِ ؛ لأنهما كالشيء الواحد.(17/138)
وقد رد النحويون على يونس بقوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } ، فإنَّ الفاء في قوله : " فَهُمْ " تعين أن يكون جواباً للشرط ، وأتى - هنا - بـ " إن " التي تقتضي الشك ، والموت أمر محقق ، إلاَّ أنه أورده مورد المشكوك فيه ؛ للتردد بين الموت والقتل.
قوله : { على أَعْقَابِكُمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق بـ " انْقَلَبْتُمْ ".
والثاني : أنه حال من فاعل " انْقَلَبْتُمْ " ، كأنه قيل : انقلبتم راجعين.
قوله : { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ }.
قرأ ابنُ أبي إسحاق " على عقبه " - بالإفراد ، و" شَيْئاً " نصب على المصدر أي : شيئاً من الضرر ، لا قليلاً ولا كثيراً. والمراد منه : تأكيد الوعيد ، وأن المنقلب بارتداده لا يضر الله شيئاً ، وإنما يضر نفسه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 567 ـ 574}. بتصرف.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}
إن الرسل موقوفون حيثما وُقِفُوا ، ومخبرون عمَّا عُرِّفوا بمقدار ما عَرفُوا ؛ فإذا أُيِّدُوا بأنوار البصائر اطَّلعوا على مكنونات السرائر بلطائف التلويح بمقدار ما أُعْطُوا من الإشراق بوظائف البلوغ.(17/139)
{ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } لما تُوُفّى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - سقمت البصائر إلا بصيرة الصديق رضي الله عنه فأمدَّه الله بقوة السكينة ، وأفرغ عليه قوة التولي فقال : " من كان يعبد محمداً فإنَّ محمداً قد مات " فصار الكل مقهورين تحت سلطان قالته لِمَا انبسط عليهم من نور حالته ، كالشمس بطلوعها تندرج في شعاعها أنوارُ الكواكب فيستتر فيها مقادير مطارح شعاع كل نجم.
وإنما قال : { أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } لأنه صلى الله عليه وسلم مات. وقيل أيضاً لأنه قال : " ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري ". أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 282}(17/140)
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان موت الرأس من أنصار الدين لا يصلح أن يكون سبباً للفرار إلا إذا كان موته بغير إذن صاحب الدين ، وكان الفرار لا يصلح إلا أذا كان يمكن أن يكون سبباً للنجاة ، وأما إذا كان موته لا يكون إلا بإرادة رب الدين ، والفرار لا يكون سبباً في زيادة الأجل ولا نقصه ؛ أشار إلى ذلك بقوله : {وما كان لنفس} أي من الأنفس كائنة من كانت {أن تموت} أي بشيء من الأشياء {إلا بإذن الله} أي بعلم الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامة وإرادته وتمكينه من قبضها " كتب لكل نفس عمرها " {كتاباً مؤجلاً} أي أجلاً لا يتقدم عنه بثبات ، ولا يتأخر عنه بفرار أصلاً.
ولما كان المعنى : فمن أقدم شكرته ولم يضره الإقدام ، ومن أحجم ذممته ولم ينفعه الإحجام ، وكان الحامل على الإقدام إيثار ما عند الله ، والحامل على الإحجام إيثار الدنيا ؛ عطف على ذلك قوله : {ومن يرد ثواب الدنيا} أي بعمله - كما افهمه التعبير بالثواب ، وهم المقبلون على الغنائم بالنهب والفارون كفراً لنعمة الله {نؤته منها} أي ما أراد ، وختام الآية يدل على أن التقدير هنا : وسنردي الكافرين ولكنه طواه رفقاً لهم {ومن يرد ثواب الآخرة} أي وهم الثابتون شكراً على إحسانه إليهم من غير أن يشغلهم شاغل عن الجهاد ، ولما كان قصد الجزاء غير قادح في الإخلاص منه من الله تعالى علينا قال : {نؤته} ونبه على أن العمل لذات الله من غير نظر إلى ثواب ولا عقاب أعلى فقال : {منها} أي وسنجزيه لشكره ، وهو معنى قوله : {وسنجزي الشاكرين} لكنه أظهر لتعليق الحكم بالوصف وعمم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 162 ـ 163}
فصل
قال الفخر :
في كيفية تعلق هذه الآية بما قبله وجوه :
الأول : أن المنافقين أرجفوا أن محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فالله تعالى يقول : إنه لا تموت نفس إلا بإذن الله وقضائه وقدره ، فكان قتله مثل موته في أنه لا يحصل إلا في الوقت المقدر المعين ، فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه ، فكذا إذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه ، والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضعفة المسلمين أنه لما قتل محمد فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الأديان.
الثاني : أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر ، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء ، فلا فائدة في الجبن والخوف.(17/141)
والثالث : أن يكون المراد حفظ الله للرسول صلى الله عليه وسلم وتخليصه من تلك المعركة المخوفة ، فإن تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها ، ولكن لما كان الله تعالى حافظاً وناصراً ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه.
والرابع : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صلى الله عليه وسلم ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر ، بل يبقيه الله إلى أن يظهر على الدين كله.
الخامس : أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون ، فإن الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فاخبر الله تعالى أن الموت والقتل كلاهما لا يكونان إلا بإذن الله وحضور الأجل والله أعلم بالصواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 19 ـ 20}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في تفسير الإذن على أقوال :
الأول : أن يكون الإذن هو الأمر وهو قول أبي مسلم ، والمعنى أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا الأمر.
الثاني : أن المراد من هذا الإذن ما هو المراد بقوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [ النحل : 40 ] والمراد من هذا الأمر إنما هو التكوين والتخليق والإيجاد ، لأنه لا يقدر على الموت والحياة أحد إلا الله تعالى ، فإذن المراد : أن نفساً لن تموت إلا بما أماتها الله تعالى.(17/142)
الثالث : أن يكون الإذن هو التخلية والإطلاق وترك المنع بالقهر والإجبار ، وبه فسر قوله تعالى : {وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [ البقرة : 102 ] أي بتخليته فإنه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر ، فيكون المعنى : ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله بتخلي الله بين القاتل والمقتول ، ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصداً ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به ، ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي إلى الاجل الذي كتبه الله له ، فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن محمداً قد قتل.
الرابع : أن يكون الإذن بمعنى العلم ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه ، وإذا جاء ذلك الوقت لزم الموت ، كما قال {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [ النحل : 61 ] الخامس : قال ابن عباس : الإذن هو قضاء الله وقدره ، فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وارادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل ، كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ20}
فائدة
قال الفخر :
قال الأخفش والزجاج : اللام في {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} معناها النفي ، والتقدير وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 20}
فصل
قال ابن عاشور :
{ ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كتابا مُّؤَجَّلاً }.
جملة معترضة ، والواو اعتراضية.
فإن كانت من تتمة الإنكار على هلعهم عند ظنّ موت الرسول ، فالمقصود عموم الأنفس لا خصوص نفس الرسول عليه السلام ، وتكون الآية لوماً للمسلمين على ذهولهم عن حفظ الله رسولَه من أن يسلّط عليه أعداؤُه ، ومن أن يخترم عمره قبل تبليغ الرسالة.(17/143)
وفي قوله : { والله يعصمك عن الناس } [ المائدة : 67 ] عقب قوله : { بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] الدالّ على أنّ عصمته من النَّاس لأجل تبليغ الشَّريعة.
فقد ضمن الله له الحياة حتَّى يبلّغ شرعه ، ويتمّ مراده ، فكيف يظنّون قتله بيد أعدائه ، على أنَّه قبل الإعلان بإتمام شرعه ، ألا ترى أنَّه لمّا أنزل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] الآية.
بكى أبو بكر وعلم أنّ أجل النَّبيء صلى الله عليه وسلم قد قرب ، وقال : ما كمُل شيء إلاّ نقص.
فالجملة ، على هذا ، في موضع الحال ، والواو واو الحال.
وإن كان هذا إنكاراً مستأنفاً على الَّذين فزعوا عند الهزيمة وخافوا الموت ، فالعموم في النفس مقصود أي ما كان ينبغي لكم الخوف وقد علمتم أنّ لكلّ نفس أجلاً.
وجيء في هذا الحكم بصيغة الجحود للمبالغة في انتفاء أن يكون موت قبل الأجل ، فالجملة ، على هذا ، معترضة ، والواو اعتراضية ، ومثل هذه الحقائق تلقى في المقامات الَّتي يقصد فيها مداواة النُّفوس من عاهات ذميمة ، وإلاّ فإنّ انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته ، { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [ لقمان : 34 ] ، والمؤمن مأمور بحفظ حياته ، إلاّ في سبيل الله ، فتعيّن عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أنّ الموت بالأجل ، والمراد { بإذن الله } تقديره وقت الموت ، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدّر ، وهو ما عبّر عنه مرّة ب ( كن ) ، ومرة بقدر مقدُور ، ومرّة بالقلم ، ومرّة بالكتاب.(17/144)
والكتاب في قوله : { كتاباً مؤجلاً } يجوز أن يكون اسماً بمعنى الشيء المكتوب ، فيكون حالاً من الإذن ، أو من الموت ، كقوله : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] و"مؤجّلاً" حالاً ثانية ، ويجوز أن يكون { كتاباً } مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 240 ـ 241}
فائدة
قال الفخر :
دلت الآية على أن المقتول ميت بأجله ، وأن تغيير الآجال ممتنع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 20}
قوله تعالى : {كتابا مُّؤَجَّلاً}
فائدة
قال الفخر :
قوله : {كتابا مُّؤَجَّلاً} منصوب بفعل دل عليه ما قبله فإن قوله : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} قام مقام أن يقال : كتب الله ، فالتقدير كتب الله كتابا مؤجلا ونظيره قوله : {كتاب الله عَلَيْكُمْ} [ النساء : 24 ] لأن في قوله {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} [ النساء : 23 ] دلالة على أنه كتب هذا التحريم عليكم ومثله : {صنع الله} [ النمل : 88 ] و{وعد الله} [ الزمر : 20 ] و{فطرة الله} [ الروم : 30 ] ، و{صبغة الله} [ البقرة : 138 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 20 ـ 21}
فصل
قال الفخر :
المراد بالكتاب المؤجل الكتاب المشتمل على الآجال ، ويقال : إنه هو اللوح المحفوظ ، كما ورد في الأحاديث أنه تعالى قال للقلم " اكتب فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 21}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة لله تعالى ، وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ ، فلو وقعت بخلاف علم الله لانقلب علمه جهلا ، ولانقلب ذلك الكتاب كذبا ، وكل ذلك محال ، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الكل بقضاء الله وقدره.(17/145)
وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى في تفسير هذه الآية وأكده بحديث الصادق المصدوق ، وبالحديث المشهور من قوله عليه السلام " فحج آدم موسى " قال القاضي : أما الأجل والرزق فهما مضافان إلى الله ، وأما الكفر والفسق والإيمان والطاعة فكل ذلك مضاف إلى العبد ، فإذا كتب تعالى ذلك فإنما يكتب بعلمه من اختيار العبد ، وذلك لا يخرج العبد من أن يكون هو المذموم أو الممدوح.
واعلم أنه ما كان من حق القاضي أن يتغافل عن موضع الإشكال ، وذلك لأنا نقول : إذا علم الله من العبد الكفر وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر ، فلو أتى بالإيمان لكان ذلك جمعا بين المتناقضين ، لأن العلم بالكفر والخبر الصدق عن الكفر مع عدم الكفر جمع بين النقيضين وهو محال ، وإذا كان موضع الإلزام هو هذا فأنى ينفعه الفرار من ذلك إلى الكلمات الأجنبية عن هذا الإلزام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 21}
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا } فِيهِ حَضٌّ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ حَيْثُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِيهِ التَّسْلِيَةُ عَمَّا يَلْحَقُ النَّفْسَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الْآيَةَ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 325}
قوله تعالى : {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين }
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين ، منهم من يريد الدنيا ، ومنهم من يريد الآخرة كما ذكره الله تعالى فيما بعد من هذه السورة ، فالذين حضروا القتال للدنيا ، هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء ، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا ، والذين حضروا للدين ، فلا بد وأن لا ينهزموا ثم أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل إلى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك ، وتقريره قوله عليه السلام : " إنما الأعمال بالنيات " إلى آخر الحديث.(17/146)
واعلم أن هذه الآية وإن وردت في الجهاد خاصة ، لكنها عامة في جميع الأعمال ، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب ، والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال ، فإن من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه ، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام ، وإن قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر.
وروى أبو هريرة عنه عليه السلام أن الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله " في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى : كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك " ثم إن الله تعالى يأمر به إلى النار. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 21}
وقال السمرقندى :
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } قال الكلبي : يعني يرد ثواب الدنيا بالعمل الذي افترض الله عليه { نُؤْتِهِ مِنْهَا } يعني أعطاه الله ما يحب ، وما له في الآخرة من نصيب { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين } في الآخرة.
ومن الناس من قال : إن الرياء يدخل في النوافل ، ولا يدخل في الفرائض ، لأن الفرائض واجبة على جميع الناس.
وقال بعضهم : يدخل في الفرائض ولا يدخل في النوافل ، لأنه لو لم يأتِ بها لا يؤاخذ بها ، فإذا أتى بهذا القدر ليس عليه غير ذلك.
وقال بعضهم : كلاهما سواء ، فالرياء يدخل في الفرائض والنوافل جميعاً.
وهذا القول أصح لقوله تعالى : { إِنَّ المنافقين يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ]. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 279}
____________
(1) نص الحديث ( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار. {صحيح مسلم برقم 1905 - باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار}(17/147)
وقال الماوردى :
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْدُّنيا نُؤْتِهِ مِنهَا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : من أراد بجهاده ثواب الدنيا أي ما يصيبه من الغنيمة ، وهذا قول بعض البصريين.
والثاني : من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له فيها من غير حظ في الآخرة ، وهذا قول ابن إسحاق.
والثالث : من أراد ثواب الدنيا بالنهوض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي عليها في الدنيا دون الآخرة. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 427 ـ 428}
وقال الطبرى :
يعني بذلك جل ثناؤه : من يرد منكم ، أيها المؤمنون ، بعمله جزاءً منه بعضَ أعراض الدنيا ، دون ما عند الله من الكرامة لمن ابتغى بعمله ما عنده "نؤته منها" ، يقول : نعطه منها ، يعني من الدنيا ، يعني أنه يعطيه منها ما قُسم له فيها من رزق أيام حياته ، ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدها لمن أطاعه وطلب ما عنده في الآخرة "ومن يرد ثوابَ الآخرة" ، يقول : ومن يرد منكم بعمله جزاءً منه ثواب الآخرة ، يعني : ما عند الله من كرامته التي أعدها للعاملين له في الآخرة "نؤته منها" ، يقول : نعطه منها ، يعني من الآخرة. والمعنى : من كرامة ألله التي خصَّ بها أهلَ طاعته في الآخرة. فخرج الكلامُ على الدنيا والآخرة ، والمعنىُّ ما فيهما. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 262}
قوله تعالى { وسنجزي الشاكرين }
قال ابن عاشور :
{ وسنجزي الشاكرين } تذييل يعمّ الشاكرين ممّن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة.
ويعمّ الجزاء كلّ بحسبه ، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 241}(17/148)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى { أَنْ تَمُوتَ } في محل رفع ؛ اسماً لـ " كان " ، و" لِنَفْسٍ " خبر مقدَّم فيتعلق بمحذوف ، و{ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } حال من الضمير في " تَمُوتَ " ، فيتعلق بمحذوف ، وهو استثناء مفرَّغ ، والتقدير : وما كان لها أن تموتَ إلا مأذوناً لها ، والباء للمصاحبة.
وقال أبُو البَقَاءِ : { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } الخبر ، واللام للتبيين ، متعلِّقة بـ " كان ".
وقيل : هي متعلقة بمحذوف ، تقديره : الموت لنفس ، و" أنْ تَمُوتَ " تبيين للمحذوف ، ولا يجوز أن تتعلق اللام بـ " تَمُوتَ " لما فيه من تقديم الصلة على الموصول.
وقال بعضهم : إن " كَانَ " زائدة ، فيكون " أن تموت " مبتدأ ، و" لنفس " خبره.
وقال الزجاج : اللام منقولة ، تقديره وما كانت نفس لتموتَ ثم قدمت اللام ، فجعل ما كان اسماً لـ " كان " - وهو ( أن تَموتَ ) - خبراً لها ، وما كان خبراً - وهو " لِنَفْسٍ " - اسماً لها ، فهذه خمسة أقوال ، أظهرها : الأول.
أما قول أبي البقاء : واللام للتبيين ، فتتعلق بمحذوف ، ففيه نظر من وجهين :
أحدهما : أنَّ " كان " الناقصة لا تعمل في غير اسمها وخبرها ، ولئن سُلِّم ذلك ، فاللام التي للتبيين إنما تتعلق بمحذوف ، وقد نَصُّوا على ذلك في نحو : سَقْياً لك.
وقيل : إن فيه حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز.
أما مَنْ جعل " لِنَفْسٍ " متعلقة بمحذوف - تقديره : الموت لنفس ، ففاسدٌ ، لأنه ادَّعَى حذف شيء لا يجوز ؛ لأنه إن جعل " كَانَ " تامة ، أو ناقصة ، امتنع حذفُ مرفوعها ، لأن الفاعل لا يُحْذَف. وكذلك قول مَنْ جعل " كان " زائدة.
أما على قول الزجاج فإنه تفسير معنًى ، لا تفسير إعراب.
قوله : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } في نصبه ثلاثة أوجه :(17/149)
أظهرها : أنه مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله ، فعامله مُضْمَر ، تقديره : كتب الله ذلك كتاباً ، نحو قوله تعالى : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] وقوله : { وَعَدَ الله } [ الروم : 6 ] ، وقوله : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ].
الثاني : أنه منصوب على التمييز ، ذكره ابنُ عطية ، وهذا غير مستقيم ؛ لأن التمييز منقول وغير منقول ، وأقسامه محصورة ، وليس هذا شيئاً منها ، وأيضاً فأين الذات المُبْهَمة التي تحتاج إلى تفسير ؟
والثالث : أنه منصوب على الإغراء ، والتقدير : الزموا كتاباً مؤجَّلاً ، وآمنوا بالقدر ، وليس المعنى على ذلك.
وقرأ ورش : " مُوجَّلاً " بالواو بدل الهمزة ، وهو قياس تخفيفها.
قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا } مبتدأ ، وهي شرطية. وفي خبر هذا المبتدأ الخلاف المشهور. وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلاف عنه - دال " يُرِد " في الثاء.
والباقون بالإظهار.
وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء " نُؤتِهِ " في الموضعين وَصْلاً ووقفاً.
وهشام - بخلاف عنه - بالاختلاس وصلاً.
والباقون بالإشباع وَصْلاً.
فأما السكون فقالوا : إن الهاء لما حلت محلّ ذلك المحذوف أعطيت ما كان يستحقه من السكون ، وأما الاختلاس ، فلاستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حَذْف لام الكلمة ؛ فإن الأصل : نؤتيه ، فحُذِفَت الياء للجزم ، ولم يُعْتَدّ بهذا العارض ، فبقيت الهاء على ما كانت عليه.
وأما الإشباع فنظراً إلى اللفظ ؛ لأن الهاء بعد متحرِّكٍ في اللفظ ، وإن كانت في الأصل بعد ساكن - وهو الياء التي حُذِفَت للجزم - والأوْلى أنْ يقال : إنَّ الاختلاس والإسكان بعد المتحرك لغة ثابتة عن بني عقيل وبني كلاب.(17/150)
حكى الكسائي : لَهْ مالٌ ، وبِهْ داء - بسكون الهاء ، واختلاس حركتها - وبهذا يَتَبَيَّن أن مَنْ قال : إسكان الهاء واختلاسها - في هذا النحو - لا يجوز إلا ضرورةً ، ليس بشيءٍ ، أمَّا غير بني عقيل ، وبني كلاب ، فنعم لا يوجد ذلك عندهم ، إلا في ضرورة.
كقوله : [ الوافر ]
لَهُ زَجَلٌ كَأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ
باختلاس هاء ( كأنه ).
ومثله قول الآخر : [ البسيط ]
وَأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ... إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيل وَادِيهَا
بسكونها. وجعل ابن عصفور الضرورة في " البيت الثاني " أحسن منها في " البيت الأول " ، قال : لأنه إذهاب للحركة وصِلَتِها ، فهي جَرْي على الضرورة [ إجراءً ] كاملاً ، وإنما ذكرنا هذه التعليلات لكثرة ورود هذه المسالة ، نحو : { يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] ، ونحو : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ].
وقُرِئ : يُؤتِه - بياء الغيبة - والضمير لله تعالى ، وكذلك : " وسنجزي الشاكرين " بالنون والياء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 574 ـ 579}. بتصرف.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال رحمه الله :
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}
الأنفاس محصورة ؛ لا زيادة فيها ، ولا نقصان منها.
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } : للصالحين العاقبة وللآخرين الغفلة.
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } : وثواب الآخرة أوله الغفران ثم الجِنان ثم الرضوان.
{ وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ } : وجزاء الشكرِ الشكرُ. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 282 ـ 283}(17/151)
فصل نفيس
قال صاحب حقائق التأويل :
قوله تعالى : (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها)
الآية مخصوصة ومعناها التبعيض - رجوع هاء التأنيث إلى الثواب - لا تنافي بين ثوابي الدنيا والآخرة - نكتة قرآنية - تعلق بعضهم بآية (كلوا واشربوا) ومن سأل عن معنى قوله تعالى : (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين - 145) ، فقال : كيف أطلق تعالى هذا القول على العموم ، ونحن نرى كثيرا ممن يريد ثواب الدنيا ويتمناه ويقرع الأبواب توصلا إليه وحرصا عليه ، فلا ينال منه نصيبا ولا يبلغ منه مأمولا !
فالجواب : أن في ذلك أقوالا :
1 - أحدها ، أن يكون المعنى أن من أراد ثواب الدنيا منفردا عن ثواب الآخرة آتيناه ما أراده أو بعضه ، وحرمناه ثواب الآخرة الذي هو الدائم الباقي ، والخالص الصافي ، والمراد بثواب الدنيا ههنا منافع الدنيا ولذاتها ، وإنما سميت ثوابا على طريق المجاز وتشبيها بالثواب ، لما كانت في حكم المستحق عند أمور جعلت أسبابا لذلك.(17/152)
وتلخيص ما ذكرناه : أن من أقبل على الدنيا بوجهه ونأى عن الآخرة بعطفه وكدح للدنيا جاهدا ولم يعمل للآخرة صالحا ، جاز أن تقول فيه : إنه يريد عاجل الدنيا ومنافعها دون نعيم الآخرة ومنازلها ، لا أنه أراد الدنيا على قصد ، ولم يرد ثواب الآخرة على عمد ، بل لو جمع له الأمران لكان أحب إليه وأجل موقعا عنده ، ولكنه لما تشاغل بعمل الدنيا دون عمل الآخرة ساغ أن نصفه - على طريق الاتساع - بأنه يريد عاجل الدنيا دون آجل الآخرة ، وهذا كقوله تعالى : (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) [ 1 ] ، وكقوله تعالى : (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة...) [ 2 ] ، فظاهر ذلك يدل على أن من أراد ثواب الدنيا أي منافعها فقط ، بعمل يعمله وجهاد يمارسه ، لا نصيب له في الآخرة ، وإنما يفوز بثواب الآخرة من جعل عمله خالصا طلبا للزلفة لديه والقربة إليه.(17/153)
2 - وقال أبو علي : معنى ذلك : من أراد بجهاده الغنيمة نؤته منها ، ومن أراد ثواب الآخرة وهو النعيم الدائم نؤته منه ، وجعل سبحانه ذلك ترغيبا في طلب ثواب الآخرة وتزهيدا في طلب نعيم الدنيا. قال : وذلك لطف في المحافظة على الجهاد ، لأن من قصد بجهاده طلب نعيم الآخرة لم يزل مقدما على الأعداء ، صابرا على اللواء ، ومن كان مراده الغنيمة العاجلة ضعف صبره ، ولم يؤمن فشله ، وكان ثباته قليلا ، فشله مدخولا. 3 - وقال أبو القاسم البلخي : يجوز أن يكون ذلك خالصا في المنافقين يوم أحد ، فخبر سبحانه أنه ينيلهم بعض ما يريدونه من عرض الدنيا ، امتحانا لهم لا رضا عنهم ، ومما يقوي أن ذلك مخصوص أنا نرى كثيرا من الكفار يريدون عرض الدنيا ، ولا ينالونه ، ويريدون منها الكثير فينالون القليل ، فدل ذلك على كونه مخصوصا.
ويحتمل أيضا - لما قال سبحانه : (نؤته منها) ، ولم يقل نؤته إياها - أن يكون المراد بذلك إيتاء القليل والبعض ، لا إيتاء الكثير والكل ، لأن (من) للتبعيض ههنا ، وقل أحد إلا وقد أوتي من منافع الدنيا شيئا : كثر أو قل ، ودق أو جل. وليس لقائل أن يقول : (فقد قال سبحانه : (ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) ، وهذا أيضا يلزمكم أن يكون المؤتى قليلا) ، لأن (من) إذا كانت ههنا للتبعيض ، فهي دالة على الإعطاء من الجنس المذكور ، ويحتمل ذلك الكثرة والقلة ، فيتميز ذلك باستحقاق المعطى ، فإن كان عمله جزيلا كان ثوابه جزيلا ، وإن كان قليلا كان قليلا ، وعلى أنه لابد من ذكر (من) ههنا للدلالة على التبعيض ، لأنه سبحانه على الحقيقة يعطي كل عامل على قدر عمله من ثواب الآخرة ، ولو لم يقل (نؤته منها) وقال : نؤته إياها ، لأوهم أنه يؤتي من يريد(17/154)
ثواب الآخرة (جميع ثوابها) [ 1 ] ، وهذا غير صحيح. والهاء في قوله تعالى : (نؤته منها) في الموضعين راجعة إلى الدنيا والآخرة ، وهي في المعنى راجعة إلى الثواب ، لأنه معروف في كلام العرب أن يقول القائل : اللهم ارزقني الآخرة ، وهو يريد ثواب الآخرة ، فلما كان ذلك كذلك كان رجوع الهاء على الآخرة كرجوعها على ثواب الآخرة ، ألا ترى أنهم قد يؤنثون فعل الاسم المذكر متقدما عليه لأنه مضاف إلى المؤنث ، وقد جاء ذلك في أشعارهم كثيرا ، فلئن يؤنثوا الضمير الراجع إلى المؤنث الذي أضيف إليه المذكر متأخرا عنه ، أحرى ، فمما أنثوا فيه فعل المذكر المضاف إلى المؤنث متأخرا عنه قول الشاعر : مر الليالي أسرعت في نقضي [ 2 ] وإنما ساغ له ذلك لأن مر الليالي في الحقيقة من جملة الليالي ، وهي مؤنثة ، فأنث الفعل حملا على المعنى ، ومما أنثوا فيه فعل المذكر المضاف إلى المؤنث متأخرا عنه (وهو أكثر من الباب الأول) قول ذي الرمة [ 3 ] : وتشرق بالقول الذي قد أذعته * كما شرقت صدر القناة من الدم وقول جرير : لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع
4 - وقال بعضهم : معنى ذلك أن من طلب بعمله الدنيا أعطي منها ، وكل نعمة على العبد فهي تفضل من الله سبحانه ، وعطاء منه ، ومن كان قصده بعمله الآخر آتاه الله منها مستحقه ، وليس في هذا دليل على أنه يحرمه خير الدنيا مع أعطائه من نعيم الآخرة ، لأنه سبحانه لم يقل : ومن يرد ثواب الآخرة لم نؤته إلا منها.
5 - وقال بعضهم : معنى ذلك ومن يرد ثواب الدنيا متعرضا له بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر يجز بها في الدنيا من غير حظ في الآخرة ، لإحباط عمله بفسقه.(17/155)
6 - وقال بعضهم : معنى ذلك أن من كان يقصد طلب الدنيا فقد أعطاه الله من الدنيا ما إن طلب به ثواب الآخرة آتاه ذلك ، وإن لم يطلب ثواب الآخرة فقد أعطاه تعالى من الدنيا ما امتحنه به وابتلاه فيه ، وكل مكلف فقد أعطي من الدنيا حظا ، إن صرفه إلى معاده نال ما عند الله به ، وإن لم يفعل ذلك فقد نال ما طلب من الدنيا ، وكان وبالا عليه. وقال قاضي القضاة أبو الحسن : الأقرب في ذلك أن يكون معناه : أن من أراد بجهاده طريقة الدنيا نؤته من الدنيا ما هو صلاح له ، لا أن المراد بذلك أن نفس ما يطلبه المرء بعينه يفعله الله تعالى به ، لأن ذلك لا يكاد يتم : لا في الجهاد ولا في غيره ، إذ كان قدر ما يطلبه العبد من غنيمة أو غيرها لا يكاد يجده ، حتى يصير مطلوبه وفقا لمراده غير فاضل عنه ولا قاصر دونه ، وهذه طريقة أبناء الدنيا فيما يريدونه منها.
وقوله تعالى : (ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) أي : من نعيم الآخرة والثواب المعد لأهلها ، وهذا أيضا لا يدل على أن كل مطلوبه يناله لأنه لو طلب أزيد من مستحقه لم يكن لينال ذلك إلا قدرا ما من التفضل.
فإن قال قائل : فهل يتنافى حصول ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة ؟ قيل له : إن ذلك لا يتنافى ، لأن من يريد الآخرة بجهاده قد تحصل له الغنيمة في الدنيا ، فيكون الله سبحانه جامعا له بين الأمرين ، ويدل على ذلك قوله تعالى من بعد : (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) ، (17/156)
فأما قوله تعالى : (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) [ 1 ] ، فلا يعترض به على صحة اجتماع ثواب الآخرة ومنافع الدنيا لبعض العباد ، لأن معنى هذه الآية أن من كان يريد حرث الدنيا غير عامل للآخرة نؤته من الدنيا شيئا ونحرمه ثواب الآخرة ، وما ذكرناه في ذلك أولا يدل على أن من أراد الآخرة بجهاده يؤتيه الله سبحانه ثواب منها ، ويرزقه أيضا من فوائد الدنيا ومنافعها ما يكون فضلا على مراده ونيفا على استحقاقه. وقوله تعالى : (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه)(17/157)
نظير قوله سبحانه : (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له...) [ 1 ] وقوله تعالى : (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها...) [ 2 ] ، وإنما قال سبحانه ذلك ، ترغيبا في العمل للآخرة ، إذا كان يضاعف الاستحقاق عليه ويتكفل في الزيادة فيه ، تعظيما لقدر ثواب الآخرة ، ألا تراه تعالى كيف وصفه بالحسن ولم يصف ثواب الدنيا بذلك ! لأن حاليهما مختلفان ، فقال سبحانه : (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة) ، وهذا من غوامض القرآن فاستيقظ له !. ومما ينظر إلى هذا المعنى ويرمي إلى هذا المغزى قوله تعالى لأهل الجنة : (كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) [ 3 ] ، فأمرهم بالأكل والشرب مطلقا ، من غير استثناء للإسراف فيه أو الوقوف على حد لا يجوز التجاوز له ، وقال لأهل الدنيا : (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا... الآية) [ 4 ] ، فاستثنى سبحانه عليهم الإسراف في الأكل والشرب ، علما منه تعالى بأن ذلك مفسدة لهم ومقطعة عن عبادة ربهم ، إلى كثير من مضار الإسراف العائدة عليهم ، ولما كانت هذه الأمور منتفية عن أهل الجنة أطلقهم سبحانه في الأكل والشرب إطلاقا غير مقيد ، وأمرهم به أمرا غير متعقب ، وهذا أيضا من خبايا القرآن وخفايا هذا الكلام. أ هـ {حقائق التأويل فى متشابه التنزيل / للشريف الرضى حـ 1 صـ 258 ـ 265}(17/158)
قوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الجمل على هذا الوجه الذي بين فيه العلل ، وأوضح بحال الزلل ، وكان التقدير بعد انقضائها : فكأين من قوم أمرناهم بالجهاد ، فكانوا على هذين القسمين ، فأثبنا الطائع وعذبنا العاصي ، ولم يضرنا ذلك شيئاً ، ولا جرى شيء منه على غير مرادنا ، عطف عليه يؤسيهم بطريق الصالحين من قبلهم ويسيلهم بأحوالهم قوله : {وكأين} وهي بمعنى كم ، وفيها لغات كثيرة ، قرىء منها في العشر بثنتين : الجمهور بفتح الهمزة بعد الكاف وتشديد الياء المكسورة ، وابن كثير وأبو جعفر بألف ممدودة بعد الكاف وهمزة مكسورة ، ولعلها أبلغ - لأنه عوض عن الحرف المحذوف - من المشهورة بالمد ، والمد أوقع في النفس وأوقر في القلب ؛ وفيها كلام كثير - في لغاتها ومعناها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلاً ووقفاً ، ورسمها في مصحف الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي وقع إجماع الصحابة عليه ليكون المرجع عند الاختلاف إليه ، وهل هي بسيطة أو مركبة ومشتقة أو جامدة وفي كيفية التصرف في لغاتها - استوعبته في كتابي الجامع المبين لما قيل في {كأين} ، وقال سبحانه : {من نبي} لتكون التسلية أعظم بذكر ما هو طبق ما وقع في هذه الغزوة من قتل أصحابه ، واحتمال العبارة لقتله نفسه بقوله : {قتل} أي ذلك النبي حال كونه {معه} لكن الأرجح إسناد {قتل} إلى {ربيون} لموافقته قراءة الجماعة - سوى الحرميين وأبي عمرو - : قاتل معه {ربيون} أي علماؤهم ورثة الأنبياء ، وعلى منهاجهم {كثير فما} أي فما تسبب عن قتل نبيهم وهنهم ، أو يكون المعنى ويؤيده الوصف بالكثرة - : قتل الربيون ، فما تسبب عن قتلهم أن الباقين بعدهم {وهنوا} أي ضعفوا عن عملهم {لما أصابهم في سبيل الله} أي الملك الأعظم من القتل لنبيهم الذي هو عمادهم ، أو لإخوانهم الذين هم أعضادهم لكونه من الله {وما(17/159)
ضعفوا} أي مطلقاً في العمل ولا في غيره {وما استكانوا} أي وما خضعوا لأعدائهم فطلبوا أن يكونوا تحت أيديهم - تعريضاً بمن قال : اذهبَوا إلى أبي عامر الراهب ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، بل صبروا ، فأحبهم الله لصبرهم {والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب الصابرين} أي فليفعلن بهم من النصر وإعلاء القدر وجميع أنواع الإكرام فعل من يحبه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 163}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن كثير "وكائن" على وزن كاعن ممدوداً مهموزاً مخففا ، وقرأ الباقون "كأين" مشدوداً بوزن كعين وهي لغة قريش ، ومن اللغة الأولى قول جرير :
وكائن بالأباطح من صديق.. يراني لو أصيب هو المصاب
وأنشد المفضل :
وكائن ترى في الحي من ذي قرابة... أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 22}
فائدة
قال ابن عاشور :
والتكثير المستفاد من { كأيّن } واقع على تمييزها وهو لفظ ( نبيء ) فيحتمل أن يكون تكثيراً بمعنى مطلق العدد ، فلا يتجاوز جمع القلّة ، ويحتمل أن يكون تكثيراً في معنى جمع الكثرة ، فمنهم من علمناه ومنهم من لم نعلمه ، كما قال تعالى : { ومنهم من لم نقصص عليك } ، ويحضرني أسماء ستة مِمَّن قتل من الأنبياء : أرمياء قتلته بنو إسرائيل ، وحزقيال قتلوه أيضاً لأنَّه وبّخهم على سوء أعمالهم ، وأشعياء قتله منسا بن حزقيال ملك إسرائيل لأنَّه وبّخه ووعظه على سوء فعله فنشره بمنشار ، وزكرياء ، ويحيى ، قتلتهما بنو إسرائيل لإيمانهما بالمسيح ، وقتل أهلُ الرسّ من العرب نبيئهم حنظلة بن صفوان في مدّة عدنان ، والحواريّون اعتقدوا أنّ المسيح قُتل ولم يهنوا في إقامة دينه بعده ، وليس مراداً هنا وإنَّما العبرة بثبات أتباعه على دينه مع مفارقته لهم إذ العبرة في خلوّ الرسول وبقاء أتباعه ، سواء كان بقتل أو غيره.(17/160)
وليس في هؤلاء رسول إلاّ حنظلة بن صفوان ، وليس فيهم أيضاً من قُتِل في جِهادٍ ، قال سعيد بن جبير : ما سمعنا بنبيء قتل في القتال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 243}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {قتل معه} والباقون {قاتل معه} فعلى القراءة الأولى يكون المعنى أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم ، بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم ، فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة محمد هكذا.
قال القفال رحمه الله : والوقف على هذا التأويل على قوله : ( قتل ) وقوله : ( معه ربيون ) حال بمعنى قتل حال ما كان معه ربيون ، أو يكون على معنى التقديم والتأخير ، أي وكأين من نبي معه ربيون كثير قتل فما وهن الربيون على كثرتهم ، وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون المعنى وكأين من نبي قتل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثير فما ضعف الباقون ولا استكانو لقتل من قتل من إخوانهم ، بل مضوا على جهاد عدوهم ، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك ، وحجة هذه القراءة أن المقصود من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم ، وقد قال تعالى : {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [ آل عمران : 144 ] فيجب أن يكون المذكور قتل سائر الأنبياء لا قتالهم ، ومن قرأ {قاتل معه} فالمعنى : وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا ، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله ، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد.
وحجة هذه القراءة أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال ، فوجب أن يكون المذكور هو القتال.(17/161)
وأيضاً روي عن سعيد بن جبير أنه قال : ما سمعنا بنبي قتل في القتال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 22}
قال الطبرى :
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب ، (1) قراءة من قرأ بضم"القاف" : ( " قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُونَ كَثِيرٌ " ) ، لأن الله عز وجل إنما عاتب بهذه الآية والآيات التي قبلها من قوله : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ) الذين انهزموا يوم أحُد ، وتركوا القتال ، أو سمعوا الصائح يصيح : "إن محمدًا قد قتل". فعذلهم الله عز وجل على فرارهم وتركهم القتال فقال : أفائن مات محمد أو قتل ، أيها المؤمنون ، ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم ؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثير من أتباع الأنبياء قبلهم ، وقال لهم : هلا فعلتم كما كان أهل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم من المضي على منهاج نبيهم ، والقتال على دينه أعداءَ دين الله ، على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم ولم تهنوا ولم تضعفوا ، كما لم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلم والبصائر من أتباع الأنبياء إذا قتل نبيهم ، ولكنهم صَبروا لأعدائهم حتى حكم الله بينهم وبينهم ؟ وبذلك من التأويل جاء تأويل المتأوِّلين. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 264 ـ 265}
_____________
(1) القراءتان متواترتان ومن ثم فلا وجه للترجيح بينهما فقد قرأ بهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله أعلم.(17/162)
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي رحمه الله : أجمعوا على أن معنى "كأين" كم ، وتأويلها التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم ، ونظيره قوله : {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها} [ الحج : 45 ] {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} [ الحج : 48 ] والكافي في "كأين" كاف التشبيه دخلت على "أي" التي هي للاستفهام كما دخلت على "ذا" من "كذا" و"أن" من كأن ، ولا معنى للتشبيه فيه كما لا معنى للتشبيه في كذا ، تقول : لي عليه كذا وكذا : معناه لي عليه عدد ما ، فلا معنى للتشبيه ، إلا أنها زيادة لازمة لا يجوز حذفها ، واعلم أنه لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة ، وكذا استعمال هذه الكلمة فصارت كلمة واحدة موضوعة للتكثير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 22}
فصل
قال الفخر :
واعلم أنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بنوعين :
أولا بصفات النفي ، وثانيا بصفات الإثبات ، أما المدح بصفات النفي فهو قوله تعالى : {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا} ولا بد من الفرق بين هذه الأمور الثلاثة ، قال صاحب "الكشاف" : ما وهنوا عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو ، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار ، عند الإرجاف بقتل رسولهم ، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين ، واستكانتهم للكفار حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبدالله بن أُبَيّ ، وطلب الأمان من أبي سفيان ، ويحتمل أيضا أن يفسر الوهن باستيلاء الخوف عليهم ، ويفسر الضعف بأن يضعف إيمانهم ، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم ، والاستكانة هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم ، وفيه وجه ثالث وهو أن الوهن ضعف يلحق القلب.(17/163)
والضعف المطلق هو اختلال القوة والقدرة بالجسم ، والاستكانة هي إظهار ذلك العجز وذلك الضعف ، وكل هذه الوجوه حسنة محتملة ، قال الواحدي : الاستكانة الخضوع ، وهو أن يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 23}
فصل
قال القرطبى :
ومعنى الآية تشجيع المؤمنين ، والأمر بالاقتداء بمن تقدّم من خِيار أتباع الأنبياء ؛ أي كثير من الأنبياء قُتِل معه رِبِّيُّون كثير ، أو كثير من الأنبياء قتِلوا فما ارتد أممهم ؛ قولان : الأوّل للحسن وسعيد بن جبير.
قال الحسن : ما قُتِل نبي في حرب قط.
وقال ابن جبير : ما سمعنا أن نبياً قتل في القتال. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 229}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { فما وهنوا } أي الربّيّون إذ من المعلوم أنّ الأنبياء لا يهنون فالقدوة المقصودة هنا ، هي الاقتداء بأتباع الأنبياء ، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء ، أجدر بالعزم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم
وجمع بين الوهن والضّعف ، وهما متقاربان تقارباً قريباً من الترادف ؛ فالوهن قلَّة القدرة على العمل ، وعلى النُّهوض في الأمر ، وفعله كوعَد وورِث وكرُم.
والضّعف بضم الضّاد وفتحها ضدّ القوّة في البدن ، وهما هنا مجازان ، فالأوّل أقرب إلى خور العزيمة ، ودبيب اليأس في النُّفوس والفكر ، والثَّاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة.
وأمّا الاستكانة فهي الخضوع والمذلّة للعدوّ.
ومن اللطائف ترتيبها في الذّكر على حسب ترتيبها في الحصول : فإنَّه إذا خارت العزيمة فَشِلت الأعضاء ، وجاء الاستسلام ، فتبعته المذلّة والخضوع للعدوّ.(17/164)
واعلموا أنَّه إذا كان هذا شأن أتباع الأنبياء ، وكانت النُّبوءة هدياً وتعليماً ، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم ، وأتباع الحقّ ، أن لا يوهنهم ، ولا يضعفهم ، ولا يخضعهم ، مقاومة مقاوم ، ولا أذى حاسد ، أو جاهل ، وفي الحديث الصّحيح ، في "البخاري" : أن خَبَّاباً قال للنَّبيء صلى الله عليه وسلم " لقد لقينا من المشركين شدّة ألاَ تدعُو الله " فقعد وهو محمّر وجهه فقال : " لقد كان مَن قبلكم لَيُمشَط بِمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضَع المنشار على مَفْرِق رأسه فيُشَقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه " الحديث. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 244 ـ 245}
قوله تعالى : {والله يُحِبُّ الصابرين}
قال الفخر :
المعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طريق الله ولم يظهر الجزع والعجز والهلع فإن الله يحبه ، ومحبة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه واعزازه وتعظيمه ، والحكم له بالثواب والجنة ، وذلك نهاية المطلوب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 23}
وقال الآلوسى :
{ والله يُحِبُّ الصابرين } على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيله فينصرهم ويعظم قدرهم.
والمراد بالصابرين إما الربيون ، والإظهار في موضع الإضمار للتصريح بالثناء عليهم بالصبر الذي هو ملاك الأمر مع الإشعار بعلة الحكم ، وإما ما يعمهم وغيرهم وهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً.
والجلمة على التقديرين تذييل لما قبلها. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 84}(17/165)
موعظة
قال الثعالبى :
اعلم ( رحمك اللَّه ) أنَّ أصْلَ الوَهَنِ والضَّعْفِ عن الجِهَادِ ، ومكافحةِ العَدُوِّ هو حُبُّ الدنيا ، وكراهيةُ بَذْلِ النفُوسِ للَّه ، وبَذْلِ مُهَجِهَا لِلقَتْلِ في سَبيلِ اللَّهِ ؛ ألا ترى إلى حال الصَّحابة ( رضي اللَّه عنهم ) ، وقلَّتِهِمْ في صَدْرِ الإسلامِ ، وكيف فتح اللَّه بهم البلاد ، ودان لدِينِهِمُ العباد ، لما بَذَلُوا للَّه أنفسَهُمْ في الجهاد ، وحالِنا اليَوْمَ ، كما ترى ؛ عددُ أهْل الإسلام كثيرٌ ، ونكايتهم في الكُفَّار نَزْرٌ يسيرٌ ، وقد روى أبو داود في "سننه" عن ثَوْبَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تتداعى عَلَيْكُمْ ؛ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا ، فَقَالَ قَائِلٌ : ومِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ ، ولَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الوَهَنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا ، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ " اه ، فانظر ( رحمك اللَّه ) ، فهل هذا الزمانُ إلا زماننا بعَيْنه ، وتأمَّل حال ملوكنا ، إنما هِمَّتهم جمْعُ المالِ مِنْ حرامٍ وحلالٍ ، وإعراضُهم عَنْ أمْر الجهاد ، فإنا للَّه وإنا إليه راجعُونَ على مُصَاب الإسلام. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 318}
من فوائد الشيخ الشنقيطى فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } الآية.(17/166)
هذه الآية الكريمة على قراءة من قرأ { قَاتَلَ } بالبناء للمفعول يحتمل نائب الفاعل فيها أن يكون لفظة ربيون وعليه فليس في قتل ضمير أصلاً ويحتمل أن يكون نائب الفاعل ضميراً عائداً إلى النَّبي ، وعليه فمعه خبر مقدم وربيون مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء به اعتماده على الظرف قبله ووصفه بما بعده والجملة حالية والرابط الضمير وسوغ إتيان الحال من النكرة التي هي نبي وصفه بالقتل ظلماً وهذا هو أجود الأعاريب المذكورة في الآية على هذا القول ، وبهذين الاحتمالين في نائب الفاعل المذكور يظهر أن في الآية إجمالاً. والآيات القرآنية مبينة أن النَّبي المقاتل غير مغلوب بل هو غالب كما صرح تعالى بذلك في قوله : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } [ المجادلة : 21 ]. وقال قبل هذا : { أولئك فِي الأذلين } [ المجادلة : 20 ] وقال بعده : { إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ].
وأغلب معاني الغلبة في القرآن الغلبة بالسيف والسنان كقوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 65 ] الآية. وقوله : { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] وقوله : { الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } [ الروم : 1-4 ] وقوله : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً } [ البقرة : 249 ] وقوله : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } [ آل عمران : 12 ] إلى غير ذلك من الآيات.
(17/167)
وبين تعالى أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله : { وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ } [ النساء : 74 ] فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعاً على النَّبي المقاتل. لأن الله كتب وقضى له في أزله أنه غالب وصرح بأن المقتول غير غالب.
وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين ، غلبة بالحجة والبيان ، وهي ثابتة لجميعهم ، وغلبة بالسيف والسنان ، وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل الله. لأن من لم يؤمر بالقتال ليس بغالب ولا مغلوب. لأنه لم يغالب في شيء وتصريحه تعالى ، بأنه كتب أن رسله غالبون شامل لغلبتهم من غالبهم بالسيف ، كما بينا أن ذلك هو معنى الغلبة في القرآن ، وشامل أيضاً لغلبتهم بالحجة والبيان ، فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] الآية وفي قوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 171-172 ] أنه نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد. لأن الغلبة التي بين أنها كتبها لهم أخص من مطلق النصر. لأنها نصر خاص ، والغلبة لغة القهر والنصر لغة إعانة المظلوم ، فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص.
وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير ابن جرير - رحمه الله - ومن تبعه في تفسير قوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ } الآية.
من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد ، وأن نصره المنصوص في الآية ، حينئذ يحمل على أحد أمرين :
أحدهما : أن الله ينصره بعد الموت ، بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه ، كما فعل بالذين قتلوا يحيى وزكريا وشعيا من تسليط بختنصر عليهم ، ونحو ذلك.
(17/168)
الثاني : حمل الرسل في قوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] على خصوص نبينا صلى الله عليه وسلم وحده ، أنه لا يجوز حمل القرآن عليه لأمرين :
أحدهما : أنه خروج بكتاب الله عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل من كتاب ، ولا سنة ولا إجماع ، والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جداً ، غير معروف في لسان العرب ، فحمل القرآن عليه بلا دليل غلط ظاهر ، وكذلك حمل الرسل على نبينا وحده صلى الله عليه وسلم فهو بعيد جداً أيضاً ، والآيات الدالة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة ، لا نزاع فيها.
(17/169)
الثاني : أن الله لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة إعانة المظلوم ، بل صرح بأن ذلك النصر المذكور للرسل نصر غلبة بقوله : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } [ المجادلة : 21 ] الآية ، وقد رأيت معنى الغلبة في القرآن ومر عليك أن الله جعل المقتول قسماً مقابلاً للغالب في قوله : { وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ } [ النساء : 74 ] وصرح تعالى : بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جل وعلا : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين } [ الأنعام : 34 ] ولا شك أن قوله تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } [ المجادلة : 21 ] من كلماته التي صرح بأنها لا مبدل لها وقد نفى جل وعلا : عن المنصور أن يكون مغلوباً نفياً باتاً بقوله : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } [ آل عمران : 160 ] وذكر مقاتل أن سبب نزول قوله تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ } الآية أن بعض الناس قال : أيظن محمد وأصحابه أن يغلبوا الروم ، وفارس ، كما غلبوا العرب زاعماً أن الروم وفارس لا يغلبهم النَّبي صلى الله عليه وسلم لكثرتهم وقوتهم فأنزل الله الآية ، وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان. لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها ، ويدل له قوله قبله : { أولئك فِي الأذلين } [ المجادلة : 20 ] وقوله بعده : { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ].(17/170)
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب ، أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذة ، فيشهد للبيان الذي بيَّنَّا به ، أن نائب الفاعل { رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] وأن بعض القراء غير السبعة قرأ { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] بالتشديد. لأن التكثير المدلول عليه بالتشديد يقتضي أن القتل واقع على الربيين.
ولهذه القراءة رجح الزمخشري ، والبيضاوي ، وابن جنى.
أن نائب الفاعل { رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] ومال إلى ذلك الألوسي في تفسيره مبيناً أن دعوى كون التشديد لا ينافي وقوع القتل على النَّبي. لأن { وَكَأَيِّنْ } [ آل عمران : 146 ] إخبار بعدد كثير أي : كثير من أفراد النَّبي قتل خلاف الظاهر ، وهو كما قال ، فإن قيل قد عرفنا أن نائب الفاعل المذكور محتمل لأمرين ، وقد ادعيتم أن القرآن دل على أنه { رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] لا ضمير النَّبي لتصريحه بأن الرسل غالبون ، والمقتول غير غالب ، ونحن نقول دل القرآن في آيات أخر ، على أن نائب الفاعل ضمير النَّبي ، لتصريحه في آيات كثيرة بقتل بعض الرسل كقوله : { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 ] وقوله : { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } [ آل عمران : 183 ] الآية ، فما وجه ترجيح ما استدللتم به على أن النائب { رِبِّيُّونَ } على ما استدللنا به على أن النائب ضمير النَّبي فالجواب من ثلاثة أوجه :
(17/171)
الأول : أن ما استدللنا به أخص مما استدللتم به ، والأخص مقدم على الأعم ، ولا يتعارض عام وخاص ، كما تقرر في الأصول ، وإيضاحه أن دليلنا في خصوص نبي أمر بالمغالبة في شيء ، فنحن نجزم بأنه غالب فيه تصديقاً لربنا في قوله : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } [ المجادلة : 21 ] سواء أكانت تلك المغالبة في الحجة والبيان ، أم بالسيف والسنان ، ودليلكم فيما هو أعم من هذا. لأن الآيات التي دلت على قتل بعض الرسل ، لم تدل على أنه في خصوص جهاد ، بل ظاهرها أنه في غير حهاد ، كما يوضحه.
الوجه الثاني : وهو أن جميع الآيات الدالة على أن بعض الرسل قتلهم أعداء الله كلها في قتل بني إسرائيل أنبياءهم ، في غير جهاد ، ومقاتله إلا موضع النزاع وحده.
(17/172)
الوجه الثالث : أن ما رجحناه من أن نائب الفاعل { رِبِّيُّونَ } تتفق عليه آيات القرآن اتفاقاً واضحاً ، لا لبس فيه على مقتضى اللسان العربي في أفصح لغاته ، ولم تتصادم منه آيتان ، حيث حملنا الرسول المقتول على الذي لم يؤمر بالجهاد ، فقتله إذن لا غشكال فيه ، ولا يؤدي إلى معارضة آية واحدة من كتاب الله. لأن الله حكم للرسل بالغلبة ، والغلبة لا تكون إلا مع مغالبة ، وهذا لم يؤمر بالمغالبة في شيء ، ولو أمر بها في شيء لغلب فيه ، ولو قلنا بأن نائب الفاعل ضمير النَّبي لصار المعنى أن كثيراً من الأنبياء المقاتلين قتلوا في ميدان الحرب ، كما تدل عليه صيغة { وَكَأَيِّن } [ آل عمران : 146 ] المميزة بقوله : { من نبي } [ المجادلة : 21 ] وقتل الأعداء هذا العدد الكثير من الأنبياء المقاتلين في ميدان الحرب مناقض مناقضة صريحة لقوله : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } [ المجادلة : 21 ] وقد عرفت معنى الغلبة في القرآن ، وعرفت أنه تعالى ، بين أن المقتول غير الغالب ، كما تقدم ، وهذا الكتاب العزيز ما أنزل ليضرب بعضه بعضاً ، ولكن أنزل ليصدق بعضه بعضاً ، فاتضح أن القرآن دل دلالة واضحة على أن نائب الفاعل { رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] وأنه لم يقتل رسول في جهاد ، كما جزم به الحسن البصري وسعيد بن جبير ، والزجاج ، والفراء ، وغير واحد ، وقصدنا في هذا الكتاب البيان بالقرآن ، لا بأقوال العلماء ، ولذا لم ننقل أقوال من رجح ما ذكرنا.
(17/173)
وما رجح به بعض العلماء كون نائب الفاعل ضمير النَّبي من أن سبب النزول يدل على ذلك. لأن سبب نزولها " أن الصائح صاح قتل محمد صلى الله عليه وسلم " وأن قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] يدل على ذلك وأن قوله : { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } [ آل عمران : 146 ] يدل على أن الربيين لم يقتلوا لأنهم لو قتلوا لما قال عنهم { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ } [ آل عمران : 146 ] الآية. فهو كلام كله ساقط وترجيحات لا معول عليها فالترجيح بسبب النزول فيه أن سبب النزول لو كان يقتضي تعيين ذكر قتل النَّبي لكانت قراءة الجمهور قاتل بصيغة الماضي من المفاعلة جارية على خلاف المتعين وهو ظاهر السقوط كما ترى والترجيح بقوله : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] ظاهر السقوط. لأنهما معلقان بأداة الشرط والمعلق بها لا يدل على وقوع نسبة أصلاً لا إيجاباً ولا سلباً حتى يرجح بها غيرها.
(17/174)
وإذا نظرنا إلى الواقع في نفس الأمر وجدنا نبيهم صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لم يقتل ولم يمت والترجيح بقوله : { فَمَا وَهَنُواْ } [ آل عمران : 146 ] سقوطه كالشمس في رابعة النهار وأعظم دليل قطعي على سقوطه قراءة حمزة والكسائي { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } [ البقرة : 191 ] كل الأفعال من القتل لا من القتال وهذه القراءة السبعية المتواترة فيها. { فَإِن قَاتَلُوكُمْ } [ البقرة : 191 ] بلا ألف بعد القاف فعل ماض من القتل { فاقتلوهم } [ البقرة : 191 ] أفتقولون هذا لا يصح لأن المقتول لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله. بل المعنى قتلوا بعضكم وهو معنى مشهور في اللغة العربية يقولون قتلونا وقتلناهم يعنون وقوع القتل على البعض كما لا يخفى. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 247 ـ 250}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى {وكأين} هذه اللفظة ، قيل : هي مركبة من كاف التشبيه ، ومن " أيِّ " ، وقد حدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير ، المفهوم من " كَمْ " الخبرية ، ومثلُها في التركيب وإفهام التكثير : " كذا " في قولهم : له عندي كذا درهماً ، والأصل : كاف التشبيه و" ذا " الذي هو اسم إشارة ، فلما رُكَِّبَا حدَثَ فيهما معنى التكثير ، ف " كم " الخبرية وكأيِّن وكذا كلها بمعنًى واحد ، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر ؛ ألا ترى أن " لولا " حدث لها معنًى جديدٌ ، وكان من حقها - على هذا - أو يُوقَفَ عليها بغير نون ؛ لأن التنوين يُحْذَف وقفاً ، إلا أن الصحابة كتبتها " كَأيِّنْ " - بثبوت النون- ، فمن ثم وقف عليها جمهور القراء بالنون ؛ اتِّبَاعاً لرسم المصحف.
ووقف أبو عمرو وسورة بن المبارك عن الكسائي " كأي " - من غير نون - على القياس.(17/175)
واعتل الفارسيُّ لوقف النون بأشياء ، منها : أن الكلمة لما رُكِّبَتْ خرجت عن نظائرها ، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة.
وفيها لغات خمس.
أحدها : " كَيِّنْ " - وهي الأصل - وبها قرأ الجماعة ، إلاَّ ابن كثير.
وقال الشاعر : [ الوافر ]
كَأيِّنْ فِي الْمَعَاشِرِ مِنْ أنَاسٍ... أخُوهُمْ فَوْقَهُمْ ، وَهُمُ كِرَامُ
الثانية : " كائِنْ " - بزنة كاعِن - وبها قرأ ابن كثير وجماعة ، وهي أكثر استعمالاً من " كأيِّنْ " وإن كانت تلك الأصل-.
قال الشاعر : [ الوافر ]
وَكَائنْ بِالأبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ... يَرَانِي لَوْ أصِبْتُ هُوَ المُصَابَا
وقال الآخر : [ الطويل ]
وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ...............
وقال آخر : [ الطويل ]
وَكَائِنْ تَرَى فِي الْحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ
.................. أنشده المفضل ممدوداً ، مهموزاً ، مخففاً.
واختلفوا في توجيه هذه القراءة ، فنُقِل عن المبرد أنها اسم فاعل من كان ، يكون ، فهو كائن ، واستبعده مكِّيّ ، قال : لإتيان " مِنْ " بعده ، ولبنائه على السكون. وكذلك أبو البقاء ، قال : " وهو بعيد الصحة ؛ لأنه لو كان كذلك لكان معرباً ، ولم يكن فيه معنى التكثير ".
لا يقال : هذا تحامُل على المبرد ؛ فإن هذا لازم له - أيضاً - فإن البناء ، ومعنى التكثير عارضان - أيضاً - لأن التركيب عُهِد فيه مثل ذلك - كما تقدم في " كذا " ، و" لولا " ، ونحوهما ، وأما لفظٌ مفردٌ يُنقل غلى معنى ، ويُبْنَى من غير سبب ، فلم يُوجد له نظير.
وقيل : هذه القراءة أصلها " كَأيِّنْ " - كقراءة الجماعة - إلا أن الكلمة دخلها القلب ، فصارت " كائن " مثل كاعن - واختلفوا في تصييرها بالقلب كذلك على أربعة أوجه :
(17/176)
أحدها : أنه قُدِّمت الياءُ المشددةُ على الهمزة ، فصار وزنها كَعَلف ، إلا أنك قدمتَ العينَ والسلام ، وهما الياء المشددة - ثم حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف ، كما قالوا في : " أيُّها " ، ثم قلبت الياء الساكنة ألفاً ، كما قلبوها في نحو آية - والأصل : أيَّة - وكما قالوا : طائِيّ - والأصل : طَيئ - فصار اللفظ " كَأيِنْ " ووزنه كَعْف ، لأن الفاء أخرت إلى موضع اللام ، واللام قد حُذفَتْ.
الوجه الثاني : أنه حذفت الياء الساكنة - التي هي عين- وقُدِّمَت المتحركة - التي هي لام - فتأخرت الهمزة - التي هي فاء - وقلبت الياء ألفاً ؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار " كائن " ووزنه كلف.
الوجه الثالث : ويُعْزَى للخليل - أنه قُدِّمَت إحدى الياءين في موضع الهمزة ، فتحركت بحركة الهمزة - وهي الفتحة - وصارت الهمزة ساكنة في موضع الياء ، فتحركت الياءُ ، وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى الساكنان - الألف المنقلبة عن الياء ، والهمزة بعدها ساكنة - فكُسِرَت الهمزة على أصل التقاء الساكنين ، وبقيت إحدى الياءين متطرفة ، فأذهبها التنوين - بعد سلب حركتها - كياء قاضٍ وغازٍ.
الوجه الرابع : أنه قُدِّمَت الياء المتحركةُ ، فانقلبت ألفاً ، وبقيت الأخرى ساكنة ، فحذفها التنوين - مثل قاضٍ - ووزنه على هذين الوجهين أيضاً كلف ؛ لما تقدم من حذف العين ، وتأخير الفاء ، وإنما الأعمال تختلف.
(17/177)
اللغة الثالثة : " كَأْيِنْ " - بياء خفيفة بعد الهمزة - على مثال كَعْيِن ، وبها قرأ ابنُ مُحَيْصِن ، والأشهبُ العقيلي ، ووجهها أن الأصل : " كَأيِّنْ " - كقراءة الجماعة - فحُذِفَت الياءُ الثانية ، استثقالاً ، فالتقى ساكنان - الياء والتنوين - فكُسِر الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، ثم سكنت الهمزة تخفيفاً لثقل الكلمة بالتركيب ، فصارت كالكلمة الواحدة كما سكنوا " فهو " و" فهي ".
اللغة الرابعة : " كَيْإن " بياء ساكنة ، بعدها همزة مكسورة ، وهذه مقلوب القراءة التي قبلها ، وقرأ بها بعضهم.
اللغة الخامسة : " كإنْ " - على مثال كَعٍ - ونقلها الداني قراءة عن ابن مُحَيْصِن أيضاً.
وقال الشاعر : [ الطويل ]
كَئِنْ مِنْ صَدِيقٍ خِلْتُهُ صَادِقَ الإخَا... ءِ أبَانَ اخْتِبَاري أنَّهُ لِي مُدَاهِنُ
وفيها وجهان :
أحدهما : أنه حذف الياءين دُفعَةً واحدةً لامتزاج الكلمتين بالتركيب.
والثاني : أنه حذف إحدى الياءين - على ما تقدم تقريره - ، ثم حذف الأخرى لالتقائها ساكنةً مع التنوين ووزنه - على هذا - كَفٍ ؛ لحذف العين واللام منه.
واختلفوا في " أي " هل هي مصدر في الأصل ، أم لا ؟
فذهب جماعة إلى أنها ليست مصدراً ، وهو قول أبي البقاء ؛ فإنه قال " كَأيِّنْ " الأصل فيه : " أيٌّ " ، التي هي بعض من كل ، أدخلت عليها كافُ التشبيه.
وفي عبارته عن " أيّ " بأنها بعض من كل ، نظر لأنها ليست بمعنى : بعض من كل ، نعم إذا أضيفت إلى معرفة فحُكْمها حُكم " بعض " في مطابقة الجُزْء ، وعود الضمير ، نحو : أيُّ الرجلين قائم ولا نقول : قاما ، فليست هي التي " بعض " أصلاً.
(17/178)
وذهب ابنُ جني إلى أنها - في الأصل - مصدر أوَى يأوِي - إذا انضم ، واجتمع - والأصل : أوْيٌ ، نحو طَوَى يَطْوي طيًّا - فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وكأن ابن جنِّي ينظر إلى أن معنى المادة من الاجتماع الذي يدل عليه " أي " فإنها للعموم ، والعموم يستلزم الاجتماع.
وهل هذه الكاف الداخلة على " أي " تتعلق بغيرها من حروف الجر ، أم لا ؟
والصحيح أنها لا تتعلق بشيء ؛ لأنها مع " أي " صارتا بمنزلة كلمة واحدة - وهي " كم " - فلم تتعلق بشيء ، ولذلك هُجِر معناه الأصلي - وهو التشبيه-.
وزعم الحوفيّّ أنها تتعلق بعامل ، فقال : " أما العامل في الكاف ، فإن جعلناها على حكم الأصل ، فمحمول على المعنى ، والمعنى : إصابتكم كإصابة من تقدَّم من الأنبياء وأصحابهم ، وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى " كم " ، كان العامل بتقدير الابتداء ، وكانت في موضع رفع ، و" قاتل " الخبر ، و" مِنْ " متعلقة بمعنى " الاستقرار " ، والتقدير الأول أوضح ؛ لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى ، بما يجب من الخفض في " أي " ، وإذا كانت " أي " على بابها من معاملة اللفظ ، ف " من " متعلقة بما تعلقت به الكاف من الممعنى المدلول عليه " اه. وهو كلام غريب.
واختار أبو حيان أن " كأين " كلمة بسيطة - غير مركبة - وأن آخرها نون - هي من نفس الكلمة - لا تنوين ؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل ، وهذه طريق سهلة ، والنحويون ذكروا هذه الأشياء ؛ محافظةً على أصولهم ، مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد ، وتمرين الذهن. هذا ما يتعلق بها من حيث التركيب ، فموضعها رفع بالابتداء ، وفي خبرها أربعة أوجه :
أحدها : أنه " قاتل " فإن فيه ضميراً مرفوعاً به ، يعود على المبتدأ ، والتقدير : كثير من الأنبياء قاتل.
(17/179)
قال أبو البقاء : والجيد أن يعود الضمير على لفظ " كأين " ، كما تقول : مائة نبي قُتِل ، فالضمير للمائة ؛ إذ هي المبتدأ.
فإن قيل : لو كان كذلك لأنثت ، فقلت : قُتِلَتْ ؟
قيل : هذا محمول على المعنى ؛ لأن التقدير : كثير من الرجال قُتِل.
كأنه يعني بغير الجيد عوده على لفظ " نَبِيّ " ، فعلى هذا جملة { مَعَهُ رِبِّيُّونَ } جملة في محل نصب على الحال من الضمير في " قُتِل ".
ويجوز أن يرتفع " ربيون " على الفاعلية بالظرف ، ويكون الظرف هو الواقع حالاً ، التقدير : استقر معه ربيون.
وهو أولى ؛ لأنه من قبيل المفردات ، وأصل الحال والخبر والصفة أن تكون مفردة.
ويجوز أن يكون " مَعَهُ " - وحده - هو الحال ، و" رِبِّيُّونَ " فاعل به ، ولا يحتاج - هنا - إلى واو الحال ؛ لأن الضمير هو الرابط - أعني : الضمير في " مَعَهُ ".
ويجوز أن يكون حالاً من " نَبِيّ " - وإن كان نكرة - لتخصيصه بالصفة حينئذ ؛ ذكره مكي. وعمل الظرف - هنا - لاعتماده على ذي الحال.
قال أبو حيان : وهي حال محكية ، فلذلك ارتفع " ربيون " بالظرف - وإن كان العامل ماضياً ، لأنه حكى الحال الماضية ، كقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } [ الكهف : 18 ] ، وذلك على مذهب البصريين ، وأما الكسائي فيعمل اسم الفاعل العاري من " أل " مطلقاً.
وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم أن الظرف يتعلق باسم فاعل ، حتى يلزم عليه ما قال من تأويله اسم الفاعل بحال ماضية ، بل يدعى تعلُّقه بفعل ، تقديره : استقر معه ربيون.
(17/180)
الوجه الثاني : أن يكون " قَاتَلَ " جملة في محل جر ؛ صفة لِ " نَبِيّ " ، و{ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } هو الخبر ، لكن الوجهان المتقدمان في جعله حالاً - أعني : إن شئت أن تجعل " مَعَهُ " خبراً مقدماً ، و" ربِّيُّونَ " مبتدأ مرخراً ، والجملة خبر " كَأيِّنْ " ، وأن تجعل " مَعَهُ " - وحده - هو الخبر ، و" ربِّيُّونَ " فاعل به ؛ لاعتماد الظرف على ذي خبر.
الوجه الثالث : أن يكون الخبر محذوفاً ، تقديره : في الدنيا ، أو مضى ، أو : صابر ، وعلى هذا ، فقوله : " قَاتَلَ " في محل جر ؛ صفة لِ " نَبِيٍّ " ، و" مَعَهُ ربِّيُّونَ " حال من الضمير في " قَاتَلَ " - على ما تقدم تقريره - ويجوز أن يكون " مَعَهُ ربِّيُّونَ " صفة ثانية لـ " نَبِيٍّ " ، وُصِف بصفتين : بكونه قاتل ، وبكونه معه ربيون.
الوجه الرابع : أن يكون " قَاتَلَ " فارغاً من الضمير ، مسنداً إلى " رِبِّيُّونَ " وفي هذه الجملة - حينئذ - احتمالان :
أحدهما : أن تكون خبراً لـ " كأيِّنْ ".
الثاني : أن تكون في محل جر لـ " نَبِيٍّ " والخبر محذوف - على ما تقدم - وادِّعَاء حذف الخبر ضعيف لاستقلال الكلام بدونه.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون " قَاتَلَ " مسنداً لِ " رِبِّيُّونَ " ، فلا ضمير فيه على هذا ، والجملة صفة " نَبِيٍّ ".
ويجوز أن يكون خبراً ، فيصير في الخبر أربعة أوجه ، ويجوز أن يكون صفةً لِ " نَبِيٍّ " والخبر محذوف على ما ذكرنا.
وقوله : صفة لـ " رَبِّيُّونَ " يعني : أن القتل من صفتهم في المعنى ، وقوله : " فيصير في الخبر أربعة أوجه " يعني : ما تقدم له من أوجه ذكرها ، وقوله : فلا ضمير فيه - على هذا - والجملة صفة " نبي " غلط ؛ لأنه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ.
فإن قلتَ : إنما يزعم هذا لأنه يقدر خبراً محذوفاً ؟(17/181)
قلت : قد ذكر أوجهاً أخَر ؛ حيثُ قال : " ويجوز أن تكون صفة لـ " نَبِيٍّ " والخبرُ محذوفٌ - على ما ذكرنا ".
ورجَّح كونَ قَاتَلَ مسنداً إلى ضمير النبي أن القصة بسبب غزوةِ أحُدٍ ، وتخاذل المؤمنين حين قيل : إن محمداً قد ماتَ مقتولاً ؛ ويؤيدُ هذا الترجيح قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] وإليه ذهب ابنُ عباسٍ والطبريُّ وجماعة. وعن ابن عباسٍ - في قوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] - قال : النبي يُقتل فكيف لا يُخَان ؟
وذهب الحسنُ وابن جُبَيرٍ وجماعة إلى أن القتلَ للرِّبِّيِّينَ ، قالوا : لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حَرْب قط ونصر الزمخشري هذا بقراءة قُتِّل - بالتشديد - يعني أنّ التكثيرَ لا يتأتى في الواحد - وهو النبي - وهذا - الذي ذكره الزمخشريُّ - سبقه إليه ابنُ جني - وسيأتي تأويله-.
وقرأ ابن كثيرٍ ، ونافع ، وأبو عمرو : قُتِل - مبنياً للمفعول - وقتادة كذلك ، إلا أنه شدد التاء ، وباقي السبعة : قاتل ، وكل من هذه الأفعال يصلح أن يرفع ضمير " نَبِيّ " وأن يرفع " رِبِّيُّونَ " - كما تقدم تفصيلُهُ-.
وقال ابنُ جني : إنَّ قراءة : قُتّل - بالتَّشْديد - يتعين أن يسند الفعل فيها إلى الظاهر - أعني : " رِبِّيُّونَ " - قال : لأنَّ الواحدَ لا تكثير فيه.
قال أبو البقاء : " ولا يمتنع أنْ يكونَ فيه ضمير الأول ؛ لأنه في معنى الجماعةِ ".
يعني أن " مِنْ نَبِيٍّ " المراد به الجنس ، فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص ؛ لا بالنسبة إلى كل فَرْد ؛ إذ القتل لا يتكثر في كلِّ فردٍ.
وهذا الجوابُ - الذي أجابَ به أبو البقاءِ- استشعر به أبو الفتحِ ، وأجاب عنه ، قَالَ : فإن قيل : فهلاَّ جاز فُعِّل ؛ حَمْلاً على معنى " كَمْ " ؟
(17/182)
فالجواب : أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله : " مِنْ نَبِيٍّ } ودلَّ الضمير المفرد " مَعَهُ " على أن المراد إنما هو التمثيلُ بواحدٍ واحدٍ ، فخرج الكلامُ على معنى " كم ". قال : في هذه القراءةِ دلالةٌ على أنَّ من قرأ من السَّبْعَةِ " قُتِلَ " أو " قَاتَل مَعَهُ رِبِّيُّونَ " فإن " ربِّيُّونَ " مرفوعٌ في قراءته بـ " قُتِل " أو " قَاتَل " وليس مرفوعاً بالابتداء ، ولا بالظرف ، الذي هو " مَعَه ".
قال أبو حيّان : " وليس بظاهر ؛ لأن " كأين " مثل " كَمْ " وأنتَ خبيرٌ إذا قلتَ : كم من عانٍ فككته ، فأفردت ، راعيت لفظ " كم " ومعناها جمع ، فإذا قلت : فككتهم ، راعيت المعنى ، وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير ، والمراد به الجمع. فلا فرق من حيثُ المعنى - بين فككته وفككتهم ، كذلك لا فرق بين قتل معه ربيون ، وقتل معهم ربيون ، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارةً ، ومراعاة المعنى تارة ؛ لأن مدلول " كم " و" كأين " كثير ، والمعنى : جمع كثير ، وإذا أخبرت عن جمع كثيرٍ فتارةً تفرد ؛ مراعاةً للفظ ، وتارة تجمع ؛ مراعاة للمعنى ، كما قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 44 و45 ] ، فقال : " مُنْتَصِر " وقال : " وَيُوَلُّونَ " فأفرد في " مُنْتَصِرٌ " وجمع في " يُوَلُّونَ ".
ورجح بعضهم قراءة " قَاتَلَ " لقوله - بعد ذلك - : { فَمَا وَهَنُواْ } قال : وإذا قتلوا ، فكيف يوصفون بذلك ؟ إنما يوصف بهذا الأحياء ؟
والجوابُ : أن معناه : قتل بعضهم ، كما تقول : قُتِلَ بنو فلانٍ في وقعة كذا ، ثم انصرفوا.
(17/183)
وقال ابن عطية : قراءة من قَرَأ " قَاتَلَ " أعم في المدْحِ ؛ لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي ، ويحسن عندي - على هذه القراءة - إسنادُ الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة : قتل - إسناده إلى " نبي ".
قال أبو حيّان : " قتل " يظهر أنها مدح ، وهي أبلغ في مقصود الخطاب ؛ لأنها نَصٌّ في وقوع القتل ، ويستلزم المقاتلة. و" قَاتَل " لا تدلُّ على القتل ؛ إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل ؛ فقد تكون مقاتلة ولا يقع قتل.
قوله : { مِّن نَّبِيٍّ } تمييز لـ " كَأيِّنْ " لأنها مثل " كم " الخبرية.
وزعم بعضهم أنه يلزم جره بـ " من " ولهذا لم يجئ في التنزيل إلا كذلك ، وهذا هو الأكثرُ الغالب. قال وقد جاء تمييزُها منصوباً ، قال الشاعرُ : [ الخفيف ]
أطْرُدِ الْيَأسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِن... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وقال آخر : [ الطويل ]
فَكَائِنْ لَنَا فَضْلاً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً... قَدِيماً ، وَلاَ تَدْرُونَ مَا مَنُّ مُنْعِمِ
وأما جره فممتنع ؛ لأن آخرَها تنوين ، وهو لا يثبت مع الإضافة.
و " ربيون " : جمع رِبِّيّ ، وهو العالم ، منسوب إلى الرَّبّ ، وإنما كُسِرت راؤه ؛ تغييراً في النسب ، نحو : إمْسِيّ - في النسبة إلى أمس - وقيل : كُسِر للإتباع.
وقيل : لا تغيير فيه ، وهو منسوب إلى الرُّبة - وهي الجماعة - وقرأ الجمهور بكسر الرَّاءِ ، وقرأ عليّ ، وابنُ مسعودٍ ، وابن عبّاسٍ ، والحسنُ " رُبِّيُّونَ " - بضم الراء - وهو من تغيير النسبِ ، إذا قلنا : هو منسوب إلى الربِّ ، وقيل : لا تغيير ، وهو منسوب إلى الربة ، وهي الجماعة.
قال القرطبيُّ " واحدهم ربِّيّ - بكسر الراء وضمها ".
(17/184)
وقرأ ابنُ عباسٍ - في رواية قتادة - رَبِّيُّونَ ، بفتحها على الأصل ، إن قلنا : منسوب إلى الرَّبِّ ، وإلا فمن تغيير النسب ، إن قلنا : إنه منسوب إلى الربة.
قال ابن جني : والفتح لغة تميم.
وقال النقاشُ : " هم المكثرون العلم " من قولهم : رَبَ الشيء يربو - إذا كَثر - وهذا سَهْوٌ منه ؛ لاختلاف المادتين ؛ لأن تلك من راء وياء وواو ، وهذه من راء وباء مكررة. قال ابن عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادةُ : الجماعات الكثيرة وقال ابنُ مسعودٍ : والربيون : الألوف.
وقال الكلبيّ : الرِّبِّيَّة الواحدة : عشرة آلاف.
وقال الضَّحَّاك : الرَّبِّيَّة الواحدة ألف ، وقال الحسنُ : رِبِّيُّون : فُقَهاء وعُلَماء.
وقيل : هم الأتباع ، فالربانيون : الولاة ، والربانيون : الرعية. وحكى الواحديُّ - عن الفرّاءِ - الربانيون : الألوف.
قوله : " كَثِيرٌ " صفة لِ " رِبِّيُّونَ وإن كان بلفظ الإفرادِ ؛ لأن معناه الجمع.
والجمهورُ على " وَهَنُوا " - بفتح الهاء - والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرها ، وهما لغتانِ : وَهَنَ يَهِنُ - كَوَعَدَ يَعِدُ - وَوَهَنَ يَوْهَنُ - كوَجَلَ يَوْجَلُ - وروي عن أبي السَّمَّال - أيضاً - وعِكْرمة : وهْنوا - بسكون الهاء - وهو من تخفيف فَعَل ؛ لأنه حرف حلق ، نحو نعم وشَهْد - في نَعِم وشَهِد-.
قال القرطبيُّ : - عن أبي زيد - : " وَهِنَ الشيء يَهِنُ وَهْناً ، وأوْهنته أنا ووهَّنْتُه : ضعَّفته ، والواهنة : أسفل الأضلاع وقصارَاها ، والوَهْن من الإبل : الكثيف ، والوَهْن : ساعة تمضي من الليل ، وكذلك المَوْهِن ، وأوهَنَّا : صِرْنا في تلك الساعة ".
و { لِمَآ أَصَابَهُمْ } متعلق بـ " وَهَنُوا " و" ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أو مصدرية ، أو نكرة موصوفة.
(17/185)
وقرأ الجمهور { وَمَا ضَعُفُواْ } - بضم العين - وقرئ : ضَعَفُوا - بفتحها - وحكاها الكسائي لغة.
قوله : { وَمَا استكانوا } فيه ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدها : أنه " استفعل " من الكَوْن - والكَوْن : الذُّلّ - وأصله : استكون ، فنُقِلَتْ حركة الواو على الكافِ ، ثم قُلِبَت الواو ألفاً.
وقال الأزهريُّ وأبو علي : هو من قول العربِ : بَاتَ فُلان بكَيْنَةِ سوء - على وزن جَفْنَة - أي : بحالة سوء ، فألفه - على هذا من ياء ، والأصل : استكْيَن ، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها. [ وهو القول الثاني ].
الثالث : قال الفرّاء : وزنة " افتعل " من السكون ، وإنما أُشْبِعَت الفتحة ، فتولَّد منها ألف.
كقول الشاعر : [ الرجز ]
أعُوذُ باللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ... الشَّائِلاَتِ عُقَدِ الأذْنَابِ
يريد : العقرب الشائلة.
ورُدَّ على الفرّاء بأن هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمةِ ، نحو : استكان ، يستكين ، فهو مستكينٌ ومُستكان إليه استكانةً. وبأنَّ الإشباعَ لا يكون إلا في ضرورةٍ.
وكلاهما لا يلزمه ؛ أما الإشباع فواقع في القراءات - السبع - كما سيأتي-.
وأما ثبوت الألف في تصاريف الكلمةِ فلا يدلُّ - أيضاً - لأن الزائدَ قد يَلْزَم ؛ ألا ترى أنَّ الميم - في تَمَنْدَل وتَمَدْرَع - زائدة ، ومع ذلك ثابتة في جميع تصاريفِ الكلمة ، قالوا : تَمَنْدَلَ ، يَتَمَنْدَلُ ، تَمَنْدُلاً ، فهو مُتَمَنْدِل ، ومُتَمَنْدَل به. وكذلك تَمَدْرَع ، وهما من الندل والدرع.
وعبارة أبي البقاءِ أحسن في الرَّدِّ ؛ فإنه قال : " لأن الكلمة ثبتت عينها في جميع تصاريفها تقول : استكان ، يستكين ، استكانة ، فهو مستكين ، ومُسْتكان له والإشباع لا يكون على هذا الحد ".
(17/186)
ولم يذكر متعلق الاستكانة والضعف - فلم يَقُلْ : فما ضَعُفُوا عن كذا ، وما استكانوا لكذا - للعلم ، أو للاقتصار على الفعلين - نحو { كُلُواْ واشربوا } [ الحاقة : 24 ] ليعم كُلَّ ما يصلح لهما.
وقال الزمخشري : ما وَهَنُوا عند قَتْل النبيّ.
وقيل : ما وَهَنُوا لقتل من قتل منهم.أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 579 ـ 590}. بتصرف.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)}
إنَّ الذين درجوا على الوفاء ، وقاموا بحق الصفاء ، ولم يرجعوا عن الطريق ، وطالبوا نفوسهم بالتحقيق ، وأخذوا عليها بالتضييق والتدقيق - وجدوا محبةَ الحقِّ سبحانه ميراثَ صبرِهم ، وكان الخَلَف عنهم الحقُّ عند نهاية أمرهم ، فما زاغوا عن شرط الجهد ، ولا زاغوا في حفظ العهد ، وسلّموا تسليماً ، وخرجوا عن الدنيا وكان كلٌّ منهم للعهد مقيماً مستديماً ، وعلى شرط الخدمة والوداد مستقيماً. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 283}(17/187)
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أثنى سبحانه وتعالى على فعلهم أتبعه قولهم فقال : {وما كان} أي شيء من القول {قولهم} أي بسبب ذلك الأمر الذي دهمهم {إلا أن قالوا} أي وهم يجتهدون في نصر دين الله ناسبين الخذلان إلى أنفسهم بتعاطي أسبابه {ربنا اغفر لنا ذنوبنا} أي التي استوجبنا بها الخذلان {وإسرافنا في أمرنا} هضماً لأنفسهم ، فمع كونهم ربانيين مجتهدين نسبوا ما أصابهم إلى ذنوبهم ، فافعلو أنتم فعلهم لتنالوا من الكرامة ما نالوا ، كما أشار لكم سبحانه وتعالى إلى ذلك قبل الأخذ في قص القصة عندما وصف به المتقين من قوله : {أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} [ آل عمران : 135 ].
ولما دعوا بمحو ما أوجب الخذلان دعوا بثمرة المحو فقالوا : {وثبت أقدامنا} إشارة إلى أن الرعب من نتائج الذنب ، والثبات من ثمرات الطاعة - إنما تقاتلون الناس بأعمالكم - ثم أشاروا إلى أن قتالهم لهم إنما هو لله ، لا لحظ من حظوظ النفس أصلاً بقوله : {وانصرنا على القوم الكافرين }. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 164}
وقال الآلوسى :
وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية ، وهو معطوف على ما قبله ، وقيل : كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 84}
فصل
قال الفخر :
قوله : {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى ، والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 24}(17/188)
فائدة
قال الفخر :
بين تعالى أنهم كانوا مستعدين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع بطلب الأمداد والإعانة من الله ، والغرض منه أن يقتدي بهم في هذه الطريقة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن من عول في تحصيل مهماته على نفسه ذل ، ومن اعتصم بالله فاز بالمطلوب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 24}
فصل
قال ابن عاشور :
وقوله تعالى : { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } الآية عطف على { فما وهنوا } لأنَّه لمّا وصفهم برباطة الجأش ، وثبات القلب ، وصفهم بعد ذلك بما يدلّ على الثبات من أقوال اللِّسان الَّتي تجري عليه عند الاضطراب والجزع ، أي أنّ ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردّد في صدق وعد الله ، ولا بَدَر منهم تذمّر ، بل علموا أنّ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه ، أو لعلَّه كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه ، أو في الوفاء بأمانة التكليف ، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم ، ثُمّ سألوه النصر وأسبابه ثانياً فقالوا : { وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } فلم يصُدّهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النَّصر ، وفي "الموطأ" ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل يقول : دعوت فلم يُستجب لي " فقصر قولهم في تلك الحالة الَّتي يندر فيها صدور مثل هذا القول ، على قولهم : { ربنا اغفر لنا } إلى آخره ، فصيغة القصر في قوله : { وما كان قولهم إلا أن قالوا } قصر إضافي لردّ اعتقاد من قد يتوهمّ أنَّهم قالوا أقوالاً تنبىء عن الجزع ، أو الهلع ، أو الشكّ في النَّصر ، أو الاستسلام للكفار.(17/189)
وفي هذا القصر تعريض بالَّذين جزِعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم : لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان.
وقدّم خبر ( كان ) على اسمها في قوله : { وما كان قولهم إلا أن قالوا } لأنَّه خبر عن مبتدأ محصور ، لأنّ المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة { ربنا اغفر لنا ذنوبنا } فالقصر حقيقي لأنَّه قصر لقولهم الصّادر منهم ، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله ، فذلك القيد ملاحظ من المقام ، نظير القصر في قوله تعالى : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } [ النور : 51 ] فهو قصر حقيقي مقيّد بزمان خاص ، تقييداً منطوقاً به ، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأنّ المصدر المنسبك المؤوّل أعرف من المصدر الصّريح لدلالة المؤوّل على النسبة وزمان الحدث ، بخلاف إضافة المصدر الصّريح ، وذلك جائز في باب ( كان ) في غير صيغ القصر ، وأمَّا في الحصر فمتعيّن تقديم المحصور.
والمراد من الذنوب جميعها ، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبّر عنه هنا بالإسراف في الأمر ، والإسراف هو الإفراط وتجاوز الحدّ ، فلعلّه أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن ابن عبَّاس وجماعة ، وعليه فالمراد بقوله : أمرْنا ، أي ديننا وتكليفنا ، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه ، وتمحّض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصّغائر.(17/190)
ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسْراف في الأمر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال ، والاستعداد له ، أو الحذر من العدوّ ، وهذا الظاهر من كلمة أمْر ، بأن يكونوا شكُّوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوّهم ناشئاً عن سببين : باطننٍ وظاهر ، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب ، والظاهرُ هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر ، وهذا أولى من الوجه الأول. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 245 ـ 246}
فصل
قال الفخر :
قال القاضي : إنما قدموا قولهم : {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} لأنه تعالى لما ضمن النصرة للمؤمنين ، فإذا لم تحصل النصرة وظهر أمارات استيلاء العدو ، دل ذلك ظاهراً(17/191)
على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين ؛ فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة ، فبين تعالى أنهم بدأوا بالتوبة عن كل المعاصي وهو المراد بقوله : {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} فدخل فيه كل الذنوب ، سواء كانت من الصغائر أو من الكبائر ، ثم إنهم خصوا الذنوب العظيمة الكبيرة منها بالذكر بعد ذلك لعظمها وعظم عقابها وهو المراد من قوله : {وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه ، قال تعالى : {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [ الزمر : 53 ] وقال : {فَلاَ يُسْرِف فّى القتل} [ الإسراء : 33 ] وقال : {كُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ} [ الأعراف : 31 ] ويقال : فلان مسرف إذا كان مكثرا في النفقة وغيرها ، ثم إنهم لما فرغوا من ذلك سألوا ربهم أن يثبت أقدامهم ، وذلك بإزالة الخوف عن قلوبهم ، وإزالة الخواطر الفاسدة عن صدورهم ، ثم سألوا بعد ذلك أن ينصرهم على القوم الكافرين ، لأن هذه النصرة لا بد فيها من أمور زائدة على ثبات أقدامهم ، وهو كالرعب الذي يلقيه في قلوبهم ، وأحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم ، مثل هبوب رياح تثير الغبار في وجوههم ، ومثل جريان سيل في موضع وقوفهم ،
ثم قال القاضي : وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 24}(17/192)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي صغائرنا { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } أي تجاوزنا عن الحد ، والمراد كبائرنا وروي ذلك عن الضحاك ، وقيل : الإسراف تجاوز في فعل ما يجب ، والذنب عام فيه وفي التقصير ، وقيل : إنه يقابل الإسراف وكلاهما مذموم ، وسيأتي في هذه السورة إن شاء الله تعالى إطلاق الذنوب على الكبائر فافهم.
والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم مع أن الظاهر أنهم برآء من التفريط في جنب الله تعالى هضماً لأنفسهم واستقصاراً لهمهم وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم ، على أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنباً وإسرافاً على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقيل : أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث إنه لا يجب على الله تعالى شيء ، وفيه ما لا يخفى ، وقدموا الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله سبحانه : { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } أي عند جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا وإمدادنا بالمدد الروحاني من عندك { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } تقريباً له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة.(17/193)
ومن الناس من قال : المراد من ثبت أقدامنا ثبتنا على دينك الحق فيكون تقديم طلب المغفرة على هذا التثبيت من باب تقديم التخلية على التحلية وتقديمهما على طلب النصرة لما تقدم ، وقيل : إنهم طلبوا الغفران أولاً ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب ، وفي طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم ولا يعوّلون عليها بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى ، وفي الإخبار عنهم بأنه ما كان قولهم إلا هذا دون ما فيه شائبة جزع وخور وتزلزل من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 84 ـ 85}
فائدة
قال ابن عطية :
وقولهم : { وثبت أقدامنا } يحتمل أن يجري مع ما قبله من معنى الاستغفار ، فيكون المعنى : اجعلنا دائبين على طاعتك والإيمان بك ، وتثبيت القدم على هذا : استعارة ، ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من قوله :
{ وانصرنا على القوم الكافرين } فيراد ثبوت القدم حقيقة في مواقف الحرب ،
قال ابن فورك : في هذا الدعاء رد على القدرية ، لقولهم : إن الله لا يخلق أفعال العبد ، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لا يفعله. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 522}(17/194)
فصل
قال البيضاوى :
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أي وما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانيين إلا هذا القول ، وهو إضافة الذنوب والإِسراف إلى أنفسهم هضماً لها وإضافة لما أصابهم إلى سوء أعمالها والاستغفار عنها ، ثم طلب التثبيت في مواطن الحرب والنصر على العدو ليكون عن خضوع وطهارة. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 101}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
الجمهور على نصب { قَوْلِهِمْ } خبراً مقدَّماً ، والاسم " أنْ " وما في حيزها ، تقديره : وما كان قولهم [ إلا هذا الدعاء ، أي : هو دأبهم وديدنهم ].
وقرأ ابن كثيرٍ وعاصم - في رواية عنهما - برفع " قولُهم " على أنه اسم " كان " والخبر " أن " وما في حيزها. وقراءة الجمهور أوْلَى ؛ لأنه إذا اجتمع معرفتانِ فالأولى أن تَجْعَل الأعرف اسماً ، و" أن " وما في حيزها أعْر أعْرَف ؛ قالوا : لأنها تُشْبِه المُضْمَر من حيثُ إنها لا تُضْمَر ، ولا تُوصَف ، ولا يُوصَف بها ، و" قولهم " مضافٌ لمُضْمَرٍ ، فَهُوَ في رُتْبَةِ العَلَمِ ، فهو أقلُّ تعريفاً.
ورَجَّحَ أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين :
أحدهما : هذا ، والآخر : أن ما بعد " إلاَّ " مُثبَت ، والمعنى : كان قولَهُمْ : ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا دَأبَهم في الدعاء ، وهو حَسَنٌ.
والمعنى : وما كان قولهم شيئاً من الأقوالِ إلا هذا القول الخاصّ.
قوله : { في أَمْرِنَا } يَجُوز فيه وجهانِ :
الأول : أنه متعلق بالمصدر قبله ، يقال : أسرفتُ في كذا.
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حَالٌ منه ، أي : حال كونه مستقراً في أمرنا. والأول أوجهُ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 590 ـ 591}. بتصرف يسير.(17/195)
وقال الآلوسى
وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع { قَوْلُهُمْ } على أنه الاسم والخبر { إن } وما في حيزها أي ما كان قولهم شيئاً من الأشياء إلا هذا القول المنبىء عن أحاسن المحاسن ، قال مولانا شيخ الإسلام : "وهذا كما ترى أقعد بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الإخبار بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكي عنهم مفصلاً كما تفيده قراءتهما أكثر إفادة للسامع من الإخبار بكون خصوصية قولهم المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل الخبرية هو الخبر ، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدث وأوفر اشتمالاً على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ، ولا يخفى أن ذلك ههنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل ، وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت سهلة الحصول خارجاً وذهناً كان حقها أن تلاحظ ملاحظة إجمالية وتجعل عنواناً للموضوع لا مقصوداً بالذات في باب البيان ، وإنما اختار الجمهور ما اختار والقاعدة صناعية هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعرف منهما أحق بالإسمية ، ولا ريب في أعرفية أن قالوا لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث ولأنه يشبه المضمر من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به ، وقولهم مضاف إلى مضمر وهو بمنزلة العلم فتأمل" انتهى.(17/196)
وقال أبو البقاء : جعل ما بعد { إِلا } اسماً لكان ، والمصدر الصريح خبراً لها أقوى من العكس لوجهين : أحدهما : أن { أَن قَالُواْ } يشبه المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف ، والثاني : أن ما بعد { إِلا } مثبت ، والمعنى كان قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا الخ دأبهم في الدعاء ، وقال العلامة الطيبي : كأن المعنى ما صح ولا استقام من الربانيين في ذلك المقام إلا هذا القول وكأن غير هذا القول مناف لحالهم ، وهذه الخاصية يفيدها إيقاع { إن } مع الفعل اسما لكان ، وتحقيقه ما ذكره صاحب "الانتصاف" من أن فائدة دخول { كَانَ } المبالغة في نفي الفعل الداخل عليه بتعديد جهة فعله عموماً باعتبار الكون وخصوصاً باعتبار خصوصية المقال فهو نفى مرتين ، ثم قال : فعلى هذا لو جعلت رب الجملة أن قالوا واعتمدت عليه وجعلت قولهم كالفضلة حصل لك ما قصدته ولو عكست ركبت التعسف ، ألا ترى إلى أبي البقاء كيف جعل الخبر نسياً منسياً في الوجه الثاني واعتمد على ما بعد إلا انتهى.
ومنه يعلم ما في كلام مولانا شيخ الإسلام فإنه متى أمكن اعتبار جزالة المعنى مع مراعاة القاعدة الصناعية لا يعدل عن ذلك إلى غيره لا سيما وقد صرحوا بأن جعل الاسم غير الاعرف ضعيف ، قال في "المغني" : واعلم أنهم حكموا لأن وإن المقدرتين بمصدر معرف بحكم الضمير لأنه لا يوصف كما أن الضمير أيضاً كذلك فلهذا قرأت السبعة { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الجاثية : 25 ] { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ النمل : 56 ] والرفع ضعيف كضعف الأخبار بالضمير عما دونه في التعريف انتهى ، وعلل بعضهم أعرفية المصدر المؤل بأنه لا ينكر.(17/197)
وقد اعترضوا على كل من تعليلي ابن هشام والبعض ، أما الاعتراض على الأول فبأن كونه لا يوصف لا يقتضي تنزيله منزلة الضمير فكم اسم لا يوصف بل ولا يوصف به وليس بتلك المنزلة ؟ وأجيب بأنه جاز أن يكون في ذلك الإسم مانع من جعله بمنزلة الضمير لأن عدم المانع ليس جزءاً من المقتضى ولا شرطاً في وجوده ، وأما الاعتراض على الثاني فبأنه غير مسلم لأنه قد ينكر كما في { وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى } [ يونس : 37 ] أي افتراءاً قاله الشهاب.(17/198)
وأجيب بأن مراد من قال : إن المصدر المؤل لا ينكر أنه في مثل هذا الموضع لا ينكر لا أن الحرف المصدري لا يؤل بمصدر منكر أصلاً ، ويستأنس لذلك بتقييد المصدر بالمعرف في عبارة "المغني" حيث يفهم منها أن أن وإن تارة يقدران بمصدر معرف وتارة بمصدر منكر وأنهما إذا قدرا بمصدر معرف كان له حكم الضمير ، ومن هنا قال صاحب "المطلع" في معنى ذلك التعليل : إن قول المؤمنين إن اختزل عن الإضافة يبقى منكراً بخلاف { أَن قَالُواْ } بقي في كلام "المغني" أمور ، الأول : أن التقييد بأن وإن هل هو اتفاقي أم احترازي ؟ الذي ذهب إليه بعض المحققين الأول : احتجاجاً بأنه أطلق في الجهة السادسة من الباب الخامس أن الحرف المصدري وصلته في نحو ذلك معرفة فلا يقع صفة للنكرة ولم يخص بأن وإن وللذاهب إلى الثاني أن يقول فرق بين مطلق التعريف وكونه في حكم الضمير كما لا يخفى ، وابن هشام قد أخذ المطلق في المطلق وقيد المقيد بالمقيد فلا بأس بإبقاء كلا العبارتين على ما يتراءى منهما الثاني : أنه يفهم من ظاهره أن الاداتين لو قدرتا بمصدر منكر لا يكون في حكم الضمير وظاهر هذا أنه يجوز الوصف حينئذ وفيه تردد لأنه قد يقال : لا يلزم من عدم ثبوت مرتبة الضمير لذلك جواز الوصف لأن امتناع الوصف أعم من مرتبة الضمير ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.(17/199)
الثالث : أنه يفهم من كلامه أن المصدر المقدر المعرف بالإضافة سواء أضيف إلى ضمير أو غيره بمثابة الضمير ولم يصرح أحد من الأئمة بذلك لكن حيث إن ابن هشام ثقة وإمام في الفن ولم ينقل عن أئمته ما يخالفه يقبل منه ما يقول ، الرابع : أن ما حكم به من أن الرفع ضعيف كضعف الإخبار بالضمير عما دونه في التعريف بينه وبين ما ذهب إليه ابن مالك من جواز الإخبار بالمعرفة عن النكرة المحضة في باب النواسخ بون عظيم ، ويؤيد كلام ابن مالك قوله تعالى : { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } [ الأنفال : 62 ] وكأنه لتحقيق هذا المقام ولما أشرنا إليه أولاً في تحقيق معنى الآية قال المولى قدس سره : فتأمل فتأمل. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 85 ـ 86}
فائدة
قال الجصاص :
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } الْآيَةَ.
فِيهِ حِكَايَةُ دُعَاءِ الرِّبِّيِّينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَتَعْلِيمٌ لَنَا لَأَنْ نَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عِنْدَ حُضُورِ الْقِتَالِ ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْعُوا بِمِثْلِهِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُمْ وَالرِّضَا بِقَوْلِهِمْ لِنَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ وَنَسْتَحِقَّ مِنْ الْمَدْحِ كَاسْتِحْقَاقِهِمْ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 326}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)}
تحققوا بحقائق المعنى فَخَرِسُوا عن إظهار الدعوى ، ثم نطقوا بلسان الاستغفار ، ووقفوا في موقف الاستحياء ، كما قيل :
يتجنَّبُ الآثامَ ثم يخافها... فكأنَّما حسناتُه آثامُ. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 283}(17/200)
قوله تعالى : { فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
فلما تم الثناء على فعلهم وقولهم ذكر ما سببه لهم ذلك من الجزاء فقال {فأتاهم الله} المحيط علماً وقدرةً {ثواب الدنيا} أي بأن قبل دعاءهم بالنصر والغنى بالغنائم وغيرها وحسن الذكر وانشراح الصدر وزوال شبهات الشر.
ولما كان ثواب الدنيا كيف ما كان لا بد أن يكون بالكدر مشوباً وبالبلاء مصحوباً ، لأنها دار الأكدار ؛ أعراه من وصف الحسن ، وخص الآخرة به فقال : {وحسن ثواب الآخرة} أي مجازاً بتوفيقهم إلى الأسباب في الدنيا ، وحقيقة في الآخرة ، فإنهم أحسنوا في هذا الفعال والمقال ، لكونهم لم يطلبوا بعبادتهم غير وجه الله ، فأحبهم لإحسانهم {والله} المحيط بصفات الكمال {يحب المحسنين} كلهم ، فهو جدير بأن يفعل بهم كل جميل ولذلك رفع منزلتهم ولم يجعل ثوابهم بعضاً ، كما فعل بمن عبد لإرادة الثواب فقال : {نؤته منها} [ آل عمران : 145 ] فقد بان أن هذه الآية منعطفة على ما أمر به الصحابة رضي الله عنهم على طريقة اللف والنشر المشوش ، فنفي الوهن تعريض بمن أشير إليه في آية {ولقد كنتم تمنون الموت} [ آل عمران : 143 ] ونحو ذلك والثناء لعى قولهم حث عل مثل ما ندبهم إليه في قولهم {ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} [ آل عمران : 135 ] وثبات الإقدام إشارة إلى {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [ آل عمران : 139 ] وإلى أن ثبات القدم للنصر على أعداء الله كان شاغلاً لهم عن الالتفات إلى غيره ، وتعريض بمن أقبل على الغنائم وترك طلب العدو لتمام النصر المشار إليهم بآية {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها} [ آل عمران : 145 ] وإيتاء الثواب ناظر إلى النهي عن الربا وما انتظم في سلكه وداناه ، وإلى الأمر بالمسارعة إلى الجنة وما والاه ، وإيماء إلى أن من فعل فعلهم نال ما نالوا ، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ، لأن علمه محيط ، وكرمه لا يحد ، وخزائنه لا تنفد ، بل لا تنقص ، ثم ختمها بما ختم به للحث على التخلق بأوصاف المتقين ؛ فقد اتضح بغير لبس أن المراد بهذه الآية - وهي الإخبار عن إيتائهم الثواب - التنبيه على أن أهم الأمور وأحقها بالبداءة التخلق بما(17/201)
وعظوا به قبل قص القصة ، ولا ريب أن في مدح من سواهم تهييجاً زائداً لانبعاث نفوسهم وتحرك هممهم وتنبيه نشاطهم وثوران عزائمهم غيرة منهم أن يكون أحد - وهم خير أمة أخرجت للناس - أعلى همة وأقوى عزيمة وأشد شكيمة وأصلب عوداً واثبت عموداً وأربط جأشاً وأذكر لله وأرغب فيما عنده وأزهد فيما أعرض عنه منهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 164 ـ 165}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما شرح طريقة الربيين في الصبر ، وطريقتهم في الدعاء ذكر أيضا ما ضمن لهم في مقابلة ذلك في الدنيا والآخرة فقال : {فآتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 24}
فصل
قال الفخر :
قوله : {فآتاهم الله} يقتضي أنه تعالى أعطاهم الأمرين ،
أما ثواب الدنيا فهو النصرة والغنيمة وقهر العدو والثناء الجميل ، وانشراح الصدر بنور الإيمان وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والسيئات ،
وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه هو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم ، وذلك غير حاصل في الحال ، فيكون المراد أنه تعالى حكم لهم بحصولها في الآخرة ، فأقام حكم الله بذلك مقام نفس الحصول ، كما أن الكذب في وعد الله والظلم في عدله محال ، أو يحمل قوله : {فآتاهم} على أنه سيؤتيهم على قياس قوله : {أتى أَمْر الله} [ النحل : 1 ] أي سيأتي أمر الله.
قال القاضي : ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء ، وقد أخبر الله تعالى عن بعضهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، فيكون حال هؤلاء الربيين أيضاً كذلك ، فإنه تعالى في حال إنزال هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة في جنان السماء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 24}(17/202)
لطيفة
قال الفخر :
خص تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم ، وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن ، فما خصه الله بأنه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه ، ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار وكونها ، منقطعة زائلة ،
قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله : {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [ البقرة : 83 ] أي حسنا ، والغرض منه المبالغة كأن تلك الأشياء الحسنة لكونها عظيمة في الحسن صارت نفس الحسن ، كما يقال : فلان جود وكرم ، إذا كان في غاية الجود والكرم ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 24 ـ 25}
لطيفة
قال الفخر :
قال فيما تقدم : {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} [ آل عمران : 145 ] فذكر لفظة "من" الدالة على التبعيض فقال في الآية : {فآتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} ولم يذكر كلمة "من" والفرق : أن الذين يريدون ثواب الآخرة إنما اشتغلوا بالعبودية لطلب الثواب ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة ، وأما المذكورون في هذه الآية فإنهم لم يذكروا في أنفسهم إلا الذنب والقصور ، وهو المراد من قوله : {اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} [ آل عمران : 147 ] ولم يروا التدبير والنصرة والإعانة إلا من ربهم ، وهو المراد بقوله : {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [ آل عمران : 147 ] فكان مقام هؤلاء في العبودية في غاية الكمال ، فلا جرم أولئك فازوا ببعض الثواب ، وهؤلاء فازوا بالكل ، وأيضاً أولئك أرادوا الثواب ، وهؤلاء ما أرادوا الثواب.(17/203)
وإنما أرادوا خدمة مولاهم فلا جرم أولئك حرموا وهؤلاء أعطوا ، ليعلم أن كل من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 25}
لطيفة
قال أبو حيان :
قال علي : من عمل لدنياه أضرّ بآخرته ، ومن عمل لآخرته أضرّ بدنياه ، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 82}
قوله تعالى : {والله يُحِبُّ المحسنين}
لطيفة
قال الفخر :
{والله يُحِبُّ المحسنين} وفيه دقيقة لطيفة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا : {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين ، كأن الله تعالى يقول لهم :
إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيبا لنفسي ، حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز.
وأيضاً : إنهم لما أرادوا الإقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من الله تعالى ، فعند ذلك سماهم بالمحسنين ، وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الإتيان بالفعل الحسن ، إلا إذا أعطاه الله ذلك الفعل الحسن وأعانه عليه ، ثم إنه تعالى قال : {هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان} [ الرحمن : 60 ] وقال : {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [ يونس : 26 ] وكل ذلك يدل على أنه سبحانه هو الذي يعطي الفعل الحسن للعبد ، ثم أنه يثيبه عليه ليعلم العبد أن الكل من الله وبإعانة الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 25}(17/204)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ فآتاهم الله } أي بسبب قولهم ذلك كما تؤذن به الفاء { ثَوَابَ الدنيا } أي النصر والغنيمة قاله ابن جريج وقال قتادة : الفتح والظهور والتمكن والنصر على عدوهم ، قيل : وتسمية ذلك ثواباً لأنه مترتب على طاعتهم ، وفيه إجلال لهم وتعظيم ، وقيل : تسمية ذلك ثواباً مجاز لأنه يحاكيه.
واستشكل تفسير ابن جريج بأن الغنائم لم تحل لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالاً جاءت نار من السماء فأخذته فكيف تكون الغنيمة ثواباً دنيوياً ولم يصل للغانمين منها شيء ؟ا وأجيب بأن المال الذي تأخذه النار غير الحيوان ، وأما الحيوان فكان يبقى للغانمين دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكان ذلك هو الثواب الدنيوي { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } أي وثواب الآخرة الحسن ، وهو عند ابن جريج رضوان الله تعالى ورحمته ، وعند قتادة هي الجنة ، وتخصيص الحسن بهذا الثواب للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى ، ولعل تقديم ثواب الدنيا عليه مراعاة للترتيب الوقوعي ، أو لأنه أنسب بما قبله من الدعاء بالنصر على الكافرين.
{ والله يُحِبُّ المحسنين } تذييل مقرر لما قبله فإن محبة الله سبحانه للعبد مبدأ كل خير وسعادة ، واللام إما للعهد ووضع الظاهر موضع المضمر إيذاناً بأن ما حكى عنهم من باب الإحسان ، وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وفيه على كلا التقديرين ترغيب للمؤمنين في تحصيل ما حكى من المناقب الجليلة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 86}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}
قوله جلّ ذكره : { فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا }.(17/205)
وأقل ذلك القناعة ثم الرضا ثم العيش معه ثم الأُنس في الجلوس بين يديه ثم كمال الفرح بلقائه ، ثم استقلال السرِّ بوجوده.
{ وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ }.
يعني دخولهم الجنة محررون عنها ، غير داخلين في أسرها.
ويقال ثوابُ الدنيا والآخرة الغيبةُ عن الدارين برؤية خالقهما.
ولمّا قال { ثَوَابَ الدُّنْيَا } قال في الآخرة { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } فوجب أن يكون لثواب الآخرة مزية على ثواب الدنيا حيث خصَّه بوصف الحسن ، وتلك المزية دوامها وتمامها وثمارها ، وأنها لا يشوبها ما ينافيها ، ويوقع آفةً فيها. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 283 ـ 284}(17/206)
قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}
مناسبة الآيتين لما قبلهما
قال البقاعى :
ولما أمر سبحانه وتعالى بطاعته الموجبة للنصر والأجر وختم بمحبته للمحسنين ، حذر من طاعة الكافرين المقتضية للخذلان رغبة في موالاتهم ومنا صرتهم فقال تعالى واصلاً بالنداء في آية الربا : {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {إن تطيعوا} بخضوع واستئمان أو غيره {الذين كفروا} أي هذا الفريق منهم أو غيره {يردوكم على أعاقبكم} بتعكيس أحوالكم إلى أن تصيروا مثلهم ظالمين كافرين {فتنقلبوا خاسرين} في جميع أموركم في الدارين ، فتكونوا في غاية البعد من أحوال المحسنين ، فتكونوا بمحل السخط من الله صغرة تحت أيدي الأعداء في الدنيا خالدين في العذاب في الأخرى ، وذلك ناظر إلى قوله تعالى أول ما حذر من مكر الكفار
{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب} [ آل عمران : 100 ] ، وموضح أن جميع هذه الآيات شديد اتصال بعضها ببعض - والله الموفق.
ولما كان التقدير : فلا تطيعوهم ، إنهم ليسوا صالحين للولاية مطلقاً ما دمتم مؤمنين ، عطف عليه قوله : {بل الله} أي الملك الأعظم {مولاكم} مخبراً بأنه ناصرهم وأن نصره لا يساويه نصر أحد سواه بقوله : {وهو خير الناصرين} أي لأن من نصره سبب له جميع أسباب النصر وأزال عنه كل أسباب الخذلان فمنع غيره - كائناً من كان - من إذلاله. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 165 ـ 166}
وقال الفخر :(17/207)
اعلم أن هذه الآية من تمام الكلام الأول ، وذلك لأن الكفار لما أرجفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل ، ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر ، منع الله المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين.
فقال : {يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 25}
فصل
قال الفخر :
قيل : {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} المراد أبو سفيان ، فإنه كان كبير القوم في ذلك اليوم ، قال السدي : المراد أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن ، وقال آخرون : المراد عبدالله بن أبي وأتباعه من المنافقين ، وهم الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة وقالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة ، وإنما هو رجل كسائر الناس ، يوما له ويوما عليه ، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه ، وقال آخرون : المراد اليهود لأنه كان بالمدينة قوم من اليهود ، وكانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين ، ولا سيما عند وقوع هذه الواقعة ، والأقرب أنه يتناول كل الكفار ، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 25 ـ 26}
قوله : {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ فَتَنقَلِبُواْ خاسرين}
قال الفخر :
قوله : {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} لا يمكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه بل لا بد من التخصيص فقيل : إن تطيعوهم فيما أمروكم به يوم أحد من ترك الإسلام ، وقيل : إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم من الضلال ، وقيل في المشورة ، وقيل في ترك المحاربة وهو قولهم : {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} [ آل عمران : 156 ].
ثم قال : {يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم} يعني يردوكم إلى الكفر بعد الإيمان ، لأن قبول قولهم في الدعوة إلى الكفر كفر.
ثم قال : {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين }.(17/208)
واعلم أن اللفظ لما كان عاما وجب أن يدخل فيه خسران الدنيا والآخرة ، أما خسران الدنيا فلأن أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له وإظهار الحاجة اليه ، وأما خسران الآخرة فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 26}
فصل
قال أبو حيان :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } الخطاب عامّ يتناول أهل أحد وغيرهم.
وما زال الكفار مثابرين على رجوع المؤمنين عن دينهم ، ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء.
وودُّوا لو تكفرون ، لن تنفعكم { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كفاراً } { ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } وقيل : الخطاب خاص بمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين يوم أحد.
فعلى الأول علق على مطلق طاعتهم الرد على العقب والانقلاب بالخسران وهذا غاية في التحرز منهم والمجانبة لهم ، فلا يطاعون في شيء ولا يشاورون ، لأن ذلك يستجر إلى موافقتهم ، ويكون الذين كفروا عاماً.
وعلى القول الثاني : يكون الذين كفروا خاصاً.
فقال عليّ وابن عباس : هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد : لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه فارجعوا إلى إخوانكم.
وقال ابن جريج : هم اليهود والنصارى وقاله : الحسن.
وعنه : إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم لأنهم كانوا يستغوونهم ، ويوقعون لهم الشبه ، ويقولون : لو كان لكم نبياً حقاً لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم ، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس ، يوماً له ويوماً عليه.
وقال السدي : هم أبو سفيان وأصحابه من عباد الأوثان.
وقال الحسن أيضاً : هو كعب وأصحابه.(17/209)
وقال أبو بكر الرّازي : فيها دلالة على النهي عن طاعة الكفار مطلقاً ، لكن أجمع المسلمون على أنه لا يندرج تحته من وثقنا بنصحه منهم ، كالجاسوس والخرّيت الذي يهدي إلى الطريق ، وصاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة ، والزوجة تشير بصواب. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 82}
وقال ابن عجيبة عن هذا الخطاب :
وقيل : عام في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم ؛ فإنه يجر إلى موافقتهم على دينهم ، لا سيما إن طالت مدة الاستئمان.
قلت : وهذا هو السبب في ارتداد من بقي من المسلمين بالأندلس حتى رجعوا نصارى ، هم وأولادهم ، والعياذ بالله من سوء القضاء. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 345}(17/210)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ } شروع في زجر المؤمنين عن متابعة الكفار ببيان مضارها إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان فضائله ، وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار الإعتناء بما في حيزه ، ووصفهم بالإيمان لتذكيرهم بحال ينافي تلك الطاعة فيكون الزجر على أكمل وجه والمراد من الذين كفروا إما المنافقون لأن الآية نزلت كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه حين قالوا للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم والتعبير عنهم بذلك قصداً إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير عن طاعتهم ، وإما أبو سفيان وأصحابه وحينئذ فالمراد بإطاعتهم الإستكانة لهم وطلب الأمان منهم وإلى ذلك ذهب السدي ، وإما اليهود والنصارى فالمراد حينئذ لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم ولا تصدقوهم بشيء في ذلك ، وإليه ذهب ابن جريج ، وحكي أنهم كانوا يلقون إليهم الشبه في الدين ويقولون : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً لما غلب وَلمَا أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوماً عليه ويوماً له فنهوا عن الإلتفات إليها ، وإما سائر الكفار.
وذهب إلى جواز ذلك بعض المتأخرين ، وأتى بإن للإيذان بأن الإطاعة بعيدة الوقوع من المؤمنين.
{ يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم } أي يرجعوكم إلى أول أمركم وهو الشرك بالله تعالى والفعل جواب الشرط.(17/211)
وصح ذلك بناءاً على المأثور عن علي كرم الله تعالى وجهه من أن الكلام معه في قوة { إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ } في قولهم : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم يدخلوكم في دينهم ، ويؤول إلى قولك : إن تدخلوا في دينهم تدخلوا في دينهم وفيه اتحاد الشرط والجزاء بناءاً على أن الإرتداد على العقب علم في انتكاس الأمر ومثل في الحور بعد الكور ، وقيل : إن المراد بالإطاعة الهمّ بها والتصميم عليها أي إن تصمموا على إطاعتهم في ذلك تردوا وترجعوا إلى ما كنتم عليه من الكفر وهذا أبلغ في الزجر إلا أنه بعيد عن اللفظ ، وجوز أن تكون جوابيته باعتبار كونه تمهيداً لقوله تعالى : { فَتَنقَلِبُواْ خاسرين } أي فترجعوا خاسرين لخير الدنيا وسعادة الآخرة وذلك أعظم الخسران. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 87}
وقال ابن عاشور :
و { الَّذين كفروا } شائع في اصطلاح القرآن أن يراد به المشركون ، واللفظ صالح بالوضع لكلّ كافر من مشرك وكتابي ، مظهر أو منافق.
والردّ على الأعقاب : الارتداد ، والانقلاب : الرجوع ، وقد تقدّم القول فيهما عند قوله : { أفأين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } [ آل عمران : 144 ] فالظاهر أنَّه أراد من هذا الكلام تحذير المؤمنين من أن يُخامرهم خاطر الدخول في صلح المشركين وأمانهم ، لأنّ في ذلك إظهار الضّعف أمامهم ، والحاجة إليهم ، فإذا مالوا إليهم استدرجوهم رويداً رويداً ، بإظهار عدم كراهية دينهم المخالف لهم ، حتَّى يردّوهم عن دينهم لأنَّهم لن يرضوا عنهم حتَّى يرجعوا إلى ملّتهم ، فالردّ على الأعقاب على هذا يحصل بالإخارة والمآل ، وقد وقعت هذه العبرة في طاعة مسلمي الأندلس لطاغية الجلالقة.(17/212)
وعلى هذا الوجه تكون الآية مشيرة إلى تسفيهِ رأي من قال : "لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان" كما يدلّ عليه قوله : { بل الله مولاكم }.
ويحتمل أن يراد من الطاعة طاعة القول والإشارة ، أي الامتثال ، وذلك قول المنافقين لهم : لو كان محمد نبيئاً ما قُتل فارجعوا إلى إخوانكم وملّتكم.
ومعنى الردّ على الأعقاب في هذا الوجه أنَّه يحصل مباشرة في حال طاعتهم إيّاهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 247}
قوله تعالى : {بَلِ الله مولاكم وَهُوَ خَيْرُ الناصرين}
قال الفخر :
والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا جهل ، لأنهم عاجزون متحيرون ، والعاقل يطلب النصرة من الله تعالى ، لأنه هو الذي ينصركم على العدو ويدفع عنكم كيده ، ثم بين أنه خير الناصرين ، ولو لم يكن المراد بقوله : {مولاكم وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} النصرة ، لم يصح أن يتبعه بهذا القول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 26}.
وقال الآلوسى :
{ بَلِ الله مولاكم } إضراب وترك للكلام الأول من غير إبطال والمعنى ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ولا ينصرونكم بل الله ناصركم لا غيره.
{ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } لأنه القوي الذي لا يغلب والناصر في الحقيقة فينبغي أن يخص بالطاعة والاستعانة ، والجملة معطوفة على ما قلبها. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 87}. بتصرف يسير.
فائدة
قال ابن عاشور :
و { خير النَّاصرين } هو أفضل الموصوفين بالوصف ، فيما يراد منه ، وفي موقعه ، وفائدته ، فالنصر يقصد منه دفع الغلب عن المغلوب ، فمتى كان الدفع أقطع للغالب كان النصر أفضل ، ويقصد منه دفع الظلم فمتى كان النصر قاطعاً لظلم الظالم كان موقعه أفضل ، وفائدته أكمل ، فالنصر لا يخلو من مدحة لأنّ فيه ظهور الشَّجاعة وإباء الضيم والنجدة.(17/213)
قال ودّاك بنُ ثمَيْل المازني :
إذا استنجدوا لمْ يسْألوا من دعاهم
لأية حرب أم بأي مكان...
ولكنّه إذا كان تأييداً لظالم أو قاطع طريق ، كان فيه دَخَل ومذمّة ، فإذا كان إظهاراً لحقِّ المحقّ وإبطالِ الباطل ، استكمل المحمدة ، ولذلك فَسّر النَّبيء صلى الله عليه وسلم نصر الظالم بما يناسب خُلُق الإسلام لمّا قال : " انصر أخاك ظالماً ومظلوماً " فقال بعض القوم : هذا أنصره إذا كان مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً ؟ فقال : " أنْ تنصره على نفسه فتكفّه عن ظلمه ". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 247 ـ 248}
وقال أبو حيان :
{ وهو خير الناصرين } لما ذكر أنه مولاهم ، أي ناصرهم ذكر أنّه خير ناصر لا يحتاج معه إلى نصرة أحد ، ولا ولايته.
وفي هذا دلالة على أن من قاتل لنصر دين الله لا يخذل ولا يغلب لأن الله مولاه.
وقال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم } { إن ينصركم الله فلا غالب لكم }. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 82 ـ 83}.
فائدة
قال الفخر :
وإنما كان تعالى خير الناصرين لوجوه :
الأول : أنه تعالى هو القادر على نصرتك في كل ما تريد ، والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرعك ، والكريم الذي لا يبخل في جوده ، ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه ،
والثاني : أنه ينصرك في الدنيا والآخرة ، وغيره ليس كذلك ،
والثالث : أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة ، كما قال : {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار} [ الأنبياء : 42 ] وغيره ليس كذلك.
واعلم أن قوله : {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} ظاهره يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصرين وهو منزه عن ذلك ، لكنه ورد الكلام على حسب تعارفهم كقوله : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [ الروم : 27 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 26}(17/214)
فصل
قال الطبرى :
وإنما قيل : "بل الله مولاكم" ، لأن في قوله : "إن تطيعوا الذين كفروا يردُّوكم على أعقابكم" ، نهيًا لهم عن طاعتهم ، فكأنه قال : يا أيها الذين آمنوا لا تُطيعوا الذين كفروا فيردُّوكم على أعقابكم ، ثم ابتدأ الخبر فقال : "بل الله مولاكم" ، فأطيعوه ، دون الذين كفروا ، فهو خيرُ من نَصَر.
ولذلك رفع اسم"الله" ، ولو كان منصوبًا على معنى : بل أطيعوا الله مولاكم ، دون الذين كفروا كان وجهًا صحيحًا.
ويعني بقوله : "بل الله مولاكم" ، وليّكم وناصركم على أعدائكم الذين كفروا ، "وهو خير الناصرين" ، لا من فررتم إليه من اليهود وأهل الكفر بالله. فبالله الذي هو ناصركم ومولاكم فاعتصموا ، وإياه فاستنصروا ، دون غيره ممن يبغيكم الغوائل ، ويرصدكم بالمكاره. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 278}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { بَلِ الله مَوْلاَكُمْ } مبتدأ وخبر ، وقرأ الحسنُ بنصب الجلالةِ ؛ على إضمار فِعْل يدل عليه الشرط الأول ، والتقدير : لا تطيعوا الذين كفروا ، بل أطيعوا الله ، و" مَوْلاَكُمْ " صفة.
وقال مَكِّي : " وأجاز الفرَّاء : بل الله - بالنصب - " كأنه لم يطلع على أنها قراءة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 593}.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
بل الله مولاكم : ناصركم ومعينكم وسيدكم ومصلح أموركم ، { وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } : لأنه يعينكم على أنفسكم ليكفيكم شرَّها ، ومَنْ سواه يزيد في بلائكم إذا ناصروكم لأنهم يعينون أنفسكم عليكم.
{ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } لأن مَنْ سواه يمن عليك بنصرته إياك ، وهو يجازيك على استنصارك به.
ويقال كل من استنصرت به احتجتَ إلى أن تُعْطِيَه شيئاً من كرائمك ثم قد ينصرك وقد لا ينصرك ، فإذا استنصرته - سبحانه - يعطيك كلّ لطيفة ، ولا يرضى بألا ينصرك. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 284}(17/215)
قوله تعالى : {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)}
قال البقاعى :
{سنلقي} أي بعظمتنا {في قلوب الذين كفروا الرعب} أي المقتضي لامتثال ما أمر به من الجرأة عليهم وعدم الوهن في أمرهم ، كما افتتح القصة بالإيماء إلى ذلك بالأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة المكذبين ، ثم بين سبب ذلك فقال : {بما أشركوا بالله} أي ليعلموا قطعاً أنه لا ولي لعدوه لأنه لا كفوء له ، وبين بقوله : {ما لم ينزل} أي في وقت من الأوقات {به سلطاناً} أنه لا حجة لهم في الإشراك ، وما لم ينزل به سلطاناً فلا سلطان له ، ومادة سلط ترجع إلى القوة ، ولما كان التقدير : فعليهم الذل في الدنيا لاتباعهم ما لا قوة به ، عطف عليه : {ومأواهم النار} ثم هوّل أمرها بقوله : {وبئس مثوى الظالمين} أي هي ، وأظهر في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 166}
وقال الفخر :
اعلم أن هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره ، فإنه تعالى ذكر وجوها كثيرة في الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار ، ومن جملتها ما ذكر في هذه الآية أنه تعالى يلقي الخوف في قلوب الكفار ، ولا شك أن ذلك مما يوجب استيلاء المسلمين عليهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 27}(17/216)
وقال الآلوسى :
{ سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } كالبيان لما قبل ، وعبر بنون العظمة على طريق الالتفات جرياً على سنن الكبرياء لتربية المهابة ، والسين لتأكيد الإلقاء ، و( الرعب ) بسكون العين الخوف والفزع أي سنقذف ذلك في قلوبهم ، والمراد من الموصول أبو سفيان وأصحابه ، فقد أخرج ابن جرير عن السدي قال : "لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق ثم إنهم ندموا فقالوا : بئس ما صنعتم إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم ارجعوا فاستأصلوا فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فانهزموا فلقوا أعرابياً فجعلوا له جُعْلاً فقالوا له إن لقيت محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخبرهم بما قد جمعنا لهم فأخبر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد فأنزل الله تعالى في ذلك هذه الآية يذكر فيها أمر أبي سفيان وأصحابه ، وقيل : إن الآية نزلت في يوم الأحزاب ، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نصرت بالرعب على العدو " ، وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أمامة " نصرت بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي " ، وقرىء { سيلقى } بالياء ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي { كَفَرُواْ الرعب } بضم العين وهي لغة فيه ، وقيل : الضم هو الأصل والسكون للتخفيف ، وقيل : الأصل السكون والضم للإتباع. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 87 ـ 88}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن هذا الوعد هل هو مختص بيوم أحد ، أو هو عام في جميع الأوقات ؟
قال كثير من المفسرين : إنه مختص بهذا اليوم ، وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة ، ثم القائلون بهذا القول ذكروا في كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين في هذا اليوم وجهين :(17/217)
الأول : أن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم ، فتركوهم وفروا منهم من غير سبب ، حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل ، وقال : أين ابن أبي كبشة ، وأين ابن أبي قحافة ، وأين ابن الخطاب ، فأجابه عمر ، ودارت بينهما كلمات ، وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم ،
والثاني : أن الكفار لما ذهبوا إلى مكة ، فلما كانوا في بعض الطريق قالوا : ما صنعنا شيئاً ، قتلنا الأكثرين منهم ، ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم.
والقول الثاني : أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد ، بل هو عام.
قال القفال رحمه الله : كأنه قيل إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار ، ويظهر دينكم على سائر الأديان.
وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل ، ونظير هذه الآية قوله عليه السلام " نصرت بالرعب مسيرة شهر ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 27}
لطيفة
قال القرطبى :
والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام ؛ قال الله تعالى : { وَأَلْقَى الألواح } [ الأعراف : 150 ] { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ } [ الشعراء : 44 ] { فألقى موسى عَصَاهُ } [ الشعراء : 45 ].
قال الشاعر :
فألقَتْ عصاها واستقر بها النَّوَى . . .
ثم قد يستعمل مجازاً كما في هذه الآية ، وقوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي }.
وألقى عليك مسألة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 232 ـ 233}(17/218)
وقال ابن عاشور :
والإلقاءُ حقيقته رمي شيء على الأرض { فألقوا حبالهم وعصيّهم } [ الشعراء : 44 ] ، أو في الماء { فألقِيه في اليمّ } [ القصص : 7 ] ويطلق على الإفضاء بالكلام { يُلقُون السمع } [ الشعراء : 223 ] وعلى حصول الشيء في النفس كأنّ ملقياً ألقاه أي من غير سبق تهيّؤ { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } [ المائدة : 64 ] وهو هنا مجاز في الجعل والتَّكوين كقوله : { وقذف في قلوبهم الرعب } [ الأحزاب : 26 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 248}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن عامر والكسائي {الرعب} بضم العين ، والباقون بتخفيفها في كل القرآن ، قال الواحدي : هما لغتان ، يقال : رعبته رعبا ورعبا وهو مرعوب ، ويجوز أن يكون الرعب مصدرا ، والرعب اسم منه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 27}
فائدة
قال الفخر :
الرعب : الخوف الذي يحصل في القلب ، وأصل الرعب الملء ، يقال سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار ، وإنما سمي الفزع رعبا لأنه يملأ القلب خوفا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 27}
فصل
قال الفخر :
ظاهر قوله : {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار ، فذهب بعض العلماء إلى اجراء هذا العموم على ظاهره ، لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين ، إما في الحرب ، وإما عند المحاجة.
وقوله تعالى : {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} لا يقتضي وقوع جميع أنواع الرعب في قلوب الكفار ، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه ، وذهب جمع من المفسرين إلى أنه مخصوص بأولئك الكفار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 27}(17/219)
فصل
قال ابن عاشور :
والرعب : الفزع من شدّة خوف ، وفيه لغتان الرعْب بسكون العين والرعُب بضم العين وقرأه الجمهور بسكون العين وقرأه ابن عامر ، والكسائي بضم العين.
والبَاء في قوله : { بما أشركوا بالله } للعِوض وتسمّى باء المقابلة مثل قولهم : هذه بتلك ، وقوله تعالى : { جزاء بما كسبا } [ المائدة : 38 ] ، وهذا جزاء دنيوي رتّبهُ الله تعالى على الإشراك به ، ومن حكمته تعالى أن رتّب على الأمور الخبيثة آثاراً خبيثة ، فإنّ الشرك لمّا كان اعتقاد تأثير من لا تأثير له ، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل ، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرِب النَّفس متحيّراً في العاقبة في تغلّب بعض الآلهة على بعض ، فيكون لكلّ قوم صَنم هم أخصّ به ، وهم في تلك الحالة يعتقدون أنّ لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة.
فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة.
كمَا لا يزال أتباعهم كذلك ، والَّذين حالهم كما وصفنا لا يستقرّ لهم قرار في الثِّقة بالنَّصر في حروبهم ، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها ، وعليه فقوله : { ما لم ينزل به سلطاناً } صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء ، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنَّه من أسباببِ إلقاء الرعب في قلوبهم ، إذ هم على غير يَقين فيما أشركوا واعتقدوا ، فقلوبهم وَجِلة متزلزلة ، إذ قد علم كلّ أحد أن الشركاء يَستحيل أن ينزل بهم سلطان.(17/220)
فإن قلتَ : ما ذكرتَه يقتضي أنّ الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله ، فيتعيّن أن يكون الرعب نازلاً في قلوبهم من قبل هذه الوقعة ، والله يقول { سنلقي } " أي في المستقبل ، قلت : هو كذلك إلاّ أنّ هذه الصّفات تستكنّ في النفوس حتَّى يدعو داعي ظهورها ، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال ، وتقويان وتضعفان ، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرّر الانتصار ، وقد ينزوي قليلاً إذا انهزم ثُمّ تعود له صفته سرعَى.
كما وصفه عمرو بن الإطْنابَةِ في قوله :
وقَوْلي كُلَّمَا جَشَأتْ وجَاشَتْ...
مَكَانَككِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحِي
وقول الحُصَيْنِ بن الحُمَام :
تَأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجدْ...
لِنَفْسِي حَيَاة مثلَ أنْ أتَقدّمَا
وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار ، فالمشركون لما انهزموا بادِىء الأمر يومَ أُحُد ، فُلَّت عزيمتهم ، ثُمّ لمّا ابتلَى الله المؤمنين بالهزيمة راجعَهم شيء من الشجاعة والازدهاء ، ولكنّهم بعد انصرافِهم عَاوَدَتْهم صفاتهم ، ( وتأبَى الطِبَاعُ عَلى الناقل ).
فقوله : { سنُلقي } أي إلقاءَ إعادةِ الصفة إلى النُّفوس ، ولك أن تجعل السين فيه لمجرّد التَّأكيد أي ألقينا ونُلقي ، ويندفع الإشكال.(17/221)
وكثير من المفسِّرين ذكروا أنّ هذا الرعب كانت له مظاهر : منها أنّ المشركين لمَّا انتصروا على المسلمين كان في مكنتهم أن يوغلوا في استئصالهم إلاّ أنّ الرعب صدّهم عن ذلك ، لأنَّهم خافوا أن تعود عليهم الهزيمة ، وتدور عليهم الدائرة ، ومنها أنَّهم لمَّا انصرفوا قاصدين الرجوع إلى مكَّة عنّ لهم في الطريق ندم ، وقالوا : لو رجعنا فاقتفينا آثار محمد وأصحابه ، فإنّا قتلناهم ولم يبق إلاّ الفَلّ والطَّريد ، فلْنرجع إليهم حتَّى نستأصلهم ، وبلغ ذلك النَّبيء صلى الله عليه وسلم فندب المسلمين إلى لقائهم ، فانتدبوا ، وكانوا في غاية الضعف ومثقّلين بالجراحة ، حتَّى قيل : إنّ الواحد منهم كان يحمل الآخر ثمّ ينزل المحمول فيحمل الَّذي كان حامله ، فقيّض الله مَعْبَد بنَ أبي مَعْبَد الخُزَاعي وهو كافر فجاء إلى رسول الله فقال : "إنّ خزاعة قد ساءها ما أصابك ولوَدِدْنا أنَّك لم تُرزأ في أصحابك" ثُمّ لحق معبد بقريش فأدركهم بالرّوْحَاء قد أجمعوا الرجعة إلى قتال المسلمين فقال له أبو سفيان : ما وراءَك يا معبد ، قال : محمد وأصحابه قد خرجوا يطلبونكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرّقون عليكم ، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه ، فقال : ويلك ، ما تقول ؟ قال : ما أرى أنَّك ترتحلُ حتَّى ترى نواصي الخيل ولقد حملني ما رأيت منه على أن قلتُ فيه :
كَادَت تُهَدّ من الأصوات راحلتي...
إذْ سالت الأرض بالجُرْد الأبابيلِ
تَرْدِي بأسْدٍ كراممٍ لا تَنابِلَةٍ...
عند اللِّقاء ولا مِيللٍ مَعَازِيلِ
فَظَلْتُ أعْدُو وأظُنّ الأرض مائلة...
لمّا سَمَوا برَئيس غير مخذولِ
فوقع الرّعب في قلوب المشركين وقال صفوان بن أميَّة : لا ترجعوا فإنِّي أرى أنَّه سيكون للقوم قتال غير الَّذي كان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 248 ـ 250}(17/222)
قوله تعالى : {بِمَا أَشْرَكُواْ بالله}
قال الفخر :
اعلم أن "ما" مصدرية ، والمعنى : بسبب إشراكهم بالله.
واعلم أن تقدير هذا بالوجه المعقول هو أن الدعاء إنما يصير في محل الاجابة عند الاضطرار كما قال : {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [ النحل : 62 ] ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار ، لأنه يقول : إن كان هذا المعبود لا ينصرني ، فذاك الآخر ينصرني ، وإن لم يحصل في قلبه الاضطرار لم تحصل الاجابة ولا النصرة ، وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعب والخوف في قلبه ، فثبت أن الإشراك بالله يوجب الرعب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 27 ـ 28}
قوله : {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا}
فصل
قال الفخر :
السلطان ههنا هو الحجة والبرهان ، وفي اشتقاقه وجوه : الأول : قال الزجاج : إنه من السليط وهو الذي يضاء به السراج ، وقيل للأمراء سلاطين لأنهم الذين بهم يتوصل الناس إلى تحصيل الحقوق.
الثاني : أن السلطان في اللغة هو الحجة ، وإنما قيل للأمير سلطان ، لأن معناه أنه ذو الحجة.
الثالث : قال الليث : السلطان القدرة ، لأن أصل بنائه من التسليط وعلى هذا سلطان الملك : قوته وقدرته ، ويسمى البرهان سلطاناً لقوته على دفع الباطل.
الرابع : قال ابن دريد : سلطان كل شيء حدته ، وهو مأخوذ من اللسان السليط ، والسلاطة بمعنى الحدة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 28}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } حجّةً وبياناً ، وعُذْراً وبرهاناً ؛ ومن هذا قيل للوالي سلطان ؛ لأنه حجة الله عزّ وجلّ في الأرض.
ويُقال : إنه مأخوذ من السَّلِيط وهو ما يُضاء به السِّراج ، وهو دُهْنُ السّمْسِم ؛ قال امرؤ القيس :
أَمَالَ السَّلِيطَ بالذُّبَالِ المُفَتَّلِ . . .
فالسلطان يُستضاء به في إظهار الحق وقمع الباطل.(17/223)
وقيل السَّلِيط الحديد.
والسَّلاطَة الحدّة.
والسلاطة من التسليط وهو القهر ؛ والسلطان من ذلك ، فالنون زائدة.
فأصل السلطان القوّة ، فإنّه يُقهر بها كما يُقهر بالسلطان.
والسَّلِيطَة المرأة الصَّخَّابَةِ.
والسَّلِيط الرجل الفصيح اللسان.
ومعنى هذا أنه لم تثبت عبادة الأوثان في شيء من المِلَل ، ولم يَدلّ عقلٌ على جواز ذلك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 233}
فصل
قال الفخر :
قوله : {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} يوهم أن فيه سلطانا إلا أن الله تعالى ما أنزله وما أظهره ، إلا أن الجواب عنه أنه لو كان لأنزل الله به سلطانا ، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه ، وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون : أن هذا مما لا دليل عليه فلم يجز إثباته ، ومنهم من يبالغ فيقول : لا دليل عليه فيجب نفيه ، ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع ، فقال : لا سبيل إلى إثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات اليه ، ويكفي في دفع هذه الحاجة إثبات الصانع الواحد ، فما زاد عليه لا سبيل إلى إثباته فلم يجز إثباته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 28}(17/224)
وقال الآلوسى :
{ بِمَا أَشْرَكُواْ بالله } أي بسبب إشراكهم بالذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال ولإشعار هذا الاسم بالعظمة المنافية للشركة أتى به ، والجار الأول متعلق ، ب سنلقي دون الرعب ولا يمنع من ذلك تعلق في به لاختلاف المعنى والثاني متعلق بما عنده وكان الاشراك سبباً لالقاء الرعب لأنه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعي الرعب { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ } أي بإشراكه ، وقيل : بعبادته ، وما نكرة موصوفة أو موصولة اسمية وليست مصدرية { سلطانا } أي حجة ، والإتيان بها للإشارة بأن المتبع في باب التوحيد هو البرهان السماوي دون الآراء والأهواء الباطلة ، وسميت بذلك لأنه بها يتقوى على الخصم ويتسلط عليه ، والنون زائدة ، وقيل : أصلية ، وذكر عدم إنزال الحجة مع استحالة تحققها من باب انتفاء المقيد لانتفاء قيده اللازم أي لا حجة حتى ينزلها ، فهو على حد قوله في وصف مفازة :
لا يفزع الأرنب أهوالها...
ولا ترى الضب بها ينجحر
إذ المراد لا ضب بها حتى ينجحر فالمراد نفيهما جميعاً وهذا كقولهم : السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ، وما ذكرنا من استحالة تحقق الحجة على الإشراك يكاد يكون معلوماً من الدين بالضرورة(17/225)
أما في الإشراك بالربوبية فظاهر إذ كيف يأمر الله سبحانه باعتقاد أن خالق العالم اثنان مشتركان في وجوب الوجود والاتصاف بكل كمال ، وأما الإشراك في الألوهية الذي عليه أكثر المشركين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأنه يفضي إلى الأمر باعتقاد أشياء خلاف الواقع مما كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وقد ردّه عليهم ، فقول عصام الملة : ونحن نقول الحجة على الإشراك تحت قدرته تعالى لو شاء أنزلها إذ لو أمر بإشراك الأصنام به في العبادة لوجبت العبادة لا أراه إلا حلا لعصام الدين لأن لا إله إلا الله المخاطب بها الثنوية والوثنية تأبى إمكان ذلك كما لا يخفى على من اطلع على معنى هذه الكلمة الطيبة رزقنا الله تعالى الموت عليها ولا جعلنا ممن أشركوا بالله تعالى ما لم ينزل به سلطاناً. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 88}
فائدة
قال الفخر :
هذه الآية دالة على فساد التقليد ، وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه ، فوجب أن يكون القول به باطلا ، وهذا إنما يصح إذا كان القول باثبات ما لا دليل على ثبوته يكون باطلا ، فيلزم فساد القول بالتقليد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 28}
قوله تعالى : {وَمَأْوَاهُمُ النار }
قال الفخر :
واعلم أنه تعالى بين أن أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا هو وقوع الخوف في قلوبهم ، وبين أحوالهم في الآخرة ، وهي أن مأواهم ومسكنهم النار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 28}
قوله تعالى {وَبِئْسَ مثوى الظالمين}
قال الفخر :
المثوى : المكان الذي يكون مقر الأنسان ومأواه ، من قولهم : ثوى يثوي ثويا ، وجمع المثوى مثاوي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 28}(17/226)
وقال الآلوسى :
{ وَبِئْسَ مثوى الظالمين } أي مثواهم وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 88}
لطيفة
قال أبو حيان :
ونبه على الوصف الذي استحقوا به النار وهو الظلم ، ومجاوزة الحد إذ أشركوا بالله غيره.
كما قال : { إن الشرك لظلم عظيم }. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 84}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { سَنُلْقِي } الجمهور بنون العظمة ، وهو التفات من الغيبة - في قوله : { وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه - تعالى -.
وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ " سَيُلْقِي " بالغيبة ؛ جَرْياً على الأصل. وقدم المجرور على المفعول به ؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال : والإلقاء - هنا - مجاز ؛ لأن أصلَه في الأجرام ، فاستُعِيرَ هنا ، كقول الشَّاعر : [ الطويل ]
هُمَا نَفَثَا فِي فِيء مِنْ فَمَويْهِمَا... عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ
وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ ، وأبو جعفرٍ ، ويعقوبُ : " الرُّعْب " و" رُعْباً " - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل : هما لغتان.
وقيل : الأصل الضم ، وخُفِّف ، وهذا قياس مطردٌ.
وقيل : الأصلُ السكون ، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح ، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ.
والرُّعْب : الخوف ، يقال : رعبته ، فهو مرعوب ، وأصله من الامتلاء ، يقال : رَعَبْتُ الحوض ، أي : ملأته وسَيْل راعب ، أي : ملأ الوادي.(17/227)
قوله : { فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 156 ] متعلق بالإلقاء ، وكذلك { بِمَآ أَشْرَكُواْ } ولا يضر تعلُّق الحرفين ؛ لاختلاف معناهما ، فإن " في " للظرفية ؛ الباء للسببية. و" ما " مصدرية ، و" ما " الثانية مفعول به لِ " أشْرَكُوا " وهي موصولة بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والراجع : الهاء في " به " ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها ، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي : الحجة - كأنه قيل : لا سُلطان على الإشراك فينزل.
كقول الشاعر : [ السريع ]
................... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أي لا ينجحر الضَّبُّ بها ، فيُرَى.
ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
عَلَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ...................
أي : لا منار فيهتدى به ، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً. و" سُلْطَاناً " مفعول به لِ " يُنَزِّلُ ".
قوله : { بِمَآ أَشْرَكُواْ } " ما " مصدرية ، والمعنى : بسبب إشراكهم باللهِ ، وتقريره : أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار ، كقوله : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار ؛ لأنه يقول : إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني ، فالآخر ينصرني ، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الإجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ.
قوله : { وَبِئْسَ مثوى الظالمين } المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : مثواهم ، أو النار.
المثوى : مَفْعَل ، من ثَوَيْتُ - أي : أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي ، ثم يئوي ، ولا يلزم المأوى الإقامة ، بخلاف عكسه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 594 ـ 596}. بتصرف يسير.(17/228)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت السين في {سنلقي} مفهمة للاستقبال كان ذلك ربما أوهم أنه لم يرغبهم فيما مضى ، فنفى هذا الوهم محققاً لهم ذلك بتذكيرهم بما أنجز لهم من وعده في أول هذه الوقعة مدة تلبسهم بما شرط عليهم من الصبر والتقوى بقوله تعالى - عطفاً على قوله : {بلى إن تصبروا وتتقوا} [ آل عمران : 125 ] ، مصرحاً بما لوح إليه تقديراً قبل {ولقد نصركم الله ببدر} [ آل عمران : 123 ] كما مضى - : {ولقد صدقكم الله وعده} أي في قوله {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم} [ آل عمران : 120 ] {إذ تحسونهم} أي تقتلونهم بعضهم بالفعل والباقين بالقوة التي هيأها لكم {بإذنه} فإن الحسن بالفتح : القتل والاستئصال - قاله في القاموس.(17/229)
ثم بين لهم سبب هزيمتهم بعد تمكينه منهم ليكون رادعاً لهم عن المعاودة إلى مثله فقال مبيناً لغاية الحسن : {حتى إذا فشلتم} أي ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة خلاف ما تدعو إليه الهمم العوالي ، فكيف بهم إذا كانوا من حزب مولى الموالي! فلو كانت العرب على حال جاهليتها تتفاخر بالإقبال على الطعن والضرب في مواطن الحرب والإعراض عن الغنائم - كما قال عنترة بن شداد العبسي يفتخر :
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك . . .
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
إذ لا أزال على رحالة سابح . . .
نهد تعاوره الكماة مكلم
طوراً يعرض للطعان وتارة . . .
يأوي إلى حصد القسي عرموم
يخبرك من شهد الوقيعة أنني . . .
أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم
وقال يفاخر بقومه كلهم :
إنا إذا حمس الوغى نروي القنا . . .
ونعف عند مقاسم الأنفال
ولما ذكر الفشل عطف عليه ما هو سببه في الغالب فقال : {وتنازعتم} أي بالاختلاف ، وأصله من نزع بعض شيئاً من يد بعض {في الأمر} أي أمر الثغر المأمور بحفظه {وعصيتم} أي وقع العصيان بينكم بتضييع الثغر.
وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء ، وتبشيراً بزوالها فقال : {من بعد ما أراكم ما تحبون} أي من حسهم بالسيوف وهزيمتهم.
ولما كان ذلك ربما أفهم أن الجميع عصوا نفي ذلك معللاً للعصيان بقوله : {منكم من يريد الدنيا} أي قد أغضى عن معايبها التي أجلاها فناؤها.
ولما كان حكم الباقين غير معين للفهم من هذه الجملة قال : {ومنكم من يريد الآخرة} وهم الثابتون في مراكزهم ، لما يعرجوا على الدنيا.(17/230)
ولما كان التقدير جواباً لإذا : سلطهم عليكم ، عطف عليه قوله : {ثم صرفكم عنهم} أي لاندهاشكم إتيانهم إليكم من ورائكم ، وعطفه بثم لاستبعادهم للهزيمة بعد ما رأوا من النصرة {ليبتليكم} أي يفعل في ذلك فعل من يريد الاختبار في ثباتكم على الدين في حالي السراء والضراء.
ولما كان اختباره تعالى بعصيانهم شديد الإزعاج للقلوب عطف على قوله {صرفكم} {ولقد عفا عنكم} أي تفضلاً عليكم لإيمانكم {والله} الذي له الكمال كله {ذو فضل على المؤمنين} أي كافة ، وهو من الإظهار في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 166 ـ 167}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها من وجوه :
الأول : أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر! فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الثاني : قال بعضهم كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق الله رؤياه بقتل طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين يوم أحد ، وقتل بعده تسعة نفر على اللواء فذاك قوله : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} يريد تصديق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثالث : يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى : {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} [ آل عمران : 125 ] إلا أن هذا كان مشروطاً بشرط الصبر والتقوى.
والرابع : يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله : {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} [ الحج : 40 ] إلا أن هذا أيضاً مشروط بشرط.
والخامس : يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله : {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [ آل عمران : 151 ](17/231)
والسادس : قيل : الوعد هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرماة : " لا تبرحوا من هذا المكان ، فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان "
السابع : قال أبو مسلم : لما وعدهم الله في الآية المتقدمة إلقاء الرعب في قلوبهم أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعد بالنصر في واقعة أحد ، فإنه لما وعدهم بالنصرة بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتوا بذلك الشرط لا جرم ، وفى الله تعالى بالمشروط وأعطاهم النصرة ، فلما تركوا الشرط لا جرم فاتهم المشروط. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 29}
وقال ابن عاشور :
{ ولقد صدقكم } عطف على قوله : { سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم ، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين ، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين : تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابقِ ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم ( التَّاريخ يعيد نفسه ) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم ، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده ، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 251}
فصل
قال القرطبى :
قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحُد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر! فنزلت هذه الآية.
وذلك أنهم قتلوا صاحبَ لِوَاء المشركين وسبعةَ نفر منهم بعدَه على اللواء ، وكان الظفر ابتداءً للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة ، وترك بعضُ الرّماة أيضاً مركزَهم طلباً للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة.(17/232)
روى البخاري " عن البَرَاء بن عازب قال : لما كان يوم أحُدٍ ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناساً من الرُّماة وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم : "لا تبرحوا من مكانكم ( إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ) وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تُعينونا عليهم" " قال : فلمّا التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يَشّتَدِدْن في الجبل ، وقد رفعن عن سُوقِهن قد بدت خلاخِلُهن فجعلوا يقولون : الغنيمةَ الغنيمةَ.
فقال لهم عبد الله : أمهلوا أما عَهِد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ تبرحوا ، فانطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقُتِل من المسلمين سبعون رجلاً.
ثم إنّ أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نَشَزٍ فقال : أفي القوم محمدٌ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تُجيبوه" حتى قالها ثلاثاً.
ثم قال : أفي القوم ابن أبي قُحافة ؟ ثلاثاً ، فقال النبيّ ؛ "لا تُجيبوه" ثم قال : أفي القوم عمر ( بن الخطاب ) ؟ ثلاثاً ، فقال النبيّ : "لا تُجيبوه" ثم التفت إلى أصحابه فقال : أمّا هؤلاء فقد قتِلوا.
فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال : كذبتَ يا عدوّ اللها قد أبقى الله لك من يُخزِيك به.
فقال : أُعْلُ هُبَل ؛ مرتين.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : "أجيبوه" فقالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال "قولوا اللَّهُ أعلى وأجَلّ".
قال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزّى لكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أجيبوه".
ما نقول يا رسول الله ؟ قال : قولوا "الله مولانا ولا مَوْلَى لكم".
قال أبو سفيان : يومٌ بِيَوْم بَدْرٍ ، والحرب سِجَال ، أمَا إنكم ستجدون في القوم مُثْلة لم آمر بها ولم تسؤْني.(17/233)
وفي البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاصٍ قال : رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحُد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ القتال.
وفي رواية عن سعد : عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبلُ ولا بعدُ.
يعني جِبريل ومِيكائيل.
وفي رواية أخرى : يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده.
وعن مجاهد قال : لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ ، ولا قبله ولا بعده إلاَّ يوم بدر.
قال البيهقُي ؛ إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أُحُد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به.
وعن عروة بن الزبير قال : وكان الله عزّ وجلّ وعدهم على الصبر والتقوى أن يُمِدَّهم بخمسة آلافٍ من الملائكة مسوّمين : وكان قد فعل : فلما عَصَوْا أمر الرسول وتركوا مَصَافَّهُم وترك الرماةُ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ألاّ يبرحوا من منازلهم ، وأرادوا الدنيا ، رُفع عنهم مددُ الملائكة ، وأنزل الله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } فصدق الله وعده وأراهم الفتح ، فلما عَصَوْا أعقبهم البلاء.
وعن عمير بن إسحاق قال : لما كان يوم أحُد انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعْدٌ يَرِمي بين يديه ، وفَتًى يُنَبِّل له ، كلما ذهبت نَبْلَةٌ أتاه بها.
قال : "ارْمِ أبا إسحاق".
فلما فرغوا نظروا مَن الشابّ ؟ فلم يروه ولم يعرفوه.
وقال محمد بن كعب : ولما قُتِل صاحب لواءِ المشركين وسقط لواؤهم ، رفعته عَمْرَة بنت علقمة الحارِثية ؛ وفي ذلك يقول حَسّان :
فَلولاَ لِواءُ الحارِثِية أصبحوا . . .
يباعُون في الأسواق بَيْعَ الجلائب. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 234 ـ 235}(17/234)
وقال ابن عطية :
وسبب هذه الآية : أنه لما ارتحل أبو سفيان بالكفار بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال : انظر القوم ، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وركبوا الإبل فهم متشمرون إلى مكة ، وإن كانوا على الخيل فهم عائدون إلى المدينة ، فمضى علي فرآهم قد جنبوا الخيل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسر وسر المسلمون ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فتجهز واتبع المشركين يريهم الجلد ، فبلغ حمراء الأسد وأن أبا سفيان قال له كفار قريش : أحين قتلناهم وهزمناهم ولم يبق إلا الفل والطريد ننصرف عنهم ؟ ارجع بنا إليهم حتى نستأصلهم فعزموا على ذلك ، وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي قد جاء إلى رسول الله عليه السلام وهو على كفره ، إلا أن خزاعة كلها كانت تميل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له ، والله يا محمد لقد ساءنا ما أصابك ، ولوددنا أنك لم ترزأ في أصحابك ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بما عزمت عليه قريش من الانصراف ، اشتد ذلك عليهم ، فسخر الله ذلك الرجل معبد بن أبي معبد ، وألقى بسببه الرعب في قلوب الكفار ، وذلك أنه لما سمع الخبر ، ركب حتى لحق بأبي سفيان بالروحاء ، وقريش قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرى مثله قط ، يتحرقون عليكم ، قد اجتمع إليه من كان تخلف عنه ، وندموا على ما صنعوا ، قال : ويلك ما تقول ؟ قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ، قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم ، قال : فإني أنهاك عن ذلك ، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه شعراً قال وما قلت ؟ قال قلت : [ البسيط ](17/235)
كادت تُهَدُّ مِنَ الأَصْواتِ رَاحلتي... إذ سالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأَبابيلِ
ترْدِي بِأُسْدٍ كِرامٍ لا تنابلةٍ... عندَ اللقاءِ لا ميلٍ معازيلِ
فَظلْتُ عَدْواً أَظُنُّ الأَرْضَ مائلة... لمّا سَمَوْا برئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
إلى آخر الشعر ، فوقع الرعب في قلوب الكفار ، وقال صفوان بن أمية : لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان ، فنزلت هذه الآية في هذا الإلقاء ، وهي بعد متناولة كل كافر ، ويجري معها قول النبي عليه السلام : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، ويظهر أن هذه الفضيلة إنما أعلم عليه السلام بها بعد هذه الأحوال كلها حين امتد ظل الإسلام ، قال بعض أهل العلم : إنه لما أمر الله المؤمن بالصبر ، ووعده النصر ، وأخبره أن الرعب ملقى في قلوب الكفار ، نقص الرعب من كل كافر جزءاً مع زيادة شجاعة المؤمن ، إذ قد وعد النصر فلذلك كلف المؤمن الوقوف للكافرين. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 523}
وقال الفخر :
قد ذكرنا في قصة أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل ، وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا ، سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم ، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا ، والمسلمون على آثارهم يحسونهم ، قال الليث : الحس : القتل الذريع ، تحسونهم : أي تقتلونهم قتلا كثيرا ،
قال أبو عبيد ، والزجاج ، وابن قتيبة : الحس : الاستئصال بالقتل ، يقال : جراد محسوس.
إذا قتله البرد.
وسنة حسوس : إذا أتت على كل شيء ، ومعنى "تحسونهم" أي تستأصلونهم قتلا ، قال أصحاب الاشتقاق : "حسه" إذا قتله لأنه أبطل حسه بالقتل ، كما يقال : بطنه إذا أصاب بطنه ، ورأسه ، إذا أصاب رأسه ، وقوله : {بِإِذْنِهِ} أي بعلمه ، ومعنى الكلام أنه تعالى لما وعدكم النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة فما دمتم وافين بهذا الشرط أنجز وعده ونصركم على أعدائكم ، فلما تركتم الشرط وعصيتم أمر ربكم لا جرم زالت تلك النصرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 29}(17/236)
( بصيرة فى الإحساس )
قال العلامة الفيروزابادى :
وقد ورد فى القرآن على أَربعة أَوجه :
الأَول : بمعنى الرُّؤية : {فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} أَى أَبصر ورأَى ، {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} ، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ}.
الثانى : بمعنى القتل والاستئصال : {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أَى تستأْصلونهم قتلاً.
الثالث : بمعنى البحث وطلب العلم : {فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ}.
الرّابع : بمعنى الصّوت : {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} أَى صوتها.
والأَصل فيه راجع إِلى الحاسّة ، وهى القوّة الَّتى بها يدرك الأَعراض الجِسمِيّة.
والحواسّ : المشاعر الخمس.
يقال : حَسَسْت ، وحَسِسْت ، وحسِيت.
وأَحْسَسْت ، وأَحَسْت.
فحَسسْت على وجهين.
أَحدهما : أَصبته بِحِسِّى ؛ نحو عِنْته.
والثانى : أَصبت حاسّته ؛ نحو كَبَدْته.
ولمّا كان ذلك قد يتولَّد منه القتلُ (عُبر به عن القتل) فقيل : حَسَسْتُه : أَى قتلته : كقَوله تعالى : {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بإِذْنِهِ} والحَسِيس : القتيل.
ومنه جَرَاد محسوس : إِذا طُبخ ، وقولهم : البَرْد مَحَسّة للنَّبت.
وانحس أَسنانه : انفعال منه (وأَما حسِست فنحو علمت وفهمت ، ولكن لا يقال ذلك إِلاَّ فيما كان من جهة الحاسّة) وأَمّا حسِيت فتقلب إِحدى السّينين ياءً.
وأَمّا أَحسسته فحقيقته : أَدركته.
وأَحَسْتُ مثله ؛ لكن حُذف إِحدى السّينين تخفيفاً ؛ نحو ظَلْت.
وقوله تعالى : {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} أى هل تجد بحاسَّتك أَحداً منهم.
وقوله : {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ} تنبيه أَنه ظهر منهم الكفر ظهورا بان للحسّ ، فضلاً عن التفهّم.
والحُساس : عبارة عن سُوءِ الخُلُق ، على بناءِ زُكام وسعال. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 6 صـ 169}(17/237)
قوله تعالى : {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وتنازعتم فِى الأمر وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدَمَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ}
فصل
قال الفخر :
لقائل أن يقول ظاهر قوله : {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} بمنزلة الشرط ، ولا بد له من الجواب فأين جوابه ؟
واعلم أن للعلماء ههنا طريقين :
الأول : أن هذا ليس بشرط ، بل المعنى ، ولقد صدقكم الله وعده حتى إذا فشلتم ، أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع ، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة ، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر ، وعلى هذا القول تكون كلمة "حتى" غاية بمعنى "إلى" فيكون معنى قوله : {حتى إِذَا} إلى أن ، أو إلى حين.
الطريق الثاني : أن يساعد على أن قوله : {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} شرط ، وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه :(17/238)
الأول : وهو قول البصريين أن جوابه محذوف ، والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم الله نصره ، وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} عليه ، ونظائره في القرآن كثيرة ، قال تعالى : {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأرض أَوْ سُلَمَاً في السماء فتأتيهم بِآية} [ الأنعام : 35 ] والتقدير : فافعل ، ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه ، وقال : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاء الليل} [ الزمر : 9 ] والتقدير : أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك ؟
الوجه الثاني : وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء : أن جوابه هو قوله : {وَعَصَيْتُمْ} والواو زائدة كما قال : {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وناديناه} [ الصافات : 103 104 ] والمعنى ناديناه ، كذا ههنا ، الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان ، فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم ، فالواو زائدة ، وبعض من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب "حتى إذا" بدليل قوله تعالى : {حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} [ الزمر : 71 ] والتقدير حتى إذا جاؤها فتحت لهم أبوابها.
فإن قيل : إن فشلتم وتنازعتم معصية ، فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد.
قلنا : المراد من العصيان ههنا خروجهم عن ذلك المكان ، ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان ، فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه.
واعلم أن البصريين إنما لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة.(17/239)
الوجه الثالث في الجواب : أن يقال تقدير الآية : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون ، صرتم فريقين ، منكم من يريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة.
فالجواب : هو قوله : صرتم فريقين ، إلا أنه أسقط لأن قوله : {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخرة} يفيد فائدته ويؤدي معناه ، لأن كلمة "من" للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام ، وهذا احتمال خطر ببالي.
الوجه الرابع : قال أبو مسلم : جواب قوله : {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} هو قوله : {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة "ثم" ههنا كالساقطة وهذا الوجه في غاية البعد. والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 29 ـ 30}
فصل
قال الفخر :
إنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة :
أولها : الفشل وهو الضعف ، وقيل الفشل هو الجبن ، وهذا باطل بدليل قوله تعالى : {وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ} [ الأنفال : 46 ] أي فتضعفوا ، لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجبنوا.
ثانيها : التنازع في الأمر وفيه بحثان.
البحث الأول : المراد من التنازع أنه عليه الصلاة والسلام أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة ، وجعل أميرهم عبدالله بن جبير ؛ فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون ، ثم إن الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن ، فقالوا الغنيمة الغنيمة ، فقال عبدالله : عهد الرسول إلينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة ، وبقي عبدالله مع طائفة قليلة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع.
البحث الثاني : قوله : {فِى الأمر} فيه وجهان :
الأول : أن الأمر ههنا بمعنى الشأن والقصة ، أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن.(17/240)
والثاني : أنه الأمر الذي يضاده النهي.
والمعنى : وتنازعتم فيما أمركم الرسول به من ملازمة ذلك المكان.
وثالثها : وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 30 ـ 31}
فائدة
قال القرطبى :
وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم ، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادىء النصر ، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهِزام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 237}
أسئلة وأجوبة
السؤال الأول : لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية ؟
والجواب : أن القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة ، ثم تنازعوا بطريق القول في أنا : هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا ؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة.
السؤال الثاني : لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام ؟
والجواب : هذا اللفظ وان كان عاماً إلا أنه جاء المخصص بعده ، وهو قوله : {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة }.
السؤال الثالث : ما الفائدة في قوله : {مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ }.
والجواب عنه : أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بانجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الاكرام وأذاقهم وبال أمرهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 31}
فائدة
قال القرطبى :
والعِتاب مع مَن انهزم لا مع مَن ثبت ، فإن من ثبت فاز بالثواب ، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون ؛ ولكن لا يكون ماحل بهم عقوبة ، بل هو سبب المثوبة ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 237}(17/241)
موعظة
قال الثعالبى :
واعلم ( رحمك اللَّه ) أنَّ تيسير أسْبَابِ الدُّنْيا مع إعراضك عن أمر آخرتك ، ليس ذلك من علاماتِ الفَلاَحِ ؛ وقد روى ابنُ المُبَارك في "رقائقه" ، قال : أخبرنا ابْنُ لَهِيعَةَ ، قال : حدَّثني سعيدُ بنُ أَبِي سَعِيدٍ ؛ أنَّ رجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا ؟ قَالَ : " إذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ ، وابتغيته ، يُسِّرَ لَكَ ، وَإذَا أَرَدتَّ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا ، وابتغيته ، عُسِّرَ عَلَيْكَ ، فَأَنْتَ على حَالٍ حَسَنَةٍ ، وَإذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ ، وابتغيته ، عُسِّرَ عَلَيْكَ ، وَإذَا أَرَدتَّ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا ، وابتغيته ، يُسِّرَ لَكَ ، فَأَنْتَ على حَالٍ قَبِيحَةٍ " انتهى ، فتأمَّله راشداً. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 322}
قوله تعالى : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي بعد أن استوليتم عليهم ردّكم عنهم بالانهزام.
ودَلّ هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى.
وقالت المعتزلة : المعنى ثم انصرفتم ؛ فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرّعب من قلوب الكافرين من المسلمين إبتلاءً لهم.
قال القشيرِي : وهذا لا يغنيهم ؛ لأن إخراج الرّعب من قلوب الكافرين حتى يستخفّوا بالمسلمين قبيحٌ ولا يجوز عندهم ، أن يقع من الله قبيحٌ ، فلا يبقى لقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } معنًى.
وقيل : معنى { صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي لم يكلفكم طلبهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 237}
وقال الفخر :
وقد اختلف قول أصحابنا وقول المعتزلة في تفسير هذه الآية ، وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية ، فكيف أضافه إلى نفسه ؟(17/242)
أما أصحابنا فهذا الإشكال غير وارد عليهم ، لأن مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه ، فعلى هذا قالوا معنى هذا الصرف أن الله تعالى رد المسلمين عن الكفار ، وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم ، وهذا قول جمهور المفسرين.
قالت المعتزلة : هذا التأويل غير جائز ويدل عليه القرآن والعقل ، أما القرآن فهو قوله تعالى : {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} [ آل عمران : 155 ] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان ، فكيف يضيفه بعد هذا إلى نفسه ؟
وأما المعقول فهو أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ، ولو كان ذلك بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه ، كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم ، ثم عند هذا ذكروا وجوها من التأويل :
الأول : قال الجبائي : إن الرماة كانوا فريقين ، بعضهم فارقوا المكان أولا لطلب الغنائم ، وبعضهم بقوا هناك ، ثم هؤلاء الذين بقوا أحاط بهم العدو ، فلو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه وتحصنوا به ولم يكونوا عصاة بذلك ، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه إلى نفسه بمعنى أنه كان بأمره وإذنه ، ثم قال : {لِيَبْتَلِيَكُمْ} والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا به أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين ، ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام ، وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقربائهم وأحبائهم هو من أعظم أنواع الابتلاء.(17/243)
فإن قيل : فعلى هذا التأويل هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مذنبين ، فلم قال : {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ }.
قلنا : الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ومن لم يكن ، وهم الذين بدؤا بالهزيمة فمضوا وعصوا فقوله : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} راجع إلى المعذورين ، لأن الآية لما اشتملت على قسمين وعلى حكمين رجع كل حكم إلى القسم الذي يليق به ، ونظيره قوله تعالى : {ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِى الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [ التوبة : 40 ] والمراد الذي قال له : {لاَ تَحْزَنْ} وهو أبو بكر ، لأنه كان خائفاً قبل هذا القول ، فلما سمع هذا سكن ، ثم قال : {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [ التوبة : 40 ] وعنى بذلك الرسول دون أبي بكر ، لأنه كان قد جرى ذكرهما جميعا ، فهذا جملة ما ذكره الجبائي في هذا المقام.
والوجه الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن المراد من قوله : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم ، ثم قال : {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله وترجعوا اليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة ، ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم.
والوجه الثالث : قال الكعبي : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم {لِيَبْتَلِيَكُمْ} بكثرة الانعام عليكم والتخفيف عنكم ، فهذا ما قيل في هذا الموضع ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 31 ـ 32}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}
فصل
قال الفخر :
ظاهره يقتضي تقدم ذنب منهم.(17/244)
قال القاضي : إن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بأنه عفا عنهم من غير توبة ، وإن كان من باب الكبائر ، فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو والمغفرة.
واعلم أن الذنب لا شك أنه كان كبيرة ، لأنهم خالفوا صريح نص الرسول ، وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين ، وقتل جمع عظيم من أكابرهم ، ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر وأيضا : ظاهر قوله تعالى : {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [ الأنفال : 16 ] يدل على كونه كبيرة ، وقول من قال : إنه خاص في بدر ضعيف ، لأن اللفظ عام ، ولا تفاوت في المقصود ، فكان التخصيص ممتنعا ، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة ، لأن التوبة غير مذكورة ، فصار هذا دليلا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر ، وأما دليل المعتزلة في المنع عن ذلك ، فقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 32}
وقال الآلوسى :
{ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } بمحض التفضل أو لما علم من عظيم ندمكم على المخالفة ، وقيل : والمراد بذلك العفو عن الذنب وهو عام لسائر المنصرفين.(17/245)
ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري عن عثمان بن موهب قال : جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني به أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فرّ يوم أحد ؟ قال : نعم قال : فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم ، قال : فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال : نعم فكبر فقال ابن عمر : تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه ، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله تعالى عفا عنه ، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه.
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى وضرب بها على يده فقال : هذه يد عثمان اذهب بها الآن معك ، وقال البلخي : إنه عفو عن الاستئصال ، وروي ذلك عن ابن جريج ، وزعم أبو علي الجبائي أنه خاص بمن لم يعص الله تعالى بانصرافه والكل خلاف الظاهر.
وقد يقال : الداعي لقول البلخي : إن العفو عن الذنب سيأتي ما يدل عليه بأصرح وجه ، والتأسيس خير من التأكيد ، وكلام ابن عمر رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من أن تعالى عفا عن ذنب الفارّين وهو صريح الآية الآتية ، وأما أنه يفهم منه ولو بالإشعار أن المراد من العفو هنا العفو عن الذنب فلا أظن منصفاً يدعيه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 90}(17/246)
وقال ابن عطية :
وقوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل ، وهذا تحذير ، والمعنى " ولقد عفا عنكم " بأن لم يستأصلوكم ، فهو بمنزلة : ولقد أبقى عليكم ، ويحتمل أن يكون إخباراً بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد ، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد ، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين ، وقال الحسن بن أبي الحسن : قتل منهم سبعون ، وقتل عم النبي عليه السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم ، هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 525}
قوله تعالى : {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين}
قال الفخر :
{والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} وهو راجع إلى ما تقدم من ذكر نعمه سبحانه وتعالى بالنصر أولا ، ثم بالعفو عن المذنبين ثانياً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 32}
وقال الآلوسى :
{ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه إيذان بأن ذلك العفو ولو كان بعد التوبة بطريق التفضل لا الوجوب أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو في جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم إذ الابتلاء أيضاً رحمة ، والتنوين للتفخيم ، والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون ، والإظهار في مقام الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم ، وإما الجنس ويدخلون فيه دخولاً أولياً ولعل التعميم هنا وفيما قبله أولى من التخصيص ، وتخصيص الفضل بالعفو أولى من تخصيصه بعدم الاستئصال كما زعمه البعض. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 90}(17/247)
فصل
قال القرطبى :
وعن ابن عباس قال : ما نُصِر النبيّ صلى الله عليه وسلم في موطن كما نُصِر يوم أُحُد ، قال : وأنكرنا ذلك ، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجلّ ، إن الله عزّ وجلّ يقول في يوم أُحُد : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } يقول ابن عباس : والحَسّ القتل { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } وإنما عنى بهذا الرماة.
وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال : " احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنِمنا فلا تشركونا " فلما غنمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماةُ جميعاً فدخلوا في العسكر ينتهبون ، وقد التقت صفوف أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فهم هكذا وشبّك أصابع يديه والتبسوا.
فلما أخَل الرماةُ تلك الخَلّة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضاً والتبسوا ، وقتل من المسلمين ناس كثير ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه أوّلُ النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة ، وجال المسلمون نحو الجبل ، ولم يبلغوا حيث يقول الناس : الغار ، إنما كانوا تحت المِهراس وصاح الشيطان : قتل محمد.
فلم يُشَك فيه أنه حق ، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتِل حتى طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السَعْدَيْن ، نعرفه بتكفّئِهِ إذا مشى.
قال : ففرحنا حتى كأنّا لم يصبنا ما أصابنا.(17/248)
قال : فرقى نحونا وهو يقول : " اشتدّ غضب الله على قوم دَمَّوا وجهَ نَبِيهم " وقال كعب بن مالك : أنا كنت أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ؛ عرفته بعينيه من تحت المِغْفَر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين! ابشِروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل : فأشار إليّ أن أسكت. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 237 ـ 238}
قال ابن كثير :
هذا حديث غريب ، وسياق عجيب ، وهو من مرسلات ابن عباس ، فإنه لم يشهد أحُدًا ولا أبوه.
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النَّضْر الفقيه ، عن عثمان بن سعيد ، عن سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس ، به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة ، من حديث سليمان بن داود الهاشمي ، به (1) ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي ، عن ابن مسعود قال : إن النساء كن يوم أحد ، خلْف المسلمين ، يُجْهزْن على جَرْحى المشركين ، فلو حَلَفت يومئذ رجوت أن أبَر : أنه ليس أحد منا يريد الدنيا ، حتى أنزل الله عز وجل : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } فلما خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعَصَوا ما أمروا به ، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة : سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش ، وهو عاشرهم ، فلما رهقُوه [قال : "رَحِمَ اللهُ رجلا رَدَّهُمْ عَنَّا". قال : فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل ، فلما رَهقُوه] أيضا قال : "رَحِمَ اللهُ رَجُلا رَدَّهُمْ عَنَّا". فلم يزل يقول ذا حتى قُتِل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه : "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا".
________________
(1) (1) المسند (1/287 ، 288) والمستدرك (2/296) ودلائل النبوة للبيهقي (3/269 ، 270).(17/249)
فجاء أبو سفيان فقال : اعْلُ هُبَلُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قُولُوا : اللهُ أعْلَى وأجَلُّ". فقالوا : الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قُولُوا : "اللهُ مَوْلانَا ، وَالْكَافِرُونَ لا مَوْلَى لَهُم". ثم قال أبو سفيان : يومٌ بيوْم بَدْر ، يومٌ علينا ويوم لنا ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر. حَنْظَلَةَ بِحَنْظَلَةَ ، وفلان بفلان ، وفلان بفلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا سَوَاء. أمَّا قَتْلانَا فَأْحَيْاءٌ يُرْزَقُونَ ، وَقْتَلاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ". قال أبو سفيان : قد كان في القوم مَثُلَةٌ ، وإنْ كانَتْ لَعَنْ غير مَلأ منَّا ، ما أمرتُ ولا نَهَيْتُ ، ولا أحْبَبْتُ ولا كَرِهتُ ، ولا ساءني ولا سرَّني. قال : فنظروا فإذا حمزةُ قد بُقِرَ بَطْنُه ، وأخذتْ هنْد كَبده فلاكَتْها فلم تستطع أن تأكلها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أكَلَتْ شَيْئًا ؟" قالوا : لا. قال : "مَا كَانَ اللهُ ليُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ".
قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فَصَلَّى عليه ، وَجِيء برجل من الأنصار فَوُضِع إلى جنبه فصلَّى عليه ، فَرُفِعَ الأنصاري وتُرِكَ حمزة ، ثم جيء بآخر فوضعَه إلى جنب حمزة فصلى [عليه] ثم رُفِعَ وتُرِكَ حمزة ، حتى صلَّى عليه يومئذ سبعين صلاة. (1)
تفرد به أحمد أيضًا. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 134 ـ 135}
__________
(1) المسند (1/462).(17/250)
فائدة
قال الفخر :
وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن ، لأنا بيّنا أن هذا الذنب كان من الكبائر ، ثم إنه تعالى سماهم المؤمنين ، فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 32 ـ 33}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
صَدَقَ يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، والآخر بالحرفِ ، وقد يُحْذَف ، كهذه الآية.
والتقدير : صدقكم في وعده ، كقولهم : صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و{ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } معمول لِـ " صَدَقَكُمْ " أي : صدقكم في ذلك الوقتِ ، وهو وقتُ حَسِّهِم ، أي : قَتْلهم.
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله : " وَعْدَه " - وفيه نظرٌ ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت.
يقال : حَسَسْتُه ، أحَسُّه ، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير : تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي : أذهبتم حِسَّهم بالقتل.
قال أبو عبيدةَ ، والزَّجَّاجُ : الحَسُّ : الاستئصال بالقَتْل.
قال الشاعر : [ الطويل ]
حَسَنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وقال جرير : [ الوافر ]
تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى... حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ
ويقال : جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت : - أي : محرقة له ، ذاهبته. وسنة حَسُوسٌ : أي : جدبة ، تأكل كلَّ شيءٍ.
قال رؤية : [ الرجز ]
إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا... تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا
وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة-.
قال أبو عبيدٍ : الحَسُّ : الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل ، كما يقال : بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه ، وَرَأسَهُ ، إذا أصاب رأسه.(17/251)
و " بإذْنِهِ " متعلق بمحذوف ؛ لأنه حالٌ من فاعل " تَحُسُّونَهُمْ " ، أي : تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك.
قال القرطبيُّ : " ومعنى قوله : " بإذْنه " أي : بعلمه ، أو بقضائه وأمره ".
وقوله : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } في " حَتَّى " قولان :
أحدهما : أنها حرف جر بمعنى " إلى " وفي متعلقها - حينئذ - ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنها متعلقة بـ " تَحسُّونَهُمْ " أى : تقتلونهم إلى هذا الوقت.
الثاني : أنها متعلقة بـ " صَدَقَكُمْ " وهو ظاهر قول الزمخشريّ ، قال : " ويجوز أن يكونَ المعنى : صدقكم اللهُ وَعْدَه إلى وقت فَشَلِكم ".
الثالث : أنّها متعلقة بمحذوف ، دَلَّ عليه السياقُ.
قال أبو البقاء : " تقديره : دام لكم ذلك إلى وقتِ فَشَلِكُم ".
القول الثاني : أنَّها حرف ابتداءٍ داخلة على الجملة الشرطية ، و" إذَا " على بابها - من كونها شرطية - وفي جوابها - حينئذٍ - ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : قال الفرّاء : جوابها " وَتَنَازَعْتُمْ " وتكون الواو زائدة ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ } [ الصافات : 103-104 ] والمعنى ناديناه ، كذا - هنا - الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان ، فكأنَّ التقدير : حتى إذا فَشِلْتُم ، وتنازعتم في الأمر عصيتم.
قال : ومذهب العرب إدخال الواو في جواب " حَتَّى " كقوله : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } { الزمر : 73 ] فإن قيل : قوله : { فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ } معصية ، فلو جعلنا الفشل والتنازُع علةً للمعصية لزم كونُ الشيء علةً لنفسه ، وذلك فاسدٌ.
فالجواب : أن المراد من العصيان - هنا - خروجهم عن ذلك المكانِ ، فلم يلزم تعليلُ الشيء بنفسه. ولم يَقْبَل البصريون هذا الجوابَ ؛ لأن مذهَبهمْ أنه لا يجوزُ جَعْلَ الواو زائدة.(17/252)
قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } و" ثم " زائدة.
قال أبو علي : ويجوز أن يكون الجواب { صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } و" ثُمَّ " زائدة ، والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم. وقد أنشد بعضُ النحويين في زيادتها قول الشاعر : [ الطويل ]
أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى... فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا
وجوز الأخفشُ أن تكون زائدةً في قوله تعالى : { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 118 ] وهذان القولان ضعيفانِ جداً.
والثالث - وهو الصحيحُ - أنه محذوف ، واختلفت عبارتهم في تقديره ، فقدَّرَه ابنُ عطيةَ : انهزمتم وقدَّره الزمخشريُّ : منعكم نصرَه.
وقدَّره أبو البقاء : بأن أمركم. ودلّ على ذلك قوله تعالى : { مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } [ آل عمران : 152 ].
وقدره غيره : امتحنتم.
وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، وتقديره : حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم.
وقدَّره أبو حيان : انقسمتم إلى قسمَيْن ، ويدلُّ عليه ما بعده ، وهو نظيرُ قوله : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ]
قال أبو حيان : لا يقال : كيف يقالُ : انقسمتم إلى مريدِ الدُّنْيَا ، وإلى مريدِ الآخرةِ فيمن فشل وتنازع وعصى ؛ لأن هذه الأفعالَ لم تصدر من كُلِّهم ، بل من بعضِهِمْ.
واختلفوا في " إذا " - هذه - هل هي على بابها أم بمعنى " إذْ " ؟ والصحيح الأول ، سواء قلنا إنها شرطية أم لا.(17/253)
قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } عطفٌ على ما قبله ، والجملتان من قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } اعتراض بين المتعاطفين ، وقال أبو البقاء : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } معطوف على الفعل المحذوف.
يعني الذي قدره جواباً للشرط ، ولا حاجة إليه ، و" لِيَبْتَلِيَكُمْ " متعلق بـ " صَرَفَكُمْ " و" أن " مضمرة بعد اللام. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 597 ـ 601}. بتصرف.
لطيفة
وإنَّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصياناً ، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف ، إذ كانوا قالوا : إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين ، فلمَّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتَّى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأوَّلين ، فإنَّما سمّيت هنا عصياناً لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد ، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل ، أو لأنّ التأويل كان بعيداً فلم يعذروا فيه ، أو لأنَّه كان تأويلاً لإرضاء حبّ المال ، فلم يكن مكافئاً لدليل وجوب طاعة الرّسول.أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 253}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
وإنَّما قال : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره ، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه.(17/254)
وعُقب هذا الملام بقوله : { ولقد عفا عنكم } تسكيناً لخواطرهم ، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين ، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى : { عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] ، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو ، وفيه أيضاً دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفاً من غضب الله تعالى.
وفي تذييله بقوله : { والله ذو فضل على المؤمنين } تأكيد ما اقتضاه قوله : { ولقد عفا عنكموالظاهر أنَّه عفو لأجل التأويل ، فلا يحتاج إلى التَّوبة ، ويجوز أن يكون عفواً بعدما ظهر منهم من الندم والتَّوبة ، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 253 ـ 254}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع ضروباً : من ذلك الاستفهام الذي معناه الإنكار في : أم حسبتم.
والتجنيس المماثل في : انقلبتم ومن ينقلب ، وفي ثواب الدنيا وحسن ثواب.
والمغاير في قولهم : إلا أن قالوا.
وتسمية الشيء باسم سببه في : تمنون الموت أي الجهاد في سبيل الله ، وفي قوله : وثبت أقدامنا فيمن فسر ذلك بالقلوب ، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات القلوب.
والالتفات في : وسنجزي الشاكرين.
والتكرار في : ولما يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق.
أو للتنبيه على فضل الصابر.
وفي : أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل ، والمعنى : مفارقة الروح الجسد فهو واحد.
ومن في ومن يرد ثواب الجملتين ، وفي : ذنوبنا وإسرافنا في قول من سوى بينهما ، وفي : ثواب وحسن ثواب.
وفي : لفظ الجلالة ، وفي : منكم من يريد الجملتين.(17/255)
والتقسيم في : ومن يرد وفي منكم من يريد.
والاختصاص في : الشاكرين ، والصابرين ، والمؤمنين.
والطباق : في آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا.
والتشبيه في : يردّوكم على أعقابكم ، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقري ، والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق ويغدو في أخرى ، وفي قوله : سنلقى.
وقيل : هذا كله استعارة.
والحذف في عدة مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 86}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤمِنِينَ }.
قيمة كل أحدٍ إرادته ؛ فَمَنْ كانت همتُه الدنيا فقيمتُه خسيسةٌ حقيرة كالدنيا ، ومن كانت همتُه الآخرة فشريفٌ خطره ، ومن كانت همتُه ربانية فهو سيد وقته.
ويقال مَنْ صفا عن إرادته وصل إليه ، ومن وصل إليه أقبل - بلطفه - عليه ، وأزلفه بمحل الخصوصية لديه.
قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } : الإشارة منه أنه صرف قوماً عنه فشغلهم بغيره عنه ، وآخرون صرفهم عن كل غير فأفردهم له ؛ فالزاهدون صرفهم عن الدنيا ، والعابدون صرفهم عن اتباع الهوى ، والمريدون صرفهم عن المنى ، والموحِّدون صرفهم عما هو غيرٌ وسوى. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 286}(17/256)
من فوائد العلامة الجصاص فى الآية
قال عليه الرحمة :
قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } فِيهِ إخْبَارٌ بِتَقَدُّمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَا لَمْ يَتَنَازَعُوا وَيَخْتَلِفُوا ، فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ظَهَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الرُّمَاةَ بِالْمُقَامِ فِي مَوْضِعٍ وَأَنْ لَا يَبْرَحُوا ، فَعَصَوْا وَخَلَّوْا مَوَاضِعَهُمْ حِينَ رَأَوْا هَزِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَظَنُّوا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ وَاخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ وَرَائِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَتَلُوا بِتَرْكِهِمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِصْيَانِهِمْ.
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَوْعُودَ اللَّهِ كَمَا وَعَدَ قَبْلَ الْعِصْيَانِ ، فَلَمَّا عَصَوْا وُكِلُوا إلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ اللَّهِ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ مَضْمُونٌ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ ، وَعَلَى هَذَا جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي نَصْرِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.(17/257)
وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إنَّمَا يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ بِالدِّينِ وَيَرْجُونَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ وَغَلَبَتَهُمْ بِهِ لَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا }.
فَأَخْبَرَ أَنَّ هَزِيمَتَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ لِتَرْكِهِمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِخْلَالِ بِمَرَاكِزِهِمْ الَّتِي رُتِّبُوا فِيهَا.
وَقَالَ تَعَالَى : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ }.
وَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ قَبْلُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا مِنْهُمْ ؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا }.(17/258)
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى الْعِشْرِينَ أَنْ لَا يَفِرُّوا مِنْ مِائَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } لِأَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْلِصِينَ لِنِيَّةِ الْجِهَادِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا ، وَكَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا رَجَّالَةً قَلِيلِي الْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَعَدُوُّهُمْ أَلْفٌ فُرْسَانٌ وَرَجَّالَةٌ بِالسِّلَاحِ الشَّاكِّ ، فَمَنَحَهُمْ اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى قَتَلُوا كَيْفَ شَاءُوا وَأَسَرُوا كَيْفَ شَاءُوا.(17/259)
ثُمَّ لَمَّا خَالَطَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُ بَصَائِرِهِمْ وَخُلُوصُ ضَمَائِرِهِمْ خَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْجَمِيعِ فَقَالَ : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ضَعْفَ قُوَى الْأَبْدَانِ وَلَا عَدَمَ السِّلَاحِ ؛ لِأَنَّ قُوَى أَبْدَانِهِمْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَعَدَدُهُمْ أَكْثَرُ وَسِلَاحُهُمْ أَوْفَرُ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ خَالَطَهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْبَصِيرَةِ مِثْلُ مَا لِلْأَوَّلِينَ ؛ فَالْمُرَادُ بِالضَّعْفِ هَهُنَا ضَعْفُ النِّيَّةِ ؛ وَأَجْرَى الْجَمِيعَ مَجْرًى وَاحِدًا فِي التَّخْفِيفِ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ تَمْيِيزُ ذَوِي الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ ضَعْفِ الْيَقِينِ وَقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمِ الْيَمَامَةِ حِينَ انْهَزَمَ النَّاسُ : " أَخْلِصُونَا أَخْلِصُونَا " يَعْنُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 326 ـ 327}(17/260)
قوله تعالى : {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر علة الصرف والعفو عنه صوّره فقال : {إذ} أي صرفكم وعفا عنكم حين {تصعدون} أي تزيلون الصعود فتنحدرون نحو المدينة ، أو تذهبون في الأرض لتبعدوا عن محل الوقعة خوفاً من القتل {ولا تلوون} أي تعطفون {على أحد} أي من قريب ولا بعيد {والرسول} أي الذي أرسل إليكم لتجيبوه إلى كل ما يدعوكم إليه وهو الكامل في الرسلية {يدعوكم في أخراكم} أي ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير لا يبلغون أربعين نفساً على اختلاف الروايات - وثوقاً بوعد الله ومراقبة له يقول كلما مرت عليه جماعة منهزمة : " إليّ عباد الله! أنا رسول الله! إليّ إليّ عباد الله " كما هو اللائق بمنصبه الشريف من الاعتماد على الله والوثوق بما عنده وعد من دونه من ولي وعدو عدماً ؛ وإنما قلت : إن معنى ذلك الانهزام ، لأن الدعاء يراد منه الإقبال على الداعي بعد الانصراف عما يريده ليأمر وينهى ، فعلم بذلك أنهم مولون عن المقصود وهو القتال ، وفي التفسير من البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال : جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير رضي الله تعالى عنه وأقبلوا منهزمين ، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم ، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً.
ولما تسبب عن العفو ردهم عن الهزيمة إلى القتال قال تعالى : {فأثابكم} أي جعل لكم ربكم ثواباً {غماً} أي باعتقادكم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم.(17/261)
وكان اعتقاداً كاذباً مُلتئم به رعباً {بغم} أي كان حصل لكم من القتل والجراح والهزيمة ، وسماه - وإن كان في صورة العقاب - باسم الثواب لأنه كان سبباً للسرور حين تبين أنه خبر كاذب ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سالم حتى كأنهم - كما قال بعضهم - لم تصبهم مصيبة ، فهو من الدواء بالداء ، ثم علله بقوله : {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} أي من النصر والغنيمة {ولا ما أصابكم} أي من القتل والجراح والهزيمة لاشتغالكم عن ذلك بالسرور بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما قص سبحانه وتعالى عليهم ما فعلوه ظاهراً وما قصدوه باطناً وما داواهم به قال - عاطفاً على ما تقديره : فالله سبحانه وتعالى خبير بما يصلح أعمالكم ويبرىء أدواءكم - : {والله} أي المحيط علماً وقدرة {خبير بما تعملون} أي من خير وشر في هذه الحال وغيرها ، وبما يصلح من جزائه ودوائه ، فتارة يداوي الداء بالداء وتارة بالدواء ، لأنه الفاعل القادر المختار. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 167 ـ 168}
فصل
قال الفخر :
قوله تعالى {إذ تصعدون}
فيه قولان :
أحدهما : أنه متعلق بما قبله ، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه : أحدها : كأنه قال وعفا عنكم إذ تصعدون ، لأن عفوه عنهم لابد وأن يتعلق بأمر اقترفوه ، وذلك الأمر هو ما بينه بقوله : {إِذْ تُصْعِدُونَ} والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد
وثانيها : التقدير : ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون.
وثالثها : التقدير : ليبتليكم إذ تصعدون.
والقول الثاني : أنه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله ، والتقدير : اذكر إذ تصعدون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 33}(17/262)
وقال الآلوسى :
{ إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بصرفكم أو بيبتليكم وتعلقه بعفا كما قال الطبرسي : ليس بشيء ، ومثله تعلقه كما قال أبو البقاء ، بعصيتم ؛ أو تنازعتم أو فشلتم ، وقيل : متعلق بمقدر كاذكر ، واستشكل بأنه يصير المعنى اذكر يا محمد إذ تصعدون وفيه خطابان بدون عطف ، فالصواب اذكروا.
وأجيب بأن المراد باذكر جنس هذا الفعل فيقدر اذكروا لا اذكر ، ويحتمل أنه من قبيل {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } [ الطلاق : 1 ] ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ، وأجاب الشهاب بأن أذكر متضمن لمعنى القول ، والمعنى قل لهم يا محمد حين يصعدون الخ ومثله لا منع فيه كما تقول لزيد : أتقول كذا فإن الخطاب المحكي مقصود لفظه فلا ينافي القاعدة المذكورة وهم غفلوا عنه فتأمل ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر أيضاً ، والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض ، وفرق بعضهم بين الإصعاد والصعود بأن الإصعاد في مستوى الأرض والصعود في ارتفاع ، وقيل : لا فرق بين أصعد وصعد سوى أن الهمزة في الأول للدخول نحو أصبح إذا دخل في الصباح والأكثرون على الأول ، وقرأ الحسن فيما أخرجه ابن جرير عنه { تُصْعِدُونَ } بفتح التاء والعين ، وحمله بعضهم على صعود الجبل ، وقرأ أبو حيوة { تُصْعِدُونَ } بفتح التاء وتشديد العين وهو إما من تصعد في السلم إذا رقى أو من صعد في الوادي تصعيداً إذا انحدر فيه ، فقد قال الأخفش : أصعد في الأرض إذا مضى وسار وأصعد في الوادي وصعد فيه إذا انحدر ، وأنشد :
فإما تريني اليوم مزجي ظعينتي...
( أصعد ) طوراً في البلاد وأفرع
وقال الشماخ :
فإن كرهت هجائي فاجتنب سخطي...
لا يدهمنك إفراعي ( وتصعيدي )(17/263)
وورد عن غير واحد أن القوم لما امتحنوا ذهبوا فراراً في وادي أحد ، وقال أبو زيد : يقال : صعد في السلم صعوداً وصعد في الجبل أو على الجبل تصعيداً ولم يعرفوا فيه صعد ، وقرأ أبيّ { إِذْ تُصْعِدُونَ } في الوادي وهي تؤيد قول من قال : إن الإصعاد الذهاب في مستوى الأرض دون الارتفاع ، وقرىء يصعدون بالياء التحتية وأمر تعلق إذ باذكر عليه ظاهر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 90 ـ 91}
فصل
قال الفخر :
ولا تلوون على أحد : أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب ، وأصله أن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته ، فإذا مضى ولم يعرج قيل لم يلوه ، ثم استعمل اللي في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات إلى الشيء ، يقال : فلان لا يلوي على شيء ، أي لا يعطف عليه ولا يبالي به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 33}
وقال الآلوسى :
{ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } أي لا تقيمون على أحد ولا تعرجون وهو من لوى بمعنى عطف وكثيراً ما يستعمل بمعنى وقف وانتظر لأن من شأن المنتظر أن يلوي عنقه ، وفسر أيضاً بلا ترجعون وهو قريب من ذلك ، وذكر الطبرسي أن هذا الفعل لا يذكر إلا في النفي فلا يقال لويت على كذا ، وقرأ الحسن ( تلون ) بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفاً.
وقرىء { تَلْوُونَ } بضم التاء على أنه من ألوى لغة في لوى ، ويلوون بالياء كيصعدون ، قال أبو البقاء ويقرأ { على أَحَدٍ } بضمتين وهو الجبل والتوبيخ عليه غير ظاهر ، ووجهه بعضهم بأن المراد أصحاب أحد أو مكان الوقعة ، وفيه إشارة إلى إبعادهم في استشعار الخوف وجدهم في الهزيمة حتى لا يلتفتون إلى نفس المكان. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 91}(17/264)
وقال ابن عاشور :
واللَّيُّ مجاز بمعنى الرّحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه ، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف ، والمراد على أحد منكم ، يعني : فررتم لا يرحم أحد أحداً ولا يرفق به ، وهذا تمثيل للجدّ في الهروب حتَّى إنّ الواحد ليدوس الآخر لو تعرّض في طريقه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 254}
قوله تعالى : {والرسول يَدْعُوكُمْ}
قال الفخر :
{والرسول يَدْعُوكُمْ} كان يقول : " إليَّ عباد الله أنا رسول الله من كر فله الجنة " فيحتمل أن يكون المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ، ولا يتفرقوا ، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يدعوهم إلى المحاربة مع العدو.
ثم قال : {فِى أُخْرَاكُمْ} أي آخركم ، يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم ، كما يقال : في أولهم وأولاهم ، ويقال : جاء فلان في أخريات الناس ، أي آخرهم ، والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم ، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 33 ـ 34}
وقال العلامة ابن عطية ولله دره :
قوله تعالى : { في أخراكم } مدح للنبي عليه السلام فإن ذلك هو موقف الأبطال في أعقاب الناس ، ومنه قول الزبير بن باطا ما فعل مقدمتنا إذ حملنا وحاميتنا إذ فررنا ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس ، ومنه قول سلمة بن الأكوع كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 526}(17/265)
فائدة
قال الآلوسى :
وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوته صلى الله عليه وسلم كانت بطريق الرسالة من جهته تعالى مبالغة في توبيخ المنهزمين ، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة وكان ذلك حين انهزم القوم وجدوا في الفرار قبل أن يصلوا إلى مدى لا يسمع فيه الصوت فلا ينافي ما تقدم عن كعب بن مالك أنه لما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام أن أنصت لأن ذلك كان آخر الأمر حيث أبعد المنهزمون. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 91 ـ 92}
قوله تعالى : {فأثابكم غَمّاً بِغَمّ}
فصل
قال الفخر :
لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير ، ويجوز أيضا استعماله في الشر ، لأنه مأخوذ من قولهم : ثاب إليه عقله ، أي رجع اليه ، قال تعالى : {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لّلنَّاسِ} [ البقرة : 125 ] والمرأة تسمى ثيباً لأن الواطىء عائد اليها ، وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيراً أو شراً ، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير ، فإن حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام ، وإن حملناه على مقتضى العرف كان ذلك وارداً على سبيل التهكم ، كما يقال : تحيتك الضرب ، وعتابك السيف ، أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب قال تعالى :
{فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [ التوبة : 34 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 34}
فصل
قال الفخر :
الباء في قوله : {غَمّاً بِغَمّ} يحتمل أن تكون بمعنى المعارضة ، كما يقال : هذا بهذا أي هذا عوض عن ذاك ، ويحتمل أن تكون بمعنى "مع" والتقدير : أثابهم غماً مع غم ، أما على التقدير الأول ففيه وجوه :(17/266)
الأول : وهو قول الزجاج أنكم لما أذقتم الرسول غماً بسبب أن عصيتم أمره ، فالله تعالى أذاقكم هذا الغم ، وهو الغم الذي حصل لهم بسبب الانهزام وقتل الأحباب ، والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم.
الثاني : قال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين ، والمقصود منه أن لا يبقى في قلبكم التفات إلى الدنيا ، فلا تفرحوا بإقبالها ولا تحزنوا بإدبارها ، وهو المعنى بقوله : {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ} في واقعة أحد {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم} [ الحديد : 23 ] في واقعة بدر ،
طعن القاضي في هذا الوجه وقال : إن غمهم يوم أحد إنما كان من جهة استيلاء الكفار ، وذلك كفر ومعصية ، فكيف يضيفه الله إلى نفسه ؟
ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في تسليط الكفار على المسلمين نوع مصلحة ، وهو أن لا يفرحوا بإقبال الدنيا ولا يحزنوا بإدبارها ، فلا يبقى في قلوبهم اشتغال بغير الله.
الثالث : يجوز أن يكون الضمير في قوله {فأثابكم} يعود للرسول ، والمعنى أن الصحابة لما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم شج وجهه وكسرت رباعيته وقتل عمه ، اغتموا لأجله ، والرسول عليه السلام لما رأى أنهم عصوا ربهم لطلب الغنيمة ثم بقوا محرومين من الغنيمة ، وقتل أقاربهم اغتم لأجلهم ، فكان المراد من قوله {فأثابكم غَمّاً بِغَمّ} هو هذا ، أما على التقدير الثاني وهو أن تكون الباء في قوله : {غَمّاً بِغَمّ} بمعنى "مع" أي غما مع غم ، أو غما على غم ، فهذا جائز لأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض ، تقول : ما زلت به حتى فعل ، وما زلت معه حتى فعل ، وتقول : نزلت ببني فلان ، وعلى بني فلان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 34}(17/267)
وقال ابن عاشور :
وقوله : { فأثابكم غما } إن كان ضمير { فأثابكم } ضميرَ اسم الجلالةَ ، وهو الأظهر والموافق لقوله بعده : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } [ آل عمران : 154 ] فهو عطف على { صَرَفكم } [ آل عمران : 152 ] أي ترتّب على الصرف إثابتكم.
وأصلُ الإثابة إعطاء الثَّواب وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل.
والغمّ ليس بخير ، فيكونُ أثابكم إمّا استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم :
قَرَينَاكُم فَعَجَّلْنَا قِراكم
قبيلَ الصبح مِرداة طحونا...
أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غمّاً أي قلقَا لكم في نفوسكم ، والمراد أن عاقبكم بغمّ كقوله : { فبشّرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] وفي هذا الوجه بعد : لأنّ المقام مقام ملام لا توبيخ ، ومقام معذرة لا تنديم.
وإمّا مشاكلةً تقديرية لأنَّهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثَّواب ، فسلكوا مسالك باءوا معها بعقاب فيكون كقول الفرزدق :
أخاف زياداً أن يكون عطاؤُه
أدَاهِم سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا...
وقول الآخر :
قلتُ : اطبُخوا لي جُبَّةً قميصاً.
ونكتة هذه المشاكلة أن يتوصّل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغمّ من عبرة ، ومن توجّه عناية الله تعالى إليهم بعده.
والباء في قوله : { بغمّ } للمصاحبة أي غمّاً مع غمّ ، وهو جملة الغموم الَّتي دخلت عليهم من خيبة الأمل في النَّصر بعد ظهور بَوارقه ، ومن الانهزام ، ومن قتل من قُتل ، وجرح من جرح ، ويجوز كون الباء للعوض ، أي : جازاكم الله غمّاً في نفوسكم عوضاً عن الغمّ الَّذي نسبتم فيه للرسول وإن كان الضّمير في قوله : { فأثابكم } عائداً إلى الرسول في قوله : { والرسول يدعوكم } ، وفيه بعد ، فالإثابة مجاز في مقابلة فعل الجميل بمثله أي جازاكم بغمّ.
والباء في قوله : { بغمّ } باء العوض.(17/268)
والغمّ الأوّل غمّ نفس الرسول ، والغمّ الثَّاني غمّ المسلمين ، والمعنى أنّ الرسول اغتمّ وحزن لما أصابكم ، كما اغتممتم لما شاع من قتله فكان غمّه لأجلكم جزاءاً على غمّكم لأجله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 254 ـ 255}
فصل
قال الفخر :
واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة :
فأحدها : غمهم بما نالهم من العدو في الأنفس والأموال.
وثانيها : غمهم بما لحق سائر المؤمنين من ذلك ،
وثالثها : غمهم بما وصل إلى الرسول من الشجة وكسر الرباعية ،
ورابعها : ما أرجف به من قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ،
وخامسها : بما وقع منهم من المعصية وما يخافون من عقابها ،
وسادسها : غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم ، وذلك لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام ، وذلك من أشق الأشياء ، لأن الأنسان بعد صيرورته منهزما يصير ضعيف القلب جباناً ، فإذا أمر بالمعاودة ، فإن فعل خاف القتل ، وإن لم يفعل خاف الكفر أو عقاب الآخرة ، وهذا الغم لا شك أنه أعظم الغموم والأحزان ، وإذا عرفت هذه الجملة فكل واحد من المفسرين فسر هذه الآية بواحد من هذه الوجوه ونحن نعدها :
الوجه الأول : أن الغم الأول ما أصابهم عند الفشل والتنازع ، والغم الثاني ما حصل عند الهزيمة.
الوجه الثاني : أن الغم الأول ما حصل بسبب فوت الغنائم ، والغم الثاني ما حصل بسبب أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعاً عظيما.
الوجه الثالث : أن الغم الأول ما كان عند توجه أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم بالقتل والغم الثاني هو أن المشركين لما رجعوا خاف الباقون من المسلمين من أنهم لو رجعوا لقتلوا الكل فصار هذا الغم بحيث أذهلهم عن الغم الأول.(17/269)
والوجه الرابع : أن الغم الأول ما وصل إليهم بسبب أنفسهم وأموالهم ، والغم الثاني ما وصل إليهم بسبب الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الآية قول ثالث اختاره القفال رحمه الله تعالى قال : وعندنا أن الله تعالى ما أراد بقوله : {غَمّاً بِغَمّ} اثنين ، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها ، أي أن الله عاقبكم بغموم كثيرة ، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ، ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ، ومثل إقدامكم على المعصية ، فكأنه تعالى قال : أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زاجرا لكم عن الاقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 34 ـ 35}
فصل
قال الفخر :
معنى أن الله أثابهم غم بغم : أنه خلق الغم فيهم ، وأما المعتزلة فهذا لا يليق بأصولهم ، فذكروا في علة هذه الإضافة وجوها :
الأول : قال الكعبي : إن المنافقين لما أرجفوا أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد قتل ولم يبين الله تعالى كذب ذلك القائل ، صار كأنه تعالى هو الذي فعل ذلك الغم ، وهذا كالرجل الذي يبلغه الخبر الذي يغمه ويكون معه من يعلم أن ذلك الخبر كذب ، فإذا لم يكشفه له سريعا وتركه يتفكر فيه ثم أعلمه فإنه يقول له : لقد غممتني وأطلت حزني وهو لم يفعل شيئاً من ذلك ، بل سكت وكف عن إعلامه ، فكذا ههنا.
الثاني : أن الغم وان كان من فعل البعد فسببه فعل الله تعالى ، لأن الله طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب التي تنالهم وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون.
الثالث : أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى الغم في قلب بعض المكلفين لرعاية بعض المصالح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 35}
قوله تعالى : {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ}
قال الفخر :
وفيه وجهان :
الأول : أنها متصلة بقوله :(17/270)
{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [ آل عمران : 152 ] كأنه قال : ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا ، لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل غم وحزن ،
والثاني : أن اللام متصلة بقوله : {فأثابكم} ثم على هذا القول ذكروا وجوها :
الأول : قال الزجاج : المعنى أثابكم غم الهزيمة من غمكم النبي صلى الله عليه وسلم بسبب مخالفته ، ليكون غمكم بأن خالفتموه فقط ، لا بأن فاتتكم الغنيمة وأصابتكم الهزيمة ، وذلك لأن الغم الحاصل بسبب الإقدام على المعصية ينسي الغم الحاصل بسبب مصائب الدنيا.
الثاني : قال الحسن : جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلتموهم مغمومين يوم بدر ، لأجل أن يسهل أمر الدنيا في أعينكم فلا تحزنوا بفواتها ولا تفرحوا باقبالها ، وهذان الوجهان مفرعان على قولنا الباء في قوله : {غَمّاً بِغَمّ} للمجازاة ، أما إذا قلنا انها بمعنى "مع" فالمعنى أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا أمر الرسول لوقعنا في غم فوات الغنيمة ، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في هذه الغموم العظيمة التي كل واحد منها أعظم من ذلك الغم أضعافا مضاعفة ، والعاقل إذا تعارض عنده الضرران ، وجب أن يخص أعظمهما بالدفع ، فصارت إثابة الغم على الغم مانعاً لكم من أن تحزنوا بسبب فوات الغنيمة ، وزاجراً لكم عن ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 35 ـ 36}
وقال الآلوسى :
{ لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أصابكم } ظاهر إذ المعنى أساءكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا ما أصابكم من الشدائد ، وكذا على ما ذهب إليه المغربي ، وأما على الأوجه الأخر فالمعنى لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع ما فات أو ضر آت ، وإنما احتيج إلى هذا التأويل لأن المجازاة بالغم إنما تكون سبباً للحزن لا لعدمه.(17/271)
وقيل : ( لا ) زائدة والمعنى لكي تأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم ، فالتعليل حينئذ ظاهر ولا يخفى أن تأكيد ( لا ) وتكريرها يبعد القول بزيادتها ، وقيل : التعليل على ظاهره و( لا ) ليست زائدة والكلام متعلق بقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } [ آل عمران : 152 ] أي ولقد عفا الله تعالى عنكم لئلا تحزنوا الخ فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن ، ولا يخفى ما فيه ، وربما يقال : إن أمر التعليل ظاهر أيضاً على ما حكي عن السدي من غير حاجة إلى التأويل ولا القول بزيادة لا ويوضح ذلك ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال : أصاب الناس غم وحزن على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا فلما اجتمعوا في الشعب وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضاً فأصابهم حزن أنساهم حزنهم في أصحابهم فذلك قوله تعالى : { فأثابكم غَمّاً بِغَمّ } الخ ، وحديث إن المجازاة بالغم إنما تكون سبباً للحزن لا لعدمه غير مسلم على الإطلاق ، وأي مانع من أن يكون غم مخصوص سبباً لزوال غم آخر مخصوص أيضاً بأن يعظم الثاني فينسى الأول فتدبر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 92 ـ 93}
قوله تعالى {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
قال الفخر :
{والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي هو عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم ، قادر على مجازاتها ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وذلك من أعظم الزواجر للعبد عن الاقدام على المعصية ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 9 صـ 36}
وقال الآلوسى :
{ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها ، وفي "المقصد الأسني" الخبير بمعنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيراً ، وفي ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 93}(17/272)
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى: {فأثابكم غمّاً بغمّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم }الآية قوله تعالى: {فأثابكم غمّاً بغمّ} أي غمّا على غمّ, أي حزنا على حزن, أو أثابكم غما بسبب غمكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيان أمره, والمناسب لهذا الغم بحسب ما يسبق إلى الذهن أن يقول: لكي تحزنوا, أما قوله: {لكيلا تحزنوا} فهو مشكل؛ لأن الغم سبب للحزن لا لعدمه.
والجواب عن هذا من أوجه:
الأول: أنّ قوله: {لكيلا تحزنوا} متعلق بقوله تعالى: {ولقد عفا عنكم} فالمعنى: أنّ الله تعالى عفا عنكم لتكون حلاوة عفوه تزيل عنكم ما نالكم من غم القتل, والجرح.,وفوت الغنيمة, والظفر, والجزع من إشاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتله المشركون.
الوجه الثاني: أن معنى الآية: أنه تعالى غمّكم هذا الغم لكي تتمرنوا على نوائب الدهر, فلا يحصل لكم الحزن في المستقبل؛ لأن من اعتاد الحوادث لا تؤثّر عليه .
الوجه الثالث: أنّ (لا) صلة, وسيأتي الكلام على زيادتها بشواهده العربية إن شاء الله تعالى في الجمع بين قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد}, وقوله: {وهذا البلد الأمين}. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 69 ـ 70}(17/273)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
العامل في " إذْ " قيل : مُضْمَر ، أي : اذكروا.
وقال الزمخشريُّ : " صَرَفَكُمْ " أوْ " لِيَبْتَلِيَكُمْ ".
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ظرفاً لِـ " عَصَيْتُمْ " أوْ " تَنَازَعْتُمْ " أو فَشِلْتُمْ.
وقيل : هو ظرف لِـ " عَفَا عَنْكُمْ " أي : عفا عنكم إذْ تُصْعِدُون هاربين.
وكل هذه الوجوهِ سائغةٌ ، وكونه ظرفاً لِـ " صَرَفَكُمْ " جيدٌ من جهةِ المعنى ، ولِ " عَفَا " جيدٌ من جهة القُرْبِ ، وعلى بعض هذه الأقوالِ تكون المسألةُ من باب التنازعِ ، ويكون على إعمال الأخيرِ منها ، لعدم الإضمارِ في الأول ، ويكون التنازعُ في أكثرِ من عاملينِ.
والجمهور على { تُصْعِدُونَ } - بضم التاء وكسر العين - من : أصْعَدَ في الأرض ، إذا ذهب فيها. والهمزةُ فيه للدخول ، نحو أصبح زيدٌ ، أي : دخل في الصباح ، فالمعنى : إذ تدخلون في الصعود ، ويُبيِّن ذلك قراءة أبيٍّ " تصعدون في الوادي ".
وقرأ الحسنُ ، والسُّلمي ، وقتادةُ : " تَصْعَدُونَ " بفتح التاء والعين - من : صعد في الجبل ، أي : رقي ، والجمع بين القراءتين أنهم - أولاً - أصعدوا في الوادي ، ثم لما هزمهم العدو - صعدوا في الجبل ، وهذا على رَأى مَنْ يُفَرِّق بين صعد وأصْعد ، وقرأ أبو حَيْوَةَ : " تَصَعَّدُون " بالتشديد - وأصله : تَتَصَعَّدُونَ ، حذفت إحدى التاءين ، إما تاء المضارعة ، أو تاء " تَفَعَّل " والجمع بين قراءتِهِ وقراءة غيره كما تقدم.(17/274)
والجمهورُ { تُصْعِدُونَ } بتاء الخطاب ، وابن مُحَيْصن - ويُرْوَى عن ابن كثيرٍ - بياء الغيبة ، على الالتفاتِ ، وهو حسنٌ.
ويجوز أن يعودَ الضمير على المؤمنين ، أي : { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين إِذْ تُصْعِدُونَ } فالعاملُ في " إذْ " " فَضْلٍ " ويقال : أصْعَدَ : أبعد في الذهاب ، قال القُتَبِيُّ أصعد : إذا أبْعَد في الذهاب ، وأمعن فيه ، فكأن الإصعادَ إبعادٌ في الأرض كإبعاد الارتفاعِ.
قال الشاعرُ : [ الطويل ]
ألاَ أيُّهَذَا السَّائِلِي ، أيْنَ أصْعَدَتْ ؟... فَإنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مِوْعِدا
وقال آخرُ : [ الرجز ]
قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ عَلَى الإضعَادِ... فَالْيَوْمَ سُرِّحْتِ ، وَصَاحَ الْحَادِي
وقال الفرَّاءُ وأبو حاتم : الإصعاد : في ابتداء السفر والمخارج ، والصعود : مصدر صَعَدَ : رقي من سُفْلٍ إلى عُلُو ، ففرَّق هؤلاء بين صَعَد وأصْعَد.
وقال المفضَّلُك صعد وأصعد بمعنًى واحدٍ ، والصعيد : وجْهُ الأرضِ.
قال بعضُ المفسّرين : " وكلتا القراءتين صوابٌ ، فقد كان يومئذ من المهزمين مُصْعِد وصاعد ".
قوله : { وَلاَ تَلْوُونَ } الجمهور على { تَلْوُونَ } - بواوين - وقُرِئَ بإبدال الأولى همزة ؛ كراهية اجتماع واوين ، وليس بقياسٍ ؛ لكون الضمة عارضة ، والواو المضمومة تُبْدَل همزة بشروط تقدمت في " البقرة ".
منها : ألا تكون الضمة عارضة ، كهذه ، وأن لا تكون مزيدة ، نحو ترهوك.
وألا يمكن تخفيفها ، نحو سُور ونور - جمع سوار ونوار - لأنه يمكن تبكينُها فتقول : سور ونور ، فيخف اللفظ بها.
وألا يُدْغم فيها ، نحو تعوَّذ - مصدر تعوذ.
ومعنى { وَلاَ تَلْوُونَ } ولا ترجعون ، يقال : لَوَى به : ذهب به ، ولَوَى عليه : عطف.
قَالَ الشاعرُ : [ الطويل ]
(17/275)
...................... أخُو الْجَهْدِ لا يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا
وأصله أن المعرِّجَ على الشيءِ يلوي عليه عنقه ، أو عنان دابته ، فإذا مضى - ولم يعرِّج - قيل : لن يلوي ، ثم استعمل في ترك التعريجِ على الشيء وترك الالتفاتِ إليه ، يقال : فلانٌ لا يلوي على كذا أي : لا يلتف إليه ، وأصل { تَلْوُونَ } تلويون ، فَأعِلَّ بحذفِ اللام ، وقد تقدم في قوله : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } [ آل عمران : 78 ] وقرأ الأعمشُ ، وأبو بكر بنُ عَيَّاشٍ - ورويت عن عاصم " تُلوون " بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى.
وقرأ الحسن " تَلُون " بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى.
وقرأ الحسن " تَلُون " - بواو واحدة - وخرجوها على أنه أبدل الواو همزةً ، ثم نقل حركة الهمزة على اللام ، ثم حذف الهمزة ، على القاعدة ، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء - وهي اللام - وقال ابنُ عطيةَ : " وحذفت إحدى الواوين للساكنين ، وكان قد تقدم أن هذه القراءة هي قراءة مركبةٌ على لغة من يهمز الواوَ ، وينقل الحركة ".
وهذا عجيبٌ ، بعد أن يجعلها من باب نقل حركةِ الهمزةِ ، كيف يعودُ ويقول : حذفت إحدى الواوين للساكنين ؟ ويُمكن تخريجُ هذه القراءة على وجعين آخرينِ :
أحدهما : أن يقالَ : استُثقلت الضمةُ على الواو ؛ لأنها أختها ، فكأنه اجتمع ثلاثُ واواتٍ ، فنُقِلت الضمةُ إلى اللامِ ، فالتقى ساكنانِ - الواو التي هي عينُ الكلمةِ ، والواو التي هي ضميرٌ - فحُذفت الأولى ؛ لالتقاء الساكنين ، ولو قال ابن عطيةَ هكذا لكان أولى.
(17/276)
الثاني : أن يكون " تَلُونَ " مضارع وَلِي - من الولاية - وإنما عُدِّي بـ " على " لأنه ضُمِّن معنى العطف. وقرأ حُميد بن قيس : " على أُحُدٍ " - بضمتين - يريد الجَبَل ، والمعنى : ولا تلوون على مَنْ فِي جبل أُحُد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقْوى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعدما فَرَّ الناسُ عنه ، وهذه الحالُ - من إصعادهم - إنما كانت وهو يدعوهم.
ومعنى الآيةِ : تعرجون ، ولا يلتفت بعضٌ إلى بعضٍ.
قوله : " والرسول يدعوكم " ، مبتدأ وخبر في محل نصب على الحالِ ، العامل فيها " تلوون ".
أي : والرسول يدعوكم في أخراكم ومن ورائكم ، يقول : " إليَّ عِبَاد َالله ؛ فأنا رسولُ اللهِ ، من يكر فله الجنَّةُ ".
ويحتمل أنه كان يدعوكم إلى نفسه ، حتى تجتمعوا عنده ، ولا تتفرقوا. و" أخراهم " آخر الناس كما يقال في أولهم ، ويقال : جاء فلانٌ في أخريات الناس.
قوله : { فَأَثَابَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على " تصعدون " و" تلوون " ، ولا يضر كونهما مضارعين ؛ لأنهما ماضيان في المعنى ؛ لأن " إذ " المضافة إليهما صيرتهما ماضيين ، فكأن المعنى إذا صعدتم ، وألويتم.
الثاني : أنه معطوفٌ على " صرفكم ".
قال الزمخشريُّ { فَأَثَابَكُمْ } عطف على صرفكم ، وفيه بُعْدٌ ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان :
أحدهما : أنه الباري تعالى.
والثاني : أنه معطوف على " صرفكم ".
قال الزمخشريُّ { فَأَثَابَكُمْ } عطف على صرفكم ، وفيه بُعْدٌ ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان :
أحدهما : أنه الباري تعالى.
والثاني : أنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
(17/277)
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : ويجوز أن يكون الضمير في { فَأَثَابَكُمْ } للرسول أي : فآساكم من الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة.
و " غماً " مفعول ثانٍ.
وقوله : { فَأَثَابَكُمْ } هل هو حقيقة أو مجاز فقيل : مجاز كأنه جعل الغم قائماً مقام الثواب الَّذِي كان يحصل لولا الفرارُ فهو كقوله : [ الطويل ]
أخَافُ زِيَاداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ... أدَاهِم سُوداً أوْ مُحَدْرَجَة سُمْرَا
وقول الآخر :
تحية بينهم ضرب وجميع... جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء ، والضرب بمنزلة التحية.
وقال الفرّاءُ : " الإثابة - هاهنا - بمعنى المعاقبة " وهو يرجع إلى المجاز ؛ لأن الإثابة أصلها في الحسنات.
قوله : { بِغَمٍّ } يجوز في الباء أوجهٌ :
أحدها : أن تكون للسببيةِ ، على معنى أن متعلِّق الغَمْ الأول الصحابة ، ومتعلق الغَمِّ الثاني قيل المشركين يوم بدرٍ.
قال الحَسَنُ : يريد غَم يوم أحدٍ للمسلمين بغمّ يوم بدرٍ للمشركينَ ، والمعنى : فأثابكم غماً بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدرٍ.
وقيل متعلَّق الغَمِّ الرسول ، والمعنى : أذاقكم الله غمًّا بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ومخالفتكم أمره ، أو فأثابكم الرسول غماً بسبب غفم اغتممتموه لأجله ، والمعنى أن الصحابة لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم شُجَّ وكُسِرت رَبَاعِيَتُه ، وقُتِل عَمه ، اغتممتموه لأجله ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لما رآهم قَد عَصَوْا رَبَّهُم لأجل الغنيمة - ثم بَقَوْا محرومينَ من الغنيمةِ - وقتِلَ أقاربُهم ، اغتم لأجلهم.
(17/278)
الثاني : أن تكون الباء للمصاحبة ، أي : غماً مصاحِباً لغم ، ويكون الغمَّان للصحابة ، بمعنى غَمًّا مع غم أو غماً على غم ، فالغم الأولُ : الهزيمة والقتل ، والثاني إشراف خالد بخيل الكفار ، أو بإرجافهم : قتل الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الأول تتعلق الباء بـ { فَأَثَابَكُمْ }.
قال أبو البقاء وقيل : المعنى بسبب غم ، فيكون مفعولاً به.
وعلى الثاني يتعلقُ بمحذوفٍ ؛ لأنه صفة لِـ " غَمّ " أي : غماً مصاحباً لغم ، أو ملتبساً بغَمٍّ ، وأجاز أبو البقاء أن تكون الباءُ بمعنى " بعد " أو بمعنى " بدل " وجعلها - في هذين الوجهين - صفة لـ " غماً ".
وكونها بمعنى " بعد " و" بدل " بعيدٌ ، وكأنه يريدُ تفسير المعنى ، وكذا قَالَ الزمخشريُّ غماً بَعْدَ غَمٍّ.
قوله : { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } هذه لام " كي " وهي لام جرٍّ ، والنصب - هنا - بـ " كي " لئلاَّ يلزم دخول حرفِ جرٍّ على مثله ، وفي متعلَّق هذه اللام قولانِ :
أحدهما : أنه { فَأَثَابَكُمْ } وفي " لا " على هذا وجهانِ :
الأول : أنها زائدةٌ ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحُزْن ، والمعنى : أنه غمهم ليُحْزِنهم ؛ عقوبةً لهم على تركهم مواقفهم ، قاله أبو البقاء.
الثاني : أنها ليست زائدة ، فقال الزمخشريُّ : معنى { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } لتتمرَّنوا على تجرُّع الغمومِ ، وتتضرروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع ، ولا على مُصِيبٍ من المضارّ.
وقال ابن عطية : " المعنى : لتعلَمُوا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم ورَّطتم أنفسكم ، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إذا ظن البراءة من نفسه ".
(17/279)
ثانيهما : أن اللام تتعلق بـ " عَفَا " لأن عَفْوه يُذْهِب كُلَّ حُزْن ، وفيه بُعْدٌ ؛ لطول الفَصْلِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 603 ـ 608}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله : { إِذْ تُصْعِدُونَ } الإشارة من هذه الآية لأقوام تقع لهم فترة ، ودواعي الحق سبحانه - من أنفسهم ، ومن جميع الأقطار حتى كأنّ الأحجارَ من الشوارع واللَّبِنَ من الجدران - تناديه : لا تفعل يا عبد الله! وهو مُصِرٌّ في ليِّه ، مقيمٌ على غيِّه ، جاحد لِمَا يعلم أنه هو الأحقُّ والأولى من حاله ، فإذا قضى وطره واستوفى بهمته ، فلا محالة يمسك من إرسال عنانه ، ويقف عن ركضه في ميدانه ، فلا يحصل إلا على أنفاس متصاعدة ، وحسراتٍ متواترة ؛ فأورثه الحقُّ - سبحانه - وحشةً على وحشة. حتى إذا طال في التحسُّر مقامه تداركه الحق - سبحانه - بجميل لطفه ، وأقبل عليه بحسن عطفه ، وأنقذه من ضيق أسره ، ونقله إلى سعة عفوه وفضله ، وكثيرٌ مِنْ هؤلاء يصلون إلى محل الأكابر ثم يقفون بالله لله (.... ) ويقومون بالله لله بلا انتظار تقريب ولا ملاحظة ترحيب. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 287}(17/280)
قوله تعالى : { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان أمانهم بعد انخلاع قلوبهم بعيداً ، ولا سيما بكونه بالنعاس الذي هو أبعد شيء عن ذلك المقام الوعر والمحل الضنك عطف بأداة البعد في قوله : {ثم أنزل عليكم} ولما أفاد بأداة الاستعلاء عظمة الأمن ، وكان متصلاً بالغم ولم يستغرق زمن ما بعده أثبت الجار فقال : {من بعد الغم} أي المذكور وأنتم في نحر العدو {أمنة} أي أمناً عظيماً ، ثم ابدل منها تنبيهاً على ما فيها من الغرابة قوله : {نعاساً} دليلاً قطعياً فإنه لا يكون إلا من أمن ؛ روي البخاري في التفسير عن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه قال : " غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه " ولما كان لبعضهم فقط استأنف وصفه بقوله : {يغشى طائفة منكم} وهم المؤمنون ، وابتدأ الإخبار عن الباقين بقوله : {وطائفة} أي أخرى من المنافقين {قد أهمتهم أنفسهم} لا المدافعة عن الدين فهم إنما يطلبون خلاصها ، ولا يجدون إلى ذلك فيما يظنون سبيلاً لاتصال رعبهم وشدة جزعهم ، فعوقبوا على ذلك بأنه لم يحصل لهم الأمن المذكور ، ثم فسر همهم فقال : {يظنون بالله} المحيط بصفات الكمال {غير الحق} أي من أن نصره بعده هذا لا يمكن ، أو أنهم لو قعدوا في المدينة لم يقتل أحد ، ونحو ذلك من سفساف الكلام وفاسد الظنون التي فتحتها لو والأوهام {ظن الجاهلية} أي الذين لا يعلمون - من عظمة الله سبحانه وتعالى بأن ما أراده كان ولا يكون غيره - ما يعلم أتباع الرسل.(17/281)