كلام نفيس للعلامة ابن القيم
قال عليه الرحمة :
قصة هرقل
فصل :
وكان ملك الشام أحد أكابر علماءهم بالنصرانية "هرقل" ، قد عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً ، وعزم على الإسلام ، فأبى عليه عباد الصليب ، فخافهم على نفسه ، وضن بملكه مع علمه بأنه سينقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته. ونحن نسوق قصته :
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس : أن أبا سفيان أخبره من فِيه إلى فِيه ، قال : انطلقت في المدة التي كانت بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فيينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ، وقد كان دحية بن خليفة جاء به ، فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل ، فقال هرقل : هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ ، قالوا : نعم ، قال : فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه ، واجلسوا أصحابي خلفي ، فدعا بترجمانه ، فقال : قل لهم : إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذبني فكذبوه ، فقال أبو سفيان : وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر عليَّ الكذب لكذبت.
ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ ، قال : قلت : هو فينا ذو حسب. قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ ، قلت : لا. قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ ، قلت : لا. قال : ومن اتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ ، قلت : بل ضعفاؤهم. قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ ، قلت : لا ، بل يزيدون. قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ ، قال : قلت : لا. قال : فهل قاتلتموه ؟ ، قلت : نعم. قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ ، قال : قلت : يكون الحرب بيننا وبينه سجالاً ، يصيب منا ونصيب منه. قال : فهل يغدر ؟ ، قلت : لا ، ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها ، قال : فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه. قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ ، قلت : لا.(14/90)
قال لترجمانه : قل له : إني سألتك عن حسبه ، فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تُبعث في أحساب قومها ، وسألتك : هل كان في آبائه ملك ؟ ، فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان في آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك آبائه ، وسألتك عن أتباعه : أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ ، قلت : بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ ، فزعمت : أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله عز وجل ، وسألتك : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل سُخطة له ؟ ، فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ، وسألتك : هل يزيدون أم ينقصون ؟ ، فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك : هل قاتلتموه ؟ ، فزعمت أنكم قاتلتموه ، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تُبتلى ، ثم تكون لها العاقبة ، وسألتك هل يغدر ؟ ، فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك : هل قال هذا القول أحد قبله ؟ ، فزعمت أن لا ، فقلت : لو قال هذا القول أحد من قبله قلت : رجل ائتم بقول قيل قبله.
ثم قال : فبم يأمركم ؟ ، قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف ، قال : إن يكن ما تقول حقاً إنه لنبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولكن لم أكن أظنه منكم ، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، فإذا فيه :
"بسم الله الرحمن الرحيم"
من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد : (14/91)
فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسين ، و{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}".
فلما قرأه وفرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده ، وكثر اللغط ، وأمر بنا فأخرجنا ، ثم أذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ، ثم أمر بأبوابها فغلقت ، ثم اطلع فقال : يا معشر الروم ، هل لكم بالفلاح والرشد ، وأن تثبت مملكتكم ، فتبايعوا هذا النبي ؟. فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل نفرتهم ، وأيس من الإيمان ، قال : ردوهم علي ، فقال : إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم ، فقد رأيت ، فسدوا له ، ورضوا عنه.
فهذا ملك الروم ، كان من علمائهم أيضاً ، عرف وأقر أنه نبي ، وأنه سيملك ما تحت قدميه ، وأحب الدخول في الإسلام ، فدعا قومه إليه ، فولوا عنه معرضين {كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة} ، فمنعه من الإسلام الخوف على ملكه ورياسته ، ومنع أشباه الحمير ما منع الأمم قبلهم.
ولما عرف النجاشي ملك الحبشة أن عبّاد الصليب لا يخرجون عن عبادة الصليب إلى عبادة الله وحده أسلم سراً ، وكان يكتم إسلامه بينهم هو وأهل بيته ، ولا يمكنه مجاهرتهم.(14/92)
ذكر ابن إسحاق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه مكانه يدعوه إلى الإسلام ، فقال له عمرو : يا أصحمة ، علي القول وعليك الاستماع ، إنك كأنك في الرقة علينا منا وكانا في الثقة بك منك ، لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه ، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه ، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك ، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد ، وقاض لا يجور ، وفي ذلك موقع الحز ، وإصابة المفصل ، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم ، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، فرجاك لما لم يرجهم له ، وأمنك على ما خافهم عليه ، لخبر سالف وأجر منتظر ، فقال النجاشي : "أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل ، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر".
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي
قال الواقدي : وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه :
"بسم الله الرحمن الرحيم"
من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ، حملت بعيسى ، فخلقه من روحه ونفخه ، كما خلق آدم بيده ، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وإن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله إليك ، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل ، وقد بلغت ونصحت ، فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى".
فكتب إليه النجاشي : (14/93)
"بسم الله الرحمن الرحيم"
إلى محمد رسول الله ، من النجاشي أصحمة ، سلام عليك يا نبي الله من الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فلقد بلغني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى ، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقاً ، إنه كما ذكرت ، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قر بنا ابن عمك وأصحابه ، فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك ، وأسلمت على يديه لله رب العالمين".
والتفروق : علامة تكون بين النواة والتمرة.
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط
فصل
وكذلك ملك دين النصرانية بمصر ، عرف أنه نبي صادق ، ولكن منعه من اتباعه ملكه ، وأن عبّاد الصليب لا يتركون عبادة الصلب ، ونحن نسوق حديثه وقصته :
قال الواقدي : كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد :
فإني أدعوك بداعية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن تليت فإن عليك إثم القبط ، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}" وختم الكتاب.
فخرج به حاطب حتى قدم عليه الإسكندرية ، فانتهى إلى حاجبه ، فلم يلبثه أن أوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال حاطب للمقوقس لما لقيه : إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى ، {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى} ، فانتقم به ، ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ، ولا يعتبر بك غيرك.(14/94)
قال : هات ، قال : إن لنا ديناً لن ندعه إلا لما هو خير منه ، وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه ، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش ، وأعداهم له يهود ، وأقربهم منه النصارى ، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد ، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ، وكل نبي أدرك قوماً فهم من أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، فأنت ممن أدرك هذا النبي ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ، ولكنا نأمرك به.
فقال المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا النبي فرأيته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب عنه ، ولم أجده بالساحر الضال ، ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آلة النبوة من إخراج الخبء ، والإخبار بالنجوى ، ووصف لحاطب أشياء من صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال : القبط لا يطاوعونني في اتباعه ، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك ، وأنا أضن بملكي أن أفارقه ، وسيظهر على بلادي ، وينزل بساحتي هذه أصحابه من بعده ، فارجع إلى صاحبك.
وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق من عاج ، وختم عليه ، ودفعه إلى جارية له ، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية ، فكتب :
"بسم الله الرحمن الرحيم"
لمحمد بن عبد الله ، من المقوقس عظيم القبط.
سلام عليك ، أما بعد :
فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه ، وما تدعو إليه ، وقد علمت أن نبياً بقي ، وكنت أظن أنه يخرج بالشام ، وقد أكرمت رسولك ، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم ، وبكسوة ، وأهديت إليك بغلة لتركبها ، والسلام عليك." ولم يزد.
والجاريتان : مارية ، وسيرين. والبلغة : دلدل ، وبقيت إلى زمن معاوية.
قال حاطب : فذكرت قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "ضن الخبيث بملكه ، ولا بقاء لملكه".
كتاب رسول الله صلى الله عليه إلى حيفر وعبيد ابني الجلندي
فصل : (14/95)
وكذلك ابنا الجلندي ، ملكا عمان وما حولها من ملوك النصارى ، أسلما طوعاً واختياراً. ونحن نذكر قصتهما ، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما ، وهذا لفظه :
"بسم الله الرحمن الرحيم"
من محمد بن عبد الله إلى حيفر وعبيد ابني الجلندي ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوكما بداعية الإسلام ، أسلما تسلما ، فإني رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وَلَّيتكما مكانكما ، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما ، وخيلي تحل بساحتكما ، وتظهر نبوتي على ملككما". وختم الكتاب ، وبعث به مع عمرو بن العاص.
قال عمرو : فخرجت حتى انتهيت إلى عمان ، فلما قدمتها انتهيت إلى عبيد ، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقاً ، فقلت : إني رسول رسول الله إليك وإلى أخيك ، فقال : أخي المقدم عليَّ بالسن والملك ، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك.
ثم قال لي : وما تدعو إليه ؟ ، قلت : أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وتخلع ما عبد من دونه ، وتشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال : يا عمرو ، إنك سيد قومك ، فكيف صنع أبوك ، فإن لنا فيه قدوة ؟ ، قلت : مات ولم يؤمن بمحمد ، ووددت أنه كان أسلم وصدّق به ، وكنت أنا على مثل رأيه ، حتى هداني الله للإسلام.
قال : فمتى تبعته ؟ ، قلت : قريباً ، فسألني أين كان إسلامي ؟ ، فقلت : عند النجاشي ، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم.
قال : فكيف صنع قومه بملكه ؟ ، قلت : أقروه ، قال : والأساقفة والرهبان ؟ ، قلت : نعم.
قال : انظر يا عمرو ما تقول ، إنه ليس خصلة في رجل أفضح له من كذب ، قلت : ما كذبت ، وما نستحله في ذلك.
قلت : كان النجاشي يخرج له خراجاً ، فلما أسلم وصدق بمحمد قال : لا والله لو سألني درهماً واحداً ما أعطيته ، فبلغ هرقل قوله ، فقال له نياق أخوه : أتدع عبدك لا يخرج لك خراجاً ويدين ديناً محدثاً ؟ ، قال هرقل : رجل رغب في دين واختاره لنفسه ، ما أصنع به ، والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع.(14/96)
قال : انظر ما تقول يا عمرو ؟ ، قلت : والله لقد صدقتك.
قال عبد : فأخبرني ما الذي يأمر به وينهي عنه ؟ ، قلت : يأمر بطاعة الله عز وجل ، وينهي عن معصيته ، ويأمر بالبر وصلة الرحم ، وينهي عن الظلم والعدوان ، وعن الزنا وشرب الخمر ، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب.
فقال : ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ، لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ، ونصدّق به ، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ديناً.
قلت : إنه إن أسلم مَلَّكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه ، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم. قال : إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة ؟ ، فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال ، حتى انتهيت إلى الإبل ، فقال : يا عمرو ويؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه ؟ ، فقلت : نعم ، فقال : والله ما أرى قومي في بعد دارهم ، وكثرة عددهم ، يطيعون بهذا.
قال : فمكثت ببابه أياماً وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري ، ثم إنه دعاني يوماً فدخلت عليه ، فأخذ أعوانه بضبعي ، فقال : دعوه ، فأرسلت ، فذهبت لأجلس فأبو أن يدعوني أجلس ، فنظرت إليه فقال : تكلم بحاجتك ، فدفعت إليه الكتاب مختوماً ، ففض خاتمه ، فقرأه حتى انتهى إلى آخره ، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته ، إلا أني رأيت أخاه أرق منه ، ثم قال : ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت ؟ ، فقلت : اتبعوه إما راغب في الإسلام وإما مقهور بالسيف ، قال : ومن معه ؟ ، قلت : الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره ، وعرفوا بعقولهم مع هدي الله إياهم أنهم كانوا في ضلال ، فما أعلم أحداً بقي غيرك في هذه الحرجة ، وإن أنت لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل ، ويبيد خضرائك ، فأسلم تسلم ، ويستعملك على قومك ، ولا تدخل عليك الخيل والرجال.
قال : دعني يومي هذا وارجع إلى غداً.(14/97)
فرجعت إلى أخيه ، فقال : يا عمرو إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه ، حتى إذا كان الغد أتيت إليه ، فأبي أن يأذن لي ، فانصرفت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه ، فأوصلني إليه ، فقال : إني فكرت فيما دعوتني إليه ، فإذا أنا أضعف العرب إن ملَّكت رجلاً ما في يدي ، وهو لا يبلغ خيله هنا ، وإن بلغت خيله ألفت قتالاً ليس كقتال من لاقاه.
قلت : وأنا خارج غداً ، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال : ما نحن فيما قد ظهر عليه ، وكل من أرسل إليه قد أجابه. فأصبح فأرسل إليَّ فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعاً ، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم ، وخليا بيني وبين الصدقة ، وبين الحكم فيما بينهم ، وكانا لي عوناً على من خالفني. أ هـ {هداية الحيارى صـ 61 ـ 66}(14/98)
قوله تعالى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما علم أهل الكتاب ما جبل عليه العرب من محبة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أتى بدينة كما تقدم في قوله سبحانه وتعالى {بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} [ البقرة : 135 ] اجتمع ملأ من قرابتهم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وضلل كل منهم الآخر وادعى كل منهم قصداً لاجتذاب المسلمين إلى ضلالهم بكيدهم ومحالهم اتباع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دينهم ، ولم يكن لذلك ذكر في كتابهم ، مع أن العقل يرده بأدنى التفات ، لأن دين كل منهم إنما قرر بكتابهم ، وكتابهم إنما نزل على نبيهم ، ونبيهم إنما كان بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بدهور متطاولة ، واليهود ينسبون إلى يهوذا بن يعقوب عليه السلام ، لأخذه البكورية عن أخيه بنيامين لأمر مذكور في كتابهم ، والنصارى ينسبون إلى الناصرة مخرج عيسى عليه الصلاة والسلام في جبل الجليل ، ولا يعقل أن يكون المتقدم على دين ما حدث إلا بعده وعلى نسبة متأخرة عنه ، وكان دينه صلى الله عليه وسلم إنما هو الإسلام ، وهو الحنيفية السمحة فقال سبحانه وتعالى مبكتاً لهم : {يا أهل الكتاب} كالمعلل لتبكيتهم ، لأن الزلة من العالم أشنع {لم تحآجون في إبراهيم} فيدعيه كل من فريقكم {و} الحال أنه {ما أنزلت التوراة والإنجيل} المقرر كل منهما لأصل دين متجدد منكم {إلا} ولما كان إنزال كتاب كل منهم غير مستغرق للزمان الآتي بعده أدخل الجار فقال : {من بعده} وأعظم ما يتمسك به كل فرقة منهما السبت والأحد ، ولم يكن ما يدعونه فيهما في شريعة إبراهيم عليه السلام ، لا يقدرون على إنكار ذلك ، ولا يأتي مثل ذلك في دعوى أنه مسلم لأن الإسلام الذي هو الإذعان للدليل معنى قديم موجود من حين خلق الله العقل ، والدليل أنه لا يقدر أحد أن يدعي أنه ما حدث إلا بعد إبراهيم عليه السلام كما قيل في الدينين المذكورين.(14/99)
ولما كان الدليل العقلي واضحاً في ذلك ختم الآية بقوله منكراً عليهم {أفلا تعقلون} أي هب أنكم لبستم وادعيتم أن ذلك في كتابكم زوراً وبهتاناً ، وظننتم أن ذلك يخفى على من لا إلمام له بكتابكم ، فكيف غفلتم عن البرهان العقلي!. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 110}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن اليهود كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا ، والنصارى كانوا يقولون : كان إبراهيم على ديننا ، فأبطل الله عليهم ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده فكيف يعقل أن يكون يهودياً أو نصرانياً ؟.
فإن قيل : فهذا أيضاً لازم عليكم لأنكم تقولون : إن إبراهيم كان على دين الإسلام ، والإسلام إنما أنزل بعده بزمان طويل ، فإن قلتم إن المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على المذهب الذي عليه المسلمون الآن ، فنقول : فلم لا يجوز أيضاً أن تقول اليهود إن إبراهيم كان يهودياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود ، وتقول النصارى إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى ، فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً بهذا التفسير ، كما إن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً.(14/100)
والجواب : إن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً ، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً ، فظهر الفرق ، ثم نقول : أما إن النصارى ليسوا على ملة إبراهيم ، فالأمر فيه ظاهر ، لأن المسيح ما كان موجوداً في زمن إبراهيم ، فما كانت عبادته مشروعة في زمن إبراهيم لا محالة ، فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لملة إبراهيم لا محالة ، وأما إن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم ، فذلك لأنه لا شك إنه كان لله سبحانه وتعالى تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام ، ولا شك أن الموصل لتلك التكاليف إلى الخلق واحد من البشر ، ولا شك أن ذلك الإنسان قد كان مؤيداً بالمعجزات ، وإلا لم يجب على الخلق قبول تلك التكاليف منه فإذن قد كان قبل مجيء موسى أنبياء ، وكانت لهم شرائع معينة ، فإذا جاء موسى فإما أن يقال إنه جاء بتقرير تلك الشرائع ، أو بغيرهما فإن جاء بتقريرها لم يكن موسى صاحب تلك الشريعة ، بل كان كالفقيه المقرر لشرع من قبله ، واليهود لا يرضون بذلك ، وإن كان قد جاء بشرع آخر سوى شرع من تقدمه فقد قال بالنسخ ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كل الأنبياء جواز القول بالنسخ واليهود ينكرون ذلك ، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم ، فبطل قول اليهود والنصارى بأن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً ، فهذا هو المراد من الآية ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 77 ـ 78}
فائدة
قال القرطبى :
قال الزجاج : هذه الآية أبْيَنُ حجة على اليهود والنصارى ؛ إذ التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان ، واسم الإسلام في كل كتاب.
ويقال : كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبين موسى وعيسى أيضاً ألف سنة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 107}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :(14/101)
قوله : { لِمَ تُحَآجُّونَ } هي " ما " الاستفهامية ، دخل عليها حرف الجر ، فحُذِفَت ألفُها وتقدم ذلك في البقرة ، واللام متعلقة بما بعدها ، وتقديمها على عاملها واجب ؛ لجرها ما له صَدْرُ الكلام.
قوله : { في إِبْرَاهِيمَ } لا بد من مضافٍ محذوفٍ ، أي : في دين إبراهيم وشريعته ؛ لأن الذوات لا مجادلة فيها.
قوله : { وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة } الظاهر أن الواو للحال ، كهي في قوله : { لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [ آل عمران : 70 ].
أي كيف تحاجون في شريعته والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه ؟
وجوزوا أن تكون عاطفة ، وليس بالبيِّن ، وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب ، وقوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } متعلق بـ " أنزلت " ، وهو استثناء مفرَّغ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 299}
وقال أبو حيان :
و : ما ، في قوله : لمَ ، استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر ، ولذلك علة ذكرت في النحو ، وتتعلق : اللام بتحاجون ، ومعنى هذا الاستفهام الإنكار ، ومعنى : في إبراهيم ، في شرعه ودينه وما كان عليه ، ومعنى : المحاجة ، ادعاء من الطائفتين أنه منها وجدالهم في ذلك ، فرد الله عليهم ذلك بأن شريعة اليهود والنصارى متأخرة عن إبراهيم ، وهو متقدم عليهما ، ومحال أن ينسب المتقدم إلى المتأخر ، ولظهور فساد هذه الدعوى قال : { أفلا تعقلون } أي : هذا كلام من لا يعقل ، إذ العقل يمنع من ذلك.
ولا يناسب أن يكون موافقاً لهم ، لا في العقائد ولا في الأحكام.
أمّا في العقائد فعبادتهم عيسى وادعاؤهم أنه الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة.
وادعاء اليهود أن عزيراً ابن الله ، ولم يكونا موجودين في زمان إبراهيم.
(14/102)
وأما الأحكام فإن التوراة والإنجيل فيهما أحكام مخالفة للأحكام التي كانت عليها شريعة إبراهيم ، ومن ذلك قوله { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وقوله : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } وغير ذلك فلا يمكن إبراهيم على دين حدث بعده بأزمنة متطاوله.
ذكر المؤرخون أن بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان.
وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنه كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف سنة وستمائة واثنتان وثلاثون سنة.
وقال ابن إسحاق : كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون.
والواو في : { وما أنزلت التوراة } لعطف جملة على جملة ، هكذا ذكروا.
والذي يظهر أنها للحال كهي في قوله تعالى : { لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } وقوله { لم تلبسون } ثم قال { وأنتم تعلمون } وقوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } أنكر عليهم ادّعاء أن إبراهيم كان على شريعة اليهود أو النصارى ، والحال أن شريعتيهما متأخرتان عنه في الوجود ، فكيف يكون عليها مع تقدمه عليها ؟
وأمّا الحنيفية والإسلام فمن الأوصاف التي يختص بها كل ذي دين حق ، ولذلك قال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } إذ الحنيف هو المائل للحق ، والمسلم هو المستسلم للحق ، وقد أخبر القرآن بأن إبراهيم { كان حنيفاً مسلماً }
وفي قوله : { أفلا تعقلون } توبيخ على استحالة مقالتهم ، وتنبيه على ما يظهر به غلطهم ومكابرتهم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 509}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :(14/103)
{ يا أَهْلِ الكتاب } خطاب لليهود والنصارى { لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبراهيم } أي تنازعون وتجادلون فيه ويدعي كل منكم أنه عليه السلام كان على دينه ، أخرج ابن إسحق ، وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : "اجتمعت نصارى نجران ، وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهودياً ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانياً فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية" والظرف الأول متعلق بما بعده وكذا الثاني ، وما استفهامية ، والغرض الإنكار والتعجب عند السمين وحذفت ألفها لما دخل الجار للفرق بينها وبين الموصولة ، والكلام على حذف مضاف أي دين إبراهيم أو شريعته لأن الذوات لا مجادلة فيها { وَمَا أُنزِلَتِ } على موسى عليه السلام { التوراة والإنجيل } على عيسى عليه السلام { إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } حيث كان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وخمس وستون سنة ، وقيل : سبعمائة ، وقيل : ألف سنة وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة ، وقيل : ألفا سنة ، وهناك أقوال أخر.(14/104)
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزة داخلة على مقدر هو المعطوف عليه بالعاطف المذكور على رأي أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان قولكم أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه ، وهذا تجهيل لهم في تلك الدعوى وتحميق ، وهو ظاهر إن كانوا قد ادعوا كما قال الشهاب إنه عليه السلام منهم حقيقة ، وإن كان مدعاهم أن دين إبراهيم يوافق دين موسى ، أو دين عيسى فهو يهودي ، أو نصراني بهذا المعنى فتجهيلهم ، ونفي العقل عنهم بنزول التوراة والإنجيل بعده مشكل إلا أن يدعى بأن المراد أنه لو كان الأمر كذلك لما أوتي موسى عليه السلام التوراة ، ولا عيسى عليه السلام الإنجيل بل كانا يؤمران بتبليغ صحف إبراهيم كذا قيل وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل إذ لقائل أن يقول : أي مانع من اتحاد الشريعة مع إنزال هذين الكتابين لغرض آخر غير بيان شريعة جديدة على أن الصحف لم تكن مشتملة على الأحكام بل كانت أمثالاً ومواعظ كما جاء في الحديث ، ثم ما قاله الشهاب وإن كان وجه التجهيل عليه ظاهراً ، إلا أن صدور تلك الدعوى من أهل الكتاب في غاية البعد لأن القوم لم يكونوا بهذه المثابة من الجهالة وفيهم أحبار اليهود ووفد نجران ، وقد ذكر أن الأخيرين كانت لهم شدة في البحث ، فقد أخرج ابن جرير عبد الله بن الحرث الزبيدي أنه قال : "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ليت بيني وبين أهل نجران حجاباً فلا أراهم ولا يروني" من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إلا أن يقال : إن الله تعالى أعمى بصائرهم في هذه الدعوى ليكونوا ضحكة لأطفال المؤمنين ، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ليغيظ كل منهم صاحبه ؛ أو ليوهموا بعض المؤمنين ظناً منهم أنهم لكونهم أميين غير مطلعين على تواريخ الأنبياء السالفين يزلزلهم مثل ذلك ففضحهم الله تعالى ، أو أن القوم في حدّ ذاتهم جهلة لا يعلمون وإن كانوا أهل كتاب وما ذكره ابن الحرث لا يدل على علمهم كما لا يخفى ، وقيل :(14/105)
إن مراد اليهود بقولهم : إن إبراهيم عليه السلام كان يهودياً أنه كان مؤمناً بموسى عليه السلام قبل بعثته على حدّ ما يقوله المسلمون في سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام من أنهم كانوا مؤمنين بنبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثته كما يدل عليه تبشيرهم به ، وأن مراد النصارى بقولهم : إن إبراهيم كان نصرانياً نحو ذلك فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : { وَمَا أَنَزلَ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } أي ومن شأن المتأخر أن يشتمل على أخبار المتقدم لا سيما مثل هذا الأمر المهم والمفخر العظيم والمنة الكبرى أفلا تعقلون ما فيهما لتعلموا خلوهما عن الأخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 194 ـ 195}
ومن فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
استئناف ابتدائي للانتقال من دعائهم لكلمة الحق الجامعة لحق الدين ، إلى الإنكار عليهم محاجتهم الباطلة للمسلمين في دين إبراهيم ، وزعم كلّ فريق منهم أنهم على دينه توصّلاً إلى أنّ الذي خالف دينهم لا يكون على دين إبراهيم كما يدّعي النبي محمد صلى الله عليه وسلم فالمحاجة فرع عن المخالفة في الدعوى.
وهذه المحاجة على طريق قياس المساواة في النفي ، أو في محاجتهم النبي في دعواه أنه على دين إبراهيم ، محاجة يقصدون منها إبطال مساواة دينِه لدين إبراهيم ، بطريقة قياس المساواة في النفي أيضاً.
فيجوز أن تكون هذه الجملة من مقول القول المأمور به الرسولُ في قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا } أي قل لهم : يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون.(14/106)
ويجوز أن يكون الاستئناف من كلام الله تعالى عَقِبَ أمرِه الرسولَ بأن يقول { تعالَوا } فيكون توجيه خطاب إلى أهل الكتاب مباشرة ، ويكون جعل الجملة الأولى من مقول الرسول دون هذه لأنّ الأولى من شُؤون الدعوة ، وهذه من طرق المجاحّة ، وإبطال قولهم ، وذلك في الدرجة الثانِيَة مِن الدعوة.
والكلُ في النسبة إلى الله سواء.
ومناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى هذا الكلام نشأت من قوله : { فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون } [ آل عمران : 64 ] لأنه قد شاع فيما نزل من القرآن في مكة ، وبعدَها أنّ الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الحنيفية دين إبراهيم كما تقدم تقريره في سورة البقرة وكما في سورة النحل ( ) : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وسيجيء أنّ إبراهيم كان حنيفاً مسلماً ، وقد اشتهر هذا وأعلن بين المشركين في مكة ، وبني اليهود في المدينة ، وبين النصارى في وَفد نجران ، وقد علم أنّ المشركين بمكة كانوا يدّعون أنهم ورثة شريعة إبراهيم وسدنة بيته ، وكان أهل الكتاب قد ادّعوا أنهم على دين إبراهيم ، ولم يتبين لي أكان ذلك منهم ادّعاء قديماً أم كانوا قد تفطنوا إليه من دعوة محمد ، فاستيقظوا لتقليده في ذلك ، أم كانوا قالوا ذلك على وجه الإفحام للرسول حين حاجهم بأنّ دينه هو الحق ، وأنّ الدين عند الله الإسلام فألْجَؤوه إلى أحد أمرين : إما أن تكون الزيادةُ على دين إبراهيم غيرَ مخرجة عن اتِّباعه ، فهو مشترَك الإلزام في دين اليهودية والنصرانية ، وإما أن تكون مخرجة عن دين إبراهيم فلا يكون الإسلام تابعاً لدين إبراهيم.
(14/107)
وأحسب أنّ ادّعاءهم أنهم على ملة إبراهيم إنما انتحلوه لبثّ كل من الفريقين الدعوةَ إلى دينه بين العرب ، ولا سيما النصرانية ، فإنّ دعاتها كانوا يحاولون انتشارها بين العرب فلا يجدون شيئاً يروج عندهم سِوى أن يقولوا : إنها ملة إبراهيم ، ومن أجل ذلك اتُّبعت في بعض قبائل العرب ، وهنالك أخبار في أسباب النزول تثير هذه الاحتمالات : فروى أنّ وفد نجران قالوا للنبيء حين دعاهم إلى اتباع دينه : على أي دين أنتَ قال : على ملة إبراهيم قالوا : فقد زدتَ فيه ما لم يكن فيه فعلى هذه الرواية يكون المخاطبُ بأهل الكتاب هنا خصوصَ النصارى كالخطاب الذي قبْله وروى : أنه تنازعت اليهود ونصارى نجران بالمدينة ، عند النبي ، فأدّعي كل فريق أنه على دين إبراهيم دون الآخر ، فيكون الخطاب لأهل الكتاب كلهم ، من يهود ونصارى.
ولعل اختلاف المخاطبين هو الداعي لتكرير الخطاب.
وقوله : وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } يكون على حسب الرواية الأولى مَنْعاً لقولهم : فقد زدت فيه ما ليس مِنْه ، المقصودِ منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم.
وتفصيلُ هذا المنع : إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم ، فمن أين لكم أنّ الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم ، فإنكم لا مستند لكم في علمكم بأمور الدين إلاّ التوراةُ والإنجيلُ ، وهما قد نَزلا من بعد إبراهيم ، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلمَ المزيد عليهَا ، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل.
ويكون على حسب الرواية الثانية نفياً لدعوى كلّ فريق منهما أنه على دين إبراهيم ، بِأنّ دين اليهود هو التوراة ، ودينَ النصارى هو الإنجيل ، وكلاهما نزل بعد إبراهيم ، فكيف يكون شريعةً له.(14/108)
قال الفخر : يعني ولم يُصرّح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابقٌ لشريعة إبراهيم ، فذكر التوراة والإنجيل على هذا نشرٌ بعد اللف : لأنّ أهل الكتاب شَمِل الفريقين ، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود ، وذكرَ الإنجيل لإبطالِ قول النصارى ، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة ، وإن كان المقصود بادىء ذي بدء هم النصارى الذين مَساقُ الكلام معهم.
والأظهر عندي في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله : { وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } وقولِه : { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } وقولِه : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } فيبطل بذلك دعواهم أنهم على دين إبراهيم ، ودعواهم أنّ الإسلام ليس على دين إبراهيم ، ويَثْبُتُ عليهم أنّ الإسلام على دين إبراهيم ، وذلك أنّ قوله : { وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } يدل على أنّ علمهم في الدين منحصر فيهما ، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا جائز أن يكونا عين صحف إبراهيم.
وقولُه : { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } يُبطل قولهم : إنّ الإسلام زاد على دين إبراهيم ، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم ؛ لأنّ التوراة والإنجيل لم يَرد فيهما التصريح بذلك ، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه ، فلا يقولون وكيف يُدّعَى أنّ الإسلام دين إبراهيم مع أنّ القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده.
(14/109)
وقوله : { والله يعلم } يدل على أنّ الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمداً بالإسلام ديننِ إبراهيم وهو أعلم منكم بذلك ، ولم يسبق أن امتنّ عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك ، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية ، واستيقظتم لذلك حَسداً على هذه النعمة ، فنهضتْ الحجة عليهم ، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا : إنّ مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترَكُ الإلزام لنا ولكم ؛ فإنّ القرآن أنزل بعد إبراهيم ، ولولا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لَكَانَ مشترك الإلزام.
والاستفهام في قوله : { فلم تحاجون } مقصود منه التنبيه على الغلط.
وقد أعرض في هذا الاحتجاح عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على الدين الذي جاء به إبراهيم ، وبين وصف الإسلام بأنّه ملّة إبراهيم : لأنّهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع ، واتحاد الأصول ، وأنّ مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما سنبينها عند تفسير قوله تعالى : { فإنْ حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي للَّه } [ آل عمران : 20 ] وعندَ قوله : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } فاكتُفي في المحاجّة بإبطال مستندهم في قولهم : "فقد زدت فيه ما ليس فيه على طريقة المنع ، ثم بقوله : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً } [ آل عمران : 67 ] على طريقة الدعوى بناءً على أنّ انقطاع المعترِض كافٍ في اتجاه دعوى المستدل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 118 ـ 120}
وقال السعدى : (14/110)
لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا ، والنصارى أنه نصراني ، وجادلوا على ذلك ، رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم من ثلاثة أوجه ، أحدها : أن جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم ، فلا يمكن لهم ولا يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في أحكام التوراة والإنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في شأن إبراهيم ، الوجه الثاني : أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة ، والنصارى ينتسبون إلى أحكام الإنجيل ، والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم ، فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم ، فهل هذا يعقل ؟! فلهذا قال { أفلا تعقلون } أي : فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا ذلك ، الوجه الثالث : أن الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى والمشركين ، وجعله حنيفا مسلما ، وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته ، وهذا النبي وهو محمد صلى الله على وسلم ومن آمن معه ، فهم الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم ، والله تعالى وليهم وناصرهم ومؤيدهم ، وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين ، فليسوا من إبراهيم وليس منهم ، ولا ينفعهم مجرد الانتساب الخالي من الصواب. وقد اشتملت هذه الآيات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير علم ، وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر لا يمكن منه ولا يسمح له فيه ، وفيها أيضا حث على علم التاريخ ، وأنه طريق لرد كثير من الأقوال الباطلة والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ. أ هـ {تفسير السعدى صـ 134}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْرَاهِيمَ } الآية.
ضرب على خليله - صلوات الله - نقاب الضنَّة وحجاب الغيرة ، فقطع سببه عن جميعهم بعد ادِّعاء الكل فيه ، وحَكَمَ بتعارض شُبُهَاتِهم ، وكيف يكون إبراهيم - عليه السلام - على دين مَنْ أتى بعده ؟! إن هذا تناقضٌ من الظن. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 248}(14/111)
قوله تعالى { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) }
قال البقاعى :
ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال منبهاً لهم مكرراً التنبيه إشارة إلى طول رقادهم أو شدة عنادهم : {ها أنتم هؤلاء} أي الأشخاص الحمقى ، ثم بين ذلك بقوله : {حاججتم} أي قصدتم مغالبة من يقصد الرد عليكم {فيما لكم به علم} أي نوع من العلم من أمر موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لذكر كل منهما في كتابكم وإن كان جدالكم فيهما على خلاف ما تعلمون من أحوالهما عناداً أو طغياناً {فلم تحاجون} أي تغالبون بما تزعمون أنه حجة ، وهو لا يستحق أن يسمى شبهة فضلاً عن أن يكون حجة {فيما ليس لكم به علم} اصلاً ، لكونه لا ذكر له في كتابكم بما حاججتم فيه مع مخالفته لصريح العقل {والله} أي المحيط بكل شيء {يعلم} أي وأنتم تعلمون أن مجادلتكم في الحقيقة إنما هي مع الله سبحانه وتعالى ، وتعلمون أن علمه محيط بجميع ما جادلتم فيه {وأنتم} أي وتعلمون أنكم أنتم {لا تعلمون} أي ليس لكم علم أصلاً إلا ما علمكم الله سبحانه وتعالى ، هذا على تقدير كون " ها " في " ها أنتم " للتنبيه ، ونقل شيخنا ابن الجزري في كتابه " النشر في القراءات العشر " عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي الحسن الأخفش أنها بدل من همزة ، وروي عن أبي حمدون عن اليزيدي أن أبا عمرو قال : وإنما هي {أأنتم} ممدودة ، فجعلوا الهمزة هاء ، والعرب تفعل هذا ، فعلى هذا التقدير يكون استفهاماً معناه التعجيب منهم والتوبيخ لهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 110 ـ 111}
فصل
قال الفخر : (14/112)
المراد من قوله {حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} هو أنهم زعموا أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به وهو ادعاؤكم أن شريعة إبراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد عليه السلام ؟.
ثم يحتمل في قوله {هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} أنه لم يصفهم في العلم حقيقة وإنما أراد إنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه ، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به ألبتة ؟.
ثم حقق ذلك بقوله {والله يَعْلَمُ} كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} كيفية تلك الأحوال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 79}
فصل
قال ابن عادل :
قوله تعالى {هَا أَنْتُمْ}
القراء في هذه على أربع مراتِبَ ، والإعراب متوقِّفٌ على ذلك :
المرتبة الأولى للكوفيين وابن عامر والبَزِّي عن ابن كثير : ها أنتم - بألف بعد الهاء ، وهمزة مخففة بعدها.
المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع : بألف بعد الهاء ، وهمزة مسهَّلَة بين بين بعدها.
المرتبة الثالثة لورش ، وله وجهانِ :
أحدهما : بهمزة مسهلة بين بين بعد الهاء دون ألف بينهما.
الثاني : بألفٍ صريحةٍ بعد الهاء بغير همزة بالكلية.
المرتبة الرابعة لقُنْبُل بهمزة مُخَفَّفَة بعد الهاء دون ألف.
فصل
اختلف الناسُ في هذه الهاء : فمنهم من قال : إنها " ها " التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة ، وقد كثر الفصلُ بينها وبين أسماء الإشارةِ بالضمائر المرفوعة المنفصلة ، نحو : ها أنت ذا قائماً ، وها نحن ، وها هم ، وهؤلاء ، وقد تُعادُ مع الإشارة بعد دخولها على الضمائرِ ؛ توكيداً ، كهذه الآية ، ويقل الفصل بغير ذلك كقوله : [ البسيط ]
تَعَلَّمَنْ هَا - لَعَمْرُ اللهِ - ذَا قَسَماً... فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ
وقول النابغة : [ البسيط ](14/113)
هَا - إنَّ - ذِي عِذْرَةٌ إنْ لا تَكُنْ قُبِلَتْ... فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ تَاهَ في الْبَلَدِ
ومنهم من قال : إنها مُبْدَلَةٌ من همزة الاستفهام ، والأصل : أأنتم ؟ وهو استفهام إنكار ، وقد كثر إبدال الهمزة هاء - وإن لم ينقس - قالوا هَرَقْتُ ، وهَرَحْتُ ، وهَنَرتُ ، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء ، وأبي الحسن الأخفش ، وجماعة ، وأستحسنه أبو جعفر ، وفيه نظرٌ ؛ من حيث إنه لم يثبُت ذلك في همزة الاستفهام ، لم يُسْمَع : هَتَضْرِبُ زَيْداً - بمعنى أتَضْرِبُ زيداً ؟ وإذا لم يثبت ذلك فكيف يُحْمَلُ هذا عليه ؟
هذا معنى ما اعترض به أبو حيان على هؤلاء الأئمةِ ، وإذا ثبت إبدال الهمزة هاءٌ هان الأمر ، ولا نظر إلى كونها همزةَ استفهام ، ولا غيرها ، وهذا - أعني كونها همزة استفهام أبْدِلت هاءً - ظاهر قراءة قُنْبُلٍ ، وورش ؛ لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة " أنتم " ؛ لأن إدخال الألف لما كان لاستثقال توالي همزتين ، فلما أبدلت الهمزة هاء زال الثقل لفظاً ؛ فلم يُحتَج إلى فاصلةٍ ، وقد جاء إبدال همزة الاستفهام ألفاً في قول الشاعر : [ الكامل ]
وَأتَتْ صَوَاحِبَهَا ، وَقُلْنَ هَذَا الَّذِي... مَنَحَ الْمَوَدَّةَ غَيْرَنَا وَجَفَانَا
يريد أذا الذي ؟
ويضعف جعلها - على قراءتهما - " ها " التي للتنبيه ؛ لأنه لم يُحْفَظ حَذْفُ ألِفِها ، لا يقال : هَذَا زيد - بحذف ألف " ها " - كذا قيل.
(14/114)
قال شهاب الدّينِ : " وقد حذفها ابنُ عامر في ثلاثة مواضع - إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف - فقرأ - في الوصل - : { ياأيها الساحر } [ الزخرف : 49 ] و{ وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون } [ النور : 31 ] ، و{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } [ الرحمن : 31 ] ، ولكن إنما فعل ذلك اتباعاً للرسم ؛ لأن الألفَ حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة ، وعلى الجملة فقد ثبت حذف ألف " ها " التي للتنبيه. وأمَّا من أثبت الألف بَيْن الهاء وبين همزة " أنتم " فالظاهر أنها للتنبيه ، ويضعف أن تكون بدلاً من همزة الاستفهام ؛ لما تقدم من أن الألف إنما تدخل لأجل الثقل ، والثقل قد زال بإبدال الهمزة هاء ، وقال بعضهم : الذي يقتضيه النظر أن تكون " ها " - في قراءة الكوفيين والبَزِّيّ وابن ذكوان - ، للتنبيه ؛ لأن الألف في قراءتهم ثابتة ، وليس من مذهبهم أن يفصلوا بين الهمزتين بألف ، وأن تكون في قراءة قُنْبُل وورش - مُبْدَلَة من همزة ؛ لأن قُنْبُلاً يقرأ بهمزة بعد الهاء ، ولو كانت " ها " للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء ، وإنما لم يُسهِّل الهمزة - كما سَهَّلَها في { أَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك ، ولأن ورشاً فعل فيه ما فعل في : { أَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه من تسهيل الهمزة ، وترك إدخال الألفِ ، وكان الوجه في قراءته بالألف - أيضاً - الحمل على البدل كالوجه الثاني في { أَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه.
وما عدا هؤلاء المذكورين - وهم أبو عمرو وهشام وقالون - يحتمل أن تكون " ها " للتنبيه ، وأن تكون بدلاً من همزة الاستفهام.
أما الوجه الأول فلأن " ها " التنبيه دخلت على " أنتم " فحَقَّق هشام الهمزة كما حققها في " هؤلاء " ونحوها ، وَخَفَّفَهَا قالون وأبو عمرو ؛ لتوسُّطِها بدخول حرف التنبيه عليها ، وتخفيف الهمزة المتوسطة قَوِيٌّ.
(14/115)
الوجهُ الثاني : أن تكونَ الهاءُ بدلاً من همزة الاستفهام ؛ لأنهم يَفْصِلُون بين الهمزتين بألفٍ ، فيكون أبو عمرو وقالون على أصلهما - في إدخال الألف والتسهيل - وهشام على أصله - في إدخال الألف والتحقيق - ولم يُقْرَأ بالوجه الثاني - وهو التسهيل - لأن إبدال الهمزة الأولى هاءً مُغْنٍ عن ذلك.
وقال آخرون : إنه يجوز أن تكون " ها " - في قراءة الجميع - مُبْدَلَةً من همزة ، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على " أنتم " ذكر ذلك ابو علي الفارسي والمَهْدَوِي ومَكِيّ في آخرين.
فأما احتمال هذين الوجهين - في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع ، وهشام عن ابن عامر- فقد تقدم توجيهه ، وأما احتمالهما في قراءة غيرهم ، فأما الكوفيون والبَزِّيُّ وابنُ ذكوان فقد تقدم توجيه كون " ها " - عندهم - للتنبيه ، وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - عندهم - أن يكون الأصل أنه أأنتم ، ففصلوا بالألف - على لغة مَنْ قال : [ الطويل ]
.................................. أأنتِ أمْ أمُّ سَالِمِ
ولم يعبئوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً ؛ لكَوْن البدَلِ فيها عارضاً ، وهؤلاء ، وإن لم يكن من مذهبهم الفصل لكنهم جمعوا بين اللغتين.
وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - في قراءة قُنْبُلٍ وورشٍ - فقد تقدم ، وأما توجيه كونها للتنبيه في قراءتهما - وإن لم يكن فيها ألف - أن تكون الألف حُذِفَتْ لكثرة الاستعمال ، وعلى قول مَنْ أبدل كورشٍ حذفت إحدى الألفين ؛ لالتقاء الساكنين.
(14/116)
قال أبو شَامَةَ : الأوْلَى في هذه الكلمة - على جميع القراءات فيها - أن تكون " ها " للتنبيه ؛ لأنا إن جعلناها بدلاً من همزةٍ كانت الهمزةُ همزةَ استفهامٍ ، و{ هاأنتم } أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر ، لا للاستفهام ، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل ، وحَذْفُ مَنْ حذف ، أما التسهيل فقد سبق تشبيهه بقوله : { لأَعْنَتَكُمْ } [ البقرة : 220 ] وشبهه ، وأما الحذف فنقول : " ها " مثل " أما " - كلاهما حرف تنبيه - وقد ثبت جواز حذف ألف " أما " فكذا حذف ألف " ها " وعلى ذلك قولهم : أمَ واللهِ لأفْعَلَنَّ.
وقد حمل البصريون قولهم : " هَلُمَّ " على أن الأصل " هَالُمَّ " ، ثم حذف الف " ها " فكذا { هاأنتم }. وهو كلام حَسَنٌ ، إلا أنَّ قوله : إن { هاأنتم } - حيث جاءت - كانت خبراً ، لا استفهاماً ممنوع ، بل يجوز ذلك ، ويجوز الاستفهام ، انتهى.
ذكر الفرّاءُ أيضاً - هنا - بحثاً بالنسبة إلى القصر والمد ، فقال : من أثبت الألفَ في " ها " ، واعتقدها للتنبيه ، وكان مذهبُه أن يقصر في المنفصل ، فقياسه هنا قَصْر الألف سواء حقَّق الهمزة ، أو سهلها ، وأمّا من جعلها للتنبيه ، ومذهبه المد في المنفصل ، أو جعل الهاء مبدلة من همزة استفهام - فقياسه أن يمد - سواء حقق الهمزة أو سهلها-.
وأما ورش فقد تقدم عنه وجهان : إبدال الهمزة - من " أنتم " - ألفاً ، وتسهيلها بَيْن بَيْنَ ، فإذا أبدل مَدَّ ، وإذا سهَّل قَصَر ، إذا عُرِف هذا ففي إعراب هذه الآيةِ أوجُهٌ :
أحدها : أنَّ " أنتم " مبتدأ ، و" هَؤُلاَءِ " خبره ، والجملة من قوله : { حَاجَجْتُمْ } في محل نصب على الحال يدل على ذلك تصريحُ العَرَب بإيقاع الحال موقعها - في قولهم : ها أنا ذا قائماً ، ثم هذه الحال عندهم - من الأحوال اللازمة ، التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عَنْها.
(14/117)
الثالث : أن يكون { هاأنتم هؤلا } على ما تقدم - أيضاً - ولكن هَؤلاءِ هنا موصول ، لا يتم إلا بصلةٍ وعائدٍ ، وهما الجملة من قوله : { حَاجَجْتُمْ } ، ذكره الزمخشريُّ.
وهذا إنما يتجه عند الكوفيين ، تقديره : ها أنتم الذين حاججتم.
الرابع : أن يكون " أنْتُمْ " مبتدأ ، و" حَاجَجْتُمْ " خبره ، و" هؤلاء " منادًى ، وهذا إنما يتَّجِه عند الكوفيين أيضاً ؛ لأن حرفَ النداء لا يُحْذَف من أسماء الإشارة ، وأجازه الكوفيون وأنشدوا : [ البسيط ]
إنَّ الأولَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولا
يريد يا هذا اعتصم ، وقول الآخر : [ الخفيف ]
لا يَغُرًَّنَّكُمْ أولاَءِ مِنَ الْقَوْ... مِ جُنُوحٌ لِلسِّلْمِ فَهْوَ خِدَاعُ
يريد : يا أولاء.
الخامس : أن يكون " هَؤلاءِ " منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل. و" أنتُمْ " مبتدأ ، و" حَاجَجْتُمْ " خبره ، وجملة الاختصاص مُعْتَرِضَةٌ.
السادس : أن يكون على حذف مضافٍ ، تقديره : ها أنتم مثل هؤلاء ، وتكون الجملة بعدَها مُبَيِّنَةٌ لوجه الشبه ، أو حالاً.
السابع : أن يكون " أنْتُمْ " خبراص مقدماً ، و" هَؤلاءِ " مبتدأ مؤخراً.
وهذه الأوجهُ السبعةُ قد تقدم ذكرُها ، وذكرُ من نسبت إليه والردُّ على بعض القائلين ببعضها ، بما يغني عند إعادته في سورة البقرةِ عند قوله تعالى : { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 85 ] فليلتفت إليه.
قوله : { فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } " ما " يجوز أن تكون معنى " الذي " وأن تكونَ نكرةً موصوفةً.(14/118)
ولا يجوز أن تكون مصدرية ؛ لعود الضمير عليها ، وهي حرف عند الجمهور ، و" لَكُمْ " يجوز أن يكون خبراً مقدماً ، و" عِلمٌ " مبتدأ مؤخراً ، والجملة صلة لِ " ما " أو صفة ، ويجوز أن يكون لكم وحده صلة ، أو صفة ، و" عِلْمٌ " فاعلٌ به ؛ لأنه قد اعتمد ، و" بِهِ " متعلق بمحذوف ؛ لأنه حال من " عِلْمٌ " إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له ، ولا يجوز أن يتعلق بـ " عِلمٌ " لأنه مصدر ، والمصدر لا يتقدم معموله عليه ، فإن جعلته متعلِّقاً بمحذوف يفسِّره المصدرُ جاز ذلك ، وسُمي بياناً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 300 ـ 305}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :(14/119)
{ها أَنتُمْ هؤلاء } أي : أنتم هؤلاء الحمقى { حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } كأمر موسى ، وعيسى عليهما السلام { فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } وهو أمر إبراهيم عليه السلام حيث لا ذكر لدينه في كتابكم ، أو لا تعرض لكونه آمن بموسى وعيسى قبل بعثتيهما أصلاً ، وليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما المراد هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه على ما يلوح لكم من خلال عبارات كتابكم وإشارته في زعمكم فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ولا ذكر ، ولا رمز له في كتابكم ألبتة ؟ا و( ها ) حرف تنبيه ، واطرد دخولها على المبتدأ إذا كان خبره اسم إشارة نحو ها أناذا وكررت هنا للتأكيد ، وذهب الأخفش أن الأصل أأنتم على الاستفهام فقلبت الهمزة هاءاً ، ومعنى الاستفهام عنده التعجب من جهالتهم ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحسن ذلك لأنه لم يسمع إبدال همزة الاستفهام هاءاً في كلامهم إلا في بيت نادر ، ثم الفصل بين الهاء المبدلة وهمزة ( أنتم ) لا يناسب لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاءاً ، والإشارة للتحقير والتنقيص ، ومنها فهم الوصف الذي يظهر به فائدة الحمل ، وجملة { حاججتم } مستأنفة مبينة للأولى ، وقيل : إنها حالية بدليل أنه يقع الحال موقعها كثيراً نحو ها أناذا قائماً وهذه الحال لازمة ؛ وقيل : إن الجملة خبر عن ( أنتم ) و{ هَؤُلاء } منادى حذف منه حرف النداء ، وقيل : { هَؤُلاء } بمعنى الذي خبر المتبدأ ، وجملة { حاججتم } صلة ؛ وإليه ذهب الكوفيون ، وقراؤهم يقرءون { وَإِذْ أَنتُمْ } بالمد والهمز ، وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكن ، وقرأ ابن كثير ويعقوب بالهمز والقصر بغير مد ، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز { والله يَعْلَمُ } حال إبراهيم وما كان عليه { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك ، ولك أن تعتبر المفعول عاماً ويدخل المذكور(14/120)
فيه دخولاً أولياً ، والجملة تأكيد لنفي العلم عنهم في شأن إبراهيم عليه السلام. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 195}
فصل
قال القرطبى :
في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له ، والحظرِ على من لا تحقيق عنده فقال عز وجل : { هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ }.
وقد ورد الأمر بالجدال لمن علِم وأيقن فقال تعالى : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ].
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " أتاه رجل أنكر ولده فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل لك من إبل" ؟ قال نعم.
قال : "ما ألوانها" ؟ قال : حُمْرٌ : قال.
"هل فيها من أَوْرَق" ؟ قال نعم.
قال : "فمن أين ذلك" ؟ قال : لعل عِرْقاً نَزَعه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وهذا الغلام لعل عِرقاً نزعه" " وهذا حقيقة الجدال ونهايةٌ في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 108 ـ 109}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
يعني ما كان في كتابكم له بيان ، ويصح أن يكون لكم عليه برهان ، فَخَصَّهُمْ في ذلك إمَّا بحق وإما بباطل ، فالذي ليس لكم ألبتة عليه دليل ولا لكم إلى معرفته سبيل فكيف تصديتم للحكم فيه ، وادِّعاء الإحاطة به ؟!. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 249}(14/121)
قوله تعالى { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) }
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما وبخهم على ذلك من جهلهم نفى سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما ادعاه عليه كل منهم طبق ما برهنت عليه الآية الأولى ، ونفى عنه كل شرك أيضاً ، وأثبت أنه كان مائلاً عن كل باطل منقاداً مع الدليل إلى كل حق بقوله سبحانه وتعالى : {ما كان إبراهيم يهودياً} أي كما ادعى اليهود {ولا نصرانياً} كما ادعى النصارى - لما تقدم من الدليل {ولكن كان حنيفاً مسلماً} وقد بين معنى الحنيف عند قوله تعالى : {قل بل ملة إبراهيم حنيفاً} [ البقرة : 135 ] بما يصدق على المسلم ، وقال الإمام العارف ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في السؤال في القبر : واليهودي أصله من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام التوراة ، والنصراني من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام الإنجيل ، ثم صار اليهودي من كفر بما أنزل بعد موسى عليه الصلاة والسلام ، والنصراني من كفر بما أنزل بعد عيسى عليه الصلاة والسلام ، والحنيف المائل عن كل دين باطل ، والمسلم المطيع لأوامر الله سبحانه وتعالى في أي كتاب أنزلت مع أي رسول أوردت ، وإن شئت قلت : هو المنقاد لله سبحانه وتعالى وحده بقلبه ولسانه وجميع جوارحه المخلص عمله لله عزّ وجلّ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له : قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك " قل : آمنت بالله ثم استقم " انتهى.(14/122)
ثم خص بالنفي من عرفوا بالشرك مع الصلاح لكل من داخله شرك من غيرهم كمن أشرك بعزير والمسيح عليهما الصلاة والسلام فقال : {وما كان من المشركين} وفي ذكر وصفي الإسلام والحنف تعريض لهم بأنهم في غاية العناد والجلافة واليبس في التمسك بالمألوفات وترك ما أتاهم من واضح الأدلة وقاطع الحجج البينات. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 111 ـ 112}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}
نتيجة للاستدلال إذ قد تحَصحَص من الحجّة الماضية أنّ اليهودية والنصرانية غير الحنيفية ، وأنّ موسى وعيسى ، عليهما السلام ، لم يخبرا بأنهما على الحنيفية ، فأنتج أنّ إبراهيم لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية ؛ إذ لم يؤْثَر ذلك عن موسى ولا عيسى ، عليهما السلام ، فهذا سنده خلوّ كتبهم عن ادّعاء ذلك.
وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحنيفية مع خلوّها عن فريضة الحج ، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تمكن منه ، ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة : { لا نفرّق بينَ أحد منهم ونحن له مسلمون } [ البقرة : 136 ] عن عكرمة قال : "لما نزلت الآية قال أهل الملل : "قد أسلمنا قبلك ، ونحن المسلمون" فقال الله له : فحُجهم يا محمد وأنزل الله : { وللَّه على الناس حجّ البيت } [ آل عمران : 97 ] الآية فحجّ المسلمون وقَعد الكفار".
ثمّ تمم الله ذلك بقوله : وما كان من المشركين ، فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث.
والحنيف تقدم عند قوله تعالى : { قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً } في سورة [ البقرة : 135 ].(14/123)
وقولُه : ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } أفاد الاستدراكُ بعد نفي الضدّ حصرَا لحال إبراهيم فيما يوافق أصول الإسلام ، ولذلك بُيِّن حنيفاً بقوله : { مسلماً } لأنهم يعرفون معنى الحنيفية ولا يؤمنون بالإسلام ، فأعلمهم أنّ الإسلام هو الحنيفية ، وقال : { وما كان من المشركين } فنفى عن إبراهيم موافقة اليهودية ، .
وموافقة النصرانية ، وموافقة المشركين ، وإنه كان مسلماً ، فثبتت موافقته الإسلام ، وقد تقدم في سورة البقرة [ 135 ] في مواضع أنّ إبراهيم سأل أن يكون مسلماً ، وأنّ الله أمره أن يكون مسلماً ، وأنه كان حنيفاً ، وأنّ الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كان جاء به إبراهيم { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } وكلّ ذلك لا يُبقي شكاً في أنّ الإسلام هو إسلام إبراهيم.(14/124)
وَقد بينتُ آنفاً عند قوله تعالى : { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله } [ آل عمران : 20 ] الأصولَ الداخلة تحت معنى { أسلمتُ وجهي لله } فلنفرضها في معنى قول إبراهيم : { إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض } [ الأنعام : 79 ] فقد جاء إبراهيم بالتوحيد ، وأعلنه إعلاناً لم يَترك للشرك مسلكاً إلى نفوس الغافلين ، وأقام هيكلاً وهو الكعبة ، أول بيت وضع للناس ، وفرض حَجّه على الناس : ارتباطاً بمغزاه ، وأعلَن تمام العبودية لله تعالى بقوله : { ولا أخاف مَا تشركون به إلاّ أن يشاء ربّي شيئاً } [ الأنعام : 80 ] وأخلص القول والعمل لله تعالى فقال : { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم يُنزِّل به عليكم سلطاناً } [ الأنعام : 81 ] وتَطَلّب الهُدى بقوله : { ربنا واجعلنا مسلمَيْننِ لك } [ البقرة : 128 ] { وأرنا مناسكنا وتُب علينا } [ البقرة : 128 ] وكسر الأصنام بيده { فجعلهم جذاذاً } [ الأنبياء : 58 ] ، وأظهر الانقطاع لله بقوله : { الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين } [ الشعراء : 78 81 ] ، وتصَدّى للاحتجاج على الوحدانية وصفات الله { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } [ البقرة : 258 ] { وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه } [ الأنعام : 83 ] { وحاجهُ قومه } [ الأنعام : 80 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 122 ـ 123}
فصل
قال الفخر :
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}
قال الفخر :
وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح وبكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 79}
وقال ابن عاشور : (14/125)
وعطف قوله : { وما كان من المشركين } ليَيْأس مُشْرِكو العرب من أن يكونوا على ملّة إبراهيم ، وحتى لا يتوهم متوهم أنّ القصر المستفاد من قوله : ( ولكن حنيفاً مسلماً ) قصرٌ إضافي بالنسبة لليهودية والنصرانية ، حيث كان العرب يزعمون أنهم على ملّلا إبراهيم لكنهم مشركون. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 123}
سؤال : فإن قيل : قولكم إبراهيم على دين الإسلام أتريدون به الموافقة في الأصول أو في الفروع ؟ فإن كان الأول لم يكن مختصاً بدين الإسلام بل نقطع بأن إبراهيم أيضاً على دين اليهود ، أعني ذلك الدين الذي جاء به موسى ، فكان أيضاً على دين النصارى ، أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى فإن أديان الأنبياء لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول ، وإن أردتم به الموافقة في الفروع ، فلزم أن لا يكون محمد عليه السلام صاحب الشرع ألبتة ، بل كان كالمقرر لدين غيره ، وأيضاً من المعلوم بالضرورة أن التعبد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيم عليه السلام فتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا وغير مشروعة في صلاتهم.
قلنا : جاز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول والغرض منه بيان إنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا ، وجاز أيضاً أن يقال المراد به الفروع وذلك لأن الله نسخ تلك الفروع بشرع موسى ، ثم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم نسخ شرع موسى عليه السلام الشريعة التي كانت ثابتة في زمن إبراهيم عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون محمد عليه السلام صاحب الشريعة ثم لما كان غالب شرع محمد عليه السلام موافقاً لشرع إبراهيم عليه السلام ، فلو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 79 ـ 80}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :(14/126)
{ مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا } كما قالت اليهود { وَلاَ نَصْرَانِيّا } كما قالت النصارى { وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا } أي مائلاً عن العقائد الزائغة { مُسْلِمًا } أي منقاداً لطاعة الحق ، أو موحداً لأن الإسلام يرد بمعنى التوحيد أيضاً ؛ قيل : وينصره قوله تعالى : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } أي عبدة الأصنام كالعرب الذي كانوا يدعون أنهم على دينه ، أو سائر المشركين ليعم أيضاً عبدة النار كالمجوس ، وعبدة الكواكب كالصابئة ، وقيل : أراد بهم اليهود والنصارى لقول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وأصل الكلام وما كان منكم إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر للتعريض بأنهم مشركون ، والجملة حينئذ تأكيد لما قبلها ، وتفسير الإسلام بما ذكر هو ما اختاره جمع من المحققين وادعوا أنه لا يصح تفسيره هنا بالدين المحمدي لأنه يرد عليه أنه كان بعده بكثير فكيف يكون مسلماً ؟ فيكون كادعائهم تهوده وتنصره المردود بقوله سبحانه : { وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } [ آل عمران : 65 ] فيرد عليه ما ورد عليهم ، ويشترك الإلزام بينهما ، وفسره بعضهم بذلك ، وأجاب عن اشتراك الإلزام بأن القرآن أخبر بأن إبراهيم كان مسلماً وليس في التوراة والإنجيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يهودياً أو نصرانياً فظهر الفرق ، قال العلامة النيسابوري : فإن قيل : قولكم : إن إبراهيم عليه السلام على دين الإسلام إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصاً بدين الإسلام ، وإن أردتم في الفروع لزم أن لا يكون نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب شريعة بل مقرر لشرع من قبله. قيل : يختار الأول ، والاختصاص ثابت لأن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير عليه السلام إلى غير ذلك ، أو الثاني ولا يلزم ما ذكر لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى عليه السلام ثم نسخ نبينا(14/127)
صلى الله عليه وسلم شرع موسى بشريعته التي هي موافقة لشريعة إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيكون عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع انتهى ، ولا يخفى ما في الجواب على الاختيار الثاني من مزيد البعد ، بل عدم الصحة لأن نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى ، ثم نسخ شريعة موسى بشريعة نبينا عليهم الصلاة والسلام الموافقة لشريعة إبراهيم لا يجعل نبينا صاحب شريعة جديدة بل يقال له أيضاً : إنه مقرر لشرع من قبله وهو إبراهيم عليه السلام ، وأيضاً موافقة جميع فروع شريعتنا لجميع فروع شريعة إبراهيم مما لا يمكن بوجه أصلاً إذ من جملة فروع شريعتنا فرضية قراءة القرآن في الصلاة ولم ينزل على غير نبينا صلى الله عليه وسلم بالبديهة ، ونحو ذلك كثير.
وموافقة المعظم في حيز المنع ودون إثباتها الشم الراسيات ، وقوله تعالى : { أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم } [ النحل : 123 ] ليس بالدليل على الموافقة في الفروع إذ الملة فيه عبارة عن التوحيد أو عنه وعن الأخلاق كالهدى في قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الانعام : 90 ] واعترض الشهاب على الجواب على الاختيار الأول بالبعد كاعتراضه على الجواب على الاختيار الثاني بمجرده أيضاً ، وذكر أن ذلك سبب عدول بعض المحققين عما يقتضيه كلام هذا العلامة من أن المراد بكون إبراهيم مسلماً أنه على ملة الإسلام إلى أن المراد بذلك أنه منقاد بحمل الإسلام على المعنى اللغوي ، وادعى أنه سالم من القدح ، ونظر فيه بأن أخذ الإسلام لغوياً لا يناسب بحث الأديان والكلام فيه فلا يخلو هذا الوجه عن بعد ، ولعله لا يقصر عما ادعاه من بعد الجواب الأول كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم.(14/128)
هذا وفي الآية وجه آخر ولعله يخرج من بين فرث ودم وهو أن أهل الكتاب لما تنازعوا فقالت اليهود إبراهيم منا ، وقالت النصارى إنه منا أرادت كل طائفة أنه عليه السلام كان إذ ذاك على ما هو عليه الآن من الحال وهو حال مخالف لما عليه نبيهم في نفس الأمر موافق له زعماً على معنى موافقة الأصول للأصول ، أو الموافقة فيما يعد في العرف موافقة ولو لم تكن في المعظم وليست هذه الدعوى من البطلان بحيث لا تخفى على أحد فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : { وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } [ آل عمران : 65 ] أي وليسا مشتملين على ذلك وهو من الحري بالذكر لو كان ، ثم أشار سبحانه إلى ما هم عليه من الحماقة على وجه أتم ، ثم صرح سبحانه بما أشار أولاً فقال : { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا } أي من الطائفة اليهودية المخالفة لما جاء به موسى عليه السلام في نفس الأمر { وَلاَ نَصْرَانِيّا } أي من الطائفة النصرانية المخالفة لما جاء به عيسى عليه السلام كذلك { وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا } أي على دين الإسلام الذي ليس عند الله دين مرضي سواه وهو دين جميع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، وفي ذلك إشارة إلى أن أولئك اليهود والنصارى ليسوا من الدين في شيء لمخالفتهم في نفس الأمر لما عليه النبيان بل الأنبياء ، ثم أشار إلى سبب ذلك بما عرّض به من قوله سبحانه : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } فعلى هذا يكون المسلم كما قال الجصاص ، وأشرنا إليه فيما مرّ مراراً المؤمن ولو من غير هذه الأمة خلافاً للسيوطي في زعمه أن الإسلام مخصوص بهذه الأمة هذا ما عندي في هذا المقام فتدبر فلمسلك الذهن اتساع. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 195 ـ 197}(14/129)
وقال الطبرى :
وهذا تكذيبٌ من الله عز وجل دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى ، وادَّعوا أنه كان على ملتهم وتبرئة لهم منه ، وأنهم لدينه مخالفون وقضاءٌ منه عز وجل لأهل الإسلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل دينه ، وعلى منهاجه وشرائعه ، دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم.
يقول الله عز وجل : ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا كان من المشركين ، الذين يعبدون الأصنامَ والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم "ولكن كان حنيفًا" ، يعني : متبعًا أمرَ الله وطاعته ، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها "مسلمًا" ، يعني : خاشعًا لله بقلبه ، متذللا له بجوارحه ، مذعنًا لما فَرَض عليه وألزمه من أحكامه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 493 ـ 494}
وقال ابن عطية :
أخبر الله تعالى في هذه الآية ، عن حقيقة أمر إبراهيم ، فنفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ، ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية ، وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة ، نفى نفس الملل وقرر الحالة الحسنة ، ثم نفى نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالاً بل حفظته ، وما كنت سارقاً ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 451}
وقال أبو حيان :
{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان ، وبدأ بانتفاء اليهودية ، لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى ، وكرر ، لا ، لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين ، ثم استدرك ما كان عليه بقوله { ولكن كان حنيفاً مسلماً } ووقعت لكن هنا أحسن موقعها ، إذ هي واقعة بين النقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل.(14/130)
ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى ، كان الاستدارك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما ، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين ، وهم : عبدة الأصنام ، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم ، وكالمجوس عبدة النار ، وكالصابئة عبدة الكواكب ، ولم ينص على تفصيلهم ، لأن الإشراك يجمعهم.
وقيل : أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح ، فتكون هذه الجملة توكيداً لما قبلها من قوله { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } وجاء : من المشركين ، ولم يجىء : وما كان مشركاً ، فيناسب النفي قبله ، لأنها رأس آية.
{ وما كان من المشركين } ثلاثة أقوال : أحدها : أن المشركين عبدة الأصنام والنار والكواكب والثاني : أنهم اليهود والنصارى والثالث : عبدة الأوثان واليهود والنصارى.
وقال عبد الجبار : معنى { ما كان يهودياً ولا نصرانياً } لم يكن على الدين الذي يدين به هؤلاء المحاجون ، ولكن كان على جهة الدين الذي يدين به المسلمون.
وليس المراد أن شريعة موسى وعيسى لم تكن صحيحة.
وقال علي بن عيسى : لا يوصف إبراهيم بأنه كان يهودياً ولا نصرانياً لأنهما صفتا ذمّ لاختصاصهما بفرقتين ضالتين ، وهما طريقان محرّفان عن دين موسى وعيسى ، وكونه مسلماً لا يوجب أن يكون على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل كان على جهة الإسلام.
والحنيف : اسم لمن يستقبل في صلاته الكعبة ، ويحج إليها ، ويضحي ، ويختتن.
ثم سمي من كان على دين إبراهيم حنيفاً. انتهى.
وفي حديث زيد بن عمرو بن نفيل : أنه خرج إلى الشام يسأل عن الدين ، وأنه لقي عالماً من اليهود ، ثم عالماً من النصارى ، فقال له اليهودي : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله.
وقال له النصراني : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله.
فقال زيد : ما أفرّ إلاَّ من غضب الله ، ومن لعنته.(14/131)
فهل تدلاني على دين ليس فيه هذا ؟ قالا : ما نعلمه إلاَّ أن تكون حنيفاً.
قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، وكان لا يعبد إلاَّ الله وحده ، فلم يزل رافعاً يديه إلى السماء.
وقال : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 511 ـ 512}. بتصرف يسير.(14/132)
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية.
هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لم يكن مشركاً يوما ؛ لأن نفي الكون الماضي في قوله : {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي كما دل عليه قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ..} الآية, وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك وهو قوله : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي .. فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي ... فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ.. } الآية, ومن ظنّ ربوبية غير الله فهو مشرك بالله كما دل عليه قول الله تعالى عن الكفار : {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ}, والجواب عن هذا من وجهين :(14/133)
أحدهما : أنه مناظر لا ناظر ومقصوده التسليم الجدلي : أي هذا ربي على زعمكم الباطل, والمناظر قد يسلم المقدمة الباطلة تسليما جدليا ليفحم بذلك خصمه, فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر : الكوكب مخلوق لا يمكن أن يكون ربا, لقالوا له : كذبت, بل الكوكب ربّ, ومما يدل لكونه مناظرا لا ناظر قوله تعالى : {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ..} استدل به بن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى : {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} لا دليل فيه على التحقيق ؛ لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعا وإظهارا لإلتجائهم إلى الله كقول إبراهيم : {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}, وقوله هو وإسماعيل : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} الآية .
الوجه الثاني : أنّ الكلام على حذف همزة الاستفهام أي : أهذا ربي ؟ وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دلّ المقام عليها جائز, وهو قياسي عند الأخفش مع (أم) ودونها, ذُكِر الجواب أم لا, فمن أمثلته دون (أم) ودون ذكر الجواب قول الكميت :
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
ولا لعبا مني وذو شيب يلعب
يعني أو ذو الشيب يلعب ؟, وقول أبي خراش الهذلي واسمه بن خويلد
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
بعني أهم هم كما هو الصحيح, وجزم به الألوسي في تفسيره, وذكره ابن جرير عن جماعة, ويدل له قوله : "وأنكرت الوجوه", ومن أمثلته دون (أم) مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
ثم قالوا تحبها قلت بهرا
عدد النجم والحصى والتراب
يعني : أتحبُّها على القول الصحيح, وهو مع (أم) كثير جداً, ومن أمثلته قول الأسود بن يعفر التميمي وأنشده سيبويه لذلك :
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا
شعيث بن سهم أو شعيث بن منقر(14/134)
يعني أشعيث بن سهم ؟ وقول بن أبي ربيعة المخزومي :
بدا لي منها معصم يوم جمرت
وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب
بسبع رميت الجمر أم بثمان
يعني أبسبع ؟ وقول الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
يعني أكذبتك عينك ؟ كما نصّ سيبويه على جواز ذلك في بيت الأخطل, هذا وإن خالف الخليل زاعما أنّ (كذبتك) صيغة خبرية, وأنّ (أم) بمعنى (بل) ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى بالرجوع عند البلاغيين ، وقول الخنساء :
قذى بعينيك أم بالعين عوار
أم خلت إذا أقفرت من أهلها الدار
تعني أقذى بعينيك ؟وقول أحيحة بن الجلاح الأنصاري :
وما تدري وإن ذمرت سقبا
لغيرك أم يكون لك الفصيل
يعني ألغيرك ؟ وقول أمرئ القيس :
تروح من الحي أم تبتكر
وماذا عليك بأن تنتظر
يعني أتروح ؟
وعلى هذا القول فقرينة الاستفهام المحذوف علو مقام إبراهيم عن ظن ربوبية غير الله, وشهادة القرآن له بالبراءة من ذلك, والآية على هذا القول تشبه قراءة بن محيصن : (سواء عليهم أنذرتهم), ونظيرها على هذا القول قوله تعالى : {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}, وقوله تعالى : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} على أحد القولين, وقوله : {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}على أحد القولين.(14/135)
وما ذكره بعض العلماء غير هذين الوجهين فهو راجع إليهما كالقول بإضمار القول أي يقول الكفار : هذا ربي, فإنه راجع إلى الوجه الأول, وما ذكره عن ابن إسحاق واختاره ابن جرير الطبري ونقله عن ابن عباس من أنّ إبراهيم كان ناظراً يظنُّ ربوبية الكوكب فهو ظاهر الضعف ؛ لأن نصوص القرآن ترده كقوله : {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}, وقوله تعالى : {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}, وقوله : {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ}, وقد بيّن المحقق ابن كثير في تفسيره رد ما ذكره بن جرير بهذه النصوص القرآنية وأمثالها, والأحاديث الدالة على مقتضاها كقوله صلى الله عليه وسلم : "كل مولود يولد على الفطرة" الحديث. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 53 ـ 57}(14/136)
قوله تعالى {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نفي عنه صلى الله عليه وسلم كل زيغ بعد أن نفي عنه أن يكون على ملة هو متقدم عن حدوثها شرع في بيان ما يتم به نتيجة ما مضى ببيان من هو أقرب إليه ممن جاء بعده ، فقرر أن الأولى به إنما هو من اتبعه في أصل الدين ، وهو التوحيد والتنزيه الذي لم يختلف فيه نبيان أصلاً ، وفي الانقياد للدليل وترك المألوف من غير تلعثم حتى صاروا أحقاء بالإسلام الذي هو وصفه بقوله سبحانه وتعالى مؤكداً رداً عليهم وتكذيباً لمحاجتهم : {إن أولى الناس} أي أقربهم وأحقهم {بإبراهيم للذين اتبعوه} أي في دينه من أمته وغيرهم ، لا الذين ادعوا أنه تابع لهم ، ثم صرح بهذه الأمة فقال : {وهذا النبي} أي هو أولى الناس به {والذين آمنوا} أي من أمته وغيرهم وإن كانوا في أدنى درجات الإيمان {والله} أي بما له من صفات الكمال - وليهم ، هذا الأصل ، ولكنه قال : {ولي المؤمنين} ليعم الأنبياء كلهم وأتباعهم من كل فرقة ، ويعلم أن الوصف الموجب للتقريب العراقة في الإيمان ترغيباً لمن لم يبلغه في بلوغه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 112}
فصل
قال القرطبى :
وقال ابن عباس : قال رؤساء اليهود : والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، فإنه كان يهودياً وما بك إلا الحسد ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{ أَوْلَى } معناه أحق ، قيل : بالمعونة والنصرة.
وقيل بالحجة.
{ لَلَّذِينَ اتبعوه } على مِلّته وسنته.
{ وهذا النبي } أفرد ذكره تعظيماً له ؛ كما قال { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] وقد تقدّم في "البقرة" هذا المعنى مستوفى.(14/137)
و "هذا" في موضع رفع عطف على الذين ، و"النبيّ" نعت لهذا أو عطف بيان ، ولو نصب لكان جائزاً في الكلام عطفاً على الهاء في "اتبعوه".
{ والله وَلِيُّ المؤمنين } أي ناصرهم.
وعن ابن مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إن لكل نبيّ ولاة من النبيين وإن وليّي منهم أبي وخليل ربي ثم قرأ { إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبيّ } ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 109 ـ 110}
فائدة
قال فى الميزان :
وفي قوله {وهذا النبي والذين آمنوا} إفراد للنبى (عليه السلام) ومن اتبعه من المؤمنين من الذين اتبعوا إبراهيم إجلالا للنبي وصونا لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر ذلك مثل قوله تعالى " أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده : الأنعام - 90 حيث لم يقل فبهم اقتده. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 254}(14/138)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم } { أُوْلِى } أفعل تفضيل من وليه يليه ولياً وألفه منقلبة عن ياء لأن فاءه واو فلا تكون لامه واواً إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو ، وأصل معناه أقرب ، ومنه ما في الحديث "لأولى رجل ذكر" ويكون بمعنى أحق كما تقول : العالم أولى بالتقديم ، وهو المراد هنا أي أقرب الناس وأخصهم بإبراهيم { لَلَّذِينَ اتبعوه } أي كانوا على شريعته في زمانه ، أو اتبعوه مطلقاً فالعطف في قوله سبحانه : { وهذا النبى } من عطف الخاص على العام وهو معطوف على الموصول قبله الذي هو خبر { إن} وقرىء بالنصب عطفاً على الضمير المفعول ، والتقدير للذين اتبعوا إبراهيم واتبعوا هذا النبي وقرىء بالجر عطفاً على إبراهيم أي إن أولى الناس بإبراهيم ، وهذا النبي للذين اتبعوه واعترض بأنه كان ينبغي أن يثني ضمير { اتبعوه } ويقال اتبعوهما ، وأجيب بأنه من باب { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] إلا أن فيه على ما قيل الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي ، وقوله تعالى : { والذين ءامَنُواْ } إن كان عطفاً على الذين اتبعوه يكون فيه ذلك أيضاً ، وإن كان عطفاً على هذا النبي فلا فائدة فيه إلا أن يدعى أنها للتنويه بذكرهم ، وأما التزام أنه من عطف الصفات بعضها على بعض حينئذ فهو كما ترى ، ثم إن كون المتبعين لإبراهيم عليه السلام في زمانه أولى الناس به ظاهر ، وكون نبينا صلى الله عليه وسلم أولاهم به لموافقة شريعته للشريعة الإبراهيمية أكثر من موافقة شرائع سائر المرسلين لها ، وكون المؤمنين من هذه الأمة كذلك لتبعيتهم نبيهم فيماجاء به ومنه الموافق.(14/139)
{ والله وَلِىُّ المؤمنين } ينصرهم ويجازيهم بالحسنى كما هو شأن الولي ، ولم يقل وليهم تنبيهاً على الوصف الذي يكون الله تعالى به ولياً لعباده وهو الإيمان بناءاً على أن التعليق بالمشتق يقتضي عليه مبدأ الاشتقاق. ومن ذلك يعلم ثبوت الحكم للنبي بدلالة النص ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رؤساء اليهود : والله يا محمد لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك وأنه كان يهودياً وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى هذه الآية. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 197}
ومن فوائد ابن عاشور فى الآية
قال عليه الرحمه :
قوله تعالى { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}
استئناف ناشيء عن نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم ، فليس اليهود ولا النصارى ولا المشركون بأولى الناس به ، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون : نحن أولى بدينكم.
و ( أولى ) اسم تفضيل أي أشد ولْياً أي قرباً مشتق من وَلِي إذا صار وَليّاً ، وعدّي بالباء لتضمّنه معنى الاتصال أي أخصّ الناس بإبراهيم وأقربهم منه.
ومن المفسّرين من جعل أولى هنا بمعنى أجدر فيضطرّ إلى تقدير مضاف قبل قوله : { بإبراهيم } أي بدين إبراهيم.(14/140)
والذين اتبعوا إبراهيم هم الذين اتبعوه في حياته : مثل لوط وإسماعيل وإسحاقَ ، ولا اعتداد بمحاولة الذين حاولوا اتباع الحنيفية ولم يهتدوا إليها ، مثل زيد بن عَمْرو بن نُفَيْل ، وأميةَ ابن أبي الصّلْت ، وأبيه أبي الصَّلت ، وأبي قيْس صِرمَة بن أبي أنس من بني النجّار ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " كاد أمية بن أبي الصّلْت ، أن يُسلم " وهو لم يدرك الإسلام فالمعنى كاد أن يكون حنيفاً ، وفي "صحيح البخاري" : أنّ زيد بن عَمرو بن نُفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين فلقي عالماً من اليهود ، فسأله عن دينه فقال له : إنّي أريد أن أكونَ على دينك ، فقال اليهوديّ : إنّك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله ، قال زيد : أفِرُّ إلاّ من غضب الله ، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيع ، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ؟ قال : لا أعلمه إلاّ أن تكون حنيفاً ، قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وكان لا يعبد إلاّ الله ، فخرج من عنده فلقي عالماً من النصارى فقاوله مثل مقاولة اليهودي ، غير أنّ النصراني قال : أن تأخذ بنصيبك من لَعنة الله ، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم ، فلم يزل رافعاً يديه إلى السماء وقال : اللهم أشهَدْ أنّي على دين إبراهيم وهذا أمنية منه لا تصادف الواقع.(14/141)
وفي "صحيح البخاري" ، عن أسماء بنت أبي بكر : قالت : رأيت زيدَ بن عَمرو بن نُفيل قبل الإسلام مسنِداً ظهره إلى الكعبة وهو يقول : "يا معشر قريش ليس منكم على دين إبراهيم غيري" وفيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيدَ بن عمرو بن نُفيل بأسفل بَلْدَح قبل أن يَنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقُدِّمَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سُفرة فأبى زيدُ بن عمرو أنْ يأكل منها وقال : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه وهذا توهّم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كما تفعل قريش.
وإنّ زيداً كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء أنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله.
واسم الإشارة في قوله : { وهذا النبي } مستعمل مجازاً في المشتهر بوصف بين المخاطبين كقوله في الحديث : " فجعل الفَرَاشُ وهذه الدّوَابُّ تقع في النار " فالإشارة استعملت في استحضار الدوابّ المعروفة بالتساقط على النار عند وقودها ، والنبي ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية ، حينئذ ، ولا قُصدت الإشارة إلى ذاته.
ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبي هو الناطق بهذا الكلام ، فهو كقول الشاعر : "نجوتتِ وهَذا تحملين طَليق" أي والمتكلّم الذي تحملينه.
والاسم الواقع بعد اسم الإشارة ، بدلاً منه ، هو الذي يعين جهة الإشارة مَا هي.
وعطف النبي على الذين اتبعوا إبراهيم للاهتمام به وفيه إيماء إلى أنّ متابعته إبراهيم عليه السلام ليست متابعة عامة فكون الإسلام من الحنيفية أنّه موافق لها في أصولها.
والمراد بالذين آمنوا المسلمون.(14/142)
فالمقصود معناه اللقَبي ، فإنّ وصف الذين آمنوا صار لقباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك كثر خطابهم في القرآن بيأيها الذين آمنوا.
ووجه كون هذا النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم ، مثل الذين اتبعوه ، إنّهم قد تخلقوا بأصول شرعه ، وعرفوا قدره ، وكانوا له لسان صدق دائباً بذكره ، فهؤلاء أحقّ به ممّن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون ، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه ، وهم اليهود والنصارى ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سَأل عن صوم اليهود ، يوم عاشوراء فقالوا : هو يوم نجّى الله فيه موسى فقال : "نَحْن أحقّ بموسى منهم" وصامه وأمر المسلمين بصومه.
وقوله : { والله ولي المؤمنين } تذييل أي هؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم ، والله ولي إبراهيم ، والذين اتبعوه ، وهذا النبي ، والذين آمنوا ؛ لأنّ التذييل يشمل المذيَّل قطعاً ، ثم يشمل غيره تكميلاً كالعام على سبب خاص.
وفي قوله : { والله ولي المؤمنين } بعد قوله : { كان إبراهيم يهودياً } [ آل عمران : 67 ] تعريض بأنّ الذين لم يكن إبراهيم منهم ليسوا بمؤمنين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 123 ـ 125}
فصل(14/143)
روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب ، وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة ، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ ، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ ، وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي - من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - ثأراً ممن قُتِل منكم ببدر ، فاجمعوا مالاً ، وأهدوه إلى النجاشِيِّ ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم ، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا ، فركِبا البحرَ ، وأتَيَا الحبشةَ ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له ، وسلما عليه ، وقَالاَ له : إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون ، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك ؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر ، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا ، لا يدخل عليهم أحدٌ ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ بعث إليك ابن عَمِّه ، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك ، فاحْذَرْهُمْ ، وادْفَعْهم إلَيْنَا ، لنكفِيَكَهُمْ ، قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ.(14/144)
فدعاهم النجاشيُّ ، فلمَّا حضروا صاح جعفرُ بالباب : يستأذن عليك حزبُ اللهِ ، فقال النجاشيُّ : مروا هذا الصائحَ فلْيُعِدْ كلامَه ، ففعل جَعْفَرُ ، فقال النجاشيُّ : نعم ، فلْيَدْخُلُوا بأمان اللهِ وذمته ، فنظر عمرو بنُ العاصِ إلى صاحبه ، فقال : ألا تسمع ؟ يرطنون بـ " حِزْبِ اللهِ " وما أجابهم به النجاشي!!! فساءهما ذلك ، ثم دخلوا عليه ولم يَسْجُدُوا له ، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك ؟ فقال لهم النجاشِيُّ : ما منعكم أن تسجدوا لِي وتُحَيُّونِي بالتحية التي يحييني بها مَنْ أتاني من الآفاقِ ؟ قالوا : نَسْجُد لله الذي خَلَقَكَ ومُلْكَك ، وإنما كانت تلك التحيةُ لنا ونحن نعبدُ الأصْنَام ، فبعث الله فينا نبيًّا صادقاً ، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللهُ ، وهي السلامُ ، وتحية أهل الجنَّةِ ، فعرف النجاشيُّ أن ذلك حَقٌّ ، وأنه في التوراة والإنجيل ، فقال : أيكم الهاتف : يستأذنُ عليك حِزْبُ الله ؟ قال جَعْفَر : أنا ، قال : فتكلم ، قال : إنك مَلِك من ملوك أهل الأرض ، ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندَك كثرةُ الكلامِ ، ولا الظلمُ ، وأنا أحب أن أجيبَ عن أصحابي ، فمر هذين الرجلين ، فلْيَتَكَلَّمْ أحدُهما ، وليُنْصِت الآخرُ ، فيسمع محاورتنا ، فقال عَمْرو لجعفر : تَكَلَّمْ ، فقال جعفر للنجاشيُّ : سل هذين الرجلين أعَبيدٌ نحن أم أحرارٌ ؟ فإن كنا عبيداً أبَقْنَا من أرْبَابِنا فاردُدْنا إليهم ، فقال النجاشيُّ : أعبيدٌ هم أم أحرار ؟ فقال لا ، بل أحرارٌ كرام ، فقال النجاشيُّ : نَجَوْا من العبوديَّةِ ، ثم قال جعفرُ : سَلْهَُمَا هل لهم فينا دماء بغير حق ، فيقتصّ منا ؟ فقال عمرو : لا ، ولا قطرة.(14/145)
قال جعفر : سَلْهُمَا ، هل أخذنا أموالَ الناسِ بغير حق ، فعلينا قضاؤها - قال النجاشيُّ : إن كان قنطاراً فعلي قضاؤه - فقال عمرو : لا ، ولا قيراط ، فقال النجاشيُّ : فما تطلبون منهم ؟ قال عمرو كنا وهم على دينٍ واحدٍ - دين آبائِنا - فتركوا ذلك ، واتَّبَعُوا غيره ، فَبَعَثَنَا إليك قومنا لتدفعهم إلينا ، فقال النجاشيُّ : ما هذا الدينُ الذي كنتم عليه ، الدين الذي اتبعتموه ؟
قال : أما الدينُ الذي كنا عليه فتركناه فهو دينُ الشيطانِ ، كنا نكفر بالله ، ونعبد الحجارة ، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدينُ الله الإسلامُ ، جاءنا به من الله رسولٌ ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم ، موافِقاً له.
فقال النجاشيُّ : يا جعفر ، تكلمت بأمر عظيم ، فعلى رِسْلِك ، ثم أمر النجاشيُّ ، فضُرِب بالنَّاقوس ، قد اجتمع إليه كُلُّ قِسِّيسٍ ورَاهبٍ ، فلما اجتمعوا عنده ، قال النجاشيُّ : أنشدكم إله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًّا مُرسَلاً ؟ فقالوا : اللهم نَعَمْ ، قد بشرنا به عيسَى ، وقال : مَنْ آمن به فقد آمن بي ، ومن كَفَر به فقد كفر بي.(14/146)
قال النجاشيُّ لجعفَرَ : ماذا يقول لكم هذا الرجلُ ؟ وما يأمركم به ، وما ينهاكم عنه ؟ قال : يقرأ علينا [ كتاب الله ] ، ويأمرنا بالمعروف ، وينهانا عن المنكر ، ويأمر بحُسْنِ الجوار ، وصلة الرَّحِم ، وبِرِّ اليتيم ، وأمرنا أن لا نعبد إلا اللهَ وحدَه لا شريك له ، فقال : اقرأ عليَّ مما يقرأ عليكم ، فقرأ سورتي العنكبوت والرُّوم ، ففاضت عينا النجاشيِّ وأصحابه من الدّمع ، وقالوا : زِدْنَا يا جعفرُ من هذا الحديثِ الطيبِ ، فقرأ عليهم سورة الكهف ، فأراد عمرو أن يُغْضِبَ النجاشِيّ ، فقال : إنهم يشتمون عيسى ابن مريمَ وأمَّه ، فقال النجاشِيُّ : ما تقولون في عيسى وأمِّه ، فقرأ عليهم جعفر سورة " مريم " ، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشِيُّ نُفَاثَةً من سواكه قَدْرَ ما يُقْذِي العَيْنَ قال : والله ما زادَ المسيحُ على قول هذا ، ثم أقبل على جعفرَ وأصحابه ، فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي ، آمنون ، مَنْ سَبَّكُمْ وآذاكم غَرِم ، ثم قال : أبشروا ، ولا تخافوا ، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيمَ ، قال عمرو : يا نجاشيُّ ، ومَنْ حِزْبَ إبراهيم ؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبُهم الذي جاءوا من عنده ومَن اتبعهم ، فأنكر ذلك المشركون ، وادَّعَوْا في دين إبراهيمَ ، ثم رَدَّ النجاشيُّ على عمرو وصاحبه المالَ الذي حملوه ، وقال : إنما هديَّتُكم إليّ رشْوَة ، فاقبضوها ؛ فإن الله - تعالى - ملَّكَني ولم يأخذْ مني رشوة ، قال جعفرُ : فانصرفْنَا ، فكنا في خير دارٍ ، وأكرم جوارٍ ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم - وهو في المدينة - قوله - عز وجل : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين }.{ أخرجه ابن إسحاق في السيرة عن أم سلمة : 1 / 211 -(14/147)
215 ومن طريقه الإمام أحمد في المسند : 1 / 201 - 203 عن أم سلمة. وقال الهيثمي في المجمع : 6 / 27 : "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح" وذكره الواحدي في أسباب النزول ص (138 - 141)}.
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ ، وَإنَّ وليِّي مِنْهُمْ أبي ، وَخَلِيلُ رَبِّي " ثم قرأ : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين }.
{ سعيد بن منصور في السنن برقم (501) والترمذي في السنن برقم (2995) وقد خولف أبو أحمد الزبيري وأبو الأحوص في رواية هذا الحديث ، فرواه ابن مهدي ويحيى القطان وأبو نعيم ، فلم يذكروا فيه مسروق.
قال ابن أبي حاتم في العلل (2/63) : سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه أبو أحمد الزبيري وروح بن عبادة فذكره ، فقالا جميعا : "هذا خطأ رواه المتقنون من أصحاب الثوري عن الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا مسروق"}. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 308 ـ 310}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
قيل : وجمعت هذه الآيات من البلاغة : التنبيه والإشارة والجمع بين حرفي التأكيد ، وبالفصل في قوله : { إن هذا لهو القصص الحق } وفي : { وإنّ الله لهو العزيز } والإختصاص في : { عليم بالمفسدين } وفي : { وليّ المؤمنين } والتجوز بإطلاق اسم الواحد على الجمع في : { إلى كلمة سواء } وباطلاق اسم الجنس على نوعه في : { يا أهل الكتاب } إذا فسر باليهود.
والتكرار في : إلا الله ، و: إنّ الله ، وفي : يا أهل الكتاب تعالوا ، يا أهل الكتاب لم.
وفي : إبراهيم ، و: ما كان إبراهيم ، و: إن أولى الناس بإبراهيم.(14/148)
والتشبيه في : أرباباً ، لما أطاعوهم في التحليل والتحريم ، وأذعنوا إليهم أطلق عليه : أرباباً تشبيهاً بالرب المستحق للعبادة والربوبية ، والإجمال في الخطاب في : يا أهل الكتاب ، تعالوا يا أهل الكتاب ، لم تحاجون ، كقول إبراهيم : يا أبت.
يا أبت وكقول الشاعر :
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا . . .
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً
وقول الآخر :
بني عمنا لا تنبشوا الشر بيننا . . .
فكم من رماد صار منه لهيب
والتجنيس المماثل في : أولى وولي. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 501 ـ 513}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
لما تفرقت الأهواء والبدع وصار كل حزب إلى خطأ آخر ، بقي أهل الحقِّ في كل عصر وكل حين ووقت على الحجة المثلى ، فكانوا حزباً واحداً ، فبعضهم أَوْلى ببعض. وإبراهيم صاحب الحق ، ومن دان بدينه - كمثل رسولنا صلى الله عليه وسلم وأمته - على الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام وهو توحيد الله سبحانه وتعالى.
{ وَاللهُ وَلِىُّ المُؤْمِنِينَ } لأنهم تولَّوْا دينه ، ووافقوا توحيده ، وولاية الله إنما تكون بالعَوْن والنصرة والتخصيص والقربة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 249}(14/149)
قوله تعالى { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان قصد بعضهم بدعواه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام على دينه إنما هو إضلال أهل الإسلام عقب ذلك بالإعراب عن مرادهم بقوله تعالى - جواباً لمن كأنه قال : فما كان مراد أهل الكتابين بدعواهم فيه مع علمهم أن ذلك مخالف لصريح العقل ؟ {ودت طآئفة} أي من شأنها أن تطوف حولكم طواف التابع المحب مكراً وخداعاً {من أهل الكتاب} حسداً لكم {لو يضلونكم} بالرجوع إلى دينهم الذي يعلمون أنه قد نسخ {وما} أي والحال أنهم ما {يضلون} بذلك التمني أو الإضلال لو وقع {إلا أنفسهم} لأن كلاًّ من تمنيهم وإضلالهم ضلال لهم مع أنهم لا يقدرون أن يضلوا من هداه الله ، فمن تابعهم على ضلالهم فإنما أضله الله {وما يشعرون} أي وليس يتجدد لهم في وقت من الأوقات نوع شعور ، فكيدهم لا يتعداهم فقد جمعوا بين الضلال والجهل ، إما حقيقة لبغضهم وإما لأنهم لما عملوا بغير ما يعلمون عد علمهم جهلاً وعدوا هم بهائم ، فكانت هذه الجملة على غاية التناسب ، لأن أهم شيء في حق من رمى بباطل - إنما غلبة الرامي ليتعاظم بأنه شأنه - بيان إبطاله في دعواه ، ثم تبكيته المتضمن لبراءة المقذوف ، ثم التصريح ببراءته ، ثم بيان من هو أولى بالكون من حربه ، ثم بيان المراد من تلك الدعوى الكاذبة ليحذر غائلتها السامع. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 112 ـ 113}
فصل
قال الفخر : (14/150)
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق ، والإعراض عن قبول الحجة بيّن أنهم لا يقتصرون على هذا القدر ، بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم : إن محمداً عليه السلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوّة ، وأيضاً إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول ، وأيضاً القول بالنسخ يفضي إلى البداء ، والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود ، ونظير قوله تعالى في سورة البقرة : {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [ البقرة : 109 ] وقوله {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} [ النساء : 89 ].
واعلم أن {مِنْ} ههنا للتبعيض وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى الله عليهم بقوله {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} [ المائدة : 66 ] {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَة} [ آل عمران : 113 ] وقيل نزلت هذه الآية في معاذ وعمّار بن ياسر وحذيفة دعاهم اليهود إلى دينهم ، وإنما قال : {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} ولم يقل أن يضلوكم ، لأن {لَوْ} للتمني فإن قولك لو كان كذا يفيد التمني ونظيره قوله تعالى : {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [ البقرة : 96 ].(14/151)
ثم قال تعالى : {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} وهو يحتمل وجوهاً منها إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير وهو كقوله {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [ البقرة : 57 ] وقوله {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [ العنكبوت : 13 ] {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآء مَا يَزِرُونَ} [ النحل : 25 ] ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين ، حيث اعتقدوا شيئاً ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه.
ثم قال تعالى : {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي ما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 80}
فصل
قال ابن عادل :
في " مِن " وجهان :
أظهرهما : أنها تبعيضيَّة.
والثاني : أنها لبيان الجنس.
قال ابن عطيَّة : ويعني أن المراد بـ " طائفة " جميع أهل الكتاب ، قال أبو حيّان : وهذا بعيد من دلالة اللفظ ، وهذا الجار - على القول بأنها تبعضية - في محلّ رفع ، صفة لِ " طَائِفَةٌ " ، وعلى القول بأنها بيانية تعلق بمحذوف.
وقوله : تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون على بابها - من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره.
قال أبو مُسْلِم الأصبهاني : " وَدَّ " بمعنى تَمَنَّى ، فيستعمل معها " لو " و" أن " وربما جُمِع بينهما ، فَيُقَالُ : وددت أن لو فعلت ، ومصدره الودادة ، والاسم منه وُدّ وبمعنى " أحَبَّ " فيتعدَّى " أحَب " والمصدر المودة ، والاسم منه ود وقد يتداخلانِ في المصدر والاسم.(14/152)
وقال الراغب : " إذا كان بمعنى " أحب " لا يجوز إدخال " لو " فيه أبداً ".
وقال الرمانيُّ : " إذا كان وَدَّ " بمعنى تمنَّى صلُح للحال والاستقبال [ والماضي ، وإذا كان بمعنى الهمة والإرادة لم يصلح للماضي ؛ لأن الإرادة لاستدعاء الفعل ، وإذا كان للحال والمستقبل جاز وتجوز " لَوْ " ، وإذا كان للماضي لم يجز " أنْ " لأن " أن " للمستقبل ].
وفيه نظرٌ ، لأن " أن " تُوصَل بالماضي. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 310 ـ 311}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } المشهور أنها نزلت حين دعا اليهود حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهودية ، فالمراد بأهل الكتاب اليهود ، وقيل : المراد بهم ما يشمل الفريقين ، والآية بيان لكونهم دعاة إلى الضلالة إثر بيان أنهم ضالون ، وأخرج ابن المنذر عن سفيان أنه قال : كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى ، ولعله جار مجرى الغالب ، و{ مِنْ } للتبعيض ، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم ، وقيل : لبيان الجنس والطائفة جميع أهل الكتاب وفيه بعد ، و{ لَوْ } بمعنى أن المصدرية ، والمنسبك مفعول ودّ وجوز إقرارها على وضعها ، ومفعول ودّ محذوف ، وكذا جواب { لَوْ } والتقدير : ودّت إضلالكم لو يضلونكم لسروا بذلك ، ومعنى { يُضِلُّونَكُمْ } يردونكم إلى كفركم قاله ابن عباس أو يهلكونكم قاله ابن جرير الطبري أو يوقعونكم في الضلال ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم قاله أبو علي وهو قريب من الأول.(14/153)
{ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } الواو للحال ، والمعنى على تقدير إرادة الإهلاك من الإضلال أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله تعالى وغضبه ، وإن كان المراد من الإهلاك الإيقاع في الضلال فيحتاج إلى تأويل لأن القوم ضالون فيؤدي إلى جعل الضال ضالاً فيقال : إن المراد من الإضلال ما يعود من وباله إما على سبيل المجاز المرسل ، أو الاستعارة أي ما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا إليهم لما أنهم يضاعف به عذابهم ، أو المراد بأنفسهم أمثالهم المجانسون لهم ، وفيه على ما قيل : الإخبار بالغيب فهو استعارة أو تشبيه بتقدير أمثال أنفسهم إذ لم يتهود مسلم ولله تعالى الحمد وقيل : إن معنى إضلالهم أنفسهم إصرارهم على الضلال بما سولت لهم أنفسهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج ، ولا يخلو عن شيء { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي وما يفطنون بكون الإضلال مختصاً بهم لما اعترى قلوبهم من الغشاوة قاله أبو علي وقيل : { وَمَا يَشْعُرُونَ } بأن الله تعالى يعلم المؤمنين بضلالهم وإضلالهم ، وفي نفي الشعور عنهم مبالغة في ذمهم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 198 ـ 199}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}
استئناف مناسبتُه قوله : { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون إلى قوله { إن أولى الناس بإبراهيم } [ آل عمران : 64 68 ] إلخ.
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة ، ولذلك عُبّر عنهم بطائفة من أهل الكتاب لئلاّ يتوهم أنهم أهل الكتاب الذين كانت المحاجة مَعهم في الآيات السابقة.
والمراد بالطائفة جماعة منهم من قريظة ، والنضير ، وقَينُقاع ، دَعَوا عمَّار بن ياسر ، ومعاذَ بن جبل ، وحذيفةَ بن اليمان ، إلى الرجوع إلى الشرك.(14/154)
وجملة لو يضلونكم مبينة لمضمون جملة ودّت ، على طريقة الإجمال والتفصيل.
فلو شرطية مستعملة في التمنّي مجازاً لأنّ التمنّي من لوازم الشرط الامتناعي.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه فعل وَدّت تقديره : لو يضلونكم لحصل مودودهم ، والتحقيق أنّ التمنّي عارض من عوارض لَوْ الامتناعية في بعض المقامات.
وليس هو معنى أصلياً من معاني لو.
وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى : { يَودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة } في سورة [ البقرة : 96 ].
وقوله : { لو يضلونكم } أي ودّوا إضلالكم وهو يحتمل أنهم ودّوا أن يجعلوهم على غير هدى في نظر أهل الكتاب : أي يذبذبوهم ، ويحتمل أنّ المراد الإضلال في نفس الأمر ، وإن كان وُدُّ أهل الكتاب أن يهوّدوهم.
وعلى الوجهين يحتمل قوله تعالى : { وما يضلون إلا أنفسهم } أن يكون معناه : إنهم إذا أضلوا الناس فقد صاروا هم أيضاً ضالين ؛ لأنّ الإضلال ضلال ، وأن يكون معناه : إنهم كانوا من قبل ضالين برضاهم بالبقاء على دين منسوخ وقوله : { وما يشعرون } يناسب الاحتمالين لأنّ العلم بالحالتين دقيق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 125 ـ 126}
وقال الطبرى :
يعني بقوله جل ثناؤه : "ودّت" ، تمنت "طائفة" ، يعني جماعة "من أهل الكتاب" ، وهم أهل التوراة من اليهود ، وأهل الإنجيل من النصارى "لو يضلُّونكم" ، يقولون : لو يصدّونكم أيها المؤمنون ، عن الإسلام ، ويردُّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر ، فيهلكونكم بذلك.
و"الإضلال" في هذا الموضع ، الإهلاكُ ، من قول الله عز وجل : ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) [سورة السجدة : 10] ، يعني : إذا هلكنا ، ومنه قول الأخطل في هجاء جرير :
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ... قَذَفَ الأتِيُّ بِهِ فَضَلّ ضلالا
يعنى : هلك هلاكًا ، وقول نابغة بني ذبيان : (14/155)
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ... وَغُودِرَ بِالجَوْلانِ حَزْمٌ ونَائِلُ
يعني مهلكوه.
"وما يضلون إلا أنفسهم" ، وما يهلكون - بما يفعلون من محاولتهم صدّكم عن دينكم - أحدًا غير أنفسهم ، يعني بـ"أنفسهم" : أتباعهم وأشياعَهم على ملَّتِهم وأديانهم ، وإنما أهلكوا أنفسَهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخَطه ، واستحقاقهم به غَضَبه ولعنته ، لكفرهم بالله ، ونقضِهم الميثاقَ الذي أخذ الله عليهم في كتابهم ، في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، والإقرار بنبوّته.
ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون ، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة والردى ، على جهل منهم بما اللهُ بهمُ محلٌّ من عقوبته ، ومدَّخِر لهم من أليم عذابه ، فقال تعالى ذكره : "وما يشعرون" أنهم لا يضلون إلا أنفسهم ، بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون.
ومعنى قوله : "وما يشعرون" ، وما يدرون ولا يعلمون. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 500 ـ 502}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { وَدَّت طِّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَو يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ }.
من حلَّت به فتنة ، وأصابته محنة ، واستهوته غواية - رَضِي لجميع الناس ما حلّ به ، فأهل الكتاب يريدون بالمؤمنين أن يزيغوا عن الحق ، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره ، وأن يعودَ إليهم وبالُ فعلهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 249 ـ 250}(14/156)
قوله تعالى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ختم الكلام فيهم بنفي شعورهم بين تعالى في معرض التبكيت أن نفيهم عنه إنما هو لأنهم معاندون ، لا يعملون بعلمهم ، بل يعملون بخلافه ، فقال مستأنفاً بما يدل على غاية التبكيت المؤذنة بشديد الغضب : {يا أهل الكتاب} أي الذين يدعون أنهم أهل العلم {لم تكفرون} أي كفراً تجددونه في كل وقت {بآيات الله} أي تسترون ما عندكم من العلم بسبب الآيات التي أنزلت عليكم من الملك المحيط بكل شيء عظمة وعزاً وعلماً {وأنتم تشهدون} أي تعلمون علماً هو عندكم في غاية الانكشاف أنها آياته أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 113}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بيّن حال الطائفة التي لا تشعر بما في التوراة من دلالة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، بيّن أيضاً حال الطائفة العارفة بذلك من أحبارهم.
فقال : {يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 81}
في قوله {بآيات الله} وجوه
الأول : أن المراد منها الآيات الواردة في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا القول فيه وجوه
أحدها : ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد عليه السلام ، ومنها ما في هذين الكتابين ، أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً ، ومنها أن فيهما أن الدين هو الإسلام.
واعلم أن على هذا القول المحتمل لهذه الوجوه نقول : إن الكفر بالآيات يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة بل كانوا كافرين بما يدل عليه التوراة فأطلق اسم الدليل على المدلول على سبيل المجاز والثاني : أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.(14/157)
فأما قوله تعالى : {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} فالمعنى على هذا القول أنهم عند حضور المسلمين ، وعند حضور عوامهم ، كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا بصحتها ، ومثله قوله تعالى : {تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} [ آل عمران : 99 ].
واعلم أن تفسير الآية بهذا القول ، يدل على اشتمال هذه الآية على الإخبار عن الغيب لأنه عليه الصلاة والسلام أخبرهم بما يكتمونه في أنفسهم ، ويظهرون غيره ، ولا شك أن الإخبار عن الغيب معجز.
القول الثاني : في تفسير آيات الله أنها هي القرآن وقوله {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} يعني أنكم تنكرون عند العوام كون القرآن معجزاً ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزاً.
القول الثالث : أن المراد بآيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القول فقوله تعالى : {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} معناه أنكم إنما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدالة على صدقهم ، من حيث أن المعجز قائم مقام التصديق من الله تعالى فإذا شهدتهم بأن المعجز إنما دل على صدق سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هذا الوجه ، وأنتم تشهدون حصول هذا الوجه في حق محمد صلى الله عليه وسلم كان إصراركم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتهم بحقيته من دلالة معجزات سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على صدقهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 81}(14/158)
وقال الآلوسى :
قوله تعالى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)}
أي لم تكفرون بما يتلى عليكم من آيات القرآن وأنتم تعلمون ما يدل على صحتها ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل ، وقيل : المراد : لم تكفرون بما في كتبكم من الآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون الحجج الدالة على ذلك ، أو : لم تكفرون بما في كتبكم من أن الدين عند الله الإسلام وأنتم تشاهدون ذلك ، أو : لم تكفرون بالحجج الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون أن ظهور المعجزة يدل على صدق مدعي الرسالة أو أنتم تشهدون إذا خلوتم بصحة دين الإسلام ، أو : لم تكفرون بآيات الله جميعاً وأنتم تعلمون حقيتها بلا شبهة بمنزلة علم المشاهدة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 199}
وقال السمرقندى :
يقول لم تجحدون بالقرآن { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } أنه نبيّ الله ، لأنهم كانوا يخبرون بأمره قبل مبعثه ويقال : بآيات الله ، يعني بعجائبه ودلائله.
ويقال : بآية الرجم. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 247}
وقال الطبرى :
يعني بذلك جل ثناؤه : "يا أهل الكتاب" ، من اليهود والنصارى "لم تكفرون" ، يقول : لم تجحدون "بآيات الله" ، يعني : بما في كتاب الله الذي أنزله إليكم على ألسن أنبيائكم ، من آيه وأدلته"وأنتم تشهدون" أنه حق من عند ربكم.
وإنما هذا من الله عز وجل ، توبيخٌ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته ، وهم يجدونه في كتبهم ، مع شَهادتهم أن ما في كتبهم حقٌّ ، وأنه من عند الله. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 503}(14/159)
وقال ابن عطية :
المعنى : قل لهم يا محمد ، لأي سبب تكفرون بآيات الله التي هي آية القرآن ؟ وأنتم تشهدون أن أمره وصفة محمد الذي هو الآتي به في كتابكم ، قال هذا المعنى قتادة وابن جريج والسدي ، وتحتمل الآية أن يريد " بالآيات " ما ظهر على يدي محمد عليه السلام من تعجيز العرب والإعلام بالغيوب وتكلم الجماعات وغير ذلك و{ تشهدون } على هذا يكون بمعنى تحضرون وتعاينون ، والتأويل الأول أقوى لأنه روي أن أهل الكتاب كانوا قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم يخبرون بصفة النبي الخارج وحاله ، فلما ظهر كفروا به حسداً ، فإخبارهم المتقدم لظهوره هو الشهادة التي وقفوا عليها ، قال مكي : وقيل إن هذه الآيات عني بها قريظة والنضير وبنو قينقاع ونصارى نجران. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 452}
وقال أبو حيان :
{ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } قال ابن عباس : هي التوراة والإنجيل وكفرهم بها من جهة تغيير الأحكام ، وتحريف الكلام أو الآيات التي في التوراة والإنجيل من وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، كما بين في قوله : { يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وابن جريح.
أو : القرآن من جهة قولهم : { إنما يعلمه بشر } { إن هذا إلا إفك } { أساطير الأولين } والآيات التي أظهرها على يديه من : انشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وغير ذلك.
أو : محمد والإسلام ، قاله قتادة ، أو : ما تلاه من أسرار كتبهم وغريب أخبارهم ، قاله ابن بحر أو : كتب الله ، أو : الآيات التي يبين لهم فيها صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وصحة نبوّته ، وأمروا فيها باتباعه ، قاله ابو علي. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 514}(14/160)
وقال الثعالبى وقد أجاد :
ويحتملُ الجميع من الآيات المتلوَّة والمعجزات التي شَاهَدُوها منه صلى الله عليه وسلم. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 277}
قوله تعالى {وأنتم تشهدون}
قال أبو حيان :
{ وأنتم تشهدون } جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون أنها آيات الله ، ومتعلق الشهادة محذوف ، يقدّر على حسب تفسير الآيات ، فيقدّر بما يناسب ما فسرت به ، فلذلك قال قتادة ، والسدي ، والربيع : وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة.
وقيل : تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها ، وقيل : بما عليكم فيه من الحجة.
وقيل : إن كتبكم حق ، ولا تتبعون ما أنزل فيها.
وقيل : بصحتها إذا خلوتم.
فيكون : تشهدون ، بمعنى : تقرون وتعترفون.
وقال الراغب : أو عنى ما يكون من شهادتهم { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم }
وقيل : تكفرون بآيات الله : تنكرون كون القرآن معجزاً ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم أنه معجز. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 514 ـ 515}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
" لم " أصلها " لِمَا " لأنها " ما " التي للاستفهام ، دخلت عليها اللامُ ، فحُذِفت الألف ؛ لطلب الخفة لأن حرف الجر صار كالعِوَضِ عنها ، ولأنها وقعت طرفاً ، ويدل عليها الفتحة ؛ وعلى هذا قوله تعالى : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [ النبأ : 1 ] وقوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] والوقف على [ هذه الحروف ] يكون بالهاء نحو فَبِمَهْ ، لِمَهْ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 312}(14/161)
قوله تعالى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}
قال البقاعى :
{وأنتم تشهدون} أي تعلمون علماً هو عندكم في غاية الانكشاف أنها آياته ؛ ثم أتبع ذلك استئنافاً آخر مثل ذلك إلا أن الأول قاصر على ضلالهم وهذا متعد إلى إضلالهم فقال : {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق} أي الذي لا مرية فيه {بالباطل} أي بأن تؤولوه بغير تأويله ، أو تحملوه على غير محله {وتكتمون الحق} أي الذي لا يقبل تأويلاً ، وهو ما تعلمون من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وتوابعها {وأنتم} أي والحال أنكم {تعلمون} أي من ذوي العلم ، فأنتم تعرفون ذلك قطعاً وأن عذاب الضال المضل عظيم جداً. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 113}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن علماء اليهود والنصارى كانت لهم حرفتان إحداهما : أنهم كانوا يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا يعلمون بقلوبهم أنه رسول حق من عند الله والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في الآية الأولى وثانيتهما : إنهم كانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات ، وفي إخفاء الدلائل والبينات والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في هذه الآية الثانية ، فالمقام الأول مقام الغواية والضلالة والمقام الثاني مقام الإغواء والإضلال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 82}
فائدة
قال ابن عاشور :
وإعادة ندائهم بقوله : { يا أهل الكتاب } ثانيةً لقصد التوبيخ وتسجيل باطلهم عليهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 126}
فصل
قال الفخر :(14/162)
اعلم أن الساعي في إخفاء الحق لا سبيل له إلى ذلك إلا من أحد وجهين : إما بإلقاء شبهة تدل على الباطل ، وإما بإخفاء الدليل الذي يدل على الحق ، فقوله {لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} إشارة إلى المقام الأول وقوله {وَتَكْتُمُونَ الحق} إشارة إلى المقام الثاني أما لبس الحق بالباطل فإنه يحتمل ههنا وجوهاً
أحدها : تحريف التوراة ، فيخلطون المنزل بالمحرف ، عن الحسن وابن زيد
وثانيها : إنهم تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ، ثم الرجوع عنه في آخر النهار ، تشكيكاً للناس ، عن ابن عباس وقتادة وثالثها : أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من البشارة والنعت والصفة ويكون في التوراة أيضاً ما يوهم خلاف ذلك ، فيكون كالمحكم والمتشابه فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعله كثير من المشبهة ، وهذا قول القاضي ورابعها : أنهم كانوا يقولون محمداً معترف بأن موسى عليه السلام حق ، ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى عليه السلام لا ينسخ وكل ذلك إلقاء للشبهات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 82}
قوله تعالى : {وَتَكْتُمُونَ الحق}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَتَكْتُمُونَ الحق} فالمراد أن الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كان الاستدلال بها مفتقراً إلى التفكر والتأمل ، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي كان بمجموعها يتم هذا الاستدلال مثل ما أن أهل البدعة في زماننا يسعون في أن لا يصل إلى عوامهم دلائل المحققين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 82}
وقال ابن عاشور :
ولبس الحق بالباطل تلبيس دينهم بما أدخلوا فيه من الأكاذيب والخرافات والتأويلات الباطلة ، حتى ارتفعت الثقة بجميعه.(14/163)
وكتمان الحق يحتمل أن يراد به كتمانهم تصديق محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يراد به كتمانهم ما في التوراة من الأحكام التي أماتوها وعوّضوها بأعمال أحبارهم وآثار تأويلاتهم ، وهم يعلمونها ولا يعملون بها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 126}
فائدة
قال أبو حيان :
والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 516}
قوله {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}
قال الفخر :
أما قوله {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ففيه وجوه
أحدها : إنكم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عناداً وحسداً
وثانيها : {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أنتم أرباب العلم والمعرفة لا أرباب الجهل والخرافة
وثالثها : {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 82}
وقال أبو حيان :
{ وأنتم تعلمون } جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه ، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه ، ولا أن يخلطه بالباطل ، والسؤال عن السبب سؤال عن المسبب ، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب ، وختمت الآية قبل هذه بقوله : { وأنتم تشهدون } وهذه بقوله : { وأنتم تعلمون } لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر بآيات الله ، وهي أخص من الحق ، لأن آيات الله بعض الحق ، والشهادة أخص من العلم ، فناسب الأخص الأخص ، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها ، والعلم أعم من الشهادة ، فناسب الأعم الأعم.
وقالوا في قوله : { وأنتم تعلمون } أي : إنه نبي حق ، وإن ما جاء به من عند الله حق.
وقيل : قال : { وأنتم تعلمون } ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف ، ويقوم عليهم به الحجة.(14/164)
وقيل : { وأنتم تعلمون } الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 516 ـ 517}
فصل
قال الفخر :
قال القاضي : قوله تعالى : {لِمَ تَكْفُرُونَ} و{لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} دال على أن ذلك فعلهم ، لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ، ثم يقول : لم فعلتم ؟
وجوابه : أن الفعل يتوقف على الداعية فتلك الداعية إن حدثت لا لمحدث لزم نفي الصانع ، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى وإن كان محدثها هو الله تعالى لزمكم ما ألزمتموه علينا ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 82}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قرأ العامة : { تَلْبِسُونَ } بكسر الباء ، من لبس عليه يلبس ، أي : خلَطه ، وقرأ يحيى بن وثَّابٍ بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه - على جهة المجاز ، وقرأ أبو مجلز " تُلبِّسُون " - بضم التاء ، وكسر الباء وتشديدها - من لبَّس " بالتشديد " ، ومعناه التكثير.
والباء في " الباطل " للحال ، أي : متلبساً بالباطل.
فصل في معنى : تلبسون الحق
{ تَلْبِسُونَ } تخلطون { الحق بالباطل } الإسلام باليهودية والنصرانية.
وقيل : تخلطون الإيمان بعيسى - وهو الحق - بالكفر بمحمد - وهو الباطل -.
وقيل : التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل ، الذي حرَّفتموه ، وكتبتموه بأيديكم ، قاله الحسنُ وابن زيد.
وقال ابنُ عباس وقتادةُ : تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس.
قال القاضي : أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من البشارة والنعت والصفة ، ويكون في التوراة - أيضاً - ما يوهم خلاف ذلك ، فيكون كالمحكم والمتشابه ، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر.(14/165)
وقيل إنهم كانوا يقولون : إنَّ محمداً معترفٌ بأن موسى حَقٌّ ، ثم إنّ التوراةَ دالة على أن شرع موسى لا ينسخ ، وكل ذلك إلقاء للشبهات.
قوله : { وَتَكْتُمُونَ الحق } جملة مُسْتَأنَفةٌ ، ولذلك لم يُنْصَب بإضمار " أن " في جواب الاستفهام ، وقد أجاز الزجاجُ - من البصريين - والفرّاءُ - من الكوفيين - فيه النصب - من حيث العربية - تسقط النون ، فينتصب على الصرف عند الكوفيين ، وبإضمار " أن " عند البصريين.
ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ ، وأنكَرَه ، وقال : الاستفهام واقع على اللبس فحسب ، وأما { يَكْتُمُونَ } فخبر حتم ، لا يجوز فيه إلا الرفع. يعني أنه ليس معطوفاً على { تَلْبِسُونَ } ، بل هو استئناف ، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحقَّ مع علمهم أنه حَقٌّ.
ونقل ابو محمد بن عَطِيَّة عن أبي عليٍّ أنه قال : الصَّرْف - هنا - يَقْبُح ، وكذلك إضمار " أن " لأن " تَكتُمُونَ " معطوف على موجب مقرَّر ، وليس بمستفهَم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم : لا تأكل السمكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ ، وليس بمنزلة قولك : أيقومُ فأقومَ ؟ والعطف على الموجب المقرَّر قبيح متى نصب - إلا في ضرورة الشعر - كما رُوِي : [ الوافر ]
.................................. وَأَلْحَقَ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا
قال سيبويه - في قولك : أسِرْتَ حتى تَدْخُلَهَا- : لا يجوز إلا النَّصْبُ في " تداخلها " لأن السير مستفهم عنه غيرُ موجَب ، وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلُها ؟ رفعت لأن السيرَ موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره.
(14/166)
قال أبو حيّان : وظاهر هذا النقل - عنه - معارضتُه لما نقل عنه قبله ؛ لأن ما قبلَه فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحَسْب ، وأما { يَكْتُمُونَ } فخبر حَتْماً ، لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أنَّ { يَكْتُمُونَ } معطوف على موجَب مقرَّر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطفُ على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس ، وسبب الكَتْم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى ، وبين أن يكون { يَكْتُمُونَ } إخْباراً محضاً ، لم يشترك مع اللبس في السؤالِ عن السببِ ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمَّن وقوعَ الفعل ، لا ينتصب الفعل بإضمار " أن " في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك ، فقال في تسهيله : " أو لاستفهام لا يتضمَّن وقوعَ الفعلِ ".
(14/167)
فإن تضمن وقوع الفعلِ امتنع النصبُ عندَه ، نحو : لِمَ ضربتَ زيداً فيجازِيَك ؛ لأن الضرب قد وقع. ولم يشترط غيرُهما - من النحويين - ذلك ، بل إذا تعذر سَبْك المصدر مما قبله - إمَّا لعدم تقدُّمِ فعل ، وأما لاستحالة سَبْك المصدر المراد به الاستقبال ؛ لأجل مُضِيِّ الفعل - فإنما يقدر مصعد مقدَّراً استقبالُه بما يدل عليه المعنى ، فإذا قلت : لِمَ ضربتَ زيداً فاَضْرِبَك ؟ فالتقدير : ليكن منك إعلام بضَرْبِ زيدٍ فمجازاة منا ، وأما ما ردَّ به أبو علي الفارسي على الزجَّاج والفرَّاء ليس بلازم ؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المُضِيَّ معنى إذ ليس نصًّا في ذلك ؛ إذْ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك ، وعلى تقدير تحقُّق المُضِي فلا يلزم - أيضاً - لأنه - كما تقدم - إذا لم يُمْكن سَبْك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها ، ويدل على إلغاء هذا الشرطِ ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابنُ كَيْسَان من رفع المضارع بعد فعلٍ ماضٍ ، محقَّق الوقوع ، مستفهَم عنه ، نحو : أين ذهب زيد فنتَّبعُه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ وكم مالك فنعرفُه ؟ كل ذلك متأوَّل بما ذكرنا من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجُمَل المتقدمة ، فإن التقدير : ليكن منك إعلامٌ بذهاب زيد فاتباعٌ منا ، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا ، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة مِنَّا.
قال شهابُ الدِّينِ : " وهذا البحثُ الطويلُ على تقدير شيء لم يَقَعْ ، فإنه لم يُقْرَأ - لا في الشاذ ولا في غيره - إلا ثابتَ النون ، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث ، تنقيحاً للذهن ".
(14/168)
ووراء هذا قراءة مُشْكِلَة ، رَوَوْها عن عُبَيْد بن عُمَير ، وهي : لِمَ تَلْبسُوا الحق بالباطل وَتَكْتُمُوا بحذف النون من الفعلين - وهي قراءة قراءة لا تَبْعد عن [ لَغطِ البحث ] ، كأنه توهم أن " لَمْ " هي الجازمة ، فجزم بها ، وقد نقل المفسّرونَ عن بعض النُّحَاةِ - هنا - أنهم يجزمون بلم حملاً على " لم " - نقل ذلك السجاونديُّ وغيره عنهم ، ولا أظن نحويّاً يقول ذلك ألبتة ، كيف يقولون في جار ومجرور : إنه يَجْزِم ؟ هذا ما لا يُتفَوَّهُ به ألبتة ولا نطيق سماعه ، فإن ثبتت هذه القراءةُ ولا بد فلتكن مما حُذِف فيه نونُ الرفع تخفيفاً ؛ حيث لا مقتضى لحَذْفها ، ومن ذلك قراءة بعضهم :
{ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } [ القصص : 48 ] - بتشديد الظاء - الأصل : تتظاهران ، فأدغم الثاني في الظاء ، وحذف النون تخفيفاً ، وفي الحديث : " والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا.. " يريد - عليه السلامُ- : لا تدخلون ، ولا تؤمنون ؛ لاستحالة النهي معنًى.
وقال الشاعرُ : [ الرجز ]
أبِيتُ أسْرِي ، وَتَبِيتِي تَدْلُكِي... وَجْهَكِ بالْعَنْبَر وَالْمِسْكِ الذَّكِي
يريد تبيتين وتدلُكين.
ومثله قول أبي طالب : [ الطويل ]
فَإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ... سَتَحْتَلِبُوهَا لاَقِحاً غَيْرَ بَاهِلِ
يريد : ستحتلبونها.
ولا يجوز أن يُتَوهَّم - في هذا البيت - أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط ، لأن الفاء مُرادَة وجوباً ؛ لعدم صلاحية " ستحتلبوها " جواباً ؛ لاقترانه بحرف التنفيس.
والمراد بالحق : الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة.
(14/169)
قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية ، ومتعلق العلم محذوف ، إما اقتصاراً ، وإما اختصاراً - أي : وأنتم تعلمون الحق من الباطل ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو تعلمون أن عقابَ مَنْ يفعل ذلك عظيم ، وتعلمن أنكم تفعلون ذلك عناداً وحسداً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 312 ـ 316}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وفي هذه الآيات أنواع من البديع.
الطباق في قوله : الحق بالباطل ، والطباق المعنوي في قوله : لم تكفرون وأنتم تشهدون ، لأن الشهادة إقرار وإظهار ، والكفر ستر.
والتجنيس المماثل في : يضلونك وما يضلون والتكرار في : أهل الكتاب.
والحذف في مواضع قد بينت. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 517}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}
تكتمون الحق في شأن محمد عليه السلام وأنتم تعلمون أنه النبي الصادق ، وهل هذا حكم الخذلان وقضية الحرمان ، ثم أخبر أَنَّ منهم من ينافق في حالته ، فيريد أن يدفع عنه أذى المسلمين ، ولا يخالف إخوانه من الكافرين ، فتواصوا فيما بينهم بموافقة الرسول عليه السلام والمسلمين جهراً ، والخلوص في عقائدهم الفاسدة بعضهم مع بعض سِرَّاً. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 250}(14/170)
قوله تعالى { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر لبسهم دل عليه بقوله عطفاً على {ودت طائفة} مبيناً لنوع إضلال آخر : {وقالت طائفة من أهل الكتاب} أي من يهود المدينة {آمنوا} أي أظهروا الإيمان {بالذي أنزل على الذين آمنوا} متابعة لهم {وجه} أي أول {النهار} سمي وجهاً لأنه أول ما يستقبلك منه وهو ما يظهر ولذا عبروا به عن الأول الذي يصلح لاستغراق النصف ، لأن مرادهم التلبيس بظاهر لا باطن له ، ولفظ لا حقيقة له ، في جزء يسير جداً {واكفروا آخره} أي ليظنوا أنه لا غرض لكم إلا الحق ، وأنه ما ردكم عن دينهم بعد ابتاعكم له إلا ظهور بطلانه {لعلهم يرجعون} أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن دينه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 113}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يلبسون الحق بالباطل أردف ذلك بأن حكى عنهم نوعاً واحداً من أنواع تلبيساتهم ، وهو المذكور في هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 83}
فصل
قال الفخر :
قول بعضهم لبعض {آمنوا بِالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار} ويحتمل أن يكون المراد كل ما أنزل وأن يكون المراد بعض ما أنزل.
أما الاحتمال الأول : ففيه وجوه(14/171)
الأول : أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في تشكيك ضعفه المسلمين في صحة الإسلام ، وهو أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع في بعض الأوقات ، ثم يظهروا بعد ذلك تكذيبه ، فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب ، قالوا : هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد ، وإلا لما آمنوا به في أول الأمر وإذا لم يكن هذا التكذيب لأجل الحسد والعناد وجب أن يكون ذلك لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكروا في أمره واستقصوا في البحث عن دلائل نبوته فلاح لهم بعد التأمل التام ، والبحث الوافي أنه كذاب ، فيصير هذا الطريق شبهة لضعفة المسلمين في صحة نبوته ، وقيل : تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار يهود خيبر على هذا الطريق.
وقوله {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} معناه أنا متى ألقينا هذه الشبهة فلعل أصحابه يرجعون عن دينه.
الوجه الثاني : يحتمل أن يكون معنى الآية أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ، ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب ، فإن أمر هؤلاء المؤمنين في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم ويرجعوا إلى دينكم ، وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويدل عليه وجهان الأول : أنه تعالى لما قال : {إِنَّ الذين ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} [ النساء : 137 ] أتبعه بقوله {بَشّرِ المنافقين} [ النساء : 138 ] وهو بمنزلة قوله {وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤن} [ البقرة : 14 ]
(14/172)
الثاني : أنه تعالى اتبع هذه الآية بقوله {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} فهذا يدل على أنهم نهوا عن غير دينهم الذي كانوا عليه فكان قولهم {آمنوا وَجْهَ النهار} أمر بالنفاق.
الوجه الثالث : قال الأصم : قال بعضهم لبعض إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم ، لأن كثيراً مما جاء به حق ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض حتى يحمل الناس تكذيبكم له على الإنصاف لا على العناد فيقبلوا قولكم.
الاحتمال الثاني : أن يكون قوله {ءَامِنُواْ بِالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره} بعض ما أنزل الله والقائلون بهذا القول حملوه على أمر القبلة وذكروا فيه وجهين الأول : قال ابن عباس : وجه النهار أوله ، وهو صلاة الصبح واكفروا آخره : يعني صلاة الظهر وتقريره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم ، فلما حوله الله إلى الكعبة كان ذلك عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره {آمنواْ بِالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار} يعني آمنوا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الصبح فهي الحق ، واكفروا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الظهر ، وهي آخر النهار ، وهي الكفر الثاني : أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم ، فقال بعضهم لبعض صلوا إلى الكعبة في أول النهار ، ثم اكفروا بهذه القبلة في آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلّهم يقولون إن أهل الكتاب أصحاب العلم فلولا أنهم عرفوا بطلان هذه القبلة لما تركوها فحينئذ يرجعون عن هذه القبلة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 83 ـ 84}
فصل
قال السمرقندى :
وَقَالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بالَّذِي أُنْزِلَ على الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ }(14/173)
قال الكلبي : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قَدِمَ المدينة ، صلى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً ، أو ثمانية عشر شهراً ، فلما صرف الله نبيّه إلى الكعبة عند صلاة الظهر ، وقد كان صلى صلاة الصبح إلى بيت المقدس ، وصلّى صلاة الظهر والعصر إلى الكعبة.
فقال رؤساء اليهود منهم : كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وغيرهما للسفلة منهم ، آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ، صدقوه بالقبلة التي صلّى صلاة الصبح في أول النهار وآمنوا به ، وإنه الحق ، { واكفروا ءاخِرَهُ } يعني اكفروا بالقبلة التي صلى إليها آخر النهار { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى قبلتكم ودينكم.
وقال مقاتل : معناه أنهم جاؤوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم أول النهار ، ورجعوا من عنده ، وقالوا للسفلة : هو حق فاتبعوه ، ثم قالوا : حتى ننظر في التوراة ، ثم رجعوا في آخر النهار.
فقالوا : قد نظرنا في التوراة ، فليس هو إياه ، يعنون أنه ليس بحق ، وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة ، وأن يشككوا فيه فذلك قوله : { وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب ءامِنُواْ بالذي أُنزِلَ } يعني قالوا : لهم في أول النهار آمنوا به { واكفروا ءاخِرَهُ } يعني قالوا : في آخر النهار ، واكفروا به { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي يشكون فيه فيرجعون. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 248}
فصل
قال الفخر :
الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه
الأول : أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم ، وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب ، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخباراً عن الغيب ، فيكون معجزاً(14/174)
الثاني : أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين ، ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف
الثالث : أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعاً لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 84}
من فوائد الإمام القرطبى فى الآية
قال عليه الرحمة :
نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيّف وغيرهما ، قالوا للسفلة من قومهم : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ، يعني أوّله.
وسمي وجهاً لأنه أحسنه ، وأوّل ما يُوَاجه منه أوّلُه.
قال الشاعر :
وتُضِيءُ في وجه النهارِ منيرةٌ . . .
كجُمَانة البحرِيّ سُلّ نِظامُها
وقال آخر :
من كان مسروراً بمقتل مالكٍ . . .
فليأتِ نسوتنا بوجه نهارِ
وهو منصوب على الظرف ، وكذلك "آخرَه".
ومذهب قتادة أنهم فعلوا ذلك ليشككوا المسلمين.
والطائفة الجماعة ، من طاف يطوف ، وقد يستعمل للواحد على معنى نفس طائفة.
ومعنى الآية أن اليهود قال بعضهم لبعض : أظهروا الإيمان بمحمد في أوّل النهار ثم اكفروا به آخرَه ؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك ظهر لمن يتبعه ارتياب في دينه فيرجعون عن دينه إلى دينكم ، ويقولون إن أهل الكتاب أعلم به منا.
وقيل : المعنى آمنوا بصلاته في أوّل النهار إلى بيت المقدس فإنه الحق ، واكفروا بصلاته آخر النهار إلى الكعبة لعلهم يرجعون إلى قِبلتكم ؛ عن ابن عباس وغيره.
وقال مقاتل : معناه أنهم جاءوا محمداً صلى الله عليه وسلم أوّل النهار ورجعوا من عنده فقالوا للسّفلة : هو حق فاتبعوه ، ثم قالوا : حتى ننظر في التوراة ثم رجعوا في آخر النهار فقالوا : قد نظرنا في التوراة فليس هو به.(14/175)
يقولون إنه ليس بحق ، وإنما أرادوا أن يُلبسوا على السّفلة وأن يُشكِّكوا فيه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 111}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)}
عطف على { ودت طائفة } [ آل عمران : 69 ].
فالطائفة الأولى حاوَلت الإضلال بالمجاهرة ، وهذه الطائفة حاولتْه بالمخادعة : قيل أشير إلى طائفة من اليهود منهم كَعْب بن الأشْرَف ، ومالك بن الصيف ، وغيرهما من يهود خيبر ، أغواهم العجب بدينهم فتوهموا أنهم قدوة للناس فلما أعيتهم المجاهرة بالمكابرة دبروا للكيد مكيدة أخرى ، فقالوا لطائفة من أتباعهم : "آمِنوا بمحمد أولَ النهار مظهرين أنكم صدّقتموه ثم اكفُروا آخر النهار ليظهر أنكم كفرتم به عن بصيرة وتجربة فيقول المسلمون مَا صرف هؤلاء عنا إلاّ ما انكشف لهم من حقيقة أمر هذا الدين ، وأنّه ليس هو الدين المبشر به في الكتب السالفة" ففعلوا ذلك.
وقوله : { على الذين آمنوا } يحتمل أنه من لفظ الحكاية بأن يكون اليهود قالوا آمِنوا بالذي أنزل على أتباع محمد فحوّله الله تعالى فقال على الذين آمنوا تنويهاً بصدق إيمانهم.
ويحتمل أنه من المحكيّ بأن يكون اليهود أطلقوا هذه الصلة على أتباع محمد إذ صارت علماً بالغلبة عليهم.
ووجهُ النهار أوله وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { وجيهاً في الدنيا والآخرة } [ آل عمران : 45 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 126 ـ 127}(14/176)
وقال العلامة ابن عطية :
أخبر تعالى في هذه الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع ، قال الحسن : قالت ذلك يهود خيبر ليهود المدينة ، قال قتادة وأبو مالك والسدي وغيرهم : قال بعض الأحبار لنظهر الإيمان لمحمد صدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار ، فسيقول المسلمون عند ذلك : ما بال هؤلاء كانوا معنا ثم انصرفوا عنا ؟ ما ذلك إلا لأنهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر فيشكون ، ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد عليه السلام.
قال الفقيه الإمام أبو محمد : ولما كانت الأحبار يظن بهم العلم وجودة النظر والاطلاع على الكتاب القديم ، طمعوا أن تنخدع العرب بهذه النزعة ففعلوا ذلك ، جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكرة ، فقالوا : يا محمد أنت هو الموصوف في كتابنا ، ولكن أمهلنا إلى العشي حتى ننظر في أمرنا ، ثم رجعوا بالعشي ، فقالوا : قد نظرنا ولست به { وجه } على هذا التأويل منصوب بقوله { آمنوا } والمعنى أظهروا الإيمان في { وجه النهار } ، والضمير في قوله { آخره } عائد على { النهار } ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهم : نزلت الآية ، لأن اليهود ذهبت إلى المكر بالمؤمنين ، فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ، ثم رجعوا آخر النهار ، فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنهم بدت لهم منه ضلالة ، بعد أن كانوا اتبعوه.
قال الفقيه الإمام : وهذا القول قريب من القول الأول ، وقال جماعة من المفسرين : نزلت هذه الآية في أمر القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح إلى الشام ، كما كان يصلي ، ثم حولت القبلة ، فصلى الظهر ، وقيل العصر إلى مكة ، فقالت الأحبار لتبّاعهم وللعرب : آمنوا بالذي أنزل في أول النهار واكفروا بهذه القبلة الأخيرة.(14/177)
قال الفقيه الإمام : والعامل في قوله { وجه النهار } على هذا التأويل قوله : { أنزل } والضمير في قوله : { آخره } يحتمل أن يعود على { النهار } أو يعود على " الذي أنزل " ، و{ يرجعون } في هذا التأويل ، معناه عن مكة إلى قبلتنا التي هي الشام كذلك قال قائل هذا التأويل ، { وجه النهار } أوله الذي يواجه منه ، تشبيهاً بوجه الإنسان ، وكذلك تقول : صدرالنهار وغرة العام والشهر ، ومنه قول النبي عليه السلام أقتلته في غرة الإسلام ؟ ومن هذا قول الربيع بن زياد العبسي : [ الكامل ]
من كان مسروراً بِمَقْتَل مالِكٍ... فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
يَجِدِ النِّساءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ... قَدْ قُمْنَ قَبْلَ تَبلُّجِ الأَسْحَارِ. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 453 ـ 454}
فصل
قال الفخر :
وجه النهار هو أوله ، والوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء ، لأنه أول ما يواجه منه ، كما يقال لأول الثوب وجه الثوب ، روى ثعلب عن ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهار وصدر نهار ، وشباب نهار ، أي أول النهار ، وأنشد الربيع بن زياد فقال :
من كان مسروراً بمقتل مالك.. فليأت نسوتنا بوجه نهار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 84}
وقال ابن عادل :
قوله : { وَجْهَ النهار } منصوب على الظرف ؛ لأنه بمعنى : أول النهار ؛ لأن الوجه - في اللغة - مستقبل كل شيء ؛ لأنه أول ما يواجَه منه ، كما يقال - لأول الثوب- : وجه الثوب.
روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهارٍ ، وصدر نهار ، وشباب نهار ، أي : أوله وقال الربيع بن زياد العبسي : [ الكامل ]
مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ... فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
أي : بأوله ، وفي ناصب هذا الظرف وجهان :(14/178)
أظهرهما : أنه فعل المر من قوله { آمِنُواْ } أي : أوْقَعُوا إيمانَكم في أول النهار ، وأوقعوا كُفْرَكم في آخره.
والثاني : أنه { وَأَنْزَلَ } أي : آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار ، وليس ذلك بظاهر ، بدليل المقابلة في قوله : { واكفروا آخِرَهُ }. فإن الضميرَ يعودُ على النهارِ ، ومن جوَّز الوجه الثاني جعل الضمير يعود على { بالذي أُنْزِلَ } ، أي : واكفروا آخر المنزَّل ، وأسباب النزول تُخالف هذا التأويل وفي هذا البيتِ الذي أنشدناه فائدةٌ ، وذلك أنه من قصيدة يرثي بها مالك بن زهير بن خُزَيْمَةَ العبسي ، وبعده : [ الكامل ]
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ... يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأسْحَارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّراً... فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ
يَخْمِشْنَ حرَّاتِ الْوُجُوهِ عَلَى امرئٍ... سَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَيِّبِ الأخْبَارِ
ومعنى الأبيات يحتاج إلى معرفةِ اصطلاح العربِ في ذلك ، وهو أنهم كانوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائحةٌ ولا تَنْدُبُه نادبةٌ ، حتى يؤخذَ بثأره ، فقال هذا : من سرَّه قَتْلُ مالك ، فليأتِ في أول النهارِ يجدنا قد أخذْنَا بثأره ، فذكر اللازم للشيء ، وهو من باب الكناية.(14/179)
وحكي أن الشيباني سأل الأصمعي : كيف تنشد قول الربيع : ..... حين بدأنَ ، أو بدَيْنَ ؟ فقال الأصمعيّ : بَدأنَ ، فقال : أخطأت ، فقال : بَدَيْنَ ، فقال : أخطأتَ ، فغضب الأصمعيُّ ، وكان الصواب أن يقول : بدَوْنَ - بالواو - لأنه من باب : بدا يَبْدو ، أي : ظهر - فأتى الأصمعي يوماً للشيباني ، وقال له : كيف تُصَغِّر مُخْتَاراً ؟ فقال : مُخَيتير ، فضَحِك منه ، وصفَّق بيديه ، وشَنَّع عليه في حلقته ، وكان الصواب أن يقولَ : مُخَيِّر - بتشديد الياء - وذلك أنه اجتمع زائدان- ، الميم والتاء - والميم أولى بالبقاء ؛ لعلة ذكرها التصريفيُّون ، فأبقاها ، وحذف التاء ، وأتى بياء التصغير ، فقلب - لأجلها - الألف ياءً ، وأدْغمها فيها ، فصار : مُخَيِّراً - كما ترى - وهو يحتمل أن يكون اسمَ فاعل ، أو اسمَ مفعول - كما كان يحتملها مُكَبَّرهُ ، وهذا - أيضاً - يلبس باسم الفاعل خَيَّر فهو مُخَيِّر ، والقرائنُ تبينه.
ومفعول { يَرْجِعُونَ } محذوف - أيضاً - اقتصاراً - أي : لعلهم يكونون من أهل الرجوع ، أو اختصاراً أي : يرجعون إلى دينكم وما أنتم عليه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 316 ـ 317}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
فبين الله سبحانه أن نفاقهم كُشِف للمسلمين ، وأن ذلك لا ينفعُهم أمَّا في الدنيا فَلإِطْلاع الله نبيُّه عليه السلام والمؤمنين - عليه ، وأَمَّا في الآخرة فَلِفَقْدِ إخلاصهم فيه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 250}(14/180)
قوله تعالى { وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}
قال البقاعى :
{ولا تؤمنوا} أي توقعوا التصديق الحقيقي {إلا لمن تبع دينكم} فصوبوا طريقته وصدقوا دينه وعقيدته.
ولما كان هذا عين الضلال أمره سبحانه وتعالى أن يعجب من حالهم منبهاً على ضلالهم بقوله معرضاً عنهم إيذاناً بالغضب : {قل إن الهدى هدى الله} أي المختص بالعظمة وجميع صفات الكمال ، أي لا تقدرون على إضلال أحد منا عنه ، ولا نقدر على إرشاد أحد منكم إليه إلا بإذنه ، ثم وصل به تقريعهم فقال : {أن} بإثبات همزة الإنكار في قراءة ابن كثير ، وتقديرها في قراءة غيره ، أي أفعلتم الإيمان على الصورة المذكورة خشية أن {يؤتى أحد} أي من طوائف الناس {مثل ما أوتيتم} أي من العلم والهدى الذي كنتم عليه أول الأمر {أو} كراهة أن {يحاجوكم} أي يحاجكم أولئك الذين أوتوا مثل ما أوتيتم {عند ربكم} الذي طال إحسانه إليكم بالشهادة عليكم أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحوكم.(14/181)
ولما كانت هذه الأية شبيهة بآية البقرة {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} [ البقرة : 105 ] في الحسد على ما أوتي غيرهم من الدين الحق وكالشارحة لها ببيان ما يلبيسونه لقصد الإضلال ختمت بما ختمت به تلك ، لكن لما قصد بها الرد عليهم في كلا هذين الأمرين اللذين دبروا هذا المكر لأجلهما زيدت ما له مدخل في ذلك فقال تعالى مجيباً لمن تشوف إلى تعليم ما لعله يكف من مكرهم ويؤمن من شرهم معرضاً عنهم بالخطاب بعد الإقبال عليهم به إيذاناً بشديد الغضب : {قل إن الفضل} في التشريف بإنزال الآيات وغيرها {بيد الله} المختص بأنه لا كفوء له ، فله الأمر كله ولا أمر لأحد معه ، وأتبعه نتيجته فقال : {يؤتيه من يشاء} فله مع كمال القدرة كمال الاجتباء ، ثم قال مرغباً مرهباً وراداً عليهم في الأمر الثاني : {والله} الذي له من العظمة وسائر صفات الكمال ما لا تحيط به العقول ولا تبلغه الأوهام {واسع عليم} أي يوسع على من علم فيه خيراً ، ويهلك من علم أنه لا يصلح لخير ، ويعلم دقيق أمركم وجليله ، فلا يحتاج سبحانه وتعالى إلى تنبيه أحد بمحاجتكم عليه عنده.
ولما كان هذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد انتقل عنه إلى تأكيد الرد عليهم في الأمر الأول بثمرة هذه الجملة ونتيجتها من أنه فاعل بالاختيار تام الاقتدار فقال : {يختص برحمته من يشاء} ثم أكد تعظيم ما لديه دفعاً لتوهم من يظن أن اختصاص البعض لضيق الرحمة عن العموم فقال : {والله} الذي كل شيء دونه فلا ينقص ما عنده {ذو الفضل العظيم} وكرر الاسم الأعظم هنا تعظيماً لما ذكر من النعم مشيراً بذلك كله إلى التمكن من الإعطاء باختباره وغزارة فضله وإلى القدرة على الإنجاء من حبائل المكر بسعة علمه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 113 ـ 114}
فصل
قال الفخر : (14/182)
اتفق المفسرون على أن هذا بقية كلام اليهود ، وفيه وجهان
الأول : المعنى : ولا تصدقوا إلا نبياً يقرر شرائع التوراة ، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه ، وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم ، وعلى هذا التفسير تكون ( اللام ) في قوله {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ} صلة زائدة فإنه يقال صدقت فلاناً.
ولا يقال صدقت لفلان ، وكون هذه اللام صلة زائدة جائز ، كقوله تعالى : {رَدِفَ لَكُم} [ النمل : 72 ] والمراد ردفكم والثاني : أنه ذكر قبل هذه الآية قوله {آمنوا وجه النهار واكفروا آخره }.
ثم قال في هذه الآية : {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم ، كأنهم قالوا : ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم ، فالمعنى ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم ، فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته.
ثم قال تعالى : {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} قال ابن عباس رضي الله عنهما.
معناه : الدين دين الله ومثله في سورة البقرة {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [ البقرة : 120 ].
(14/183)
واعلم أنه لا بد من بيان أنه كيف صار هذا الكلام جواباً عما حكاه عنهم ؟ فنقول : أما على الوجه الأول وهو قولهم لا دين إلا ما هم عليه ، فهذا الكلام إنما صلح جواباً عنه من حيث أن الذي هم عليه إنما ثبت ديناً من جهة الله ، لأنه تعالى أمر به وأرشد إليه وأوجب الانقياد له وإذا كان كذلك ، فمتى أمر بعد ذلك بغيره ، وأرشد إلى غيره ، وأوجب الانقياد إلى غيره كان نبياً يجب أن يتبع ، وإن كان مخالفاً لما تقدم ، لأن الدين إنما صار ديناً بحكمه وهدايته ، فحيثما كان حكمه وجبت متابعته ، ونظيره قوله تعالى جواباً لهم عن قولهم {مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب} [ البقرة : 142 ] يعني الجهات كلها لله ، فله أن يحول القبلة إلى أي جهة شاء ، وأما على الوجه الثاني فالمعنى أن الهدى هدى الله ، وقد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف.
ثم قال تعالى : {أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ }.
واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة ، فنقول هذا إما أن يكون من جملة كلام الله تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود ، ومن تتمة قولهم {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} ، وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين.
أما الاحتمال الأول : ففيه وجوه(14/184)
الأول : قرأ ابن كثير ( أن يؤتى ) بمد الألف على الاستفهام والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام ، فإن أخذنا بقراءة ابن كثير ، فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ كقوله تعالى : {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا قَالَ أساطير الأولين} [ القلم : 14 ، 15 ] والمعنى أمن أجل أن يؤتي أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه ؟ ثم حذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه ، وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك ؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت ؟ ونظيره قوله تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاءَ الليل ساجدا وَقَائِماً يَحْذَرُ الأخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ} [ الزمر : 9 ] وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر.
أما قراءة من قرأ بقصر الألف من {أن} فقد يمكن أيضاً حملها على معنى الاستفهام كما قرىء {سَوَاءَ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [ البقرة : 6 ] بالمد والقصر ، وكذا قوله {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} قرىء بالمد والقصر ، وقال امرؤ القيس :
تروح من الحي أم تبتكر ؟.. وماذا عليك ولم تنتظر
أراد أروح من الحي ؟ فحذف ألف الاستفهام ، وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى.(14/185)
الوجه الثاني : أن أولئك لما قالوا لأتباعهم : لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم إن الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتي أحد سواكم من الهدى مثل ما أوتيتموه {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} يعني هؤلاء المسلمين بذلك {عِندَ رَبّكُمْ} إن لم تقبلوا ذلك منهم ، أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله فلا تنكروا لأن عليه دليلاً وهو قوله {إِنَّ الهدى هُدَى الله} فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار.
الوجه الثالث : إن الهدى اسم للبيان كقوله تعالى : {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [ فصلت : 17 ] فقوله {إِنَّ الهدى} مبتدأ وقوله {هُدَى الله} بدل منه وقوله {أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} خبر بإضمار حرف لا ، والتقدير : قل يا محمد لا شك أن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء اليهود عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون ، وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف {لا} وهو جائز كما في قوله تعالى : {أَن تَضِلُّواْ} [ النساء : 44 ] أي أن لا تضلوا.(14/186)
الوجه الرابع : {الهدى} اسم و{هُدَى الله} بدل منه و{أَن يؤتى أَحَدٌ} خبره والتقدير : إن هدى الله هو أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم ، وعلى هذا التأويل فقوله {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} لا بد فيه من إضمار ، والتقدير : أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم ، والمعنى : أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه ، وفي قوله {عِندَ رَبّكُمْ} ما يدل على هذا الإضمار ولأن حكمه بكونه رباً لهم يدل على كونه راضياً عنهم وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم.
والاحتمال الثاني : أن يكون قوله {أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} من تتمة كلام اليهود ، وفيه تقديم وتأخير ، والتقدير : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ، قل إن الهدى هدى الله ، وأن الفضل بيد الله ، قالوا ، والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم ، وأسروا تصديقكم ، بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 84 ـ 87}
فصل
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } نقل ابنُ عطيّة الإجماع من أهل التأويل على أن هذا من مقول الطائفة ، وليس بسديد ، لما نقل من الخلاف ، وهل هي من مقول الطائفة أم من مقول الله تعالى - على معنى أن الله - تعالى - خاطب به المؤمنين ، تثبيتاً لقلوبهم ، وتسكيناً لجأشهم ؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهودِ عليهم وتزويرهم ؟(14/187)
[ إذا كان من كلامِ طائفةِ اليهودِ ، فالظاهر أنه انقطع كلامُهم ؛ إذ لا خلاف ، ولا شك أن قولَه : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } من كلام الله مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 321}
فائدة
قال ابن عادل :
اللام في " لِمَنْ " فيها وجهان :
أحدهما : أنها زائدة مؤكِّدة ، كهي في قوله تعالى : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] أي : ردفكم وقول الآخر : [ الوافر ]
فَلَمَّا أنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً... أنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَميْنَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
مَا كُنْتُ أخْدَعُ لِلْخَلِيلِ بِخُلَّةٍ... حَتَّى يَكُونَ لِيَ الْخَلِيلُ خَدُوعَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
يَذُمُّونَ لِلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْلِبُونَهَا... أفَاوِيقَ حَتَّى ما يَدِرُّ لَهَا فَضْلُ
أي : أنخنا الكلاكِلَ ، وأخدع الخليل ، ويذمون الدنيا ، ويُرْوَى : يذمون بالدنيا ، بالباء.
قال شهابُ الدينِ : وأظن البيتَ : يذمون لِي الدنيا - فاشتبه اللفظ على السامع - وكذا رأيته في بعض التفاسيرِ ، وهذا الوجه ليس بالقوي.
الثاني : أن " آمن " ضُمِّن معنى أقَرَّ واعْتَرَف ، فعُدِّيَ باللام ، أي : ولا تُقِرّوا ، ولا تعترفوا إلا لمن تبع دينكم ، ونحوه قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ } [ يونس : 83 ] وقوله : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] وقال أبو علي : وقد يتعدَّى آمن باللام في قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى } [ يونس : 83 ] ، وقوله : { آمَنتُمْ لَهُ } [ طه : 71 ] ، وقوله : { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] فذكر أنه يتعدى بها من غير تضمين ، والصَّوَابُ التضمين وقد تقدم تحقيقه أول البقرة. وهنا استثناء مُفَرَّغٌ.(14/188)
وقال أبو البقاء : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء مما قبلَه ، والتقديرُ : ولا تَقرُّوا إلا لمن تبع ، فعلى هذا اللام غير زائدة ولا يجوز أن تكون زائدة ويكون محمولاً على المعنى ، أي اجْحَدوا كُلَّ أحد إلا من تبع دينكم.
والثاني : أن النية به التأخير ، والتقدير : ولا تُصَدِّقُوا أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم ؛ فاللام على هذا - زائدة ، و" مَنْ " في موضع نصب على الاستثناء من أحد.
وقال الفارسيُّ : الإيمان لا يتعدى إلى مفعولين ، فلا يتعلق - أيضاً - بجارين ، وقد تعلَّق بالجار المحذوف من قوله : { أَن يؤتى } فلا يتعلق باللام في قوله : { لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إلا أن يحمل اللام على معناه ، فيتعدى إلى مفعولين ، ويكون المعنى : ولا تُقِرُّوا بأن يُتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينَكم ، كما تقول : أقررت لزيد بألفٍ ، فتكون اللام متعلقة بالمعنى ، ولا تكون زائدة على حد : { رَدِفَ لَكُمْ } [ النمل : 72 ] و{ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] وهذا تَصْرِيحٌ من أبي علي بأنه ضمن " آمن " معنى " أقَرَّ ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 319 ـ 320}
قوله تعالى {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ}
قال الفخر :
أما قوله {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} فهو عطف على أن يؤتى ، والضمير في يحاجوكم لأحد ، لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم ، إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة ، وعندي أن هذا التفسير ضعيف ، وبيانه من وجوه(14/189)
الأول : إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد عليه السلام كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم وأشياعهم ، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب ؟ هذا في غاية البعد
الثاني : أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء
والثالث : إن على هذا التقدير لا بد من الحذف فإن التقدير : قبل إن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله ، ولا بد من حذف {قُلْ} في قوله {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله}
الرابع : إنه كيف وقع قوله {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} فيما بين جزأى كلام واحد ؟ فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم ، قال القفال : يحتمل أن يكون قوله {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} كلام أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقابله بقول حق ، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولاً فيه كفر ، فيقول : عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت بالله ، أو يقول لا إله إلا الله ، أو يقول تعالى الله ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} من هذا الباب ، ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم ، فقيل له {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله} إلى آخر الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 87}
وقال ابن عادل :
اختلف الناس في هذه الآية على وجوه : (14/190)
الأول : أن قوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ } متعلق بقوله : { وَلاَ تؤمنوا } على حذف حرف الجر ، والأصل : ولا تُؤْمِنُوا بأن يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، فلما حُذِفَ حرف الجر جرى الخلافُ المشهور بين الخليل وسيبويه في محل " أن " ، ويكون قولُه : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } جملةً اعتراضيةً.
قال القفّالُ : يحتمل أن يكون قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } كلاماً أمر اللهُ نبيه أن يقولَه عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع ؛ لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً - لا جرم - أدب الله رسوله بأن يقابله بقول حَقِّ ، ثم يعود إلى حكايةِ تمامِ كلامِهم - كما إذا حكى المسلم عن بعضِ الكُفَّار قَوْلاً فيه كُفْر ، فيقول - عند بلوغه إلى تلك الكلمة- : آمنت بالله ، أو يقول : لاَ إلَه إلا اللهُ ، أو يقول : تعالى الله عن ذلك ، ثم يعود إلى تمام الحكاية ، فيكون قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } من هذا الباب.
قال الزمخشريُّ في تقرير هذا الوجه - وبه بدأ- : { وَلاَ تؤمنوا مُتَعَلِّقٌ بقوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ } وما بينهما اعتراضٌ ، أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، وأسِرُّوا تصديقكُمْ بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم ، ولا تُفْشُوه إلا لأشياعكم - وحدهم - دون المسلمين ؛ لئلاَّ يزيدَهم ثباتاً ، ودون المشركين ، لئلا يدعوهم إلى الإسلام.
{ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } عطف على { أَن يؤتى } والضمير في { يُحَاجُّوكُمْ } لِ { أَحَدٌ } لأنه في معنى الجميع ، بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم بأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم بالحق ، ويغالبونكم عَنْدَ اللهِ - تعالى - بالحُجَّةِ.
فإن قلت : ما معنى الاعتراضِ ؟
(14/191)
قلت : معناه : إن الهدَى هُدى الله ، من شاء يَلْطُف به حتى يُسلم ، أو يزيد ثباتاً ، ولم ينفع كيدكم وحِيَلُكم ، وذَبُّكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين ، وكذلك قوله : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } يريد الهداية والتوفيق.
قال شهاب الدينِ : " وهذا كلامٌ حسَنٌ ، لولا ما يُريد بباطنه " ، وعلى هذا يكون قوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } مستثْنَى من شيء محذوفٍ ، تقديره : ولا تُؤمنوا بأن يُؤتَى أحد مل ما أوتيتم لأحد من الناس إلا لأشياعكم دون غيرهم ، وتكون هذه الجملة - أعني قوله : { وَلاَ تؤمنوا } من كلام الطَّائِفَةِ المتقدمة ، أي وقالت طائفةٌ كذا ، وقالت أيضاً : ولا تؤمنوا ، وتكون الجملة من قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } من كلام اللهِ لا غير ".
قال ابن الخطيبِ : وعندي أن هذا التفسير ضعيف من وُجُوهٍ :
الأول : أن جدَّ القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمَّد صلى الله عليه وسلم كان أعظمَ من جدهم في حفظِ غير أتباعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصِيَ بعضُهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمَّد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم ، وأشياعهم ، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب ؟ هذا في غاية البعد.
الثاني : أن على هذا التقدير لا بد من الحَذْف ؛ فإن التقدير : قل إن الهُدَى هُدَى اللهِ ، وإنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ، وَلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ قَلْ في قوله : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله }.
الثالث : أنه كيف وقع قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } فيما بين جزأي كلام واحد ؟ هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم.
(14/192)
الوجه الثاني : أن اللام زائدة في { لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } وهو مستثنى من " أحَدٌ " المتأخِّر ، والتقدير : ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا مَنْ تَبعَ دينَكُمْ ، ف { لِمَنْ تَبِعَ } منصوب على الاستثناء من " أحد " ، وعلى هذا الوجه جوَّز أبو البقاء في محل { أَن يؤتى } ثلاثة أوجهٍ :
الأول والثاني : مذهب الخليل وسيبويه ، وقد تَقَدَّمَا.
الثالث : النصب على المفعول من أجله ، تقديره : مخافةَ أن يُؤتَى.
وهذا الوجه الثالث - لا يصح من جهة المعنى ، ولا من جهة الصناعة ، أمّا المعنى فواضحٌ وأما الصناعة فإن فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه ، وعلى عامله ، وفيه - أيضاً - تقديم ما في صلة أن عليها ، وهو غير جائزٍ.
الوجه الثالث : أن يكون { أَن يؤتى } مجروراً بحرف العلة - وهو اللام - والمُعَلَّل محذوف ، تقديره لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ، ودبَّرتموه ، لا لشيء آخرَ ، وقوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } معناه : ولا تؤمنوا هذا الإيمانَ الظاهرَ - وهو إيمانكم وَجْهَ النَّهَارِ - { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ، إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم ؛ لأن رجوعَهم كان أرْجَى عندهم من رجوع من سواهم ، ولأن إسلامَهم كان أغبط لهم ، وقوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } معناه : لأن يؤتى مثل ما أوتيتُمْ قلتم ذلك ، ودبرتموه ، لا لشيء آخرَ ، يعني أن ما بكم من الحسد والبغي ، أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم من فَضْل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم ، والدليل عليه قراءة ابن كثير : أأنْ يُؤتَى أحَدٌ ؟ - بزيادة همزة الاستفهامِ ، والتقرير ، والتوبيخ - بمعنى : ألأن يؤتى أحَدٌ ؟
فإن قلت : ما معنى قوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } على هذا ؟
(14/193)
قلت : معناه : دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ولما يتصل به عند كفركم به في محاجتهم [ لكم ] عند ربكم.
الوجه الرابع : أن ينتصب { أَن يؤتى } بفعل مقدَّرٍ ، يدل عليه : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتُوا.
قال أبو حيّان : وهذا بعيد ؛ لأنه فيه حذفَ حرف النهي وحذفَ معموله ، ولم يُحْفظ ذلك من لسانهم.
قال شهاب الدين : " متى دلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أي حالةٍ كان ".
الوجه الخامس : أن يكون { هُدَى الله } بدلاً من " الْهُدَى " الذي هو اسم " إنَّ " ويكون خبر { أَن يؤتى أَحَدٌ } ، قُلْ إنَّ هدى الله أن يؤتى أحد ، أي إن هدى الله آتياً أحداً مثل ما أوتيتم ، ويكون " أوْ " بمعنى " حتى " ، والمعنى : حتى يحاجوكم عند ربكم ، فيغلبوكم ويدحضوا حُجَّتَكم عند الله ، ولا يكون { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } معطوفاً على { أَن يؤتى } وداخلاً في خبر إن.
الوجه السادس : أن يكون { أَن يؤتى } بدلاً من { هُدَى الله } ويكون المعنى : قُلْ بأن الهدى هدى الله ، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن ، ويكون قوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } بمعنى فليحاجوكم ، فإنهم يغلبونكم ، قال ابنُ عطية : وفيه نظرٌ ؛ لأن يؤدي إلى حذف حرف [ النهي ] وإبقاء عمله.
الوجه السابع : أن تكون " لا " النافية مقدَّرة قبل { أَن يؤتى } فحذفت ؛ لدلالة الكلام عليها ، وتكون " أو " بمعنى " إلاَّ أن " والتقدير : ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينَكم بانتفاء أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تَبع دينَكُمْ ، وجاء بمثله ، فإن ذلك لا يؤتى به غيركم إلا أن يحاجوكم ، كقولك : لألزمنك أو تقضيني حقي.
وفيه ضعف من حيث حذف " لا " النافية ، وما ذكروه من دلالة الكلامِ عليها غير ظاهر.
(14/194)
الوجه الثامن : أن يكون { أَن يؤتى } مفعولاً من أجله ، وتحرير هذا القول أن يجعل قوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ } ليس داخلاً تحت قوله : " قل " بل هو من تمام قول الطائفة ، متصل بقوله : ولا تؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم مخافةَ أن يؤتى أحد من النُّبُوَّة والكرامة مثل ما أوتيتم ، ومخافةَ أن يُحاجُّوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه ، وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكُفْرهم - مع معرفتهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما قدر المُبردُ المفعول من أجله - هنا - قدر المضاف : كراهة أن يُؤتَى أحد مثل ما أوتيتم ، أي : مما خالف دينَ الإسلام ؛ لأن اللهَ لا يهدي من هو كاذبٌ كَفَّار ، فهُدَى الله بعيد من غير المؤمنين والخطاب في { أُوتِيتُمْ } و{ يُحَاجُّوكُمْ } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
واستضعف بعضُهم هذا ، وقال : كونه مفعولاً من أجْلهِ - على تقدير : كراهة - يحتاج إلى تقدير عامل فيه ويصعُب تقديره ؛ إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها ، بكراهة الإيتاء المذكور.
الوجه التاسع : أن " أنْ " المفتوحة تأتي للنفي - كما تأتي " لا " ، نقله بعضهم أيضاً عن الفراء ، وجعلَ " أو " بمعنى " إلا " ، والتقدير : لا يُؤتَى أحد ما أوتيتم إلا أن يحاجُّوكم ، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو محاجتكم عند ربكم ؛ لأن من آتاه الله الوحي لا بُدّ أن يحاجهم عند ربهم - في كونهم لا يتبعونه - فقوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } حالٌ لازمةٌ من جهة المعنى ؛ إذ لا يوحي اللهُ لرسولٍ إلا وهو يُحاجُّ مخالفيه. وهذا قول ساقطٌ ؛ إذْ لم يثبت ذلك من لسان العربِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 321 ـ 325}
فائدة
قال الماوردى :
واختلف في سبب نهيهم أن يؤمنوا إلا لِمَنْ تَبعَ دينهم على قولين :(14/195)
أحدهما : أنهم نُهُوا عن ذلك لِئَلاً يكون طريقاً لعبدة الأوثان إلى تصديقه ، وهذا قول الزجاج.
والثاني : أنهم نُهُوا عن ذلك لِئَلاَّ يعترفوا به فيلزمهم العمل بدينه لإقرارهم بصحته. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 401}
فصل
" أحد " يجوز أن تكون - في الآية الكريمة - من الأسماء الملازمةِ للنفي ، وأن تكون بمعنى " واحد " والفرق بينهما أن الملازمة للنفي همزته أصلية ، والذي لا يلزم النفي همزته بدل من واو فعلى جعله ملازماً للنفي يظهر عود الضمير عليه جمعاً ؛ اعتباراً بمعناه ؛ إذ المراد به العموم ، وعليه قوله : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] - جمع الخبر لما كان " أحَدٌ " في معنى الجميع - وعلى جعله غير اللازم للنفي يكون جمع الضمير في { يُحَاجُّوكُمْ } باعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعِه.
وبعض الأوجه المتقدمة يصح أن يجعل فيها " أحد " - المذكور - الملازم للنفي ، وذلك إذا كان الكلام على معنى الجَحْد ، وإذا كان الكلام على معنى الثبوت - كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنع جعفُه الملازم للنفي. والأمر واضح مما تقدم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 325}
فصل
قال الفخر :(14/196)
الإشكال الخامس : في هذه الوجوه : أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام لا يقال صدقت لزيد بل يقال : صدقت زيداً ، فكان ينبغي أن يقال : ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم ، وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله {لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله {أَن يؤتى} لأن التقدير : ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم ، بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى ، قال أبو علي الفارسي : لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى : ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة ، لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال ، فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده.
ثم قال تعالى : {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله واسع عَلِيمٌ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 87}
فائدة
قال ابن عادل :
قرأ ابنُ كثير : أأن يؤتى - بهمزة استفهام - وهو على قاعدته من كونه يسهل الثانية بين بين من غير مدة بينهما ، وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجوهٍ :(14/197)
أحدها : أن يكون { أَن يؤتى } على حذف حرف الجر - وهو لام العلة - والمُعَلَّل محذوف تقديره : ألأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبَّرتموه - وتقدم تحقيقه - وهذه اللفظة موضوعة للتوبيخ ، كقوله تعالى : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } [ القلم : 14-15 ] ، والمعنى : أمن أجل أن يُؤتَى أحدٌ شرائعَ مثلَ ما أوتيتم من الشرائع تُنْكِرون اتباعه ؟ ثم حذف الجواب ، للاختصارِ ، تقديره : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشرَ اليهودِ من الكتاب والحكمة تحسدونه ، ولا تؤمنون به ، قاله قتادةُ والربيعُ ، وهذا الحذفُ كثيرٌ ؛ يقول الرجل - بعد طول العتاب لصاحبه ، وتعديده عليه ذنوبه بعد قلة إحسانه إليه- : أمِنْ قلة إحساني إليك ؟ أمِنْ إساءتي إليك ؟ والمعنى : أمن هذا فعلتَ ما فعلتَ ؟ ونظيره : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [ الزمر : 9 ] ، وهذا الوجه يُروى عن مجاهد وعيسى بن عُمَرَ. وحينئذ يسوغ في محل " أن " الوجهان - أعني النصب - مذهب سيبويه - والجر مذهب الخليلِ.
وثانيها : أن { أَن يؤتى } في محل رفع بالابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره : أأن يُؤتَى أحَدٌ - يا معشر اليهودِ - من الكتاب والعلم مثل ما أوتيتم تصدقون به ، أو تعترفون به ، أو تذكرونه لغيركم ، أو تُشيعونه في الناس ، ونحو ذلك مما يَحْسُنُ تقديره ، وهذا على قول مَنْ يقول : أزَيْدٌ ضربته ؟ وهو وجه مرجوحٌ ، كذا قدره الواحديُّ تبعاً للفارسيِّ وأحسن من هذا التقدير لأن الأصل أإتيان أحد مثل ما أوتيتم ممكن أو مصدق به.
(14/198)
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مقدَّرٍ يُفَسِّرُه هذا الفعل المُضْمَر ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، التقدير : أتذكرون أن يؤتى أحَدٌ تذكرونه ؟ ف " تذكرونه " مُفَسِّرٌ لـ " تذكرون " الأولى ، على حد : أزيداً ضربتَه ؟ ثم حذف الفعل الأخير ؛ لدلالة الكلام عليه ، وكأنه منطوقٌ به ، ولكونه في قوةِ المنطوقِ به صَحَّ له أن يُفَسِّر مُضْمَراً وهذه المسألة منصوص عليها ، وهذا أرجح من الوجه قبله ، لأنه مثل : أزيداً ضربته وهو أرجح ، لأجل الطالب للفعل ، ومثل حذف هذا الفعل المقدَّر لدلالة ما قبل الاستفهام عليه حذف الفعل في قوله تعالى : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } [ يونس : 91 ] تقديره : آلآن آمنتَ ، ورجعتَ وثبت ، ونحو ذلك.
قال الواحديُّ : فإن قيل : كيف جاز دخول " أحَدٌ " في هذه القراءة ، وقد انقطع من النفي ، والاستفهام ، وإذا انقطع الكلام - إيجاباً وتقريراً - فلا يجوز دخول " أحَدٌ ".
قيل : يجوز أن يكون أحَدٌ " - في هذا الموضع - أحداً الذي في نحو أحد وعشرين ، وهذا يقع في الإيجاب ، ألا ترى أنه بمعنى " واحد ".
قال أبو العباسِ : إن " أحَداً " و" وَحَداً " و" وَاحِداً " بمعنًى.
وقوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } ، أو في هذه القراءة - بمعنى " حتى " ، ومعنى الكلام : أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يُحَاجُّوكُمْ عند ربكم.
قال الفراء : " ومثله في لكلام : تَعَلَّق به أو يُعْطيك حَقَّك.
ومثله قول امرئ القيس : [ الطويل ]
1514- فَقُلْتُ لَهُ : لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا... نُحَاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فنُعْذَرَا(14/199)
أي حتى ، ومن هذا قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ آل عمران : 128 ] ، ومعنى الآية : ما أعطي أحد مثل ما أوتيتم - يا أمة محمدٍ - من الدين والحُجَّة حتى يحاجوكم عند ربكم " ، قال : " فهذا وَجْهٌ ، وأجود منه أن تجعله عَطْفاً على الاستفهام ، والمعنى : أأن يُؤتَى أحَد مثل ما أوتيتم أو يحاجَّكم أحد عند الله تصدقونه ؟ ". وهذا كله معنى قول أبي علي الفارسي.
ويجوز أن يكون { أَن يؤتى أَحَدٌ } منصوباً بفعل مُقَدَّرٍ لا على سبيل التفسير ، بل لمجرد الدلالة المعنوية ، تقديره : أتذكرون ، أو أتشيعونه. ذكره الفارسي أيضاً ، وهذا هو الوجه الرابع.
الخامس : أن يكون { أَن يؤتى } - قراءته - مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قول الطائفة ، وهو أظهر مِنْ جَعْلِه من قَوْل الطَّائِفَةِ.
قال ابن الخطيبِ : " أما قراءة من يقصر الألف من " أنْ " فقد يُمْكن إيضاحها على معنى الاستفهام ، كما قرئ : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم } [ البقرة : 6 ] - بالمد والقصر - وكذا قوله تعالى : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } [ القلم : 14 ] قرئ بالمد والقصر.
وقال امرؤ القيس : [ المتقارب ]
1515- تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ... وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأنْ تَنْتَظِر ؟
أراد : أتروح ؟ فحذف ألف الاستفهام ؛ لدلالة " أم " عليه ، وإذا ثبت أن هذه القراءةَ مُحْتَمِلَةٌ لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى.
وقد ضعف الفارسيُّ قراءةَ ابن كثيرٍ ، فقال : [ " وهذا موضع ينبغي أن تُرَجَّحَ فيه قراءةُ غيرِ ابنِ كثير على قراءة ابن كثير ] ؛ لأن الأسماء المُفْرَدةَ ليس بالمستمر فيها أن تدلَّ على الكثرة ".(14/200)
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة : إن يُؤتَى - بكسْر الهمزة - وخرَّجها الزمخشريُّ على أنها " إنْ " النافية ، فقال : وقُرِئَ : " إن يؤتى أحد " على " إن " النافية ، وهو متصل بكلام أهل الكتاب ، أي : " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " وقولوا لهم : ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، يعني ما يُؤتَوْنَ مثلَه فلا يحاجونكم.
قال ابنُ عطيةَ : " وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة ، ويكون قولها : أو يحاجوكم بمعنى : أو فَلْيُحَاجُّوكُمْ ، وهذا على التصميم على أنه لا يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم ، أو يكون بمعنى إلا أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز أن يؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له " ، فقد ظهر - على ما ذكره ابن عطية - أنه يجوز في " أوْ " - في هذه القراءة - أن تكون على بابها من كونها للتنويع والتخيير ، وأن تكون بمعنى " إلا " إلا أن فيه حذفَ حرفِ الجزمِ ، وإبقاء عمله وهو لا يجوز ، وعلى قول غيره تكون بمعنى " حَتَّى ".
(14/201)
وقرأ الحسن : أن يُؤتِيَ أحَد - على بناء الفعل للفاعل - ولما نقل بعضهم هذه القراءةَ لم يتعرَّض لـ " أن " - بفتح ولا بكسر - كأبي البقاء ، وابن عطية ، وقيَّدَها بعضُهم بكسر " أنْ " وفسَّرها بإن النافية ، والظاهر في معناه أن إنعام الله تعالى لا يُشْبِهه إنعام أحد من خلقه ، وهي خطاب من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ، والمفعول المحذوف ، تقديره : إن يُؤتِيَ أحَدٌ أحَداً مثل ما أوتيتم ، فحذف المفعول الأول ، وهُوَ أحَدٌ ؛ لدلالة المعنى عليه ، وأبقى الثاني ، فيكون قول اليهودِ وقد تم عند قوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وما بعده من قول الله تعالى ، يقول : " قل " يا محمدُ إن { الهدى هُدَى الله أَن يؤتى } " إنْ " بمعنى الجحد ، أي : ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ، أو يحاجوكم ، يعني : إلا أن يجادلكم اليهودُ بالباطل ، فيقولوا : نحن أفضل منكم وهذا معنى قول سعيد بن جُبَيرٍ والحسن والكلبيِّ ومقاتلٍ وهذا ملخَّص كلام الناسِ في هذه الآية مع اختلافهم.
قال الواحدي : " وهذه الآيةُ من مشكلات القرآن ، وأصعبه تفسيراً ؛ ولقد تدبَّرْتُ أقْوَالَ أهلِ التفسير ، والمعاني في هذه الآية ، فلم أجد قولاً يَطَّرِدُ في الآيةِ ، من أوَّلِها إلى آخرهَا ، مع بيان المعنى في النظم ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 325 ـ 328}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين
أحدهما : أن يؤمنوا وجه النهار ، ويكفروا آخره ، ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام.
فأجاب عنه بقوله {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} والمعنى : أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر
والثاني : أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة.(14/202)
فأجاب عنه بقوله {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} والمراد بالفضل الرسالة ، وهو في اللغة عبارة عن الزيادة ، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان ، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير ، ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير وقوله {بِيَدِ الله} أي إنه مالك له قادر عليه ، وقوله {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} أي هو تفضل موقوف على مشيئته ، وهذا يدل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق ، لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ، ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز وقوله {والله واسع عَلِيمٌ} مؤكد لهذا المعنى ، لأن كونه واسعاً ، يدل على كمال القدرة ، وكونه عليماً على كمال العلم ، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء ، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 87 ـ 87}
من فوائد القرطبى فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } هذا نهي ، وهو من كلام اليهود بعضهم لبعض ، أي قال ذلك الرؤساء للسّفلة.
وقال السدي : من قول يهودِ خيبر ليهود المدينة.
وهذه الآية أشكل ما في السورة.
فروي عن الحسن ومجاهد أن معنى الآية ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنهم لا حجة لهم فإنكم أصح منهم دِيناً.
و "أن" و"يحاجوكم" في موضع خفض ، أي بأن يحاجوكم أي باحتجاجهم ، أي لا تصدّقوهم في ذلك فإنهم لا حجة لهم.
{ أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ } من التوراة والمنّ والسلوى وفرق البحر وغيرها من الآيات والفضائل.(14/203)
فيكون "أن يؤتي" مؤخراً بعد { أَوْ يُحَآجُّوكُمْ } ، وقوله { إِنَّ الهدى هُدَى الله } اعتراض بين كلامين.
وقال الأخفش : المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدّقوا أن يحاجوكم ؛ يذهب إلى أنه معطوف.
وقيل : المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ؛ فالمَدّ على الاستفهام أيضاً تأكيد للإنكار الذي قالوه إنه لا يؤتي أحد مثل ما أوتوه ؛ لأن علماء اليهود قالت لهم ؛ لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتي أحد مِثل ما أوتيتم ؛ أي لا يؤتي أحد مثل ما أوتيتم ؛ فالكلام على نسقه.
و "أن" في موضع رفع على قول من رفع في قولك أزيد ضربته ، والخبر محذوف تقديره أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم تصدّقون أو تقرون ، أي إيتاء موجود مصدَّقٌ أو مُقَرّ به ، أي لا تصدّقون بذلك.
ويجوز أن تكون "أن" في موضع نصب على إضمار فعل ؛ كما جاز في قولك أزيداً ضربته ، وهذا أقوى في العربية لأن الاستفهام بالفعل أولى ، والتقدير أتقرّون أن يؤتي ، أو أتشِيعون ذلك ، أو أتذكرون ذلك ونحوه.
وبالمد قرأ ابن كثير وابن محيصِن وحميد.
وقال أبو حاتم : "أن" معناه "ألأَنْ" ، فحذفت لام الجر استخفافا وأبدلت مدّةً ؛ كقراءة من قرأ { أَن كَانَ ذَا مَالٍ } [ القلم : 14 ] أي ألأن.
وقوله "أو يُحَاجُّوكُم" على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين ؛ أو تكون "أو" بمعنى "أَنْ" لأنهما حَرْفَا شكّ وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر.
وتقدير الآية : وأن يحاجوكم عند ربكم يا معشر المؤمنين ، فقل : يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه.
ومن قرأ بترك المدّ قال : إن النفي الأوّل دلّ على إنكارهم في قولهم ولا تؤمنوا.
(14/204)
فالمعنى أن علماء اليهود قالت لهم : لا تصدّقوا بأن يُؤتَى أحد مثل ما أوتيتم ، أي لا إيمان لهم ولا حجة ؛ فعطف على المعنى من العلم والحكمة والكتاب والحجة والمنّ والسّلْوَى وفَلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات ، أي إنها لا تكون إلا فيكم فلا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم.
فالكلام فيه تقديم وتأخير على هذه القراءة واللام زائدة.
ومن استثنى ليس من الأوّل ، وإلا لم يجز الكلام.
ودخلت "أَحَدٌ" لأن أوّل الكلام نفي ، فدخلت في صلة "أن" لأنه مفعول الفعل المنفي ؛ فأن في موضع نصب لعدم الخافض.
وقال الخليل : ( أنْ ) في موضع خفض بالخافض المحذوف.
وقيل : إن اللام ليست بزائدة ، و"تُؤمِنُوا" محمول على تُقِرّوا.
وقال ابن جريج : المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم.
وقيل : المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم إلا لمن تبع دينكم لئلا يكون طريقاً إلى عبَدَة الأوثان إلى تصديقه.
وقال الفرّاء : يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله عز وجل { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله }.
أي إن البيان الحق هو بيان الله عز وجل { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ } بيّن ألا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، و"لا" مقدرة بعد "أن" أي لئلا يؤتى ؛ كقوله { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] أي لئلا تضلوا ، فلذلك صلح دخول "أحد" في الكلام.
و "أو" بمعنى "حتى" و"إلا أن" ؛ كما قال امرؤ القيس :
فقلتُ له لا تَبْكِ عَيْنُك إنّما . . .
نحاول مُلكاً أو نموتَ فنُعذَرا
وقال آخر :
وكنتُ إذا غَمَزْتُ قَنَاةَ قوم . . .
كسرتُ كُعُوبَها أو تستقيما
(14/205)
ومثله قولهم : لا نلتقي أو تقوم الساعة ، بمعنى "حتى" أو "إلى أن" ؛ وكذلك مذهب الكِسائيّ.
وهي عند الأخفش عاطفة على "وَلاَ تُؤْمِنُوا" وقد تقدّم.
أي لا إيمان لهم ولا حجة ؛ فعطف على المعنى.
ويحتمل أن تكون الآية كلها خطاباً للمؤمنين من الله تعالى على جهة التثبيت لقلوبهم والتشحيذ لبصائرهم ؛ لئلا يشكّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم.
والمعنى لا تصدّقوا يا معشر المؤمنين إلا من تبع دينكم ، ولا تصدّقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدِّين ، ولا تصدّقوا أن يحاجّكم في دينكم عند ربّكم مَن خالفكم أو يقدر على ذلك ، فإن الهُدَى هدى الله وإن الفضل بيد الله.
قال الضحاك : إن اليهود قالوا إنا نحاجّ عند ربنا مَن خالفنا في ديننا ؛ فبيّن الله تعالى أنهم هم المُدْحَضُون المعذَّبون وأن المؤمنين هم الغالبون.
ومحاجّتهم خصومتهم يوم القيامة.
ففي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" إن اليهود والنصارى يحاجُّونا عند ربّنا فيقولون أعطيتنا أجْراً واحداً وأعطيتهم أجرين فيقول هل ظلمتكم من حقوقكم شيئاً قالوا لا قال فإن ذلك فضلي أوتيه من أشاء " قال علماؤنا : فلو علموا أن ذلك من فضل الله لم يحاجونا عند ربنا ؛ فأعلم الله نبِيّه صلى الله عليه وسلم أنهم يحاجونكم يوم القيامة عند ربكم ، ثم قال : قل لهم الآن { إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ }. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 112 ـ 114}(14/206)
وقال ابن عاشور :
وقوله : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } من كلام الطائفة من أهل الكتاب قصدوا به الاحتراس ألا يظنوا من قولهم آمِنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجهَ النهار أنه إيمان حَقُّ ، فالمعنى ولا تؤمنوا إيماناً حقاً إلاّ لمن تَبع دينكم ، فأما محمد فلا تؤمنوا به لأنه لم يتبِع دينكم فهذا تعليل للنهي.
وهذا اعتذار عن إلزامهم بأنّ كتبهم بشرت بمجيء رسول مقفّ فتوهموا أنه لا يجيء إلاّ بشريعة التوراة ، وضلوا عن عدم الفائدة في مَجيئه بما في التوراة لأنه من تحصيل الحاصل ، فينزّه فعلُ الله عنه ، فالرسول الذي يجيء بعد موسى لا يكون إلاّ ناسخاً لبعض شريعة التوراة فجمعُهم بين مقالة : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } وبين مقالة : { ولا تؤمنوا } مثل { وما رميت إذ رميت } [ الأنفال : 17 ].
وقوله : { قل إن الهدى هدى الله } كلام معترض ، أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوله لهم.
كنايةً عن استبعاد حصول اهتدائهم ، وأنّ الله لم يهدهم ، لأنّ هدى غيره أي محاولته هدى الناس لا يحصل منه المطلوب ، إذا لم يقدّره الله.
فالقصر حقيقي : لأنّ ما لم يقدّره الله فهو صورة الهدى وليس بهُدى وهو مقابل قولهم : آمنوا بالذي أنزل ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم ، إذْ أرادوا صورة الإيمان ، وما هو بإيمان ، وفي هذا الجواب إظهار الاستغناء عن متابعتهم.
{ أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ }.
أشكل موقعُ هذه الآية بعد سابقتها وصفَ نظمها ، ومصرَف معناها : إلى أي فريق.
وقال القرطبي : إنها أشكَلُ آية في هذه السورة.
وذكر ابن عطية وجوها ثمانية.
ترجع إلى احتمالين أصليين.(14/207)
الاحتمال الأول أنها تكملة لمحاورة الطائفةِ من أهل الكتاب بعضهم بعضاً ، وأن جملة { قل إن الهدى هدى الله } معترضة في أثناء ذلك الحِوار ، وعلى هذا الاحتمال تأتي وجوه نقتصر منها على وجهين واضحين :
أحدهما : أنهم أرادوا تعليل قولهم : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } على أن سياق الكلام يقتضي إرادتهم استحالة نسخ شريعة التوراة ، واستحالة بعثة رسول بعد موسى ، وأنه يُقدّر لام تعليل محذوف قبل ( أنْ ) المصدرية وهو حذف شائع مثلُه.
ثم إما أن يقدر حرف نفي بعد ( أنْ ) يدل عليه هذا السياق ويَقتضيه لفظ ( أحد ) المرادِ منه شمول كلّ أحد : لأنّ ذلك اللفظَ لا يستعمل مراداً منه الشمول إلاّ في سياق النفي ، ومَا في معنيّ النفي مثللِ استفهام الإنكار ، فأما إذا استعمل ( أحَد ) في الكلام الموجَب فإنه يكون بمعنى الوصف بالوحْدة ، وليس ذلك بمناسب في هذه الآية.
فتقدير الكلام لأن لا يوتى أحد مثل ما أوتيتم وحذفُ حرف النفي بعد لام التعليل ، ظاهرةً ومقدّرةً ، كثيرٌ في الكلام ، ومنه قوله تعالى : { يُبين اللَّه لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] ، أي لئلاّ تضلوا.
والمعنى : أنّ قصدهم من هذا الكلام تثبيتُ أنفسهم على ملازمة دين اليهودية ، لأن اليهود لا يجوِّزون نسخَ أحكام الله ، ويتوهمون أنّ النسخ يقتضي البَدَاء.
الوجه الثاني : أنهم أرادوا إنكار أن يوتَى أحد النبوءة كما أوتيها أنبياءُ بني إسرائيل فيكون الكلام استفهاماً إنكارياً حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة السياق ؛ ويؤيده قراءةُ ابن كثير قوله : { أن يؤتى أحد } بهمزتين.(14/208)
وأما قوله : أو يحَاجوكم عندَ ربكم فحَرْف ( أو ) فيه للتقسيم مثل { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الإنسان : 24 ] ( أو ) معطوف على النفي ، أو على الاستفهام الإنكاري : على اختلاف التقديرين ، والمعنى : ولا يحاجوكم عند ربكم أو وكيف يحاجونكم عند ربكم ، أي لا حجة لهم عليكم عند الله.
وواو الجمع في { يحاجوكم } ضمير عائد إلى ( أحد ) لدلالته على العموم في سياق النفي أو الإنكار.
وفائدة الاعتراض في أثناء كلامهم المبادرة بما يفيد ضلالهم لأنّ الله حرمهم التوفيق.
الاحتمال الثاني أن تكون الجملة مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم بقيةً لقوله : "إنّ الهُدى هُدى الله".
والكلام على هذا ردّ على قولهم : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } وقولهم { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } على طريقة اللفّ والنشر المعكوس ، فقوله : { أن يأتى أحد مثل ما أوتيتم } إبطال لقولهم : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } أي قلتم ذلك حسَداً من أنْ يؤتي أحدٌ مثلَ ما أوتيتم وقوله : { أو يحاجوكم } ردّ لقولهم : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } على طريقة التهكم ، أي مرادكم التنصّل من أن يحاجوكم أي الذين آمنوا عند الله يوم القيامة ، فجمعتم بين الإيمان بما آمن به المسلمون ، حتى إذا كان لهم الفوز يوم القيامة لا يحاجونكم عند الله بأنكم كافرون ، وإذا كان الفوز لكم كنتم قد أخذتم بالحَزم إذ لم تبطلوا دين اليهودية ، وعلى هذا فواو الجماعة في قوله : { أو يحاجوكم } عائد إلى الذين آمنوا.(14/209)
وهذا الاحتمال أنسب نظماً بقوله تعالى : { قل إن الفضل بيد اللَّه } ، ليكون لِكلّ كلام حُكي عنهم تلقينُ جوابٍ عنه : فجواب قولهم : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } الآية ، قولُه : { قل إن الهدى هدى الله }.
وجواب قولهم : { ولا تؤمنوا } إلخ قولُه : قل إنّ الفضل بيد الله إلخ.
فهذا مِلاك الوجوه ، ولا نطيل باستيعابها إذْ ليس من غرضنا في هذا التفسير.
وكلمة { أحد } اسم نكرة غلب استعمالها في سياق النفي ومعناها شخص أو إنسان وهو معدود من الأسماء التي لا تقع إلاّ في حيّز النفي فيفيد العموم مثل عَرِيب ودَيَّار ونحوهما وندر وقوعه في حيّز الإيجاب ، وهمزته مبدلة من الواو وأصلَه وَحَد بمعنى واحد ويرد وصفاً بمعنى واحد.
[
وقرأ الجمهور { أن يُؤتَى أحد } بهمزة واحدة هي جزء من حرف ( أنْ ).
وقرأه ابن كثير بهمزتين مفتوحتين أولاهما همزة استفهام والثانية جزء من حرف ( أنْ ) وسهل الهمزة الثانية.
{ قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله واسع عَلِيمٌ } { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم }.
زيادة تذكير لهم وإبطال لإحالتهم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً من الله ، وتذكير لهم على طرح الحسد على نعم الله تعالى أي كما أعطى الله الرسالة موسى كذلك أعطاها محمداً ، وهذا كقوله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللَّه من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } [ النساء : 54 ].
وتأكيد الكلام بـ ( إنّ ) لتنزيلهم منزلة من ينكر أنّ الفضل بيد الله ومن يحسب أنّ الفضل تبع لشهواتهم وجملة { والله واسع عليم } عطف على جملة أنّ الفضل بيد الله إلخ أي أنّ الفضل بيد الله وهو لاَ يخفى عليه من هو أهل لنوال فضله.
و { واسع } اسم فاعل الموصوف بالسعة.(14/210)
وحقيقة السعة امتداد فضاء الحَيِّز من مكاننٍ أو ظرففٍ امتداداً يكفي لإيواء ما يحويه ذلك الحيز بدون تزاحم ولا تداخل بين أجزاء المحويّ ، يقال أرض واسعة وإناء واسع وثوب واسع ، ويطلق الاتساع وما يشتقّ منه على وفاء شيء بالعمل الذي يعملَه نوعُه دون مشقة يقال : فلان واسع البال ، وواسع الصدر ، وواسع العطاء.
وواسعِ الخُلُق ، فتدلّ على شدّةِ أو كثرةِ ما يسند إليه أو يوصف به أو يعلق به من أشياء ومعاننٍ ، وشاع ذلك حتى صار معنى ثانياً.
و { وَاسع } من صفات الله وأسمائِه الحسنى وهو بالمعنى المجازي لا محالة لاستحالة المعنى الحقيقي في شأنه تعالى ، ومعنى هذا الاسم عدمُ تناهي التعلقات لصفاته ذاتتِ التعلق فهو واسع العلم ، واسع الرحمة ، واسع العطاء ، فسعة صفاته تعالى أنها لا حدّ لتعلقاتها ، فهو أحقّ الموجودات بوصف واسع ، لأنه الواسع المطلق.
وإسناد وصف واسع إلى اسمه تعالى إسناد مجازي أيضاً لأنّ الواسع صفاتُه ولذلك يُؤتَى بعد هذا الوصف أو ما في معناه من فعل السعة بما يميز جهة السعة من تمييز نحو : وَسِع كل شيء علماً ، ربنا وسعت كلّ شيء رحمةً وعلماً.
فوصفه في هذه الآية بأنه واسع هو سعة الفضل لأنه وقع تذييلاً لقوله : ذلكَ فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأحسب أنّ وصف الله بصفة واسع في العربية من مبتكرات القرآن.
وقوله : { عليم } صفة ثانية بقوة علمه أي كثرة متعلّقات صفة علمه تعالى.
ووصفه بأنه عليم هنا لإفادة أنه عليم بمن يستأهل أن يؤتيه فضلَه ويدل على علمه بذلك ما يظهر من آثار إرادته وقدرته الجارية على وفق علمه متى ظهر للناس ما أودعه الله من فضائل في بعض خلقه ، قال تعالى : { اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 127 ـ 130}(14/211)
وقال الثعلبى :
{قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} متصل بالكلام الأوّل إخباراً عن قول اليهود بعضهم لبعض ،
ومعنى الآية : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ،
ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أُؤتيتم من العلم والحكمة والحجّة في المنّ والسلوى ،
وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات. ولا تؤمنوا أن يُحاجّوكم عند ربّكم لأنّكم أصحّ ديناً منه ،
وهذا معنى قول مجاهد والأخفش.
وقال ابن جريج وابن زيّات : قالت اليهود لسفلتهم : لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وأيّ فضل يكون لكم عليهم حيث علموا ما علمتم وحينئذ {يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} : يقولون عرفتم أنّ ديننا حقّ فلا تصدّقوهم لئلاّ يعلموا مثل ما عُلّمتم ولا يُحاجّوكم عند ربكم ،
ويجوز أن يكون على هذا القول لا مضمراً كقوله تعالى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا} يكون تقديره ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم لئلاّ يؤتى أحد من العلم مثل ما أوتيتم وألا يحاجّوكم عند ربكم.
وقرأ الحسن والأعمش : إن يؤتى بكسر الألف ووجه هذه القراءة إنّ هذا كلّه من قول اللّه بلا اعتراض وأن يكون كلام اليهود تاماً عند قوله {إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} ومعنى الآية : قل يا محمد إنّ الهدى هدى اللّه أن يؤتى ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أُمّة محمد أو يحاجّوكم ،
يعني إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم وقوله : {عِندَ رَبِّكُمْ} أي عند فضل ربّكم لكم ذلك ويكون (أنّ) على هذا القول بمعنى الجحد والنفي.
وهذا معنى قول سعيد بن جبير والحسن وأبي مالك ومقاتل والكلبي. وقال الفرّاء : ويجوز أن يكون (أو) بمعنى حتّى كما يقال : تعلّق به أو يعطيك حقّك أي حتى يعطيك حقّك.
وقال امرؤ القيس :
فقلت له لا تبك عينك إنّما
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
أي حتى نموت.(14/212)
والمعنى لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ،
ما أعطى أحداً مثل ما أُعطيتم يا أُمة محمد من الدّين والحجّة حتّى يحاجّوكم عند ربّكم.
وقرأ ابن كثير : أن يؤتى بالمدّ وحينئذ يكون في الكلام اختيار تقديرها : أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونهم ولا تؤمنون بهم وهذا قول قتادة والربيع.
وإلاّ هذا من قول اللّه عز وجّل : قل لهم يا محمد إنّ الهدى هدى اللّه لما أنزل كتاباً مثل كتابكم وبعث نبيّاً مثل نبيّكم حسدتموه وكفرتم به.
{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} الآية.
قال أبو حاتم : إنّ معناه الآن فحذف لام الجزاء استخفافاً وأُبدلت مدّه كقراءة من قرأ : {أَن كَانَ ذَا مَالٍ} أي الآن كان.
وقوله : أو يحاجّوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين ويكون أو بمعنى أن لأنّهما حرفا شك وجزاء ويوضع أحدهما موضع الآخر وتقدير الآية : وإن يحاجّوكم يا معشر المؤمنين عند ربّكم فقل يا محمد : إنّ الهدى هدى اللّه ونحن عليه.
ويحتمل أن يكون الجميع خطاباً للمؤمنين ويكون نظم الآية : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين (فلا تشكّو عند تلبيس اليهود) فقل إنّ الفضل بيد اللّه.
وإن حاجّوكم فقل إنّ الهدى هدى اللّه.
فهذه وجوه الآيات باختلاف القرآن. ويحتمل أن يكون تمام الخبر عن اليهود عند قوله {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فيكون قوله {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إلى آخر الآية من كلام اللّه عزّ وجّل. وذلك إنّ اللّه تعالى مثبّتٌ لقلوب المؤمنين ومشحذٌ لبصائرهم لئلاّ يشكّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم أي : ولا تصدّقوا يا معشر المؤمنين إلا لمن تبع دينكم ولا تصدّقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل ،(14/213)
ولا تصدّقوا أن يحاجّوكم في دينكم عند ربّكم فيقدرون على ذلك فإنّ الهدى هدى اللّه وأنّ الفضل بيد اللّه.
{يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} : فتكون الآية كلّها خطاب اللّه عز وجّل للمؤمنين عند تلبيس اليهود عليهم لئلاّ يزلّوا ولا يرتابوا واللّه أعلم. يدل عليه قول الضحّاك قال : إنّ اليهود قالوا : إنّا نحاجّ عند ربنا من خالفنا في ديننا فبيّن اللّه تعالى أنّهم هم المدحضون أي المغلوبون ،
وإنّ المؤمنين هم الغالبون. أ هـ {الكشف والبيان حـ 3 صـ 91 ـ 93}
وقال العلامة الشيخ محمد أبو زهرة يرحمه الله :
وإنى أميل إلى الاحتمال الأول ، وأن تكون الجملة السامية "قل إن الهدى هدى الله" معترضة ، وأن قوله "أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" من قولهم ، وذلك ليستقيم أمر الله بعد ذلك لنبيه بقوله "قل إن الفضل بيد الله" فإنه لا يتضح معناه إلا إذا كان عقب قولهم ؛ ليكون معنى جديدا للأمر الثانى بعد الأمر الأول ؛ إذ لو كان قوله "أن يؤتى أحد" من كلام الله المأمور به ما اتضح لنا معنى الأمر الثانى "قل إن الهدى هدى الله" إلا إذا كان لتكرار هدايته وفضله ، والتأسيس أولى من التأكيد. أ هـ {زهرة التفاسير / للعلامة الشيخ محمد أبو زهرة صـ 1276}(14/214)
وقال الآلوسى :
{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } في نظم الآية ومعناها أوجه لخصها الشهاب من كلام بعض المحققين ، أحدها : أن التقدير : ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهم المسلمون أوتوا كتاباً سماوياً كالتوراة ونبياً مرسلاً كموسى وبأن يحاجوكم ويغلبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لاتباعكم ، وحاصله أنهم نهوهم عن إظهار هذين الأمرين للمسلمين لئلا يزدادوا تصلباً ولمشركي العرب لئلا يبعثهم على الإسلام وأتى بأو على وزان { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] وهو أبلغ. والحمل على معنى حتى صحيح مرجوح ، وأتى بقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } معترضاً بين الفعل ومتعلقه ، وفائدة الاعتراض الإشارة إلى أن كيدهم غير ضار لمن لطف الله تعالى به بالدخول في الإسلام ، أو زيادة التصلب فيه. ويفيد أيضاً أن الهدى هداه فهو الذي يتولى ظهوره { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم والله مُتِمُّ نُورِهِ } [ الصف : 8 ] فالمراد بالإيمان إظهاره كما ذكره الزمخشري ، أو الإقرار اللساني كما ذكره الواحدي ، والمراد من التابعين المتصلب منهم ، وإلا وقع ما فروا منه ، وثانيها : أن المراد : ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعاً لدينكم أولاً وهم الذين أسلموا منهم أي لأجل رجوعهم لأنه كان عندهم أهم وأوقع ، وهم فيه أرغب وأطمع ، وعند هذا تم الكلام ، ثم قيل : {إن الهدى هُدَى الله } أي فمن يهدي الله فلا مضل له ويكون قوله تعالى : { أَن يؤتى } الخ على هذا معللاً لمحذوف أي لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل به من الغلبة بالحجة يوم القيامة دبرتم ما دبتم. وحاصله أن(14/215)
داعيكم إليه ليس إلا الحسد ، وإنما أتى بأو تنبيهاً على استقلال كل من الأمرين في غيظهم وحملهم على الحسد حتى دبروا ما دبروا ولو أتى بالواو لم تقع هذا الموقع للعلم بلزوم الثاني للأول لأنه إذا كان ما أوتوا حقاً غلبوا يوم القيامة مخالفهم لا محالة فلم يكن فيه فائدة زائدة ، وأما أو فتشعر بأن كلاً مستقل في الباعثية على الحسد والاحتشاد في التدبير ، والحمل على معنى حتى ليس له موقع يروع السامع وإن كان وجهاً ظاهراً.(14/216)
ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن كثير أأن يؤتى بزيادة همزة الاستفهام للدلالة على انقطاعه عن الفعل واستقلاله بالإنكار ، وفيه تقييد الإيمان بالصادر أول النهار بقرينة إن الكلام فيه ، وتخصيص من تبع بمسلميهم بقرينة المضي فإن غيرهم متبع دينهم الآن أيضاً ، وعن الزمخشري أن { أَن يؤتى } الخ من جملة المقول كأنه قيل : قل لهم هذين القولين ومعناه أكد عليهم أن الهدى ما فعل الله تعالى من إيتاء الكتاب غيركم ، وأنكر عليهم أن يمتعضوا من أن يؤتى أحد مثله كأنه قيل إن الهدى هدى الله ، وقل لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ما قلتم وكدتم ما كدتم ، وثالثها : أن يقرر ولا تؤمنوا على ما قرر عليه الثاني ، ويجعل { أَن يؤتى } خبر { إن } و{ هُدَى الله } بدل من اسمها وأو بمعنى حتى على أنها غاية سببية ، وحينئذ لا ينبغي أن يخص عند ربكم بيوم القيامة بل بالمحاجة الحقة كما أشير إليه في البقرة ، ولو حملت على العطف لم يلتئم الكلام ، ورابعها : أن يكون { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن } الخ باقياً على إطلاقه أي واكفروا آخره واستمروا على ما كنتم فيه من اليهودية ولا تقروا لأحد إلا لمن هو على دينكم وهو من جملة مقول الطائفة ويكون { قُلْ إِنَّ الهدى } الخ أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك في جوابهم ، على معنى : قل إن الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى حتى تحاجوا ؛ وقرينة الإضمار إن { وَلاَ تُؤْمِنُواْ } الخ تقرير على اليهودية وأنه لا دين يساويها فإذا أمر صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم علم أن ما أنكروه غير منكر وأنه كائن ، وحمل أو على معناها الأصلي حينئذٍ أيضاً حسن لأنه تأييد للإيتاء وتعريض بأن من أوتي مثل ما أوتوا هم الغالبون ، وقرىء إن يؤتى بكسر همزة إن على أنها نافية أي قولوا لهم ما يؤتى وهو خطاب لمن أسلم منهم رجاء العود(14/217)
، والمعنى لا إيتاء ولا محاجة فأو بمعنى حتى ، وقدر قولوا توضيحاً وبياناً لأنه ليس استئنافاً تعليلاً ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الهدى } الخ اعتراض ذكر قبل أن يتم كلامهم للاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا إليه ؛ وأرجح الأوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير وأنه أفيد من الأول وأقل تكلفاً من باقي الأوجه ، وأقرب إلى المساق انتهى.(14/218)
وأقول : ما ذكره في الوجه الرابع من تقرير فلا تنكروا أن يؤتى الخ هو قول قتادة والربيع والجبائي لكنهم لم يجعلوا أو بمعنى حتى وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما وكذا القول بإبدال أن يؤتى من الهدى قول السدي وابن جريج إلا أنهم قدروا لا بين أن ويؤتى ، واعترض عليهما أبو العباس المبرد بأن لا ليست مما تحذف ههنا ، والتزم تقدير مضاف شاع تقديره في أمثال ذلك وهو كراهة ، والمعنى إن الهدى كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي ممن خالف دين الإسلام لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهدى الله تعالى بعيد من غير المؤمنين ، ولا يخفى أنه معنى متوعر ، وليس بشيء ، ومثله ما قاله قوم من أن { أَن يؤتى } الخ تفسير للهدى ، وأن المؤتى هو الشرع وأن { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } عطف على { أُوتِيتُمْ } ، وأن ما يحاج به العقل وأن تقدير الكلام أن هدى الله تعالى ما شرع أو ما عهد به في العقل ، ومن الناس من جعل الكلام من أول الآية إلى آخرها من الله تعالى خطاباً للمؤمنين قال : والتقدير ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الإسلام ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين فلا نبي بعد نبيكم عليه الصلاة والسلام ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الأديان ، وجعل { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } اعتراضاً للتأكيد وتعجيل المسرة ولا يخفى ما فيه واختيار البعض له والاستدلال عليه بما قاله الضحاك إن اليهود قالوا : إنا نحج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى لهم أنهم هم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون ليس بشيء لأن هذا البيان لا يتعين فيه هذا الحمل كما لا يخفى على ذي قلب سليم ، والضمير المرفوع من { يُحَاجُّوكُمْ } على كل تقدير عائد إلى { أَحَدٌ}(14/219)
لأنه في معنى الجمع إذ المراد به غير أتباعهم.
واستشكل ابن المنير قطع { أَن يؤتى } عن { لاَ تُؤْمِنُواْ } على ما في بعض الأوجه السابقة بأنه يلزم وقوع ( أحد ) في الواجب لأن الاستفهام هنا إنكار ، واستفهام الإنكار في مثله إثبات إذ حاصله أنه أنكر عليهم ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الإيمان بأن النبوّة لا تخص بني إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين فهو إثبات محقق ، ثم قال : ويمكن أن يقال : روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول ( أحد ) في سياقه لذلك وفيه تأمل فتأمل وتدبر ، فقد قال الواحدي : إن هذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيراً { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله } رد وإبطال لما زعموه بأوضح حجة ، والمراد من الفضل الإسلام قاله ابن جريج وقال غيره : النبوة ، وقيل : الحجج التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، وقيل : نعم الدين والدنيا ويدخل فيه ما يناسب المقام دخولاً أولياً { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } أي من عباده { والله واسع } رحمة ، وقيل : واسع القدرة يفعل ما يشاء { عَلِيمٌ } بمصالح العباد ، وقيل : يعلم حيث يجعل رسالته. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 200 ـ 202}(14/220)
وقال فى الميزان :
قوله تعالى : {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}الخ الذي يعطيه السياق هو أن تكون هذه الجملة من قول أهل الكتاب تتمة لقولهم : آمنوا بالذي أنزل على الذين
آمنوا وكذا قوله تعالى {أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم به عند ربكم ويكون قوله {قل إن الهدى هدى الله} جملة معترضة هو جواب الله سبحانه عن مجموع ما تقدم من كلامهم أعني قولهم : {آمنوا بما أنزل} إلى قوله {دينكم} على ما يفيده تغيير السياق وكذا قوله تعالى {قل إن الفضل بيد الله} جوابه تعالى عن قولهم {أن يؤتى أحد} إلى آخره هذا هو الذي يقتضيه ارتباط أجزاء الكلام واتساق المعاني في الآيتين أولا وما تناظر الآيتين من الآيات الحاكية لأقوال اليهود في الجدال والكيد ثانيا.
والمعنى - والله أعلم - أن طائفة من أهل الكتاب وهم اليهود قالت أي قال بعضهم لبعض : صدقوا النبي والمؤمنين في صلاتهم وجه النهار إلى بيت المقدس ولا تصدقوهم في صلاتهم إلى الكعبة آخر النهار ولا تثقوا في الحديث بغيركم فيخبروا المؤمنين أن من شواهد نبوة النبي الموعود تحويل القبلة إلى الكعبة فإن في تصديقكم أمر الكعبة وإفشائكم ما تعلمونه من كونها من إمارات صدق الدعوة محذور أن يؤتى المؤمنون مثل ما أوتيتم من القبلة فيذهب به سؤددكم ويبطل تقدمكم في أمر القبلة ومحذور أن يقيموا عليكم الحجة عند ربكم أنكم كنتم عالمين بأمر القبلة الجديدة شاهدين على حقيته ثم لم تؤمنوا.
فأجاب الله تعالى عن قولهم في الإيمان بما في وجه النهار والكفر في آخره وأمرهم بكتمان أمر القبلة لئلا يهتدي المؤمنون إلى الحق بأن الهدى الذي يحتاج إليه المؤمنون الذي هو حق الهدى إنما هو هدى لله دون هداكم فالمؤمنون في غنى عن ذلك فإن شئتم فاتبعوا وإن شئتم فاكفروا وإن شئتم فأفشوا وإن شئتم فاكتموا.(14/221)
وأجاب تعالى عما ذكروه من مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا أو يحاجوهم عند ربهم بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا بيدكم حتى تحبسوه لأنفسكم وتمنعوا منه غيركم وأما حديث الكتمان مخافة المحاجة فقد أعرض عن جوابه لظهور بطلانه كما فعل كذلك في قوله تعالى في هذا المعنى بعينه " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " البقرة - 77 فقوله : {أو لا يعلمون} إيذان بأن هذا القول بعد ما علموا أن الله لا يتفاوت فيه السر والعلانية كلام منهم لا يستوي على تعقل صحيح وليس جوابا لمكان الواو في قوله {أو لا يعلمون}.
وعلى ما مر من المعنى فقوله تعالى {ولا تؤمنوا} معناه لا تثقوا ولا تصدقوا لهم الوثاقة وحفظ السر على حد قوله تعالى {ويؤمن للمؤمنين} : التوبة - 61 والمراد بقوله لمن تبع اليهود.
والمراد بالجملة النهي عن إفشاء ما كان عندهم من حقية تحويل القبلة إلى الكعبة كما مر في قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام إلى أن قال {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} إلى أن قال {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} : البقرة - 146. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 257 ـ 259}(14/222)
قوله تعالى : {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم (74)}
قال الفخر :
هذا كالتأكيد لما تقدم ، والفرق بين هذه الآية وبين ما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة ، ثم إن الزيادة من جنس المزيد عليه ، فبيّن بقوله {إِنَّ الفضل بِيَدِ الله} إنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ، ثم قال : {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} والرحمة المضافة إلى الله سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل ، فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم ، بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم ، ويحصل من مجموع الآيتين إنه لا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده ، وأن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة ، وعلى أشخاص معينين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 88}
وقال الآلوسى :
{ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } قال الحسن : هي النبوة ، وقال ابن جريج : الإسلام والقرآن ، وقال ابن عباس هو وكثرة الذكر لله تعالى ، والباء داخلة على المقصور وتدخل على المقصور عليه وقد نظم ذلك بعضهم فقال :
والباء بعد الاختصاص يكثر... دخولها على الذي قد قصروا وعكسه مستعمل وجيد
ذكره الحبر الإمام السيد... { والله ذُو الفضل العظيم } قال ابن جبير : يعني الوافر. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 202}
وقال ابن عاشور :
وجملة { يختص برحمته من يشاء } بدل بعض من كل لجملة { إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } فإنّ رحمته بعض مما هو فضله.
وجملة { والله ذو الفضل العظيم } تذييل وتقدم تفسير نظيره عند قوله تعالى : { واللَّه يختص برحمته من يشاء واللَّه ذو الفضل العظيم } في سورة [ البقرة : 105 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 130}(14/223)
فائدة
قال فى الأمثل :
"خطط قديمة"
تعتبر هذه الآيات ، في الواقع ، من آيات إعجاز القرآن ، لأنّها تكشف أسرار
اليهود وأعداء الإسلام وتفضح خططهم لزعزعة مسلمي الصدر الأوّل ، فتيقّظ المسلمون ببركتها ، ووعوا وساوس الأعداء المغرية. ولكنّنا لو دقّقنا النظر لأدركنا أنّ تلك الخطط تجري في عصرنا الحاضر أيضاً بطرق مختلفة. إنّ وسائل إعلام الأعداء القوية المتطوّرة مستخدمة الآن للغرض نفسه ، فهم يحاولون هدم أركان العقيدة الإسلامية في عقول المسلمين ، وبخاصة الجيل الشاب. وهم في هذا السبيل لا يتورّعون عن كلّ فرية ، ويلجأون إلى كلّ السبل ويتلبّسون بلبوس العالم والمستشرق والمؤرّخ وعالم الطبيعيات والصحفي ، بل حتّى الممثّل السينمائي.
إنّهم يصرّحون أنّ هدفهم ليس التبشير بالمسيحية وحمل المسلمين على اعتناقها ، ولا اعتناق اليهودية ، بل هدفهم هو هدم أُسس المعتقدات الإسلامية في أفكار الشباب ، وجعلهم غير مهتمّين بدينهم وتراثهم. إنّ القرآن اليوم يحذّر المسلمين من هذه الخطط كما حذّرهم في القديم. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 557 ـ 558}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وتضمنت هذه الآيات من البديع : التجنيس المماثل ، والتكرار في : آمنوا وآمنوا ، وفي الهدى ، هدى الله وفي : يؤتى وأوتيتم ، وفي : أن أفضل ، وذو الفضل.
والتكرار أيضاً في : اسم الله ، في أربعة مواضع.
والطباق : في آمنوا واكفروا ، وفي وجه النهار وفي آخره ، والإختصاص.
في : وجه النهار ، لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم ، وآخره لأنه وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار ، والحذف في مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 521 ـ 522}(14/224)
قوله تعالى {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
فلما تقرر أن الأمر كله له ذكر دليل ذلك فيهم بأنه فضل فريقاً منهم فأعلاه ، ورذل فريقاً منهم فأرداه ، فلم يردهم الكتاب - وهم يتلونه - إلى الصواب ، فقال عاطفاً على ما مضى من مخازيهم مقرراً لكتمانهم للحق مع علمهم بأنه الحق بأنه الخيانة ديدنهم في الأعيان الدنيوية والمعاني الدينية منبهاً على أنهم وإن شاركوا الناس في انقسامهم إلى أمين وخائن فهم يفارقونهم من حيث إن خائنهم يتدين بخيانته ويسندها - مروقاً من ربقة الحياء - إلى الله ، مادحاً للأمين منهم : {ومن أهل الكتاب} أي الموصوفين {من إن تأمنه بقنطار} أي من الذهب المذكور في الفريق الآتي {يؤده إليك} غير خائن فيه ، فلا تسوقوا الكل مساقاً واحداً في الخيانة {ومنهم من إن تأمنه بدينار} أي واحد {لا يؤده إليك} في زمن من الأزمان دناءة وخيانة {إلا ما} أي وقت ما {دمت عليه قائماً} تطالبه به غالباً له بما دلت عليه أداة الاستعلاء ، ثم استأنف علة الخيانة بقوله : {ذلك} أي الأمر البعيد من الكمال {بأنهم قالوا} كذباً على شرعهم {ليس علينا في الأميين} يعني من ليس له كتاب فليس على دينهم {سبيل }.
ولما كان الكذب من عظم القباحة بمكان يظن بسببه أنه لا يجترىء عليه ذو عقل فكيف على الله سبحانه وتعالى قال : {وهم يعلمون} أي ذوو علم فيعلمون أنه كذب. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 114 ـ 115}
وقال الفخر :(14/225)
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين ،
الأول : أنه - تعالى - حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية ، ما لم يؤتَ أحد غيرُهم مثلَه ، ثم إنه تعالى بيّن أن الخِيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان ، وهم مصرون عليها ، فدل هذا على كذبهم
والثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا {لاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} [ آل عمران : 73 ] حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس ، وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 88}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}
عطف على قوله : { وقالت طائفة من أهل الكتاب } [ آل عمران : 72 ] أو على قوله : { ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } [ آل عمران : 69 ] عطف القصة على القصة والمناسبة بيان دخائل أحوال اليهود في معاملة المسلمين الناشئة عن حسدهم وفي انحرافهم عن ملة إبراهيم مع ادّعائهم أنهم أولَى الناس به ، فقد حكى في هذه الآية خيانة فريق منهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 131}
فصل
قال الفخر :
الآية دالة على انقسامهم إلى قسمين : بعضهم أهل الأمانة ، وبعضهم أهل الخيانة وفيه أقوال(14/226)
الأول : أن أهل الأمانة منهم هم الذين أسلموا ، أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين وأخذ أموالهم ونظير هذه الآية قوله تعالى : {لَيْسُواْ سَوَاء مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [ آل عمران : 113 ] مع قوله {مّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [ آل عمران : 110 ]
الثاني : أن أهل الأمانة هم النصارى ، وأهل الخيانة هم اليهود (1) ، والدليل عليه ما ذكرنا ، أن مذهب اليهود أنه يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان
الثالث : قال ابن عباس : أودع رجل عبد الله بن سلاّم ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدى إليه ، وأودع آخر فنحاص بن عازوراء ديناراً فخانه فنزلت الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 88 ـ 89}
قال القرطبى :
أخبر تعالى أن في أهل الكتاب الخائنَ والأمينَ ، والمؤمنون لا يميزون ذلك ، فينبغي اجتناب جميعهم.
وخصّ أهل الكتاب بالذّكر وإن كان المؤمنون كذلك ؛ لأنّ الخيانة فيهم أكثر ، فخرج الكلام على الغالب. والله أعلم.
وقد مضى تفسير القنطار.
وأما الدينار فأربعة وعشرون قيراطاً والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعة اثنتان وسبعون حبة ، وهو مُجْمَع عليه.
ومن حفِظ الكثير وأدّاه فالقليل أوْلى ، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر.
وهذا أدلّ دليل على القول بمفهوم الخطاب.
وفيه بين العلماء خلاف ( كثير ) مذكور في أُصول الفقه.
وذكر تعالى قسمين : من يؤدّي ومن لا يؤدّي إلا بالملازمة عليه ؛ وقد يكون من الناس من لا يؤدِّي وإن دُمت عليه قائماً.
فذكر تعالى القسمين لأنه الغالب والمعتاد والثالث نادر ؛ فخرج الكلام على الغالب. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 116 ـ 117}
_________
(1) معاذ الله أن يكون النصارى أهل أمانة بل كل أهل الكتاب أهل كذب وخيانة والواقع يشهد بذلك وهم كما أخبر الله عنهم {لايرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة}. والله أعلم.(14/227)
فصل
قال الفخر :
المراد من ذكر القنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل ، يعني أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها ، ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو اؤتمن على الشيء القليل ، فإنه يجوز فيه الخيانة ، ونظيره قوله تعالى : {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [ النساء : 20 ] وعلى هذا الوجه ، فلا حاجة بنا إلى ذكر مقدار القنطار وذكروا فيه وجوهاً الأول : إن القنطار ألف ومائتا أوقية قالوا : لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلاّم حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب فرده ولم يخن فيه ، فهذا يدل على القنطار هو ذلك المقدار
الثاني : روي عن ابن عباس أنه ملء جلد ثور من المال
الثالث : قيل القنطار هو ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم ، وقد تقدم القول في تفسير القنطار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 89}
قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}
فصل
قال الفخر :
في لفظ ( القائم ) وجهان : منهم من حمله على حقيقته ، قال السدي : يعني إلا ما دمت قائماً على رأسه بالاجتماع معه والملازمة له ، والمعنى : أنه إنما يكون معترفاً بما دفعت إليه ما دمت قائماً على رأسه ، فإن أنظرت وأخرت أنكر ، ومنهم من حمل لفظ ( القائم ) على مجازه ثم ذكروا فيه وجوهاً(14/228)
الأول : قال ابن عباس المراد من هذا القيام الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة ، قال ابن قتيبة : أصله أن المطالب للشيء يقوم فيه والتارك له يقعد عنه ، دليل قوله تعالى : {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [ آل عمران : 113 ] أي عامله بأمر الله غير تاركه ، ثم قيل : لكل من واظب على مطالبة أمر أنه قام به وإن لم يكن ثم قيام
الثاني : قال أبو علي الفارسي : القيام في اللغة بمعنى الدوام والثبات ، وذكرنا ذلك في قوله تعالى : {يُقِيمُونَ الصلاة} [ البقرة : 3 ] ومنه قوله {دِينًا قِيَمًا} [ الأنعام : 161 ] أي دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى قوله {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} أي دائماً ثابتاً في مطالبتك إياه بذلك المال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 89}
قال السمرقندى :
{ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } أي مُلِحّاً متقاضياً و{ ذلك } يعني الاستحلال { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الاميين سَبِيلٌ } يعني يقولون ليس علينا في مال العرب مأثم.
ويقال : من لم يكن على ديننا ، فَمَالُه لنا حلال ، بمنزلة مذهب الخوارج أنهم يستحلون مال من كان على خلاف مذهبهم. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 249}
وقال الطبرى :
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "إلا ما دمت عليه قائمًا".
فقال بعضهم : "إلا ما دمت له متقاضيًا".
وقال آخرون : معنى ذلك : "إلا ما دمتَ قائمًا على رأسه". أ هـ
ثم قال رحمه الله :(14/229)
وأولى القولين بتأويل الآية ، قول من قال : "معنى ذلك : إلا ما دمت عليه قائمًا بالمطالبة والاقتضاء". من قولهم : "قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي" ، أي عمل في تخليصه ، وسَعى في استخراجه منه حتى استخرجه. لأن الله عز وجل إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين ، وأنّ منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة. وليس القيام على رأس الذي عليه الدين ، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ ، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهابَ بما عليه لربّ الحقّ - إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة. فذلك الاقتضاء ، هو قيام ربِّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 520 ـ 521}
فصل
قال الفخر :
يدخل تحت قوله {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} و{بِدِينَارٍ} العين والدين ، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقارضة وليس في الآية ما يدل على التعيين والمنقول عن ابن عباس أنه حمله على المبايعة ، فقال منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك ونقلنا أيضاً أن الآية نزلت في أن رجلاً أودع مالاً كثيراً عند عبد الله بن سلام ، ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء ، فخان هذا اليهودي في القليل ، وعبد الله بن سلام أدى الأمانة ، فثبت أن اللفظ محتمل لكل الأقسام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 90}
سؤال : فإن قال قائل : وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك : منهم المؤدِّي أمانته والخائنُها ؟(14/230)
قيل : إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم - على ما بينه في كتابه بهذه الآيات - تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم ، وتخويفهم الاغترارَ بهم ، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين.
فتأويل الكلام : ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه ، يا محمد ، على عظيم من المال كثير ، يؤدِّه إليك ولا يخنْك فيه ، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنْك فيه فلا يؤدِّه إليك ، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 519}
قوله تعالى : {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ}
قال الفخر :
المعنى إن ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 90}
فصل
قال الفخر :
ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً
الأول : أنهم مبالغون في التعصب لدينهم ، فلا جرم يقولون : يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام : " كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البرِّ والفاجر "
الثاني : أن اليهود قالوا {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [ المائدة : 18 ] والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا(14/231)
الثالث : أن اليهود إنما ذكروا هذا الكلام لا مطلقاً لكل من خالفهم ، بل للعرب الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم ، روي أن اليهود بايعوا رجالاً في الجاهلية فلما أسلموا طالبوهم بالأموال فقالوا : ليس لكم علينا حق لأنكم تركتم دينكم ، وأقول : من المحتمل أنه كان من مذهب اليهود أن من انتقل من دين باطل إلى دين آخر باطل كان في حكم المرتد ، فهم وإن اعتقدوا أن العرب كفار إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كفر حكموا على العرب الذين أسلموا بالردة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 90}
لطيفة
قال القرطبى :
قال رجل لابن عباس : إنّا نُصيب في العَمْد من أموال أهل الذمّة الدّجاجة والشاة ونقول : ليس علينا في ذلك بأس.
فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب { ليس علينا في الأميِّين سبيل } إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طِيب أنفسهم ؛ ذكره عبد الرازق عن معمر عن أبي إسحاق الهَمْدانيّ عن صَعْصعة أن رجلاً قال لابن عباس ؛ فذكره. { تفسير عبد الرازق (1/130)}. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 118 ـ 119}
فائدة
قال الفخر :
نفي السبيل المراد منه نفي القدرة على المطالبة والإلزام.
قال تعالى : {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [ التوبة : 91 ] وقال : {وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} [ النساء : 141 ] وقال : {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} [ الشورى : 41 42 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 90}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : " منْ " مبتدأ ، و{ وَمِّنْ أَهْلِ } خَبَرُه ، قُدِّمَ عليه ، و" مَنْ " إما موصولة ، وإما نكرة. و" إن تأمنه بقنطار يؤده " هذه الجملة الشرطية ، إما صلة ، فلا محل لها ، وإما صفة فمحلّها الرفع.(14/232)
وقرا بعضهم : { تَأْمَنْهُ } ، و{ مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّ } [ يوسف : 11 ]. بكسر حرف المضارعة ، وكذلك ابن مسعود والأشهب والعقيلي ، إلا أنهما أبْدَلاَ الهمزة ياءً.
وجعل ابن عطية ذلك لغة قُرَيْشٍ ، وغلَّطه أبو حيّان وقد تقدّمَ الْكَلاَمُ في كسر حرف المضارعةِ ، وشرطه في الفاتحة يقال : أمنته بكذا ، وعلى كذا ، فالباءُ للإلصاق بالأمانة ، و" على " بمعنى استيلاء المودع على الأمانة.
وقيل : معنى : أمنته بكذا ، وثقت به فيه ، وأمنته عليه : جعلته أميناً عليه.
والقنطارُ والدينار : المراد بهما العددُ الكثيرُ ، والعدد القليل ، يعني : أن فيهم مَنْ هو في غاية الأمانة ، حتى أنه لو ائتمِن على الأموال الكثيرة أدَّى الأمانة فيها ، ومنهم من هو في غاية الخيانة ، حتى لو ائتُمِن على الشيء القليل فإنه يخون فيه.
واختلف في القنطار ، فقيل : ألف ومائتان أوقية ؛ لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلام ، حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب ، فردَّه ، ولم يَخُنْ فيه.
ورُوِي عن ابن عباس أنه مِلْءُ جلد ثور من المال.
وقيل : ألف ألف دينار ، أو ألف الف درهم - وقد تقدم-.
والدينار : أصله : دِنَّار - بنونين - فاستثقل توالي مثلَيْن ، فأبدلوا أولهما حرفَ علة ، تخفيفاً ؛ لكثرة دوره في لسانهم ، ويدل على ذلك رَدُّه إلى النونين - تكسيراً وتصغيراً - في قولهم : دَنَانير ودُنَيْنِير.
ومثله قيراط ، أصله : قِرَّاط ، بدليل قراريط وقُرَيْرِيط ، كما قالوا : تَظَنَّيْتُ ، وقصَّصْتُ أظفاري ، يريدون : تظنّنت وقصّصت - بثلاث نونات وثلاث صاداتٍ - والدِّينار مُعرَّب ، قالوا : ولم يختلف وزنه أصْلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً ، كل قِيراطٍ ثلاث شعيرات معتدلاتٍ ، فالمجموع اثنان وسبعون شعيرةً.(14/233)
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم " يُؤَدِّهْ " بسكون الهاء في الحرفين.
وقرأ قالون " يُؤَدِّهِ " بكسر الهاء من دون صلة ، والباقون بكسرها موصولة بياء ، وعن هشام وجهان :
أحدهما : كقالون ، والآخر كالجماعة.
أما قراءة أبي عمرو ومن معه فقد خرَّجوها على أوجه ، أحسنها أنه سكنت هاء الضمير ، إجراءً للوصْل مجرى الوقف وهو باب واسع مضى منه شيء - نحو : { يَتَسَنَّهْ } [ البقرة : 259 ] و{ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت } [ البقرة : 258 ] وسيأتي منه أشياء إن شاء الله تعالى.
وأنشد ابنُ مجاهد على ذلك : [ البسيط ]
وأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ... إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا
وأنشد الأخفش : [ الطويل ]
فَبتُّ لَدَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أخِيلُهُ... وَمِطْوايَ مُشْتَاقَانِ لَهْ أرقَان
إلا أن هذا يخصُّه بعضهم بضرورة الشعر ، وليس كما قال ، لما سيأتي.
وقد طعن بعضهم على هذه القراءةِ ، فقال الزَّجَّاجُ : هذا الإسكان الذي رُوِيَ عن هؤلاء غلط بَيِّنٌ ؛ وأن الفاء لا ينبغي أن تُجْزَم ، وإذا لم تُجْزَم فلا تسكن في الوصل ، وأما أبو عمرو فأُراه كان يختلس الكسرة ، فغلط عليه كما غلط عليه في " باريكم ". وقد حكى عنه سيبويه - وهو ضابط لمثل هذا - أنه كان يكسر كسراً خفياً ، يعني يكسر في { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] كسراً خفيًّا ، فظنه الراوي سكوناً.
قال شهابُ الدينِ : وهذا الرد من الزجَّاج ليس بشيءٍ لوجوه :
منها : أنه فَرَّ من السكون إلى الاختلاس ، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نص على أنَّ الاختلاس - أيضا - لا يجوز إلا في ضرورة ، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس ، قال : ليُجْرَى الوصلُ مجرى الوقف إجراء كاملاً ، وجعل قوله : [ البسيط ](14/234)
............................... إلاَّ لأن عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا
أحسن من قوله : [ البسيط ]
................................ مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا ولا اعْتَمَرَ
حيث سكن الأول ، واختلس الثاني.
ومنها أن هذه لغة ثابتة عن العرب حفظها الأئمة الأعلام كالكسائي والفراء - حكى الكسائيُّ عن بني عقيل وبني كلابٍ { إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُود } [ العاديات : 6 ] - بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع-.
ويقولون : لَهُ مال ، ولَهْ مالٌ - بالإسكان والاختلاس.
قال الفراء : من العرب مَنْ يجزم الهاء - إذا تحرَّك ما قبلَها - نحو ضَرَبْتُهْ ضرباً شديداً ، فيسكنون الهاء كما يسكنون ميم " أنتم " و" قمتم " وأصلها الرفع.
وأنشد : [ الرجز ]
لمَّا رَأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ... مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقف فالطَدَعْ
قال شهاب الدينِ : وهذا عجيب من الفرَّاء ؛ كيف يُنْشِد هذا البيت في هذا المَعْرِض ؛ لأن هذه الفاء مبدلة من تاء التأنيث التي كانت ثابتةً في الوصل ، فقلبها هاءً ساكنة في الوصل ؛ إجراءً له مُجْرَى الوقف وكلامنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيثِ ؛ لأن هاء التانيثِ لا حَظَّ لها في الحركة ألبتة ، ولذلك امتنع رومها وإشمامُها في الوقف ، نَصُّوا على ذلك ، وكان الزجاج يُضَعَّف في اللغة ، ولذلك رد على ثعلب - في فصيحه - أشياء أنكرها عن العرب ، فردَّ الناسُ عليه رَدَّه ، وقالوا : قالتها العربُ ، فحفظها ثعلب ولم يحفظْها الزجَّاج. فليكن هذا منها.
وزعم بعضهم أن الفعلَ لما كان مجزوماً ، وحلت الهاءُ محلّ لامِهِ جرى عليها ما يَجْرِي على لام الفعل - من السكون للجزم - وهو غير سديدٍ.
وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها قول الشاعر : [ الوافر ](14/235)
لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ... إذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ
وقول الآخر : [ الطويل ]
أنَا ابْنُ كِلابٍ وابْنُ أوْسٍ فَمَنْ يَكُنْ... قِنَاعُهُ مغْطِيًّا فَإنِّي لَمُجْتَلى
وقول الآخر : [ البسيط ]
أوْ مَعْبَرُ الظَّهْرِ يُنْبي عَنْ وَلِيَّتِهِ... مَا حَجَّ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلا اعْتَمَرَ
وقد تقدم أنها لغة عقيل ، وكلاب أيضاً ، وأما قراءة الباقين فواضحة وقرأ الزهريُّ " يُؤَدِّهو " بضم الهاء بعدها واو ، وهذا هو الأصل في هاء الكتابة ، وقرأ سَلاَّم كذلك إلا أنه ترك الواوَ فاختلس ، وهما نظيرتا قراءتي " يؤدهي " و{ يُؤَدِّهِ } - بالإشباع والاختلاس مع الكسرِ
واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعل مجزوم ، أو أمر معتلِّ الآخر ، جَرَى فيها هذه الأوجُه الثلاثة أعني السكون والإشباع والاختلاس - كقوله : { نُؤْتِهِ مِنْهَ } [ آل عمران : 145 ] وقوله : { يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] وقوله : { مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّم } [ النساء : 115 ] ، وقوله : { فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم } [ النمل : 28 ] وقد جاء ذلك في قراءة السبعة - أعني : الأوجه الثلاثة - في بعض هذه الكلمات وبعضها لم يأت فيه إلا وجه - وسيأتي مفصَّلاً في مواضعه إنْ شاء الله. وليس فيه أن الهاء التي للكناية متى سبقها متحرَّك فالفصيح فيها الإشباع ، نحو " إنَّهُ ، لَهُ ، بِهِ " ، وإن سبقها ساكن ، فالأشهر الاختلاس - سواء كان ذلك الساكن صحيحاً أو معتلاً - نحو فيه ، منه وبعضهم يفرق بين المعتلْ والصحيح وقد تقدم ذلك أول الكتاب.(14/236)
إذا علم ذلك فنقول : هذه الكلمات - المشار إليها - إن نظرنا إلى اللفظ فقد وقعت بعد متحرِّك ، فحقها أن تشبع حركتها موصولةً بالياء ، أو الواو ، وإن سكنت فلما تقدم من إجراء الوصل مُجرى الوقف. وإن نظرنا إلى الأصل فقد سبقها ساكن - وهو حَرْفُ العلة المحذوف للجزم - فلذلك جاز الاختلاسُ ، وهذا أصل نافع مطرد في جميع هذه الكلمات.
قوله { بِدِينَارٍ } في هذه الباء ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها للإلصاق ، وفيه قَلَقٌ.
الثاني : أنها بمعنى " في " ولا بد من حذف مضاف ، أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار.
الثالث : أنها بمعنى " على " وقد عُدِّيَ بها كثيراً ، كقوله : { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُف } [ يوسف : 11 ] وقوله : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 64 ] وكذلك هي في { بِقِنطَارٍ }.
قوله : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } استثناء مفرَّغ من الظرف العام ؛ إذ التقدير : لا يؤده إليك في جميع المُددِ والأزمنة إلا في مدة دوامك قائماً عليه ، متوكِّلاً به و" دُمْتَ " هذه هي الناقصةُ ، ترفع وتنصب ، وشرط إعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية إذ التقدير إلا مدة دومك [ ولا ينصرف ، فأما قولهم : " يدوم " فمضارع " دام " التامة بمعنى بقي ، ولكونها صلة لـ " ما " الظرفية ] لزم أن يكون بحاجة إلى كلام آخر ، ليعمل في الظرف نحو أصحبك ما دمت باكياً ولو قلت ما دام زيد قائماً من غير شيء لم يكن كلاماً.(14/237)
وجوز أبو البقاء في " ما " هذه أن تكون مصدرية فقط ، وذلك المصدر - المنسبك منها ومن دام - في محل نصب على الحال ، وهو استثناءٌ مفرَّغ - أيضاً - من الأحوال المقدَّرة العامة ، والتقدير : إلا في حال ملازمتك له ، وعلى هذا ، فيكون " دَامَ " هنا تامة ؛ لما تقدم من أن تقدُّم الظرفية شرط في إعمالها ، فإذا كانت تامة انتصب " قَائماً " على الحال ، يقال : دام يدُوم - كقام يقوم - و" دُمت قائماً " بضم الفاء وهذه لغة الحجاز ، وتميم يقولون : دِمْت - بكسرها - وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثّابٍ والأعمشُ وطلحة والفياضُ بن غزوان وهذه لغة تميم ، ويجتمعون في المضارع ، فيقولون : يدوم يعني : أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارع مضمومُ الْعَيْنِ ، وكان قياسُ تميم أن تقول يُدام كخاف يخاف - فيكون وزنها عند الحجازيين فعَل - بفتح العين - وعند التميمين فِعل بكسرها هذا نقل الفراء.
وأما غيره فنقل عن تميم أنهم يقولون : دِمْتُ أدام - كخِفت اخاف - نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني والزمخشري.
وأصل هذه المادة : الدلالة على الثبوت والسكون ، يقال : دام الماء ، أي سكن. وفي الحديث : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم " وفي بعضه بزيادة : الذي لا يجري ، وهو تفسير له ، وأدَمْت القِدْرَ ، ودومتها سكنت غليانها بالماء ، ومنه : دامَ الشيء ، إذا امتدَّ عليه الزمان ، ودوَّمت الشمس : إذا وقعت في كبد السماء.
قال ذو الرمة : [ البسيط ]
......................... وَالشَّمْسُ حيْرَى لَهَا في الْجَوِّ تَدْوِيمُ(14/238)
هكذا أنشد الراغبُ هذا الشطر على هذا المعنى ، وغيره ينشده على معنى أن الدوام يُعَبَّر به عن الاستدارة حول الشيء ، ومنه الدوام ، وهو الدُّوَار الذي يأخذ الإنسان في دماغه ، فيرَى الأشياء دائرة. وأنشد معه - أيضاً - قول علقمة به عَبدَة : [ البسيط ]
تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلاَ يُؤْذِيكَ سَالِيهَا... وَلاَ يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ
ومنها : دوَّم الطائر ، إذا حَلَّق ودار.
قوله : { لَيْسَ عَلَيْنَا } يجوز أن يكون في " ليس " ضمير الشأنِ - وهو اسمها - وحينئذ يجوز أن يكون " سبيل " مبتدأ ، و" عَلَيْنَا " الخبر ، والجملة خبر ليس. ويجوز أن يكون " عَلَيْنَا " وحده هو الخبر ، و{ سَبِيلِ } مرتفع به على الفاعلية. ويجوز أن يكون { سَبِيلِ } اسم " ليس " والخبر أحد الجارين أعني : { عَلَيْنَا } أو { فِي الأميين }.
ويجوز أن يتعلق { فِي الأميين } بالاستقرار الذي تعلق به " عَلَيْنَا " وجوّز بعضهم أن يتعلق بنفس " ليس " نقله أبو البقاء ، وغيرُه ، وفي هذا النقل نظر ؛ وذلك أن هذه الأفعال النواقص في عملها في الظروف خلاف ، وَبَنَوُا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدث ، فمن قال : تدل على الحدث جوز إعمالها في الظرف وشبهه ، ومن قال : لا تدل على الحدث منعوا إعمالها. واتفقوا على أن " ليس " لا يدل على حدث ألبتة ، فكيف تعمل ؟ هذا ما لا يُعْقَل.
ويجوز أن يتعلق { فِي الأميين } بـ " سَبيلٌ " ، لأنه استعمل بمعنى الحرجِ ، والضمانِ ، ونحوها. ويجوز أن يكون حالاً منه فيتعلق بمحذوف.
قال : فالأمي منسوب إلى الأم ، وسُمِّي النبي صلى الله عليه وسلم أمياً ؛ قيل : لأنه كان لا يكتب ، وذلك لأن الأمَّ : أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بَقِي على أصله في أن لا يكتب.(14/239)
وقيل : نسبة إلى مكة ، وهي أمُّ القُرَىأ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 329 ـ 337}. بتصرف يسير.
قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
قال الفخر :
فيه وجوه
الأول : أنهم قالوا : إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش
الثاني : أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة
الثالث : أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 90}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يدل على أن الكافر لا يُجعل أهلاً لقبول شهادته ؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه كذاب.
وفيه ردّ على الكفرة الذين يحرِّمون ويحلّلون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع.
قال ابن العربي : ومن هذا يخرج الردّ على من يحكم بالاستحسان من غير دليل ، ولست أعلم أحداً من أهل القِبْلة قاله.
وفي الخبر : لما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ إلا الأمانة فإنها مؤدّاة إلى البَرّ والفاجر ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 119}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :(14/240)
وقد ذكر الله هنا أنّ في أهل الكتاب فريقين : فريقاً يؤدّي الأمانة تعففاً عن الخيانة وفريقاً لا يؤدّي الأمانة متعلّلين لإباحة الخيانة في دينهم ، قيل : ومن الفريق الأول عبد الله بن سلام ، ومن الفريق الثاني فِنْحَاص بن عازوراء وكلاهما من يهود يثرب والمقصود من الآية ذمّ الفريق الثاني إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخَون قال : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمين سبيل } فلذلك كان المقصود هو قوله : { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } إلخ ولذلك طُوِّل الكلام فيه.
وإنما قدّم عليه قوله : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار } إنصافاً لحقّ هذا الفريق ، لأنّ الإنصاف مما اشتهر به الإسلام ، وإذ كان في زعمهم أنّ دينهم يبيح لهم خيانة غيرهم ، فقد صار النعيُ عليهم ، والتعبيرُ بهذا القول لازمَاً لجميعهم أمينهم وخائنهم ، لأنّ الأمين حينئذ لا مزية له إلاّ في أنّه ترك حقاً يبيح له دينُه أخذه ، فترفّع عن ذلك كما يترفع المتغالي في المروءة عن بعض المباحات.
وتقديم المسند في قوله : { ومن أهل الكتاب } في الموضعين للتعجيب من مضمون صلة المسند إليهما : ففي الأول للتعجيب من قوة الأمانة ، مع إمكان الخيانة ووجود العذر له في عادة أهل دينه ، وفي الثاني للتعجيب من أن يكون الخوْن خُلْقاً لمتبع كتاب من كتب الله ، ثم يزيد التعجيبُ عند قوله : { ذلك بأنهم قالوا } فيكسب المسند إليهما زيادة عجَب حالٍ.
وعُدّي { تأمنه } بالباء مع أنّ مثله يتعدّى بعلي كقوله : { هل آمنكم عليه } [ يوسف : 64 ] ، لتضمينه معنى تُعامله بقنطار ليشمل الأمانة بالوديعة ، والأمانةَ بالمعاملة على الاستيمان ، وقيل الباء فيه بمعنى على كقول أبي ذرّ أو عباسسٍ بن مِرداس :
أربٌّ يَبولُ الثعْلُبَان بِرَأسه(14/241)
وهو محمل بعيد ، لأنّ الباء في البيت للظرفية كقوله تعالى : { ببطن مكة } [ الفتح : 24 ].
وقرأ الجمهور { يؤدّهِ } إليك بكسر الهاء من يؤدّهِ على الأصل في الضمائر.
وقرأه أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبُو جعفر : بإسكان هاء الضمير في يؤدّه ، فقال الزجاج : هذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن لأنّ الهاء لا ينبغي أن تجزم وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تكسر في الوصل ( هكذا نقله ابن عطية ومعناه أنّ جزم الجواب لا يظهر على هاء الضمير بل على آخر حرف من الفعل ولا يجوز تسكينها في الوصل كما في أكثر الآيات التي سكنوا فيها الهاء ).
وقيل هو إجرَاء للوصل مُجرى الوقف وهو قليل ، قال الزجاج : وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسر فغلط عليه من نقله وكلام الزجاج مردود لأنه راعى فيه المشهور من الاستعمال المقيس ، واللغة أوسع من ذلك ، والقراءة حجة.
وقرأه هشام عن ابن عامر ، ويعقوب باختلاس الكسر.
وحكى القرطبي عن الفرّاء : أنّ مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها يقولون ضربته كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصله الرفع وهذا كما قال الراجز :
لَما رَأى ألاّ دَعَهْ ولاَ شِبَع
مَالَ إلى أرْطَاةِ حقف فاضطجع...
والقِنطار تقدم آنفاً في قوله تعالى : { والقَناطير المقنطرة من الذهب والفضة } [ آل عمران : 14 ]
والدينار اسم للمسكوك من الذهب الذي وزنه اثنتان وسبعون حبة من الشعير المتوسط وهو معرّب دِنَّار من الرومية.
وقد جعل القنطار والدينار مَثَلين للكثرة والقلة ، والمقصود ما يفيده الفحوى من أداء الأمانة فيما هو دون القنطار ، ووقوع الخيانة فيما هو فوق الدينار.
وقوله : { إلا ما دمت عليه قائماً } أطلق القيام هنا على الحرص والمواظبة : كقوله : { قائماً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] أي لا يفعل إلاّ العدل.(14/242)
وعديّ "قائماً" بحرف ( على ) لأنّ القيام مجاز على الإلحاح والترداد فتعديته بحرف الاستعلاء قرينة وتجريد للاستعارة.
و ( ما ) من قوله : { إلا ما دمت عليه قائماً } حرف مصدري يصير الفعل بعده في تأويل مصدر ، ويكثر أن يقدر معها اسم زمان ملتزَمٌ حذفه يدل عليه سياق الكلام فحينئذ يقال ما ظرفية مصدرية.
وليست الظرفية مدلولها بالأصالة ولا هي نائبة عن الظرف ، ولكنها مستفادة من موقع ( مَا ) في سياق كلام يؤذن بالزمان ، ويكثر ذلك في دخول ( ما ) على الفعل المتصرّف من مادة دَام ومرادفها.
و ( ما ) في هذه الآية كذلك فالمعنى : لا يؤدّه إليك إلاّ في مدة دوام قيامك عليه أي إلحاحك عليه.
والدوام حقيقته استمرار الفعل وهو هنا مجاز في طول المدة ، لتعذر المعنى الحقيقي مع وجود أداة الاستثناء ، لأنه إذا انتهى العمر لم يحصل الإلحاح بعدَ الموت.
والاستثناء من قوله : { إلا ما دمت عليه قائماً } يجوز أن يكون استثناء مفرّغاً من أوقات يدل عليها موقع ( مَا ) والتقدير لا يؤدّه إليك في جميع الأزمان إلاّ زماناً تدوم عليه فيه قائماً فيكون ما بعد ( إلاّ ) نصباً على الظرففِ ، ويجوز أن يكون مفرّغاً من مصادر يَدل عليها معنى ( ما ) المصدرية ، فيكون ما بعده منصوباً على الحال لأنّ المصدر يقع حالاً.
وقدّم المجرور على متعلقه في قوله : { عليه قائماً } للاهتمام بمعنى المجرور ، ففي تقديمه معنى الإلحاح ، أي إذا لم يكن قيامُك عليه لا يُرجعُ لك أمانتك.
والإشارة في قوله : { ذلك بأنهم قالوا } إلى الحكم المذكور وهو { إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } وإنما أشير إليه لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الشأن العجيب.(14/243)
والباء للسبب أي ذلك مُسَببٌ عن أقوال اختلقوها ، وعبّر عن ذلك بالقول ، لأنّ القول يصدر عن الاعتقاد ، فلذا ناب منابه فأطلق على الظنّ في مواضع من كلام العرب.
وأرادوا بالأميين من ليسوا من أهل الكتاب في القديم ، وقد تقدم بيان معنى الأمي في سورة البقرة.
وحرف ( في ) هنا للتعليل.
وإذ قد كان التعليل لا يتعلق بالذوات ، تعيَّن تقدير مضاف مجرور بحرف ( في ) والتقدير في معاملة الأمّيّين.
ومعنى ليس علينا في الأميين سبيل ليس علينا في أكل حقوقهم حرج ولا إثم ، فتعليق الحكم بالأميين أي ذواتِهم مراد منه أعلق أحوالهم بالغرض الذي سبق له الكلام.
فالسبيل هنا طريق المؤاخذة ، ثم أطلق السبيل في كلام العرب مجازاً مشهوراً على المؤاخذة قال تعالى : { مَا على المحسنين من سبيل } [ التوبة : 91 ] وقال : { إنما السبيل على الذين يستأذنوك } [ التوبة : 93 ] وربما عبّر عنه العرب بالطريق قال حُميد بن ثور :
وهل أنا إن علّلتُ نفسي بسَرحة
من السرْح موجود عليَّ طريق...
وقصدهم بذلك أن يحقروا المسلمين ، ويتطاولوا بما أوتوه من معرفة القراءة والكتابة مِنْ قبلهم.
أو أرادوا الأميين بمعرفة التوراة ، أي الجاهلين : كناية عن كونهم ليسوا من أتباع دِين موسى عليه السلام.
وأيَّاماً كان فقد أنْبَأ هذا عن خلق عجيب فيهم ، وهو استخفافهم بحقوق المخالفين لهم في الدين ، واستباحةُ ظلمهم مع اعتقادهم أنّ الجاهل أو الأمّي جدير بأن يدحَضُ حقُه.
والظاهر أنّ الذي جرّأهم علَى هذا سوء فهمهم في التوراة ، فإنّ التوراة ذكرت أحكاماً فرّقت فيها بين الإسرائيلي وغيره في الحقوق ، غير أنّ ذلك فيما يرجع إلى المؤاساة والمخالطة بين الأمة ، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الخامس عشر : "في آخر سبع سنين تعمل إبراء يبرىء كلُ صاحب دين يدَه ممّا أقرض صاحبه.(14/244)
الأجنبيَّ تُطالِب ، وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئة" وجاء في "الإصحاح" 23 منه : "لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام وللأجنبي تُقرض بربا" ولكن شَتان بين الحقوق وبين المؤاساة فإنّ تحريم الربا إنما كان لقصد المؤاساة ، والمؤاساة غير مفروضة مع غير أهل الملّة الواحدة.
وعن ابن الكلبي قالت اليهود : الأموال كلّها كانت لنا ، فما في أيدي العرب منها فهو لنا ، وإنهم ظلمونا وغصَبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم.
وهذا الخلقان الذميمان اللذان حكاهما الله عن اليهود قد اتصف بهما كثير من المسلمين ، فاستحلّ بعضهم حقوق أهل الذمة ، وتأوّلوها بأنهم صاروا أهل حرب ، في حين لا حرب ولا ضرب.
وقد كذّبهم الله تعالى في هذا الزعم فقال : { ويقولون على الله الكذب } قال المفسرون : إنهم ادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.
وروى عن سعيد بن جبير أنه لما نزل قوله تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه } إلى قوله { وهم يعلمون } قال النبي صلى الله عليه وسلم "كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلاّ وهو تحت قدميّ هاتين إلاّ الأمانة فإنها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر.
وقوله وهم يعلمون حال أي يعتمدون الكذب : إما لأنهم علموا أنّ ما قاسوه على ما في كتابهم ليس القياس فيه بصحيح ، وإما لأنّ التأويل الباطل بمنزلة العلم بالكذب ، إذ الشبهة الضعيفة كالعهد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 131 ـ 135}
فصل
قال القرطبى :
الأمانة عظيمة القَدْر في الدِّين ، ومن عِظم قدرها أنها تقوم هي والرَّحِم على جَنَبَتَي الصراط ؛ كما في صحيح مسلم.
فلا يُمَكّن من الجواز إلا من حفظهما.
وروى مسلم عن حذيفة قال حدّثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة ، قال : " ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه " الحديث.
وقد تقدم بكماله أوّل البقرة.(14/245)
وروى ابن ماجه حدّثنا محمد ابن المُصَفَّى حدّثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سِنان عن أبي الزاهريّة عن أبي شجرة كثير ابن مُرة عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تَلقه إلا مَقِيتاً مُمْقَتاً فإذا لم تلقه إلا مَقِيتاً مُمْقَتاً نُزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تَلقه إلا خائناً مُخَوَّناً فإذا لم تلقه إلا خائناً مخوّناً نُزعت منه الرحمة فإذا نُزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجِيماً ملعناً فإذا لم تَلقه إلا رجِيماً مُلْعَناً نزعت منه رِبْقة الإسلام " وقد مضى في البقرة معنى قولِه عليه السلام : " أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 117 ـ 118}
فصل
قال ابن كثير : (14/246)
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ [بَعْضَ] بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ : ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ : كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ : ائْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلا. قَال َ : صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكِبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي استَسْلَفْت ُ فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلا فَقُلْتُ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلا فَرَضِيَ بِكَ. وَسَأَلَنِي شَهِيدًا ، فَقُلْتُ : كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ ، وَإِنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ ، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا. فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيئُهَُ بِمَالِهِ ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ ، فَأَخَذَهَا لأهْلِهِ حَطَبًا ، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ تَسَلَّف مِنْهُ ، فَأَتَاه بِأَلْفِ دِينَارٍ ، وَقَالَ : وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا(14/247)
فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ : هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا ؟ قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا. { صحيح البخاري في الكفالة برقم (2291) وفي غيرها برقم (1498) ، (2404) ، (2430) ، (2744) ، (6261) والمسند (2/348)}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 61}
فصل
قال القرطبى :
ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافاً لمن ذهب إلى ذلك ؛ لأن فُسّاق المسلمين يوجد فيهم من يؤدّي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولاً.
فطريق العدالة والشهادة ليس يجزىء فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة ؛ ألا ترى قولهم : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحَريمنا بغير حرج عليه ؛ ولو كان ذلك كافياً في تعديلهم لسُمعت شهادتهم على المسلمين. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 118}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنَهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } الآية.(14/248)
أخبر أنهم - مع ضلالتهم وكفرهم - متفاوتون في أخلاقهم ، فكُلُّهمْ خَوَنَةٌ في أمانة الدِّين ، ولكنّ منهم من يرجع إلى سداد المعاملة ، ثم وإن كانت معاملتهم بالصدق فلا ينفعهم ذلك في إيجاب الثواب ولكن ينفعهم من حيث تخفيف العذاب ؛ إذ الكفار مُطَالَبُون بتفصيل الشرائع ، فإذا كانوا في كفرهم أقلَّ ذنباً كانوا بالإضافة إلى الأخسرين أقلَّ عذاباً ، وإن كانت عقوبتهم أيضاً مؤبَّدة.
ثم بيَّن أنه ليس الحكم إليهم حتى إذا :
{ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ }.
فلا تجري عليهم هذه الحالة ، أو تنفعهم هذه القالة ، بل الحكم لله تعالى. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 252}(14/249)
قوله تعالى {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ادعوا نفي الجناح عنهم فيهم وبين تعالى أنهم لا يتحاشون عن الكذب صرح بكذبهم في هذا الأمر بخصوصه بقوله : {بلى} أي عليكم في خيانتهم لتحريم العذر عليكم مطلقاً ، أي سبيل - كما هو في التوراة وقد مضى نقله في البقرة في آية {إن الذين آمنوا والذين هادوا} [ البقرة : 62 ] وآية {وقولوا للناس حسناً} [ البقرة : 83 ].
ولما مضى تقسيمهم إلى أمين وخائن استأنف بشارة الأول ونذارة الثاني على وجه عام لهم ولغيرهم لتحريم الخيانة في كل شرع في حق كل أحد منهما ، إن الله يبغض الخائن فقال : {من أوفى بعهده} في الدين والدنيا {واتقى} أي كائناً من كان {فإن الله} ذا الجلال والإكرام يحبه ، هكذا الأصل ، لكنه أظهر الوصف لتعليق الحكم به وإشعاراً بأنه العلة الحاملة له على الأمانة فقال : {يحب المتقين }. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 115}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن في {بلى} وجهين(14/250)
أحدهما : أنه لمجرد نفي ما قبله ، وهو قوله {لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ} فقال الله تعالى راداً عليهم {بلى} عليهم سبيل في ذلك وهذا اختيار الزجاج ، قال : وعندي وقف التمام على {بلى} وبعده استئناف والثاني : أن كلمة {بلى} كلمة تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعده ، وذلك لأن قولهم : ليس علينا فيما نفعل جناح قائم مقام قولهم : نحن أحباء الله تعالى ، فذكر الله تعالى أن أهل الوفاء بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى لا غيرهم ، وعلى هذا الوجه فإنه لا يحسن الوقف على {بلى} وقوله {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ} مضى الكلام في معنى الوفاء بالعهد والضمير في {بِعَهْدِهِ} يجوز أن يعود على اسم {الله} في قوله {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب} ويجوز أن يعود على {مِنْ} لأن العهد مصدر فيضاف إلى المفعول وإلى الفاعل وههنا سؤالان :
السؤال الأول : بتقدير {أن} يكون الضمير عائداً إلى الفاعل وهو {مِنْ} فإنه يحتمل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة ، فإنهم يكتسبون محبة الله تعالى.
الجواب : الأمر كذلك ، فإنهم إذا أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الأعظم ، وهو ما أخذ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة ، لاتقوه في ترك الكذب على الله ، وفي ترك تحريف التوراة.
السؤال الثاني : أين الضمير الراجع من الجزاء إلى {مِنْ} ؟.
الجواب : عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 90 ـ 91}
فصل
قال الفخر : (14/251)
واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد ، وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ، فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معاً ، لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق ، فهو شفقة على خلق الله ، ولما أمر الله به ، كان الوفاء به تعظيماً لأمر الله ، فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد ، كما يمكن في حق الغير يمكن أيضاً في حق النفس لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات ، لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 91}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { بلى } جواب لقولهم : " لَيْسَ " وإيجاب لما نفوه. وتقدم القول في نظيره.
قال ابن الخطيبِ : وعندي الوقف التام على " بلى " ثم استأنف.
وقيل : إن كلمة " بلى " كلمة تُذْكَر ابتداءً لكلام آخرَ يُذكَر بعده ؛ لأن قولَهم : ليس علينا فيما نفعل جناحٌ قائمٌ مقام قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فذكر - تعالى - أن أهل الوفاءِ بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى - لا غيرهم - وعلى هذا الوجه ، فلا يَحْسُن الوقف على " بلى " اه.
و " مَنْ " شرطية ، أو موصولة ، والرابط بين الجملة الجزائية ، أو الخبرية هو العموم في { الْمُتَّقِينَ } وعند من يرى الربط بقيام الظاهر مقام المضمر يقول ذلك هنا.
وقيل : الجزاء ، أو الخبر محذوف ، تقديره : يحبه الله ، ودل على هذا المحذوف قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه.(14/252)
قال القرطبيُّ : " مَنْ " رفع بالابتداء ، وهو شرط ، و" أوفى " في موضع جزم " واتَّقَى " معطوف عليه ، واتقى الله ، ولم يكذب ، ولم يستحل ما حرم عليه { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي يحب أولئك.
و " بعهده " يجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن الضمير يعود على " مَنْ ". أو مضافاً إلى مفعوله على أنه يعود على " اللهِ " ويجوز أن يكون المصدر مضافاً للفاعل وإن كان الضمير لله تعالى وإلى المفعول وإن كان الضمير عائداً على " مَنْ " ومعناه واضح عند التَّأمُّلِ.
فإن قيل : بتقدير أن يكون الضميرُ عائداً إلى الفاعل ، وهو " مَنْ " فإنه يدل على أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانةَ ، فإنهم يكتسبونَ محبة اللهِ.
فالجواب أن الأمر كذلك ، فإنهم إذا وفوا بالعهود ، فأول ما يوفون به العهد الأعظم ، وهو ما أخذَ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وهو المراد بالعهد في هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم " أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً ، وَمَنْ كَانتْ فيه وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خصلَةٌ مِن النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذا ائتُمِنَ خَانَ ، وَإذَا حدَّث كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإذَا خَاصَم فَجرَ ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 338}(14/253)
وقال الآلوسى :
{ بلى } جواب لقولهم { لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ } [ آل عمران : 75 ] ، وإيجاب لما نفوه ، والمعنى بلى عليهم في الأميين سبيل. { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } استئناف مقرر للجملة التي دلت عليها { بلى } حيث أفادت بمفهومها المخالف ذم من لم يف بالحقوق مطلقاً فيدخلون فيه دخولاً أولياً ، و{ مِنْ } إما موصولة أو شرطية ، و{ أُوفِى } فيه ثلاث لغات : إثبات الهمزة وحذفها مع تخفيف الفاء وتشديدها ، والضمير في عهده عائد على { مِنْ } وقيل : يعود على { الله } فهو على الأول : مصدر مضاف لفاعله ، وعلى الثاني : مصدر مضاف لمفعوله أو لفاعله ولا بد من ضمير يعود على { مِنْ } من الجملة الثانية ، فإما أن يقام الظاهر مقام المضمر في الربط إن كان { المتقين } من { أُوفِى } وإما أن يجعل عمومه وشموله رابطاً إن كان { المتقين } عاماً ؛ وإنما وضع الظاهر موضع الضمير على الأول تسجيلاً على الموفين بالعهد بالتقوى وإشارة إلى علة الحكم ومراعاة لرؤوس الآي ، ورجح الأول بقوة الربط فيه ، وقال ابن هشام : الظاهر أنه لا عموم وأن { المتقين } مساو لمن تقدم ذكره والجواب لفظاً ، أو معنى محذوف تقديره يحبه الله ، ويدل عليه { فَإِنَّ الله } الخ ، واعترضه الحلبي بأنه تكلف لا حاجة إليه ، وقوله : الظاهر أنه لا عموم في حيز المنع فإن ضمير { بِعَهْدِهِ } إذا كان لله فالالتفات عن الضمير إلى الظاهر لإفادة العموم كما هو المعهود في أمثاله قاله بعض المحققين. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 203}(14/254)
وقال الطبرى :
وهذا إخبار من الله عز وجل عمَّنْ أدَّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبتَه ، عنده. فقال جل ثناؤه : ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود ، من أنه ليس عليهم في أموَال الأميين حرج ولا إثم ، ثمّ قال : بلى ، ولكن من أوفى بعهده واتقى - يعني : ولكن الذي أوفى بعهده ، وذلك وصيته إياهم التي أوصاهم بها في التوراة ، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به.
و"الهاء" في قوله : "من أوفى بعهده" ، عائدة على اسم"الله" في قوله : "ويقولون على الله الكذب".
يقول : بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه ، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصَدّق به وبما جاء به من الله ، من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها ، وغير ذلك من أمر الله ونهيه "واتقى" ، يقول : واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به ، وسائر معاصيه التي حرّمها عليه ، فاجتنبَ ذلك مراقبةَ وعيد الله وخوفَ عقابه "فإنّ الله يحبّ المتقين" ، يعني : فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه ، فيجتنبون ما نهاهم عنه وحرّمه عليهم ، ويطيعونه فيما أمرهم به.
وقد روى عن ابن عباس أنه كان يقول : هو اتقاء الشرك. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 525 ـ 526}. بتصرف يسير.
قال ابن عطية :
{ بلى } أي عليهم سبيل وحجة وتبعة ، ثم أخبر على جهة الشرط أن { من أوفى } بالعهد { واتقى } عقوبة الله في نقضه ، فإنه محبوب عند الله ، وتقول العرب : وفى بالعهد ، وأوفى به بمعنى ، وأوفى ، هي لغة الحجاز وفسر الطبري وغيره ، على أن الضمير في قوله { بعهده } عائد على الله تعالى ، وقال بعض المفسرين : هو عائد على { من }.(14/255)
قال الفقيه الإمام أبو محمد : والقولان يرجعان إلى معنى واحد ، لأن أمر الله تعالى بالوفاء مقترن بعهد كل إنسان ، وقال ابن عباس : { اتقى } في هذه الآية ، معناه : اتقى الشرك ، ثم خرج جواب الشرط على تعميم المتقين تشريفاً للتقوى وحضّاً عليها. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 459}
وقال البيضاوى :
{ بلى } إثبات لما نفوه أي بلى عليهم فيهم سبيل. { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } استئناف مقرر للجملة التي سدت { بلى } مسدها ، والضمير المجرور لمن أو لله وعموم المتقين ناب عن الراجع من الجزاء إلى { مِنْ } ، وأشعر بأن التقوى ملاك الأمر وهو يعم الوفاء وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 55}(14/256)
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت النفوس نزاعة إلى الخيانة رواغة عند مضائق الأمانة ، وكانت الخيانة تجر إلى الكذب بسط في الإنذار فقال : {إن الذين يشترون} أي يلجون في أن يأخذوا على وجه العوض {بعهد الله} أي الذي عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول الذي عاهدهم على الإيمان به وذكر صفته للناس ، وهو سبحانه أعلى وأعز من كل شيء فهو محيط بكل شيء قدرة وعلماً {وأيمانهم} أي التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل بما دل عليه العقل {ثمناً قليلاً} في الدنيا {أولئك} أي البعيدو الرتبة في الدناءة {لا خلاق} أي نصيب {لهم في الآخرة} أي لبيعهم له بنصيب الدنيا {ولا يكلمهم الله} أي الملك الأعظم استهانة بهم وغضباً عليهم بما انتهكوا من حرمته.
ولما زادت هذه عن آية البقرة العهد والحلف ، وكان من عادة الحالف والمعاهد النظر إلى من فعل ذلك لأجله زاد قوله : {ولا ينظر إليهم} أي بل يعدهم أحقر شيء بما أعرضوا عنه ، ولما كان لكثرة الجمع مدخل عظيم في مشقة الخزي قال : {يوم القيامة} الذي من افتضح في جمعه لم يفز {ولا يزكيهم} لأنهم لم يزكوا اسمه {ولهم} أي مع ذلك {عذاب أليم} يعرفون به ما جهلوا من عظمته. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 115 ـ 116}
وقال الفخر :
اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً(14/257)
الأول : أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس ، ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة
الثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم {يَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [ آل عمران : 75 ] ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه ، لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك
الثالث : أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس ، ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذباً ، ومن الناس من قال : هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة ، وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة ، وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاماً في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 91 ـ 92}
وقال ابن عاشور :
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ في خيانة الأمانة إبطالاً للعهد ، وللحلف الذي بينهم ، وبين المسلمين ، وقريشٍ.
والكلامُ استئناف قصد منه ذكر الخُلق الجامع لشتات مساوىء أهل الكتاب من اليهود ، دعا إليه قوله وَدّت طائفة من أهل الكتاب وما بعده.
وقد جرت أمثال هذه الأوصاف على اليهود مفرّقة في سورة البقرة ( 40 ) : { أوفوا بعهدي ، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ].
{ ماله في الآخرة من خلاق } [ البقرة : 102 ].
{ ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزيكهم } [ البرة : 174 ].
فعلمنا أنهم المراد بذلك هنا.
(14/258)
وقد بينا هنالك وجه تسمية دينهم بالعهد وبالميثاق ، في مواضع ، لأنّ موسى عاهدهم على العمل به ، وبينا معاني هذه الأوصاف والأخبار. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 135}
فصل في سبب نزول الآية
قال الفخر :
اختلفت الروايات في سبب النزول ، فمنهم من خصها باليهود الذين شرح الله أحوالهم في الآيات المتقدمة ، ومنهم من خصها بغيرهم.
أما الأول ففيه وجهان
الأول : قال عكرمة إنها نزلت في أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بعهدِكُم} [ البقرة : 40 ]
الثاني : أنها نزلت في ادعائهم أنه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ} [ آل عمران : 75 ] كتبوا بأيديهم كتاباً في ذلك وحلفوا أنه من عند الله وهو قول الحسن.
وأما الاحتمال الثاني : ففيه وجوه
الأول : أنها نزلت في الأشعث بن قيس ، وخصم له في أرض ، اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال للرجل : " أقم بيِّنَتَك " فقال الرجل : ليس لي بينة فقال للأشعث " فعليك اليمين " فهم الأشعث باليمين فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق ، وهو قول ابن جريج
الثاني : قال مجاهد : نزلت في رجل حلف يميناً فاجرة في تنفيق سلعته
الثالث : نزلت في عبدان وامرىء القيس اختصما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أرض ، فتوجه اليمين على امرىء القيس ، فقال : أنظرني إلى الغد ، ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض ، والأقرب الحمل على الكل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 92}
وقال القرطبى : (14/259)
روى الأئمة " عن الأشعث بن قيس قال : كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدّمته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل لك بيّنة" ؟ قلت لا ، قال لليهوديّ : "احلف" قلت : إذاً يحلف فيذهب بمالي ؛ فأنزل الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } إلى آخر الآية " وروى الأئمة أيضاً عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " "من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة".
فقال له رجل : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله ؟ قال : "وإنْ كان قضِيباً من أَرَاك" " وقد مضى في البقرة معنى { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } [ آل عمران : 77 ]. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 119 ـ 120}
فصل
قال الفخر :
قوله : {إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله} يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول ، ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه ، لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به.(14/260)
قال تعالى : {وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [ التوبة : 75 ] الآية وقال : {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} [ الإسراء : 34 ] وقال : {يُوفُونَ بالنذر} [ الإنسان : 7 ] وقال : {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} [ الأحزاب : 23 ] وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء ، وذلك لأن المشتري يأخذ شيئاً ويعطي شيئاً فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر ، وأما الأيمان فحالها معلوم وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد ، أو وعيد ، أو إنكار ، أو إثبات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 92}
قوله تعالى : {أولئك لاَ خلاق لَهُمْ فِى الأخرة وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى فرع على ذلك الشرط وهو الشراء بعهد الله والأيمان ثمناً قليلاً ، خمسة أنواع من الجزاء أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب والخامس : في بيان وقوعهم في أشد العذاب ، أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم.
فالأول : وهو قوله {أولئك لاَ خلاق لَهُمْ فِى الأخرة} إشارة إلى حرمانهم عن منافع الآخرة.
وأما الثلاثة الباقية : وهي قوله {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكّيهِمْ} فهو إشارة إلى حرمانهم عن التعظيم والإعزاز.
وأما الخامس : وهو قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فهو إشارة إلى العقاب ، ولما نبهت لهذا الترتيب فلنتكلم في شرح كل واحد من هذه الخمسة : (14/261)
أما الأول : وهو قوله {لاَ خلاق لَهُمْ فِى الأخرة} فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة ، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضاً بعدم العفو فإنه تعالى قال : {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [ النساء : 48 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 92 ـ 93}
قوله تعالى {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله}
قال الفخر :
وأما الثاني : وهو قوله {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله} ففيه سؤال ، وهو أنه تعالى قال : {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ الحجر : 92 ، 93 ] وقال : {فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين} [ الأعراف : 6 ] فكيف الجمع بين هاتين الآيتين ، وبين تلك الآية ؟ قال القفال في الجواب : المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا ، فإنما ذلك بسخط الله عليه وإذا سخط إنسان على آخر ، قال له لا أكلمك ، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ بالله منه.
وهذا هو الجواب الصحيح ، ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون إسماع الله جلّ جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفاً عالياً يختص به أولياءه ، ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق ، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة ومنهم من قال معنى هذه الآية أنه تعالى لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم ، والمعتد هو الجواب الأول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 93}
قوله تعالى : {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ}
قال الفخر :(14/262)
وأما الثالث : وهو قوله تعالى : {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} فالمراد إنه لا ينظر إليهم بالإحسان ، يقال فلان لا ينظر إلى فلان ، والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه ، والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى ، فهلذا السبب صار نظر الله عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثم نظر ، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية ، لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماساً لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام ، وتعالى إلهنا عن أن يكون جسماً ، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف ( إلى ) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون الله تعالى رائياً لهم وذلك باطل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 93}
قوله تعالى {وَلاَ يُزَكّيهِمْ}
قال الفخر :
وأما الرابع : وهو قوله {وَلاَ يُزَكّيهِمْ} ففيه وجوه الأول : أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة بل يعاقبهم عليها والثاني : لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكى للشاهد مدح منه له.
واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال : {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [ الرعد : 23 ، 24 ] وقال : {وتتلقاهم الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [ الأنبياء : 103 ] {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا وَفِى الأخرة} [ فصلت : 21 ] وقد تكون بغير واسطة ، أما في الدنيا فكقوله {التائبون العابدون} [ التوبة : 112 ] وأما في الآخرة فكقوله {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [ يس : 58 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 93}(14/263)
قوله تعالى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قال الفخر :
وأما الخامس : وهو قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فاعلم أنه تعالى لما بيّن حرمانهم من الثواب بيّن كونهم في العقاب الشديد المؤلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 94}
فائدة
قال ابن عادل :
في هذه اللام قولان :
أحدهما : أنها بمعنى الاستحقاق ، أي : يستحقُّون العذاب الأليم.
الثاني : كما تقول : المال لزيد ، فتكون لام التمليك ، فذكر ملك العذاب لهم ، تهكُّماً بهم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 341}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :(14/264)
{ إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا } أخرج الستة وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس : فيَّ والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألك بينة ؟ قلت : لا فقال لليهودي : احلف فقلت : يا رسول الله إذاً يحلف فيذهب مالي فأنزل الله تعالى { إِنَّ الذين } " الخ. وأخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت هذه الآية. وأخرج أحمد وابن جرير واللفظ له عن عدي بن عميرة قال : كان بين امرىء القيس ورجل من حضرموت خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي : بينتك وإلا فيمينه قال : يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان فقال امرؤ القيس : يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق ؟ قال : الجنة قال : فإني أشهدك أني قد تركتها" فنزلت ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة ، وروي غير ذلك ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه.(14/265)
والمراد بيشترون يستبدلون ، وبالعهد أمر الله تعالى ، وما يلزم الوفاء به ، وقيل : ما عهده إلى اليهود في التوراة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق ، وبالأيمان الأيمان الكاذبة ، وبالثمن القليل الأعواض النزرة أو الرشا ، ووصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب { أُوْلَئِكَ لاَ خلاق لَهُمْ فِى الآخرة } أي لا نصيب لهم من نعيمها بسبب ذلك الاستبدال { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله } أي بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم قاله الجبائي أو لا يكلمهم بشيء أصلاً وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر الله تعالى إياهم استهانة بهم ، وقيل : المراد إنهم لا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته ولا يخفى بعده ، واستظهر أن يكون هذا كناية عن غضبه سبحانه عليهم.(14/266)
{ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل أنظر إليّ يريد ارحمني ، وجعله الزمخشري مجازاً عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ، وفرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر المفسر بتقليب الحدقة وفيمن لا يجوز عليه ذلك بأن أصله فيمن يجوز عليه الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر ، ثمّ جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر ، وفي "الكشف" إن في هذا تصريحاً بأن الكناية يعتبر فيها صلوح إرادة الحقيقة وإن لم ترد وأن الكنايات قد تشتهر حتى لا تبقى تلك الجهة ملحوظة وحينئذٍ تلحق بالمجاز ولا تجعل مجازاً إلا بعد الشهرة لأن جهة الانتقال إلى المعنى المجازي أولاً غير واضحة بخلاف المعنى المكنى عنه ، وبهذا يندفع ما ذكره غير واحد من المخالفة بين قولي الزمخشري في جعل بسط اليد في قوله تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] مجازاً عن الجود تارة وكناية أخرى إذ حاصله أنه إن قطع النظر عن المانع الخارجي كان كناية ثم ألحق بالمجاز فيطلق عليه أنه كناية باعتبار أصله قبل الإلحاق ومجاز بعده فلا تناقض بينهم كما توهموه فتدبر. والظرف متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد.(14/267)
{ وَلاَ يُزَكّيهِمْ } أي ولا يحكم عليهم بأنهم أزكياء ولا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة قاله القاضي وقال الجبائي : لا ينزلهم منزلة الأزكياء ، وقيل : لا يطهرهم عن دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم موجع ، والظاهر أن ذلك في القيامة إلا أنه لم يقيد به اكتفاءاً بالأول ، وقيل : إنه في الدنيا بالإهانة وضرب الجزية بناءاً على أن الآية في اليهود. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 203 ـ 204}
وقال ابن عاشور :
ومعنى : {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} غضبه عليهم إذ قد شاع نفي الكلام في الكناية عن الغضب ، وشاع استعمال النظر في الإقبال والعناية ، ونفي النظر في الغضب فالنظر المنفي هنا نظر خاص.
وهاتان الكنايتان يجوز معهما إرادة المعنى الحقيقي.
وقوله : {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يطهرهم من الذنوب ولا يقلعون عن آثامهم ، لأن من بلغ من رقة الديانة إلى حد أن يشتري بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا ، فقد بلغ الغاية القصوى في الجرأة على الله ، فكيف يرجى له صلاح بعد ذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى ولا ينميهم أي لا يكثر حظوظهم في الخيرات.(14/268)
وفي مجيء هذا الوعيد ، عقب الصلة ، وهي يشترون بعهد الله الآية ، إيذان بأن من شابههم في هذه الصفات فهو لاحق بهم ، حتى ظن بعض السلف أن هذه الآية نزلت فيمن حلف يمينا باطلة ، وكل يظن أنها نزلت فيما يعرفه من قصة يمين فاجرة ، ففي البخاري ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" فأنزل الله تصديق ذلك : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الآية فدخل الأشعث بن قيس وقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا : كذا وكذا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 135 ـ 136}
وقال الماوردى :
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِم ثَمَناً قَلِيلاً } وفي العهد قولان :
أحدهما : ما أوجب الله تعالى على الإنسان من طاعته وكَفَّه عن معصيته.
والثاني : ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق.
{ أَولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُم فِي الآخِرةِ }. وفي أصل الخلاق قولان :
أحدهما : أن أصله من الخلق بفتح الخاء وهو النفس ، وتقدير الكلام لا نصيب لهم.
والثاني : أن أصله الخُلق بضم الخاء لأنه نصيب مما يوجبه الخُلُق الكريم.
{ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } فيه قولان :
أحدهما : لا يكلمهم الله بما يسرهم ، لكن يكلمهم بما يسوءهم وقت الحساب لأنه قال : { ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا حِسَابَهُم }.
والثاني : لا يكلمهم أصلاً ولكن يرد حسابهم إلى الملائكة.
{ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيهِم يَومَ الْقِيَامَةِ } فيه قولان :
أحدهما : لا يراهم.
والثاني : لا يَمِنُ عليهم.
{ وَلاَ يُزَكِّيهِم } أي لا يقضي بزكاتهم. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 403 ـ 404}
فائدة
قال ابن عطية :(14/269)
قوله تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله } الآية آية وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة وهي آية يدخل فيها الكفر فيما دونه من جحد الحقوق وختر المواثيق ، وكل أحد يأخذ من وعيد الآية على قدر جريمته. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 459}
فصل
قال القرطبى :
ودلتْ هذه الآية والأحاديثُ أن حكم الحاكم لا يُحلّ المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانَه ؛ وقد روى الأئمة عن أمّ سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر ولعلّ بعضكم أن يكون ألْحن بحجّته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحوٍ مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة " وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة ، وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا وقال : إن حكم الحاكم المبنيّ على الشهادة الباطلة يُحلّ الفرج لمن كان محرّماً عليه ؛ كما تقدّم في البقرة.
وزعم أنه لو شهد شاهدا زورٍ على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما فإن فرجها يحل لمتزوّجها ممن يعلم أن القضية باطل.
وقد شُنّع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح ، وبأنه صان الأموال ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة ، ولم يصن الفروج عن ذلك ، والفروج أحقُّ أن يحتاط لها وتُصان.
وسيأتي بطلان قوله في آية اللعان إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 120}
فصل
قال ابن كثير :
وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة فلنذكر ما تيسر منها :(14/270)
الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا شعبة قال : علي بن مُدْرِك أخْبرَني قال : سمعت أبا زُرْعَة ، عن خَرَشة بن الحُر ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثَلاثَة لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قلت : يا رسول الله ، من هم ؟ خابوا وخسروا. قال : وأعاده رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثلاث مرات قال : "المُسْبِل ، والمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ
الْكاذِبِ ، والمنانُ". ورواه مسلم ، وأهل السنن ، من حديث شعبة ، به. { المسند (5/148) وصحيح مسلم برقم (106) وأبو داود في السنن برقم (4087 ، 4088) والترمذي في السنن برقم (1211) والنسائي في السنن (5/81) وابن ماجه في السنن برقم (2208)}.
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن الحُرَيري ، عن أبي العلاء بن الشِّخِّير ، عن أبي الأحْمَس قال : لقيتُ أبا ذر ، فقلتُ له : بلغني عنك أنك تُحدِّث حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : أما إنه لا تَخَالُني أكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سمعته منه ، فما الذي بلغك عني ؟ قلتُ : بلغني أنك تقول : ثلاثة يحبهم الله ، وثلاثة يَشْنَؤهم الله عز وجل. قال : قلته وسمعته. قلت : فمن هؤلاء الذين يحبهم الله ؟ قال : الرجل يلقى العدوّ في فئة فينصب لهم نَحْرَه حتى يقتل أو يفتح لأصحابه. والقومُ يسافرون فيطول سراهم حتى يَحنُّوا أن يمسوا الأرض فينزلون ، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم. والرجلُ يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاهُ حتى يفرق بينهما موت أو ظَعْن. قلت : ومن هؤلاء الذين يشنأ الله ؟ قال : التاجر الحلاف -أو البائع الحلاف -والفقير المختال ، والبخيل المنان غريب من هذا الوجه. { المسند (5/151)}.
(14/271)
الحديث الثاني : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن جرير بن حازم قال : حدثنا عَدِيّ بن عدي ، أخبرني رجاء بن حَيْوة والعُرْس بن عَمِيرة عن أبيه عَدِي -هَو ابن عميرة الكندي-قال : خاصم رجل من كِنْدةَ يقال له : امرؤ القيس بن عابس رَجلا من حَضْرمَوْت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض ، فقضى على الحضرمي بالبينة ، فلم يكن له بينة ، فقضى على امرئ القيس باليمين. فقال الحضرمي : إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ذهبتْ ورب الكعبة أرضى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيقتطِعَ بِهَا مَال أحَد لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" قال رجاء : وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } فقال امرؤ القيس : ماذا لمن تركها يا رسول الله ؟ فقال الجنة" قال : فاشهَدْ أني قد تركتها له كلها. ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي ، به. { المسند (4/191) والنسائي في السنن الكبرى برقم (5996)}.
الحديث الثالث : قال أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَقيق ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ حَلَفَ عَلَى يمين هو فيها فَاجِر ، لِيقْتَطِعَ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، لَقِيَ الله عَزَّ وجَلَّ وَهُوَ عَليْهِ غَضْبَانُ".
(14/272)
فقال الأشعث : فيّ والله كان ذلك ، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجَحَدني ، فقدَّمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَلَكَ بَيَّنة ؟" قلتُ : لا فقال لليهودي : "احْلِفْ" فقلتُ : يا رسول الله ، إذا يحلف فيذهب مالي. فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } [إلى آخر] الآية : أخرجاه من حديث الأعمش. { المسند (5/211) والبخاري في صحيحه برقم (2673)}.
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر بن عَيَّاش ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن شَقِيق بن سلمة ، حدثنا عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئ مسلمٍ بغير حَقٍّ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان" قال : فجاء الأشْعث بن قَيْس فقال : ما يُحدِّثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه ، فقال : فيّ كان هذا الحديث ، خاصمتُ ابن عمٍّ لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر لي كانت في يده ، فجَحَدني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بَيِّنَتُكَ أنَّها بِئْرُكَ وَإلا فَيَمِينُهُ" قال : قلتُ : يا رسول الله ، ما لي بينة ، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري ؛ إنَّ خَصْمي امرؤ فاجر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئ مسلمٍ بغير حَقٍّ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان" قال : وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا [ أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] }. { المسند (5/12)}.
(14/273)
الحديث الرابع : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رشْدين عن زَبّان ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إنَّ لله تَعَالى عِبَادًا لا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلا يَنْظُرُ إلَيهِمْ" قيل : ومن أولئك يا رسول الله ؟ قال : "مُتَبَرِّئٌ مَنْ وَالِدَيهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا ، ومُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَدِهِ ، وَرَجُلٌ أنْعَمَ عَلِيْهِ قَوْمٌ فكَفَر نعْمَتَهُمْ وتَبَرَّأ مِنْهُمْ". { المسند (3/440)}.
الحديث الخامس : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا هُشَيْم ، أنبأنا العوّام -يَعني ابن حَوْشَبَ-عن إبراهيم بن عبد الرحمن -يعني السَّكْسَكي-عن عبد الله بن أبي أوْفَى : أن رجلا أقام سلعة له في السوق ، فحلف بالله لقد أعْطَى بها ما لم يُعْطه ، ليُوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } ورواه البخاري ، من غير وجه ، عن العوام. { تفسير ابن أبي حاتم (2/355) وصحيح البخاري برقم (4551)}.
(14/274)
الحديث السادس : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ ، وَلا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عذابٌ أليم : رَجُلٌ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ فَضْلَ مَاءٍ عِنْدَهُ ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ -يَعْنِي كَاذِبًا-وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا ، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَفَى لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ". ورواه أبو داود ، والترمذي ، من حديث وكيع ، وقال الترمذي : حسن صحيح. { المسند (2/480) وسنن أبي داود برقم (3474) وسنن الترمذي برقم (1595)}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 62 ـ 65}
لطيفة
قال ابن عجيبة :
قد أخذ الله العهد على الأرواح ألا يعبدوا معه غيره ، ولا يميلوا إلى شيء سواه ، فكل من مال إلى شيء ، أو ركن بالمحبة إلى غير الله ، فقد نقض العهد مع الله ، فلا نصيب له في مقام المعرفة ، ولا تحصل له مشاهدة ولا مكالمة حتى يثوب ويتوجه بكليته إلى مولاه. والله - تعالى أعلم. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 296}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
الذين آثروا هواهم على عُقباهم ، وقدَّموا مناهم على موافقة مولاهم أولئك لا نصيب لهم في الآخرة ؛ فللاستمتاع بما اختاروا من العاجل خسروا في الدارين.
بقوا عن الحق ، وما استمتعوا بحظِّ ، جَمَعَ عليهم فنون المِحَن ولكنهم لا يدرون ما أصابهم ، لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ، ثم مع هذا يُخَلِّدُم في العقوبة الأبدية. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 252}(14/275)
قوله تعالى { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نسبهم إلى الكذب عموماً نبه على نوع خاص منه هو أكذب الكذب فقال : {وإن منهم لفريقاً} أي جبلوا على الفرقة ، فهم لا يزالون يسعون في التفريق {يلون} أي يفتلون ويحرفون {ألسنتهم بالكتاب} بأن ينقلوا اللسان لتغيير الحرف من مخرج إلى آخر - مثلاً بأن يقولوا في {اعبدوا الله} [ المائدة : 72 وغيرها ] اللات ، وفي {لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [ الأنعام : 151 ] بالحد ، وفي " من زنى فارجموه " فارحموه بالمهملة ، أو فحمموه ، أو اجلدوه - ونحو هذا.
ولما كان كلام الله سبحانه وتعالى لما له من الحلاوة والجلالة لا يلبس بغيره إلا على ضعيف العقل ناقص الفطرة عبر بالحسبان تنفيراً عن السماع منهم وتنبيهاً على بعد ما يسمعه الإنسان من غيره فقال : {لتحسبوه} أي الذي لوى به اللسان فحرف {من الكتاب} أي المنزل من عند الله ، ولما علم بهذه أنه ليس منه نبه على أنه في غاية البعد عنه فقال : {ما هو من الكتاب} أعاده ظاهراً تصريحاً بالتعميم.(14/276)
ولما كان إيهامهم هذا من الجرأة بمكان أعلم سبحانه وتعالى أنهم تجاوزوا إلى ما هو أعظم منه فصرحوا بما أوهموه فقال : {ويقولون} أي مجددين التصريح بالكذب في كل وقت بأن يقولوا {وهو من عند الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال ، ثم صرح بكذبهم بقوله - مبعداً لما لووا به ألسنتهم عن أن يكون فيه ثبوت حق مظهراً في موضع الإضمار لأن الاسم الذي لم يشارك فيه أحد بوجه أنص على المراد وأنفى لكل احتمال : {وما هو} أي الذي لووا به ألسنتهم حتى أحالوه عن حقيقته {من عند الله} أي الذي له الإحاطة العامة ، فما لم يكن من عنده فلا حق فيه بوجه من الوجوه ، لا بكونه من الكتاب ولا من غيره.
ولما بين بهذا كذبهم على الله سبحانه وتعالى تصريحاً بعد أن قدم في الآية الأولى بيانه بما يظن تلويحاً أخبر بأن ذلك عادة لهم ، لا يقفون منه عند عد ، ولا ينحصرون فيه بحد ، فقال : {ويقولون على الله} أي الحائز لجميع العظمة جرأة منهم {الكذب} أي العام كما قالوا عليه هذا الكذب الخاص ، ولما كان الكذب قد يطلق على ما لم يتعمد ، بل وقع خطأ احترز عنه بقوله : {وهم يعلمون} أي أنه كذب ، لا يشكون فيه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 116 ـ 117}
فصل
قال الفخر : (14/277)
اعلم أن هذه الآية تدل على أن الآية المتقدمة نازلة في اليهود بلا شك لأن هذه الآية نازلة في حق اليهود وهي معطوفة على ما قبلها فهذا يقتضي كون تلك الآية المتقدمة نازلة في اليهود أيضاً واعلم أن {اللي} عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج ، يقال : لويت يده ، والتوى الشيء إذا انحرف والتوى فلان علي إذا غير أخلاقه عن الاستواء إلى ضده ، ولوى لسانه عن كذا إذا غيره ، ولوى فلاناً عن رأيه إذا أماله عنه ، وفي الحديث : " لي الواجد ظلم " وقال تعالى : {وراعنا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدين} [ النساء : 46 ].
إذا عرفت هذا الأصل ففي تأويل الآية وجوه الأول : قال القفال رحمه الله قوله {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم} معناه وأن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى ، وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية ، فلما فعلوا مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله تعالى : {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم} وهذا تأويل في غاية الحسن الثاني : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم كتبوا كتاباً شوشوا فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثم قالوا {هذا مِنْ عِندِ الله }.
إذا عرفت هذا فنقول : إن لي اللسان تثنيه بالتشدق والتنطع والتكلف وذلك مذموم فعبّر الله تعالى عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلى اللسان ذماً لهم وعيباً ولم يعبر عنها بالقراءة ، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد ، فيقولون في المدح : خطيب مصقع ، وفي الذم : مكثار ثرثار.(14/278)
فقوله {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب} المراد قراءة ذلك الكتاب الباطل ، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله} [ البقرة : 79 ] ثم قال : {وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب} أي وما هو الكتاب الحق المنزّل من عند الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 94}
سؤالان
السؤال الأول : إلى ما يرجع الضمير في قوله {لِتَحْسَبُوهُ} ؟.
الجواب : إلى ما دل عليه قوله {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم} وهو المحرّف.
السؤال الثاني : كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس ؟.
الجواب : لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل ، يجوز عليهم التواطؤ على التحريف ، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً ، والأصوب عندي في تفسير الآية وجه آخر وهو أن الآيات الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب ، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين ، واليهود كانوا يقولون : مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم ، فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلي الألسنة وهذا مثل ما أن المحق في زماننا إذا استدل بآية من كتاب الله تعالى ، فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات ويقول : ليس مراد الله ما ذكرت ، فكذا في هذه الصورة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 94 ـ 95}
قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ}
فصل
قال الفخر : (14/279)
اعلم أن من الناس من قال : إنه لا فرق بين قوله {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب} وبين قوله {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} [ آل عمران : 78 ] وكرر هذا الكلام بلفظين مختلفين لأجل التأكيد ، أما المحققون فقالوا : المغايرة حاصلة ، وذلك لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله ، فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب ، وتارة بالسنة ، وتارة بالإجماع ، وتارة بالقياس والكل من عند الله.
(14/280)
فقوله {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب} هذا نفي خاص ، ثم عطف عليه النفي العام فقال : {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة ، ويكون المراد من قولهم : هو من عند الله ، أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أشعياء ، وأرمياء ، وحيقوق ، وذلك لأن القوم في نسبة التحريف إلى الله كانوا متحيرين ، فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبله الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة ، وإن وجدوا قوماً عقلاء أذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام ، واحتج الجُبّائي والكَعْبيّ به على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالا : لو كانَ ليُّ اللِّسان بالتحريف والكذب خلقاً لله تعالى لصدق اليهود في قولهم : إنه من عند الله ولزم الكذب في قوله تعالى : إنه ليس من عند الله ، وذلك لأنهم أضافوا إلى الله ما هو من عنده ، والله ينفي عن نفسه ما هو من عنده ، ثم قال : وكفى خزياً لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من الله قال : ليس لأحد أن يقول المراد من قولهم {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب} وبين قوله {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} فرق ، وإذا لم يبق الفرق لم يحسن العطف ، وأجاب الكعبي عن هذا السؤال أيضاً من وجهين آخرين الأول : أن كون المخلوق من عند الخالق أوكد من كون المأمور به من عند الآمر به ، وحمل الكلام على الوجه الأقوى أولى والثاني : أن قوله {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} نفي مطلق لكونه من عند الله وهذا ينفي كونه من عند الله بوجه من الوجوه ، فوجب أن لا يكون من عنده لا بالخلق ولا بالحكم.(14/281)
والجواب : أما قول الجُبّائي لو حملنا قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} على أنه كلام الله لزم التكرار ، فجوابه ما ذكرنا أن قوله {وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب} معناه أنه غير موجود في الكتاب وهذا لا يمنع من كونه حكماً لله تعالى ثابتاً بقول الرسول أو بطريق آخر فلما قال : {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} ثبت نفي كونه حكماً لله تعالى وعلى هذا الوجه زال التكرار.
وأما الوجه الأول : من الوجهين اللذين ذكرهما الكعبي فجوابه ، أن الجواب لا بد وأن يكون منطبقاً على السؤال ، والقوم ما كانوا في ادعاء أن ما ذكروه وفعلوه خلق الله تعالى ، بل كانوا يدعون أنه حكم الله ونازل في كتابه.
فوجب أن يكون قوله {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} عائداً إلى هذا المعنى لا إلى غيره ، وبهذا الطريق يظهر فساد ما ذكره في الوجه الثاني والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 95 ـ 96}
فائدة
قال أبو حيان :
قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله ، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده.
وقد نفى الله تعالى نفياً عامّاً لكون المعاصي من عنده. انتهى.
وهذا مذهب المعتزلة ، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم.
وقال ابن عطية { وما هو من عند الله } نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ، ومنهم بالتكسب.
ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل ، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله : { وما هو من عند الله }. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 528}
فائدة
قال ابن عادل :
وقوله : يَلْوُونَ " صفة لـ " فريقاً " فهي في محل نصبٍ ، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى ؛ لأنه اسم جمع - كالقوم والرهط-.(14/282)
قال أبو البقاء : " ولو أفرد على اللفظ لجاز " وفيه نظرٌ ؛ إذ لا يجوز : القوم جاءني ، والعامة على { يَلْوُونَ } بفتح الياء ، وسكون اللام ، وبعدها واو مضمومة ، ثم أخْرَى ساكنة مضارع لوى أي : فتل.
وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نِصاح وأبو حاتم - عن نافع - " يُلَوُّون " بضم الياء ، وفتح اللام ، وتشديد الأولى - من لَوَّى " مضعَّفاً ، والتضعيف فيه للتكثير والمبالغة ، لا للتعدية ؛ إذ لو كان لها لتعدى لآخرَ ؛ لأنه مُتَعَدٍّ لواحد قبل ذلك ، ونسبها الزمخشريُّ لأهل المدينةِ ، وهو كما قال ، فإن هؤلاء رؤساء قُرَّاء المدينة
وقرأ حُمَيْد " يَلُون " - بفتح الياء ، وضم اللام ، بعدها واو مفردة ساكنة - ونسبها الزمخشريُّ لمجاهدٍ وابنِ كثيرٍ ، ووجَّهَهَا هو بأن الأصل { يَلْوُونَ } - كقراءة العامة - ثم أبدِلَت الواو المضمومة همزة ، وهو بدلٌ قباسيٌّ - كأجوه وأقِّتَتْ. ثم خُفِّفَت الهمزةُ بإلقاء حركتها على الساكن قبلها وهو اللام - وحُذِفَت الهمزةُ ، فبقي وزن " يَلُون " يَفُون - بحذْف اللام والعين - وذلك لأن اللام - وهي الياء - حُذِفت لالتقاء الساكنين ؛ لأن الأصل " يلويون " كيضربون ، فاستُثْقِلَت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان - الياء وواو الضمير - فحُذِفت الياء لالتقائهما ، ثم حُذِفت الواو التي هي عين الكلمة.
و { أَلْسِنَتَهُمْ } جمع لسانٍ ، وهذا على لغة من ذكَّره ، وأما على لغة من يُؤنثه - فيقول : هذه لسانٌ - فإنه يجمع على " ألْسُن " - نحو ذِراع وأذرُع وكراع وأكرِع.
(14/283)
وقال الفرّاء : لم نسمعْه من العرب إلا مذكَّراً. ويُعَبَّر باللسان عن الكلام ؛ لأنه ينشأ منه ، وفيه - والمراد به ذلك - التذكير والتأنيث- ، والليّ : الفتل ، يقال : لَويْت الثوب ، ولويت عنقه - أي فتلته - والليُّ : المطل ، لواه دَيْنَه ، يلويه لَيًّا ، وليَّاناً : مطله. والمصدر : اللَّيّ واللّيان.
قال الشاعرُ : [ الرجز ]
قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانا... مَخَافَةَ إلافْلاسِ وَاللَّيانا
والأصل لوْيٌ ، ولَوْيَان ، فأعِلَّ بما تقدم في " مَيِّت " وبابه ثم يُطْلَق اللَّيُّ على الإراغة والمراوغة في الحجج والخصومة ؛ تشبيهاً للمعاني بالأجرام. وفي الحديث : " لَيُّ الْوَاحِدِ ظُلْمٌ ".
وقال بعضهم : اللَّيّ عبارة عن عَطْف الشيء ، وردّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال : لَوَيْت يده والتوى الشيءُ - إذا انحرف - والتوى فلان عليَّ إذا غيَّر أخلاقه عن الاستواء إلى ضده. ولوى لسانه عن كذا - إذا غيره - ولوى فلانٌ فلاناً عن رأيه - إذا أماله عنه - و{ بالكتاب } متعلق بـ { يَلْوُونَ } ، وجعله أبو البقاء حالاً من الألسنة ، قال : وتقديره : ملتبسة بالكتاب ، أو ناطقة بالكتاب.
(14/284)
والضمير في { لِتَحْسَبُوهُ } يجوز أن يعود على ما تقدَّم مما دل عليه ذِكْر اللَّيّ والتحريف ، أي : لتحسبوا المحرف من التوراة. ويجوز أن يعود على مضاف محذوفٍ ، دل عليه المعنى ، والأصل : يلوون ألسنتهم بشِبْهِ الكتاب ؛ لتحسبوا شِبْهَ الكتاب الذي حرفوه من الكتاب ، ويكون كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ } [ النور : 40 ] ثم قال : { يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] يعود على " ذِي " المحذوفة. و" من الكتاب " هو المفعول الثاني للحُسْبان. وقُرئ " ليحسبوه " - بياء الغيبة - والمراد بهم المسلمون - أيضاً - كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة ، والمعنى : ليحسب المسلمون أن المحرَّف من التوراة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 341 ـ 343}
قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
قال الفخر :
المعنى أنهم يتعمدون ذلك الكذب مع العلم.
واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة ، وإعراب ألفاظها ، فالمقدمون عليه يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب ، وإن كان المراد منه تشويش دلالة تلك الآيات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات لم يبعد إطباق الخلق الكثير عليه ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 96}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا } أي إن من أهل الكتاب الخائنين لجماعة { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب } أي يحرفونه قاله مجاهد وقيل : أصل الليّ الفتل من قولك : لويت يده إذا فتلتها ، ومنه لويت الغريم إذا مطلته حقه قال الشاعر :
تطيلين لياني وأنت ( ملية )... وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا(14/285)
وفي الخبر "ليّ الواجد ظلم" فالمعنى يفتلون ألسنتهم في القراءة بالتحريف في الحركات ونحوها تغييراً يتغير به المعنى ويرجع هذا في الآخرة إلى ما قاله مجاهد ، وقريب منه ما قيل : إن المراد يميلون الألسنة بمشابه الكتاب ، والألسنة جمع لسان ، وذكر ابن الشحنة أنه يذكر ويؤنث. ونقل عن أبي عمرو بن العلاء أن من أنثه جمعه على ألسن ، ومن ذكره جمعه على ألسنة ، وعن الفراء أنه قال : اللسان بعينه لم أسمعه من العرب إلا مذكراً ولا يخفى أن المثبت مقدم على النافي ؛ والباء صلة أو للآلة أو للظرفية أو للملابسة ، والجار والمجرور حال من الألسنة أي ملتبسة بالكتاب ، وقرأ أهل المدينة يلوون بالتشديد فهو على حد { لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ } [ المنافقون : 5 ] وعن مجاهد وابن كثير يلون على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها كذا قيل ، واعترض عليه بأنه لو نقلت ضمة الواو لما قبلها فحذفت لالتقاء الساكنين كفى في التوجيه فأي حاجة إلى قلب الواو همزة ، ورد بأنه فعل ذلك ليكون على القاعدة التصريفية بخلاف نقل حركة الواو ثم حذفها على ما عرف في التصريف ، ونظر فيه بعض المحققين بأن الواو المضمومة إنما تبدل همزة إذا كانت ضمتها أصلية فهو مخالف للقياس أيضاً. نعم قرىء يلؤون بالهمز في الشواذ وهو يؤيده ، وعلى كل ففيه اجتماع إعلالين ومثله كثير ، وأما جعله من الولي بمعنى القرب أي يقربون ألسنتهم بميلها إلى المحرف فبعيد من الصحيح قريب إلى المحرف.(14/286)
{ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب } أي لتظنوا أيها المسلمون أن المحرف المدلول عليه باللي أو المشابه من كتاب الله تعالى المنزل على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، وقرىء ( ليحسبوه ) بالياء والضمير أيضاً للمسلمين. { وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب } ولكنه من قبل أنفسهم { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } أي ويزعمون صريحاً غير مكتفين بالتورية والتعريض أن المحرف أو المشابه نازل من عند الله { وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله } أي وليس هو نازلاً من عند الله تعالى ، والواو للحال والجملة حال من ضمير المبتدأ في الخبر ، وفي جملة { وَيَقُولُونَ } الخ تأكيد للنفي الذي قبلها وليس الغرض التأكيد فقط وإلا لما توجه العطف بل التشنيع أيضاً بأنهم لم يكتفوا بذلك التعريض حتى ارتكبوا هذا التصريح وبهذا حصلت المغايرة المقتضية للعطف ، والإظهار في موضع الإضمار لتهويل ما قدموا عليه ، واستدل الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق أولئك المحرفون بقولهم { هُوَ مِنْ عِندِ الله } تعالى لكن الله وردّ بأن القوم ما ادعوا أن التحريف من عند الله وبخلقه وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله ، أو حكم من أحكامه فتوجه تكذيب الله تعالى إياهم إلى هذا الذي زعموا.
والحاصل أن المقصود بالنفي كما أشرنا إليه نزوله من عنده سبحانه وهو أخص من كونه من فعله وخلقه ، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يدل على مذهب المعتزلة القائلين بأن أفعال العباد مخلوقة لهم لا لله تعالى :(14/287)
{ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب } أي في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى تعريضاً وتصريحاً { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون عليه سبحانه وهو تسجيل عليهم بأن ما افتروه عن عمد لا خطأ ، وقيل : يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب ، روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه ، وروى غير واحد أنها في طائفة من اليهود ، وهم كعب بن الأشرف ومالك وحيي بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر غيروا ما هو حجة عليهم من التوراة.(14/288)
واختلف الناس في أن المحرف هل كان يكتب في التوراة أم لا ؟ فذهب جمع إلى أنه ليس في التوراة سوى كلام الله تعالى وأن تحريف اليهود لم يكن إلا تغييراً وقت القراءة أو تأويلاً باطلاً للنصوص ، وأما أنهم يكتبون ما يرومون في التوراة على تعدد نسخها فلا ، واحتجوا لذلك بما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون : إن ذلك من عند الله وما هو من عند الله فأما كتب الله تعالى فإنها محفوظة لا تحول وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لليهود إلزاماً لهم : { فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 93 ] وهم يمتنعون عن ذلك فلو كانت مغيرة إلى ما يوافق مرامهم ما امتنعوا بل وما كان يقول لهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يعود على مطلبه الشريف بالإبطال. وذهب آخرون إلى أنهم بدلوا وكتبوا ذلك في نفس كتابهم واحتجوا على ذلك بكثير من الظواهر ولا يمنع من ذلك تعدد النسخ إما لاحتمال الطواطؤ أو فعل ذلك في البعض دون البعض وكذا لا يمنع منه قول الرسول لهم ذلك لاحتمال علمه صلى الله عليه وسلم ببقاء بعض ما يفي بغرضه سالماً عن التغيير إما لجهلهم بوجه دلالته ، أو لصرف الله تعالى إياهم عن تغييره ، وأما ما روي عن وهب فهو على تقدير ثبوته عنه يحتمل أن يكون قولاً عن اجتهاد ، أو ناشئاً عن عدم استقراء تام ، ومما يؤيد وقوع التغيير في كتب الله تعالى وأنها لم تبق كيوم نزلت وقوع التناقض في الأناجيل وتعارضها وتكاذبها وتهافتها ومصادمتها بعضها ببعض ، فأنها أربعة أناجيل : الأول : "إنجيل متى" وهو من الاثني عشر الحواريين وإنجيله باللغة السريانية كتبه بأرض فلسطين بعد(14/289)
رفع المسيح إلى السماء بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحاً ، والثاني : "إنجيل مرقس" وهو من السبعين وكتب إنجيله باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحاً ، والثالث : "إنجيل لوقا" وهو من السبعين أيضاً كتب إنجيله باللغة اليونانية بمدينة الإسكندرية بعد ذلك وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحاً ، والرابع : "إنجيل يوحنا" وهو حبيب المسيح كتب إنجيله بمدينة إقسس من بلاد رومية بعد رفع المسيح بثلاثين سنة وعدة إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحاً ، وقد تضمن كل إنجيل من الحكايات والقصص ما أغفله الآخر ، واشتمل على أمور وأشياء قد اشتمل الآخر على نقيضها أو ما يخالفها ، وفيها ما تحكم الضرورة بأنه ليس من كلام الله تعالى أصلاً ، فمن ذلك أن متى ذكر أن المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعاً كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويعيرانه ، وذكر لوقا خلاف ذلك فقال : إن أحدهما كان يهزأ به والآخر يقول له : أما تتقي الله تعالى أما نحن فقد جوزينا وأما هذا فلم يعمل قبيحاً ثم قال للمسيح : يا سيدي أذكرني في ملكوتك فقال : حقاً إنك تكون معي اليوم في الفردوس ولا يخفى أن هذا يؤول إلى التناقض فإن اللصين عند متى كافران وعند لوقا أحدهما مؤمن والآخر كافر ، وأغفل هذه القصة مرقس ويوحنا ، ومنه أن لوقا ذكر أنه قال يسوع : إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك نفوس الناس ولكن ليحيى وخالفه أصحابه وقالوا بل قال : إن ابن الإنسان لم يأت ليلقي على الأرض سلامة لكن سيفاً ويضرم فيها ناراً ، ولا شك أن هذا تناقض ، أحدهما : يقول جاء رحمة للعالمين ، والآخر يقول : جاء نقمة على الخلائق أجمعين ، ومن ذلك أن متى قال : قال يسوع للتلاميذ الإثني عشر :(14/290)
أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي جلوساً على إثني عشر كرسياً تدينون إثني عشر سبط إسرائيل فشهد للكل بالفوز والبر عامة في القيامة ثم نقض ذلك متى وغيره وقال : مضى واحد من التلاميذ الإثني عشر وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع بثلاثين درهماً وجاء بالشرطي فسلم إليهم يسوع فقال يسوع : الويل له خير له أن لا يولد ، ومنه أن متى أيضاً ذكر أنه لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال : أي شر فعل هذا فصرخ اليهود وقالوا : يصلب يصلب فلما رأى عزمهم وأنه لا ينفع فيهم أخذ ماءاً وغسل يديه وقال : أنا برىء من دم هذا الصديق وأنتم أبصر ، وأكذب يوحنا ذلك فقال : لما حمل يسوع إليه قال لليهود : ما تريدون ؟ قالوا : يصلب فضرب يسوع ثم سلمه إليهم إلى غير ذلك مما يطول ، فإذا وقع هذا التغيير والتحريف في أصول القوم ومتقدميهم فما ظنك في فروعهم ومتأخريهم.
وإذا كان في الأنابيب حيف... وقع الطيش في صدور الصعاد
ويا ليت شعري هل تنبه ابن منبه لهذا أم لم يتنبه فقال : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى سبحان الله هذا من العجب العجاب ؟ا. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 204 ـ 207}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ}
أي من اليهود طائفة تخيل للمسلمين أشياء أنها مما جاء في التوراة ، وليست كذلك ، إما في الاعتذار عن بعض أفعالهم الذميمة ، كقولهم : ليس علينا في الأميين سبيل ، وإما للتخليط على المسلمين حتى يشككوهم فيما يخالف ذلك مما ذكره القرآن ، أو لإدخال الشك عليهم في بعض ما نزل به القرآن ، فاللَّيُّ مجمل ، ولكنه مبين بقوله : { لتحسبوه من الكتاب } وقولِه : { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله }.(14/291)
واللَّيُّ في الأصل : الإراغة أي إدارة الجسم غير المتصلب إلى غير الصوْب الذي هو ممتدّ إليه : فمن ذلك ليّ الحَبْل ، وليّ العنان للفَرس لإدارته إلى جهة غير صوب سَيره ، ومنه لَيّ العنق ، وليّ الرأس بمعنى الالتفات الشزر والإعراض قال تعالى : { لووا رؤوسهم } [ المنافقون : 5 ].
واللّي في هذه الآية يحتمل أن يكون حقيقة بمعنى تحريف اللسان عن طريق حرف من حروف الهجاء إلى طريق حرف آخر يقاربه لتعطي الكلمة في أذن السامع جرس كلمة أخرى ، وهذا مثل ما حكى الله عنهم في قولهم "راعنا" وفي الحديث من قولهم في السلام على النبي : "السامُ عليكم" أي الموت أو "السِّلام بكسر السين عليك" وهذا اللّي يشابه الإشمام والاختلاس ومنه إمالة الألف إلى الياء ، وقد تتغير الكلمات بالترقيق والتفخيم وباختلاف صفات الحروف.
والظاهر أنّ الكتاب هو التوراة فلعلهم كانوا إذا قرؤوا بعض التوراة بالعربية نطقوا بحروف من كلماتها بينَ بينَ ليوهموا المسلمين معنى غير المعنى المراد ، وقد كانت لهم مقدرة ومِراس في هذا.
وقريب من هذا ما ذكره المبرّد في الكامل أنّ بعض الأزارقة أعاد بيت عُمر ابن أبي ربيعة في مجلس ابن عباس
...
.
رَأتْ رجلاً أما إذا الشمس عَارَضت
فيضْحَى وأما بالعشي فيخصر...
فجعل يضحى يَحْزَى وجعل يَخصر يخسر بالسين لِيشوّه المعنى لأنه غضب من إقبال ابن عباس على سماع شعره.
وفي الأحاجي والألغاز كثير من هذا كقولهم : إنّ للاّهي إلهاً فوقَه فيقولها أحد بحضرة ناس ولا يشبع كسرة اللاّهي يخالها السامع لله فيظنه كَفَر.
أو لعلهم كانوا يقرؤون ما ليس من التوراة بالكيفيات أو اللحون التي كانوا يقرؤون بها التوراة ليخيلوا للسامعين أنهم يقرؤون التوراة.(14/292)
ويحتمل أن يكون اللّي هنا مجازَاً عن صرف المعنى إلى معنى آخر كقولهم لوى الحجة أي ألقي بها على غير وجهها ، وهو تحريف الكلم عن مواضعه : بالتأويلات الباطلة ، والأقيسة الفاسدة ، والموضوعات الكاذبة ، وينسبون ذلك إلى الله ، وأياماً كان فهذااللَّيُّ يقصدون منه التمويه على المسلمين لغرض ، حكما فعل ابن صوريا في إخفاء حكم رجم الزاني في التوراة وقوله : نحَمم وجهه.
والمخاطب يتحسبوه المسلمون دون النبي صلى الله عليه وسلم أو هو والمسلمون في ظنّ اليهود.
وجيء بالمضارع في هاته الأفعال : يلوون ، ويَقُولون ، للدلالة على تجدّد ذلك وأنه دأبهم.
وتكرير الكتاب في الآية مرتين ، واسم الجلالة أيضاً مرتين ، لقصد الاهتمام بالاسمين ، وذلك يجر إلى الاهتمام بالخبر المتعلق بهما ، والمتعلقين به ، قال المرزوقي في شرح الحماسة في باب الأدب عند قول يحيى بن زياد :
لما رأيت الشيب لاح بياضه
بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا...
كان الواجب أن يقول : "قلت له مرحبا لكنهم يكرّرون الأعلام وأسماء الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم" قلت ومنه قول الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
قهر الموت ذا الغنى والفقيرا...
وقد تقدم تفصيل ذلك عند قوله تعالى في سورة [ البقرة : 282 ] : { واتقوا اللَّه ويعلمكم اللَّه واللَّه بكل شيء عليم }
والقراءة المعروفة يلوون : بفتح التحتية وسكون اللام وتخفيف الواو مضارع لوى ، وذكر ابن عطيّة أنّ أبا جعفر قرأه : يُلَوون بضم ففتح فواو مشدّدة مضارع لوّى بوزن فعل للمبالغة ولم أر نسبة هذه القراءة إلى أبي جعفر في كتب القراءات. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 136 ـ 138}
فصل
قال العلامة أبو حيان ولله دره : (14/293)
والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي : بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس ، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ ، والمعاني تبع للألفاظ ، ومن طالع التوراة علم يقيناً أن التبديل في الألفاظ والمعاني ، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند الله ، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الأخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك ، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم.
وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها ، فضلاً عن منصب النبوة.
وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي ، رحمه الله تعالى ، كتاباً في ( السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه ) ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب ، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها ، هذا مع خلوها من ذكر : الآخرة ، والبعث ، والحشر ، والنشر ، والعذاب والنعيم الأخرويين ، والتبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأين هذا من قوله تعالى { الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته.
{ ذلك مثلهم في التوراة }(14/294)
وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة ، قال تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } وقال تعالى { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير ، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 527}
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَلَا مِنْ فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتْ مِنْ عِنْدِهِ ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ نَفْيًا عَامًّا كَوْنَ الْمَعَاصِي مِنْ عِنْدِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتْ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ آكَدِ الْوُجُوهِ ، فَكَانَ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ النَّفْيِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْإِيمَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ ، كَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي.
قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ إطْلَاقَ النَّفْيِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إطْلَاقُ الْإِثْبَاتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت : " مَا عِنْدَ زَيْدٍ طَعَامٌ " كَانَ نَفْيًا لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، وَلَوْ قُلْت : " عِنْدَهُ طَعَامٌ " مَا كَانَ عُمُومًا فِي كَوْنِ جَمِيعِ الطَّعَامِ عِنْدَهُ ؟. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 300}(14/295)
لطيفة
قال فى الميزان :
وتكرار لفظ الكتاب ثلاث مرات في الكلام لدفع اللبس فإن المراد بالكتاب الأول هو الذي كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى الله سبحانه وبالثاني الكتاب الذي أنزله الله تعالى بالوحي وبالثالث هو الثاني كرر لفظه لدفع اللبس وللإشارة إلى أن الكتاب بما أنه كتاب الله أرفع منزلة من أن يشتمل على مثل تلك المفتريات وذلك لما في لفظ الكتاب من معنى الوصف المشعر بالعلية.
ونظيره تكرار لفظ الجلالة في قوله {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} فالمعنى وما هو من عند الله الذي هو إله حقا لا يقول إلا الحق قال تعالى {والحق أقول} وأما قوله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون تكذيب بعد تكذيب لنسبتهم ما اختلقوه من الوحي إلى الله سبحانه فإنهم كانوا يلبسون الأمر على الناس بلحن القول فأبطله الله بقوله {وما هو من الكتاب} ثم كانوا يقولون بألسنتهم هو من عند الله فكذبهم الله أولا بقوله {وما هو من عند الله} وثانيا بقوله {ويقولون على الله الكذب} وزاد في الفائدة أولا أن الكذب من دأبهم وديدنهم وثانيا أن ذلك ليس كذبا صادرا عنهم بالتباس من الأمر عليهم بل هم عالمون به متعمدون فيه. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 83 ـ 84}(14/296)
قوله تعالى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما فرغ من بيان ما أراد من كتمانهم للحق مع الإشارة إلى بعض توابعه إلى أن ختم بأنهم لا يتحاشون من الكذب على الله المقتضي للكذب على الأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم ، لأنهم لا علم لهم بقول الله سبحانه وتعالى إلا بواسطة الأنبياء عليهم السلام ، ومهما كان القول كذباً على الله سبحانه وتعالى اقتضى أن يكون تعبداً للمنسوب إليه من دون الله سبحانه وتعالى لأنه هو الذي شرعه ، وذلك موجب لأن يدعي أن النبي دعا إليه عبادته من دون الله سبحانه وتعالى ، وذلك بعد أن اوضح سبحانه وتعالى من صفات عيسى عليه الصلاة والسلام المقتضية لنفي الإلهية عنه ما لا يخفى على ذي لب شرع يبين أنهم كاذبون فيما يدعونه في عيسى عليه الصلاة والسلام ، فنفي أن يكون قال لهم ذلك أو شيئاً منه على وجه شامل له ولكل من اتصف بصفته وبسياق هو بمجرده كاف في إبطال قولهم فقال : {ما كان} أي صح ولا تصور بوجه من الوجوه {لبشر} أي من البشر كائناً من كان من عيسى وعزير عليهما الصلاة والسلام وغيرهما {أن يؤتيه الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {الكتاب والحكم} أي الحكمة المهيئة للحكم ، وهي العلم المؤيد بالعمل والعمل المتقن بالعلم ، لأن أصلها الإحكام ، وهو وضع الشيء في محله بحيث يمتنع فساده {والنبوة} وهي الخبر من الله سبحانه وتعالى المقتضي لأتم الرفعة ، يفعل الله به ذلك الأمر الجليل وينصبه للدعاء إلى اختصاصه الله بالعبادة وترك الأنداد {ثم} يكذب على الله سبحانه وتعالى بأن {يقول للناس كونوا عباداً لي }.(14/297)
ولما كان ذلك قد يكون تجوزاً عن قبول قوله والمبادرة لامتثال أمره عن الله سبحانه وتعالى احتراز عنه بقوله : {من دون الله} أي المختص بجميع صفات الكمال إذ لا يشك عاقل أن من أوتي نبوة وحكمة - وهو بشر - في غاية البعد عن ادعاء مثل ذلك ، لأن كل صفة من صفاته - لا سيما تغير بشرته الدالة على انفعالاته - مستقلة بالإبعاد عن هذه الدعوى ، فلم يبق لهم مستند ، لا من جهة عقل ولا من طريق نقل ، فصار قول مثل ذلك منافياً للحكمة التي هو متلبس بها ، فصح قطعاً انتقاؤه عنه.
ولما ذكر ما لا يكون له أتبعه ما له فقال : {ولكن} أي يقول {كونوا ربانيين} أي تابعين طريق الرب منسوبين إليه بكمال العلم المزين بالعمل ، والألف والنون زيدتا للإيذان بمبالغتهم في المتابعة ورسوخهم في العلم اللدني ، فإن الرباني هو الشديد التمسك بدين الله سبحانه وتعالى وطاعته ، قال محمد بن الحنفية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما مات : مات رباني هذه الأمة : {بما كنتم تعلمون الكتاب} أي بسبب كونكم عالمين به معلمين له {وبما كنتم تدرسون} فإن فائدة الدرس العلم ، وفائدة العلم العمل ، ومنه الحث على الخير والمراقبة للخالق. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 117 ـ 118}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن عادة علماء أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أن من جملة ما حرّفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الإلهية ، وأنه كان يأمر قومه بعبادته فلهذا قال : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 96}
فصل في سبب نزول الآية
قال الفخر :
في سبب نزول هذه الآية وجوه
الأول : قال ابن عباس : لما قالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله نزلت هذه الآية(14/298)
الثاني : قيل إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً ، فقال عليه الصلاة والسلام " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ؛ ولا بذلك أمرني " فنزلت هذه الآية
الثالث : قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله "
الرابع : أن اليهود لما ادعوا أن أحداً لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه ، فالله تعالى قال لهم : إن كان الأمر كما قلتم ، وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم ولكن يجب أن تأمروا الناس بالطاعة لله والانقياد لتكاليفه وحينئذ يلزمكم أن تحثوا الناس على الإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك ، وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لي مِن دُونِ الله} مثل قوله {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} [ التوبة : 31 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 96 ـ 97}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في المراد بقوله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله} على وجوه
الأول : قال الأصم : معناه ، أنهم لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه قوله تعالى : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} [ الحاقه : 44 ، 45 ] قال : {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} [ الإسراء : 74 ، 75 ](14/299)
الثاني : أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلك الصفات ادعاء الإلهية والربوبية منها أن الله تعالى آتاهم الكتاب والوحي وهذا لا يكون إلا في النفوس الطاهرة والأرواح الطيبة ، كما قال الله تعالى : {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته} [ الأنعام : 124 ] وقال : {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} [ الدخان : 32 ] وقال الله تعالى : {الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} [ الحج : 75 ] والنفس الطاهرة يمتنع أن يصدر عنها هذه الدعوى ، ومنها أن إيتاء النبوّة لا يكون إلا بعد كمال العلم وذلك لا يمنع من هذه الدعوى ، وبالجملة فللإنسان قوتان : نظرية وعملية ، وما لم تكن القوة النظرية كاملة بالعلوم والمعارف الحقيقية ولم تكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاق الذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحي والنبوّة ، وحصول الكمالات في القوة النظرية والعملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد ،
الثالث : أن الله تعالى لا يشرف عبده بالنبوّة والرسالة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل هذا الكلام
الرابع : أن الرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن الله تعالى ، واحتج على صدقه في هذه الدعوى فلو أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقاً ، وذلك غير جائز ، (14/300)
واعلم أنه ليس المراد من قوله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق ، وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن الله آتاه الكتاب والحكم والنبوّة ، وأيضاً لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلاً فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيباً له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم : اتخذوني إلها من دون الله فالمراد إذن ما قدمناه ، ونظيره قوله تعالى : {مَّا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [ مريم : 35 ] على سبيل النفي لذلك عن نفسه ، لا على وجه التحريم والحظر ، وكذا قوله تعالى : {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَغُلَّ} [ آل عمران : 161 ] والمراد النفي لا النهي والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 97}
فصل
قال الفخر :
قوله {أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة} إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتب في غاية الحسن ، وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولاً ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه الإشارة بالحكم ، فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم ، قال تعالى : {وآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} [ مريم : 12 ] يعني العلم والفهم ، ثم إذا حصل فهم الكتاب ، فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوّة فما أحسن هذا الترتيب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 97 ـ 98}
قوله تعالى : {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله}
قال الفخر :
حكى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى : {كُونُواْ عِبَادًا لّى} إنه لغة مزينة يقولون للعبيد عباداً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 98}(14/301)
قوله تعالى : {ولكن كُونُواْ ربانيين}
قال الفخر :
في هذه الآية إضمار ، والتقدير : ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الاضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ، ونظيره قوله تعالى :
{وَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم} [ آل عمران : 106 ] أي فيقال لهم ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 98}
فصل
قال الفخر :
ذكروا في تفسير ( الرباني ) أقوالاً
الأول : قال سيبويه : الرباني المنسوب إلى الرب ، بمعنى كونه عالماً به ، ومواظباً على طاعته ، كما يقال : رجل إلهي إذا كان مقبلاً على معرفة الإله وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة ، كما قالوا : شعراني ولحياني ورقباني إذا وصف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة ، فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا : شعري وإلى الرقبة رقبي وإلى اللحية لحيي
والثاني : قال المبرّد {الربانيون} أرباب العلم وأحدهم رباني ، وهو الذي يرب العلم ويرب الناس أي : يعلمهم ويصلحهم ويقوم بأمرهم ، فالألف والنون للمبالغة كما قالوا : ربان وعطشان وشبعان وعريان ، ثم ضمت إليه ياء النسبة كما قيل : لحياني ورقباني قال الواحدي : فعلى قول سيبويه الرباني : منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وبطاعته ، وعلى قول المبرد {الرباني} مأخوذ من التربية
الثالث : قال ابن زيد : الرباني.(14/302)
هو الذي يرب الناس ، فالربانيون هم ولاة الأمة والعلماء ، وذكر هذا أيضاً في قوله تعالى : {لَوْلاَ ينهاهم الرباانيون والأحبار} [ المائدة : 63 ] أي الولاة والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التقدير : لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته ، قال القفال رحمه الله : ويحتمل أن يكون الوالي سمي ربانياً ، لأنه يطاع كالرب تعالى ، فنسب إليه
الرابع : قال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وسواء كانت عربية أو عبرانية ، فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ، واشتغل بتعليم طرق الخير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 98}
قال الطبرى :
وأولى الأقوال عندي بالصواب في"الربانيين" أنهم جمع"رباني" ، وأن"الرباني" المنسوب إلى"الرَّبَّان" ، الذي يربُّ الناسَ ، وهو الذي يُصْلح أمورهم ، و"يربّها" ، ويقوم بها ، ومنه قول علقمة بن عبدة :
وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إلَيْكَ رِبَابَتي... وَقَبْلَكَ رَبَّتْني ، فَضِعْتُ ، رُبُوبُ
يعني بقوله : "ربتني" : ولي أمري والقيامَ به قبلك من يربه ويصلحه ، فلم يصلحوه ، ولكنهم أضاعوني فضعتُ.
يقال منه : "رَبَّ أمري فلان ، فهو يُربُّه رَبًّا ، وهو رَابُّه". فإذا أريد به المبالغة في مدْحه قيل : "هو ربّان" ، كما يقال : "هو نعسان" من قولهم : "نعَس يَنعُس". وأكثر ما يجيء من الأسماء على"فَعْلان" ما كان من الأفعال ماضيه على"فَعِل" مثل قولهم : "هو سكران ، وعطشان ، وريان" من"سَكِر يسكَر ، وعطِش يعطَش ، ورَوي يرْوَى". وقد يجيء مما كان ماضيه على"فَعَل يَفعُل" ، نحو ما قلنا من"نَعَس يَنعُس" و"ربَّ يَرُبّ".(14/303)
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وكان"الربَّان" ما ذكرنا ، و"الربّاني" هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين ، يَرُبّ أمورَ الناس ، بتعليمه إياهم الخيرَ ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله ، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وَليه المقسطون من المصْلحين أمورَ الخلق ، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم وآجلهم ، وعائدةُ النفع عليهم في دينهم ، ودنياهم كانوا جميعًا يستحقون أن [يكونوا] ممن دَخل في قوله عز وجل : "ولكن كونوا ربانيين" .
ف"الربانيون" إذًا ، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد : "وهم فوق الأحبار" ، لأن"الأحبارَ" هم العلماء ، و"الرباني" الجامعُ إلى العلم والفقه ، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية ، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 543 ـ 544}
وقال ابن عطية :
فجملة ما يقال في الرباني إنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 462}
قوله تعالى : {بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}
فصل
قال الفخر :(14/304)
( ما ) في القراءتين ، هي التي بمعنى المصدر مع الفعل ، والتقدير : كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب ، ومثل هذا من كون ( ما ) مع الفعل بمعنى المصدر قوله تعالى : {فاليوم ننساهم كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا} [ الأعراف : 51 ] وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانياً والسبب لا محالة مغاير للمسبب ، فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانياً ، أمراً مغايراً لكونه عالماً ، ومعلماً ، ومواظباً على الدراسة ، وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه لله ، وتعليمه ودراسته لله ، وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة الله ، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله ، وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته ، وحاصل الحرف شيء واحد ، وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق ، فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه.
وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يأمر غيره بعبادته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 99}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { أَن يُؤْتِيهُ } اسم " كَانَ " و" الْبَشَر " خبرها. وقوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } عطف على " يُؤتيهُ " ، وهذا العطفُ لازم من حيث المعنى ؛ إذ لو سكت عنه لم يصحّ المعنى ؛ لأن الله - تعالى - قد آتى كثيراً من البشر الكتابَ والحُكْمَ والنبوةَ ، وهذا كما يقولون - في بعض الأحوال والمفاعيل- : إنها لازمة فلا غرو - أيضاً - في لزوم المعطوف.(14/305)
وإنما بينا هذا ؛ لأجل قراءة تأتي - إن شاء اله تعالى - ومعنى مجيء هذا النَّفي في كلام العرب ، نحو : " ما كان لزيد أن يفعل " ، كقوله تعالى : { مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا } [ النور : 16 ]. وقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] وقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] أي : ما ينبغي لنا ، ونحوه بنفي الكون والمراد نفي خبره ، وهو على قسمين :
قسم يكون النفي فيه من جهة العقل ؛ ويُعَبَّر عنه بالنفي التام - كهذه الآية - لأن الله - تعالى - لا يُعْطي الكتاب بالحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء ، ونحوه : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [ النمل : 60 ] وقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 145 ].
وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتفاء ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعْرَف القسمان من السياق.
وقرأ العامة " يَقُولَ " - بالنصب - نسقاً على " يؤتيه " والتقدير : لا يجتمع النبوة وهذا القول. والعامل فيه " أن " وهو معطوف عليه بمعنى : ثم أن يقول.
والمراد بالحكم : الفَهْم والعلم. وقيل : إمضاء الحكم عن الله - عز وجل-.
و { الكتاب } القرآن.
وقرأ ابن كثير - في رواية شبل بن عباد - وأبو عمرو - في رواية محبوب- : " يقولُ " - بالرفع - وخرَّجوها على القطع والاستئناف ، وهو مُشْكِلٌ ؛ لما تقدم من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف ؛ إذْ لا يستقلّ ما قبله ؛ لفساد المعنى ، فكيف يقولون : على القطع والاستئناف.(14/306)
قوله : { عِبَادًا } حكى الواحديُّ - عن ابن عباسٍ - أنه قال في قوله تعالى : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } أنه لغة مزينة ويقولون للعبيد : عباد.
قال ابنُ عطِية : ومن جموعه : عَبِيد وعِبِدَّى.
قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلُّها بمعنًى.
وقال بعضهم : العبادُ للهِ ، والعبيدُ والعِبِدَّى للبشر.
وقال بعضهم : العِبِدَّى إنما تقال في العبد من العَبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية ، والذي استقرأت في لفظ " العباد " أنه جَمْع عَبْد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير ، وتصغير الشأن ، وانظر قوله : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وقوله : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] ، وأما العبيد ، فتستعمل في تحقيره.
ومنه قول امرئ القيس :
قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدِ العَصَا... مَا غَرَّكُمْ بِالأسَدِ الْبَاسِلِ
وقال حمزة بن عبد المطلب : " وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عَبِيدٌ لأبِي " ؟ ومنه قوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة أنصارهم ومقدرتهم ، وأنه - تعالى - ليس بظلامٍ لهم مع ذلك. ولما كانت " العباد " تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أتى بها في قوله تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] فهذا النوع من النظر يسلك به سبيل العجائب في فصاحة القرآن على الطريقة العربية.(14/307)
قال أبو حيّان : " وفيه بعض مناقشة ، أما قوله : ومن جموعه عَبِيد وعِبِدَّى ، فأما عبيد ، فالأصح أنه جمع ، وقيل اسم جمع. وأما عِبِدَّى فإنه اسم جمع ، وألفه للتأنيث ".
قال شهابُ الدّينِ : " لا مناقشة ، فإنه إنما يعني جَمْعاً معنويًّا ، ولا شك أن اسمَ الجمع جَمْعٌ معنويٌّ ".
قال : وأما ما استقرأه من أن " عِباداً " يساق في [ مضمار ] الترفُّع والدلالة على الطاعة ، دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ " العباد " وأما قوله : وأما العبيد ، فيستعمل في تحقيره - وأنشد بيت امرئ القيس ، وقول حمزة : " وهل أنتم إلا عبيد أبي " ، وقوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فاستقراء ليس بصحيح ، إنما كثر استعمال " عباد " دون " عبيد " لأن " فعالاً " في جمع " فَعْل " غير الياء والعين قياس مُطَّردٌ ، وجمع فَعْل على " فعيل " لا يطَّرد.(14/308)
قال سيبويه : " وربما جاء " فعيلاً " وهو قليل - نحو الكليب والعبيد ". فلما كان " فِعَال " مقيساً في جمع " عبد " جاء " عباد " كثيراً ، وأما { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فحسَّنَ مجيئه هنا - وإن لم يكن مقيساً - أنه جحاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله : { أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] وبعده { قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [ فصلت : 47 ] فحَسَّنَ مجيئه بلفظ العبيد مؤاخاة هاتين الفاصلتين. ونظير هذا - في سورة ق - { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] لأن قبله : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد } [ ق : 28 ]. وبعده : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] وأما مدلوله فمدلول " عباد " سواء ، وأما بيت امرئ القيس فلم يُفْهَم التحقير من لفظ " عبيد " إنما فُهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت. وكذلك قول حمزةَ : هل أنتم إلا عبيد ؟ إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين.
وقال شهابُ الدينِ : " رده عليه استقراءه من غير إثباته ما يجرِّم الاستقراء مردود ، وأما ادِّعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق - دون لفظ - " عبيد " - ممنوع ؛ لأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره ، فالإحالة على اللفظ أوْلَى ".
قوله : " لي " صفة لـ " عباد ". و{ مِن دُونِ الله } متعلق بلفظ " عِبَاداً لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون صفة ثانية ، وأن يكون حالاً ؛ لتخصُّص النكرة بالوصف.(14/309)
قوله : { ولكن كُونُواْ } أي : ولكن يقول : كونوا ، فلا بد من إضمار القول هنا ، ومذهب العرب جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ، كقوله تعالى : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : يقال لهم ذلك.
والربانيون : جمع رَبَّانِيّ ، وفيه قولان :
أحدهما : قال سيبَوَيْهِ : إنه منسوب إلى الرَّبّ ، يعني كونه عالماً به ، ومواظباً على طاعته ، كما يُقال : رجل إلهيّ إذا كان مقبلاً على معرفة الإلهِ وطاعتِهِ ، والألف والنونُ فيه زائدتان في النسبِ ، دلالةٌ على المبالغة كرقباني وشَعراني ، ولِحْيَاني - للغليظِ الرقبةِ ، والكثيرِ الشعرِ ، والطويلِ اللحيةِ - ولا تُفرد هذه الزيادة عن النسب أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية - من غير مبالغة : قالوا : رَقَبيّ وشَعْرِيّ ولحويّ.
الثاني : قال المُبَرِّدُ : الربانيون : أرباب العلم ، منسوب إلى رَبَّان ، والربان : هو المُعَلِّم للخير ، ومَن يوسوس للناس ويعرِّفُهم أمرَ دينهم ، فالألف والنون والتاء على زيادة الوصف ، كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان ، ثم ضمت إليه ياء النسب - كما قيل : لحيانيّ ورقبانيّ - وتكون النسبة - على هذا - في الوصف نحو أحمري ، قال : [ الرجز ]
أطَرَباً وَأنتَ قِنَّسْرِيُّ... وَالدَّهْرُ بِالإنْسَانِ دَوَّارِيُّ
وقال سيبويه : زادوا ألفاً ونوناً في الربانيّ ؛ لأنهم أرادوا تخصيصاً بعلم الرَّبِّ دون غيره من العلوم ، وهذا كما يقال : شعرانيّ ولحيانيّ ورقبانيّ.
قال الواحديُّ : فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الربِّ مأخوذٌ من التربية.
وفي التفسير : كونوا فقهاء ، علماء ، عاملين. قاله عليٌّ وابن عباس والحسنُ.(14/310)
وقال قتادةُ : حكماء ، علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : فقهاء ، معلمين.
وقل عطاءٌ : علماء ، حكماء ، نصحاء لله في خلقه.
وقيل : الرَّبَّانِيّ : الذي يُربِّي الناسَ بصغار العلم قَبل كِباره.
وقال سعيد بن جُبَيرٍ : الرباني : العالم الذي يعمل بعلمه.
وقيل : الربانيون فوق الأحبار ، والأحبارُ : العلماء ، والربانيون : الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس ، ولما مات ابنُ عبَّاسٍ قال محمدُ بنُ الحنفيةَ : اليوم مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة.
وقال ابنُ زيدٍ : الربانيُّ : هو الذي يربُّ النَّاسَ ، والربانيون هم : ولاة الأمة والعلماء ، وذكروا هذا - أيضاً - في قوله تعالى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار } [ المائدة : 63 ] أي : الولاة والعلماء ، وهما الفريقان اللذان يطاعان.
ومعنى الآية - على هذا التقدير - لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ، ومواظبتكم على طاعته.
قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي ، سُمِّي ربانيًّا ؛ لأنه يُطاع كالربِّ ، فنسب إليه.
قال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربيةٍ ، إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وسواء كانت عبرانية ، أو سريانية ، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي عَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِم ، ثم اشتغل بتعليم الخيرِ.
قوله : { بِمَا كُنْتُمْ } الباء سببية ، أي : كونوا علماء بسبب كَوْنِكُمْ ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : أنها متعلقة بـ " كُونُوا " ذكره أبو البقاء ، والخلاف مشهورٌ.
الثاني : أن تتعلق بـ " رَبَّانِيِّينَ " لأن فيه معنى الفعل.(14/311)
الثالث : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لـ " رَبَّانِيِّينَ " ذكره أبو البقاء ، وليس بواضح المعنى ، و" ما " مصدرية ، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر ، أي : بسبب كونكم عالمينَ ، نظيره قوله : { اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ } [ الجاثية : 34 ]. وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك ؛ فإنه قال : و" ما " الظاهر أنها مصدرية ، فهذا يوم تجويز غير ذلك - وفي جوازه بُعْد - وهو أن تكون موصولة ، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر ، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب ، وقد نقص شرطٌ ، وهو اتحاد المتعلَّق ، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية. و" كُنْتُمْ " معناه " أنتم " كقوله : { مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] أي مَنْ هو في المهد.
قوله : { تَعْلَمُونَ } قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو " تَعْلَمُونَ " مفتوح حرف المضارعة ، ساكن العين مفتوح اللام من عَلِم يَعْلَم ، أي : تعرفون ، فيتعدى لواحدٍ ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة ، وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً ، فيتعدى لاثنين ، أولهما محذوف ، تقديره : تُعَلِّمُونَ الناسَ والطالبين الكتاب.
ويجوزُ أن لا يُراد مفعول ، أي : كنتم من أهل التعليم ، وهو نظير : أطعم الخبزَ ، المقصود الأهم إطعام الخُبْز من غير نظرٍ إلى مَنْ يُطْعمُه ، فالتضعيف فيه للتعدية.
وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع ، بأنها أبلغ ؛ وذلك أن كل مُعَلِّم عالم ، وليس كُلُّ عالمٍ معلماً ، فالوصْف بالتعليم أبلغ ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين ، والرباني يقتضي أن يَعْلَم ، ويُعَلَّمَ غيرَه ، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه.(14/312)
ورجح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعول واحدٌ ، والأصل عدم الحذف - والتخفيف مُسوَّغ لذلك ، بخلاف التشديد ، فإنه لا بدّ من تقدير مفعول. وأيضاً فهو أوفق لِ " تَدْرُسُونَ ". والقراءتان متواترتان ، فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخْرى.
وقرأ الحسن ومجاهدٌ " تَعَلَّمُونَ " - بفتح التاء والعين ، واللام مشددة - من تعلم ، والأصل تتعلمون - بتاءين - فحُذِفَتْ إحداهما.
قوله : { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } كالذي قبله ، والعامة على " تَدْرُسُونَ بفتح التاء ، وضم الراء - من الدرس ، وهو مناسب " تَعْلَمُونَ " من علم - ثلاثياً.
قال بعضهم : كان حق من يقرأ " تُعَلِّمون " - بالتشديد - أن يقرأ " تُدَرِّسُونَ " - بالتشديد وليس بلازمٍ ؛ إذ المعنى : صرتم تُعَلِّمون غيرَكم ، ثم تُدَرِّسُونَ ، وبما كنتم تدرسون عليهم - أي : تتلونه عليهم ، كقوله : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس } [ الإسراء : 6 ].
قال أبو حَيْوَةَ - في إحدى الرواتين عنه - " تَدْرِسُونَ " - بكسر الراء - وهي لغة ضعيفة ، يقال : دَرَس العلم يدرسه - بكسر العين في المضارع - وهما لغتان في مضارع " درس " وقرأ هو - أيضاً - في رواية " تُدَرِّسُونَ " من درَّس - بالتشديد - وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون التضعيف فيه للتكثير موافقاً لقراءة " تَعْلَمُونَ " بالتخفيف.
الثاني : أن التضعيف للتعدية ، ويكون المفعولان محذوفين ؛ لغهم المعنى ، والتقدير : تُدَرِّسُونَ غيركم العلم ، أي : تحملونهم على الدرس. وقُرِئَ " تُدْرِسُونَ " من أدرس - كيكرمون من أكرم - على أن أفعل بمعنى فعل - بالتشديد - فأدرس ودرّس واحد كأكرم وكرّم ، وأنزل ونزّل.(14/313)
والدرس : التكرار والإدمان على الشيء. ومنه : درس زيد الكتاب والقرآن ، يدرُسه ويدرِسه ، أي : كرر عليه ، ويقال درست الكتاب ، أي : تناولت أثره بالحفظ ، ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس. ودَرَس المنزلُ : ذهب أثرُه ، وطلَلٌ عافٍ ودارس بمعنًى. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 345 ـ 350}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
وقوله : { ما كان لبشر } نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق.
وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فُلان فاعلاً كذا ، فلما أريدت المبالغة في النفي عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس ، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لِحمل اسم ذات على اسم ذات إلاّ بواسطة بعض الحروف ، فصار التركيب : ما كان له أن يفعل ، ويقال أيضاً : ليس له أن يفعل ، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى : { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } [ طه : 118 ].
فمعنى الآية : ليس قولُ { كونوا عباداً لي } حقاً لبشر أيِّ بشر كان.
وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي في نحو { وما كان الله ليعذّبهم } [ الأنفال : 33 ] ، فتراكيب لام الجحود كلّها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي ، بحيث ينفى أن يكون وجود المسند إليه مجعولاً لأجل فِعْل كذا ، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحوداً.
والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة ، ولكن قد علم أنّ مصبّ النفي هو المعطوف من قوله : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي } أي ما كان له أن يقول كونوا عباداً لي إذا آتاه الله الكتاب إلخ.(14/314)
والعباد جمع عبد كالعبيد ، وقال ابن عطية : "الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير ، والعبيد يقصد منه ، ولذلك قال تعالى : "يا عبادي" وسمّت العرب طوائف من العرب سكنوا الحِيرة ودخلوا تحت حكم كِسرى بالعباد ، وقيل لأنهم تنصّروا فسموْهم بالعباد ، بخلاف جمعه على عَبيد كقولهم : هم عبيد العَصا ، وقال حمزةُ بنُ المطلب هل أنتم إلاّ عبيدٌ لأبي ومنه قول الله تعالى : { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] ؛ لأنّه مكان تشفيق وإعْلام بقلة مقدرتهم وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك ، ولما كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك آنس بها في قوله تعالى : { قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] فهذا النوع من النظر يُسلك به سُبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السلبية". أهـ.
وقوله : { من دون الله } قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عباداً للقائل بأنّ ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر ، لأنّ حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين ، فإنّ النصارى لما جعلوا عيسى ربّاً لهم ، وجعلوه ابناً للَّه ، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم : نحن عبد الله وعبيدُ عيسى ، فلذلك جعلت مقالتُهم مقتضية أنّ عيسى أمرهم بأن يكونوا عباداً له دون الله ، والمعنى أنّ لآمِر بأن يكون الناس عباداً له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله.
{ ولكن كونوا ربانيين } أي ولكن يقول كونوا ربانيين أي كونوا منسوبين للربّ ، وهو الله تعالى ، لأنّ النسب إلى الشيء إنما يَكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه.
ومعنى ذلك أن يَكونوا مخلصين لله دون غيره.
والربّاني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللِّحياني لعظيم اللحية ، والشَّعراني لكثير الشعرَ.(14/315)
وقوله : { بما كنتم تعلمون الكتاب } أي لأنّ علمكم الكتاب من شأنه أن يصدّكم عن إشراك العبادة ، فإنّ فائدة العلم العمل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 139 ـ 140}
وقال ابن عطية :
وقوله تعالى : { ما كان لبشر } معناه لأحد من الناس ، والبشر اسم جنس يقع للكثير والواحد ولا مفرد له من لفظه ، وهذا الكلام لفظه النفي التام كقول أبي بكر رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه ، كقوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } [ آل عمران : 145 ] وقوله تعالى : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } [ النحل : 60 ] فهذا منتف عقلاً ، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنّا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين ، و{ الكتاب } في هذه الآية اسم جنس ، و{ الحكم } بمعنى الحكمة ، ومنه قول النبي عليه السلام : إن من الشعر لحكماً ، و{ ثم } في قوله تعالى : { ثم يقول } معطية تعظيم الذنب في القول ، بعد مهلة من هذا الإنعام ، وقوله { عباداً } هو جمع عبد ، ومن جموعه عبيد وعبدى ، قال بعض اللغويين ، وهذه الجموع بمعنى ، وقال قوم ، العباد لله ، العبيد والعبدى للبشر ، وقال قوم : العبدى ، إنما تقال في العبيد بني العبيد ، وكأنه بناء مبالغة ، تقتضي الإغراق في العبودية.(14/316)
قال القاضي أبو محمد : والذي استقريت في لفظة العباد ، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } [ البقرة : 207 ] [ آل عمران : 30 ] و{ عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله { إن تعذبهم فإنهم عبادك } [ المائدة : 118 ] فنوه بهم ، وقال بعض اللغويين : إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد ، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله ، وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، ومنه قول امرىء القيس : [ السريع ].
قُولا لِدُوَدان عبيدِ العَصَى... مَا غَرَّكُمْ بالأَسَد الباسلِ
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلا عبيد ومنه قول الله تعالى : { وما ربك بظلاّم للعبيد } [ فصلت : 46 ] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ].
قال الإمام أبو محمد : فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : { كونوا عباداً لي من دون الله } اعبدوني واجعلوني إلهاً.(14/317)
واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى : { ما كان لبشر } فقال النقاش وغيره : الإشارة إلى عيسى عليه السلام ، والآية رادة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره ، وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين : بل الإشارة إلى محمد عليه السلام. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 461 ـ 462}
وقال ابن كثير :
قوله { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحُكْم والنبوة أن يقول للناس : اعبدوني من دون الله. أي : مع الله ، فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته. قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا -يعني أهل الكتاب-كانوا يَتعبَّدون لأحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ]} [التوبة : 31] وفي المسند ، والترمذي -كما سيأتي-أن عَديّ بن حاتم قال : يا رسول الله ، ما عبدوهم. قال : "بَلَى ، إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلالَ ، فَاتَّبَعُوهُمْ ، فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ".(14/318)
فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنما يأمرون بما أمَرَ الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام. إنما يَنْهَوْنهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام. فالرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعينَ ، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة ، فقاموا بذلك أتم قيام ، ونصحوا الخلق ، وبلغوهم الحق. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 66}
فائدة
قال الفخر :
دلّت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً ، فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 99}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
أي ليس من صفة مَنْ اختراناه للنبوة واصطفيناه للولاية أن يدعو الخلق إلى نفسه ، أو يقول بإثبات نفسه وحظِّه ، لأن اختياره - سبحانه - إياهم للنبوة يتضمن عصمتهم عَمَّا لا يجوز ، فتجويز ذلك في وصفهم مُنافٍ لحالهم ، وإنما دعاء الرسل والأولياء - للخلق - إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو معنى قوله تعالى : { وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ } أي إنما أشار بهم على الخلق بأن يكونوا ربانيين ، والربَّاني منسوبٌ إلى الرب كما يقال فلان دقياني ولحياني... وبابه.
وهم العلماء بالله الحلماء في الله القائمون بفنائهم عن غير الله ، المستهلكة حظوظهم ، المستغرِقون في حقائق وجوده عن إحساسهم بأحوال أنفسهم ، ينطقون بالله ويسمعون بالله ، وينظرون بالله ، فهم بالله مَحْوٌ عمَّا سوى الله. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 253}(14/319)
قوله تعالى { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نفي أن يكون الحكيم من البشر داعياً إلى نفسه وأثبت أنه يكون ولا بد داعياً إلى الله سبحانه وتعالى لتظهر حكمته أثبت أن ذلك لا بد وأن يكون على وجه الإخلاص ، لأن بعض الشياطين يحكم مكره بإبعاد التهمة عن نفسه بالدعاء إلى إلى غيره على وجه الشرك لا سيما إن كان ذلك الغير ربانياً كعيسى عليه الصلاة والسلام فقال : {ولا يأمركم} أي ذلك البشر {أن تتخذوا} أتى بصيغة الافتعال إيذاناً بأن الفطر مجبولة على التوجه لله سبحانه وتعالى من غير كلفة {الملائكة والنبيين} فضلاً عن غيرهم {أرباباً} أي مع الله سبحانه وتعالى أو من دونه ، ثم بين أن كل عبادة كان فيها أدنى شائبة فهي باطلة بقوله على طريق الإنكار تبرئة لعبادة الخلص من مثل ذلك : {أيأمركم بالكفر} إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى غني ، لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه {بعد إذ أنتم مسلمون} أي منقادون لأحكامه ، أو متهيئون للتوحيد على عليّ الفطرة الأولى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 118 ـ 119}
فصل
قال الفخر :
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} بنصب الراء ، والباقون بالرفع أما النصب فوجهه أن يكون عطفاً على {ثُمَّ يَقُولُ} وفيه وجهان(14/320)
أحدهما : أن تجعل {لا} مزيدة والمعنى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً ، كما تقول : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي والثاني : أن تجعل {لا} غير مزيدة ، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشاً عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح ، فلما قالوا : أتريد أن نتخذك رباً ؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يجعله الله نبياً ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء ، وأما القراءة بالرفع على سبيل الاستئناف فظاهر لأنه بعد انقضاء الآية وتمام الكلام ، ومما يدل على الانقطاع عن الأول ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ {وَلَنْ يَأْمُرُكُمْ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 99 ـ 100}
قال الطبرى :
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك : "ولا يأمرَكم" ، بالنصب على الاتصال بالذي قبله ، بتأويل : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحكمَ والنبوةَ ، ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله ولا أنْ يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. لأن الآية نزلت في سبب القوم الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتريد أن نعبدك" ؟ فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه ليس لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناسَ إلى عبادة نفسه ، ولا إلى اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا. ولكن الذي له : أنْ يدعوهم إلى أن يكونوا ربانيين.(14/321)
فأما الذي ادَّعى من قرأ ذلك رفعًا ، أنه في قراءة عبد الله : "ولن يأمركم" استشهادًا لصحة قراءته بالرفع ، فذلك خبر غيرُ صحيح سَنَده ، وإنما هو خبر رواه حجاج ، عن هارون الأعور أنّ ذلك في قراءة عبد الله كذلك. ولو كان ذلك خبرًا صحيحًا سنده ، لم يكن فيه لمحتجٍّ حجة. لأن ما كان على صحته من القراءة من الكتاب الذي جاءَ به المسلمون وراثةً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، لا يجوز تركه لتأويلٍ على قراءة أضيفت إلى بعض الصحابة ، بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو. (1) أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 547 ـ 548}
فائدة
قال الفخر :
قال الزجاج : ولا يأمركم الله ، وقال ابن جُرَيْج : لا يأمركم محمد ، وقيل : لا يأمركم الأنبياء بأن تتخذوا الملائكة أرباباً كما فعلته قريش. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 100}
فائدة
قال الفخر :
إنما خص الملائكة والنبيّين بالذكر لأن الذين وصفوا من أهل الكتاب بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير ، فلهذا المعنى خصهما بالذكر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 100}
قال تعالى : {أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}
قال القرطبى :
{ أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } على طريق الإنكار والتعجب ؛ فحرّم الله تعالى على الأنبياء أن يتخذوا الناس عباداً يتألّهون لهم ولكن ألزم الخلق حرمتهم.
وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقولنّ أحدكم عَبْدِي وأَمَتِي وليقل فَتايَ وفَتَاتِي ولا يقل أحدكم ربِّي وليقل سَيِّدي " وفي التنزيل { اذكرني عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ]. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 124}
________________
(1) القراءتان متواترتان ومن ثم فلا يجوز الترجيح بينهما. والله أعلم.(14/322)
فصل
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" قوله {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يسجدوا له. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 100}
وقال أبو حيان :
وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أرباباً ثم الصابئة وعبدة الأوثان ، والذين اتخذوا النبيين أرباباً هم اليهود والنصارى والمجوس ، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع : كفراً. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 531}
وقال الآلوسى :
{ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } استدل به الخطيب (1) على أن الآية نزلت في المسلمين القائلين "أفلا نسجد لك ؟" بناءاً على الظاهر ، ووجه كون الخطاب للكفار وأن الآية نزلت فيهم بأنه يجوز أن يقال لأهل الكتاب : { أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي منقادون مستعدون للدين الحق إرخاءاً للعنان واستدراجاً ، والقول بأن كل مصدق بنبيه مسلم ودعواه أنه أمره نبيه بما يوجب كفره دعوى أنه أمره بالكفر بعد إسلامه فدلالة هذا على أن الخطاب للمسلمين ضعيفة في غاية السقوط كما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 209}
________________
(1) لعل الصواب ابن الخطيب والمراد منه الإمام فخر الدين الرازى فهو ابن خطيب الرى ونرى هذه العبارة شائعة فى كلام كثير من المفسرين كابن عادل وابن عرفة وغيرهما. والله أعلم.(14/323)
فصل
قال الفخر :
قال الجبائي : الآية دالة على فساد قول من يقول : الكفر بالله هو الجهل به والإيمان بالله هو المعرفة به ، وذلك لأن الله تعالى حكم بكفر هؤلاء ، وهو قوله تعالى : {أَيَأْمُرُكُم بالكفر} ثم إن هؤلاء كانوا عارفين بالله تعالى بدليل قوله {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله} وظاهر هذا يدل على معرفته بالله فلما حصل الكفر ههنا مع المعرفة بالله دل ذلك على أن الإيمان به ليس هو المعرفة والكفر به تعالى ليس هو الجهل به.
والجواب : أن قولنا الكفر بالله هو الجهل به لا نعني به مجرد الجهل بكونه موجوداً بل نعني به الجهل بذاته وبصفاته السلبية وصفاته الإضافية أنه لا شريك له في المعبودية ، فلما جهل هذا فقد جهل بعض صفاته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 100}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب يَأمُرَكُمْ " والباقون بالرفع وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس ، وهي قراءة واضحة ، سهلة التخريج ، والمعنى ، وذلك أنها على القطع والاستئناف.
أخبر تعالى - بأن ذلك الأمر لا يقع ، والفاعل فيه احتمالان :
أحدهما : هو ضمير الله - تعالى -.
الثاني : هو ضمير الموصوف المتقدم.
والمعنى : ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج وجماعة : ولا يأمركم محمد أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً وقيل : لا يأمركم عيسى.
وقيل : لا يأمركم الأنبياء أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرْباباً ، كفعل قريش والصابئين - حيث قالوا في المسيح هو العزير.(14/324)
والمعنى على عوده على " بَشَر " أنه لا يقع من بشر موصوفٍ بما وُصِفَ به أن يَجْعَل نفسه ربًّا ، فيُعْبَدَ ، ولا يأمر - أيضاً - أن تُعْبَد الملائكةُ والنبيون من دون الله ، فانتفى أن يدعوَ الناسَ إلى عبادة نفسه ، وإلى عبادة غيره - والمعنى - على عَوْده على الله - تعالى - أنه تعالى أخْبَر أنه لم يَأمُرْ بذلك ، فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى.
وأما قراءة النصب ففيها وجوهٌ :
أحدها : قول أبي علي وغيره ، وهو أن يكون المعنى : دلالة أن يأمركم ، فقدروا " أن " مضمرة بعده وتكون " لا " مؤكِّدة لمعنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، ف " لا " للتوكيد لمعنى النفي السابق ، وبقي معنى الكلام : ما كان من زيد إتيان ، ولا منه قيام.
الثاني : أن يكون نصبه لنَسَقه على { أَن يُؤْتِيهُ } قال سيبويه : والمعنى : وما كان لبَشَرٍ أن يأمركم أن تتخِذُوا الملائكة.
قال الواحديُّ : ويُقوي هذا الوجهَ ما ذكرنا من أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أتريد يا محمدُ أن نتخذَك رَبًّا ؟ فنزلت.
الثالث : أن يكون معطوفاً على " يَقُولُ في قراءة العامة - قاله الطَّبَريُّ.
قال ابن عطيةَ : " وهذا خَطأ لا يلتئم به المعنى " ، ولم يبين أبو مُحَمدٍ وَجْهَ الخَطَأ " ولا عدم التآم المعنى.(14/325)
قال أبو حيّان : " وجه الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على " يَقُولَ " وجعل " لا للنفي - على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد - فلا يمكن أن يُقَدَّر الناصب - وهو " أن " - إلا قبل " لا " النافية ، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي بـ " لا " مصدر منفي ، فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وُصِفَ به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً - وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك ، وهو خَطَأ بيِّن.
أما إذا جعل " لا " لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خَطَأ ، ولا عدم التئام المعنى ؛ وذلك أنه يصير النفي مستحباً على المصدرين المقدَّرِ ثبوتهما ، فينتفي قوله : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } وينتفي أيضاً أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً. ويوضِّح هذا المعنى وَضْعُ " غير " موضع " لا " فإذا قلتَ : ما لزيد فقهٌ ولا نحوٌ.
كانت " لا " لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوَصْفان ، ولو جعلت " لا " لتأسيس النفي كانت بمعنى " غير " فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه ، وثبوت النحو له ؛ إذ لو قلت : ما لزيد فقه غير نحو ، إن في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلتَ : ما له غير نحو ، ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زادٍ ، كان المعنى : جئت بغير زاد وإذا قلت : ما جئت بغير زادٍ ، معناه أنك جئت بزاد ؛ لأن " لا " هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئامِ المعنى إنما يكون على أحد التقديرين ، وهو أن يكون " لا " لتأسيس النفي لا لتأكيده ، وأن يكون من عطف المنفي بـ " لا " على المثبت الداخل عليه النفي نحو : ما أريد أن تجهل وألا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم ".
وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف " يَأمُرَكُم " على " يَقُولَ " وجوَّزَ في طلا " الداخلة عليه وجهين :
أحدهما : أن يكون لتأسيس النفي.(14/326)
الثاني : أنها مزيدة لتأكيده ، فقال : وقُرِئ { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بالنصب ؛ عطفاً على " ثُمَّ يَقُولَ " وفيه وجهان :
أحدهما : أن تجعل " لا " مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ }. والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى ، ويُنَصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً لهم ، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ، كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه ، ثم يهينني ولا يستخف بي.
والثاني : أن يُجْعَل " لا " غير مزيدة ، والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهَى قُرَيشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادةِ عُزَيْرٍ والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك ربًّا ؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته ، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
قال شهاب الدينِ : " وكلام الزمخشري صحيحٌ ، ومعناه واضح على كلا تقديري كون " لا " لتأسيس النفي وتأكيده فكيف يَجْعَل الشيخُ كلامَ الطبريِّ فاسداً على أحد التقديرين - وهو كونها لتأسيس النفي فقد ظهر صحةُ كلام الطبريِّ بكلام الزمخشريِّ ، وظهر أن رَدَّ ابنِ عطيةَ عليه مردودٌ ".
وقد رجح الناس قراءةَ الرفعِ على النصبِ.
قال سيبويه : ولا يأمركم منقطعة مما قبلها ؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله.
قال الواحدي : ومما يدل على انقطاعها من النسق ، وأنها مُسْتأنفة ، فلما وقعت " لا " موقع " لن " رفعت كما قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم } [ البقرة : 119 ] وفي قراءة ، عبد الله : ولن تُسْأل.(14/327)
قال الزمخشريُّ : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، ويعضدُهَا قراءةُ عبد الله : " ولَنْ يَأمُرَكم " وقد تقدم أن الضمير في " يَأمُركُمْ " يجوز أن يعود على " الله " وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو أعم من ذلك.
وسواء قرئ برفع { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } وبنصبه إذا جعلناه معطوفاً على " يَقُولَ " فإن الضمير يعود على " بشر " لا غير ، [ ويؤيد هذا قولُ بعضهم : ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفاً على الفعل المنصوب قبله ، فيكون الضمير المرفوع لِ " بشر " لا غير يعني بما قبله " ثُمَّ يَقُولَ ".
ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائداً على " الله " تعالى ولم يذكر غير ذلك ، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده ، ويُحْتَمَل أنه لا يجوز غيرُه ، والأول أوْلَى.
قال بعضهم : وفي الضمير المنصوب في " يَأمُرُكُمْ " - على كلتا القراءتين - خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات ، فكأنه توهم أنه لما تقدم في قوله ذكر النافي - في قوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } كان ينبغي أن يكون النظم ولا يأمرهم ؛ جرياً على ما تقدم ، وليس كذلك ، بل هذا ابتداء خطابٍ ، لا التفات فيه.
قوله : { أَيَأْمُرُكُم بالكفر } الهمزة للاستفهام بمعنى الإنكار ، يعني أنه لا يفعل ذلك.
قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } " بَعْدَ " متعلق بـ " يَأمُرُكُمْ " وبعد ظرف زمان مضاف لظرف زمان ماضٍ وقد تقدّم أنه لا يضافُ إليه إلا الزمان ، نحو حينئذٍ ويومئذٍ. و{ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } في محل خفض بالإضافة ؛ لأن " إذْ " تضاف إلى الجملة مطلقاً.(14/328)
قال الزمخشريُّ : " بَعْدَ إذ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ " دليلٌ على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، وهم الذين استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَسْجُدُوا له. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 350 ـ 354}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
وفي قوله : { ولا يأمركم } التفات من الغيبة إلى الخطاب.
وقرأ الجمهور "يأمُرُكم" بالرفع على ابتداء الكلام ، وهذا الأصل فيما إذا أعيد حرف النفي ، فإنه لما وقع بعد فعل منفي ، ثم انتقض نفيه بلكن ، احتيج إلى إعادة حرف النفي ، والمعنى على هذه القراءة واضح : أي ما كان لبشر أن يقول للناس كونوا إلخ ولا هو يأمُرهم أن يتخذوا الملائكة أرباباً.
وقرأه ابن عامر ، وحمزة ويعقوب ، وخلف : بالنصب عطفاً على أن يقولَ ولا زائدة لتأكيد النفي الذي في قوله : { ما كان لبشر } ، وليست معمولة لأنْ : لاقتضاء ذلك أن يصير المعنى : لا ينبغي لبشر أوتي الكتاب ألاّ يأمركم أن تتخذوا ، والمقصود عكس هذا المعنى ، إذ المقصود أنه لا ينبغي له أن يأمر ، فلذلك اضطرّ في تخريج هذه القراءة إلى جعل لا زائدة لتأكيد النفي وليست لنفي جديد.
وقرأه الدُّوري عن أبي عمرو باختلاس الضمة إلى السكون.
ولعلّ المقصود من قوله : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } : أنهم لما بالغوا في تعظيم بعض الأنبياء والملائكة ، فصوّروا صور النبيئين ، مثل يحيى ومريم ، وعبدوهما ، وصوّروا صور الملائكة ، واقتران التصوير مع الغلوّ في تعظيم الصورة والتعبد عندها ضربٌ من الوثنية.
قال ابن عرفة : "إن قيل نفي الأمر أعم من النهي فهلا قيل ويَنهاكم.
والجواب أنّ ذلك باعتبار دعواهم وتقوّلهم على الرسل".(14/329)
وأقول : لعلّ التعبير بلا يأمركم مشاكلة لقوله : { ثم يقول للناس } لأنهم زعموا أنّ المسيح قال : إنه ابنُ الله فلما نفي أنه يقول ذلك نفي ما هو مثله وهو أن يأمرُهم باتخاذ الملائكة أرباباً ، أو لأنهم لما كانوا يدّعون التمسك بالدين كان سائر أحوالهم محمولة على أنهم تلقوها منه ، أو لأنّ المسيح لم ينههم عن ذلك في نفس الأمر ، إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر ، في الردّ على الأمة ، على أنّ أنبياءهم لم يَأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري ، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة ، وهي قوله : { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }.
فهناك سببان لإنكار أن يكونَ ما هم عليه مُرضياً أنبياءهم ؛ فإنه كفر ، وهم لا يرضون بالكفر.
فما كان من حقّ من يتبعونهم التلبُّس بالكفر بعد أن خرجوا منه.
والخطاب في قوله : { ولا يأمركم } التفات من طريقة الغيبة في قوله : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } فالمواجَه بالخطاب هم الذين زعموا أنّ عيسى قال لهم : كونوا عباداً لي من دون الله.
فمعنى { أنتم مسلمون } يقتضي أنّهم كانوا مسلمين والخطاب للنصارى وليس دينهم يطلق عليه أنه إسلام.
فقيل : أريد بالإسلام الإيمان أي غير مشركين بقرينة قوله { بالكفر }.
وقيل الخطاب للمسلمين بناء على ظاهر قوله : { إذ أنتم مسلمون } لأنّ اليهود والنصارى لم يوصفوا بأنهم مسلمون في القرآن ، فهذا الذي جرّأ من قالوا : إنّ الآية نزلت لقول رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم "ألاَ نسجد لك" ، ولا أراه لو كان صحيحاً أن تكون الآية قاصدة إياه ؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل : ثم يأمر الناس بالسجود إليه ، ولما عرّج على الأمر بأن يكونوا عباداً له من دون الله ولا بأن يتّخذوا الملائكة والنبيين أرباباً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 141 ـ 142}(14/330)
أبحاث نفيسة
قال فى الميزان :
ما الذي قاله عيسى (عليه السلام) وما الذي قيل فيه
ذكر القرآن أن عيسى كان عبدا رسولا وأنه لم يدع لنفسه ما نسبوه إليه ولا تكلم معهم إلا بالرسالة كما قال تعالى {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} : المائدة - 119 116.
وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبودية على عصارتها ويتضمن من بارع الأدب على مجامعه يفصح عما كان يراه عيسى المسيح (عليه السلام) من موقفه نفسه تلقاء ربوبية ربه وتجاه الناس وأعمالهم فذكر أنه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربه عبدا لا شأن له إلا الامتثال لا يرد إلا عن أمر ولا يصدر إلا عن أمر ولم يؤمر إلا بالدعوة إلى عبادة الله وحده ولم يقل لهم إلا ما أمر به أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ولم يكن له من الناس إلا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب وأما ما يفعله الله فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك غفر أو عذب.
فإن قلت فما معنى ما تقدم في الكلام على الشفاعة أن عيسى (عليه السلام) من الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفع.(14/331)
قلت القرآن صريح أو كالصريح في ذلك قال تعالى {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} : الزخرف - 86 وقد قال تعالى فيه {ويوم القيامة يكون عليهم شهيد}ا : النساء - 159 وقال تعالى {وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} : المائدة - 110
وقد تقدم إشباع الكلام في معنى الشفاعة وهذا غير التفدية التي يقول بها النصارى وهي إبطال الجزاء بالفدية والعوض فإنها تبطل السلطنة المطلقة الإلهية على ما سيجئ من بيانه والآية إنما تنفي ذلك وأما الشفاعة فالآية غير متعرضة لأمرها لا إثباتا ولا نفيا فإنها لو كانت بصدد إثباتها على منافاته للمقام لكان حق الكلام أن يقال وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ولو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة على الناس وجه وهذا إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إن شاء الله تعالى.
وأما ما قاله الناس في عيسى (عليه السلام) فإنهم وإن تشتتوا في مذاهبهم بعده واختلفوا في مسالكهم بما ربما جاوز السبعين من حيث كليات ما اختلفوا فيه وجزئيات المذاهب والآراء كثيرة جدا.(14/332)
لكن القرآن إنما يهتم بما قالوا به في أمر عيسى نفسه وأمه لمساسه بأساس التوحيد الذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم والدين الفطري القويم وأما بعض الجزئيات كمسألة التحريف ومسألة التفدية فلم يهتم به ذاك الاهتمام والذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبه إليهم ما في قوله تعالى {وقالت النصارى المسيح ابن الله} : التوبة - 30 وما في معناه كقوله تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه} : الأنبياء - 26 وما في قوله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} : المائدة - 72 وما في قوله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} : المائدة - 73 وما في قوله تعالى {ولا تقولوا ثلاثة} : النساء - 171.
وهذه الآيات وإن اشتملت بظاهرها على كلمات مختلفة ذوات مضامين ومعان متفاوتة ولذلك ربما حملت على اختلاف المذاهب في ذلك كمذهب الملكانية القائلين بالبنوة الحقيقية والنسطورية القائلين بأن النزول والبنوة من قبيل إشراق النور على جسم شفاف كالبلور واليعقوبية القائلين بأنه من الانقلاب وقد انقلب الاله سبحانه لحما ودما لكن الظاهر أن القرآن لا يهتم بخصوصيات مذاهبهم المختلفة وإنما يهتم بكلمة واحدة مشتركة بينهم جميعا وهو البنوة وأن المسيح من سنخ الإله سبحانه وما يتفرع عليه من حديث التثليث وإن اختلفوا في تفسيرها اختلافا كثيرا وتعرقوا في المشاجرة والنزاع والدليل على ذلك وحدة الاحتجاج الوارد عليهم في القرآن لسانا.
بيان ذلك أن التوراة والأناجيل الحاضرة جميعا تصرح بتوحيد الإله تعالى من جانب والإنجيل يصرح بالبنوة من جانب آخر وصرح بأن الابن هو الأب لا غير.(14/333)
ولم يحملوا البنوة الموجودة فيه على التشريف والتبريك مع ما في موارد منه من التصريح بذلك كقوله : وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم وباركوا على لأغنيكم وأحسنوا إلى من أبغضكم وصلوا على من يطردكم ويعسفكم كيما تكونوا بني أبيكم الذي في السموات لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار والممطر على الصديقين والظالمين وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم أليس العشارون يفعلون كذلك وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل لكم أليس كذلك يفعل الوثنيون كونوا كاملين مثل أبيكم السماوي فهو كامل آخر الإصحاح الخامس من إنجيل متى.
وقوله أيضا فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات إنجيل متى الإصحاح الخامس.
وقوله أيضا لا تصنعوا جميع مراحمكم قدام الناس كي يروكم فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات.
وقوله أيضا في الصلاة وهكذا تصلون أنتم يا أبانا الذي في السموات يتقدس اسمك الخ.
وقوله أيضا فإن غفرتم للناس خطاياهم غفر لكم أبوكم السمائي خطاياكم كل ذلك في الإصحاح السادس من إنجيل متى.
وقوله وكونوا رحماء مثل أبيكم الرحيم إنجيل لوقا الإصحاح السادس.
وقوله لمريم المجدلية امضي إلى إخوتي وقولي لهم إني صاعد إلى ابي الذي هو أبوكم وإلهي الذي هو إلهكم إنجيل يوحنا الإصحاح العشرون.
فهذه وأمثالها من فقرات الأناجيل تطلق لفظ الأب على الله تعالى وتقدس بالنسبة إلى عيسى وغيره جميعا كما ترى بعناية التشريف ونحوه.(14/334)
وإن كان ما في بعض الموارد منها يعطي أن هذه البنوة والأبوة نوع من الاستكمال المؤدي إلى الاتحاد كقوله تكلم اليسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء فقال يا أبت قد حضرت الساعة فمجد ابنك ليمجدك ابنك ثم ذكر دعائه لرسله من تلامذته ثم قال ولست أسأل في هؤلاء فقط بل وفي الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بجمعهم واحدا كما أنك يا أبت ثابت في وأنا أيضا فيك ليكونوا أيضا فينا واحدا ليؤمن العالم أنك أرسلتني وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما نحن واحد أنا فيهم وأنت في ويكونوا كاملين لواحد لكي يعلم العالم أنك أرسلتني وأنني أحببتهم كما أحببتني إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر.
لكن وقع فيها أقاويل يتأبى ظواهرها عن تأويلها إلى التشريف ونحوه كقوله قال له توما يا سيد ما نعلم أين تذهب وكيف نقدر أن نعرف الطريق قال له يسوع أنا هو الطريق والحق والحياة لا يأتي أحد إلى أبي إلا بي لو كنتم تعرفونني لعرفتم أبي أيضا ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه أيضا قال له فيلبس يا سيد أرنا الأب وحسبنا قال له يسوع أنا معكم كل هذا الزمان ولم تعرفني يا فيلبس من رآني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت أرنا الأب أما تؤمن أني في أبي وأبي في وهذا الكلام الذي أقوله لكم ليس هو من ذاتي وحدي بل أبي الحال في هو يفعل هذه الأفعال آمنوا بي أنا في أبي وأبي في إنجيل يوحنا الإصحاح الرابع عشر.
وقوله لكني خرجت من الله وجئت ولم آت من عندي بل هو أرسلني إنجيل يوحنا الإصحاح الثامن.
وقوله أنا وأبي واحد نحن إنجيل يوحنا الإصحاح العاشر.
وقوله لتلامذته اذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس إنجيل متى الإصحاح الثامن والعشرون.(14/335)
وقوله في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله والله كان الكلمة منذ البدء كان هذا عند الله كل به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان به كانت الحياة والحياة كانت نور الناس إنجيل يوحنا الإصحاح الأول.
فهذه الكلمات وما يماثلها مما وقع في الإنجيل هي التي دعت النصارى إلى القول بالتثليث في الوحدة.
والمراد به حفظ أن المسيح ابن الله مع التحفظ على التوحيد الذي نص عليه المسيح في تعليمه كما في قوله إن أول كل الوصايا اسمع يا إسرائيل الرب إلهك إله واحد هو إنجيل مرقس الإصحاح الثاني عشر.
ومحصل ما قالوا به وإن كان لا يرجع إلى محصل معقول أن الذات جوهر واحد له أقانيم ثلاث والمراد بالأقنوم هو الصفة التي هي ظهور الشئ وبروزه وتجليه لغيره وليست الصفة غير الموصوف والأقانيم الثلاث هي أقنوم الوجود وأقنوم العلم وهو الكلمة وأقنوم الحياة وهو الروح.
وهذه الأقانيم الثلاث هي الأب والابن والروح القدس والأول أقنوم الوجود والثاني أقنوم العلم والكلمة والثالث أقنوم الحياة فالابن وهو الكلمة وأقنوم العلم نزل من عند أبيه وهو أقنوم الوجود بمصاحبة روح القدس وهو أقنوم الحياة التي بها يستنير الأشياء.
ثم اختلفوا في تفسير هذا الإجمال اختلافا عظيما أوجب تشتتهم وانشعابهم شعبا ومذاهب كثيرة تجاوز السبعين وسيأتيك نبأها على قدر ما يلائم حال هذا الكتاب.(14/336)
إذا تأملت ما قدمناه عرفت أن ما يحكيه القرآن عنهم أو ينسبه إليهم بقوله {وقالت النصارى المسيح ابن الله} الآية وقوله {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم الآية وقوله {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} الآية وقوله {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا} الآية كل ذلك يرجع إلى معنى واحد وهو تثليث الوحدة هو المشترك بين جميع المذاهب المستحدثة في النصرانية وهو الذي قدمناه في معنى تثليث الوحدة.
وإنما اقتصر فيه على هذا المعنى المشترك لأن الذي يرد على أقوالهم في خصوص المسيح (عليه السلام) على كثرتها وتشتتها مما يحتج به القرآن أمر واحد يرد على وتيرة واحدة كما سيتضح.
أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 282 ـ 287}
فائدة
قال فى الميزان :(14/337)
أما الطريق الأول فتوضيحه أن حقيقة البنوة والتولد هو أن يجزء واحد من هذه الموجودات الحية المادية كالإنسان والحيوان بل النبات أيضا شيئا من مادة نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فردا آخر من نوعه مماثلا لنفسه يترتب عليه من الخواص والآثار ما كان يترتب على المجزى منه كالحيوان يفصل من نفسه النطفة والنبات يفصل من نفسه اللقاح ثم يأخذ في تربيته تدريجا حتى يصيره حيوانا أو نباتا آخر مماثلا لنفسه ومن المعلوم أن الله سبحانه يمتنع عليه ذلك أما أولا فلاستلزامه الجسمية المادية والله سبحانه منزه من المادة ولوازمها الافتقارية كالحركة والزمان والمكان وغير ذلك وأما ثانيا فلأن الله سبحانه لإطلاق ألوهيته وربوبيته له القيومية المطلقة على ما سواه فكل شئ سواه مفتقر الوجود إليه قائم الوجود به فكيف يمكن فرض شئ غيره يماثله في النوعية يستقل عنه بنفسه ويكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له من غير افتقار إليه وأما ثالثا فلأن جواز الإيلاد والاستيلاد عليه تعالى يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه تعالى وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادة والحركة وهو خلف بل ما يقع بإرادته ومشيته تعالى إنما يقع من غير مهلة وتدريج.
وهذا البيان هو الذي يفيده قوله تعالى {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} : البقرة - 117 وعلى ما قررناه فقوله سبحانه برهان وقوله له ما في السموات والأرض كل له قانتون برهان آخر وقوله بديع السموات والأرض إذا قضى الخ برهان ثالث.(14/338)
ويمكن أن يجعل قوله بديع السموات والأرض من قبيل إضافة الصفة إلى فاعلها ويستفاد منه أن خلقه تعالى على غير مثال سابق فلا يمكن منه الإيلاد لأنه خلق على مثال نفسه لانمفروضهم العينية فيكون هذه الفقرة وحدها برهانا آخر.
ولو فرض قولهم اتخذ الله ولدا كلاما ملقى لا على وجه الحقيقة بل على وجه التوسع في معنى الابن والولد بأن يراد به انفصال شئ عن شئ يماثله في الحقيقة من غير تجزء مادي أو تدريج زماني وهذا هو الذي يرومه النصارى بقولهم المسيح ابن الله بعد تنقيحه ليتخلص بذلك عن إشكال الجسمية والمادية والتدريج بقي إشكال المماثلة.
توضيحه أن إثبات الابن والأب إثبات للعدد بالضرورة وهو إثبات للكثرة الحقيقية وإن فرضت الوحدة النوعية بين الأب والابن كالأب والابن من الإنسان هما واحد في الحقيقة الإنسانيد وكثير من حيث إنهما فردان من الإنسان وعلى هذا فلو فرض وحدة الإله كان كل ما سواه ومن جملتها الابن غيرا له مملوكا مفتقرا إليه فلا يكون الابن المفروض إلها مثله ولو فرض ابن مماثل له غير مفتقر إليه بل مستقل مثله بطل التوحيد في الإله عز اسمه.
وهذا البيان هو المدلول عليه بقوله تعالى {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} : النساء - 171.(14/339)
وأما الطريق الثاني وهو بيان أن شخص عيسى ابن مريم (عليه السلام) ليس ابنا لله مشاركا له في الحقيقة الإلهية فلما كان فيه من البشرية ولوازمها وتوضيحه أن المسيح (عليه السلام) حملت به مريم وربته جنينا في رحمها ثم وضعته وضع المرأة ولدها ثم ربته كما يتربى الولد في حضانة أمه ثم أخذ في النشوء وقطع مراحل الحياة والارتقاء في مدارج العمر من الصبا والشباب والكهولة وفي جميع ذلك كان حاله حال إنسان طبيعي في حياته يعرضه من العوارض والحالات ما يعرض الإنسان من جوع وشبع وسرور ومسائة ولذة وألم وأكل وشرب ونوم ويقظة وتعب وراحة وغير ذلك.
فهذا ما شوهد من حال المسيح (عليه السلام) حين مكثه بين الناس ولا يرتاب ذو عقل أن من كان هذا شأنه فهو إنسان كسائر الأناسي من نوعه وإذا كان كذلك فهو مخلوق مصنوع كسائر أفراد نوعه وأما صدور الخوارق وتحقق المعجزات بيده كإحياء الأموات وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وكذا تحقق الخوارق من الآيات في وجوده كتكونه من غير أب فإنما هي أمور خارقة للعادة المألوفة والسنة الجارية في الطبيعة فإنها نادرة الوجود لا مستحيلته فهذا آدم تذكر الكتب السماوية أنه خلق من تراب ولا أب له وهؤلاء أنبياء الله كصالح وإبراهيم وموسى (عليهم السلام) جرت بأيديهم آيات معجزة كثيرة مذكورة في مسفورات الوحي من غير أن تقتضي فيهم ألوهية ولا خروجا عن طور الإنسانية.(14/340)
وهذه الطريقة هي المسلوكة في قوله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد} إلى أن قال {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} : المائدة - 75 وقد خص أكل الطعام من بين جميع الأفعال بالذكر لكونه من أحسنها دلالة على المادية واستلزاما للحاجة والفاقة المنافية للألوهية فمن المعلوم أن من يجوع ويظمأ بطبعه ثم يشبع بأكله أو يرتوى بشربه ليس عنده غير الحاجة والفاقة التي لا يرفعها إلا غيره وما معنى ألوهية من هذا شأنه فإن الذي قد أحاطت به الحاجة واحتاج في رفعها إلى الخارج من نفسه فهو ناقص في نفسه مدبر بغيره وليس بإله غني بذاته بل هو مخلوق مدبر بربوبية من ينتهي إليه تدبيره.
وإلى هذا يمكن أن يرجع قوله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير : المائدة - 17.
وكذا قوله تعالى في ذيل الآية المنقولة سابقا آية 75 خطابا للنصارى {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم} : المائدة - 76.(14/341)
فإن الملاك في هذا النوع من الاحتجاجات هو أن الذي شوهد من أمر المسيح أنه كان يعيش على الناموس الجاري في حياة الإنسان متصفا بجميع صفاته وأفعاله وأحواله النوعية كالأكل والشرب وسائر الاحتياجات الإنسانية والخواص البشرية ولم يكن هذا التلبس والاتصاف بحسب ظاهر الحس أو تسويل الخيال فحسب بل كان على الحقيقة وكان المسيح (عليه السلام) إنسانا ذا هذه الأوصاف والأحوال والأفعال والأناجيل مشحونة بتسميته نفسه إنسانا وابن الإنسان مملوئة بالقصص الناطقة بأكله وشربه ونومه ومشيه ومسافرته وتعبه وتكلمه ونحو ذلك بحيث لا يقبل شئ منها صرفا ولا تأويلا ومع تسليم هذه الأمور يجري على المسيح ما يجري على غيره فهو لا يملك من غيره شيئا كغيره ويمكن أن يهلك كغيره.
وكذا حديث عبادته ودعائه بحيث لا يرتاب في أن ما كان يأتيه من عبادة فإنما للتقرب من الله والخضوع لقدس ساحته لا لتعليم الناس أو لاغراض أخر تشابه ذلك.
وإلى حديث العبادة والاحتجاج به يؤمي قوله تعالى {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} : النساء - 172 فعبادة المسيح أول دليل على أنه ليس بإله وأن الألوهية لغيره لا نصيب له فيها فأي معنى لنصب الشئ نفسه في مقام العبودية والمملوكية لنفسه وكون الشئ قائما بنفسه من عين الجهة التي بها يقوم نفسه والأمر ظاهر وكذا عبادة الملائكة كاشفة عن أنها ليست ببنات الله سبحانه ولا أن روح القدس إله بعد ما كانوا بأجمعهم عابدين لله طائعين له كما قال تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} : الأنبياء - 28(14/342)
على أن الاناجيل مشحونة بأن الروح طائع لله ورسله مؤتمر للأمر محكوم بالحكم ولا معنى لأمر الشئ نفسه ولا لطاعته لذاته ولا لانقياده وائتماره لمخلوق نفسه.
ونظير عبادة المسيح لله سبحانه في الدلالة على المغايرة دعوته الناس إلى عبادة الله كما يشير إليه قوله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} : المائدة - 72 وسبيل الآية واحتجاجها ظاهر.
والأناجيل أيضا مشحونة في دعوته إلى الله سبحانه وهي وإن لم تشتمل على هذا اللفظ الجامع {اعبدوا الله ربي وربكم} لكنها مشتملة على الدعوة إلى عبادة الله وعلى اعترافه بأنه ربه الذي بيده زمام أمره وعلى اعترافه بأنه رب الناس ولا تتضمن دعوته إلى عبادة د نفسه صريحا ولا مرة مع ما فيها من قوله أنا وأبي واحد نحن إنجيل يوحنا الإصحاح العاشر فمن الواجب أن يحمل على تقدير صحته على أن المراد أن إطاعتي إطاعة الله كما قال تعالى في كتابه الكريم من يطع الرسول فقد أطاع الله : النساء - 80. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 287 ـ 291}
فائدة
قال فى الميزان :
المسيح من الشفعاء عند الله وليس بفاد =
زعمت النصارى أن المسيح فداهم بدمه الكريم ولذلك لقبوه بالفادي قالوا إن آدم لما عصي الله بالأكل من الشجرة المنهية في الجنة أخطأ بذلك ولزمته الخطيئة وكذلك لزمت ذريته من بعده ما توالدوا وتناسلوا وجزاء الخطيئة العقاب في الآخرة والهلاك الأبدي الذي لا مخلص منه وقد كان الله سبحانه رحيما عادلا.(14/343)
فبدا إذ ذاك إشكال عويص لا انحلال له وهو أنه لو عاقب آدم وذريته بخطيئتهم كان ذلك منافيا لرحمته التي لها خلقهم ولو غفر لهم كان ذلك منافيا لعدله فإن مقتضى العدل أن يعاقب المجرم الخاطي بجرمه وخطيئته كما أن مقتضاه أن يثاب المحسن المطيع بإحسانه وإسائته.
ولم تزل هذه العويصة على حالها حتى حلها ببركة المسيح وذلك بأن حل المسيح وهو ابن الله وهو الله نفسه رحم واحدة من ذرية آدم وهو مريم البتول وتولد منها كما يتولد إنسان فكان بذلك إنسانا كاملا لأنه ابن إنسان وإلها كاملا لأنه ابن الله وابن الله هو الله تعالى معصوما عن جميع الذنوب والخطايا.
وبعد أن عاش بين الناس برهة يسيرة من الزمان يعاشرهم ويخالطهم ويأكل ويشرب معهم ويكلمهم ويستأنس بهم ويمشي فيهم تسخر لاعدائه ليقتلوه شر قتلة وهي قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي فاحتمل اللعن والصلب بما فيه من الزجر والأذى والعذاب ففدى الناس بنفسه ليخلصوا بذلك من عقاب الآخرة وهلاك السرمد وهو كفارة لخطايا المؤمنين به بل لخطايا كل العالم هذا ما قالوه.
وقد جعلت النصارى هذه الكلمة أعني مسألة الصلب والفداء أساس دعوتهم فلا يبدئون إلا بها ولا يختمون إلا عليها كما أن القرآن يجعل أساس الدعوة الإسلامية هو التوحيد كما قال الله مخاطبا لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} : يوسف - 108 مع أن المسيح على ما يصرح به الأناجيل وقد تقدم نقله كان يجعل أول الوصايا هو التوحيد ومحبة الله سبحانه.(14/344)
وقد ناقشهم غيرهم من المسلمين وسائر الباحثين فيما يشتمل عليه قولهم هذا من وجوه الفساد والبطلان وألفت فيها كتب ورسائل وملئت بها صحف وطوامير ببيان منافاتها لضرورة العقل ومناقضتها لكتب العهدين والذي يهمنا ويوافق الغرض الموضوع له هذا الكتاب بيان جهات منافاته لأصول تعليم القرآن وختمه ببيان الفرق بين ما يثبته القرآن من الشفاعة وما يثبتونه من الفداء.
على أن القرآن يذكر صراحة أنه إنما يخاطب الناس ويكلمهم ببيان ما يقرب من أفق عقولهم ويمكن بياناته من فقههم وفهمهم وهو الأمر الذي به يميز الإنسان الحق من الباطل فينقاد لهذا ويأبى ذاك ويفرق بين الخير والشر والنافع والضار فيأخذ بهذا ويترك ذاك والذي ذكرناه من اعتبار القرآن في بياناته حكم العقل السليم مما لا غبار عليه عند من راجع الكتاب العزيز.
فأما ما ذكروه ففيه أولا أنهم ذكروا معصية آدم (عليه السلام) بالأكل من الشجرة المنهية والقرآن يدفع ذلك من جهتين الأولى أن النهي هناك كان نهيا إرشاديا يقصد به صلاح المنهي ووجه الرشد
في أمره لا إعمال المولوية والأمر الذي هو من هذا القبيل لا يترتب على امتثاله ولا تركه ثواب ولا عقاب مولوي كأوامر المشير ونواهيه لمن يستشيره وأوامر الطبيب ونواهيه للمريض بل إنما يترتب على امتثال التكليف الإرشادي الرشد المنظور لمصلحة المكلف وعلى مخالفته الوقوع في مفسدة المخالفة وضرر الفعل بما أنه فعل وبالجملة لم يلحق بآدم (عليه السلام) إلا أنه أخرج من الجنة وفاته راحة القرب وسرور الرضا وأما العقاب الأخروي فلا لأنه لم يعص معصية مولوية حتى يستتبع عقابا راجع تفسير الآيات 39 35 من سورة البقرة.
(14/345)
والثانية أنه (عليه السلام) كان نبيا والقرآن ينزه ساحة الأنبياء (عليهم السلام) ويبرء نفوسهم الشريفة عن اقتراف المعاصي والفسق عن أمر الله سبحانه والبرهان العقلي أيضا يؤيد ذلك راجع ما ذكرناه في البحث عن عصمة الأنبياء في تفسير الآية 213 من سورة البقرة.
(14/346)
وثانيا قولهم إن الخطيئة لزمت آدم فإن القرآن يدفعه بقوله {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} : طه - 122 وقوله {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} : البقرة - 37 والاعتبار العقلي يؤيد ذلك بل يبينه فإن الخطيئة وتبعة الذنب إنما هو أمر محذور مخوف منه يعتبره العقل أو المولى لازما للمخالفة والتمرد ليستحكم بذلك أمر التكليف فلولا العقاب والثواب لم يستقم أمر المولوية ولم يمتثل أمر ولا نهي وكما أن من شئون المولوية بسط العقاب على المجرمين في جرائمهم كالثواب على المطيعين في طاعاتهم كذلك من شئون المولوية إطلاق التصرف في دائرة مولويته فللمولى أن يغمض عن خطيئة المخطئين ومعصية العاصين بالعفو والمغفرة فإنه نوع تصرف وحكومة كما أن له أن يؤاخذ بها وهي نوع حكومة وحسن العفو والمغفرة عن الموالي وأولي القوة والسطوة في الجملة مما لا ريب فيه والعقلاء من الناس يستعملونه إلى هذا الحين فكون كل خطيئة صادرة من الإنسان لازمة للإنسان مما لا وجه له ألبتة وإلا لم يكن لأصل العفو والمغفرة تحقق لأن المغفرة والعفو إنما يكون لإمحاء الخطيئة وإبطال أثر الذنب ومع فرض أن الخطيئة لازمة غير منفكة لا يبقى موضوع للعفو والمغفرة مع أن الوحي الالهي مملو بحديث العفو والمغفرة وكتب العهدين كذلك حتى أن هذا الكلام المنقول منهم لا يخلو عنه وبالجملة دعوى كون ذنب من الذنوب أو خطيئة من الخطايا لازمة غير قابلة في نفسه للمغفرة والإمحاء حتى بالتوبة والإنابة والرجوع والندم مما لا يقبله عقل سليم ولا طبع مستقيم.
(14/347)
وثالثا أن قولهم أن خطيئة آدم كما لزمته كذلك لزمت ذريته إلى يوم القيامة يستلزم أن يشمل تبعة الذنب الصادر من واحد غيره أيضا ممن لم يذنب في المعاصي المولوية وبعبارة أخرى أن يصدر فعل عن واحد ويعم عصيانه وتبعته غير فاعله كما يشمل فاعله وهذا غير أن يأتي قوم بالمعصية ويرضى به آخرون من أخلافهم فتحسب المعصية على الجميع وبالجملة هو تحمل الوزر من غير صدور الذنب والقرآن يرد ذلك كما في قوله {أن لا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} : النجم - 39 والعقل يساعده عليه لقبح مؤاخذة من لم يذنب بذنب لم يصدر عنه راجع أبحاث الأفعال في تفسير آية 218 216 من سورة البقرة.
ورابعا أن كلامهم مبني على كون تبعة جميع الخطايا والذنوب هو الهلاك الأبدي من غير فرق بينها ولازمه أن لا يختلف الخطايا والذنوب من حيث الصغر والكبر بل يكون جميعها كبائر موبقات والذي يراه القرآن الكريم في تعليمه أن الخطايا والمعاصي مختلفة فمنها كبائر ومنها صغائر ومنها ما تناله المغفرة ومنها ما لا تناله إلا بالتوبة كالشرك قال تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} : النساء - 31 وقال تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} : النساء - 48 فجعل تعالى من المحرمات المنهي عنها وهي الخطايا والذنوب ما هي كبائر وما هي سيئات أي صغائر بقرينة المقابلة وجعل تعالى من الذنوب ما لا يقبل المغفرة ومنها ما يقبلها فالذنوب على أي حال مختلفة وليس كل ذنب بموجب للخلود في النار والهلاك الأبدي.(14/348)
واحد فاللطم غير القتل والنظر المريب غير الزنا وهكذا والعقلاء من الإنسان في جميع الأدوار لم يضعوا كل ذنب وخطأ موضع غيره ويرون للمعاصي المختلفة تبعات ومؤاخذات مختلفة فكيف يصح إجراء الجميع مجرى واحدا مع هذا الاختلاف الفاحش بينها وإذا فرض اختلافها لم يصح إلا جعل العقاب الخالد والهلاك الأبدي لبعضها كالشرك بالله كما يقول القرآن الكريم ومن المعلوم أن مخالفة نهي ما في الأكل من الشجرة ليس يحل محل الكفر بالله العظيم وما يشابه ذلك فلا وجه لجعل عقابه وتبعته هو العذاب المؤبد راجع بحث الأفعال السابق الذكر.
وخامسا ما ذكروه من وقوع الإشكال وحدوث التزاحم بين صفة الرحمة وصفة العدل ثم الاحتيال إلى رفعه بنزول المسيح وصعوده بالوجه الذي ذكروه.(14/349)
والمتأمل في هذا الكلام وما يستتبعه من اللوازم يجد أنهم يرون أن الله تعالى وتقدس موجود خالق ينسب وينتهي إليه هذا العالم المخلوق بجميع أجزائه غير أنه إنما يفعل بإرادة وعلم في نفسه وإرادته في تحققها تتوقف إلى ترجيح علمي كما أن الإنسان إنما يريد شيئا إذا رجحه بعلمه فهناك مصالح ومفاسد يطبق الله أفعاله عليها فيفعلها وربما أخطأ في التطبيق فندم على الفعل وربما فكر في أمر ولم يهتد إلى طريق صلاحه وربما جهل أمرا وبالجملة هو تعالى في أوصافه وأفعاله كالإنسان إنما يفعل ما يفعل بالتفكر والتروي ويروم فيه تطبيق فعله على المصلحة فهو محكوم بحكم المصالح ومقهور بعملها فيه من الخارج ويمكن له الاهتداء إلى الصلاح ويمكن له الضلال والاشتباه والغفلة فربما يعلم وربما يجهل وربما يغلب وربما يغلب عليه فقدرته محدودة كعلمه وإذا جاز عليه هذا الذي ذكر جاز عليه سائر ما يطرأ الفاعل المتفكر المريد في فعله من سرور وحزن وحمد وندم وابتهاج وانفعال وغير ذلك والذي هذا شأنه يكون موجودا ماديا جسمانيا واقعا تحت ناموس الحركة والتغير والاستكمال والذي هو كذلك ممكن مخلوق بل إنسان مصنوع وليس بالواجب تعالى الخالق لكل شئ.
وأنت بالرجوع إلى كتب العهدين تجد صدق جميع ما نسبناه إليهم في الواجب تعالى من جسميته واتصافه بجميع أوصاف الجسمانيات وخاصة الإنسان.(14/350)
والقرآن في جميع هذه المعاني المذكورة ينزه الله تعالى عن هذه الأوهام الخرافية كما يقول تعالى {سبحان الله عما يصفون} : الصافات - 159 والبراهين العقلية القاطعة قائمة على أنه تعالى ذات مستجمع لجميع صفات الكمال فله الوجود من غير شائبة عدم والقدرة المطلقة من غير عجز والعلم المطلق من غير طرو جهل والحياة المطلقة من غير إمكان موت وفناء وإذا كان كذلك لم يجز عليه تغير حال في وجوده أو علمه أو قدرته أو حياته.
وإذا كان كذلك لم يكن جسما ولا جسمانيا لأن الأجسام والجسمانيات محاط التغيرات والتحولات ومحال الإمكانات والافتقارات والاحتياجات وإذا لم يكن جسما ولا جسمانيا لم يطرء عليه الحالات المختلفة والطواري المتنوعة من غفلة وسهو وغلط وندم وتحير وتأثر وانفعال وهوان وصغر ومغلوبية ونحوها وقد استوفينا البحث البرهاني المتعلق بهذه المعاني في هذا الكتاب في موارد يناسبها يجدها المراجع إذا راجع.
وعلى الناقد المتبصر والمتأمل المتدبر أن يقايس بين القولين ما يقول به القرآن الكريم في إله العالم فيثبت له كل صفة كمال وينزهه عن كل صفة نقص وبالآخرة يعده أكبر وأعظم من أن يحكم فيه أفهامنا بما صحبته من عالم الحد والتقدير وبين ما يثبته العهدان في الباري تعالى بما لا يوجد إلا في أساطير يونان وخرافات هند القديم والصين وأمور كان الإنسان الأولي يتوهمها فيتأثر مما قدمه إليه وهمه.
وسادسا قولهم إن الله أرسل ابنه المسيح وأمره أن يحل رحما من الأرحام ليتولد إنسانا وهو إله وهذا هو القول غير المعقول الذي انتهض لبيان بطلانه القرآن الكريم على ما أوضحناه في البيان السابق فلا نعيد.
(14/351)
ومن المعلوم أن العقل أيضا لا يساعد عليه فإنك إذا تأملت فيما يجب من الصفات أن يقال باتصاف الواجب تعالى بها كالثبات السرمدي وعدم التغير وعدم تحدد الوجود والإحاطة بكل شئ والتنزه عن الزمان والمكان وما يتبعهما وتأملت في تكون إنسان من حين كونه نطفة فجنينا في رحم سواء اعتبرت في معناه تفسير الملكانيين لهذه الكلمة أو تفسير النسطوريين أو تفسير اليعقوبيين أو غيرهم إذ لا نسبة بين ما له الجسمية وجميع أوصاف الجسمية وآثارها وبين ما ليس فيه جسمية ولا شئ مما يتصف به من زمان أو مكان أو حركة أو غير ذلك فكيف يمكن تعقل الاتحاد بينهما بوجه.
وعدم انطباق القول المذكور على القضايا الضرورية العقلية هو السر فيما يذكره بولس وغيره من رؤسائهم القديسيين من تقبيح الفلسفة والازراء بالأحكام العقلية يقول بولس قد كتب لأهلكن حكمة الحكماء ولأخالفن فهم الفقهاء أين الحكيم أين الكاتب أين مستفحص هذا الدهر بتعمق أوليس قد حمق الله حكمة هذا العالم إلى أن قال وإذ اليهود يسألون آية واليونانيون يطلبون حكمة نكرز نحن بالمسيح مصلوب رسالة بولس الإصحاح الأول ونظائر هذه الكلمات كثيرة في كلامه وكلام غيره وليست إلا لسياسة النشر والإذاعة والتبليغ والعظة يوقن بذلك من أرعى نظره في هذه الرسائل والكتب وتعمق في طريق تكليمها الناس وإلقاء بياناتها إليهم.
ومن ما مر يظهر ما في قولهم إنه تعالى معصوم من الذنوب والخطايا فإن الإله الذي صوروه غير مصون عن الخطأ أصلا بمعنى الغلط في الإدراك والغلط في الفعل من غير أن ينتهي إلى مخالفة من يجب موافقته.
وأما الذنب والمعصية بمعنى التمرد فيما يجب فيه الطاعة والانقياد فهو غير متصور في حقه تعالى فالعصمة أيضا غير متصورة في حقه سبحانه.(14/352)
وسابعا قولهم إنه بعد أن صار إنسانا عاشر الناس معاشرة الإنسان للإنسان حق تسخر لأعدائه فيه تجويز اتصاف الواجب بحقيقة من حقائق الممكنات حتى يكون إلها وإنسانا في عرض واحد فكان من الجائز أن يصير الواجب شيئا من مخلوقاته أي يتصف بحقيقة كل نوع من هذه الأنواع الخارجية فتارة يكون إنسانا من الأناسي وتارة فرسا وتارة طائرا وتارة حشرة وتارة غير ذلك وتارة يكون أزيد من نوع واحد من الأنواع كالإنسان والفرس والحشرة معا.
وهكذا يجوز أن يصدر عنه أي فعل فرض من أفعال الموجودات لجواز أن يصير هو ذلك النوع فيفعل فعله المختص به وكذا يجوز أن يصدر عنه أفعال متقابلة معا كالعدل والظلم وأن يتصف بصفات متقابلة كالعلم والجهل والقدرة والعجز والحياة والموت والغنى والفقر تعالى الملك الحق وهذا غير المحذور المتقدم في الأمر السادس
وثامنا قولهم إنه تحمل الصلب واللعن أيضا لأن المصلوب ملعون ماذا يريدون بقولهم إنه تحمل اللعن وما ذا يراد بهذا اللعن أهو هذا اللعن الذي يعرفه العرف واللغة وهو الإبعاد من الرحمة والكرامة أو غير ذلك فإن كان هو الذي نعرفه وتعرفه اللغة فما معنى إبعاده تعالى نفسه من الرحمة أو إبعاد غيره إياه من الرحمة فهل الرحمة إلا الفيض الوجودي وموهبة النعمة والاختصاص بمزايا الوجود فيرجع هذا الإبعاد واللعن بحسب المعنى إلى الفقر في المال أو الجاه أو نحو ذلك في الدنيا أو الآخرة أو كلتيهما وحينئذ فما معنى لحوق اللعن بالله تعالى وتقدس بأي وجه تصوروه مع أنه الغني بالذات الذي هو يسد باب الفقر عن كل شئ.
(14/353)
والتعليم القرآني على خلاف هذا التعليم العجيب بتمام معنى الكلمة قال تعالى {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} : الفاطر - 15 والقرآن يسميه تعالى بأسماء ويصفه بصفات يستحيل معها عروض أي فقر وفاقة وحاجة ونقيصة وفقد وعدم وسوء وقبح وذل وهوان إلى ساحة قدسه وكبريائه.
فإن قيل إن اتصافه بالهوان وحمله اللعن بواسطة اتحاده بالإنسان وإلا فهو تعالى في نفسه وحيال ذاته أجل من أن يعرضه ذلك.
قيل لهم هل يوجب هذا الاتحاد حمله اللعن واتصافه بهذه الأمور الشاقة حقيقة ومن غير مجاز أو لا ؟
فإن كان الأول لزم المحذور الذي ذكرناه وإن كان الثاني عاد الإشكال أعني أن تولد المسيح لم يوجب انحلال إشكال تزاحم الرحمة والعدل فإن تحمل غيره تعالى للمصائب وأقسام العذاب واللعن لا يتم أمر الفدية أي صيرورة الله فدية عن أفراد الإنسان وهو ظاهر.
وتاسعا قولهم إن ذلك كفارة لخطايا المؤمنين بعيسى بل لخطايا كل العالم يدل ذلك على أنهم لم يحصلوا حقيقة معنى الذنوب والخطايا وكيفية استتباعها للعقاب الأخروي وكيف يتحقق هذا العقاب ولم يعرفوا حقيقة الارتباط بين هذه الذنوب والخطايا وبين التشريع وما هو موقف التشريع من ذلك على ما يتكفله البيان القرآني وتعليمه.
(14/354)
فقد بينا في المباحث السابقة في هذا الكتاب ومن جملتها ما في تفسير قوله تعالى {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما} : البقرة - 26 وفي ذيل قوله تعالى {كان الناس امة واحدة} : البقرة - 213 أن الأحكام والقوانين التي يقع فيها المخالفة والتمرد ثم الذنب والخطيئة إنما هي أمور وضعية اعتبارية أريد بوضعها واعتبارها أن يحفظ مصالح المجتمع الإنساني بالعمل بها والرقوب لها وأن العقاب المترتب على المعصية والمخالفة إنما هو تبعة سوء اعتبروه ووضعوه ليكون ذلك صارفا للإنسان المكلف عن اقتراف المعصية والتمرد عن الطاعة هذا ما عند العقلاء البانين للمجتمع الإنساني.
لكن التعليم القرآني يعطي في هذا المعنى ما هو أرقي من ذلك وأرق ويؤيده البحث العقلي على ما مر وهو أن الإنسان بانقياده للشرع المنصوب له من جانب الله وعدم انقياده له تتهيأ في نفسه حقائق من الصفات الباطنة الحميدة الفاضلة أو الرذيلة الخسيسة الخبيثة وهذه هي التي تهيئ للإنسان نعمة أخروية أو نقمة أخروية اللتين ممثلهما الجنة والنار وحقيقتهما القرب والبعد من الله فالحسنات أو الخطايا تتكي وتنتهي إلى أمور حقيقية لها نظام حقيقة غير اعتباري.(14/355)
ومن البين أيضا أن التشريع الإلهي إنما هو تتمة للتكميل الإلهي في الخلقة وإنهاء الهداية التكوينية إلى غايتها وهدفها من الخلقة وبعبارة أخرى شأنه تعالى إيصال كل نوع إلى كمال وجوده وهدف ذاته ومن كمال وجود الإنسان النظام النوعى الصالح في الدنيا والحياة الناعمة السعيدة في الآخرة والطريق إلى ذلك الدين الذي يتكفل قوانين صالحة لإصلاح الاجتماع وجهات من التقرب باسم العبادات يعمل بها الإنسان فينتظم بذلك معاشه ويتهيأ في نفسه ويصلح في ذاته وعمله للكرامة الإلهية في الدار الآخرة كل ذلك من جهة النور المجعول في قلبه والطهارة الحاصلة في نفسه هذا حق الأمر.
فللإنسان قرب وبعد من الله سبحانه هما الملاكان في سعادته وشقاوته الدائمتين ولصلاح اجتماعه المدني في الدنيا والدين هو العامل الوحيد في إيجاد هذا القرب والبعد وجميع ذلك أمور حقيقية غير مبتنية على اللغو والجزاف.
وإذا فرضنا أن اقتراف معصية واحدة كالأكل من الشجرة المنهية ؟ من آدم أوجب له الهلاك الدائم لا له فحسب بل ولجميع ذريته ثم لم يكن هناك ما يعالج به الداء ويفرج به الهم إلا فداء المسيح فما فائدة تشريع الدين قبل المسيح وما فائدة تشريعه معه وما فائدة تشريعه بعده ؟ ؟!!!.
وذلك أنه لما فرض أن الهلاك الدائم والعقاب الأخروي محتوم من جهة صدور المعصية لا ينفع في صرفه عن الإنسان لا عمل ولا توبة إلا بنحو الفداء لم يكن معنى لتشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل من عند الله سبحانه ولم يزل الوعد والوعيد والإنذار والتبشير خالية عن وجه الصحة فماذا كاد يصلحه هذا السعي بعد وجوب العذاب وحتم الفساد.(14/356)
وإذا فرض هناك من تكمل بالعمل بالشرائع السابقة وكم من الأنبياء والربانيين من الأمم السالفة كذلك كالنبي المكرم إبراهيم وموسى (عليهما السلام) وغيرهما وقد قضوا وماتوا قبل إدراك زمان الفداء فماذا ترى أترى أنهم ختموا الحياة على الشقاء أو السعادة وما الذي استقبلهم به الموت وعالم الآخرة استقبلهم بالعقاب والهلاك أم بالثواب والحيوة السعيدة.
مع أن المسيح يصرح بأنه إنما أرسل لتخليص المذنبين والمخطئين وأما الصلحاء والأخيار فلا حاجة لهم إلى ذلك .
وبالجملة فلا يبقى لتشريع الشرائع الإلهية وجعل النواميس الدينية قبل فداء المسيح غرض صحيح يصونه عن العبث واللغوية ولا لهذا الفعل العجيب من الله تعالى وتقدس محمل حق إلا أن يقال إنه تعالى كان يعلم أن لو لم يرفع محذور خطيئة آدم لم ينفعه شئ من هذه التشريعات قط وإنما شرع هذه الشرائع على سبيل الاحتياط برجاء أن سيوفق يوما لرفع المحذور ويجني ثمرة تشريعه بعد ذلك ويبلغ غايته ويظفر بأمنيته إذ ذاك فشرع ما شرع بكتمان الأمر عن الأنبياء والناس وإخفاء أن ههنا محذورا لو لم يرتفع خابت مساعي الأنبياء والمؤمنين كافة وذهبت الشرائع سدى وإظهار أن التشريع والدعوة على الجد والحقيقة.(14/357)
فغر الناس وغر نفسه أما غرور الناس فبإظهار أن العمل بالشرائع يضمن مغفرتهم وسعادتهم وأما غرور نفسه فلأن التشريع بعد رفع المحذور بالفداء يعود لغوا لا أثر له في سعادة الناس كما أنه من غير رفع المحذور كان لا أثر له فهذا حال تشريع الدين قبل وصول أوان الفداء وتحققه ! وأما في زمان الفداء وبعده فالأمر في صيرورة التشريع والدعوة الدينية والهداية الإلهية لغوا أوضح وأبين فما هي الفائدة في الإيمان بالمعارف الحقة والإتيان بالأعمال الصالحة بعد ارتفاع محذور الخطيئة واستيجاب نزول المغفرة والرحمة على الناس مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم من غير فرق بين أتقى الأتقياء وأشقى الأشقياء في أنهما يشتركان في الهلاك المؤبد مع بقاء الخطيئة وفي الرحمة اللازمة مع ارتفاعها بالفداء والمفروض أنه لا ينفع أي عمل صالح في رفعها لولا الفداء.
فإن قيل إن الفداء إنما ينفع في حق من آمن بالمسيح فللدعوة ثمرة كما يصرح به المسيح في بشارته
قيل مضافا إلى أنه مناقض لما تقدمت الإشارة إليه من كلام يوحنا في رسالته إنه هدم لجميع الأصول الماضية إذ لا يبقى من الناس آدم فمن دونه في حظيرة النجاة والخلاص إلا شرذمة منهم وهم المؤمنون بالمسيح والروح بل واحدة من طوائفهم المختلفة في الأصول وأما غيرهم فهم باقون على الهلاك الدائم فليت شعري إلى ما يؤل أمر الأنبياء المكرمين قبل المسيح وأمر المؤمنين من أممهم ؟ وبماذا يتصف الدعوة التي جاؤوا بها من كتاب وحكم أبالصدق أم بالكذب ؟ والأناجيل تصدق التوراة ودعوتها وليس فيها دعوة إلى قصة الروح والفداء ! وهل هي تصدق ما هو صادق أو تصدق الكاذب ؟
(14/358)
فإن قيل إن الكتب السماوية السابقة فيما نعلم تبشر بالمسيح وهذه منهم دعوة إجمالية إلى المسيح وإن لم تفصل القول في كيفية نزوله وفدائه فلم يزل الله يبشر أنبيائه بظهور المسيح ليؤمنوا به ويطيبوا نفسا بما سيصنعه.
قيل أولا إن القول به قبل موسى تخرص على الغيب على أن البشارة لو كانت فإنما هي بشارة بالخلاص وليست بدعوة إلى الإيمان والتدين به
وثانيا إن ذلك لا يدفع محذور لغوية الدعوة في فروع الدين من الأخلاق والأفعال حتى من المسيح نفسه ، والأناجيل مملوءة بذلك
وثالثا إن محذور الخطيئة وانتقاض الغرض الإلهي باق على حاله فإن الله تعالى إنما خلقهم ليرحم جميعهم ويبسط النعمة والسعادة على كافتهم وقد آل أمره إلى عقابهم والغضب عليهم وإهلاكهم للأبد إلا شرذمة منهم.
فهذه نبذة من وجوه فساده عند العقل ويؤيده ويجري عليه القرآن الكريم قال تعالى {الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى} طه - 50 فبين أن كل شئ مهدي إلى غايته وما يبتغيه بوجوده والهداية تعم التكوينية والتشريعية فالسنة الإلهية جارية على بسط الهداية ومنها هداية الإنسان هداية دينية.
(14/359)
ثم قال تعالى وهو أول هداية دينية ألقاها إلى آدم ومن معه حين إهباطهم من الجنة " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة - 39 وما يشتمل عليه بمنزلة التلخيص لتفاصيل الشرائع إلى يوم القيامة ففيه تشريع ووعد ووعيد عليه من غير تردد وارتياب وقد قال تعالى : " والحق أقول " ص - 84 وقال تعالى " ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد " ق - 29 فبين أنه لا يتردد فيما جزم به من الأمر ولا ينقض ما أنفذه من الأمر فما يقضيه هو الذي يمضيه وإنما يفعل ما قاله فلا ينحرف فعله عن المجرى الذي أراد عليه لا من جهته نفسه بأن يريد شيئا ثم يتردد في فعله أو يريده ثم يبدو له فلا يفعله ولا جهة غيره بأن يريد شيئا ويقطع به ويعزم عليه ثم يمنعه مانع من العقل أو يبدو إشكال يعترض عليه في طريق الفعل فكل ذلك من قهر القاهر وغلبة المانع الخارجي قال تعالى " والله غالب على أمره " يوسف - 21 وقال تعالى " إن الله بالغ أمره " الطلاق - 3 وقال تعالى حكاية عن موسى " قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " طه - 52 وقال تعالى " اليوم تجزي كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب " المؤمن - 17.
تدل هذه الآيات وما يشابهها على أنه تعالى إنما خلق الخلق ولم يغفل عن أمره ولم يجهل شيئا مما سيظهر منه ولم يندم على ما فعله ثم شرع لهم الشرائع تشريعا جديا فأصلا من غير هزل ولا خوف ولا رجاء ثم إنه يجزي كل ذي عمل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر من غير أن يغلبه تعالى غالب أو يحكم عليه حاكم من شريك أو فدية أو خلة أو شفاعة من دون إذنه فكل ذلك ينافي ملكه المطلق لما سواه من خلقه.
(14/360)
وعاشرا ما ذكروه من حديث الفداء وحقيقة الفداء أن يلزم الإنسان أو ما يتعلق به من نفس أو مال أثر سيئ من قتل أو فناء فيعوض بغيره أي شئ كان ليصان بذلك من لحوق ذلك الأثر به كما يفدي الإنسان الأسير بنفس أو مال وكما تفدي الجرائم والجنايات بالأموال ويسمى البدل فدية وفداء فالتفدية نوع معاملة ينتزع بها حق صاحب الحق وسلطنته عن المفدي عنه إلى الفداء فيستنقذ به المفدي عنه من أن يلحق به الشر.
ومن هنا يظهر أن الفداء غير معقول في ما يتعلق بالله سبحانه فإن السلطنة الإلهية على خلاف السلطنة الوضعية الاعتبارية الإنسانية سلطنة حقيقية واقعية غير جائزة التبديل مستحيلة الصرف فالأشياء بأعيانها وآثارها موجودة قائمة بالله سبحانه وكيف يتصور تغيير الواقع عما هو عليه فليس إلا أمرا لا يمكن تعقله فضلا عن أن يمكن وقوعه وهذا بخلاف الملك والسلطنة والحق وأمثالها الدائرة بيننا معاشر أبناء الاجتماع فإنها وأمثالها أمور وضعية اعتبارية زمامها بأيدينا نحن المجتمعين نبطلها مرة ونبدلها أخرى على حسب تغير مصالحنا في الحياة والمعاش (راجع ما تقدم من البحث في تفسير قوله تعالى " ملك يوم الدين " الحمد - 4 وقوله تعالى " قل اللهم مالك الملك الآية " آل عمران - 26).(14/361)
وقد نفى الله سبحانه الفدية بالخصوص في قوله " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار " الحديد - 15 وقد تقدم فيما مر أن من هذا القبيل قول المسيح فيما يحكيه الله تعالى عنه " {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} إلى أن قال {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "} المائدة - 118
فإن قوله وكنت عليهم الخ في معنى أنه لم يكن لي شأن فيهم إلا ما أنت وظفته علي وعينته وهو تبليغ الرسالة والشهادة على الأعمال ما دمت فيهم وأما هلاكهم ونجاتهم وعذابهم ومغفرتهم فإنما ذلك إليك من غير أن يرتبط بي شئ من ذلك أو يكون لي شأن فيه فأملك لهم شيئا منك أخرجهم به من عذابك أو تسلطك عليهم وفي ذلك نفى الفداء إذ لو كان هناك فداء لم يصح تبريه من أعمالهم وإرجاع العذاب والمغفرة معا إلى الله سبحانه بنفي ارتباطهما به أصلا.
وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون " البقرة - 48 وكذا قوله تعالى " يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " البقرة - 254 وقوله تعالى " يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم " المؤمن - 33 فإن العدل في الآية الأولى والبيع في الآية الثانية والعصمة من الله في الآية الثالثة مما ينطبق عليه الفداء فنفيها نفي الفداء.(14/362)
نعم أثبت القرآن الشريف في مورد المسيح الشفاعة بدل ما يثبتونه من الفداء والفرق بينهما أن الشفاعة (كما تقدم البحث عنها في قوله تعالى " واتقوا يوما لا تجزي " البقرة - 48 نوع من ظهور قرب الشفيع ومكانته لدى المشفوع عنده من غير أن يملك الشفيع منه شيئا أو يسلب عنه ملك أو سلطنة أو يبطل حكمه الذي خالفه المجرم أو يبطل قانون المجازاة بل إنما هو نوع دعاء واستدعاء من الشفيع لتصرف المشفوع عنده وهو الرب ما يجوز له من التصرف في ملكه وهذا التصرف الجائز مع وجود الحق هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حق أن يعذبه لمكان المعصية وقانون العقوبة.
فالشفيع يحضه ويستدعي منه أن يعمل بالعفو والمغفرة في مورد استحقاق العذاب للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنه كما مر معاملة يتبدل به سلطنة من شئ إلى شئ آخر هو الفداء ويخرج المفدي عنه عن سلطان القابل الآخذ للفداء.
ويدل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " الزخرف - 86 فإنه صريح في وقوع الشفاعة من المستثنى والمسيح (عليه السلام) ممن كانوا يدعونهم من دون الله وقد نص القرآن بأن الله علمه الكتاب والحكمة وبأنه من الشهداء يوم القيامة قال تعالى " ويعلمه الكتاب والحكمة " آل عمران - 48 وقال تعالى حكاية عنه " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم : المائدة - 117 وقال تعالى " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا : النساء - 159 فالآيات كما ترى تدل على كون المسيح (عليه السلام) من الشفعاء وقد تقدم تفصيل القول في هذا المعني في تفسير قوله تعالى " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا الآية : البقرة - 48. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 291 ـ 305}(14/363)
فصل
قال فى الميزان :
وأما حقيقة ما عند النصارى من قصة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أن قصته (عليه السلام) وما يتعلق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة التي هي أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا وكتاب أعمال الرسل للوقا وعدة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنا ويهوذا واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها أما إنجيل متى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنه صنف سنة 38 الميلادية وذكر آخرون أنه كتب ما بين سنة 50 إلى سنة 60 فهو مؤلف بعد المسيح.
والمحققون من قدمائهم ومتأخريهم على أنه كان أصله مكتوبا بالعبرانية ثم ترجم إلى اليونانية وغيرها أما النسخة الأصلية العبرانية فمفقودة وأما الترجمة فلا يدري حالها ولا يعرف مترجمها.
وأما إنجيل مرقس فمرقس هذا كان تلميذا لبطرس ولم يكن من الحواريين وربما ذكروا إنه أنما كتب إنجيله باشارة بطرس وأمره وكان لا يرى إلهية المسيح ولذلك ذكر بعضهم أنه إنما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرف المسيح تعريف رسول إلهي مبلغ لشرائع الله وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة 61 ميلادية.
وأما إنجيل لوقا فلوقا هذا لم يكن حواريا ولا رأى المسيح وإنما تلقن النصرانية من بولس وبولس كان يهوديا متعصبا على النصرانية يؤذي المؤمنين بالمسيح ويقلب الأمور عليهم ثم اتفق مفاجأة أن ادعى أنه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متبعيه وأنه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشر بإنجيله.(14/364)
وبولس هذا هو الذي شيد أركان النصرانية الحاضرة على ما هي عليها فبني التعليم على أن الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير مما في التوراة مع أن الإنجيل لم يأت إلا مصدقا لما بين يديه من التوراة ولم يحلل إلا أشياء معدودة وبالجملة إنما جاء عيسى ليقوم شريعة التوراة ويرد إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.
وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس وذلك بعد موت بطرس وبولس وقد صرح جمع بأن إنجيله ليس كتابا إلهاميا كسائر الأناجيل كما يدل عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.
وأما إنجيل يوحنا فقد ذكر كثير من النصارى أن يوحنا هذا هو يوحنا بن زبدي الصياد أحد التلاميذ الاثنى عشر الحواريين الذي كان يحبه المسيح حبا شديدا.
وذكروا أن شيرينطوس وابيسون وجماعتهما لما كانوا يرون أن المسيح ليس إلا إنسانا مخلوقا لا يسبق وجوده وجود أمه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة 96 ميلادية عند يوحنا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في اناجيلهم ويبين بنوع خصوصي لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم.
وقد اختلفت كلماتهم في السنة التي الف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنها سنة 65 وقائل أنها سنة 96 وقائل أنها سند 98.(14/365)
وقال جمع منهم أنه ليس تأليف يوحنا التلميذ فبعضهم على أنه تأليف طالب من طلبة المدرسة الإسكندرية وبعضهم على أن هذا الإنجيل كله وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه بل إنما صنفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني ونسبه إلى يوحنا ليعتبره الناس وبعضهم على أن إنجيل يوحنا كان في الأصل عشرين بابا فألحقت كنيسة أفاس الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم متى مرقس لوقا يوحنا بطرس بولس يهوذا ينتهي ركونهم كله إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متى وقد مر أنه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الذي ترجمه وكيف كان أصله وعلى ماذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم بألوهيته.
وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجار وأقام الدعوة إلى الله وكان يدعي أنه ابن الله مولود من غير أب بشري وأن أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل وأنه أحيى الميت وإبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجن من أبدانهم وأنه كان له اثنا عشر تلميذا أحدهم متى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحي الخ.
فهذا ملخص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحية على انبساطها على شرق الأرض وغربها وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم مبهم العين والوصف.(14/366)
وهذا الوهن العجيب في مبدأ القصة هو الذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من أوربا أن ادعى أن المسيح عيسى ابن مريم شخص خيالي صوره بعض النزعات الدينية على حكومات الوقت أو لها وتأيد ذلك بموضوع خرافي آخر يشبهه كل الشبه في جميع شئون القصة وهو موضوع كرشنا الذي تدعي وثنية الهند القديمة أنه ابن الله نزل عن لاهوته وفدى الناس بنفسه صلبا ليخلصهم من الأوزار والخطايا كما يدعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل كما سيجئ ذكره.
وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أن هناك شخصين مسميين بالمسيح المسيح غير المصلوب والمسيح المصلوب وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.
وأن التاريخ الميلادي الذي سنتنا هذه سنة ألف وتسعمائة وستة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأول غير المصلوب يتقدم عليه بما يزيد على مائتين وخمسين سنة وقد عاش نحوا من ستين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخر عنه بما يزيد على مائتين وتسعين سنة وقد عاش نحو من ثلاث وثلاثين سنة على أن عدم انطباق التاريخ الميلادي على ميلاد المسيح في الجملة مما لم يسع للنصارى إنكاره وهو سكتة تاريخية.
على أن ههنا أمورا مريبة موهمة اخرى فقد ذكروا أنه كتب في القرنين الأولين من الميلاد أناجيل كثيرة أخرى ربما أنهوها إلى نيف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثم حرمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلا الأناجيل الأربعة التي عرفت قانونية لموافقة متونها تعليم الكنيسة. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 311 ـ 315}(14/367)
قوله تعالى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بين سبحانه وتعالى فيما مضى أن التولي عن الرسل كفر ، وذكر كثيراً من الرسل فخص في ذكرهم وعمم ، ذكر قانوناً كلياً لمعرفة الرسول عنه سبحانه وتعالى والتمييز بينه وبين الكاذب فقال عاطفاً على {إذ أنتم مسلمون} {وإذ أخذ الله} أي الذي له الكمال كله {ميثاق النبيين} أي كافة ، والمعنى : ما كان له أن يقول ذلك بعد الإنعام عليكم بالإسلام والإنعام عليه بأخذ الميثاق على الناس - الأنبياء وغيرهم - بأن يؤمنوا به إذا آتاهم ، فيكون بذلك الفعل مكفراً لغيره وكافراً بنعمة ربه ، وهذا معنى قوله : {لما} أي فقال لهم الله : لما {آتيتكم} وقراءة نافع : آتيناكم ، أوفق لسياق الجلالة - قاله الجعبري {من كتاب وحكمة} أي أمرتكم بها بشرع من الشرائع ، فأمرتم بذلك من أرسلتم إليه {ثم جآءكم رسول} أي من عندي ، ثم وصفه بما يعلم أنه من عنده فقال : {مصدق لما معكم} أي من ذلك الكتاب والحكمة {لتؤمنن به} أي أنتم وأممكم {ولتنصرنه} أي على من يخالفه ، فكأنه قيل : إن هذا الميثاق عظيم ، فقيل : إنّ ، زاد في تأكيده اهتماماً به فقال : {قال ءأقررتم} أي يا معشر النبيين {وأخذتم على ذلكم} أي العهد المعظم بالإشارة بأداة البعد وميم الجمع {إصري} أي عهدي ، سمي بذلك لما فيه من الثقل ، فإنه يشد في نفسه بالتوثيق والتوثق ، ويشتد بعد كونه على النفوس لما لها من النزوع إلى الإطلاق عن عهد التقيد بنوع من القيود ، فكأنه قيل : ما قالوا ؟ فقيل : {قالوا أقررنا} أي بذلك ، فقيل : ما قال ؟ فقيل {قال فاشهدوا} أي يا أنبياء! بعضكم على بعض ، أو يا ملائكة! عليهم {وأنا معكم من الشاهدين فمن} أي فتسبب عنه أنه من {تولى} أي منكم أو من أممكم الذي بلغهم ذلك عن نصرة نبي موصوف بما ذكر.(14/368)
ولما كان المستحق لغاية الذم إنما هو من اتصل توليه بالموت لم يقرن الظرف بجار فقال : {بعد ذلك} أي الميثاق البعيد الرتبة بما فيه من الوثاقة {فأولئك} أي البعداء من خصال الخير {هم الفاسقون} أي المختصون بالخروج العظيم عن دائرة الحق. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 119}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم قطعاً لعذرهم وإظهاراً لعنادهم ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه ، وأخبر أنهم قبلوا ذلك وحكم تعالى بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين ، فهذا هو المقصود من الآية فحصل الكلام أنه تعالى أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقاً لما معهم إلا أن هذه المقدمة الواحدة لا تكفي في إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ما لم يضم إليها مقدمة أخرى ، وهي أن محمداً رسول الله جاء مصدقاً لما معهم ، وعند هذا لقائل أن يقول : هذا إثبات للشيء بنفسه ، لأنه إثبات لكونه رسولاً بكونه رسولاً.
والجواب : أن المراد من كونه رسولاً ظهور المعجز عليه ، وحينئذ يسقط هذا السؤال والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 101}
فصل
قال الفخر :
أما قوله {وَإِذْ أَخَذَ الله} فقال ابن جرير الطبري : معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيّين ، وقال الزجاج : واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله ميثاق النبيّين.(14/369)
أما قوله {ميثاق النبيين} فاعلم أن المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول ، فيحتمل أن يكون الميثاق مأخوذاً منهم ، ويحتمل أن يكون مأخوذاً لهم من غيرهم ، فلهذا السبب اختلفوا في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين.
أما الاحتمال الأول : وهو أنه تعالى أخذ الميثاق منهم في أن يصدق بعضهم بعضاً ، وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس رحمهم الله ، وقيل : إن الميثاق هذا مختص بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو مروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي رضوان الله عليهم ، واحتج أصحاب هذا القول على صحته من وجوه
الأول : أن قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} يشعر بأن آخذ الميثاق هو الله تعالى ، والمأخوذ منهم هم النبيون ، فليس في الآية ذكر الأمة ، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة ، ويمكن أن يجاب عنه من وجوه
الأول : أن على الوجوه الذي قلتم يكون الميثاق مضافاً إلى الموثق عليه ، وعلى الوجه الذي قلنا يكون إضافته إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل ، وهو الموثق له ، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل أقوى من إضافته إلى المفعول ، فإن لم يكن فلا أقل من المساواة ، وهو كما يقال ميثاق الله وعهده ، فيكون التقدير : وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الله للأنبياء على أممهم
الثاني : أن يراد ميثاق أولاد النبيّين ، وهو بنو إسرائيل على حذف المضاف وهو كما يقال : فعل بكر بن وائل كذا ، وفعل معد بن عدنان كذا ، والمراد أولادهم وقومهم ، فكذا ههنا
الثالث : أن يكون المراد من لفظ {النبيين} أهل الكتاب وأطلق هذا اللفظ عليهم تهكماً بهم على زعمهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوّة من محمد عليه الصلاة والسلام لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون(14/370)
الرابع : أنه كثيراً ورد في القرآن لفظ النبي والمراد منه أمته قال تعالى : {ياأيها النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [ الطلاق : 1 ].
الحجة الثانية : لأصحاب هذا القول : ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي ".
الحجة الثالثة : ما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال : إن الله تعالى ما بعث آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد عليه الصلاة والسلام وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، فهذا يمكن نصرة هذا القول به والله أعلم.
الاحتمال الثاني : إن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه ، وهذا قول كثير من العلماء ، وقد بينا أن اللفظ محتمل له وقد احتجوا على صحته بوجوه
الأول : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني فقال : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه ، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من زمرة الأموات ، والميت لا يكون مكلفاً فلما كان الذين أخذ الميثاق عليهم يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام ، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيّين بل هم أمم النبيّين قال : ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما يليق بالأمم ،
(14/371)
أجاب القفال رحمه الله فقال لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ، ونظيره قوله تعالى : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [ الزمر : 65 ] وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض فكذا ههنا ، وقال : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [ الحاقة : 44 ، 45 ، 46 ] وقال في صفة الملائكة {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظالمين } [ الأنبياء : 29 ] مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يسبقونه بالقول وبأنهم يخافون ربهم من فوقهم ، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير فكذا ههنا ، ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك ، وقد ذكر تعالى ذلك على سبيل الفرض والتقدير في قوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [ الزمر : 65 ] فكذا ههنا.
الحجة الثانية : أن المقصود من هذه الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء عليهم السلام ، وقد أجيب عن ذلك بأن درجات الأنبياء عليهم السلام ، أعلى وأشرف من درجات الأمم ، فإذا دلت هذه الآية على أن الله تعالى أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام لو كانوا في الأحياء ، وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجباً على أممهم لو كان ذلك أولى ، فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المطلوب من هذا الوجه.(14/372)
الحجة الثالثة : ما روي عن ابن عباس أنه قيل له إن أصحاب عبد الله يقرؤن {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب} ونحن نقرأ {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} فقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما أخذ الله ميثاق النبيّين على قومهم.
الحجة الرابعة : أن هذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى : {يابنى إسرائيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} وبقوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [ آل عمران : 187 ] فهذا جملة ما قيل في هذا الموضوع ، والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 101 ـ 103}
قال الطبرى :
وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : الخبرُ عن أخذ الله الميثاقَ من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضًا ، وأخذ الأنبياء على أممها وتُبَّاعها الميثاقَ بنحو الذي أخذَ عليها ربُّها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها. ولم يدَّع أحدٌ ممن صدَّق المرسلين ، أن نبيًّا أرسِل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحُجَجه في عباده بل كلها وإن كذب بعض الأمم بعض أنبياء الله ، بجحودها نبوّته مقرّةٌ بأنّ من ثبتت صحّة نبوته ، فعليها الدينونة بتصديقه. فذلك ميثاق مقرٌّ به جميعهم.
ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء. لأن الله عز وجل قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين ، فسواءٌ قال قائل : "لم يأخذ ذلك منها ربها" أو قال : "لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت" ، وقد نصّ الله عز وجل أنه أمرها بتبليغه ، لأنهما جميعًا خبرَان من الله عنها : أحدهما أنه أخذ منها ، والآخر منهما أنه أمرَها. فإن جاز الشك في أحدهما ، جازَ في الآخر.
(14/373)
وأما ما استشهد به الربيع بن أنس ، على أن المعنيَّ بذلك أهلُ الكتاب من قوله : "لتؤمنن به ولتنصرنه" ، فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال. لأن الأنبياء قد أمر بعضُها بتصديق بعض ، وتصديقُ بعضها بعضًا ، نُصرةٌ من بعضها بعضًا. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 557}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
العامل في " إذْ " وجوه :
أحدها : " اذكر " إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني : " اذكروا " إن كان الخطاب لأهل الكتابِ.
الثالث : اصطفى ، فيكون معطوفاً على " إذْ " المتقدمة قبلها ، وفيه بُعْدٌ ؛ بل امتناع ؛ لبُعْده.
الرابع : أن العامل فيه " قَالَ " في قوله : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ } وهو واضح.
وميثاق ، يجوز أن يكون مضافاً لفاعله ، أو لمفعوله ، وفي مصحف أبيّ وعبد الله وقراءتهما : { مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ آل عمران : 187 ]. وعن مجاهد ، وقال : أخطأ الكاتب.
قال شهابُ الدين : " وهذا خطأٌ من قائله - كائناً مَنْ كان - ولا أظنه عن مجاهد ؛ فإنه قرأ عليه مثل ابن كثير وأبي عمرو بن العلاء ، ولم يَنْقُلْ عنه واحدٌ منهما شيئاً مِنْ ذلك ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 354}
قوله تعالى : {لَمَا ءَاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ}
فصل
قال الفخر :
قرأ الجمهور {لَّمّاً} بفتح اللام وقرأ حمزة بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير {لَّمّاً} مشددة ، أما القراءة بالفتح فلها وجهان
الأول : أن {مَا} اسم موصول والذي بعده صلة له وخبره قوله {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} والتقدير : للذي آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ، وعلى هذا التقدير ( مَا ) رفع بالابتداء والراجع إلى لفظة ( مَا ) وموصولتها محذوف والتقدير : لما آتيتكموه فحذف الراجع كما حذف من قوله {أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً} [ الفرقان : 41 ] وعليه سؤالان :(14/374)
السؤال الأول : إذا كانت ( مَا ) موصولة لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلا لم يجز ، ألا ترى أنك لو قلت : الذي قام أبوه ثم انطلق زيد لم يجز.
وقوله {ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ} ليس فيه راجع إلى الموصول ، قلنا : يجوز إقامة المظهر مقام المضمر عند الأخفش والدليل عليه قوله تعالى : {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [ يوسف : 90 ] ولم يقل : فإن الله لا يضيع أجره ، وقال : {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [ الكهف : 30 ] ولم يقل : إنا لا نضيع أجرهم وذلك لأن المظهر المذكور قائم مقام المضمر فكذا ههنا.
السؤال الثاني : ما فائدة اللام في قوله {لَّمّاً} ؟
قلنا : هذه اللام هي لام الابتداء بمنزلة قولك : لزيد أفضل من عمرو ، ويحسن إدخالها على ما يجري مجرى المقسم عليه لأن قوله {إِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} بمنزلة القسم والمعنى استحلفهم ، وهذه اللام المتلقية للقسم ، فهذا تقرير هذا الكلام.
الوجه الثاني : وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج أن ( مَا ) ههنا هي المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ، فاللام في قوله {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} هي المتلقية للقسم ، أما اللام في {لَّمّاً} هي لام تحذف تارة ، وتذكر أخرى ، ولا يتفاوت المعنى ونظيره قولك : والله لو أن فعلت ، فعلت فلفظة ( أن ) لا يتفاوت الحال بين ذكرها وحذفها فكذا ههنا ، وعلى هذا التقدير كانت ( ما ) في موضع نصب بآتيتكم {وَجَاءكُمُ} جزم بالعطف على {ءاتَيْتُكُم}(14/375)
و{لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} هو الجزاء ، وإنما لم يرض سيبويه بالقول الأول لأنه لا يرى إقامة المظهر مقام المضمر ، وأما الوجه في قراءة {لَّمّاً} بكسر اللام فهو أن هذا لام التعليل كأنه قيل : أخذ ميثاقهم لهذا لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل ( وَمَا ) على هذه القراءة تكون موصولة ، وتمام البحث فيه ما قدمناه في الوجه الأول ، وأما قراءة {لَّمّاً} بالتشديد فذكر صاحب "الكشاف" فيه وجهين
الأول : أن المعنى : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق له ، وجب عليكم الإيمان به ونصرته
والثاني : أن أصل {لَّمّاً} لمن ما فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات ، وهي الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم فحذفوا إحداها فصارت {لَّمّاً} ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به ، وهذا قريب من قراءة حمزة في المعنى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 103}
وقال ابن عادل :
قرأ العامَّة : " لما آتيتكم " بفتح لام " لما " وتخفيف الميم ، وحمزة - وحده - على كسر اللام. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير " لَمَّا " بالفتح والتشديد.
فأما قراءة العامة ففيها خمسة أوجه :
أحدها : أن تكون " ما " موصولة بمعنى الذي ، وهي مفعولة بفعل محذوف ، ذلك الفعل هو جواب القسم والتقدير : واللهِ لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتاب. قال هذا القائلُ : لأن لامَ القسَم إنما تقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على الفعل حُذِف. ثم قال تعالى : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم قال : وعلى هذا التقدير يستقيم النَّظْمُ.
وقال شهاب الدينِ : وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوز ألبتة ؛ إذ يمتنع أن تقول في نظيره من الكلام : " والله لزيداً " تريد : والله لنضربن زيداً.(14/376)
الوجه الثاني : وهو قول أبي علي وغيره : أن تكون اللام - في " لَمَا " - جواب قوله : { مِيثَاقَ النبيين } لأنه جارٍ مَجْرَى القسم ، فهي بمنزلة قولك : لزيدٌ أفضل من عمرو ، فهي لام الابتداء المتلَقَّى بها القسم وتسمى اللام المتلقية للقسم. و" ما " مبتدأة موصولة و" آتيتكم " صلتها ، والعائد محذوف ، تقديره : آتيناكموه فحذف لاستكمال شرطه. و{ مِّن كِتَابٍ } حال - إما من الموصول ، وإما من عائده - وقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } عطف على الصلة ، وحينئذٍ فلا بد من رابط يربط هذه الجملةَ بما قبلها ؛ فإن المعطوفَ على الصلة صِلة.
واختلفوا في ذلك ، فذهب بعضهم إلى أنه محذوف ، تقديره : جاءكم رسول به ، فحذف " به " لطول الكلام ودلالة المعنى عليه. وهذا لا يجوز ؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَف إلا بشروط ، وهي مفقودةٌ هنا ، [ وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه ، وفيه ما قد عرفت ، ومنهم من ] قال : الربط حصل - هنا - بالظاهر ، لأن الظاهر - وهو قوله " لما معكم " صادق على قوله : " لما آتيناكم " فهو نظير : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ، والحجاج الذي رأيت أبو يوسف.
وقال : [ الطويل ]
فَيَا رَبَّ لَيْلَى أنْتَ في كُلِّ مَوْطِنٍ... وَأنْتَ الَّذِي فِي رَحْمةِ اللهِ أطْمَعُ
يريد رويت عنه ، ورأيته ، وفي رحمته. فأقام الظاهر مقام المضمر ، وقد وقع ذلك في المبتدأ والخبر ، نحو قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] ولم يقل : إنا لا نضيع ، وقال تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } [ يوسف : 90 ] ولم يقل : لا يضيع أجره وهذا رأي أبي الحسن والأخفش. وقد تقدم البحث فيه.(14/377)
ومنهم من قال : إن العائد يكون ضمير الاستقرار العامل في " مَعَ " و" لتؤمنن به " جوابُ قسمٍ مقدرٍ ، وهذا القَسَم المقدَّر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو " لما آتيناكم " والهاء - في " بِهِ " - تعود على المبتدأ ، ولا تعود على " رَسُولٌ " لئلاَّ يلزم خلُوّ الجملة الواقعة خبراً من رابط يربطها بالمبتدأ.
الوجه الثالث : كما تقدم ، إلا أن اللام في " لَمَا " لام التوطئة ؛ لأن أخذ الميثاق في معنى الاستخلاف. وفي " لتؤمنن " لام جواب القسم ، هذا كلام الزمخشريِّ. ثم قال : و" ما " تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط ، و" لَتُؤمِنُنَّ " سادّ مَسَدّ جواب القَسَم والشرط جميعاً ، وأن تكون بمعنى الذي. وهذا الذي قاله فيه نظرٌ ؛ من حيثُ إن لام التوطئة تكون مع أدوات الشرط ، وتأتي - غالباً - مع " إن " أما مع الموصول فلا يجوزُ في اللام أن تكون موطئةً وأن تكون للابتداء. ثم ذكر في " ما " الوجهين ، لحملنا كل واحد على ما يليق به. الوجه الرابع : أن اللام هي الموطئة ، و" ما " بعدها شرطية ، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها - وهو " آتيْنَاكُمْ " ، وهذا الفعل مستقبل معنًى ؛ لكونه في جزاء الشرط ، ومحله الجزم ، والتقدير : واللهِ لأي شيء آتيتكم من كذا وكذا ليكونن كذا ، وقوله : { مِّن كِتَابٍ } ، كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] وقد تقدم تقريره. وقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } عطف على الفعل قبله ، فيلزم أن يكون فيه رابط يربطه بما عُطِف عليه ، و" لَتُؤمِنُنَّ " جواب لقوله : { أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } وجواب الشرط محذوف ، سَدَّ جوابُ القسم مَسَدَّه ، والضمير في " بِهِ " عائد على " رَسُولٌ " ، كذا قال أبو حيّان.
(14/378)
قال شهاب الدين : " وفيه نظر ؛ لأنه يمكن عودُه على اسم الشرط ، ويُستغنَى - حينئذٍ - عن تقديره رابطاً ".
وهذا كما تقدم في الوجه الثاني ونظير هذا من الكلام أن نقول : أحلف بالله لأيهمْ رأيت ، ثم ذهب إليه رجل قرشي لأحسنن إليه - تريد إلى الرجل - وهذا الوجه هو مذهب الكسائي.
وقد سأل سيبويه الخليل عن هذه الآية ، فأجاب بأن " ما " بمنزلة الذي ، ودخلت اللام على " ما " كما دخلت على " إن " حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، فاللام التي في " ما " كهذه التي في " إن " واللام التي في الفعل كهذه اللام التي في الفعل هنا. هذا نصُّ الخليلِ.
قال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : إنما بمنزلة الذي كونها موصولة ، بل إنها اسم كما أن " الذي " اسم وإما أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ } [ هود : 111 ] وقوله : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا } [ الزخرف : 35 ].
وقال سيبويه : ومثل ذلك { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } [ الأعراف : 18 ] إنما دخلت اللام على نية اليمين. وإلى كونها شرطية ذهب جماعة كالمازني والزجَّاج والفارسيّ والزمخشري.
قال أبو حيّان : " وفيه خدش لطيف جدًّا " وحاصل ما ذكر : أنهم إن أرادوا تفسير المعنى فيمكن أن يقال ، وإن أرادوا تفسير الإعراب فلا يصح ؛ لأن كلاَّ منهما - أعني : الشرط والقسم - يطلب جواباً على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما ؛ لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل ، فيكون في موضع جزمٍ ، والقسم يطلبه على جهة التعلُّق المعنويّ به من غير عملٍ ، فلا موضع له من الإعراب ، ومحال أن يكون الشيءُ له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب. [ وتقدم هذا الإشكال وجوابه ].
(14/379)
الوجه الخامس : أن أصلها " لَمّا " - بالتشديد - فخُفِّفَتْ ، وهذا قول أبي إسحاق وسيأتي في قراءة التشديد ، وقرأ حمزة لما - بكسر اللام ، خفيفة الميم - أيضاً - وفيها أربعة أوجه :
أحدها : وهو أغربها - أن تكون اللام بمعنى " بَعْد ".
كقول النابغة : [ الطويل ]
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لها فعَرفْتُهَا... لِسِتّةِ أعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
يريد : فعرفتها بعد ستة أعوام ، وهذا منقول عن صاحب النَّظْم.
قال شهاب الدين : " ولا أدري ما حمله على ذلك ؟ وكيف ينتظم هذا كلاماً ؟ إْ يصير تقديره : وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين بعدما آتيتكم ، ومَن المخاطب بذلك ؟ ".
الثاني : أن اللام للتعليل - وهذا الذي ينبغي أن لا يُحَاد عنه - وهي متعلِّقة بـ " لتؤمنن " و" ما " حينئذٍ - مصدرية.
قال الزمخشري : " ومعناه : لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدق لتؤمنن به على أن " ما " مصدرية ، والفعلان معها - أعني : " آتيناكم " و" جاءكم " - في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل ، والمعنى : أخذ اللهُ ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ، ولينصرنه ، لأجل أن آتيتكم الكتابَ والحكمةَ ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونُصْرَتِهِ موافق لكم ، غير مخالف لكم ".
(14/380)
قال أبو حيّان : وظاهر هذا التعليل الذي ذكره ، والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعل المقسَم فإن عنى هذا الظاهر ، فهو مخالفٌ لظاهر الآية ؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخْذ الميثاق ، لا لمتعلِّقه - وهو الإيمان - فاللام متعلقة بـ " أخَذَ " وعلى ظاهر تقدير الزمخشريِّ تكون متعلقة بقوله : { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلَقَّى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها تقول : والله لأضربن زيداً ، ولا يجوز : والله زيداً لأضربن ، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في " لَمَا " بقوله : " لتؤمنن ".
وأجاز بعض النحويين في معمول الجواب - إذا كان ظرفاً أو مجروراً - تَقَدُّمَه ، وجعل من ذلك قوله : { عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [ المؤمنون : 40 ].
وقوله : [ الطويل ]
......................... بِأسْحَم دَاجٍ عَوْضُ لا نتفَرَّقُ
فعلى هذا يجوز أن يتعلق بقوله : { لَتُؤْمِنُنَّ }.
قال شهاب الدين " أما تعلُّق اللام بـ { لَتُؤْمِنُنَّ } - من حيث المعنى - فإنه أظهر من تعلُّقِها بـ " أخذ " فلم يَبْقَ إلا ما ذكر من منع تقديم معمول الجواب المقترن بالام عليه ، وقد يكون الزمخشريُّ ممن يرى جوازه ".
والثالث : أن تتعلق اللام بـ " أخَذَ " ، أي لأجل إيتائي إياكم كيت وكيت ، أخذت عليكم الميثاقَ ، وفي الكلام حذفُ مضاف ، تقديره : رعاية ما آتيتكم.
الرابع : أن تتعلق بـ " المِيثاق " ، لأنه مصدر ، أي : توثقنا عليهم لذلك.
هذه الأوجه بالنسبة إلى اللام ، وأما " ما " ففيها ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون مصدرية كما تقدم عن الزمخشريِّ.
(14/381)
والثاني : أنها موصولة بمعنى " الذي " وعائدها محذوف ، و{ ثُمَّ جَآءَكُمْ } ، عطف على الصلة ، والرابط بالموصول إما محذوف ، تقديره : به ، وإما قيام الظاهر مقام المضمر ، وهو رأي الأخفشِ ، وإما ضمير الاستقرار الذي تضمنه " مَعَكُمْ ".
والثالث : أنها نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها ، وعائدها محذوف ، { ثُمَّ جَآءَكُمْ } عطف على الصفة ، والكلام في الرابط كما تقدم فيها وهي صلة ، إلا أن إقامة الظاهر مُقَامه في الصفة ممتنع ، لو قلت : مررت برجل قام أبو عبد الله - على أن يكون قام أبو عبد الله صفة لرجل ، والرابط أبو عبد الله ، إذ هو الرجلُ في المعنى - لم يجز ذلك ، وإن جاز في الصلة والخبر - عند من يرى ذلك - فيتعين عود ضمير محذوف وجواب قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ } قوله : { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } والضمير في " بِهِ " عائد على " رَسُولٌ " ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور ، فلو قلت أقسمت لَلْخَبر الذي بلغني عن عمرو لأحْسِنَنَّ إليه ، جاز.
وقوله : { مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } إما حالٌ من الموصول ، أو من عائده ، وإمّا بيانٌ له فامتنع في قراءة حمزة أن تكون " ما " شرطية ، كما امتنع - في قراءة الجمهورِ - أن تكون مصدرية.
وأما قراءة التشديد ففيها أوجهٌ :
أحدها : أن " لَمَّا " هنا - ظرفية ، بمعنى " حين " ثم القائل بظرفيتها اختلف تقديره في جوابها ، فذهب الزمخشري إلى أن الجواب مقدَّر من جنس جواب القسم ، فقال : " لَمَّا " - بالتشديد - بمعنى " حين " أي حين آتيتكم الكتاب والحكمة ، ثم جاءكم رسول ، وجب عليكم الإيمان به ، ونُصْرَتُه.
(14/382)
وقال ابن عطية : ويظهر أن " لَمَّا " هذه هي الظرفية ، أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأمثالهم أخذ عليكم الميثاق ؛ إذ على القادة يُؤخَذ ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ فقدر ابن عطية جوابها من جنس ما سبقها ، وهذا الذي ذهب إليه مذهبٌ مرجوحٌ ، قال به الفارسيُّ والجمهور وسيبويه وأتباعه والجمهور.
وقال الزجَّاجُ : أي : لما ىتاكم الكتاب والحكمة ، أي : أخذ عليكم الميثاق وتكون لما يؤول إلى الجزاء ، كما تقول : لما جئتني أكرمتك.
وهذه العبارة لا يؤخذ منها كون " لما " ظرفية ، ولا غير ذلك ، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابها من جنس ما تقدمها ، بخلاف تقدير الزمخشريِّ.
الثاني : أن " لَمَّا " حرف وجوب لوجوب ، وهو مذهب سيبويه ، وجوابها كما تقدم من تقديري ابن عطيةَ والزمخشري ، وفي قول ابن عطيةَ : فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ - نظر ؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل ، وهذه القراءة لا تعليل فيها ، اللهم إلا أن يقال : لما كانت " لَمَّا " تحتاج إلى جواب أشبه ذلك العلة ومعمولها ؛ لأنك إذا قلت : لما جئتني أكرمتك ؛ في قوة : أكرمتك لأجل مجيئي إليه ، فهي من هذه الجهة كقراءة حمزة.
والثالث : أن الأصل : لمن ما ، فأدغمت النون في الميم ، لأنها تقاربها ، والإدغام - هنا - واجبٌ ، ولما اجتمع ثلاث ميمات : ميم " من " وميم " ما " والميم التي انقلبت من نون - من أجل الإدغام - فحصل ثقل في اللفظ ، قال الزمخشريُّ : " فحذفوا إحداها ".
(14/383)
قال أبو حيّان : وفيه إبهام ، وقد عيَّنها ابنُ جني بأن المحذوف هي الأولى ، وفيه نظرٌ ؛ لأن الثقل إنما حصل بما بعد الأولى ، ولذلك كان الصحيحُ في نظائره إنما هو حذف الثاني ، في نحو { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] وقد ذكر أبو البقاء أن المحذوفة هي النافية ، قال : " لضعفها بكونها بدلاً ، وحصول التكرير بها " و" مِنْ " هذه التي في لمن ما زائدة في الواجب على رأي الأخفشِ - وهذا تخريج أبي الفتح ، وفيه نظر بالنسبة إلى ادِّعائه زيادة " من " ، فإن التركيب يقلق على ذلك ، ويبقى المعنى غير ظاهر.
الرابع : أن الأصل - أيضاً - لِمَنْ ما ، ففُعِل به ما تقدم من القلبِ والإدغامِ ، ثم الحذف ، إلا أن " من " ليست زائدة ، بل هي تعليلية ، قال الزمخشريُّ : " ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى ".
وهذا الوجه أوجه مما تقدمه ؛ لسلامته من ادِّعاء زيادة " من " ولوضوح معناه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 356 ـ 362}
فصل
قال الفخر : (14/384)
قرأ نافع {ءاتيناكم} بالنون على التفخيم ، والباقون بالتاء على التوحيد ، حجة نافع قوله {وَءَاتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً} [ النساء : 163 ] {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} [ مريم : 12 ] {وءاتيناهما الكتاب المستبين} [ الصافات : 117 ] ولأن هذا أدل على العظمة فكان أكثر هيبة في قلب السامع ، وهذا الموضع يليق به هذا المعنى ، وحجة الجمهور قوله {هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ ءايات بينات} [ الحديد : 9 ] و{الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [ الكهف : 1 ] وأيضاً هذه القراءة أشبه بما قبل هذه الآية وبما بعدها لأنه تعالى قال قبل هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ الله} وقال بعدها {إِصْرِى} وأجاب نافع عنه بأن أحد أبواب الفصاحة تغيير العبارة من الواحد إلى الجمع ومن الجمع إلى الواحد قال تعالى : {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إسرائيل أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى} [ الإسراء : 2 ] ولم يقل من دوننا كما قال : {وجعلناه} ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 104}
قال الطبرى :
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب (1) قراءةُ من قرأ : "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم" ، بفتح"اللام". لأن الله عز وجل أخذ ميثاقَ جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم ، كان ممن آتاه كتابًا أو ممن لم يؤته كتابًا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله عز وجل ورسله ، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذْ كان ذلك كذلك ، وكان معلومًا أن منهم من أنزل عليه الكتابَ ، وأنّ منهم من لم ينزل عليه الكتاب كان بينًا أن قراءة من قرأ ذلك : "لمِا آتيتكم" ، بكسر"اللام" ، بمعنى : من أجل الذي آتيتكم من كتاب ، لا وجه له مفهومٌ إلا على تأويل بعيد ، وانتزاع عميق. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 552 ـ 553}
______________
(1) لا يجوز الترجيح بين القراءات المتواترة وهذا أمر متكرر من الإمام الطبرى فليتأمل.(14/385)
فائدة
قال ابن عادل :
وفي قوله : " آتيتكم " و" آتيناكم " على كلتا القراءتين - التفاتان :
الأول : الخروج من الغيبة إلى التكلم في قوله : " آتينا " أو " آتيت " لأن قبله ذكر الجلالة المعظمة في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله }.
والثاني : الخروج من الغيبة إلى الخطاب في قوله : " آتيناكم " لأنه قد تقدمه اسم ظاهر ، وهو { النبيين } إذ لو جرى على مقتضي تقدُّم الجلالة والنبيين لكان الترتيب : وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاهم من كتاب. كذا قال بعضهم ، وفيه نظرٌ ؛ لأن مثل هذا لا يُسَمَّى التفاتاً في اصطلاحهم ، وإنما يسمى حكاية الحال ، ونظيره قولك : حلف زيد ليفعلن ، ولأفعلن ، فالغيبة مراعاة لتقدم الاسم الظاهر ، والتكلُّم حكاية لكلام الحالف. والآية الكريمة من هذا. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 362}
فصل
قال الفخر :(14/386)
إنه تعالى ذكر النبيّين على سبيل المغايبة ثم قال : {ءَاتَيْتُكُم} وهو مخاطبة إضمار والتقدير : وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين فقال مخاطباً لهم لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، والإضمار باب واسع في القرآن ، ومن العلماء من التزم في هذه الآية إضماراً آخر وأراح نفسه عن تلك التكلفات التي حكيناها عن النحويين فقال تقدير الآية : وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة ، قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه لأن لام القسم إنما يقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصاراً ثم قال تعالى بعده {ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ولا يحتاج إلى تكليف تلك التعسفات ، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار فهذا الإضمار الذي به ينتظم الكلام نظماً بيناً جلياً أولى من تلك التكلفات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 104}
فصل
قال الفخر :
في قوله {لَمَا ءَاتَيْتُكُم مّن كتاب} إشكال ، وهو أن هذا الخطاب إما أن يكون مع الأنبياء أو مع الأمم ، فإن كان مع الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب ، وإنما أوتي بعضهم وإن كان مع الأمم ، فالإشكال أظهر ، والجواب عنه من وجهين
الأول : أن جميع الأنبياء عليهم السلام أوتوا الكتاب ، بمعنى كونه مهتدياً به داعياً إلى العمل به ، وإن لم ينزل عليه
والثاني : أن أشرف الأنبياء عليهم السلام هم الذين أوتوا الكتاب ، فوصف الكل بوصف أشرف الأنواع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 104}
فائدة
قال الفخر :
الكتاب هو المنزل المقروء والحكمة هي الوحي الوارد بالتكاليف المفصلة التي لم يشتمل الكتاب عليها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 104}(14/387)
قوله تعالى : {ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ}
أسئلة وأجوبة للعلامة الفخر
السؤال الأول : ما وجه قوله {ثُمَّ جَاءكُمْ} والرسول لا يجيء إلى النبيّين وإنما يجيء إلى الأمم ؟.
والجواب : إن حملنا قوله {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} على أخذ ميثاق أممهم فقد زال السؤال وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيّين أنفسهم كان قوله {ثُمَّ جَاءكُمْ} أي جاء في زمانكم.
السؤال الثاني : كيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم مع مخالفة شرعه لشرعهم ،
قلنا : المراد به حصول الموافقة في التوحيد ، والنبوات ، وأصول الشرائع ، فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها ؛ فذلك في الحقيقة ليس بخلاف ، لأن جميع الأنبياء عليهم السلام متفقون على أن الحق في زمان موسى عليه السلام ليس إلا شرعه وأن الحق في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا شرعه ، فهذا وإن كان يوهم الخلاف ، إلا أنه في الحقيقة وفاق ، وأيضاً فالمراد من قوله {ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ} هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد بكونه مصدقاً لما معهم هو أن وصفه وكيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل ، فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان مذكوراً في تلك الكتب ، كان نفس مجيئه تصديقاً لما كان معهم ، فهذا هو المراد بكونه مصدقاً لما معهم.
السؤال الثالث : حاصل الكلام أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقاً لما معهم فما معنى ذلك الميثاق.(14/388)
والجواب : يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه ، فتقدير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من أخذ الميثاق ، ويحتمل أن يكون المراد من أخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته في كتب الأنبياء المتقدمين ، فإذا صارت أحواله مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية المتقدمة وجب الانقياد له ، فقوله تعالى : {ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ} يدل على هذين الوجهين ، أما على الوجه الأول ، فقوله {رَّسُول} وأما على الوجه الثاني ، فقوله {مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 104 ـ 105}
قوله تعالى {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ}
قال الفخر :
أما قوله {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} فالمعنى ظاهر ، وذلك لأنه تعالى أوجب الإيمان به أولاً ، ثم الاشتغال بنصرته ثانياً ، واللام في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} لام القسم ، كأنه قيل : والله لتؤمنن به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 105}
قوله تعالى : {قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى}
فصل
قال الفخر : (14/389)
إن فسرنا قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} بأنه تعالى أخذ المواثيق على الأنبياء كان قوله تعالى {أأقررتم} معناه : قال الله تعالى للنبيّين أأقرتم بالإيمان به والنصرة له وإن فسرنا أخذ الميثاق بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخذوا المواثيق على الأمم كان معنى قوله {قَالَ أأقررتم} أي قال كل نبي لأمته أأقررتم ، وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه ، وإن كانت النبيون أخذوه على الأمم ، فكذلك طلب هذا الإقرار أضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا المعنى وتأكيده ، فلم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم ، بل طالبوهم بالإقرار بالقول ، وأكدوا ذلك بالإشهاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 105}
قال ابن عادل :
قوله : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ } فاعل " قَالَ " يجوز أن يكون ضمير الله - تعالى - وهو الظاهر - وأن يكون ضمير النبي الذي هو واحد النبيين ، خاطب بذلك أمَّته ، ومتعلَّق الإقرار محذوف ، أي : أقررتم بذلك كله ؟ والاستفهام - على الأول - مجاز ؛ إذ المراد به التقرير والتوكيد عليهم ؛ لاستحالته في حق الباري تعالى ، وعلى الثاني : هو استفهام حقيقة.
و " إصري " على الأول - الياء لله - تعالى - وعلى الثاني للنبيّ صلى الله عليه وسلم.(14/390)
وقرأ العامة " إصري " بكسر الهمزة ، وهي الفصحى ، وقرأ أبو بكر عن عاصم - في رواية - " أُصْرِي " بضمها ثم المضموم الهمزة يحتمل أن يكون لغة في المكسور - وهو الظاهرُ - ويحتمل أن يكون جمع إصار ومثله أزُر في جميع إزار ، والإصر : الثقل الذي يلحق الإنسان ؛ لأجل ما يلزمه من عَمَلٍ ، قال الزمخشري : " سُمِّي العهدُ إصْراً ؛ لأنه مما يؤصر ، أي : يُشَدّ ، ويُعْقَد ، ومنه الإصار الذي يُعْقَد به " وتقدم الكلام عليه في آخر البقرة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 364}
فصل
قال الفخر :
الإقرار في اللغة منقول بالألف من قر الشيء يقر ، إذا ثبت ولزم مكانه وأقره غيره والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته.
أما قوله تعالى : {ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى} أي قبلتم عهدي ، والأخذ بمعنى القبول كثير في الكلام قال تعالى : {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [ البقرة : 48 ] أي يقبل منها فدية وقال : {وَيَأْخُذُ الصدقات} [ التوبة : 104 ] أي يقبلها والإصر هو الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلزمه من عمل قال تعالى : {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} [ البقرة : 286 ] فسمى العهد إصراً لهذا المعنى ، قال صاحب "الكشاف" : سمى العهد إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد ، ومنه الإصار الذي يعقد به وقرىء {إِصْرِى} ويجوز أن يكون لغة في إصر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 105 ـ 106}
قوله تعالى : {قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون}
فصل
قال الفخر :
وفي تفسير قوله {فَاشْهدُواْ} وجوه
الأول : فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضاً {مّنَ الشاهدين} وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض(14/391)
الثاني : أن قوله {فَاشْهدُواْ} خطاب للملائكة
الثالث : أن قوله {فَاشْهدُواْ} أي ليجعل كل أحد نفسه شاهداً على نفسه ونظيره قوله {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا} [ الأعراف : 172 ] على أنفسنا وهذا من باب المبالغة
الرابع : {فَاشْهدُواْ} أي بينوا هذا الميثاق للخاص والعام ، لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به ، وأصله أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى
الخامس : {فَاشْهدُواْ} أي فاستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق ، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له السادس : إذا قلنا إن أخذ الميثاق كان من الأمم فقوله {فَاشْهدُواْ} خطاب للأنبياء عليهم السلام بأن يكونوا شاهدين عليهم.
وأما قوله تعالى : {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين} فهو للتأكيد وتقوية الإلزام ، وفيه فائدة أخرى وهي أنه تعالى وإن أشهد غيره ، فليس محتاجاً إلى ذلك الإشهاد ، لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية لكن لضرب من المصلحة لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى ، ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيداً آخر فقال : {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ووعيد الفاسق معلوم ، وقوله {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك} هذا شرط ، والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط والجزاء ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 106}(14/392)
وقال الآلوسى :
{ فَمَنْ تولى } أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصرته قاله علي كرم الله وجهه { بَعْدَ ذَلِكَ } أي الميثاق والإقرار والتوكيد بالشهادة { فَأُوْلَئِكَ } إشارة إلى ( من ) مراعى معناه كما روعي من قبل لفظها { هُمُ الفاسقون } أي الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتبه ، والمشهور عدم دخول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم هذه الشرطية ، أو ما هي في حكمها لأنهم أجل قدراً من أن يتصور في حقهم ثبوت المقدم ليتصفوا ، وحاشاهم بما تضمنه التالي بل هذا الحكم بالنسبة إلى أتباعهم ، وجوز أن يراد العموم والآية من قبيل : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 56 ]. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 202}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { مِّنَ الشاهدين } هذا هو الخبر ؛ لأنه محط الفائدة. وأما قوله : { مَعَكُمْ } فيجوز أن يكون حالاً ، أي : وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم ، ويجوز أن يكون منصوباً بـ " الشَّاهدينَ " ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويزَ ذلك - ويمتنع أن يكون هذا هو الخبرُ ؛ إذ الفائدة به غير تامةٍ في هذا المقامِ.
والجملة من قوله : { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } يجوز ألا يكون لها محل ؛ لاستئنافها. ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل { فاشهدوا } والمقصود من هذا الكلام التأكيد ، وتقوية الإلزام. قوله : { فَمَنْ تولى } يجوز أن تكون " مَنْ " شرطية ، فالفاء - في " فَأولَئِكَ " جوابها. والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط. وأن تكون موصولةً ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ باسم الشرطِ ، فالفعل بعدها على الأول - في محل جزم ، وعلى الثاني لا محل له ؛ لكونه صلة ، وأما " فأولئك " ففي محل جزم أيضاً - على الأول ، ورفع الثاني ، لوقوعه خبراً و" هم " يجوز أن يكون فَصْلاً ، وأن يكون مبتدأ.(14/393)
ومعنى الآية : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسولِ ، وبنصرته ، والإقرار له { فأولئك هُمُ الفاسقون } الخارجون عن الإيمان. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 365 ـ 366}
قول غريب منكر
قال ابن الجوزى :
قال مجاهد ، والربيع بن أنس : هذه الآية خطأ من الكتَّاب ، وهي في قراءة ابن مسعود : { وإِذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } واحتج الربيع بقوله تعالى : { ثم جاءكم رسول }. (1) أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 415}
لطيفة
قال فى روح البيان :
قال فى التيسير والتولى لا يقع من الأنبياء ولا يوصفون بالفسق لكن له وجهان.
أحدهما أن الميثاق كان على الأنبياء وأممهم على التبعية والتولى من الأمم خاصة.
والثانى أن العصمة لا تزيل المحنة. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 70}
من فوائد الإمام القرطبى فى الآية
قال رحمه الله :
قيل : أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدّق بعضهم بعضاً ويأمر بعضهم بالإيمان بعضاً ؛ فذلك معنى النُّصرة بالتصديق.
وهذا قول سعيد بن جُبير وقَتادة وطاوس والسُّدي والحسن ، وهو ظاهر الآية.
قال طاوس : أخذ الله ميثاق الأوّل من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخِر.
وقرأ ابن مسعود { وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب }.
________________
(1) هذا القول ظاهر الفساد والبطلان وأين هو من قوله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
والقرآن محفوظ فى السطور والصدور بل إن أحكام التجويد محفوظة كذلك فمن لحن فى حكم من أحكام التجويد رده أهل العلم كائنا من كان.
ومن العجيب أن بعض المفسرين كالقرطبى وغيره ذكر هذا القول دون إنكار.
قال العلامة ابن عطية رحمه الله :
وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 464}. والله أعلم.(14/394)
قال الكسائي : يجوز أن يكون { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } بمعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين.
وقال البصريون : إذا أخذ الله ميثاق النبيين فقد أخذ ميثاق الذين معهم ؛ لأنهم قد اتبعوهم وصدّقوهم.
و "ما" في قوله "لَمَا" بمعنى الذي.
قال سيبويه : سألت الخليل بن أحمد عن قوله عز وجل : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } فقال : لما بمعنى الذي.
قال النحاس : التقدير على قول الخليل للذي آتيتكموه ، ثم حذف الهاء لطول الاسم.
و "الذي" رفع بالابتداء وخبره "من كتاب وحكمة".
و "مِن" لبيان الجنس.
وهذا كقول القائل : لزيد أفضل منك ؛ وهو قول الأخفش أنها لام الابتداء.
قال المَهْدوِيّ : وقوله "ثم جاءكم" وما بعده جملة معطوفة على الصلة ، والعائد منها على الموصول محذوف ؛ والتقدير ثم جاءكم رسول مصدّق به.
قوله تعالى : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم في قول عليّ وابن عباس رضي الله عنهما.
واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين ؛ كقوله تعالى : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } إلى قوله { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ } [ النحل : 113 ].
فأخذ الله ميثاق النبيّين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام وينصروه إن أدركوه ، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاقَ على أممهم.
واللام من قوله "لتؤمنن به" جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق ، إذ هو بمنزلة الاستحلاف.
وهو كما تقول في الكلام : أخذت ميثاقك لتفعلنّ كذا ، كأنك قلت استحلفك ، وفصل بين القسم وجوابه بحرف الجر الذي هو "لِما" في قراءة ابن كَثير على ما يأتي.(14/395)
ومن فتحها جعلها متلقيةً للقسم الذي هو أخذ الميثاق.
واللام في "لتؤمنن به" جواب قسم محذوف ، أي والله لتؤمنن به.
وقال المبرّد والكسائي والزجاج : "ما" شرط دخلت عليها لام التحقيق كما تدخل على إن ، ومعناه ( لمهما ) آتيتكم ؛ فموضع "ما" نصب ، وموضع "آتيتكم" جزم ، و"ثم جاءكم" معطوف عليه ، { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } اللام في قوله "لتؤمنن به" جواب الجزاء ؛ كقوله تعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ } [ الإسراء : 86 ] ونحوه.
وقال الكسائيّ : لتؤمنن به مُعْتمد القسم فهو متصل بالكلام الأول ، وجواب الجزاء قوله { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك }.
ولا يحتاج على هذا الوجه إلى تقدير عائد.
وقرأ أهل الكوفة "لِمَا آتيتكم" بكسر اللام ، وهي أيضاً بمعنى الذي وهي متعلقة بأخذ ، أي أخذ الله ميثاقهم لأجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم إن جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به من بعد الميثاق : لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف كما تقدّم.
قال النحاس : ولأبي عبيدة في هذا قول حَسَن.
قال : المعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمننّ به لِما آتيتكم من ذكر التوراة.
وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى وَإذْ أخذ الله ميثاق النبيّين لَتُعَلِّمُنّ الناس لِمَا جاءكم من كتاب وحكمة ، ولتأخذنّ على الناس أن يؤمنوا.
ودلّ على هذا الحذف { وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي }.
وقيل : إن اللام في قولهِ "لِما" في قراءة من كسرها بمعنى بعد ، يعني بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة ؛ كما قال النابغة :
توهّمتُ آيات لها فعرفتُها . . .
لستّةِ أعوام وذا العامُ سابع
أي بعد ستة أعوام.
وقرأ سعيد بن جُبير "لمّا" بالتشديد ، ومعناه حين آتيتكم.
(14/396)
واحتمل أن يكون أصلها التخفيف فزيدت "مِن" على مذهب من يرى زيادتها في الواجب فصارت لمن ما ، وقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الأولى منهن استخفافا.
وقرأ أهل المدينة "آتيناكم" على التعظيم.
والباقون "آتيتكم" على لفظ الواحد.
ثم كلّ الأنبياء لم يُؤتوا الكتاب وإنما أوتي البعض ؛ ولكن الغلبة للذين أوتوا الكتاب.
والمراد أخذ ميثاق جميع الأنبياء فمن لم يؤت الكتاب فهو في حكم من أوتي الكتاب لأنه أوتي الحُكْم والنبوّة.
وأيضاً من لم يؤت الكتاب أمر بأن يأخذ بكتاب من قبله فدخل تحت صفة من أوتي الكتاب.
قوله تعالى : { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } "أقررتم" من الإقرار ، والإصْر والأَصْر لغتان ، وهو العهد.
والإصر في اللغة الثِّقْل ؛ فَسُمِّي العهد إصراً لأنه مَنْع وتشديد.
{ قَالَ فاشهدوا } أي اعلموا ؛ عن ابن عباس.
الزجاج : بيّنوا لأن الشاهد هو الذي يصحّح دعوى المدّعِي.
وقيل : المعنى اشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم.
{ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } عليكم وعليهم.
وقال سعيد بن المسيّب : قال الله عز وجل للملائكة فاشهدوا عليهم ، فتكون كناية عن غير مذكور. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 124 ـ 126}
ومن فوائد العلامة ابن عطية فى الآية
قال رحمه الله :(14/397)
وقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } الآية ، المعنى واذكر يا محمد " إذ " ويحتمل أن يكون " أخذ " هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسماً ، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه ، ثم جمع اللفظ ، في حكاية الحال في هذه الآية ، والمعنى : أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به ، الإيمان بمن أوتي بعده من الرسل ، الظاهره براهينهم والنصرة له ، واختلف المفسرون في العبارة عن مقتضى ألفاظ هذه الآية ، فقال مجاهد والربيع : إنما أخذ ميثاق أهل الكتاب ، لا ميثاق النبيين ، وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، قال مجاهد : هكذا هو القرآن ، وإثبات " النبيين " خطأ من الكتاب.
قال الفقيه الإمام : وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : إنما { أخذ الله ميثاق النبيين } على قومهم ، فهو أخذ لميثاق الجميع ، وقال طاوس : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما بعث الله نبياً ، آدم فمن بعده ، إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره بأخذه على قومه ، ثم تلا هذه الآية ، وقاله السدي : وروي عن طاوس أنه قال : صدر الآية أخذ الميثاق على النبيين وقوله : { ثم جاءكم } مخاطبة لأهل الكتاب بأخذ الميثاق عليهم.(14/398)
قال الفقيه الإمام أبو محمد : حكاه الطبري وهو قول يفسده إعراب الآية ، وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ، لأن الأخذ على الأنبياء أخذ على الأمم. وقرأ حمزة وغيره سوى السبعة : " لما " بكسر اللام ، وهي لام الجر ، والتقدير لأجل ما أتيناكم ، إذ أنتم القادة الرؤوس ، ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه ، و" ما " في هذه القراءة بمعنى الذي الموصولة ، والعائد إليها من الصلة تقديره آتيناكموه ، و" من " لبيان الجنس ، وقوله ، { ثم جاءكم } الآية ، جملة معطوفة على الصلة ، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول ، فتقديره عند سيبويه : رسول به مصدق لما معكم ، وحذف تخفيفاً كما حذف الذي في الصلة بعينها لطول الكلام ، كما قال تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولاً } [ الفرقان : 41 ] والحذف من الصلات كثير جميل ، وأما أبو الحسن الأخفش ، فقال قوله تعالى : { لما معكم }. هو العائد عنده على الموصول ، إذ هو في المعنى بمنزلة الضمير الذي قدر سيبويه ، وكذلك قال الأخفش في قوله تعالى : { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [ يوسف : 90 ] لأن المعنى لا يضيع أجرهم ، إذ المحسنون هم من يتقي ويصبر ، وكذلك قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } [ الكهف : 30 ] وكذلك ما ضارع هذه الآيات ، وسيبويه رحمه الله لا يرى أن يضع المظهر موقع المضمر ، كما يراه أبو الحسن ، واللام في { لتؤمِننَّ } ، هي اللام المتعلقة للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز.(14/399)
وقرأ سائر السبعة : " لَما " بفتح اللام ، وذلك يتخرج على وجهين ، أحدهما أن تكون " ما " موصولة في موضع رفع بالابتداء ، واللام لام الابتداء ، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق } وخبر الابتداء قوله { لتؤمنن } ، و{ لتؤمنن } متعلق بقسم محذوف ، والمعنى والله لتؤمنن ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، وفيه من جهة المعنى نظر ، إذا تأملت على أي شيء وقع التحليف لكنه متوجه بأن الحلف يقع مرتين تأكيداً فتأمل ، والعائد الذي في الصلة ، والعائد الذي في الجملة المعطوفة على الصلة هنا في هذه القراءة هما على حد ما ذكرناهما في قراءة حمزة ، أما أن هذا التأويل يقتضي عائداً من الخبر الذي هو { لتؤمنن } فهو قوله تعالى : { به } فالهاء من { به } عائدة على " ما " ، ولا يجوز أن تعود على { رسول } فيبقى الموصول حينئذ غير عائد عليه من خبره ذكر ، والوجه الثاني الذي تتخرج عليه قراءة القراء " لما " بفتح اللام ، هو أن تكون " ما " للجزاء شرطاً ، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم و{ جاءكم } معطوف في موضع جزم ، واللام الداخلة على " ما " ليست المتلقية للقسم ، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم ، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 60 ] لأنها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله ، لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله : { لتؤمِننَّ } وهذه اللام الداخلة على " أن " لا يعتمد القسم عليها ، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة ، كما قال تعالى : { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } [ المائدة : 73 ].(14/400)
قال الزجاج : لأن قولك ، والله لئن جئتني لأكرمنك ، إنما حلف على فعلك ، لأن الشرط معلق به ، فلذلك دخلت اللام على الشرط ، وما في هذا الوجه من كونها جزاء لا تحتاج إلى عائد لأنها مفعولة والمفعول لا يحتاج إلى ذكر عائد.
والضمير في قوله تعالى : { لتؤمِننَّ به } عائد على { رسول } ، وكذلك هو على قراءة من كسر اللام ، وأما الضمير في قوله { ولَتنصرنَه } فلا يحتمل بوجه إلا العود على رسول ، قال أبو علي في الإغفال : وجزاء الشرط محذوف بدلالة قوله { لتؤمنن } عليه ، قال سيبويه : سألته ، يعني الخليل عن قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم } فقال : " ما " هنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما دخلت على إن ، حين قلت : لئن فعلت لأفعلن ، ثم استمر يفسر وجه الجزاء قال أبو علي : أرد الخليل بقوله : هي بمنزلة الذي ، أنها اسم كما أن الذي اسم ولَم يرد أنها موصولة كالذي ، وإنما فرّ من أن تكون " ما " حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله تعالى : { وإن كلاًّ لما ليوفينهم ربك أعمالهم } [ هود : 111 ] وفي قوله { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } [ الزخرف : 35 ] ، الله المستعان ، وحكى المهدوي ومكي عن سيبويه والخليل ، : أن خبر الابتداء فيمن جعل " ما " ابتداء على قراءة من فتح اللام هو في قوله : { من كتاب وحكمة } ولا أعرف من أين حكياه لأنه مفسد لمعنى الآية لا يليق بسيبويه ، والخليل ، وإنما الخبر في قوله ، { لتؤمنن } كما قال أبو علي الفارسي ومن جرى مجراه كالزجاج وغيره ، وقرأ الحسن : " لمّا آتيناكم " بفتح اللام وشدها قال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون اللام تؤول إلى الجزاء ، كما تقول لما جئتني أكرمتك.(14/401)
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويظهر أن " لما " هذه هي الظرفية أي لما كنتم بهذه الحال ، رؤساء الناس وأماثلهم ، أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة ، وذهب ابن جني في " لما " في هذه الآية إلى أن أصلها " لمن ما " ، وزيدت " من " في الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت ، كما يجب في مثل هذا ، فجاء لهما ، فثقل اجتماع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى فبقي " لما " ، وتتفسر هذه القراءة على هذا التوجيه المحلق تفسر " لما " بفتح الميم مخففة ، وقد تقدم ، وقرأ نافع وحده ، " آتيناكم " بالنون ، وقرأ الباقون ، " آتيتكم " بالتاء ، و{ رسول } في هذه الآية اسم جنس ، وقال كثير من المفسرين : الإشارة بذلك إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف ابن مسعود : " مصدقاً " بالنصب على الحال.
قوله تعالى :
{ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأْوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(14/402)
هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه ، وذلك يحتمل موطن القسم ، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه ، { وأخذتم } في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم ايضاً وقال الطبري : { أخذتم } في هذه الآية معناه : قبلتم ، و" الإصر " ، العهد ، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك ، وقوله تعالى { فاشهدوا } يحتمل معنيين : أحدهما فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم ، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد ، هذا قول الطبري وجماعة ، والمعنى الثاني ، بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به ، وشهادة الله تعالى هذا التأويل ، وفي التي في قوله { وأنا معكم من الشاهدين } هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم ، هذا قول الزجّاج وغيره.
قال القاضي أبو محمد : فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفظها ، والقول الثاني هو الأمر بأدائها ، وحكم الله تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق على أن قوله ، { فاشهدوا } أمر بالأداء. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 463 ـ 466}
ومن فوائد العلامة أبى السعود
قال رحمه الله :(14/403)
{ وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } منصوبٌ بمضمر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي اذكرْ وقتَ أخذِه تعالى ميثاقَهم { لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } قيل : هو ظاهره وإذا كان هذا حكمَ الأنبياءِ عليهم السلام كان الأممُ بذلك أولى وأحرى ، وقيل : معناه أخذُ الميثاقِ من النبيين وأممِهم ، واستُغنيَ بذكرهم عن ذكرهم ، وقيل : إضافةُ الميثاقِ إلى النبيين إضافةٌ إلى الفاعل والمعنى وإذْ أخذ الله الميثاقَ الذي وثّقه الأنبياءُ على أممهم ، وقيل : المرادُ أولادُ النبيين على حذف المضافِ وهم بنو إسرائيلَ أو سماهم نبيين تهكّماً بهم لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهلُ الكتاب والنبيون كانوا منا ، واللام في { لَّمّاً } موطئةٌ للقسم لأن أخذَ الميثاق بمعنى الاستخلافِ ، وما تحتملُ الشرطيةَ ، ولتُؤمِنُنّ سادٌّ مسدَّ جوابِ القسم والشرط ، وتحتمل الخبرية ، وقرىء { لَّمّاً } بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعضَ الكتاب ثم لمجيء رسولٍ مصدقٍ أخذَ الله الميثاقَ لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنه ، أو موصولةٌ والمعنى أخذُه الذي آتيتُكموه وجاءكم رسولٌ مصدقٌ له وقرىء لَمّا بمعنى حين آتيتُكم أو لَمِنْ أجل ما آتيتُكم على أن أصله لَمِنْ ما بالإدغام فحُذف إحدى الميمات الثلاثِ استثقالاً.(14/404)
{ قَالَ } أي الله تعالى بعدما أخذَ الميثاقَ { ءأَقْرَرْتُمْ } بما ذُكر { وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى } أي عهدي سُمّيَ به لأنه يؤصَرُ أي يُشَدّ وقرىء بضم الهمزة إما لغةٌ كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به { قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل : فماذا قالوا عند ذلك ؟ فقيل قالوا : { أَقْرَرْنَا } وإنما لم يُذكر أخذُهم الإصرارَ اكتفاءً بذلك { قَالَ } تعالى { فَأَشْهِدُواْ } أي فليشهدْ بعضُكم على بعض بالإقرار وقيل : الخطابُ فيه للملائكة { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين } أي وأنا أيضاً على إقراركم ذلك وتشاهُدِكم به شاهدٌ ، وإدخالُ مع على المخاطبين لما أنهم المباشِرون للشهادة حقيقةً وفيه من التأكيد والتحذيرِ ما لا يخفى.
{ فَمَنْ تولى } أي أعرض عما ذكر { بَعْدَ ذَلِكَ } الميثاقِ والتوكيدِ بالإقرار والشهادة ، فمعنى البُعد في اسم الإشارةِ لتفخيم الميثاق { فَأُوْلَئِكَ } إشارةٌ إلى مَنْ ، والجمعُ باعتبار المعنى كما أن الإفرادَ في تولى باعتبار اللفظ ، وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على ترامي أمرِهم في السوء وبُعد منزلتِهم في الشر والفساد أي فأولئك المُتولُّون المتّصفون بالصفات القبيحةِ { هُمُ الفاسقون } المتمرِّدون الخارجون عن الطاعة من الكَفَرة فإن الفاسقَ من كل طائفةٍ مَنْ كان متجاوزاً عن الحد. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 53 ـ 54}
ومن فوائد العلامة الآلوسى
قال رحمه الله :(14/405)
{ وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } الظرف منصوب بفعل مقدر مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أي اذكر وقت ذلك واختار السمين كونه معمولاً لأقررتم الآتي ، وضعفه عبد الباقي بأن خطاب { ءأَقْرَرْتُمْ } بعد تحقق أخذ الميثاق ، وفيه تردد ، وعطفه على ما تقدم من قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } [ آل عمران : 42 ] كما نقله الطبرسي بعيد. واختلف في المراد من الآية فقيل : إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لم يبعث الله تعالى نبياً آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية ، وعدم ذكر الأمم فيها حينئذ إما لأنهم معلومون بالطريق الأولى أو لأنه استغنى بذكر النبيين عن ذكرهم ، ففي الآية اكتفاء وليس فيها الجمع بين المتنافيين ، وقيل : إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل ، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم وإلى هذا ذهب ابن عباس فقد أخرج ابن المنذر ، وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال : قلت لابن عباس : إن أصحاب عبد الله يقرءون { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَمَا ءاتَيْتُكُم } الخ ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس إنما أخذ الله تعالى ميثاق النبيين على قومهم ، وأشار بذلك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين كما توهم حتى ظن أن ذلك منشأ قول مجاهد فيما رواه عنه ابن المنذر وغيره أن { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } خطأ من الكتاب وأن الآية كما قرأ عبد الله وليس كذلك إذ لا يصلح ذلك(14/406)
وحده منشأ وإلا لزم الترجيح بلا مرجح بل المنشأ لذلك إن صح ، ولا أظن ما يعلم بعد التأمل فيما أسلفناه في المقدمات وبسطنا الكلام عليه في "الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية" وقيل : المراد أمم النبيين على حذف المضاف ، وإليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه ؛ وقيل : المضاف المحذوف أولاد ، والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم ، وأيد بقراءة عبد الله المشار إليها وهي قراءة أبيّ بن كعب أيضاً ، وقيل : المراد وإذ أخذ الله ميثاقاً مثل ميثاق النبيين أي ميثاقاً غليظاً على الأمم ، ثم جعل ميثاقهم نفسه ميثاقهم بحذف أداة التشبيه مبالغة ، وقيل : المراد من النبيين بنو إسرائيل وسماهم بذلك تهكماً لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا ، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شيء فخان فيه ثم زعم الأمانة : يا أمين ماذا صنعت بأمانتي ؟ ؟ا وتعقبه الحلبي بأنه بعيد جداً إذ لا قرينة تبين ذلك ، وأجيب بأن القائل بعد لعله اتخذ مقالهم المذكور قرينة حالية ، وقيل : إن الإضافة للتعليل لأدنى ملابسة كأنه قيل : وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين ، ثم بينه بقوله سبحانه : { لَمَا ءاتَيْتُكُم } الخ ولا يخفى أن هذا أيضاً من البعد بمكان ، وقال الشهاب : لم نر من ذكر أن الإضافة تفيد التعليل في غير كلام هذا القائل ، واختار كثير من العلماء القول الأول ، وأخذ الميثاق من النبيين له صلى الله عليه وسلم على ما دل عليه كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته لا يمنع من ذلك لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له صلى الله عليه وسلم والتفخيم ورفعة الشأن والتنويه بالذكر ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب ، وتعظم الفائدة إذا كان(14/407)
ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان كما عليه البعض ويؤيد القول بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإما أن تصدقوا بباطل ، وإما أن تكذبوا بحق وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ماحل له إلا أن يتبعني " وفي معناه أخبار كثيرة وهي تؤيد بظاهرها ما قلنا ، ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي ، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلى الله عليه وسلم.
وهذا وقد عدوا هذه الآية من مشكلات القرآن إعراباً وقد غاص النحويون في تحقيق ذلك وشقوا الشعر فيه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 209 ـ 210}
من فوائد العلامة الطاهر بن عاشور
قال عليه الرحمة :
عطف { وإذْ أخذ الله } على { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة } [ آل عمران : 80 ] أي ما أمركم الأنبياء بشيء مما تقوّلتم عليهم وقد أمروكم بغير ذلك فأضعتموه حين أخذ الله ميثاقهم لِيُبَلِّغوه إليكم ، فالمعطوف هو ظرف ( إذْ ) وما تعلق به.
ويجوز أن يتعلق ( إذ ) بقوله : { أأقررتم } مقدماً عليه.
ويصح أن تجعل ( إذ ) بمعنى زمان غير ظرف والتقدير : واذْكر إذْ أخذ الله ميثاق النبيين ، فالمقصود الحكاية عن ذلك الزمان وما معه فيكون { قال أقررتم } معطوفاً بحذف العاطف.
كما هو الشأن في جمل المحاورة وكذلك قوله : { قالوا أقررنا }.(14/408)
ويصح أن تكون جملة { قال أأقررتم } وما بعدها بياناً لجملة { أخذ اللَّه ميثاق النبيين } باعتبار ما يقتضيه فعل أخذ الله ميثاقَ النبيين : من أنّ النبيين أعْطَوْا ميثاقاً لله فقال : أأقررتم قالوا : أقررنا إلخ.
ويكون قوله : { لما آتيناكم } إلى قوله { ولتنصرنه } هو صيغة الميثاق.
وهذا الميثاق أخذه الله على جميع الأنبياء ، يؤذنهم فيه بأنّ رسولاً يجيء مصدّقاً لما معهم ، ويأمُرُهم بالإيمان به وبنصره ، والمقصود من ذلك إعلام أممهم بذلك ليَكون هذا الميثاق محفوظاً لدى سائر الأجيال ، بدليل قوله : { فمن تولّى بعد ذلك } إلخ إذ لا يجوز على الأنبياء التولّي والفسق ولكنّ المقصود أممهم كقوله : { لئن أشركت ليحبطن عملك }.
وبدليل قوله قال : { فاشهدوا } أي على أممكم.
وإلى هذا يرجع ما ورد في القرآن من دعوة إبراهيم عليه السلام : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] ، وقد جاء في سفر التثنية قول موسى عليه السلام : "قال لي الربّ أقيم لهم نبيئاً من وسط إخوتهم مثلَك وأجْعَلُ كلامي في فمه فيكلمهم بكلّ ما أوصيه به".
وإخوَةُ بني إسرائيل هم بنو إسماعيل ، ولو كان المراد نبيئاً إسرائيلياً لقال أقيم لهم نبيئاً منهم على ما في ترجمة التوراة من غموض ولعلّ النص الأصلي أصرح من هذا المترجم.
(14/409)
والبشارات في كتب أنبياء بني إسرائيل وفي الأناجيل كثيرة ففي متى قول المسيح "وتقوم أنبياء كذَبة كثيرون ويضلون كثيرين ولكنّ الذي يصبر أي يبقى أخيراً إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز (1) ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادةً لجميع الأمم ثم يَأتي المنتهَى" وفي إنجيل يوحنا قول المسيح "وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزِّياً آخر ليَمكث معكم إلى الأبد وأما المُعَزِّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلتُه لكم ومتى جاء المعزِّي روحُ الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي" إلى غير ذلك.
وفي أخذ العهد على الأنبياء زيادة تنويه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى هو ظاهر الآية ، وبه فسر محققو المفسرين من السلف والخلف منهم علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وطاووس ، والسدي.
ومن العلماء من استبعد أن يكون أخذ العهد على الأنبياء حقيقة نظراً إلى قوله : { فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } ( توهموه متعيناً لأن يكون المراد بمن تولّى من النبيين المخاطبين ، وستعلم أنه ليس كذلك ) فتأوّلوا الآية بأنّ المراد أخذ العهد على أممهم ، وسلكوا مسالك مختلفة من التأويل فمنهم من جعل إضافة الميثاق للنبيين إضافة تشبه إضافة المصدر إلى فاعله أي أخذ الله على الأمم ميثاق أنبيائهم منهم.
________________
(1) وقعت كلمة يكرز في ترجمة إنجيل متى ، ولعل معناها ويحسن تبليغ الدين(14/410)
ومنهم من قدَّر حذف المضاف أي أمم النبيئين أو أولاد النبيئين وإليه مال قول مجاهد والربيع ، واحتجوا بقراءة أبي ، وابن مسعود ، هذه الآية : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيناكم من كتاب ، ولم يقرأ ميثاق النبيئين ، وزاد مجاهد فقال : إن قراءة أبي هي القرآن ، وإنّ لفظ النبيئين غلط من الكتَّاب ، وردّه ابن عطية وغيره بإجماع الصحابة والأمة على مصحف عثمان.
وقوله : { لما آتيناكم } قرأ الجمهور "لَمَا" بفتح اللام وتخفيف الميم فاللام موطئة للقسم ، لأنّ أخذ الميثاق في معنى اليمين وما موصوله مبتدأ { وآتيناكم } صلته وحذف العائد المنصوب جرى على الغالب في مثله ومِن كتاب بيان للموصول وصلتِه ، وعُطف { ثم جاءكم } على { آتيْناكم } أي الذي آتيناكموه وجاءكم بعده رسول.
ولتؤمننّ اللام فيه لام جواب القسم والجواب سدّ مسد خبر المبتدأ كما هو المعروف وضمير به عائد على المذكور أي لتؤمنّن بما آتيناكم وبالرسول ، أو هو عائد على الرسول وحذف ما يعود على ما آتيناكم لظهوره.
وقرأه حمزة : بكسر لام لما فتكون اللام للتعليل متعلق بقوله : { لتؤمننّ به } أي شكراً على ما آتيتُكم وعلى أن بعثت إليكم رسولاً مصدّقاً لما كنتم عليه من الدين ولا يضرّ عمل مَا بعد لام القسم فيما قبلها فأخْذ الميثاق عليهم مطلقاً ثم علّل جواب القسم بأنه من شكر نعمة الإيتاء والتصديق ، ولا يصح من جهة المعنى تعليق { لما آتيتكم } بفعل القسم المحذوف ، لأنّ الشكر علة للجواب ، لا لأخْذ العهد.
ولام { لتؤمِننّ } لام جواب القسم ، على الوجه الأول ، وموطئة للقسم على الوجه الثاني.
وقرأ نافع ، وأبو جعفر : آتيناكم بنون العظمة وقرأه الباقون { آتيتكم } بتاء المتكلم.
وجملة قال : { أأقررتم } بدل اشتمال من جملة { أخذ الله ميثاق النبيين }.
(14/411)
والإقرار هنا مستعمل في معنى التحقيق بالوفاء مما أخذ من الميثاق.
والإصر : بكسر الهمزة ، العهد المؤكد الموثق واشتقاقه من الإصار بكسر الهمزة وهو ما يعقد ويسدّ به ، وقد تقدم الكلام على حقيقته ومجازه في قوله تعالى : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } في سورة [ البقرة : 286 ].
( وقوله : { فاشهدوا } إن كان شهادة على أنفسهم فهي بمعنى التوثق والتحقيق وكذلك قوله : { وأنا معكم من الشاهدين } كقوله : { شهد اللَّه أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] وإن كانت شهادة على أممهم بتبليغ ذلك الميثاق فالمعنى فاشهدوا على أممكم بذلك ، والله شاهد على الجميع كما شهد النبيئون على الأمم.
وقوله : { فمن تولى بعد ذلك } أي من تولّى مِمن شهدتم عليهم ، وهم الأمم ، ولذلك لم يقل فمن تولّى بعد ذلك منكم كما قال في الآية التي خوطب فيها بنو إسرائيل في سورة [ المائدة : 12 ] : { فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل }
ووجه الحَصر في قوله : فأولئك هم الفاسقون } أنه للمبالغة لأنّ فسقهم في هذه الحالة أشد فسق فجعل غيره من الفسق كالعدَم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 142 ـ 145}
فصل
قال العلامة ابن كثير فى معنى الآية : (14/412)
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم ، عليه السلام ، إلى عيسى ، عليه السلام ، لَمَهْمَا آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة ، وبلغ أيّ مبلَغ ، ثم جاءه رسول من بعده ، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه ، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ؛ ولهذا قال تعالى وتقدس : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } أي : لمهما أعطيتكم من كتاب وحكمة { ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي }
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع ، وقتادة ، والسدي : يعني عهدي.
وقال محمد بن إسحاق : { إصري } أي : ثقل ما حمّلْتم من عهدي ، أي ميثاقي الشديد المؤكد.
{ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ } أي : عن هذا العهد والميثاق ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته : لئن بعث محمد [صلى الله عليه وسلم] وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه.
وقال طاووس ، والحسن البصري ، وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا.
وهذا لا يضاد ما قاله عليّ وابن عباس ولا ينفيه ، بل يستلزمه ويقتضيه. ولهذا رواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه مثل قول عليّ وابن عباس.
(14/413)
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة ، فكتب لي جَوَامعَ من التوراة ، ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغيَّرَ وَجْهُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم -قال عبد الله بن ثابت : قلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا -قال : فسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى عليه السلام ، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ ، إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الأمَمِ ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ". { المسند (4/265) قال الهيثمي في المجمع (1/173) : "رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه جابر الجعفي وهو ضعيف"}.
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر حدثنا إسحاق ، حدثنا حماد ، عن مُجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا ، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ ، وَإِنَّه -واللهِ-لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي". { مسند البزار برقم (124) "كشف الأستار" ورواه أحمد في مسنده (3/387) والدارمي في السنن (1/115) قال الهيثمي في المجمع (1/174) : "رواه البزار وأحمد وأبو يعلى". وقد حسنه الشيخ ناصر الألباني ، وتوسع في الكلام عليه فليراجع في كتابه : "إرواء الغليل" (6/34)}.
(14/414)
وفي بعض الأحاديث [له] : "لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّينِ لَمَا وَسِعَهُما إلا اتِّباعِي" (10).
فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه ، دائما إلى يوم الدين ، وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعة المقدَّم على الأنبياء كلهم ؛ ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس ، وكذلك هو الشفيع في يوم الحشر في إتيان الرب لِفَصْل القضاء ، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له ، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين ، حتى تنتهي النوبة إليه ، فيكونَ هو المخصوص به. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 67 ـ 68}
وقال السعدى :
(14/415)
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من كتاب الله المنزل ، والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلال ، إنه إن بعث الله رسولا مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا ذلك على أممهم ، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أوجب الله عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض ، ويصدق بعضهم بعضا لأن جميع ما عندهم هو من عند الله ، وكل ما من عند الله يجب التصديق به والإيمان ، فهم كالشيء الواحد ، فعلى هذا قد علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم ، فكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لو أدركوه لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته ، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم ، فهذه الآية الكريمة من أعظم الدلائل على علو مرتبته وجلالة قدره ، وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم صلى الله عليه وسلم لما قررهم تعالى [ ص 137 ] { قالوا أقررنا } أي : قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين { قال } الله لهم : { فاشهدوا } على أنفسكم وعلى أممكم بذلك ، قال { وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك } العهد والميثاق المؤكد بالشهادة من الله ومن رسله { فأولئك هم الفاسقون } فعلى هذا كل من ادعى أنه من أتباع الأنبياء كاليهود والنصارى ومن تبعهم ، فقد تولوا عن هذا الميثاق الغليظ ، واستحقوا الفسق الموجب للخلود في النار إن لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. أ هـ {تفسير السعدى صـ 136}
فائدة
قال الطبرى :(14/416)
وهاتان الآيتان ، وإن كان مَخرَج الخبر فيهما من الله عز وجل بما أخبر أنه أشهدَ وأخذَ به ميثاقَ منْ أخذَ ميثاقه به ، عن أنبيائه ورسله ، فإنه مقصودٌ به إخبارُ من كان حوالَي مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل أيام حياته صلى الله عليه وسلم ، عَمَّا لله عليهم من العهد في الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومعنيٌّ [به] تذكيرُهم ما كان الله آخذًا على آبائهم وأسلافهم من المواثيق والعهود ، وما كانت أنبياءُ الله عرَّفتهم وتقدّمت إليهم في تصديقه واتباعه ونُصرته على من خالفه وكذبه وتعريفهم ما في كتب الله ، التي أنزلها إلى أنبيائه التي ابتعثها إليهم ، من صفته وعلامته. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 563}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
قوله جلّ ذكره : { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ } الآية.
أخذ الله ميثاق محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء عليهم السلام ، كما أخذ ميثاقهم في الإقرار بربوبيته - سبحانه ، وهذا غاية التشريف للرسول عليه السلام ، فقد قَرَنَ اسمه باسم نفسه ، وأثبت قَدْرَه كما أثبت قدر نفسه ، فهو أوحد الكافة في الرتبة ، ثم سَهَّلَ سبيلَ الكافة في معرفة جلاله بما أظهر عليه من المعجزات.
قوله تعالى {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
الإشارة فيه : فَمَنْ حاد عن سُنَّتِه ، أو زاغ عن اتباع طريقته بعد ظهور دليله ، ووضوح معجزته فأولئك هم الذين خَبُثَتْ درجتهم ، ووجب المقت عليهم لجحدهم ، وسقوطهم عن تعلُّق العناية بهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 255}(14/417)
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة.
منها : الطباق : في : بقنطار وبدينار ، إذ أريد بهما القليل والكثير ، وفي : يؤدّه ولا يؤدّه ، لأن الأداء معناه الدفع وعدمه معناه المنع ، وهما ضدان ، وفي قوله : بالكفر ومسلمون ، والتجنيس المغاير في : اتقى والمتقين ، وفي : فاشهدوا والشاهدين ، والتجنيس المماثل في : ولا يأمركم أيأمركم ، وفي : أقررتم وأقررنا.
والإشارة في قوله : ذلك بأنهم ، وفي أولئك لا خلاق لهم.
والسؤال والجواب ، وهو في : قال أأقررتم ؟ ثم : قالوا أقررنا.
والاختصاص في : يحب المتقين ، وفي يوم القيامة ، اختصه بالذكر لأنه اليوم الذي تظهر فيه مجازاة الأعمال.
والتكرار في : يؤدّه ولا يؤده ، وفي اسم الله في مواضع ، وفي : من الكتاب وما هو من الكتاب.
والاستعارة في : يشترون بعهد الله.
والالتفات في : لما آتيتكم ، وهو خطاب بعد قوله : النبيين ، وهو لفظ غائب.
والحذف في عدة مواضع تقدمت. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 536}(14/418)
فصل
قال القاضى عياض :
الفصل السابع فيما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز من عظيم قدره وشريف منزلته على الأنبياء وحظوة رتبته عليهم
قال الله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) إلى قوله (من الشاهدين) قال أبو الحسن القابسى استخص الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسقلم بفضل لم يؤته غيره أبانه به وهو ما ذكره في هذه الآية ، قال المفسرون أخذ الله الميثاق بالوحى فلم يبعث نبيا إلا ذكر له محمدا ونعته وأخذ عليه ميثاقه إن أدركه ليؤمنن به وقيل أن يبينه لقومه ويأخذ ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم ، وقوله ثم جاءكم : الخطاب لأهل الكتاب المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، قال على بن أبى طالب رضى الله عنه لم يبعث الله نبيا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذن العهد بذلك على قومه.(14/419)
ونحوه عن السدى وقتادة في آى تضمنت فضله من غير وجه وحد : قال الله تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) الآية وقال تعالى (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح - إلى قوله - شهيدا) روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال في كلام بكى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال بأبى أنت وأمى يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم فقال (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) الآية بأبى أنت وأمى يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها يعذبون يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا : قال قتادة إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث فلذلك وقع ذكره مقدما هنا قبل نوح وغيره قال السمرقندى في هذا تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم لتخصيصه بالذكر قبلهم وهو آخرهم بعثا ، المعنى أخذ الله تعالى عليهم الميثاق إذ أخرجهم من ظهر آدم كالذر وقال تعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) الآية
قال أهل التفسير أراد بقوله ورفع بعضهم درجات محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه بعث إلى الأحمر والأسود وأحلت له الغنائم وظهرت على يديه المعجزات وليس أحد من الأنبياء أعطى فضيلة أو كرامة إلا وقد أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم مثلها قال بعضهم ومن فضله أن الله تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم وخاطبه بالنبوة والرسالة في كتابه فقال {يا أيها النبي} {ويا أيها الرسول}. أ هـ {الشفا حـ 1 صـ 43 ـ 46}(14/420)
قوله تعالى { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان المدرك لكل نبي إنما هم أمة النبي الذي قبله ، وكانوا يكذبونه ويخالفونه قال - خاتماً لهذه القصص بعد الشهادة بنفسه المقدسة بما بدأها به في قوله {شهد الله} الآية إلى {إن الدين عند الله الإسلام} على وجه الإنكار والتهديد عاطفاً على ما دل عليه السياق - : {أفغير} أي أتولوا ففسقوا ، فتسبب عن ذلك أنهم غير دين الله ، وأورد بأن تقديم " غير " يفهم أن الإنكار منحط على طلبهم اختصاصاً لغير دين الله ، وليس ذلك هو المراد كما لا يخفى ، وأجيب بأن تقديمه الاهتمام بشأنه في الإنكار ، والاختصاص متأخر مراعاته عن نكبة غيره - كما تقرر في محله {دين الله} الذي اختص بصفات الكمال {يبغون} أي يطلبون بفسقهم ، أو أتوليتم - على قراءة الخطاب {وله} أي والحال أنه له حاصة {أسلم} أي خضع بالانقياد لأحكامة والجري تحت مراده وقضائه ، لا يقدرون على مغالبة قدره بوجه {من في السموات والأرض} وهم من لهم قوة الدفاع بالبدن والعقل فكيف بغيرهم {طوعاً} بالإيمان أو بما وافق أغراضهم {وكرهاً} بالتسليم لقهره في إسلام أحدهم وإن كثرت أعوانه وعز سلطانه إلى أكره ما يكره وهو صاغر داخر ، لا يستطيع أمراً ولا يجد نصراً {وإليه يرجعون} بالحشر ، لا تعالجون مقراً ولا تلقون ملجأ ولا مفراً ، فإذا كانوا كذلك لا يقدرون على التفصي من قبضته بنوع قوة ولا حيلة في سكون ولا حركة فكيف يخالفون ما أتاهم من أمره على ألسنة رسله وقد ثبت أنهم رسله بما أتى به كل منهم من المعجزة! ومن المعلوم أن المعاند للرسول صلى الله عليه وسلم معاند للمرسل. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 119 ـ 120}(14/421)
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرع شرعه الله وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالباً ديناً غير دين الله ، فلهذا قال بعده {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 106}
فصل
قال الفخر :
قرأ حفص عن عاصم {يَبْغُونَ} و{يَرْجِعُونَ} بالياء المنقطة من تحتها ، لوجهين
أحدهما : رداً لهذا إلى قوله {وأولئك هُمُ الفاسقون} [ آل عمران : 82 ]
والثاني : أنه تعالى إنما ذكر حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلما أصروا على كفرهم قال على جهة الاستنكار {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} وقرأ أبو عمرو {تبغون} بالتاء خطاباً لليهود وغيرهم من الكافر و{لاَ يَرْجِعُونَ} بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات والأرض} وقرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطاب ، لأن ما قبله خطاب كقوله {ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ} [ آل عمران : 81 ] وأيضاً فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر ولكل أحد : أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له من في السموات والأرض ، وأن مرجعكم إليه وهو كقوله {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ ءايات الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [ آل عمران : 101 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 106 ـ 107}
فائدة
قال ابن عادل :
الجمهور يجعلون الهمزة مقدَّمةً على الفاء ، للزومها الصدر ، والزمخشري يقرها على حالها ، ويُقدِّر محذوفاً قبلها ، وهنا جوَّز وجهين :
أحدهما : أن تكون الفاء عاطفةً جملة على جملة ، والمعنى : فأولئك هم الفاسقون ، فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما.(14/422)
والثاني : أن تعطف على محذوف ، تقديره أيتولون ، فغير دين الله يبغون ؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث ، وهو استفهام استنكار ، وقدم المفعول - الذي هو " غير " - على فعله ؛ لأنه أهم من حيث أن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - مُتَوَجِّه إلى المعبود الباطل ، هذا كلام الزمخشريِّ.
قال أبو حيان : " ولا تحقيق فيه ؛ لأن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - لا يتوجه إلى الذوات ، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء ، الذي متعلقه غير دين الله ، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع ، ولشبه " يبغون " بالفاصلة ، فأخَّرَ الفعلُ ".
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم " يَبْغُونَ " من تحت - نسقاً على قوله : { هُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 82 ] والباقون بتاء الخطاب ، التفاتاً لقوله : { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] ولقوله : { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ } [ آل عمران : 81 ].
وأيضاً فلا يبعد أن يُقال للمسلم والكافر ، ولكل أحد : أفغير دين الله تبغون مع علمكم أنه أسلم له مَنْ في السموات والأرض وأن مَرْجعكم إليه ؟ ونظيره قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } [ آل عمران : 101 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 366}
فصل
قال الفخر : (14/423)
الهمزة للاستفهام والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه ، وموضع الهمزة هو لفظة {يَبْغُونَ} تقديره : أيبغون غير دين الله ؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث ، إلا أنه تعالى قدم المفعول الذي هو {غَيْر دِينِ الله} على فعله ، لأنه أهم من حيث أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل وأما الفاء فلعطف جملة على جملة وفيه وجهان أحدهما : التقدير : فأولئك هم الفاسقون ، فغير دين الله يبغون.
واعلم أنه لو قيل أو غير دين الله يبغون جاز إلا أن في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل : أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون ؟. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 107}
فصل
قال الفخر :(14/424)
روي أن فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام ، وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به ، فقال عليه الصلاة والسلام : " كلا الفريقين برىء من دين إبراهيم عليه السلام ، " فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية ، ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب لأن على هذا التقدير تكون هذه الآية منقطعة عما قبلها ، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها ، فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوّة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر ، فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين ديناً غير دين الله ، ومعبوداً سوى الله سبحانه ، ثم بيّن أن التمرد على الله تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء فقال : {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 107}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : " وله أسلم من في السموات " جملةٌ حاليةٌ ، أي : كيف يبغون غير دينه ، والحال هذه ، وفي قوله : " طوعاً وكرهاً " وجهان :
أحدهما : أنهما مصدران في موضع الحال ، والتقدير : طائعين وكارهين.
الثاني : أنهما مصدران على غير المصدر ، قال ابو البقاء : " لأن " أسْلَمَ " بمعنى انقاد ، وأطاع " وتابعه أبو حيان على هذا.
وفيه نظرٌ ؛ من حيث إن هذا ماشٍ في " طَوْعاً " لموافقته معنى الفعل قبله ، وأما " كَرْهاً " ، كيف يقال فيه ذلك ؟ والقول بأنه يُغتفر في التوالي ما لا يُغْتَفَر في الأوائل ، غير نافع هنا.(14/425)
ويقال يطاع يطوع ، وأطاع يُطيع بمعنى ، قاله ابن السِّكيتِ ، وقول : طاعه يطوعه : انقاد له ، وأطاعه ، أي : رضي لأمره ، وطاوعه ، أي : وافقه.
قرأ الأعمش : " وَكُرْهاً " - بالضم - وسيأتي أنها قراءة الأخوين في سورة النساء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 367 }
فصل
قال الفخر :
الإسلام ، هو الاستسلام والانقياد والخضوع.
إذا عرفت هذا ففي خضوع كل من في السموات والأرض لله وجوه الأول : وهو الأصح عندي أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه ، وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع ، ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله {وَلَهُ أَسْلَمَ} يفيد الحصر أي وله أسلم كل من في السموات والأرض لا لغيره ، فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلاً أو نفساً أو روحاً أو جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو فاعلاً أو فعلاً ، ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى : {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السموات والأرض} [ الرعد : 15 ] وقوله {وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [ الإسراء : 44 ].
الوجه الثاني : في تفسير هذه الآية أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده ، وإما أن ينزلوا عليه طوعاً أو كرهاً ، فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدين ، وينقادون له كرهاً فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك ، وأما الكافرون فهم ينقادون لله تعالى على كل حال كرهاً لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين ، وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرهاً ، لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره(14/426)
الثالث : أسلم المسلمون طوعاً ، والكافرون عند موتهم كرهاً لقوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [ غافر : 85 ] الرابع : أن كل الخلق منقادون لإلهيته طوعاً بدليل قوله تعالى : {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [ لقمان : 25 ] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً الخامس : أن انقياد الكل إنما حصل وقت أخذ الميثاق وهو قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} [ الأعراف : 172 ]
السادس : قال الحسن : الطوع لأهل السموات خاصة ، وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضهم بالكره ، وأقول : إنه سبحانه ذكر في تخليق السموات والأرض هذا وهو قوله {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [ فصلت : 11 ] وفيه أسرار عجيبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 107 ـ 108}
وقال ابن كثير :
المؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله ، والكافر مستسلم لله كرها ، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم ، الذي لا يخالف ولا يمانع. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 69}
وقال ابن عادل :
وقيل : كل الخلق منقادون للإلهية طوعاً ، بدليل قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً.
قوله : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يجوز أن تكون هذه الجملةُ مستأنفةً ، فلا محل لها ، وإنما سيقت للإخبار بذلك. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 368}
قوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
قال الفخر :
(14/427)
أما قوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فالمراد أن من خالفه في العاجل فسيكون مرجعه إليه ، والمراد إلى حيث لا يملك الضر والنفع سواه هذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 108}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يجوز أن تكون هذه الجملةُ مستأنفةً ، فلا محل لها ، وإنما سيقت للإخبار بذلك ؛ لتضمنها معنى التهديد العظيم ، والوعيد الشديد. ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة من قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ } فتكون حالاً - أيضاً - ويكون المعنى : أنه نَعَى عليهم ابتغاء غير دين من أسلم له جميع من في السموات والأرض - طائعين ومكرهين - ومن مرجعهم إليه.
قرأ حفص - عن عاصم - " يُرْجَعُونَ " بياء الغيبة - ويحتمل ذلك وجوهاً :
أحدها : أن يعود الضمير على { مَنْ أَسْلَمَ }.
الثاني : أن يعود على من عاد عليه الضمير في " يَبْغُونَ " في قراءة من قرأ بالغيبة ، ولا التفات في هذين.
والثالث : أن يعود على من عاد عليه الضمير في " تَبْغُونَ " - في قراءة الخطاب - فيكون التفاتاً حينئذ. وقرأ الباقون - " تبغون " - بالخطاب - وهو واضح ، ومن قرأه بالغيبة كان التفاتاً منه.
ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله : { مَن فِي السماوات والأرض }. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 368}
قال الطبرى :(14/428)
وأولى ذلك بالصواب ، قراءةُ من قرأ : "أفغير دين الله تبغون" على وجه الخطاب"وإليه تُرجعون" بالتاء. لأن الآية التي قبلها خطابٌ لهم ، فإتباعُ الخطاب نظيرَه ، أولى من صرف الكلام إلى غير نظيره. وإن كان الوجه الآخر جائزًا ، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل : من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانًا على الخطاب كله ، وأحيانًا على وجه الخبر عن الغائب ، وأحيانًا بعضُه على الخطاب ، وبعضُه على الغيبة ، فقوله : "تبغون" و"إليه ترجعون" في هذه الآية ، من ذلك. (1)
وتأويل الكلام : يا معشرَ أهل الكتاب "أفغيرَ دين الله تبغون" ، يقول : أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون ، "وله أسلم من في السماوات والأرض" ، يقول : وله خَشع من في السموات والأرض ، فخضع له بالعبودة ، وأقرّ له بإفراد الربوبية ، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية "طوْعًا وكرهًا" ، يقول أسلم لله طائعًا من كان إسلامه منهم له طائعًا ، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين ، فإنهم أسلموا لله طائعين "وكرهًا" ، من كان منهم كارهًا. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 564 ـ 565}
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي رحمه الله : الطوع الانقياد ، يقال : طاعه يطوعه طوعاً إذا انقاد له وخضع ، وإذا مضى لأمره فقد أطاعه ، وإذا وافقه فقد طاوعه ، قال ابن السكيت : يقال طاع له وأطاع ، فانتصب طوعاً وكرهاً على أنه مصدر وقع موقع الحال ، وتقديره طائعاً وكارهاً ، كقولك أتاني راكضاً ، ولا يجوز أن يقال : أتاني كلاماً أي متكلماً ، لأن الكلام ليس يضرب للإتيان ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 108}
________________
(1) تقدم الكلام على الترجيح بين القراءات المتواترة.(14/429)
من فوائد الإمام القرطبى فى الآية
قال رحمه الله :
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } قال الكَلْبي : إن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : أيُّنا أحق بدِين إبراهيم ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " كِلاَ الفريقين بريءٌ من دِينه " فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بِدينك ؛ فنزل { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } يعني يطلبون.
ونصبت "غير" بيبغون ، أي يبغون غير دين الله.
وقرأ أبو عمرو وحده "يبغون" بالياء على الخبر "وإليه ترجعون" بالتاء على المخاطبة.
قال : لأن الأوّل خاصُّ والثاني عامُّ ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى.
وقرأ حفص وغيره "يبغون ، ويرجعون" بالياء فيهما ؛ لقوله : { فأولئك هُمُ الفاسقون }.
وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب ؛ لقوله { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ].
والله أعلم.
قوله تعالى : { وَلَهُ أَسْلَمَ } أي استسلم وانقاد وخضع وذلّ ، وكل مخلوق فهو منقاد مستسلم ؛ لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه.
قال قتادة : أسلم المؤمن طوعاً والكافر عند موته كرهاً ولا ينفعه ذلك ؛ لقوله : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ].(14/430)
قال مجاهد : إسلام الكافر كرهاً بسجودِهِ لِغير الله وسجود ظِلّه لله ، { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ].
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ].
وقيل : المعنى أن الله خلق الخلق على ما أراد منهم ؛ فمنهم الحَسَن والقبيح والطويل والقصير والصحيح والمريض وكلهم منقادون اضطرارا ، فالصحيح منقاد طائع محبّ لذلك ، والمريض منقاد خاضع وإن كان كارهاً.
والطوع الانقياد والاتباع بسهولة.
والكره ما كان بمشقة وإباء من النفس.
و { طَوْعاً وَكَرْهاً } مصدران في موضع الحال ، أي طائعين ومكرهين.
وروى أنس بن مالك قال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } قال : " الملائكة أطاعوه في السماء والأنصارُ وعبدُ القَيْس في الأرض " وقال عليه السلام : " لا تَسُبُّوا أصحابي فإن أصحابي أسلموا من خوف الله وأسلم الناس من خوف السيف " وقال عِكْرمة : "طوعا" مَن أسلم من غير مُحاجّة "وكرهاً" مَن اضطرته الحجة إلى التوحيد.
يدلّ عليه قوله عز وجل : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله } [ العنكبوت : 61 ].
قال الحسن : هو عموم معناه الخصوص.
وعنه : { أَسْلَمَ مَن فِي السماوات } وتمّ الكلام.
ثم قال : { والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً }.
قال : والكاره المنافق لا ينفعه عمله.
و "طوعاً وكرهاً" مصدران في موضع الحال.
(14/431)
عن مجاهد عن ابن عباس قال : إذا استصعبت دابّةُ أحدكم أو كانت شَمُوساً فليقرأ فى أذنها هذه الآية : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } إلى آخر الآية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 127 ـ 128}
وقال العلامة ابن عطية :
{ أسلم } في هذه الآية بمعنى : استسلم عند جمهور المفسرين ، و{ من } في هذه الآية تعم الملائكة والثقلين ، واختلفوا في معنى قوله { طوعاً وكرهاً } فقال مجاهد : هذه الآية كقوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله } [ الزمر : 38 ] فالمعنى أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرهاً.
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا عموم في لفظ الآية ، لأنه لا يبقى من لا يسلم على هذا التأويل و{ أسلم } فيه بمعنى استسلم ، وقال بمثل هذا القول أبو العالية رفيع ، وعبارته رحمه الله : كل آدمي فقد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده ، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرهاً ، ومن أخلص فهذا الذي أسلم طوعاً ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ الميثاق ، وروي عن مجاهد أنه قال : الكره في هذه الآية هو بسجود ظل الكافر فيسجد المؤمن طوعاً ويسجد الكافر وهو كاره ، وقال الشعبي : الآية عبارة عن استقادة جميع البشر لله وإذعانهم لقدرته وإن نسب بعضهم الألوهية إلى غيره ، وذلك هو الذي يسجد كرهاً.
قال الفقيه الإمام : وهذا هو مجاهد وأبي العالية المتقدم وإن اختلفت العبارات ، وقال الحسن بن أبي الحسن : معنى الآية : أنه أسلم قوم طوعاً ، وأسلم قوم خوف السيف ، وقال مطر الوراق : أسلمت الملائكة طوعاً ، وكذلك الأنصار وبنو سليم وعبد القيس ، وأسلم سائر الناس كرهاً حذر القتال والسيف.(14/432)
قال الفقيه الإمام : وهذا قول الإسلام فيه هو الذي في ضمنه الإيمان ، والآية ظاهرها العموم ومعناها الخصوص ، إذ من أهل الأرض من لم يسلم طوعاً ولا كرهاً على هذا حد ، وقال قتادة : الإسلام كرهاً هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه.
قال الفقيه الإمام : ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك ، وهذا غير موجود إلا في أفراد ، والمعنى في هذه الآية ، يفهم كل ناظر أن هذا القسم الذي هو الكره إنما هو في أهل الأرض خاصة ، والتوقيف بقوله { أفغَير } إنما هو لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والكفار. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 466 ـ 467}
ومن فوائد أبى حيان فى الآية
قال رحمه الله :
والهمزة في : أفغير ؟ للإنكار والتنبيه على الخطأ في التولي والإعراض ، وأضيف الدين إلى الله لأنه تعالى هو الذي شرعه وتعبد به الخلق ، ومعنى : تبغون ، تطلبون ، وهو هنا بمعنى : تدينون لأنهم متلبسون بدين غير دين الله لا طالبوه ، وعبر بالطلب إشعاراً بأنهم في كل الوقت باحثون عنه ومستخرجوه ومبتغوه.
وقال الماتريدي : فإن قيل كل عاقل يبتغي دين الله ويدعي أنّ الذي هو عليه دين الله.
قيل : الجواب من وجهين.
أحدهما : أنه لما قصر في الطلب جعل في المعنى كأنه باغ غير دين الله ، إذ لو كان باغياً لبالغ في الطلب من الوجه الذي يوصل إليه منه ، فكأنه ليس باغياً من حيث المعنى ، ولكنه من حيث الصورة.
والثاني : أنه قد بان للبعض في الابتغاء ما هو الحق لظهور الحجج والآيات ، ولكن أبى إلاَّ العناد ، فهو باغ غير دين الله ، فتكون الآية في المعاندين. انتهى كلامه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 537}
ومن فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :(14/433)
والجملة في النظم معطوفة على مجموع الشرط والجزاء ، وقيل : على الجزاء فقط ، وعطف الإنشاء على الأخبار مغتفر هنا عند المانعين ، والهمزة على التقديرين متوسطة بين المعطوف والمعطوف عليه للإنكار ، وقيل : إنها معطوفة على محذوف تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون قال ابن هشام : والأول : مذهب سيبويه والجمهور ، وجزم به الزمخشري في مواضع ، وجوز الثاني في بعض ويضعفه ما فيه من التكلف وأنه غير مطرد ، أما الأول : فلدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه على قولهم : أقل لفظاً مع أن في هذا التجوز تنبيهاً على أصالة شيء في شيء أي أصالة الهمزة في التصدر ، وأما الثاني : فلأنه غير ممكن في نحو { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] انتهى.(14/434)
وتعقبه الشمس بن الصائغ بأنه أي مانع من تقدير ألا مدبر للموجودات فمن هو قائم على كل نفس على الاستفهام التقريري المقصود به تقرير ثبوت الصانع ، والمعنى أنتفى المدبر فلا أحد قائم على كل نفس لا يمكن ذلك بل المدبر موجود فالقائم على كل نفس هو وهو أولى من تقدير البدر ابن الدماميني أهم ضالون فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت لم يوحدوه ، وجعله الهمزة للإنكار التوبيخي ، وعلى العلات يوشك أن يكون التفصيل في هذه المسألة أولى بأن يقال : إن انساق ذلك المقدر للذهن قيل : بالتقدير ، وإلا قيل : بما قاله الجماعة ، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار لا للحصر كما توهم لأن المنكر اتخاذ غير الله رباً ولو معه ، ودعوى أنه إشارة إلى أن دين غير الله لا يجامع دينه في الطلب ، فالتقديم للتخصيص ، والإنكار متوجه إليه أي أيخصون غير دين الله بالطلب تكلف ، وقول أبي حيان : إن تعليل التقديم بما تقدم لا تحقيق فيه لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات ، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله ، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع ، ولشبه { يَبْغُونَ } بالفاصلة لا تحقيق فيه عند ذوي التحقيق لأنا لم ندع توجه الإنكار إلى الذوات كما لا يخفى ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية لحفص ويعقوب يبغون بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على معنى أتتولون أو أتفسقون ، وتكفرون فغير دين الله تبغون وذهب بعضهم إلى أنه التفات فعنده لا تقدير ، وعلى تقدير التقدير يجيء قصد الإنكار فيما أشير إليه ولا ينافيه لأنه منسحب عليه(14/435)
{ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السماوات والارض } جملة حالية مؤكدة للإنكار أي كيف يبغون ويطلبون غير دينه ، والحالة هذه { طَوْعًا وَكَرْهًا } مصدران في موضع الحال أي طائعين وكارهين ، وجوز أبو البقاء أن يكونا مصدرين على غير المصدر لأنه أسلم بمعنى انقاد وأطاع قيل : وفيه نظر لأنه ظاهر في { طَوْعاً } لموافقة معناه ما قبله لا في { كَرْهاً } والقول بأن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل غير نافع ، وقد يدفع بأن الكره فيه انقياد أيضاً ، والطوع مصدر طاع يطوع ، كالإطاعة مصدر أطاع يطيع ولم يفرقوا بينهما ، وقيل : طاعه يطوعه انقاد له ، وأطاعه يطيعه بمعنى مضى لأمره ، وطاوعه بمعنى وافقه ، وفي معنى الآية أقوال : الأول : أن المراد من الإسلام بالطوع الإسلام الناشيء عن العلم مطلقاً سواء كان حاصلاً للاستدلال كما في الكثير منا ، أو بدون استدلال وإعمال فكر كما في الملائكة ومن الإسلام بالكره ما كان حاصلاً بالسيف ومعاينة ما يلجىء إلى الإسلام ،
الثاني : أن المراد انقادوا له تعالى مختارين لأمره كالملائكة والمؤمنين ومسخرين لإرادته كالكفرة فإنهم مسخرون لإرادة كفرهم إذ لا يقع ما لا يريده تعالى ، وهذا لا ينافي على ما قيل : الجزء الاختياري حتى لا يكون لهم اختيار في الجملة فيكون قولاً بمذهب الجبرية ، ولا يستدعي عدم توجه تعذيبهم على الكفر ولا عدم الفرق بين المؤمن والكافر بناءاً على أن الجميع لا يفعلون إلا ما أراده الله تعالى بهم كما وهم ،(14/436)
الثالث : ما إشار إليه بعض ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الإسلام طوعاً هو الانقياد والامتثال لما أمر الله تعالى من غير معارضة ظلمة نفسانية وحيلولة حجب الأنانية ، والإسلام كرهاً هو الانقياد مع توسط المعارضات والوساوس وحيلولة الحجب والتعلق بالوسائط ، والأول : مثل إسلام الملائكة وبعض من في الأرض من المصطفين الأخيار ، والثاني : مثل إسلام الكثير ممن تقلبه الشكوك جنباً إلى جنب حتى غدا يقول :
لقد طفت في تلك المعاهد كلها... وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر... على ذقن أو قارعاً سن نادم
والكفار من القسم الثاني عند أهل الله تعالى لأنهم أثبتوا صانعاً أيضاً إلا أن ظلمة أنفسهم حالت بينهم وبين الوقوف على الحق { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ العنكبوت : 61 ] وإلى هذا يشير كلام مجاهد ، وأخرج ابن جرير ، وغيره عن أبي العالية أنه قال : كل آدمي أقرّ على نفسه بأن الله تعالى ربي وأنا عبده فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرهاً ، ومن أخلص لله تعالى العبودية فهو الذي أسلم طوعاً ، وقرأ الأعمش كرهاً بالضم { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أي إلى جزائه تصيرون على المشهور فبادروا إلى دينه ، ولا تخالفوا الإسلام ، وجوزوا في الجملة أن تكون مستأنفة للأخبار بما تضمنته من التهديد ، وأن تكون معطوفة على { وَلَهُ أَسْلَمَ } فهي حالية أيضاً ، وقرأ عاصم بياء الغيبة ، والضمير لمن أو لمن عاد إليه ضمير { يَبْغُونَ } فإن قرىء بالخطاب فهو التفات ، وقرأ الباقون بالخطاب ، والضمير عائد لمن عاد إليه ضمير { يَبْغُونَ } فعلى الغيبة فيه التفات أيضاً. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 213 ـ 214}(14/437)
ومن فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) }
تفريع عن التذكير بما كان عليه الأنبياء.
والاستفهام للتوبيخ والتحذير.
وقرأه الجمهور { تبغون } بتاء الخطاب فهو خطاب لأهل الكتاب جارٍ على طريقة الخطاب في قوله آنفاً : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة } [ آل عمران : 80 ] وقرأه أبو عَمرو ، وحفص ، ويعقوب : بياء الغيبة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إعراضاً عن مخاطبتهم إلى مخاطبة المسلمين بالتعجيب من أهل الكتاب.
وكله تفريع ذكر أحوال خلَف أولئك الأمم كيف اتبعوا غير ما أخذ عليهم العهد به.
والاستفهام حينئذ للتعجيب.
ودين الله هو الإسلام لقوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وإضافته إلى الله لتشريفه على غيره من الأديان ، أو لأنّ غيره يومئذ قد نسخ بما هو دين الله.
ومعنى { تبغون } وتطلبون يقال بَغى الأمرَ يبغيه بُغَاء بضم الباء وبالمد ، ويقصر والبُغية بضم الباء وكسرها وهاء في آخره قيل مصدر ، وقيل اسم ، ويقال ابتغى بمعنى بغى ، وهو موضوع للطلب ويتعدّى إلى مفعول واحد.
وقياس مصدره البغي ، لكنه لم يسمع البغي إلاّ في معنى الاعتداء والجور ، وذَلك فعلُه قاصر ، ولعلهم أرادوا التفرقة بين الطلب وبين الاعتداء ، فأماتوا المصدر القياسي لبَغَى بمعنى طلب وخصّوه ببغى بمعنى اعتدى وظلم : قال تعالى : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } [ الشورى : 42 ] ويقال تَبَغّى بمعنى ابتغى.
وجملة { وله أسلَم } " حال من اسم الجلالة وتقدم تفسير معنى الإسلام لله عند قوله تعالى : { فقل أسلمتُ وجهي للَّه } [ آل عمران : 20 ].(14/438)
ومعنى { طوعاً وكرهاً } أنّ من العقلاء من أسلم عن اختيار لظهور الحق له ، ومنهم من أسلم بالجبلّة والفطرة كالملائكة ، أو الإسلام كرهاً هو الإسلام بعد الامتناع أي أكرهته الأدلة والآيات أو هو إسلام الكافرين عند الموت ورؤية سوء العاقبة ، أو هو الإكراه على الإسلام قبل نزول آية لاَ إكراه في الدين.
والكرهُ بفتح الكاف هو الإكراه ، والكُره بضم الكاف المكروه.
ومعنى { وإليه ترجعون } أنه يرجعكم إليه ففعل رجع المتعدّي أسند إلى المجهول.
لظهور فاعله ، أي يرجعكم الله بعد الموت ، وعند القيامة ، ومناسبة ذكر هذا ، عقب التوبيخ والتحذير ، أنّ الربّ الذي لا مفر من حكمه لا يجوز للعاقل أن يعدل عن ديننٍ أمره به ، وحقه أن يسلم إليه نفسه مختاراً قبل أن يسلمها اضطراراً.
وقد دل قوله : { وإليه ترجعون } على المراد من قوله : { وكرهاً }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 145 ـ 146}
فصل
قال الثعالبى :
قال النوويِّ : ورُوِّينَا في كتاب ابن السُّنِّيِّ ، عن السَّيِّدِ الجليلِ المُجْمَعِ على جلالته وحِفْظِهِ ودِيَانَتِهِ وَوَرَعِهِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ دِينَارٍ البَصْرِيِّ الشَّافِعِيِّ المشهور ؛ أنه قَالَ : لَيس رجُلٌ يكونُ على دابَّة صَعْبَةٍ ، فيقول في أذنها : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السموات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } ، إلا وقَفَتْ بإذن اللَّه تعالى.(14/439)
وروِّينَا في كتاب ابن السُّنِّيِّ ، عن ابن مَسْعودٍ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنَّهُ قَالَ : " إذَا انفلتت دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ فَلاَةٍ ، فَلْيُنَاد : يَا عِبَادَ اللَّهِ ، واحبسوا ، يَا عِبَادَ اللَّهِ ، احبسوا ، فَإنَّ للَّهِ عَزَّ وجَلَّ فِي الأَرْضِ حَاضِراً سَيَحْبِسُهَا ". قال النَّوويُّ : حكى لِي بعُضْ شُيُوخِنا ؛ أَنَّهُ انفلتت لَهُ دَابَّةٌ أَظْنُّهَا بَغْلَةً ، وَكَانَ يعرفُ هذا الحديثَ ، فقالَهُ ، فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ في الحَالِ ، وكنْتُ أَنَا مرَّةً مع جماعةٍ ، فانفلتت منَّا بهيمةٌ ، فَعَجَزُوا عَنْها ، فَقُلْتُهُ ، فوقَفَتْ في الحال بغَيْر سَبَبٍ سوى هذا الكلامِ. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 286}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا }.
مَنْ لاحظه على غير الحقيقة ، أو طالع سواه في توهم الأهلية كَرَاءِ السراب ظَنَّه ماءً فلمَّا أتاه وجده هباءً. ومغاليط الحسبانات مُقَطّعِةٌ مُشِكلَةٌ فَمَنْ حَلَّ بها نَزَلَ بوادٍ قَفْرٍ.
{ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } لإجراء حكم الإلهية على وجه القهر عليهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 255}.
تم الجزء الرابع عشر من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الخامس عشر وأوله قوله تعالى
{ قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) }(14/440)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء الخامس عشر
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(15/3)
الجزء الخامس عشر
من الآية {84} من سورة آل عمران
وحتى الآية {109} من نفس السورة(15/4)
قوله تعالى {قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تم تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الدعاء إلى شيء غير الله ، ثم هدد من تولى ، فكان السامع جديراً بأن يقول : أنا مقبل غير متول فما اقول وما أفعل ؟ قال مخاطباً لرأس السامعين ليكون أجدر لامتثالهم : {قل} أي قبل كل شيء ، أي ملفتاً لمن نفعه هذا التذكير والتهديد فأقبل {آمنا} أنا ومن أطاعني من أمتي - مبكتاً لأهل الكتاب بما تركوه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده من خلص أبنائه ، وأبوه وجادلوا فيه عدواناً وادعوه ؛ ثم فصل المأمور بالإيمان به فقال : {بالله} الذي لا كفوء له.
ولما كان الإنزال على الشيء مقصوداً به ذلك الشيء بالقصد الأول كان الأنسب أن يقال : {وما أنزل علينا} فيكون ذلك له حقيقة ولأتباعه مجازاً ، وكانت هذه السورة بذلك أحق لأنها سورة التوحيد {وما أنزل على إبراهيم} أي أبينا {وإسماعيل وإسحاق} أي ابنيه {ويعقوب} ابن إسحاق {والأسباط} أي أولاد يعقوب.
ولما كان ما ناله صاحبا شريعة بني إسرائيل من الكتابين المنزلين عليهما والمعجزات الممنوحين بها أعظم مما كان لمن قبلهما غير السياق إلى قوله : {وما أوتي موسى} من أولاد الأسباط من التوراة والشريعة {وعيسى} من ذرية داود من الإنجيل والشريعة الناسخة لشريعة موسى عليهما الصلاة والسلام.(15/5)
ولما كان النظر هنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر لكونها سورة التوحيد الذي هو أخلق به وأغرق فيه ناسب الإعراء عن التأكيد بما في البقرة ، ونظر إلى الكل لمحاً واحداً فقال : {والنبيون} أي كافة من الوحي والمعجزات ليكون الإيمان بالمنزل مذكوراً مرتين لشرفه {من ربهم} أي المحسن إليهم خاصة وإلى العباد عامة بإرسالهم إليهم ؛ ثم استأنف تفسير هذا الإيمان بقوله : {لا نفرق بين أحد منهم} تنبيهاً على الموضع الذي كفر به اليهود والنصارى {ونحن له} أي لله وما أنزل من عنده {مسلمون} أي منقادون على طريق الإخلاص والرضى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 120 ـ 121}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدق لما معهم بيّن في هذه الآية أن من صفة محمد صلى الله عليه وسلم كونه مصدقاً لما معهم فقال : {قُلْ ءامَنَّا بالله} إلى آخر الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 108}
فصل
قال الفخر :
وحد الضمير في {قُلْ} وجمع في {آمنا} وفيه وجوه
الأول : إنه تعالى حين خاطبه ، إنما خاطبه بلفظ الوحدان ، وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التعظيم والتفخيم ، مثل ما يتكلم الملوك والعظماء
والثاني : أنه خاطبه أولاً بخطاب الوحدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا هو ، ثم قال : {آمنا} تنبيهاً على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه(15/6)
الثالث : إنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله {قُلْ} ليظهر به كونه مصدقاً لما معهم ثم قال {آمنا} تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال : {والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} [ البقرة : 285 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 108 ـ 109}
فصل
قال ابن عادل :
وفي هذه الآية احتمالان :
أحدهما : أن يكون المأمور بهذا القول - وهو " آمَنَّا " إلى آخره - هو محمد صلى الله عليه وسلم ثم في ذلك معنيان :
أحدهما : أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك ، وإنما حُذِفَ معطوفُه ؛ لِفَهْم المعنى ، والتقدير : قل يا محمد أنت وأمتك : آمنا بالله ، كذا قدَّره ابنُ عطية.
والثاني : أن المأمور بذلك نبينا وحده ، وإنما خوطب بلفظ الجمع ؛ تعظيماً له.
قال الزمخشري : " ويجوز أن يُؤمَر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك ؛ إجلالاً من الله - تعالى - لقدر نبيِّه ".
والاحتمال الثاني : أن يكون المأمور بهذا القول مَنْ تقدم ، والتقدير : قل لهم : قولوا : آمنا ، ف " آمَنَّا " منصوب بـ " قُلْ " على الاحتمال الأول ، وب " قُولُوا " المقدَّر على الاحتمال الثاني ، وذلك القول المُضْمر منصوب المحل. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 368 ـ 369}
فصل
قال الفخر : (15/7)
قدم الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء ، لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة ، وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه ، لأن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه عليه ، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم ، ويختلفون في نبوتهم {وَالأَسْبَاطَ} هم أسباط يعقوب عليه السلام الذين ذكر الله أممهم الاثنى عشر في سورة الأعراف ، وإنما أوجب الله تعالى الإقرار بنبوّة كل الأنبياء عليهم السلام لفوائد
إحداها : إثبات كونه عليه السلام مصدقاً لجميع الأنبياء ، لأن هذا الشرط كان معتبراً في أخذ الميثاق
وثانيها : التنبيه على أن مذاهب أهل الكتاب متناقضة ، وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه ، وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبياً ، وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضاً ، بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوّة الكل
وثالثها : إنه قال قبل هذه الآية {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات والأرض} [ آل عمران : 83 ] وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين الله ومنازعة مع الله ، فههنا أظهر الإيمان بنبوّة جميع الأنبياء ، ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة الله في الحكم والتكليف(15/8)
ورابعها : أن في الآية الأولى ذكر أنه أخذ الميثاق على جميع النبيّين ، أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل ، وههنا أخذ الميثاق على محمد صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل ، ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل ، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده ألبتة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 109}
سؤال : فإن قيل : لم عدَّى {أَنَزلَ} في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء ؟
قلنا : لوجود المعنيين جميعاً ، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر ، وقيل أيضاً إنما قيل {عَلَيْنَا} في حق الرسول ، لأن الوحي ينزل عليه وإلينا في حق الأمة لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف ، ألا ترى إلى قوله {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} [ البقرة : 4 ] وأنزل إليك الكتاب وإلى قوله {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا} [ آل عمران : 72 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 109}
وقال ابن عادل :
وهذه الآية شبيهة بالتي في البقرة ، إلا أنَّ هنا عَدَّى " أُنْزِلَ " بـ " عَلَى " وهناك عدَّاه بـ " إلى ".
قال الزمخشري : لوجود المعنيين جميعاً ؛ لأن الوحي ينزل من فوق ، وينتهي إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر.
قال ابن عطيةَ : " الإنزال على نَبِيّ الأمة إنزال عليها " وهذا ليس بطائل بالنسبة إلى طلب الفرق.(15/9)
قال الراغب : " إنما قال - هنا - " عَلَى " ، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطةٍ بشريةٍ ، كان لفظ " عَلَى " المختص بالعُلُوِّ أوْلَى به ، وهناك لما كان خطاباً للأمة ، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم كان لفظ " إلَى " المختص بالاتصال أوْلَى.
ويجوز أن يقال : " أنزل عليه " ، إنما يُحْمَل على ما أُمِر المنزَّل عليه أن يُبَلِّغَه غيرَه. وأنزل إليه ، يُحْمَل على ما خُصَّ به في نفسه ، وإليه نهاية الإنزال ، وعلى ذلك قال تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} [ العنكبوت : 51 ] وقال : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [ النحل : 44 ] خص هنا بـ " إلى " لماكان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل ، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب ".(15/10)
وهذا الذي ذكره الراغب ردَّه الزمخشريُّ ، فقال : " ومن قال : إنما قيل : " عَلَيْنَا " لقوله : " قُلْ " و" إلينا " لقوله : " قُولُوا " ، تفرقة بين الرسول والمؤمنين ؛ لأن الرسول يأتيه الوحي عن طريق الاستعلام ، ويأتيهم على وجه الانتهاء ، فقد تعسَّف ؛ ألا ترى إلى قوله : {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [ البقرة : 4 ] وقوله : {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} [ المائدة : 48 ] وقوله : {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار} [ آل عمران : 72 ] وفي البقرة : {وَمَا أُوتِيَ النبيون} [ البقرة : 136 ] وهنا : " وَالنَّبِيُّونَ " ، لأن التي في البقرة لفظ الخطابِ فيها عام ، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز ، بخلاف الخطاب هنا ، لأنه خاص ، فلذلك اكتفى فيه بالإيجاز دون الإطناب ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 369 ـ 370}
فصل
قال الفخر :
اختلف العلماء في أن الإيمان بهؤلاء الأنبياء الذين تقدموا ونسخت شرائعهم كيف يكون ؟ وحقيقة الخلاف ، أن شرعه لما صار منسوخاً ، فهل تصير نبوته منسوخة ؟ فمن قال إنها تصير منسوخة قال : نؤمن أنهم كانوا أنبياء ورسلاً ، ولا نؤمن بأنهم الآن أنبياء ورسل ، ومن قال إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوّة قال : نؤمن أنهم أنبياء ورسل في الحال فتنبه لهذا الموضع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 109}
قوله تعالى {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ}
فصل
قال الفخر :
قوله {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} فيه وجوه(15/11)
الأول : قال الأصم : التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض ، وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله والمراد من هذا الوجه يعني : نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله
الثاني : قال بعضهم المراد {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى
الثالث : قال أبو مسلم {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} أي لا نفرق ما أجمعوا عليه ، وهو كقوله {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [ آل عمران : 103 ] وذم قوماً وصفهم بالتفرق فقال : {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [ الأنعام : 94 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 109 ـ 110}
قوله تعالى {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
قال الفخر :
أما قوله {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ففيه وجوه
الأول : إن إقرارنا بنبوّة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين لله تعالى مستسلمين لحكمه وأمره ، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات والأرض}
والثاني : قال أبو مسلم {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة وتلك صفة المؤمنين بالله وهم أهل السلم والكافرون يوصفون بالمحاربة لله كما قال : {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [ المائدة : 33 ](15/12)
الثالث : أن قوله {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} يفيد الحصر والتقدير : له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال ، وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 110}
وقال أبو السعود :
{لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} وهمزة أحدٍ إما أصلية فهو اسمٌ موضوعٌ لمن يصلُح أن يخاطَبَ يستوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنث ولذلك صح دخولُ بين عليه كما في مثل المالُ بين الناس ، وإما مُبدلةٌ من الواو فهو بمعنى واحد ، وعمومُه لوقوعه في حيز النفي ، وصِحةُ دخولِ {بَيْنَ} عليه باعتبار معطوفٍ قد حُذف لظهوره أي بين أحدٍ منهم وغيرِه كما في قول النابغة :
فما كان بين الخيرِ إذ جاء سالما... أبو حَجَرٍ إلا ليالٍ قلائلُ
أي بين الخير وبيني {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي منقادون أو مخلصون أنفسَنا له تعالى لا نجعلُ له شريكاً فيها ، وفيه تعريضٌ بإيمان أهلِ الكتاب فإنه بمعزل من ذلك. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 55}(15/13)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{قُلْ ءامَنَّا بالله} أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه والمؤمنين بالإيمان بما ذكر ، فضمير ( آمنا ) للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة ، وقال المولى عبد الباقي : لما أخذ الله تعالى الميثاق من النبيين أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وينصروه أمر محمداً أيضاً صلى الله عليه وسلم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم فيكون {مِنَ} في موضع آمنت لتعظيم نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام ، أو لما عهد مع النبيين وأممهم أن يؤمنوا أمر محمداً عليه الصلاة والسلام وأمته أن يؤمنوا بهم وبكتبهم. والحاصل أخذ الميثاق من الجانبين على الإيمان على طريقة واحدة ولم يتعرض هنا لحكمة الأنبياء السالفين إما لأن الإيمان بالكتاب المنزل إيمان بما فيه من الحكمة ، أو للإشارة إلى أن شريعتهم منسوخة في زمن هذا النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما على تقدير كون الحكمة بمعنى الشريعة ولم يتعرض لنصرته عليه الصلاة والسلام لهم إذ لا مجال بوجه لنصرة السلف ، ويؤيد دعوى أخذ الميثاق من الجانبين ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن طاوس أنه قال : أخذ الله تعالى ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً.(15/14)
{وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} وهو القرآن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم أولاً وعليهم بواسطة تبليغه إليهم ، ومن هنا أتى بضمير الجمع ، وقد يعتبر الإنزال عليه عليه الصلاة والسلام وحده ، ولكن نسب إلى الجمع ما هو منسوب لواحد منه مجازاً على ما قيل ، ويحتمل أن تكون النون نون العظمة لا ضمير الجماعة ، وعدى الإنزال هنا بعلى وفي البقرة ( 136 ) بإلى لأنه له جهة علو باعتبار ابتدائه وانتهاء باعتبار آخره ، وقد جعل الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم فناسبه الاستعلاء وهناك للعموم ، فناسب الانتهاء كذا قيل ، ويرد عليه قوله تعالى : {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب ءامِنُواْ} [ آل عمران : 72 ] والتحقيق أنه لا فرق بين المعدى بإلى والمعدى بعلى إلا بالاعتبار ، فإن اعتبرت مبدأه عديته بعلى لأنه فوقاني وإن اعتبرت انتهاءه إلى من هو له عديته بإلى ويلاحظ أحد الاعتبارين تارة والآخر أخرى تفنناً بالعبارة ، وفرّق الراغب بأن ما كان واصلاً من الملأ الأعلى بلا واسطة كان لفظ على المختص بالعلو أولى به ، وما لم يكن كذلك كان لفظ إلى المختص بالإيصال أولى به وقيل : أنزل عليه يحمل على أمر المنزل عليه أن يبلغه غيره ، وأنزل إليه يحمل على ما خص به نفسه لأن إليه انتهاء الإنزال وكلا القولين لا يخلو عن نظر(15/15)
{وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط} قيل : خص هؤلاء الكرام بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم ، والمراد بالموصول الصحف كما هو الظاهر وقدم المنزل عليه عليه الصلاة والسلام على المنزل عليهم إما لتعظيمه والاعتناء به ، أو لأنه المعرف له ومعرفة المعرف تتقدم على معرفة المعرف ، والأسباط الأحفاد لا أولاد البنات ، والمراد بهم على رأي أبناء يعقوب الإثنا عشر وذراريهم ، وليس كلهم أبناءاً خلافاً لزاعمه {وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى} من "التوراة" "والإنجيل" وسائر المعجزات كما يشعر به إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب وقيل : هو خاص بالكتابين ، وتغيير الأسلوب للاعتناء بشأن الكتابين ، وتخصيص هذين النبيين بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى {والنبيون} عطف على {موسى وعيسى} أي وبما أوتي النبيون على تعدد أفرادهم واختلاف أسمائهم {مّن رَّبّهِمُ} متعلق بأوتي ، وفي التعبير بالرب مضافاً إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف.
{لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} أي بالتصديق والتكذيب ما فعل اليهود والنصارى والتفريق بغير ذلك كالتفضيل جائز {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي مستسلمون بالطاعة والانقياد في جميع ما أمر به ونهى عنه ، أو مخلصون له في العبادة ، وعلى التقديرين لا تكون هذه الجملة مستدركة بعد جملة الإيمان كما هو ظاهر ، وقيل : إن أهل الملل المخالفة للإسلام كانوا كلهم يقرون بالإيمان ولم يكونوا يقرون بلفظ الإسلام فلهذا أردف تلك الجملة بهذه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 214 ـ 215}(15/16)
وقال ابن عاشور :
المخاطب بفعل قل هو النبي صلى الله عليه وسلم ليقول ذلك بمسمع من الناس : مسلمهم ، وكافرهم ، ولذلك جاء في هذه الآية قوله : {وما أنزل علينا} أي أنزل عليّ لتبليغكم فجعل إنزاله على الرسول والأمة لاشتراكهم في وجوب العمل بما أنزل ، وعدّى فعل ( أنزل ) هنا بحرف ( على ) باعتبار أنّ الإنزال يقتضي علوّاً فوصول الشيء المنزَل وصول استعلاء وعدّي في آية سورة البقرة بحرف ( إلى ) باعتبار أنّ الإنزال يتضمن الوصول وهو يتعدّى بحرف ( إلى ).
والجملة اعتراض.
واستئناف : لتلقين النبي عليه السلام والمسلمين كلاماً جامعاً لمعنى الإسلام ليدوموا عليه ، ويعلن به للأمم ، نشأ عن قوله : {أفغير دين الله يبغون} [ آل عمران : 83 ].
ومعنى : {لا نفرق بين أحد منهم} أننا لا نعادي الأنبياء ، ولا يحملنا حبّ نبيئنا على كراهتهم ، وهذا تعريض باليهود والنصارى ، وحذف المعطوف وتقديره لا نفرق بين أحد وآخر ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة.
وهذه الآية شعار الإسلام وقد قال الله تعالى : {وتؤمنون بالكتاب كله} [ آل عمران : 119 ].
وهنا انتهت المجادلة مع نصارى نجران. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 147}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
آمنا بالله لا بنفوسنا أو حَوْلنا أو قوتنا.
وآمنا بما أنزل علينا بالله ، وأَنَّا لا نُفَرِّق بين أحد منهم -بالله سبحانه - لا بحولنا واختيارنا ، وجهدنا واكتسابنا ، ولولا أنه عرَّفنا أنه مَنْ هو ما عرفنا وإلا فمتى عَلِمْنا ذلك. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 256}(15/17)
قوله تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أمر سبحانه وتعالى بإظهار الإيمان بهذا القول ، وكان ذلك هو الإذعان الذي هو الإسلام قال - محذراً من الردة عنه عاطفاً على {آمنا} ومظهراً لما من حقه الإضمار لولا إرادة التنبيه على ذلك مشيراً بصيغة الافتعال إلى مخالفة الفطرة الأولى - : {ومن يبتغ} أي يتطلب {غير} دين {الإسلام} الذي هو ما ذكر من الانقياد لله سبحانه وتعالى المشتمل على الشرائع المعروفة التي أساسها الإيمان بعد التلبس به حقيقة بإظهار اتباع الرسل أو مجازاً بالكون على الفطرة الأولى بما أشعر به الابتغاء - كما تقدم ، وكرر الإسلام في هذا السياق كثيراً لكونه في حيز الميثاق المأخوذ بمتابعة الرسول المصدق حثاً على تمام الانقياد له {ديناً} وأتى بالفاء الرابطة إعلاماً بأن ما بعدها مسبب عما قبلها ومربوط به فقال : {فلن يقبل منه} أي في الدنيا ، وأشعر ترتيب هذا على السبب بأنه يرجى زوال السبب لأنه مما عرض للعبد كما جرى في الردة في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه ، فإنه رجع إلى الإسلام أكثر المرتدين وحسن إسلامهم ، وقوله : {وهو في الآخرة من الخاسرين} معناه : ولا يقبل منهم في الآخرة ، مع زيادة التصريح بالخسارة - وهي حرمان الثواب - المنافية لمقاصدهم ، والقصد الأعظم بهذا أهل الكتاب مع العموم لغيرهم لإقرارهم بهذا النبي الكريم وتوقعهم له ، عالمين قطعاً بصدقه لما في كتبهم من البشارة به. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 121}
فصل
قال الفخر : (15/18)
اعلم أنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [ آل عمران : 84 ] أتبعه بأن بيّن في هذه الآية أن الدين ليس إلا الإسلام ، وأن كل دين سوى الإسلام فإنه غير مقبول عند الله ، لأن القبول للعمل هو أن يرضى الله ذلك العمل ، ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه ، ولذلك قال تعالى : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [ المائدة : 27 ] ثم بيّن تعالى أن كل من له دين سوى الإسلام فكما أنه لا يكون مقبولاً عند الله ، فكذلك يكون من الخاسرين ، والخسران في الآخرة يكون بحرمان الثواب ، وحصول العقاب ، ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة في الدنيا في تقريره ذلك الدين الباطل واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً لقوله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} إلا أن ظاهر قوله تعالى : {قَالَتِ الأعراب ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} [ الحجرات : 14 ] يقتضي كون الإسلام مغايراً للإيمان ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي ، والآية الثانية على الوضع اللغوي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 110}
فصل فى نزول الآية
قال القرطبى :
قال مجاهد والسُّدِّي : نزلت هذه الآية في الحارث بن سُويد أخو الجُلاَس بن سويد ، وكان من الأنصار ، ارتد عن الإسلام هو واثنا عشر معه ولحقوا بمكة كفاراً ، فنزلت هذه الآية ، ثم أرسل إلى أخيه يطلب التوبة.
ورُوي ذلك عن ابن عباس وغيره.
قال ابن عباس : وأسلم بعد نزول الآيات. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 128}(15/19)
وقال الآلوسى :
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} نزلت في جماعة ارتدوا وكانوا اثني عشر رجلاً وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفاراً ، منهم الحرث بن سويد الأنصاري ، والإسلام قيل : التوحيد والانقياد ، وقيل : شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام بين تعالى أن من تحرى بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم غير شريعته فهو غير مقبول منه ، وقبول الشيء هو الرضا به وإثابة فاعله عليه ، وانتصاب {دِينًا} على التمييز من {غَيْرِ} وهي مفعول {يَبْتَغِ} وجوز أن يكون {دِينًا} مفعول {يَبْتَغِ} و{غَيْرِ} صفة قدمت فصارت حالاً ، وقيل : هو بدل من {غَيْرَ الإسلام} والجمهور على إظهار الغينين ، وروي عن أبي عمرو الإدغام ، وضعفه أبو البقاء بأن كسرة الغين الأولى تدل على الياء المحذوفة (1)
_____________
(1) القراءة متواترة للسوسى عن أبى عمرو ومن ثم فلا يجوز تضعيفها. والله أعلم.(15/20)
{وَهُوَ فِى الآخرة مِنَ الخاسرين} إما معطوفة على جواب الشرط فتكون في محل جزم ، وإما في محل الحال من الضمير المجرور فتكون في محل نصب ، وإما مستأنفة فلا محل لها من الإعراب ، و{فِى الآخرة} متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده أي وهو خاسر في الآخرة أو متعلق بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل هي حرف تعريف ، والخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب ، وقيل : أصل الخسران ذهاب رأس المال ، والمراد به هنا تضييع ما جبل عليه من الفطرة السليمة المشار إليها في حديث " كل مولود يولد على الفطرة " وعدم الانتفاع بذلك وظهوره بتحقق ضده {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [ الشعراء : 88 ، 89 ] والتعبير بالخاسرين أبلغ من التعبير بخاسر كما أشرنا إليه فيما قبل وهو منزل منزلة اللازم ولذا ترك مفعوله ، والمعنى وهو من جملة الواقعين في الخسران واستدل بالآية على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل ، واللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله ، وأجيب بأن {فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} ينفي قبول كل دين يباين دين الإسلام والإيمان ، وإن كان {غَيْرَ الإسلام} لكنه لا يغاير دين الإسلام بل هو هو بحسب الذات ، وإن كان غيره بحسب المفهوم ، وذكر الإمام أن ظاهر هذه الآية يدل على عدم المغايرة ، وقوله تعالى : {قَالَتِ الاعراب ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} [ الحجرات : 14 ] يدل على المغايرة ، ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي ، والثانية على الوضع اللغوي. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 215 ـ 216}(15/21)
وقال السمرقندى :
قوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا} قال الكلبي : نزلت في شأن مرثد بن أبي مرثد ، وطُعْمَة بن أَبَيْرق ، ومقيس بن صبابة ، والحارث بن سُوَيد ، وكانوا عشرة.
وقال مقاتل : كانوا اثني عشر.
وقال الضحاك : يعني لا يقبل من جميع الخلق من أهل الأديان ديناً غير دين الإسلام ، ومن يتدين غير الإسلام ديناً {فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخرة مِنَ الخاسرين} أي من المغبونين ، لأنه ترك منزله في الجنة ، واختار منزله في النار. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 253}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}
عطف على جملة {أفغير دين الله يبغون} وما بينهما اعتراض ، كما علمت ، وهذا تأييس لأهل الكتاب من النجاة في الآخرة ، وردّ لقولهم : نحن على ملة إبراهيم ، فنحن ناجون على كلّ حال.
والمعنى من يبتغ غير الإسلام بعد مجيء الإسلام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 147}
وقال ابن عطية :
حكم تعالى في قوله {ومن يبتغ} الآية بأنه لا يقبل من آدمي ديناً غير دين الإسلام ، وهو الذي وافق في معتقداته دين كل من سمي من الأنبياء ، وهو الحنيفة السمحة ، وقال عكرمة : لما نزلت قال أهل الملل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون ، فقال الله له : فجحهم يا محمد وأنزل عليه {ولله على الناس حج البيت} [ آل عمران : 97 ] فحج المسلمون وقعد الكفار ، وأسند الطبري عن ابن عباس أنه قال : نزلت {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر} إلى قوله {ولا هم يحزنون} [ البقرة : 62 ] فأنزل الله بعدها ، {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} الآية.(15/22)
قال الفقيه الإمام : فهذه إشارة إلى نسخ ، وقوله {في الآخرة} متعلق بمقدر ، تقديره خاسر في الآخر لأن الألف واللام في {الخاسرين} في معنى الموصول ، وقال بعض المفسرين : إن قوله {من يبتغ} الآية ، نزلت في الحارث بن سويد ، ولم يذكر ذلك الطبري. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 467}
فصل
قال ابن عادل :
العامة يظهرون هذين المثلين في {يَبْتَغِ غَيْرَ} لأن بينهُمَا فاصلاً فلم يلتقيا في الحقيقةِ ، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم.
وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان :
الإظهار على الأصل ، ولمراعاة الفاصل الأصْلِيّ.
والإدغام ؛ مراعاةً للفظ ؛ إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة ، ولأن ذلك مستحِقّ الحَذْف لعامل الجَزْم.
وليس هذا مخصوصاً بهذه الآية ، بل كل ما التقى فيه مِثْلاَنِ بسبب حذف حرف لعلةٍ اقتضت ذلك جَرَى فيها الوجهان ، نحو : {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [ يوسف : 9 ] وقوله : {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [ غافر : 28 ].
وقد استشكل على هذا نحو {وياقوم مَالي أَدْعُوكُمْ} [ غافر : 41 ] ونحو : {وياقوم مَن يَنصُرُنِي} [ هود : 30 ] فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلاف في إدغامها ، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين ، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديراً.
قوله : " دِيناً " فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه مفعول " يَبْتَغِ " و" غَيْرَ الإسْلاَمِ " حالٌ ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَت حالاً.
الثاني : أن يكون تمييزاً لِ " غَيْرَ " لإبهامها ، فمُيِّزَتْ كما مُيِّزت " مِثْلُ " و" شِبهُ " وأخواتهما ، وسُمِع من العرب : إن لنا غيرَها إبلاً وشاءً.
والثالث : أن يكون بدلاً من " غَيْرَ ". وعلى هذين الوجهين ف {غَيْرَ الإسلام} هو المفعول به ل " يبتغ ".(15/23)
وقوله : {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} يجوز أن لا يكون لهذه الجملة محلٌّ ؛ لاستئنافها ، ويجوز أن تكون في محل جَزْم ؛ نَسَقاً على جواب الشرط - وهو {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} - ويكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً الخُسران وعدمُ القبول. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 371 ـ 372}
من فوائد البيضاوى فى الآية
قال رحمه الله :
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا} أي غير التوحيد والإِنقياد لحكم الله. {فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الأخرة مِنَ الخاسرين} الواقعين في الخسران ، والمعنى أن المعرض عن الإِسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها ، واستدل به على أن الإِيمان هُو الإِسلام إذ لو كان غيره لم يقبل. والجواب إنه ينفي قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره ، ولعل الدين أيضاً للأعمال. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 61}
وقال أبو حيان :
{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} الإسلام هنا قيل هو الاستسلام إلى الله والتفويض إليه ، وهو مطلوب في كل زمان ومكان وشريعة ، ولذلك فسره الزمخشري بالتوحيد ، وإسلام الوجه لله.
وقيل : المراد بالإسلام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، بيَّن تعالى أن من تحرّى بعد مبعثه شريعة غير شريعته فغير مقبول منه ، وهو الدين الذي وافق في معتقداته دين من ذكر من الأنبياء.
قيل : وعن ابن عباس لما نزلت : {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى} الآية أنزل الله بعدها : {ومن يبتغ} الآية.
وهذا إشارة إلى نسخ {إن الذين آمنوا} وعن عكرمة : لما نزلت قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون ، فقال الله له : حجهم يا محمد ، وأنزل {ولله على الناس حج البيت} فحج المسلمون وقعد الكفار.(15/24)
وقيل : نزلت في الحارث بن سويد ، وستأتي قصته بعد هذا.
وقبول العمل هو رضاه وإثابة فاعله عليه.
{وهو في الآخرة من الخاسرين} الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في بضاعته ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة قد عطفت على جواب الشرط ، فيكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً عدم القبول والخسران ، ويحتمل أن لا تكون معطوفة عليه بل هي استئناف إخبار عن حاله في الآخرة.
و : في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي : وهو خاسر في الآخرة ، أو : بإضمار أعني ، أو : بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل للتعريف ، كهي في : الرجل ، أو : به على أنها موصولة ، وتسومح في الظرف والمجرور لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، وكلُّ منقول ، وقد تقدّم لنا نظير. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 539 ـ 540}. بتصرف يسير.
فصل
قال ابن كثير
قال تعالى : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} أي : من سلك طريقًا سوى ما شَرَعَه الله فلن يُقْبل منه {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : "مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".(15/25)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عباد بن راشد ، حدثنا الحسن ، حدثنا أبو هريرة ، إذ ذاك ونحن بالمدينة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تَجِيءُ الأعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَتَجِيءُ الصَّلاةُ فَتَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَنَا الصَّلاةُ. فَيَقُولُ : إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَنَا الصَّدَقَةُ. فَيَقُولُ : إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ : أَيْ يَا رَبِّ ، أَنَا الصِّيَامُ. فَيَقُولُ : إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ تَجِيءُ الأعْمَالُ ، كُل ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تعالى : إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ، ثُمَّ يَجِيءُ الإسْلامُ فَيَقُولُ : يَا رَب ، أَنْتَ السَّلامُ وَأَنَا الإسْلامُ. فَيَقُولُ اللَّهُ [تعالى] : إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي ، قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}.
تفرد به أحمد. قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد : عباد بن راشد ثقة ، ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. {المسند (2/362) وقال الهيثمي في المجمع (10/345) : "فيه عباد بن راشد ، وثقه أبو حاتم وغيره ، وضعفه جماعة ، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح"}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 70}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
مَنْ سَلَكَ غير الخمود تحت جريان حكمه سبيلاً زَلَّتَ قَدَمُه في وهدة من المغاليط لا مدى لقعرها.
ويقال من توسَّل إليه بشيء دون الاعتصام به فخُسْرانه أكثر من رِبْحِه.
ويقال من لم يَفْنَ عن شهود الكل لم يصل إلى مَنْ به الكل.
ويقال مَنْ لم يَمْشِ تحت راية المصطفى صلى الله عليه وسلم المُعظَّم في قَدْره ، المُعَلَّى في وصفه ، لم يُقْبَلْ منه شيء ولا ذرة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 256}(15/26)
قوله تعالى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر سبحانه وتعالى بخسارة من ارتد عن الإسلام شرع يستدل على استحقاقه لذلك بقوله : {كيف يهدي الله} مع ما له من كمال العظمة {قوماً} أي يخلق الهداية في قلوب ناس بهم قوة المحاولة لما يريدونه {كفروا} أي أوقعوا الكفر بالله ربهم وبما ذكر مما أتت به رسله إعراضاَ عنه وعنهم ، ولما كان المقصود بكمال الذم من استمر كفره إلى الموت قال من غير جار : {بعد إيمانهم} بذلك كله {وشهدوا} أي وبعد أن شهدوا {أن الرسول حق} بما عندهم من العلم به {وجاءهم البينات} أي القاطعة بأنه حق وأنه رسول الله قطعاً ، لا شيء أقوى من بيانه ولا أشد من ظهوره بما أشعر به إسقاط تاء التأنيث من جاء.(15/27)
ولما كان الحائد عن الدليل بعد البيان لا يرجى في الغالب عوده كان الاستبعاد بكيف موضحاً لأن التقدير لأجل التصريح بالمراد : أولئك لا يهديهم الله لظلمهم بوضعهم ثمرة الجهل بنقض عهد الله سبحانه وتعالى المؤكد بواسطة رسله موضع ثمرة العلم ، فعطف على هذا المقدر المعلوم تقديره قوله : {والله} أي الذي له الكمال كله {لا يهدي القوم الظالمين} أي الغريقين في الظلم لكونه جبلهم على ذلك ، تحذيراً من مطلق الظلم ، ولما علمت بشاعة خيانتهم تشوف السامع إلى معرفة جزائهم فقال : {أولئك} أي البعداء البغضاء {جزاؤهم أن عليهم لعنة الله} أي الملك الأعظم ، وهي غضبه وطرده {والملائكة والناس أجمعين} حتى أنهم هم ليلعنون أنفسهم ، فإن الكافر يطبع على قلبه فيظن أنه على هدى ويصير يلعن الكافر ظاناً أنه ليس بكافر ، وهذا اللعن واقع عليهم حال تلبسهم بالفعل لوضعهم الشيء في غير محله ، فصار كل من له علم يبعدهم لسوء صنيعهم لتبديلهم الحسن بالسيىء ، وحذراً من فعل مثل ذلك معه {خالدين فيها} أي اللعنة دائماً.
ولما كان المقيم في الشدة قد تنقص شدته على طول نفي ذلك بقوله : {لا يخفف عنهم العذاب} مفيداً أن عليهم مع مطلق الشدة بالطرد شدائد أخرى بالعقوبة.
ولما كان المعذب على شيء ربما استمهل وقتاً ما ليرجع عن ذلك الشيء أو ليعتذر نفى ذلك بقوله : {ولا هم ينظرون} أي يؤخرون للعلم بحالهم باطناً وظاهراً حالاً ومآلاً ، ولإقامة الحجة عليهم من جميع الوجوه ، لم يترك شيء نمها لأن المقيم لها منزه عن العجز والنسيان.(15/28)
ولما انخلعت القلوب بهذه الكروب نفّس عنها سبحانه وتعالى مشيراً إلى أن فيهم - وإن استبعد رجوعهم - موضعاً للرجاء بقوله : {إلا الذين تابوا} أي رجعوا إلى ربهم متذكرين لإحسانه ، ولما كان التائب لم يستغرق زمان ما بعد الإيمان بالكفر ، وكانت التوبة مقبولة ولو قل زمنها أثبت الجار فقال : {من بعد ذلك} الارتدار حيث تقبل التوبة {وأصلحوا} أي بالاستمرار على ما تقضيه من الثمرات الحسنة {فإن الله} أي الذي له الجلال والإكرام يغفر ذنوبهم لأن الله {غفور} يمحو الزلات {رحيم} بإعطاء المثوبات ، هذه صفة لهم ولكل من تاب من ذنبه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 121 ـ 122}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما عظم أمر الإسلام والإيمان بقوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الأخرة مِنَ الخاسرين} [ آل عمران : 85 ] أكد ذلك التعظيم بأن بيّن وعيد من ترك الإسلام ، فقال : {كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 111}
فصل
قال الفخر :
في سبب النزول أقوال
الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في عشرة رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ، وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله {إِلاَّ الذين تَابُواْ}
الثاني : نقل أيضاً عن ابن عباس أنه قال : نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه ، وكانوا يشهدون له بالنبوّة ، فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغياً وحسداً(15/29)
والثالث : نزلت في الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن اسألوا لي هل لي من توبة ؟ فأرسل إليه أخوه بالآية ، فأقبل إلى المدينة وتاب على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم توبته ،
قال القفال رحمه الله : للناس في هذه الآية قولان : منهم من قال إن قوله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا} [ آل عمران : 85 ] وما بعده من قوله {كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم} إلى قوله {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون} [ آل عمران : 90 ] نزل جميع ذلك في قصة واحدة ، ومنهم من جعل ابتداء القصة من قوله {إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} [ آل عمران : 90 ] ثم على التقديرين ففيها أيضاً قولان أحدهما : أنها في أهل الكتاب
والثاني : أنها في قوم مرتدين عن الإسلام آمنوا ثم ارتدوا على ما شرحناه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 111}
وقال القرطبى :
قال ابن عباس : إن رجلاً من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم ؛ فأرسل إلى قومه : سَلُوا لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي مِنْ توبة ؟ فجاء قومُه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل له من توبة ؟ فنزلت {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله : {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فأرسل إليه فأسلم.
أخرجه النسائي.(15/30)
وفي رواية : أن رجلاً من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين ، فأنزل الله {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ} إلى قوله : {إِلاَّ الذين تَابُواْ} فبعث بها قومُه إليه ، فلما قرئت عليه قال : والله ما كذَبني قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أكذبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله ، والله عز وجل أصدق الثلاثة ؛ فرجع تائباً ، فقبِل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه.
وقال الحسن : نزلت في اليهود لأنهم كانوا يبشِّرون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ويَسْتَفْتِحون على الذِين كفروا ؛ فلما بُعِث عانَدُوا وكفروا ، فأنزل الله عز وجل {أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ}.
ثم قيل : "كيف" لفظة استفهام ومعناه الجحْد ، أي لا يهدي الله.
ونظيره قوله : {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} [ التوبة : 7 ] أي لا يكون لهم عهد ؛ وقال الشاعر :
كيف نومي على الفِراش ولَمَّا . . .
يشمل القومَ غارةٌ شَعْواءُ
أي لا نوم لي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 129}
قال الطبرى :
وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن : منْ أنّ هذه الآية معنيٌّ بها أهل الكتاب على ما قال ، غيرَ أنّ الأخبار بالقول الآخر أكثر ، والقائلين به أعلم ، بتأويل القرآن.
(15/31)
وجائز أن يكون الله عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام ، فجمع قصّتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات. ثم عرّف عباده سُنته فيهم ، فيكون داخلا في ذلك كلّ من كان مؤمنًا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أنُ يبعث ، ثم كفر به بعد أن بُعث ، وكلّ من كان كافرًا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتد وهو حيٌّ عن إسلامه. فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين الصنفين وغيرُهما ممن كان بمثل معناهما ، بل ذلك كذلك إن شاء الله.
فتأويل الآية إذًا : "كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم" ، يعني : كيف يُرشد الله للصواب ويوفّق للإيمان ، قومًا جحدُوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم "بعد إيمانهم" ، أي : بعد تصديقهم إياه ، وإقرارهم بما جاءَهم به من عند ربه "وَشهدوا أن الرسول حقّ" ، يقول : وبعد أن أقرّوا أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه حقًّا "وجاءهم البينات" ، يعني : وجاءهم الحجج من عند الله والدلائلُ بصحة ذلك ؟. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 575 ـ 576}
فصل
قال الفخر : (15/32)
اختلف العقلاء في تفسير قوله {كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم} أما المعتزلة فقالوا : إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ، ووضع الدلائل وفعل الألطاف ، إذ لو يعم الكل بهذه الأشياء لصار الكافر والضال معذوراً ، ثم إنه تعالى حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار ، فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل ، ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول : المراد من هذه الآية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثواباً لهم على إيمانهم كما قال تعالى : {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [ العنكبوت : 69 ] وقال تعالى : {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} [ مريم : 76 ] وقال تعالى : {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [ محمد : 17 ] وقال : {يَهْدِى بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} [ المائدة : 16 ] فدلت هذه الآيات على أن المهتدي قد يزيده الله هدىً
الثاني : أن المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنة قال تعالى : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [ النساء : 168 ، 169 ] وقال : {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} [ يونس : 9 ]
(15/33)
والثالث : أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه لأن على هذا التقدير يلزم أن يكون أيضاً من الله تعالى لأنه تعالى إذا خلق المعرفة كان مؤمناً مهتدياً ، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضالاً ، ولو كان الكفر من الله تعالى لم يصح أن يذمهم الله على الكفر ولم يصح أن يضاف الكفر إليهم ، لكن الآية ناطقة بكونهم مذمومين بسبب الكفر وكونهم فاعلين للكفر فإنه تعالى قال : {كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم} فضاف الكفر إليهم وذمهم على ذلك الكفر فهذا جملة أقوالهم في هذه الآية ،
وأما أهل السنة فقالوا : المراد من الهداية خلق المعرفة ، قالوا : وقد جرت سنة الله في دار التكليف أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإن الله تعالى يخلقه عقيب قصد العبد ، فكأنه تعالى قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفة وهم قصدوا تحصيل الكفر أو أرادوه والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 111 ـ 112}
قوله تعالى {وشهدوا}
قال الفخر :
قوله {وشهدوا} فيه قولان :
الأول : أنه عطف والتقدير بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أن الرسول حق ، لأن عطف الفعل على الاسم لا يجوز فهو في الظاهر وإن اقتضى عطف الفعل على الاسم لكنه في المعنى عطف الفعل على الفعل
الثاني : أن الواو للحال بإضمار ( قد ) والتقدير : كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم حال ما شهدوا أن الرسول حق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 112}
فصل
قال الفخر :
تقدير الآية : كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ، وبعد الشهادة بأن الرسول حق ، وقد جاءتهم البينات ، فعطف الشهادة بأن الرسول حق ، على الإيمان ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ، فيلزم أن الشهادة بأن الرسول حق مغاير للإيمان(15/34)
وجوابه : إن مذهبنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والشهادة هو الإقرار باللسان ، وهما متغايران فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أن الإيمان مغاير للإقرار باللسان وأنه معنى قائم بالقلب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 112}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى استعظم كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث
أحدها : بعد الإيمان
وثانيها : بعد شهادة كون الرسول حقاً
وثالثها : بعد مجيء البينات ، وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحاً بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة ، فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود ، وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 112}
فصل
قال ابن عادل :
الاستفهام فيه كقوله : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [ البقرة : 28 ].
وقيل : الاستفهام - هنا - معناه النَّفْي كقوله : [ الخفيف ]
كَيْفَ نَوْمي عَلَى الْفِرَاش وَلَمَّا... تَشمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ ؟
وقول الآخر : [ الطويل ]
فَهَذِي سُيُوفٌ يَا صُدَبُّ بْنَ مَالِكٍ... كَثِيرٌ ، وَلَكِنْ كَيْفَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ ؟
يعني : أين بالسيف ؟
{وشهدوا} في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها معطوفة على " كَفَرُوا " و" كَفَرُوا " في محل نَصْب ؛ نعتاً لِ " قوماً " أي : كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين ، وإلى هذا ذهب ابنُ عطيةَ والحَوْفِيُّ وأبو البقاء ، وردَّه مكيّ ، فقال : لا يجوز عطف " شَهِدُوا " على كَفَرُوا " لفساد المعنى. ولم يُبَيِّن جهَةَ الفساد ، فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة ، فلذلك فَسَد المعنى عنده. وهذا غير لازم ؛ فإن الواو لا تقتضي ترتيباً ، ولذلك قال ابن عطيةَ : " المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكُفْر ، والواو لا تُرَتِّب ".(15/35)
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من واو " كَفَرُوا " فالعامل فيها الرافع لصاحبها ، و" قد " مضمرة معها على رأي - أي كفروا وقد شهدوا ، وإليه ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ ، وأبي البقاء وغيرهما.
قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون العامل " يَهْدِي " ؛ لأنه يهدي من شَهِدَ أن الرسولَ حق ".
يعني أنه لا يجوز أن يكون حالاً من " قَوْماً " والعاملُ في الحالِ " يَهْدِي " لما ذكر من فساد المعنى.
الثالث : أن يكون معطوفاً على " إيمَانِهِمْ " لما تضمَّنه من الانحلال لجملة فعلية ؛ إذ التقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا ، وإلى هذا ذهب جماعة.
قال الزمخشريُّ : أن يُعْطَف على ما في " إيمانهم " من معنى الفعل ؛ لأن معناه : بعد أن آمنوا ، كقوله : {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [ المنافقون : 10 ] وقول الشاعر : [ الطويل ]
مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت يوهم ما يسوِّغ العطف عليه في الجملة ، كذا يقول النحاة : جزم على التوهم أي لسقوط الفاء ؛ إذْ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض ، ولذا يقولون : توهَّم وجودَ الباء فَجَرَّ.
وفي العبارة - بالنسبة إلى القرآن - سوء أدبٍ ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك.
وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى ، كقوله : {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَنا} [ الحديد : 18 ].
إذ هو في قوة : إن الذين تصدقوا وأقرضوا.
وقال الواحدي : " عطف الفعل على المصدر ؛ لأنه أرادَ بالمصدر الفعلَ ، تقديره : كفروا بالله بعد أن آمنوا ، فهو عطف على المعنى ، كقوله : [ الوافر ]
لَلُبْسُ عَبَاءةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي... أحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
معناه : لأن ألبس عباءةً وتقرَّ عيني ".(15/36)
وظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن الأول مؤوَّل لأجل الثاني ، وهذا ليس بظاهر ؛ لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلب فِعْلاً ، كقوله : {إِنَّ المصدقين} لأن الموصول يطلب جملة فعلية ، فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعله ، وعطفنا عليه و" أقرضُوا " وأما " بعد إيمانهم " وقوله : " للبس عباءة " ، فليس الاسم محتاجاً إلى فِعل ، فالذي ينبغي هو أن نتأوَّل الثاني باسم ؛ ليصحَّ عطفه على الاسم الصريح قبله ، وتأويله بأن تأتي معه بـ " أن " المصدريَّة مقدَّرةً ، تَقْدِيرُهُ : بعد إيمانهم وأن شهدوا أي وشهادتهم ، ولهذا تأول النحويون قوله : للُبْسُ عباءة وتقرَّ : وأن تَقَرَّ ، إذ التقدير : وقرة عيني ، وإلى هذا ذهب أبو البقاء ، فقال : " التقدير : بعد أن آمنوا وأن شهدوا ، فيكون في موضع جر ، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصحيح المجرور بالظرف ".
وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا ، ويشهد لتقدير الزمخشريّ ؛ فإنه قال : قوله " وَشَهِدُوا " منسوق على ما يُمْكن في التقدير ، وذلك أن قوله : " بعد إيمانهم " يمكن أن يكون : بعد أن آمنوا ، و" أن " الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر ، كقوله : {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم} [ البقرة : 184 ] ، أي : والصوم.
ومثله مما حُمِل فيه على المعنى قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل} [ الشورى : 51 ] فهو عطف على قوله : " إلا وحياً " ويمكن فيه : إلاَّ أن يُوحِيَ إليه ، فلما كان قوله : " إلا وحياً " بمعنى : إلا أن يُوحِي إليه ، حمله على ذلك.
ومثله من الشعر : [ الطويل ]
فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ... صَفِيفَ شواءٍ أوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ(15/37)
خفض قوله : قدير ؛ لأنه عطف على ما يمكن في قوله : منضج ؛ لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف ، فحملَه على ذلك ، فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشريِّ بهذه الآيةِ الكريمةِ والبيت المتقدميْن ؛ لأنه جر " قدير " - هنا - على التوهُّم ، كأنه توهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله ؛ تخفيفاً ، فَجرَّ على التوهُّم كما توهم الآخر وجود الباء في قوله : ليسوا مصلحين ؛ لأنها كثيراً ما تزاد في خبر " ليس ".
فإن قيل : إذا كان تقدير الآية : كيف يهدي اللهُ قوماً كفروا بعد الإيمانِ وبعد الشهادةِ بأن الرسول حق ، وبعد أن جاءَهم البيِّنات ، فعطف الشهادة بأن الرسول حَقٌّ يقتضي أنه مغاير للإيمان.
فالجواب : أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والشهادة هي الإقرار باللسان ، فهما متغايران.
وقوله : " أن الرسول " الجمهور على أنه وَصْف بمعنى المُرْسَل ، وقيل : هو بمعنى الرسالةِ ، فيكون مصدراً ، وقد تقدم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 272 ـ 375}
قوله تعالى : {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين}
قال ابن عطية :
وقوله تعالى {والله لا يهدي القوم الظالمين} عموم معناه الخصوص فيمن حتم كفره وموافاته عليه ، ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله ، فتجيء الآية عامة تامة العموم. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 468}
وقال القرطبى :
{والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} يقال : ظاهر الآية أَنَّ مَن كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالماً ، لا يهديه الله ؛ وقد رأينا كثيراً من المرتدِّين قد أسلموا وهداهم الله ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظلم.(15/38)
قيل له : معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يُقبِلون على الإسلام ؛ فأما إذا أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك. والله تعالى أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 129 ـ 130}
وقال السمرقندى :
فإن قيل : في ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه ، لا يهديه الله ، ومن كان ظالماً لا يهديه الله ، وقد رأينا كثيراً من المرتدين ، أسلموا وهداهم الله ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظلم.
قيل له : لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ، ولا يُقْبِلُون إلى الإسلام ، فأما إذا جاهدوا ، وقصدوا الرجوع ، وفقهم الله لذلك لقوله : {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} [ سورة العنكبوت : 69 ] وتأويل آخر : {كَيْفَ يَهْدِى الله} يقول : كيف يرشدهم إلى الجنة ؟ كما قال في آية : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} [ النساء : 168 ] ويقال : كيف يرحمهم الله وينجيهم من العقوبة ؟ ويقال : كيف يغفر الله لهم ؟ وقالت المعتزلة : كَيْفَ يَهْدِي الله ؟ معناه : كيف يكونون مهتدين ، لأنهم لا يرون الهداية ، والاهتداء في الابتداء إلا على سبيل الجزاء ، ويرون ذلك من كسب العبد. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 254}
سؤالان
السؤال الأول : قال في أول الآية {كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا} وقال في آخرها {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} وهذا تكرار.
والجواب : أن قوله {كَيْفَ يَهْدِى الله} مختص بالمرتدين ، ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في المرتد وفي الكافر الأصلي فقال : {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين}.
السؤال الثاني : لم سمي الكافر ظالماً ؟.(15/39)
الجواب : قال تعالى : {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [ لقمان : 13 ] والسبب فيه أن الكافر أورد نفسه موارد البلاء والعقاب بسبب ذلك الكفر ، فكان ظالماً لنفسه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 112 ـ 113}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{كَيْفَ يَهْدِى الله} إلى الدين الحق {قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم} أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسداً للعرب حين بعث من غيرهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله ، وقال عكرمة : هم أبو عامر الراهب والحرث بن سويد في اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة ؟ فنزلت الآية فيهم وأكثر الروايات على هذا والمراد من الآية استبعاد أن يهديهم أي يدلهم دلالة موصولة لا مطلق الدلالة قاله بعضهم ، وقيل : إن المعنى كيف يسلك بهم سبيل المهديين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد فعلوا ما فعلوا ، وقيل : إن الآية على طريق التبعيد كما يقال : كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته أي لا طريق يهديهم به إلى الإيمان إلا من الوجه الذي هداهم به وقد تركوه ولا طريق غيره ، وقيل : إن المراد كيف يهديهم إلى الجنة ويثيبهم والحال ما ترى ؟ا(15/40)
{وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {حَقّ} لا شك في رسالته {وَجَاءهُمُ البينات} أي البراهين والحجج الناطقة بحقية ما يدعيه ، وقيل : القرآن ، وقيل : ما في كتبهم من البشارة به عليه الصلاة والسلام ، {وَشَهِدُواْ} عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأنه بمعنى آمنوا ، والظاهر أنه عطف على المعنى كما في قوله تعالى : {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله} [ الحديد : 18 ] لا على التوهم كما توهم ؛ واختار بعضهم تأويل المعطوف ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله بأن يقدر معه أن المصدرية أي : وإن شهدوا أي وشهادتهم على حد قوله :
ولبس عباءة وتقرّ عيني... أحب إليّ من لبس الشفوف(15/41)
وإلى هذا ذهب الراغب وأبو البقاء ، وجوز عطفه على {كَفَرُواْ} وفساد المعنى يدفعه أن العطف لا يقتضي الترتيب فليكن المنكر الشهادة المقارنة بالكفر أو المتقدمة عليه ، واعترض بأن الظاهر تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه وشهادتهم هذه لم تكن بعد إيمانهم بل معه أو قبله ؛ وأجيب بالمنع لأنه لا يلزم تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه ولو قصد ذلك لأخر ، وقيل : يمنع من ذلك العطف أنهم ليسوا جامعين بين الشهادة والكفر ، وأجيب بالمنع بل هم جامعون وإن لم يكن ذلك معاً ، ومن الناس من جعله معطوفاً على {كَفَرُواْ} ولم يتكلم شيئاً مما ذكر ، وزعم أن ذلك في المنافقين وهو خلاف المنقول والمعقول ، والأكثرون من المحققين على اختيار الحالية من الضمير في {كَفَرُواْ} وقد معه مقدرة ، ولا يجوز أن يكون العامل يهدي لأنه يهدي من شهد أن الرسول حق وعليه ، وعلى تقدير العطف على الإيمان استدل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان ، ووجه ذلك أن العطف يقتضي بظاهره "المغايرة" بين المعطوف والمعطوف عليه وأن الحالية تقتضي التقييد ولو كان الإقرار داخلاً في حقيقة الإيمان لخلا ذكره عن الفائدة ، ولو كان عينه يلزم تقييد الشيء بنفسه ولا يخفى ما فيه ، وادعى بعضهم أن المراد من الإيمان الإيمان بالله ، ومن الشهادة المذكورة الإيمان برسول صلى الله عليه وسلم ، والأمر حينئذ واضح فتدبر {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ، ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه ؛ ويجوز حمل الظلم مطلقه فيدخل فيه الكفر دخولاً أولياً ، والجملة اعتراضية أو حالية. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 216 ـ 217}(15/42)
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}
استئناف ابتدائي يناسب ما سبقه من التنويه بشرف الإسلام.
( وكيف ) استفهام إنكاري والمقصود إنكار أن تحصل لهم هداية خاصة وهي إما الهداية الناشئة عن عناية الله بالعبد ولطفه به ، وإسنادها إلى الله ظاهر ؛ وإما الهداية الناشئة عن إعمال الأدلة والاستنتاج منها ، وإسنادُها إلى الله لأنّه موجد الأسباب ومسبّباتها.
ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملاً في الاستبعاد ، فإنهم آمنوا وعلموا ما في كتب الله ، ثمّ كفروا بعد ذلك بأنبيائهم ، إذ عبدَ اليهود الأصنام غير مرة ، وعبد النصارى المسِيح ، وقد شهدوا أنّ محمداً صادق لقيام دلائل الصدق ، ثم كابروا ، وشككوا الناس.
وجاءتهم الآيات فلم يتعظوا ، فلا مطمع في هديهم بعد هذه الأحوال ، وإنما تسري الهداية لمن أنصف وتهيّأ لإدراك الآيات دون القوم الذين ظلموا أنفسهم.
وقيل نزلت في اليهود خاصّة.
وقيل نزلت في جماعة من العرب أسلموا ثم كفروا ولحقوا بقريش ثم ندموا فراسلوا قومهم من المسلمين يسألونهم هل من توبة فنزلت ، ومِنهم الحارث بن سويد ، وأبو عامر الراهب ، وطُعيمة بن أُبَيْرِق.
وقوله : {وشهدوا} عطف على {إيمانهم} أي وشهادتهم ، لأنّ الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق يحسن عطفه على الفعل وعطفُ الفعل عليه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 147 ـ 148}
قوله تعالى : {أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ خالدين فِيهَا}
قال الفخر :
المعنى أنه تعالى حكم بأن الذين كفروا بعد إيمانهم يمنعهم الله تعالى من هدايته ، ثم بيّن أن الأمر غير مقصور عليه ، بل كما لا يهديهم في الدنيا يلعنهم اللعن العظيم ويعذبهم في الآخرة ، على سبيل التأبيد والخلود.(15/43)
واعلم أن لعنة الله ، مخالفة للعنة الملائكة ، لأن لعنته بالإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب واللعنة من الملائكة هي بالقول ، وكذلك من الناس ، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم فصح أن يكون جزاء لذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 113}
قال ابن عطية :
" اللعنة " الإبعاد وعدم الرحمة والعطف ، وذلك مع قرينة الكفر زعيم بتخليدهم في النار ، ولعنة الملائكة قول ، و{الناس} : بنو آدم ، ويظهر من كلام أبي علي الفارسي في بعض تعاليقه ، أن الجن يدخلون في لفظة الناس ، وأنشد على ذلك ، [ الوافر ]
فقلتُ إلى الطَّعامِ فَقَالَ مِنْهُمْ... أُناسٌ يَحْسُدُ الأَنَسَ الطَّعاما
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي يظهر ، أن لفظة {الناس} إذا جاءت مطلقة ، فإنما هي في كلام العرب بنو آدم لا غير ، فإذا جاءت مقيدة بالجن ، فذلك على طريقة الاستعارة ، إذ هي جماعة كجماعة ، وكذلك {برجال من الجن} [ الجن : 6 ] وكذلك {نفر من الجن} [ الجن : 1 ] ، ولفظة النفر أقرب إلى الاشتراك من رجال وناس ، وقوله تعالى : {من الجنة والناس} [ الناس : 6 ] قاض بتباين الصنفين ، وقوله تعالى : {والناس أجمعين} إما يكون لمعنى الخصوص في المؤمنين ويلعن بضعهم بعضاً ، فيجيء من هذا في كل شخص منهم أن لعنة جميع الناس ، وإما أن يريد أن هذه اللعنة تقع في الدنيا من جميع الناس على من هذه صفته ، وكل من هذه صفته - وقد أغواه الشيطان- يلعن صاحب الصفات ولا يشعر من نفسه أنه متصف بها ، فيجيء من هذا أنهم يلعنهم جميع الناس في الدنيا حتى أنهم ليلعنون أنفسهم ، لكن على غير تعيين. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 468 ـ 469}(15/44)
وقال البيضاوى :
{أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} يدل بمنطوقه على جواز لعنهم ، وبمفهومه على نفي جواز لعن غيرهم. ولعل الفرق أنهم مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدى مؤيسون عن الرحمة رأساً بخلاف غيرهم ، والمراد بالناس المؤمنون أو العموم فإن الكافر أيضاً يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 62}
وقال الآلوسى :
{أولئك} أي المذكورون المتصفون بأشنع الصفات وهو مبتدأ ، وقوله سبحانه : {جَزَآؤُهُمْ} أي جزاء فعلهم مبتدأ ثان ، وقوله عز شأنه : {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملئكة والناس أَجْمَعِينَ} خبر المبتدأ الثاني ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول قيل : وهذا يدل بمنطوقه على جواز لعنهم ، ومفهومه ينفي جواز لعن غيرهم ، ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم حتى خص اللعن بهم أنهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون بسبب خياثة ذواتهم وقبح استعدادهم من الهدى آيسون من رحمة الله تعالى بخلاف غيرهم ، والخلاف في لعن أقوام بأعيانهم ممن ورد لعن أنواعهم كشارب خمر معين مثلا مشهور والنووي على جوازه استدلالا بما ورد أنه صلى الله عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال : لعن الله تعالى من فعل هذا وبما صح أن الملائكة تلعن من خرجت من بيتها بغير إذن زوجها ، وأجيب بأن اللعن هناك للجنس الداخل فيه الشخص أيضاً ، واعترض بأنه خلاف الظاهر كتأويل إن وراكبها بذلك والاحتياط لا يخفى والمراد من الناس إما المؤمنون لأنهم هم الذين يلعنون الكفرة ، أو المطلق لأن كل واحد يلعن من لم يتبع الحق ، وإن لم يكن غير متبع بناءاً على زعمه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 217}
سؤالان
السؤال الأول : لم عم جميع الناس ومن يوافقه لا يلعنه ؟.
قلنا : فيه وجوه(15/45)
الأول : قال أبو مسلم له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه
الثاني : أنه في الآخرة يلعن بعضهم بعضاً قال تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [ الأعراف : 38 ] وقال : {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [ العنكبوت : 25 ] وعلى هذا التقدير فقد حصل اللعن للكفار من الكفار
والثالث : كأن الناس هم المؤمنون ، والكفار ليسوا من الناس ، ثم لما ذكر لعن الثلاث قال : {أَجْمَعِينَ}
الرابع : وهو الأصح عندي أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ، ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا بكافر ، فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافراً ، فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك.
السؤال الثاني : قوله {خالدين فِيهَا} أي خالدين في اللعنة ، فما خلود اللعنة ؟.
قلنا : فيه وجهان
الأول : أن التخليد في اللعنة على معنى أنهم يوم القيامة لا يزال يلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم ، من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء
الثاني : أن المراد بخلود اللعن خلود أثر اللعن ، لأن اللعن يوجب العقاب ، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن ، ونظيره قوله تعالى : {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً * خالدين فِيهِ} [ طه : 100 ، 101 ]
الثالث : قال ابن عباس قوله {خالدين فِيهَا} أي في جهنم فعلى هذا الكناية عن غير مذكور. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 113}(15/46)
وقال الآلوسى :
{خالدين فِيهَا} حال من الضمير في {عَلَيْهِمْ} [ آل عمران : 78 ] والعامل فيه الاستقرار ، والضمير المجرور للعنة أو للعقوبة أو للنار ، وإن لم يجر لها ذكر اكتفاءاً بدلالة اللعنة عليها {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي لا يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر ، أو لا ينظر إليهم ولا يعتد بهم ، والجملة إما مستأنفة أو في محل نصب على الحال. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 217}
قال ابن عطية :
وقرائن الآية تقتضي أن هذه اللعنة مخلدة لهم في جهنم : فالضمير عائد على النار ، وإن كان لم يجر لها ذكر ، لأن المعنى يفهمها في هذا الموضع كما يفهم قوله تعالى : {كل من عليها فان} [ الرحمن : 26 ] أنها الأرض ، وقد قال بعض الخراسانيين في قوله تعالى : {إنما أنت منذر من يخشاها} [ النازعات : 45 ] إن الضمير عائد على النار و{ينظرون} في هذه الآية ، بمعنى يؤخرون ، ولا راحة إلا في التخفيف أو التأخير فهما مرتفعان عنهم ، ولا يجوز أن يكون {ينظرون} هنا من نظر العين إلا على توجيه غير فصيح لا يليق بكتاب الله تعالى. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 469}
فصل
قال ابن عادل :
وفي قوله : {جَزَآؤُهُمْ} وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ ثانياً ، و{أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} في محل رفع ؛ خبراً ل " جَزَاؤُهُمْ " والجملة خبر ل " أولئك ".
والثاني : أن يكون " جَزَاؤُهُمْ " بدلاً من " أولَئِكَ " بدل اشتمال ، و{أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} خبر " أولئك ".(15/47)
وقال هنا : {جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} وقال - هناك- : {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله} [ البقرة : 161 ] دون " جزاؤهم " قيل : لأن هناك وقع الإخْبار عمن توفِّيَ على الكُفْر ، فمن ثَمَّ حتم الله عليه اللعنة ، بخلافه هنا ، فإن سبب النزول في قوم ارتدوا ثم رجعوا للإسلام ، ومعنى : " جَزَاؤُهُمْ " أي : جزاء كفرهم وارتدادهم ، وتقدم القول في قراءة الحسن " النَّاس أجمعون " وتخريجها.
قوله : " خالدين " حال من المضير في " عَلَيْهِمْ " والعامل فيها الاستقرار ؛ أو الجارّ ؛ لقيامه مقام الفعلِ ، والضمير في " فِيهَا " للَّعنة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 377}
قوله تعالى : {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}
قال الفخر :
معنى الإنظار التأخير قال تعالى : {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [ البقرة : 280 ] فالمعنى أنه لا يجعل عذابهم أخف ولا يؤخر العقاب من وقت إلى وقت وهذا تحقيق قول المتكلمين : إن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة ، نعوذ منه بالله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 113}
قوله تعالى : {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك}
قال الفخر :
والمعنى إلا الذين تابوا منه ، ثم بيّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى ينضاف إليها العمل الصالح فقال : {وَأَصْلَحُواْ} أي أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات ، وذلك بأن يلعنوا بأنا كنا على الباطل حتى أنه لو اغتر بطريقتهم الفاسدة مغتر رجع عنها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 113}
وقال ابن عطية :
والإصلاح عام في القول والعمل. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 469}(15/48)
قوله تعالى : {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
قال الفخر :
فيه وجهان
الأول : غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر ، رحيم في الآخرة بالعفو
الثاني : غفور بإزالة العقاب ، رحيم بإعطاء الثواب ، ونظيره قوله تعالى : {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [ الأنفال : 38 ] ودخلت الفاء في قوله {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لأنه الجزاء ، وتقدير الكلام : إن تابوا فإن الله يغفر لهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 113 ـ 114}
وقال ابن كثير :
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه : أنه من تاب إليه تاب عليه. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 71}
وقال الآلوسى :
{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} أي الكفر الذي ارتكبوه بعد الإيمان {وَأَصْلَحُواْ} أي دخلوا في الصلاح بناءاً على أن الفعل لازم من قبيل أصبحوا أي دخلوا في الصباح ، ويجوز أن يكون متعدياً والمفعول محذوف أي أصلحوا ما أفسدوا ففيه إشارة كما قيل إلى أن مجرد الندم على ما مضى من الارتداد ، والعزم على تركه في الاستقبال غير كاف لما أخلوا به من الحقوق ، واعترض بأن مجرد التوبة يوجب تخفيف العذاب ونظر الحق إليهم ، فالظاهر أنه ليس تقييداً بل بيان لأن يصلح ما فسد. وأجيب بأنه ليس بوارد لأن مجرد الندم والعزم على ترك الكفر في المستقبل لا يخرجه منه فهو بيان للتوبة المعتد بها ، فالمآل واحد عند التحقيق. {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فيغفر كفرهم ويثيبهم ، وقيل : {غَفُورٌ} لهم في الدنيا بالستر على قبائحهم {رَّحِيمٌ} بهم في الآخرة بالعفو عنهم ولا يخفى بعده والجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 218}(15/49)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيات الكريمة
قوله جلّ ذكره : {كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} الآية.
مَنْ أبعده عن استحقاق الوصلة في سابق حكمه فمتى يقربه من بساط الخدمة بفعله في وقته ؟
ويقال : الذي أقصاه حكم ( الأول ) متى أدناه صدق العمل ؟ والله غالبٌ على أمره.
أولئك قصارى حالهم ما سبق لهم من حكمه في ابتداء أمرهم ، ابتداؤهم ردُّ القسمة ، ووسائطهم الصدُّ عن الخدمة ، ونهايتهم المصير إلى الطرد والمذلة.
خالدين في تلك المذلة لا يفتر عنهم العذاب لحظة ، ولا يخفف دونهم الفراق ساعة.
أولئك هم الذين تداركتهم الرحمة ، ولم يكونوا في شق السبق من تلك الجملة ، وإن كانوا في توهم الخلق من تلك الزمرة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 257}(15/50)
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما رغب في التوبة رهب من التواني عنها فقال : {إن الذين كفروا} أي بالله وأوامره ، وأسقط الجار لما مضى من قوله {من بعد إيمانهم} بذلك.
ولما كان الكفر لفظاعته وقبحه وشناعته جديراً بالنفرة عنه والبعد منه نبه سبحانه وتعالى على ذلك باستبعاد إيقاعه ، فكيف بالتمادي عليه فكيف بالازدياد منه! وعبر عن ذلك بأداة التراخي فقال : {ثم ازدادوا كفراً} أي بأن تمادوا على ذلك ولم يبادروا بالتوبة {لن تقبل توبتهم} أي إن تابوا ، لأن الله سبحانه وتعالى يطبع على قلوبهم فلا يتوبون توبة نصوحاً يدومون عليها ويصلحون ما فسد ، أو لن توجد منهم توبة حتى يترتب عليها القبول لأنهم زادوا عن أهل القسم الأول بالتمادي ، ولم يأت بالفاء الدالة على أنه مسبب عما قبله إعلاماً بأن ذلك إنما هو لأنهم مطبوع على قلوبهم ، مهيؤون للكفر من أصل الجبلة ، فلا يتوبون أبداً توبة صحيحة ، فالعلة الحقيقية الطبع لا الذنب ، وهذا شامل لمن تاب عن شيء وقع منه كأبي عزة الجمحي ، ولمن لم يتب كحيي بن أخطب {وأولئك هم} أي خاصة {الضالون} أي الغريقون في الضلال وإليه أشار {ولو أسمعهم لتولوا} [ الأنفال : 23 ] لوقوعهم في أبعد شعابة وأضيق نقابه ، فأنى لهم بالرجوع منه والتقصي عنه !.أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 122 ـ 123}
فصل فى سبب نزول الآية
قال القرطبى :
قال قتادة وعطاء الخراسانيّ والحسن : نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.(15/51)
وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته ، {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بإقامتهم على كفرهم.
وقيل : {ازدادوا كُفْراً} بالذنوب التي اكتسبوها.
وهذا اختيار الطبري ، وهي عنده في اليهود. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 130}
قال الطبرى :
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية ، قولُ من قال : "عنى بها اليهودَ" وأن يكون تأويله : إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مَبعثه ، بعد إيمانهم به قبل مبعثه ، ثم ازدادوا كفرًا بما أصَابوا من الذنوب في كفرهم ومُقامهم على ضلالتهم ، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم ، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله.
وإنما قلنا : "ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب" ، لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت ، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها ، إذ كانت في سياق واحد. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 581 ـ 582}
وقال ابن عطية :
اختلف المتأولون في كيف يترتب كفر بعد إيمان ، ثم زيادة كفر ، فقال الحسن وقتادة وغيرهما : الآية في اليهود كفروا بعيسى بعد الإيمان بموسى ثم {ازدادوا كفراً} بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام أبو محمد : وفي هذا القول اضطراب ، لأن الذي كفر بعيسى بعد الإيمان بموسى ليس بالذي كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فالآية على هذا التأويل تخلط الأسلاف بالمخاطبين ، وقال أبو العالية رفيع : الآية في اليهود ، كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بصفاته وإقرارهم أنها في التوراة. ثم ازدادوا كفراً بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى الله عليه وسلم ، من الافتراء والبهت والسعي على الإسلام وغير ذلك.(15/52)
قال الإمام أبو محمد : وعلى هذا الترتيب يدخل في الآية المرتدون اللاحقون بقريش وغيرهم ، وقال مجاهد : معنى قوله {ثم ازدادوا كفراً} أي تموا على كفرهم وبلغوا الموت به ، فيدخل في هذا القول اليهود والمرتدون ، وقال السدي نحوه. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 469 ـ 470}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا فيما به يزداد الكفر ، والضابط أن المرتد يكون فاعلاً للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة ، وقد يكون فاعلاً للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفراً آخر ، وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوهاً
الأول : أن أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه ، ثم كفروا به عند المبعث ، ثم ازدادوا كفراً بسبب طعنهم فيه في كل وقت ، ونقضهم ميثاقه ، وفتنتهم للمؤمنين ، وإنكارهم لكل معجزة تظهر
الثاني : أن اليهود كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام ، ثم كفروا بسبب إنكارهم عيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفراً ، بسبب إنكارهم محمداً عليه الصلاة والسلام والقرآن
والثالث : أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة ، وازديادهم الكفر أنهم قالوا : نقيم بمكة نتربص بمحمد صلى الله عليه وسلم ريب المنون
الرابع : المراد فرقة ارتدوا ، ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق ، فسمى الله تعالى ذلك النفاق كفراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 114}
فصل
قال الفخر :
إنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين ، وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض ، وأيضاً ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة ، فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى : {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} على وجوه ؛ (15/53)
الأول : قال الحسن وقتادة وعطاء : السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والله تعالى يقول : {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن} [ النساء : 18 ]
الثاني : أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص
الثالث : قال القاضي والقفال وابن الأنباري : أنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان ، وبيّن أنه أهل اللعنة ، إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة وتصير كأنها لم تكن ، قال وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه لأن التقدير : إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم ،
الرابع : قال صاحب "الكشاف" : قوله {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} جعل كناية عن الموت على الكفر ، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر ، كأنه قيل إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم الخامس : لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل ، وأقول : جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا} على المعهود السابق لا على الاستغراق وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف ، فأما الجواب الذي حكيناه عن القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 114 ـ 115}(15/54)
فائدة
قال الزمخشرى :
فإن قلت : فحين كان المعنى {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} بمعنى الموت على الكفر ، فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب وركوب الرين وجرّه إلى الموت على الكفر ؟
قلت : لأنه كم من مرتد مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر.
فإن قلت : فأي فائدة في هذه الكناية ، أعني أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع ، قبول التوبة ؟
قلت : الفائدة فيها جليلة ، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها ، ألا ترى أنّ الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 409 ـ 410}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : " كفراً " تمييز منقول من الفاعلية ، والأصل : ثم ازداد كفرُهم ، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال ؛ لوقوعها بعد الزاي ، كذا أعربه أبو حيان ، وفيه نظر ؛ إذ المعنى على أنه مفعول به ، وهي أن الفعل المتعدي لاثنين إذا جُعِل مطاوعاص نقص مفعولاً ، وهذا من ذاك ؛ لأن الأصل : زدت زيداً خيراً فازداده ، وكذلك أصل الآيةِ الكريمةِ : زادهم الله كُفراً فازدادوه ، فلم يؤت هنا بالفاء داخلةً على " لَنْ " وأتي بها في " لَنْ " الثانية ، لأن الفاءَ مُؤذِنَةً بالاستحقاق بالوصف السابق - لأنه قد صَرَّحَ بقَيْد مَوْتِهِم على الكُفْر ، بخلاف " لَنِ " الأولى ، فإنه لم يُصَرِّحْ ممعها به فلذلك لم يُؤتَ بالفاء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 378 ـ 379}
فصل
قال القرطبى :
{لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} مشكل لقوله : {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} [ الشورى : 25 ] فقيل : المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت.(15/55)
قال النحاس : وهذا قول حسن ؛ كما قال عز وجل : {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} [ النساء : 18 ].
ورُوي عن الحسن وقتادة وعطاء.
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغر " وسيأتي في "النساء" بيان هذا المعنى.
وقيل : {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم} التي كانوا عليها قبل أن يكفروا ؛ لأن الكفر قد أحبطها.
وقيل : {لن تقبل توبتهم} إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر ؛ وإنما تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الإسلام.
وقال قطرب.
هذه الآية نزلت في قوم من أهل مكة قالوا : نتربص بمحمد ريب المنون ، فإن بدا لنا الرّجعة رجعنا إلى قومنا.
فأنزل الله تعالى : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} أي لن تقبل توبتهم وهم مقيمون على الكفر ؛ فسماها توبة غير مقبولة ؛ لأنه لم يصح من القوم عزم ، والله عز وجل يقبل التوبة كلها إذا صحّ العزم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 130 ـ 131}
وقال ابن عطية :
وتحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم بأعيانهم من المرتدين ختم الله عليهم بالكفر ، وجعل ذلك جزاء لجريمتهم ونكايتهم في الدين ، وهم الذي أشار إليهم بقوله {كيف يهدي الله قوماً} [ آل عمران : 86 ] فأخبر عنهم أنهم لا تكون لهم توبة فيتصور قبولها ، فتجيء الآية بمنزلة قول الشاعر : (15/56)
( على لاحب لا يهتدى بمناره )... أي قد جعلهم الله من سخطه في حيز من لا تقبل له توبة إذ ليست لهم ، فهم لا محالة يموتون على الكفر ، ولذلك بيّن حكم الذين يموتون كفاراً بعقب الآية ، فبانت منزلة هؤلاء ، فكأنه أخبر عن هؤلاء المعينين ، أنهم يموتون كفاراً ، ثم أخبر الناس عن حكم من يموت كافراً. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 470}
وقال الآلوسى :
{لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} قال الحسن وقتادة والجبائي : لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة وعند ذلك لا تقبل توبة الكافر ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأنها لم تكن عن قلب ، وإنما كانت نفاقاً ، وقيل : إن هذا من قبيل :
ولا ترى الضب بها ينجحر... أي لا توبة لهم حتى تقبل لأنهم لم يوفقوا لها فهو من قبيل الكناية كما قال العلامة دون المجاز حيث أريد بالكلام معناه لينتقل منه إلى الملزوم ، وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما دل عليه الاستثناء وتقرر في الشرع كما لا يخفى ، وقيل : إن هذه التوبة لم تكن عن الكفر وإنما هي عن ذنوب كانوا يفعلونها معه فتابوا عنها مع إصرارهم على الكفر فردت عليهم لذلك ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية قال : هؤلاء اليهود والنصارى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً بذنوب أذنبوها ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم فلم تقبل توبتهم ولو كانوا على الهدى قبلت ولكنهم على ضلالة ، وتجيء على هذا مسألة تكليف الكافر بالفروع وقد بسط الكلام عليها في الأصول. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 218}
وقال ابن عاشور :
وتأويل {لن تقبل توبتهم} إما أنه كناية عن أنهم لا يتوبون فتقبَل توبتهم كقوله تعالى : {ولا يقبل منها شفاعة} [ البقرة : 48 ] أي لا شفاعة لها فتقبل وهذا كقول امرىء القيس ..
على لاَحب لا يُهتدَى بمناره(15/57)
أي لا منار له ، إذ قد علم من الأدلة أنّ التوبة مقبولة ودليله الحصر المقصود به المبالغة في قوله : {وأولئك هم الضالون}.
وإمَّا أنّ الله نهى نبيه عن الاغترَار بما يظهرونه من الإسلام نفاقاً ، فالمراد بعدم القبول عدم تصديقهم في إيمانهم ، وإما الإخبار بأنّ الكفر قد رسخ في قلوبهم فصار لهم سجية لا يحولون عنها ، فإذا أظهروا التوبة فهم كاذبون ، فيكون عدم القبول بمعنى عدم الاطمئنان لهم ، وأسرارُهم موكولة إلى الله تعالى.
وقد أسلم بعض اليهود قبل نزول الآية : مثل عبد الله بن سلام ، فلا إشكال فيه ، وأسلم بعضهم بعد نزول الآية.
وقيل المراد الذين ارتدّوا من المسلمين وماتوا على الكفر ، فالمراد بالازدياد الاستمرار وعدم الإقلاع. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 149}
وقال الطبرى :
(15/58)
وإنما قلنا : "معنى ازديادهم الكفر : ما أصابوا في كفرهم من المعاصي" ، لأنه جل ثناؤه قال : "لن تقبل توبتهم" ، فكان معلومًا أن معنى قوله : "لن تقبل توبتهم" ، إنما هو معنيٌّ به : لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم ، لا من كفرهم. لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) [سورة الشورى : 25] ، فمحالٌ أنْ يقول عز وجل : "أقبل" و"لا أقبل" في شيء واحد. وإذْ كان ذلك كذلك وكان من حُكم الله في عباده أنه قابلٌ توبةَ كل تائب من كل ذنب ، وكان الكفر بعد الإيمان أحدَ تلك الذنوب التي وعد قَبول التوبة منها بقوله : "إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم" علم أنّ المعنى الذي لا يقبل التوبةَ منه ، غيرُ المعنى الذي يَقبل التوبة منه. وإذْ كان ذلك كذلك ، فالذي لا يَقبل منه التوبة ، هو الازدياد على الكفر بعد الكفر ، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره ، لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله. فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح ، فإنّ الله - كما وصف به نفسه - غفورٌ رحيمٌ.
فإن قال قائل : وما تُنكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال : "فلن تقبل توبته من كفره عند حضور أجله وتوبته الأولى" ؟
(15/59)
قيل : أنكرنا ذلك ، لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته ، فأما بعد مماته فلا توبة ، وقد وعد الله عز وجل عبادَه قَبول التوبة منهم ما دامت أرواحُهم في أجسادهم. ولا خلاف بين جميع الحجة في أنّ كافرًا لو أسلم قبل خُرُوج نفسه بطرْفة عين ، أنّ حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه ، والموارثة ، وسائر الأحكام غيرهما. فكان معلومًا بذلك أنّ توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة ، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام ، ولا منزلةَ بين الموت والحياة ، يجوزُ أن يقال : "لا يقبل الله فيها توبةَ الكافر". فإذْ صحّ أنها في حال حياته مقبولة ، ولا سبيلَ بعد الممات إليها ، بطل قولُ الذي زعم أنها غير مقبولة عند حُضُور الأجل.
وأما قول من زعم أنّ معنى ذلك : "التوبة التي كانت قبل الكفر" ، فقولٌ لا معنى له. لأن الله عز وجل لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر ، ثم كُفْر بعد إيمان بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان. فلم يتقدم ذلك الإيمانَ كفرٌ كان للإيمان لهم توبة منه ، فيكون تأويل ذلك على ما تأوّله قائل ذلك. وتأويل القرآن على ما كان موجودًا في ظاهر التلاوة إذا لم تكن حجة تدل على باطن خاص - أولى من غيره ، وإن أمكن توجيهه إلى غيره. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 582 ـ 583}
قوله تعالى {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون}
سؤالان
الأول : {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون} ينفي كون غيرهم ضالاً ، وليس الأمر كذلك فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً في الأصل والجواب : هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال.(15/60)
السؤال الثاني : وصفهم أولاً بالتمادي على الكفر والغلو فيه والكفر أقبح أنواع الضلال والوصف إنما يراد للمبالغة ، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالاً منه لا بما هو أضعف حالاً منه والجواب : قد ذكرنا أن المراد أنهم هم الضالون على سبيل الكمال ، وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 115}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : " وأولئك هم الضالون " في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون في محل رفع ؛ عَطْفاً على خبر " إنَّ " ، أي : إن الذين كفروا لن تُقْبَلَ توبتُهم ، وإنهم أولئك هم الضَّالُّون.
الثاني : أن تُجعل معطوفةً على الجملة المؤكَّدة بـ " إنَّ " ، وحينئذ فلا محل لها من الإعراب ، لعَطْفِها على ما لا محل له.
الثالث : هو إعرابها بأن تكون الواو للحال ، فالجملة بعدها في محل نصب على الحال ، والمعنى : لن تقبل توبتهم من الذنوب ، والحال أنهم ضالُّون ، فالتوبة والضلال متنافيان ، لا يجتمعان ، قاله الراغب.
وهو بعيد في التركيب ، وإن كان قريب المعنى.
قال أبو حيان : " وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب إذْ لو أريد هذا المعنى لم يُؤتَ باسم الإشارة ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 380 ـ 381}(15/61)
فصل
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم المزدادين كفرا لا يقبل الله توبتهم إذا تابوا ؛ لأنه عبّر بـ (لن) الدالة على نفي الفعل في المستقبل, مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن الله يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت, وقبل طلوع الشمس من مغربها, كقوله تعالى : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}, وقوله : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}, وقوله : {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}, فإنه يدل بمفهومه على أن التوبة قبل إتيان بعض الآيات مقبولة من كل تائب, وصرّح تعالى بدخول المرتدين في قبول التوبة قبل هذه الآية مباشرة في قوله تعالى : {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حقٌّ ..} إلى قوله : {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} فالاستثناء في قوله : {إلا الذين تابوا} راجع إلى المرتدين بعد الإيمان المستحقين للعذاب واللعنة إن لم يتوبوا, ويدل له قوله تعالى : {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} الآية ؛ لأنّ مفهومه أنه إذا تاب قبل الموت قبلت توبته مطلقا.
والجواب من أربعة أوجه : (15/62)
الأول : وهو اختيار ابن جرير ونقله عن رفيع بن العالية أن المعنى : إنّ الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ثم ازداوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم لن تقبل توبتهم من الذنوب التي أصابوها في كفرهم, ويدل على هذا الوجه قوله تعالى : {وأولئك هم الضالون} ؛ لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهم على ارتكاب الضلال وعدم قبولها حينئذ ظاهر .
الثاني : وهو أقربها عندي أن قوله تعالى : {لن تقبل توبتهم} يعني إذا تابوا عند حضور الموت, ويدل لهذا الوجه أمران :
الأول : أنّه تعالى بيّن في مواضع أخرى أنّ الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت في ذلك الوقت كقوله تعالى : {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن, ولا الذين يموتون وهم كفار}, فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء, وقوله تعالى : {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} الآية, وقوله في فرعون : {الآن وقد عصَيْتَ قبلُ وكنت من المفسدين}. فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيّد بقيد تأخير التوبة إلى حضور الموت لوجوب حمل المطلق على المقيد كما تقرر في الأصول.
الثاني : أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله : {ثم ازدادوا كفرا} فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها, ونقل ابن جرير هذا الوجه الثاني - الذي هو التقيد بحضور الموت - عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي.
الثالث : أن المعنى {لن تقبل توبتهم} أي إيمانهم الأول لبطلانه بالردة بعد, وهذا القول خرجه ابن جرير عن ابن جريج, ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن.(15/63)
الرابع : أن المراد بقوله : {لن تقبل توبتهم} أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم, ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : {إنّ الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكُنِ اللهُ ليغفر لهم ولا ليهدِيَهُم سبيلا}, فإنّ قوله تعالى : {ولا ليهديهم سبيلا} يدل على {إنّ الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم}, وكقوله : {إن الذين حقّت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} الآية, ونظير الآية على هذا القول قوله تعالى : {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} أي لا شفاعة لهم أصلا حتى تنفعهم, وقوله تعالى : {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به} الآية ؛ لأن الإله الآخر لا يمكن وجوده أصلا حتى يقوم عليه برهان أو لا يوم عليه.
قال مقيده - عفا الله عنه - : مثل هذا الوجه الأخير هو المعروف عند النظار بقولهم : "السالبة لا تقتضي وجود الموضوع" وإيضاحه أن القضية السالبة عندهم صادقة في صورتين ؛ لأن المقصود منها عدم اتصاف الموضوع بالمحمول, وعدم اتصافه به يتحقق في صورتين : ا الأولى : أن يكون الموضوع موجودا إلا أن المحمول منتف عنه, كقولك : "ليس الإنسان بحجر" فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه.
والثانية : أن يكون الموضوع من أصله معدوما ؛ لأنه إذا عدم تحقق عدم اتصافه بالمحمول الوجودي - لأن العدم لا يتصف بالوجود كقولك لا نظير لله يستحق العبادة - فإن الموضوع الذي هو نظير لله مستحيل من أصله, وإذا تحقق عدمه تحقق انتفاء اتصافه باستحقاق العبادة ضرورة. وهذا النوع من أساليب اللغة العربية, ومن شواهده قول امرؤ القيس :
على لا حب لا يهتدي بمناره
إذا سافه العود النباطي جرجرا
لأن المعنى : على لا حب لا منار له أصلا حتى يهتدى به, وقول الآخر :
لا تفزع الأرنب أهوالها
و لا ترى الضب بها ينجحر(15/64)
لأنه يصف فلاة بأنها ليس فيها أرانب ولا ضباب حتى تفزع أهوالها أو ينجحر فيها الضب أي يدخل الجحر أو يتخذه. وقد أوضحت مسألة (أن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع) في أرجوزتي في المنطق, في مبحث (انحراف السور), وأوضحت فيها أيضا في مبحث (التحصيل والعدول) أن من الموجبات ما لا يقتضي وجود الموضوع نحو : (بحر من زئبق) ممكن والمستحيل معدوم ؛ فإنها موجبتان, وموضوع كل منهما معدوم. وحررنا هناك التفصيل فيما يقتضي وجود الموضوع وما لا يقتضيه.
وهذا الذي قررنا من أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولو بعد تكرر الردة ثلاث مرات أو أكثر, لا منافاة بينه وبين ما قاله جماعة من العلماء من الأربعة وغيرهم, وهو مروي عن علي وبن عباس رضي الله عنهما من أن المرتد إذا تكرر منه ذلك يقتل ولا تقبل توبته, واستدل بعضهم على ذلك بهذه الآية ؛ لأن هذا الخلاف في تحقيق المناط لا في نفس المناط, والمتناظران قد يختلفان في تحقيق المناط مع اتفاقهما على أصل المناط, وإيضاحه أن المناط مكان النوط وهو التعليق, ومنه قول حسان رضي الله عنه :
وأنت زتيم نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
(15/65)
و المراد به : مكان تعليق الحكم وهو العلة, فالمناط والعلة مترادفان اصطلاحا, إلا أنه غلب التعبير بلفظ المناط في المسلك الخامس من مسالك العلة الذي هو المناسبة والإخالة ؛ فإنه يسمى تخريج المناط, وكذلك في المسك التاسع الذي هو تنقيح المناط, فتخريج المناط : هو استخراج العلة بمسلك المناسبة والاخالة, وتنقيح المناط : هو تصفية العلة وتهذيبها حتى لا يخرج شيء غير صالح لها, ولا يدخل شيء غير صالح لها كما هو معلوم في محله, وأما تحقيق المناط - وهو الغرض هنا - فهو : أن يكون مناط الحكم متفق عليه بين الخصمين, إلا أن أحدهما يقول : هو موجود في هذا الفرع, والثاني : يقول : لا, ومثاله : الاختلاف في قطع النباش ؛ فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يوافق الجمهور على أن السرقة مناط القطع, ولكنه يقول : لم يتحقق المناط في النباش ؛ لأنه غير سارق, بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط من غير حرز.(15/66)
فإذا حققت ذلك, فاعلم أن مراد القائلين : لا تقبل توبته أن أفعاله دالة على خبث نيته وفساد عقيدته, وأنه ليس تائبا في الباطن توبة نصوح, فهم موافقون على أن التوبة النصوح مناط القبول كما ذكرنا, ولكن يقولون : أفعال هذا الخبيث دلّت على عدم تحقيق المناط فيه, ومن هنا اختلفت العلماء في توبة الزنديق المستتر بالكفر, فمن قائل : لا تقبل توبته, ومن قائل : تقبل, ومن مفرق بين إتيانه تائبا قبل الإطلاع عليه وبين الإطلاع على نفاقه قبل التوبة, كما هو معروف في فروع المذاهب الأربعة ؛ لأن الذين يقولون : يقتل ولا تقبل توبته يرون أن نفاقه الباطن دليل على أن توبته تقية لا حقيقة, واستدلوا بقوله تعالى : {إلا الذين تابوا وأصلحوا}, فقالوا : الإصلاح شرط والزنديق لا يُطَّلَعُ على إصلاحه ؛ لأن الفساد أتى مما أسرَّهُ, فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه.
والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقا أظهر وأقوى كقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه : "هلاّ شققت على قلبه", وقوله للذي ساره في قتل رجل قال : "أليس يصلي ؟" قال : "بلى", قال : "أولئك الذين نهيت عن قتلهم", وقوله - لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة - : "إني لم أؤمر أن أنقِّبَ عن قلوب الناس", وهذه الأحاديث في الصحيح, ويدل لذلك أيضا : إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر, وقد نصّ تعالى على أن الأَيْمان الكاذبة جُنّةٌ للمنافقين في الأحكام الدنيوية بقوله : {اتخذوا أيمانهم جنة}, وقوله : {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتُعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم فإنهم رجس}, وقوله : {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم} الآية, إلى غير ذلك من الآيات.(15/67)
وما استدل به بعضهم من قتل ابن مسعود لابن النواحة صاحب مسيلمة, فيجاب عنه : بأنه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم - حين جاءه رسولا لمسيلمة - : "لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك", فقتله ابن مسعود تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم, فقد روي أنه قتله لذلك, فإن قيل : إن هذه الآية الدالة على عدم قبول توبتهم أخص من غيرها ؛ لأن فيها القيد بالردة وازدياد الكفر, فالذي تكررت منه الردة أخص من مطلق المرتد, والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص ؛ لأن وجود الأعم لا يلزم وجود الأخص, فالجواب : أن القرآن دل على توبة من تكرر منه الكفر إذا أخلص في الإنابة إلى الله ، ووجه الدلالة على ذلك قوله تعالى : {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا}, ثم بيّن أن المنافقين داخلون فيهم بقوله تعالى : {بشِّر المنافقين بأنّ لهم عذابا أليما} الآية, ودلالة الاقتران وإن ضعفها بعض الأصوليين فقد صححتها جماعة من المحققين, ولا سيما إذا اعتضدت بدلالة القرينة عليها كما هنا ؛ لأن قوله تعالى : {لم يكنِ الله ليغفرَ لهم ولا ليهديَهم سبيلا, بشّر المنافقين بأن لهم عذابا أليما} فيه الدلالة الواضحة على دخولهم في المراد بالآية, بل كونها في خصوصهم قال به جماعة من العلماء.(15/68)
فإذا حققت ذلك فاعلم أن الله تعالى نصّ على أن من أخلص التوبة من المنافقين تاب الله عليه بقوله : {إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا, إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما, ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم, وكان الله شاكراً عليما}, وقد كان مخشي بن حمير رضي الله عنه من المنافقين الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى : {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} فتاب إلى الله بإخلاص ، فتاب الله عليه ، وأنزل الله فيه : {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} الآية ، فتحصّل أن القائلين بعدم قبول توبة من تكررت منه الردة يعنون الأحكام الدنيوية ولا يخالفون في أنه أخلص التوبة إلى الله قبلها منه ؛ لأن اختلافهم في تحقيق المناط كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 57 ـ 66}(15/69)
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما رغب في التوبة رهب من التواني عنها فقال : {إن الذين كفروا} أي بالله وأوامره ، وأسقط الجار لما مضى من قوله {من بعد إيمانهم} بذلك.
ولما كان الكفر لفظاعته وقبحه وشناعته جديراً بالنفرة عنه والبعد منه نبه سبحانه وتعالى على ذلك باستبعاد إيقاعه ، فكيف بالتمادي عليه فكيف بالازدياد منه! وعبر عن ذلك بأداة التراخي فقال : {ثم ازدادوا كفراً} أي بأن تمادوا على ذلك ولم يبادروا بالتوبة {لن تقبل توبتهم} أي إن تابوا ، لأن الله سبحانه وتعالى يطبع على قلوبهم فلا يتوبون توبة نصوحاً يدومون عليها ويصلحون ما فسد ، أو لن توجد منهم توبة حتى يترتب عليها القبول لأنهم زادوا عن أهل القسم الأول بالتمادي ، ولم يأت بالفاء الدالة على أنه مسبب عما قبله إعلاماً بأن ذلك إنما هو لأنهم مطبوع على قلوبهم ، مهيؤون للكفر من أصل الجبلة ، فلا يتوبون أبداً توبة صحيحة ، فالعلة الحقيقية الطبع لا الذنب ، وهذا شامل لمن تاب عن شيء وقع منه كأبي عزة الجمحي ، ولمن لم يتب كحيي بن أخطب {وأولئك هم} أي خاصة {الضالون} أي الغريقون في الضلال وإليه أشار {ولو أسمعهم لتولوا} [ الأنفال : 23 ] لوقوعهم في أبعد شعابة وأضيق نقابه ، فأنى لهم بالرجوع منه والتقصي عنه!(15/70)
ولما أثبت لهم الخصوصية بذلك لائناً لهم فيه إلى حد أيس معه من رجوعهم تشوف السامع إلى حالهم في الآخرة فقال مبيناً لهم أن السبب في عدم قبول توبتهم تفويت محلها بتماديهم على الكفر : {إن الذين كفروا} أي هذا الكفر أو غيره ، ويجوز أن يكون المراد أنهم ثلاثة أقسام : التائبون توبة صحيحة وهم الذين أصلحوا ، والتائبون توبة فاسدة ، والواصلون كفرهم بالموت من غير توبة ، ولذا قال : {وماتوا وهم كفار} ولما كان الموت كذلك سبباً للخلود في النار لأن السياق للكفر والموت عليه ، صرح بنفي قبول الفداء كائناً من كان ، وربطه بالفاء فقال : {فلن يقبل} أي بسبب شناعة فعلهم الذي هو الاجتراء على الكفر ثم الموت عليه {من أحدهم} أي كائناً من كان {ملء الأرض ذهباً} أي من الذهب لا يتجدد له قبول ذلك لو بذله هبة أوهدية أو غير ذلك {ولو افتدى به} لو في مثل هذا السياق تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله صلى الله عليه وسلم " أعطوا السائل ولو جاء على فرس " فكونه جاء على فرس يؤذن بغناه ، فلا يناسب أن يعطى فنص عليه ؛ وأما هنا فلما كان قبول الفدية واجباً عند أهل الكتاب - كما مر في قوله سبحانه وتعالى {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} [ البقرة : 85 ] كان بحيث ربما ظن أن بذله - على طريق الافتداء يخالف بذله على غير ذلك الوجه حتى يجب قبوله ، فنص عليه ؛ وأيضاً فحالة الافتداء حالة لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه ، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدى - قاله أبو حيان.(15/71)
فالمعنى : لا يقبل من أحدهم ما يملأ الأرض من الذهب على حال من الأحوال ولو على حال الافتداء ، والمراد بالمثال المبالغة في الكثرة ، أي لا يقبل منه شيء ؛ وإنما اقتصر على ملء الأرض لأنه أكثر ما يدخل تحت أوهام الناس ويجري في محاوراتهم - والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما تشوف السامع إلى معرفة ما يحل بهم أجيب بقوله : {أولئك} أي البعداء من الرحمة {لهم عذاب أليم} ولعظمته أغرق في النفي بعده بزيادة الجار فقال : {وما لهم من ناصرين} أي ينصرونهم بوجه من الوجوه ، فانتفى عنهم كل وجه من وجوه الاستنقاذ. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 123 ـ 124}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}
استئناف لبيان حال الكافرين الذين ماتوا على كفرهم ، نشأ عن حكم فريق من الكفار تكرر منهم الكفر حتى رسخ فيهم وصار لهم ديدنا.
وإن كان المراد في الآية السابقة من الذين ازدادوا كفرا الذين ماتوا على الكفر ، كانت هذه الآية كالتوكيد اللفظي للأولى أعيدت ليبنى عليها قوله : {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} .
وأيا ما كان فالمراد بالموصول هنا العموم مثل المعرف بلام الاستغراق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 149 ـ 150}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام
أحدها : الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ آل عمران : 89 ]
وثانيهما : الذي يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهو الذي ذكره الله في الآية المتقدمة وقال : إنه لن تقبل توبته(15/72)
وثالثهما : الذي يموت على الكفر من غير توبة ألبتة وهو المذكور في هذه الآية ، ثم إنه تعالى أخبر عن هؤلاء بثلاثة أنواع.
النوع الأول : قوله {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ} قال الواحدي ملء الشيء قدر ما يملؤه وانتصب {ذَهَبًا} على التفسير ، ومعنى التفسير : أن يكون الكلام تاماً إلا أن يكون مبهماً كقوله : عندي عشرون ، فالعدد معلوم ، والمعدود مبهم ، فإذا قلت : درهماً فسرت العدد ، وكذلك إذا قلت : هو أحسن الناس فقد أخبرت عن حسنه ، ولم تبين في ماذا ، فإذا قلت وجهاً أو فعلاً فقد بينته ونصبته على التفسير وإنما نصبته لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه فلما خلا من هذين نصب لأن النصب أخف الحركات فيجعل كأنه لا عامل فيه قال صاحب "الكشاف" وقرأ الأعمش {ذَهَبَ} بالرفع رداً على ملء كما يقال : عندي عشرون نفساً رجال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 115}
فصل
قال ابن عادل :
" قد تقدم أن عكرمة يقرأ : " نقبل ملء " بالنون مفعولاً به
وقرأ بعضهم " فلن يقبل " - بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى ، " مِلْءَ " بالنصب كما تقدم.
وقرأ ابو جعفر وأبو السَّمَّال " مل الأرض " بطرح همزة " ملء " ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها.
وبعضهم يدغم نحو هذا - أي لام " ملء " في لام " الأرضِ " - بعروض التقائهما.
والملء : مقدار ما يُمْلأ الوعاء ، والمَلْء - بفتح الميم - هو المصدر ، يقال : ملأت القدر ، أملؤها ، مَلأ ، والملاءة بضم الميم والمد : الملحَفة.
و " ذهباً " العامة على نصبه ، تمييزاً.
وقال الكسائي : على إسقاط الخافض ، وهذا كالأول ؛ لأن التمييز مقدر بـ " من " واحتاجت " ملء " إلى تفسير ؛ لأنها دالة على مقدار - كالقفيز والصّاع-.
وقرأ الأعمش : " ذهب " - بالرفع -.(15/73)
قال الزمخشريُّ : ردًّا على " مِلْءُ " كما يقال : عندي عشرون نَفْساً رجال ، يعني الردّ البدل ، ويكون بدل نكرة من معرفة.
قال أبو حيان : ولذلك ضبط الحذّاق قوله : " لك الحمد ملء السموات " بالرفع ، على أنه نعت لِ " الْحَمْد ". واستضعفوا نصبه على الحال ، لكونه معرفة.
قال شهاب الدين : " يتعين نصبه على الحال ، حتى يلزم ما ذكره من الضعف ، بل هو منصوب على الظرف ، أي : إن الحمد يقع مِلْئاً للسموات والأرض ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 381 ـ 382}
أسئلة وأجوبة
السؤال الأول : لم قيل في الآية المتقدمة {لَّن تُقْبَلَ} بغير فاء وفي هذه الآية {فَلَن يُقْبَلَ} بالفاء ؟.
الجواب : أن دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء ، وعند عدم الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطا وجزاء ، تقول : الذي جاءني له درهم ، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء ، وإذا قلت : الذي جاءني فله درهم ، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء فذكر الفاء في هذه الآية يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر.
السؤال الثاني : ما فائدة الواو في قوله {وَلَوِ افتدى بِهِ} ؟.
الجواب : ذكروا فيه وجوهاً
الأول : قال الزجاج : إنها للعطف ، والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لم ينفعه ذلك مع كفره ، ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم قبل منه ، وهذا اختيار ابن الأنباري قال : وهذا أوكد في التغليظ ، لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه(15/74)
الثاني : {الواو} دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأن قوله {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الأرض ذَهَبًا} يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية الثالث : وهو وجه خطر ببالي ، وهو أن من غضب على بعض عبيده ، فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها ألبتة إلا أنه قد يقبل منه الفدية ، فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضاً كان ذلك غاية الغضب ، والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية ، فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهباً ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيهاً على أنه لما لم يكن مقبولاً بهذا الطريق ، فبأن لا يكون مقبولاً منه بسائر الطرق أولى.
السؤال الثالث : أن من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً ومعلوم أن بتقدير أن يملك الذهب فلا ينفع الذهب ألبتة في الدار الآخرة ، فما فائدة قوله {لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الأرض ذَهَبًا}.
الجواب : فيه وجهان
أحدهما : أنهم إذا ماتوا على الكفر فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهباً لن يقبل الله تعالى ذلك منهم ، لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة
والثاني : أن الكلام وقع على سبيل الفرض ، والتقدير : فالذهب كناية عن أعز الأشياء ، والتقدير : لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ثم قدر على بذله في غاية الكثرة لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله ، وبالجملة فالمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 115 ـ 116}(15/75)
وقال الآلوسى :
وههنا سؤال مشهور وهو أنه لم دخلت الفاء في خبر {إن} هنا ولم تدخل في الآية السابقة مع أن الآيتين سواء في صحة إدخال الفاء لتصور السببية ظاهراً ؟ وأجاب غير واحد بأن الصلة في الآية الأولى الكفر وازدياده وذلك لا يترتب عليه عدم قبول التوبة بل إنما يترتب على الموت عليه إذ لو وقعت على ما ينبغي لقبلت بخلاف الموت على الكفرة في هذه الآية فإنه يترتب عليه ذلك ولذلك لو قال : من جاءني له درهم كان إقراراً بخلاف ما لو قرنه بالفاء كما هو معروف بين الفقهاء ولا يرد أن ترتب الحكم على الوصف دليل على السببية لأنا لا نسلم لزومه لأن التعبير بالموصول قد يكون لأغراض كالإيماء إلى تحقق الخبر كقوله :
إن التي ضربت بيتاً مهاجرة... بكوفة الجند غالت دونها غول
وقد فصل ذلك في المعاني ؛ وقرىء فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب ملء وملء الأرض بتخفيف الهمزتين.(15/76)
{وَلَوِ افتدى بِهِ} قال ابن المنير في "الانتصاف" : إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطاً آخر تعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى مثاله قولك : أكرم زيداً ولو أساء فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره أكرم زيداً لو أحسن ولو أساء إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى ؛ ومنه {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [ النساء : 135 ] فإن معناه والله تعالى أعلم لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيهاً على أن ما كان أسهل أولى بالوجوب ، ولما كانت هذه الآية مخالفة لهذا النمط من الاستعمال لأن قوله سبحانه : {وَلَوِ افتدى بِهِ} يقتضي شرطاً آخر محذوفاً يكون هذا المذكور منبهاً عليه بطريق الأولى ، والحالة المذكورة أعني حالة افتدائهم بملء الأرض ذهباً هي أجدر الحالات بقبول الفدية ، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها خاض المفسرون بتأويلها فذكر الزمخشري ثلاثة أوجه حاصل الأول : أن عدم قبول ملء الأرض كناية عن عدم قبول فدية مّا لدلالة السياق على أن القبول يراد للخلاص وإنما عدل تصويراً للتكثير لأنه الغاية التي لا مطمح وراءها في العرف ، وفي الضمير يراد {مّلْء الأرض} على الحقيقة فيصير المعنى لا تقبل منه فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً ففي الأول نظر إلى العموم وسده مسد فدية ما ، وفي الثاني إلى الحقيقة أو لكثرة المبالغة من غير نظر إلى القيام مقامها ، وحاصل الثاني : أن المراد ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في آية أخرى ولأنه علم أن الأول فدية أيضاً كأنه قيل : لا يقبل ملء الأرض فدية ولو ضوعف ، ويرجع هذا إلى جعل(15/77)
الباء بمعنى مع ، وتقدير مثل بعده أي مع مثله ، وحاصل الثالث : أنه يقدر وصف يعينه المساق من نحو كان متصدقاً به ، وحينئذ لا يكون الشرط المذكور من قبل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق بل يكون شرطاً محذوف الجواب ويكون المعنى لا يقبل منه ملء الأرض ذهباً لو تصدق ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه وضمير {بِهِ} للمال من غير اعتبار وصف التصدق فالكلام من قبيل {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [ فاطر : 11 ] ، وعندي درهم ونصفه انتهى ، ولا يخفى ما في ذلك من الخفاء والتكلف ، وقريب من ذلك ما قيل : إن الواو زائدة ، ويؤيد ذلك أنه قرىء في الشواذ بدونها وكذا القول : بأن {لَوْ} ليست وصلية بل شرطية ، والجواب ما بعد أو هو ساد مسده ، وذكر ابن المنير في الجواب مدعياً أن تطبيق الآية عليه أسهل وأقرب بل ادعى أنه من السهل الممتنع أن قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهباً تكون على أحوال تارة تؤخذ قهراً كأخد الدية ، وكرة يقول المفتدي : أنا أفدي نفسي بكذا ولا يفعل ، وأخرى يقول ذلك والفدية عتيدة ويسلمها لمن يؤمل قبولها منه فالمذكور في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهي أن يفتدي بملء الأرض ذهباً افتداءاً محققاً بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه اختياراً ، ومع ذلك لا يقبل منه فلأن لا يقبل منه مجرد قوله : أبذل المال وأقدر عليه ، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى فتكون الواو والحالة هذه على بابها تنبيهاً على أن ثم أحوالاً أخر لا يقع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة ، وقوله تعالى : ( ولو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به ) مصرح بذلك ، والمراد به أنه لا خلاص لهم من الوعيد وإلا فقد علم أنهم في ذلك اليوم أفلس من ابن المُذَلَّق لا يقدرون على شيء ، (15/78)
ونظير هذا قولك : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليَّ في يدي انتهى ، وقريب منه ما ذكره أبو حيان قائلاً : إن الذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب لأن حالة الافتداء لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه ، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن ( لو ) تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنه لا تندرج فيما قبلها كقوله عليه الصلاة والسلام : " أعطوا السائل ولو جاء على فرس " و" ردوا السائل ولو بظلف محرق " كأن هذه الأشياء مما لا ينبغي أن يؤتى بها لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى ، وكذلك الظلف المحرق لا غناء فيه فكان يناسب أن لا يرد السائل به. وكذلك حال الافتداء يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهباً لكنه لا يقبل ، ونظيره {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين} [ يوسف : 17 ] لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها ولو لتعميم النفي والتأكيد له. هذا وقد أخرج الشيخان وابن جرير واللفظ له عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتدياً به ؟ فيقول : نعم فيقال : لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل فذلك قوله تعالى : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ}. {أخرجه البخاري في الرقاق باب من نوقش الحساب عذب : 11 / 400 ، وباب صفة الجنة والنار : 11 / 416 ، وفي الأنبياء(15/79)
باب خلق آدم وذريته. ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبا برقم (2805) : 4 / 2160 ، والبغوى في شرح السنة : 15 /242}. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 218 ـ 220}
فائدة
قال ابن عاشور :
وعندي أن موقع هذا الشرط في الآية جار على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ، محقق أو مقدر ، يتوهمه المتكلم من المخاطب فيريد تقديره ، فلا يقتضي أن شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله ، بل قد يكون كذلك ، وقد يكون السؤال مجرد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمنه الحكم تثبيتا على المتكلم على حد قولهم : ادر ما تقول فيجيب المتكلم بإعادة السؤال تقريرا له وإيذانا بأنه تكلم عن بينة ، نعم إن الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة ، وهو من شواهد هذا :
قالت بنات العم يا سلمى وإن . . .
كان فقيرا معدما قالت وإن
وقد يحذف السؤال ويبقى الجواب كقول كعب بن زهير :
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم . . .
أذنب وإن كثرت في الأوقاويل
وقد يذكر السؤال ولا يذكر الجواب كقوله تعالى : {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر : 43] فلو ذكر الجواب من قبل المشركين لأجابوا بتقرير ذلك.
فقوله : {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} جواب سؤال متعجب من الحكم وهو قوله : {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ} فكأنه قال ولو افتدى به فأجيب بتقرير ذلك على حد بيت كعب.
فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرد التأكيد.
ويجوز أن يكون الشرط عطفا على محذوف دل عليه افتدى : أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا يجعله رهينة.(15/80)
ولو بذله فدية ، لأن من عادة العرب أن المطلوب بحق قد يعطي فيه رهنا إلى أن يقع الصلح أو العفو ، وكذلك في الديون ، وكانوا إذا تعاهدوا على صلح أعطت القبائل رهائن منهم كما قال الحارث :
واذكروا حلف ذي المجاز وما قدم . . .
فيه العهود والكفلاء
ووقع في حديث أبي رافع اليهودي أن محمد بن مسلمة قال لأبي رافع نرهنك السلاح واللامة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 151 ـ 152}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : " ولو افتدى به " الجمهور على ثبوت الواو ، وهي واو الحال.
قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف موقع قوله : " ولو افتدى به " ؟
قلت : هو كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. انتهى.
والذي ينبغي أن يُحْمَل عليه : أن الله - تعالى - أخبر أن مَن ْ مات كافراً لا يُقْبَل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدُها ، ولو في حال افتدائه من العذاب ، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يميز فيها المفتدي عن المفتدى منه ؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي.
قال أبو حيان : وقد قررنا - في نحو هذا التركيب - أن " لَوْ " تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " أعْطُوا السَّائِلَ ولو جاء عَلَى فَرَسٍ " وقوله : " رُدُّوا السَّائِلَ ولَو بِظِلْف محرق " كأن هذه الأشياء مما ينبغي أن يؤتى بها ؛ لأن كون السائل على فرس يُشْعر بغناه ، فلا يناسب أن يُعْطَى ، وكذلك الظلف المحرق ، لا غناء فيه ، فكان يناسب أن لا يُرَدَّ به السائل.(15/81)
قيل : الواو - هنا - زائدة ، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أبى عبلة طلو افتدى به " - دون واو - معناه أنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول ، فلم يتعمم النفي وجود القبول.
و " لو " قيل : هي - هنا - شرطية ؛ بمعنى " إن " لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره ؛ لأنها متعلقة بمستقبل ، وهو قوله : " فلن تقبل " ، وتلك متعلّقة بالماضي.
قال الزجاج : إنها للعطف ، والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه ، ولو افتدى به لم تقبل منه ، وهذا اختيار ابن الأنباري ، قال : وهذا آكد في التغليظ ؛ لأنه تصريح بنفي القبول من وجوه. وقيل : دخلت الواو لبيان التفصيل بعد الإجمال ؛ لأن قوله : {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً} يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية.
وافتدى افتعل - من لفظ الفدية - وهو متعدٍّ لواحد ؛ لأنه بمعنى فدى ، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى ، نحو : شَوَى ، واشْتَوَى ، ومفعوله محذوف ، تقديره : افْتدَى نفسه. والهاء في " به " - فيها أقوال :
أحدها : - وهو الأظهر - عودها على " ملء " ؛ لأنه مقدار يملأها ، أي : ولو افتدى بملء الأرض.
الثاني : أن يعوج على " ذَهَباً " ، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيان : ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء ، أو على الذهب ، فقوله : " أو على الذهب " غلط.
قال شهاب الدين : " كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدَّثاً عنه ، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره ، فضلة ".
الثالث : أن يعود على " مِثْل " محذوف.(15/82)
قال الزمخشريُّ : " ويجوز أن يُراد : ولو افتدى بمثله ، كقوله : {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَه} [ الرعد : 18 ] ، والمثل يحذف في كلامهم كثيراً ، كقولك : ضربت ضرب زيد - تريد : مثل ضربه - وقولك : أبو يوسف أبو حنيفة - أي : مثله-.
وقوله : [ الرجز ]
لا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ... وَلاَ فَتَى إلاَّ ابْنُ خَيْبَرِيّ
و " قضية ولا أبا حسن لها " يريد : لا مثل هيثم ، ولا مثل أبي حسن ، كما أنه يزاد قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، يريدون : أنت لا تفعل كذا ، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد ".
قال أبو حيان : " ولا حاجةَ إلى تقدير " مثل " في قوله : " ولو افتدى به " ، وكأن الزمخشريَّ تخيَّل انَّ قدّر أن يُقْبَل لا يُمكن أن يُفْتَدَى به ، فاحتاج إلى إضمار : " مثل " حتى يغاير ما نُفِي قبولُه وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك ؛ لأن ذلك - ما ذكرناه - على سبيل الفرض والتقدير ؛ إذ لا يمكن - عادةً - أن أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً ، بحيث أنه لو بَذَلَهُ - على أيِّ جهةٍ بذله - لم يُقْبَل منه ، بل لو كان ذلك ممكناً لم يَحْتَج إلى تقدير " مثل " ؛ لأنه نفى قبوله - حتى في حالة الافتداء - وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولا معنى له ، ولا في اللفظ ، ولا في المعنى ما يدل عليه ، فلا يقدر.
وأما ما مثل به - من نحو : ضربت ضربَ زيدٍ ، وأبو يوسف أبو حنيفةَ - فبضرورة العقل يُعْلَم أنه لا بد من تقدير مثل إذ ضربك يستحيل أن يكون ضربَ زيد ، وذات أبي يوسف ، يستحيل أن تكون ذاتَ أبي حنيفة.(15/83)
وأما " لا هيثم الليلة للمطي " ، فدل على حذف " مثل " ما تقرر في اللغة العربية أن " لا " التي لنفي الجنس ، لا تدخل على الأعلام ، فتؤثر فيها ، فاحتيج إلى إضمار : " مثل " لتبقى على ما تقرر فيها ؛ إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس ؛ لأن العلمية تنافي عمومَ الجنس.
وأما قوله : كما يزاد في : مثلك لا يفعل - تريد : أنت - فهذا قول قد قيل ، ولكن المختار عند حُذَّاق النحويين أن الأسماء لا تزاد ".
قال شهاب الدين : وهذا الاعتراض - على طوله - جوابه ما قاله أبو القاسم - في خطبة كشافه - واللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي - وإن كان أنحَى من سيبويه - [ لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائقِ ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائقِ ، إلا رجل قد برع في علمين مختصَّين بالقرآن المعاني والبديع - وتمهَّل في ارتيادهما آونةً ، وتعب في التنقير عنهما أزمنةً ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 382 ـ 385}. بتصرف يسير.
قوله تعالى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكافر لا يمكنه تخليص النفس من العذاب ، أردفه بصفة ذلك العذاب ، فقال : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 116}
فائدة
قال الآلوسى :
وفي تعقيب ما ذكر بهذه الجملة مبالغة في التحذير والإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرماً. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 220}(15/84)
فائدة
قال ابن عادل :
ويجوز أن يكون " لهم " : خبراً لاسم الإشارة ، و" عَذَابٌ " فاعل به ، وعمل لاعتماده على ذي خبره ، أي : أولئك استقر لهم عذاب. وأن يكون " لَهُمْ " خبراً مقدَّماًن و" عَذَابٌ " مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر عن اسم الإشارة ، والأول أحسن ؛ لأن الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة ، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 385}
قوله تعالى {وَمَا لَهُم مّن ناصرين}
قال الفخر :
والمعنى أنه تعالى لما بيّن أنه لا خلاص لهم عن هذا العذاب الأليم بسبب الفدية ، بيّن أيضاً أنه لا خلاص لهم عنه بسبب النصرة والإعانة والشفاعة ، ولأصحابنا أن يحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة وذلك لأنه تعالى ختم تعديد وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 116}
فائدة
قال ابن عادل :
ويجوز في إعرابه وجهان :
أحدهما : أن يكون {مِّن نَّاصِرِينَ} : فاعلاً ، وجاز عمل الجارّ ؛ لاعتماده على حرف النفي ، أي : وما استقر لهم من ناصرين.
والثاني : أنه خبر مقدَّم ، و{مِّن نَّاصِرِينَ} : مبتدأ مؤخر ، و" مِنْ " مزيدة على الإعرابَيْن ؛ لوجود الشرطين في زيادتها.
وأتى بـ " ناصرين " جمعاً ؛ لتوافق الفواصل. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 385}(15/85)
فصل
قال ابن كثير فى معنى الآية :
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} أي : من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدًا ، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قُرْبة ، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جُدْعان -وكان يُقْرِي الضيفَ ، ويَفُكُّ العاني ، ويُطعم الطعام- : هل ينفعه ذلك ؟ فقال : لا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ : رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يوم الدِّينِ. {رواه مسلم في صحيحه برقم (214) من حديث عائشة رضي الله عنها}.
وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضا ذهبا ما قبل منه ، كما قال تعالى : {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة : 123] ، [وقال {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} ] [البقرة : 254] وقال : {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم : 31] وقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة : 36] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} فعطف {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} على الأول ، فدل على أنه غيره ، وما ذكرناه أحسن من أن يقال : إن الواو زائدة ، والله أعلم. ويقتضي ذلك ألا ينقذه من عذاب الله شيء ، ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهبا ، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا ، بوَزْن جِبالها وتِلالها وتُرابها ورِمَالها وسَهْلها ووعْرِها وبَرِّها وبَحْرِها.(15/86)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجَّاج ، حدثني شُعْبَة ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ ؟ قَالَ : فَيَقُولُ : نَعَمْ. قَالَ : فَيَقُولُ : قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ أبيك آدَمَ ألا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا ، فَأَبَيْتَ إِلا أَنْ تُشْرِكَ ". وهكذا أخرجاه البخاري ، ومسلم. {المسند (3/127) وصحيح البخاري برقم (6538) وصحيح مسلم برقم (2805)}.
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا حَمَّاد ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ ؟ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، خَيْرُ مَنزلٍ. فَيَقُولُ : سَلْ وَتَمَنَّ. فَيَقُولُ : مَا أَسْأَلُ وَلا أَتَمَنَّى إِلا أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مِرَار -لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ. وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ ؟ فَيَقُولُ : يا رَبِّ شَرُّ مَنزلٍ. فَيَقُولُ لَهُ : تَفْتَدِي مِني بِطِلاعِ الأرْضِ ذَهَبًا ؟ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، نَعَمْ. فَيَقُولُ : كَذَبْتَ ، قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ فَلَمْ تَفْعَلْ ، فيُرَد إلى النَّارِ" . {المسند (3/208)}.
ولهذا قال : {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي : وما لهم من أحد يُنْقِذهم من عذاب الله ، ولا يجيرهم من أليم عقابه. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 71 ـ 72}(15/87)
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وتضمنت هذه الآية من أصناف البديع : الطباق : في قوله : طوعا وكرها.
وفي : كفروا بعد إيمانهم في موضعين.
والتكرار : في : يهدي ولا يهدي.
وفي : كفروا بعد إيمانهم.
والتجنيس المغاير : في كفروا وكفروا.
والتأكيد : بلفظ : هم ، في قوله : وأولئك هم الضالون.
قيل : والتشبيه في : ثم ازدادوا كفراً ، شبه تماديهم على كفرهم وإجرامهم بالاجرام التي يزاد بعضها على بعض ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
والعدول من مفعل إلى فعيل ، في : عذاب أليم ، لما في : فعيل ، من المبالغة.
والحذف في مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 545}(15/88)
قوله تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان آخر هذه القصص في الحقيقة إبطال كل ما خالف الإسلام الذي هو معنى {إن الدين عند الله الإسلام} [ آل عمران : 19 ] - وما بعد ذلك إنما جرّه - ختم الآية بدعوى أن المخالفين من الخاسرين ، وختم ذلك بأن من مات على الكفر لا يقبل إنفاقه للإنقاذ مما يلحقه من الشدائد ، لا بدفع لقاهر ولا بتقوية لناصر ، فتشوفت النفس إلى الوقت الذي يفيد فيه الإنفاق وأي وجوهه أنفع ، فأرشد إلى ذلك وإلى أن الأحب منه أجدر بالقبول ، رجوعاً إلى ما قرره سبحانه وتعالى قبل آية الشهادة بالوحدانية من صفة عباده المنفقين والمستغفرين بالأسحار على وجه أبلغ بقوله : {لن تنالوا البر} وهو كمال الخير {حتى تنفقوا} أي في وجوه الخير {مما تحبون} أي من كل ما تقتضون ، كما ترك إسرائيل عليه الصلاة والسلام أحب الطعام إليه لله سبحانه وتعالى.
ولما كان التقدير : فإن أنفقتم منه علمه الله سبحانه وتعالى فأنالكم به البر ، وإن تيممتم الخبيث الذي تكرهونه فأنفقتموه لم تبروا ، وكان كل من المحبة والكراهة أمراً خفياً ، قال سبحانه وتعالى مرغماً مرهباً : {وما تنفقوا من شيء} أي من المحبوب وغيره {فإن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة.
وقدم الجار اهتماماً به إظهاراً لأنه يعلمه من جميع وجوهه ما تقول لمن سألك - هل تعلم كذا : لا أعلم إلا هو ، فقال : {به عليم} فهذا كما ترى احتباك. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 125}
فصل
قال الفخر : (15/89)
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق لا ينفع الكافر ألبتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة ، فقال : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وبيّن في هذه الآية أن من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار ، ثم قال في آية أخرى {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيم} [ المطففين : 22 ] وقال أيضاً : {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} [ الإنسان : 5 ] وقال أيضاً : {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ * عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * ختامه مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} [ المطففين : 22 ، 26 ] وقال : {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب} [ البقرة : 177 ] فالله تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفى ههنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر ، وفيه لطيفة أخرى.
وهي أنه تعالى قال : {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ ءَامَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة} إلى آخر الآية ، فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير ، وسماه البر ثم قال في هذه الآية {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون ، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك أفضل الطاعات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 117}
فصل
قال القرطبى : (15/90)
روى الأئمة واللفظ للنسائي عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحة : إن ربنا ليسألنا من أموالنا فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلها في قرابتك في حسان بن ثابت وأُبيّ بن كعب " وفي الموطأ "وكانت أحب أمواله إليه بَئرُحَاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيبٍ".
وذكر الحديث.
ففي هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه ؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك.
ألا ترى أبا طلحة حين سمع {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ} الآية ، لم يحتج أن يقف حتى يرد البيان الذي يريد اللَّهُ أن ينفق منه عبادُه بآية أخرى أو سنة مبيِّنة لذلك فإنهم يحبون أشياء كثيرة.
وكذلك فعل زيد بن حارثة.
عَمِد مما يحب إلى فرس يقال له "سَبَل" وقال : اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إليّ من فرسي هذه ؛ فجاء بها ( إلى ) النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذا في سبيل الله.
فقال لأسامة بن زيد "اقبضه".
فكأنّ زيداً وجد من ذلك في نفسه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد قبلها منك " ذكره أسد بن موسى.
وأعتق ابن عمر نافعاً مولاه ، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار.
قالت صفية بنت أبي عبيد : أظنه تأوّل قول الله عز وجل : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}.(15/91)
وروى شِبل عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سَبْي جَلُولاء يوم فتح مدائنِ كسْرَى ؛ فقال سعد بن أبي وقاص ، فدعا بها عمر فأعجبته ، فقال إن الله عز وجل يقول : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فأعتقها عمر رضي الله عنه.
وروي عن الثوري أنه بلغه أن أمّ ولد الرّبيع بن خَيْثم قالت : كان إذا جاءه السائل يقول لي : يا فلانة أعطي السائل سكراً ، فإن الربيع يحب السكر.
قال سفيان : يتأوّل قوله جلّ وعز : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدالاً من سكر ويتصدّق بها.
فقيل له : هلا تصدّقت بقيمتها ؟ فقال : لأن السكر أحب إليّ فأردت أن أنفق مما أحبّ.
وقال الحسن : إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون ، ولا تُدركوا ما تأمّلون إلا بالصبر على ما تكرهون. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 132 ـ 133}
فصل
قال الفخر :
وههنا بحث وهو : أن لقائل أن يقول كلمة {حتى} لانتهاء الغاية فقوله {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} يقتضي أن من أنفق مما أحب فقد نال البر ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار ، فهذا يقتضي أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات ، وهو باطل ، (15/92)
وجواب هذا الإشكال : أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول ، فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة ، ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر ، وأقر بأنه يجب عليه الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه ، فإذا تأملت علمت أن الإنسان لا يمكنه إنفاق الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعاً لجميع الخصال المحمودة في الدنيا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 117}
فصل
قال الفخر :
كان السلف إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله ، روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة : يا رسول الله لي حائط بالمدينة وهو أحب أموالي إليّ أفأتصدق به ؟ فقال عليه السلام : " بخ بخ ذاك مال رابح ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين "
فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها في أقاربه ، ويروى أنه جعلها بين حسّان بن ثابت وأُبي بن كعب رضي الله عنهما ، وروي أن زيد بن حارثة رضي الله عنه جاء عند نزول هذه الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ، فوجد زيد في نفسه فقال عليه السلام : " إن الله قد قبلها " واشترى ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له : لم أعتقتها ولم تصب منها ؟ فقال : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 117}
فصل
قال الفخر :
للمفسرين في تفسير البر قولان
أحدهما : ما به يصيرون أبراراً حتى يدخلوا في قوله {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ} فيكون المراد بالبر ما يحصل منهم من الأعمال المقبولة
والثاني : الثواب والجنة فكأنه قال : لن تنالوا هذه المنزلة إلا بالانفاق على هذا الوجه.(15/93)
أما القائلون بالقول الأول ، فمنهم من قال : {البر} هو التقوى واحتج بقوله {ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله} إلى قوله {أولئك الذين صَدَقُوا وأولئك هُمُ المتقون} [ البقرة : 177 ] وقال أبو ذر : إن البر هو الخير ، وهو قريب مما تقدم.
وأما الذين قالوا : البر هو الجنة فمنهم من قال : {لَن تَنَالُواْ البر} أي لن تنالوا ثواب البر ، ومنهم من قال : المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم ، وهو من قول الناس : برني فلان بكذا ، وبر فلان لا ينقطع عني ، وقال تعالى : {لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين} إلى قول : {أَن تَبَرُّوهُمْ} [ الممتحنة : 8 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 117 ـ 118}
فصل
قال الفخر :
اختلف المفسرون في قوله {مِمَّا تُحِبُّونَ} منهم من قال : إنه نفس المال ، قال تعالى : {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} [ العاديات : 8 ] ومنهم من قال : أن تكون الهبة رفيعة جيدة ، قال تعالى : {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ} [ البقرة : 267 ] ومنهم من قال : ما يكون محتاجاً إليه قال تعالى : {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ مِسْكِيناً} [ الإنسان : 8 ] أحد تفاسير الحب في هذه الآية على حاجتهم إليه ، وقال : {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [ الحشر : 9 ] وقال عليه السلام : " أفضل الصدقة ما تصدقت به وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر " والأولى أن يقال : كل ذلك معتبر في باب الفضل وكثرة الثواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 118}
فصل
قال الفخر :
اختلف المفسرون في أن هذا الإنفاق ، هل هو الزكاة أو غيرها ؟(15/94)
قال ابن عباس : أراد به الزكاة ، يعني حتى تخرجوا زكاة أموالكم ، وقال الحسن : كل شيء أنفقه المسلم من ماله طلب به وجه الله فإنه من الذين عنى الله سبحانه بقوله {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} حتى التمرة ، والقاضي اختار القول الأول ، واحتج عليه بأن هذا الإنفاق ، وقف الله عليه كون المكلف من الأبرار ، والفوز بالجنة ، بحيث لو لم يوجد هذا الإنفاق ، لم يصر العبد بهذه المنزلة ، وما ذاك إلا الإنفاق الواجب ، وأقول : لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أولى لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحب ، والزكاة الواجبة ليس فيها إيتاء الأحب ، فإنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها ، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل الندب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 118}
فائدة
قال الفخر :
نقل الواحدي عن مجاهد والكلبي : أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة ، وهذا في غاية البعد لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله سبحانه وتعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 118}
فصل
قال الفخر :
قال بعضهم كلمة {مِنْ} في قوله {مِمَّا تُحِبُّونَ} للتبعيض ، وقرأ عبد الله {حتى تُنفِقُواْ بَعْضِ مَا تُحِبُّونَ} وفيه إشارة إلى أن إنفاق الكل لا يجوز ثم قال : {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [ الفرقان : 67 ] وقال آخرون : إنها للتبيين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 118}
قوله تعالى : {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم}
فصل
قال الفخر :
وأما قوله : {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم}.
ففيه سؤال :
وهو أن يقال : قيل فإن الله به عليم على جهة جواب الشرط مع أن الله تعالى يعلمه على كل حال.
والجواب : من وجهين(15/95)
الأول : أن فيه معنى الجزاء تقديره : وما تنفقوا من شيء فإن الله به يجازيكم قل أم كثر ، لأنه عليم به لا يخفى عليه شيء منه ، فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب ، والتعريض في مثل هذا الموضع يكون أبلغ من التصريح
والثاني : أنه تعالى يعلم الوجه الذي لأجله يفعلونه ويعلم أن الداعي إليه أهو الإخلاص أم الرياء ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود ، أم الأخس الأرذل.
واعلم أن نظير هذه الآية قوله {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} وقوله {وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} [ البقرة : 270 ] قال صاحب "الكشاف" {مِنْ} في قوله {مِن شَىْء} لتبيين ما ينفقونه أي من شيء كان طيباً تحبونه أو خبيثاً تكرهونه فإن الله به عليم يجازيكم على قدره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 119}
فصل
قال ابن عادل :
النيل : إدراك الشيء ولحوقه.
وقيل : هو العطية.
وقيل : هو تناول الشيء باليد ، يقال : نِلْتُه ، أناله ، نَيْلاً ، قال تعالى : {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا} [ التوبة : 120 ].
وأما النول - بالواو - فمعناه التناول ، يقال : نِلتُه ، أنوله ، أي تناولته ، وأنلْته زيداً ، وأنوله إياه ، أي ناولته إياه ، كقولك : عطوته ، أعطوه ، بمعنى : تناولته ، وأعطيته إياه - إذا ناولته إياه.
قوله : " حتى تنفقوا " بمعنى إلى أن ، و" مِن " في " مما تحبون " تبعيضية يدل عليه قراءة عبد الله : بعض ما تحبون.
قال شهاب الدين : " وهذه - عندي - ليست قراءة ، بل تفسير معنى ".
وقال آخرون : " إنها للتبيين ".(15/96)
[ وجوز أبو البقاء ذلك فقال : " أو نكرة موصوفة ولا تكون مصدرية ؛ لأن المحبة لا تتفق ، فإن جعلت المحبة بمعنى : المفعول ، جاز على رأي أبي علي " يعني يَبْقى التقدير : من الشيء المحبوب ، وهذان الوجهان ضعيفان والأول أضعف ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 385 ـ 386}(15/97)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} كلام مستأنف لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم ، وتنال من نال نيلاً إذا أصاب ووجد ، ويقال : نال العلم إذا وصل إليه واتصف به ، والبر الإحسان وكمال الخير ، وبعضهم يفرق بينه وبين الخير بأن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك ، والخير هو النفع مطلقاً وإن وقع سهواً ، وضد البر العقوق ، وضد الخير الشر ، وأل فيه إما للجنس والحقيقة ، والمراد لن تكونوا أبراراً حتى تنفقوا وهو المروي عن الحسن ، وإنا لتعريف العهد ، والمراد لن تصيبوا بر الله تعالى يا أهل طاعته حتى تنفقوا ، وإلى ذلك ذهب مقاتل وعطاء. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسير البر بالجنة ، وروي مثله عن مسروق والسدي وعمرو بن ميمون ، وذهب بعضهم إلى أن الكلام على حذف مضاف أي لن تنالوا ثواب البر ، وحتى بمعنى إلى ، ومن تبعيضية ، ويؤيده قراءة عبد الله ( بعض ما تحبون ) ، وقيل : بيانية ، وعليه أيضاً لا تخالف بين القراءتين معنى ، و( ما ) موصولة أو موصوفة ، وجعلها مصدرية والمصدر بمعنى المفعول جائز على رأي أبي علي. وفي المراد من قوله سبحانه : {مِمَّا تُحِبُّونَ} أقوال ، فقيل المال وكنى بذلك عنه لأن جميع الناس يحبونه ، وقيل : نفائس الأموال وكرائمها ، وقيل : ما يعم ذلك وغيره من سائر الأشياء التي يحبها الإنسان ويهواها ، والإنفاق على هذا مجاز ، وعلى الأولين حقيقة.(15/98)
وكان السلف رضي الله تعالى عنهم إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله تعالى ، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلاً بالمدينة وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله تعالى يقول : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه" وفي رواية لمسلم وأبي داود "فجعلها بين حسان بن ثابت وأُبي بن كعب". وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن محمد بن المنكدر قال : "لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال : هي صدقة فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال : إن الله تعالى قد قبلها منك".(15/99)
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال : "حضرتني هذه الآية {لَن تَنَالُواْ البر} الخ فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله تعالى فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها فأنكحتها نافعاً ، وأخرج ابن المنذر عن نافع قال : كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يشتري السكر يتصدق به فنقول له : لو اشتريت لهم بثمنه طعاماً كان أنفع لهم من هذا فيقول : أنا أعرف الذي تقولون ولكن سمعت الله تعالى يقول : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وأن ابن عمر يحب السكر.(15/100)
وظاهر هذه الأخبار يدل على أن الإنفاق في الآية يعم المستحب ، وروي عن ابن عباس أن المراد به إخراج الزكاة الواجبة وما فرضه الله تعالى في الأموال فكأنه قيل : لن تنالوا البر حتى تخرجوا زكاة أموالكم وهو مبني على أن المراد من ما تحبون المال لا كرائمه ، فقول النيسابوري : إنه يرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها ، ناشيء من قلة التأمل ، ولو تأمل ما اعترض على ترجمان القرآن وحبر الأمة ، ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي أن الآية منسوخة بآية الزكاة ، وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب في سبيل الله تعالى ، واستشكلت هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن الفقير الذي لم ينفق طول عمره مما يحبه لعدم إمكانه لا يكون باراً أو لا يناله برّ الله تعالى بأهل طاعته مع أنه ليس كذلك ، وأجيب بأن الكلام خارج مخرج الحث على الإنفاق وهو مقيد بالإمكان وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب ، وقيل : الأولى أن يكون المراد : لن تنالوا البر الكامل الواقع على أشرف الوجوه حتى تنفقوا مما تحبون والفقير الذي لم ينفق طول عمره لا يبعد القول بأنه لا يكون باراً كاملاً ولا يناله برّ الله تعالى الكامل بأهل طاعته ، وقيل : الأولى من هذا الأولى أن يقال : إن المراد : لن تنالوا البر على الإنفاق حتى تنفقوا مما تحبون وحاصله أن الإنفاق من المحبوب يترتب عليه نيل البر وأن الإنفاق مما عداه لا يترتب عليه نيل البر ، وليس في الآية ما يدل على حصر ترتب البر على الإنفاق من المحبوب ، ونفي ترتب البر على فعل آخر من الأفعال المأمور بها ، وحينئذ لا يبعد أن يكون الفقير الغير المنفق باراً أو نائلاً برّ الله تعالى بأهل طاعته من جهة أخرى ، وربما تستدعي أفعاله الخالية عن إنفاق المال من البرّ ما هو أكمل وأوفر مما يستدعيه(15/101)
الإنفاق المجرد منه ؛ وينجر الكلام إلى مسألة تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر ، وهي مسألة طويلة الذيل قد ألفت فيها الرسائل {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء} أي أي شيء تنفقونه من الأشياء ، أو أى شيء تنفقوا طيب تحبونه ، أو خبيث تكرهونه فمن على الأول متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط ، وعلى الثاني في محل نصب على التمييز {فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} تعليل لجواب الشرط واقع موقعه أي فيجازيكم يحسبه فإنه تعالى عليم بكل ما تنفقونه ، وقيل : إنه جواب الشرط ، والمراد أن الله تعالى يعلمه موجوداً على الحدّ الذي تفعلونه من حسن النية وقبحها ، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل ، وفي الآية ترغيب وترهيب قيل : وفيها إشارة إلى الحث على إخفاء الصدقة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 222 ـ 223}
ومن فوائد أبى حيان
قال عليه الرحمة :
{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما أخبر عمن مات كافراً أنه لا يقبل ما أنفق في الدنيا ، أو ما أحضره لتخليص نفسه في الآخرة على الاختلاف الذي سبق ، حض المؤمن على الصدقة وبين أنه لن يدرك البر حتى ينفق مما يحب.
والبر هنا.
قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي ، وعمرو بن ميمون : البر الجنة.
وقال الحسن ، والضحاك : الصدقة المفروضة.
وقال أبو روق : الخير كله.
وقيل : الصدق.
وقيل : أشرف الدين ، قاله عطاء.
وقال ابن عطية : الطاعة.
وقال مقاتل بن حيان : التقوى.
وقال الزجاج : كل ما تقرّب به إلى الله من عمل خير.
وقال معناه ابن عطية.
قال أبو مسلم : وله مواضع ، فيقال : الصدق البر ، ومنه : صدقت وبررت ، وكرام بررة ، والإحسان : ومنه بررت والدي ، واللطف والتعاهد : ومنه يبر أصحابه إذا كان يزورهم ويتعاهدهم ، والهبة والصدقة : برّة بكذا إذا وهبه له.(15/102)
وقال : ويحتمل لن تنالوا برّ الله بكم أي ، رحمته ولطفه. انتهى.
وهو قول أبي بكر الوراق ، قال : معنى الآية لن تنالوا برّي بكم إلاَّ ببرّكم بإخوانكم ، والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم.
وروي نحوه على ابن جرير.
ويحتمل أن يريد : لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً إلاَّ بالإنفاق المضاف إلى سائر أعمالكم ، قاله ابن عطية.
وقد تقدّم شرح البرّ في قوله : {أتأمرون الناس بالبر} ولكن فعلنا ما قال الناس في خصوصية هذا الموضع.
و : من ، في : مما تحبون ، للتبعيض ، ويدل على ذلك قراءة عبد الله : حتى تنفقوا بعض ما تحبون.
و : ما ، موصولة ، والعائد محذوف.
والظاهر : أن المحبة هنا هو ميل النفس وتعلقها التعلق التام بالمنفق ، فيكون إخراجه على النفس أشق وأصعب من إخراج ما لا تتعلق به النفس ذلك التعلق ، ولذلك فسره الحسن ، والضحاك : بأنه محبوب المال ، كقوله : {ويطعمون الطعام على حبه} لذلك ما روي عن جماعة أنهم لهذه الآية تصدّقوا بأحب شيء إليهم ، فتصدّق أبو طلحة ببير حاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، وابن عمر بالسكر واللوز لأنه كان يحبه ، وأبو ذر بفحل خير إبله وببرنس على مقرور ، وتلا الآية ، والربيع بن خيثم بالسكر لحبه له ، وأعتق عمر جارية أعجبته ، وابنه عبد الله جارية كانت أعجب شيء إليه.
وقيل : معنى مما تحبون ، نفائس المال وطيبه لا رديئه وخبيثه.
وقيل : ما يكون محتاجاً إليه.
وقيل : كل شيء ينفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله.
ولفظة : تحبون ، تنبو عن هذه الأقوال ، والذي يظهر أن الإنفاق هو في الندب ، لأن المزكي لا يجب عليه أن يخرج أشرف أمواله ولا أحبها إليه ، وأبعد من ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة ، لأن الترغيب في الندب لوجه الله لا ينافي الزكاة.(15/103)
قال بعضهم : وتدل هذه الآية على أن الكلام يصير شعراً بأشياء ، منها : قصد المتكلم إلى أن يكون شعراً ، لأن هذه الآية على وزن بيت الرمل ، يسمى المجزؤ والمسبع ، وهو :
يا خليليّ أربعا واستخبر ال . . .
منزل الدارس عن حيّ حلال
رسماً بعسفان . . .
ولا يجوز أن يقال : إن في القرآن شعراً. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 546 ـ 547}
وقال ابن عاشور :
{لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}
اسئناف وقع معتَرَضاً بين جملة {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفّار} [ آل عمران : 91 ] الآية ، وبين جملة {كُلّ الطعام كانَ حِلاّ لبني إسرائيل} [ آل عمران : 93 ].
وافتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البرّ إيذَان بأنّ شرائع الإسلام تدور على مِحْور البرّ ، وأنّ البرّ معنى نفساني عظيم لا يخرِم حقيقته إلاّ ما يفضى إلى نقض أصل من أصول الاستقامة النَّفسانيّة.
فالمقصود من هذه الآيَة أمران : أوّلهما التَّحريض على الإنفاق والتّنويه بأنّه من البرّ ، وثانيهما التنويه بالبرّ الَّذِي الإنفاق خصلة من خصاله.
ومناسبة موقع هذه الآية تِلْو سابقتها أنّ الآية السّابقة لمّا بينت أنّ الّذين كفروا لن يقبل من أحدهم أعظم ما ينفقه ، بيّنت هذه الآية ما ينفع أهل الإيمان من بذل المال ، وأنّه يبلغ بصاحبه إلى مرتبة البرّ ، فبيْن الطرفيْن مراتب كثيرة قد علمها الفطناء من هذه المقابلة.
والخطاب للمؤمنين لأنَّهم المقصود من كُلّ خطاب لم يتقدّم قبله ما يعيِّن المقصود منه.(15/104)
والبرّ كمال الخير وشموله في نوعه : إذ الخير قد يعظم بالكيفية ، وبالكميّة ، وبهما معاً ، فبذل النَّفس في نصر الدّين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدوّ الكثير بالعدد القليل ، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هوْل البحر ، ولا يتصوّر في مثل ذلك تعدّد ، وإطعام الجائع يعظم بالتعدّد ، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعاً ، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان برّاً أيضاً.
وروَى النَّوَّاسُ بن سِمْعان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " البرُّ حُسْن الخُلُق والإثممِ ما حاك في النفْس وكَرهتَ أن يَطَّلع عليه الناس " رواه مسلم.
ومُقابَلَة البرّ بالإثم تدلّ على أنّ البرّ ضدّ الإثم.
وتقدّم عند قوله تعالى : {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قِبل المَشرق والمغرب} [ البقرة : 177 ].
وقد جعل الإنفاق من نفس المال المُحَبّ غاية لانتفاء نوال البرّ ، ومقتضى الغاية أنّ نوال البرّ لا يحصل بدونها ، وهو مشعر بأنّ قبْل الإنفاق مسافاتتٍ معنوية في الطريق الموصلة إلى البرّ ، وتلك هي خصال البرّ كلّها بقيتْ غير مسلوكة ، وأنّ البرّ لا يحصل إلاّ بنِهايتها وهو الإنفاق من المحبوب ، فظهر ل ( حتّى ) هنا موقع من البلاغة لا يخلفها فيه غيرها : لأنَّه لو قيل إلاّ أن تنفقوا مِمَّا تحبّون ، لتوهمّ السامع أنّ الإنفاق من المحَبِّ وحده يوجب نَوال البِرّ ، وفاتت الدلالة على المسافات والدرجات الَّتي أشعرت بها ( حتَّى ) الغائية.
و ( تنالوا ) مشتقّ من النوال وهو التّحصيل على الشيء المعطي.
والتّعريف في البِرّ تعريف الجنس : لأنّ هذا الجنس مركّب من أفعال كثيرة منها الإنفاق المخصوص ، فبدونه لا تتحقَّق هذه الحقيقة.
والإنفاق : إعطاء المال والقوتتِ والكسوة.(15/105)
وما صدقُ ( ما ) في قوله : {مما تحبون} المال : أي المال النَّفيس العزيز على النَّفس ، وسوّغ هذا الإبهام هنا وجود تنفقوا إذ الإنفاق لا يطلق على غير بذل المال ف ( من ) للتبعيض لا غير ، ومن جوّز أن تكون ( من ) للتبيين فقد سها لأنّ التبيينية لا بدّ أن تُسبق بلفظ مبهم.
والمال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدّقين ، ورغباتهم ، وسعة ثرواتهم ، والإنفاقُ منه أي التّصدق دليل على سخاءٍ لوجه الله تعالى ، وفي ذلك تزكية للنّفس من بقية ما فيها من الشحّ ، قال تعالى : {ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [ الحشر : 9 ] وفي ذلك صلاح عظيم للأمّة إذ تجود أغنيَاؤها على فقرائها بما تطمح إليه نفوسهم من نفائس الأموال فتشتدّ بذلك أواصر الأخوّة ، ويهنأ عيش الجميع.
وقد بيَّن الله خصال البِرّ في قوله : {ولكن البر من آمن باللَّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنَّبيّين وآتى المال على حُبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقامَ الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} في سورة [ البقرة : 177 ].
( فالبرّ هو الوفاء بما جاء به الإسلام ممَّا يعرض للمرء في أفعاله ، وقد جمع الله بينه وبين التَّقوى في قوله : {وتعاونوا على البِر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [ المائدة : 2 ] فقابل البرّ بالإثم كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النّواس بن سِمْعان المتقدّم آنفاً.
وقوله : {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} تَذْييل قُصد به تعميم أنواع الإنفاق ، وتبيين أنّ الله لا يخفى عليه شيء من مقاصد المنفقين ، وقد يكون الشيء القليل نفيساً بحسب حال صاحبه كما قال تعالى : {والذين لا يجدون إلاّ جهدهم} [ التوبة : 79 ].
(15/106)
وقوله : {فإن الله به عليم} مراد به صريحه أي يطّلع على مقدار وقعه ممَّا رغَّب فيه ، ومرَاد به الكناية عن الجزاء عليه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 152 ـ 155}. بتصرف يسير.
وقال العلامة ابن عطية :
ذهب بعض الناس إلى أن يصل معاني هذه الآيات بعضها ببعض ، من حيث أخبر تعالى : أنه لا يقبل من الموافي على الكفر {ملء الأرض ذهباً} [ آل عمران : 91 ] وقد بان أنه يقبل من المؤمن القليل والكثير ، فحض على الإنفاق من المحبوب المرغوب فيه ، ثم ذكر تقرب إسرائيل عليه السلام ، بتحريم ما كان يحب على نفسه ، ليدل تعالى على أن جميع التقربات تدخل بالمعنى في جملة الإنفاق من المحبوب ، وفسر جمهور المفسرين هذه الآيات ، على أنها معان منحازة ، نظمتها الفصاحة المعجزة أجمل نظم ، وقوله تعالى {لن تنالوا} الآية ، خطاب لجميع المؤمنين ، وقال السدي وعمر بن ميمون : {البر} الجنة.
قال الفقيه الإمام : وهذا تفسير بالمعنى ، وإنما الخاص باللفظة أنه ما يفعله البر من افاعيل الخير ، فتحتمل الآية أن يريد : لن تنالو بر الله تعالى بكم ، أي رحمته ولطفه ، ويحتمل أن يريد : لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً ، إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم ، وبسبب نزول هذه الآية ، تصدق أبو طلحة بحائطه ، المسمى بيرحاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها ، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ابنه ، فكأن زيداً شق عليه فقال له النبي : أما إن الله قد قبل صدقتك ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء وقت فتح مدائن كسرى علي يدي سعيد بن أبي وقاص فسيقت إليه وأحبها فدعا بها يوماً وقال : إن الله يقول {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ، فأعتقها.(15/107)
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا كله حمل للآية على أن قوله تعالى : {مما تحبون} أي من رغائب الأموال التي يضن بها ، ويتفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم : خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى - الحديث - وذهب قوم من العلماء إلى أن ما يحب من المطعومات على جهة الاشتهاء يدخل في الآية ، فكان عبد الله بن عمر ، يشتهي أكل السكر بالوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به ويتلو الآية.
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وإذا تأملت جميع الطاعات ، وجدتها إنفاقاً مما يحب الإنسان ، إما من ماله ، وإما من صحته ، وإما من دعته وترفهه ، وهذه كلها محبوبات ، وسأل رجل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه ، أي الأعمال أفضل ؟ فقال : الصلاة عماد الإسلام ، والجهاد سنام العمل ، والصدقة شيء عجيب ، فقال له الرجل : أراك تركت شيئاً وهو أوثقها في نفسي الصيام ، فقال أبو ذر : قربة وليس هناك ، ثم تلا {لن تنالوا البر} الآية ، وقوله تعالى {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} شرط وجواب فيه وعد ، أي عليم مجاز به وإن قل. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 471 ـ 472}
لطيفة
قال الثعالبى :
قال الغَزَّالِيُّ : قال نافعٌ : كانَ ابْنُ عُمَرَ مريضاً ، فاشتهى سَمَكَةً طَرِيَّةً ، فحملتْ إلَيْه على رغيفٍ ، فقام سائلٌ بالبابِ ، فأمر بدفعها إلَيْه ، ثم قَالَ : سمعْتُ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " أَيُّمَا امرىء اشتهى شَهْوَةً ، فَرَدَّ شَهْوَتَهُ ، وآثَرَ على نَفْسِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " أ هـ من "الإِحياء". (1) أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 288}
(1) {الإحياء حـ 3 صـ 92}(15/108)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
لمَّا كان وجود البرِّ مطلوباً ذكر فيه " مِنْ " التي للتبعيض فقال : {مِمَّا تُحِبُّونَ} ؛ فَمنْ أراد البر فلينفق مما يحبه أي البعض ، وَمَنْ أراد البَارَّ فلينفقْ جميع ما يحبه. ومن أنفق محبوبه من الدنيا وَجَدَ مطلوبه من الحق تعالى ، ومن كان مربوطاً بحظوظ نفسه لم يحظ بقرب ربِّه.
ويقال إذا كنت لا تصل إلى البر إلا بإنفاق محبوبك فمتى تصل إلى البارّ وأنت تؤثر عليه حظوظك. {وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} منهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعِوض ، ومنهم من ينفق على مراقبة دفع البلاء والحَزن ، ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه ، قال قائلهم :
ويهتز للمعروف في طلب العلى... لتُذكَرَ يوماً - عند سلمى - شمائلُه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 258 ـ 259}(15/109)
قوله تعالى {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر بذلك بين أنه كان ديدن أهل الكمال على وجه يقرر به ما مضى من الإخبار بعظيم اجتراء أهل الكتاب على الكذب بأمر حسّي فقال تعالى : {كل الطعام} أي من الشحوم مطلقاً وغيرها {كان حلاًّ لبني إسرائيل} أي أكله - كما كان حلاًّ لمن قبلهم على أصل الإباحة {إلا ما حرم إسرائيل} تبرراً وتطوعاً {على نفسه} وخصه بالذكر استجلاباً لبنيه إلى ما يرفعهم بعد اجتذابهم للمؤمنين إلى ما يضرهم ولا ينفعهم.
ولما كانوا بما أغرقوا فيه من الكذب ربما قالوا : إنما حرم ذلك اتباعاً لحكم التوراة قال : {من قبل} وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان ، لا مستغرقاً له.
وعبر بالمضارع لأنه أدل على التجدد فقال : {أن تنزل التوراة} وكان قد ترك لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب الأطعمة إليه لله وإيثاراً لعباده - كما تقدم ذلك في البقرة عند {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [ البقرة : 89 ].
ولما كانت هذه الآية إلزاماً لليهود باعتقاد النسخ الذي طعنوا به في هذا الدين في أمر القبلة ، وكانوا ينكرونه ليصير عذراً لهم في التخلف عن اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم ، فكانوا يقولون : لم تزل الشحوم وما ذكر معها حراماً على من قبلنا كما كانت حراماً علينا ، فأمر بجوابهم بأن قال : {قل} أي لليهود {فأتوا بالتوارة فاتلوها} أي لتدل لكم {إن كنتم صادقين} فيما ادعيتموه ، فلم يأتلوا بها فبان كذبهم فافتضحوا فضيحة لا مثل لها في الدنيا. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 125 ـ 126}
فصل(15/110)
قال الفخر :
اعلم أن الآيات المتقدمة إلى هذه الآية كانت في تقرير الدلائل الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب.
وأما هذه الآية فهي في بيان الجواب عن شبهات القوم فإن ظاهر الآية يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعي أن كل الطعام كان حلاً ثم صار البعض حراماً بعد أن كان حلاً والقوم نازعوه في ذلك وزعموا أن الذي هو الآن حرام كان حراماً أبداً.
وإذا عرفت هذا فنقول : الآية تحتمل وجوهاً
الأول : أن اليهود كانوا يعولون في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ ، فأبطل الله عليهم ذلك بأن {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل على نَفْسِهِ} فذاك الذي حرمه على نفسه ، كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ ، فبطل قولكم : النسخ غير جائز ، ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال أنكروا أن يكون حرمة ذلك الطعام الذي حرم الله بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه ، بل زعموا أن ذلك كان حراماً من لدن زمان آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ، فعند هذا طلب الرسول عليه السلام منهم أن يحضروا التوراة فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه ، فخافوا من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة ، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوي دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم
أحدها : أن هذا السؤال قد توجه عليهم في إنكار النسخ ، وهو لازم لا محيص عنه
وثانيها : أنه ظهر للناس كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها تارة ، ويمتنعون عن الإقرار بما هو فيها أخرى(15/111)
وثالثها : أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رجلاً أُمياً لا يقرأ ولا يكتب فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء فهذا وجه حسن علمي في تفسير الآية وبيان النظم.
الوجه الثاني : أن اليهود قالوا له : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم ، فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم فجعلوا هذا الكلام شبهة طاعنة في صحة دعواه ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الشبهة بأن قال : ذلك كان حلاً لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ، إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك ، فأمرهم الرسول عليه السلام بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام.
الوجه الثالث : أنه تعالى لما أنزل قوله {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} [ الأنعام : 146 ] وقال أيضاً : {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [ النساء : 160 ] فدلت هذه الآية على أنه تعالى إنما حرم على اليهود هذه الأشياء جزاءً لهم على بغيهم وظلمهم وقبيح فعلهم وإنه لم يكن شيء من الطعام حراماً غير الطعام الواحد الذي حرمه إسرائيل على نفسه ، فشق ذلك على اليهود من وجهين
أحدهما : أن ذلك يدل على أن تلك الأشياء حرمت بعد أن كانت مباحة ، وذلك يقتضي وقوع النسخ وهم ينكرونه(15/112)
والثاني : أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال ، فلما حق عليهم ذلك من هذين الوجهين أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجددة ، بل زعموا أنها كانت محرمة أبداً ، فطالبهم النبي صلى الله عليه وسلم بآية من التوراة تدل على صحة قولهم فعجزوا عنه فافتضحوا ، فهذا وجه الكلام في تفسير هذه الآية وكله حسن مستقيم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 119 ـ 120}
قوله تعالى {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل}
فصل
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" {كُلُّ الطعام} أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام وأقول : اختلف الناس في أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد العموم أم لا ؟.
ذهب قوم من الفقهاء والأدباء إلى أنه يفيده ، واحتجوا عليه بوجوه
أحدها : أنه تعالى أدخل لفظ {كُلٌّ} على لفظ الطعام في هذه الآية ، ولولا أن لفظ الطعام قائم مقام لفظ المطعومات وإلا لما جاز ذلك
وثانيها : أنه استثنى عنه ما حرم إسرائيل على نفسه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ الطعام وإلا لم يصح هذا الاستثناء وأكدوا هذا بقوله تعالى : {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين ءامَنُواْ} [ العصر : 2 ، 3 ]
وثالثها : أنه تعالى وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع ، فقال : {والنخل باسقات لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رّزْقاً لّلْعِبَادِ} [ ق : 10 ، 11 ] فعلى هذا من ذهب إلى هذا المذهب لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب "الكشاف" ، أما من قال إن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم ، وهو الذي نظرناه في أصول الفقه احتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب "الكشاف". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 120 ـ 121}
فصل
قال الفخر : (15/113)
الطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل ، وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه إنه اسم للبر خاصة ، وهذه الآية دالة على ضعف هذا الوجه ، لأنه استثنى من لفظ الطعام ما حرم إسرائيل على نفسه ، والمفسرون اتفقوا على أن ذلك الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان شيئاً سوى الحنطة ، وسوى ما يتخذ منها ومما يؤكد ذلك قوله تعالى في صفة الماء {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} [ البقرة : 249 ] وقال تعالى : {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [ المائدة : 5 ] وأراد الذبائح ، وقالت عائشة رضي الله عنها : ما لنا طعام إلا الأسودان ، والمراد التمر والماء.
إذا عرفت هذا فنقول : ظاهر هذه الآية يدل على أن جميع المطعومات كان حلاً لبني إسرائيل ثم قال القفال : لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام ، وكذا القول في الخنزير ، ثم قال فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم أنها كان محرمة على إبراهيم ، وعلى هذا التقدير لا تكون الألف واللام في لفظ الطعام للاستغراق ، بل للعهد السابق ، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ومثله قوله تعالى : {قُل لا أَجِدُ فِى مَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزير} [ الأنعام : 145 ] فإنه إنما خرج هذا الكلام على أشياء سألوا عنها فعرفوا أن المحرم منها كذا وكذا دون غيره فكذا في هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 121}
قوله تعالى : {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل على نَفْسِهِ}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في الشيء الذي حرمه إسرائيل على نفسه على وجوه(15/114)
الأول : روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن يعقوب مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه ، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها " وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل
والثاني : قيل إنه كان به عرق النسا ، فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئاً من العروق
الثالث : جاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر ، ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة ، أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث برداً إلى عيصو أخيه إلى أرض ساعير ، فانصرف الرسول إليه ، وقال : إن عيصو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل ، فذعر يعقوب وحزن جداً وصلّى ودعا وقدم هدايا لأخيه وذكر القصة إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل ، فدنا ذلك الرجل ووضع أصبعه على موضع عرق النسا ، فخدرت تلك العصبة وجفت فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 121 ـ 122}
فائدة
قال الماوردى :
واختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه هل كان بإذن الله تعالى أم لا _ على اختلافهم في اجتهاد الأنبياء... على قولين :
أحدهما : لم يكن إلا بإذنه وهو قول من زعم أن ليس لنبي أن يجتهد.
والثاني : باجتهاده من غير إذن ، وهو قول من زعم أن للنبي أن يجتهد.
واختلفوا في تحريم اليهود ذلك على أنفسهم على قولين :
أحدهما : أنهم حرموه على أنفسهم اتباعاً لإسرائيل.
والثاني : أن التوراة نزلت بتحريمها فحرموها بعد نزولها ، والأول أصح. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 409 ـ 410}
فصل
قال الفخر :
ظاهر الآية يدل على أن إسرائيل حرم ذلك على نفسه ، وفيه سؤال : وهو أن التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله تعالى ، فكيف صار تحريم يعقوب عليه السلام سبباً لحصوله الحرمة.(15/115)
أجاب المفسرون عنه من وجوه
الأول : أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرم شيئاً على نفسه فإن الله يحرمه عليه ألا ترى أن الإنسان يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ، ويحرم جاريته بالعتق ، فكذلك جائز أن يقول تعالى إن حرمت شيئاً على نفسك فأنا أيضاً أحرمه عليك
الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتهد فأدى اجتهاده إلى التحريم ، فقال بحرمته وإنما قلنا : إن الاجتهاد جائز من الأنبياء لوجوه
الأول : قوله تعالى : {فاعتبروا يا أولى الأبصار} [ الحشر : 2 ] ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رؤساء أولي الأبصار
والثاني : قال : {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [ النساء : 83 ] مدح المستنبطين والأنبياء أولى بهذا المدح
والثالث : قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [ التوبة : 43 ] فلو كان ذلك الإذن بالنص ، لم يقل : لم أذنت ، فدل على أنه كان بالاجتهاد
الرابع : أنه لا طاعة إلا وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام الله تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة ، فوجب أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها نصيب لا سيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أكثر ، ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته
والأظهر الأقوى أن إسرائيل صلوات الله عليه إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرّم الله على إسرائيل فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال : الشافعي يحل لهم الخيل وأبو حنيفة يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا ههنا.(15/116)
الثالث : يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا ، فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم.
واعلم أن هذا لو كان فإنه كان مختصاً بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى : {ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [ التحريم : 1 ]
الرابع : قال الأصم : لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة الله تعالى ، كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذلك الامتناع بالتحريم
الخامس : قال قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب ، وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 122}
فصل
قال الفخر :
ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقد حرمه الله على بني إسرائيل ، وذلك لأنه تعالى قال : {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل} فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني إسرائيل ، ثم استثنى عنه ما حرمه إسرائيل على نفسه ، فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراماً على بني إسرائيل والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 122 ـ 123}
قوله تعالى : {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة}
قال الفخر : (15/117)
أما قوله تعالى : {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} فالمعنى أن قبل نزول التوراة كان حلاً لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرّمه إسرائيل على نفسه ، أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله تعالى عليهم أنواعاً كثيرة ، روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام ، أو سلّط عليهم شيئاً لهلاك أو مضرة ، دليله قوله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [ النساء : 160 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 123}
قوله تعالى : {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين}
فصل
قال الفخر : (15/118)
{قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين} وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجوداً من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ، فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وإما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم ، وأنها إنما حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه ، فنازعوه في ذلك ، فطلب الرسول عليه السلام إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول ، وعلى كلا الوجهين ، فالتفسير ظاهر ، ولمنكري القياس أن يحتجوا بهذه الآية ، وذلك لأن الرسول عليه السلام طالبهم فيما ادعوه بكتاب الله ، ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا : لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه ، لأنا نثبته بالقياس ، ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي ، وإنما وقع في أن هذا الحكم ، هل كان موجوداً في زمان إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا ؟ ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص ، فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، بنص التوراة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 123}
وقال أبو حيان :
{قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}.
قل : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : فأتوا محذوف تقديره : هذا الحق ، لا زعمُكُم معشر اليهود.
فأتوا : وهذه أعظم محاجة أَن يُؤمروا بإحضار كتابهم الذي فيه شريعتهم ، فإنه ليس فيه ما ادّعوه بل هو مصدّق لما أخبر به صلى الله عليه وسلم : من أنّ تلك المطاعم كانت حلالاً لهم من قديم ، وأن التحريم هو حادث.
وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها ، بل بهتوا وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم.(15/119)
وفي استدعاء التوراة منهم وتلاوتها الحجةُ الواضحة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كان عليه السلام النبيّ الأميَّ الذي لم يقرأ الكتب ولا عرف أخبار الأمم السالفة ، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم ولا يجدون من إنكاره محيصاً.
وفي الآية دليل على جواز النسخ في الشرائع ، وهم ينكرون ذلك.
وخرج قوله : " إن كنتم صادقين " مخرجَ الممكن ، وهم معلوم كذبهم.
وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك : إنْ كنت شجاعاً فالقني ، ومعلوم ، عندك أنَّه ليس بشجاع ، ولكن هزأت به إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 5}
فصل
قال ابن عادل :
الحِلّ بمعنى : الحَلالَ ، وهو - في الأصل - مصدر لِ " حَلَّ يَحِلُّ " ، كقولك : عز يعز عزًّا ، ثم يطلق على الأشخاص ، مبالغة ، ولذلك يَسْتَوي فيه الواحدُ والمثنَّى والمجموعُ ، والمذكَّرُ والمؤنثُ ، كقوله تعالى : {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [ الممتحنة : 10 ] ، وفي الحديث عن عائشة : " كُنْتُ أطيِّبُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لِحِلِّه ولِحَرَمِهِ " ، أي لإحلاله ولإحرامه ، وهو كالحرم واللبس - بمعنى : الحرام واللباس - وقال ابن عباس - في زمزم - : هي حِلٌّ وبِلٌّ. رواه سفيان بن عُيَيْنَة ، فسئل سفيان ، ما حِلّ ؟ فقال : محَلَّل. و" لِبَني " : متعلق بـ " حِلاًّ ".
قوله : {إِلاَّ مَا حَرَّمَ} مستثنى من اسم " كَانَ ".
وجوَّز أبو البقاء أن يكون مستثنًى من ضمير مستتر في " حِلاًّ " فقال لأنه استثناء من اسم " كَانَ " والعامل فيه : " كان " ، ويجوز أن يعمل فيه " حِلاًّ " ، ويكون فيه ضمير يكون الاستثناء منه ؛ لأن حِلاًّ وحلالاً في موضع اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح.
وفي هذا الاستثناء قولان : (15/120)
أحدهما : أنه متَّصل ، والتقدير : إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه ، فحرم عليهم في التوراة ، فليس فيها ما زادوه من محرمات ، وادَّعَوْا صحةَ ذلك.
والثاني : أنه مُنْقَطِع ، والتقدير : لكن حرم إسرائيلُ على نفسه خاصَّةً ، ولم يحرمه عليهم ، والأول هو الصحيح.
قوله : {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق بـ " حَرَّم " أي : إلا ما حرَّم من قبل ، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيان : " ويبعد ذلك ؛ إذ هو من الإخبار بالواضح ؛ لأنه معلوم أن الذي حَرَّم إسرائيل على نفسه ، هو من قبل إنزال التوراة ضرورةً ؛ لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة ".
والثاني : أنه يتعلق بقوله : {كَانَ حِلاًّ}.
قال أبو حيان : " ويظهر أنه متعلّق بقوله : {كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} ، أي : من قبل أن تُنَزًّل التوراة ، وفصل بالاستثناء ؛ إذْ هو فَصْل جائز ، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن ، في جواز أن يعمل ما قبل " إلا " فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً - نحو ما جلس إلا زيد عندك ، ما أوَى إلا عمرو إليك ، وما جاء إلا زيد ضاحكاً.
وأجاز الكسائي ذلك في المنصوب مطلقاً ، نحو ما ضرب إلا زيدٌ عمراً ؛ وأجاز ذلك هو وابن الأنباري في المرفوع ، نحو ما ضرب إلا زيداً عمرو ، وأما تخريجه على غير مذهب الكسائي وأبي الحسن ، فَيُقدَّر له عامل من جنس ما قبله ، تقديره - هنا - جل من قبل أن ينزل أي تنزل التوراة ".(15/121)
وقرئ : {تُنَزَّلَ التوراة} بتخفيف الزاي وتشديدها ، وكلاهما بمعنى واحد ، وهذا يرد قولَ من قال بأن " تنَزَّل " - بالتشديد - يدل على أنه نزل مُنَجَّماً ؛ لأن التوراة إنَّما نزلت دُفْعَةً واحدة بإجماع المفسرين.
. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 388 ـ 389}
فصل
قال البغوى :
روي أن يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سُقْمُه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليُحرِّمَنِّ أحبَّ الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها فحرّمهما.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك : هي العروق.(15/122)
وكان السبب في ذلك أنه اشتكى عرق النَّسا وكان أصل وجعه فيما روى جُويبر ومقاتل عن الضحاك : أن يعقوب كان نذر إن وهبه الله اثنى عشر ولدًا وأتى بيت المقدس صحيحًا أن يذبح آخرهم فتلقاه مَلك [من الملائكة] فقال : يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع ، فعالجه فلم يصرعْ واحدٌ منهما صاحبَه فغمزه المَلك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ، ثم قال له : أمَا إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحًا ذبحت آخر ولدك ، فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجًا ، فلما قدمها يعقوب أراد ذبح ولده ونسي قول الملَكِ فأتاه الملَكُ وقال : إنما غمزتك للمخرج وقد وُفي نذرُك فلا سبيل لك إلى ولدك. (1)
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو : وكان رجلا بطيشًا قويًا فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب ، ثم صعد إلى السماء ويعقوب عليه السلام ينظر إليه ، فهاج به عرق النسا ولقي من ذلك بلاءً وشدةً وكان لا ينام بالليل من الوجع ، ويبيت وله زقاء ، أي : صياح ، فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقًا ولا طعاما فيه عرق ، فحرمه على نفسه ، فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق يخرجونها من اللحم.
وروى جُويبر عن الضحاك عن ابن عباس : لمّا أصاب يعقوب عرق النسا وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل فحرمها يعقوب على نفسه.
وقال الحسن : حرّم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدًا لله تعالى : فسأل ربَّه أن يجيز له ذلك فحرمه الله على ولده. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 68}
_________________
(1) هذا القول يفتقر إلى سند وسياقها تظهر عليه علامات الإسرائيليات. والله أعلم.(15/123)
وقال ابن كثير :
قال ابن عباس [رضي الله عنه] حضرت عصابة من اليهود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : حدِّثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. قال : "سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ ، وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ لَئِنْ أنا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الإسْلامِ". قَالُوا : فَذَلِكَ لَكَ. قَالَ : "فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ " قالوا : أَخْبرْنَا عن أربع خلال : أَخْبرْنَا أَيُّ الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه ؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل ؟ كيف هذا النبي الأمّي في النوم ؟ ومن وَليّه من الملائكة ؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه وقال : "أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَطَالَ سُقْمُهُ ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ سُقْمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمان الإبِلِ ، وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا" فقالوا : اللهم نعم. قال : "اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ". وقال : أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ، الَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ ، ومَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَر رَقِيقٌ ، فَأَيُّهُمَا عَلا كَانَ لَهُ الولد وَالشَّبَهُ بإذنِ اللَّهِ ، إِنْ عَلا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المرأة كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِنْ عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ ". قالوا : نعم. قال : "اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ". وقال : (15/124)
"أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الأمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ". قالوا : اللهم نعمْ. قَالَ : "اللَّهُمَّ اشْهَدْ ". قالوا : وأنت الآن فحدثنا منْ وليُّك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك أو نفارقك قال : "إِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ ، وَلَمْ يَبْعَث اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ". قالوا : فعندها نفارقك ، ولو كان وليك غيره لتابعنَاك ، فعند ذلك قال الله تعالى : {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} الآية [البقرة : 97].
ورواه أحمد أيضًا ، عن حسين بن محمد ، عن عبد الحميد ، به. {المسند (1/278)}.(15/125)
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عبد الله بن الوليد العِجْليّ ، عن بُكَير بن شهاب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : أقبلت يهودُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، نسألك عن خمسة أشياء ، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال : {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف : 66]. قال : "هاتوا". قالوا : أخبرنا عن علامة النبي ؟ قال : "تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُه". قالوا : أخبرنا كيف تُؤنِّثُ المرأةُ وكيف تُذْكرُ ؟ قال : "يَلْتَقِي الماءَان ، فإذا علا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أذْكَرَتْ ، وإذَا عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ آنثَتْ. قالوا : أخبرنا ما حَرَّم إسرائيل على نفسه ، قال : "كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلائِمُهُ إلا ألْبَانَ كَذَا وكَذَا -قال أحمد : قال بعضهم : يعني الإبل -فَحَرَّم لُحُومَهَا". قالوا : صدقت. قالوا : أخبرنا ما هذا الرَّعد ؟ قال : "مَلَكٌ مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ مُوَكلٌ بِالسَّحَابِ بِيدِهِ -أو فِي يَدِه - مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُر بِهِ السّحابَ ، يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ". قالوا : فما هذا الصوت الذي يُسمع ؟ قال : "صَوْتُه". قالوا : صدقت ، إنما بقيت واحدة ، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبُك ؟ قال : "جبْرِيلُ عَلَيْه السَّلامُ". قالوا : جبريل ذاك يَنزل بالحَرْب والقتال والعذاب عَدُوُّنا. لو قلتَ : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقَطْر لَكَانَ ، فأنزل الله عز وجل : {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ(15/126)
وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة : 97]. {المسند (1/274) وسنن الترمذي برقم (3117) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9072)}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 74 ـ 75}
من فوائد العلامة ابن عطية فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : {كل الطعام} الآية ، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب ، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية : الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء : إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة ، فأكذبهم الله بهذه الآية ، وأخبر أن جميع الطعام كان حلاً لهم ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة ، ولم يرد به ولده ، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم ، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها ، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي ، وقال : إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه ، قال : فذلك قوله تعالى : {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [ النساء : 160 ].(15/127)
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه ، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع ، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية : الرد على قوم من اليهود قالوا : إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراماً في ملة أبينا إبراهيم ، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالاً لهم قبل التوراة {إلا ما حرم إسرائيل} في خاصته ، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه ، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم ، وإلى هذا تنحو ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم ، وأدخل تحتها أقوالاً توافق تراجمه ، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى : كل الطعام كان حلاً لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها.
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه ، وحمل الطبري قول الضحاك إن معناه : لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها.(15/128)
قال الفقيه الإمام : وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى : {حرمنا عليهم} [ الأنعام : 146 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليهم الشحوم إلى غير ذلك من الشواهد ، وقوله تعالى : {حِلاًّ} معناه : حلالاً ، و{إسرائيل} هو يعقوب ، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد ، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته ، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب ، فقيل : إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : إن هذه تحريم تقرب وزهد ، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس ، واخلتف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له : إنه جعل امرأته عليه حراماً ، فقاله ابن عباس : إنها ليس عليك بحرام ، فقال الأعرابي : ولم ؟ والله تعالى يقول في كتابه {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما حرم إسرائيل ؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم ، فقال : إن إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته فجعل لله إن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقاً ، قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم ، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضاً : إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكراً لله تعالى إن شفي ، وقيل : هو وجع عرق النسا ، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له : يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه ؟ فقال لهم : أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً إن(15/129)
عاقاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها ؟ قالوا : اللهم نعم ، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذه الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم الإبل وألبانها ، وهو يحبها ، تقرباً إلى الله بذلك ، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب ، وهذا هو الزهد في الدنيا ، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله : إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد ، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال : موعدك الجنة إن شاء الله ، وحرم يعقوب عليه السلام أيضاً العروق ، لكن بغضه لها لما كان امتحن بها ، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر ، والله أعلم ، وقد روي عن ابن عباس : أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل ، وأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة ، حتى يبين منها كيف الأمر ، المعنى : فإنه أيها اليهود ، كما أنزل الله عليَّ لا كما تدعون أنتم ، قال الزجّاج : وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم ، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 472 ـ 473}(15/130)
ومن فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيل} روى الواحدي عن الكلبي أنه حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا على ملة إبراهيم قالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كان ذلك حلالاً لإبراهيم عليه السلام فنحن نحله فقالت اليهود : كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيباً لهم " والطعام بمعنى المطعوم ، ويراد به هنا المطعومات مطلقاً أو المأكولات وهو لكونه مصدراً منعوتاً به معنى يستوي فيه الواحد المذكور وغيره وهو الأصل المطرد فلا ينافيه قول الرضيّ : إنه يقال : رجل عدل ورجلان عدلان لأنه رعاية لجانب المعنى ، وذكر بعضهم أن هذا التأويل يجعل كلا للتأكيد لأن الاستغراق شأن الجمع المعرف باللام ، والحل مصدر أيضاً أريد منه حلالاً ، والمراد الإخبار عن أكل الطعام بكونه حلالاً لا نفس الطعام لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات ولا يقدر نحو الانفاق وإن صح أن يكون متعلق الحل وربما توهم بقرينة ما قبله لأنه خلاف الغرض المسوق له الكلام. و{إسرائيل} هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام ، وعن أبي مجلز أن ملكاً سماه بذلك بعد أن صرعه وضرب على فخذه.(15/131)
{إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل على نَفْسِهِ} قال مجاهد : حرم لحوم الأنعام ، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه حرم زائدتي الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر ، وعن عطاء أنه حرم لحوم الإبل وألبانها. وسبب تحريم ذلك كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إليه ، وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه كان به ذلك الداء فأكل من لحوم الإبل فبات بليلة يزقو فحلف أن لا يأكله أبداً ، وقيل : حرمه على نفسه تعبداً وسأل الله تعالى أن يجيز له فحرم سبحانه على ولده ذلك ، ونسب هذا إلى الحسن ، وقيل : إنه حرمه وكف نفسه عنه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهاد اللذائذ على نفسه. وذهب كثير إلى أن التحريم كان بنص ورد عليه ، وقال بعض : كان ذلك عن اجتهاد ويؤيده ظاهر النظم ، وبه استدل على جوازه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والاستثناء متصل لأن المراد على كل تقدير أنه حرمه على نفسه وعلى أولاده ، وقيل : منقطع ، والتقدير ولكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم وصحح الأول.(15/132)
{مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ} الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى : {الطعام كَانَ حِلاًّ} ولا يضر الفصل بالاستثناء إذ هو فصل جائز ، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن في جواز أن يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً أو حالاً ، وقيل : متعلق بحرم ، وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ هو من الإخبار بالواضح المعلوم ضرورة ولا فائدة فيه ، واعتذر عنه بأن فائدة ذلك بيان أن التحريم مقدم عليها وأن التوراة مشتملة على محرمات أخر حدثت عليهم حرجاً وتضييقاً ، واختار بعضهم أنه متعلق بمحذوف ، والتقدير : كان حلا من قبل أن تنزل التوراة في جواب سؤال نشأ من سابق المستثنى كأنه قيل : متى كان حلاً ؟ فأجيب به والذي دعاه إلى ذلك عدم ظهور فائدة تقييد التحريم ولزوم قصر الصفة قبل تمامها على تقدير جعله قيداً للحل.(15/133)
ولا يخفى ما فيه ، والمعنى على الظاهر أن كل الطعام ما عدا المستثنى كان حلالاً لبني إسرائيل قبل نزول التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم ، وفي ذلك رد لليهود في دعواهم البراءة فيما نعى عليهم قوله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [ النساء : 160 ] وقوله سبحانه : {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا} [ الأنعام : 146 ] الآيتين ، وتبكيت لهم في منع النسخ ضرورة أن تحريم ما كان حلالاً لا يكون إلا به ودفع الطعن في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقته لأبيه إبراهيم عليه السلام على ما دل عليه سبب النزول. وذهب السدي إلى أنه لم يحرم عليهم عند نزول التوراة إلا ما كان يحرمونه قبل نزولها اقتداءاً بأبيهم يعقوب عليه السلام ، وقال الكلبي : لم يحرم سبحانه عليهم ما حرم في التوراة ، وإنما حرمه بعدها بظلمهم وكفرهم ، فقد كانت بنو إسرائيل إذا أصابت ذنباً عظيماً حرم الله تعالى عليهم طعاماً طيباً وصب عليهم رجزاً ، وعن الضحاك أنه لم يحرم الله تعالى عليهم شيئاً من ذلك في التوراة ولا بعدها ، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعاً لأبيهم وإضافة تحريمه إلى الله تعالى مجاز وهذا في غاية البعد.(15/134)
{قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها} أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بصحة ما يقول في أمر التحليل والتحريم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلاماً مع اليهود منقطعاً عما قبله ، وقوله تعالى : {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في دعواكم شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها ، روي أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجراً. وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم إذ علم بأن ما في التوراة يدل على كذبهم وهو لم يقرأها ولا غيرها من زبر الأولين ومثله لا يكون إلا عن وحي. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 2 ـ 3}
وقال ابن عاشور :
{كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيل}
هذا يرتبط بالآي السَّابقة في قوله تعالى : {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً} [ آل عمران : 67 ] وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب.
وهذه حجّة جزئية بعد الحجج الأصليّة على أنّ دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء ، فإنّ الحنيفية لم يكن ما حرّم من الطّعام بنصّ التَّوراة محرّماً فيها ، ولذلك كان بنو إسرائيل قبل التَّوراة على شريعة إبراهيم ، فلم يكن محرّماً عليهم ما حُرّم من الطعام إلاّ طعاماً حرّمه يعقوب على نفسه.
والحجَّة ظاهرة ويدلّ لهذا الارتباط قوله في آخرها : {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً} [ آل عمران : 95 ].(15/135)
ويحتمل أنّ اليهود مع ذلك طعنوا في الإسلام ، وأنَّه لم يكن على شريعة إبراهيم ، إذْ أباح للمسلمين أكل المحرّمات على اليهود ، جهلاً منهم بتاريخ تشريعهم ، أو تضليلاً من أحبارهم لعامّتهم ، تنفيراً عن الإسلام ، لأن الأمم في سذاجتهم إنَّما يتعلّقون بالمألوفات ، فيعدّونها كالحقائق ، ويقيمونها ميزاناً للقبول والنّقد ، فبيّن لهم أنّ هذا ممّا لا يُلتفت إليه عند النّظر في بقيّة الأديان ، وحسبكم أنّ ديناً عظيماً وهو دين إبراهيم ، وزُمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته ، لم يكونوا يحرّمون ذلك.
وتعريف ( الطّعام ) تعريف الجنس ، و( كُلّ ) للتنصيص على العموم.
وقد استدلّ القرآن عليهم بهذا الحكم لأنَّه أصرح ما في التَّوراة دلالة على وقوع النسخ فإنّ التوراة ذكرت في سفر التكوين ما يدلّ على أنّ يعقوب حرّم على نفسه أكل عِرق النَّسَا الَّذِي على الفخذ ، وقد قيل : إنَّه حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ، فقيل : إنّ ذلك على وجه النذر ، وقيل : إنّ الأطبَّاء نهوه عن أكل ما فيه عرق النّسا لأنَّه كان مبتلى بوجع نَساه ، وفي الحديث أنّ يعقوب كان في البدو فلم تستقم عافيته بأكل اللّحم الّذي فيه النّسا.
وما حرّمه يعقوب على نفسه من الطعام : ظاهر الآية أنَّه لم يكن ذلك بوحي من الله إليه ، بل من تلقاء نفسه ، فبعضه أراد به تقرّباً إلى الله بحرمان نفسه من بعض الطيِّبات المشتهاة ، وهذا من جهاد النَّفس ، وهو من مقامات الزّاهدين ، وكان تحريم ذلك على نفسه بالنذر أو بالعزم.
وليس في ذلك دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء في التشّريع لأنّ هذا من تصرّفه في نفسه فيما أبيح له ، ولم يدع إليه غيرَه ، ولعلّ أبناء يعقوب تأسَّوا بأبيهم فيما حرَّمه على نفسه فاستمرّ ذلك فيهم.(15/136)
وقوله : {من قبل أن تنزل التوراة} تصريح بمحلّ الحجَّة من الردّ إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنُزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى ، وقال العصام : يتعلّق قوله : {من قبل أن تنزل التوراة} بقوله : {حِلاًّ} لئلاّ يلزم خلوّه عن الفائدة ، وهو غير مُجد لأنّه لمّا تأخّر عن الاستثناء من قوله {حلاّ} وتبيّن من الاستثناء أنّ الكلام على زمن يعقوب ، صار ذكر القيد لغواً لولا تنزيلهم منزلة الجاهل ، وقصد إعلان التّسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم.
وقوله : {قل فأتوا بالتوراة فأتلوها إن كنتم صادقين} أي في زعمكم أنّ الأمر ليس كما قلناه أو إن كنتم صادقين في جميع ما تقدّم : من قولكم إنّ إبراهيم كان على دين اليهودية ، وهو أمر للتعجيز ، إذ قد علم أنَّهم لا يأتون بها إذا استدلّوا على الصّدق.
والفاء في قوله : {فأتوا} فاء التفريع.
وقوله : {إن كنتم صادقين} شرط حذف جوابه لدلالة التفريع الَّذي قبله عليه.
والتَّقدير : إن كنتم صادقين فأتوا بالتَّوراة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 155 ـ 156}(15/137)
فائدة
قال الجصاص :
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْقِعَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ؛ إذْ كَانَ عِلْمُ الْمَصَالِحِ فِي الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ ؟ قِيلَ : هَذَا جَائِزٌ بِأَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ ، كَمَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَأَيْضًا فَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ وَيُحَرِّمَ جَارِيَتَهُ بِالْعِتْقِ ، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي تَحْرِيمِ الطَّعَامِ ، إمَّا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الِاجْتِهَادِ.
وَمَا حَرَّمَهُ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ أَوْ تَوْقِيفًا مِنْ اللَّهِ لَهُ فِي إبَاحَةِ التَّحْرِيمِ لَهُ إنْ شَاءَ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ لِإِضَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى التَّحْرِيمَ إلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ تَوْقِيفٍ لَقَالَ : " إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ " فَلَمَّا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَعَلَ إلَيْهِ إيجَابَ التَّحْرِيمِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ.(15/138)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَجْعَلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ كَمَا جَازَ لِغَيْرِهِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِذَلِكَ لِفَضْلِ رَأْيِهِ وَعِلْمِهِ بِوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 302}(15/139)
قوله تعالى {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}
فصل
قال الفخر :
الافتراء اختلاق الكذب ، والفرية الكذب والقذف ، وأصله من فرى الأديم ، وهو قطعه ، فقيل للكذب افتراء ، لأن الكاذب يقطع به في القول من غير تحقيق في الوجود.
ثم قال : {مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ، ولم يكن محرماً قبله {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} المستحقون لعذاب الله لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 123}
وقال البقاعى :
{فمن} أي فتسبب عن ذلك أنه من {افترى} أي تعمد {على الله} أي الملك الأعظم {الكذب} أي في أمر المطاعم أو غيرها.
ولما كان المراد النهي عن إيقاع الكذب في أي زمن كان ، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال : {من بعد ذلك} أي البيان العظيم الظاهر جداً {فأولئك} أي الأباعد الأباغض {هم} خاصة لتعمدهم الكذب على من هو محيط بهم ولا تخفى عليه خافية {الظالمون} أي المتناهو الظلم بالمشي على خلاف الدليل فعل من يمشي في الظلام ، فهو لا يضع شيئاً في موضعه ، وذلك بتعرضهم إلى أن يهتكهم التام العلم ويعذبهم الشامل القدرة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 126}(15/140)
وقال الآلوسى
{فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} أي اخترع ذلك بزعمه أن التحريم كان على الأنبياء وأممهم قبل نزول التوراة فمن عبارة عن أولئك اليهود ، ويحتمل أن تكون عامة ويدخلون حينئذٍ دخولاً أولياً ، وأصل الافتراء قطع الأديم يقال : فرى الأديم يفريه فرياً إذا قطعه ، واستعمل في الابتداع والاختلاق ، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة وأن تكون منصوبة المحل معطوفة على جملة {فَاتُواْ} [ آل عمران : 93 ] فتدخل تحت القول ، ومن يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة وقد روعي لفظها ومعناها.
{مِن بَعْدِ ذلك} أي أمرهم بما ذكر وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة. {فَأُوْلَئِكَ} أي المفترون المبعدون عن عز القرب {هُمُ الظالمون} لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم ، وقيل : هم الظالمون لأنفسهم بذلك ولأشياعهم بإضلالهم لهم بسبب إصرارهم على الباطل وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قيد بالبعدية مع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله تعالى في كل وقت وفي كل حال للدلالة على كمال القبح ، وقيل : لبيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه ومن كذب فيما ليس بمحجوج فيه فهو بمنزلة الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه وفيه تأمل ، ثم مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الأكل إنفاق مما يحب لكن على نفسه وإلى ذلك أشار علي بن عيسى ، وقيل : إنه لما تقدم محاجتهم في ملة إبراهيم عليه السلام وكان مما أنكروا على نبينا صلى الله عليه وسلم أكل لحوم الإبل وادعوا أنه خلاف ملة إبراهيم ناسب أن يذكر رد دعواهم ذلك عقيب تلك المحاجة. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 3}(15/141)
وقال ابن عاشور :
وقوله : {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون} نهاية لتسجيل كذبهم أي من استمرّ على الكذب على الله ، أي فمن افترى منكم بعد أن جعلنا التَّوراة فيصلاً بيننا ، إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدّعُوه شُبهة لهم في الاختلاق ، وجُعل الافتراء على الله لتعلّقه بدين الله.
والفاء للتفريع على الأمْر.
والافتراء : الكذب ، وهو مرادف الاختلاق.
والافتراء مأخوذ من الفَرْي ، وهو قطع الجلد قِطعاً ليُصلح به مثل أن يحْذى النعل ويصنع النطع أو القِربة.
وافترى افتعال من فرى لعلّهُ لإفادة المبالغة في الفَرْي ، يقال : افترى الجلد كأنَّه اشتدّ في تقطيعه أو قطعَه تقطيع إفساد ، وهو أكثر إطلاق افترى.
فأطلقوا على الإخبار عن شيء بأنّه وقَعَ ولَم يقع اسم الافتراء بمعنى الكذب ، كأنّ أصله كناية عن الكذب وتلميح ، وشاع ذلك حتَّى صار مرادفاً للكذب ، ونظيره إطلاق اسم الاختلاق على الكذب ، فالافتراء مرادف للكذب ، وإردَافه بقوله هنا : "الكذب" تأكيد للافتراء ، وتكرّرت نظائر هذا الإرداف في آيات كثيرة.
فانتصب "الكذب" على المفعول المطلق الموكِّد لفعله.
واللام في الكذب لتعريف الجنس فهو كقوله : {أفْتَرَى على اللَّه كَذِباً أمْ به جِنّة} [ سبأ : 8 ]
والكذب : الخبر المخالف لما هو حاصل في نفس الأمر من غير نظر إلى كون الخَبر موافقاً لاعتقاد المُخبر أو هو على خلاف ما يعتقده ، ولكنّه إذا اجتمع في الخبر المخالفة للواقع والمخالفة لاعتقاد المخبِر كان ذلك مذموماً ومسبَّة ؛ وإن كان معتقداً وقوعه لشبهة أو سوء تأمّل فهو مذموم ولكنّه لا يُحقَّر المخبر به ، والأكثر في كلام العرب أن يعنى بالكذب ما هو مذموم.(15/142)
ثُمّ أعلنَ أن المتعيّن في جانبه الصّدق هو خبَر الله تعالى للجزم بأنهم لا يأتون بالتوراة ، وهذا كقوله : {ولن يتمنّوه أبداً} [ البقرة : 95 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 156 ـ 157}
فائدة
قال ابن عطية :
قوله : {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك} تحتمل الإشارة -بذلك- أن تكون إلى ثلاثة أشياء : أحدها : أن تكون إلى التلاوة إذ مضمنها بيان المذهب وقيام الحجة ، أي فمن كذب منا على الله تعالى أو نسب إلى كتب الله ما ليس فيها فهو ظالم واضع الشيء غير موضعه ، والآخر : أن تكون الإشارة إلىستقرار التحريم في التوراة ، لأن معنى الآية : {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} [ آل عمران : 93 ] ، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم ، {فمن افترى على الله الكذب} ، وزاد في المحرمات فهو الظالم ، والثالث : أن تكون الإشارة إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه ، وقبل نزول التوراة ، أي من تسنن بيعقوب وشرع ذلك دون إذن من الله ، ومن حرم شيئاً ونسبه إلى ملة إبراهيم فهو الظالم ، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير ، قوله تعالى {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [ النساء : 160 ] فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم ، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم ، كما فعلوا في أمر البقرة ، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم : يسروا ولا تعسروا ، وقوله : دين الله يسر وقوله : بعثت بالحنيفية. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 473}(15/143)
فصل
قال ابن عادل :
" مَنْ " يجوز أن تكون شرطيَّةً ، أو موصولة ، وحمل على لفظها في قوله : " افْتَرَى " فوحَّد الضمير ، وعلى معناها فجمع في قوله : {فأولئك هُمُ الظالمون} ، والافتراء مأخوذ من الفَرْي ، وهو القطع ، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير مَوْضِعِه.
وقوله : {مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي : من بعد ظهور الحجة ، {فأولئك هُمُ الظالمون} المستحقون لعذاب الله.
قوله : {مِنْ بَعْدِ} فيه وجهان :
أحدهما : - وهو الظاهر- : أن يتعلق بـ " افْتَرَى ".
الثاني : قال أبو البقاء : يجوز أن يتعلق بالكذب ، يعني : الكذب الواقع من بعد ذلك.
وفي المشار إليه ثلاثة أوجه :
أحدها : استقرار التحريم المذكور في التوراةِ عليهم ؛ إذ المعنى : إلا ما حرم إسرائيلُ على نفسه ، ثم حرم في التوراة ؛ عقوبةً لهم.
الثاني : التلاوة ، وجاز تذكير اسم الإشارة ؛ لأن المراد بها بيان مذهبهم.
الثالث : الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه ، وهذه الجملة - أعني : قوله : {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} - يجوز أن تكون استئنافيةً ، فلا محل لها من الإعراب ، ويجوز أن تكون منصوبة المحل ؛ نسقاً على قوله : {فَأْتُواْ بالتوراة} ، فتندرج في المقول. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 394}(15/144)
قوله تعالى {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما اتضح كذبهم وافتضح تدليسهم - لأنه لما استدل عليهم بكتابهم فلم يأتوا به صار ظاهراً كالشمس ، لا شك فيه ولا لبس ، ولم يزدهم ذلك إلا تمادياً في الكذب - أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : {قل} أي لأهل الكتاب الذي أنكروا النسخ فأقمت عليهم الحجة من كتابهم {صدق الله} أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله في جميع ما أخبر ، وتخبر به عن ملة إبراهيم وغيره من بنيه أسلافكم ، وتبين أنه ليس على دينكم هو ولا أحد ممن قبل موسى عليه الصلاة والسلام ، لأنكم لو كنتم صادقين لأتيتم بالتوراة ، نافياً بذلك أن يكون تأخرهم عن الإتيان بها لعلة يعتلون بها غير ذلك ، وإذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به ، وأعظمه ملة إبراهيم فإنها الجامعة للمحاسن.
ولما ثبت ذلك بهذا الدليل المحكم لزم قطعاً أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً ، وقد أقروا بأن ملته هي الحق وأنهم أتباعه ، فتسبب عن ذلك وجوب اتباعه فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به فبان كالشمس صدقه ، لا فيما افتروه هم من الكذب ، فقال سبحانه وتعالى : {فاتبعوا ملة إبراهيم} وهي الإسلام أي الانقياد للدليل ، وهو معنى قوله : {حنيفاً} أي تابعاً للحجة إذا تحررت ، غير متقيد بمألوف.
ولما كان صلى الله عليه وسلم مفطوراً.
على الإسلام فلم يكن في جبلته شيء من العوج فلم يكن له دين غير الإسلام نفى الكون فقال : {وما كان من المشركين} أي بعزير ولا غيره من الأكابر كالأحبار الذين تقلدونهم مع علمكم بأنهم يدعون إلى ضد ما دعا إليه سبحانه وتعالى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 126 ـ 127}
فصل
قال الفخر :
{قُلْ صَدَقَ الله} يحتمل وجوهاً(15/145)
أحدها : {قُلْ صَدَقَ} في أن ذلك النوع من الطعام صار حراماً على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالاً لهم ، فصح القول بالنسخ ، وبطلت شبهة اليهود
وثانيها : {صَدَقَ الله} في قوله إن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه ، فثبت أن محمداً صلى الله عليه وسلم لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبانها ، فقد أفتى بملة إبراهيم
وثالثها : {صَدَقَ الله} في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاءً على قبائح أفعالهم.
ثم قال تعالى : {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلوات الله عليه من ملة إبراهيم ، وسواء قال : ملة إبراهيم حنيفاً ، أو قال : ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى.
ثم قال : {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي لم يدع مع الله إلها آخر ، ولا عبد سواه ، كما فعله بعضهم من عبادة الشمس والقمر ، أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان ، أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزير ابن الله ، وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن الله ، والغرض منه بيان أن محمداً صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام ، في الفروع والأصول.
أما في الفروع ، فلما ثبت أن الحكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضاً ، وأما في الأصول فلأن محمداً صلوات الله وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد ، والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 123 ـ 124}(15/146)
وقال الآلوسى
{قُلْ صَدَقَ الله} أي ظهر وثبت صدقه في أن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وقيل : في أن محمداً صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام ، وقيل : في كل ما أخبر به ويدخل ما ذكر دخولاً أولياً وفيه كما قيل : تعريض بكذبهم الصريح {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم} وهي دين الإسلام فإنكم غير متبعين ملته كما تزعمون ، وقيل : اتبعوا مثل ملته حتى تخلصوا عن اليهودية التي اضطرتكم إلى الكذب على الله والتشديد على أنفسكم ، وقيل : اتبعوا ملته في استباحة أكل لحوم الإبل وشرب ألبانها مما كان حلاً له {حَنِيفاً} أي مائلاً عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحق ، أو مستقيماً على ما شرعه الله تعالى من الدين الحق في حجه ونسكه ومأكله وغير ذلك {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي في أمر من أمور دينهم أصلاً ( وفرعاً ) وفيه تعريض بشرك أولئك المخاطبين ، والجملة تذييل لما قبلها. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 3 ـ 4}
وقال ابن عاشور :
{قل صدق الله} وهو تعريض بكذبهم لأنّ صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر ، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي.
والتَّفريع في قوله : {فاتبعوا ملة إبراهيم جنيفاً} تفريع على {صدق الله} لأنّ اتّباع الصادق فيما أمر به مَنجاة من الخطر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 157}(15/147)
لطيفة
قال الطبرى :
وإنما قال جل ثناؤه : "وما كان من المشركين" ، يعني به : وما كان من عَدَدهم وأوليائهم. وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم. ونصرةِ بعضهم بعضًا. فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو [من] نصرائهم وأهل ولايتهم. وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين ، اليهودَ والنصارَى وسائر الأديان ، غير الحنيفية. قال : لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة ، ولكنه كان حنيفًا مسلمًا. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 18}
فصل
قال ابن عادل :
العامة على إظهار لام " قُلْ " مع الصاد.
وقرأ ابنُ بن تغلب بإدغامها فيها ، وكذلك أدغم اللام في السين في قوله : {قُلْ سِيرُواْ} [ الأنعام : 11 ] وسيأتي أن حمزةَ والكسائيِّ وهشاماً أدْغموا اللام في السين في قوله : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} [ يوسف : 18 ].
قال أبو الفتح : " عِلَّةُ ذلك فُشُوُّ هذين الحرفَيْن في الضم ، وانتشار الصوت المُنْبَثّ عنهما ، فقاربتا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامها فيهما " ، وهو مأخوذ من كلام سيبويه ، فإن سيبويه قال : " والإدغام ، يعني : إدغام اللام مع الصاد والطاء وأخواتهما ، جائز ، وليس ككثرته مع الراء ؛ لأن هذه الحروفَ تراخين عنها ، وهن من الثنايا ؛ قال : وجواز الإدغام أنّ آخر مخرج اللام قريب من مخرجها ". انتهى.
قال أبو البقاء عبارة تُوَضِّحُ ما تقدم ، وهي : " لأن الصاد فيها انبساط ، وفي اللام انبساط ، بحيث يتلاقى طرفاهما ، فصارا متقاربين ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 395}(15/148)
قوله تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ألزمهم سبحانه وتعالى بالدليل الذي دل على النسخ أنهم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأوجب عليهم اتباعها بعد بيان أنها هي ما عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، أخبر عن البيت الذي يخول إليه التوجه في الصلاة ، فعابوه على أهل الإسلام أنه أعظم شعائر إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كفروا بتركها ، ولذلك أبلغ في تأكيده فقال سبحانه وتعالى : {إن أول بيت} أي من البيوت الجامعة للعبادة {وضع للناس} أي على العموم متعبداً واجباً عليهم قصده وحجه بما أمرهم به على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ، واستقباله في الصلاة بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولعل بناء وضع ، للمفعول إشارة إلى أن وضعه كان قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام {للذي ببكة} أي البلدة التي تدق أعناق الجبابرة ، ويزدحم الناس فيها إزدحاماً لا يكون في غيرها مثله ولا قريب منه ، فلا بد أن يدق هذا النبي الذي أظهرته منها الأعناق من كل من ناواه ويزدحم الناس على الدخول في دينه ازدحاماً لم يعهد مثله فإن فاتكم ذلك ختم في الدارين غاية الخيبة ودام ذلكم وصغاركم ؛ حال كونه {مباركاً} أي عظيم الثبات كثير الخيرات في الدين والدنيا {وهدى للعالمين} أي من بني إسرائيل ومن قبلهم ومن بعدهم ، فعاب عليهم سبحانه وتعالى في هذه الآية فعلهم من النسخ ما أنكروه على مولاهم.(15/149)
وذلك نسخهم لما شرعه من حجة من عند أنفسهم تحريفاً منهم مثالاً لما قدم من الإخبار به عن كذبهم ، وهذا أمر شهير يسجل عليهم بالمخالفة ويثبت للمؤمنين المؤالفة ، فإن حج البيت الحرام وتعظيمه من أعظم ما شرعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام - كما هو مبين في السير وغيرها وهم عالمون بذلك ، وقد حجه أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام وأسلافهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم - كما روي من غير طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أن في بعض الطرق أنه كان مع موسى عليه الصلاة في حجة إليه سبعون ألفاً من بني إسرائيل ، ومن المحال عادة أن يخفى ذلك عليهم ، ومن الأمر الواضح أنهم قد تركوا هذه الشريعة العظيمة أصلاً ورأساً ، فكيف يصح لهم دعوى أنهم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع انسلاخهم من معظم شرائعه! ثم فسر الهدى بقوله : {فيه آيات بينات} وقوله : {مقام إبراهيم} أي أثر قدمه عليه الصلاة والسلام في الحجر حيث قام لتغسل كنته رأسه الشريف - أعربه أبو حيان بدلاً أو عطف بيان من الموصول الذي هو خبر {إن} في قوله : {للذي ببكة} فكأنه قيل : إن أول بيت وضع للناس لمقام إبراهيم ، وأعربه غيره بدل بعض من قوله {آيات} وهو وحده آيات لعظمه ولتعدد ما فيه من تأثير القدم ، وحفظه إلى هذا الزمان مع كونه منقولاً ، وتذكيره بجميع قضايا إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان أمن أهله في بلاد النهب والغارات التي ليس بها حاكم يفزع إليه ولا رئيس يعول في ذلك عليه من أدل الآيات قال سبحانه وتعالى : {ومن دخله} أي فضلاً عن أهله {كان آمناً} أي عريقاً في الأمن ، أو فأمنوه بأمان الله ، وتحويل العبارة عن " وأمن داخله " لأن هذا أدل على المراد من تمكن الأمن ، وفيه بشارة بدخول الجنة.
(15/150)
ولما أوضح سبحانه وتعالى براءتهم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمخالفتهم إياه بعد دعواهم بهتاناً أنه على دينهم ، وكانت المخالفة في الواجب أدل قال سبحانه وتعالى : {ولله} أي الملك الذي له الأمر كله {على الناس} أي عامة ، فأظهر في موضع الإضمار دلالة على الإحاطة والشمول - كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي في {استطعما أهلها} [ الكهف : 77 ] في الكهف ، وذلك لئلا يدعي خصوصة بالعرب أو غيرهم {حج البيت} أي زيارته زيارة عظيمة ، وأظهر أيضاً تنصيصاً عليه وتنويهاً بذكره تفخيماً لقدره ، وعبر هنا بالبيت لأنه في الزيارة ، وعادة العرب زيارة معاهد الأحباب وأطلالهم وأماكنهم وحلالهم ، وأعظم ما يعبر به عن الزيارة عندهم الحج ، ثم مَن بالتخفيف بقوله مبدلاً من الناس ، تأكيداً بالإيضاح بعد الإبهام وحملاً على الشكر بالتخفيف بعد التشديد وغير ذلك من البلاغة : {من استطاع} أي منهم {إليه سبيلاً} فمن حجه كان مؤمناً.
ولما كان من الواضح أن التقدير : ومن لم يحجه مع الاستطاعة كفر بالنعمة إن كان معترفاً بالوجوب ، وبالمروق من الدين إن جحد ، عطف عليه قوله : {ومن كفر} أي بالنعمة أو بالدين {فإن الله} اي الملك الأعلى {غني} ولما كان غناه مطلقاً دل عليه بقوله موضع عنه : {عن العالمين} أي طائعهم وعاصيهم ، صامتهم وناطقهم ، رطبهم ويابسهم ، فوضح بهذه الآية وما شاكلها أنهم ليسوا على دينه كما وضح بما تقدم أنه ليس على دينهم ، فثبتت بذلك براءته منهم ، والآية من الاحتباك لأن إثبات فرضه أولاً يدل على كفر من أباه ، وإثبات {ومن كفر} ثانياً يدل على إيمان من حجه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 127 ـ 129}
فصل
قال الفخر :
في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه(15/151)
الأول : أن المراد منه الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود في إنكار نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، وذلك لأنه عليه السلام لما حول القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته ، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة ، وهو أرض المحشر ، وقبلة جملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة منه إلى الكعبة باطلاً ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} فبيّن تعالى أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف ، فكان جعلها قبلة أولى
والثاني : أن المقصود من الآية المتقدمة بيان أن النسخ هل يجوز أم لا ؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استدل على جوازه بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل ، ثم إن الله تعالى حرم بعضها ، والقوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله نسخها هو القبلة ، لا جرم ذكر تعالى في هذه الآية بيان ما لأجله حولت الكعبة ، وهو كون الكعبة أفضل من غيرها
الثالث : أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [ آل عمران : 95 ] وكان من أعظم شعار ملة إبراهيم الحج ، ذكر في هذه الآية فضيلة البيت ، ليفرع عليه إيجاب الحج
الرابع : أن اليهود والنصارى زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم ، وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة ، فإن الله تعالى بيّن كذبهم ، من حيث أن حج الكعبة كان ملة إبراهيم واليهود والنصارى لا يحجون ، فيدل هذا على كذبهم في ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 124}(15/152)
وقال الآلوسى :
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}. أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جريج قال : بلغنا أن اليهود قالت : بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ولأنه في الأرض المقدسة ، فقال المسلمون : بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت إلى {مَّقَامِ إبراهيم} [ آل عمران : 97 ] وروي مثل ذلك عن مجاهد ووجه ربطها بما قبلها أن الله تعالى أمر الكفرة باتباع ملة إبراهيم ومن ملته تعظيم بيت الله تعالى الحرام فناسب ذكر البيت وفضله وحرمته لذلك ، وقيل : وجه المناسبة أن هذه شبهة ثانية ادعوها فأكذبهم الله تعالى فيها كما أكذبهم في سابقتها ، والمعنى : إن أول بيت وضع لعبادة الناس ربهم أي هيىء وجعل متعبداً ؛ والواضع هو الله تعالى كما يدل عليه قراءة من قرأ {وُضِعَ} بالبناء للفاعل لأن الظاهر حينئذٍ أن يكون الضمير راجعاً إلى الله تعالى وإن لم يتقدم ذكره سبحانه صريحاً في الآية بناءاً على أنها مستأنفة واحتمال عوده إلى إبراهيم عليه السلام لاشتهاره ببناء البيت خلاف الظاهر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 4}
فصل
قال القرطبى :
ثبت في صحيح مسلم " عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أوّل مسجد وضع في الأرض قال : "المسجد الحرام".
قلت : ثم أي ؟ قال : "المسجد الأقصى".
قلت : كم بينهما ؟ قال : "أربعون عاماً ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل" " قال مجاهد وقتادة : لم يوضع قبله بيت.
قال عليّ رضي الله عنه : كان قبل البيت بيوت كثيرة ، والمعنى أنه أوّل بيت وضع للعبادة.
وعن مجاهد قال : تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود : بيت المقدِس أفضل وأعظم من الكعبة ؛ لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة.
وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ؛ فأنزل الله هذه الآية.(15/153)
وقد مضى في البقرة بنيان البيت وأوّل من بناه.
قال مجاهد : خلق الله موضع هذا البيتِ قبل أن يخلق شيئاً من الأرض بألفي سنة ، وأن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى.
وأما المسجد الأقصى فبناه سليمان عليه السلام ؛ كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خِلالاً ثلاثة ( سأل الله عز وجل ) حُكْماً يصادف حكمه فأُوتِيَهُ ، وسأل الله عز وجل مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه ، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألاّ يأتيه أحد لا يَنْهزه إلا الصلاةُ فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمّه فأوتيه " فجاء إشكالٌ بين الحديثين ؛ لأن بين إبراهيم وسليمان آماداً طويلة.
قال أهل التواريخ : أكثر من ألف سنة.
فقيل : إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جدّدا ما كان أسَّسَه غيرهما.
وقد روي أن أوّل من بني البيت آدم عليه السلام كما تقدّم.
فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً ، ويجوز أن تكون الملائكة أيضاً بنته بعد بنائها البيت بإذن الله ؛ وكل محتمل.
والله أعلم.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به ؛ وكان هذا قبل خلق آدم ، ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به ، ثم الأنبياء بعده ، ثم استتم بناءه إبراهيم عليه السلام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 137 ـ 138}
فصل
قال الفخر :
قال المحققون : {الأول} هو الفرد السابق ، فإذا قال : أول عبد اشتريه فهو حر فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق أحد منها لأن الأول هو الفرد ، ثم لو اشترى في المرة الثانية عبداً واحداً لم يعتق ، لأن شرط الأول كونه سابقاً فثبت أن الأول هو الفرد السابق.(15/154)
إذا عرفت هذا فنقول : إن قوله تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} لا يدل على أنه أول بيت خلقه الله تعالى ، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض ، بل ظاهر الآية يدل على أنه أول بيت وضع للناس ، وكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس ، فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصاً بواحد من الناس فلا يكون شيء من البيوت موضوعاً للناس ، وكون البيت مشتركاً فيه بين كل الناس ، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضوعاً للطاعات والعبادات وقبلة للخلق ، فدل قوله تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} على أن هذا البيت وضعه الله موضعاً للطاعات والخيرات والعبادات فيدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلوات ، وموضعاً للحج ، ومكانا يزداد ثواب العبادات والطاعات فيه.
فإن قيل : كونه أولاً في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان ، وهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذه الصفات التي منها وجوب حجه ، ومعلوم أنه ليس كذلك.
والجواب : من وجهين
الأول : أن لفظ الأول : في اللغة اسم للشيء الذي يوجد ابتداء ، سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل ، يقال : هذا أول قدومي مكة ، وهذا أول مال أصبته ولو قال : أول عبد ملكته فهو حر فملك عبداً عتق وإن لم يملك بعده عبداً آخر ، فكذا هنا ، (15/155)
والثاني : أن المراد من قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم وبيت المقدس يشاركه في كونه بيتاً موضوعاً للطاعات والعبادات ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا " فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس ، وأما أن يكون بيت المقدس مشاركاً له في جميع الأمور حتى في وجوب الحج ، فهذا غير لازم والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 124 ـ 125}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} يحتمل أن يكون المراد كونه أولاً في الوضع والبناء وأن يكون المراد كونه أولاً في كونه مباركاً وهدىً فحصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان
الأول : أنه أول في البناء والوضع ، والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال
أحدها : ما روى الواحدي رحمه الله تعالى في "البسيط" بإسناده عن مجاهد أنه قال : خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرضين ، وفي رواية أخرى : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرض بألفي سنة ، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى وروي أيضاً عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى بعث ملائكته فقال ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور ، وهذا كان قبل خلق آدم ".(15/156)
وأيضاً ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر ، ومجاهد والسدي : أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته ، قال القفال في "تفسيره" : روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال : وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام" أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر ، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء"
وثانيها : أن آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة ، فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها ، وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام ، فلما أرسل الله تعالى الطوفان ، رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة ، يتعبد عنده الملائكة ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه ، ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة ، وبقي مختفياً إلى أن بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت ، وأمره بعمارته ، فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام.
واعلم أن هذين القولين يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام ، وهذا هو الأصوب ويدل عليه وجوه
(15/157)
الأول : أن تكليف الصلاة كان لازماً في دين جميع الأنبياء عليهم السلام ، بدليل قوله تعالى في سورة مريم {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين مِن ذُرّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّن حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم وإسرائيل وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينا إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءايات الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [ مريم : 58 ] فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لا بد لها من قبلة ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ} فوجب أن يقال : إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة ، فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبداً مشرفة مكرمة
الثاني : أن الله تعالى سمى مكة أم القرى ، وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة
الثالث : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة " ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر " وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة
الرابع : أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت موجودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام.
واعلم أن لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه
الأول : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اللّهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة " وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام ولقائل أن يقول : لا يبعد أن يقال البيت كان موجوداً قبل إبراهيم وما كان محرماً ثم حرمه إبراهيم عليه السلام(15/158)
الثاني : تمسكوا بقوله تعالى : {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت وإسماعيل} [ البقرة : 127 ] ولقائل أن يقول : لعل البيت كان موجوداً قبل ذلك ثم انهدم ، ثم أمر الله إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار
الثالث : قال القاضي : إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد ، وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة ، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة والعياذ بالله تعالى لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة ، ويكون شرف تلك الجهة باقياً بعد الانهدام ، ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها ، وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول : لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر الله بنقلها إلى السماء ، وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة ، فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها ، فهذا جملة ما في هذا القول :
القول الثاني : أن المراد من هذه الأولية كون هذا البيت أولاً في كونه مباركاً وهدىً للخلق روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أول مسجد وضع للناس ، فقال عليه الصلاة والسلام : " المسجد الحرام ثم بيت المقدس " فقيل كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً قال له : أهو أول بيت ؟ قال : " لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة أول من بناه إبراهيم ، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبناه العمالقة ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ، ثم هدم فبناه قريش "(15/159)
واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه ، لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة ، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس ، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف ، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود ، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء ، وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 125 ـ 127}
وقال الآلوسى :
المراد بالأولية الأولية بحسب الزمان ، وقيل : بحسب الشرف (1) ، ويؤيد الأول : ما أخرجه الشيخان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال : " المسجد الحرام ثم بيت المقدس فقيل : كم بينهما ؟ فقال : أربعون سنة " واستشكل ذلك بأن باني المسجد الحرام إبراهيم عليه السلام وباني الأقصى داود ثم ابنه سليمان عليهما السلام ، ورفع قبته ثمانية عشر ميلاً وبين بناء إبراهيم وبنائهما مدة تزيد على الأربعين بأمثالها.
وأجيب بأن الوضع غير البناء والسؤال عن مدة ما بين وضعيهما لا عن مدة ما بين بناءيهما فيحتمل أن واضع الأقصى بعض الأنبياء قبل داود وابنه عليهما السلام ثم بنياه بعد ذلك ، ولا بد من هذا التأويل قاله الطحاوي وأجاب بعضهم على تقدير أن يراد من الوضع البناء بأن باني المسجد الحرام والمسجد الأقصى هو إبراهيم عليه السلام وأنه بنى الأقصى بعد أربعين سنة من بنائه المسجد الحرام وادعى فهم ذلك من الحديث فتدبر.
_______________
(1) الأولية فى الشرف أسمى من الأولية فى الزمان فإبليس عليه لعنة الله خلق قبل آدم ـ عليه السلام ـ بآلاف السنين وشتان بين أشقى الأشقياء وبين أسعد السعداء. والله أعلم.(15/160)
وورد في بعض الآثار أن أول من بنى البيت الملائكة وقد بنوه قبل آدم عليه السلام بألفي عام ، وعن مجاهد وقتادة والسدي ما يؤيد ذلك ، وحكي أن بناء الملائكة له كان من ياقوتة حمراء ثم بناه آدم ثم شيث ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قصي ثم قريش ثم عبد الله بن الزبير ثم الحجاج واستمر بناء الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب والعتبة ووقع الترميم في الجدار والسقف غير مرة وجدد فيه الرخام ، وقيل : إنه نزل مع آدم من الجنة ثم رفع بعد موته إلى السماء ، وقيل : بني قبله ورفع في الطوفان إلى السماء السابعة ، وقيل : الرابعة ، وذهب أكثر أهل الأخبار أن الأرض دحيت من تحته ، وقد أسلفنا لك ما ينفعك هنا فتذكر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 4 ـ 5}
فائدة نفيسة
قال العلامة ابن عطية وقد أجاد :
ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض ، ونحو ما قال الزجّاج : من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها ، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديداً. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 474}
فصل
قال الفخر :
إذا ثبت أن المراد من هذه الأولية زيادة الفضيلة والمنقبة فلنذكر ههنا وجوه فضيلة البيت :
الفضيلة الأولى : اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل عليه السلام ، وباني بيت المقدس سليمان عليه السلام ، ولا شك أن الخليل أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس.(15/161)
واعلم أن الله تعالى أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت ، فقال : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود} [ الحج : 26 ] والمبلغ لهذا التكليف هو جبريل عليه السلام ، فلهذا قيل : ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة ، فالآمر هو الملك الجليل والمهندس هو جبريل ، والباني هو الخليل ، والتلميذ إسماعيل عليهم السلام.
الفضيلة الثانية : {مَّقَامِ إبراهيم} وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم عليه السلام من ذلك الحجر دون سائر أجزائه كالطين حتى غاص فيه قدم إبراهيم عليه السلام ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ولا يظهره إلا على الأنبياء ، ثم لما رفع إبراهيم قدمه عنه خلق فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى ، ثم إنه تعالى أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام فهذه أنواع من الآيات العجيبة والمعجزات الباهرة أظهرها الله سبحانه في ذلك الحجر.
الفضيلة الثالثة : قلة ما يجتمع فيه من حصى الجمار ، فإنه منذ آلاف سنة وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ، ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير وليس الموضع الذي ترمي إليه الجمرات مسيل ماء ولا مهب رياح شديدة وقد جاء في الآثار أن من كانت حجته مقبولة رفعت حجارة جمراته إلى السماء.
الفضيلة الرابعة : إن الطيور تترك المرور فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنها إذا ما وصلت إلى فوقها.
(15/162)
الفضيلة الخامسة : أن عنده يجتمع الوحش لا يؤذي بعضها بعضاً كالكلاب والظباء ، ولا يصطاد فيه الكلاب والوحوش وتلك خاصية عجيبة وأيضاً كل من سكن مكة أمن من النهب والغارة وهو بركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال : {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} [ البقرة : 126 ] وقال تعالى في صفة أمنه {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [ العنكبوت : 67 ] وقال : {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ} [ قريش : 3 ، 4 ] ولم ينقل ألبتة أن ظالماً هدم الكعبة وخرب مكة بالكلية ؛ وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية.
الفضيلة السادسة : أن صاحب الفيل وهو أبرهة الأشرم لما قاد الجيوش والفيل إلى مكة لتخريب الكعبة وعجز قريش عن مقاومة أولئك الجيوش وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ، والأبابيل هم الجماعة من الطير بعد الجماعة ، وكانت صغاراً تحمل أحجاراً ترميهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغر ، وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة وإرهاص لنبوّة محمد عليه الصلاة والسلام.
فإن قال قائل : لم لا يجوز أن يقال إن كل ذلك بسبب طلسم موضوع هناك بحيث لا يعرفه أحد فإن الأمر في تركيب الطلسمات مشهور.
قلنا : لو كان هذا من باب الطلسمات لكان هذا طلسماً مخالفاً لسائر الطلسمات فإنه لم يحصل لشيء سوى الكعبة مثل هذا البقاء الطويل في هذه المدة العظيمة ، ومثل هذا يكون من المعجزات ، فلا يتمكن منها سوى الأنبياء.
الفضيلة السابعة : إن الله تعالى وضعها بواد غير ذي زرع ، والحكمة من وجوه
أحدها : إنه تعالى قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله
(15/163)
وثانيها : أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع ، فالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا
وثالثها : أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقط
ورابعها : أظهر الله تعالى بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيوت في أقل المواضع نصيباً من الدنيا ، فكأنه قال : جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين ، لهم في الدنيا بيت الأمن وفي الآخرة دار الأمن
وخامسها : كأنه قال : لما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا ، فهذا ما يتعلق بفضائل الكعبة ، وعند هذا ظهر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس في أنواع الفضائل والمناقب ، وإذا ظهر هذا بطل قول اليهود : إن بيت المقدس أشرف من الكعبة والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 127 ـ 128}
قوله تعالى : {لَلَّذِى بِبَكَّةَ}
فصل
قال الفخر : (15/164)
لا شك أن المراد من {بكة} هو مكة ثم اختلفوا فمنهم من قال : بكة ومكة اسمان لمسمى واحد ، فإن الباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقام كل واحد منهما مقام الآخر فيقال : هذه ضربة لازم ، وضربة لازب ، ويقال : هذا دائم ودائب ، ويقال : راتب وراتم ، ويقال : سمد رأسه ، وسبده ، وفي اشتقاق بكة وجهان الأول : أنه من البك الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضاً ، يقال : بكه يبكه بكاً إذا دفعه وزحمه ، وتباك القوم إذا ازدحموا فلهذا قال سعيد بن جبير : سميت مكة بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف ، وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة قال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال : دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي ، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان.
الوجه الثاني : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة لا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه قال قطرب : تقول العرب بككت عنقه أبكه بكاً إذا وضعت منه ورددت نخوته.
وأما مكة ففي اشتقاقها وجوه
الأول : أن اشتقاقها من أنها تمك الذنوب أي تزيلها كلها ، من قولك : أمتك الفصيل ضرع أمه ، إذا امتص ما فيه
(15/165)
الثاني : سميت بذلك لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض ، يقال أمتك الفصيل ، إذا استقصى ما في الضرع ، ويقال تمككت العظم ، إذا استقصيت ما فيه الثالث : سميت مكة ، لقلة مائها ، كأن أرضها امتكت ماءها الرابع : قيل : إن مكة وسط الأرض ، والعيون والمياه تنبع من تحت مكة ، فالأرض كلها تمك من ماء مكة ، ومن الناس من فرق بين مكة وبكة ، فقال بعضهم : إن بكة اسم للمسجد خاصة ، وأما مكة ، فهو اسم لكل البلد ، قالوا : والدليل عليه أن اشتقاق بكة من الازدحام والمدافعة ، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف ، لا في سائر المواضع ، وقال الأكثرون : مكة اسم للمسجد والمطاف.
وبكة اسم البلد ، والدليل عليه أن قوله تعالى : {لَلَّذِى بِبَكَّةَ} يدل على أن البيت حاصل في بكة ومظروف في بكة فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكة ظرفاً للبيت ، أما إذا جعلنا بكة اسماً للبلد ، استقام هذا الكلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 128 ـ 129}
لطيفة
قال الفخر :
لمكة أسماء كثيرة ، قال القفال رحمه الله في "تفسيره" : مكة وبكة وأم رحم وكويساء والبشاشة والحاطمة تحطم من استخف بها ، وأم القرى قال تعالى : {لّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا} [ الأنعام : 92 ] وسميت بهذا الاسم لأنها أصل كل بلدة ومنها دحيت الأرض ، ولهذا المعنى يزار ذلك الموضع من جميع نواحي الأرض. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 129}
لطيفة ثانية
قال الفخر : (15/166)
للكعبة أسماء أحدها : الكعبة قال تعالى : {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام} [ المائدة : 97 ] والسبب فيه أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً لإشرافه وارتفاعه على الرسغ ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً ، لارتفاع ثديها ، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض وأقدمها زماناً ، وأكثرها فضيلة سمي بهذا الاسم وثانيها : البيت العتيق : قال تعالى : {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} [ الحج : 33 ] وقال : {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} [ الحج : 29 ] وفي اشتقاقه وجوه
الأول : العتيق هو القديم ، وقد بينا أنه أقدم بيوت الأرض بل عند بعضهم أن الله خلقه قبل الأرض والسماء
والثاني : أن الله أعتقه من الغرق حيث رفعه إلى السماء
الثالث : من عتق الطائر إذا قوي في وكره ، فلما بلغ في القوة إلى حيث أن كل من قصد تخريبه أهلكه الله سمي عتيقاً
الرابع : أن الله أعتقه من أن يكون ملكاً لأحد من المخلوقين
الخامس : أنه عتيق بمعنى أن كل من زاره أعتقه الله تعالى من النار
وسادسها : المسجد الحرام قال سبحانه : {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [ الإسراء : 1 ] والمراد من كونه حراماً سيجيء إن شاء الله في تفسير هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 129}
سؤال : فإن قال قائل : كيف الجمع بين قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وبين قوله {وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ} [ الحج : 26 ] فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس.
والجواب : كأنه قيل : البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزّه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 129 ـ 130}
قوله تعالى : {مُبَارَكاً وَهُدًى للعالمين}
فصل
قال الفخر : (15/167)
اعلم أنه تعالى وصف هذا البيت بأنواع الفضائل فأولها : أنه أول بيت وضع للناس ، وقد ذكرنا معنى كونه أولاً في الفضل ونزيد ههنا وجوهاً أُخر
الأول : قال علي رضي الله عنه ، هو أول بيت خص بالبركة ، وبأن من دخله كان آمناً ، وقال الحسن : هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض وقال مطرف.
أول بيت جعل قبلة
وثانيها : أنه تعالى وصفه بكونه مباركاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 130}
فصل
قال الفخر :
البركة لها معنيان
أحدهما : النمو والتزايد
والثاني : البقاء والدوام ، يقال تبارك الله ، لثبوته لم يزل ، والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها ، وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر ، فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه أحدها : أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها.
قال صلى الله عليه وسلم : " فضل المسجد الحرام على مسجدي ، كفضل مسجدي على سائر المساجد " ثم قال صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه " فهذا في الصلاة ، وأما الحج ، فقال عليه الصلاة والسلام : " من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " وفي حديث آخر " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة
وثانيها : قال القفال رحمه الله تعالى : ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى : {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء} [ القصص : 57 ] فيكون كقوله {إلى المسجد الأقصى الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [ الإسراء : 1 ](15/168)
وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية ، وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسيّة فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه ، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه ، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف ، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً.
وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضاً كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود ، وأيضاً الأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم ، وظهر لثان وعصر لثالث ، ومغرب لرابع وعشاء لخامس ، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة ، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة ، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفاً من السنين دوام أيضاً فثبت كونه مباركاً من الوجهين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 130}(15/169)
وقال الآلوسى :
{مُبَارَكاً} أي كثير الخير لما أنه يضاعف فيه ثواب العبادة قاله ابن عباس ، وقيل : لأنه يغفر فيه الذنوب لمن حجه وطاف به واعتكف عنده. وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله تعالى : {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء} [ القصص : 57 ] ، وقيل : بركته دوام العبادة فيه ولزومها ، وقد جاءت البركة بمعنيين : النمو وهو الشائع ، والثبوت ومنه البركة لثبوت الماء فيها والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه وتبارك الله سبحانه بمعنى ثبت ولم يزل ، ووجه الكرماني كونه مباركاً بأن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ولا شك أن فيهم أشخاصاً أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ومن كان في المسجد الحرام يتصل أنوار تلك الأرواح الصافية المقدسة بنور روحه فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه وهذا غاية البركة ثم إن الأرض كرية وكل آن يفرض فهو صبح لقوم ظهر لثان عصر لثالث وهلم جراً ، فليست الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها لأداء الفرائض فهو دائماً كذلك والمنصوب حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع صلة. وجوز أبو البقاء جعله حالاً من الضمير في وضع. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 5}
قوله تعالى {هُدًى للعالمين}
قال الفخر :
المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم ، وقيل : هدىً للعالمين أي دلالة على وجود الصانع المختار ، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوّة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولاً على وجود الصانع ، وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء ، وقيل : هدىً للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 130 ـ 131}(15/170)
فصل
قال ابن عادل :
قوله : {وُضِعَ لِلنَّاسِ} هذه الجملة في موضع خفض ؛ صفة ل " بَيْتٍ ".
وقرأ العامة " وُضِعَ " مبنيًّا للمفعول. وعكرمة وابن السميفع " وضَعَ " مبنيًّا للفاعل.
وفي فاعله قولان :
أحدهما : - وهو الأظهر - أنه ضمير إبراهيم ؛ لتقدُّم ذِكْرِه ؛ ولأنه مشهور بعمارته.
والثاني : أنه ضمير الباري تعالى ، و" لِلنَّاسٍ " متعلق بالفعل قبله ، واللام فيه للعلة.
و " للذي " بِبَكَّة " خبر " إنَّ " وأخبر - هنا - بالمعرفة - وهو الموصول - عن النكرة - وهو " أول بَيْتٍ " - لتخصيص النكرة بشيئين : الإضافة ، والوصف بالجملة بعده ، وهو جائز في باب " إن " ، ومن عبارة سيبويه : إن قريباً منك زيدٌ ، لما تخصص " قريباً " بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه ، وزاده حُسْناً - هنا - كونه اسماً ل " إنَّ " ، وقد جاءت النكرة اسماً ل " إنَّ " - وإن لم يكن تخصيص - كقوله : [ الطويل ]
وَإنَّ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً... بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ
وببكة صلة ، والباء فيه ظرفية ، أي : في مكة.
وبكة فيها أربعة أوجه :
أحدها : أنها مرادفة ل " مكة " فأبدلت ميمها باءً ، قالوا : والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع ، قالوا : هذا على ضربة لازم ، ولازب ، وهذا أمر راتب ، وراتم ، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها ، وأغبطت الحمى ، وأغمطت.
وقيل : إنها اسم لبطن مكة ، ومكة اسم لكل البلد.
وقيل : إنها اسم لمكان البيت.
وقيل : إنها اسم للمسجد نفسه ، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو : الازدحام إنما يحصل عند الطواف ، يقال : تباكَّ الناسُ - أي : ازْدَحموا ، ويُفْسِد هذا القولَ أن يكون الشيء ظرفاً لنفسه ، كذا قال بعضهم ، وهو فاسد ، لأن البيت في المسجد حقيقةً.(15/171)
وقال الأكثرون : بكة : اسم للمسجد والمطاف ، ومكة : اسم البلد ، لقوله تعالى : {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} فدل على أن البيت مظروف في بكة ، فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكةَ ظرفاً له.
وسميت بكة ؛ لازدحام الناس ، قاله مجاهد وقتادة ، وهو قول محمد بن علي الباقر.
وقال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي ، فمرت امرأة بين يديه ، فذهبت أدْفَعها ، فقال : دعها ، فإنها سُمِّيَتْ بكةَ ، لأنه يبكُّ بعضُهم بعضاً ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي ، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ، ولا بأس بذلك هنا.
وقيل : لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة - أي : تدقها.
قال قطرب : تقول العرب : بَكَكْتهُ ، أبُكُّهُ ، بَكًّا ، إذا وضعت منه.
وسميت مكة - من قولهم : مَكَكْتُ المخ من العظم ، إذا تستقصيته ولم تترك فيه شيئاً.
ومنه : مَكَّ الفصيل ما في ضَرْعِ أمِّه - إذا لم يترك فيه لبناً ، ورُويَ أنه قال : " لا تُمَكِّكُوا عَلَى غُرَمَائِكُمْ ".
وقيل : لأنها تَمُكُّ الذنوبَ ، أي : تُزيلها كلَّها.
قال ابن الأنباري : وسُمِّيَتْ مكة لِقلَّةِ مائِها وزرعها ، وقلة خِصْبها ، فهي مأخوذة من مكَكْت العَظْم ، إذا لم تترك فيه شيئاً.
وقيل : لأن مَنْ ظَلَم فيها مَكَّهُ اللهُ ، أي : استقصاه بالهلاك.
وقيل : سُمِّيت بذلك ؛ لاجتلابها الناسَ من كل جانب من الأرض ، كما يقال : امتكّ الفصيلُ - إذا استقصى ما في الضَّرْع.
وقال الخليل : لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم.
وقيل : لأن العيونَ والمياه تنبع من تحت مكة ، فالأرض كلها تمك من ماء مكة ، والمكوك : كأس يشرب به ، ويُكال به - كـ " الصُّوَاع ".(15/172)
قال القفال : لها أسماء كثيرة ، مكة ، وبكة ، وأمّ رُحْم ، - بضم الراء وإسكان الحاء - قال مجاهد : لأن الناس يتراحمون فيها ، ويتوادَعُون - والباسَّة ؛ قال الماوَرْدِي : لأنها تبس من الْحَد فيها ، أي : تُحَطِّمه وتُهْلكه ، قال تعالى : {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} [ الواقعة : 5 ].
ويروى : الناسَّة - بالنون - قال صاحبُ المطالع : ويقال : الناسَّة - بالنون-. قال الماوَرْدِيُّ : لأنها تنس من ألحد فيها - أي : تطرده وتَنْفِيه.
ونقل الجوهري - عن الأصمعي- : النَّسّ : اليبس ، يُقال : جاءنا بخُبْزَة ناسَّة ، ومنه قيل لمكةَ : الناسَّة ؛ لقلة مائها.
والرأس ، والعرش ، والقادس ، والمقدَّسة - من التقديس - وصَلاَحِ - بفتح الصاد وكسر الحاء - مبنيًّا على الكسر كقَطَامِ وحَذَامِ ، والبلد ، والحاطمة ؛ لأنها تحطم من استخَفَّ بها ، وأم القرى ؛ لأنها أصل كل بلدة ، ومنها دحيت الأرض ، ولهذا المعنى تُزَار من جميع نواحي الأرض.
قوله : {مُبَارَكاً وَهُدًى} حالان ، إما من الضمير في " وُضِعَ " كذا أعربه أبو البقاء وغيره ، وفيه نظر ؛ من حيث إنه يلزم الفصل بين الال بأجنبيّ - وهو خبر " إنَّ " - وذلك غير جائز ؛ لأن الخبر معمول ل " إنَّ " فإن أضمرت عاملاً بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : أول بيت وُضِعَ للناس للذي ببكة وُضِعَ مباركاً ، والذي حمل على ذلك ما يُعْطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضِعَ أولاً بقيد هذه الحال.
وإما أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في " بِبَكَّةَ " أي استقر ببكة في حال بركته ، وهو وجه ظاهر الجواز. والظاهر أن قوله : " وَهُدًى " معطوف على " مُبَارَكاً " والمعطوف على الحال حال.
وجوز بعضهم أن يكونَ مرفوعاً ، على أنه خبر مبتدأ محذوف - أي : وهو هدى - ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار.(15/173)
والبركة : الزيادة ، يقال : بارك الله لك ، أي : زادك خيراً ، وهو مُتَعَدٍّ ، ويدل عليه قوله تعالى : {أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [ النمل : 8 ] و" تبارك " لا يتَصَرف ، ولا يُستعمل إلا مُسْنداً لله تعالى ، ومعناه - في حقه تعالى- : تزايد خيرُه وإحسانه.
وقيل : البركة ثبوت الخير ، مأخوذ من مَبْرَك البعير.
وإما من الضمير المستكن في الجار وهو " ببكة " لوقوعه صلة ، والعامل فيها الجار وبما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص ، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك. و" للعالمين " كقوله : " للمتقين " أول البقرة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 396 ـ 404}. بتصرف يسير.
قوله تعالى : {فِيهِ ءايات بينات}
فصل
قال الفخر :
فيه قولان
الأول : أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي : أمن الخائف ، وإنمحاق الجمار على كثرة الرمي ، وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة ، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور.
وقوله {مَّقَامِ إبراهيم} لا تعلق له بقوله {فِيهِ ءايات بينات} فكأنه تعالى قال : {فِيهِ ءايات بينات} ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه ، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم.
القول الثاني : أن تفسير الآيات مذكور ، وهو قوله {مَّقَامِ إبراهيم} أي : هي مقام إبراهيم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 131}
فائدة
قال ابن عطية :
الضمير في قوله : {فيه} عائد على البيت ، وساغ ذلك مع كون " الآيات " خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 475}(15/174)
سؤال : فإن قيل : الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد ، أجابوا عنه من وجوه
الأول : أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة ، لأن ما كان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو دليل على وجود الصانع ، وعلمه وقدرته وإرادته وحياته ، وكونه غنياً منزّهاً مقدساً عن مشابهة المحدثات فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا} [ النحل : 120 ]
الثاني : أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات ، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، لأنه لأن من الصخرة ما تحت قدميه فقط ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة
الثالث : قال الزجاج إن قوله {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} من بقية تفسير الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله ، ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين ، قال تعالى : {إِن تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [ التحريم : 4 ] وقال عليه السلام : " الاثنان فما فوقهما جماعة " ومنهم من تمم الثلاثة فقال : مقام إبراهيم ، وأن من دخله كان آمناً ، وأن لله على الناس حجه ، ثم حذف ( أن ) اختصاراً ، كما في قوله {قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط} [ الأعراف : 29 ] أي أمر ربي بأن تقسطوا
الرابع : يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، وكثير سواهما(15/175)
الخامس : قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة {آيَة بَيّنَةً} على التوحيد
السادس : قال المبرّد {مَّقَامِ} مصدر فلم يجمع كما قال : {وعلى سَمْعِهِمْ} والمراد مقامات إبراهيم ، وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال : {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} [ الحج : 32 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 131}
وقال العلامة ابن عطية :
وقرأ جمهور الناس : " آيات بينات " بالجمع ، وقرأ أبي بن كعب وعمر وابن عباس : " آية بينة " على الإفراد ، قال الطبري : يريد علامة واحدة المقام وحده ، وحكي ذلك عن مجاهد.
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى ، واختلف عبارة المفسرين عن " الآيات البينات " فقال ابن عباس : من الآيات المقام ، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا يدل على أن قراءته " آية " بالإفراد إنما يراد بها اسم الجنس ، وقال الحسن بن أبي الحسن : " الآيات البينات " مقام إبراهيم ، وإن من دخله كان آمناً ، وقال مجاهد : المقام الآية ، وقوله : {ومن دخله كان آمناً} كلام آخر.
قال القاضي أبو محمد : فرفع {مقام} على قول الحسن ومجاهد على البدل من {آيات} ، أو على خبر ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم ، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه : هو مرتفع بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره : منهن {مقام إبراهيم}.(15/176)
قال القاضي : والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم ، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل ، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل ، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه ، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، ومن آياته الحجر الأسود ، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت قلوب العالم نم تعظيمه قبل الإسلام ، ومن آياته حجر المقام ، وذلك أنه قام عليه إبراهيم عليه السلام ، وقت رفعه القواعد من البيت ، لما طال له البناء فكلما علا الجدار ، ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار ، ثم إن الله تعالى ، لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر ، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه السلام كأنها في طين ، فذلك الأثر العظيم باقي في الحجر إلى اليوم ، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار ، وقال أبو طالب : [ الطويل ]
ومَوْطِىءُ إبراهيمَ في الصَّخرِ رطْبَةٌ... على قَدَمِيهِ حافياً غيرَ ناعِلِ(15/177)
فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول ، ومن آياته البينات زمزم في نبعها لهاجر بهمز جبريل عليه السلام الأرض بعقبه ، وفي حفر عبد المطلب لها آخراً بعد دثورها بتلك الرؤيا المشهورة ، وبما نبع من الماء تحت خف ناقته في سفره ، إلى منافرة قريش ومخاصمتها في أمر زمزم ، ذكر ذلك ابن إسحاق مستوعباً ، ومن آيات البيت نفع ماء زمزم لما شرب له ، وأنه يعظم ماؤها في الموسم ، ويكثر كثرة خارقة للعادة في الآبار ، ومن آياته ، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر ، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم ، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه ، وسلامة الشجر ، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها ، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله ، اجعل هذا بلداً آمناً ، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه ، ولا زاجر ، آية عظمى تقوم بها الحجة ، وهي التي فسرت بقوله تعالى : {ومن دخله كان آمناً} ومن آياته كونه بواد غير ذي زرع ، والأرزاق من كل قطر تجيء إليه عن قرب وعن بعد ، ومن آياته ، ما ذكر ابن القاسم العتقي رحمه الله ، قال في النوادر ، وغيرها : سمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجيء سيل من الحل فيدخل الحرم.(15/178)
قال القاضي أبو محمد : هذا والله أعلم ، لأن الله تعالى جعله ربوة أو في حكمها ليكون أصون له ، والحرم فيما حكى ابن أبي زيد في الحج الثاني من النوادر. مما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العرق نحو من ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال ، ومما يلي طريق اليمن سبعة أميال ، إلى موضع يقال له أضاة ، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتى الحديبية ، قال مالك في العتبية : والحديبية في الحرم ، ومن آياته فيما ذكر مكي وغيره ، أن الطير لا تعلوه ، وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض به ، فهو يستشفي بالبيت ، وهذا كله عندي ضعيف ، والطير تعاين تعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته ومن آياته فيما ذكر الناس قديماً وحديثاً ، أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في العام الواحد ، أخصبت آفاق الأرض ، وإن لم يصب جانباً منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه ذلك العام. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 475 ـ 476}
وقال ابن عادل :
وفيه أجوبة :
أحدها : أن أقلَّ الجمع اثنان - كما ذهب إليه بعضهم.
قال الزمخشري : ويجوز أن يُراد : فيه آيات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ؛ لأن الاثنين نَوْعٌ من الجَمْع ، كالثلاثة والأربعة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ".
قال الزجَّاج : ولفظ الجمع قد يُستعمل في الاثنين ، قال تعالى : {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [ التحريم : 4 ].(15/179)
وقال بعضهم : تمام الثلاثة قوله : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} وتقدير الكلام : مقام إبراهيم ، وأن من دخله كان آمناً ، وأن لله على الناس حَجَّ البيت ، ثم حذف " أن " اختصاراً ، كما في قوله : {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط} [ الأعراف : 29 ] أي : أمر ربي أن اقسطوا.
الثاني : أن {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يشتمل على آياتٍ كثيرةٍ ، بمعنيين :
أحدهما : أن أثر القدمين في الصخرة الصَّمَّاء آية ، وغَوصَهما فيها إلى الكعبين آية أخْرَى ؛ وبعض الصخرة دون بعض آيةٌ ، وإبقاؤه على مر الزمان ، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية ، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية ، قال معناه الزمخشري.
وثانيهما : أن {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} بمنزلة آيات كثيرة ؛ لأن كل ما كان معجزةً لنبيٍ فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته ، وكونه غنيًّا مُنَزَّهاً ، مقدَّساً عن مشابهة المحدثات ، فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الآيات ، كقوله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [ النحل : 120 ] ، قاله ابنُ الخطيب.
الثالث : أن يكون هذا من باب الطَّيّ ، وهو أن يُذْكَرَ جَمْعٌ ، ثم يُؤتَى ببعضه ، ويُسْكَت عن ذِكْر باقيه لغرض للمتكلم ، ويُسَمَّى طَيًّا.
وأنشد الزمخشري عليه قول جرير : [ البسيط ]
كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمُ... مِنَ الْعَبِيدِ ، وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا(15/180)
وأورد منه قوله صلى الله عليه وسلم : " حُبِّبَ إليّ مِنْ دُنْيَاكُم ثَلاثٌ : الطيبُ والنِّسَاءُ ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي فِي الصلاة " ذكر اثنين - وهما الطيب والنساء - وطَوَى ذِكْر الثالثة.
لا يقال إن الثالثة قوله صلى الله عليه وسلم : " جعلت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ " لأنها ليست من دنياهم ، إنما هي من الأمور الأخروية.
وفائدة الطَّيّ - عندهم - تكثير ذلك الشيء ، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثير سواهما.
وقال ابنُ عطية : " والأرجح - عندي - أن المقام ، وأمن الداخل ، جُعِلاَ مثالاً مما في حرم الله - تعالى - من الآيات ، وخُصَّا بالذِّكْر ؛ لِعِظَمِهِمَا ، وأنهما تقوم بهما الحُجَّةُ على الكفَّار ؛ إذْ هم مدركون لهاتين الآيتين بِحَوَاسِّهم ".
الوجه الثاني : أن يكون {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} عطف بيان ، قاله الزمخشري.(15/181)
ورَدَّ عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفاً وتنكيراً ، فقال : وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين ، فلا يلتفت إليه ، وحُكْم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فيُتْبعون النكرة نكرة ، والمعرفة معرفة ، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما البصريون ، فلا يجوز - عندهم - إلا أن يكونا معرفتين ، ولا يجوز أن يكونا نكرتين ، وكل شيء أورده الكوفيون مما يُوهِم جوازَ كونه عطفَ بيان جعله البصريون بَدَلاً ، ولم يَقُمْ دليل للكوفيين ؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله - عند قوله : {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [ إبراهيم : 16 ] وقوله : {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [ النور : 35 ] ، ولما أوّل الزمخشريُّ مقام إبراهيم وأمن داخله - بالتأويل المذكور - اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع - وأجاب بما تقدم ، واعترض - أيضاً - على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان للأسماء المفردةِ ؟ فقال : " فإن قلتَ : كيف أجَزْت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات. وقوله : {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} جملة مستأنفة ، إما ابتدائية وإما شرطية ؟
قلت : أجَزْت ذلك من حيث المعنى ؛ لأن قوله : {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} دل على أمْن مَنْ دخله ، وكأنه قيل : فيه آيات بيِّنات مقام إبراهيم وأمن من دخله ، ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة ، مَنْ دخله كان آمناً صَحَّ ؛ لأن المعنى : فيه آية بينة أمن مَنْ دخله ".(15/182)
قال أبو حيان : " وليس بواضح ؛ لأن تقديره - وأمنَ الداخل - هو مرفوع ، عطفاً على " مَقَام إبراهيم " وفسر بهما الآيات ، والجملة من قوله : {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا ، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف ، يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه ، فلا يجعل قوله : {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى ، لا تفسير الإعراب ".
قال شهاب الدين : " وهي مُشَاحَّةٌ لا طائلَ تحتَها ، ولا تدافع فيما ذكر ؛ لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفُها عليه ".
الوجه الثالث : قال المبرد : " مَقَامُ " مصدر ، فلم يُجْمَع ، كما قال : {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [ البقرة : 7 ] والمراد : مقامات إبراهيم ، وهي ما أقامه إبراهيم من أمور الحج ، وأعمال المناسك ، ولا شك أنها كثيرة ، وعلى هذا ، فالمراد بالآيات : شعائر الحج ، كما قال تعالى : {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله} [ الحج : 32 ].
الوجه الرابع : أن قوله : {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : أحدها ، أي : أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : منها ، أي : من الآيات البيِّنات " مقام إبراهيم ".
وقال بعضهم : {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} لا تعلُّقَ له بقوله : {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} ، فكأنه - تعالى - قال : {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} ومع ذلك فهو {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} ومَقَرُّه ، والموضع الذي اختاره ، وعَبَدَ الله فيه ؛ لأن كل ذلك من الخِلال التي بها تَشَرَّف وتَعَظَّم.(15/183)
وقرأ أبَيّ وعُمَر وابنُ عباس ومُجَاهِدٌ وأبو جعفر المديني - في رواية قتيبة - آية بيِّنة - بالتوحيد ، وتخريج " مَقَامُ " - على الأوجه المتقدِّمة - سَهْل ، من كونه بدلاً ، أو بياناً - عند الزمخشري - أو خبر مبتدأ محذوف وهذا البدل متفق عليه ؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرة مطلقاً ، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وَصْفها ، وقد وُصِفَتْ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 406 ـ 408}
فصل
قال الفخر :
{مقَامِ إبراهيم} فيه أقوال
أحدها : أنه لما ارتفع بنيان الكعبة ، وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه
والثاني : أنه جاء زائراً من الشام إلى مكة ، وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع ، فلما وصل إلى مكة قالت له أم إسماعيل : إنزل حتى نغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ، ثم حولته إلى الجانب الأيسر ، حتى غسلت الجانب الآخر ، فبقي أثر قدميه عليه
والثالث : أنه هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه عند الأذان بالحج ، قال القفال رحمه الله : ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 132}(15/184)
قوله تعالى : {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً}
فصل
قال ابن عطية :
واختلف الناس في معنى قوله {كان آمناً} فقال الحسن وقتادة وعطاء ومجاهد وغيرهم : هذه وصف حال كانت في الجاهلية أن الذي يجر جريرة ثم يدخل الحرم ، فإنه كان لا يتناول ولا يطلب فأما في الإسلام وأمن جميع الأقطار ، فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى رجم ، ومن قتل قتل ، واستحسن كثير ممن قال هذا القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل هنالك ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من أحدث حدثاً ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وإن الأمن في الإسلام كما كان في الجاهلية ، والإسلام زاد البيت شرفاً وتوقيراً ، فلا يعرض أحد بمكة لقاتل وليه ، إلا أنه يجب على المسلمين ألا يبايعوا ذلك الجاني ولا يكلموه ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد ، وقال بمثل هذا عبيد بن عمير والشعبي وعطاء بن أبي رباح والسدي وغيرهم ، إلا أن أكثرهم قالوا هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، فأما من يقتل في الحرم ، فإنه يقام عليه الحد في الحرم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وإذا تؤمل أمر هذا الذي لا يكلم ولا يبايع ، فليس بآمن ، وقال يحيى بن جعدة : معنى الآية ومن دخل البيت كان آمناً من النار ، وحكى النقاش عن بعض العباد قال : كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فقلت : يا رب إنك قلت : {ومن دخله كان آمناً} ، فمن ماذا هو آمن يا رب ؟ فسمعت مكلماً يكلمني وهو يقول : من النار ، فنظرت وتأملت فما كان في المكان أحد. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 476 ـ 477}(15/185)
وقال الفخر :
{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً} ولهذه الآية نظائر : منها قوله تعالى : {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً} [ البقرة : 125 ] وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَامِناً} [ العنكبوت : 67 ] وقال إبراهيم {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} [ إبراهيم : 35 ] وقال تعالى : {أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مّنْ خوف} [ قريش : 4 ] قال أبو بكر الرازي : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} موجودة في الحرم ثم قال : {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً} وجب أن يكون مراده جميع الحرم ، وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم فإنه يستوفي القصاص منه في الحرم وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس ، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم فهل يستوفي منه القصاص في الحرم ؟ قال الشافعي : يستوفي ، وقال أبو حنيفة : لا يستوفي ، بل يمنع منه الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج ، ثم يستوفي منه القصاص ، والكلام في هذه المسألة قد تقدم في تفسير قوله {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً} واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية ، فقال : ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمناً ، ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمناً فيقع الخلف في الخبر ، فوجب حمله على الأمر ترك العمل به في الجنايات التي دون النفس ، لأن الضرر فيها أخف من الضرر في القتل ، وفيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم ، لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم ، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية.
والجواب : أن قوله {كَانَ ءَامِناً} إثبات لمسمى الأمن ، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه ، ونحن نقول به وبيانه من وجوه(15/186)
الأول : أن من دخله للنسك تقرباً إلى الله تعالى كان آمناً من النار يوم القيامة ، قال النبي عليه السلام : " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً " وقال أيضاً : " من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام " وقال : " من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه "
والثاني : يحتمل أن يكون المراد ما أودع الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ودفع المكروه عنه ، ولما كان الأمر واقعاً على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً وهذا أولى مما قالوه لوجهين
الأول : أنا على هذا التقدير لا نجعل الخبر قائماً مقام الأمر وهم جعلوه قائماً مقام الأمر
والثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوماً للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت ، فأما الحكم الذي بيّنه الله في شرع محمد عليه السلام فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة.
الوجه الثالث : في تأويل الآية : أن المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى الله عليه وسلم كان آمناً لأنه تعالى قال : {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءَامِنِينَ} [ الفتح : 27 ]
الرابع : قال الضحاك : من حج حجة كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
(15/187)
واعلم أن طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد ، وهو أن قوله {كَانَ ءَامِناً} حكم بثبوت الأمن وذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد وفي صورة واحدة فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النص فلا يبقى للنص دلالة على ما قالوه ، ثم يتأكد ذلك بأن حمل النص على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك فكان قولنا أولى والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 132 ـ 133}
فصل
قال ابن كثير :
وقوله : {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} يعني : حَرَمُ مكة إذا دخله الخائف يأمنُ من كل سوء ، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية ، كما قال الحسن البصري وغيره : كان الرجل يَقْتُل فيَضَع في عُنُقِه صوفَة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يُهَيِّجْهُ حتى يخرج.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو يحيى التَّيْمِيّ ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا يؤوى ولا يُطْعَم ولا يُسقى ، فإذا خرج أُخذ بذنبه.
وقال الله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت : 67] وقال تعالى : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش : 3 ، 4] وحتى إنه من جملة تحريمها حُرْمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحُرْمة قطع أشجارها وقَلْع ثمارها حَشيشها ، كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفًا.(15/188)
ففي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة : "لا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ ونية ، وإذَا استَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا" ، وقال يوم الفتح فتح مكة : "إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحرمَةِ الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شَوْكُهُ ، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، ولا يَلْتَقطْ لُقَطتَه إلا من عَرَّفها ، ولا يُخْتَلى خَلاها فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذْخَرَ ، فإنه لقَيْنهم ولبُيوتهم ، فقال : "إلا الإذْخَر". {صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353)}.
ولهما عن أبي هريرة ، مثله أو نحوه. {صحيح البخاري برقم (2434) ، وصحيح مسلم برقم (1355)}.
(15/189)
ولهما واللفظ لمسلم أيضًا عَن أبي شُرَيح العَدوي أنه قال لعَمْرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكةَ : ائذَنْ لي أيها الأمير أن أُحدِّثك قَولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغَدَ من يوم الفتح سَمعَتْه أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به ، إنه حَمد الله وأثنى عليه ثم قال : "إنَّ مَكِّةَ حَرَّمَهَا اللهُ ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، فَلا يَحِلُّ لامرئ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخر أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا ، ولا يَعْضد بِهَا شَجَرةً ، فَإنْ أحَد تَرخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا له : إنَّ اللهَ أذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وإنَّمَا أذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأمْسِ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهدُ الغائِبَ" فقيل لأبي شُرَيح : ما قال لك عَمْرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحَرَم لا يُعيذ عاصيا ولا فَارا بِدَمٍ ولا فارا بخَزْيَة.{صحيح البخاري برقم (1832) وصحيح مسلم برقم (1354)}.
وعن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يَحِلُّ لأحَدِكُمْ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ" رواه مسلم. {صحيح مسلم برقم (1356)}.
وعن عبد الله بن عَدِيّ بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، وهو واقف بالحَزْوَرَة في سوق مكة : "واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللهِ ، وأحَبُّ أرْضِ اللهِ إلَى اللهِ ، ولَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ".
رواه الإمام أحمد ، وهذا لفظه ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة. وقال الترمذي : حسن صحيح. {المسند (4/305) وسنن الترمذي برقم (3925) والنسائي في السنن الكبرى برقم (4254) وسنن ابن ماجة برقم (3108)}.
(15/190)
وكذا صَحَّح من حديث ابن عباس نحوه. {سنن الترمذي برقم (3926) وقال : "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"}.
وروى أحمد عن أبي هريرة ، نحوه. {المسند (4/305)}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 79 ـ 80}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال ، إما من ضمير " وُضِعَ " وفيه ما تقدم من الإشكال.
وأمَّا من الضمير في " بِبَكَّةَ " وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال الذي حالٍ واحدٍ.
وإما من الضمير في " للعالمِينَ " ، وإما من " هُدًى " ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " مُبَارَكاً ".(15/191)
ويجود أن تكون الجملة في محل نصب ؛ نعتاً لِ " هُدًى " بعد نعته بالجار قبله. ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جِيء بها بياناً وتفسيراً لبركته وهُداه ، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط ، و" آياتٌ " مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل ، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر ؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها : أن تكون مفردة ، فما قَرُب منها كان أولى ، والجار قريب من المفرد ، ولذلك تقدَّكم المفردُ ، ثم الظرفُ ، ثم الجملة فيما ذكرنا ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [ غافر : 28 ] ، فقدم الوصف بالمفرد " مُؤمِنٌ " ، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [ البقرة : 49 ] ، وثلَّث بالجملة وهي {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} وقد جاء في الظاهر عكس هذا ، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - عند قوله : {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ} [ المائدة : 45 ].
قوله : {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فيه أوْجُه :
أحدها : أن " مَقَام " : بدل من " آيَاتٌ " وعلى هذا يقال : إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع ، فتقول : مررت برجال زيد وعمرو وبكر ؛ لأن أقل الجمع - على الصحيح - ثلاثة ، فإن لم يُوَفِّ ، قالوا : وجب القطع عن البدلية ، إما إلى النصب بإضمار فِعْل ، وإما إلى الرفع ، على مبتدأ محذوف الخبر ، كما تقول - في المثال المتقدم - زيداً وعمراً ، أي : أعني زيداً وعمراً ، أو زيد وعمرو ، أي : منهم زيد وعمرو.(15/192)
ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني : [ الطويل ]
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا... لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أبينُهُ... وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ
على القطع المتقدم ، أي : فمنها رمادٌ ونؤي ، وكذا قوله تعالى : {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [ البروج : 17-18 ] أي : أعني فرعون وثمود ، أو أذُمّ فرعونَ وثمودَ ، على أنه قد يُقال : إن المراد بفرعون وثمودَ ؛ هما ومَنْ تبعهما من قومهما ، فذكرهما وافٍ بالجمعيَّةِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 505 ـ 506}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ[96] فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} .
هذا الكلام واقع موقع التعليل للأمر في قوله : {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} [آل عمران : 95] لأن هذا البيت المنوه بشأنه كان مقاما لإبراهيم ففضائل هذا البيت تحقق فضيلة شرع بانيه في متعارف الناس ، فهذا الاستدلال خطابي ، وهو أيضا إخبار بفضيلة الكعبة وحرمتها فيما مضى من الزمان.
وقد آذن بكون الكلام تعليلا موقع إن في أوله فإن التأكيد بإن هنا لمجرد الاهتمام وليس لرد إنكار منكر ، أو شك شاك.
ومن خصائص إن إذا وردت في الكلام لمجرد الاهتمام ، أن تغني غناء فاء التفريع وتفيد التعليل والربط ، كما في دلائل الإعجاز.
ولما في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون إن مؤذنة بالربط.(15/193)
وبيان وجه التعليل أن هذا البيت لما كان أول بيت وضع للهدى وإعلان توحيد الله ليكون علما مشهودا بالحس على معنى الوحدانية ونفي الإشراك ، فقد كان جامعا لدلائل الحنيفية ، فاذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممر العصور ، دون غيره من الهياكل الدينية التي نشأت بعده ، وهو ماثل ، كان ذلك دلالة إلهية على أنه بمحل العناية من الله تعالى ، فدل على أن الدين الذي قارن إقامته هو الدين المراد لله ، وهذا يؤول إلى معنى قوله : {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران : 19].
وهذا التعليل خطابي جار على طريقة اللزوم العرفي.
وقال الواحدي ، عن مجاهد : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة.
وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل.
فأنزل الله هذه الآية.
و {أول} اسم للسابق في فعل ما فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدث عنه.
والبيت بناء يأوي واحدا أو جماعة ، فيكون بيت سكنى ، وبيت صلاة ، وبيت ندوة ، ويكون مبنيا من حجر أو من أثواب نسيج شعر أو صوف ، ويكون من أدم فيسمى قبة قال تعالى : {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً} [النحل : 81].
ومعنى {وضع} أسس وأثبت ، ومنه سمي المكان موضعا ، وأصل الوضع أنه الحط ضد الرفع ، ولما كان الشيء المرفوع لمعنى الإدناء للمتناول ، والتهيئة للانتفاع.
والناس تقدم في قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في سورة البقرة [8].
و {بكة} اسم مكة.(15/194)
وهو لغة بإبدال الميم باء في كلمات كثيرة عدت من المترادف : مثل لازب في لازم ، وأربد وأرمد أي في لون لرماد ، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك : أن بكة بالباء اسم موضع البيت ، وأن مكة بالميم اسم بقية الموضوع ، فتكون باء الجر هنا لظرفية مكان البيت خاصة.
لا لسائر البلد الذي فيه البيت ، والظاهر عندي أن بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علما على المكان الذي عينه لسكنى ولده بنية أن يكون بلدا ، فيكون أصله من اللغة الكلدانية ، لغة إبراهيم ، ألا ترى أنهم سموا مدينة بعلبك أي بلد بعل وهو معبود الكلدانيين ، ومن أعجاز القرآن هذا اللفظ عند ذكر كونه أول بيت ، فلاحظ أيضا الاسم الأول ، ويؤيد قوله : {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل : 91] وقوله : {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} [إبراهيم : 35].
وقد قيل : إن بكة مشتق من البك وهو الازدحام ، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم.
وعدل عن تعريف البيت باسمه العلم بالغلبة ، وهو الكعبة ، إلي تعريفه بالموصولية بأنه الذي ببكة : لأن هذه الصلة صارت أشهر في تعينه عند السامعين ، إذ ليس في مكة يومئذ بيت للعبادة غيره ، بخلاف اسم الكعبة : فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقبوه الكعبة اليمانية.
والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها.
وظاهر الآية أن الكعبة أول البيوت المبنية في الأرض ، فتمسك بهذا الظاهر مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وجماعة ، فقالوا : هي أول بناء ، وقالوا : أنها كانت مبنية من عهد آدم عليه السلام ثم درست ، فجددها إبراهيم ، قال ابن عطية : ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها ، وقد زعموا أنها كانت تسمى الضراح بوزن غراب ولكن المحققين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر ، وتأولوا الآية.(15/195)
قال علي رضي الله عنه كان قبل البيت بيوت كثيرة ولا شك أن الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدد في القرآن ذكر ذلك ، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها ، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون أول بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم ، لأن قبل إبراهيم أمما وعصورا كان فيها البناء ، وأشهر ذلك برج بابل ، بنى إثر الطوفان ، وما بناه المصريون قبل عهد إبراهيم ، وما بناه الكلدان في بلد إبراهيم قبل رحلته إلى مصر ، ومن ذلك بيت أصنامهم ، وذلك قبل أن تصير إليه هاجر التي أهداها له ملك مصر ، وقد حكى القرآن عنهم {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات : 97] فتعين تأويل الآية بوجه ظاهر ، وقد سلك العلماء مسالك فيه : وهي راجعة إلى تأويل الأول ، أو تأويل البيت ، أو تأويل فعل وضع ، أو تأويل الناس ، أو تأويل نظم الآية.
والذي أراه في التأويل أن القرآن كتاب دين وهدى ، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التاريخ ، ولكن أوائل أسباب الهدى ، فالأولية في الآية على بابها ، والبيت كذلك ، والمعنى أنه أول بيت عبادة حقة وضع لإعلان التوحيد ، بقرينة المقام ، وبقرينة قوله : {وُضِعَ لِلنَّاسِ} المقتضي أنه من وضع واضع لمصلحة الناس ، لأنه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه الناس ، وبقرينة مجيء الحالين بعد ؛ وهما قوله : {مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} .(15/196)
وهذا تأويل في معنى بيت ، وإذا كان أول بيت عبادة حق ، كان أول معهد للهدى ، فكان كل هدى مقتبسا منه فلا محيص لكل قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله ، وذلك يوجب اتباع الملة المبنية على أسس ملة بانية ، وهذا المفاد من تفريغ قوله : {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [البقرة : 95] وتأول الآية علي بن أبي طالب ، فروى عنه أن رجلا سأله : أهو أول بيت? قال : لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا وهدى فجعل مباركا وهدى حالين من الضمير في {وضع} لا من اسم الموصول ، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلا على معنى أنه أول بيت من بيوت الهدى كما قلنا ، وليس مراده أن قوله : {وضع} هو الخبر لتعين أو الخبر هو قوله : {للذي ببكة} بدليل دخول اللام عليه.
وعن مجاهد قالت اليهود : بيت المقدس أفضل من لكعبة لأنها مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون : الكعبة ، فأنزل اله هذه الآية ، وهذا تأويل {أول} بأنه الأول من شيئين لا من جنس البيوت كلها.
وقبل : أراد بالأول الأشرف مجازا.
وعندي أنه يجوز أن يكون المراد من الناس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنصارى والمسلمين ، وكلهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام فأول معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنه أفضل مما سواه من بيوت عبادتهم.
وإنما كانت الأولية موجبة التفضيل لأن مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة ، إذ هي في ذلك سواء ، ولكنها تتفاضل بما يحف بذلك من طول أزمان التعبد فيها ، وبنسبتها إلى بانيها ، وبحسن المقصد في ذلك ، وقد قال تعالى في مجسد قباء {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة : 108].
وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحق ، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون.(15/197)
فإن إبراهيم بني الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمان بني بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح ، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول.
وأما بيت المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره.
وروى في صحيح مسلم ، عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي مسجد وضع أول ? قال : "المسجد الحرام" ، قلت : ثم أي? قال : "المسجد الأقصى" ، قلت : كم كان بينهما? قال : "أربعون سنة" ، فاستشكله العلماء بأن بين إبراهيم وسليمان قرونا فكيف تكون أربعين سنة ، وأجاب بعضهم بإمكان أن يكون إبراهيم بنى مسجدا في موضع بيت المقدس ثم درس فجدده سليمان.
وأقول : لاشك أن بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود ، وأشار إليه القرآن في قوله : {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ : 13] الآية ، فالظاهر أن إبراهيم لما مر ببلاد الشام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسله عين الله له الموضع الذي سيكون به أكبر مسجد تبنيه ذريته ، فأقام هنالك مسجدا صغيرا شكرا لله تعالى ، وجعله على الصخرة المجعولة مذبحا للقربان.
وهي الصخرة التي بنى سليمان عليها المسجد ، فلما كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه ، وهذا من العلم الذي أهملته كتب اليهود ، وقد ثبت في سفر التكوين إن إبراهيم بنى مذابح في جهات مر عليها من أرض الكنعانيين لأن الله أخبره أنه يعطي تلك الأرض لنسله ، فالظاهر أنه بنى أيضا بموضع مسجد أرشليم مذبحا. (1) أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 158 ـ 161}
_______________
(1) بعض هذا الكلام فيه نظر لاستناده إلى التوراة التى لم تسلم من الأيدى الآثمة التى حرفتها. والله أعلم.(15/198)
قوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {حَجَّ البيت} بكسر الحاء والباقون بفتحها ، قيل الفتح لغة الحجاز ، والكسر لغة نجد وهما واحد في المعنى ، وقيل هما جائزان مطلقاً في اللغة ، مثل رطل ورطل ، وبزر وبزر ، وقيل المكسورة اسم للعمل والمفتوحة مصدر ، وقال سيبويه : يجوز أن تكون المكسورة أيضاً مصدراً ، كالذكر والعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 133}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَللَّهِ} اللام في قوله "ولله" لام الإيجاب والإلزام ، ثم أكده بقوله تعالى : {عَلَى} التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب ؛ فإذا قال العربي : لفلان عليّ كذا ؛ فقد وكّده وأوجبه.
فذكر الله تعالى الحج ( بأبلغ ) ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقِّه وتعظيماً لحُرْمته.
ولا خلاف في فريضته ، وهو أحد قواعد الإسلام ، وليس يجب إلاَّ مرّة في العمر.
وقال بعض الناس : يجب في كل خمسة أعوام ( مرة ) ؛ ورووا في ذلك حديثاً أسندوه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والحديث باطل لا يصح ، والإجماع صادّ في وجوههم.
قلت : وذكر عبد الرزاق قال : حدّثنا سفيان ( الثوري ) عن العلاء بن المسيّب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الرب جلّ وعزّ إن عبداً أوسعت عليه في الرزق فلم يعد إليّ في كل أربعة أعوام لمحروم " مشهور من حديث العلاء بن المسيب بن رافع الكاهليّ الكوفيّ من أولاد المحدّثين ، روى عنه غير واحد ، منهم من قال : في كل خمسة أعوام ، ومنهم من قال : عن العلاء عن يونس بن خَبّاب عن أبي سعيد ، في غير ذلك من الاختلاف.(15/199)
وأنكرت الملحدة الحَجّ ، فقالت : إن فيه تجريد الثياب وذلك يخالف الحياء ، والسعي وهو يناقض الوَقَار ، ورمي الجمار لغير مرمى وذلك يضادّ العقل ؛ فصاروا إلى أن هذه الأفعال كلها باطلة ؛ إذ لم يعرفوا لها حِكمة ولا عِلة ، وجهلوا أنه ليس من شرط المولى مع العبد ، أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به ، ولا أن يطلع على فائدة تكليفه ، وإنما يتعين عليه الامتثال ، ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود.
ولهذا المعنى كان عليه السَّلام يقول في تلبيته : " لبيْك حقّاً حقّاً تعبُّداً ورِقاً لبيّك إله الحق " وروى الأئمَّة عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " "أيها الناس قد فَرض الله عليكم الحجَّ فحجّوا".
فقال رجل : كلَّ عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو قلت نعم لوجبتْ ولما استطعتم" ثم قال : "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبَلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" " لفظ مسلم.
فبيّن هذا الحديثُ أن الخطاب إذا توجه على المكلفين بفرضٍ أنه يكفي منه فعل مرّة ولا يقتضي التكرار ؛ خلافاً للأستاذ أبي إسحاق الأسفرايِنِي وغيره.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه : يا رسول الله ، أحجُّنا لعامِنا هذا أم للأبد ؟ فقال : "لا بل للأبد".
وهذا نص في الردّ على من قال : يجب في كل خمس سنين مرة.
وقد كان الحج معلوماً عند العرب مشهوراً لديهم ، وكان مما يرغب فيه لأسواقها وتَبَرُّرِها وتحنُّفها ؛ فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا وألزموا بما عرفوا.(15/200)
وقد حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل حجَّ الفرض ، وقد وقف بعرفة ولم يغيّر من شرع إبراهيم ما غيروا ؛ حين كانت قريش تقف بالمَشْعَر الحرام ويقولون ؛ نحن أهل الحرم فلا نخرج منه ؛ ونحن الْحمْسُ.
حسب ما تقدّم بيانه في "البقرة".
قلت : من أغرب ما رأيته أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حجّ قبل الهجرة مرتين وأن الفرض سقط عنه بذلك ؛ لأنه قد أجاب نداء إبراهيم حين قيل له : {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} [ الحج : 27 ].
قال الكيا الطبري : وهذا بعيد ؛ فإنه ورد إذا في شرعه : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [ آل عمران : 97 ] فلا بدّ من وجوبه عليه بحكم الخطاب في شرعه.
ولئن قيل : إنما خاطب من لم يحج ، كان تحَكُّماً وتخصيصاً لا دليل عليه ، ويلزم عليه ألاَّ يجب بهذا الخطاب على من حج على دِين إبراهيم ، وهذا في غاية البعد. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 142 ـ 144}
فصل
قال الفخر :
في قوله {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} وجوه
الأول : قال الزجاج : موضع {مِنْ} خفض على البدل من {الناس} والمعنى : ولله على من استطاع من الناس حج البيت
الثاني : قال الفرّاء إن نويت الاستئناف بمن كانت شرطاً وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير من استطاع إلى الحج سبيلاً فلله عليه حج البيت
الثالث : قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون {مِنْ} في موضع رفع على معنى الترجمة للناس ، كأنه قيل : من الناس الذين عليهم لله حج البيت ؟ فقيل هم من استطاع إليه سبيلاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 133}
فصل
قال الفخر : (15/201)
اتفق الأكثرون على أن الزاد والراحلة شرطان لحصول الاستطاعة ، روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسّر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة ، وروى القفال عن جويبر عن الضحاك أنه قال : إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا بل ينطلق إليه ولو حبواً ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت ، عن عكرمة أيضاً أنه قال : الاستطاعة هي صحة البدن ، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه.
واعلم أن كل من كان صحيح البدن قادراً على المشي إذا لم يجد ما يركب فإنه يصدق عليه أنه يستطيع لذلك الفعل ، فتخصيص هذه الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر اللفظ فلا بد فيه من دليل منفصل ، ولا يمكن التعويل في ذلك على الأخبار المروية في هذا الباب لأنها أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب لا سيما وقد طعن محمد بن جرير الطبري في رواة تلك الأخبار ، وطعن فيها من وجه آخر ، وهو أن حصول الزاد والراحلة لا يكفي في حصول الاستطاعة ، فإنه يعتبر في حصول الاستطاعة صحة البدن وعدم الخوف في الطريق ، وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبراً ، فصارت هذه الأخبار مطعوناً فيها من هذا الوجه بل يجب أن يعول في ذلك على ظاهر قوله تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ} [ الحج : 78 ] وقوله {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [ البقرة : 185 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 133 ـ 134}
فصل
قال القرطبى : (15/202)
ودلّ الكتاب والسنة على أن الحج على التراخي لا على الفور ؛ وهو تحصيل مذهب مالكٍ فيما ذكر ابن خُوَيزِ مَنْدَاد ، وهو قول الشافعيّ ومحمد بن الحسن وأبي يوسف في رواية عنه.
وذهب بعض البغداديين من المتأخرين من المالكيين إلى أنه على الفور ، ولا يجوز تأخيره مع القدرة عليه ؛ وهو قول داود.
والصحيح الأوّل ؛ لأن الله تعالى قال في سور الحج : {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً} [ الحج : 27 ] وسورة الحج مكية.
وقال تعالى : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} الآية.
وهذه السورة نزل عام أحُد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر.
أما السُّنّة : فحديثِ ضمام بن ثعلبة السعديّ من بني سعد بن بكر قِدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام فذكر الشهادة والصَّلاة والزكاة والصيام والحج.
رواه ابن عباس وأبو هريرة وأنس ، وفيها كلها ذكر الحج ، وأنه كان مفروضاً ، وحديث أنس أحسُنها سياقاً وأتَمُّها.
واختلف في وقت قدومه ؛ فقيل : سنة خمس.
وقيل : سنة سبع.
وقيل : سنة تسع ؛ ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة الواقدي عام الخَنْدَق بعد انصراف الأحْزَاب.
قال ابن عبد البر : ومن الدليل على أن الحج على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسِيق القادر على الحج إذا أخره العام والعامين ونحوهما ، وأنه إذا حج من بعد أعوامٍ من حين استطاعته فقد أدّى الحج الواجب عليه في وقته ، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصَّلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروج وقتها ، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه ، ولا كمن أفسد حجه فقضاه ، فلما أجمعوا على أنه لا يُقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته : أنت قاضٍ لِما وجب عليك ؛ علِمنا أن وقت الحج مُوسَّع فيه وأنه على التراخي لا على الفور.
(15/203)
قال أبو عمر : كل من قال بالتراخي لا يَحُدُّ في ذلك حداً ؛ إلاَّ ما روي عن سحنون وقد سئل عن الرجل يجد ما يحج فيه فيؤخِّر ذلك إلى سنين كثيرةٍ مع قدرته على ذلك هل يُفَسَّق بتأخيره الحجّ وتُردّ شهادتُه ؟ قال : لا وإن مضى من عمره ستون سنة ، فإذا زاد على الستين فُسّق وردّت شهادته.
وهذا توقيف وحَدّ ، والحدود في الشرع لا تؤخذ إلاَّ عمن له أن يشَرِّع.
قلت : وحكاه ابن خويزِمنداد عن ابن القاسم.
قال ابن القاسم وغيره : إنْ أخره ستين سنة لم يُحَرَّج ، وإن أخره بعد الستين حُرِّج ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقل من يتجاوزها " فكأنه في هذا العشر قد يتضايق عليه الخطاب.
قال أبو عمر : وقد احتج بعض الناس ( كسحنون ) بقوله صلى الله عليه وسلم : " معترك أمّتي بين الستين إلى السبعين وقل من يجاوز ذلك " ولا حجة فيه ؛ لأنه كلام خرج على الأغلب من أعمار أمّته لو صحّ الحديث.
وفيه دليل على التوسعة إلى السبعين لأنه من الأغلب أيضاً ، ولا ينبغي أن يقطع بتفسيق من صحت عدالته وأمانته بمثل هذا من التأويل الضعيف. وبالله التوفيق. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 144 ـ 145}
فصل
قال الفخر :
احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأن ظاهر قوله تعالى : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعم المؤمن والكافر وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ومخصصاً لهذا العموم ، لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط صحة الإيمان بمحمد عليه السلام غير حاصل والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة غير حاصل ، فلم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلفاً بالمشروط ، فكذا ههنا والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 134}
فصل(15/204)
قال القرطبى :
أجمع العلماء على أن الخطاب بقوله تعالى : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} عام في جميعهم مسترسل على جملتهم.
قال ابن العربيّ : "وإن كان الناس قد اختلفوا في مطلق العمومات بَيْدَ أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكرِهم وأنثاهم ، خلا الصغيرِ فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف ، وكذلك العبد لم يدخل فيه ؛ لأنه أخرجه عن مطلق العموم قوله تعالى ( في التمام ) : {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} والعبد غيرُ مستطيع ؛ لأن السيِّد يمنعه لحقوقه عن هذه العبادة.
وقد قدّم الله سبحانه حقَّ السيّد على حقه رِفقاً بالعباد ومصلحةً لهم.
ولا خلاف فيه بين الأمّة ولا بين الأئمة ، فلا نَهْرِف بما لا نعرِف ، ولا دليل عليه إلاَّ الإجماعُ".
قال ابن المنذر : أجمع عامّة أهل العلم إلاَّ من شَذّ منهم ممن لا يعدّ خلافاً ، على أن الصبيّ إذا حَجّ في حال صغره ، والعبد إذا حج في حال رِقّه ، ثم بلغ الصبي وعَتَق العبد إنّ عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلاً.
وقال أبو عمر : خالف داود جماعة فقهاء الأمصار وأئمّة الأثر في المملوك وأنه عنده مخاطب بالحج ، وهو عند جمهور العلماء خارج من الخطاب العام في قوله تعالى : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} بدليل عدم التصرف ، وأنه ليس له أن يحج بغير إذن سيده ؛ كما خرج من خطاب الجمعة وهو قوله تعالى : {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} [ الجمعة : 9 ] الآية عند عامّة العلماء إلاَّ من شذّ.
وكما خرج من خطاب إيجاب الشهادة ، قال الله تعالى : {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ} [ البقرة : 282 ] فلم يدخل في ذلك العبدُ.(15/205)
وكما جاز خروج الصبيّ من قوله : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [ آل عمران : 97 ] وهو من الناس بدليل رفع القلم عنه.
وخرجت المرأة من قوله : {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ} وهي ممّن شَمِله اسم الإيمان ، وكذلك خروج العبد من الخطاب المذكور.
وهو قول فقهاء الحجاز والعراق والشام والمغرب ، ومثلهم لا يجوز عليهم تحريف تأويل الكتاب.
فإن قيل : إذا كان حاضَر المسجد الحرام وأذِن له سيدُه فلِمَ لا يلزمه الحج ؟ قيل له : هذا سؤال على الإجماع وربما لا يُعلّل ذلك ، ولكن إذا ثبت هذا الحكم على الإجماع استدللنا به على أنه لا يُعتدّ بحجّه في حال الرِّقّ عن حجة الإسلام ؛ وقد روي عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيّما صبيّ حجّ ثم أدرك فعليه أن يحج حجة أُخرى وأيّما أعرابيّ حجّ ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى " قال ابن العربيّ.
"وقد تساهل بعض علمائنا فقال : إنما لم يثبت الحج على العبد وإن إذِن له السيد لأنه كان كافراً في الأصل ولم يكن حَجُّ الكافر معتدّاً به ، فلما ضُرب عليه الرقّ ضرباً مؤبَّداً لم يخاطب بالحج ؛ وهذا فاسد من ثلاثة أوجه فاعلموه : أحدها أن الكفار عندنا مُخاطبون بفروع الشريعة ، ولا خلاف فيه في قول مالك.
الثاني أن سائر العبادات تلزمه من صلاة وصوم مع كونه رقيقاً ، ولو فعلها في حال كفره لم يعتدّ بها ، فوجب أن يكون الحج مثلها.
الثالث أن الكفر قد ارتفع بالإسلام فوجب ارتفاع حكمه.
فتبين أن المعتمد ما ذكرناه من تقدّم حقوق السيد". والله الموفق. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 145 ـ 146}
فصل
قال الفخر : (15/206)
احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل ، فقالوا : لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج مستطيعاً للحج ، ومن لم يكن مستطيعاً للحج لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية فيلزم أن كل من لم يحج أن لا يصير مأموراً بالحج بسبب هذه الآية وذلك باطل بالاتفاق.
أجاب الأصحاب بأن هذا أيضاً لازم لهم ، وذلك لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل أو بعد حصوله أما قبل حصول الداعي فمحال ، لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل ، فيكون التكليف به تكليف ما لا يطاق ، وأما بعد حصول الداعي فالفعل يصير واجب الحصول ، فلا يكون في التكليف به فائدة ، وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 134}(15/207)
كلام نفيس للعلامة الآلوسى فى هذا الموضع
قال عليه الرحمة :
والحق عندي في هذه المسألة أن شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة بإذن الله تعالى عند انضمام الإرادة التابعة لإرادة الله تعالى لقوله سبحانه : {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [ البقرة : 286 ] وإيضاحه أنه تعالى كما أنه غني بالذات عن العالمين كذلك حكيم جواد وكما أن غناه الذاتي أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد كذلك مقتضى جوده ورحمته مراعاة ما اقتضته حكمته سبحانه كما أشار إليه العضد في "عيون الجواهر" ، وأطال الكلام فيه أبو عبد الله الدمشقي في "شفاء العليل". ومن المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال وينهى عنه من لا يقدر على الاجتناب فلا بد بمقتضى الحكمة التي رعاها سبحانه فيما خلق وأمر فضلاً ورحمة أن يكون التكليف بحسب الوسع وإذا كان كذلك كان شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة إذا انضم إليها الإرادة وهذه قبل الفعل ، والقدرة التي هي مع الفعل هي القدرة المستجمعة لشرائط التأثير التي من جملتها انضمام الإرادة إليها ، وبهذا جمع الإمام الرازي كما في "المواقف بين مذهب الأشعري القائل بأن القدرة مع الفعل ، والمعتزلة القائلين بأنها قبله ، وقال : لعل الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين ، والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة وهو جمع صحيح ، وقول السيد قدس سره في توجيه البحث الذي ذكره صاحب "المواقف" فيه بأن القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال : إنه أراد بالقدرة والقوة المستجمعة لشرائط التأثير مدفوع بما تبين في "الإبانة" التي هي آخر مصنفاته.(15/208)
والمعتمد من كتبه كما صرح به ابن عساكر والمجد ابن تيمية وغيرهما أن الشيخ قائل بالتأثير للقدرة المستجمعة للشرائط لكن لا استقلالاً كما يقوله المعتزلة بل بإذن الله تعالى وهو معنى الكسب عنده ، وأما قوله في شرح المواقف" : إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما فيكون فعل العبد مخلوقاً لله تعالى إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلاً له ، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، ففيه بحث من وجوه : (15/209)
أما أولاً : فلأن هذا ليس مذهب الشيخ المذكور في آخر تصانيفه التي استقر عليها الاعتماد وذكره في غيره إن سلم لا يعول عليه لكونه مرجوحاً مرجوعاً عنه وأما ثانياً : فلأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق أمراً أو نهياً بالأفعال الاختيارية أنفسها لا بمقارنة القدرة والإرادة لها فمكسوب العبد نفس الفعل الاختياري ، والمراد بكسبه إياه تحصيله إياه بتأثير قدرته بإذن الله تعالى لا مستقلاً ، فالقول بأن المراد بكسب العبد للفعل هو مقارنة الفعل لقدرته وإرادته من غير تأثير لا يوافق ما اقتضاه صرائح الكتاب والسنة ونصوص "الإبانة" ، ويزيده وضوحاً حديث أبي هريرة "أنه لما نزل {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [ البقرة : 284 ] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها" الحديث فإنه صريح بأن الذي كلفوا به ما يطيقونه من نفس الأعمال وهو نفس الصلاة وأخواتها لا مقارنتها لقدرتهم وإرادتهم وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك وأما ثالثاً : فلأن مقارنة الفعل لقدرة العبد وإرادته لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها ولو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعاً لأن المقارنة أمر يترتب على فعل الله تعالى أي على إيجاد الله تعالى الفعل الاختياري مقارناً لهما وما يترتب على فعل الله تعالى ليس مقدوراً للعبد أصلاً لأن معنى كون الشيء مقدوراً له أن يكون ممكن الإيقاع بقدرته عند تعلق مشيئته به الموافقة لمشيئة الله تعالى كما هو واضح من حديث " من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه " وما يترتب على فعل الله تعالى لا(15/210)
يكون مقدوراً للعبد بهذا المعنى إذ لو كان مقدوراً له ابتداءاً لزم أن لا يكون مترتباً على فعل الله تعالى أو بواسطة لزم أن يكون فعل الله تعالى المترتب عليه هذا مقدوراً للعبد واللازم باطل بشقيه بعد القول بنفي التأثير أصلاً فكذا الملزوم وأما رابعاً : فلأن المقارنة لكونها مترتبة على فعل الله تعالى لا تختلف بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة فلو كانت هي المكلف بها لاستوى بالنسبة إلى العبد التكليف بأشق الأعمال والتكليف بأسهلها مع أن نص الكتاب التكليف بحسب الوسع ونص السنة أن المملوك لا يكلف إلا ما يطيق شاهدان على التفاوت كما أن البديهة تشهد بذلك ، واعترض هذا من وجوه الأول : أن القول بأن من المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال يقتضي أن أفعال الله تعالى وأحكامه لا بدّ فيها من حكمة ومصلحة وهو مسلم لكن لا نسلم أنه لا بدّ أن تظهر هذه المصلحة لنا إذ الحكيم لا يلزمه اطلاع من دونه على وجه الحقيقة كما قاله القفال في "محاسن الشريعة" وحينئذٍ فما المانع من أن يقال هناك مصلحة لم نطلع عليها ، ويجاب بأنا لم ندع سوى أن الله تعالى قد راعى الحكمة فيما أمر وخلق تفضلاً ورحمة لا وجوباً وهذا ثابت بقوله تعالى : {صُنْعَ الله الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء} [ النمل : 88 ] وقوله سبحانه : {أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ} [ السجدة : 7 ] وبالإجماع المعصوم عن الخطأ بفضل الله تعالى وإن مقتضى الحكمة أن لا يطلب حصول شيء إلا ممن يتمكن منه ويقدر عليه كما تشهد له النصوص ولم ندع وجوب ظهور وجه الحكمة في جميع أفعاله وأحكامه ولا ما يستلزم ذلك وبيان وجه الحكمة لحكم واحد لا يستلزم دعوى الكلية ويؤول هذا إلى أن الله تعالى أطلعنا على الحكمة في هذا مع عدم وجوب الاطلاع عليه.(15/211)
والثاني : أن القول بأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق الخ فيه أنه ليس المراد مطلق المقارنة بل المقارنة على جهة التعلق فالكسب عبارة عن تعلق القدرة الحادثة بالمقدور من غير تأثير كما في عبارة غير واحد ، فالأوامر والنواهي متعلقة بالأفعال التي هي اختيارية في الظاهر باعتبار هذا التعلق الذي لا تأثير معه وادعاء أنها صرائح في التعلق مع التأثير ممنوع بل هي محتملة ولو سلم أنها ظاهرة في التأثير ، فالظاهر قد يعدل عنه لدليل خلافه ، والقول بأنا لا نفهم من تعلق القدرة إلا تأثيرها وإلا فليست بقدرة ، فكيف يثبت للقدرة تعلق بلا تأثير سؤال مشهور وجوابه : ما في "شرح المواقف" وغيره من أن التأثير من توابع القدرة ، وقد ينفك عنها ويجاب بأن تفسير الكسب بالتعلق الذي لا تأثير معه مراداً به التحصيل بحسب ظاهر الأمر فقط مصادم للنصوص الناطقة بأن العبد متمكن من إيجاد أفعاله الاختيارية بإذن الله تعالى ، ولا دليل على خلافه يوجب العدول ، و{الله خالق كُلّ شَىْء} [ الرعد : 16 ] لا ينافي التأثير بالإذن على أن تعلق القدرة تابع للإرادة وتعلقها على القول بنفي التأثير بالكلية غير صحيح كما يشير إليه كلام الجلال الدواني في بيان مبادىء الأفعال الاختيارية ، ويوضحه كلام حجة الإسلام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل من "الإحياء" ، وأما ما في "شرح المواقف" وغيره من أن التأثير قد ينفك عن القدرة فنحن نقول به إذ ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإنما الإنكار على نفي التأثير بالكلية عن القدرة الحادثة والاستدلال بما ذكره حجة الإسلام في "الاقتصاد" من أن القدرة الأزلية متعلقة في الأزل بالحادث ولا حادث فصح التعلق ولا تأثير ، ويجوز أن تكون القدرة الحادثة كذلك مجاب عنه بأن القدرة لا تؤثر إلا على وفق الإرادة والإرادة(15/212)
تعلقت أزلاً بإيجاد الأشياء بالقدرة في أوقاتها اللائقة بها في الحكمة فعدم تأثيرها قبل الوقت لكونها مؤثرة على وفق الإرادة لا مطلقاً فلا يجب تأثيرها قبل الوقت ويجب تأثيرها فيه والقدرة الحادثة على القول بنفي تأثيرها بالكلية لا يصدق عليها أنها تؤثر وفق الإرادة فلا يصح قياسها على القديمة.
والحاصل : إن كل تعلق للقديمة على وفق الإرادة لا ينفك عنه التأثير في وقته بخلاف الحادثة فإنه لا تأثير لها أصلاً على القول بنفي التأثير عنها كليّاً فلا تعلق لها بالتأثير على وفق الإرادة.
والثالث : أن القول في الاعتراض الثالث أنه لو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعاً الخ يقال عليه : نلتزم وقوعه عند الأشعري ولا محذور فيه ، ويجاب بأنه قد حقق في موضعه أن الإمام الأشعري لم ينص على ذلك ولا يصح أخذه من كلامه فالتزام وقوعه عنده التزام ما لم يقل به لا صريحاً ولا التزاماً. والقول بأنه لا محذور فيه إنما يصح بالنظر إلى الغنى الذاتي وأما بالنظر إلى أنه تعالى جواد حكيم فالتزامه مصادمة للنص وأي محذور أشنع من هذا.(15/213)
والرابع : أن القول هناك أيضاً أن المقارنة لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها غير لازم فإن الكسب يطلق على المعنى المصدري ويطلق على المفعول أي المكسوب وهو نفس الأمر لا الكسب بمعنى المقارنة أو تعلق القدرة الحادثة بالفعل فمعنى كسب تعلقت قدرته بالفعل ، وإن شئت قلت : قارنت قدرته الفعل فكان الفعل مكسوباً وهو المكلف به ، ويجاب بأن الكسب الحقيقي الوارد في الكتاب والسنة معناه تحصيل العبد ما تعلقت به إرادته التابعة لإرادة الله تعالى بقدرته المؤثرة بإذنه وإن مكسوبه ما حصله بقدرته المذكورة فمعنى كون الفعل المكسوب مكلفاً به هو أن العبد المكلف مطلوب منه تحصيله بالكسب بالمعنى المصدري لأن المكسوب هو الحاصل بالمصدر فإذا كان المكسوب مكلفاً به كان الكسب بالمعنى المصدري مكلفاً به قطعاً لامتناع حصول المكسوب من غير قيام المعنى المصدري بالمكلف ضرورة انتفاء الحاصل بالمصدر عند انتفاء قيام المصدر بالمكلف فظهرت الملازمة في الشرطية.
والخامس : إن القول في الاعتراض أن المقارنة لكونها أمراً مترتباً على فعل الله تعالى لا تختلف الخ ، فيه أمران : الأول : أنا لا نسلم التلازم بين كون المقارنة هي المكلف بها وبين عدم الاختلاف وأيّ مانع من أن تكون مختلفة باعتبار أحوال الشخص عندها فتارة يخلق الله تعالى فيه صبراً وعزماً وتارة جزعاً وفتوراً إلى غير ذلك مما يرجع إلى سلامة البنية ومقابله أو غيرهما من الأعراض والأحوال التي يخلقها الله تعالى ويصرف عبده فيها كيف شاء مما يوجب ألماً أو لذة. الثاني : إن ما ذكرتموه مشترك الإلزام إذ يقال إذا كانت قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى فبأي وجه وقع الاختلاف حتى كان هذا سهلاً وهذا صعباً وكلاهما مقدور وهما متساويان في الإمكان.(15/214)
ويجاب أما عن الأول : بأن التلازم بين كونها مترتبة على فعل الله تعالى وبين عدم اختلافها متحقق لأنها إذا كانت الكسب بالمعنى المصدري كانت تحصيلاً للمكسوب والتحصيل لكونه قائماً بالمكلف تتفاوت درجاته صعوبة وسهولة قطعاً ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب " والمقارنة لكونها أمراً مرتباً على فعل الله تعالى ليست قائمة بالعبد فلا تتفاوت بالنسبة إليه أصلاً ، والإيراد بتجويز اختلافها بكون بعضها بخلق الله تعالى عنده صبراً في العبد الخ خارج عن المقصود لأن العبارة صريحة في أن المقصود عدم اختلافها بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة لا مطلق الاختلاف ، وأما عن الثاني : فبأنه قد دلت النصوص على تفاوت درجات القوة والبطش كقوله تعالى : {كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} [ غافر : 82 ] وقوله سبحانه : {كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ} [ غافر : 21 ] وقوله عز شأنه : {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} [ الزخرف : 8 ] وباختلاف درجات ذلك في الأقوياء التابع لاستعداداتهم الذاتية الغير المجعولة وقع الاختلاف في الأعمال صعوبة وسهولة ، هذا ما ظفرنا به من تحقيق الحق من كتب ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم وجعل أعلى الفردوس قرارهم ، وإنما استطردت هذا المبحث هنا مع تقدم إشارات جزئية إلى بعض منه لأنه أمر مهم جداً لا تنبغي الغفلة عنه فاحفظه فإنه من بنات الحقاق لا من حوانيت الأسواق ، والله تعالى الموفق لا رب غيره. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 9 ـ 13}
فصل
قال القرطبى :
إذا وُجدت الاستطاعة وتوجّه فرضُ الحج فقد يعرض ما يمنع منه كالغرِيم يمنعه عن الخروج حتى يؤدّيَ الدِّين ؛ ولا خلاف في ذلك.(15/215)
أو يكون له عِيَال يجب عليه نفقتهم فلا يلزمه الحج حتى يكوِّن لهم نفقتهم مدّةَ غيبته لذهابه ورجوعه ، ولأن هذا الإنفاق فرض على الفَوْر ، والحجّ فرضٌ على التّراخي ، فكان تقديم العيال أوْلى.
وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " كفى بالمرء إثماً أن يُضيِّع من يقوت " وكذلك الأبَوان يخاف الضيعةَ عليهما وعَدَم العوِض في التلطّف بهما ، فلا سبيل له إلى الحج ؛ فإن مَعنَاه لأجل الشّوق والوَحْشة فلا يُلتفت إليه.
والمرأة يمنعها زوجها ، وقيل لا يمنعها.
والصحيح المنع ؛ لا سيما إذا قلنا إن الحج لا يلزم على الفَوْر.
والبحر لا يمنع الوجوب إذا كان غالبه السلامة كما تقدّم بيانه في البقرة ويعَلم من نفسه أنه لا يَمِيد.
فإن كان الغالب عليه العَطَب أو المَيْد حتى يعطل الصَّلاة فلاَ.
وإن كان لا يجد موضعاً لسجوده لكثرة الراكب وضيق المكان فقد قال مالك : إذا لم يستطع الركوع والسجود إلاَّ على ظهر أخيه فلا يركبه.
ثم قال : أيركب حيث لا يصلي ويلٌ لمن ترك الصلاةا.
ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدوّ يطلب الأنفس أو يطلب من الأموال ما لم يتحدّد بحدّ مخصوص أو يتحدّد بقدر مُجحِف. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 149}
فصل
قال الفخر : (15/216)
روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله أكتب الحج علينا في كل عام ، ذكروا ذلك ثلاثاً ، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم قال في الرابعة (1) : " لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة احتلافهم على أنبيائهم " ثم احتج العلماء بهذا الخبر على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين الأول : أن الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار والثاني : أن الصحابة استفهموا أنه هل يوجب التكرار أم لا ؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا إلى الاستفهام مع كونهم عالمين باللغة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 134}
فصل
قال الفخر :
استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول ، قال تعالى : {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} [ غافر : 11 ] وقال : {هَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ} [ الشورى : 44 ] وقال : {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [ التوبة : 91 ] فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن ، وزوال خوف التلف من السبع أو العدو ، وفقدان الطعام والشراب والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع الديون ويرد جميع الودائع ، وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في المجيء والذهاب وتفاصيل هذا الباب مذكور في كتب الفقهاء والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 134 ـ 135}
___________
(1) نص الحديث عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا". فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ". ثم قال : "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ". ورواه مسلم ، عن زُهَير بن حرب ، عن يزيد بن هارون ، به نحوه. {المسند (2/508) وصحيح مسلم برقم (1337)}.(15/217)
فصل
قال ابن عادل :
قوله : {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فيه ستة أوجُه :
أحدها : أن " مَنْ " بدل من " النَّاس " بدل بعض من كل ، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضميرٍ يعود على المُبْدَل منه ، نحو : أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَه ، وسُلِب زيدٌ ثوبُه ، وهنا ليس من ضمير. فقيل : هو محذوف تقديره من استطاع منهم.
الثاني : أنه بدلُ كُلٍّ من كُلٍّ ، إذ المراد بالناس المذكورين : خاصٌّ ، والفرق بين هذا الوجه ، والذي قبله ، أن الذي قبله يقال فيه : عام مخصوص ، وهذا يقال فيه : عامٌّ أريد به الخاص ، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي.
الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر ، تقديره : هم من استطاع.
الرابع : أنها منصوبة بإضمار فعل ، أي : أعني من استطاع. وهذان الوجهان - في الحقيقة - مأخوذان من وجه البدل ؛ فإنَّ كل ما جاز إبداله مما قبله ، جاز قطعه إلى الرفع ، أو إلى النصب المذكورين آنفاً. الخامس : أن " مَنْ " فاعل بالمصدر وهو " حَدُّ " ، والمصدر مضاف لمفعوله ، والتقدير : ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلاً البيت.
وهذا الوجه قد رَدَّه جماعةٌ من حيث الصناعة ، ومن حيث المعنى ؛ أما من حيث الصناعة ؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما ، فإنما يُضَاف المصدر لمرفوعه - دون منصوبة - فيقال : يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً ، ولو قلتَ : ضَرْبُ عمرٍو زيدٌ ، لم يجزْ إلا في ضرورة ، كقوله : [ البسيط ]
أفْتَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ... قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أفْوَاهُ الأبَارِيقِ(15/218)
يروى بنصب " أفواه " على إضافة المصدر - وهو " قَرْع " - إلى فاعله ، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله. وقد جوَّزَ ، بعضُهم في الكلام على ضَعْفٍ ، والقرآن لا يُحْمَل على ما في الضرورة ، ولا على ما فيه ضعف ، أمَّا من حيث المعنى ؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم - مستطيعهم وغير مستطيعهم - بأن يحج مستطيعهم ، فيلزم من ذلك تكليف غير المُسْتَطِيعِ بأن يَحُجَّ ، وهو غير جائز - وقد التزم بعضُهم هذا ، وقال : نعم ، نقول بموجبه ، وأن الله - تعالى - كلَّف الناسَ ذلك ، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان ؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرضٌ واجب. و" مَنْ " - على هذه الأوجه الخمسة - موصولة بمعنى : الذي.
السادس : أنها شرطية ، والجزاء محذوف ، يدل عليه ما تقدم ، أو هو نفس المتقدم - على رأي - ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على " النَّاسِ " ، تقديره : من استطاع منهم إليه سبيلاً فلله عليه.
ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده ، وهو قوله : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين}.
وقوله : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} جملة من مبتدأ - وهو {حِجُّ البيت} - وخبر - وهو قوله : " لله " - و" عَلَى النَّاسِ " متعلق بما تعلق به الخبر ، أو متعلق بمحذوف ؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه - أيضاً - ذلك الاستقرار المحذوف ، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر ، و" للهِ " متعلق بما تعلق به الخبر ، ويمتنع فيه أن يكون حالاً من الضمير في " عَلَى النَّاسِ " وَإنْ كان العكس جائزاً - كما تقدم-.(15/219)
والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي ، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي - بخلاف الظرف وحرف الجر ، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي ؛ للاتساع فيهما ، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك ، يجوز تقديمها على العامل المعنوي - إذا كانت هي ظرفاً ، أو حرف جر ، والعامل كذلك ، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل. وقد جيء في هذه الآيات بمبالغاتٍ كثيرة.
منها قوله : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعني : أنه حق واجب عليهم لله في رقابهم ، لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عُهدته.
ومنها : أنه ذكر " النَّاسَ " ، ثم أبدل منهم {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، وفيه ضربان من التأكيد.
أحدهما : أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له.
والثاني : أن التفصيل بعد الإجمال ، والإيضاح بعد الإبهام ، إيراد له في صورتين مختلفتين ، قاله الزمخشري ، على عادة فصاحته ، وتلخيصه المعنى بأقرب لفظ ، والألف واللام في " البَيْتِ " للعهد ؛ لتقدم ذكره ، وهو أعلم بالغلبة كالثريا والصعيد. فإذا قيل : زار البيتَ ، لم يَتَبَادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله.
وقال الشاعر : [ الطويل ]
لَعَمْرِي لأنْتَ الْبَيْتُ أكْرِمُ أهْلَهُ... وَأقْعُدُ فِي أفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ
أنشد هذا البيت أبو حيان في هذا المعرض.
قال شهابُ الدين : " وفيه نظر ، إذْ ليس في الظاهر الكعبة ".
الضمير في : " إلَيْهِ " الظاهر عوده على الحَجِّ ؛ لأنه محدَّث عنه.
قال الفراء : إن نويت الاستئناف بـ " مَنْ " كانت شرطاً ، وأسقط الْجَزاء لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : من استطاع إلى الحج سبيلاً ، فللَّه عليه حجُّ البيت.
وقيل : يعود على " الْبَيْتِ " ، و" إلَيْهِ " متعلق بـ " اسْتَطَاعَ " ، و" سَبِيلاً " مفعول به ؛ لأن استطاع متعدٍّ ، ومنه قوله تعالى : {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} [ الأعراف : 197 ] ، إلى غير ذلك من الآيات. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 413 ـ 415}(15/220)
لطيفة
قال ابن عادل :
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ الاستطاعة بإزاء معنيين في القرآن :
الأول : سَعَةِ المال ، قال تعالى : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [ آل عمران : 97 ] أي : سعة في المال ومنه قوله تعالى : {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [ التوبة : 42 ] أي : لو وجدنا سعة في المال.
الثاني : بمعنى الإطاقة ، قال تعالى : {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء} [ النساء : 129 ] ، وقال : {فاتقوا الله مَا استطعتم} [ التغابن : 16 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 415}
وقال العلامة الفيروزابادى :
وردت الاستطاعة فى القرآن على ثلاثة أَوجهٍ :
الأَوّل : بمعنى السّعةِ والغِنى بالمال : {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} ، {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}.
الثانى : بمعنى القوة والطَّاقة : {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ}.
الثالث : بمعنى القُدْرة والمُكْنة البدنيّة : {وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً} ، {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ}.
والاستطاعة استفعالة من الطَّوع. وذلك وجود ما يصير به الفعل (متأتيا. وهو عن المحققين اسم للمعانى [التى] بها يتمكَّن الإِنسان مّما يريده من إِحداث الفعل). وهى أَربعة أَشياءَ : بِنْية مخصوصة للفاعل ، وتصوّر للفعل ، ومادّة قابلة لتأْثيره ، وآلة إِن كان الفعل آليّاً ، كالكتابة ؛ فإِن الكاتب محتاج إِلى هذه الأَربعة فى إِيجاده للكتابة. ولذلك يقال : فلان غير مستطيع للكتابة إِذا فَقَد واحداً من هذه الأَربعة ، فصاعداً. ويضادّه العَجْز ، وهو أَلاَّ يجد أَحد هذه الأَربعة فصاعداً. ومتى وَجَدَ هذه الأَربعة كلَّها فمستطيع مطلقا ، ومتى فقدها فعاجز مطلقا ، ومتى وجد بعضها دون بعض فمستطيع من وجهٍ ، عاجزٌ من وجهٍ. ولأَن يوصَف بالعجز أَولى.
والاستطاعة أَخصّ من القدرة. وقوله تعالى : {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فإِنَّه يحتاج إِلى هذه الأَربعة. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 2 صـ 185}(15/221)
قوله تعالى : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين}
فصل
قال الفخر :
في هذه الآية قولان :
القول الأول : أنها كلام مستقل بنفسه ووعيد عام في حق كل من كفر بالله ولا تعلق له بما قبله.
القول الثاني : أنه متعلق بما قبله والقائلون بهذا القول منهم من حمله على تارك الحج ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوب الحج ، أما الذين حملوه على تارك الحج فقد عولوا فيه على ظاهر الآية فإنه لما تقدم الأمر بالحج ثم أتبعه بقوله {وَمَن كَفَرَ} فهم منه أن هذا الكفر ليس إلا ترك ما تقدم الأمر به ثم إنهم أكدوا هذا الوجه بالأخبار ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً " وعن أبي أمامة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائز فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً " وعن سعيد بن جبير : لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه ، فإن قيل : كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحج ؟
أجاب القفال رحمه الله تعالى عنه : يجوز أن يكون المراد منه التغليظ ، أي قد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج ، ونظيره قوله تعالى : {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [ الأحزاب : 10 ] أي كادت تبلغ ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام : " من ترك صلاة متعمداً فقد كفر " وقوله عليه الصلاة والسلام : " من أتى امرأة حائضاً أو في دبرها فقد كفر "(15/222)
وأما الأكثرون : فهم الذين حملوا هذا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج ، قال الضحاك : لما نزلت آية الحج جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الأديان الستة المسلمين ، والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم وقال : " إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا " فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس ، وقالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلي إليه ، ولا نحجه ، فأنزل الله تعالى قوله {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} وهذا القول هو الأقوى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 135}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} قال آبن عباس وغيره : المعنى ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا.
وقال الحسن البصري وغيره : إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر.
وروى الترمذي عن الحارث عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ملك زادا وراحلة تُبلَّغه إلى بيت الله ولم يحجّ فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً وذلك أنَّ الله يقول في كِتابه {ولِلَّه عَلَى النَّاسِ حجُّ الْبَيْتِ مِن استطاع إلَيْهِ سَبِيلاً} " قال أبو عيسى : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مَقال ، وهلال بن عبد الله مجهول ، والحارث يُضعَّف" وروي نحوه عن أبي أمامة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.(15/223)
وعن عبد خير بن يزيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله قال في خطبته : " يأيها الناس إن الله فرض عليكم الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء إن شاء يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً إلا أن يكون به عذر من مرض أو سلطان جائر ألا نصيب له في شفاعتي ولا ورُودَ حَوْضي " وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان عنده مال يبلّغه الحج فلم يحج أو عنده مال تحلّ فيه الزكاة فلم يزّكه سأل عند الموت الرجعة " فقيل يابن عباس إنا كنا نرى هذا للكافرين.
فقال : أنا أقرأ عليكم به قرآنا {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [ المنافقون : 9 10 ] ، قال الحسن بن صالح في تفسيره : فأَزّكَى وأحجّ.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن الآية فقال : " من حج لا يرجو ثوابا أو جلس لا يخاف عقابا فقد كفر به " وروى قتادة عن الحسن قال قال عمر رضي الله عنه : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحجّ فيضربون عليه الجزية ؛ فذلك قوله تعالى : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين}.
قلت : هذا خرج مخرج التغليظ ؛ ولهذا قال علماؤنا : تضمّنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر فالوعيد يتوجّه عليه ، ولا يجزىء أن يحجّ عنه غيره لأن حج الغير لو أسقط عنه الفرض لسقط عنه الوعيد.
والله أعلم.
وقال سعيد بن جُبير : لو مات جارٌ لي وله مَيْسرة ولم يحج لم أصلّ عليه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 153 ـ 154}(15/224)
وقال الآلوسى :
{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} يحتمل أن يراد بمن كفر من لم يحج وعبر عن ترك الحج بالكفر تغليظاً وتشديداً على تاركه كما وقع مثل ذلك فيما أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وغيرهما عن أبي أمامة من قوله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حالة شاء يهودياً أو نصرانياً " ومثله ما روي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين ، ويحتمل إبقاء الكفر على ظاهره بناءاً على ما أخرج ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن عكرمة "أنه لما نزلت {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا} [ آل عمران : 85 ] الآية قال اليهود : فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى فرض على المسلمين حج البيت فقالوا لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا فنزل {وَمَن كَفَرَ} " الآية. ومن طريق الضحاك أنه لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال : إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلا المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله فأنزل الله سبحانه {وَمَن كَفَرَ} الخ وإلى إبقائه على ظاهره ذهب ابن عباس ، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية : {وَمَن كَفَرَ} بالحج فلم ير حجه براً ولا تركه مأثماً ، وروى ابن جرير أن الآية لما نزلت قام رجل من هذيل فقال : يا رسول الله من تركه كفر ؟ قال : " من تركه لا يخاف عقوبته ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك " ، وعلى كلا الاحتمالين لا تصلح الآية(15/225)
دليلاً لمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 13}
وقال العلامة ابن عطية :
هذا كفر معصية ، كقوله عليه السلام ، من ترك الصلاة فقد كفر وقوله : لا ترجعوا بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، على أظهر محتملات هذا الحديث. وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة ، ومعنى قوله تعالى : {غني عن العالمين} الوعيد لمن كفر ، والقصد بالكلام ، فإن الله غني عنهم ، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى ، وينتبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا رَبَّ سواه. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 480}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ظاهره أنه مقابل قوله : {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فيكون المراد بمن كفر من لم يحج مع الاستطاعة ، ولذلك قال جمع من المحققين : إن الإخبار عنه بالكفر هنا تغليط لأمر ترك الحج.
والمراد كفر النعمة.
ويجوز أيضا أن يراد تشويه صنعه بأنه كصنيع من لا يؤمن بالله ورسله وفضيلة حرمه.
وقال قوم : أراد ومن كفر بفرض الحج ، وقال قوم بظاهره : إن ترك الحج مع القدرة عليه كفر.
ونسب للحسن.
ولم يلتزم جماعة من المفسرين أن يكون العطف للمقابلة وجعلوها جملة مستقلة.
كالتذييل ، بين بها عدم اكتراث الله بمن كفر به.
وعندي أنه يجوز أن يكون المراد بمن كفر من كفر بالإسلام ، وذلك تعريض بالمشركين من أهل مكة بأنه لا اعتداد بحجهم عند الله وإنما يريد الله أن يحج المؤمنون به والموحدون له.(15/226)
وفي قوله : {غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} رمز إلى نزعه ولاية الحرم من أيديهم : لأنه لما فرض الحج وهم يصدون عنه ، وأعلمنا أنه غني عن الناس ، فهو لا يعجزه من يصد الناس عن مراده تعالى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 168 ـ 169}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان ، منها ما يكون أصله معقولاً إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم الله أما كيفية الصلاة فغير معقولة ، وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة ، والصوم أصله معقول ، وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة ، أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة ، فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة.
إذا عرفت هذا فنقول : قال المحققون إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول ، وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه ، أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية ، فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد
أحدها : قوله {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} والمعنى أنه سبحانه لكونه إلها ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا
وثانيها : أنه ذكر {الناس} ثم أبدل منه {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} وفيه ضربان من التأكيد ، أما أولاً فلأن الإبدال تثنية للمراد وتكرير ، وذلك يدل على شدة العناية ، وأما ثانياً فلأنه أجمل أولاً وفصل ثانياً وذلك يدل على شدة الاهتمام(15/227)
وثالثها : أنه سبحانه عبّر عن هذا الوجوب بعبارتين إحداهما : لام الملك في قوله {وَللَّهِ} وثانيتهما : كلمة {على} وهي للوجوب في قوله {وَللَّهِ عَلَى الناس}
ورابعها : أن ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كل إنسان يستطيعه ، وتعميم التكليف يدل على شدة الاهتمام
وخامسها : أنه قال {وَمَن كَفَرَ} مكان ، ومن لم يحج وهذا تغليظ شديد في حق تارك الحج
وسادسها : ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان
وسابعها : قوله {عَنِ العالمين} ولم يقل عنه لأن المستغني عن كل العالمين أولى أن يكون مستغنياً عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته ، فكان ذلك أدل على السخط
وثامنها : أن في أول الآية قال : {وَللَّهِ عَلَى الناس} فبيّن أن هذا الإيجاب كان لمجرد عزة الإلهية وكبرياء الربوبية ، لا لجر نفع ولا لدفع ضر ، ثم أكد هذا في آخر الآية بقوله {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} ومما يدل من الأخبار على تأكيد الأمر بالحج ، قوله عليه الصلاة والسلام : " حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالث " وروي " حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه " قيل : معناه أنه يتعذر عليكم السفر في البر في مكة لعدم الأمن أو غيره ، وعن ابن مسعود " حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا هلكت ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 135 ـ 136}
فائدة
قال ابن عادل : (15/228)
وقوله : {وَمَن كَفَرَ} يجوز أن تكون الشرطية - وهو الظاهر - ويجوز أن تكون الموصولة ، ودخلت الفاء ؛ شبهاً للموصول باسم الشرط كما تقدم ، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين ، ولا بد من رابط بين الشرط وجزائه ، أو المبتدأ وخبره ، ومن جوَّز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله : {غَنِيٌّ عَنِ العالمين} كأنه قال : غني عنهم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 418}
فصل
قال ابن كثير :
وقوله : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} هذه آية وُجُوب الحج عند الجمهور. وقيل : بل هي قوله : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة : 196] والأول أظهر.
وقد وَرَدَت الأحاديثُ المتعددة بأنه أحدُ أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا ، وإنما يجب على المكلَّف في العُمْر مَرّة واحدة بالنص والإجماع.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الربيع بن مسلم القُرَشيّ ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا". فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ". ثم قال : "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ". ورواه مسلم ، عن زُهَير بن حرب ، عن يزيد بن هارون ، به نحوه. {المسند (2/508) وصحيح مسلم برقم (1337)}.(15/229)
وقد روى سُفْيان بن حسين ، وسليمان بن كثير ، وعبد الجليل بن حُمَيد ، ومحمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن أبي سنَان الدؤلي -واسمه يزيد بن أمية-عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يَأيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُم الحَجَّ". فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ قال : "لَوْ قُلْتُهَا ، لَوَجَبَتْ ، ولَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا ، وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْمَلُوا بِهَا ؛ الحَجُّ مَرَّةً ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ".
رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والحاكم من حديث الزهري ، به. ورواه شريك ، عن سِمَاك ، عن عِكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه. وروي من حديث أسامة يزيد. {المسند (1/290) وسنن أبي داود برقم (1721) وسنن النسائي (5/111) وسنن ابن ماجة برقم (2886) والمستدرك (2/293)}.
وقال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وَرْدَان ، عن علي بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البَخْتَرِيّ ، عن علِيّ قال : لما نزلت : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} قالوا : يا رسول الله ، في كل عام ؟ فسكت ، قالوا : يا رسول الله ، في كل عام ؟ قال : "لا ولَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ". فأنزل الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة : 101].
وكذا رواه الترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، من حديث منصور بن وَرْدان ، به : ثم قال الترمذي : حسن غريب. وفيما قال نظر ؛ لأن البخاري قال : لم يسمع أبو البَخْتَرِيّ من عليّ. {المسند (1/113) وسنن الترمذي برقم (3055) وسنن ابن ماجة برقم (2884) والمستدرك (2/294)}.(15/230)
وقال ابن ماجة : حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَيْر ، حدثنا محمد بن أبي عُبَيدة ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك قال : قالوا : يا رسول الله ، الحج في كل عام ؟ قال : "لَوْ قُلْتُ : نعم ، لوجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا ، ولَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَعُذِّبتُمْ". {سنن ابن ماجة برقم (2885) وقال البوصيري في الزوائد (3/4) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"}.
وفي الصحيحين من حديث ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن جابر ، عن سُراقة بن مالك قال : يا رسول الله ، مُتْعَتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال : "لا بَلْ لِلأبَدِ". وفي رواية : "بل لأبَد أبَدٍ". {صحيح البخاري برقم (2505) وصحيح مسلم برقم (1216)}.
وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود ، من حديث واقد بن أبي واقد الليثي ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته : "هَذِه ثُمَّ ظُهُورَ الحُصْر" . {المسند (5/218 ، 219) وسنن أبي داود برقم (1722)}.
يعني : ثم الزَمْنَ ظُهور الحصر ، ولا تخرجن من البيوت.
وأما الاستطاعة فأقسام : تارة يكون الشخص مستطيعا بنفسه ، وتارة بغيره ، كما هو مقرر في كتب الأحكام.
قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عَبْدُ بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد قال : سمعت محمَّد بن عَبَّاد بن جعفر يحدث عن ابن عمر قال : قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : مَن الحاجّ يا رسول الله ؟ قال : "الشَّعثُ التَّفِل" فقام آخر فقال : أيّ الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال : "العَجُّ والثَّجُّ" ، فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله ؟ قال : "الزَّادُ والرَّاحِلَة".(15/231)
وهكذا رواه ابن ماجة من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخُوزي. قال الترمذي : ولا نعرفه إلا من حديثه ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. كذا قال هاهنا. وقال في كتاب الحَجّ : هذا حديث حسن. {سنن الترمذي برقم (813) ، (2998) وسنن ابن ماجة برقم (2896)}.
أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 81 ـ 83}(15/232)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
قال عليه الرحمة :
البيت حَجَرةٌ والعبد مَدَرَةٌ ، فَرَبَطَ المدرة بالحجرة ، فالمدر مع الحجر. وتعزَّز وتَقَدَّس من لم يزل.
ويقال البيت مطاف النفوس ، والحق سبحانه مقصود القلوب!
البيت أطلال وآثار وإنما هي رسوم وأحجار ولكن :
تلك آثارنا تدلُّ علينا... فانظروا بعدنا إلى الآثار
ويقال البيت حجر ، ولكن ليس كل حجر كالذي يجانسه من الحجر.
حَجَرٌ ولكن لقلوب الأحباب مزعج بل لأكباد الفقراء منفج ، لا بل لقلوب قومٍ مِثْلِجٌ مبهج ، ولقلوب الآخرين منفج مزعج.
وهم على أصناف : بيت هو مقصد الأحباب ومزارهم ، وعنده يسمع أخبارهم ويشهد آثارهم.
بيت من طالعه بعين التفرقة عاد بسرٍ خراب ، ومن لاحظه بعين الإضافة حظي بكل تقريب وإيجاب ، كما قيل :
إن الديار - وإن صَمَتَتْ - فإنَّ لها... عهداً بأحبابنا إذ عندها نزلوا
بيت من زاره بنفسه وجد ألطافه ، ومن شهده بقلبه نال كشوفاته.
ويقال قال سبحانه : {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ} [ الحج : 26 ] وأضافه إلى نفسه ، وقال ها هنا : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وفي هذا طرف من الإشارة إلى عين الجمع.
وسميت ( بكة ) لازدحام الناس ، فالكلُّ يتناجزون على البدار إليه ، ويزدحمون في الطواف حواليْه ، ويبذلون المهج في الطريق ليصلوا إليه.
والبيت لم يخاطِب أحداً منذ بنِيَ بُمْنَيةٍ ، ولم يستقبل أحداً بحظوة ، ولا راسل أحداً بسطر في رسالة ، فإذا كان البيت الذي خلقه من حجر - هذا وصفه في التعزز فما ظنُّك بِمَن البيتُ له. قال صلى الله عليه وسلم مخبراً عنه سبحانه : " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ".
ويقال إذا كان البيت المنسوب إليه لا تصل إليه من ناحية من نواحيه إلا بقطع المفاوز والمتاهات فكيف تطمع أن تصل إلى ربِّ البيت بالهوينى دون تحمُّل المشقات ومفارقة الراحات ؟!(15/233)
ويقال لا تُعِلِّق قلبك بأول بيتٍ وضع لَكَ ولكن أَفْرِدْ سِرَّكَ لأول حبيبٍ آثرك.
ويقال شتَّان بين عبدٍ اعتكف عند أول بيتٍ وُضِع له وبين عبدٍ لازم حضرة أول عزيز كان له.
ويقال ازدحام الفقراء بهممهم حول البيت ليس بأقل من ازدحام الطائفين بِقَدَمِهم ، فالأغنياء يزورون البيت ، ويطوفون بِقَدَمِهم ، والفقراء يبقون عنه فيطوفون حوله بهممهم.
ويقال الكعبة بيت الحق سبحانه في الحجر ، والقلب بيت الحق سبحانه في السِّر ، قال قائلهم :
لستُ من جملة المحبين إنْ لم... أجعل القلبَ بيته والمقاما
وطوافي إجالة السِّر فيه... وهو ركني إذا أردت استلاما
فاللطائف تطوف بقلوب العارفين ، والحقائق تعتكف في قلوب الموحِّدين ، والكعبة مقصود العبد بالحج ، والقلب مقصود الحق بإفراده إياه بالتوحيد والوجد.
قوله جلّ ذكره : {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}.
بركاته اتصال الألطاف والكشوفات ، فَمَنْ قصده بهمته ، ونزل عليه بقصده هداه إلى طريق رُشْدِه.
قوله جلّ ذكره : {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}.
ولكن لا تُدْرَكُ تلك الآيات بأبصار الرؤوس ولكن ببصائر القلوب.(15/234)
قوله جلّ ذكره : {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}.
شرط الغَنيِّ ألا يَدَّخِر عن البيت شيئاً مِنْ مالِه ، وشرط الفقير ألا يدخر عن الوصول إلى بيته نَفَساً من روحه.
ويقال الاستطاعة فنون ؛ فمستطيع بنفسه ومَالِه وهو الصحيح السليم ، ومستطيع بغيره وهو الزَّمِنُ المعصوب ، وثالث غفل الكثيرون عنه وهو مستطيع بربه وهذا نعت كل مخلص مستحق فإن بلاياه لا تحملها إلا مطايانا.
ويقال حج البيتِ فَرْضٌ على أصحاب الأموال ، وربِّ البيتِ فَرْضٌ على الفقراء فرض حتم ؛ فقد يَنْسَدُّ الطريق إلى البيت ولكن لا ينسدُّ الطريق إلى رب البيت ، ولا يُمْنَعُ الفقير عن ربِّ البيت.
ويقال الحج هو القصد إلى مَنْ تُعَظِّمه : فقاصدٌ بنفسه إلى زيارة البيت ، وقاصد بقلبه إلى شهود رب البيت ، فشتان بين حج وحج ، هؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند قضاء منسكهم وأداء فَرضِهم ، وهؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند شهود ربهم ، فأمَّا القاصدون بنفوسهم فأحرموا عن المعهودات من محرمات الإحرام ، وأمَّا القاصدون بقلوبهم فإنهم أحرموا عن المساكنات وشهود الغير وجميع الأنام.
قوله جلّ ذكره : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ}.
ضرب رقم الكفر على من ترك حج البيت ، ووقعت بسبب هذا القول قلوب العلماء في كدِّ التأويل ، ثم قال : {فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ} وهذا زيادة تهديد تدل عَلى زيادة تخصيص.(15/235)
ويقال إن سبيل من حج البيت أن يقوم بآداب الحج ، فإذا عقد بقلبه الإحرام يجب أن يفسخ كلَّ عَقْدٍ يصدُّه عن هذا الطريق ، وينقض كل عزم يرده عن هذا التحقيق ، وإذا طَهَّرَ تَطَهَّرَ عن كل دَنَسٍ من آثار الأغيار بماء الخجل ثم بماء الحياء ثم بماء الوفاء ثم بماء الصفاء ، فإذا تجرَّد عن ثيابه تجرد عن كل ملبوسٍ له من الأخلاق الذميمة ، وإذا لبَّى بلسانه وجب ألا تبقى شَعْرَةٌ مِنْ بَدَنِهِ إلا وقد استجابت لله. فإذا بلغ الموقف وقف بقلبه وسِرِّه حيث وقفه الحق بلا اختيار مقام ، ولا تعرض لتخصيص ؛ فإذا وقف بعرفات عرف الحق سبحانه ، وعرف له تعالى حقَّه على نفسه ، ويتعرَّف إلى الله تعالى بِتَبَرِّيه عن مُنَّتِه وحَوْلِه ، والحقُّ سبحانه يتعرَّف إليه بِمِنَّته وطَوْله ، فإذا بلغ المشعر الحرام يذكر مولاه بنسيان نفسه ، ولا يصحُّ ذكرُه لربِّه مع ذكره لنفسه ، فإذا بلغ مَنيّ نفى عن قلبه كل طَلَبٍ ومُنَى ، وكلَّ شهوةٍ وهوى.
وإذا رمى الجمار رمى عن قلبه وقذف عن سره كل علاقة في الدنيا والعقبى.
وإذا ذبح ذبح هواه بالكلية ، وتَقَرَّب به إلى الحق سبحانه ، فإذا دخل الحَرَمَ عَزَمَ على التباعد عن كل مُحرَّم على لسان الشريعة وإشارة الحقيقة.
وإذا وقع طَرْفُه على البيت شهد بقلبه ربَّ البيت ، فإذا طاف بالبيت أخذ سِرُّه بالجولان في الملكوت.
فإذا سعى بين الصفا والمروة صفَّى عنه كل كدورة بشرية وكل آفة إنسانية.
فإذا حَلَقَ قطع كلَّ علاقة بقيت له.
وإذا تحلل من إحرام نفسه وقصده إلى بيت ربِّه استأنف إحراماً جديداً بقلبه ، فكما خرج من بيت نفسه إلى بيت ربه يخرج من بيت ربه إلى ربه تعالى.
فمن أكمل نُسْكَه فإنما عمل لنفسه ، ومن تكاسل فإنَّ الله غني عن العالمين وقال صلى الله عليه وسلم : " الحاج أشعث أغبر " ، فمن لم يتحقق بكمال الخضوع والذوبان عن كليته فليس بأشعث ولا أغبر.
أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 260 ـ 264}. بتصرف يسير.(15/236)
من فوائد ولطائف العلامة ابن القيم فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} حج البيت مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله على الناس لأنه وجوب والوجوب يقتضي على ويجوز أن يكون في قوله ولله لأنه يتضمن الوجوب والاستحقاق ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير وكان الأحق أن يكون ولله ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله : "حج البيت على الناس" أكثر استعمالا في باب الوجوب من أن يقال حج البيت لله تعالى أي حق واجب لله فتأمله وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان إحداهما : أنه اسم للموجب للحج فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب فتضمنت الآية ثلاثة أمور مرتبة بحسب الوقائع أحدها : الموجب لهذا الفرض فبديء بذكره والثاني : مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس والثالث : النسبة(15/237)
والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا وأداء وهو الحج والفائدة الثانية : أن الاسم المجرور من حيث كان لله تعالى اسما سبحانه وجب الاهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه وتخويفا من تضييعه إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما أوجبه غيره وأما قوله : من فهي بدل وقد استهوى طائفة من الناس بأنها فاعل المصدر كأنه قال : "أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا" وهذا القول يضعف من وجوه منها أن الحج فرض عين ولو كان معنى الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم لأن المعنى يؤول إلى ولله على الناس أن يحج البيت مستطيعهم فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين وليس الأمر كذلك بل الحج فرض عين على كل أحد حج المستطيعون أو قعدوا ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه فإذا حج أسقط الفرض عن نفسه وليس حج المستطيعين بمسقط للفرض عن العاجزين وإن أردت زيادة إيضاح فإذا قلت : واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعة للجهاد فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب عن غيرهم وإذا قلت : واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال ولله حج البيت على المستطيعين هذه النكتة البديعة فتأملها الوجه الثاني : أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر إليه وكان يقال ولله على الناس حج البيت من استطاع وحمله على باب يعجبني ضرب زيدا عمرو مما يفصل به بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكثور المرجوح وهي قراءة ابن عامر قتل(15/238)
أولادهم بفتح الدال شركائهم فلا يصار إليه وإذا ثبت أن من بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى الناس كأنه قيل : من استطاع منهم وحذف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يحسن وحسنه هاهنا أمور منها أن من واقعة على من يعقل كالاسم المبدل منه فارتبطت به ومنها : أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد ومثال ذلك إذا قلت : رأيت أخواتك من ذهب إلى السوق تريد من ذهب منهم لكان قبيحا لأن الذاهب إلى السوق أعم من الأخوة وكذلك لو قلت البس الثياب ما حسن وجمل تريد منها ولم تذكر الضمير لكان أبعد في الجواز لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب وباب بدل البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص ومما حسن حذف الضمير في هذه الآية أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول وأما المجرور من قوله إليه فيحتمل وجهين أحدهما : أن يكون في موضع حال من سبيل كأنه نعت نكرة قدم عليها لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل والثاني أن يكون متعلقا بسبيل فإن قيل : كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل قيل : السبيل كان هاهنا عبارة عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما كان فيه رائحة الفعل ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق فصلح تعلق المجرور به واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير لأنه ضمير يعود على البيت والبيت هو المقصود به الاعتناء وهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعنى هذا تعبير السهيلي وهو بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين ولا يليق بالآية سواه وهو الوجوب المفهوم من قوله على الناس أي يجب على الناس الحج فهو حق واجب وأما تعليقه بالسبيل أو جعله حالا(15/239)
منها ففي غاية البعد فتأمله ولا يكاد يخطر بالبال من الآية وهذا كما يقول لله عليك الحج ولله عليك الصلاة والزكاة ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي وهو الأكثر أو بلفظ الإيجاب والكتاب والتحريم نحو : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} نظم الآية وتأكد الوجوب وفي الحج أتى بهذا النظم الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه أحدها : أن قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على ثم أبدل منه أهل الاستطاعة ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي سبيل تيسرت من قوت أو مال فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال : ومن كفر أي بعدم التزام هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه والله تعالى هو الغني الحميد ولا حاجة به إلى حج أحد وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو من أعظم التهديد وأبلغه ثم أكد ذلك بذكر اسم العالمين عموما ولم يقل فإن الله غني عنه لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه عن كل أحد بكل اعتبار وكان أدل على عظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه ثم أكد هذا المعنى بأداة إن الدالة على التوكيد فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكيد هذا الغرض العظيم وتأمل سر البدل في الآية المقتضى لذكر الإسناد مرتين مرة بإسناده إلى عموم الناس ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرار الإسناد ولهذا كان فيه نية تكرار العامل وإعادته ثم تأمل ما في الآية من(15/240)
الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وحلتين اعتناء به وتأكيدا لشأنه ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه وإن لم يطلب ذلك منها فقال : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فوصفه بخمس صفات أحدها : أنه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض الثاني : أنه مبارك والبركة كثرة الخير ودوامه وليس في بيوت العالم
أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق الثالث : أنه هدى وصفه بالمصدر نفسه مبالغة حتى كأنه هو نفس الهدى الرابع : ما تضمنه من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية الخامس : الأمن لداخله وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات وهذا يدلك على الاعتناء منه سبحانه بهذا البيت العظيم والتنويه بذكره والتعظيم لشأنه والرفعة من قدره ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله : {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسلبت نفوسهم حبا له وشوقا إلى رؤيته فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا كلما ازدادوا له زيادة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسلبهم كما قيل :
أطوف به والنفس بعد مشوقة ... إليه وهل بعد الطواف تداني
وألثم منه الركن أطلب برد ما ... بقلبي من شوق ومن هيمان
فو الله ما أزداد إلا صبابة ... ولا القلب إلا كثرة الخفقان(15/241)
فيا جنة المأوى ويا غاية المنى ... ويا منيتي من دون كل أمان
أبت غلبات الشوق إلا تقربا ... إليك فما لي بالبعاد يدان
وما كان صدى عنك صد ملالة ... ولي شاهد من مقلني ولساني
دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا ... فلبى البكا والصبر عنك عصاني
وقد زعموا أن المحب إذا نأى ... سيبلى هواه بعد طول زمان
ولو كان هذا الزعم حقا لكان ذا ... دواء الهوى في الناس كل أوان
بل إنه يبلى التصبر والهوى ... على حاله لم يبله الملوان
وهذا محب قاده الشوق والهوى ... بغير زمام قائد وعنان
أتاك على بعد المزار ولو ونت ... مطيته جاءت به القدمان. أ هـ {بدائع الفوائد حـ 2 صـ 43 ـ 46}(15/242)
قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أتم سبحانه وعز شأنه البراهين وأحكم الدلائل عقلاً وسمعاً ، ولم يبق لمتعنت شبهة ، ولم يبادروا الإذعان ، بل زادوا في الطغيان ، وكادوا أن يوقعوا الضراب والطعان بين أهل الإيمان ، أعرض سبحانه وتعالى عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب ورابع الانتقام فقال سبحانه وتعالى مخاطباً لرسوله الذي يكون قتلهم على يده : {قل} وأثبت أداة دالة على بعدهم عن الحضرة القدسية فقال : {يا أهل الكتاب} أي من الفريقين {لم تكفرون} أي توقعون الكفر {بآيات الله} أي وهي - لكونه الحائز بجميع الكمال - البينات نقلاً وعقلاً الدالة على أنكم على الباطل لما وضح من أنكم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ولما كان كفرهم ظاهراً ذكر شهادته تعالى فقال مهدداً {والله} أي والحال أن الله الذي هو محيط بكل شيء قدرة وعلماً فلا إله غيره وقد أشركتم به {شهيد على} كل {ما تعملون} أي لكونه يعلم سبحانه السر وأخفى وإن حرفتم وأسررتم.
ثم استأنف إيذاناً بالاستقلال تقريعاً آخر لزيادتهم على الكفر التكفير فقال : {قل يا آهل الكتاب} أي المدعين للعلم واتباع الوحي ، كرر هذا الوصف لأنه مع أنه أبعد في التقريع أقرب إلى التطلف في صرفهم عن ضلالهم {لم تصدون} أي بعد كفركم {عن سبيل الله} أي الملك الذي له القهر والعز والعظمة والاختصاص بجميع صفات الكمال ، وسبيله دينه الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وقدمه اهتماماً به.(15/243)
ثم ذكر المفعول فقال : {من أمن} حال كونكم {تبغونها} أي السبيل {عوجاً} أي بليكم ألسنتكم وافترائكم على الله ، ولم يفعل سبحانه وتعالى إذ أعرض عنهم في هذه الآية ما فعل من قبل إذ أقبل عليهم بلذيذ خطابه تعالى جده وتعاظم مجده إذ قال : {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم} [ آل عمران : 65 ] {يا أهل الكتاب لم تكفرون} [ آل عمران : 70 ] والآية التي بعدها بغير واسطة.
ولما ذكر صدهم وإرادتهم العوج الذي لا يرضاه ذو عقل قال موبخاً : {وأنتم شهداء} أي باستقامتها بشهادتكم باستقامة دين إبراهيم مع قيام أدلة السمع والعقل أنها دينه وأن النبي والمؤمنين أولى الناس به لانقيادهم للأدلة.
ولما كان الشهيد قد يغفل ، وكانوا يخفون مكرهم في صدهم ، هددهم بإحاطة علمه فقال : {وما الله} أي الذي تقدم أنه شهيد عليكم وله صفات الكمال كلها {بغافل} أي أصلاً {عما تعملون}. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 129 ـ 130}. بتصرف يسير.
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ}
ابتداء كرم رُجع به إلى مجادلة أهل الكتاب وموعظتهم فهو مرتبط بقوله تعالى : {قل صدق اللَّه} الآية.
أمر الرّسول عليه الصلاة والسّلام بالصدع بالإنكار على أهل الكتاب.
بعد أن مهّد بين يدي ذلك دلائل صحَّة هذا الدّين ولذلك افتتح بفعل {قل} اهتماماً بالمقول ، وافتتح المقولُ بنداء أهل الكتاب تسجيلاً عليهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 169}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن في كيفية النظم وجهين
الأول : وهو الأوفق : أنه تعالى لما أورد الدلائل على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام مما ورد في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه ، ثم ذكر عقيب ذلك شبهات القوم.
فالشبهة الأولى : ما يتعلق بإنكار النسخ.(15/244)
وأجاب عنها بقوله {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل على نَفْسِهِ} [ آل عمران : 93 ].
والشبهة الثانية : ما يتعلق بالكعبة ووجوب استقبالها في الصلاة ووجوب حجها.
وأجاب عنها بقوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [ آل عمران : 96 ] إلى آخرها ، فعند هذا تمت وظيفة الاستدلال وكمل الجواب عن شبهات أرباب الضلال ، فعند ذلك خاطبهم بالكلام اللين وقال : {لِمَ تَكْفُرُونَ بآيات الله} بعد ظهور البينات وزوال الشبهات ، وهذا هو الغاية القصوى في ترتيب الكلام وحسن نظمه.
الوجه الثاني : وهو أنه تعالى لما بين فضائل الكعبة ووجوب الحج ، والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق والملة الصحيحة قال لهم : {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ الله} بعد أن علمتم كونها حقة صحيحة.
واعلم أن المبطل إما أن يكون ضالاً فقط ، وإما أن يكون مع كونه ضالاً يكون مضلاً ، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً فبدأ تعالى بالإنكار عليهم في الصفة الأولى على سبيل الرفق واللطف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 136 ـ 137}
فصل
قال الفخر :
قوله {يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ الله} واختلفوا فيمن المراد بأهل الكتاب ، فقال الحسن : هم علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوته ، واستدل عليه بقوله {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} وقال بعضهم : بل المراد كل أهل الكتاب لأنهم وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم فكأنهم بترك الاستدلال والعدول إلى التقليد بمنزلة من علم ثم أنكر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 137}(15/245)
سؤال : فإن قيل : ولم خص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار ؟.
قلنا لوجهين : الأول : أنا بينا أنه تعالى أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم أجاب عن شبههم في ذلك ، ثم لما تمّ ذلك خاطبهم فقال : {يا أَهْل الكتاب} فهذا الترتيب الصحيح
الثاني : أن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة ، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول والبشارة بنبوته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 137}
وقال الطبرى :
يعني بذلك : يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر من ينتحل الدِّيانة بما أنزلَ الله عز وجل من كتبه ، ممن كفَر بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحد نبوَّته : "لم تكفرون بآيات الله" ، يقول : لم تجحدونُ حجج الله التي آتاها محمدًا في كتبكم وغيرها ، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوَّته وحُجته.
وأنتم تعلمون : يقول : لم تجحدون ذلك من أمره ، وأنتم تعلمون صدقه ؟ فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم متعمِّدون الكفر بالله وبرسوله على علم منهم ، ومعرفةٍ من كفرهم. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 52}
فصل
قال الفخر :
قالت المعتزلة في قوله تعالى : {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ الله} دلالة على أن الكفر من قبلهم حتى يصح هذا التوبيخ وكذلك لا يصح توبيخهم على طولهم وصحتهم ومرضهم.
والجواب عنه : المعارضة بالعلم والداعي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 137}
فصل
قال الفخر :
المراد {مِنْ آيات الله} الآيات التي نصبها الله تعالى على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، والمراد بكفرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم قال : {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} الواو للحال والمعنى : لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد عليه الصلاة والسلام ، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها وهذه الحال توجب أن لا تجترؤا على الكفر بآياته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 137}(15/246)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بئايات الله} خاطبهم بعنوان أهلية الكتاب الموجبة للإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم بذلك والاستفهام للتوبيخ والإشارة إلى تعجيزهم عن إقامة العذر في كفرهم كأنه قيل : هاتوا عذركم إن أمكنكم. والمراد من الآيات مطلق الدلائل الدالة على نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وصدق مدعاه الذي من جملته الحج وأمره به ، وبه تظهر مناسبة الآية لما قبلها ، وسبب نزولها ما أخرجه ابن إسحاق وجماعة عن زيد بن أسلم قال : مرّ شاس بن قيس وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار فأمر فتى شاباً معه من يهود فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل ، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وهبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن وغضب الفريقان جميعاً وقالوا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة والظاهرة الحرة فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من(15/247)
أصحابه حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين اللَّهَ اللَّهَ أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله تعالى إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله تعالى عنهم كيد عدو الله تعالى شماس ، وأنزل الله تعالى في شأن شاس وما صنع {قُلْ يا أهل أَهْلِ الكتاب لَمَن تَكْفُرُونِ} إلى قوله سبحانه : {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} [ آل عمران : 98 ، 99 ] وأنزل في أوس بن قيظي وهبار ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا {المحسنين يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ} [ آل عمران : 149 ] الآية ، وعلى هذا يكون المراد من أهل الكتاب ظاهراً اليهود. وقيل : المراد منه ما يشمل اليهود والنصارى.
{والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} جملة حالية العامل فيها {تَكْفُرُونِ} وهي مفيدة لتشديد التوبيخ والإظهار في موضع الإضمار لما مرّ غير مرة والشهيد العالم المطلع ، وصيغة المبالغة للمبالغة في الوعيد وجعل الشهيد بمعنى الشاهد تكلف لا داعي إليه ، و{مَا} إما عبارة عن كفرهم ، وإما على عمومها وهو داخل فيها دخولاً أولياً والمعنى لأي سبب تكفرون ، والحال أنه لا يخفى عليه بوجه من الوجوه جميع أعمالكم وهو مجازيكم عليها على أتم وجه ولا مرية في أن هذا مما يسد عليكم طرق الكفر والمعاصي ويقطع أسباب ذلك أصلاً. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 14 ـ 15}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
الخطاب بهذه الآية لتأكيد الحجة عليهم ، ومن حيث الحقيقة والقهر يَسُدُّ الحجة عليهم ، فهم مدعوون - شرعاً وأمراً ، مطرودون - حُكْماً وقهراً. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 265}(15/248)
قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}
قال الفخر :
إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال : {قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءَامَنَ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 138}
قال ابن عاشور :
وقوله : {قل يا أهل الكتاب لم تصدون} توبيخ ثان وإنكار على مجادلتهم لإضلالهم المؤمنين بعد أن أنكر عليهم ضلالهم في نفوسهم ، وفُصِل بلا عطف للدلالة على استقلاله بالقصد ، ولو عطف لصحّ العطف. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 169 ـ 170}
فائدة
قال البيضاوى :
{قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ} كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم ، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 71}
فائدة
قال الفخر :
قال المفسرون : وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من المسلمين وكانوا ينكرون كون صفته صلى الله عليه وسلم في كتابهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 138}(15/249)
قوله تعالى : {تَبْغُونَهَا عِوَجاً}
فصل
قال الفخر :
العوج بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى ، وهو الدين والقول ، فأما الشيء الذي يرى فيقال فيه : عوج بفتح العين كالحائط والقناة والشجرة ، قال ابن الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك : بغيت المال والأجر والثواب وأُريد ههنا : تبغون لها عوجاً ، ثم أسقطت اللام كما قالوا : وهبتك درهماً أي وهبت لك درهماً ، ومثله صدت لك ظبياً وأنشد :
فتولى غلامهم ثم نادى.. أظليما أصيدكم أم حماراً
أراد أصيد لكم والهاء في {تَبْغُونَهَا} عائدة إلى {السبيل} لأن السبيل يؤنث ويذكر و{العوج} يعني به الزيغ والتحريف ، أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي توردونها على الضعفة نحو قولهم : النسخ يدل على البداء وقولهم : إنه ورد في التوراة أن شريعة موسى عليه السلام باقية إلى الأبد ، وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون {عِوَجَا} في موضع الحال والمعنى : تبغونها ضالين وذلك أنهم كأنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقال الله تعالى : إنكم تبغون سبيل الله ضالين وعلى هذا القول لا يحتاج إلى إضمار اللام في تبغونها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 138}
قوله تعالى : {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء}
قال الفخر :
فيه وجوه
الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أنتم شهداء أن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام
الثاني : وأنتم شهداء على ظهور المعجزات على نبوته صلى الله عليه وسلم
الثالث : وأنتم شهداء أنه لا يجوز الصد عن سبيل الله
الرابع : وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ويعولون على شهادتكم في عظام الأمور وهم الأحبار والمعنى : أن من كان كذلك فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 138}
وقال ابن عاشور : (15/250)
وقوله : {وأنتم شهداء} حال أيضاً توازن الحال في قوله قبلها {والله شهيد على ما تعملون} ومعناه وأنتم عالمون أنّها سبيل الله.
وقد أحالهم في هذا الكلام على ما في ضمائرهم مِمَّا لا يعلمه إلاّ الله لأنّ ذلك هو المقصود من وخز قلوبهم ، وانثنائهم باللائمة على أنفسهم ، ولذلك عقّبه بقوله : {وما الله بغافل عما تعملون} وهو وعيد وتهديد وتذكير لأنَّهم يعلمون أنّ الله يعلم ما تخفي الصدور وهو بمعنى قوله في موعظتهم السابقة {والله شهيد على ما تعملون} إلاّ أنّ هذا أغلظ في التَّوبيخ لما فيه من إبطال اعتقاد غفلته سبحانه ، لأنّ حالهم كانت بمنزلة حال من يعتقد ذلك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 171}
وقال أبو حيان :
{وأنتم شهداء} أي بالعقل نحو : {وألقى السمع وهو شهيد} أي عارف بعقله ، وتارة بالفعل.
نحو قال : {فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} وتارة بإقامة ذلك ، أي شهدتم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثه على ما في التوراة من صفته وصدقه.
وقال الزمخشري : وأنتم شهداء أنها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلا ضال مضلٌّ.
أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ، ويستشهدون في عظام أمورهم ، وهم الأحبار انتهى.
قيل : وفي قوله : {وأنتم شهداء} دلالة على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة ، لأنه تعالى سماهم شهداء ، ولا يصدق هذا الاسم إلا على من يكون له شهادة.
وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع ، فتعين وصفهم بأن تجوز شهادة بعضهم على بعض ، وهو قول أبي حنيفة وجماعة.
والأكثرون على أنَّ شهادتهم لا تقبل بحال ، وأنّهم ليسوا من أهل الشهادة. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 17}
فصل
قال ابن عادل : (15/251)
" لم " : متعلق بالفعل بعده ، و" من آمن " مفعوله والعامة على " تُصِدُّون " - بفتح التاء - من صَدَّ يَصُدُّ - ثلاثياً - ويُستَعْمَل لازماً ومتعدياً.
وقرأ الحسن " تُصِدُّونَ " - بضم التاء - من أصَدَّ - مثل أعد - ووجهه أن يكون عدى " صَدَّ " اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة : [ الطويل ]
أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ...............................
قال الفراء : يقال : صَدَدتُه ، أصُدُّه ، صَدًّا. وأصْدَدتهُ ، إصْداداً.
وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين ، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم.
قوله : {تَبْغُونَهَا} يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً ، أخبر عنهم بذلك - وأن تكون في محل نَصْب على الحال ، وهو أظهر من الأول ؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية - أيضاً - وهي قوله : {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [ البقرة : 84 ].
فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما ، ثم إذا قُلْنا بأنها حال ، ففي صاحبها احتمالان :
أحدهما : أنه فاعل " تَصُدُّونَ ".
والثاني : أنه {سَبِيلِ الله}.
وإن جاز الوجهان لأن الجملة - اشتملت على ضمير كل منهما.
والضمير في {تَبْغُونَهَا} يعود على {سَبِيلِ} فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية ، وقوله : {قُلْ هذه سبيلي} [ يوسف : 108 ].
وقول الشاعر : [ الوافر ]
فَلاَ تَبَْدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ... سَيُصْبحُ سَالِكاً تِلْكَ السَّبِيلا
قوله ( عوجاً ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به ، وذلك أن يُراد بـ " تَبْغُونَ " تطلبون.
قال الزجَّاج والطبريّ : تطلبون لها اعوجاجاً.(15/252)
تقول العرب : ابْغِني كذا - بوصل الألف - أي : أطْلُبه لي ، وأبْغِني كذا - بقطع ، الألف - أي : أعِنِّي على طلبه.
قال ابنُ الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب.
وههنا أريد يبغون لها عوجاً ، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها ، كما قالوا وهبتك درهماً ، يريدون وهبت لك ، ومثله : صِدْتُك ظبياً ، أي : صدت لك.
قال الشاعر : [ الخفيف ]
فَتَوَلَّى غُلاَمُُهُمْ ثُمَّ نَادَى... أظِليماً أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا
يريد : أصيد لكم ظليماً ؟
ومثله : " جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا " ، والأصل جنيت لك ، فحذف ونصب ".
والثاني : أنه حال من فاعل " تَبْغُونََهَا " وذلك أن يُراد بـ " تبغون " معنى تتعدّون ، والبغي : التَّعَدِّي.
والمعنى : تبغون عليها ، أو فيها.
قال الزجاج : كأنه قال تبغونها ضالين ، والعوج بالكسر ، والعوج بالفتح - المَيْل ، ولكن العرب فرَّقوا بينهما ، فخَصُّوا المكسور بالمعاني ، والمفتوح بالأعيان تقول : في دينه وفي كلامه عِوَج - بالكسر ، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ - بالفتح.
قال أبو عبيدة : العِوَج - بالكسر. المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ ، وبالفتح في الحائط والجِذْع.
وقال أبو إسحاق : الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصاً ، وبالفتح فيما له شَخْصٌ.
وقال صاحب المُجْمَل : بالفتح في كل منتصب كالحائط ، والعوَج - يعني : بالكسر - ما كان في بساط ، أو دين ، أو أرض ، أو معاش ، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم.(15/253)
وقال الراغب : العِوَجُ : العطف من حال الانتصاب ، يقال : عُجْتُ البعير بزمامه ، وفلان ما يعوج به - أي : يرجع ، والعَوَج - يعني : بالفتح - يقال فيما يُدْرَك بالبصر كالخشب المتصِب ، ونحوه ، والعِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة ، كما يكون في أرض بسيطة عوج ، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة ، وكالدين والمعاش ، وهذا قريب من قول ابن فارس ؛ لأنه كثيراً ما يأخذ منه.
وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى : {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [ طه : 107 ] - سؤالاً ، حاصله : أنه كيف قيل : عوج - بالكسر - في الأعيان ، وإنما يقال في المعاني ؟
وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ - يأتي إن شاء الله.
والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم ، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد ، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر : [ الوافر ]
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا... كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ
وقول امرئ القيس : [ الكامل ]
عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ
أي : ولم تميلوا ، ومِيلاَ.
وأما قولهم : ما يَعوج زيد بالدواء - أي : ما ينتفع به - فمن مادة أخرى ومعنى آخر.
والعاجُ : العَظْم ، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ ؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لثوبان : " اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَاراً مِنْ عَاج ".
قال القتيبي : العاجُ الذَّبْل ؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة : [ الطويل ]
فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْتَحْلَ عَاجَةً... وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ
قال الأصْمَعِيّ : العاجة : الذبلة ، والجاجة - بجيمين - خَرَزةَ ما تساوي فلساً.(15/254)
وقوله : كَخَاصِي العير ، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحياً مِنْ أمْرٍ ، فيقال : جاء كخاصي العير.
والعير : الحمار ، يعنون جاء مستحياً. ويقال : عاج بالمكان ، وعوَّج به - أي : أقام وقَطَن ، وفي حديث إسماعيلَ - على نبينا وعليه السلام- : " ها أنتم عائجون " أي مقيمون.
وأنشدوا للفرزدق : [ الوافر ]
هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا... نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ ؟
كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ ، مستشهداً به على الإقامة - وليس بظاهر - بل المراد بـ " عائجون " في البيت : سائلون ومُلْتفتون.
وفي الحديث : " ثم عاج رأسه إليها " أي : التفت إليها.
والرجل الأعوج : السيّئ الخُلُق ، وهو بَيِّن العَوَج. والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب. والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً ، ويقال : فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ ، وهو مَدْح ويقال : الحنبة : اعوجاج.
قوله : {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} حال ، إما من فاعل " تَصُدُّونَ " ، وإما من فاعل " تَبْغُونهَا " ، وإما مستأنف وليس بظاهر و" شهداء " جمع شهيد أو شاهد كما تقدم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 421 ـ 424}(15/255)
قوله تعالى : {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ}
قال الفخر :
المراد التهديد ، وهو كقول الرجل لعبده ، وقد أنكر طريقة لا يخفى على ما أنت عليه ولست غافلاً عن أمرك وإنما ختم الآية الأولى بقوله {وَاللَّه شَهِيدٌ} وهذه الآية بقوله {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين ، بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه {والله شَهِيدٌ} وفيما أضمروه {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وإنما كرر في الآيتين قوله {قُلْ يا أهل الكتاب} لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه ، وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 138}(15/256)
من فوائد العلامة أبى السعود فى الآية
قال رحمه الله :
{قُلْ يا أهل الكتاب} أمرٌ بتوبيخهم بالإضلال إثرَ توبيخِهم بالضلال ، والتكريرُ للمبالغة في حمله عليه السلام على تقريعهم وتوبيخِهم ، وتركُ عطفِه على الأمر السابقِ للإيذان باستقلالهم كما أن قطْعَ قولِه تعالى : {لِمَ تَصُدُّونَ} عن قوله تعالى : {لِمَ تَكْفُرُونَ} للإشعار بأن كلَّ واحدٍ من كُفرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها مستقِلةٌ في استتباع اللائمةِ والتقريعِ ، وتكريرُ الخطابِ بعنوان أهليةِ الكتابِ لتأكيد الاستقلالِ وتشديدِ التشنيع فإن ذلك العنوانَ كما يستدعي الإيمانَ بما هو مصدِّقٌ لما معهم يستدعي ترغيبَ الناسِ فيه ، فصدُّهم عنه في أقصى مراتبِ القَباحةِ ولكون صدِّهم في بعض الصورِ بتحريف الكتابِ والكفرِ بالآياتِ الدالةِ على نبُوَّته عليه السلام ، وقرىء تُصِدّون من أصَدَّه {عَن سَبِيلِ الله} أي دينِه الحقِّ الموصلِ إلى السعادة الأبدية ، وهو التوحيدُ وملةُ الإسلام {مَنْ ءامَنَ} مفعول لتصُدُّون قُدِّم عليه الجارُّ والمجرورُ للاهتمام به. كانوا يفتِنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من أراد الدخولَ فيه بجُهدهم ، ويقولون : إن صفتَه عليه السلام ليست في كتابهم ولا تقدّمت البِشارةُ به عندهم ، وقيل : أتت اليهودُ الأوسَ والخزرجَ فذكّروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروبِ ليعودا إلى ما كانوا فيه {تَبْغُونَهَا} على إسقاط الجارِّ وإيصالِ الفعل إلى الضمير كما في قوله :
فتولى غلامُهم ثم نادى... أظليماً أصيدُكم أم حمارا(15/257)
بمعنى أصيدُ لكم أي تطلُبون لسبيل الله التي هي أقومُ السبل {عِوَجَا} اعوجاجاً بأن تَلْبِسوا على الناس وتُوهِموا أن فيه ميلاً عن الحق بنفي النسخِ وتغييرِ صفةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك. والجملةُ حالٌ من فاعل تصُدّون وقيل : من سبيل الله {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} حالٌ من فاعل تصُدون باعتبار تقييدِه بالحال الأولى أو من فاعل تبغونها أي والحالُ أنكم شهداءُ تشهدون بأنها سبيلُ الله لا يحوم حولَها شائبةُ اعوجاجٍ وأن الصدَّ عنها إضلالٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي شهداءُ ( على ) أن في التوراة إن دينَ الله الذي لا يُقبل غيرُه هو الإسلامُ أو وأنتم عدولٌ فيما بينكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وعظائمِ الأمور {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} اعتراضٌ تذييليٌ فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ ، قيل : لما كان صدُّهم للمؤمنين بطريق الخُفْية خُتمت الآيةُ الكريمة بما يحسِمُ مادةَ حيلتهم من إحاطة علمِه تعالى بأعمالهم كما أن كفرَهم بآياتِ الله تعالى لمّا كان بطريق العلانيةِ خُتمت الآية السابقةُ بشهادته تعالى على ما يعملون. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 63 ـ 64}
من لطائف العلامة أبى حيان
قال رحمه الله :
قال الراغب : وقد جاء {يا أهل الكتاب} دون قل ، وجاء هنا قل.
فبدون قل هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق ، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب إلى الانقياد.
ولما قصد الغض منهم ذكر قل تنبيهاً على أنهم غير متساهلين أنْ يخاطبهم بنفسه ، وإنْ كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
وأطلق أهل الكتاب على المدح تارة ، وعلى الذّم أخرى.(15/258)
وأهل القرآن والسنة لا ينطلق إلا على المدح ، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحو : {يكتبون الكتاب بأيديهم} وقد يراد به ما أنزل الله.
وأيضاً فقد يصحُّ أنْ يُقال على سبيل الذمّ والتهكم ، كما لو قيل : يا أهل الكتاب لمن لا يعمل بمقتضاه ، انتهى ما لخص من كلامه. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 16}
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}.
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : " نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ كَانُوا يُغْرُونَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِذِكْرِهِمْ الْحُرُوبَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَنْسَلِخُوا مِنْ الدِّينِ بِالْعَصَبِيَّةِ وَحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ ".
وَعَنْ الْحَسَنِ : " أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فِي كِتْمَانِهِمْ صِفَتَهُ فِي كُتُبِهِمْ ".
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ سَمَّى اللَّهُ الْكُفَّارَ شُهَدَاءَ وَلَيْسُوا حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ ، فَلَا يَصِحُّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ : {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فِي صِحَّةِ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ.
قِيلَ لَهُ : إنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَقُلْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى غَيْرِكُمْ ، وَقَالَ هُنَاكَ : {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} كَمَا قَالَ : {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تَصْدِيقَهُمْ وَصِحَّةَ إجْمَاعِهِمْ.(15/259)
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} وَمَعْنَاهُ غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ : {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا : {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} أَنَّكُمْ عَالِمُونَ بِبُطْلَانِ قَوْلِكُمْ فِي صَدِّكُمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ.
وَالثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ : {شُهَدَاءُ} عُقَلَاءَ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} يَعْنِي : وَهُوَ عَاقِلٌ (1) ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ الدَّلِيلَ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 312 ـ 313}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}
كيف يصد غيره مَنْ هو مصدودٌ في نَفْسِه ؟ إنَّ في هذا لَسِرَّا للربوبية. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 265}
_____________
(1) الأولى حمل الآية على المعنى الأول لأنهم كما أخبر عنهم القرآن يعرفون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يعرفون أبناءهم وأما وصفهم بأنهم عقلاء فهذا مدح وسياق الآية يأباه لأن المقام مقام إنكار وتوبيخ لهم والقرآن قد وبخهم فى أكثر من موضع بقوله {أفلا تعقلون} والعاقل من شأنه أن لا يعادى الحق بل يسارع لقبوله واتباعه. والله أعلم.(15/260)
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تم إيذانه بالسخط على أعدائه وأبلغ في إنذارهم عظيم انتقامه إن داموا على إضلالهم ، أقبل بالبشر على أحبائه ، مواجهاً لهم بلذيذ خطابه وصفي غنائه ، محذراً لهم الاغترار بالمضلين ، ومنبهاً ومرشداً ومذكراً ودالاً على ما ختم به ما قبلها من إحاطة علمه بدقيق مكر اليهود ، فقال سبحانه وتعالى : {يا أيها الذين آمنوا} أي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم {إن تطيعوا فريقاً} أتى بهذا اللفظ لما كان المحذر منه الافتراق والمقاطعة الذي يأتي عيب أهل الكتاب به {من الذين أوتوا الكتاب} أي القاطعين بين الأحباب مثل شأس بن قيس الذي مكر بكم إلى أن أوقع الحرب بينكم ، فلولا النبي الذي رحمكم به ربكم لعدتم إلى شر ما كنتم فيه {يردوكم} وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد : {بعد إيمانكم كافرين} أي غريقين في صفة الكفر ، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها!.(15/261)
ولما حذرهم منهم عظم عليهم طاعتهم بالإنكار والتعجيب من ذلك مع ما هم عليه بعد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحوال الشريفة فقال - عاطفاً على ما تقديره : فكيف تطيعونهم وأنتم تعلمون عداوتهم : {وكيف تكفرون} أي يقع منكم ذلك في وقت من الأوقات على حال من الأحوال {وأنتم تتلى} أي تواصل بالقراءة {عليكم آيات الله} أي علامات الملك الأعظم البينات {وفيكم رسوله} الهادي من الضلالة المنقذ من الجهالة ، فتكونون قد جمعتم إلى موافقة العدو مخالفة الولي وأنتم بعينه وفيكم أمينه {ومن} أي والحال أنه من {يعتصم} أي يجهد نفسه في ربط أموره {بالله} المحيط بكل شيء علماً وقدرةً في جميع أحواله كائناً من كان.
ولما كان من قصر نفسه على من له الكمال كله متوقعاً للفلاح عبر بأداة التوقع مقرونة بفاء السبب فقال : {فقد هدى} وعبر بالمجهول على طريقة كلام القادرين {إلى صراط مستقيم}. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 130 ـ 131}
وقال العلامة أبو السعود :
{يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى المؤمنين تحذيراً لهم عن طاعة أهلِ الكتابِ والافتتانِ بفتنتهم إثرَ توبيخِهم بالإغواء والإضلالِ ردعاً لهم عن ذلك ، وتعليقُ الردِّ بطاعة فريقٍ منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجابِ الاجتنابِ عن مصاحبتهم بالكلية فإنه في قوة أن يُقال : لا تُطيعوا فريقاً الخ ، كما أن تعميمَ التوبيخِ فيما قبله للمبالغة في الزجر أو للمحافظة على سبب النزولِ. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 64}
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}(15/262)
وقال ابن عاشور :
إقبال على خطاب المؤمنين لتحذيرهم من كيد أهل الكتاب وسوء دعائهم المؤمنين ، وقد تفضّل الله على المؤمنين بأن خاطبهم بغير واسطة خلاف خطابه أهل الكتاب إذ قال : {قل يا أهل الكتاب} [ آل عمران : 98 ] ولم يقل : قل يأيُّها الّذين آمنوا.
والفريق : الجماعة من النَّاس ، وأشار به هنا إلى فريق من اليهود وهم شَاس بن قَيس وأصحابه ، أو أراد شاساً وحده ، وجعله فريقاً كما جعل أبا سفيان ناساً قي قوله : "إنّ النّاس قد جمعوا لكم" وسياق الآية مؤذن بأنَّها جرت على حادثة حدثتْ وأنّ لنزولها سبباً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 171}
فصل
قال الفخر : (15/263)
اعلم أنه تعالى لما حذر الفريق من أهل الكتاب في الآية الأولى عن الإغواء والإضلال حذر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم ، روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد ، فاتفق أنه مرّ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج فرآهم في مجلس لهم يتحدثون ، وكان قد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام ، فشق ذلك على اليهودي فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا : السلاح السلاح ، فوصل الخبر إلى النبي عليه السلام ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار ، وقال : أترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم ، وقد أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان ، ومن كيد ذلك اليهودي ، فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} يحتمل أن يكون المراد هذه الواقعة ، ويحتمل أن يكون المراد جميع ما يحاولونه من أنواع الإضلال ، فبيّن تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالاً بعد حال إلى أن يعودوا كفاراً ، والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين ، أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة وثوران المحاربة المؤدية إلى سفك الدماء ، وأما في الدين فظاهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 139}(15/264)
وقال الآلوسى :
خطاب للأوس والخزرج على ما يقتضيه سبب النزول ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللفظ ، وخاطبهم الله تعالى بنفسه بعد ما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب أهل الكتاب إظهاراً لجلالة قدرهم وإشعاراً بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله تعالى ويكلمهم فلا حاجة إلى أن يقال المخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بتقدير قل لهم. والمراد من الفريق بعض غير معين أو هو شاس بن قيس اليهودي ، وفي الاقتصار عليه مبالغة في التحذير ولهذا على ما قيل حذف متعلق الفعل ، وقال بعضهم : هو على معنى إن تطيعوهم في قبول قولهم بإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية
و{كافرين} إما مفعول ثان ليردوكم على تضمين الردّ معنى التصيير كما في قوله :
رمى الحدثان نسوة آل سعد... بمقدار سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضا
ورد وجوههن البيض سودا... أو حال من مفعوله ، قالوا : والأول : أدخل في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفر المفروض بطريق القسر ، و{بَعْدَ} يجوز أن يكون ظرفاً ليردوكم وأن يكون ظرفاً لكافرين وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنه واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل : بعد إيمانكم الراسخ ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 16}(15/265)
وقال الطبرى فى تأويل الآية :
يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله ، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتابَ من أهل التوراة والإنجيل ، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به ، يُضِلُّوكم فيردّوكم بعد تصديقكم رسولَ ربكم ، وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم ، كافرين يقول : جاحدين لما قد آمنتم به وصدَّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جَلّ ثناؤه : أن ينتصحوهم ، ويقبلوا منهم رأيًا أو مشورةً ، ويعلِّمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوُون على غِلٍّ وغِش وحسد وبغض. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 59 ـ 60}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : {يَرُدُّوكُم} رَدَّ ، يجوز أن يُضَمَّن معنى : " صَيَّر " فينصب مفعولَيْن.
ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
رَمَى الحَدَثَانُ نِسْوَةَ سَعْدٍ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا
ويجوز ألا يتضمن ، فيكون المنصوبُ الثاني حالاً.
قوله : {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يجوز أن يكون منصوباً بـ " يَرُدُّوكُمْ " ، وأن يتعلق بـ " كَافِرِينَ " ، ويصير المعنى كالمعنى في قوله : {كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [ آل عمران : 86 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 426}
لطيفة
قال الإمام القشيرى :
الوحشة ليست بلازمة لأصحابها ، بل هي متعدية إلى كل من يحوِّم حول أهلها ، فَمَنْ أطاع عدوَّ الله إلى شؤم صحبة ( الأعداء ) ألقاه في وهدته. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 265}(15/266)
قوله تعالى : {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ ءايات الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}
قال الفخر :
كلمة {كَيْفَ} تعجب ، والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب ، وذلك على الله محال ، والمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله عليهم حالاً بعد حال مع كون الرسول فيهم الذي يزيل كل شبهة ويقرر كل حجة ، كالمانع من وقوعهم في الكفر ، فكان صدور الكفر على الذين كانوا بحضرة الرسول أبعد من هذا الوجه ، فقوله {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين} تنبيه على أن المقصد الأقصى لهؤلاء اليهود والمنافقين أن يردوا المسلمين عن الإسلام ثم أرشد المسلمين إلى أنه يجب أن لا يلتفتوا إلى قولهم ، بل الواجب أن يرجعوا عند كل شبهة يسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى يكشف عنها ويزيل وجه الشبهة فيها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 139}(15/267)
وقال الآلوسى :
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} أي على أيّ حال يقع منكم الكفر {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ ءايات الله} الدالة على توحيده ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم يعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم بتحقيق الحق وإزاحة الشبه ، والجملة وقعت حالاً من ضمير المخاطبين في {تَكْفُرُونِ} والمراد استبعاد أن يقع منهم الكفر وعندهم ما يأباه. وقيل : المراد التعجيب أي لا ينبغي لكم أن تكفروا في سائر الأحوال لا سيما في هذه الحال التي فيها الكفر أفظع منه في غيرها ؛ وليس المراد إنكار الواقع كما في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا} [ البقرة : 28 ] الآية ؛ وقيل : المراد بكفرهم فعلهم أفعال الكفرة كدعوى الجاهلية فلا مانع من أن يكون الاستفهام لإنكار الواقع ، والأول أولى وفي الآية تأييس لليهود مما راموه ، والأكثرون على تخصيص هذا الخطاب بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأوس والخزرج منهم ، ومنهم من جعله عاماً لسائر المؤمنين وجميع الأمة ، وعليه معنى كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إن آثاره وشواهد نبوته فيهم لأنها باقية حتى يأتي أمر الله ولم يسند سبحانه التلاوة إلى رسوله عليه الصلاة والسلام إشارة إلى استقلال كل من الأمرين في الباب ، وإيذاناً بأن التلاوة كافية في الغرض من أي تال كانت. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 16}
فصل
قال القرطبى :
ويدخل في هذه الآية مَن لم يَرَ النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ما فيهم من سُنّته يقوم مقام رؤيته.
قال الزّجاج : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد خاصةً ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه.(15/268)
ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة ؛ لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتَي فِيَنا مكانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فِيَنا وإن لم نشاهده.
وقال قَتادة : في هذه الآية عَلَمان بيّنان : كتابُ الله ونبيّ الله ؛ فأما نبي الله فقد مضى ، وأما كتاب الله فقد أبقاه الله بين أظهرهم رحمةً منه ونعمةً ؛ فيه حلالهُ وحرامهُ ، وطاعته ومعصيته. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 156}
لطيفة
قال ابن عاشور :
{وفيكم رسوله} حقيقيّة ومؤذنة بمنقبة عظيمة ، ومنّة جليلة ، وهي وجود هذا الرسول العظيم بينهم ، تلك المزيّة الَّتي فاز بها أصحابه المخاطبون.
وبها يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدْري : "لاَ تسبُّوا أصحابي فوالّذي نفسي بيده لَوْ أنّ أحدكم أنفق مثلَ أُحُد ذَهَباً مَا بَلَغ مُدّ أحدِهم ولا نصِيفه" النصيف نِصْف مدّ.
وفي الآية دلالة على عِظْم قدْر الصّحابة وأنّ لهم وازعين عن مواقعة الضّلال : سماعُ القرآن ، ومشاهدَة أنوار الرّسول عليه السَّلام فإنّ وجوده عصمة من ضلالهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 172}(15/269)
وقال أبو السعود :
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} استفهامٌ إنكاريٌّ بمعنى إنكارِ الوقوعِ كما في قوله تعالى : {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} الخ لا بمعنى إنكار الواقعِ كما في قوله تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا} الخ وفي توجيه الإنكارِ والاستبعادِ إلى كيفية الكفرِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال : أتكفرون ؟ لأن كلَّ موجودٍ لا بد أن يكون وجودُه على حال من الأحوال فإذا أُنكِرَ ونُفيَ جميعُ أحوالِ وجودِه فقد انتفى وجودُه بالكلية على الطريق البرهاني وقوله تعالى : {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيات الله} جملةٌ وقعتْ حالاً من ضمير المخاطَبين في تكفُرون مؤكِّدةٌ للإنكار والاستبعادِ بما فيها من الشؤون الداعيةِ إلى الثبات على الإيمان ، الرادعةِ عن الكفر ، وقوله تعالى : {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} معطوفٌ عليها داخلٌ في حكمها فإن تلاوةَ آياتِ الله تعالى عليهم وكونَ رسولِه عليه الصلاة والسلام بين أظهُرِهم يعلِّمهم الكتابَ والحِكمةَ ويزكِّيهم بتحقيق الحقِّ وإزاحةِ الشُّبَهِ من أقوى الزواجر عن الكفر ، وعدمُ إسنادِ التلاوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإيذان باستقلالِ كلَ منهما في الباب. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 65}(15/270)
قوله تعالى : {وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ}
قال الفخر :
المقصود : إنه لما ذكر الوعيد أردفه بهذا الوعد ، والمعنى : ومن يتمسك بدين الله ، ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار والاعتصام في اللغة الاستمساك بالشيء وأصله من العصمة ، والعصمة المنع في كلام العرب ، والعاصم المانع ، واعتصم فلان بالشيء إذا تمسك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة ، ومنه قوله تعالى : {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [ يوسف : 32 ] قال قتادة : ذكر في الآية أمرين يمنعان عن الوقوع في الكفر أحدهما : تلاوة كتاب الله والثاني : كون الرسول فيهم ، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة الله ، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر. وأما قوله {فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ} فقد احتج به أصحابنا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، قالوا : لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله ، فلما جعل ذلك الاعتصام فعلاً لهم وهداية من الله ثبت ما قلناه ، أما المعتزلة فقد ذكروا فيه وجوهاً
الأول : أن المراد بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات كما قال تعالى : {يَهْدِى بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} [ المائدة : 16 ] وهذا اختاره القفال رحمه الله
والثاني : أن التقدير من يعتصم بالله فنعم ما فعل فإنه إنما هدي إلى الصراط المستقيم ليفعل ذلك
الثالث : أن من يعتصم بالله فقد هدي إلى طريق الجنة
والرابع : قال صاحب "الكشاف" {فَقَدْ هُدِىَ} أي فقد حصل له الهدى لا محالة ، كما تقول : إذا جئت فلانا فقد أفلحت ، كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلاً وذلك لأن المعتصم بالله متوقع للهدى كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 139 ـ 140}(15/271)
وقال الآلوسى :
وقوله تعالى : {فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ} جواب الشرط ولكونه ماضياً مع قد أفاد الكلام تحقق الهدى حتى كأنه قد حصل ، قيل : والتنوين للتفخيم ووصف الصراط بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجاً ، والصراط المستقيم وإن كان هو الدين الحق في الحقيقة والاهتداء إليه هو الاعتصام به بعينه لكن لما اختلف الاعتباران وكان العنوان الأخير مما يتنافس فيه المتنافسون أبرز في معرض الجواب للحث والترغيب على طريقة قوله تعالى : {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [ آل عمران : 185 ] انتهى.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه إنما يحتاج إليه على تقدير أن يكون المراد من الاعتصام بالله الإيمان به سبحانه والتمسك بدينه كما قاله ابن جريج ، وأما إذا كان المراد منه الثقة بالله تعالى والتوكل عليه والالتجاء إليه كما روي عن أبي العالية فيبعد الاحتياج ، وعلى هذا يكون المراد من الاهتداء إلى الصراط المستقيم النجاة والظفر بالمخرج ، فقد أخرج الحكيم الترمذي عن الزهري قال : أوحى الله تعالى ( إلى ) داود عليه السلام ما من عبد يعتصم بي من دون خلقي وتكيده السموات والأرض إلا جعلت له من ذلك مخرجاً ، وما من عبد يعتصم بمخلوق من دوني إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأسخت الأرض من تحت قدميه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 17}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله} جملة حالية ، من فاعل : " تَكْفُرُونَ ".
وكذلك قوله : {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} أي : كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين ؟
والاعتصام : الامتناع ، يقال : اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً ، أي : هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به.(15/272)
وقيل : الاعتصام : الاستمساك ، واستعصم بكذا ، أي : استمسك به.
ومعنى الآية : ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ. وقيل : ومن يؤمن بالله. وقيل : ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن.
والعِصام : ما يُشدُّ به القربة ، وبه يسمَّى الأشخاص ، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن ؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار ، والمِعْصَم : موضع العِصْمَة ، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة ؛ تشبيهاً بها ، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً ، وأصل العُصْمة : البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول ، والأعْصَم من الوعول : ما في معاصمها بياضٌ ، وهي أشدُّها عَدْواً.
قال : [ الكامل ]
لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ... سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا
وعصمه الطعام : منع الجوع منه ، تقول العرب : عَصَمَ فلاناً الطعامُ ، أي : منعه من الجوع.
وقال أحمد بن يحيى : العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً ، وجابراً.
قال : [ الرجز ]
فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا... فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا
ويسمونه عامراً ، وأنشد : [ الطويل ]
أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر... يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ
وأبو مالك كنية الجوع.
وفي الحديث - في النساء : " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ " وهو الأبيض الرجلين.
وقيل : الأبيض الجناحَين.
قال صلى الله عليه وسلم : " المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ ".
قيل : يا رسولَ الله ، وما الغراب الأعصم ؟ قال " الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ ".(15/273)
وفي الحديث : كنا مع عمرو بن العاص ، فدخلنا شِعْباً ، فإذا نحن بغربان ، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين ، فقال عَمرو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ " والمراد منه : التقليل.
قوله : " فقد هدي " جواب الشرط ، وجيء ف يالجواب بـ " قد " دلالةً على التوقُّع ؛ لأن المعتصم متوقع الهداية.
والمعنى : ومن يمتنع بدينِ الله ، ويتمسك بدينه ، وطاعتهِ ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح. وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي : يؤمن بالله. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 426 ـ 427}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
لا ينبغي لمن أشرقت في قلبه شموسُ العرفان أن يوقع الكفرُ عليه ظِلَّه ، فإنه إذا أقبل النهارُ من ها هنا أدبر الليل من ها هنا.
وقوله : {وَمَن يَعْتَصِم} الآية إنما يعتصم بالله مَنَّ وَجَدَ العصمة من الله ، فأمَّا مَنْ لم يَهْدِه الله فمتى يعتصم بالله ؟ فالهدايةُ منه في البداية توجِبُ اعتصامك في النهاية ، لا الاعتصام منك يوجب الهداية.
وحقيقةُ الاعتصام صدق اللُّجوء إليه ، ودوامُ الفرار إليه ، واستصحاب الاستغاثة إليه. ومَنْ كشف عن سِرِّه غطاء التفرقة تحقق بأنه لا لغير الله ذرة أو منه سينة ، فهذا الإنسان يعتصم به ممن يُعْتَصَمُ به ؛ قال سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وعلى آله : {أَعُوذُ بِكَ مِنْك}.
ومَنْ اعتصم بنفسه دون أن يكون محواً عن حوله وقوته في اعتصامه - فالشِرْكُ وطنُه وليس يشعر. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 265 ـ 266}(15/274)
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما انقضى هذا التحذير من أهل الكتاب والتعجيب والترغيب ، أمر بما يثمر ذلك من رضاه فقال : {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {اتقوا الله} أي صدقوا دعواكم بتقوى ذي الجلال والإكرام {حق تقاته} فأديموا الانقياد له بدوام مراقبته ولا تقطعوا أمراً دونه {ولا تموتن} على حالة من الحالات {إلا وأنتم مسلمون} أي منقادون أتم الانقياد ، ونقل عن العارف أبي الحسن الشاذلي أن هذه الآية في أصل الدين وهو التوحيد ، وقوله سبحانه وتعالى : {فاتقوا الله ما استطعتم} [ التغابن : 16 ] في فروعه.(15/275)
ولما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً ، دلهم - بعد أن أوقفتهم التقوى - على الأصل لجميع الخيرات المتكفل بالحفظ من جميع الزلات فقال : {واعتصموا} أي كلفوا أنفسكم الارتباط الشديد والانضباط العظيم {بحبل الله} أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له التي نهجها لكم ومهدها ، وأصل الحبل السبب الذي يوصف به إلى البغية والحاجة ، وكل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله عنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن الخوف ، ولا يخفى دقة الصراط بما ورد به النقل الصحيح وهذا الدين مثاله فصعوبته وشدته على النفوس بما لها من النوازع والحظوظ مثال دقته ، فمن قهر نفسه وحفظها على التمسك به حفظ عن السقوط عما هو مثاله.
ولما أفهم كل من الضمير والحبل والاسم الجامع إحاطة الأمر بالكل أكده بقوله : {جميعاً} لا تدعوا أحداً منكم يشذ عنها ، بل كلما عثرتم على أحد فارقها ولو قيد شبر فردوه إليها ولا تناظروه ولا تهملوا أمره ، ولا تغفلوا عنه فيختل النظام ، وتتعبوا على الدوام ، بل تزالوا كالرابط ربطاً شديداً حزمة نبل بحبل ، لا يدع واحدة منها تنفرد عن الأخرى ، ثم أكد ذلك بقوله : {ولا تفرقوا} ثم ذكرهم نعمة الاجتماع ، لأن ذلك باعث على شكرها ، وهو باعث على إدامة الاعتصام والتقوى ، وبدأ منها بالدنيوية لأنها أس الأخروية فقال : {واذكروا نعمة الله} الذي له الكمال كله {عليكم} يا من اعتصم بعصام الدين! {إذا كنتم أعداء} متنافرين أشد تنافر {فألف بين قلوبكم} بالجمع على هذا الصراط القويم والمنهج العظيم {فأصبحتم بنعمته إخواناً} قد نزع ما في قلوبكم من الإحن ، وأزال تلك الفتن والمحن.
(15/276)
ولما ذكر النعمةت التي أنقذتهم من هلاك الدنيا ثنى بما تبع ذلك من نعمة الدين التي عصمت من الهلاك الأبدي فقال : {وكنتم على شفا} أي حرف وطرف {حفرة من النار} بما كنتم فيه من الجاهلية {فأنقذكم منها}.
ولما تم هذا البيان على هذا الأسلوب الغريب نبه على ذلك بقوله - جواباً لمن يقول : لله در هذا البيان! ما أغربه من بيان! - {كذلك} أي مثل هذا البيان البعيد المنال البديع المثال {يبين الله} المحيط علمه الشاملة قدرته بعظمته {لكم آياته} وعظم الأمر بتخصيصهم به وإضافة الآي إليه.
ولما كان السياق لبيان دقائق الكفار في إرادة إضلالهم ختم الآية بقوله : {لعلكم تهتدون} أي ليكون حالكم عند من ينظركم حال من ترجى وتتوقع هدايته ، هذا الترجي حالكم فيما بينكم ، وأما هو سبحانه وتعالى فقد أحاط علمه بالسعيد والشقي ، ثم الأمر إليه ، فمن شاء هداه ، ومن أراد أرداه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 131 ـ 132}
وقال الفخر :
(15/277)
اعلم أنه تعالى لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بمجامع الطاعات ، ومعاقد الخيرات ، فأمرهم أولاً : بتقوى الله وهو قوله {اتقوا الله} وثانياً : بالاعتصام بحبل الله ، وهو قوله {واعتصموا بِحَبْلِ الله} وثالثاً : بذكر نعم الله وهو قوله {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} والسبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللاً ، إما بالرهبة وإما بالرغبة ، والرهبة مقدمة على الرغبة ، لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع ، فقوله {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} إشارة إلى التخويف من عقاب الله تعالى ، ثم جعله سبباً للأمر بالتمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله ، ثم أردفه بالرغبة ، وهي قوله {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} فكأنه قال : خوف عقاب الله يوجب ذلك ، وكثرة نعم الله توجب ذلك فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله ووجوب طاعتكم لحكم الله ، فظهر بما ذكرناه أن الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية مرتبة على أحسن الوجوه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 140 ـ 141}
وقال ابن عاشور :
انتقل مِن تحذير المخاطبين من الانخداع لوساوس بعض أهل الكتاب ، إلى تحريضهم على تمام التَّقوى ، لأنّ في ذلك زيادة صلاح لهم ورسوخاً لإيمانهم ، وهو خطاب لأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ويَسري إلى جميع من يكون بعدهم.
وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية.
والتَّقوى تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى : {هدى للمتقين}.
وحاصلها امتثال الأمر ، واجتناب المنهي عنه ، في الأعمال الظَّاهرة ، والنَّوايا الباطنة.(15/278)
وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير ، وتظاهر بما ليس من عمله ، وذلك هو معنى قوله تعالى : {فاتَّقوا الله ما استطعتم} [ التغابن : 16 ] لأنّ الاستطاعة هي القدرة ، والتَّقوى مقدورة للنَّاس.
وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين ، ولا نسخ ، وقيل : هاته منسوخة بقوله تعالى : {فاتقوا اللَّه ما استطعتم} لأنّ هاته دلّت على تقوى كاملة كما فسَّرها ابن مسعود : أن يطاع فلا يعصى ، ويُشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا يُنْسى ، ورووا أنّ هذه الآية لمَّا نزلت قالوا : "يا رسول الله من يَقوىَ لهذا" فنزلت قوله تعالى : {فاتَّقوا الله ما استطعتم} فنسَخَ هذه بناء على أنّ الأمر في الآيتين للوجوب ، وعلى اختلاف المراد من التقويين.
والحقّ أنّ هذا بيان لا نسخ ، كما حقَّقه المحقِّقون ، ولكن شاع عند المتقدّمين إطلاق النَّسخ على ما يشمل البيان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 173}
فصل
قال البغوى :
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال مقاتل بن حيان : كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية وقتال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فأصلح بينهم فافتخر بعده منهم رجلان : ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج ، فقال الأوسي : منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة ، ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حميُّ الدبر ، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن ورضي الله بحكمه في بني قريظة.(15/279)
وقال الخزرجي : منّا أربعة أحكموا القرآن : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم ، فجرى الحديث بينهما فغضبا وأنشدا الأشعار وتفاخرا ، فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 77}
فصل
قال القرطبى :
روى البخاري عن مُرة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حقّ تقاته أن يطاع فلا يُعصَى وأن يُذكَر فلا يُنْسى وأن يُشكر فلا يُكفر " وقال ابن عباس : هو ألاّ يُعصَى طَرْفة عَيْن.
وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، من يَقْوى على هذا ؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل {فاتقوا الله مَا استطعتم} [ التغابن : 16 ] فنسخت هذه الآيةَ ؛ عن قَتادة والرّبيع وابن زيد.
قال مقاتل : وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذه الآية.
وقيل : إن قوله {فاتقوا الله مَا استطعتم} بيانٌ لهذه الآية.
والمعنى : فاتّقوا الله حق تُقاته ما استطعتم ، وهذا أصوب ؛ لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع والجمع ممكن فهو أوْلىَ.
وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قول الله عز وجل {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [ آل عمران : 102 ] لم تُنسخ ، ولكن "حقّ تُقاته" أن يُجاهد في سبيل الله حق جهاده ، ولا تأخذكم في الله لَوْمةُ لائم ، وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم.
قال النحاس : وكلما ذكر في الآية واجبٌ على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 157 ـ 158}
قوله تعالى : {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ}
فصل
قال الفخر : (15/280)
قال بعضهم هذه الآية منسوخة وذلك لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين لأن حق تقاته : أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى ، والعباد لا طاقة لهم بذلك ، فأنزل الله تعالى بعد هذه {فاتقوا الله مَا استطعتم} ونسخت هذه الآية أولها ولم ينسخ آخرها وهو قوله {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} وزعم جمهور المحققين أن القول بهذا النسخ باطل واحتجوا عليه من وجوه الأول : ما روي عن معاذ أنه عليه السلام قال له : " هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال : هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " وهذا لا يجوز أن ينسخ الثاني : أن معنى قوله {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} أي كما يحق أن يتقى ، وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه ، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي ، وإذا كان كذلك صار معنى هذا ومعنى قوله تعالى : {فاتقوا الله مَا استطعتم} [ التغابن : 16 ] واحداً لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته ، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله {حَقَّ تُقَاتِهِ} ما لا يستطاع من التقوى ، لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة ونظير هذه الآية قوله {وجاهدوا فِى الله حَقَّ جهاده} [ الحج : 78 ].
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [ الأنعام : 91 ].(15/281)
قلنا : سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين ؛ أما الذين قالوا : إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات ، وكذلك قوله : أن يشكر فلا يكفر ، لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال ، فأما عند السهو فلا يجب ، وكذلك قوله : أن يذكر فلا ينسى ، فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق ، فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ.
قال المصنف رضي الله تعالى عنه ، أقول : للأولين أن يقرروا قولهم من وجهين
الأول : أن كنه الإلهية غير معلوم للخلق ، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوماً للخلق ، وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به
الثاني : أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معاً فنسخ المغلظ وبقي المخفف ، وقيل : إن هذا باطل ، لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي ، لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجوراً عنه وإنه غير جائز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 141}
قوله تعالى : {حَقَّ تُقَاتِهِ}
قال الفخر :
قوله تعالى : {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي كما يجب أن يتقى يدل عليه قوله تعالى : {حَقُّ اليقين} [ الواقعة : 95 ] ويقال : هو الرجل حقاً ، ومنه قوله عليه السلام : " أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب " وعن علي رضي الله عنه أنه قال : أنا علي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ، والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت ، كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 141}
قوله تعالى : {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}
قال الفخر : (15/282)
لفظ النهي واقع على الموت ، لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام ، وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام ، صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم ، ومضى الكلام في هذا عند قوله {إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [ البقرة : 132 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 142}(15/283)
وقال الآلوسى :
{وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي مخلصون نفوسكم لله عز وجل لا تجعلون فيها شركة لسواه أصلاً ، وذكر بعض المحققين أن الإسلام في مثل هذا الموضع لا يراد به الأعمال بل الإيمان القلبي لأن الأعمال حال الموت مما لا تكاد تتأتى ولذا ورد في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن أمته منا فأمته على الإيمان فأخذ الإسلام أولاً والإيمان ثانياً لما أن لكل مقام مقالاً ، والاستثناء ( مفرغ ) من أعم الأحوال أي لا تموتن على حال من الأحوال إلا على حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما تفيده الجملة الاسمية ، ولو قيل : إلا مسلمين لم يقع هذا الموقع والعامل في الحال ما قبل {إِلا} بعد النقض والمقصود النهي عن الكون على حال غير حال الإسلام عند الموت ، ويؤل إلى إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت إلا أنه وجه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور وليس المقصود النهي عنه أصلاً لأنه ليس بمقدور لهم حتى ينهوا عنه ، وفي التحبير للإمام السيوطي : ومن عجيب ما اشتهر في تفسير {مُّسْلِمُونَ} قول العوام : أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عهدة عليه انتهى ، وقرأ أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه {مُّسْلِمُونَ} بالتشديد ومعناه مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم منقادون له ؛ وفي هذه الآية تأكيد للنهي عن إطاعة أهل الكتاب. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 18}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}.
حقُّ التقوى أن يكون على وفق الأمر لا يزيد من قِبَلِ نَفْسِه ولا ينقص.(15/284)
هذا هو المعتمد من الأقاويل فيه ، وأمره على وجهين : على وجه الحَتْم وعلى وجه الندب وكذلك القول في النهي على قسمين : تحريم وتنزيه ، فيدخل في جملة هذا أن يكون حق تقاته أولاً اجتناب الزلة ثم اجتناب الغفلة ثم التوقي عن كل خلة ثم التنقي من كل عِلَّة ، فإذا تَقِيتَ عن شهود تقواك بعد اتصافك بتقواك فقد اتَّقَيْت حقَّ تقواك.
وحق التقوى رفض العصيان ونفي النسيان ، وصون العهود ، وحفظ الحدود ، وشهود الإلهية ، والانسلاخ عن أحكام البشرية ، والخمود تحت جريان الحكم بعد اجتناب كل جُرْم وظلم ، واستشعار الأنفة عن التوسل إليه بشيء من طاعتك دون صرف كرمه ، والتحقق بأنه لا يَقْبل أحداً بعِلَّة ولا يَرُدُّ أحداً بعلة.
قوله جلّ ذكره : {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
لا تُصَادِفَنَّكم الوفاة إلا وأنتم بشرط الوفاء. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 266}
قوله تعالى : {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً}
قال ابن عاشور :
وقوله : {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم ، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم ، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التَّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 174}
فصل
قال الفخر :
و اعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات ، وهو الاعتصام بحبل الله.(15/285)
واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله ، فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف ، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق ، وقد انزلق رجل الكثير من الخَلْق عنه ، فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف ، فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين ، وهو أنواع كثيرة ، فذكر كل واحد من المفسرين واحداً من تلك الأشياء ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بالحبل ههنا العهد المذكور في قوله {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [ البقرة : 40 ] وقال : {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس} [ آل عمران : 112 ] أي بعهد ، وإنما سمي العهد حبلاً لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء ، وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف ، وقيل : إنه القرآن ، روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أما إنها ستكون فتنة " قيل : فما المخرج منها ؟ قال : " كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين " وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هذا القرآن حبل الله " وروي عن أبي سعيد الخُدْريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي " وقيل : إنه دين الله ، وقيل : هو طاعة الله ، وقيل : هو إخلاص التوبة ، وقيل : الجماعة ، لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله {وَلاَ تَفَرَّقُواْ}
(15/286)
وهذه الأقوال كلها متقاربة ، والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزاً من السقوط فيها ، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزاً لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلاً لله ، وأمروا بالاعتصام به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 142}
فائدة
قال الآلوسى :
وفي الكلام استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة الحاصلة للمؤمنين من استظهارهم بأحد ما ذكر ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلي من مكان رفيع بحبل وثيق مأمون الانقطاع من غير اعتبار مجاز في المفردات ، واستعير ما يستعمل في المشبه به من الألفاظ للمشبه ، وقد يكون في الكلام استعارتان مترادفتان بأن يستعار الحبل للعهد مثلاً استعارة مصرحة أصلية والقرينة الإضافة ، ويستعار الاعتصام للوثوق بالعهد والتمسك به على طريق الاستعارة المصرحة التبعية والقرينة اقترانها بالاستعارة الثانية ، وقد يكون في {اعتصموا} مجاز مرسل تبعي بعلاقة الإطلاق والتقييد ، وقد يكون مجازاً بمرتبتين لأجل إرسال المجاز وقد تكون الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام باقياً على معناه ترشيحاً لها على أتم وجه ، والقرينة قد تختلف بالتصرف فباعتبار قد تكون مانعة وباعتبار آخر قد لا تكون ، فلا يرد أن احتمال المجازية يتوقف على قرينة مانعة عن إرادة الموضع له فمع وجودها كيف يتأتى إرادة الحقيقة ليصح الأمران في {اعتصموا} وقد تكون الاستعارتان غير مستقلتين بأن تكون الاستعارة في الحبل مكنية وفي الاعتصام تخييلية لأن المكنية مستلزمة للتخييلية قاله الطيبي ، ولا يخفى أنه أبعد من العيوق. وقد ذكرنا في "حواشينا على رسالة ابن عصام" ما يردّ على بعض هذه الوجوه مع الجواب عن ذلك فارجع إليه إن أردته. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 19}(15/287)
قوله تعالى : {وَلاَ تَفَرَّقُواْ}
فصل
قال الفخر :
في التأويل وجوه
الأول : أنه نهى عن الاختلاف في الدين وذلك لأن الحق لا يكون إلا واحداً ، وما عداه يكون جهلاً وضلالاً ، فلما كان كذلك وجب أن يكون النهي عن الاختلاف في الدين ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [ يونس : 32 ]
والثاني : أنه نهى عن المعاداة والمخاصمة ، فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على المحاربة والمنازعة فنهاهم الله عنها
الثالث : أنه نهى عما يوجب الفرقة ويزيل الألفة والمحبة.
واعلم أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد والباقي في النار فقيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال الجماعة " وروي " السواد الأعظم " وروي " ما أنا عليه وأصحابي " والوجه المعقول فيه : أن النهي عن الاختلاف والأمر بالاتفاق يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً ، وإذا كان كذلك كان الناجي واحداً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 142 ـ 143}
فائدة
قال ابن عطية :
{ولا تفرقوا} يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى ، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد ، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية ، بل ذلك ، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلاف أمتي رحمة " ، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف ، وهم يد واحدة على كل كافر ، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه ، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 484}(15/288)
فصل
قال ابن العربى :
التَّفَرُّقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : التَّفَرُّقُ فِي الْعَقَائِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الثَّانِي : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : {لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا} ، وَيَعْضُدُهُ قَوْله تَعَالَى : {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا} الثَّالِثُ : تَرْكُ التَّخْطِئَةِ فِي الْفُرُوعِ وَالتَّبَرِّي فِيهَا ، وَلْيَمْضِ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى اجْتِهَادِهِ ؛ فَإِنَّ الْكُلَّ بِحَبْلِ اللَّهِ مُعْتَصِمٌ ، وَبِدَلِيلِهِ عَامِلٌ ؛ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ} ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَضَرَتْ الْعَصْرُ فَأَخَّرَهَا حَتَّى بَلَغَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَمْ يُرِدْ هَذَا مِنَّا يَعْنِي وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِعْجَالَ فَلَمْ يُعَنِّفْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَدًا مِنْهُمْ.
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ الْمُؤَدِّي إلَى الْفِتْنَةِ وَالتَّعَصُّبِ وَتَشْتِيتِ الْجَمَاعَةِ ؛ فَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ فَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ}.
وَرُوِيَ أَنَّ لَهُ إنْ أَصَابَ عَشَرَةَ أُجُورٍ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 381 ـ 382}(15/289)
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ( يعني في دينكم ) كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم ؛ عن ابن مسعود وغيره.
ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة ، وكونوا في دِين الله إخوانا ؛ فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر ؛ ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}.
وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع : فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع ، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب آستخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع ؛ وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث ، وهم مع ذلك متآلفون.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اختلاف أمّتي رحمة " وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد.
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فِرقة أو اثنتين وسبعين فِرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فِرقة "
قال الترمذي : هذا حديث صحيح.
وأخرجه أيضاً عن ابن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمّة علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرّقت آثنتين وسبعين مِلةً وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين مِلةً كلهم في النار إلا مِلة واحدة" قالوا : من هي يا رسول الله ؟ "ما أنا عليه وأصحابي" " أخرجه من حديث عبد الله بن زياد الأفريقي ، عن عبد الله بن يزيد عن ابن عمرو ، وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه.(15/290)
قال أبو عمر : وعبد الله الأفريقي ثِقة وثقة قومه وأثنوا عليه ، وضعّفه آخرون.
وأخرجه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم : " قال ألا إنّ مَن قبلكم مِن أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين مِلة وإن هذه المِلة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوامٌ تجارى بهم تلك الأهْواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يَبْقَى منه عِرقٌ ولا مِفصَلٌ إلا دخله " وفي سنن ابن ماجه عن أنس ابن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات واللَّهُ عنه راض " قال أنس : وهو دِين الله الذي جاءت به الرسل وبلّغوه عن ربهم قبل هَرَج الأحاديث واختلاف الأهْوَاء ، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل ، يقول الله : "فَإنْ تَابُوا" قال : خلعوا الأوثان وعبادتها {وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} ، وقال في آية أخرى : {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} [ التوبة : 11 ] أخرجه عن نصر بن علي الجَهْضَمي عن أبي أحمد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس.
قال أبو الفِرج الجَوْزي : فإن قيل هذه الفِرقَ معروفة ؛ فالجواب أنا نعرف الافتراق وأصول الفِرق وأن كل طائفة من الفِرق انقسمت إلى فِرَق ، وإن لم نُحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها ، فقد ظهر لنا من أصول الفِرق الحَرُوريّة والقَدَرِية والجَهْمِية والمَرجِئة والرافِضَة والجَبْرِية.
وقال بعض أهل العلم : أصل الفِرق الضّالة هذه الفِرق السّتْ ، وقد انقسمت كل فِرقة منها اثنتي عشرة فِرقة ، فصارت آثنتين وسبعين فِرقة.
(15/291)
آنقسمت الحَرُوريّة آثنتي عشرة فرقة ؛ فأولهم الأزْرَقِيَّةُ قالوا : لا نعلم أحدا مؤمنا ؛ وكفّروا أهل القِبْلة إلاَ من دان بقولهم.
والإباضية قالوا : من أخذ بقولنا فهو مؤمن ، ومن أعرض عنه فهو منافق.
والثعلبية قالوا : إن الله عز وجل لم يقض ولم يُقَدَّر.
والخازِمِيّة قالوا : لا ندري ما الإيمان ، والخلق كلهم معذورون.
والخلَفِيَة زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى كفر.
والكوزية قالوا : ليس لأحد أن يَمسّ أحدا وأنه لا يعرف الطاهر من النّجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل.
والكَنزيّة قالوا : لا يسع أحدا أن يعطي مالَه أحدا ؛ لأنه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه في الأرض حتى يظهر أهل الحق.
والشّمراخِيّة قالوا : لا بأس بمسِّ النساء الأجانب لأنهن رياحين.
والأخْنَسية قالوا : لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر.
والحكميّة قالوا : مَن حاكم إلى مخلوق فهو كافر.
والمعتزلة قالوا : اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين.
والميمونية قالوا : لا إمام إلا برضا أهل محبتنا.
وانقسمت القَدَرية اثنتى عشرة فرقة : الأحمرية وهي التي زعمت أن في شرط العدل من الله أن يملّك عباده أمورَهم ، ويحول بينهم وبين معاصيهم.
والثَّنَويّة وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من الشيطان.
والمعتزلة وهم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا ( صفات ) الرّبوبيّة.
والكَيْسانية وهم الذين قالوا : لا ندري هذه الأفعال من الله أو من العباد ، ولا نعلم أيثاب الناس بعدُ أو يعاقبون.
والشيطانية قالوا : إن الله تعالى لم يخلق الشيطان.
والشّريكية قالوا : إن السيئات كلها مقدّرة إلا الكفر.
والوَهْميّة قالوا : ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات ، ولا للحسنة والسيئة ذات.
والزِّبْرية قالوا : كل كتاب نزل من عند الله فالعمل به حق ، ناسخاً كان أو منسوخاً.
(15/292)
والمسعدية زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته والناكِثية زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه.
والقاسِطية تبعوا إبراهيم بن النظام في قوله : من زعم أن الله شيء فهو كافر.
وانقسمت الْجَهميّة اثنتى عشرة فرقة : المعطّلة زعموا أن كل ما يقع عليه وهم الإنسان فهو مخلوق ، وأن من ادعى أن الله يُرى فهو كافر.
والمريسية - قالوا : أكثر صفات الله تعالى مخلوقة.
والمَلْتَزِقَة جعلوا الباري سبحانه في كل مكان.
والوَارِدِيّة قالوا لا يدخل النار من عرف ربه ، ومن دخلها لم يخرج منها أبداً.
والزنَادِقَة قالوا : ليس لأحد أن يثبت لنفسه ربّاً ؛ لأن الإثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس ، وما لا يُدرك لا يثبت.
والحَرْقَيّة زعموا أن الكافر تحرقه النار مرّة واحدة ثم يبقى محترقاً أبداً لا يجد حرّ النار.
والمخْلُوقية زعموا أن القرآن مخلوق.
والفانية زعموا أن الجنة والنّار يفنيان ، ومنهم من قال لم يُخلقا.
والعبدِية جحدوا الرسل وقالوا إنما هم حكماء.
والواقفية قالوا : لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق.
والقَبْرية ينكرون عذاب القبر والشفاعة.
واللفْظية قالوا : لفظنا بالقرآن مخلوق.
وانقسمت المرجئة اثنتى عشرة فرقة : التّارِكيّة قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به ، فمن آمن به فليفعل ما شاء.
والسّائِبيّة قالوا : إن الله تعالى سيب خلقه ليفعلوا ما شاءوا.
والراجِيّة قالوا : لا يُسمّى الطائع طائعاً ولا العاصي عاصياً ، لأنَا لا ندري ما لَه عند الله تعالى.
والسّالِبيّة قالوا : الطاعة ليست من الإيمان.
والبهيشية قالوا : الإيمان عِلْمٌ ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر.
والعَمَلِيّة قالوا : الإيمان عَمَلٌ.
والمَنْقُوصيّة قالوا : الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
(15/293)
والمسْتَثْنِية قالوا : الاستثناء من الإيمان.
والمشبِّهة قالوا : بَصَرٌ كبصرٍ ويَدٌ كيدٍ.
والحشوية قالوا : حكم الأحاديث كلها واحد ؛ فعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض.
والظاهِرِية الذين نفوا القياس.
والبِدْعية أوّل من ابتدع هذه الأحداث في هذه الأُمة.
وانقسمت الرافضة اثنتي عشرة فرقة : العلوية قالوا : إن الرسالة كانت إلى عليّ وإن جبريل أخطأ.
والأمِرِيّة قالوا : إن عليّاً شريك محمد في أمره.
والشِّيعة قالوا : إن عليّاً رضي الله عنه وصِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووَليُّه من بعده ، وإن الأمّة كفرت بمبايعة غيره.
والإسحاقية قالوا : إن النبوّة متصلة إلى يوم القيامة ، وكلّ مَن يعلم علم أهل البيت فهو نبيّ.
والناوُوسيّة قالوا : عليّ أفضل الأمة ، فمن فضّل غيره عليه فقد كفر.
والإمامية قالوا : لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين ، وإن الإمام يعلِّمه جبريل عليه السلام ، فإذا مات بدّل غيره مكانه.
والزيدِية قالوا : ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات ، فمتى وُجد منهم أحد لم تجز الصلاةُ خلف غيرهم ، برّهم وفاجرهم.
والعباسية زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره.
والتناسخية قالوا : الأرواح تتناسخ ؛ فمن كان مُحسناً خرجت روحه فدخلت في خلق يسعد بعيشه.
والرَّجعية زعموا أن عليّاً وأصحابه يرجعون إلى الدنيا ، وينتقمون من أعدائهم.
واللاّعِنَة يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشةَ وغيرَهم.
والمتربّصة تشبهوا بزيّ النُّساك ونصبوا في كل عصر رجلاً ينسُبون إليه الأمر ، يزعمون أنه مَهدِيُّ هذه الأُمة ، فإذا مات نصبوا آخر.
ثم انقسمت الجَبْرية اثنتى عشرة فرقة : فمنهم المضطرية قالوا : لا فعل للآدميّ ، بل الله يفعل الكل.(15/294)
والأفعالية قالوا : لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها ، وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل.
والمفروغية قالوا : كل الأشياء قد خُلقت ، والآن لا يُخلق شيء.
والنجارية زعمت أن الله تعالى يعذّب الناس على فعله لا على فعلهم.
والمنّانيّة قالوا : عليك بما يخطر بقلبك ، فافعل ما توسّمت منه الخير.
والكَسْبية قالوا : لا يكتسب العبد ثواباً ولا عقاباً.
والسّابقية قالوا : من شاء فليعمل ومن شاء ( ف ) لا يعمل ، فإن السعيد لا تضرّه ذنوبه والشّقي لا ينفعه بِرّه.
والحِبِّية قالوا : من شرب كأس محبة الله تعالى سقطت عنه عبادة الأركان.
والخوفية قالوا : من أحبّ الله تعالى لم يسعه أن يخافه ؛ لأن الحبيب لا يخاف حبيبه.
والفكرية قالوا : من ازداد علماً أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة.
والخشبية قالوا : الدنيا بين العباد سواء ، لا تفاضُل بينهم فيما ورَّثَهم أبوهم آدم.
والمَنّيّه قالوا : منا الفعل ولنا الاستطاعة.
وسيأتي بيان الفرقة التي زادت في هذه الأُمة في آخر سورة "الأنعام" إن شاء الله تعالى.
وقال ابن عباس لسماك الحنفي : يا حنفي ، الجماعةَ الجماعةا فإنما هلكت الأُمم الخالية لتفرّقها ؛ أما سمعت الله عز وجل يقول : {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.(15/295)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثاً قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف ، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملاً ، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين ، والسلامة من الاختلاف ، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين.
هذا معنى الآية على التمام ، وفيها دليل على صحة الإجماع حسبما هو مذكور في موضعه من أُصول الفقه ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 159 ـ 164}
لطيفة
قال السمرقندى :
قال بعض الحكماء : إن مثل من في الدنيا ، كمثل من وقع في بئر ، فيها من كل نوع من الآفات ، فلا يمكنه أن يخرج منها والنجاة من آفاتها إلا بحبل وثيق ، فكذلك الدنيا دار محنة ، وفيها كل نوع من الآفات ، فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بحبل وثيق ، وهو كتاب الله تعالى. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 259}
فصل
قال الفخر :
استدلت نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : الأحكام الشرعية إما أن يقال : إنه سبحانه نصب عليها دلائل يقينية أو نصب عليها دلائل ظنية ، فإن كان الأول امتنع الاكتفاء فيها بالقياس الذي يفيد الظن ، لأن الدليل الظني لا يكتفى به في الموضع اليقيني ، وإن كان الثاني كان الأمر بالرجوع إلى تلك الدلائل الظنية يتضمن وقوع الاختلاف ووقوع النزاع ، فكان ينبغي أن لا يكون التفرق والتنازع منهياً عنه ، لكنه منهي عنه لقوله تعالى : {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} وقوله {وَلاَ تنازعوا}(15/296)
ولقائل أن يقول : الدلائل الدالة على العمل بالقياس تكون مخصصة لعموم قوله {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ولعموم قوله {وَلاَ تنازعوا} والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 143}
قوله تعالى : {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أُخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية ، أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى : {إِذْ كُنتُم أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 143}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {واذكروا نعمت الله عليكم} تصوير لحالهم الَّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الَّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بجامعة الإسلام الَّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة ، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى ، الّذي اختار لهم هذا الدّين ، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتِّفاق.
والتَّذكيرُ بنعمة الله تعالى طريق من طُرق مواعظ الرّسل.
قال تعالى حكاية عن هود : {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} [ الأعراف : 69 ] وقال عن شعيب : {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم} [ الأعراف : 86 ] وقال الله لموسى : {وذكرهم بأيام الله} [ إبراهيم : 5 ].
وهذا التَّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية ، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين ، لأن كُلّ جيل يُقَدّر أن لو لم يَسبق إسلام الجيل الَّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النَّار. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 175}(15/297)
فصل
قال الفخر :
قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بين الأوس والخَزْرَج وهَمَّ كلُّ واحد منهما بمحاربة صاحبه ، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم ، فوقعت بينهما العداوة ، وتطاولت الحروب مئة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام ، فالآية إشارة إليهم وإلى أحوالهم ، فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم بعضاً ، فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخواناً متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله : ونظير هذه الآية قوله {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [ الأنفال : 63 ].
واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معادياً لأكثر الخلق ، ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معادياً لأحد ، والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيراً في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحداً ، ولهذا قيل : إن العارف إذا أمر أمر برفق ويكون ناصحاً لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 143}
فصل
قال الفخر :
قال الزَّجّاج : أصل الأخ في اللُّغة من التوخي وهو الطلب ، فالأخ مقصده مقصد أخيه ، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين صاحبه ما في قلبه ، ولا يخفي عنه شيئاً وقال أبو حاتم قال أهل البصرة : الاخوة في النسب والإخوان في الصداقة ، قال وهذا غلط ، قال الله تعالى : {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [ الحجرات : 10 ] ولم يعن النسب ، وقال : {أَوْ بُيُوتِ إخوانكم} [ النور : 61 ] وهذا في النسب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 143}
قوله تعالى {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}
قال الفخر : (15/298)
قوله {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله ، لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل ، وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال ، قال الكعبي : إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف.
قلنا : كل هذا كان حاصلاً في زمان حصول المحاربات والمقاتلات ، فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 143 ـ 144}
فائدة
قال الثعالبى :
ويسَّر اللَّه تعالى الأنصار للإسلام بوجْهَيْن :
أحدهما : أنَّ بني إسرائيل كانُوا مجاوِرِينَ لهم ، وكانوا يقولُونَ لِمَنْ يتوعَّدونه من العَرَبِ : يُبْعَثُ لَنَا الآنَ نَبِيٌّ نَقْتُلُكُمْ معه قَتْلَ عَادٍ وإرَمَ ، فلمَّا رأَى النَّفَر من الأنْصَارِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال بعضُهم لبعضٍ : هذا ، واللَّهِ ، النَّبيُّ الَّذِي تَذْكُرُه بَنُو إسرائيل ، فلا تُسْبَقَنَّ إلَيْهِ.
والوجْهُ الآخرُ : الحَرْبُ الَّتي كَانَتْ ضرَّسَتْهم ، وأفْنَتْ سراتهم ، فَرَجوْا أنْ يجمع اللَّه به كلمتهم ، فكان الأمر كما رَجَوْا ، فعدَّد اللَّه سبحانَهُ علَيْهم نعمَتَهُ في تأليفهم بعد العَدَاوة ، وذَكَّرهم بها قال الفَخْر : كانَتِ الأنصارُ قَبْلَ الإسلام أعداءً ، فلما أكرمهم اللَّه [ سبحانه ] بالإسلام ، صاروا إخواناً في اللَّه متراحِمِينَ.
واعلم أنَّ كلَّ مَنْ كان وجهه إلى الدنيا ، كان معادياً لأكثر الخَلْق ، ومَنْ كان وجهه إلى خدمة المولى سبحانه ، لَمْ يكُنْ معادِياً لأحدٍ ؛ لأنه يَرَى الكُلَّ أسيراً في قبضة القَضَاء والقَدَر ، ولهذا قيل : إن العارف ، إذا أَمَرَ ، أَمَرَ برفْقٍ ، ونَصَحَ لاَ بِعُنْفٍ وعُسْر ، وكيف ، وهو مُسْتَبْصِرٌ باللَّه في القَدَر. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 296}(15/299)
فائدة
قال فى الأمثل :
(واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً).
والملفت للنظر هو تكرار كلمة (نعمة) في هذه الآية مرتين وهو إشعار بأهمية الوحدة هذه الموهبة الإلهية التي لا تحققّ إلاَّ في ظل التعاليم الإسلامية والاعتصام بحبل الله.
والنقطة الأُخرى الجديرة بالاهتمام أيضاً هي أن الله نسب تأليف قلوب المؤمنين إلى نفسه فقال (فألف بين قلوبكم) أي أن الله ألف بين قلوبكم ، وبهذا التعبير يشير القرآن الكريم إلى معجزة اجتماعية عظيمة للإسلام ، لأننا لو لاحظنا ما كان عليه العرب والمجتمع الجاهلي من عداوات واختلافات وما كان يكمن في القلوب من أحقاد طويلة عميقة وما تراكم فيها من ضغائن مستحكمة ، وكيف أن أقل شرارة صغيرة أو مسألة جزئية كانت تكفي لتفجير الحروب ، واندلاع القتال في ذلك المجتمع المشحون بالأحقاد ، وخاصة بالنظر إلى تفشي الأمية والجهل الملازم عادة للإصابة باللجاج والعناد والعصبية ، فإن أفراداً من هذا النوع من الصعب أن يتناسوا أبسط أُمورهم فكيف بالأحداث الدامية الكبرى ؟ ومن هنا تتجلى أهمية المعجزة الاجتماعية التي حققها الإسلام حيث وحد الصفوف ، وألف بين القلوب ، وأنسى الأحقاد ، تلك المعجزة التي أثبتت أن تحقيق مثل هذه الوحدة وتأليف تلك القلوب المتنافرة المتباغضة ، وإيجاد أُمة واحدة متآخية من ذلك الشعب الممزق الجاهل ما كان ليتيسر في سنوات قليلة بالطرق والوسائل العادية.
اعتراف العلماء والمؤرخين :
وقد كانت أهمية هذا الموضوع (أي وحدة القبائل العربية المتباغضة بفضل الإسلام) إلى درجة أنها لم تخف على العلماء والمؤرخين ، حتّى غير المسلمين منهم ، فقد اتفق الجميع في الإعجاب بهذه المسألة ، وإظهارها في كتاباتهم ، وها نحن نذكر نماذج من ذلك : (15/300)
يقول "جان ديون پورث" العالم الإنجليزي المشهور : "لقد حول محمّد العربي البسيط ، القبائل المتفرقة والجائعة ، الفقيرة في بلدة إلى مجتمع متماسك منظم ، امتازت ، فيما بعد ـ بين جميع شعوب الأرض بصفات وأخلاق عظيمة وجديدة ، واستطاع في أقل من ثلاثين عاماً وبهذا الطريق أن يتغلب على الإمبراطورية الرومانية ، ويقضي على ملوك إيران ، ويستولي على سوريا وبلاد ما بين النهرين ، وتمتد فتوحاته إلى المحيط الأطلسي وشواطىء بحر الخزر وحتى نهر سيحان (في جنوب شرقي آسيا الوسطى).
ويقول توماس كارليل : "لقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور وأحيى به منها أمة خاملة لا يسمع لها صوت ولا يحس فيها حركة حتّى صار الخمول شهرة ، والغموض نباهة ، والضعة رفعة ، والضعف قوّة ، والشرارة حريقاً ، وشمل نوره الأنحاء ، وعم ضوؤه الأرجاء وما هو إلاَّ قرن بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح له قدم في الهند ، وأُخرى في الأندلس ، وعم نوره ونبله وهداه نصف المعمورة".
ويقول الدكتور "غوستاف لوبون" : معترفاً بهذه الحقيقة : "... وإلى زمان وقوع هذه الحادثة المدهشة (يعني الإسلام) الذي أبرز العربي فجأة في لباس الفاتحين ، وصانعي الفكر والثقافة لم يكن يعد أن جزء من أرض الحجاز من التاريخ الحضاري ولا أنه كان يتراءى فيها للناظر أي شيء أو علامة للعلم والمعرفة ، أو الدين".
ويكتب "نهرو" العالم والسياسي الهندي الراحل في هذا الصدد قائلاً :
"إن قصة انتشار العرب في آسيا وأوروبا وإفريقيا والحضارة الراقية والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم أعجوبة من أعجوبات التاريخ ، ولقد كان محمّد واثقاً بنفسه ورسالته ، وقد هيأ بهذه الثقة وهذا الإيمان لأُمته أسباب القوّة والعزّة والمنعة".
لقد كان وضع العرب سيئاً إلى أبعد الحدود حتّى إن القرآن يصف تلك الحالة بأنهم كانوا على حافة الانهيار والسقوط إذ يقول : (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها). أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 623 ـ 625}(15/301)
فصل
قال البغوى :
قوله تعالى : {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار : كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعتْ بينهما عداوةٌ بسبب قتيل ، فتطاولت تلك العداوة والحربُ بينهم عشرين ومائة سنة إلى أن أطفأ الله عز وجل ذلك بالإسلام وألف [بينهم] برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكان سبب ألفتهم أن سويد بن الصامت أخا بني عمرو بن عوف وكان شريفا يسميه قومه الكامل لجلَدِهِ ونسبه ، قدم مكة حاجًا أو معتمرًا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُعث وأُمر بالدعوة ، فتصدى له حين سمع به ودعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد : فلعلّ الذي معك مثل الذي معي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [وما الذي معك قال : مجلّة لقمان يعني حكمته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم] اعرضها علي فعرضها ، فقال : إنَّ هذا لكَلامٌ حسن ، معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله عليّ نورًا وهدىً فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم [يَبْعُدْ] منه وقال : إن هذا [ لقول] حسن ، ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل يوم بُعاث فإنَّ قومه ليقولون : قد قتل وهو مسلم.(15/302)
ثم قدم أبو الحيسر أنس بن رافع ومعه فئة من بني الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحِلْفَ من قريش على قوم من الخزرج ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم ، فقال : هل لكم إلى خيرٍ مما جئْتُم له ؟ فقالوا : وما ذلك ؟ قال : أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن لا يشركوا بالله شيئا ، وأنزل علي الكتاب ، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا : أي قوم هذا والله خير مما جئتم له ، فأخذ أبو الحيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال : دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.
فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزازَ نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم ، فلقي عند العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرًا ، وهم ستة نفر : أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء ، ورافع بن مالك العجلاني ، وقطبة بن عامر بن حديدة ، وعقبة بن عامر بن نابي ، وجابر بن عبد الله ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنتم ؟ قالوا : نفرٌ من الخزرج ، قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم : قال : أفلا تجلسون حتى أكلّمكم ؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرضَ عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.
(15/303)
قالوا : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهودًا كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وهم كانوا أهل أوثان وشرك ، وكانوا إذا كان منهم شيء قالوا : إن نبيا الآن مبعوثٌ قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرَم ، فلمّا كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي تَوعَّدَكُم به يهود ، فلا يسبقُنكَّم إليه ، فأجابوه وصدقوه وأسلموا ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك.
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا به صلى الله عليه وسلم ، فلما قدموا المدينة ذَكَرُوا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دارٌ من دُور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا وهم : أسعد بن زرارة ، وعوف ، ومعاذ ابنا عفراء ، ورافع بن مالك بن العجلان ، وذكوان بن عبد القيس ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وعباس بن عبادة ، وعقبة بن عامر ، وقطبة بن عامر ، وهؤلاء خزرجيّون وأبو الهيثم بن التيهان ، وعويمر بن ساعدة من الأوس ، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، على أن لا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا ، إلى آخر الآية فإن وفيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم شيئًا من ذلك فأُخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفارةٌ له ، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم ، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب.
(15/304)
قال : فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويُفقهَهم في الدين ، وكان مُصعب يُسمى بالمدينة المقرئ ، وكان منزله على أسعد بن زرارة ، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطًا ، من حوائط بني ظفر ، فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حُضير : انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءَنا فازجرهما ، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذاك لكفيتكه ، وكان سعد بن معاذ وأُسَيْد بن حضير سَيِّدَيْ قومِهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط ، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه ، قال مصعب : إن يجلسْ أكلمه قال : فوقف عليهما متشتّمًا فقال : ما جاء بكم إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة ، فقال له مصعب : أوَ تجلس فتسمع ؟ فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره ، قال : أنصفتَ ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا والله لَعَرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به ، في إشراقه وتسهله ، ثم قال : ما أحسن هذا الكلام وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسلُ وتُطهرُ ثوبَيك ثم تشهد شهادة الحق [ثم تصلي ركعتين فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق] ثم قام وركع ركعتين ثم قال لهما : إنَّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن ، سعد بن معاذ ، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من(15/305)
عندكم ، فلما وقف على النادي قال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلمّتُ الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا وقد نهيتُهما فقالا فافعل ما أحببت ، وقد حُدثتُ أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زُرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد [مغضبًا] مبادرًا للذي ذكر له من بني حارثة ، فأخذ الحربة ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئا فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما مَتشتمًا ثم قال لأسعد بن زرارة : لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ، تغشانا في دارنا بما نكره وقد قال أسعد لمصعب : جاءك والله سيد قومه ، إن يتبعك لم يخالفك منهم أحد ، فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرًا ورغبتَ فيه قبلتَه ، وإن كرهتَه عَزلنا عنك ما تكره ، قال سعد : أنصفت ، ثم ركز الحربة وجلس ، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن قال فعرفنا والله في وجهه الإسلام : قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله ، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا تغتسل وتطهر ثوبيك ، ثم تشهد شهادة الحق ثم [تصلي] ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أُسَيْد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا : نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبةً قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، قال : فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجلُ ولا امرأةٌ إلا مسلم أو مسلمة ، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء(15/306)
مسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف ، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر ، وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدرٌ وأُحد والخندق.
قالوا : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية.
(15/307)
قال كعب بن مالك - وكان قد شهد ذلك -فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه ، وقلنا له : يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عمّا أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة ، وكان نقيبا ، فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا ، حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة ، ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني النجار ، وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة ، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويتوثق له ، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب ، فقال : يا معشر الخزرج -وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها -إن محمدًا صلى الله عليه وسلم منّا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده ، وأنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزٍ ومنعةٍ.
قال : فقلنا قد سمعنا ما قلت : فتكلمْ يا رسول الله وخذْ لنفسك ولربِّك ما شئت.
(15/308)
قال : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه [أنفسكم ونساءكم] وأبناءكم ، قال : فأخذ البراء بن مَعْرُور بِيدِهِ ثم قال : والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أُزُرَنَا فبايعنا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.
قال : [فاعترض] القول -والبراءَ يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم -أبو الهيثم بن التيهان ، فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا يعني العهود ، وإنا قاطعوها فهل عسيتَ إن فعلنا نحن ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ، فتبسّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحاربُ من حاربتم وأسالم من سالمتم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم" فأخرجوا اثني عشر نقيبًا تسعةً من الخزرج وثلاثةً من الأوس.
قال عاصم بن عمرو بن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عُبادة بن نَضْلة الأنصاري : يا معشر الخزرج هل تدرون علاما تبايعون هذا الرجل ؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة واشرافكم قتلى أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خِزْيٌ في الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتُموه إليه من تهلكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.
(15/309)
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفيَّنا ؟ قال : "الجنة" قال : ابسطْ يَدكَ فبسطَ يده فبايعوه ، وأول من ضرب على يده البراء بن مَعْرُور ثم تتابع القوم ، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعتُه قط : يا أهل الجباجب هل لكم في مُذَمَّمٍ والصُّباة قد اجتمعوا على حربكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عدو الله ، هذا أزبّ العقبة ، اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغنّ لك ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفضوا إلى رحالكم.
فقال العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق لئن شئت [لنميلن] غدًا على أهل منًى بأسيافنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم نُؤْمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم.
قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جِلّةُ قريش حتى جاؤونا في منازلنا ، فقالوا : يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم [منكم] قال : فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله : ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا ، ولم يعلموا ، وبعضُنا ينظر إلى بعض ، وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة [المخزومي] وعليه نعلان جديدان ، قال فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ، قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي وقال : والله لتنتعلنهما قال يقول أبو جابر رضي الله عنه : مه والله أحْفَظْتَ الفتى فاردد إليه نعليه ، قال : لا أردهما فألٌ -والله -صالح والله لئن صدق الفأل [لأسلبنه].
(15/310)
قال : ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شدّدوا العقد ، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون فيها" فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار.
فأول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرْسالا إلى المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرَجَها بالإسلام ، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. {أخرج هذه القصة ابن إسحاق في المغازي 1 / 265 - 266 من سيرة ابن هشام مع الروض الأنف وعنه أخرجها الطبري في التفسير : 7 / 78 - 79}. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 79 ـ 81}
قوله تعالى : {وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا}
قال الفخر :
المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم ، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار ، والمصير منهم إلى حفرتها ، فبيّن تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة ، وقد قربوا من الوقوع فيها.
قالت المعتزلة : ومعنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول عليه السلام وسائر ألطافه حتى آمنوا قال أصحابنا : جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، والله تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار ، فدل هذا على أن خالق أفعال العباد هو الله سبحانه وتعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 144}
لطيفة
قال ابن عاشور : (15/311)
أرى أن شَفا حفرة النَّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتَّفاني الَّذي عبَّر عنه زهير بقوله :
تفانَوا ودَقُّوا بينَهم عِطْر مَنْشَم...
بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النَّار كالأُخدُود فليس بينهم وبين الهلاك السَّريع التَّام إلا خطوة قصيرة ، واختيار الحالة المشبَّه بها هنا لأن النَّار أشدّ المهلكات إهلاكاً ، وأسرعُها ، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما : نعمة الأخوة بعد العداوة ، ونعمة السلامة بعد الخطر ، كما قال أبو الطيب :
نَجاة من البأساءِ بعدَ وقوع...
والإنقاذ من حالتين شنيعتين.
وقال جمهور المفسرين : أراد نار جهنَّم.
وعلى قولهم هذا يكون قوله : {شفا حفرة} مستعاراً للاقتراب استعارة المحسوس للمعقول.
والنَّارُ حقيقة ، ويبعد هذا المحمل قوله تعالى : {حفرة} إذ ليست جهنّم حفرة بل هي عالم عظيم للعذاب.
وورد في الحديث " فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان " لكن ذلك رؤيا جاءت على وجه التمثيل وإلا فهي لا يحيط بها النّظر.
ويكون الامتنان على هذا امتناناً عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النَّارَ علموا أنَّهم كانوا على شفاها.
وقيل : أراد نار الحرب وهو بعيد جداً لأنّ نار الحرب لا توقد في حُفرة بل توقد في العلياء ليراها من كان بعيداً كما قال الحارث :
وبعينيك أوقدَتْ هند النَّارَ...
عِشاء تُلْوي بها العَليَاء
فتنورتَ نَارها من بعيد...
بخَزَازَى أيَّان منك الصِلاء
ولأنهم كانوا ملابسين لها ولم يكونوا على مقاربتها.
والضّمير في {منها} للنَّار على التَّقادير الثَّلاثة.
ويجوز على التَّقدير الأول أن يكون لشَفا حفرة وعاد عليه بالتأنيث لاكتسابه التَّأنيث من المضاف إليه كقول الأعشى : (15/312)
وتَشْرَقَ بالقَوْلِ الذي قد أذعتَه...
كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناة من الدم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 177 ـ 178}
فائدة
قال الفخر :
وفي قوله {فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا} سؤال وهو : أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة ، وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها ؟.
وأجابوا عنه من وجوه
الأول : الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها
والثاني : أنها راجعة إلى النار ، لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة ، وهذا قول الزجاج
الثالث : أن شفا الحفرة ، وشفتها طرفها ، فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 144}
وقال الآلوسى :
{وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار} أي وكنتم على طرف حفرة من جهنم إذ لم يكن بينكم وبينها إلا الموت وتفسير الشفا بالطرف مأثور عن السدي في الآية ووارد عن العرب ويثني على شفوان ويجمع على أشفاء ويضاف إلى الأعلى كـ {شفا جرف هار} [ التوبة : 109 ] وإلى الأسفل قيل : كما هنا وكون المراد من النار ما ذكرنا هو الظاهر وحملها على نار الحرب بعيد {فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس والضمير المجرور عائد إما على {النار} ، أو على حفرة أو على شفا لأنه بمعنى الشفة ، أو لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته... كما شرقت صدر القناة من الدم(15/313)
فإن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان بعضاً منه أو فعلاً له أو صفة كما صرحوا به وما نحن فيه من الأول ، ومن أطلق لزمه جواز قامت غلام هند ، واختار الزمخشري الاحتمال الأخير ، وقال ابن المنير : "وعود الضمير إلى الحفرة أتم لأنها التي يمتن بالانقاذ منها حقيقة ، وأما الامتنان بالانقاذ من الشفا قلما يستلزمه الكون على الشفا غالباً من الهوي إلى الحفرة فيكون الانقاذ من الشفا إنقاذاً من الحفرة التي يتوقع الهوي فيها فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة ( تكون ) أبلغ وأوقع مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في "التعاليق" من ضرورة الشعر خلاف رأيه في "الإيضاح" ، وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ من الحفرة ، وقد علم أنهم كانوا صائرين إليها غالباً لولا الانقاذ الرباني ( فبولغ في الامتنان بذلك ) ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " وإلى قوله تعالى : {أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ} [ التوبة : 109 ] فانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سبياً مؤدياً إلى انهياره في نار جهنم مع تأكيد ذلك بقوله سبحانه : {هَارٍ} " انتهى ، ومنه يعلم ما في قول أبي حيان ( في البحر" 391 ) : من "أنه لا يحسن عوده إلا إلى الشفا لأن كينونتهم عليه هو أحد جزأي الإسناد فالضمير لا يعود إلا إليه لا على الحفرة لأنها غير محدث عنها ولا على النار لأنه إنما جيء بها لتخصيص الحفرة. وأيضاً فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ( لأن الإنقاد منه يستلزم الإنقاد من الحفرة ومن النار ) ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الانقاذ من
الشفا فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، نعم ما ذكره من أن عوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ظاهر بناءاً على أن الأصل أن يعود الضمير على المضاف دون المضاف إليه إذا صلح لكل منهما ولو بتأويل إلا أنه قد يترك ذلك فيعود على المضاف إليه إما مطلقاً كما هو قول ابن المنير أو بشرط كونه بعضه أو كبعضه كقول جرير :
أرى مرّ السنين ( أخذن ) مني... فإن مرّ السنين من جنسها ، وإليه ذهب الواحدي والشرط موجود فيما نحن فيه. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 20}(15/314)
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } هذه الآية الكريمة تدل على أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا مع أنهم كانوا أهل فترة, والله تعالى يقول: {وماكنا معذّّبين إلا أن نبعث رسولا}, ويقول: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} الآية, وقد بين الله هذه الحجة بقوله في سورة طه: {و لو أنا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى}, والآيات بمثل هذا كثيرة.
والذي يظهر في الجواب: - والله تعالى أعلم - أنه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق عذر لأحد, فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت, كما بينه تعالى بقوله: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} الآية.
وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين تلزمهم بها الحجة, فهو جواب باطل؛ لأن نصوص القرآن مصرِّحة بأنهم لم يأتهم نذير كقوله تعالى: {لتنذر قوما ما أُنذر أباؤهم}, وقوله: {أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك} الآية, وقوله: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك}, وقوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير} الآية, وقوله تعالى: {وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير}. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 66 ـ 67}(15/315)
فصل
قال الفخر :
إنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها ، وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة ، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء ، وبين ذلك الشيء ، ثم قال : {كذلك يُبَيّنُ الله} الكاف في موضع نصب ، أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها ،
قال الجبائي : الآية تدل على أنه تعالى يريد منهم الاهتداء ، أجاب الواحدي عنه في "البسيط" فقال : بل المعنى لتكونوا على رجاء هداية.
وأقول : وهذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ومن المعلوم أن على مذهبنا قد لا يريد ذلك الرجاء ، فالجواب الصحيح أن يقال كلمة ( لعلّ ) للترجي ، والمعنى أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 144}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : {كذلك يبين الله لكم آياته} نعمة أخرى وهي نعمة التَّعليم والإرشاد ، وإيضاح الحقائق حتَّى تكمل عقولهم ، ويَتَبَيَّنوا مَا فيه صلاحهم.
والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح.
والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم ، كقول الحرث بن حلزة :
مَنْ لنا عنده من الخَيْر آيا...
تٌ ثلاث في كلّهن القضاء
ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية.
وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 178}(15/316)
من فوائد الجصاص فى الآية
قال رحمه الله :
قَوْله تَعَالَى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى الْحَبْلِ هَهُنَا : " أَنَّهُ الْقُرْآنُ " وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ.
وَقِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ دِينُ اللَّهِ.
وَقِيلَ : بِعَهْدِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ النَّجَاةِ كَالْحَبْلِ الَّذِي يُتَمَسَّكُ بِهِ لِلنَّجَاةِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ.
وَيُسَمَّى الْأَمَانُ الْحَبْلَ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ النَّجَاةِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : {إلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ} يَعْنِي بِهِ الْأَمَانَ.
إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} أَمْرٌ بِالِاجْتِمَاعِ وَنَهْيٌ عَنْ الْفُرْقَةِ ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ : {وَلَا تَفَرَّقُوا} مَعْنَاهُ التَّفَرُّقُ عَنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي أُمِرُوا جَمِيعًا بِلُزُومِهِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ : " وَلَا تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ فَرِيقَانِ مِنْ النَّاسِ : أَحَدُهُمَا : نُفَاتَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ، مِثْلُ النِّظَامِ ، وَأَمْثَالِهِ مِنْ الرَّافِضَةِ.(15/317)
وَالْآخَرُ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ ، وَيَقُولُ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ، وَيُخْطِئُ مَنْ لَمْ يُصِبْ الْحَقَّ عِنْدَهُ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ : {وَلَا تَفَرَّقُوا}.
فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ.
وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا كَمَا قَالُوا ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنْحَاءَ : مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ الْخِلَافُ فِيهِ ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ الْعُقُولُ عَلَى حَظْرِهِ فِي كُلِّ حَالٍ أَوْ عَلَى إيجَابِهِ فِي كُلِّ حَالٍ ؛ فَأَمَّا مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ تَارَةً وَاجِبًا وَتَارَةً مَحْظُورًا وَتَارَةً مُبَاحًا ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ سَائِغٌ يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ ، كَاخْتِلَافِ حُكْمِ الطَّاهِرِ وَالْحَائِضِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ.
وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.
فَمِنْ حَيْثُ جَازَ وُرُودُ النَّصِّ بِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ النَّاسِ فِيهِ فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ مُتَعَبِّدًا بِخِلَافِ مَا تَعَبَّدَ بِهِ الْآخَرُ ، لَمْ يَمْتَنِعْ تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى الْخِلَافِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ ؛ وَلَوْ كَانَ جَمِيعُ الِاخْتِلَافِ مَذْمُومًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ وُرُودُ الِاخْتِلَافِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ ، فَمَا جَازَ مِثْلُهُ فِي النَّصِّ جَازَ فِي الِاجْتِهَادِ.(15/318)
وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمُجْتَهِدَانِ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَأُرُوشِ كَثِيرٍ مِنْ الْجِنَايَاتِ فَلَا يَلْحَقُ وَاحِدًا مِنْهَا لَوْمٌ ، وَلَا تَعْنِيفٌ ؛ وَهَذَا حُكْمُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَذْمُومًا لَكَانَ لِلصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ ، وَلَمَا وَجَدْنَاهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَوَاصِلُونَ يُسَوِّغُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ مُخَالَفَتَهُ مِنْ غَيْرِ لَوْمٍ ، وَلَا تَعْنِيفٍ فَقَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَسْوِيَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاخْتِلَافِ.
وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ} وَقَالَ : {لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ} ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَنَا بِقَوْلِهِ : {وَلَا تَفَرَّقُوا} عَنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاخْتِلَافِ.
وَأَنَّ النَّهْيَ مُنْصَرِفٌ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا فِي النُّصُوصِ أَوْ فِيمَا قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ أَوْ سَمْعِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا ؛ وَفِي فَحَوَى الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الِاخْتِلَافُ(15/319)
وَالتَّفَرُّقُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَا فِي فُرُوعِهِ ، وَمَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ.
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ الْمَذْمُومَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ هُوَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ لَا فِي فُرُوعِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 313 ـ 315}(15/320)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً} الحبل - في الأصل - هو : السبب ، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل ، وأصله في الأجرام واستعماله في المعانِي من باب المجاز. ويجوز أن يكون - حينئذٍ - من باب الاستعارة ، ويجوز أن يكون من باب التمثيل ، ومن كلام الأنصار رضي الله عنهم : يا رسولَ الله ، إنَّ بيننا وبَيْنَ القوم حبالاً ونحن قاطعوها - يعْنُون العهود والحِلْف.
قال الأعشى : [ الكامل ]
وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ... أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا
يعني العهود.
قيل : والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف ، فيأخذ من القبيلة عَهداً إلى الأخرى ، ويُعْطَى سَهْماً وحَبْلاً ، ويكون معه كالعلامة ، فسُمِّيَ العهدُ حَبْلاً لذلك ، وهذا المعنى غير طائل ، بل سُمِّي العهد حبلاً للتوصُّل به إلى الغرض.
وقال آخر : [ الكامل ]
مَا زِلْتُ مُعْتَصِماً بِحَبْلٍ مِنْكُمُ... مَنْ حَلَّ سَاحَتَكُمْ بِأسْبَابِ نَجَا(15/321)
قال القرطبي : العِصْمة : المَنَعَة ، ومنه يقال للبَذْرَقة : عصمة ، والبذرقة : الخفارة للقافلة ، وهو من يُرسَلُ معها يحميها ممن يؤذيها ، قال ابنُ خالويه : " البذرقة ليست بعربيةٍ ، وإنَّما هي كلمة فارسية عرَّبتها العرب ، يقال : بعث السلطان بَذْرَقَةً مع القافلة ". والحبل لفظ مشترك ، وأصله - في اللغة : السبب الذي يُوصل به إلى البغية والحاجة ، والحبل : المستطيل من الرمل ، ومنه الحديث : " واللهَ مَا تَرَكَتُ مِنْ حَبْلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ " ؟ والحبل : الرَّسَن ، والحبل : الداهية.
قال كثير : [ الطويل ]
فَلاَ تَعْجَلِي يَا عَزَّ أنْ تتفهمي... بنُصْحٍ أتَى الوَاشُونَ أمْ بِحُبُولٍ
والحبالة : حبالة الصائد ، وكلها ليس مراداً في الآية إلا الذي بمعنى العَهْد.
وقوله : {جَمِيعًا} أي : مجتمعين عليه ، فهو حال من الفاعل.
قوله : {وَلاَ تَفَرَّقُوا} قراءة البَزِّيِّ بتشديد التاء وصلاً وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله " ولا تيمموا " والباقون بتخفيفها على الحذف.
قوله : {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ}.
{نِعْمَةَ الله} مصدر مضاف لفاعله ؛ إذ هو المُنْعِم ، {عَلَيْكُمْ} ، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس {نِعْمَتَ} ؛ لأن هذه المادةَ تتعدى بـ " على " قال تعالى : {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} [ الأحزاب : 37 ].
ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من " نِعْمَةَ " ، فيتعلق بمحذوف ، أي : مستقرة ، وكائنة عليكم.
قوله : {إِذْ كُنْتُمْ} " إذْ " منصوبة - بـ " نِعْمَةَ " ظرفاً لها ويجوز أن يكون متعلِّقاً بالاستقرار الذي تضمنه {عَلَيْكُمْ} إذا قلنا : إن " عَلَيْكُمْ " حال من النعمة ، وأما إذا علقنا " عَلَيْكُمْ " بـ " نِعْمَةَ " تعيَّن الوجه الأول.(15/322)
وجوز الحوفي أن يكون منصوباً بـ " اذْكُروا " يعني : مفعولاً به ، لا أنه ظرف له ؛ لفساد المعنى ؛ إذْ " اذْكُرُوا " مستقبل ، و" إذْ " ماضٍ.
{فَأَصْبَحْتُمْ} أي : فصرتم. و" أصبح " من أخوات " كان " فإذا كانت ناقصة ، كانت مثل " كان " في رفع الاسم ونَصْب الخبر ، وإذا كانت تامة رفعت فاعلاً ، واستغنت به ، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال ، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح ، تقول : أصبح زيد ، أي دخل في الصباح ، ومثلها - في ذلك - " أمسى " قال تعالى {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [ الروم : 17 ] وقال : {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [ الصافات : 137 ].
وفي أمثالهم : " إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح " ؛ لأن القين - وهو الحداد - ربما قلَّت صناعته في أحياء العرب ، فيقول : أنا غداً مسافر ، فيأتيه الناس بحوائجهم ، ويقيم ، ويترك السفر ، فأخرجوه مثلاً لمن يقول قولاً ويخالفه. والمعنى : فاعلم أنه مقيم في الصباح. ويكون بمعنى " صار " عملاً ومعنًى. كقوله : [ الخفيف ]
فَأصْبَحُوا كَأنَّهُمْ وَرَقٌ جَفْ... فَ فَألْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ
أي : صاروا.
و " إخواناً " خبرها ، وجوَّزوا فيها - هنا - أن تكون على بابها - من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح ، وتكون بمعنى : " صار " - وأن تكون تامة ، أي : دخلتم في الصباح ، فإذا كانت ناقصة على بابها - فالأظهر أن يكون " إخْناناً " خبرها ، و" بنعمته " متعلق به لما فيه من معنى الفعل ، أي : تآخيتم بنعمته ، والباء للسببية.(15/323)
وجوَّز أبو حيان أن تتعلق بـ " أصْبَحْتم " ، وقد عُرف ما فيه من خلاف. وجوّز غيره أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل " أصْبَحْتُمْ " ، أي : فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته ، أو حال من " إخواناً " ؛ لأنه في الأصل - صفة له.
وجوَّزوا أن تكون " بِنِعْمَتِهِ " هو الخبر ، و" إخواناً " حال والباء بمعنى الظرفية ، وإذا كانت بمعنى : " صار " جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه ، وإذا كانت تامة ، فإخواناً حال ، و" بِنِعْمَتِهِ " فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية.
قال ابن عطية : " فأصْبَحْتُمْ " عبارة عن الاستمرار - وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت - وإنما خُصَّت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث مبدأ النهار ، وفيه مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحبها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومَه في الأغلب.
ومنه قول الربيع بن ضَبع : [ المنسرح ]
أصْبَحْتُ لاَ أحْمِلُ السِّلاَحَ وَلاَ... أمْلُِ رَأسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرَا
قال أبو حيان : وهذا الذي ذكره - من أن " أصبح " للاستمرار وعلله بما ذكره - لم أر أحداً من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تُسْتَعْمَل بالوجهين اللذين ذكرناهما.
قال شهاب الدين : وهذا - الذي ذكره ابن عطية - معنى حَسَنٌ ، وإذا لم يَنُصّ عليه النحويون لا يُدْفَع ؛ لأن النحاة - غالباً - إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ ، وأما المعاني المفهومة من فَحْوى الكلام ، فلا حاجة إلى الكلام عليها غالباً.
والإخوان : جمع أخ ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه ، وعند غيره هي جمع.(15/324)
وقال بعضهم : إن الأخ في النسب - يُجْمَع على : " إخوة " ، وفي الدين يُجْمَع على : " إخوان " ، هذا أغلب استعمالهم ، وقال تعالى : {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [ الحجرات : 10 ] ونفس هذه الآية تَرُدُّ ما قاله ؛ لأن المراد - هنا - ليس أخُوَّة النسب إنما المراد أخوة الدين والصداقة.
قال أبو حاتم : قال أهل البصرة : الإخوة في النسب ، والإخوان في الصداقة ، قال : وهذا غلط ؛ يقال للأصدقاء والأنسباء : إخوة ، وإخوان ، قال تعالى : {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [ الحجرات : 10 ] ولم يَعْنِ النسب ، وقال تعالى : {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [ النور : 61 ] وهذا في النسب.
وهذا الرد من أبي حاتم إنما يتّجِه على هذا النقل المُطْلق ، ولا يرد على النقل الأول ؛ لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال.
قال الزجاج : أصل الأخ - في اللغة - من التوخي - وهو الطلب ؛ فإن الأخ مقصده مقصد أخيه ، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين ما في قلبه ، ولا يُخْفِي عنه شيئاً.
قوله : {وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ} شَفَا الشيء : طرفه وحرفه ، وهو مقصور من ذوات الواو ، ويُثَنَّى بالواو نحو : شَفَوَيْن ويكتب بالألف ، ويُجْمَع على أشفاء ، ويُسْتَعْمَل مضافاً إلى أعلى الشيء وإلى أسفله ، فمن الأول : {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [ التوبة : 109 ] ومن الثاني : هذه الآية.
وأشْفَى على كذا : قاربه ، ومنه : أشفى المريض على الموت. قال يعقوب : يقال للرجل عند موته ، وللقمر عند محاقه ، وللشمس عند غروبها : ما بقي منه ، أو منها ، إلا شَفاً ، أي : إلا قليل. وقال بعضهم : يقال لما بين الليل والنهار ، وعند غروب الشمس إذا غاب بعضها : شَفاً.
وأنشد : [ الرجز ]
أدْرَكْتُهُ بِلاَ شَفاً ، أوْ بِشَفَا... وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تكونُ دَنفَا(15/325)
قوله بلا بشفا : أي : غابت الشمسُ ، وقوله : أو بشفا ، أي : بقيت منه بقية.
قال الراغب : والشفاء من المرض : موافاة شفا السلامة ، وصار اسماً للبُرْء والشفاء.
قال البخاري : قال النحاس : " الأصل في شفا - شَفَوٌ ، ولهذا يُكْتَب بالألف ، ولا يمال ".
وقال الأخفش : " لما لم تَجُز فيه الإمالة عُرِفَ أنه من الواو " ؛ لأن الإمالةَ من الياء.
قال المهدويّ : " وهذا تمثيل يُراد به خروجُهم من الكفر إلى الإيمان ".
قوله : {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} في عَود هذا الضمير وجوه :
أحدها : أنه عائد على " حُفْرَةٍ ".
والثاني : أنه عائد على " النَّارِ ".
قال الطبريّ : إن بعض الناس يُعيده على الشفا ، وأنث من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث ، كما قال جرير : [ الوافر ]
أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ
قال ابن عطية : " وليس الأمر كما ذكروا ؛ لأنه لا يُحتاج - في الآية - إلى مثل هذه الصناعة ، إلا لو لم يجد للضمير مُعَاداً إلا الشفا ، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضميرُ عليه ، ويُعَذِّده المعنى المتكلَّم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة ".(15/326)
قال أبو حيان : " وأقول : لا يحسن عَوْدُه إلا على الشفا ؛ لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه ، وأما ذِكْرُ الحفرة ، فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زَيْدٌ غلامَ جَعْفَر ، لم يكن جعفر محدِّثاً عنه ، وليس أحد جُزْأي الإسناد ، وكذا لو قلتَ : زيد ضرب غلامَ هند ، لم تُحَدِّث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً ؛ تخصيصاً للمحدَّث عنه ، وأما ذكر : " النَّارِ " فإنما ذُكِرَ لتخصيص الحُفْرة ، وليست - أيضاً - أحد جزأي الإسناد ، وليست أيضاً محدَّثاً عنها ، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة من النار ؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم من الحُفْرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا ، فعَوْدُه على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ".
قال الزجَّاج : " وقوله : " مِنْهَأ " الكناية راجعة إلى النار ، لا إلى الشَّفَا ؛ لأنَّ القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة ".
وقال غيره : " الضمير عائد إلى الحُفْرَةِ ؛ ولما أنقذهم من الحُفْرَةِ فقد أنقذهم من شَفَا الحفرة ؛ لأن شفاها منها ".
قال الواحديّ : على أنه يجوز أن يذكر المضاف إليه ، ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه - دون المضاف ، كقول جرير : [ الوافر ]
أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ
كذلك قول العجاج : [ الرجز ]
طُولُ اللَّيَالِي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي... طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرضِي
قال : وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه ، فإن مَرَّ السنين هو المسنون ، وكذلك شفا الحُفْرة من الحفرة ، فذكَّر الشَّفَا ، وعادت الكناية إلى الحفرة.(15/327)
وهذان القولان نَصٌّ في رَدِّ ما قاله أبو حيان ، إلا أن المعنى الذي ذكره أولَى ؛ لأنه إذا أنقذهم من طَرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة ، وما ذكره - أيضاً - من الصناعة واضح.
قال بعضهم : " شَفَا الحُفْرة ، وشفتها : طرفها ، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث ".
والإنقاذ : التخليص والتنحِية.
قال الأزهَريُّ : " يقال : أنقذته ، ونقذته ، واستنقذته ، وتنقَّذْتُه بمعنًى ويقال : فرس نقيذ ، إذا كان مأخوذاً من قوم آخرين ؛ لأنه استُنْقِذَ منهم ".
والحفرة : فُعْلَة بمعنى : مفعولة ، كغُرْفة بمعنى : مغروفة.
قوله تعالى : {كذلك يُبَيِّنُ الله} نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضميره ، أي : يبين الله لكم تَبْييناً مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة ، لكي تهتدوا بها. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 430 ـ 449}. بتصرف يسير.
لطيفة
رُوِيَ أن أعرابيّاً سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية ، فقال الأعرابي : والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها ، فقال ابن عباس رضي الله عنه خذوها من غير فقيه. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 315}(15/328)
قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما عاب سبحانه وتعالى الكفار بالضلال ثم بالإضلال أمر المؤمنين بالهدى في أنفسهم ، وأتبعه الأمر بهداية الغير بالاجتماع ، وكان الأمر بالاجتماع المؤكد بالنهي عن التفرق ربما أفهم الوجوب لتفرد الجميع في كل جزئية من جزئيات العبادة في كل وقت على سبيل الاجتماع مع الإعراض عن كل عائق عن ذلك سواء كان وسيلة أو لا بالنسبة إلى كل فرد فرد ؛ أتبعه بقوله - منبهاً على الرضى بإيقاع ذلك في الجملة سواء كان بالبعض أو الكل كما هو شأن فروض الكفايات - : {ولتكن منكم أمة} أي جماعة تصلح لأن يقصدها غيرها ، ويكون بعضها قاصداً بعضاً ، حتى تكون أشد شيء ائتلافاً واجتماعاً في كل وقت من الأوقات على البدل {يدعون} مجددين لذلك في كل وقت {إلى الخير} أي بالجهاد والتعليم والوعظ والتذكير.
ولما عم كل خير خص ليكون المخصوص مأموراً به مرتين دلالة على جليل أمره وعليّ قدره فقال : {ويأمرون بالمعروف} أي من الدين {وينهون عن المنكر} فيه بحيث لا يخلو وقت من الأوقات عن قوم قائمين بذلك ، وهو تنبيه لهم على أن يلازموا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه رضي الله تعالى عنهم من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر حين استفزهم الشيطان بمكر شأس بن قيس في التذكير بالأحقاد والأضغان والأنكاد ، وإعلام بأن الذكرى تنفع المؤمنين.(15/329)
ولما كان هذا السياق مفهماً لأن التقدير : فإنهم ينالون بذلك خيراً كثيراً ، ولهم نعيم مقيم ؛ عطف عليه مرغباً : {وأولئك} أي العالون الرتبة العظيمو النفع {هم المفلحون} حق الإفلاح ، فبين سبحانه وتعالى أن الاجتماع المأمور به إنما هو بالقلوب الجاعلة لهم كالجسد الواحد ، ولا يضر فيه صرف بعض الأوقات إلى المعاش وتنعيم البدن ببعض المباحات ، وإن كان الأكمل صرف الكل بالنية إلى العبادة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 132 ـ 133}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى في الآيات المتقدمة عاب أهل الكتاب على شيئين أحدهما : أنه عابهم على الكفر ، فقال : {قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ} [ آل عمران : 70 ] ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر ، فقال : {قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [ آل عمران : 99 ] فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم أولاً بالتقوى والإيمان ، فقال : {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً} [ آل عمران : 102 ، 103 ] ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة ، فقال : {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 145}
وقال ابن عاشور :
هذا مفرع عن الكلام السابق : لأنه لما أظهر لهم نعمة نقلهم من حالتي شقاء وشناعة إلى حالتي نعيم وكمال ، وكانوا قد ذاقوا بين الحالتين الأمرين ثم الأحلوين ، فحلبوا الدهر أشطريه ، كانوا أحرياء بأن يسعوا بكل عزمهم إلى انتشال غيرهم من سوء ما هو فيه إلى حسنى ما هم عليه حتى يكون الناس أمة واحدة خيرة.
وفي غريزة البشر حب المشاركة في الخير لذلك تجد الصبي إذا رأى شيئا أعجبه نادى من هو حوله ليراه معه.(15/330)
ولذلك كان هذا الكلام حريا بأن يعطف بالفاء ، ولو عطف بها لكان أسلوبا عربيا إلا أنه عدل عن العطف بالفاء تنبيها على أن مضمون هذا الكلام مقصود لذاته بحيث لو لم يسبقه الكلام السابق لكان هو حريا بأن يؤمر به فلا يكون مذكورا لأجل التفرع عن غيره والتبع.
وفيه من حسن المقابلة في التقسيم ضرب من ضروب الخطابة : وذلك أنه أنكر على أهل الكتاب كفرهم وصدهم الناس عن الإيمان ، فقال : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران : 98 ، 99] الآية.
وقابل ذلك بأن أمر المؤمنين بالإيمان والدعاء إليه إذ قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران : 102]وقوله : {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ} الآية.
وصيغة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} صيغة وجوب لأنها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنها أصلها.
فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزول هذه الآية ، فالأمر لتشريع الوجوب ، وإذا كان ذلك حاصلا بينهم من قبل كما يدل عليه قوله : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران : 110] فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه ، وفيه زيادة الأمر بالدعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقررا من قبل بآيات أخرى مثل {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر : 3] ، أو بأوامر نبوية.
فالأمر لتأكيد الوجوب أيضا للدلالة على الدوام والثبات عليه ، مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء : 136].(15/331)
والأمة الجماعة والطائفة كقوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف : 38].
وأصل الأمة من كلام العرب الطائفة من الناس التي تؤم قصدا واحدا : من نسب أو موطن أو دين ، أو مجموع ذلك ، ويتعين ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم : أمة العرب وأمة غسان وأمة النصارى.
والمخاطب بضمير منكم إن كان هم أصحاب رسول الله كما هو ظاهر الخطابات السابقة آنفا جاز أن تكون من بيانية وقدم البيان على المبين ويكون ما صدق الأمة نفس الصحابة ، وهم أهل العصر الأول من المسلمين فيكون المعنى : ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير فهذه الأمة أصحاب هذا الوصف قد أمروا بأن يكونوا من مجموعهم الأمة الموصوفة بأنهم يدعون إلى الخير ، والمقصود تكوين هذا الوصف لأن الواجب عليهم هو التخلق بهذا الخلق فإذا تخلقوا به تكونت الأمة المطلوبة.
وهي أفضل الأمم.
وهي أهل المدينة الفاضلة المنشودة للحكماء من قبل ، فجاءت الآية بهذا الأمر على هذا الأسلوب البليغ الموجز.
وفي هذا محسن التجريد : جردت من المخاطبين أمة أخرى للمبالغة في هذا الحكم كما يقال : لفلان من بنيه أنصار.
والمقصود : ولتكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر حتى تكونوا أمة هذه صفتها ، وهذا هو الأظهر فيكون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خوطبوا بأن يكونوا دعاة إلى الخير ، ولا جرم فهو الذين تلقوا الشريعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة ، فهم أولى الناس بتبليغها.
وأعلم بمشاهدها وأحوالها ، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة "ليبلغ الشاهد الغائب ألا هل بلغت" وإلى هذا المحمل مال الزجاج وغير واحد من المفسرين ، كما قاله ابن عطية.(15/332)
ويجوز أيضا ، على اعتبار الضمير خطابا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أن تكون من للتبعيض ، والمراد من الأمة الجماعة والفريق ، أي : وليكن بعضكم فريقا يدعون إلى الخير فيكون الوجوب على جماعة من الصحابة فقد قال ابن عطية : قال الضحاك ، والطبري : أمر المؤمنين أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة.
فهم خاصة أصحاب الرسول وهم خاصة الرواة.
وأقول : على هذا يثبت حكم الوجوب على كل جيل بعدهم بطريق القياس لئلا يتعطل الهدى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 178 ـ 180}
فصل
قال الفخر :
في قوله {مّنكُمْ} قولان
أحدهما : أن {مِنْ} ههنا ليست للتبعيض لدليلين
الأول : أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [ آل عمران : 110 ]
والثاني : هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إما بيده ، أو بلسانه ، أو بقلبه ، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس إذا ثبت هذا فنقول : معنى هذه الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ، وأما كلمة {مِنْ} فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى : {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [ الحج : 30 ] ويقال أيضاً : لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم ، كذا ههنا ، ثم قالوا : إن ذلك وإن كان واجباً على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين ، ونظيره قوله تعالى : {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} [ التوبة : 41 ] وقوله {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [ التوبة : 39 ] فالأمر عام ، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين.(15/333)
والقول الثاني : أن {مِنْ} ههنا للتبعيض ، والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضاً على قولين
أحدهما : أن فائدة كلمة {مِنْ} هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين
والثاني : أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان
الأول : أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء : الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر ، فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف ، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً ، فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء ، ولا شك أنهم بعض الأمة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين} [ التوبة : 122 ]
والثاني : أنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين ، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم ، فكان في الحقيقة هذا إيجاباً على البعض لا على الكل ، والله أعلم.
وفيه قول رابع : وهو قول الضحاك : إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس ، والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعلم الدين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 145 ـ 146}
وقال القرطبى :
و "مِن" في قوله "مِنكم" للتبعيض ، ومعناه أن الآمِرِين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء.(15/334)
وقيل : لبيان الجنس ، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك.
قلت : القول الأوّل أصح ؛ فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر فرض على الكفاية ، وقد عيّنهم الله تعالى بقوله : {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة} [ الحج : 41 ] الآية.
وليس كل الناس مُكِّنُوا.
وقرأ ابن الزبير : "وَلْتَكُنَ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويَستَعينونَ اللَّهَ على ما أصابهم".
قال أبو بكر الأنباري : وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير ، وكلام من كلامه غَلِط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن ؛ يدلّ على صحة ما أصِفُ الحديثُ الذي حدّثنيه أبي حدّثنا ( حسن ) بن عرفة حدّثنا وكيع عن أبي عاصم عن أبي عون عن صبيح قال : سمعت عثمان بن عفّان يقرأ "ويأمرون بِالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عن المنكرِ ويستعينون الله على ما أصابهم" فما يشكّ عاقل في أن عثمان لا يعتقد هذه الزيادة من القرآن ؛ إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين ، وإنما ذكرها واعظاً بها ومؤكِّداً ما تقدمها من كلام رب العالمين جل وعلا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 165 ـ 166}
فصل
قال الفخر :
هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء ، أولها : الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف ، ثم النهي عن المنكر ، ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة ، فنقول : أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وإنما قلنا إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا لقوله تعالى : {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة} [ النحل : 125 ] وقوله تعالى : {قُلْ هذه سَبِيلِى ادعوا إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى} [ يوسف : 108 ].(15/335)
إذا عرفت هذا فنقول : الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان
أحدهما : الترغيب في فعل ما ينبغي وهو بالمعروف
والثاني : الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الجنس أولاً ثم أتبعه بنوعية مبالغة في البيان ، وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فمذكورة في كتب الكلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 146}
فائدة
قال السمرقندى :
يقال : إن الأمراء ، يجب عليهم الأمر والنهي باليد ، والعلماء باللسان ، والعوام بالقلب ، وهنا كما قال عليه الصلاة والسلام : " إذا رَأَى أَحَدٌ مُنْكَراً ، فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ "
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : بحسب امرىء إذا رأى منكراً ، لا يستطيع النكير أن يعلم الله من قلبه أنه كاره.
وروي عن بعض الصحابة أنه قال : إن الرجل إذا رأى منكراً ، لا يستطيع النكير عليه ، فليقل ثلاث مرات : اللهم إِنَّ هذا منكر ، فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 261}(15/336)
فصل
قال ابن عاشور :
إن الدعوة إلى الخير تتفاوت : فمنها ما هو بين يقوم به كل مسلم ، ومنها ما يحتاج إلى علم فيقوم به أهله ، وهذا هو المسمى بفرض الكفاية ، يعني إذ قام به بعض الناس كفى عن قيام الباقين ، وتتعين الطائفة التي تقوم بها بتوفر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها ، كالقوة على السلاح في الحرب ، وكالسباحة في إنقاذ الغريق ، والعلم بأمور الدين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذلك تعين العدد الذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصف عدد جيش العدو ، ولما كان الأمر يستلزم متعلقا فلمأمور في فرض الكفاية الفريق الذين فيهم الشروط ، ومجموع أهل البلد ، أو القبيلة ، لتنفيذ ذلك ، فإذا قام به العدد الكافي ممن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين ، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة ، لسكوت جميعهم ، ولتقاعس الصالحين للقيام بذلك ، مع سكوتهم أيضا ثم إذا قام به البعض فإنما يثاب ذلك البعض خاصة.
ومعنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام ، وبث دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الخير اسم يجمع خصال الإسلام : ففي حديث حذيفة بن اليمان "قلت : يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر" الحديث ، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره ، وهو أصل العطف.
وقيل : أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات ، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيكون العطف من عطف الخاص على العام للاهتمام به.
وحذفت مفاعيل يدعون ويأمرون وينهون لقصد التعميم أي يدعون كل أحد كما في قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس : 25].(15/337)
والمعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به ، لأن الشيء إذا كان معروفا كان مألوفا مقبولا مرضيا به ، وأريد به هنا ما يقبل عند أهل العقول ، وفي الشرائع ، وهو الحق والصلاح ، لأن ذلك مقبول عند انتفاء العوارض.
والمنكر مجاز في المكروه ، والكره لازم للإنكار لأن المنكر في أصل اللسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة ، وأريد به هنا الباطل والفساد ، لأنهما من المكروه في الجبلة عند انتفاء العوارض.
والتعريف في الخير ، والمعروف ، والمنكر تعريف الاستغراق ، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيشبه الاستغراق العرفي.
ومن المفسرين من عين جعل من في قوله تعالى : {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} للبيان ، وتأول الكلام بتقدير تقديم البيان على المبين فيصير المعنى : ولتكن أمة هي انتم أي ولتكونوا أمة يدعون ، محاولة للتسوية بين مضمون هذه الآية ، ومضمون قوله تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران : 110] ومساواة معنيي الآيتين غير متعينة لجواز أن يكون المراد من خير أمة هاته الأمة ، التي قامت بالأمر بالمعروف ، على ماسنبينه هنالك.
والآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولاشك أن الأمر والنهي من أقسام القول والكلام ، فالمكلف به هو بيان المعروف ، والأمر به ، وبيان المنكر ، والنهي عنه ، وأما امتثال المأمورين والمنهيين لذلك ، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الذين يحملونهم على فعل ما أمروا به ، وأما ما وقع في الحديث "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فأن لم يستطيع فبلسانه فأن لم يستطع فبقلبه" فذلك مرتبة التغيير ، والتغيير يكون باليد ، ويكون بالقلب أي تمني التغيير ، وأما الأمر والنهي فلا يكونان بهما.(15/338)
والمعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكل مسلم أن يأمر وينهي فيهما ، وان كانا نظريين ، فأنما يقوم بالأمر والنهي فيهما أهل العلم.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط مبينة في الفقه والآداب الشرعية ، ألا أني أنبه إلى شرط ساء فهم بعض الناس فيه وهو قول بعض الفقهاء : يشترط ألا يجر النهي إلى منكر أعظم.
وهذا شرط قد خرم مزية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأتخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب.
ولقد ساء فهمهم فيه إذ مراد مشترطه أن يتحقق الأمر أن أمره يجر إلى منكر أعظم لا أن يخاف أن يتوهم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلا ظن أقوى.
ولما كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض ، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتوقفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر ، ومراتب القدرة على التغيير ، وإفهام الناس ذلك ، رأى أئمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها ، وسموا تلك الولاية بالحسبة ، وقد أولى عمر بن الخطاب في هاته الولاية أم الشفاء ،
وأشهر من وليها في الدولة العباسية أبن عائشة ، وكان رجلا صلبا في الحق ، وتسمى هذه الولاية في المغرب ولاية السوق وقد ولياها في قرطبة الأمام محمد بن خالد بن مرتنيل القرطبي المعروف بالأشج من أصحاب ابن القاسم توفي سنة 220.
وكانت في الدولة الحفصية ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربما ضمت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 181 ـ 183}
فصل
قال البغوى :
قال أبو سعيد رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". {أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم (78) : 1 / 69}.(15/339)
عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشِكَنَّ الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثم لتدْعُنّه فلا يستجاب لكم". {أخرجه الترمذي في الفتن باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : 6 / 391 وقال : هذا حديث حسن والإمام أحمد في المسند : 5 / 388 والبغوى في شرح السنة : 14 / 345. قال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط والبزار عن أبي هريرة وفيه حبان بن علي وهو متروك وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى. مجمع الزوائد : 7 / 266}.(15/340)
عن قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعذابه". {أخرجه أبو دواد في الملاحم باب الأمر والنهي : 6 / 187 ، وعزاه المنذري للنسائي ، وأخرجه الترمذي في الفتن باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغيروا المنكر : 6 / 388 - 389 وفي التفسير سورة المائدة 8 / 422 - 423 وقال : حديث حسن صحيح. وابن ماجه في الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم (4005) : 2 / 1327 وأحمد في المسند : 1 / 7 وابن حبان ص (455) من موارد الظمآن والمصنف في شرح السنة : 14 / 344 وأبو بكر المروزي في مسند أبي بكر الصديق برقم (86 - 88) ص 130 - 131 وقال الحافظ ابن كثير في التفسير : 2 / 110 " وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا ومنهم من رواه عنهم موقوفا على الصديق. وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره". وانظر : سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني : 4 / 88 - 89}.(15/341)
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "مثل المداهن في حدود الله تعالى والواقع فيها ، كمثل قوم اسْتَهَمُوا على سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها ، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها ، فتأذوا به فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة ، فأتوه فقالوا : مالك ؟ فقال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنْجوه ونَجَّوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم". {أخرجه البخاري في الشهادات باب القرعة في المشكلات : 5 / 292 بلفظه ، وأخرجه المصنف في شرح السنة : 14 / 342 بألفاظ مقاربة}. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 85 ـ 86}. بتصرف يسير.
قوله تعالى : {وأولئك هُمُ المفلحون}
فصل
قال الفخر : (15/342)
منهم من تمسك بهذه الآية في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، قال لأن هذه الآية تدل على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين ، والفاسق ليس من المفلحين ، فوجب أن يكون الآمر بالمعروف ليس بفاسق ، وأجيب عنه بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه ، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير ، ثم إنهم أكدوا هذا بقوله تعالى : {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُم} [ التوبة : 44 ] قوله {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [ الصف : 2 ، 3 ] ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها ؟ ومعلوم أن ذلك في غاية القبح ، والعلماء قالوا : الفاسق له أن يأمر بالمعروف لأنه وجب عليه ترك ذلك المنكر ووجب عليه النهي عن ذلك المنكر ، فبأن ترك أحد الواجبين لا يلزمه ترك الواجب الآخر ، وعن السلف : مروا بالخير وإن لم تفعلوا ، وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول : لا أقول ما لا أفعل ، فقال : وأينا يفعل ما يقول ؟ ودَّ الشيطان لو ظفر بهذه الكلمة منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن المنكر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 146 ـ 147}
قال ابن عاشور :
وجملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} معطوفة على صفات أمة وهي التي تضمنتها جمل {يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} والتقدير : وهم مفلحون : لأن الفلاح لما كان مسببا على تلك الصفات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم ، ويجوز جعل جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حالا من أمة ، والواو للحال.(15/343)
والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك.
وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عما قبلها بدون عطف ، مثل فصل جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة : 5] لكن هذه عطفت أو جاءت حالا لأن مضمونها جزاء عن الجمل التي قبلها ، فهي أجدر بأن تلحق بها.
ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم ، فهو أما قصر إضافي بالنسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه ، وأما قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم ، وهو معنى قصد الدلالة على معنى الكمال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 183}
فصل
قال الفخر :
عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه " وعن علي رضي الله عنه : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال أيضاً : من لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً نكس وجعل أعلاه أسفله ، وروى الحسن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير ، وعن الثوري : إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 147}
فصل
قال الفخر : (15/344)
قال الله سبحانه وتعالى : {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِىء إلى أَمْرِ الله} [ الحجرات : 9 ] قدم الإصلاح على القتال ، وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقياً إلى الأغلظ فالأغلظ ، وكذا قوله تعالى : {واهجروهن فِى المضاجع واضربوهن} [ النساء : 34 ] يدل على ما ذكرناه ، ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد ، فإن عجز فباللسان ، فإن عجز فبالقلب ، وأحوال الناس مختلفة في هذا الباب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 147}
من فوائد ابن عطية فى الآية
قال رحمه الله :
قرأ الحسن والزهري وأبو عبد الرحمن وعيسى بن عمر وأبو حيوة : " ولِتكن " بكسر اللام على الأصل ، إذ أصلها الكسر ، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن ، قال الضحاك والطبري وغيرهما : أمر المؤمنون أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة ، فهم خاصة أصحاب الرسول ، وهم خاصة الرواة.
قال القاضي : فعلى هذا القول " من " للتبعيض ، وأمر الله الأمة بأن يكون منها علماء يفعلون هذه الأفاعيل على وجوهها ويحفظون قوانينها على الكمال ، ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك ، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع ، وقد علم تعالى أن الكل لا يكون عالماً ، وذهب الزجّاج وغير واحد من المفسرين ، إلى أن المعنى : ولتكونوا كلكم أمة يدعون ، " ومن " لبيان الجنس قال : ومثله من كتاب الله ، {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [ الحج : 30 ] ومثله من الشعر قول القائل : [ البسيط ]
أَخُوا رَغَائِبَ يُعْطِيها وَيسْأَلُها... يأبى الظُّلامةَ مِنْهُ النُّوفَل الزّفرُ(15/345)
قال القاضي : وهذه الآية على هذا التأويل إنما هي عندي بمنزلة قولك : ليكن منك رجل صالح ، ففيها المعنى الذي يسميه النحويون ، التجريد ، وانظر أن المعنى الذي هو ابتداء الغاية يدخلها ، وكذلك يدخل قوله تعالى : {من الأوثان} ذاتها ولا تجده يدخل قول الشاعر : منه النوفل الزفر ، ولا تجده يدخل في " من " التي هي صريح بيان الجنس ، كقولك ثوب من خز ، وخاتم من فضة ، بل هذه يعارضها معنى التبعيض ، ومعنى الآية على هذا التأويل : أمر الأمة بأن يكونوا يدعون جميع العالم إلى الخير ، الكفار إلى الإسلام ، والعصاة إلى الطاعة ، ويكون كل واحد من هذه الأمور على منزلته من العلم والقدرة ، قال أهل العلم : وفرض الله بهذه الآية ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من فروض الكفاية إذا قام به قائم سقط عن الغير ، وللزوم الأمر بالمعروف شروط ، منها أن يكون بمعروف لا بتخرق ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : من كان آمراً بمعروف ، فليكن أمره ذلك بمعروف ، ومنها أن لا يخاف الآمر أذى يصيبه ، فإن فعل مع ذلك فهو أعظم لأجره ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ".(15/346)
قال القاضي : والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب ، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام والولاة ، وحملهم على جادة العلم ، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم ، ولهم هي اليد ، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه قولاً ، وهذا في المنكر الذي له دوام ، وأما إن رأى أحد نازلة بديهة من المنكر ، كالسلب والزنى ونحوه ، فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة ، ويحسن لكل مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر ، وإن ناله بعض الأذى ، ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير " يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويستعينون بالله على ما أصابهم " ، فهذا وإن كان لم يثبت في المصحف ، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي ، كما هي في قوله تعالى : {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، واصبر على ما أصابك} [ لقمان : 17 ] وقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [ المائدة : 105 ] معناه إذا لم يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره ، وقال بعض العلماء : " المعروف " التوحيد ، و{المنكر} الكفر ، والآية نزلت في الجهاد.
قال الفقيه القاضي : ولا محالة أن التوحيد والكفر هما رأس الأمرين ، ولكن ما نزل عن قدر التوحيد والكفر ، يدخل في الآية ولا بد ، {المفلحون} الظافرون ببغيتهم ، وهذا وعد كريم. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 485 ـ 486}(15/347)
ومن فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} أمرهم سبحانه بتكميل الغير إثر أمرهم بتكميل النفس ليكونوا هادين مهديين على ضد أعدائهم فإن ما قص الله تعالى من حالهم فيما سبق يدل على أنهم ضالون مضلون ، والجمهور على إسكان لام الأمر ، وقرىء بكسرها على الأصل ، و( تكن ) إما من كان التامة فتكون {أُمَّةٍ} فاعلاً وجملة {يَدَّعُونَ} صفته و{مّنكُمْ} متعلق بتكن أو بمحذوف على أن يكون صفة لأمة قدم عليها فصار حالاً. وإما من كان الناقصة فتكون {أُمَّةٍ} اسمها {وَيُدْعَوْنَ} خبرها و{مّنكُمْ} إما حال من أمة أو متعلق بكان الناقصة ، والأمة الجماعة التي تؤم أي تقصد لأمر مّا ، وتطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد وعلى القدوة ؛ ومنه {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} [ النحل : 120 ] وعلى الدين والملة ، ومنه {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا} [ الزخرف : 22 ] وعلى الزمان ، ومنه {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [ يوسف : 54 ] إلى غير ذلك من معانيها.
والمراد من الدعاء إلى الخير الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه في قوله سبحانه : (15/348)
{وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} من باب عطف الخاص على العام إيذاناً بمزيد فضلهما على سائر الخيرات كذا قيل : وقال ابن المنير : "إن هذا ليس من تلك الباب لأنه ذكر بعد العام جميع ما يتناوله إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور أو ترك منهي لا يعدو واحداً من هذين حتى يكون تخصيصهما بتميزهما عن بقية المتناولات ، فالأولى أن يقال فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاماً ثم مفصلاً ، وفي تثنية الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية إلا إن ثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير وحينئذ يتم ما ذكر ، وما أرى هذا العرف ثابتاً" انتهى ، وله وجه وجيه لأن الدعاء إلى الخير لو فسر بما يشمل أمور الدنيا وإن لم يتعلق بها أمر أو نهي كان أعم من فرض الكفاية ولا يخفى ما فيه ، على أنه قد أخرج ابن مردويه عن الباقر رضي الله تعالى عنه قال : "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} ثم قال : الخير اتباع القرآن وسنتي" وهذا يدل أن الدعاء إلى الخير لا يشمل الدعاء إلى أمور الدنيا.(15/349)
ومن الناس من فسر الخير بمعروف خاص وهو الإيمان بالله تعالى وجعل المعروف في الآية ما عداه من الطاعات فحينئذ لا يتأتى ما قاله ابن المنير أيضاً ، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أن الخير الإسلام والمعروف طاعة الله والمنكر معصيته ، وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للإعلام بظهوره أي يدعون الناس ولو غير مكلفين ويأمرونهم وينهونهم ، وإما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل على حدّ فلان يعطي أي يفعلون الدعاء والأمر والنهي ويوقعونها ، والخطاب قيل متوجه إلى من توجه الخطاب الأول إليه في رأي وهم الأوس والخزرج ، وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أنه متوجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وهم الرواة ، والأكثرون على جعله عاماً ويدخل فيه من ذكر دخولاً أولياً ، و( من ) هنا قيل : للتبعيض ، وقيل : للتبيين وهي تجريدية كما يقال لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يراد بذلك جميع الأولاد والغلمان.(15/350)
ومنشأ الخلاف في ذلك أن العلماء اتفقوا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولم يخالف في ذلك إلا النزر ، ومنهم الشيخ أبو جعفر من الإمامية قالوا : إنها من فروض الأعيان ، واختلفوا في أن الواجب على الكفاية هل هو واجب على جميع المكلفين ويسقط عنهم بفعل بعضهم أو هو واجب على البعض ؟ ذهب الإمام الرازي وأتباعه إلى الثاني للاكتفاء بحصوله من البعض ولو وجب على الكل لم يكتف بفعل البعض إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلف بفعل غيره ، وذهب إلى الأول الجمهور وهو ظاهر نص الإمام الشافعي في "الأم" ، واستدلوا على ذلك بإثم الجميع بتركه ولو لم يكن واجباً عليهم كلهم لما أثموا بالترك. وأجاب الأولون عن هذا بأن إثمهم بالترك لتفويتهم ما قصد حصوله من جهتهم في الجملة لا للوجوب عليهم ، واعترض عليه من طرف الجمهور بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد أعني إثم طائفة بترك أخرى فعلاً كلفت به. والجواب عنه بأنه ليس الإسقاط عن غيرهم بفعلهم أولى من تأثيم غيرهم بتركهم يقال فيه : بل هو أولى لأنه قد ثبت نظيره شرعاً من إسقاط ما على زيد بأداء عمرو ولم يثبت تأثيم إنسان بترك آخر فيتم ما قاله الجمهور.(15/351)
واعترض القول بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد بأنه إنما يتأتى لو ارتبط التكليف في الظاهر بتلك الطائفة الأخرى بعينها وحدها لكنه ليس كذلك بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال الأمر لهما وتعلقه بهما من غير مزية لإحداهما على الأخرى فليس في التأثيم المذكور تأثيم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به إذ كون الأخرى كلفت به غير معلوم بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال كل أن تكون مكلفة به فالاستبعاد المذكور ليس في محله على أنه إذا قلنا بما اختاره جماعة من أصحاب المذهب الثاني من أن البعض مبهم آل الحال إلى أن المكلف طائفة لا بعينها فيكون المكلف القدر المشترك بين الطوائف الصادق بكل طائفة فجميع الطوائف مستوية في تعلق الخطاب بها بواسطة تعلقه بالقدر المشترك المستوي فيها فلا إشكال في اسم الجميع ولا يصير النزاع بهذا بين الطائفتين لفظياً حيث إن الخطاب حينئذ عم الجميع على القولين وكذا الإثم عند الترك لما أن في أحدهما دعوى التعليق بكل واحد بعينه ، وفي الآخر دعوى تعلقه بكل بطريق السراية من تعلقه بالمشترك ، وثمرة ذلك أن من شك أن غيره هل فعل ذلك الواجب لا يلزمه على القول بالسراية ويلزمه على القول بالابتداء ولا يسقط عنه إلا إذا ظن فعل الغير ، ومن هنا يستغنى عن الجواب عما اعترض به من طرف الجمهور فلا يضرنا ما قيل فيه على أنه يقال على ما قيل : ليس الدين نظير ما نحن فيه كلياً لأن دين زيد واجب عليه وحده بحسب الظاهر ولا تعلق له بغيره فلذا صح أن يسقط عنه بأداء غيره ولم يصح أن يأثم غيره بترك أدائه بخلاف ما نحن فيه فإن نسبة الواجب في الظاهر إلى كلتا الطائفتين على السواء فيه فجاز أن يأثم كل طائفة بترك غيرها لتعلق الوجوب بها بحسب الظاهر واستوائها مع غيرها في التعلق.(15/352)
وأما قولهم : ولم يثبت تأثيم إنسان بأداء آخر فهو لا يطابق البحث إذ ليس المدعي تأثيم أحد بأداء غيره بل تأثيمه بترك فالمطابق ولم يثبت تأثيم إنسان بترك أداء آخر ويتخلص منه حينئذ بأن التعلق في الظاهر مشترك في سائر الطوائف فيتم ما ذهب إليه الإمام الرازي وأتباعه وهو مختار ابن السبكي خلافاً لأبيه ، إذا تحقق هذا فاعلم أن القائلين بأن المكلف البعض قالوا : إن من للتبعيض ، وأن القائلين بأن المكلف الكل قالوا : إنها للتبيين ، وأيدوا ذلك بأن الله تعالى أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل الأمة في قوله سبحانه : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [ آل عمران : 110 ] ولا يقتضي ذلك كون الدعاء فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية بالاجماع مع ثبوته بالخطابات العامة فتأمل.(15/353)
{وَأُوْلئِكَ} أي الموصوفون بتلك الصفات الكاملة. {هُمُ المفلحون} أي الكاملون في الفلاح وبهذا صح الحصر المستفاد من الفصل وتعريف الطرفين ، أخرج الإمام أحمد وأبو يعلى عن درة بنت أبي لهب قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير الناس ؟ قال : " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله تعالى وأوصلهم للرحم " وروى الحسن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله تعالى وخليفة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وخليفة كتابه ، وروى لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله تعالى عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنصرون والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً على حسب ما يؤمر به والنهي عن المنكر كذلك أيضاً إن قلنا إن المكروه منكر شرعاً ، وأما إن فسر بما يستحق العقاب عليه كما أن المعروف ما يستحق الثواب عليه فلا يكون إلا واجباً ، وبه قال بعضهم إلا أنه يرد أنهما ليسا على طرفي نقيض والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه نهي كل فاعل وترك نهي بعض وهو نفسه لا يسقط عنه وجوب نهي الباقي وكذا يقال في جانب الأمر ولا يعكر على ذلك قوله تعالى : (15/354)
{لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [ الصف : 2 ] لأنه مؤل بأن المراد نهيه عن عدم الفعل لا عن القول ولا قوله سبحانه : {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [ البقرة : 44 ] لأن التوبيخ إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر ، وعن بعض السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا ، نعم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط معروفة محلها والأصل فيهما افعل كذا ولا تفعل كذا ، والقتال ليمتثل المأمور والمنهي أمر وراء ذلك وليس داخلاً في حقيقتهما وإن وجب على بعض كالأمراء في بعض الأحيان لأن ذلك حكم آخر كما يشعر به قوله صلى الله عليه وسلم : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع ". أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 20 ـ 23}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
هذه إشارة إلى أقوامٍ قاموا بالله لله ، لا تأخذهم لومة لائم ، ولا تقطعهم عن الله استنامة إلى علة ، وقفوا جملتهم على دلالات أمره ، وقصَرُوا أنفاسَهم واستغرقوا أعمارَهم على تحصيل رضاه ، عملوا لله ، ونصحوا الدين لله ، ودَعَوْا خَلْقَ الله إلى الله ، فَرَبِحَتْ تجارتُهم ، وما خَسِرتْ صفقتهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 268}(15/355)
كلام نفيس لحجة الإسلام الغزالى
قال عليه الرحمة :
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذي خفنا أن يكون فإنا لله وإنا إليه راجعون إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكفلا بعملها أو متقلدا لتنفيذها مجددا لهذه السنة الداثرة ناهضا بأعبائها ومتشمرا في إحيائها كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ومستبدا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها.
وقال أيضا :
قوله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم
المفلحون}
في الآية بيان الإيجاب فإن قوله تعالى {ولتكن} أمر وظاهر الأمر الإيجاب وفيها بيان أن الفلاح منوط به إذ حصر وقال {وأولئك هم المفلحون} وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين إذ لم يقل كونوا كلكم آمرين بالمعروف بل قال ولتكن منكم أمة فإذا مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة. أ هـ {الإحياء حـ 2 صـ 206 ـ 207}. بتصرف يسير(15/356)
قوله تعالى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أمر بذلك أكده بالنهي عما يضاده معرضاً بمن نزلت هذه الآيات فيهم من أهل الكتاب مبكتاً لهم بضلالهم واختلافهم في دينهم على أنبيائهم فقال : {ولا تكونوا كالذين تفرقوا} بما ابتدعوه في أصول دينهم وبما ارتكبوه من المعاصي ، فقادهم ذلك ولا بد إلى التخاذل والتواكل والمداهنة التي قصدوا بها المسالمة فجرتهم إلى المصارمة.
ولما كان التفرق ربما كان بالأبدان فقط مع الاتفاق في الآراء بيَّن أن الأمر ليس كذلك فقال : {واختلفوا} بما أثمر لهم الحقد الحامل على الاتصاف بحالة من يظن أنهم جميع وقلوبهم شتى.
ولما ذمهم بالاختلاف الذي دل العقل على ذمه زاد في تقبيحه بأنهم خالفوا فيه بعد نهي العقل واضح النقل فقال : {من} أي وابتدأ اختلافهم من الزمان الذي هو من {بعد ما جاءهم} وعظمه بإعرائه عن التأنيث {البينات} أي بما يجمعهم ويعليهم ويرفعهم ويوجب اتفاقهم وينفعهم ، فأرداهم ذلك الافتراق وأهلكهم.
ولما كان التقدير : فأولئك قد تعجلوا الهلاك في الدنيا فهم الخائبون ، عطف عليه قوله : {وأولئك} أي البعداء البغضاء {لهم عذاب عظيم} أي في الدار الآخرة بعد عذاب الدنيا باختلافهم منابذين لما من شأنه الجمع ، والآية من الاحتباك : إثبات " المفلحون " أولاً يدل على " الخاسرون " ثانياً ، والعذاب العظيم ثانياً يدل على النعيم المقيم أولاً. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 133}(15/357)
فصل
قال الفخر :
في النظم وجهان
الأول : أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بيّن في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة ، ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله ، ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب ، وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال : {وَلاَ تَكُونُواْ} أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات {كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا} من أهل الكتاب {مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ} في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة ، فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة
والثاني : وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادراً على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين ، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الإلفة والمحبة بين أهل الحق والدين ، لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سبباً لعجزهم عن القيام بهذا التكليف ، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 147}
فصل
قال الفخر :
قوله {تَفَرَّقُواْ واختلفوا} فيه وجوه
الأول : تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد ، كما أن إبليس ترك نص الله تعالى بسبب حسده لآدم
الثاني : تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضاً دون بعض ، فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة
الثالث : صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة ، مثل المشبهة والقدرية والحشوية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 148}(15/358)
وقال القرطبى :
يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين.
وقال بعضهم : هم المبتدِعة من هذه الأمة.
وقال أبو أمامة : هم الحَرُورِيّة ؛ وتلا الآية.
وقال جابر بن عبد الله : "الّذِينَ تَفَرّقُوا واختلفوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّناتُ" اليهود والنصارى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 166}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقدم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علة التفرق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارنتها ، وفي عكسه قوله تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة : 282].
وفيه إشارة إلى أن الاختلاف المذموم والذي يؤدي إلى الافتراق ، وهو الاختلاف في أصول الديانة الذي يفضي إلى تكفير بعض الأمة بعضا ، أو تفسيقه ، دون الاختلاف في الفروع المبينة على اختلاف مصالح الأمة في الأقطار والأعصار ، وهو المعبر عنه بالاجتهاد.
ونحن إذا تقصينا تاريخ المذاهب الإسلامية لا نجد افتراقا نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول ، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشريعة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 183 ـ 184}
فصل
قال الفخر :
قال بعضهم {تَفَرَّقُواْ واختلفوا} معناهما واحد وذكرهما للتأكيد وقيل : بل معناهما مختلف ، ثم اختلفوا فقيل : تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين ، وقيل : تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص ، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه والثالث : تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيساً في بلد ، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل ، وأقول : إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 148}(15/359)
وقال الآلوسى
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} وهم اليهود والنصارى قاله الحسن والربيع.
وأخرج ابن ماجه عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : الجماعة " وفي رواية أحمد عن معاوية مرفوعاً " إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة " ، وفي رواية له أخرى عن أنس مرفوعاً أيضاً " إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة " ولا تعارض بين هذه الروايات لأن الافتراق حصل لمن حصل على طبق ما وقع فيها في بعض الأوقات وهو يكفي للصدق وإن زاد العدد أو نقص في وقت آخر {واختلفوا} في التوحيد والتنزيه وأحوال المعاد ، قيل : وهذا معنى تفرقوا وكرره للتأكيد ، وقيل : التفرق بالعداوة والاختلاف بالديانة. {مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات} أي الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة لاتحاد الكلمة ، وقال الحسن : التوراة ، وقال قتادة. وأبو أمامة : القرآن {وَأُوْلئِكَ} إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما في حيز الصلة {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يكتنه على تفرقهم واختلافهم المذكور ، وفي ذلك وعيد لهم وتهديد للمتشبهين بهم لأن التشبيه بالمغضوب عليه يستدعي الغضب.(15/360)
ثم إن هذا الاختلاف المذموم محمول كما قيل على الاختلاف في الأصول دون الفروع ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه ، وقيل : إنه شامل للأصول والفروع لما نرى من اختلاف أهل السنة فيها كالماتريدي والأشعري فالمراد حينئذٍ بالنهي عن الاختلاف النهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع أو أجمع عليه وليس بالبعيد.
واستدل على عدم المنع من الاختلاف في الفروع بقوله عليه الصلاة والسلام : " اختلاف أمتي رحمة " وبقوله صلى الله عليه وسلم : " مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب الله تعالى فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة " ، وأراد بهم صلى الله عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الاجتهاد والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه خلافاً لمن وهم ، والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة.(15/361)
فقد أخرج البيهقي في "المدخل" عن القاسم بن محمد قال : اختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله تعالى ، وأخرجه ابن سعد في "طبقاته" بلفظ كان اختلاف أصحاب محمد رحمة للناس ، وفي "المدخل" عن عمر بن عبد العزيز قال : ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة ، واعترض الإمام السبكي بأن اختلاف أمتي رحمة ليس معروفاً عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ولا أظن له أصلاً إلا أن يكون من كلام الناس بأن يكون أحد قال : اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعضهم فظنه حديثاً فجعله من كلام النبوة وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له ، واستدل على بطلانه بالآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف والآيات أكثر من أن تحصى ، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " وهو وإن كان وارداً في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ثم قال : والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام. أحدها : في الأصول ولا شك أنه ضلال وسبب كل فساد وهو المشار إليه في القرآن ، والثاني : في الآراء والحروب ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن : "تطاوعا ولا تختلفا" ولا شك أيضاً أنه حرام لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية ، والثالث : في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضاً لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا ؟ فيه خلاف ، فكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول ، وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل والأخذ عند الحاجة بالرخصة(15/362)
من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص وهو يقتضي الثاني ، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال : الاختلاف رحمة فإن الرخص منها بلا شبهة وهذا لا ينافي قطعاً القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف فلا تنافي بين الكلامين لأن جهة الخيرية تختلف وجهة الرحمة تختلف ، فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك ، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكتفي في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة مّا في وقت مّا في حالة مّا على وجه مّا فإن كان ذلك حديثاً فيخرج على هذا وكذا إن لم يكنه ، وعلى كل تقدير لا نقول إن الاختلاف مأمور به ، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا ؟ فإن قلنا : إن المصيب واحد وهو الصحيح فالحق في نفس الأمر واحد والناس كلهم مأمورون بطلبه واتفاقهم عليه مطلوب والاختلاف حينئذٍ منهي عنه وإن عذر المخطىء وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق.(15/363)
فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص "إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر" وكذلك إذا قلنا بالشبه كما هو قول بعض الأصوليين ، وأما إذا قلنا : كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد وباتباع ما غلب على ظنه فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق ولا أن لا يكون اختلافهم منهياً عنه ، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا : المصيب واحد ، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع ، وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في "شعب الإيمان" ، لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف لا هذه الأمة فقط فلا بد لتخصيص الأمة من وجه ، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف ، فالحرفة الإبقاء على الظاهر المتبادر وتأويل الخبر بما تقدم.(15/364)
هذه خلاصة كلامه ولا يخفى أنه مما لا بأس به ، نعم كون الحديث ليس معروفاً عند المحدثين أصلاً لا يخلو عن شيء ، فقد عزاه الزركشي في "الأحاديث المشتهرة" إلى كتاب "الحجة" لنصر المقدسي ولم يذكر سنده ولا صحته لكن ورد ما يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف ، والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري والبيهقي في "المدخل" بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما ، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن شاركهم في الاجتهاد كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بمبتدعين وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة ، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 23 ـ 25}
فائدة
قال الفخر :
إنما قال : {مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات} ولم يقل {جَاءتْهُمْ} لجواز حذف علامة من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدماً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 148}
وقال القرطبى :
"جاءهم" مذكر على الجمع ، وجاءتهم على الجماعة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 166}
قوله تعالى : {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
قال الفخر :
{وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم ، فكان ذلك زجراً للمؤمنين عن التفرق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 148}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
هؤلاء أقوام أظهر عليهم في الابتداء رقومَ الطلب ، ثم وسمهم في الانتهاء بِكَيِّ الفُرقة ، فباتوا في شق الأحباب ، وأصبحوا في زمرة الأجانب. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 268}(15/365)
قوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما قدم ما لأهل الكتاب المقدمين على الكفر على علم يوم القيامة في قوله {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} [ آل عمران : 77 ] وختم تلك الآية بأنهم لهم عذاب أليم واستمر حتى ختم هذه الآية بأنه مع ذلك عظيم ؛ بين ذلك اليوم بقوله - بادئاً بما هو أنكى لهم من تنعيم أضدادهم - : {يوم تبيض وجوه} أي بما لها من المآثر الحسنة {وتسود وجوه} بما عليها من الجرائر السيئة {فأما الذين اسودت وجوههم} بدأ بهم لأن النشر المشوش أفصح ، ولأن المقام للترهيب وزيادة النكاية لأهله ، فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً : {أكفرتم} يا سود الوجوه وعبيد الشهوات! {بعد إيمانكم} بما جبلتم عليه من الفطر السليمة ومكنتم به من العقول المستقيمة من النظر في الدلائل ، ثم بما أخذ عليكم أنبياؤكم من العهود {فذوقوا العذاب} أي الأليم العظيم {بما كنتم تكفرون} وأنتم تعلمون ، فإنكم في لعنة الله ماكثون {وأما الذين ابيضت وجوهم} إشراقاً وبهاء لأنهم آمنوا فأمنوا من العذاب {ففي رحمة الله} أي ثمرة فعل ذي الجلال والإكرام الذي هو فعل الراحم.
لا في غير رحمته.(15/366)
ثم أجاب عن سؤال من كأنه قال : هل تزول عنهم كما هو حال النعم في الدنيا ؟ بقوله - على وجه يفهم لزومها لهم في الدنيا والآخرة - : {هم} أي خاصة {فيها خالدون} فلذا كانوا يؤمنون ، فالآية من الاحتباك : إثبات الكفر أولاً دل على إرادة الإيمان ثانياً ، وإثبات الرحمة ثانياً دل على حذف اللعنة أولاً.
أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 134}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما أمر اليهود ببعض الأشياء ونهاهم عن بعض ، ثم أمر المسلمين بالبعض ونهاهم عن البعض أتبع ذلك بذكر أحوال الآخرة ، تأكيداً للأمر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 148}
فصل
قال الفخر :
في نصب {يَوْمٍ} وجهان
الأول : أنه نصب على الظرف ، والتقدير : ولهم عذابٌ عظيم في هذا اليوم ، وعلى هذا التقدير ففيه فائدتان إحداهما : أن ذلك العذاب في هذا اليوم ، والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن تبيض فيه وجوه وتسود وجوه
والثاني : أنه منصوب بإضمار ( اذكر ). أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 148}
وقال ابن عادل :
في ناصب " يَوْمَ " أوجه :
أحدها : أنه الاستقرار الذي تضمنه " لَهُمْ " والتقدير : وأولئك استقر لهم عذاب يوم تبيضُّ وجوه.
وقيل : إن العامل فيه مضمر ، تدل عليه الجملة السابقة ، والتقدير : يُعَذَّبُونَ يوم تبيض وجوه.
وقيل : اعاملَ فيه " عَظِيمٌ " وضُعِّفَ هذا بأنه يلزم تقييد عِظَمِهِ بهذا اليوم.
وهذا التضعيف ضعيف ؛ لأنه إذا عظم في هذا اليوم ففي غيره أوْلَى.
قال شهابُ الدين : " وهذا غير لازم " ، قال : " وأيضاً فإنه مسكوت عنه فيما عدا هذا اليوم ".
وقيل : إن العامل " عَذَابٌ ". وهذا ممتنع ؛ لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه.
وقيل : إنه منصوب بإضمار " اذكر ".
وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو نُهَيك ، وأبو رُزَيْن العقيليّ : " تِبْيَضُّ " و" تِسْوَدُّ " - بكسر التاء - وهي لغة تميم.(15/367)
وقرأ الحسن والزهري وابن مُحَيْصِن ، وأبُو الجَوْزَاءِ : تِبياضّ وتسوادّ - بألف فيهما - وهي أبلغ ؛ فإن البياض أدلُّ على اتصاف الشيء بالبياض من ابيضَّ ، ويجوز كسر حرف المضارعة - أيضاً - مع الألف ، إلا أنه لم ينقل قراءةً لأحدٍ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 453}
فصل
قال الفخر :
هذه الآية لها نظائر منها قوله تعالى : {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [ الزمر : 60 ] ومنها قوله {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [ يونس : 26 ] ومنها قوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [ عبسى : 38 41 ] ومنها قوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [ القيامة : 22 25 ] ومنها قوله {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} [ المطففين : 24 ] ومنها قوله {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} [ الرحمن : 41 ].
إذا عرفت هذا فنقول : في هذا البياض والسواد والغبرة والقترة والنضرة للمفسرين قولان
أحدهما : أن البياض مجاز عن الفرح والسرور ، والسواد عن الغم ، وهذا مجاز مستعمل ، قال تعالى : {وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [ النحل : 58 ] ويقال : لفلان عندي يد بيضاء ، أي جلية سارة ، ولما سلم الحسن بن علي رضي الله عنه الأمر لمعاوية قال له بعضهم : يا مسود وجوه المؤمنين ، ولبعضهم في الشيب.
يا بياض القرون سودت وجهي.. عند بيض الوجوه سود القرون
فلعمري لأخفينك جهدي.. عن عياني وعن عيان العيون
بسواد فيه بياض لوجهي.. وسواد لوجهك الملعون(15/368)
وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه : ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل وعند التهنئة بالسرور يقولون : الحمد لله الذي بيض وجهك ، ويقال لمن وصل إليه مكروه : إربد وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته ، فعلى هذا معنى الآية أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فإن كان ذلك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله ، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسود وجهه بمعنى شدة الحزن والغم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني.
والقول الثاني : إن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين ، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة ، فوجب المصير إليه ، قلت : ولأبي مسلم أن يقول : الدليل دل على ما قلناه ، وذلك لأنه تعالى قال : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار ، فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً ، فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة الغم والحزن حتى يصح هذا التقابل ، ثم قال القائلون بهذا القول : الحكمة في ذلك أن أهل الموقف إذا رأوا البياض في وجه إنسان عرفوا أنه من أهل الثواب فزادوا في تعظيمه فيحصل له الفرح بذلك من وجهين أحدهما : أن السعيد يفرح بأن يعلم قومه أنه من أهل السعادة ، قال تعالى مخبراً عنهم {ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين} [ يس : 26 ، 27 ](15/369)
الثاني : أنهم إذا عرفوا ذلك خصوه بمزيد التعظيم فثبت أن ظهور البياض في وجه المكلف سبب لمزيد سروره في الآخرة وبهذا الطريق يكون ظهور السواد في وجه الكفار سبباً لمزيد غمهم في الآخرة ، فهذا وجه الحكمة في الآخرة ، وأما في الدنيا فالمكلف حين يكون في الدنيا إذا عرف حصول هذه الحالة في الآخرة صار ذلك مرغباً له في الطاعات وترك المحرمات لكي يكون في الآخرة من قبيل من يبيض وجهه لا من قبيل من يسود وجهه ، فهذا تقرير هذين القولين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 148 ـ 149}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوهُ المؤمنين مبيضّة ووجُوه الكافرين مسْوَدّة.
ويقال : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذا قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهُه ، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه.
ويقال : إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه.
ويقال : ذلك عند قوله تعالى : {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [ يس : 59 ].
ويقال : إذا كان يوم القيامة يُؤْمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده ، فإذا انتهوا إليه حزِنوا واسودت وجوههم ، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون ؛ فيقول الله تعالى للمؤمنين : "من ربكم" ؟ فيقولون : ربنا الله عز وجل.
فيقول لهم : "أتعرفونه إذا رأيتموه".
فيقولون : سبحانها إذا اعترف عرفناه.
فيرونه كما شاء الله.
فيخِرّ المؤمنون سُجَّدا لله تعالى ، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضاً ، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسودّ وجوههم ؛ وذلك قوله تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 166 ـ 167}(15/370)
قال ابن عاشور :
والبياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة ، وهما بياض وسواد خاصان لأن هذا من أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 185}
فائدة
قال العلامة الشنقيطى :
قوله تعالى : {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}.
بين في هذه الآية الكريمة أن من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة الكفر بعد الإيمان وذلك في قوله {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [ آل عمران : 106 ] الآية.
وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكذب على الله وهو قوله تعالى : {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [ الزمر : 60 ]. وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك اكتساب السيئات وهو قوله : {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً} [ يونس : 27 ] وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكفر والفجور وهو قوله تعالى : {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [ عبس : 40-42 ].
وهذه الأسباب في الحقيقة شيء واحد عبر عنه بعبارات مختلفة ، وهو الكفر بالله تعالى ، وبين في موضع آخر شدة تشويه وجوههم بزرقة العيون وهو قوله : {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} [ طه : 102 ] وأقبح صورة أن تكون الوجوه مسوداً والعيون زرقاً ، ألا ترى الشاعر لما أراد أن يصور علل البخيل في أقبح صورة وأشوهها اقترح لها زرقة العيون ، واسوداد الوجوه في قوله :
وللبخيل على أمواله علل... زرق العيون عليها أوجه سود. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 240}
فصل
قال الفخر : (15/371)
احتج أصحابُنا بهذه الآية على أن المُكلَّف إما مؤمن وإما كافر ، وأنه ليس ههنا منزلة بين المنزلتين كما يذهب إليه المعتزِلة ، فقالوا : إنه تعالى قسم أهل القيامة إلى قسمين منهم من يبيض وجهه وهم المؤمنون ، ومنهم من يسود وجهه وهم الكافرون ولم يذكر الثالث ، فلو كان ههنا قسم ثالث لذكره الله تعالى قالوا وهذا أيضاً متأكد بقوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الكفرة الفجرة} [ عبس : 38 42 ].
أجاب القاضي عنه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه ، يبين ذلك أنه تعالى إنما قال : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} فذكرهما على سبيل التنكير ، وذلك لا يفيد العموم ، وأيضاً المذكور في الآية المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين ، فكذا القول في الفساق.(15/372)
واعلم أن وجه الاستدلال بالآية هو أنا نقول : الآيات المتقدمة ما كانت إلا في الترغيب في الإيمان بالتوحيد والنبوّة وفي الزجر عن الكفر بهما ثم إنه تعالى اتبع ذلك بهذه الآية فظاهرها يقتضي أن يكون ابيضاض الوجه نصيباً لمن آمن بالتوحيد والنبوّة ، واسوداد الوجه يكون نصيباً لمن أنكر ذلك ، ثم دل ما بعد هذه الآية على أن صاحب البياض من أهل الجنة ، وصاحب السواد من أهل النار ، فحينئذ يلزم نفي المنزلة بين المنزلتين ، وأما قوله يشكل هذا بالكافر الأصلي فجوابنا عنه من وجهين الأول : أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد منه أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم ؟ وإذا كان كذلك كان الكل داخلاً فيه والثاني : وهو أنه تعالى قال في آخر الآية {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فجعل موجب العذاب هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث أنه بعد الإيمان ، وإذا وقع التعليل بمطلق الكفر دخل كل الكفار فيه سواء كفر بعد الإيمان ، أو كان كافراً أصلياً والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 149 ـ 150}
فصل
قال القرطبى :
اختلفوا في التعيين ؛ فقال ابن عباس : تبيضّ وجُوه أهلِ السنّة وتسودّ وجوه أهل البِدعة.
قلت : وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهرويّ أخو غسّان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال : "يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسودّ وجوه أهل البدعة" " ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب.
وقال فيه : منكر من حديث مالك.
قال عطاء : تبيض وجوه المهاجرين والأنصار ، وتسودّ وجوه بني قريظة والنضِير.(15/373)
وقال أُبيّ بن كعب : الذين اسودت وجوههم هم الكفار ، وقيل لهم : أكفرتم بعد إيمانكم لإقراركم حين أخْرِجتم من ظهر آدم كالذّرّ.
هذا اختيار الطبري.
الحسن : الآية في المنافقين.
قتادة هي في المرتدِّين.
عِكرمة : هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدِّقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بُعث عليه السلام كفروا به ؛ فذلك قوله : {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
وهو اختيار الزجاج.
مالك بن أنس : هي في أهل الأهواء.
أبو أمامة الباهِليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " هي في الحرورِية " وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال : " هي في القدرية " روى الترمذيّ عن أبي غالب قال : رأى أبو أمامة رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق ، فقال أبو أمَامة : " كلابُ النار شرُّ قتلى تحت أَدِيم السماء ، خيرُ قتلى من قتلوه ثم قرأ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} " إلى آخر الآية.
قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عدّ سبعاً ما حدثتكموه.
قال : هذا حديث حسن.
وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً لَيرِدنّ عليّ أقوام أعرِفهم ويعرِفوني ثم يحال بيني وبينهم " قال أبو حازم ؛ فسمعني النُّعمان بن أبي عياش فقال : أهكذا سمعتَ من سهل بن سعد ؟ فقلت نعم.(15/374)
فقال : أشهد على أبي سعيدٍ الخدرِيّ لسمعته وهو يزيد فيها : " فأقول إنهم منِّي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي " وعن أبي هريرة أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يرِد عليَّ الحوضَ يوم القيامة رهْطٌ من أصحابي فيُجْلَون عن الحَوْض فأقول يا ربِّ أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري " والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فمن بدّل أو غيّر أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه الله ولم يأذَنْ به الله فهو من المطْرُودين عن الحوض المبتَعِدين منه المسودِّي الوُجُوه ، وأشدّهم طرداً وإبعاداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم ؛ كالخوارج على اختلاف فِرَقها ، والرَوافِض على تَباين ضلالها ، والمعتزلة على أصناف أهوائها ؛ فهؤلاء كلهم مبدِّلون ومبتدِعون ، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم ، والمعلنون بالكبائر المستخِفُّون بالمعاصي ، وجماعة أهل الزّيْع والأهْواء والبِدَع ؛ كلٌّ يُخاف عليهم أن يكونوا عُنُوا بالآية ، والخبر كما بيّنا ، ولا يَخلُد في النار إلا كافر جاحِدٌ ليس في قلبه مثقالُ حبّةِ خرْدلٍ من إيمان.
وقد قال ابن القاسم : وقد يكون من غير أهل الأهْواء من هو شرٌّ من أهل الأهواء.
وكان يقول : تمام الإخلاص تَجنّب المعاصي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 167 ـ 168}
قوله : {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} في الكلام حذف ، أي فيقال لهم {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى.
ويقال : هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به.(15/375)
وقال أبو العالية : هذا للمنافقين ، يقال : أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية.
وأجمع أهل العربية على أنه لا بدّ من الفاء في جواب "أما" لأن المعنى في قولك : "أما زيد فمنطلق ، مهما يكن من شيء فزيد منطلق". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 169}
قال الطبرى :
وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب ، القولُ الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار ، وأنّ الإيمان الذي يوبَّخُون على ارتدادهم عنه ، هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) [سورة الأعراف : 172].
وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميعَ أهل الآخرة فريقين : أحدهما سودًا وجوهه ، والآخر بيضًا وجوهه. فمعلوم -إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان- أن جميع الكفار داخلون في فريق من سُوِّد وجهه ، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بُيِّض وجهه. فلا وجه إذًا لقول قائل : "عنى بقوله : "أكفرتم بعد إيمانكم" ، بعض الكفار دون بعض" ، وقد عمّ الله جل ثناؤه الخبرَ عنهم جميعهم ، وإذا دخل جميعهم في ذلك ، ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ثم ارتدوا كافرين بعدُ إلا حالة واحدة ، كان معلومًا أنها المرادة بذلك.
فتأويل الآية إذًا : أولئك لهم عذاب عظيمٌ في يوم تبيضُّ وجوه قوم وتسودُّ وجوه آخرين. فأما الذين اسودت وجوههم ، فيقال : أجحدتم توحيد الله وعهدَه وميثاقَه الذي واثقتموه عليه ، بأن لا تشركوا به شيئًا ، وتخلصوا له العبادة - بعد إيمانكم يعني : بعد تصديقكم به ؟ "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون". أ هـ {تفسير الطبرى حـ 7 صـ 95 ـ 96}
أسئلة وأجوبة للإمام الفخر(15/376)
السؤال الأول : أنه تعالى ذكر القسمين أولاً فقال : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} فقدم البياض على السواد في اللفظ ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد ، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض.
والجواب عنه من وجوه :
أحدها : أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب
وثانيها : أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام حاكياً عن رَبِّ العزة سبحانه : " خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم " وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض ، لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن ، ثم ختم بذكرهم أيضاً تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال : " سبقت رحمتي غضبي "
وثالثها : أن الفصحاء والشعراء قالوا : يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم.
السؤال الثاني : أين جواب ( أما ) ؟.
والجواب : هو محذوف ، والتقدير فيقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم ، وإنما حسن الحذف لدلالة الكلام عليه ومثله في التنزيل كثير قال تعالى : {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ} [ الرعد : 23 ، 24 ] وقال : {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت وإسماعيل رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [ البقرة : 127 ] وقال : {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا} [ السجدة : 12 ].
السؤال الثالث : من المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ؟.
والجواب : للمفسرين فيه أقوال(15/377)
أحدها : قال أُبيُّ بن كَعْب : الكل آمنوا حال ما استخرجهم من صلب آدم عليه السلام ، فكل من كفر في الدنيا ، فقد كفر بعد الإيمان ، ورواه الواحدي في "البسيط" بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم وثانيها : أن المراد : أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوّة ، والدليل على صحة هذا التأويل ، قوله تعالى فيما قبل هذه الآية {يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [ آل عمران : 70 ] فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات ، وقال للمؤمنين {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البينات} [ آل عمران : 105 ].
ثم قال ههنا {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم} فكان ذلك محمولاً على ما ذكرناه حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها ، وعلى هذين الوجهين تكون الآية عامة في حق كل الكفار ، وأما الذين خصصوا هذه الآية ببعض الكفار فلهم وجوه
الأول : قال عكرمة والأصم والزجاج المراد أهل الكتاب فإنهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين به ، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كفروا به
الثاني : قال قتادة : المراد الذين كفروا بعد الإيمان بسبب الارتداد
الثالث : قال الحسن : الذين كفروا بعد الإيمان بالنفاق
الرابع : قيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة
الخامس : قيل هم الخوارج ، فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيهم : " إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " وهذان الوجهان الأخيران في غاية البعد لأنهما لا يليقان بما قبل هذه الآية ، ولأنه تخصيص لغير دليل ، ولأن الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة.
السؤال الرابع : ما الفائدة في همزة الاستفهام في قوله {أَكْفَرْتُمْ} ؟.(15/378)
الجواب : هذا استفهام بمعنى الإنكار ، وهو مؤكد لما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله {قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ الله والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [ آل عمران : 98 ، 99 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 150 ـ 151}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقدم عند وصف اليوم ذكر البياض ، الذي هو شعار أهل النعيم ، تشريفا لذلك اليوم بأنه يوم ظهور رحمة الله ونعمته ، ولأن رحمة الله سبقت غضبه ، ولأن في ذكر سمة أهل النعيم ، عقب وعيد غيرهم بالعذاب ، حسرة عليهم ، إذ يعلم السامع أن لهم عذابا عظيما في يوم فيه نعيم عظيم.
ثم قدم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلا بمساءتهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 185}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : {أكَفَرْتُمْ} هذه الجملة في مَحَلِّ نصب بقول مُضْمَرٍ ، وذلك القول المضمر - مع فاء مضمرة - أيضاً - هو جواب " أما " ، وحذف الفاء مع القول مطرد ، وذلك أن القول يُضْمَر كثيراً ، كقوله تعالى : {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [ الرعد : 23-24 ].
وقوله : {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ} [ الزمر : 3 ] ، وقوله : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} [ البقرة : 127 ] ، وأما حذفها دون إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورة.
كقوله : [ الطويل ]
فأمَّا الْقِتَالُ لا قَتالَ لَديْكُمُ... وَلِكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ الْمَوَاكِبِ
أي : فلا قتال.(15/379)
وقال صاحب " أسرار التنزيل " : إنّ النحاة اعترض عليهم - في قولهم : لما حذف يقال : حُذِفت الفاء ؛ بقوله تعالى : {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} [ الجاثية : 31 ] ، فحذف يقال ، ولم يحذف الفاء ، فلما بطل هذا تعيَّن أن يكون الجواب في قوله : {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ، فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : {أَكَفَرْتُم} ومن نظم العرب - إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له - أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ، ثم يجعلون له جواباً واحداً ، كما في قوله : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [ البقرة : 38 ] ، فقوله : {فلا خوف عليهم} جواب للشرطين معاً ، وليس " أفلم تكن آياتي " جواب " إما " بل الفاء عاطفة على مقدَّر ، والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي ؟
قال أبو حيان : وهو كلام أديب لا كلام نحويّ ، أما قوله : قد اعترض على النحاة ، فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ؛ لأنه ما من نحويٍّ إلا خرَّج الآيةَ على إضمار : فيُقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فَحْوَى الخطابِ ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدَّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه.(15/380)
وأما ما اعترض به من قوله : {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} [ الجاثية : 31 ] وأنهم قدروه : فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير - فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في " أفَلَمْ " ليست فاء " فيقال " التي هي جواب " أما " - حتى يقال : حذف " يقال " وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب " أما " و" يقال " بعدها - محذوف ، وفاء " أفلم " يحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون زائدة.
وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر : [ الطويل ]
يَمُوتُ أناسٌ أوْ يَشِيبُ فَتَاهُمُ... وَيَحْدُثُ نَاسٌ ، والصَّغِيرُ فِيَكْبُرُ
أي : صغير يكبر ، وقول الآخر : [ الكامل ]
لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِزمُهَا... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْضَبُ
أي : تركت ، وقول زُهير : [ الطويل ]
أرَانِي إذَا ما بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى... فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا
يريد ثم إذا.
وقال الأخفش : " وزعموا أنهم يقولون : أخوك فوجد ، يريدون : أخوك وجد ".
والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، والتقدير : فيقال لهم ما يسوؤهم ، " أفلم " تكن آياتي ، ثم اعتني بحرف الاستفهام ، فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تتقدم على الفاء التي للتعقيب في قوله : {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} [ يوسف : 109 ] وهذا على رَأي من يثبت أن الفاء تفسيرية ، نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه.. إلى آخر أفعال الوضوء ، فالفاء - هنا - ليت مرتِّبة ، وإنما هي مفسِّرة للوضوء ، كذلك تكون في {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} مفسرة للقول الذي يسوؤهم.(15/381)
وقوله : فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : " تذوقوا " ، أي : تعيَّن بطلان حذف ما قدَّره النحويون ، من قوله : " فيقال لهم " ؛ لوجود هذه الفاء في " أفلم تكن " ، وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل ؛ وأنه سواء في الآيتين ، وإذا كان كذلك فجواب : " أما " هو فيقال - في الموضعين - ومعنى الكلام عليه ، وأما تقديره : أأهملتكم فلم تكن آياتي تتلى عليكم ؟ فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشريَّ يقدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فِعْلاً يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو ، و" ثم " إذا دخلت عليها الهمزة - أصلهن التقديم على الهمزة ، لكن اعتني بالاستفهام ، فقدم على حرف العطف - كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين - وقد رجع الزمخشريّ إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قول الأول مذكور في النحو وقد تقدم - في هذا الكتاب - حكاية مذهب الجماعة في ذلك ، وعلى تقدير قول هذا الرجل - أأهملتكم فلم تكن آياتي ، لا بدّ من إذمار القول ، وتقديره : فيقال : أاهملتكم ؛ لأن هذا المقدَّر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب " أما " ، وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة.
وقول هذا الرجل : فوعق ذلك جواباً له ولقوله : " أكفرتم " يعني : أن " فذوقوا العذاب " جواب ل " أما " ولقوله : " أكفرتم " والاستفهام - هنا - لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم.
وأما قول هذا الرجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يُجْعَل لكُلٍّ جوابٌ ، إن لا يكن ظاهراً فمقدَّر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً.
وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} [ البقرة : 38 ] وزعمه أن قوله تعالى : {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [ البقرة : 38 ]. انتهى.(15/382)
والهمزة في " أكَفَرْتُمْ " للإنكار عليهم ، والتوبيخ لهم ، والتعجُّب من حالهم.
وفي قوله : " أكَفَرْتُمْ " نوع من الالتفات ، وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوين الخطاب ، وذلك أن قوله : {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} في حكم الغيبة ، وقوله - بعد ذلك " أكَفَرْتُمْ " خطاب مواجهة.
قوله : {فَذُوقُوا} من باب الاستعارة ، جعل العذاب شيئاً يُدْرَك بحاسَّةِ الأكْل ، والذوق ؛ تصويراً له بصورة ما يُذَاق.
وقوله : {بِمَا كُنْتُمْ} الباء سببية ، و" ما " مصدرية ، ولا تكون بمعنى : الذي ؛ لاحتياجها إلى العائد ، وتقديره غير جائز ، لعدم الشروط المجوِّزة لحَذْفِه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 455 ـ 457}
قوله تعالى : {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
فصل
قال الفخر :
فيه فوائد
الأولى : أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصاً بمن كفر بعد إيمانه ، فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافراً أصلياً
الثانية : قال القاضي قوله {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم} يدل على أن الكفر منه لا من الله وكذا قوله {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
الثالثة : قالت المرجئة : الآية تدل على أن كل نوع من أنواع العذاب وقع معللاً بالكفر ، وهذا ينفي حصول العذاب لغير الكافر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 151}
فصل
قال الخازن :
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليردنَّ عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصحابي أصحابي فيقال لي لا تدري ما أحدثوا " زاد في رواية فأقول : " سحقاً لمن بدل بعدي "(15/383)
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يرد على يوم القيامة رهط من أصحابي أو قال من أمتي فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول : أنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدباهم القهقهرى " وقيل هم الخوارج الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب وقتلهم وهم الحرورية.
عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي لما ساروا إلى الخوارج فقال عليّ : أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة "
بشير بن عمرو.
قال : قلت لسهل بن حنيف هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً قال : سمعته يقول وأهوى بيده إلى العراق " يخرج منهم قوم يقرؤون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية " وقيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة كالقدرية ونحوهم ومن قال بهذا القول يقول كفرهم بعد إيمانهم هو خروجهم من الجماعة ومفارقتهم في الاعتقاد.(15/384)
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح لارجل مؤمناً ويسمى مؤمناً ، ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا " وقال الحارث الأعور : سمعت على بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : على المنبر إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملاً يستوجب به الجنة وإن الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملاً يستوجب به النار ثم قرأ {يوم تبيض وجوه} الآية ثم نادى هم الذين كفروا بعد الإيمان ورب الكعبة. {أخرجه مسلم في الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن برقم (118) : 1 / 110 وأخرجه المصنف في شرح السنة : 15 /}. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 263}
قوله تعالى : {وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خالدون}
قال الآلوسى :
{وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله} أي الجنة فهو من التعبير بالحال عن المحل والظرفية حقيقية ، وقد يراد بها الثواب فالظرفية حينئذٍ مجازية كما يقال : في نعيم دائم وعيش رغد وفيه إشارة إلى كثرته وشموله للمذكورين شمول الظرف ولا يجوز أن يراد بالرحمة ما هو صفة له تعالى إذ لا يصح فيها الظرفية ويدل على ما ذكر مقابلتها بالعذاب ومقارنتها للخلود في قوله تعالى : {هُمْ فِيهَا خالدون} وإنما عبر عن ذلك بالرحمة إشعاراً بأن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا ينال ما ينال إلا برحمته تعالى ولهذا ورد في الخبر " لن يدخل أحدكم الجنة عمله فقيل له : حتى أنت يا رسول الله ؟ فقال : حتى أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته "(15/385)
وجملة هم فيها خالدون استئنافية وقعت جواباً عما نشأ من السياق كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فأجيب بما ترى وفيها تأكيد في المعنى لما تقدم ، وقيل : خبر بعد خبر وليس بشيء ، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي ، والضمير المجرور للرحمة ، ومن أبعد البعيد جعله للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلافاً لمن قال به ، وجعل الكلام عليه بياناً لسبب كونهم في رحمة الله تعالى وكون مقابلهم في العذاب كأنه قيل : ما بالهم في رحمة الله تعالى ؟ فأجيب بأنهم كانوا خالدين في الخيرات ، وقرىء ابياضت واسوادت. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 26}
أسئلة وأجوبة
السؤال الأول : ما المراد برحمة الله ؟.
الجواب : قال ابن عباس : المراد الجنة ، وقال المحققون من أصحابنا : هذا إشارة إلى أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمة الله ، وكيف لا نقول ذلك والعبد ما دامت داعيته إلى الفعل وإلى الترك على السوية يمتنع منه الفعل ؟ فإذن ما لم يحصل رجحان داعية الطاعة امتنع أن يحصل منه الطاعة وذلك الرجحان لا يكون إلا بخلق الله تعالى ، فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله في حق العبد فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً ، فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته وبكرمه لا باستحقاقنا.
السؤال الثاني : كيف موقع قوله {هُمْ فِيهَا خالدون} بعد قوله {فَفِى رَحْمَةِ الله}.
الجواب : كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
السؤال الثالث : الكفار مخلدون في النار كما أن المؤمنين مخلدون في الجنة ، ثم إنه تعالى لم ينص على خلود أهل النار في هذه الآية مع أنه نص على خلود أهل الجنة فيها فما الفائدة ؟.(15/386)
والجواب : كل ذلك إشعارات بأن جانب الرحمة أغلب ، وذلك لأنه ابتدأ في الذكر بأهل الرحمة وختم بأهل الرحمة ، ولما ذكر العذاب ما أضافه إلى نفسه ، بل قال : {فَذُوقُواْ العذاب} مع أنه ذكر الرحمة مضافة إلى نفسه حيث قال : {فَفِى رَحْمَةِ الله} ولما ذكر العذاب ما نص على الخلود مع أنه نص على الخلود في جانب الثواب ، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم فقال : {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ولما ذكر الثواب علله برحمته فقال : {فَفِى رَحْمَةِ الله} ثم قال في آخر الآية {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب ، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب ، يا أرحم الراحمين لا تحرمنا من برد رحمتك ومن كرامة غفرانك وإحسانك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 151 ـ 152}
لطيفة
قال أبو حيان :
{وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} انظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودّت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب ، وهنا جعلهم مستقرّين في الرحمة ، فالرّحمة ظرف لهم وهي شاملتهم.
ولما أخبر تعالى أنَّهم مستقرّون في رحمة الله بيَّن أنّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال ، وأشار بلفظ الرّحمة إلى سابق عنايته بهم ، وأن العبد وإنْ كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى.
وقال ابن عباس : المراد بالرحمة هنا الجنة ، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأنَّ جانب الرحمة أغلب.
وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه ، بل قال : {فذوقوا العذاب} ولما ذكر العذاب علّله بفعلهم ، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة. أ هـ {البحر المحيط حـ 3 صـ 27 ـ 28}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
قوله : {فَفِي رَحْمَةِ الله} فيها وجهان : (15/387)
أحدهما : أن الجارَّ متعلق بـ " خالِدُونَ " ، و" فِيهَا " تأكيد لفظي للحرف ، والتقدير : فهم خالدون في رحمة الله فيها. وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيداً لفظياً ، إلا بإعادة ما دخل عليه ، أو بإعادة ضميره - كهذه الآية - ولا يجوز أن يعود - وحْدَه - إلا في ضرورةٍ.
كقوله : [ الرجز ]
حَتَّى تَرَاهَا وكَأنَّ وكأنْ... أعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ
كذا ينشدون هذا البيت.
وأصرح منه في الباب - قول الشاعر : [ الوافر ]
فَلاَ وَاللهِ لا يُلْقَى لِمَا بِي... وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
ويحسن ذلك إذا اختلف لفظهما.
كقوله : [ الطويل ]
فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ... أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا
اللهم إلا أن يكون ذلك الحرفُ قائماً مقام جملة ، فيُكَرَّر - وحده - كحروف الجواب ، مثل : نَعَمْ نَعَمْ ، وبلى بلى ، ولا لا.
والثاني : أن قوله : {فَفِي رَحْمَةِ الله} : خبر لمبتدأ مُضْمَر ، والجملة - بأسْرها - جواب : " أما " والتقدير : فهم مستقرون في رحمة الله ، وتكون الجملة - بعده - من قوله : {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود ، فلا تعلُّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 459}
فصل
قال ابن عاشور : (15/388)
ووقعت تأويلات من المسلمين وقعوا بها فيما حذرهم منه القرآن ، فتفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات : الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" مثل أهل الردة الذين ماتوا على ذلك ، فمعنى الكفر بعد الإيمان حينئذ ظاهر ، وعلى هذا المعنى تأول الآية مالك بن أنس فيما روى عنه ابن القاسم وهو في ثالثة المسائل من سماعه من كتاب المرتدين والمحاربين من العتبية قال ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية يوم تبيض وجوه وتسود وجوه قال مالك : إنما هذه لأهل القبلة.
يعني أنها ليست للذين تفرقوا واختلفوا من الأمم قبلنا بدليل قوله : {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
ورواه أبو غسان مالك الهروي عن مالك عن أبن عمر ، وروي مثل هذا عن ابن عباس ، وعلة هذا الوجه فالمراد الذين أحدثوا بعد إيمانهم كفرا بالردة أو بشنيع الأقوال التي تفضي إلى الكفر ونقض الشريعة ، مثل الغرابية من الشيعة الذين قالوا بأن النبوة لعلي ، ومثل غلاة الإسماعيلية أتباع حمزة بن علي ، وأتباع الحاكم العبيدي ، بخلاف من لم تبلغ به مقالته إلى الكفر تصريحا ولا لزوما بينا مثل الخوارج والقدرية كما هو مفصل في كتب الفقه والكلام في حكم المتأولين ومن يؤول قولهم إلى لوازم سيئة.
وذوق العذاب مجاز للإحساس وهو مجاز مشهور علاقته التقييد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 185 ـ 186}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيتين
أرباب الدَّعاوَى تسودُّ وجوههم ، وأصحابَ المعاني تبيض وجوههم ، وأهل الكشوفات غداً تبيضُّ بالإشراق وجوهُهُم ، وأصحاب الحجاب تسودُّ بالحجبة وجوهُهُم ، فتعلوها غَبَرة ، وترهقها قَتَرَة.
ويقال مَنْ ابيض - اليومَ - قلبُه ابيضَّ - غداً - وجهُه ، ومَنْ كان بالضد فحاله العكس.
ويقال مَنْ أعرض عن الخلق - عند سوانحه - ابيضَّ وجهه بروح التفويض ، ومَنْ علَّق بالأغيار قلبَه عند الحوائج اسودّ محيَّاه بغبار الطمع ؛ فأمّا الذين ابيضت وجوههم ففي أُنُسٍ وروح ، وأمّا الذين اسودّت وجوههم ففي محن ونَوْح. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 269}(15/389)
لطيفة
قال الفيروزابادى :
وقد ورد الرّحمة فى القرآن على عشرين وجهاً :
الأَوّل : بمعنى منشور القرآن : {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}.
الثانى : بمعنى سيّد الرُسُل : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، وقال صلىَّ الله عليه وسلَّم : "إِنَّما أَنَا رَحْمَة مُهْدَاة".
الثالث : بمعنى توفيق الطَّاعة والإِحسان : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}.
الرَّابع : بمعنى بنوّة المرسلين : {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}.
الخامس : بمعنى الإِسلام والإِيمان : {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ}.
السّادس : بمعنى نعمة العِرفان : {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} أَى معرفة.
السّابع : بمعنى العصمة من العصيان : {إِلاَّ مَن رَّحِمَ}.
الثامن : بمعنى أَرزاق الإِنسان والحيوان : {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}.
التاسع : بمعنى فَطَرَات ماءِ الغِيثان : {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ}.
العاشر : بمعنى العافية من الابتلاءِ والامتحان : {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ}.
الحادى عشر : بمعنى النجاة من عذاب النيران : {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}.
الثانى عشر : بمعنى النُصْرَةِ على أهل العدوان : {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}.
الثالث عشر : بمعنى اللأُلْفة والموافقة بين أَهل الإِيمان : {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.
الرابع عشر : بمعنى الكتاب المنزل على موسى بن عمران : {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً}.
الخامس عشر : بمعنى الثناء على إِبراهيم والوِلدان : {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}.(15/390)
السّادس عشر : بمعنى إِجابة دعوة زكريا مبتهلا إِلى الله المَنَّان : {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ}.
السّابع عشر : بمعنى العفو عن ذوى العصيان : {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}.
الثامن عشر : بمعنى فتح أَبواب الرَّوْحِ والرَّيْحان : {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا}.
التاسع عشر : بمعنى الجنَّةِ دار السّلام والأَمان : {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}.
العشرون : بمعنى صفة الرّحيم الرحمن : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. وفى الخبر : "إِنَّّ الله تعالى خلق الأَرواح قبل الأَجساد بأَربعة آلاف سنة ، وقدَّر الأَرزاق قبل الأَرواح بأَربعة آلاف سنة ، وكَتب الرَّحمة على نفسه قبل الأَرزاق بأَربعة آلاف سنة.
ولهذا قال : سبقت رحمتى غضبى ، وعفوى عقابى". أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 2 صـ 445}(15/391)
قوله تعالى {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما حازت هذه الآيات من التهذيب وإحكام الترتيب وحسن السياق قصب السباق أشار إليها مع قربها بأداة البعد وأضافها إلى أعظم أسمائه فقال : {تلك آيات الله} أي هذه دلائل الملك الأعظم العالية الرتب البعيدة المتناول ، ثم استأنف الخبر عنها في مظهر العظمة قائلاً : {نتلوها} أي نلازم قصها ، وزاد في تعظيمها بعد المبتدأ بالمنتهي فقال : {عليك} ثم أكد ذلك بقوله : {بالحق} أي ثابتة المعاني راسخة المقاصد صادقة الأقوال في كل مما أخبرت به من فوزكم وهلاكهم من غير أن نظلم أحداً منهم {وما الله} أي الحائز لجميع الكمال {يريد ظلماً} قلَّ أو جلَّ {للعالمين} أي ما ظلمهم ولا يريد ظلم أحد منهم ، لأنه سبحانه وتعالى متعالٍ عن ذلك ، لا يتصور منه وهو غني عنه ، لأن له كل شيء. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 134}
فائدة
قال ابن عاشور :
الإشارة في قوله {تلك} إلى طائفة من آيات القرآن السابقة من هذه السورة كما اقتضاه قوله : {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} .(15/392)
والتلاوة اسم لحكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظة وهي كالقراءة إلا أن القراءة تختص بحكاية كلام مكتوب فيتجه أن تكون الطائفة المقصودة بالإشارة هي الآيات المبدوئة بقوله تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران : 59] إلى هنا لأن ما قبله ختم بتذييل قريب من هذا التذييل ، وهو قوله : {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران : 58] فيكون كل تذييل مستقلا بطائفة الجمل التي وقع هو عقبها.
وخصت هذه الطائفة من القرآن بالإشارة لما فيها من الدلائل المثبتة صحة عقيدة الإسلام ، والمبطلة لدعاوى الفرق الثلاث من اليهود والنصارى والمشركين ، مثل قوله : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران : 59] وقوله : {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة : 74] الآية.
وقوله : {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران : 66] الآية.
وقوله : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران : 68] الآية.
وقوله : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [آل عمران : 79] والحكم والنبوة الآية.
وقوله : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران : 81] الآية.
وقوله : {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران : 93] فاتلوها.
وقوله : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران : 96] وما تخلل ذلك من أمثال ومواعظ وشواهد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 186 ـ 187}
فصل
قال الفخر :
قوله {تِلْكَ} فيه وجهان(15/393)
الأول : المراد أن هذه الآيات التي ذكرناها هي دلائل الله ، وإنما جاز إقامة {تِلْكَ} مقام {هذه} لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر ، فصار كأنها بعدت فقيل فيها {تِلْكَ}
والثاني : إن الله تعالى وعده أن ينزل عليه كتاباً مشتملاً على كل ما لابد منه في الدين ، فلما أنزل هذه الآيات قال : تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك بالحق ، وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة في تفسير قوله {ذلك الكتاب} [ البقرة : 2 ] وقوله {بالحق} فيه وجهان الأول : أي ملتبسة بالحق والعدل من إجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه
الثاني : بالحق ، أي بالمعنى الحق ، لأن معنى التلو حق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 152}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
قوله : " تلْكَ " مبتدأ ، {آيَاتُ الله} خبره ، و" نَْلُوهَا " جملة حالية.
وقيل : {آيَاتُ الله} بدل من " تِلْكَ " ، و" نَتْلُوها " جملة واقعة خبر المتبدأ ، و" بِالحَقِّ " حال من فاعل " نتلُوهَا " ، أو مفعولة ، وهي حال مؤكدة ؛ لأنه - تعالى - لا ينزلها إلا على هذه الصفة.
وقال الزَّجَّاج : " في الكلام حذف ، تقديره : تلك آيات القرآن حُجَجُ الله ودلائله ".
قال أبو حيان : فعلى هذا الذي قدَّره يكون خبر المبتدأ محذوفاً ؛ لأنه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية ، وهذا التقدير لا حاجة إليه ؛ [ إذ الكلام مُسْتَغْنٍ عنه ، تامٌّ بنفسه ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 460}(15/394)
قوله تعالى : {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين}
فصل
قال الفخر :
إنما حسن ذكر الظلم ههنا لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين ، فكأنه تعالى يعتذر عن ذلك (1) وقال إنهم ما وقعوا فيه إلا بسبب أفعالهم المنكرة ، فإن مصالح العالم لا تستقيم إلا بتهديد المذنبين ، وإذا حصل هذا التهديد فلا بد من التحقيق دفعاً للكذب ، فصار هذا الاعتذار من أدل الدلائل ، على أن جانب الرحمة غالب ، ونظيره قوله تعالى في سورة ( عم ) بعد أن ذكر وعيد الكفار {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بئاياتنا كِذَّاباً} [ النبأ : 27 ، 28 ] أي هذا الوعيد الشديد إنما حصل بسبب هذه الأفعال المنكرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 152}
___________
(1) هذا اللفظ فيه تجرؤ وكان الأحرى والأولى مراعاة الأدب مع الله تعالى.(15/395)
وقال أبو السعود :
وقوله : {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه ، فإن تنكيرَ الظلم وتوجيهَ النفي إلى إرادته بصيغة المضارعِ دون نفسِه وتعليقَ الحكمِ بآحاد الجمعِ المعروفِ ، والالتفات إلى الاسم الجليلِ إشعارٌ بعلة الحكمِ وبيانٌ لكمال نزاهتِه عز وجل عن الظلم بما لا مزيدَ عليه أي ما يريد فرداً من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلاً عن أن يظلِمَهم ، فإن المضارعَ كما يفيد الاستمرارَ في الإثبات يفيده في النفي بحسب المقامِ كما أن الجملةَ الاسميةَ تدلُّ بمعرفة المقامِ على دوام الثبوتِ ، وعند دخولِ حرفِ النفي تدل على دوامِ الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ وفي سبك الجملةِ نوعُ إيماءٍ إلى التعريض بأن الكفرَةَ هم الظالمون ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعذاب الخالد كما في قوله تعالى : {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 70}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} اللام - في " لِلْعَالَمِينَ " - زائدة - لا تعلُّق لها بشيء ، زيدت في مفعول المصدر وهو ظلم والفاعل محذوف ، وهو - في التقدير - ضمير الباري ، والتقدير : وما الله يريد أن يظلم العالمين ، فزيدت اللام ، تقوية للعامل ؛ لكونه فرعاً ، كقوله : {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [ البروج : 16 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 461}
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} ؛ قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ نَفْيَ إرَادَةِ الظُّلْمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَلَا يُرِيدُ هُوَ أَنْ يَظْلِمَهُمْ ، وَلَا يُرِيدُ أَيْضًا ظُلْمَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي مَنْزِلَةِ الْقُبْحِ.
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُرِيدَ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ لَجَازَ أَنْ يُرِيدَ ظُلْمَهُ لَهُمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعُقُولِ بَيْنَ مَنْ أَرَادَ ظُلْمَ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ وَبَيْنَ مَنْ أَرَادَ ظُلْمَ إنْسَانٍ لِغَيْرِهِ ، وَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقُبْحِ ؟ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إرَادَتُهُ لِلظُّلْمِ مُنْتَفِيَةً مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 321}(15/396)
فصل
قال الفخر :
قال الجُبّائي : هذه الآية تدل على أنه سبحانه لا يريد شيئاً من القبائح لا من أفعاله ولا من أفعال عباده ، ولا يفعل شيئاً من ذلك ، وبيانه : وهو أن الظلم إما أن يفرض صدوره من الله تعالى ، أو من العبد ، وبتقدير صدوره من العبد ، فإما أن يظلم نفسه وذلك بسبب إقدامه على المعاصي أو يظلم غيره ، فأقسام الظلم هي هذه الثلاثة ، وقوله تعالى : {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} نكرةٌ في سياق النَّفي ، فوجب أن لا يريد شيئاً مما يكون ظلماً ، سواء كان ذلك صادراً عنه أو صادراً عن غيره ، فثبت أن هذه الآية تدل على أنه لا يريد شيئاً من هذه الأقسام الثلاثة ، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون فاعلاً لشيء من هذه الأقسام ، ويلزم منه أن لا يكون فاعلاً للظلم أصلاً ويلزم أن لا يكون فاعلاً لأعمال العباد ، لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم وظلم بعضهم بعضاً ، وإنما قلنا : إن الآية تدل على كونه تعالى غير فاعل للظلم ألبتة لأنها دلت على أنه غير مريد لشيء منها ، ولو كان فاعلاً لشيء من أقسام الظلم لكان مريداً لها ، وقد بطل ذلك ، قالوا : فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم ، وغير فاعل لأعمال العباد ، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد ، ثم قالوا : إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك ، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريداً له ، فدلت هذه الآية على كونه تعالى قادراً على الظلم وعند هذا تبجحوا وقالوا : هذه الآية الواحدة وافية بتقرير جميع أصول المعتزلة في مسائل العدل ، ثم قالوا : ولما ذكر تعالى أنه لا يريد الظلم ولا يفعل الظلم قال بعده {وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} وإنما ذكر هذه الآية عقيب ما تقدم لوجهين(15/397)