والخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه وتختاره إذا أصابته والقوه الغاذية خير للإنسان ووجود الإنسان خير له بفرضه محتاجا طالبا وأما الخلق والإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شئ ثابت أو مفروض فالغذاء مثلا مخلوق موجد في نفسه وكذا القوة الغاذية مخلوقة والإنسان مخلوق.
ولما كان كل رزق لله وكل خير لله محضا فما يعطيه تعالى من عطية وما أفاضه من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض وبلا شئ مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شئ فهو له تعالى حقا ولا استحقاق هناك إذ لا حق لأحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق قال تعالى {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها : هود - 6 }
وقال تعالى فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون : الذاريات - 23}.
فالرزق مع كونه حقا على الله لكونه حقا مجعولا من قبله عطية منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق.
ومن هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقا مقدرا من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقا ثابتا على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه ويعاقبه عليه.
وتوضيحه ببيان آخر أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه وكما أن الرحمة رحمتان رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر ومتق وفاجر وإنسان وغير إنسان ورحمة خاصة وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان والتقوى والجنة كذلك الرزق منه ما هو رزق عام وهو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده ومنه ما هو رزق خاص وهو الواقع في مجرى الحل.(12/254)
وكما أن الرحمة العامة والرزق العام مكتوبان مقدران قال تعالى {وخلق كل شئ فقدره تقديرا : الفرقان - 2 } كذلك الرحمة الخاصة والرزق الخاص مكتوبان مقدران وكما أن الهدى وهو رحمة خاصة مكتوب مقدر تقديرا تشريعيا لكل إنسان مؤمنا كان أو كافرا ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب قال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين : الذاريات - 58 }
وقال تعالى {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه : الإسراء - 23 } فالعبادة وهى تستلزم الهدى وتتوقف عليه مقضية مقدرة تشريعا كذلك الرزق الخاص هو الذى عن مجرى الحل مقضى مقدر قال تعالى {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين : الأنعام - 140 }
وقال تعالى {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء : النحل - 71 }
والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر والمؤمن ومن يرتزق بالحلال ومن يرتزق بالحرام.
ومن الواجب أن يعلم أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على قدر ما ينتفع فمن أوتي الكثير من المال وهو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه هو الذي أكله والزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق وضيقه غير كثرة المال مثلا وقلته وللكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله تعالى {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين : هود - 6}.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى {وترزق من تشاء بغير حساب}
فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكا له تعالى محضا فلا يقابل عطيته منهم شئ فلا حساب لرزقه تعالى.(12/255)
وأما كون نفى الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى {إنا كل شئ خلقناه بقدر : القمر - 49 }
وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق - 3 }
فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 137 ـ 141}(12/256)
وقال صاحب الأمثل
(وترزق من تشاء بغير حساب).
هذه الآية تعتبر من باب ذكر "العام" بعد "الخاص" ، إذ الآيات السابقة قد ذكرت نماذج من الرزق الإلهي ، أمّا هنا فالآية تشير إلى جميع النِعم على وجه العموم ، أي أنّ العزّة والحكم والحياة والموت ليست هي وحدها بيد الله ، بل بيده كلّ أنواع الرزق والنِعم أيضاً.
وتعبير (بغير حساب) يشير إلى أنّ بحر النِعم الإلهية من السعة والكبر بحيث إنّه مهما اعطى منه فلن ينقص منه شيء ولا حاجة به لضبط الحسابات. فالتسجيل في دفاتر الحساب من عادة ذوي الثروات الصغيرة المحدودة التي يخشى عليها من النفاذ والنقصان. فهؤلاء هم الذين يحسبون حسابهم قبل أن يهبوا لأحد شيئاً ، لئلاّ تتبدّد ثرواتهم. أمّا الله فلا يخشى النقص فيما عنده ، ولا أحد يحاسبه ، ولا حاجه له بالحساب.
يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية لا تتعارض مع الآيات التي تبيّن التقدير الإلهي وتطرح موضوع لياقة الأفراد وقابليّتهم ومسألة التدبير في الخلقة. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 453}(12/257)
من لطائف الشهيد سيد قطب فى الآية
قال عليه رحمة الله :
{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ؛ وترزق من تشاء بغير حساب } . .
والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة ، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس : هذه الحركة الخفية المتداخلة . حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي . . الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال ، متى ألقى القلب إليها انتباهه ، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق .
وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . . أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح . . سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة ، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء . . شيئاً فشيئاً يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار . وشيئاً فشيئاً يتنفس الصبح في غيابة الظلام . . شيئاً فشيئاً يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء . وشيئاً فشيئاً يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف . . وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة ؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير!
كذلك الحياة والموت ، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج . كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة! خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل .(12/258)
وما ذهب منه ميتاً يعود في دورة أخرى إلى الحياة . وما نشأ فيه حياً يعود في دورة أخرى إلى الموت . . هذا في كيان الحي الواحد . . ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله ، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة . . وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . . ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئاً . ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير!
حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك . حركة خفية عميقة لطيفة هائلة . تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري ؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر . . فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدّبر ؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير ؟
ثم أنى يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً ، ويتخذ بعضهم بعضاً أرباباً ، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال : { وترزق من تشاء بغير حساب } . .
إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى . حقيقة الألوهية الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد . ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال .(12/259)
هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله ، المتضمن لمنهج الله للبشر ، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر . . وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين . ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول . والأمر كله بيد الله . وهو ولي المؤمنين دون سواه. أ هـ {الظلال حـ 1 صـ 384 ـ 385}
لطيفة
قال فى روح البيان :
قال الحجاج بن يوسف حين قيل له : لم لا تعدل مثل عمر رضى الله عنه وأنت قد أدركت خلافته أفلم ترعد له وصلاحه ؟
فقال فى جوابهم : تبذوروا أتعمر لكم أى كونوا كأبى ذر فى الزهد والتقوى أعاملكم معاملة عمر فى العدل والإنصاف وفيه إشارة إلى أن الولاة إنما يكونون على حسب أعمال الرعايا وأحوالهم صلاحا وفسادا فعلى كل واحد من المسلمين التضرع لله تعالى والإنابة إليه بالتوبة والاستغفار عند فشّو الظلم وشمول الجور ويظهر جور الوالى وعدله فى الضرع والزرع والأشجار والأثمار والمكاسب والحرف يعنى يقل لين الضرع وتنزع بركة الزرع وتنقص ثمار الأشجار وتكسد معاملة التجار وأهل الحرف فى الأمصار التي ملك فيها ذلك الملك الجائر بشؤم ظلمه وسوء فعله ويكون الأمر على العكس إذا عدل ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه طاووس إن أردت أن يكون عملك خيرا كله فاستعمل أهل الخير فقال كفى بها موعظة. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 25}(12/260)
بحث علمى للدكتور زغلول النجار ـ حفظه الله ـ
"إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي في القرآن الكريم"
جاء هذا المعني في أربعة مواضع من القرآن الكريم علي النحو التالي :
(1).. تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ( آل عمران : 27).
(2) إن الله فالق الحب والنوي يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأني تؤفكون ( الأنعام : 95).
(3) قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ( يونس : 31).
(4) يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ( الروم : 19).
الدلالة العلمية للآية الكريمة(12/261)
تشير هذه الآية الكريمة إلي قدرة الله علي خلق الأحياء من المواد الأولية التي أوجدها مع بدء خلقه للكون , وهي مواد ميتة لا روح فيها ولا حياة , وبعد انتزاع الروح من الكائن الحي يعود جسده إلي تلك المواد الأولية التي بدأ خلقه منها , وبذلك فالله ( تعالي ) وحده هو الذي يملك إخراج الحي من الميت , وإخراج الميت من الحي ; وينطبق ذلك علي الخلق الأول للحياة , وعلي البعث في الآخرة , كما ينطبق علي العمليات الوسطي بينهما من الميلاد , والنمو , والتكاثر , والوفاة ; وهي عمليات مستمرة إلي قيام الساعة , ومنضبطة بسنن كونية , وقوانين ربانية ثابتة لا تتوقف ولا تتخلف إلي أن يشاء الله , وهذه السنن والقوانين لم يدركها علم الإنسان الكسبي إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين , وورود الإشارة إلي حقيقتها في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة بهذه الدقة البالغة لمما يجزم بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق , ومما يؤكد نبوة هذا النبي الخاتم ( صلي الله عليه وسلم ) ويشهد بصدق رسالته , وبأنه ( صلي الله عليه وسلم ) كان موصولا بالوحي , ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض .
وقبل الدخول في شرح الدلالة العلمية للآية الكريمة لابد لنا من التفريق بين تعبيري الحي والميت .
الحي والميت في اللغة العربية :
( الحياة ) في العربية ضد الموت ; و( الحي ) ضد الميت , و( المحيا ) من الحياة ; يقال : ( أحياه ) الله ( فحيي ) و( حي ), وللجمع ( حيوا ), و( الحيوان ) ضد الموتان .(12/262)
وفي المقابل فإننا نجد أن ( الموات ) بالفتح هو كل ما لا روح فيه , وهو أيضا الأرض التي لا مالك لها , والتي لا ينتفع أحد بها ; و( الموت ) ضد الحياة ; يقال للحي إذا فارق الحياة أنه قد ( مات )( يموت ), و( يمات ), فهو ( ميت )[ بالتشديد والتخفيف ], وجمعه ( موتي ) و( أموات ) و( ميتون )[ بالتشديد والتخفيف ], ويستوي في ذلك المذكر والمؤنث ; و( الميتة ) ما لم تلحقه الذكاة , و( الموات ) بالضم هو ( الموت ); يقال : ( أماته ) الله ( موتة ); و( المستميت ) المتعرض للمخاطر إلي حد الموت ; و( المتماوت ) المتظاهر بالموت من قبيل الرياء ; ويقال للنوم أنه ( موت خفيف أو مؤقت ) و( للموت ) أنه نوم ثقيل ودائم إلي يوم البعث .
الموات في كوننا : (12/263)
يتكون الجزء المدرك لنا من الكون في غالبيته من غاز الأيدروجين الذي يشكل أكثر من 74% من مادة الكون المنظور ; وغاز الأيدروجين هو أخف العناصر وزنا , وأقلها تعقيدا أي أبسطها بناء , وهو مادة غير حية . ويلي غاز الأيدروجين كثرة في الجزء المدرك لنا من الكون غاز الهيليوم الذي يشكل 24% من مادة الكون المنظور , وهو ثاني العناصر المعروفة لنا , ويتكون في داخل الشمس باتحاد أربع من نوي ذرات الأيدروجين وتنطلق الطاقة , ومعني ذلك أن باقي العناصر المعروفة لنا التي يزيد عددها علي مائة عنصر تشكل أقل من 2% من مادة الكون المنظور , وهي كلها غير حية , وقد أدت هذه الملاحظة إلي الاستنتاج الصحيح بأن جميع العناصر قد تخلقت باتحاذ نوي ذرات الأيدروجين بعملية تعرف باسم الاندماج النووي , وهذه العملية تتم في داخل نجوم السماء التي ينظر إليها علي أنها أفران ذرية كونية تتخلق فيها العناصر بالتدريج من أخفها وهو غاز الأيدروجين بعملية الاندماج النووي حتي تصل سلسلة هذه العمليات إلي إنتاج عنصر الحديد الذي لا يتم إنتاجه إلا في داخل النجوم العملاقة وفي مراحل توهجها الشديد المسماة باسم ( المستعرات العظام ), وحينما يتحول قلب المستعر الأعظم إلي الحديد يكون قد استهلك طاقته فينفجر هذا النجم الأعظم , وتتناثر أشلاؤه في صفحة السماء , لتدخل في نطاق جاذبية عدد من الأجرام بتقدير من الله ( تعالي ) علي هيئة النيازك ورماد الشهب , وقد تتعرض بعض نوي ذرات الحديد في أثناء هذه الرحلة في صفحة السماء لاصطياد عدد من الجسيمات الأولية للمادة ـبتقدير من الخالق سبحانه وتعالي فيتكون من العناصر ما هو أعلي وزنا , وأعقد بناء من الحديد .
وباتحاد نوي ذرات العناصر مع الإليكترونات تكونت الذرات , وباتحاد الذرات تكونت الجزيئات , وباتحادها تكونت المركبات .(12/264)
وعندما انفصلت أرضنا عن الشمس ( أو عن السديم الذي تكونت منه الشمس ), لم تكن سوي كومة من الرماد ليس بها من العناصر ماهو أعلي وزنا من ( السيليكون ), ثم رجمت بوابل من النيازك والشهب الحديدية التي بها بعض العناصر الأعلي وزنا من الحديد , فاندفعت تلك المواد العالية الكثافة إلي قلب الأرض الأولية ( كومة الرماد ) فانصهرت وصهرتها ومايزتها إلي سبع أراضين : لب صلب داخلي أغلبه الحديد والنيكل , يليه إلي الخارج لب سائل أغلبه كذلك الحديد والنيكل , ثم أربعة أوشحة متتالية تتناقص فيها نسبة الحديد من الداخل إلي الخارج , ثم الغلاف الصخري للأرض وبه 5.6% من الحديد , وفي أثناء عملية التمايز تلك تكونت مركبات المعادن التي كونت الصخور الأولية ( النارية ), والتي بدأت بها دورة الصخور . ومن الصخور النارية تكونت كل من الصخور الرسوبية والمتحولة , ومع تكون الصخور النارية , عبر المتداخلات النارية , والثورات البركانية أخرج الله ( تعالي ) من داخل الأرض ماءها , وغلافها الغازي , وهذه النطق الثلاث : الغلاف الصخري , والمائي , والغازي كلها مواد ميتة لا روح فيها ولا حياة .
ويقدر عمر الأرض بنحو 4600 مليون سنة , بينما يقدر عمر أقدم أثر للحياة علي سطحها بنحو 3800 مليون سنة , أي أن الأرض أخذت ثمانمائة مليون سنة علي الأقل من أجل إعدادها لاستقبال الحياة , والله ( تعالي ) قادر علي أن يقول للشيء كن فيكون , ولكن هذا التدرج قصد به أن يفهم الإنسان سنن الله في الخلق , وأن يحسن توظيفها في عمارة الأرض , وفي حسن القيام بواجبات الاستخلاف فيها .
الأحياء علي أرضنا : (12/265)
يحيا علي يابسة أرضنا اليوم , وفي مياهها , وتحت هوائها من صور الحياة المدركة بلايين البلايين من الأفراد التي تنطوي في نحو المليوني نوع من أنواع الحياة , تجمع في ست ممالك هي : البدائيات , الطلائعيات , الفطريات , النبات , الحيوان , والإنسان .. التي ينقسم كل منها إلي عدد من القبائل , والفصائل , والرتب , والأجناس , والأنواع .
وبمعدل الاكتشافات الحالية يتوقع العلماء أن عدد الأنواع التي عاشت علي الأرض واندثرت , والتي تعيش اليوم سوف يصل إلي نحو خمسة ملايين نوع من أنواع الحياة , يمثل كل نوع منها ببلايين الأفراد , ويتراوح متوسط عمر كل نوع من أنواع هذه الحياة بين نصف مليون سنة وخمسة ملايين من السنين .
وكل نوع من أنواع هذه الحياة أعطاه الله ( تعالي ) القدرة علي القيام بجميع العمليات الحيوية من أمثال التغذية , والقدرة علي القيام بالتمثيل الغذائي ( الأيض ), وعلي الإخراج , والتنفس , والنمو , والتكاثر , والتكيف , والحركة .( باستثناء النبات ), والإحساس , إلي غير ذلك من الميزات التي تستخدم للتفريق بين الأحياء والأموات ( الموات ) في كوننا المدرك .
إخراج الحي من الميت :
إن قضية الخلق بأبعادها الثلاثة : خلق الكون , خلق الحياة , وخلق الإنسان هي من القضايا الغيبية التي لا تخضع لإدراك الإنسان , وفي ذلك يقول الحق ( تبارك وتعالي ) :
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض , ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ( الكهف 51).
ولكن القرآن الكريم الذي أنزل فيه ربنا ( تبارك وتعالي ) قراره هذا يقول لنا أيضا فيه :
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله علي كل شيء قدير ( العنكبوت : 20).(12/266)
وبالجمع بين هاتين الآيتين الكريمتين يتضح لنا بجلاء أنه علي الرغم من كون عملية الخلق عملية غيبية غيبة كاملة , لم يشهدها أحد من المخلوقين إلا أن الله ( تعالي ) من رحمته بنا أبقي لنا في صخور الأرض وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية ما يمكن أن يعين الإنسان علي وضع تصور ما عن كيفية الخلق , ويبقي هذا التصور متأثرا بخلفية واضعه , فتتعدد النظريات في قضية الخلق تعددا كبيرا , ويبقي للمسلم نور من الله ( تعالي ) في آية قرآنية كريمة , أو في حديث نبوي صحيح السند عن رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) يمكن أن يعينه علي أن يختار من بين هذه التصورات أو النظريات واحدة تتفق مع النص القرآني أو مع الحديث النبوي الصحيح أو معهما معا فيرتقي بهذه النظرية إلي مستوي الحقيقة انتصارا للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف وليس العكس , وهذه منزلة من منازل العلم لا يرقاها إلا المسلم .
وتحدث الدهريون عن التطور الكيميائي , ومن بعده عن التطور العضوي , ونحن معشر المسلمين لا اعتراض لنا علي ذلك لأن الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أولي الناس بها كما علمنا المصطفي ( صلي الله عليه وسلم ), فإذا كان المقصود بالتطور هو تدرج عمارة الأرض بأنماط من الخلق تزداد تدريجيا في العدد وفي تعقيد البناء , فهذا حق يقوم عليه الدليل وتؤكده الملاحظة , وتدعمه الحجة , ولكن أعداء الدين انطلقوا بهذه الملاحظة الصحيحة إلي ثلاثة استنتاجات خاطئة تماما هي :
(1) الإدعاء بعشوائية الخلق الأول :(12/267)
والملاحظة العلمية الدقيقة تشجب ذلك وترفضه , لأن هذا الفرض يقتضي عشوائية بناء الحمض الأميني ( وهو لبنة بناء الجزيء البروتيني الذي هو لبنة بناء الخلية الحية ), وعشوائية تجمع هذه الأحماض الأمينية لبناء مائتي ألف نوع من الجزيئات البروتينية , والتي تجمعت عشوائيا لبناء أول خلية حية , التي تشعبت من بعد إلي ملايين الأنواع من أنواع الحياة التي مثل كل نوع منها ببلايين الأفراد , بطريقة عشوائية محضة والحقيقة العلمية المؤكدة هي أن كلا من الحمض الأميني والجزيء البروتيني علي قدر من التعقيد في البناء , والدقة في ترابط الذرات والجزيئات لا يمكن للصدفة أن تصنعه أبدا ...!!
(2) الإدعاء بعشوائية التدرج في الخلق :
وهذا الافتراض ترفضه أيضا الملاحظة العلمية الدقيقة لأن لكل نوع من أنواع الحياة عددا محددا من الصبغيات التي تحمل شفرته الوراثية وتتحكم في صفاته ونشاطاته ومنها الانقسام والتكاثر , وهذه الشفرة الوراثية علي قدر من الدقة والتعقيد لا يمكن للصدفة أن تكون قادرة علي إبداعه أبدا .
ثم إن عملية تدرج عمارة الأرض بأنماط الحياة تمت بإتقان معجز , لعب فيه كل طور من أطوار الحياة دورا في إعداد الأرض للطور التالي , ولا يمكن للصدفة أبدا أن ترتب ذلك . ثم إن هناك انقطاعات في سجلات الحياة الأحفورية تؤكد حقيقة الخلق , وتنفي عشوائية التدرج .
(3) الإدعاء بعشوائية ظهور الإنسان عن هذه السلسلة الطويلة من الخلق : (12/268)
وهذا أيضا هروب مقصود من الاعتراف بالخالق ( سبحانه وتعالي ) والملاحظات العلمية الدقيقة ترفضه ولا تؤيده . فتمايز الشفرة الوراثية للإنسان , وتحديد عدد الصبغيات التي تحملها , وما ميز الله ( تعالي ) به الإنسان من صفات تشريحية ونفسية , وقدرات عقلية تنفي ذلك الزعم وتدحضه , وتمايز الهيكل العظمي للإنسان فوق أعلي مخلوق قبله كصفة وحيدة تنفي تخرص المتخرصين , وتزييف المزيفين , لأن هذا القدر من التمايز لا يمكن أن يتم في الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها نوع الإنسان علي الأرض , أضف إلي ذلك ذكاء الإنسان , وقدرته علي الكلام , ومهاراته المختلفة , وقدرته علي الشعور , والانفعال , والتعبير عن ذلك , وقدراته علي كسب المعارف والمهارات وتعليمها , كل ذلك يؤكد الخلق الخاص للإنسان وفصله عن كل صور الحياة من قبله .
وإن قدرة الشفرة الوراثية في الإنسان علي الانقسام وتكرار نفسها ترد الجنس البشري كله إلي أب واحد هو آدم ( عليه السلام ) وفوق ذلك كله فإن دقة بناء الخلية الحية , وإحكام عملها , وانضباط كل نشاطاتها علي الرغم من ضآلة حجمها ( أقل من جزء من عشرة ملايين جزء من الملليمتر المكعب ), تنفي ذلك فلها جدارها الذي يبدو كالسور العظيم الذي تتخلله بوابات تفتح وتغلق بانتظام معجز , ولها جيوش دفاعية , وأخري هجومية , وثالثة احتياطية , ولها قوي وأجهزة كهرومغناطيسية , ولها مسئولون عن التموين , وقدرة علي تصنيع أكثر من مائتي ألف نوع من أنواع البروتينات , ولها علاقات داخلية منضبطة , وأخري خارجية مع غيرها من الخلايا الموجودة حولها , ولها شفرة وراثية معجزة , وغير ذلك من الصفات التي لا يتسع المقام لسردها , وهذا كله لا يمكن أن يكون للصدفة دور فيه .
وخلق الخلية الحية من عناصر الأرض الميتة هو أعظم صور إخراج الحي من الميت التي أشارت إليها الآية الكريمة , وكذلك إعادة بعثها في يوم القيامة .(12/269)
ومن صور ذلك أيضا قدرة الخالق المبدعة التي أعطاها لكل كائن حي لتحويل عناصر الأرض وجزيئات الماء والهواء ( وكلها من المواد الميتة ) بتقدير من الله ( تعالي ) إلي مواد حية كما يحدث في عملية التمثيل الضوئي التي تقوم بها النباتات الخضراء فتأخذ عناصر الأرض والماء من التربة , وتأخذ ثاني أوكسيد الكربون من الجو والطاقة من الشمس , في وجود صبغة خضراء تعرف باسم ( اليخضور ) أو غيرها من الصبغات النباتية وبعض الإنزيمات التي يفرزها النبات لتكوين الكربوهيدرات من مثل السكر , والنشا , والسيليلوز وهي مواد في غاية الأهمية لأنها تعد مكونات أساسية في بناء مختلف أجزاء النبات وفي طعام كل من الإنسان والحيوان .
وفي كل من الإنسان والحيوان وفي بعض النباتات تتحول المواد الغذائية من الكربوهيدرات وغيرها إلي البروتينات وهي مركبات عضوية تتكون من جزيئات معقدة باتحاد ذرات الكربون والأيدروجين بذرات كل من الأوكسجين والنيتروجين , بالإضافة أحيانا إلي ذرات الكبريت أو الفوسفور . وتتكون كل الأنسجة الحية في الإنسان والحيوان من البروتينات التي تعد الوحدات الأساسية في بناء مختلف الخلايا الحية , وتقوم بالعديد من الدعم والحركة في كل من العضلات والعظام , وفي عمليات نقل الدم ورسائل الأعصاب , وفي حفز مختلف التفاعلات الحية في الخلايا من مثل ما تقوم به بعض الإنزيمات والهرمونات وكلها من البروتينات .
وأجساد الكائنات الحية تتجدد باستمرار ماعدا الخلايا العصبية , فجسم الإنسان يفقد من خلاياه في كل ثانية حوالي 125 مليون خلية في المتوسط تتهدم وتموت , ويتكون غيرها في الحال .(12/270)
هذه صورة من صور إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي حيث تتحرك المواد الميتة بين الأرض , ومائها , وهوائها , والطاقة القادمة إليها من الشمس لتخليق المواد اللازمة لبناء الخلية الحية من الكربوهيدرات والبروتينات وغيرها من المواد التي تنبني منها الخلايا الحية الجديدة في كل من عمليات النمو والتكاثر , فإذا ما ماتت هذه الكائنات الحية عادت مكوناتها إلي كل من الأرض , ومائها , وهوائها ليخرج الله ( تعالي ) الميت من الحي وهذه حقائق لم يدركها الإنسان إلا في أواخر القرن العشرين .. فسبحان الذي أنزل القرآن بعلمه , علي خاتم أنبيائه ورسله , ليكون حجة علي أهل عصرنا الذين فتنوا بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة , حجة قائمة علي الذين ينكرون ربانية القرآن , ونبوة خاتم الأنبياء والمرسلين ( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ) وهي حجة بالغة علي كل كافر ومشرك ومتشكك ... والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( يوسف : 21). أ هـ {الإعجاز العلمى فى القرآن للدكتور زغلول النجار}(12/271)
قوله تعالى { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بان بهذه الآية أن لا شيء في يد غيره ، واقتضى ذلك قصر الهمم عليه ، وكان نصارى نجران إنما داموا على موالاة ملوك الروم لمحض الدنيا مع العلم ببطلان ما هم عليه حذر المؤمنين من مداناة مثل ذلك مع كونهم مؤمنين كما وقع لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه مما قص في سورة الممتحنة إشارة إلى أنه لا تجتمع موالاة المؤمنين وموالاة الكافرين في قلب إلا أوشكت إحداهما أن تغلب على الأخرى فتنزعها ، فقال تعالى منبهاً على ذلك كله سائقاً مساق النتيجة لما قبله { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}(12/272)
وقال الحرالي : ولما كان مضمون هاتين الآيتين بشرى لخصوص هذه الأمة وعمومها بالعز والملك وختم الرزق الذي لا حساب فيه كان من الحق أن تظهر على المبشرين عزة البشرى فلا يتولوا غيره ، ولما قبض ما بأيدي الخلق إليه في إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال ، وأظهر إحاطة قدرته على كل شيء وإقامة امتحانه بما أولج وأخرج ، وأنبأ عن إطلاق حد العد عن أرزاقه فسد على النفس الأبواب التي منها تتوهم الحاجة إلى الخلق ؛ نهي المؤمنين الذين كانت لهم عادة بمباطنة بعض كفرة أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ومن شمله وصف الكفر أن يجروا على عادتهم في موالاتهم ومصافاتهم والحديث معهم ، لأن المؤمنين يفاوضونهم بصفاء ، والكافرون يتسمعون ويأخذون منهم بدغل ونفاق عليهم كما قال تعالى {هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم} [ آل عمران : 119 ] فنهاهم الله سبحانه وتعالى عما غاب عنهم خبرته وطيته فقال تعالى : {لا يتخذ المؤمنون} أي الراسخون في الإيمان وعبر في أضدادهم بالوصف لئلا يتوهم ذلك في كل من تلبس بكفر في وقت ما فقال : {الكافرين أولياء} ونبه بقوله : {من دون المؤمنين} على أن ولاية أوليائه من ولايته ، وأن المنهي عنه إنما هو الولاية التي قد توهن الركون إلى المؤمنين لأن في ذلك - كما قال الحرالي - تبعيد القريب وتقريب البعيد ، والمؤمن أولى بالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " فأقواهم له ركن ، وضعيفهم مستند لذلك الركن القوي ، فإذا والاه قوى به مما يباطنه ويصافيه ، وإذا اتخذ الكافر ولياً من دون مؤمنه القوي ربما تداعى ضعفه في إيمانهم إلى ما ينازعه فيه من ملابسة أحوال الكافرين ، كما أنهم لما أصاخوا إليهم إصاخة أوقعوا بينهم سباب الجاهلية كما في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [ آل عمران : 100 ] وكما قال سبحانه وتعالى : {يا أيها(12/273)
الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} [ آل عمران : 149 ] ، ولم يمنع سبحانه وتعالى من صلة أرحام من لهم من الكافرين ، ولا من خلطتهم في أمر الدنيا فيما يجري مجرى المعاملة من البيع والشرى والأخذ والعطاء وغير ذلك ليوالوا في الدين أهل الدين ، ولا يضرهم أن يباروا من لم يحاربهم من الكافرين - انتهى.
ولما كان التقدير : فمن تولاهم وكل إليهم وكان في عدادهم ، لأنه ليس من الراسخين في صفة الإيمان عطف عليه ترهيباً لمن قد تتقاصر همته فيرضى بمنزلة ما دون الرسوخ قوله : {ومن يفعل ذلك} أي هذا الأمر البعيد من أفعال ذوي الهمم الذي يكون به في عداد الأعداء بعد هذا البيان ومع رفع هذا الحجاب الذي كان مسدولاً على أكثر الخلق {فليس من الله} أي الذي بيده كل شيء فلا كفوء له {في شيء} قال الحرالي : ففي إفهامه أن من تمسك بولاية المؤمنين فهو من الله في شيء بما هو متمسك بعنان من هو له وسيلة إلى الله سبحانه وتعالى من الذين إذا رؤوا ذكر الله - انتهى.
ولما كان من الناس القوي والضعيف والشديد واللين نظر إلى أهل الضعف سبحانه وتعالى فوسع لهم بقوله : {إلا أن تتقوا منهم تقاة} أي إلا أن تخافوا منهم أمراً خطراً مجزوماً به ، لا كما خافه نصارى نجران وتوهمه حاطب ، فحينئذ يباح إظهار الموالاة وإن كانت درجة من تصلب في مكاشرتهم وتعزز لمكابرتهم ومكاثرتهم ، وإن قطع أعظم فإياكم أن تركنوا إليهم! فإن الله سبحانه وتعالى يحذركم إقبالكم على عدوه ، فإن ذلك موجب لإعراضه عنكم {ويحذركم الله} أي الملك الأعظم {نفسه} فإنه عالم بما تفعلونه.
وهو الحكم في الدنيا كما ترون من إذلاله العزيز وإعزازه الذليل ، وهذا المحذر منه وهو نفسه سبحانه وتعالى - كما قال الحرالي - مجموع أسماء تعاليه المقابلة بأسماء أوصافهم التي مجموعها أنفسهم.(12/274)
وموجود النفس ما تنفس ، وإن كانت أنفس الخلق تنفس على ما دونها إلى حد مستطاعها ، فكان ما حذره الله من نفسه أولى وأحق بالنفاسة في تعالي أوصافه وأسمائه أن تنفس على من يغنيه فلا يستغني ، ويكفيه فلا يكتفي ويريه مصارف سد خلاته وحاجاته فلا ينصرف إليها ولا يتوجه نحوها ، فهو سبحانه وتعالى يعذب من تعرف له بنفسه فلم يعرفه أشد من عذاب من يتعرف له بآياته فلا يعتبر بها ، بما أن كل ما أبداه من نفسه بلا واسطة فهو أعظم مما أبداه بالواسطة من نعيم وعذاب ، فلا أعظم من نعيم من تعرف له بنفسه فعرفه ، ولا أشد من عذاب من تعرف له بنفسه فأنكره - انتهى.
ولما كانت مصائب الدنيا قد تستهان قال سبحانه وتعالى عاطفاً على نحو ما تقديره : فمن الله المبدأ : - وقال الحرالي : ولما كان الزائل أبداً مؤذناً بترك الاعتماد عليه أقام تعالى على المتمسك بما دونه حجة بزواله ، فلا يستطيع الثبات عليه عند ما تناله الإزالة والإذهاب ، ويصير الأمر كله لله ، فأعلم أن المصير المطلق إلى الله سبحانه وتعالى ، فنم تعرف إليه فعرفه نال أعظم النعيم ، ومن تعرف إليه فأنكره نال أشد الجحيم - انتهى ؛ فقال - : {وإلى الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {المصير} أي وإن طال إملاؤه لمن أعرض عنه فيوشك أن ينتقم منه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 57 ـ 59}
فصل
قال الفخر :
في كيفية النظم وجهان
الأول : أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم الله تعالى ، ثم ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس ، لأن كمال الأمر ليس إلا في شيئين : التعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله قال : {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين} الثاني : لما بيّن أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده ، وعند أوليائه دون أعدائه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 10}
فصل فى سبب النزول
قال الفخر : (12/275)
في سبب النزول وجوه
الأول : جاء قوم من اليهود إلى قوم المسلمين ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر ، وعبد الرحمن بن جبير ، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم فنزلت هذه الآية
والثاني : قال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، وكانوا يتولون اليهود والمشركين ويخبرونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية
الثالث : أنها نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلفاء من اليهود ، ففي يوم الأحزاب قال يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فنزلت هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 10}
سؤال : فإن قيل : إنه تعالى قال : {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَىْء} وهذه صفة الكافر.
قلنا : معنى الآية فليس من ولاية الله في شيء ، وهذا لا يوجب الكفر في تحريم موالاة الكافرين.
واعلم أنه تعالى أنزل آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله تعالى : {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ} [ آل عمران : 118 ] وقوله {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} [ المجادلة : 22 ] وقوله {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} وقوله {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [ الممتحنة : 1 ] وقال : {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [ التوبة : 71 ].
واعلم أن كون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه
أحدها : أن يكون راضياً بكفره ويتولاه لأجله ، وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوباً له في ذلك الدين ، وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر ، فيستحيل أن يبقى مؤمناً مع كونه بهذه الصفة.(12/276)
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَىْء} وهذا لا يوجب الكفر فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية ، لأنه تعالى قال : {يا أيها الذين آمنوا} فلا بد وأن يكون خطاباً في شيء يبقى المؤمن معه مؤمناً
وثانيها : المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر ، وذلك غير ممنوع منه.
والقسم الثالث : وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة ، والمظاهرة ، والنصرة إما بسبب القرابة ، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه ، لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه ، وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال : {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَىْء }.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين ، فأما إذا تولوهم وتولوا المؤمنين معهم فذلك ليس بمنهي عنه ، وأيضاً فقوله {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء} فيه زيادة مزية ، لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه موالياً فالنهي عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل مولاته.
قلنا : هذان الاحتمالان وإن قاما في الآية إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز موالاتهم دلّت على سقوط هذين الاحتمالين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 10 ـ 11}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
العامة على قراءة " لا يَتَّخِذْ " نَهْياً ، وقرأ الضَّبِّيُّ " لا يَتَّخِذُ " برفع الذال - نفياً - بمعنى لا ينبغي ، أو هو خبر بمعنى النهي نحو { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } [ البقرة : 233 ] و{ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ } [ البقرة : 282 ] - فيمن رفع الراء.
قال أبو البقاء وغيره : " وأجاز الكسائيُّ فيه [ رفع الراء ] على الخبر ، والمعنى : لا ينبغي ".(12/277)
وهذا موافق لما قاله الفرَّاء ، فإنه قال : " ولو رَفَع على الخبر - كقراءة مَنْ قرأ : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } جاز ".
قال أبو إسحاق : ويكون المعنى - على الرفع - أنه مَنْ كان مؤمناً ، فلا ينبغي أن يتخذ الكافرَ ولياً ؛ [ لأن ولي الكافر راضٍ بكُفْره ، فهو كافر ].
كأنهما لم يَطَّلِعَا على قراءة الضبي ، أو لم تثبت عندهما.
و " يتخذ " يجوز أن يكون متعدياً لواحد ، فيكون " أوْلِيَاءَ " حالاً ، وأن يكون متعدياً لاثنين ، وأولياء هو الثاني.
قوله : { مِن دُونِ المؤمنين } فيه وجهان :
أظهرهما : أن " مِن " لابتداء الغايةِ ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ.
قال علي بن عيسى : " أي : لا تجعلوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دون مكان المؤمنين ".
وقد تقدم تحقيقُ هذا ، عند قوله تعالى : { وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله } في البقرة [ الآية 23 ].
والثاني - أجاز أبو البقاء - أن يكون في موضع نصب ، صفة لِ " أوْلِيَاءَ " فعلى هذا يتعلق بمحذوف.
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أدغم الكسائيُّ اللام في الذال هنا ، وفي مواضع أخَر تقدم التنبيه عليها في البقرة.
قوله : { مِنَ الله } الظاهر أنه في محل نصب على الحال من " شَيءٍ " ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له.
" فِي شَيءٍ " هو خبر " لَيْسَ " ؛ لأن به تستقل فائدةُ الإسنادِ ، والتقدير : فليس في شيء كائن من الله ، ولا بد من حذف مضافٍ ، أي : فليس من ولاية الله.
وقيل : من دين الله ، ونظَّر بعضُهم الآيةَ الكريمةَ ببيت النابغةِ : [ الوافر ]
إذَا حَاوَلْتَ مِنْ أسَدٍ فُجُوراً... فَإنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِني
قال ابو حيّان : " والتنظير ليس بجيِّدٍ ؛ لأن " منك " و" مني " خبر " لَيْسَ " وتستقل به الفائدةُ ، وفي الآية الخبر قوله : " فِي شَيءٍ " فليس البيتُ كالآيةِ ".(12/278)
وقد نحا ابن عطية هذا المنحى المذكورَ عن بعضهم ، فقال : فليس من الله في شيء مَرْضِيِّ على الكمالِ والصوابِ ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا " وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ ، تقديره : فليس من التقرب إلى الله والثواب ، وقوله : " فِي شَيءٍ " هو في موضع نصبٍ على الحالِ من الضمير الذي في قوله : { فَلَيْسَ مِنَ الله }.
قال أبو حيّان : " وهو كلام مضطرب ؛ لأن تقديره : " فليس من التقرُّب إلى الله " يقتضي أن لا يكون " مِنَ اللهِ " خبراً لِ " لَيْسَ " ؛ إذْ لا يستقل ، وقوله : " فِي شَيءٍ " هو في موضع نصبٍ على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً ، فيبقى " ليس " - على قوله - ليس لها خبر ، وذلك لا يجوز ، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله صلى الله عليه وسلم : " من غشنا فليس منا " ليس بجيِّد ؛ لما بينَّا من الفرق بين بيت النابغة ، وبين الآية الكريمةِ ".(12/279)
قال شهاب الدين : " وقد يجاب عن قوله : إن " مِنَ اللهِ " لا يكون خبراً ؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ ، تقديره : فليس من أولياء اللهِ " لا يكون خبراً ؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ ، تقديره : فليس من أولياء اللهِ ؛ لأن اتخاذَ الكفار أولياء ينافي ولاية الله - تعالى - ، وكذا قول ابن عطية : فليس من التقرُّب ، أي : من أهل التقرب ، وحينئذٍ يكون التنظير بين الآية ، والحديث ، وبيت النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما ذكر ، ونظير تقديرِ المضافِ هنا - قوله : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] ، أي : من أشياعي وأتباعي ، وكذا قوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] أي : من أشياعي وقول العرب : أنت مني فرسخين ، أي : من أشياعي ما سرنا فرسخين ، ويجوز أن يكون " مِنَ اللهِ " هو خبر " ليس " و" فِي شيءٍ " يكون حالاً منالضمير في " لَيْسَ " - كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً ، وغيره إيماءً ، وتقدم الاعتراض عليهما والجواب ".
قوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } هذا استثناء مُفَرَّغ من المفعول من أجله ، والعامل فيه " لا يَتَّخِذْ " أي : لا يتخذ المؤمنُ الكافرَ وليًّا لشيء من الأشياء إلا للتقيةِ ظاهراً ، أي : يكون مواليه في الظاهر ، ومعاديه في الباطن ، وعلى هذا فقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } وجوابه معترضٌ بين العلةِ ومعلولِها وفي قوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } التفات من غيبةٍ إلى خطابٍ ، ولو جرى على سنن الكلامِ الأول لجاء الكلام غيبة ، وذكروا للالتفات - هنا - معنى حسناً ، وذلك أن موالاةَ الكفارِ لما كانت مستقبحةً لم يواجه الله - تعالى - عباده بخطاب النهي ، بل جاء به في كلام أسْندَ الفعل المنهي عنه لغيب ، ولما كانت المجاملة - في الظاهر - والمحاسنة جائزة لعذرٍ - وهو اتقاء شرهم - حَسُنَ الإقبال إليهم ، وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك.(12/280)
قوله : { تُقَاةً } في نصبها ثلاثة أوجهٍ ، وذلك مَبْنِيٌّ على تفسير " تُقَاةً " ما هي ؟
أحدها : أنها منصوبةٌ على المصدرِ ، والتقدير : تتقوا منهم اتِّقَاءً ، ف " تُقَاة " واقعة موقع الاتقاء ، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها ، والأصل : أن تتقوا اتقاءً - نحو تقتدر اقتداراً - ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائدِ ، كقوله :
{ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] والأصل إنباتاً.
ومثله قول الشاعر : [ الوافر ]
................................. وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمَائَةَ الرِّتَاعَا
أي : اعطائك ، ومن ذلك - أيضاً - قوله : [ الوافر ]
................................. وَلَيْس بِأنْ تَتَبَّعَُ اتِّبَاعَا
وقول الآخر : [ الوافر ]
وَلاَحَ بِجَانِبِ الْجَبَلَيْنِ مِنْهُ... رُكَامٌ يَحْفِرُ الأرْضَ احْتِفَارَا
وهذا عكس الآية ؛ إذ جاء المصدرُ مُزَاداً فيه ، والفعل الناصب له مُجَرَّد من تلك الزوائدِ ، ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ].
وقول الآخر : [ الرجز أو السريع ]
وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْحِضْبِ... والأصل : تَطَوِّيَّا ، والأصل في " تُقَاةً " وقية مصدر على فُعَل من الوقاية. وقد تقدم تفسير هذه المادة ، ثم أبدلت الواوُ تاءً مثل تخمة وتكأة وتجاه ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً ، فصار اللفظ " تقاة " كما ترى بوزن " فعلة " ومجيء المصدر على " فُعَل " و" فُعَلَة " قليل ، نحو : التخمة ، والتؤدة ، والتهمة والتكأة ، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير المصدر ، والكثير مجيء المصادرِ جارية على أفعالها.
قيل : وحسَّن مجيءَ هذا المصدر ثلاثياً كونُ فعله قد حُذِفت زوائده في كثيرٍ من كلامهم ، نحو : تقى يتقى.
ومنه قوله : [ الطويل ]
................................. تَقِ اللهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو(12/281)
وقد تقدم تحقيق ذلك أول البقرة.
الثاني : أنها منصوبة على المفعول به ، وذلك على أن " تَتَّقُوا " بمعنى تخافوا ، وتكون " تُقَاةً " مصدراً واقعاً موقعَ المفعول به ، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ ، فإنه قال : " إلا أن تَخَافُوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه ".
وقُرِئَ " تَقِيَّةً " وقيل - للمتقى- : تُقَاة ، وتقية ، كقولهم : ضَرْب الأمير - لمضروبه فصار تقديرُ الكلامِ : إلا أن تخافوا منهم أمْراً مُتَّقًى.
الثالث : أنها منصوبةٌ على الحال ، وصاحب الحال فاعل " تَتَّقُوا " وعلى هذا تكون حالاً مؤكدةً لأن معناه مفهوم من عاملها ، كقوله : { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] ، وقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } [ البقرة : 60 ] وهو - على هذا - جمع فاعل ، - وإن لم يُلْفَظْ بـ " فاعل " من هذه المادة - فيكون فاعلاً وفُعَلَة ، نحو : رَامٍ ورُمَاة ، وغَازٍ وغُزَاة ، لأن " فُعَلَة " يطَّرد جمعاً لِ " فاعل " الوصف ، المعتل اللام.
وقيل : بل لعله جمع لـ " فَعِيل " أجاز ذلك كلَّه أبو علي الفارسي.
قال شهاب الدينِ : " جمع فعيل على " فُعَلَة " لا يجوز ، فإن " فَعِيلاً " الوصف المعتل اللام يجمع على " أفعلاء " نحو : غَنِيّ وأغنياء ، وتَقِيّ وأتقياء ، وصَفِيّ وأصفياء.
فإن قيل : قد جاء " فعيل " الوصف مجموعاً على " فَُلَة " قالوا : كَمِيّ وكُمَاة.
فالجواب : أنه من النادر ، بحيثُ لا يُقاس عليه ".(12/282)
وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ ، وأبو رجاء وقتادةُ وأبو حَيْوةَ ويعقوبُ وسهلٌ وعاصمٌ - في رواية المعتل عينه - تتقوا منهم تقيَّة - بوزن مَطِيَّة - وهي مصدر - أيضاً - بمعنى تقاة ، يقال : اتَّقَى يتقي اتقاءً وتَقْوًى وتُقَاةً وتَقِيَّة وتُقًى ، فيجيء مصدر " افْتَعَل " من هذه المادة على الافتعال ، وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزانِ ، ويقال - أيضاً- : تقيت أتقي - ثلاثياً - تَقِيَّةً وتقوًى وتُقَاةً وتُقًى ، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق.
وأمال الأخوانِ " تُقَاةً " هنا ؛ لأن ألفَها منقلبةٌ عن ياءٍ ، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في منع الإمالة ؛ لأن السبب غيرُ ظاهر ، ألا ترى أن سبب الياء الإمالة المقدرة - بخلاف غالب ، وطالب ، وقادم فإن حرف الاستعلاء - هنا - مؤثِّر ؛ لكن سبب الإمالة ظاهر ، وهو الكسرة ، وعلى هذا يقال : كيف يؤثر مع السبب الظاهر ، ولم يؤثر مع المقدَّر وكان العكس أولى.
والجوابُ : أن الكسرة سببٌ منفصلٌ عن الحرف المُمَال - ليس موجوداً فيه - بخلاف الألف المنقلبة عن ياء ، فإنها - نفسها - مقتضية للإمالة ، فلذلك لم يقاوِمها حرفُ الاستعلاء.
وأمال الكسائي - وحده - { حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] فخرج حمزة عن أصله ، وكأن الفرق أن " تُقَاةً " - هذه - رُسِمَتْ بالياء ، فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه ، ولذلك قال بعضهم : " تَقِيَّة " - بوزن مطيّة - كما تقدم ؛ لظاهر الرسم ، بخلاف " تُقَاتِهِ ".
قال شهاب الدين : [ وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا ؛ لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذٌّ ؛ لأجل حرف الاستعلاء ، وأن سيبويه حكى عن قوم أنَّهم يُميلُون شَيْئاً لا تجوز إمالَُته ، نحو : رَأيْتُ عِرْقَى بالإمالة ، وليس هذا من ذلك ؛ لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في كسْرِهِ ظاهرٌ.(12/283)
وقوله : " مِنْهُمْ " متعلق بـ " تَتَّقُوا " أو بمحذوف على أنه حال من " تُقَاةً " ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون صفةً لها ، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً ، هذا إذا لم نجعل " تُقَاةً " حالاً ، فأما إذا جعلناها حالاً تعيَّن أن يَتَعلَّق " مِنْهُمْ " بالفعل قبله ، ولا يجوز أن يكون حالاً من " تُقَاةً " لفساد المعنى ؛ لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 137 ـ 142}
فائدة
قال الفخر :
إنما كسرت الذال من يتخذ لأنها مجزوم للنهي ، وحركت لاجتماع الساكنين قال الزجاج : ولو رفع على الخبر لجاز ، ويكون المعنى على الرفع أن من كان مؤمناً فلا ينبغي أن يتخذ الكافر ولياً.
واعلم أن معنى النهي ومعنى الخبر يتقاربان لأنه متى كانت صفة المؤمن أن لا يوالي الكافر كان لا محالة منهياً عن موالاة الكافر ، ومتى كان منهياً عن ذلك ، كان لا محالة من شأنه وطريقته أن لا يفعل ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 11}
فائدة
قال ابن عطية :
هذا النهي عن الاتخاذ إنما هو فيما يظهره المرء فأما أن يتخذه بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي إنما هو عبارة عن إظهار اللطف للكافر والميل إليهم ، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 419}(12/284)
فصل
قال الآلوسى :
{ لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء } قال ابن عباس : كان الحجاج بن عمرو. وكهمس بن أبي الحقيق وقيس بن زيد والكل من اليهود يباطنون نفراً من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية ، وقال الكلبي : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدرياً نقيباً وكان له حلفاء من اليهود فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى { لاَّ يَتَّخِذِ } الخ ، والفعل مجزوم بلا النهاية ، وأجاز الكسائي فيه الرفع على الخبر والمعنى على النهي أيضاً وهو متعد لمفعولين ، وجوز أن يكون متعدياً لواحد فأولياء مفعول ثان ، أو حال وهو جمع ولي بمعنى الموالي من الولي وهو القرب ، والمراد لا يراعوا أموراً كانت بينهم في الجاهلية بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما وإنما قيدنا بذلك لما قالوا : إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار ، وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض ومذهبنا وعليه الجمهور أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به ، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر فتبعه(12/285)
رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ارجع فلن أستعين بمشرك " فمنسوخ بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن ، وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق أما بدونهما فلا تجوز وعلى ذلك يحمل خبر عائشة ، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب النزول وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز على أن بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها ، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيداً وخدماً ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى.
ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالاً ولا استخدامهم في أمور الديوان وغيره وكذا أدخلوا في الموالاة المنهى عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير بالمجالس ، وفي "فتاوى العلامة ابن حجر" جواز القيام في المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله تعالى : { لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يحب المقسطين } [ الممتحنة : 8 ] ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيماً وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه ولو مع أهل الذمة لا سيما إذا أوقع شيئاً في قلوب ضعفاء المؤمنين ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا أراه من الإحسان كما لا يخفي. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 119 ـ 120}(12/286)
قوله تعالى {مِن دُونِ المؤمنين}
قال الفخر :
قوله {مِن دُونِ المؤمنين} أي من غير المؤمنين كقوله {وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله} [ البقرة : 23 ] أي من غير الله ، وذلك لأن لفظ دون مختص بالمكان ، تقول : زيد جلس دون عمرو أي في مكان أسفل منه ، ثم إن من كان مبايناً لغيره في المكان فهو مغاير له فجعل لفظ دون مستعملاً في معنى غير ، ثم قال تعالى : {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَىْء} وفيه حذف ، والمعنى فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله تعالى رأساً ، وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي ، وموالاة عدوه ضدان قال الشاعر :
تود عدوي ثم تزعم أنني.. صديقك ليس النوك عنك بعازب
ويحتمل أن يكون المعنى : فليس من دين الله في شيء وهذا أبلغ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 11}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية, هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء إذا لم يكن من دون المؤمنين لا بأس به بدليل قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}, وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقا كقوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}, وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ..} الآية, والجواب عن هذا: أن قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا مفهوم له, وقد تقرر في علم الأصول أن دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة له موانع تمنع اعتباره, منها كون تخصيص المنطوق بالذكر لأجل موافقته للواقع كما في هذه الآية؛ لأنها نزلت في قوم والَوْا اليهود دون المؤمنين, فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها, بل موالاة الكفار حرام مطلقا, والعلم عند الله. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 48 ـ 49}
فائدة
قال القرطبى :
ومعنى { فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } أي فليس من حزب الله ولا من أوليائه في شيء ؛ مثل { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ].
وحكى سيبويه "هو مِني فرسخين" أي من أصحابي ومعي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 57}
قوله تعالى : {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة}
فصل
قال الفخر :
قال الحسن أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم نعم نعم ، فقال : أفتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم ، وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ، ومحمد رسول قريش ، فتركه ودعا الآخر فقال أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله ؟ فقال : إني أصم ثلاثا ، فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئاً له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.
" واعلم أن نظير هذه الآية قوله تعالى : {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [ النحل : 106 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 12}(12/287)
قال القرطبى :
{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقِية في جِدّة الإسلام قبل قوّة المسلمين ؛ فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوّهم.
قال ابن عباس : هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا يُقتل ولا يأتي مَأْثَما.
وقال الحسن : التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة ، ولا تقية في القتل.
وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك : "إلاّ أن تَتَّقُوا منهم تَقِيَّةً" وقيل : إن المؤمن إذا كان قائماً بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفاً على نفسه وقلبُه مطمئن بالإيمان.
والتقِية لا تحِل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم.
ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلّب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر ؛ بل يجوز له ذلك على ما يأتي بيانه في "النحل" إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 57}(12/288)
وقال ابن عطية :
واختلف العلماء في التقية ممن تكون ؟ وبأي شيء تكون ؟ وأي شيء تبيح ؟ فأما الذي تكون منه التقية فكل قادر غالب مكره يخاف منه ، فيدخل في ذلك الكفار إذا غلبوا وجورة الرؤساء والسلابة وأهل الجاه في الحواضر ، قال مالك رحمه الله : وزوج المرأة قد يكره ، وأما بأي شيء تكون التقية ويترتب حكمها فذلك بخوف القتل وبالخوف على الجوارح وبالضرب بالسوط وبسائر التعذيب ، فإذا فعل بالإنسان شيء من هذا أو خافه خوفاً متمكناً فهو مكره وله حكم التقية ، والسجن إكراه والتقييد إكراه والتهديد والوعيد إكراه وعداوة أهل الجاه الجورة تقية ، وهذه كلها بحسب حال المكره وبحسب الشيء الذي يكره عليه ، فكم من الناس ليس السجن فيهم بإكراه ، وكذلك الرجل العظيم يكره بالسجن والضرب غير المتلف ليكفر فهذا لا تتصور تقيته من جهة عظم الشيء الذي طلب منه ، ومسائل الإكراه هي من النوع الذي يدخله فقه الحال ، وأما أي شيء تبيح فاتفق العلماء على إباحتها للأقوال باللسان من الكفر وما دونه ومن بيع وهبة وطلاق ، وإطلاق القول بهذا كله ، ومن مداراة ومصانعة ، وقال ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان ، إلا كنت متكلماً به . واختلف الناس في الأفعال ، فقال جماعة من أهل العلم منهم الحسن ومكحول ومسروق : يفعل المكره كل ما حمل عليه مما حرم الله فعله وينجي نفسه بذلك ، وقال مسروق : فإن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وقال كثير من أهل العلم منهم سحنون : بل إن لم يفعل حتى مات فهو مأجور وتركه ذلك المباح أفضل من استعماله ، وروي أن عمر بن الخطاب قال في رجل يقال له ، نهيت بن الحارث ، أخذته الفرس أسيراً ، فعرض عليه شرب الخمر وأكل الخنزير وهدد بالنار ، فلم يفعل فقذفوه فيها فبلغ ذلك عمر ، فقال : وأما كان عليّ نهيت أن يأكل ، وقال جمع كثير من العلماء التقية إنما هي مبيحة للأقوال ، فأما الأفعال فلا ، روي ذلك عن ابن عباس والربيع والضحاك ، وروي ذلك عن سحنون وقال(12/289)
الحسن في الرجل يقال له : اسجد لصنم وإلا قتلناك ، قال ، إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد يجعل نيته لله ، فإن كان إلى غير القبلة فلا وإن قتلوه ، قال ابن حبيب : وهذا قول حسن .
قال القاضي : وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير قلبه ، وفي كتاب الله { فأين ما تولوا فثم وجه الله } [ البقرة : 115 ] وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة ، هذه قواعد مسألة التقية ، وأما تشعب مسائلها فكثير لا يقتضي الإيجاز جمعه. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 420}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها.
الحكم الأول : أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان ، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه ، وأن يعرض في كل ما يقول ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
الحكم الثاني للتقية : هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل ، ودليله ما ذكرناه في قصة مسيلمة.
الحكم الثالث للتقية : أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة ، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين ، فذلك غير جائز ألبتة.
الحكم الرابع : ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس.(12/290)
الحكم الخامس : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " ولقوله صلى الله عليه وسلم : " من قتل دون ماله فهو شهيد " ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال ، فكيف لا يجوز ههنا ، والله أعلم.
الحكم السادس : قال مجاهد : هذا الحكم كان ثابتاً في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا ، وروى عوف عن الحسن : أنه قال التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وهذا القول أولى ، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 12}
فصل
قال ابن الجوزى :
والتقية رخصة ، وليست بعزيمة.
قال الإمام أحمد : وقد قيل : إن عرضت على السيف تجيب ؟ قال : لا.
وقال إِذا أجاب العالم تقية ، والجاهل بجهل ، فمتى يتبين الحق ؟ . أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 372}(12/291)
فصل
قال الجصاص :
وقَوْله تَعَالَى : { لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةَ.
فِيهِ نَهْيٌ عَنْ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ؛ لِأَنَّهُ جَزَمَ الْفِعْلَ ، فَهُوَ إذًا نَهْيٌ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ ؛ وَنَظِيرُهَا مِنْ الْآيِ قَوْله تَعَالَى : { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ } الْآيَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ }.(12/292)
وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } فَنَهَى بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُلَاطَفَتِهِمْ عَنْ النَّظَرِ إلَى أَمْوَالِهِمْ ، وَأَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِإِبِلٍ لِبَنِي الْمُصْطَلِقِ ، وَقَدْ عَبَسَتْ بِأَبْوَالِهَا مِنْ السِّمَنِ ، فَتَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ وَمَضَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ }.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ فَقِيلَ : لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا }.
وَقَالَ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ }.(12/293)
فَهَذِهِ الْآيُ وَالْآثَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ الْكُفَّارُ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفْوَةِ دُونَ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمُلَايَنَةِ ، مَا لَمْ تَكُنْ حَالٌ يَخَافُ فِيهَا عَلَى تَلَفِ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ أَوْ ضَرَرًا كَبِيرًا يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا خَافَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ إظْهَارُ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمُوَالَاةِ مِنْ غَيْرِ صِحَّةِ اعْتِقَادٍ.
وَالْوَلَاءُ يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ يَلِي أُمُورَ مَنْ يَرْتَضِي فِعْلَهُ بِالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحِيَاطَةِ ، وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ الْمُعَانَ الْمَنْصُورَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } يَعْنِي أَنَّهُ يَتَوَلَّى نَصْرَهُمْ وَمَعُونَتَهُمْ.
وَالْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعَانُونَ بِنُصْرَةِ اللَّهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 288 ـ 289}(12/294)
فصل نفيس
قال العلامة الآلوسى :
وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء ، والعدو قسمان : الأول : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم ، والثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة ، ومن هنا صارت التقية قسمين : أما القسم الأول : فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلاً أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة ، نعم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل أو قتل الأولاد أو الآباء أو الأمهات تخويفاً يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالباً سواء كان هذا القتل بضرب العنق أو بحبس القوت أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم ، وفي صورة الجواز أيضاً موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه لذلك فإنه شهيد قطعاً ، ومما يدل على أنها رخصة ما روي عن الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم ثم دعا بالآخر فقال له : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : إني أصمّ قالها ثلاثاً ، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئاً له.(12/295)
وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه وأما القسم الثاني : فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم : تجب لقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] وبدليل النهي عن إضاعة المال ، وقال قوم : لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن ، وقال بعضهم : الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضاً إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لإصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل كثير من الواجبات ما لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض ، وعن تناول السموم في حال الصحة وغير ذلك ، وهذه الهجرة أيضاً من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة(12/296)
وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكفّ إذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع. فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض } وفي رواية "بعثت بالمداراة" وفي "الجامع" "سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاءوكم فرحبوا بهم" وروى ابن أبي الدنيا "رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس" وفي رواية البيهقي "رأس العقل المداراة" وأخرج الطبراني "مداراة الناس صدقة" وفي رواية له "ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة". وأخرج ابن عدي وابن عساكر "من عاش مدارياً مات شهيداً قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه" وعن بردة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : "استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بئس ابن الشعيرة أو أخو العشيرة ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت : يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول ؟ فقال : يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه" وفي "البخاري" عن أبي الدرداء "إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم" وفي رواية الكشميهني "وإن قلوبنا لتقليهم" وفي رواية ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحرمي بزيادة "ونضحك إليهم" إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون.(12/297)
ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس وهم الخوارج والشيعة. أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلاً ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة منها أن أحداً لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه في صلاته كي لا يهرب ، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان ، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم : إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين ؛ وقال المفيد : إنها قد تجب أحياناً وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها ، وقال أبو جعفر الطوسي : إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس ، وقال غيره : إنها واجبة عند الخوف على المال أيضاً ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به ، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت "من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي" ، وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف ، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضاً ، وفي أفضلية التقية من سني واحد صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن خلاف أيضاً ، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز بل وجوب إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع ، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان ، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلاً أصيلاً عندهم وأسسوا عليه دينهم وهو الشائع الآن فيما بينهم حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام ؛ وجل(12/298)
غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك.
ففي كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبنيه رضي الله تعالى عنهم ذوي تقية بل ويبطل أيضاً فضلها الذي زعموه ففي كتاب "نهج البلاغة" الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى في زعمهم أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال : علامة الإيمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك ، وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى :
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] بأكثركم تقية ؟ ا وفيه أيضاً أنه كرم الله تعالى وجهه قال : إني والله لو لقيتهم واحداً وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنتظر راج. وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع ، ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين ، وروى العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال : توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء علي كرم الله تعالى وجهه فوجأ على رقبته فقال : ويلك تصلي وأنت على غير وضوء فقال : أمرني عمر فأخذ بيده فانتهى إليه ثم قال : انظر ما يقول هذا عنك ورفع صوته على عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر : أنا أمرته بذلك فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق.(12/299)
وروى الراوندي شارح "نهج البلاغة" ومعتقد الشيعة عن سلمان الفارسي أن علياً بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة وفي يد عليّ قوس فقال : يا عمر بلغني عنك ذكرك لشيعتي فقال : أربع على صلعتك فقال عليّ إنك ههنا ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغراً فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه فقال عمر : اللَّهَ اللَّهَ يا أبا الحسن لأعدت بعدها في شيء فجعل يتضرع فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما كانت فمضى عمر إلى بيته قال سلمان : فلما كان الليل دعاني عليّ فقال : سر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك علي : أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا تخبه فأفضحك قال سلمان : فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال : أخبرني عن أمر صاحبك من أين علم به ؟ فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا ؟ فقال : يا سلمان أقبل عني ما أقول لك ما عليّ إلا ساحر وإني لمستيقن بك والصواب أن تفارقه وتصير من جملتنا قلت : ليس كما قلت لكنه ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا ، قال : ارجع إليه فقل : السمع والطاعة لأمرك فرجعت إلى عليّ فقال : أحدثك عما جرى بينكما فقلت : أنت أعلم مني فتكلم بما جرى بيننا ثم قال : إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت ، وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضاً إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر خوفاً منه وتقية.(12/300)
وروى الكليني عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله أنه قال : إن الله عز وجل أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم كتاباً فقال جبريل : يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء فقال : ومن النجباء يا جبريل ؟ فقال : عليّ بن أبي طالب وولده وكان على الكتاب خواتم من ذهب فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وأمره أن يفك خاتماً منه فيعمل بما فيه ، ثم دفعه إلى الحسن ففك منه خاتماً فعمل بما فيه ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتماً فوجد فيه أن اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى ففعل ، ثم دفعه إلى علي بن الحسين ففك خاتماً فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل ، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ففك خاتماً فوجد فيه حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحداً إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك ، ثم دفعه إلى جعفر الصادق ففك خاتماً فوجد فيه حدث الناس وافتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في حرز وأمان ففعل ، ثم دفعه إلى موسى وهكذا إلى المهدي. ورواه من طريق آخر عن معاذ أيضاً عن أبي عبد الله ، وفي الخاتم الخامس وقل الحق في الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى وهذه الرواية أيضاً صريحة بأن أولئك الكرام ليس دينهم التقية كما تزعمه الشيعة ، وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومال الناس إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين ولم تدع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقي ودعوتهم إلى نصرتي فلم يستجب لي من جميع الناس إلى أربعة : الزبير وسلمان وأبو ذر والمقداد ، وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام لأن هذا الفعل عند من بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه(12/301)
فيه ما فيه.
وفي "كتاب أبان بن عياش" أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث إلى علي قنفذاً حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال : انطلق إلى علي وقل له أجب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق فبلغه فقال له : ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتددتم والله ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري ، وفيه أيضاً أنه لما يجب على غضب عمر وأضرم النار بباب علي وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت يا أبتاه ويا رسول الله فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به ضرعها فصاحت يا أبتاه فأخذ علي بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته ، وفيه أيضاً أن عمر قال لعلي : بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال : إن لم أفعل ذلك ؟ قال : إذاً والله تعالى لأضربن عنقك قال : كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألأم وأضعف من ذلك ، فهذه الروايات تدل صريحاً أن التقية بمراحل عن ذلك الإمام إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية ، وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال لعمر : يا مغرور إني أراك في الدنيا قتيلاً بجراحة من عند أم معمر تحكم عليه جوراً فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك.(12/302)
وروي أيضاً أنه قال لعمر مرة : إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكاً وصلباً تخرجان من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاكما ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس ودانيال وكل نبي وصديق فتصلبان فيها فتحرقان وتصيران رماداً ثم تأتي ريح فتنسفكما في اليم نسفاً فانظر بالله تعالى عليك من يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغي له أن يقول بنسبة التقية إليه سبحان الله تعالى ، هذا العجب العجاب والداء العضال ، ومما يرد قولهم أيضاً : إن التقية لا تكون إلا لخوف ، والخوف قسمان : الأول : الخوف على النفس وهو منتف في حق حضرات الأئمة بوجهين : أحدهما : أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في "الكافي" ، وعقد لها باباً وأجمع عليها سائر الإمامية ، وثانيهما : أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم ويتأقون في دينهم ويغرون عوام المؤمنين ، القسم الثاني : خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء فقد كانوا يتحملون البلاء دائماً في امتثال أوامر الله تعالى وربما قابلوا السلاطين الجبابرة وأهل البيت النبوي أولى بتحمل الشدائد في نصرة دين جدهم صلى الله عليه وسلم. وأيضاً لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الأئمة عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر وماذا منعه من أداء الواجب أول وهلة ، ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أراده قوله تعالى في حقهم : { الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله وكفى بالله حَسِيباً } [ الأحزاب : 39 ] وقوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : (12/303)
{يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] إلى غير ذلك من الآيات ، نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه ، وهذا أحد محملين لما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن أنه قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، والثاني : حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو على التفصيل الذي ذكرناه.
ومن الناس من أوجب نوعاً من التقية خاصاً بخواص المؤمنين وهو حفظ الأسرار الإلهية عن الإفشاء للأغيار الموجب لمفاسد كلية فتراهم متى سئلوا عن سر أبهموه وتكلموا بكلام لو عرض على العامة بل وعلى علمائهم ما فهموه ، وأفرغوه بقوالب لا يفهم المراد منها إلا من حسى من كأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبير عنبر أنفاسهم ، وهذا وإن ترتب عليه ضلال كثير من الناس وانجر إلى الطعن بأولئك السادة الأكياس حتى رمي الكثير منهم بالزندقة وأفتى بقتلهم من سمع كلامهم وما حققه إلا أنهم رأوا هذا دون ما يترتب على الإفشاء من المفاسد التي تعم الأرض.
وحنانيك بعض الشر أهون من بعض... وكتم الأسرار عن أهلها فيه فوات خير عظيم وموجب لعذاب أليم وقد يقال : ليس هذا من باب التقية في شيء إلا أن القوم تكلموا بما طفح على ألسنتهم وظهر على علانيتهم وكانت المعاني المرادة لهم بحيث تضيق عنها العبارة ولا يحوم حول حماها سوى الإشارة ، ومن حذا حذوهم واقتفى في التجرد إثرهم فهم ما قالوا وتحقق ما إليه مالوا. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 121 ـ 125}
وقال ابن عاشور :
والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقا ، والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط ، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام ، وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال.(12/304)
الحالة الأولى : أن يتخذ المسلم جماعة الكفر ، أو طائفته ، أولياء له في باطن أمره ، ميلا إلى كفرهم ، ونواء لأهل الإسلام ، وهذه الحالة كفر ، وهي حال المنافقين ، وفي حديث عتبان بن مالك : أن قائلا قال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أين مالك بن الدخشن فقال آخر ذلك منافق لا يحب الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ا تقل ذلك أما سمعته يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" فقال القائل الله ورسوله أعلم فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. فجعل هذا الرجل الانحياز إلى المنافقين علامة على النفاق لولا شهادة الرسول لمالك بالإيمان أي في قلبه مع إظهاره بشهادة لا إله إلا الله.
الحالة الثانية : الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم ، في وقت يكون فيه الكفار متجاهرين بعداوة المسلمين ، والاستهزاء بهم ، وإذاهم كما كان معظم أحوال الكفار ، عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين ، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها ، إلا أن ارتكابها إثم عظيم ، لأن صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام ، على أنه من الواجب إظهار الحمية للإسلام ، والغيرة عليه ، كما قال العتابي :
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك إن الرأي عنك لعازب(12/305)
وفي مثلها نزل قوله تعالى : {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة : 57] قال ابن عطية : كانت قريش من المستهزئين وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى {إِِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة : 9] الآية وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران : 118] الآية نزلت في قوم كان ، بينهم وبين اليهود ، جوار وحلف في الجاهلية ، فداموا عليه في الإسلام فكانوا يأنسون بهم ويستنيمون إليهم ، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف ، وأبي رافع ابن أبي الحقيق ، وكانا يؤذيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحالة الثالثة : كذلك ، بدون أن يكون طوائف الكفار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم ، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام قال تعالى : {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة : 82] وكذلك كان حال الحبشة فإنهم حموا المؤمنين ، وآووهم ، قال الفخر : وهذه واسطة ، وهي لا توجب الكفر ، إلا أنه منهي عنه ، إذ قد يجر إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين.(12/306)
الحالة الرابعة : موالاة طائفة من الكفار لأجل الإضرار بطائفة معينة من المسلمين مثل الانتصار بالكفار على جماعة من المسلمين ، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة ، فقد قال مالك ، في الجاسوس يتجسس للكفار على المسلمين : إنه يوكل إلى اجتهاد الإمام ، وهو الصواب لأن التجسس يختلف المقصد منه إذ قد يفعله المسلم غرورا ، ويفعله طمعا ، وقد يكون على سبيل الفلتة ، وقد يكون له دأبا وعادة ، وقال ابن القاسم : ذلك زندقة لا توبة فيه ، أي لا يستتاب ويقتل كالزنديق ، وهو الذي يظهر الإسلام ويسر الكفار ، إذا اطلع عليه ، وقال ابن وهب ردة ويستتاب ، وهما قولان ضعيفان من جهة النظر.
وقد استعان المعتمد ابن عباد صاحب أشبيلية بالجلالقة على المرابطين اللمتونيين ، فيقال : إن فقهاء الأندلس أفتوا أمير المسلمين عليا بن يوسف بن تاشفين ، بكفر ابن عباد ، فكانت سبب اعتقاله ولم يقتله ولم ينقل أنه استتابه.(12/307)
الحالة الخامسة : أن يتخذ المؤمنون طائفة من الكفار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم ، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعرضهم النصرة لهم ، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها : ففي المدونة قال ابن القاسم : لا يستعان بالمشركين في القتال لقوله عليه السلام لكافر تبعه يوم خروجه إلى بدر "ارجع فلن أستعين بمشرك" وروى أبو الفرج ، وعبد الملك بن حبيب : أن مالكا قال : لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة ، قال ابن عبد البر : وحديث لن أستعين بمشرك مختلف في سنده ، وقال جماعة : هو منسوخ ، قال عياض : حمله بعض علمائنا على أنه كان في وقت خاص واحتج هؤلاء بغزو صفوان بن أمية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، في حنين ، وفي غزوة الطائف ، وهو يومئذ غير مسلم ، واحتجوا أيضا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أحد قال لبني النضير من اليهود : "إنا وأنتم أهل كتاب وإن لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر فإما قاتلتم معنا وإلا أعرتمونا السلاح" وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، والليث ، والأوزاعي ، ومن أصحابنا من قال : لا نطلب منهم المعونة ، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم : لأن الإذن كالطلب ، ولكن إذا خرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم ، ورام بهذا الوجه التوفيق بين قول ابن القاسم ورواية أبي الفرج ، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد ، ونقل ابن رشد عن الطحاوي عن أبي حنيفة : أنه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين ، قال ابن رشد : وهذا لا وجه له ، وعن أصبغ المنع مطلقا بلا تأويل.(12/308)
الحالة السادسة : أن يتخذ واحد من المسلمين واحدا من الكافرين بعينه وليا له ، في حسن المعاشرة أو لقرابة ، لكمال فيه أو نحو ذلك ، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين ، وذلك غير ممنوع ، فقد قال تعالى في الأبوين {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان : 15] واستأذنت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في بر والدتها وصلتها ، وهي كافرة ، فقال لها صلي أمك وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة : 8] قيل نزلت في والدة أسماء ، وقيل في طوائف من مشركي مكة : وهم كنانة ، وخزاعة ، ومزينة ، وبنو الحرث ابن كعب ، كانوا يودون انتصار المسلمين على أهل مكة. وعن مالك تجوز تعزية الكافر بمن يموت له. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي ، لما يبديه من محبة النبيء ، والتردد عليه ، وقد نفعهم يوم الطائف إذ صرف بني زهرة ، وكانوا ثلاثمائة فارس ، عن قتال المسلمين ، وخنس بهم كما تقدم في قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية.
الحالة السابعة : حالة المعاملات الدنيوية : كالتجارات ، والعهود ، والمصالحات ، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال وتفاصيلها في الفقه.
الحالة الثامنة : حالة إظهار الموالاة لهم لاتقاء الضر وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}.
والاستثناء في {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا} منقطع ناشئ عن جملة {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} لأن الاتقاء ليس مما تضمنه اسم الإشارة ، لكنه أشبه الولاية في المعاملة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 72 ـ 74}(12/309)
فائدة
قال الجصاص :
وقَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } يَعْنِي أَنْ تَخَافُوا تَلَفَ النَّفْسِ وَبَعْضِ الْأَعْضَاءِ فَتَتَّقُوهُمْ بِإِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهَا.
وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى : { لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ : لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتَّخِذَ كَافِرًا وَلِيًّا فِي دِينِهِ.
وقَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } : إلَّا أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَيَصِلَهُ لِذَلِكَ ؛ فَجَعَلَ التَّقِيَّةَ صِلَةً لِقَرَابَةِ الْكَافِرِ.
وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ جَوَازَ إظْهَارِ الْكُفْرِ عِنْدَ التَّقِيَّةِ ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } وَإِعْطَاءُ التَّقِيَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، بَلْ تَرْكُ التَّقِيَّةِ أَفْضَلُ ، قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ : إنَّهُ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَظْهَرَ.(12/310)
وَقَدْ أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ خُبَيْبَ بْنَ عُدَيٍّ ، فَلَمْ يُعْطِ التَّقِيَّةَ حَتَّى قُتِلَ ، فَكَانَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ أَعْطَى التَّقِيَّةَ ، وَأَظْهَرَ الْكُفْرَ فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : { كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ ؟ قَالَ : مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَإِنْ عَادُوا فَعُدْ } وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّرْخِيصِ.
وَرُوِيَ { أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَخَلَّاهُ ، ثُمَّ دَعَا بِالْآخَرِ وَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنَّى رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : إنِّي أَصَمُّ ، قَالَهَا ثَلَاثًا ؛ فَضَرَبَ عُنُقَهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَمَّا هَذَا الْمَقْتُولُ فَمَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ ، وَأَخَذَ بِفَضِيلَةٍ فَهَنِيئًا لَهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ اللَّهِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ }.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إعْطَاءَ التَّقِيَّةِ رُخْصَةٌ ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ تَرْكُ إظْهَارِهَا.(12/311)
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي كُلِّ أَمْرٍ كَانَ فِيهِ إعْزَازُ الدِّينِ ، فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِجِهَادِ الْعَدُوِّ فَقُتِلَ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ انْحَازَ ؟ وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ أَحْوَالَ الشُّهَدَاءِ بَعْدَ الْقَتْلِ وَجَعَلَهُمْ أَحْيَاءً مَرْزُوقِينَ ، فَكَذَلِكَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي إظْهَارِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكُ إظْهَارِ الْكُفْرِ أَفْضَلُ مِنْ إظْهَارِ التَّقِيَّةِ فِيهِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَنَظَائِرِهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي شَيْءٍ ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أُمِّهِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفٍ ، وَلَا تَزْوِيجٍ ، وَلَا غَيْرِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَةَ الْمُسْلِمِ ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 289 ـ 290}(12/312)
قوله تعالى : {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ}
قال الفخر :
فيه قولان
الأول : أن فيه محذوفاً ، والتقدير : ويحذركم الله عقاب نفسه ، وقال أبو مسلم المعنى {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} أن تعصوه فتستحقوا عقابه والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال : ويحذركم الله فهذا لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله أو من غيره ، فلما ذكر النفس زال هذا الاشتباه ، ومعلوم أن العقاب الصادر عنه يكون أعظم أنواع العقاب لكونه قادراً على ما لا نهاية له ، وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه مما أراد.
والقول الثاني : أن النفس ههنا تعود إلى اتخاذ الأولياء من الكفار ، أي ينهاهم الله عن نفس هذا الفعل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 13}
وقال ابن عطية :
وقوله تعالى : { ويحذركم الله } إلى آخر الآية وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة ، وقوله : { نفسه } نائبه عن إياه ، وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات ، وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه ، فقال ابن عباس والحسن ، ويحذركم الله عقابه. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 420}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} تحذير من المخالفة ومن التساهل في دعوى التقية واستمرارها أو طول زمانها.(12/313)
وانتصاب {نَفْسَهُ} على نزع الخافض وأصله ويحذركم الله من نفسه ، وهذا النزع هو أصل انتصاب الاسمين في باب التحذير في قولهم إياك الأسد ، وأصله أحذرك من الأسد. وقد جعل التحذير هنا من نفس الله أي ذاته ليكون أعم في الأحوال ، لأنه لو قيل يحذركم الله غضبه لتوهم أن لله رضا لا يضر معه تعمد مخالفة أوامره ، والعرب إذا أردت تعميم أحوال الذات علقت الحكم بالذات : كقولهم لولا فلان لهلك فلان ، وقوله تعالى : {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} إلى قوله : {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح : 25] ومن هذا القبيل تعليق شرط لولا على الوجود المطلق الذي سوغ حذف الخبر بعد لولا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 75}
قوله تعالى : {وإلى الله المصير}
قال الفخر :
المعنى : إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 13}
وقال الآلوسى :
{ وإلى الله المصير } أي المرجع ، والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة. قيل : والكلام على حذف مضاف أي إلى حكمه أو جزائه وليس باللازم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتماً. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 126}
لطيفة
قال ابن عادل :
قال أبو العباس المُقْرِئُ : ورد لفظ " النفس " في القرآن على أربعة أضربٍ :
الأول : بمعنى العلم بالشيء ، والشهادة ، كقوله : { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } ، يعني علمه فيكم ، وشهادته عليكم.
الثاني : بمعنى البدن ، قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } [ آل عمران : 185 ].
الثالث : بمعنى الهَوَى ، كقوله : { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء } [ يوسف : 53 ] يعني الهَوَى.
الرابع : بمعنى الروحِ ، قال تعالى : { أخرجوا أَنْفُسَكُمُ } [ الأنعام : 93 ] ، أي : أرواحكم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 146}(12/314)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى:"ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير" ثم قال فى الآية الأخرى بعد:"ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد".للسائل أن يسأل عن وجه تعقيب الأولى بقوله:"والى الله المصير" وتعقيب الثانية بقوله:"والله رؤوف بالعباد".(12/315)
والجواب عن ذلك والله أعلم أنه لما تقدم قبل الأولى قوله تعالى:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" فنهاهم سبحانه عن ذلك ثم أردف بالتحذير بقوله:"ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شئ" ثم استثنى سبحانه من ذلك حال التقاة فقال:"إلا أن تتقوا منهم تقاة" ثم قال:"ويحذركم الله نفسه- أى عذابه - وإلى الله المصير -أى ومرجعكم إليه فلا يفوته هارب فهذا كلام ملتحم جليل النظم والتنضيد ثم أتبع هذا بإعلامه أنه سبحانه لا يخفى عليه شئ مما أكنوه أو أظهروه فقال:"قل إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما فى السماوات وما فى الأرض والله على كل شئ قدير"، فأعلم فيها بعلمه المحيط بالأشياء والعلم والقدرة هما القاطعان بمنكرى العودة وعلى إنكارهما بنى المنكرون حشر الأجساد شنيع مقالهم وبثباتهما اضمحل باطلهم وقد أشارت هذه الآية العظيمة إلى علمه سبحانه بالجزئيات وقدرته عليها وفى ذلك الشأن كله ولعل الكلام يعود بنا إلى مقصود هذه الآية العظيمة فنبسط من ذلك ما يشفى صدر المؤمن ويقطع بالملحدين وإن كان أئمتنا من أهل الفن الكلامى قد شفوا فى ذلك رضى الله عنهم فعرف سبحانه بالرجوع الأخروى إليه ثم أخبر بأنه لا يغادر من أفعال عباده صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فقال:"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا"الآية ثم قال معيدا ومحذرا:"ويحذركم الله نفسه" وأعقب بقوله:"والله رؤوف بالعباد"، لما تقدم من التذكير والوعظ والبيان والتحذير المبنى على واضح الأمر والتبيان وذلك إنعام منه سبحانه وإحسان يستجر خوف المؤمنين العابدين، فناسبه التعقيب بذكر رأفته بعباده رفقا بهم وإنعاما وتلطفا فقال:"والله رؤوف بالعباد"، ولم يتقدم قبل الأولى ما تقدم قبل هذه متصلا بها وإنما تقدمها النهى عن موالاة الكفار والتبرى من مواليهم بالكلية فناسبه ما أعقب به وناسب هذه ما أعقبت به والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل صـ 109 ـ 110}(12/316)
فائدة
قال السعدى فى معنى الآية :
هذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين ، وتوعد على ذلك فقال : { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي : فقد انقطع عن الله ، وليس له في دين الله نصيب ، لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان ، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه ، قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفؤا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين ، وصار من حزب الكافرين ، قال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم ، والميل إليهم [ ص 128 ] والركون إليهم ، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين ، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين. قال الله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } أي : تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية. ثم قال تعالى : { ويحذركم الله نفسه } أي : فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك { وإلى الله المصير } أي : مرجع العباد ليوم التناد ، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم ، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة ، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة. أ هـ {تفسير السعدى صـ 127}(12/317)
كلام نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية فى الآية
قال عليه الرحمة والرضوان :
رأس مال الرافضة التقية وهي أن يظهر خلاف ما يبطن كما يفعل المنافق وقد كان المسلمون في أول الإسلام في غاية الضعف والقلة وهم يظهرون دينهم لا يكتمونه والرافضة يزعمون أنهم يعملون بهذه الآية قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه (سورة آل عمران). ويزعمون أنهم هم المؤمنون وسائر أهل القبلة كفار مع أن لهم في تكفير الجمهور قولين لكن قد رأيت غير واحد من أئمتهم يصرح في كتبه وفتاويه بكفر الجمهور وأنهم مرتدون ودارهم دار ردة يحكم بنجاسة مائعها وأن من أنتقل إلى قول الجمهور منهم ثم تاب لم تقبل توبته لأن المرتد الذي يولد على الفطرة لا يقبل منه الرجوع إلى الإسلام وهذا في المرتد عن الإسلام قول لبعض السلف وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا لأن المرتد من كان كافرا فأسلم ثم رجع إلى الكفر بخلاف من يولد مسلما فجعل هؤلاء هذا في سائر الأمة فهم عندهم كفار فمن صار منهم إلى مذهبهم كان مرتدا وهذه الآية حجة عليهم فإن هذه الآية خوطب بها أولا من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين فقيل لهم {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} (سورة آل عمران). وهذه الآية مدنية باتفاق العلماء فإن (سورة آل عمران). كلها مدنية وكذلك البقرة والنساء والمائدة ومعلوم أن المؤمنين بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد منهم يكتم إيمانه ولا يظهر للكفار أنه منهم كما يفعله الرافضة مع الجمهور وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت بسبب أن بعض المسلمين أراد إظهار مودة الكفار فنهوا عن ذلك وهم لا يظهرون المودة للجمهور وفي رواية الضحاك عن ابن عباس أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود فقال يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية وفي رواية أبي صالح أن عبد الله بن أبي وأصحابه(12/318)
من المنافقين كانوا يتولون اليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر على النبي صلى الله عليه وسلم فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم وروى عن ابن عباس أن قوما من اليهود كانوا يباطنون قوما من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك وقال اجتنبوا هؤلاء فأبوا فنزلت هذه الآية وعن مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم الله عن ذلك
والرافضة من أعظم الناس إظهارا لمودة أهل السنة ولا يظهر أحدهم دينه حتى إنهم يحفظون من فضائل الصحابة والقصائد التي في مدحهم وهجاء الرافضة ما يتوددون به إلى أهل السنة ولا يظهر أحدهم دينه كما كان المؤمنون يظهرون دينهم للمشركين وأهل الكتاب فعلم أنهم من أبعد الناس عن العمل بهذه الآية وأما قوله تعالى {إلا أن تتقوا منهم تقاة} (سورة آل عمران). قال مجاهد إلا مصانعة والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي فإن هذا نفاق ولكن أفعل ما أقدر عليه كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وأمرأة فرعون وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل كان يكتم إيمانه وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره(12/319)
والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإن هذا الإكراه لا يكون عاما من جمهور بني آدم بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا في بلاد الكفر ولا أحد يكرهه على كلمه الكفر ولا يقولها ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل يكتم ما في قلبه وفرق بين الكذب وبين الكتمان فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار كمؤمن آل فرعون وأما الذي يتكلم بالكفر فلا يعذره إلا إذا أكره والمنافق الكذاب لا يعذر بحال ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح وإرادة الخير بهم وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ومع هذا كان يعظم موسى ويقول {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} (سورة غافر). وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة وغش الناس وإرادة السوء بهم فهو لا يألوهم خبالا ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم وهو ممقوت عند من لا يعرفه وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه والمؤمن معه عزة الإيمان فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ثم هم يدعون الإيمان دون الناس والذلة فيهم أكثر منها في سائر الطوائف من المسلمين وقد قال تعالى {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} (سورة غافر). وهم أبعد طوائف أهل الإسلام عن النصرة وأولاهم(12/320)
بالخذلان فعلم أنهم أقرب طوائف أهل الإسلام إلى النفاق وأبعدهم عن الإيمان وآية ذلك أن المنافقين حقيقة الذين ليس فيهم إيمان من الملاحدة يميلون إلى الرافضة والرافضة تميل إليهم أكثر من سائر الطوائف وقد قال صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وقال ابن مسعود رضي الله عنه اعتبروا الناس بأخدانهم فعلم أن بين أرواح الرافضة وأرواح المنافقين اتفاقا محضا قدرا مشتركا وتشابها وهذا لما في الرافضة فإن النفاق شعب كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي رواية لمسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم والقرآن يشهد لهذا فإن الله وصف المنافقين في غير موضع بالكذب والغدر والخيانة وهذه الخصال لا توجد في طائفة أكثر منها في الرافضة ولا أبعد منها عن أهل السنة المحضة المتبعين للصحابة فهؤلاء أولى الناس بشعب الإيمان وأبعدهم عن شعب النفاق
والرافضة أولى الناس بشعب النفاق وأبعدهم عن شعب الإيمان وسائر الطوائف قربهم إلى الإيمان وبعدهم عن النفاق بحسب سنتهم وبدعتهم وهذا كله مما يبين أن القوم أبعد الطوائف عن اتباع المعصوم الذي لا شك في عصمته وهو خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق كما قد ذكر ذلك أهل العلم(12/321)
ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقا زنديقا أراد فساد دين الإسلام وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع بولس بالنصارى لكن لم يتأت له ما تأتى لبولس لضعف دين النصارى وعقلهم فإن المسيح صلى الله عليه وسلم رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علما وعملا فلما ابتدع بولس ما ابتدعه من الغو في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ودخلت معهم ملوك فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك بعضهم وداهن الملوك بعضهم وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديارات وهذه الأمة ولله الحمد لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على أهل الحق ولكن يضل من يتبعه على ضلاله وأيضا فنواب المعصوم الذي يدعونه غير معصومين في الجزئيات وإذا كان كذلك فيقال إذا كانت العصمة في الجزئيات غير واقعة وإنما الممكن العصمة في الكليات فالله تعالى قادر أن ينص على الكليات بحيث لا يحتاج في معرفتها إلى الإمام ولا غيره وقادر أيضا أن يجعل نص النبي أكمل من نص الإمام وحينئذ فلا يحتاج إلى عصمة الإمام لا في الكليات ولا في الجزئيات. أ هـ {منهاج أهل السنة حـ 6 صـ 295 ـ 302}(12/322)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنُونَ }.
من حقائق الإيمان الموالاةُ في الله والمعاداة في الله.
وأوْلى مَنْ تسومه الهجرانَ والإعراضَ عن الكفار - نَفْسُك ؛ فإنها مجبولةٌ على المجوسية حيث تقول : لي ومني وبي ، وقال الله تعالى : { يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ } [ التوبة : 123 ].
وإن الإيمان في هذه الطريقة عزيز ، ومن لا إيمان له بهذه الطريقة من العوام - وإن كانوا قد بلغوا من الزهد والجهد مبلغاً عظيماً - فليسوا بأهل لموالاتك ، والشكل بالشكل أليق.
قوله جلّ ذكره : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِى شَيءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ }.
صحبة الحق سبحانه وقربته لا تكون مقرونة بصحبة الأضداد وقربتهم - ألبتة.
{ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ } : هذا خطاب للخواص من أهل المعرفة ، فأمَّا الذين نزلت رُتْبَتُهم عن هذا فقال لهم : { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى } [ آل عمران : 131 ] وقال : { واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ.. } [ البقرة : 281 ]. إلى غير ذلك من الآيات.
ويقال : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ } أن يكون عندكم أنكم وصلتم ؛ فإن خفايا المكر تعتري الأكابر ، قال قائلهم :
وأمِنْتُه فأتاح لي من مأمني... مكراً ، كذا مَنْ يأمن الأحبابا
ويقال : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ } لأن يجري في وهم أحد أنه يصل إليه مخلوق ، أو يطأ بساطَ العِزِّ قَدَمُ همة بشر ، جلَّتْ الأحدية وعزَّت!
وإنَّ من ظن أنه أقربهم إليه ففي الحقيقة أنه أبعدهم عنه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 233}(12/323)
قوله تعالى { قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت الموالاة بالباطن المنهي عنها مطلقاً ودائماً قد تفعل ويدعى نفيها لخفائها أمره صلى الله عليه وسلم بتحذيرهم من موالاة أعدائه على وجه النفاق أو غيره فقال : { قُلْ إِنْ تُخْفُوا}
وقال الحرالي : ولما كان حقيقة ما نهى عنه في الولاية والتقاة أمراً باطناً يترتب عليه فعل ظاهر فوقع التحذير فيه على الفعل كرر فيه التحذير على ما وراء الفعل مما في الصدور ونبه فيه على منال العلم خفية ، فإنه قد يترك الشيء فعلاً ولا تترك النفس الغية صغواً ونزوعاً إليه في أوقات ، وكرر في ختمه التحذير ليتثنى التحذيران ترقياً من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم خفية ، فإنه قد يترك الشيء فعلاً ولا تترك النفس الغية صغواً ونزوعاً إليه في أوقات ، وكرر في ختمه التحذير ليتثنى التحذيران ترقياً من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم كما تثنى الأمران في الظاهر والباطن ، وكان في إجراء هذا الخطاب على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليهم بما أنه بشر مثلهم يلزمهم الاقتداء به فيما لم يبادروا إلى أخذه من الله في خطابه الذي عرض به نحوهم ؛ انتهى.
فقال تعالى - : {قل إن تخفوا} أي يا أيها المؤمنون {ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله} أي المحيط قدرة وعلماً ، ثم قال عاطفاً على جملة الشرط التي هي مقول القول إرادة التعميم : {ويعلم ما} أي جميع ما {في السموات} ولما كان الإنسان مطبوعاً على ظن أنه إذا أخفي شيئاً في نفسه لا يعلمه غيره أكد بإعادة الموصول فقال : {وما} أي وجميع ما {في الأرض} ظاهراً كان أو باطناً.(12/324)
ولما كان ذو العلم لا يكمل إلا بالقدرة ، وكان يلزم من تمام العلم شمول القدرة - كما سيأتي إن شاء الله تعالى برهانه في سورة طه - كان التقدير : فالله بكل شيء عليم ، فعطف عليه قوله : {والله} أي بما له من صفات الكمال {على كل شيء قدير} ومن نمط ذلك قوله سبحانه وتعالى : {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} [ آل عمران : 5 ] مع ذكر التصوير كيف يشاء والختم بوصفي العزة والحكمة ، وقد دل سبحانه وتعالى بالتفرد بصفتي العلم والقدرة على التفرد بالألوهية. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 59 ـ 60}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهراً وباطناً واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية ، وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة ، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سبباً لحصول تلك الموالاة في الباطن ، فلا جرم بيّن تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر ، فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 13}
قال أبو حيان :
المفهوم أن الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر ، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها ، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.
وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة ، وتحذير من ذلك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 444}
أسئلة وأجوبة
السؤال الأول : هذه الآية جملة شرطية فقوله {إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} شرط وقوله {يَعْلَمْهُ الله} جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه ، فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى.(12/325)
والجواب : أن تعلق علم الله تعالى بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن ، ثم أن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم ، وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام.
السؤال الثاني : محل البواعث والضمائر هو القلب ، فلم قال : {إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ} ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم ؟ .
الجواب : لأن القلب في الصدر ، فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال : {يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ الناس} [ الناس : 5 ] وقال : {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور} [ الحج : 46 ].
السؤال الثالث : إن كانت هذه الآية وعيداً على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق.
الجواب : ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله {للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [ البقرة : 284 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 13 ـ 14}
قوله تعالى : {وَيَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض }
قال أبو حيان :
{ ويعلم ما في السموات وما في الأرض } هذا دليل على سعة علمه ، وذكر عموم بعد خصوص ، فصار علمه بما في صدورهم مذكوراً مرتين على سبيل التوكيد ، أحدهما : بالخصوص ، والآخر : بالعموم ، إذ هم ممن في الأرض. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 444}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أنه رفع على الاستئناف ، وهو كقوله {قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله} [ التوبة : 14 ] جزم الأفاعيل ، ثم قال : {وَيَتُوبَ الله} فرفع ، ومثله قوله {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ وَيَمْحُ الله الباطل} [ الشورى : 24 ] رفعاً ، وفي قوله {وَيَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} غاية التحذير لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضمير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 14}
قال ابن عادل : (12/326)
قوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } من باب ذكر العام بعد الخاص. { مَا فِى صُدُورِكُمْ } ، وقدَّم - هنا - الإخْفَاءَ على الإبداء وجعل محلهما الصدور ، بخلاف آية البقرةِ - فإنه قدَّم فيها الإبداء على الإخفاء ، وجعل محلهما النفس ، وجعل جواب الشرطِ المحاسبة ؛ تفنُّناً في البلاغة ، وذكر ذلك للتحذير ؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف يَخْفَى عليه الضميرُ ؟ أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 147}
قوله تعالى : {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ}
قال الفخر :
قال تعالى : {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} إتماماً للتحذير ، وذلك لأنه لما بيّن أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالماً بما في قلبه ، وكان عالماً بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب ، ثم بيّن أنه قادر على جميع المقدورات ، فكان لا محالة قادراً على إيصال حق كل أحد إليه ، فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 14}
وقال الآلوسى :
{ والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } إثبات لصفة القدرة بعد إثبات صفة العلم وبذلك يكمل وجه التحذير ، فكأنه سبحانه قال : ويحذركم الله نفسه لأنه متصف بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية شاملة للمقدورات بأسرها فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه إذ ما من معصية خفية كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها وقادر على العقاب بها. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 126}
فائدة
قال أبو السعود :
وإظهارُ الاسم الجليل في موضع الإضمارِ لتربية المهابة وتهويلِ الخطب. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 23}(12/327)
فائدة
قال الطبرى فى معنى الآية :
يعني بذلك جل ثناؤه : "قل" يا محمد ، للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين "إن تخفوا ما في صدوركم" من موالاة الكفار فتُسِرُّوه ، أو تبدوا ذلكم من نفوسكم بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه "يعلمه الله" ، فلا يخفى عليه. يقول : فلا تُضمروا لهم مودّةً ولا تظهروا لهم موالاة ، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به ، لأنه يعلم سرّكم وعلانيتكم ، فلا يخفى عليه شيء منه ، وهو مُحصيه عليكم حتى يجازيَكم عليه بالإحسان إحسانًا ، وبالسيئة مثلها.
وأما قوله : "ويعلم ما في السموات وما في الأرض" ، فإنه يعني أنه إذ كان لا يخفى عليه شيء هو في سماء أو أرض أو حيث كان ، فكيف يخفى عليه - أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين - ما في صدوركم من الميْل إليهم بالمودة والمحبة ، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا.
وأما قوله : "والله على كل شيء قدير" ، فإنه يعني : والله قديرٌ على معاجلتكم بالعقوبة على مُوالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين ، وعلى ما يشاء من الأمور كلها ، لا يتعذَّر عليه شيء أراده ، ولا يمتنع عليه شيء طلبه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 318}. بتصرف يسير.(12/328)
وقال الزمخشرى :
{ وَيَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الارض } لا يخفى عليه منه شيء قط. فلا يخفى عليه سركم وعلنكم { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فهو قادر على عقوبتكم. وهذا بيان لقوله : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] لأنّ نفسه وهي ذاته المميزة من سائر الذوات ، متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور ، فهي قادرة على المقدورات كلها ، فكان حقها أن تحذر وتتقى فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب ، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلاحق به العقاب ، ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الإطلاع على أحواله ، فوكل همه بما يورد ويصدر ، ونصب عليه عيوناً ، وبث من يتجسس عن بواطن أموره ، لأخذ حذره وتيقظ في أمره ، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به ، فما بال من علم أنّ العالم الذات الذي علم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 380 ـ 381}
وقال ابن كثير :
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر ، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية ، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والآنات واللحظات وجميع الأوقات ، وبجميع ما في السموات والأرض ، لا يغيب عنه مثقال ذرة ، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال ، وهو { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : قدرته نافذة في جميع ذلك.
وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته ، وألا يرتكبوا ما نهى عنه وما يَبْغضه منهم ، فإنه عالم بجميع أمورهم ، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة ، وإنْ أنظر من أنظر منهم ، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر ؛ ولهذا قال بعد هذا : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ]}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 31}(12/329)
من فوائد ابن عاشور فى الآية :
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [29].
انتقال من التحذير المجمل إلى ضرب من ضروب تفصيله ، وهو إشعار لمحذر باطلاع الله على ما يخفونه من الأمر.
وذكر الصدور هنا والمراد البواطن والضمائر : جريا على معروف اللغة من إضافة الخواطر النفسية إلى الصدر والقلب ، لأن الانفعالات النفسانية وترددات التفكر ونوايا النفوس كلها يشعر لها بحركات في الصدور.
وزاد أو تبدوه فأفاد تعميم العلم تعليما لهم بسعة علم الله تعالى لأن مقام إثبات صفات الله تعالى يقتضي الإيضاح.
وجملة : {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} معطوفة على جملة الشرط فهي معمولة لفعل قل ، وليست معطوفة على جواب الشرط : لأن علم الله بما في السماوات وما في الأرض ثابت مطلقا غير معلق على إخفاء ما في نفوسهم وإبدائه وما في الجملة من التعميم يجعلها في قوة التذييل.
وقوله : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إعلام بأنه مع العلم ذو قدرة على كل شيء ، وهذا من التهديد ؛ إذ المهدد لا يحول بينه وبين تحقيق وعيده إلا أحد أمرين : الجهل بجريمة المجرم ، أو العجز عنه ، فلما أعلمهم بعموم علمه ، وعموم قدرته ، علموا أن الله لا يفلتهم من عقابه.
وإظهار اسم الله دون ضميره فلم يقل وهو على كل شيء قدير : لتكون الجملة مستقلة فتجري مجرى المثل ، والجملة لها معنى التذييل. والخطاب للمؤمنين تبعا لقوله : {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران : 28] الآية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 76}
لطيفة
قال القشيرى :
لا يَعْزُبُ معلوم عن علمه ، فلا تحتشم من نازلة بك تسوءك ، فعن قريب سيأتيك الغوث والإجابة ، وعن قريب سيزول البلاء والمحنة ، ويُعَجِّلُ المدَدَ والكفاية. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 234}(12/330)
قوله تعالى { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تم الوصف بالعلم والقدرة بعد التحذير من سطواته ذكر يوم المصير المحذر منه ، المحصى فيه كل كبير وصغير ، المعامل فيه كل عامل بما يليق به ، الذي يتم فيه انكشاف الأوصاف لكل ذكي وغبي فقال تعالى : {يوم} وهو معمول لعامل من معنى " يحذر " {تجد كل نفس} والذي يرشد إلى تعيين تقدير هذا العامل - إذا جعل العامل مقدراً - قوله سبحانه وتعالى {ويحذركم الله نفسه} [ آل عمران : 28 ] سابقاً لها ولا حقاً ، ويجوز أن يكون بدلاً من يوم في قوله {ليوم لا ريب فيه} [ آل عمران : 9 ] وتكون فتحته للبناء لإضافته إلى الجملة - والله سبحانه وتعالى أعلم ، والمراد بالنفس - والله سبحانه وتعالى أعلم - المكلفة {ما عملت من خير محضراً} أي لا نقص فيه ولا زيادة ، بأمر القاهر القادر على كل شيء {وما عملت من سوء} حاضراً ملازماً ، فما عملت من خير تود أنها لا تفارقه ولا ينقص منه شيء [ وما عملت من سوء {تود} أي تحب حباً شديداً {ولو أن بينها وبينه} أي ذلك العمل السوء {أمداً} أي زماناً.
قال الحرالي : وأصله مقدار ما يستوفي جهد الفرس من الجري ، فهو مقدار ما يستوفي ظهور ما في التقدير إلى وفاء كيانه {بعيداً} من البعد ، وهو منقطع الوصلة في حس أو معنى - انتهى.
فالآية من الاحتباك : ذكر إحضار الخير دلالة على حضور السوء ، وود بعد السوء دلالة على ود لزوم الخير.(12/331)
ولما ذكر هول ذلك اليوم كان كأنه قال : فاتقوه فإن الله يحذركموه {ويحذركم الله} أي الذي له العظمة التي لا يحاط بها {نفسه} فالله سبحانه وتعالى منتقم ممن تعدى طوره ونسي أنه عبد ، قال الحرالي : أن تكون لكم أنفس فتجد ما عملت ، ويلزمها وطأة هذه المؤاخذة ، بل الذي ينبغي أن يبرىء العبد من نفسه تبرئته من أن يكون له إرادة ، وأن يلاحظ علم الله وقدرته في كلية ظاهره وباطنه وظاهر الكون وباطنه - انتهى.
ولما كان تكرير التحذير قد ينفر بين أن تحذيره للاستعطاف ، فإنه بنصب الأدلة وبعث الدعاة والترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية المسبب عنه سعادة الدارين ، فهو من رأفته بالمحذرين فقال بانياً على ما تقديره : ويعدكم الله سبحانه وتعالى فضله ويبشركم به لرأفته بكم : {والله} أي والحال أن الذي له وحده الجلال والإكرام {رؤوف بالعباد} قال الحرالي : فكان هذا التحذير الخاتم ابتدائياً ، والتحذير السابق انتهائياً ، فكان هذا رأفة سابقة ، وكان الأول الذي ترتب على الفعل تحذيراً لاحقاً متصلاً بالمصير إلى الله ، وهذا الخاتم مبتدأً بالرأفة من الله. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 60 ـ 61}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن العمل لا يبقى ، ولا يمكن وجدانه يوم القيامة ، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجهين
الأول : أنه يجد صحائف الأعمال ، وهو قوله تعالى : {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [ الجاثية : 29 ] وقال : {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أحصاه الله وَنَسُوهُ} [ المجادلة : 6 ]
الثاني : أنه يجد جزاء الأعمال وقوله تعالى : {مُّحْضَرًا} يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن جزاء العمل يكون محضراً ، كقوله {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} [ الكهف : 49 ] وعلى كلا الوجهين ، فالترغيب والترهيب حاصلان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 14 ـ 15}(12/332)
قوله تعالى : {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا}
قال ابن عادل :
المعنى : { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ } يعني : لو أن بين النفس وبين السوء أمداً بعيداً.
قال السُّدِّيُّ : مكاناً بعيداً.
وقال مقاتلٌ : كما بين المَشرق والمَغْرِب ؛ لقوله تعالى : { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } [ الزخرف : 38 ].
قال الحسنُ : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 155 ـ 156}
قال الفخر :
الأمد ، الغاية التي ينتهي إليها ، ونظيره قوله تعالى : {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين} [ الزخرف : 38 ].
واعلم أن المراد من هذا التمني معلوم ، سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان ، إذ المقصود تمني بعده ، ثم قال : {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} وهو لتأكيد الوعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 15}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
فى ناصب "يوم" أوجه :
أحدها : أنه منصوب بـ " قَدِيرٌ " ، أي : قدير في ذلك اليوم العظيم ، لا يقال : يلزم من ذلك تقييد قدرته بزمان ؛ لأنه إذا قدر في ذلك اليوم الذي يُسْلَب فيه كلُّ أحدٍ قدرته ، فلأنْ يقدرَ في غيره بطريق الأولى. وإلى هذا ذهب ابو بكر ابن الأنباري.
الثاني : أنه منصوب بـ " يُحَذِّرُكُمْ " ، أي : يخوفكم عقابه في ذلك اليوم ، وإلى هذا نحا أبو إسحاق ، ورجحه.
ولا يجوز أن ينتصب بـ " يُحَذِّرُكُمْ " المتأخرة.
قال ابن الأنباري : لا يجوز أن يكون اليوم منصوباً بـ " يُحَذِّرُكُمْ " المذكور في هذه الآية ؛ لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ".(12/333)
وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبه معترضاً ، وهو كلامٌ طويلٌ ، والفصل بمثله مستبعد ، هذا من جهة الصناعة ، وأما من جهة المعنى ، فلا يصح ؛ لأن التخويف لم يقع في ذلك اليوم ؛ لأنه ليس زمانَ تكليف ؛ لأن التخويف موجود ، واليوم موعود ، فكيف يتلاقيان ؟
قال : أن يكون منصوباً بالمصير ، والتقدير : وإلى الله المصير يومَ تَجِدُ ، وإليه نحا الزّجّاجُ - أيضاً - وابن الأنباري ومكيٌّ ، وغيرُهم ، وهذا ضعيف على قواعد البصريين ؛ للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلامٍ طويلٍ.
وقد يقال : إن جُمَل الاعتراضِ لا يُبَالَى بها في الفصل ، وهذا من ذاك.
الرابع : أن يكون منصوباً بـ " اذكر " مقدراً ، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً ، وقدر الطبريُّ الناصب له " اتَّقُوا " ، وفي التقدير ما فيه من كونه على خلاف الأصلِ ، مع الاستغناء عنه.
الخامس : أن العامل فيه ذلك المضاف المقدر قبل " نفسه " ، أي : يحذركم اللهُ عقاب نفسه يوم تجد ، فالعامل فيه " عقاب " لا " يحذركم " قاله أبو البقاء ، وفي قوله : " لا يُحَذِّرُكُمْ " فرار عما أورد على أبي إسحاقَ كما تقدم.
السادس : أنه منصوب بـ " تَوَدُّ ".
قال الزمخشريُّ : " يَوْمَ تَجِدُ " منصوب بـ " تَوَدُّ " والضمير في " بينه " لليوم ، أي : يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها تتمنى لو أن بينها ، وبين ذلك اليوم ، وهَوْله أمداً بعيداً ".
وهذا ظاهر حسنٌ ، ولكن في هذه المسألة خلافٌ ضعيف ؛ جمهور البصريين والكوفيين على جوازها ، وذهب الأخفشُ الفرّاءُ إلى مَنْعِهَا.
(12/334)
وضابط هذه المسألة أنه إذا كان الفاعلُ ضميراً عائداً إلى شيء مُتَّصِلٍ بمعمولِ الفعلِ نحو : ثَوْبَيْ أخَوْيك يلبسان ، فالفاعل هو الألف ، وهو ضمير عائد على " أخويك " المتصلين بمفعول " يلبسان " ومثله : غلام هندٍ ضربَتْ ، ففاعل " ضربت " ضمير عائد على " هند " المتصلة بـ " غلام " المنصوب بـ " ضربت " والآية من هذا القبيل ؛ فإن فاعل " تَوَدُّ " ضميرٌ عائدٌ على " نَفْس " المتصلة بـ " يَوْمَ " لأنها في جملة أضِيفَ الظرفُ إلى تلك الجملةِ ، والظرف منصوب بـ طتَوَدُّ " ، والتقدير : يوم وُجدان كل نفس خيرها وشرها مُحْضَرَيْنِ تَوَدُّ كذا.
احتج الجمهور على الجواز بالسماع.
وهو قول الشاعر : [ الخفيف ]
أجَلَ الْمَرْءِ يَسْتَحِثُّ وَلاَ يَدْ... ري إذَا يَبْتَغِي حًصُولَ الأمَانِي
ففاعل " يستحثَ " ضمير عائد على " المرء " المتصل بـ " أجل " المنصوب بـ " يستحث ".
واحتج المانعون بأن المعمول فضلة ، يجوز الاستغناء عنه ، وعَوْد الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزوم ذكره ، فيتنافى هذان السببان ، ولذلك أجمع على منع زيداً ضرب ، وزيداً ظن قائماً ، أي : ضرب نفسه ، وظنها ، وهو دليلٌ واضح للمانع لولا ما يرده من السماع كالبيت المتقدم وفي الفرق عُسْر بين : غلامَ زَيدٍ ضَرَبَ ، وبين : زيداً ضَرَبَ ، حيث جاز الأول ، وامتنع الثاني ، بمقتضى العلة المذكورة.
قوله : " تجد " يجوز أن تكون [ المتعدية لواحد بمعنى " تصيب " ، ويكون " محضراً " على هذا منصوباً على الحال ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن تكون علمية ] ، فتتعدى لاثنين ، أولهما " مَا عَمِلَتْ " ، والثاني " مُحْضَراً " وليس بالقويّ في المعنى ، و" ما " يجوز فيها وجهان :
أظهرهما : أنها بمعنى " الذي " فالعائد - على هذا - مقدَّر ، أي : ما عملته ، وقوله : { مِنْ خَيْرٍ } حال ، إما من الموصول ، وإما من عائده ، ويجوز أن تكون " مِنْ " لبيان الجنسِ.
(12/335)
ويجوز أن تكون " ما " مصدرية ، ويكون المصدر - حينئذ - واقعاً موقع مفعول ، تقديره : يوم تجد كلُّ نفس عملها - أي : معمولها - فلا عائد حينئذ [ عند الجمهور ].
قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ } يجوز في " ما " هذه أن تكون منسوقة على " ما " التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها - أي : وتجد الذي عملته ، أو وتجد عملها - أي : معمولها - من سوء. فإن جعلنا " تَجِدُ " متعدياً لاثنين ، فالثاني محذوف ، أي : وتجد الذي عملته من سوء محضراً ، أو وتجد عملها مُحْضَراً ، نحو علمت زيداً ذاهباً وبكراً - أي : وبكراً ذاهباً - فحذفت مفعوله الثاني ؛ للدلالة عليه بذكره مع الأول. وإن جعلناها متعدية لواحد ، فالحال من الموصول أيضاً - محذوفة ، أي : تجده محضراً - أى : في هذه الحال - وهذا كقولك : أكرمت زيداً ضاحكاً وعمراً - أي : وعمراً ضاحكاً - حذفت حال الثاني ؛ لدلالة حال الأول عليه- ، وعلى هذا فيكون في الجملة من قوله : " تَوَدُّ " وجهان :
أحدهما : أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل " عَمِلَتْ " ، أي : وما عملته حال كونها وَادَّةً ، أى : متمنِّيًَ البعد من السوءِ.
والثاني : أن تكون مستأنفةً ، أخبر الله تعالى عنها بذلك ، وعلى هذا لا تكونُ الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين.
ووضع الكرم ، واللطف هذا ؛ لأنه نَصَّ في جانب الثوابِ على كونه مُحْضَراً ، وأما في جانب العقاب فلم ينصّ على الحضورِ ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه ، والبعد عنه ، وذلك بَيِّنٌ على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيدِ.
ويجوز أن تكون " ما " مرفوعة بالابتداء ، والخبر الجملة في قوله : " تَوَدُّ " ، أي : والذي عملته وعملها تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.
والضمير في " بَيْنَهُ " فيه وجهان :
أحدهما - وهو الظاهر - عوده على " مَا عَمِلَتْ " ، وأعاده الزمخشري على " الْيَوْم ".
(12/336)
قال أبو حيّان : " وأبعد الزمخشري في عوده على " اليوم " ؛ لأن أحد القسمين اللذين أحْضِروا له في ذلك اليوم هو الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير ، إلا بتجوُّز إذا كان يشتمل على الخير والشر ، فتود تباعده ؛ لتسلم من الشرِّ ، ودعه لا يحصل له الخير. والأولى عوده على { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء } ؛ لأنه أقربُ مذكورٍ ؛ ولأن المعنى أن السوء تَتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدَ منه ".
فإن قيل : هل يجوز أن تكون " ما " هذه شرطية ؟
فالجواب : أن الزمخشريَّ ، وابن عطية مَنَعَا من ذلك ، وَجَعَلا علة المنع عدم جزم الفعل الواقع جواباً ، وهو " تَوَدُّ ".
قال شهاب الدينِ : " وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأنهم نَصُّوا على أنه إذا وقع فعلُ الشرطِ ماضياً ، والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان - الجزم والرفع - وقد سُمِعَا من لسان العرب ، ومنه بيت زُهَيْر : [ البسيط ]
وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ... يَقُولُ : لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرمُ
ومن الجزم قوله تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ } [ هود : 15 ] ، وقوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ } [ الشورى : 20 ] ، وقوله : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] فدل ذلك على أن المانع من شرطيتها ليس هو رَفْعَ تَودُّ ".(12/337)
وأجاب ابو حيّان بأنها ليست شرطية - لا لما ذكر الزمخشريُّ وابن عطيّة - بل لعلَّةٍ أخرى ، قال : كنت سُئِلت عن قول الزمخشريِّ : فذكره ثم قال : ولنذكر هاهنا ما تمس إليه الحاجة بعد أن تقدم ما ينبغي تقديمه ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضياً ، وبعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء جاز في ذلك المضارع ، الجَزْمُ ، وجاز فيه الرفعُ ، مثال ذلك : إن قام زيد يَقُمْ - ويقوم عمرو ، فأما الجزم فعلى جواب الشرط ولا نعلم في جواز ذلك خلافاً ، وأنه فصيح ، إلا ما ذكره صاحب كتاب " الإعراب " عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع " كان " كقوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ } [ هود : 15 ] ، لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها ، وظاهر كلام سيبويه ، وكلام الجماعة ، أنه لا يختص ذلك بـ " كان " بل سائر الأفعال في ذلك مثل " كان ".
وأنشد سيبويه للفرزدق : [ البسيط ]
دَسَّتْ رَسُولاً بِأنَّ الْقَوْمَ إنْ قَدَرُوا... عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتَ تَوغِيرِ
وقال أيضاً : [ الطويل ]
تَعَالَ فَإنْ عَاهَدتنِي لا تَخُونُنِي... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَجِبَانِ
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثيراً.
قال بعض أصحابنا : هو أحسن من الجزم ، ومنه بيت زهير السابق. ومثله - أيضاً - قوله : [ الطويل ]
وَإنْ شُلَّ رَيْعَانُ الْجَمِيع مَخَافَةً... نَقُولُ - جِهَاراً - وَيْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا
وقال أبو صخر : [ الطويل ]
وَلاَ بِالَّذِي إنْ بَانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ... يَقُول - وَيُخْفِي - الصَّبْرَ - إنِّي لَجَازعُ
وقال الآخر : [ الطويل ]
وَإنْ بَعُدُوا لا يَأمَنُونَ اقْتِرَابَهُ... تَشَوُّفَ أهْلِ الْغَائِبِ الْمُتَنَظَّرِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي... إلَى قَطَرِيٍّ لا إخَالُكَ رَاضِيا
(12/338)
وقال الآخر : [ البسيط ]
إنْ يُسْألُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإنْ خُبِرُوا... فِي الجَهْدِ أدْرَكَ مِنْهُمْ طيبُ أخْبَارِ
قال شهاب الدين : " هكذا ساق هذا البيتَ في جملة الأبيات الدالة على رفع المضارع ، ويدل على ذلك أنه قال - بعد إنشاده هذه الأبيات كلَّها- : فهذا الرفع - كما رأيت - كثير ".
وهذا البيتُ ليس من ذلك ؛ لأن المضارع فيه مجزوم - وهو يُعْطُوه - وعلامة جزمهِ سقوط النون فكان ينبغي أن ينشده حين أنشد : دَسَّتْ رَسُولاً ، وقوله : " تعال فإن عاهدتني ".
وقال : فهذا الرفع كثير - كما رأيت - ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام - وإن اختلفت تأويلاتُهم كما سنذكره - وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور بن رشيد المالقي - وهو مصنف كتاب رصف المباني - رحمه الله- : لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم ؛ لأنه أصل العمل في المضارع - تقدم الماضي أو تأخَّر - وتأوَّل هذا المسموعَ على إضْمَار الفاء ، وجملة مثل قول الشاعر : [ الرجز ]
.............................. إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
على مذهب من جعل الفاءَ منه محذوفة.
وأما المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرَّفعِ.
فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم ، وأنَّ جوابَ الشرط ليس مذكوراً عِنْدَه ، وذهب المبردُ والكوفيون إلى أنه هو الجواب ، وإنما حُذِفَ منه الفاءُ ، والفاء يُرْفَع ما بعدها ، كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] فأعْطِيَتْ - في الإضمار - حكمَها في الإظهار.
(12/339)
وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجوابُ بنفسه - أيضاً - كالقول قبله ، إلا أنه ليس معه فاء مقدرة قالوا : لكن لما كان فعلُ الشرط ماضياً ، لا يظهر لأداة الشرط فيه عملٌ ظاهِرٌ استضعفوا أداةَ الشرط ، فلم يُعْمِلُوها في الجواب ؛ لضَعْفِها ، فالمضارع المرفوع - عند هذا القائل - جواب بنفسه من غير نية تقديم ، ولا على إضمار الفاء ، وإنما لم يُجْزَم لما ذُكِر ، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان.
وتلخص من هذا الذي قلناه - أن رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً ، لكن امتنع أن يكون " وما عملت " شرطاً لعلة أخرى - لا لكون " تَوَدُّ " مرفوعاً ، وذلك على ما تقرَّر من مذهب سيبويه أن النية بالمرفوع التقديم ، وأنه - إذ ذاك - دليل على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : لما كان " تَوَدُّ " مَنوياً به التقديم أدَّى إلَى تقديم المُضْمَ رعلى ظاهرهِ في غير الأبوابِ المستثناة في العربية ، ألا ترى أن الضمير في قوله : " وَبَيْنَه " عائد على اسم الشرط - الذي هو " ما " - فيصير التقدير : تَوَدُّ كلُّ نفسٍ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء ، فلزم هذا التقدير تقديم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز.
فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت نيتُه التقديمَ فقد حصل عَوْدُ الضمير على الاسم الظاهر قَبْلَه ، وذلك نظير : ضرب زيداً غلامُه ، فالفاعل رُتْبته التقديمُ ، ووجب تأخيره لصحة عود الضمير ؟
(12/340)
فالجواب : أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه ؛ لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء - لا دليله - ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ؟ بل إنها تعمل في جملة الجزاء ، وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب ، وإذا كان كذلك تدافَع الأمر ؛ لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل شرط ، ومن حيث عَوْد الضمير على اسم الشرط اقتضاها ، فتدافَعَا ، وهذا بخلاف : ضرب زيد أخاه ؛ فإنها جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً ، فكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ومن ذلك جاز - عند بعضهم - ضرب غلامُها هنداً ، لاشتراك الفاعل - المضاف إلى الضمير - والمفعول الذي عاد عليه الضمير - في العامل ، وامتنع ضرب غلامُها جازَ عنده ؛ لعدم الاشتراك في العامل ، ففرق ما بين المسألتين ، ولا يُحْفَظ من لسان العربِ : أوَدُّ لو أني أكْرمه أبا ضربتُ هِندٍ ؛ لأنه يلزم منه تقديم المُضْمَر على مفسِّره - في غير المواضع التي ذكرها النحويون - فلذلك لا يجوز تأخيره " انتهى.
وقد جوَّز ابو البقاء كونَها شرطية ، ولم يلتفت لما مَنَعُوا به ذلك ، فقال : " والثاني - أنها شرط وارتفع " تَوَدُّ " على إرادة الفاء ، أي : فهو تود ".
ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حذف ؛ لأن الشرط - هنا - ماضٍ ، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الوجهان : الجزم والرفع.
[ وقد تقدم تحقيق القول في ذلك ، فالظاهر موافقته للقول الثالث من تخريج الرفع في المضارع كما تقدم تحقيقه وقرأ... ] عبد الله وابن أبي عبلة : " ودت " - بلفظ الماضي - وعلى هذه القراءة يجوز في " ما " وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطية ، وفي محلها - حينئذ - احتمالان.
الأول : النصب بالفعل بعدها ، والتقدير : أيَّ شيء عملت من سوء ودت ، ف " وَدَّتْ " جواب الشرط.
(12/341)
الثاني : الرفع على الابتداء ، والعائد على المبتدأ محذوف ، تقديره : وما عملته ، وهذا جائز في اسم الشرط خاصة عند افرّاء في فصيح الكلام ، أعني حذف عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعل نحو : " أيُّهُمْ ضرب أكرمه " - برفع " أيُّهم " وإذا كان المبتدأ غير ذلك ضَعُفَ نحو : زيدٌ ضربت ، [ وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في قراءة من قرأ : " أفحكمُ الجاهلية يبغون " ، وفي قوله : " وكل وعد الله الحسنى " في الحديد ].
الوجه الثاني من وجهي " ما " : أن تكون موصولة ، بمعنى : الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً ، ومحلها - على هذا - رفع بالابتداءِ ، و" وَدَّتْ " الخبر ، وهو اختيار الزمخشريِّ ؛ لأنه قال : " لكن الحمل على الابتداء والخبر أوْقَعُ في المعنى : لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت ؛ لموافقة قراءة العامة " انتهى.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يمتنع أن تكون " ما " شرطية على هذه القراءة ، كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة ؟
فالجواب : أن العلة إن كانت رفعَ الفعل ، وعدم جَزْمه - كما قال به الزمخشريّ وابن عطية - فهي مفقودة في هذه القراءة ؛ لأن الماضيَ مبني اللفظ ، لا يظهر فيه لأداة الشرط عملٌ وإن كانت العلة أن النية به التقديم ، فيلزم عَوْدُ الضميرِ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبةًن فهي أيضاً مفقودة فيها ؛ إذ لا دَاعِيَ يدعو إلى ذلك.
قوله - هنا - على بابها ، من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوعِ غيره ، وعلى هذا ففي الكلام حذفان :
أحدهما : حذف مفعول " تَوَدُّ ".
والثاني : حذف جواب " لَوْ " ، والتقدير فيها : تود تباعُدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّت بذلك ، أو لفرحت ونحوه. والخلاف في " لو " بعد فعل الودادة وما بمعناه أنها تكون مصدرية كما تقدم تحريره في البقرة ، يبعد مجيئه هنا ؛ لأن بعدها حرفاً مصدرياً وهو " أن ".
(12/342)
قال أبو حيان : ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] ، قال شهاب الدين : إلا قليلاً يشعر بجوازه ، وهو لا يجوز ألبتة ، وأما الآية التي أوردها فقد مضى النحاة على أن ما زائدة.
وقد تقدم الكلام في " أنَّ " الواقعة بعد " لَوْ " هذه ، هل محلها الرفع على الابتداء ، والخبر محذوفٌ - كما ذهب إليه سيبويه - أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدَّر ، أي : لو ثبت أن بينها وما قال الناس في ذلك وقد زعم بعضهم أن " لو " - هنا - مصدرية ، هي وما في حيزها من معنى المفعول لِ " تَوَدُّ " ، أي تود تباعد ما بينها وبينه ، وفي ذلك إشكال ، وهو دخول حرف مصدري على مثله ، لكن المعنى على تسلط الوداد على " لو " وما في حيِّزها لولا المانع الصناعي. والأمد : غاية الشيء ومنتهاه ، وجمعه آماد - نجو أجل وآجال - فأبدِلَت الهمزةُ ألِفاً ، لوقوعها ساكنةً بعد همزةِ " أفعال ".
قال الراغب : " الأمَد والأبد متقاربان ، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمانِ التي ليس لها حَدٌّ محدود ، وَلا يتقيد فلا يقال : أبَدَ كذا والأمد مدة لها حَدٌّ مجهول إذا أطلق ، وقد ينحصر إذا قيل : أمَد كذا ، كما يقال : زمان كذا ، والفرق بين الأمد والزمان ، أن الأمد يقال لاعتبار الغايةِ ، والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 147 ـ 155}
قوله تعالى : {والله رَءوفٌ بالعباد}
قال الفخر :
فيه وجوه
الأول : أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه ، وعرفهم كمال علمه وقدرته ، وأنه يمهل ولا يهمل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذرهم من استحقاق غضبه ، قال الحسن : ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه
الثاني : أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي(12/343)
الثالث : أنه لما قال : {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} وهو للوعيد أتبعه بقوله {والله رَءوفٌ بالعباد} وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته ، غالب على وعيده وسخطه
والرابع : وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص ، قال تعالى : {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [ الفرقان : 63 ] وقال تعالى : {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [ الإنسان : 6 ] فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال : {والله رَءوفٌ بالعباد} أي كما هو منتقم من الفساق ، فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 15 ـ 16}
وقال ابن عطية :
{ والله رؤوف بالعباد } يحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير لأن تحذيره وتنبيهه على النجاة رأفة منه بعباده ، ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة فمقتضى ذلك التأنيس لئلا يفرط الوعيد على نفس مؤمن ، وتجيء الآية على نحو قوله تعالى : { إن ربك لشديد العقاب ، وإنه لغفور رحيم } [ الأعراف : 167 ] لأن قوله : { ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 28 ] والله محذور العقاب. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 421}(12/344)
وقال أبو حيان :
{ والله رؤوف بالعباد } لما ذكر صفة التخويف وكررها ، كان ذلك مزعجاً للقلوب ، ومنبهاً على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال واحضاره لها يوم الحساب ، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما ، فذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه ، وليبسط الرجاء في أفضاله ، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدّة الأمر ، ذكر ما يدل على سعة الرحمة ، كقوله تعالى : { إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة التخويف ، لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم الله ، وجاء المحذر مخصوصاً بالمخاطب فقط ، وهذه الجملة جاءت اسمية ، فتكرر فيها اسم الله ، إذ الوصف محتمل ضميره تعالى ، وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضي للمبالغة والتكثير ، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو : رؤوف ، وجاء متعلقه عاماً ليشمل المخاطب وغيره ، وبلفظ العباد ليدل على الإحسان التام ، لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر ، إذ هو ملكه.
قالوا : ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير ، أي : إن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد ، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه.
وعن الحسن : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه ، وقال الحوفي : جعل تحذيرهم نفسه إياه ، وتخويفهم عقابه رأفة بهم ، ولم يجعلهم في عمىً من أمرهم.
وروي عن ابن عباس هذا المعنى أيضاً ، والكلام محتمل لذلك ، لكن الأظهر الأول ، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 448}
فائدة
قال البقاعى : (12/345)
والرأفة - يقول أهل المعاني - هي أرق الرحمة ، والذي يفصح عن المعنى - والله سبحانه وتعالى أعلم - أنها عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة ، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم ، فمن تحقق أن الأمر لله سبحانه وتعالى وجد رفقه وفضله ورحمته عليه لما برىء من دعوى شيء من نسبة الخير إلى نفسه ، فأحبه لذلك ، قيل لأعرابي : إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله ؟ فقال : أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه فلذلك إذا تحقق العبد ذلك من ربه أحبه بما وحّده وبما وجده في العاجلة فحماه أن يجد عمل نفسه في الآجلة - انتهى.
وقد علم أن الآية من الاحتباك : التحذير أولاً دال على الوعد بالخير ثانياً ، والرأفة ثانياً دالة على الانتقام أولاً - والله سبحانه وتعالى الموفق. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 61}
لطيفة
قال السمرقندى :
ذكر في أول هذه الآية عدله عز وجل في قوله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } ، وفي وسطها تخويف وتهديد وهو قوله { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } وفي آخرها ذكر رأفته ورحمته وهو قوله { والله رَءوفٌ بالعباد }. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 331}(12/346)
من فوائد العلامة أبى السعود فى الآية
قال رحمه الله :
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ } أي من النفوس المكلفة { مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } عندها بأمر الله تعالى وفيه من التهويل ما ليس في حاضراً { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء } عطف على { مَّا عَمِلَتْ } والإحضار معتبرٌ فيه أيضاً إلا أنه خُص بالذكر في الخير للإشعار بكون الخير مراداً بالذات وكونِ إحضارِ الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية { تَوَدُّ } عامل في الظرف والمعنى تود وتتمنى يوم تجد صحائفَ أعمالها من الخير والشر أن أجزِيتَها محْضَرة { لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ } أي بين ذلك اليوم { أَمَدَا بَعِيدًا } لشدة هوله وفي إسناد الود إلى كل نفس سواءٌ كان لها عملٌ سيء أو لا بل كانت متمحِّضةً في الخير من الدلالة على كمال فظاعةِ ذلك اليوم وهول مطلعِه ما لا يخفى ، اللهم إنا نعوذ بك من ذلك ويجوز أن يكون انتصابُ يومَ على المفعولية بإضمار اذكروا وتودّ إما حال من كل نفس أو استئنافٌ مبني على السؤال أي اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضراً وادّةً أن بينها وبينه أمداً بعيداً أو كأن سائلاً قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم : فماذا يكون إذ ذاك ؟ قيل : تود لو أن بينها الخ أو { تَجِدُ } مقصورٌ على ما عملت من خير ، وتود خبرُ ما عملت من سوء ولا تكون ما شرطية لارتفاع تود وقرىء ودّت فحينئذ يجوز كونُها شرطيةً لكن الحمل على الخبر أوقعُ معنىً لأنها حكايةُ حالً ماضية وأوفقُ للقراءة المشهورة { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } تكرير لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل : { والله رَءوفٌ بالعباد } من أن تحذيرَه تعالى من رأفته بهم ورحمتِه الواسعةِ أو أن رأفته بهم لا تمنعُ تحقيقَ ما حذّرهُموه من عقابه وأن تحذيرَه ليس مبنياً على تناسي صفةِ الرأفة بل هو متحققٌ مع تحققها أيضاً كما في قوله تعالى : { ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } فالجملة على الأول اعتراضٌ ،(12/347)
وعلى الثاني حال وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 24}
وقال ابن عاشور :
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ }
جملة مستأنفة ، أصل نظم الكلام فيها : تود كل نفس لو أن بينها وبين ما عملت من سوء أمدا بعيدا يوم تجد ما عملت من خير محضرا. فقدم ظرفها على عامله على طريقة عربية مشهورة الاستعمال في أسماء الزمان ، إذ كانت هي المقصود من الكلام ، قضاء لحق الإيجاز بنسخ بديع. ذلك أنه إذا كان اسم الزمان هو الأهم في الغرض المسوق له الكلام ، وكان مع ذلك ظرفا لشيء من علائقه ، جيء به منصوبا على الظرفية ، وجعل معنى بعض ما يحصل منه مصوغا في صيغة فعل عامل في ذلك الظرف. أو أصل الكلام : يحضر لكل نفس يوم الإحضار ما عملت من خير وما عملت من سوء ، فتود في ذلك اليوم لو أن بينها وبين ما عملت من سوء أمدا بعيدا ، أي زمانا متأخرا ، وأنه لم يحضر ذلك اليوم. فالضمير في قوله وبينه على هذا يعود إلى ما عملت من سوء ، فحول التركيب ، وجعل تود هو الناصب ليوم ، ليستغني بكون ظرفا عن كونه فاعلا. أو يكون أصل الكلام : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ومن شر محضرا ، تود لو أن بينها وبين ذلك اليوم أمدا بعيدا ؛ ليكون ضمير بينه عائدا إلى يوم أي تود أنه تأخر ولم يحضر كقوله : {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون : 10] وهذا التحويل من قبيل قول امرئ القيس :
يوما على ظهر الكثيب تعذرت ... علي وآلت حلفة لم تحلل(12/348)
فإن مقصده ما حصل في اليوم ، ولكنه جعل الاهتمام بنفس اليوم ، لأنه ظرفه. ومنه ما يجيء في القرآن غير مرة ، ويكثر مثل هذا في الجمل المفصول بعضها عن بعض بدون عطف لأن الظرف والمجرور يشبهان الروابط ، فالجملة المفصولة إذا صدرت بواحد منها أكسبها ذلك نوع ارتباط بما قبلها : كما في هذه الآية ، وقوله تعالى : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} [آل عمران : 35] ونحوهما ، وهذا أحسن الوجوه في نظم هذه الآية وأومأ إليه في الكشاف .
وقيل منصوب باذكر.
وقيل متعلق بقوله : {الَمَصِيِرٌ} وفيه بعد لطول الفصل ، وقيل بقوله يحذركم وهو بعيد ، لأن التحذير حاصل من وقت نزول الآية ، ولا يحسن أن يجعل عامل الظرف في الآية التي قبل هذه لعدم التئام الكلام حق الالتئام.
فعل الوجه الأول قوله تود هو مبدأ الاستئناف ، وعلى الوجوه الأخرى هو جملة حالية من قوله وما عملت من سوء.
وقوله : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} يجوز أن يكون تكريرا للتحذير الأول لزيادة التأكيد لقول لبيد :
فتنازعا سبطا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرنج ... كدخان نار ساطع أسنامها
ويجوز أن يكون الأول تحذيرا من موالاة الكافرين ، والثاني تحذيرا من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضرا.
والخطاب للمؤمنين ولذلك سمى الموعظة تحذيرا : لأن المحذر لا يكون متلبسا بالوقوع في الخطر ، فإن التحذير تبعيد من الوقوع وليس انتشالا بعد الوقوع وذيله هنا بقوله : {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} للتذكير بأن هذا التحذير لمصلحة المحذرين.(12/349)
والتعريف في العباد للاستغراق : لأن رأفة الله شاملة لكل الناس مسلمهم وكافرهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر : 45] {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى : 19] وما وعيدهم إلا لجلب صلاحهم ، وما تنفيذه بعد فوات المقصود منه إلا لصدق كلماته ، وانتظام حكمته سبحانه. ولك أن تجعل أل عوضا عن المضاف إليه أي بعباده فيكون بشارة للمؤمنين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 77 ـ 78}
موعظة
قال فى روح البيان :
اعلم ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتفش فى صحائف النفوس السماوية وإذا تكرر صار ملكة راسخة لكنه مشغول عن تلك الهيآت الثابتة فى نفسه ونقوشها بالشواغل الحسية والوهمية والفكرية فإذا فارقت النفس الجسد وقامت قيامتها وجدت ما عملت من خير وشر محضرا لارتفاع الشواغل المانعة كقوله تعالى { أحصاه الله ونسوه } فإن كان شرا تتمنى البعد فيما بينها وما بين ذلك اليوم أو ذلك العمل لتعذبها به فتصير تلك الهيآت صورتها إن كانت راسخة والأصورة تعذبها وتعذبت بحسبها ومن الله العصمة
فعلى العاقل أن يزكى نفسه عن الأخلاق الذميمة ويطهر قلبه عن لوث العلائق الدنيوية ويجتهد فى تحصيل مرضاة الله بالأعمال الصالحة والأقوال الحقة كى يجدها عند ربه يوم احتياجه ويفوز بالسعادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط وأظمأ ما كانوا قط وأعرى من كانوا قط وأنصب ما كانوا قط فمن أطعم الله أطعمه ومن سقى الله سقاه ومن كسا الله كساه ومن عمل لله كفاه ". {أخرجه الديلمى فى "مسند الفردوس" (5 / 468)}. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 28 ـ 29}
لطيفة
قال الثعالبى :
عن مَنْصُورِ بْنِ عَمَّار ؛ أنه قال : أعقلُ النَّاس مُحْسِنٌ خَائِفٌ ، وأجْهَلُ النَّاسِ مُسِيءٌ آمنٌ ، فلما سمع عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَان منْه هذا الكلامَ ؛ بكى حتى بَلَّ ثيابه ، ثم قال له : اتل عَلَيَّ ، يا مَنْصُورُ ، شَيْئاً منْ كتابِ اللَّهِ ، فتلا عليه : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً... } الآيَةَ ، فَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ : قَتَلْتَنِي ، يَا مَنْصُورُ ، ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 257}(12/350)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا }.
وَدَّ أهل الطاعات أَنْ لو استكثروا منها ، ووَدَّ أهل المخالفات أَنْ لو كبحوا لجامهم عن الركض في ميادينهم ، قال قائلهم :
ولو إنني أُعْطِيتُ من دهري المُنَى... وما كلُّ مَنْ يُعْطَى المنى بِمُسَدَّدِ
لَقُلْتَ لأيامٍ مَضَيْن : ألا ارجعي... وقلتُ لأيام أتيْن ألا ابعدي
قوله جلّ ذكره : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ }.
الإشارة من قوله : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه } للعارفين ، ومن قوله { وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ } للمستأنفين ، فهؤلاء أصحاب العنف والعنوة ، وهؤلاء أصحاب التخفيف والسهولة.
ويقال لمَّا قال : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه } اقتضى أسماع هذا الخطاب تحويلهم فقال مقروناً به { وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ } لتحقيق تأميلهم ، وكذلك سُنَّتُه يطمعهم في عين ما يروعهم.
ويقال أفناهم بقوله { وَيُحَذِّركُمُ اللهُ نَفْسَهُ } ثم أحياهم وأبقاهم بقوله { وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ }. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 234}(12/351)
قوله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما فطمهم سبحانه وتعالى عن موالاة الكفار ظاهراً وباطناً بما اقتضى القصر على موالاة أهل الله لنفيه من تولي الكفر عن أن يكون في شيء من الله ، وكان الإنسان ربما وإلى الكافر وهو يدعي محبة الله سبحانه وتعالى ، وختم برأفته سبحانه وتعالى بعباده ، وكانت الرأفة قد تكون عن المحبة الموجبة للقرب ، فكان الإخبار بها ربما دعا إلى الاتكال ، ووقع لأجله الاشتباه في الحزبين ، جعل لذلك سبحانه وتعالى علامه فقال : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}(12/352)
وقال الحرالي : لما كان أعظم ما يترامى إليه مقامات السالكين إلى الله سبحانه وتعالى القاصدين إليه من مبدإ حال الذكر الذي هو منتهى المقامات العشر المترتبة في قوله سبحانه وتعالى {إن المسلمين} محبة الله سبحانه وتعالى بما أن المحبة وصلة خفية يعرف الحاس بها كنهها ، أقام سبحانه وتعالى الحجة على المترامين لدعوى القرب من الله والادعاء في أصل ما يصل إليه القول من محبته بما أنبأنهم أن من انتهى إلى أن يحب الله سبحانه وتعالى فليتبع هذا النبي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى فمن اتبعه أحبه الله ، فقامت بذلك الحجة على كل قاصد وسالك ومتقرب ، فإن نهاية الخلق أن يحبوا الله ، وعناية الحق أن يحب العبد ، فرد سبحانه وتعالى جميع من أحاط به الاصطفاء والاجتباء والاختصاص ، ووجههم إلى وجهة الاتباع لحبيبه الذي أحبه ، كما قال صلى الله عليه وسلم " لو أن موسى بين أظهركم ما وسعه إلا اتباعي " وإذا كان ذلك في موسى عليه الصلاة والسلام كان في المنتحلين لملته ألزم بما هم متبعون لمتبعه عندهم ، وأصل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما كان في في الأبد وجب أن يكون النهاية في المعاد ، فألزم الله سبحانه وتعالى على الخليقة ممن أحب الله سبحانه وتعالى أن يتبعوه ، وأجرى ذلك على لسان إشعاراً بما فيه من الخير والوصول إلى الله سبحانه وتعالى من حيث إنه نبي البشرى ، وليكون ذلك أكظم لمن أبى اتباعه - انتهى ، فقال سبحانه وتعالى - : {قل إن كنتم تحبون الله} أي المحيط بصفات الكمال مخلصين في حبه لاعتقاد أنه على غاية الكمال ، فإن الكمال محبوب لذاته {فاتبعوني} قال الحرالي : قد فسر صلى الله عليه وسلم ظاهر اتباعه فقال " في البر " وأصل حقيقته الإيمان بالله والإيثار لعباده ، والتقوى وهي ملاك الأمر وأصل الخير ، وهي إطراح استغناء العبد بشيء من شأنه ، لا من مِلك ولا من مُلك ولا من فعل ولا من وصف ولا من ذات حتى يكون عنده كما هو عند ربه في أزله قبل أن(12/353)
يكون موجوداً لنفسه ليكون أمره كله بربه في وجوده كما كان أمره بربه قبل وجوده لنفسه ، وقد فسر حق التقاة التي هي غاية التقوى بأن يكون العبد يشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى ، ويطيع فلا يعصى - انتهى.
قال الإمام : المحبة توجب إقبال بالكلية على المحبوب والإعراض عن غيره - انتهى.
فمن ادعى محبته وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب ، وكتاب الله سبحانه وتعالى يكذبه {يحببكم الله} أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى حباً ظهرت أماراته بما أعلم به الفك ، فإن الأمر المنجي غاية النجاة إنما هو محبة الله سبحانه وتعالى للعبد ، لا محبة العبد لله ، فإنه ربما كانت له حالة يظن بها أنه يحب الله والواقع أنه ليس كما ظن لكونه يعمل بما يسخطه سبحانه وتعالى ، والأمارة الصحيحة لذلك رد الأمر كله إلى الله ، وحينئذ يفعل الله مع العبد فعل المحب من حسن الثناء والإكرام بالثواب.
قال الحرالي : فإن من رد الأمانة إلى الله سبحانه وتعالى أحبه الله فكان سمعه وبصره ويده ورجله ، وإذا أحب الله عبداً أراحه وأنقذه من مناله في أن يكون هو يحب الله ، فمن أحب الله وله ، ومن أحبه الله سكن ي ابتداء عنايته وثبته الله سبحانه وتعالى - انتهى.
فقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن الدلالة الناشئة عن الرافة من الإكرام بالنعم من الهداية بالبيان والإبلاغ في الإحسان عامة للمحبوب وغيره ، وأن الدليل على المحبة الإلهية هو الاتباع الداعي " اعملوا فكل ميسر لما خلق له فأما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة " " ما تقرب المتقربون إليّ بمثل أداء ما افترضته عليهم ، ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ".
(12/354)
ولما كان الدين شديداً لن يشاده أحد إلا غلبه ، لما عليه العبد من العجز والمعبود من عظيم الأمر أتبع ذلك الإعلام بأنه مع إيصال الثواب يرفع العقاب فقال - وقال الحرالي : ولما كان من آية حب الله له صلى الله عليه وسلم ما أنزل عليه من قوله : {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [ الفتح : 1 2 ] أجرى لمن أحبه الله باتباعه حظ منه في قوله - : {ويغفر لكم ذنوبكم} أي مطلقاً ، وذنب كل عبد بحسبه ، لأن أصل معنى الذنب أدنى مقام العبد ، فكل ذي مقام أعلاه حسنته وأدناه ذنبه ، ولذلك في كل مقام توبة ، حتى تقع التوبة من التوبة فيكمل الوجود والشهود.
ولما كان هذا الأمر من أخص ما يقع ، وكان مما دونه مقامات خواص الخلق فيما بين إسلامهم إلى محبتهم لله سبحانه وتعالى ختم تعالى بما يفهم أحوال ما يرجع إلى من دون هذا الكمال فقال : {والله} أي الذي له الكمال كله {غفور رحيم} أي لمن لم ينته لرتبة حب الله له بما يقع في أثناء أحواله من موجب المغفرة واستدعاء الرحمة حيث لم يصل إلى المحبة ، فمرحوم بعد مغفرة وهو القاصد ، ومغفور بعد محبة وهو الواصل - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 61 ـ 64}
وقال ابن عاشور :
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [31].ا(12/355)
انتقال إلى الترغيب بعد الترهيب على عادة القرآن. والمناسبة أن الترهيب المتقدم ختم بقوله {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران : 30] والرأفة تستلزم محبة المرؤوف به الرؤف ، فجعل محبة الله فعلا للشرط في مقام تعليق الأمر باتباع الرسول عليه مبني على كون الرأفة تستلزم المحبة ، أو هو مبني على أن محبة الله أمر مقطوع به من جانب المخاطبين ، فالتعليق عليه تعليق شرط محقق ، ثم رتب على الجزاء مشروط آخر وهو قوله : {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} لكونه أيضا مقطوع الرغبة من المخاطبين ، لأن الخطاب للمؤمنين ، والمؤمن غاية قصده تحصيل رضا الله عنه ومحبته إياه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 78}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما دعا القوم إلى الإيمان به ، والإيمان برسله على سبيل التهديد والوعيد ، دعاهم إلى ذلك من طريق آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [ المائدة : 18 ] فنزلت هذه الآية ، ويروى أنه صلى الله عليه وسلم وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال : " يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة إبراهيم ، " فقالت قريش : إنما نعبد هذه حباً لله تعالى ليقربونا إلى الله زلفى ، فنزلت هذه الآية ، ويروى أن النصارى قالوا : إنما نعظم المسيح حباً لله ، فنزلت هذه الآية ، وبالجملة فكل واحد من فرق العقلاء يدعي أنه يحب الله ، ويطلب رضاه وطاعته فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم : قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله تعالى فكونوا منقادين لأوامره محترزين عن مخالفته ، وتقدير الكلام : أن من كان محباً لله تعالى لا بد وأن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه ، وإذا قامت الدلالة القاطعة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وجبت متابتعه ، فإن لم تحصل هذه المتابعة دلّ ذلك على أن تلك المحبة ما حصلت. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 16}
وقال القرطبى : (12/356)
الآية نزلت في وفد نَجران إذْ زعموا أن ما ادعوه في عيسى حُبٌّ لله عز وجل ؛ قاله محمد بن جعفر بن الزبير.
وقال الحسن وابن جُريج : نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا : نحن الذين نُحِبّ ربنا.
وروي أن المسلمين قالوا : يا رسول الله ، واللَّهِ إنا لنُحِب ربنا ؛ فأنزل الله عز وجل : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني }.
قال ابن عرفة : المحبّة عند العرب إرادةُ الشيء على قصد له.
وقال الأزهري : محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما ؛ قال الله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني }.
ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران ؛ قال الله تعالى : { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } [ آل عمران : 32 ] أي لا يغفر لهم.
وقال سهل بن عبد الله : علامة حُبِّ الله حب القرآن ، وعلامة حب القرآن حب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعلامة حب النبيّ صلى الله عليه وسلم حب السنة ، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبيّ وحب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه ، وعلامة حب نفسِه أن يبغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزّاد والبُلْغَة.
وروى أبو الدرْداء.
" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } قال : "على البِر والتقوى والتواضع وذلة النفس" " خرّجه أبو عبد الله الترمَذِيّ.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أراد أن يحِبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألاّ يؤذي جاره "(12/357)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال إني أُحِبُّ فلاناً فأحِبه قال فيحِبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إنّ الله يحب فلاناً فأحِبوه فيحِبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول إني أبغض فلاناً فأبغِضه قال فيبغِضه جبريل ثم ينادِي في أهل السماء إن الله يُبغِض فلاناً فأبغضوه قال فيبغِضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 60 ـ 61}
قال الطبرى :
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية ، قولُ محمد بن جعفر بن الزبير. لأنه لم يجر لغير وفد نجرانَ في هذه السورة ولا قبل هذه الآية ، ذكرُ قوم ادَّعوا أنهم يحبُّون الله ، ولا أنهم يعظمونه ، فيكون قوله."إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" جوابًا لقولهم ، على ما قاله الحسن.
وأمّا ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه ، فلا خبر به عندنا يصحّ ، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك ، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال. إلا أن يكون الحسن أرادَ بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفدَ نَجران من النصارى ، فيكون ذلك من قوله نظير اختيارنا فيه.
فإذْ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا ، ولا في الآية دليلٌ على ما وصفنا ، فأولى الأمور بنا أن نُلحق تأويله بالذي عليه الدّلالة من آي السورة ، وذلك هو ما وصفنا. لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها ، خبرٌ عنهم ، واحتجاجٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ودليل على بُطول قولهم في المسيح. فالواجب أن تكون هي أيضًا مصروفةَ المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها.
(12/358)
قال أبو جعفر : فإذْ كان الأمر على ما وصفنا ، فتأويلُ الآية : قل ، يا محمد ، للوفد من نصارى نجران : إن كنتم كما تزعمون أنكم تحبون الله ، وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون ، حبًّا منكم ربَّكم فحققوا قولكم الذي تقولونه ، إن كنتم صادقين ، باتباعكم إياي ، فإنكم تعلمون أني لله رسولٌ إليكم ، كما كان عيسى رسولا إلى من أرسل إليه ، فإنه إن اتبعتموني وصدّقتموني على ما أتيتكم به من عند الله يغفرُ لكم ذنوبكم ، فيصفح لكم عن العقوبة عليها ، ويعفو لكم عما مضى منها ، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين ، رحيمٌ بهم وبغيرهم من خلقه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 324 ـ 325}
فائدة
قال السمرقندى :
ويقال : الحب من الله عصمته وتوفيقه ، والحب من العباد طاعة كما قال القائل :
تَعْصي الإله وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّه.
.. هَذَا لَعَمْرِي في القِيَاسِ بديعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَه.
.. إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطيعُ. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 232}
فصل
قال الفخر :
المتكلمون مصرون على أن محبة الله تعالى عبارة عن محبة إعظامه وإجلاله ، أو محبة طاعته ، أو محبة ثوابه ، قالوا : لأن المحبة من جنس الإرادة ، والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث وإلا بالمنافع.(12/359)
واعلم أن هذا القول ضعيف ، وذلك لأنه لا يمكن أن يقال في كل شيء إنه إنما كان محبوباً لأجل معنى آخر وإلا لزم التسلسل والدور ، فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوباً بالذات ، كما أنا نعلم أن اللذة محبوبة لذاتها ، فكذلك نعلم أن الكمال محبوب لذاته ، وكذلك أنا إذا سمعنا أخبار رستم واسفنديار في شجاعتهما مال القلب إليهما مع أنا نقطع بأنه لا فائدة لنا في ذلك الميل ، بل ربما نعتقد أن تلك المحبة معصية لا يجوز لنا أن نصر عليها ، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته ، كما أن اللذة محبوبة لذاتها ، وكمال الكمال لله سبحانه وتعالى ، فكان ذلك يقتضي كونه محبوباً لذاته من ذاته ومن المقربين عنده الذين تجلى لهم أثر من آثار كماله وجلاله قال المتكلمون : وأما محبة الله تعالى للعبد فهي عبارة عن إرادته تعالى إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 16}
فائدة
قال ابن عطية :
ومحبة الله للعبد أمارتها للمتأمل أن يرى العبد مهدياً مسدداً ذا قبول في الأرض ، فلطف الله بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته ، وبهذا النظر يتفسر لفظ المحبة حيث وقعت من كتاب الله عز وجل. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 422}
فصل
قال ابن عاشور :
المحبة : انفعال نفساني ينشأ عند الشعور بحسن شيء : من صفات ذاتية. أو إحسان ، أو اعتقاد أنه يحب المستحسن ويجر إليه الخير. فإذا حصل ذلك الانفعال عقبه ميل وانجذاب إلى الشيء المشعور بمحاسنه ، فيكون المنفعل محبا ، ويكون المشعور بمحاسنه محبوبا ، وتعد الصفات التي أوجبت هذا الانفعال جمالا عند المحب ، فإذا قوي هذا الانفعال صار تهيجا نفسانيا ، فسمي عشقا للذوات ، وافتنانا بغيرها.(12/360)
والشعور بالحسن الموجب للمحبة يستمد من الحواس في إدراك المحاسن الذاتية المعروفة بالجمال ، ويستمد أيضا من التفكر في الكمالات المستدل عليها بالعقل وهي المدعوة بالفضيلة ، ولذلك يحب المؤمنون الله تعالى ، ويحبون النبي صلى الله عليه وسلم ، تعظيما للكمالات ، واعتقادا بأنهما يدعوانهم إلى الخير ، ويحب الناس أهل الفضل الأولين كالأنبياء والحكماء والفاضلين ، ويحبون سعاة الخير من الحاضرين وهم لم يلقوهم ولا رأوهم.
ويرجع الجمال والفضيلة إلى إدراك النفس ما يلائمها : من الأشكال ، والأنغام ، والمحسوسات ، والخلال. وهذه الملاءمة تكون حسية لأجل مناسبة الطبع كملاءمة البرودة في الصيف ، والحر في الشتاء ، وملاءمة اللين لسليم الجلد ، والخشن لمن به داعي حكة ، أو إلى حصول منافع كملاءمة الإحسان والإغاثة. وتكون فكرية لأجل غايات نافعة كملاءمة الدوام للمريض ، والتعب لجاني الثمرة ، والسهر للمتفكر في العلم ، وتكون لأجل الإلف ، وتكون لأجل الاعتقاد المحض ، كتلقي الناس أن العلم فضيلة ، ويدخل في هذين محبة الأقوام عوائدهم من غير تأمل في صلاحها ، وقد تكون مجهولة السبب كملاءمة الأشكال المنتظمة للنفوس وملاءمة الألوان اللطيفة.
وفي جميع ذلك تستطيع أن تزيد اتضاحا بأضدادها كالأشكال الفاسدة ، والأصوات المنكرة ، والألوان الكريهة ، دائما ، أو في بعض الأحوال ، كاللون الأحمر يراه المحموم.
ولم يستطع الفلاسفة توضيح علة ملاءمة بعض ما يعبر عنه بالجمال للنفوس : ككون الذات جميلة أو قبيحة الشكل ، وكون المربع أو الدائرة حسنا لجئ النفس ، والشكل المختل قبيحا ، ومع الاعتراف باختلاف الناس في بعض ما يعبر عنه بالجمال والقبح كما قال أبو الطيب :
ضروب الناس عشاق ضروبا
وأن بعض الناس يستجيد من الملابس ما لا يرضى به الآخر ويستحسن من الألوان ما يستقبحه الآخر ، ومع ذلك كله فالمشاهد أن معظم الأحوال لا يختلف فيها الناس السالم والأذواق.
(12/361)
فأما المتقدمون فقال سقراط : سبب الجمال حب النفع ، وقال أفلاطون : الجمل أمر إلهي أزلي موجود في عالم العقل غير قابل للتغير قد تمتعت الأرواح به قبل هبوطها إلى الأجسام فلما نزلت إلى الأجسام صارت مهما رأت شيئا على مثال ما عهدته في العوالم العقلية وهي عالم المثال مالت إليه لأنه مألوفها من قبل هبوطها. وذهب الطبائعيون : إلى أن الجمال شيء ينشأ عندنا الإحساس بالحواس. ورأيت في كتاب "جامع أسرار الطب" للحكيم عبد الملك ابن زهر القرطبي العشق الحسي إنما هو ميل النفس إلى الشيء الذي تستحسنه وتستلذه ، وذلك أن الروح النفساني الذي مسكنه الدماغ قريب من النور البصري الذي يحيط بالعين ومتصل بمؤخر الدماغ وهو الذكر فإذا نظرت العين إلى الشيء المستحسن انضم النوري البصري وارتعد فبذلك الانضمام والارتعاد يتصل بالروح النفساني فيقلبه قبولا حسنا ثم يودعه الذكر فيوجب ذلك المحبة. ويشترك أيضا بالروح الحيواني الذي مسكنه القلب لاتصاله بأفعاله في الجسد كله فحينئذ تكون الفكرة والهم والسهر.
والحق أن منشأ الشعور بالجمال قد يكون عن الملائم ، وعن التأثر العصبي ، وهو يرجع إلى الملائم أيضا كتأثر المحموم باللون الأحمر ، وعن الإلف والعادة بكثرة الممارسة ، وهو يرجع إلى الملائم كما قال ابن الرومي :
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلك
وعن ترقب الخير والمنفعة وهو يرجع إلى الملائم ، وعن اعتقاد الكمال والفضيلة وهو يرجع إلى المألوف الراجع إلى الممارسة بسبب ترقب الخير من صاحب الكمال والفضيلة.
ووراء ذلك كله شيء من الجمال ومن المحبة لا يمكن تعليله وهو استحسان الذوات الحسنة واستقباح الأشياء الموحشة فنرى الطفل الذي لا إلف له بشيء ينفر من الأشياء التي نراها وحشة.
(12/362)
وقد اختلف المتقدمون في أن المحبة والجمال هل يقصران على المحسوسات : فالذين قصروهما على المحسوسات لم يثبتوا غير المحبة المادية ، والذين لم يقصروهما عليها أثبتوا المحبة الرمزية ، أعني المتعلقة بالأكوان غير المحسوسة كمحبة العبد لله تعالى ، وهذا هو الحق ، وقال به من المتقدمين أفلاطون ، ومن المسلمين الغزالي وفخر الدين وقد أضيفت هذه المحبة إلى أفلاطون ، فقيل محبة أفلاطونية : لأنه بحث عنها وعللها فإننا نسمع بصفات مشاهير الرجال مثل الرسل وأهل الخير والذين نفعوا الناس ، والذين اتصفوا بمحامد الصفات كالعلم والكرم والعدل ، فنجد من أنفسنا ميلا إلى ذكرهم ثم يقوى ذلك الميل حتى يصير محبة منا إياهم مع أننا ما عرفناهم ، ألا ترى أن مزاولة كتب الحديث والسيرة مما يقوي محبة المزاول في الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكذلك صفات الخالق تعالى ، لما كانت كلها كمالات وإحسانا إلينا وإصلاحا لفاسدنا ، أكسبنا اعتقادها إجلالا لموصوفها ، ثم يذهب ذلك الإجلال يقوى إلى أن يصير محبة وفي الحديث ثلاث من كن فيه وجد حلاوة لإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار فكانت هذه الثلاثة من قبيل المحبة ولذلك جعل عندها وجدان حلاة الإيمان أي وجدانه جميلا عند معتقده.
فأصحاب الرأي الأول يرون تعليق المحبة بذات الله في هذه الآية ونحوها مجازا بتشبيه الرغبة في مرضاته بالمحبة ، وأصحاب الرأي الثاني يرونه حقيقة وهو الصحيح.
ومن آثار المحبة تطلب القرب من المحبوب والاتصال به واجتناب فراقه. ومن آثارها محبة ما يسره ويرضيه ، واجتناب ما يغضبه ، فتعليق لزوم اتباع الرسول على محبة الله تعالى لأن الرسول دعا إلى ما يأمر الله به وإلى إفراد الوجهة إليه ، وذلك كمال المحبة.(12/363)
وأما إطلاق المحبة في قوله : {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فهو مجاز لا محالة أريد به لازم المحبة وهو الرضى وسوق المنفعة ونحو ذلك من تجليات لله يعلمها سبحانه. وهما المعبر عنهما بقوله : {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فإن ذلك دليل المحبة وفي القرآن {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة : 18].
وتعليق محبة الله إياهم على {فٌَاتَبُعُونِيُِ} المعلق على قوله : {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} ينتظم منه قياس شرطي اقتراني. ويدل على الحب المزعوم إذا لم يكن معه اتباع الرسول فهو حب كاذب ، لأن المحب لمن يحب مطيع ، ولأن ارتكاب ما يكرهه المحبوب إغاضة له وتلبس بعدوه وقد قال أبو الطيب :
أأحبه وأحب فيه ملامة ... إن الملامة فيه من أعدائه
فعلم أن حب العدو لا يجامع الحب وقد قال العتابي :
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 78 ـ 82}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قرأ العامة " تُحِبُّونَ " - بضم حرف المضارعة ، من " أحَبَّ " وكذلك { يُحْبِبْكُمُ الله }.
وقرأ ابو رجاء العُطَارِديّ " تَحِبُّون ، يَحْبِبْكم " بفتح حرف المضارعة - من حَبَّ - وهما لغتان ، يقال حَبَّه يَحُبُّه - بضم الحاء وكسرها في المضارع - وأحَبَّهُ يُحبُّهُ.
وحكى أبو زيد : حَبَبْتُهُ ، أحِبُّه.
وأنشد :
فَوَاللهِ لَوْلاَ ثُمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ... وَلاَ كَانَ أدْنَى مِنْ عُوَيفٍ وَمُشرِقِ
ونقل الزمخشريُّ : قراءة يحبكم - بفتح الياء والإدغام - وهو ظاهر ، لأنه متى سكن المثلين جَزْماً ، أو وقْفاً جاز فيه لغتان : الفك والإدغام. وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله في المائدة.
والحُبّ : الخَابِيَة - فارسيّ مُعَرَّب - والجمع : حِباب وحِبَبَة ، حكاه الجوهريُّ.(12/364)
وقرأ الجمهور " فَاتَّبِعُونِي " بتخفيف النون ، وهي للوقاية.
وقرأ الزُّهري بتشديدها ، وخُرِّجَتُ على أنه ألحق الفعل نون التأكيد ، وأدغمها في نون الوقاية وكان ينبغي له أن يحذف واوَ الضمير ؛ لالتقاء الساكنين ، إلا أنه شبَّه ذلك بقوله : { أتحاجوني } وهو توجيه ضعيف ولكن هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ.
وطعن الزجاجُ على من روى عن أبي عمرو إدغام الراء من " يغفر " في لام " لكم ".
وقال : هو خطأ وغلط على أبي عمرو. وقد تقدم تحقيقه ، وأنه لا خطأ ولا غلط ، بل هو لغة للعرب ، نقلها الناس ، وإن كان البصريون لا يُجِيزون ذلك كما يقول الزجاج. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 156 ـ 157}
فصل
قال الفخر :
القوم كانوا يدعون أنهم كانوا محبين لله تعالى ، وكانوا يظهرون الرغبة في أن يحبهم الله تعالى ، والآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين
أحدهما : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ، لأن المعجزات دلّت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي
الثاني : إن كنتم تحبون أن يحبكم الله فاتبعوني لأنكم إذا اتبعتموني فقد أطعتم الله ، والله تعالى يحب كل من أطاعه ، وأيضاً فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة الله تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره ، ومن أحب الله كان راغباً فيه ، لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب ، والإعراض بالكلية عن غير المحبوب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 16 ـ 17}
فصل
قال الفخر : (12/365)
خاض صاحب "الكشاف" في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى وكتب ههنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى فكيف اجترأ على كتبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله تعالى ، نسأل الله العصمة والهداية ، ثم قال تعالى : {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} والمراد من محبة الله تعالى له إعطاؤه الثواب ، ومن غفران ذنبه إزالة العقاب ، وهذا غاية ما يطلبه كل عاقل ، ثم قال : {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعني غفور في الدنيا يستر على العبد أنواع المعاصي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 17}
فائدة
قال الشنقيطى :
قوله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } الآية.
صرح تعالى : في هذه الآية الكريمة أن اتباع نبيه موجب لمحبته جلا وعلا ذلك المتبع ، وذلك يدل على أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعته تعالى ، وصرح بهذا المدلول في قوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] وقال تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ].
تنبيه : يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم ، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر. إذ لو كان محباً له لأطاعه ، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة ومنه قول الشاعر :
لو كان حبك صادقاً لأطعته... إن المحب لمن يحب مطيع
وقول ابن أبي ربيعة المخزومي :
ومن لو نهاني من حبه... عن الماء عطشان لم أشرب
وقد أجاد من قال :
قالت : وقد سألت عن حال عاشقها... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت : لو كان رهن الموت من ظمأ... وقلت : قف عن ورود الماء لم يرد. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 224}(12/366)
من فوائد البيضاوى فى الآية
قال رحمه الله :
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني } المحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه ، بحيث يحملها على ما يقربها إليه ، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله ، وأن كل ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبه إلا لله وفي الله وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه ، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته والحرص على مطاوعته. { يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } جواب للأمر أي يرضَ عنكم ويكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جناب عزه ويبوئكم في جوار قدسه ، عبر عن ذلك بالمحبة على طريق الاستعارة أو المقابلة. { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تحبب إليه بطاعته واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 27 ـ 28}(12/367)
ومن فوائد الآلوسى :
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى } ذهب عامة المتكلمين إلى أن المحبة نوع من الإرادة وهي لا تتعلق حقيقة إلا بالمعاني والمنافع فيستحيل تعلقها بذاته تعالى وصفاته فهي هنا بمعنى إرادة العبد اختصاصه تعالى بالعبادة وذلك إما من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أو من باب الاستعارة التبعية بأن شبه إرادة العبد ذلك ورغبته فيه بميل قلب المحب إلى المحبوب ميلاً لا يلتفت معه إلا إليه أو من باب مجاز النقص أي إن كنتم تحبون طاعة الله تعالى أو ثوابه فاتبعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه كذا قيل ، وهو خلاف مذهب العارفين من أهل السنة والجماعة فإنهم قالوا : المحبة تتعلق حقيقة بذات الله تعالى وينبغي للكامل أن يحب الله سبحانه لذاته وأما محبة ثوابه فدرجة نازلة ، قال الغزالي عليه الرحمة في "الإحياء" : الحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي يسمى عشقاً ، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب فإذا قوي سمي مقتاً ، ولا يظن أن الحب مقصور على مدركات الحواس الخمس حتى يقال : إنه سبحانه لا يدرك بالحواس ولا يتمثل بالخيال فلا يحب لأنه صلى الله عليه وسلم سمى الصلاة قرة عين وجعلها أبلغ المحبوبات ، ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ بل حس سادس مظنته القلب والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكاً من العين وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار فتكون لا محالة لذة القلوب بما تدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى ، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة فلا ينكر إذاً حب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درج البهائم فلم يجز إدراكه الحواس أصلاً ، نعم هذا الحب يستلزم الطاعة كما قال الوراق :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه... هذا لعمري في القياس بديع(12/368)
لو كان حبك صادقاً لأطعته... إن المحب لمن يحب مطيع
والقول بأن المحبة تقتضي الجنسية بين المحب والمحبوب فلا يمكن أن تتعلق بالله تعالى ساقط من القول لأنها قد تتعلق بالأعراض بلا شبهة ولا جنسية بين العرض والجوهر.
{ يُحْبِبْكُمُ الله } جواب الأمر وهو رأي الخليل. وأكثر المتأخرين على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر أي إن تتبعوني يحببكم أي يقربكم رواه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة ، وقيل : يرض عنكم وعبر عن ذلك بالمحبة على طريق المجاز المرسل أو الاستعارة أو المشاكلة ، وجعل بعضهم نسبة المحبة لله تعالى من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى.
{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي يتجاوز لكم عنها { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لمن تحبب إليه بطاعته وتقرب إليه باتباعه نبيه صلى الله عليه وسلم ، والجملة تذييل مقرر لما سبق مع زيادة وعد الرحمة ، ووضع الاسم الجليل مع الإضمار لما مر وللاشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة ، وقرىء تحبوني ، ويحبكم ، ويحببكم من حبه ، ومنه قوله :
أحب أبا ثروان من حب تمره... وأعلم أن الرفق بالجار أرفق
ووالله لولا تمره ما حببته... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق(12/369)
ومناسبة الآية لما قبلها كما قال الطيبي : أنه سبحانه لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله جل وعلا : { قُلِ اللهم مالك الملك } [ آل عمران : 26 ] الخ تعلق قلب العبد المؤمن بمولى عظيم الشأن ذي الملك والملكوت والجلال والجبروت ، ثم لما ثنى بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير بقوله عز قائلاً : { لا يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء } [ آل عمران : 28 ] الخ ؛ ونبه على استئصال تلك الموالاة بقوله عز شأنه : { إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } [ آل عمران : 29 ] الآية وأكد ذلك بالوعيد الشديد زاد ذلك التعلق أقصى غايته فاستأنف قوله جل جلاله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله } ليشير إلى طريق الوصول إلى هذا المولى جل وعلا فكأن قائلاً يقول : بأي شيء ينال كمال المحبة وموالاة الرب ؟ فقيل : بعد قطع موالاة أعدائنا تنال تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه مسدود وكل عمل سوى ما أذن به مردود. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 129 ـ 130}
وقال ابن كثير :
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله ، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر ، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عليه أمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ" ولهذا قال : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } أي : يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه ، وهو محبته إياكم ، وهو أعظم من الأول ، كما قال بعض الحكماء العلماء : ليس الشأن أن تُحِبّ ، إنما الشأن أن تُحَبّ. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 32}(12/370)
وقال السعدى :
هذه الآية فيها وجوب محبة الله ، وعلاماتها ، ونتيجتها ، وثمراتها ، فقال { قل إن كنتم تحبون الله } أي : ادعيتم هذه المرتبة العالية ، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى ، بل لا بد من الصدق فيها ، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله ، في أقواله وأفعاله ، في أصول الدين وفروعه ، في الظاهر والباطن ، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى ، وأحبه الله وغفر له ذنبه ، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته ، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى ، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله ، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها ، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها ، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق ، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله ، وما نقص من ذلك نقص. أ هـ {تفسير السعدى صـ 128}
لطيفة
قال الثعالبى :
: قال الشيخُ العارفُ باللَّه ابْنُ أبي جَمْرَةَ ( رضي اللَّه عنه ) : مِنْ علامةِ السعادةِ للشخْصِ : أنْ يكون مُعْتَنِياً بمعرفة السُّنَّة في جميعِ تصرُّفاته ، والذي يكونُ كذلك هو دائمٌ في عبادة ؛ في كلِّ حركاته وسكناته ، وهذا هو طريق أهل الفَضْلِ ؛ حتى حُكِيَ عن بعضهم ؛ أنه لم يأكُلِ البطِّيخَ سنين ؛ لَمَّا لَمْ يبلُغْه كيفيَّةُ السُّنَّة في أَكْله ، وكيف لاَ ، واللَّه سبحانه يَقُولُ : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } والاِتباعية الكاملةُ إِنما تصحُّ بأنْ تكون عامَّة في كلِّ الأشياء ، يعني : إِلا ما خصَّصه به الدليلُ ، جعلنا اللَّه من أهْلها في الدَّارَيْن. انتهى.(12/371)
قال عِيَاضٌ : اعلم أَنَّ مَنْ أَحبَّ شيئاً ، آثره ، وآثر موافقته ، وإِلا لم يكن صادقاً في حُبِّه ، وكان مدَّعياً ، فالصادقُ في حبِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، مَنْ تظهر علاماتُ ذلك عليه ، وأولُها الاِقتداءُ به ، واتباع سنَّته ، واتباع أقوالِهِ وأفعالِهِ ، والتأدُّبُ بآدابه في عُسره ويُسْره ؛ قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني.
.. } الآية ، قال عِيَاضٌ : رُويَ في الحديثِ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنَّهُ قَالَ : " مَنِ استمسك بِحَدِيثِي ، وَفَهِمَهُ وَحَفِظَهُ ، جَاءَ مَعَ القُرْآنِ ، وَمَنْ تَهَاوَنَ بالقُرْآنِ ، وَحَدِيثِيَ ، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ... " الحديثَ ، وعن أبي هريرةَ ( رضي اللَّه عنه ) ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " المُسْتَمْسِكُ بسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي ، لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ " ، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : " عليكُمْ بالسبيلِ والسُّنَّةِ ، فإِنه ما على الأرضِ مِنْ عَبْدٍ على السبيل والسُّنَّة ، ذَكَر اللَّه في نَفْسِهِ ، ففاضَتْ عيناه مِنْ خَشْية ربه ، فيعذِّبه اللَّه أبداً ، وما على الأرضِ مِنْ عبدٍ على السبيلِ والسُّنَّةِ ، ذَكَرَ اللَّه في نَفْسه ، فاقشعر جِلْدُهُ مِنْ خَشْية اللَّه ، إلا كان مَثَلُهُ كَمَثَلِ شجرة ، قَدْ يَبِسَ ورَقُهَا ، فهي كَذَلِكَ ؛ إِذ أصابتها ريحٌ شديدةٌ فتحاتَّ عنها ورقُها إِلاَّ حَطَّ اللَّه عنه خَطَايَاهُ ؛ كما تَحَاتَّ عن الشجرة وَرَقُهَا " الحديث.
(12/372)
قال عِيَاضٌ : ومن علامات محَبَّته صلى الله عليه وسلم : زُهْدُ مدَّعيها في الدُّنْيا ، وإِيثاره الفَقْر ، واتصافه به ؛ ففي حديثِ أبي سَعِيدٍ : " إِنَّ الفَقْرَ إلى مَنْ يُحِبُّنِي مِنْكُمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ مِنْ أَعْلَى الوَادِي ، أَوِ الجَبَل إلى أَسْفَلِهِ " ، وفي حديثِ عبدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ : " قال رجُلٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : "يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إٍنِّي أُحِبُّكَ ، فَقَالَ : انظر مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : وَاللَّهِ لأُحِبُّكَ" ؛ ثَلاَثَ مَرَّات ؛ قَالَ : "إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي ، فَأَعِدَّ لِلفَقْرِ تَجْفَافاً" " ، ثم ذكر نَحْوَ حديثِ أبِي سَعِيدٍ بمعناه. أهـ من "الشِّفَا". أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 258}. بتصرف يسير.
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
قيل : وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة وفنون البلاغة الخطاب العام الذي سببه خاص.
وفي قوله { لا يتخذ المؤمنون الكافرين } والتكرار ، في قوله : المؤمنون من دون المؤمنين ، وفي قوله : من الله ، ويحذركم الله نفسه ، وإلى الله ، وفي : يعلمه الله ، ويعلم ، وفي قوله : يعلمه الله ، والله على ، وفي قوله : ما عملت ، وما عملت ، وفي قوله : الله نفسه ، والله ، وفي قوله : ويحذركم الله ، والله روؤف ، وفي قوله : تحبون الله ، يحببكم الله ، والله غفور ، قل أطيعوا الله ، فإن الله.
والتجنيس المماثل في : تحبون ويحببكم ، والتجنيس المغاير ، في : تتقوا منهم تقاه ، وفي يغفر لكم وغفور.
والطباق في : تخفوا وتبدوه ، وفي : من خير ومن سوء ، وفي : محضراً وبعيداً.
والتعبير بالمحل عن الشيء في قوله : ما في صدوركم ، عبر بها عن القلوب ، قال تعالى : { فإنها لا تعمى الأبصار } الآية.
والإشارة في قوله : ومن يفعل ذلك ، الآية.
أشار إلى انسلاخهم من ولاية الله.
والاختصاص في قوله : ما في صدوركم ، وفي قوله : ما في السموات وما في الأرض.
والتأنيس بعد الإيحاش في قوله : والله رؤوف بالعباد. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 449}(12/373)
فصل في معنى المحبة للنبى صلى الله عليه وسلم وحقيقتها
قال القاضى عياض رحمه الله :
اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنها اختلاف أحوال فقال سفيان المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه التفت إلى قوله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) الآية، وقال بعضهم محبة الرسول اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته، وقال بعضهم المحبة دوام الذكر للمحبوب، وقال آخر: إيثار المحبوب، وقال بعضهم المحبة الشوق إلى المحبوب، وقال بعضهم المحبة مواطأة القلب لمراد الرب يحب ما أحب ويكره ما كره، وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة الذيذة وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف
المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدى إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واخترام النفوس أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم
جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة.
أما جمال الصورة والظاهر وكمال الأخلاق والباطن فقد قررنا منها قبل فيما مر من الكتاب مالا يحتاج إلى زيادة.(12/374)
وأما إحسانه وإنعامه على أمته فكذلك قد مر منه في أوصاف الله تعالى له من رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليهم واستنقاذهم به من النار وأنه بالمؤمنين رؤف رحيم ورحمة للعالمين ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأى إحسان أجل قدرا وأعظم خطرا من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأى إفضال أعم منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين ؟ إذ كان ذريعتهم إلى الهداية ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة ووسيلتهم إلى ربهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمد فقد استبان لك أنه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقة شرعا بما قدمناه من صحيح الآثار وعادة وجبلة بما ذكرناه آنفا لإفاضته الإحسان وعمومه الإجمال، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفا أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذى بها قليل منقطع فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال على غاية مراتب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل، وقد قال على رضى الله عنه في صفته صلى الله عليه وسلم من رآه
بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه وذكرنا عن بعض الصحابة أنه كان لا يصرف بصره عنه محبة فيه. أ هـ {الشفا حـ 2 صـ 29 ـ 31}(12/375)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{ تُحِبُّونَ اللهَ } فرق ، و{ يُحْبِبْكُمُ اللهُ } جمع.
{ تُحِبُّونَ اللهَ } مشوب بالعلة ، و{ يُحْبِبْكُمُ اللهُ } بِلا عِلّة ، بل هو حقيقة الوصلة. ومحبة العبد لله حالة لطيفة يجدها من نفسه ، وتحمله تلك الحالة على موافقة أمره على الرضا دون الكراهية ، وتقتضي منه تلك الحالة إيثاره - سبحانه - على كل شيء وعلى كل أحد.
وشرطُ المحبةِ ألا يكون فيها حظٌّ بحال ، فَمنْ لم يَفْنَ عن حظوظه بالكلِّية فليس له من المحبة شظيَّة.
ومحبة الحق للعبد إرادته إحسانَه إليه ولطفَه به ، وهي إرادةُ فضلٍ مخصوص ، وتكون بمعنى ثنائه سبحانه عليه ومدحه له ، وتكون بمعنى فضله المخصوص معه ، فعلى هذا تكون من صفات فعله.
ويقال شرط المحبة امتحاء كليتك عنك لاستهلاكك في محبوبك ، قال قائلهم :
وما الحبُّ حتى تنزف العين بالبكا... وتخرس حتى لا تجيب المناديا
وهذا فرق بين الحبيب والخليل ؛ قال الخليل : { فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى } [ إبراهيم : 36 ].
وقال الحبيبُ : { فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ }.
فإن كان مُتَّبعُ الخليل " منه " إفضالاً فإن متابعَ الحبيبِ محبوبُ الحقِّ سبحانه ، وكفى بذلك قربة وحالاً.
ويقال قطع أطماع الكافة أن يسلم لأحدٍ نفس إلا ومقتداهم وإمامهم سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقال في هذه الآية إشارة إلى أن المحبة غير معلولة وليست باجتلاب طاعة ، أو التجرد عن آفة لأنه قال : { يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } بيَّن أنه يجوز أن يكون عبد له فنون كثيرة ثم يحبُّ اللهَ ويحبُّه الله.(12/376)
ويقال قال أولاً : { يُحْبِبْكُمُ اللهُ } ثم قال : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } والواو تقتضي الترتيب ليُعْلَمَ أَنَّ المحبةَ سابقةٌ على الغفران ؛ أولاً يحبهم ويحبونه ( وبعده ) يغفر لهم ويستغفرونه ، فالمحبة توجِب الغفران لأن العفو يوجب المحبة.
والمحبة تشير إلى صفاء الأحوال ومنه حَبَبُ الأسنان وهو صفاؤها.
والمحبة توجب الاعتكاف بحضرة المحبوب في السر.
ويقال أحب البعير إذا استناخ فلا يبرح بالضرب.
والحبُّ حرفان حاء وباء ، والإشارة من الحاء إلى الروح ومن الباء إلى البَدَن ، فالمُحِبُّ لا يَدَّخِر عن محبوبه لا قلبَه ولا بَدَنَه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 235 ـ 236}(12/377)
لطيفة
قال ابن رجب :
قول " لا إله إلا الله " تقتضي أن لا يحب سواه فإن الإله هو الذي يطاع فلا يعصي محبة وخوفا ورجاء ومن تمام محبته محبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه فمن أحب شيئا مما يكرهه الله أو كره شيئا مما يحبه الله لم يكمل توحيده وصدقه في قول لا إله إلا الله وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله وما أحبه مما يكرهه الله
قال الله تعالى {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}
قال الليث عن مجاهد في قوله {لا يشركون بي شيئا} قال لا يحبون غيري
وفي صحيح الحاكم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن تحب على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل
وهل الدين إلا الحب والبغض
قال الله عز وجل {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}
وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى والموالاة على ذلك والمعاداة فيه من الشرك الخفي
وقال الحسن : اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته ، وسئل ذو النون متى أحب ربي ؟
قال إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر
وقال بشر بن السري ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك
وقال أبو يعقوب النهر جوري كل من ادعى محبة الله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة
وقال يحيى بن معاذ : ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده
وقال رويم المحبة الموافقة في جميع الأحوال وأنشد ... ولو قلت لي مت قلت سمعا طاعة ... وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا ...
ويشهد لهذا المعنى أيضا قوله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}
قال الحسن قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نحب ربنا حبا شديدا فأحب الله أن يجعل لحبه علما فأنزل الله تعالى هذه الآية(12/378)
ومن هاهنا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدا رسول الله فإنه إذا علم أنه لا تتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه فلا طريق إلى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا من جهة محمد المبلغ عن الله ما يحبه وما يكرهه باتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه فصارت محبة الله مستلزمة لمحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ومتابعته ولهذا قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم} إلى قوله {أحب إليكم من الله ورسوله} كما قرن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة
وقال صلى الله عليه وسلم : ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقده منه كما يكره أن يلقى في النار
هذه حال السحرة لما سكنت المحبة قلوبهم سمحوا ببذل النفوس وقالوا لفرعون {اقض ما أنت قاض}
ومتى تمكنت المحبة في القلب لم تنبعث الجوارح إلا إلى طاعة الرب وهذا هو معنى الحديث الآلهي الذي خرجه البخاري في صحيحه وفيه : ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها
وقد قيل إن في بعض الروايات فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي
والمعنى أن محبة الله إذا استغرق بها القلب واستولت عليه لم تنبعث الجوارح إلا إلى مراضي الرب وصارت النفس حينئذ مطمئنة بارادة مولاها عن مرادها وهواها
يا هذا اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله على حرف إن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ومتى قويت المعرفة والمحبة لم يرد صاحبها إلا ما يريد مولاه(12/379)
وفي بعض الكتب السالفة : من أحب الله لم يكن شيء عنده آثر من رضاه ومن أحب الدنيا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال : ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة الله أو على معصيته فإن كانت طاعة تقدمت وإن كانت معصية تأخرت
هذا حال خواص المحبين الصادقين فافهموا رحمكم الله هذا فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة. أ هـ {كلمة الإخلاص صـ 29 ـ 36}(12/380)
فصل
المحبة من أعلى مقامات العارفين، وهي إيثار من اللّه تعالى لعباده المخلصين ومعها نهاية الفضل العظيم، قال اللّه جلت قدرته: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُونَهُ) المائدة:54 ثم قال تعالى: (ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤتيهِ مَنْ يَشاءُ) الحديد:21 وهذا الخبر متصل بالابتداء في المعنى لأنّ اللّه تعالى وصف المؤمنين المحبين بفضله عليهم، وما اعترض بينهما من الكلام فهو نعت المحبوبين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما كان اللّه ليعذب حبيبه بالنار، وقال اللّه عزّ وجلّ مصداق قول نبيه عليه السلام، ردّاً على من ادعى محبته واحتجاجاً عليهم: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذنُوبِكُمْ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) المائدة: 18 وقال زيد بن أسلم: إنّ اللّه ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول: اصنع ماشئت فقد غفرت لك، وروينا عن إسماعيل بن أبان عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إذا أحب اللّه عبداً لم يضره ذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ثم تلا: إنّ اللّه يحب التوّابين ويحب المتطهرين، وقد اشترط اللّه للمحبة غفران الذنوب بقوله تعالى: (يُحْبِبْكُمْ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) آل عمران:31 فكل مؤمن باللّه فهو محب للّه، ولكن محبته على قدر إيمانه، وكشف مشاهدته وتجلي المحبوب له على وصف من أوصافه، دليل ذلك استجابتهم له بالتوحيد والتزام أمره وتسليم حكمه، ثم تفاوتهم في مشاهدات التوحيد، وفي دوام الالتزام للأوامر وفي تسليم الأحكام، فليس ذلك يكون إلا عن محبة، وإنّ تفاوت المحبون على حسب أقسامهم من المحبوب، وليس يقصر عن المحبة صغير كما لا يصغر عن المعرفة من عرف، ولا يكبر عن التوبة كبير ولو كان على كل العلوم قد أوقف، لأنّ اللّه تعالى وصف المؤمنين بشدة الحبّ له فقال تعالى: (وَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للّه) البقرة:165 وفي قوله أشدّ دليل على تفاوتهم في المحبة لأنّ المعنى أشدّ فأشدّ ولم يقل(12/381)
شديد، والحب للّه، فأشبه هذا الخطاب قوله تعالى:(إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ) الحجرات: 13 فدلّ على تفاوتهم في الإكرام على قدر تفاضلهم في التقوى ولم يقل: إنّ الكرام المتقون.
وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ اللّه يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، فالمؤمنون متزايدون في الحبّ للّه عزّ وجلّ عن تزايدهم في المعرفة به والمشاهدة له، وقد جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الحبّ للّه من شرط الإيمان قال: أن يكون اللّه ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وفي حديث: لا يؤمن أحدكم حتى يكون اللّه ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وفي خبر آخر أشدّ توكيداً وأبلغ من هذين قوله: واللّه، لا يؤمن العبد حتى أكون أحبّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين، وفي خبر آخر: ومن نفسك، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالمحبة للّه فيما شرعه من الأحكام فقال أحبّوا اللّه لما أسدى إليكم من نعمه، وأحبّوني لحبّ اللّه، فدلّ ذلك على فرض الحبّ للّه وإنّ تفاضل المؤمنون في نهايات فضائله، ومن أفضل ما أسدى إلينا من نعمه المعرفة به، فأفضل الحبّ له ما كان عن المشاهدة، والمحبون للّه على مراتب من المحبة؛ بعضها أعلى من بعض، فأشدهم حبّاً للّه أحسنهم تخلقاً بأخلاقه مثل العلم والحلم والعفو وحسن الخلق، والستر على الخلق، وأعرفهم بمعاني صفاته وأتركهم منازعة له في معاني الصفات كي لا يشركوه فيها، مثل الكبر والحمد وحب المدح وحب الغنى والعز وطلب الذكر، ثم أشدهم حبّاً لرسوله إذ كان حبيب الحبيب وأتبعهم لآثاره أشبعهم هدياً لشمائله، وقد روي أنّ رجلاً قال: يا رسول اللّه إني أحبك فقال: استعد للفقر فقال: إني أحبّ اللّه فقال: استعد للبلاء، والفرق بينهما أن البلاء من أخلاق المبلي وهو اللّه تعالى المبتلي، فلما ذكر محبته أخبره بالبلاء ليصبر على أخلاقه، كما قال تعالى:(ولِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) المدثر:7 فدل على أحكامه وبلائه، والفقر من أوصاف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فلما ذكر محبته دله على اتباع أوصافه ليقتفي آثاره(12/382)
ومن علامة المحبة كثرة ذكر الحبيب، وهو دليل محبة المولى لعبده وهو من أفضل مننه على خلقه، وفي الخبر أنّ للّه في كل يوم صدقة يمنّ بها على خلقه، وما تصدق على عبد بصدقة أفضل من أن يلهمه ذكره.
وفي حديث سفيان عن مالك بن معول قيل: يارسول اللّه، أي الأعمال أفضل؟ قال: اجتناب المحارم، ولا يزال فوك رطباً من ذكر اللّه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة الذكر للّه كما أمر بمحبة اللّه، لأن الذكر مقتضى المحبة فقال: أكثر من ذكر اللّه حتى يقول الناس إنك مجنون، وقد روينا: أكثروا من ذكر اللّه حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون، وفي حديث أبي سلمة المدني عن أبيه عن جده: أتانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلى مسجد قباء، فذكر حديثاً فيه طول قال في آخر: من تواضع للّه رفعه ومن تكبر وضعه، ومن أكثر ذكر اللّه أحبه اللّه، وقد أخبر أنّ الذاكرين هم السابقون المفردون، ورفعهم إلى مقام النبوّة في وضع الوزر، ورفع الذكر إن كان الذكر موجب الحبّ في قوله: سيروا سبق المفردون، قيل: مَنْ المفردون؟ قال: المستهترون بذكر اللّه، وضع الذكر عنهم أوزارهم يردون القيامة خفافاً، ومن أعلام المحبة: حبّ لقاء الحبيب على العيان، والكشف في دار السلام ومحل القرب وهو الاشتياق إلى الموت، لأنه مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المعاينة، وفي الحديث: من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه، وقال حذيفة عند الموت: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، وقال بعض السلف ما من خصلة أحبّ إلى اللّه تكون فيّ لعبد بعد حبّ لقائه من كثرة السجود، فقدم حبّ لقاء اللّه وقد شرط اللّه لحقيقة الصدق القتل في سبيله، وأخبر أنه يحب قتل محبوبه في قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبيلِهِ صَفّاً كَأنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) الصف:4، بعد قوله تقريراً لهم: لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟ حيث قالوا: إنّا نحبّ اللّه، فجعل القتل محنة محبته وعلامة أخذ مال محبوبه ونفسه، إذ يقول تعالى: (يُقَاتِلُونَ في سَبيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) التوبة:111، وفي وصية أبي بكر لعمر رضي اللّه عنهما: الحق ثقيل وهو مع ثقله مريء، والباطل خفيف(12/383)
وهو مع خفته وبيء؛ فإن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحبّ إليك من الموت وهو مدرك، وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجزه، وكان الثوري وبشر بن الحرث يقولان: لا يكره الموت إلا مريب، وهو كما قالا: لأن الحبيب على كل حال لا يكره لقاء الحبيب، وهذا لا يجده إلا عبد يحبّ اللّه بكل قلبه، عندها يشتاق إليه مولاه فينزعج القلب لشوق الغيب، فيحبّ لقاءه، وروي أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن زمعة لما تبنى سالماً مولاه، عاتبته قريش في ذلك وقالوا: أنكحت عقيلة من عقائل قريش بمولى فقال: واللّه، لقد أنكحته إياها وأني لأعلم أنه خير منها، فكان قوله أشد عليهم قالوا: وكيف؟ وهي أختك وهو مولاك فقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: من أراد أن ينظر إلى رجل يحب اللّه بكل قلبه فلينظر إلى سالم، فمن الدليل أنّ من المؤمنين من يحبّ اللّه ببعض قلبه فيؤثره بعض الإيثار، ويوجد فيه محبة الاعتبار، ومنهم من يحبه بكل قلبه فيؤثره على ما سواه، فهذا عابده ومألوهه الذي لا معبود له ولا إله إياه، وفيه دليل على أنهم على مقامات المحبة عن معاني مشاهدات الصفات ما بين البعض في القلوب والكلية، وقد كان نعيمان يؤتي به رسوله اللّه صلى الله عليه وسلم فيجده في معصية يرتكبها إلى أن أتى به يوماً فحده فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا تفتعل فإنّه يحب اللّه ورسوله، فلم يخرجه من المحبة مع المخالفة. أ هـ {قوت القلوب صـ 445 ـ 447}(12/384)
لطيفة :
سئل الحارث المحاسبى رحمه الله :
ما علامة محبة الله للعبد؟ - فقال للسائل: ما الذي كشف لك عن طلب علم هذا؟ فقال: قوله تعالى: " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " . " آل عمران 31 " . فعلمت أن علامة محبة الله اتباع رسوله. ثم قال: " يحببكم الله " . فما علامة محبة الله للعبد؟ فقال: لقد سألت عن شيء غاب عن أكثر القلوب، إن علامة محبة الله للعبد أن يتولى الله سياسة همومه فيكون في جميع أموره هو المختار لها، ففي الهموم التي لا تعترض عليها حوادث القواطع، ولا تشير إلى التوقف لأن الله هو المتولي لها، فأخلاقه على السماحة، وجوارحه على الموافقة، يصرخ به ويحثه بالتهدد والزجر، فقال السائل: وما الدليل على ذلك؟ فقال: خبر النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أحب الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه، يأمره وينهاه " ، فقال السائل: زدني من علامة محبة الله للعبد. قال: ليس شيء أحب إلى الله من أداء الفرائض بما دعة من القلب والجوارح، والمحافظة عليها، ثم بعد ذلك كثرة النوافل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: ما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته " فقال السائل: رحمك الله، صف لي من علامات وجود قلبه. قال: محبوسة يا فتى في سر الملاطفة، مخصوصة بعلم المكاشفة، مقلبة بتنعم النظر في مشاهدة الغيب، وحجاب العز، ورفعة المنعة، فهي القلوب التي أسرت أوهامها بعجب نفاذ اتقان الصنع، فعندها تصاعدت المنى، وتواترت على جوارحها فوائد الغنى، فانقطعت النفوس عن كل ميل إلى راحة، وانزعجت الهموم وفرت من الرفاهة، فنعمت بسرائر الهداية وعلمت طرق الولاية، وغذيت من لطيف الكفاية وأرسلت في روضة البصيرة، وأحلت القلوب محلاً نظرت فيه بلا عيان، وجالت بلا مشاهدة، وخوطبت بلا مشافهة. فهذا يا فتى صفة أهل(12/385)
محبة الله من أهل المراقبة والحياء والرضا والتوكل. فهم الأبرار من العمال، وهم الزهاد من العلماء، وهم الحكماء من النجباء، وهم المسارعون من الأبرار، وهم دعاة الليل والنهار، وهم أصحاب صفاء التذكار وأصحاب الفكر والاعتبار، وأصحاب المحن والاختبار. هم قوم أسعدهم الله بطاعته وحفظهم برعايته، وتولاهم بسياسته، فلم تشتد لهم همة، ولم تسقط لهم إرادة. همومهم في الجد والطلب، وأرواحهم في النجاة والهرب، يستقلون الكثير من أعمالهم، ويستكثرون القليل من نعم الله عليهم، إن أنعم عليهم شكروا، وإن منعوا صبروا، يكاد يهيج منهم صراخ إلى مواطن الخلوات، ومعابر العبر والآيات، فالحسرات في قلوبهم تتردد، وخوف الفراق في قلوبهم يتوقد، نعم يا فتى، هؤلاء قوم أذاقهم الله طعم محبته، ونعمهم بدوام العذوبة في مناجاته، فقطعهم ذلك عن الشهوات، وجانبوا اللذات، وداموا في خدمة من له الأرض والسموات، فقد اعتقدوا الرضا قبل وقوع البلا، ومنقطعين عن إشارة النفوس، منكرين للجهل المأسوس، طاب عيشهم ودام نعيمهم، فعيشهم سليم، وغناهم في قلوبهم مقيم، كأنهم نظروا بأبصار القلوب إلى حجب الغيوب، فقطعوا وكان الله المنى والمطلوب، دعاهم إليه فأجابوه بالحث والجد ودوام السير، فلم تقم لهم أشغال إذ استبقوا دعوة الجبار، فعندها يا فتى غابت عن قلوبهم أسباب الفتنة بدواهيها، وظهرت أسباب المعرفة بما فيها، فصار مطيتهم إليه الرغبة، وسائقهم الرهبة، وحاديهم الشوق، حتى أدخلهم في رق عبوديته، فليس تلحقهم فترة في نية، ولا وهن في عزم، ولا ضعف في حزم، ولا تأويل في رخصة، ولا ميل إلى دواعي غرة. قال السائل: أرى هذا مراداً بالمحبة. قال: نعم يا فتى، هذه صفة المرادين بالمحبة. فقال: كيف المحن على هؤلاء؟ فقال: سهلة في علمها، صعبة في اختبارها، فمنحهم على قدر قوة إيمانهم. قال: فمن أشدهم محناً؟ قال: أكثرهم معرفة وأقواهم يقيناً وأكملهم إيماناً. كما جاء في الخبر: " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " . أ هـ {حلية الأولياء حـ 10 صـ 99 ـ 101}(12/386)
قوله تعالى { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نفى عمن تولى أن يحبه كان في إشعارة أن هذا الكفر عموم كفر يداخل رتباً من الإيمان من حيث نفي عنه الحب فنفي منه ما يناله العفو أو المغفرة والرحمة ونحو ذلك بحسب رتب تناقص الكفر ، لأنه كفر دون كفر ، ومن فيه كفر فهو غير مستوفي اتباع الرسول بما أنه الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وإنما يحب الله من اتبع رسوله ، فعاد الختم في الخطاب إلى إشعار من معنى أوله وفي إلاحته أن حب الله للعبد بحسب توحيده ، فكلما كان أكمل توحيداً كان أحب ، وما سقط عن رتبة أدنى التوحيد الذي هو محل الأمر بطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كان كفراً بحسب ما يغطى على تلك الرتبة من التوحيد ، لأن هذه السورة سورة إلهية إيمانية حبية توحيدية ، فخطابها مخصوص بما يجري في حكم ذلك من الإيمان والكفر والمحكم والمتشابه وكشف غطاء الأعين ورفع حجب القلوب - انتهى.
وقد وضح أن الآية من الاحتباك - فأصل نظمها : فإن تولوا فإن الله لا يحبهم لكفرانهم ، وإن أقبلوا فإن الله يحبهم لإيمانهم ، فإن الله لا يحب الكافرين والله يحب المؤمنين - إثبات التولية في الأول يدل على حذف الإقبال من الثاني ، إثبات الكراهة في الثاني يدل على حذف مثلها في الأول.(12/387)
ولما كان الأصفياء أخص من مطلق الأحباب بين بعض الأصفياء وما أكرمهم به تصديقاً لقوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الشريف " فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها " تنبيهاً لوفد نصارى نجران وغيرهم على أنه مثل ما اصطفى لنفسه ديناً اصطفى للتخلق به ناساً يحبونه ويطيعونه ويوالون أولياءه ويعادون أعداءه ، وليسوا من صفات الكافرين في شيء فقال - أو يقال : إنه سبحانه وتعالى لما شبه أفعاله في التشابه وغيره بأقواله وعرف أن الطريق الأقوم رد المتشابه منها إلى الواضح المحكم والالتجاء في كشف المشكل إليه مع الاعتقاد الجازم المستقيم ، وبين أن الموقف عن هذا الطريق الأقوم الوقوف مع العرض الدنيوي مع الرئاسة وغيرها وألف الدين مع التعلل فيه بالتمني الفارغ ، وأنهى ذلك وتوابعه إلى أن ختم بتهديد من تولى عن الحق أخذ في تصوير تصويره في الأرحام كيف شاء بما شوهد من ذلك ولم يشك فيه من أحوال أناس هم من خلص عباده المقبلين على ما يرضيه فقال : أو يقال ولعله أحسن : ولما أخبر سبحانه وتعالى أن أهل الكتاب ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم فكفروا بذلك ، وألحق به ما تبعه إلى أن ختم بالأمر باتباع الرسول وبأنه لا يحب الكافرين بالتولي عن رسله اشتد تشوف النفس إلى معرفة الرسل الآتين بالعلم الذين توجب مخالفتهم الكفر فبينهم بقوله : وقال الحرالي : لما كان منزل هذه السورة لإظهار المحكم والمتشابه في الخلق والأمر قدم سبحانه وتعالى بين يدي إبانة متشابه خلق عيسى عليه الصلاة والسلام وجه الاصطفاء المتقدم للآدمية ومن منها من الذرية لتظهر معادلة خلق عيسى عليه الصلاة والسلام آخراً لمتقدم خلق آدم عليه الصلاة والسلام أولاً ، حتى يكونا مثلين محيطين بطرفي الكون في علو ورحه ودنو أديم تربته وأنه سبحانه وتعالى نزل الروح إلى الخلق الآدمي كما قال {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً(12/388)
وللبسنا عليهم ما يلبسون} [ الأنعام : 9 ] وظهر أثر ذلك اللبس بما وقع لأهل الزيغ في عيسى كما أنه رقى الخلق الطيني رتبة رتبة إلى كمال التسوية إلى أن نفخ فيه من روحه ، فكان ترقي الآدمي إلى النفخة لتنزل الروح إلى الطينة الإنسانية التي تم بها وجود عيسى عليه الصلاة والسلام كما كمل وجود آدم عليه الصلاة والسلام بالنفخة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 64 ـ 66}
فصل
قال الفخر :
يروى أنه لما نزل قوله {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} الآية قال عبد الله بن أُبي : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ، فنزلت هذه الآية ، وتحقيق الكلام أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ، ثم إن المنافق ألقى شبهة في الدين ، وهي أن محمداً يدعي لنفسه ما يقوله النصارى في عيسى ، ذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لتلك الشبهة ، فقال : {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} يعني إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولاً من عند الله ، ولما كان مبلغ التكاليف عن الله هو الرسول لزم أن تكون طاعته واجبة فكان إيجاب المتابعة لهذا المعنى لا لأجل الشبهة التي ألقاها المنافق في الدين.
ثم قال تعالى : {فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} يعني إن أعرضوا فإنه لا يحصل لهم محبة الله ، لأنه تعالى إنما أوجب الثناء والمدح لمن أطاعه ، ومن كفر استوجب الذلة والإهانة ، وذلك ضد المحبة ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 17}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { فإِن تَوَلَّوْاْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مضارعاً ، والأصل " تَتَوَلُّوْا " فحذف إحدى التاءين كما تقدم ، وعلى هذا ، فالكلام جارٍ على نسق واحدٍ ، وهو الخطاب.(12/389)
والثاني : أن يكون فعلاً ماضيا مسنداً لضمير غيب ، فيجوز أن يكون من باب الالتفاتِ ، ويكون المراد بالغُيَّبِ المخاطبين في المعنى ، ونظيره قوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 158}
فائدة أخرى
قال البيضاوى :
{ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم ، وإنما لم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أن التولي كفر ، وإنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 28}
من فوائد الآلوسى فى الآية :
{ قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } أي في جميع الأوامر والنواهي ويدخل في ذلك الأمر السابق دخولاً أولياً ، وإيثار الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والاشعار بعلتها ، وفيه إشارة إلى ردّ شبهة المنافق كأنه يقول : إنما أوجب الله تعالى عليكم متابعتي لا لما يقول النصارى في عيسى بل لكوني رسول الله { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا أو تعرضوا على أن تكون إحدى التائين محذوفة فيكون حينئذ داخلاً في حيز المقول وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة تلويح إلى أنها غير محتملة منهم { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } أي لا يقربهم أو لا يرضى عنهم بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظائر عزه ويسخط عليهم يوم رضاه عن المؤمنين. والمراد من الكافرين من تولى ولم يعبر بضميرهم للإيذان بأن التوالي عن الطاعة كفر وبأن محبته عز وجل مخصوصة بالمؤمنين لأن نفيها عن هؤلاء الكفار المستلزم لنفيها عن سائرهم لاشتراك العلة يقتضي الحصر في ضدهم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 130}
وقال ابن عاشور :
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)(12/390)
عودة إلى الموعظة بطريق الإجمال البحت : فَذْلَكَةً للكلام ، وحرصاً على الإجابة ، فابتدأ الموعظة أولاً بمقدمة وهي قوله : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } [ آل عمران : 10 ] ثم شرع في الموعظة بقوله : { قل للذين كفروا ستغلبون } [ آل عمران : 12 ] الآية.
وهو ترهيب ثم بذكر مقابله في الترغيب بقوله : { قل أؤنبّئكم بخير من ذلكم } [ آل عمران : 15 ] الآية ثم بتأييد ما عليه المسلمون بقوله : { شهد اللَّه أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] الآية وفي ذلك تفصيل كثير.
ثم جاء بطريق المجادلة بقوله : { فإن حاجّوك } [ آل عمران : 20 ] الآية ثم بترهيب بغير استدلال صريح ولكن بالإيماء إلى الدليل وذلك قوله : { إن الذين يكفرون بآيات اللَّه ويقتلون النبيين بغير حق } [ آل عمران : 21 ] ثم بطريق التهديد والإنذار التعريضي بقوله : { قل اللهم مالك الملك } [ آل عمران : 26 ] الآيات.
ثم أمر بالقطيعة في قوله : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء } [ آل عمران : 28 ].
وختم بذكر عدم محبة الكافرين ردّاً للعجز على الصدر المتقدم في قوله : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم } [ آل عمران : 10 ] الآية ليكون نفي المحبة عن جميع الكافرين ، نفياً عن هؤلاء الكافرين المعيَّنين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 82}
وقال السمرقندى :
{ قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } فقرن طاعته بطاعة رسوله رغماً لهم ، ويقال : أطيعوا الله فيما أنزل ، والرسول فيما بَيّن { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يعني إن أعرضوا عن طاعتهما { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } أي لا يغفر لهم. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 232}(12/391)
فصل
روى البغوى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا ومن يأبى ؟ قال "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى". { أخرجه البخاري في الاعتصام - باب : الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم 13 / 249 . والمصنف في شرح السنة : 1 / 192 }.
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن عبادة ، أنا يزيد نا سُليم بن حيان [وأثنى عليه] ، أنا سعيد بن ميناء قال : حدثنا أو سمعت جابر بن عبد الله يقول : جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم. فقال بعضهم : إنه نائم وقال بعضهم : إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا : إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا فقالوا : مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ، فقالوا : أوِّلوها له يفقهها ، فقالوا : أما الدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس". { أخرجه البخاري في الاعتصام - باب : الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم 13 / 249 . والمصنف في شرح السنة : 1 / 192 - 193}. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 27 ـ 28}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ }.
أمرهم بالطاعة ثم قال : { فَإِن تَوَلَّوْأ } أي قَصَّرُوا في الطاعة بأن خالفوا ، ثم قال : { فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ } لم يَقُلْ العاصين بل قال الكافرين ، ودليل الخطاب أنه يحب المؤمنين وإن كانوا عُصَاة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 236}(12/392)
قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان أصل الإبداء نوراً علياً نزله الحق سبحانه وتعالى في رتب التطوير والتصيير والجعل إلى أن بدأ عالماً دنياوياً محتوياً على الأركان الأربعة والمواليد الثلاثة ، وخفيت نورانيته في موجود أصنافه صفي الله سبحانه وتعالى من وجود كلية ذلك هذا الخلق الآدمي فكان صفي الله ، فأنبأ الخطاب عن تصييره إلى الصفاء بالافتعال ؛ انتهى - فقال سبحانه وتعالى : {إن الله} أي بجلاله وعظمته وكماله في إحاطته وقدرته {اصطفى} أي للعلم والرسالة عنه سبحانه وتعالى إلى خلقه والخلافة له في ملكه {آدم} أباكم الأول الذي لا تشكون في أنه خلقه من تراب ، وهو تنبيه لمن غلط في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على أن أعظم ما استغربوا من عيسى كونه من غير ذكر ، وآدم أغرب حالاً منه بأنه ليس من ذكر ولا أنثى ولا من جنس الأحياء - كما سيأتي ذلك صريحاً بعد هذا التلويح لذي الفهم الصحيح.
قال الحرالي : فاصفطاه من كلية مخلوقه الذي أبداه ملكاً وملكوتاً خلقاً وأمراً ، وأجرى اسمه من أظهر ظاهره الأرضي وأدنى أدناه ، فسماه آدم من أديم الأرض ، على صيغة أفعل ، التي هي نهاية كمال الآدمية والأديمية.(12/393)
فكان مما أظهر تعالى في اصطفاء آدم ما ذكر جوامعه علي رضي الله عنه في قوله : لما خلق الله سبحانه وتعالى أبان فضله للملائكة وأراهم ما اختصه به من سابق العلم من حيث علمه عند استنبائه إياه أسماء الأشياء فجعل الله سبحانه وتعالى آدم محراباً وكعبة وباباً وقبلة ، أسجد له الأبرار والروحانيين الأنوار ، ثم نبه آدم على مستودعه وكشف له خطر ما ائتمنه عليه بعد أن سماه عند الملائكة إماماً ، فكان تنبيهه على خطر أمانته ثمرة اصطفائه - انتهى {ونوحاً} أباكم الثاني الذي أخرجه من بين أبوين شابين على عادتكم المستمرة فيكم.
وقال الحرالي : أنبأ تعالى أنه عطف لنوح عليه الصلاة والسلام اصطفاء على اصطفاء آدم ترقياً إلى كمال الوجود الآدمي وتعالياً إلى الوجود الروحي العيسوي ، فاصطفى نوحاً عليه الصلاة والسلام بما جعله أول رسول بتوحيده من حيث دحض الشرك وأقام كلمة الإيمان بقول " لا إله إلا الله " ، لما تقدم بين آدم ونوح من عبادة الأصنام والأوثان ، فكان هذا الاصطفاء اصطفاء باطناً لذلك الاصطفاء الظاهر فتأكد الاصطفاء وجرى من أهلكته طامة الطوفان مع نوح عليه الصلاة والسلام من الذر الآدمي مجرى تخليص الصفاوات من خثارتها ، وكما صفي آدم من الكون كله صفي نوحاً عليه السلام وولده الناجين معه من مطرح الخلق الآدمي الكافرين الذين لا يلدون إلا فاجراً كفاراً ، فلم يكن فيهم ولا في مستودع ذراريهم صفاوة تصلح لمزية الإخلاص الذي اختص بصفوته نوح عليه الصلاة والسلام {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} [ الأحزاب : 7 ] فكان ميثاق نوح عليه السلام ما قام به من كلمة التوحيد ورفض الأصنام والطاغوت التي اتخذها الظلمانيون من ذر آدم ، فتصفى بكلمة التوحيد النوارانيون منه ، فكان نوح عليه الصلاة والسلام ومن نجا معه صفوة زمانه ، كما كان آدم صفوة حينه - انتهى.
(12/394)
ولما كان أكثر الأنبياء من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام زاد في تعظيمه بقوله : {وآل إبراهيم} أي الذين أود فيهم الخوارق ولا سيما في إخراج الولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لمثلهما ، وفي ذلك إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مثلهم لأنه أحدهم ، وكذا قوله : {وآل عمران} في قوله : {على العالمين} إشارة إلى أنه كسائر أقاربه منهم ، وأفصح بذلك إفصاحاً جلياً في قوله : {ذرية بعضها من بعض} أي فهم كلهم من بني آدم ، لا مزية لبعضهم على بعض في ذلك ، لا مزية في شيء من ذلك ، وأنتم لا تشكون فيه من شيء من الخصائص مما دون أمد عيسى عليه الصلاة والسلام ، فما لكم لما خص سبحانه وتعالى آل عمران من بين العالمين بخرق العادة فيهم بإخراج ولد من أنثى فقط من غير ذكر لم تردوا ما لم تعرفوا منه إلى ما تعرفون من الخوارق حتى انجلى لكم واتضح لديكم ؟ بل أشكل لعيكم وقامت فيكم قيامتكم بما يفضي إلى الشك في قدرة الإله الذي لا تشكون أن من شك في تمام قدرته كفر.
وقال الحرالي : فإثبات هذه الجملة بتشابه وتماثل تتعالى عن نحوه الإلهية ، فأبان هذا الخطاب في عيسى عليه الصلاة والسلام اصطفاء من جملة هذا الاصطفاء ، فكما لم يقع فيمن سواه لبس من أمر ألإلهية فكذلك ينبغي أن لايقع فيه هو أيضاً لبس لمن يتلقن بيان الإحكام والتشابه من الذي أنزل الكتاب محكماً ومتشابهاً وأظهر الخلق بادياً وملتبساً انتهى.
وقد عاد سبحانه وتعالى بهذا الخطاب على أحسن وجه إلى قصة عيسى عليه الصلاة والسلام الذي نزلت هذه الآيات كلها في المجادلة في أمره والإخبار عن حمله وولادته وغير ذلك من صفاته التي يتنزه الإله عنها ، وكراماته التي لا تكون إلا للقرب ، فأخبر أولاً عن حال أمه وأمها وأختها وما اتفق لهن من الخوارق التي تمسك بوقوع مثلها من عيسى عليه السلام من كفر برفعه فوق طوره ، ثم شرع في قص أمره حتى لم يدع فيه لبساً بوجه.
(12/395)
وقال الحرالي : في التعبير عن اصطفاء إبراهيم ومن بعده عليهم الصلاة والسلام في إشعار الخطاب اختصاص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بما هو أخص من هذا الاصطفاء من حيث انتظم في سلكه آله لاختصاصه هو بالخلة التي لم يشركه فيها أهل هذا الاصطفاء ، فاختص نمط هذا الاصطفاء بآله ، وهم - والله سبحانه وتعالى أعلم - إسحاق ويعقوب والعيص عليهم الصلاة والسلام ومن هو منهم من ذريتهم لأن إسماعيل عليه السلام اختص بالوصلة بين إبراهيم الخليل ومحمد الحبيب صلوات الله وسلامه عليهم ، فكان مترقى ما هو لهم من وراء هذا الاصطفاء ، ولأن إنزال هذا الخطاب لخلق عيسى عليه الصلاة والسلام ، وهو من ولد داود عليه الصلاة والسلام فيما يذكر ، وداود من سبط لاوي بن إسرائيل عليهم الصلاة والسلام فيما ينسب ، فلذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - جرى هذا الاصطفاء على آله ، فظهر من مزية هذا الاصطفاء لآله ما كان من اصطفاء موسى عليه السلام بالتكليم وإنزال الكتاب السابق {يا موسى إني اصطفيتك على الناس} [ الأعراف : 144 ] فكان هذا الاصطفاء استخلاص صفاوة من صفاوة نوح عليه الصلاة والسلام المستخلصين من صفاوة آدم عليه الصلاة والسلام ، وآل عمران - والله سبحانه وتعالى أعلم - مريم وعيسى عليهما الصلاة والسلام ليقع الاصطفاء في نمط يتصل من آدم إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام ليحوزوا طرفي الكون روحاً وسلالة ، والعالمون علم الله الذي له الملك ، فكما أن الملك لا بد له من علم يعلم به بدوه وظهوره جعل الله ما أبداه من خلقه علماً على ظهور ملكه بين يدي ظهور خلقه في غاية يوم الدين عاماً ، وفي يوم الدنيا لمن شاء من أهل اليقين والعيان خاصاً ، وأعلى معناه بما ظهر في لفظه من الألف الزائدة على لفظ العلم ، فاصطفى سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام على الموجودين في وقته ، وكذلك نوحاً وآل إبراهيم وآل عمران كلاًّ على عالم زمانه ، ومن هو بعد في غيب لم تبد صورته في(12/396)
العالم العياني لم يلحقه بعد عند أهل النظر اسم العالم وأشار سبحانه وتعالى بذكر الذرية من معنى الذرء الذي هو مخصوص بالخلق ليظهر انتظام عيسى عليه الصلاة والسلام في سلك الجميع ذرءاًَ ، وأنه لا يكون مع الذرء لبس الإلهية ، لأن الله سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، فكان نصب لفظ الذرية تكييفاً لهذا الاصطفاء المستخلص على وجه الذر ، وهو الذي يسميه النحاة حالاً - انتهى.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هؤلاء الذين اصطفاهم ، وكان مدار أمر الاصطفاء على العلم ، ومدار ما يقال لهم وفيهم مما يكون كفراً أو إيماناً على السمع ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله عاطفاً على ما تقديره : فالله سبحانه وتعالى يفعل بإحاطته ما يريد : {والله} أي المحيط قدرة وعلماً {سميع عليم} إشارة إلى أنه اصطفاهم على تمام العلم بهم ترغيباً في أحوالهم والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 66 ـ 69}
وقال ابن عاشور :
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [33]{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [34].
انتقال من تمهيدات سبب السورة إلى واسطة التمهيد والمقصد ، كطريقة التخلص ، فهذا تخلص لمحاجة وفد نجران وقد ذكرناه في أول السورة ، فابتدئ هنا بذكر آدم ونوح وهما أبو البشر أو أحدهما وذكر إبراهيم وهو أبو المقصودين بالتفضيل وبالخطاب. فأما آدم فهو أبو البشر باتفاق الأمم كلها إلا شذوذا من أصحاب النزعات الإلحادية الذين ظهروا في أوروبا واخترعوا نظيرة تسلسل أنواع الحيوان بعضها من بعض وهي نظيرة فائلة.
(12/397)
وآدم اسم أبس البشر عند جميع أهل الأديان ، وهو علم عليه وضعه لنفسه بإلهام من الله تعالى كما وضع مبدأ اللغة. ولا شك أن من أول ما يحتاج إليه هو وزوجه أن يعبر أحدهما للآخر ، وظاهر القرآن أن الله أسماه بهذا الاسم من قبل خروجه من جنة عدن ولا يجوز أن يكون اسمه مشتقا من الأدمة ، وهي اللون المخصوص لأن تسمية ذلك اللون بالأدمة خاص بكلام العرب فلعل العرب وضعوا اسم ذلك اللون أخذا من وصف لون آدم أبي البشر.
وقد جاء في سفر التكوين من كتاب العهد عند اليهود ما يقتضي : أن آدم وجد على الأرض في وقت يوافق سنة 3942 اثنين وأربعين وتسعمائة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى وأنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة فتكون وفاته في سنة 3012 اثنتي عشرة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى هذا ما تقبله المؤرخون المتبعون لضبط السنين. والمظنون عند المحققين الناظرين في شواهد حضارة البشرية أن هذا الضبط لا يعتمد ، وأن وجود آدم متقادم في أزمنة مترامية البعد هي أكثر بكثير مما حدده سفر التكوين.
وأما نوح فتقول التوراة : إنه ابن لامك وسمي عند العرب لمك بن متوشالخ بن أخنوخ وهو إدريس عند العرب ابن يارد بتحتية في أوله بن مهلئيل بميم مفتوحة فهاء ساكنة فلام مفتوحة بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم. وعلى تقديرها وتقدير سني أعمارهم يكون قد ولد سنة ست وثمانين وثمانمائة وألفين قبل ميلاد عيسى وتوفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف قبل ميلاد عيسى والقول فيه كما تقدم في ضبط تاريخ وجود آدم.
(12/398)
وفي زمن نوح وقع الطوفان على جميع الأرض ونجاه الله وأولاده وأزواجهم في الفلك فيكون أبا ثانيا للبشر. ومن الناس من يدعي أن الطوفان لم يعم الأرض وعلى هذا الرأي ذهب مؤرخو الصين وزعموا أن الطوفان لم يشمل قطرهم فلا يكون نوح عندهم أبا ثانيا للبشر. وعلى رأي الجمهور فالبشر كلهم يرجعون إلى أبناء نوح الثلاثة سام ، وحام ، ويافث ، وهو أول رسول بعثه الله إلى الناس حسب الحديث الصحيح. وعمر نوح تسعمائة وخمسين سنة على ما في التوراة فهو ظاهر قوله تعالى : {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت : 14] وفي التوراة : أن الطوفان حدث وعمر نوح ستمائة سنة وأن نوحا صار بعد الطوفان فلاحا وغرس الكرم واتخذ الخمر. وذكر الآلوسي صفته بدون سند فقال : كان نوح دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضحم السرة طويل القامة جسيما طويل اللحية. قيل : إن مدفنه بالعراق في نواحي الكوفة ، وقيل في ذيل جبل لبنان ، وقيل بمدينة الكرك. وسيأتي ذكر الطوفان : في سورة الأعراف ، وفي سورة العنكبوت ، وذكر شريعته في سورة الشورى ، وفي سورة نوح.
والآل : الرهط ، وآل إبراهيم : أبناؤه وحفيده وأسباطه ، والمقصود تفضيل فريق منهم. وشمل آل إبراهيم الأنبياء من عقبه كموسى ، ومن قبله ، ومن بعده ، وكمحمد عليه الصلاة والسلام ، وإسماعيل ، وحنظلة بن صفوان ، وخالد بن سنان.(12/399)
وأما آل عمران : فهم مريم ، وعيسى ، فمريم بنت عمران بن ماتان كذا سماه المفسرون ، وكان من أحبار اليهود ، وصالحيهم ، وأصله بالعبرانية عمرام بميم في آخره فهو أبو مريم ، قال المفسرون : هو من نسل سليمان بن داود ، وهو خطأ ، والحق أنه من نسل هارون أخي موسى كما سيأتي قريبا. وفي كتب النصارى : أن اسمه يوهاقيم ، فلعله كان له اسمان ومثله كثير. وليس المراد هنا عمران والد موسى وهارون ؛ إذ المقصود هنا التمهيد لذكر مريم وابنها عيسى بدليل قوله : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 82 ـ 84}(12/400)
وقال الآلوسى :
{ إِنَّ الله اصطفى ءادَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين } روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن اليهود قالوا : نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام ونحن على دينهم فنزلت ، وقيل : إن نصارى نجران لما غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلوه ابن الله سبحانه واتخذوه إلهاً نزلت رداً عليهم وإعلاماً لهم بأنه من ذرية البشر المنتقلين في الأطوار المستحيلة على الإله وهذا وجه مناسبة الآية لما قبلها. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في وجه المناسبة : إنه سبحانه لما بين { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } وإن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم شرع في تحقيق رسالته وأنه من أهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان تحقيقاً للحق وإبطالاً لما عليه أهل الكتابين من الإفراط والتفريط في شأنهما ثم بين محاجتهم في إبراهيم وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزه ساحته العلية عما عم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل دعاة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقاً لوجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتي تفصيله انتهى وهو وجه وجيه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 131}(12/401)
فصل
قال الفخر :
اعلم أن المخلوقات على قسمين :
المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف ، واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة : الملائكة ، والإنس والجن ، والشياطين ، أما الملائكة ، فقد روي في الأخبار أن الله تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول : أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني : لهذا السبب قدروا على حمل العرش ، لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث : لهذا السبب سموا روحانيين ، وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور ، ولهذا صفت وأخلصت لله تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول : أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السموات ، أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى : {وَكَانَ مِنَ الكافرين} [ البقرة : 34 ] وأما سائر الشياطين فهم أيضاً كفرة بدليل قوله تعالى : {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [ الأنعام : 121 ] ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى : {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [ الكهف : 50 ] وقال : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن} [ الأنعام : 112 ] ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال الله تعالى حكاية عن إبليس {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ الأعراف : 12 ] وقال : {والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [ الحجر : 27 ] فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن ، قال تعالى : {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً} [ الجن : 14 ] أما الإنس فلا شك أن لهم والداً هو والدهم الأول ، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دلّ على أن ذلك الأول هو آدم صلى الله عليه وسلم على(12/402)
ما قال تعالى في هذه السورة {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [ آل عمران : 59 ] وقال : {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [ النساء : 1 ].
إذا عرفت هذا فنقول : اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين ، واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة ، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى : {اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ} [ الأعراف : 11 ] والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية ، وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة ، فلما بيّن تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين.
فإن قيل : إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال ، ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض ، فوجب حمله على هذا المعنى دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى في صفة بني إسرائيل {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [ البقرة : 47 ] ولا يلزم كونهم أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم بل قلنا المراد به عالمو زمان كل واحد منهم ، والجواب ظاهر في قوله : اصطفى آدم على العالمين ، يتناول كل من يصح إطلاق لفظ العالم عليه فيندرج فيه الملك ، غاية ما في هذا الباب أنه ترك العمل بعمومه في بعض الصور لدليل قام عليه ، فلا يجوز أن نتركه في سائر الصور من غير دليل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 18 ـ 19}
فصل
قال البغوى : (12/403)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت اليهود نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ونحن على دينهم فأنزل الله تعالى هذه الآية. يعني : إن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم على غير دين الإسلام { اصْطَفَى }. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 28}
فصل
قال الفخر :
{اصطفى} في اللغة اختار ، فمعنى : اصطفاهم ، أي جعلهم صفوة خلقه ، تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة ، ويقال على ثلاثة أوجه : صفوة ، وصفوة وصفوة ، ونظير هذه الآية قوله لموسى {إِنْى اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي} [ الأعراف : 144 ] وقال في إبراهيم {وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الاخيار} [ ص : 47 ].
إذا عرفت هذا فنقول.
في الآية قولان
الأول : المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعاً إلى دينهم وشرعهم وملتهم ، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني : أن يكون المعنى : إن الله اصطفاهم ، أي صفاهم من الصفات الذميمة ، وزينهم بالخصال الحميدة ، وهذا القول أولى لوجهين أحدهما : أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار
والثاني : أنه موافق لقوله تعالى : {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته} [ الأنعام : 124 ] وذكر الحليمي في كتاب "المنهاج" أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية ، والقوى الروحانية ، أما القوى الجسمانية ، فهي إما مدركة ، وإما محركة.
أما المدركة : فهي إما الحواس الظاهرة ، وإما الحواس الباطنة ، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة
أحدها : القوة الباصرة ، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان
الأول : قوله صلى الله عليه وسلم : " زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها "(12/404)
والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : " أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري " ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض} [ الأنعام : 75 ] ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل
قال الحليمي رحمه الله : وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام ، فلا يبعد أن يكون بصر النبي صلى الله عليه وسلم أقوى من بصرها
وثانيها : القوة السامعة ، وكان صلى الله عليه وسلم أقوى الناس في هذه القوة ، ويدل عليه وجهان
أحدهما : قوله صلى الله عليه وسلم : " أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى " فسمع أطيط السماء(12/405)
والثاني : أنه سمع دوياً وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن ، قال الحليمي : ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا ، فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك ، ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم} [ النمل : 18 ] فالله تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضاً في باب تقوية الفهم ، وكان ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم حين تكلم مع الذئب ومع البعير ثالثها : تقوية قوة الشم ، كما في حق يعقوب عليه السلام ، فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه ، فلما فصلت العير قال يعقوب {إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُف} [ يوسف : 94 ] فأحس بها من مسيرة أيام ورابعها : تقوية قوة الذوق ، كما في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال : " إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم " وخامسها : تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه ، فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة ، وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ ، قال تعالى : {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [ الأعلى : 6 ] ومنها قوة الذكاء قال علي عليه السلام : " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب " فإذا كان حال الولي هكذا ، فكيف حال النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما القوى المحركة : فمثل عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعراج ، وعروج عيسى حياً إلى السماء ، ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار ، وقال الله تعالى : {قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [ النمل : 40 ].
وأما القوى الروحانية العقلية : فلا بد وأن تكون في غاية الكمال ، ونهاية الصفاء.
(12/406)
واعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس ، ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء ، والفطنة ، والحرية ، والاستعلاء ، والترفع عن الجسمانيات والشهوات ، فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف ، وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة المدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن ، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء.
إذا عرفت هذا فقوله {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا} معناه : إن الله تعالى اصطفى آدم إما من سكان العالم السفلي على قول من يقول : الملك أفضل من البشر ، أو من سكان العالم العلوي على قول من يقول : البشر أشرف المخلوقات ، ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم عليه السلام ، هم شيث وأولاده ، إلى إدريس ، ثم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، ثم حصل من إبراهيم شعبتان : إسماعيل وإسحاق ، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين : يعقوب وعيصو ، فوضع النبوّة في نسل يعقوب ، ووضع الملك في نسل عيصو ، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم نقل نور النبوّة ونور الملك إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وبقيا أعني الدين والملك لأتباعه إلى قيام القيامة ، ومن تأمل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 19 ـ 20}
فائدة
قال القرطبى :
وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل بقضِّهم وقَضِيضهم من نسلهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 63}
فصل
قال الفخر : (12/407)
من الناس من قال : المراد بآل إبراهيم المؤمنون ، كما في قوله {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [ غافر : 46 ] والصحيح أن المراد بهم الأولاد ، وهم المراد بقوله تعالى : {إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [ البقرة : 124 ] وأما آل عمران فقد اختلفوا فيه ، فمنهم من قال المراد عمران ولد موسى وهارون ، وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فيكون المراد من آل عمران موسى وهارون وأتباعهما من الأنبياء ، ومنهم من قال : بل المراد : عمران بن ماثان والد مريم ، وكان هو من نسل سليمان بن داود بن إيشا ، وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ، قالوا وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة ، واحتج من قال بهذا القول على صحته بأمور أحدها : أن المذكور عقيب قوله {وآل عمران على العالمين} هو عمران بن ماثان جد عيسى عليه السلام من قبل الأم ، فكان صرف الكلام إليه أولى
وثانيها : أن المقصود من الكلام أن النصارى كانوا يحتجون على إلهية عيسى بالخوارق التي ظهرت على يديه ، فالله تعالى يقول : إنما ظهرت على يده إكراماً من الله تعالى إياه بها ، وذلك لأنه تعالى اصطفاه على العالمين وخصه بالكرامات العظيمة ، فكان حمل هذا الكلام على عمران بن ماثان أولى في هذا المقام من حمله على عمران والد موسى وهارون وثالثها : أن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى : {وجعلناها وابنها ءَايَةً للعالمين} [ الأنبياء : 91 ] واعلم أن هذه الوجوه ليست دلائل قوية ، بل هي أمور ظنية ، وأصل الاحتمال قائم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 20 ـ 21}(12/408)
فائدة
قال الآلوسى :
وبدأ بآدم عليه الصلاة والسلام لأنه أول النوع ، وثنى بنوح عليه الصلاة والسلام لأنه آدم الأصغر والأب الثاني وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله سبحانه : { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين } [ الصافات : 77 ] وذكر آل إبراهيم لترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة واسطة قلادتهم واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم وذكر آل عمران مع اندراجهم في الآل الأول لإظهار مزيد الاعتناء بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخ الاختلاف في شأنه وهذا هو الداعي إلى إضافة الآل في الأخيرين دون الأولين. وقيل : المراد بالآل في الموضعين بمعنى النفس أي اصطفى آدم ونوحاً وإبراهيم وعمران ، وذكر الآل فيهما اعتناءاً بشأنهما وليس بشيء ، والمراد بآل إبراهيم كما قال مقاتل : إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وروي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم من كان على دينه كآل محمد صلى الله عليه وسلم في أحد الإطلاقات ، والمراد بآل عمران عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه مريم بنت عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود عليهما السلام قاله الحسن ووهب ، وقيل : المراد بهم موسى وهارون عليهما السلام ، فعمران حينئذ هو عمران بن يصهر أبو موسى قاله مقاتل وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة والظاهر هو القول الأول لأن السورة تسمى آل عمران ولم تشرح قصة عيسى ومريم في سورة أبسط من شرحها في هذه السورة ، وأما موسى وهارون فلم يذكر من قصتهما فيها طرف فدل ذلك على أن عمران المذكور هو أبو مريم ، وأيضاً يرجح كون المراد به أبا مريم أن الله تعالى ذكر اصطفاءها بعد ونص عليه وأنه قال سبحانه : { إِذْ قَالَتِ امرأت عمران } [ آل عمران : 35 ] الخ ، والظاهر أنه شرح لكيفية الاصطفاء المشار إليه بقوله تعالى : { إِنَّ الله } فيكون من قبيل تكرار الاسم في جملتين فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول نحو أكرم زيداً إن زيداً رجل فاضل(12/409)
، وإذا كان المراد بالثاني غير الأول كان في ذلك إلباس على السامع ، وترجيح القول الأخير بأن موسى يقرن بإبراهيم في الذكر ليس في القوة كمرجح الأول كما لا يخفى ، والاصطفاء الاختيار ، وأصله أخذ صفوة الشيء كالاستصفاء ، ولتضمينه معنى التفضيل عدي بعلى ، والمراد بالعالمين أهل زمان كل واحد منهم أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمامه ، ويدخل الملك في ذلك ، والتأويل خلاف الأصل.
ومن هنا استدل بعضهم بالآية على أفضلية الأنبياء على الملائكة ، ووجه الاصطفاء في جميع الرسل أنه سبحانه خصهم بالنفوس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية حتى إنهم امتازوا كما قيل على سائر الخلق خلقاً وخلقاً وجعلوا خائن أسرار الله تعالى ومظهر أسمائه وصفاته ومحل تجليه الخاص من عباده ومهبط وحيه ومبلغ أمره ونهيه ، وهذا ظاهر في المصطفين المذكورين في الآية من الرسل ، وأما مريم فلها الحظ الأوفر من بعض ذلك ، وقيل : اصطفى آدم بأن خلقه بيديه وعلمه الأسماء وأسجد له الملائكة وأسكنه جواره ، واصطفى نوحاً بأنه أول رسول بعث بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم وأنه أب الناس بعد آدم وباستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين ، واصطفى آل إبراهيم بأن جعل فيهم النبوة والكتاب ، ويكفيهم فخراً أن سيد الأصفياء منهم ، واصطفى عيسى وأمه بأن جعلهما آية للعالمين.(12/410)
وإن أريد بآل عمران موسى وهارون فوجه اصطفاء موسى عليه الصلاة والسلام تكليم الله تعالى إياه وكتابة التوراة له بيده ، ووجه اصطفاء هارون جعله وزيراً لأخيه ، وأما اصطفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمفهوم بطريق الأولى وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره بالخلة وكونه شيخ الأنبياء وقدوة المرسلين ، وأما اصطفاء نبينا صلى الله عليه وسلم فيفهم من دخوله في آل إبراهيم كما أشرنا إليه وينضم إليه أن سياق هذا المبحث لأجله كما يدل عليه بيان وجه المناسبة في كلام شيخ الإسلام ، وروي عن أئمة أهل البيت أنهم يقرءون وآل محمد على العالمين وعلى ذلك لا سؤال ، ومن الناس من قال : المراد بآل إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلم جعل كأنه كل الآل مبالغة في مدحه ، وفيه أن نبينا وإن كان في نفس الأمر بمنزلة الأنبياء كلهم فضلاً عن آل إبراهيم فقط إلا أن هذه الإرادة هنا بعيدة ، ويشبه ذلك في البعد بل يزيد عليه ما ذكره بعضهم في الآية أنه لما أمرهم بمتابعته صلى الله عليه وسلم وإطاعته ، وجعل إطاعته ومتابعته سبباً لمحبة الله تعالى إياهم وعدم إطاعته سبباً لسخط الله تعالى عليهم وسلب محبته عنهم أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم وقمعهم وتذليلهم وإعدامهم لهم تخويفاً لهؤلاء المتمردين عن متابعته صلى الله عليه وسلم فذكر اصطفاء آدم على العالم الأعلى فإنه رجحه على سائر الملائكة وجعلهم ساجدين له وجعل الشيطان في لعنة لتمرده ، واصطفاء نوح على العالم مع نهاية كثرتهم فأهلكهم بالطوفان وحفظ نوحاً وأتباعه ، واصطفاء آل إبراهيم على العالم مع أن العالم كانوا كافرين فجعل دينهم شائعاً وذلل مخالفيهم ، واصطفاء موسى وهارون على العلم فجعل السحرة مع كثرتهم مغلوبين لهما وفرعون مع عظمته وغلبة جنوده مغلوباً وأهلكهم ، ولذا خص آدم بالذكر ونوحاً والآلين ، ولم يذكر إبراهيم ونبينا صلى الله تعالى عليهما(12/411)
وسلم إذ إبراهيم لم يغلب ، وهذا الكلام لبيان أن نبينا صلى الله عليه وسلم سيغلب وليس المراد الاصطفاء بالنبوة حتى يخفى وجه التخصيص وبهذا ظهر ضعف الاستدلال به على فضلهم على الملائكة انتهى.
وفيه أن المتبادر من الاصطفاء الاجتباء والاختيار لا النصر على الأعداء على أن المقام بمراحل عن هذا الحمل ، وقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الاصطفاء هنا بالاختيار للرسالة ومثله فيما أخرجه ابن جرير عن الحسن وأيضاً حمل آل عمران على موسى وهارون مما لا ينساق إليه الذهن كما علمت ، وكأن القائل لما لم يتيسر له إجراء الاصطفاء بالمعنى الذي أراده في عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه اضطر إلى الحمل على خلاف الظاهر ، وأنت تعلم أن الآية غنية عن الولوج في مثل هذه المضايق. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 131 ـ 132}
لطيفة
قال القرطبى :
ومعنى قوله : "عَلَى الْعَالَمِينَ" أي على عالمي زمانهم ، في قول أهل التفسير.
وقال الترمذيّ الحكيم أبو عبد الله محمد بن عليّ : جميع الخلق كلهم.
وقيل "عَلَى الْعَالَمِينَ" : على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور ، وذلك أن هؤلاء رُسُلٌ وأنبياء فهم صفوة الخلق ؛ فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة.
قال الله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] فالرسل خلقوا للرحمة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم خُلق بنفسه رحمةً ، فلذلك صار أماناً للخلق ، لمّا بعثه الله أَمِنَ الخلقُ العذاب إلى نفخة الصور.
وسائر الأنبياء لم يحلّوا هذا المحل ؛ ولذلك قال عليه السلام : " أنا رحمة مهداة " يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله.
وقوله "مهداة" أي هدية من الله للخلق.(12/412)
ويقال : اختار آدم بخمسة أشياء : أوّلها أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته ، والثاني أنه علّمه الأسماء كلها ، والثالث أمر الملائكة بأن يسجدوا له ، والرابع أسكنه الجنة ، والخامس جعله أبا البشر.
واختار نوحاً بخمسة أشياء :
أوّلها أنه جعله أبا البشر ؛ لأن الناس كلهم غرِقوا وصار ذريته هم الباقين ،
والثاني أنه أطال عمره ؛ ويقال : طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ،
والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين ،
والرابع أنه حمله على السفينة ،
والخامس أنه كان أوّل من نسخ الشرائع ؛ وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات.
واختار إبراهيم بخمسة أشياء :
أوّلها أنه جعله أبا الأنبياء ؛ لأنه روي أنه خرج من صلبه ألف نبيّ من زمانه إلى زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ،
والثاني أنه اتخذه خليلاً ،
والثالث أنه أنجاه من النار ،
والرابع أنه جعله إماماً للناس ،
والخامس أنه ابتلاه بالكلمات فوَفّقَه حتى أتمهن.
ثم قال : "وَآلَ عِمْرَانَ" فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المَنّ والسلْوَى وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم.
وإن كان أبا مريم فإنه أصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لأحد في العالم. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 63 ـ 64}
قوله تعالى : {ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ}
قال ابن عادل :
قوله : { ذُرِّيَّةَ } في نَصْبها وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة على البدل مما قبلها ، وفي المُبْدَل منه - على هذا - ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل من " آدَمَ " وما عُطِفَ عليه وهذا إنَّمَا يتأتَّى على قول من يُطْلِق " الذُّرِّيَّة " على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذَهَب جماعةٌ.
قال الجرجاني : " الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء. وجاز ذلك ؛ لأنه من ذرأ الخلق ، فالأب ذُرِئ منه الولد ، والولد ذرئ من الأب ".(12/413)
قال الراغبُ : " الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل ، لقوله تعالى : { حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } [ يس : 40 ] أي : آباءهم ، ويقال للنساء : الذراريّ ". فعلى هذين القولين صَحَّ جَعْل " ذُرِّيَّةٌ " بدَلاً من " آدم " بما عطف عليه.
قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون بدلاً من " آدم " ؛ لأنه ليس بذريته " ، وهذا ظاهر إن أراد آدَمَ وحده دون مَنْ عُطِف عليه ، وإن أراد " آدم " ومَنْ ذُكِرَ معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذُّرِّيَّة على الآباء.
الثاني - من وجهي البدل - أنها بدل من " نُوح " ومَنْ عطف عليه ، وإليه نحا أبو البقاء.
الثالث : أنها بدل من الآلين - أعني آل إبراهيمَ وآل عمرانَ - وإليه نحا الزمخشريُّ. يريد أن الأولين ذرية واحدة.
الوجه الثاني - من وجهي نصب " ذُرِّيَّةً " - النصب على الحال ، تقديره : اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض ، فالعامل فيها اصطفى. وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة.
قوله : { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } هذه الجملة في موضع نصب ، نعتاً لِـ " ذُرِّيَّةً ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 166}
فصل
قال الفخر :
في تأويل الآية وجوه
الأول : ذرية بعضها من بعض في التوحيد والإخلاص والطاعة ، ونظيره قوله تعالى : {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} [ التوبة : 67 ] وذلك بسبب اشتراكهم في النفاق
والثاني : ذرية بعضها من بعض بمعنى أن غير آدم عليه السلام كانوا متولدين من آدم عليه السلام ، ويكون المراد بالذرية من سوى آدم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 21}
لطيفة
قال ابن الجوزى :
قال أبو بكر النقاش : ومعنى قوله : { ذرية بعضها من بعض } أن الأبناء ذرية للآباء ، والآباء ذرية للأبناء ، كقوله تعالى : { حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } [ يس : 41 ].(12/414)
فجعل الآباء ذرية للأبناء ، وإنما جاز ذلك ، لأن الذرية مأخوذة من : ذرأ الله الخلق ، فسمي الولد للوالد ذرية ، لأنه ذرىء منه ، وكذلك يجوز أن يقال للأب : ذرية للابن ، لأن ابنه ذرئ منه ، فالفعل يتصل به من الوجهين.
ومثله { يحبونهم كحُب الله } [ البقرة : 165 ].
فأضاف الحب إلى الله ، والمعنى : كحب المؤمن لله ، ومثله { ويطعمون الطعام على حبّه } [ الدهر : 8 ].
فأضاف الحب للطعام. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 375}
قوله تعالى : {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
قال الفخر :
قال القفال : المعنى والله سميع لأقوال العباد ، عليم بضمائرهم وأفعالهم ، وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولاً وفعلاً ، ونظيره قوله تعالى : {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته} [ الأنعام : 124 ] وقوله {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} [ الأنبياء : 90 ] وفيه وجه آخر : وهو أن اليهود كانوا يقولون : نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران ، فنحن أبناء الله وأحباؤه ، والنصارى كانوا يقولون : المسيح ابن الله ، وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلام باطل ، إلا أنه لتطييب قلوب العوام بقي مصراً عليه ، فالله تعالى كأنه يقول : والله سميع لهذه الأقوال الباطلة منكم ، عليم بأغراضكم الفاسدة من هذه الأقوال فيجازيكم عليها ، فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياء والرسل ، وآخرها تهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 21}
وقال أبو حيان :
{ والله سميع عليم } أي سميع لما يقوله الخلق ، عليم بما بضمرونه.
أو : سميع لما تقوله امرأة عمران ، عليم بما تقصد.
أو : سميع لما تقوله الذرية ، عليم بما تضمره.
ثلاثة أقوال.
وقال الزمخشرى : عليم بمن يصلح للاصطفاء ، أو : يعلم أن بعضهم من بعض في الدين. انتهى.(12/415)
والذي يظهر أن ختم هذه الآية بقوله { والله سميع عليم } مناسب لقوله { آل إبراهيم وآل عمران } لأن إبراهيم عليه السلام دعا لآله في قوله : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع } بقوله : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } وحمد ربه تعالى فقال : { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } وقال مخبراً عن ربه : { إن ربي لسميع الدعاء } ثم دعا ربه بأن يجعله مقيم الصلاة وذريته ، وقال حين بنى هو وإسماعيل الكعبة { ربنا تقبل منا } إلى سائر ما دعا به حتى قوله : { وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك } ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا دعوة إبراهيم " فلما تقدمت من إبراهيم تضرعات وأدعية لربه تعالى في آله وذريته ، ناسب أن يختم بقوله : { والله سميع عليم } وكذلك آل عمران ، دعت امرأة عمران بقبول ما كانت نذرته لله تعالى ، فناسب أيضاً ذكر الوصفين ، ولذلك حين ذكرت النذر ودعت بتقبله ، أخبرت عن ربها بأنه { السميع العليم } أي : السميع لدعائها ، العليم بصدق نيتها بنذرها ما في بطنها الله تعالى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 454 ـ 455}
لطيفة
قال القشيرى :
اتفق آدم وذريته في الطينة ، وإنما الخصوصية بالاصطفاء الذي هو من قِبَلِه ، لا بالنَّسَب ولا بالسبب. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 236}
لطيفة
قال ابن عجيبة :
إنما اصطفى الحق تعالى هؤلاء الرسل ؛ لكونهم قد أظهروا الدين بعد انطماس أنواره ، وجددوه بعد خمود أسراره ، هم أئمة الهدى ومقتبس أنوار الاقتداء ، فكل من كان على قدمهم من هذه الأمة المحمدية ، بحيث يجدد للناس دينهم ، ويُبين للناس معالم الطريق وطريق السلوك إلى عين التحقيق ، فهو ممن اصطفاه الله على عالمي زمانه. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 273}
فصل
قال ابن كثير فى معنى الآية : (12/416)
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض ، فاصطفى آدم ، عليه السلام ، خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها ، لما له في ذلك من الحكمة.
واصطفى نوحا ، عليه السلام ، وجعله أول رسول [بعثه] إلى أهل الأرض ، لما عبد الناس الأوثان ، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا ، وانتقم له لما طالت مدته بين ظَهْرَاني قومه ، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا ، سرا وجهارًا ، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا ، فدعا عليهم ، فأغرقهم الله عن آخرهم ، ولم يَنْجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به.
واصطفى آل إبراهيم ، ومنهم : سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم ، وآل عمران ، والمراد بعمران هذا : هو والد مريم بنت عمران ، أم عيسى ابن مريم ، عليهم السلام. قال محمد بن إسحاق بن يَسار رحمه الله : هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا ابن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان بن رخيعم بن سليمان بن داود ، عليهما السلام. فعيسى ، عليه السلام ، من ذرية إبراهيم. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 33}
وقال الثعالبى :
(12/417)
قوله تعالى : { إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً... } الآية : لما مضى صدْرٌ مِنْ مُحَاجَّةِ نصارى نَجْرَانَ ، والردُّ عليهم وبيانُ فسادِ ما هُمْ عليه ، جاءَتْ هذه الآياتُ مُعْلِمَةً بصورةِ الأمر الذي قد ضَلُّوا فيه ، ومُنْبِئَةً عن حقيقته ، كيف كانَتْ ، فبدأ تعالى بذكْرِ فضْل آدم ومَنْ ذُكِرَ بعده ، ثم خَصَّ امرأة عِمْرَانَ بالذكْرِ ؛ لأنَّ القصْدَ وصْفُ قصَّة القَوْم إِلى أنْ يبيِّن أمر عيسى ( عليه السلام ) ، وكيف كان ، وانصرف "نُوحٌ" ، مع عُجْمَتِهِ وتعريفِهِ ؛ لخفَّة الاِسم ؛ كَهُودٍ وَلُوطٍ ، قال الفَخْرُ هنا : اعلم أنَّ المخلوقاتِ على قسمَيْنِ : مكلَّفٍ ، وغيْرِ مكلَّفٍ ، واتفقوا على أنَّ المكلَّف أفْضَلُ من غير المكلَّفِ ، واتفقوا على أنَّ أصنافَ المكلَّفين أربعةٌ : الملائكةُ ، والإِنْسُ ، والْجِنُّ ، والشَّيَاطِين.
* ت * : تأمَّلْه جَعَلَ الشياطين قسيماً للجِنِّ. اه.
والآلُ ؛ في اللغة : الأَهْلُ ، والقَرَابَة ، ويقال للأَتْبَاعِ ، وأهل الطَّاعة : آل ، والآلُ ؛ في الآيةِ : يحتملُ الوجهَيْنِ ، فَإِنْ أُريدَ بالآلِ : القَرَابَةُ ، فالتقديرُ أنَّ اللَّهَ اصطفى هؤلاءِ على عَالِمِي زمانِهِمْ ، أو على العَالَمِينَ جميعاً ؛ بأنْ يقدَّر نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم من آل إِبراهيم ، وإِن أُرِيدَ بالآلِ : الأَتْبَاعُ ، فيستقيمُ دُخُول أمَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم في الآلِ ؛ لأنها على ملَّةِ إِبراهيم.
وقوله تعالى : { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } ، أي : متشابهينَ في الدِّين ، والحالِ ، وعِمْرَانُ هو رجلٌ من بني إِسرائيل ، وامرأة عِمْرَانَ اسمها حَنَّةُ. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 259}(12/418)
وقال ابن الجوزى :
قال الزجاج : ومعنى اصطفاهم في اللغة : اختارهم ، فجعلهم صفوة خلقه ، وهذا تمثيل بما يرى ، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي ، فاذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عياناً ، فنحن نُعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر ، فكذلك صفوة الله من خلقه.
وفيه ثلاث لغات : صَفوة ، وصِفوة ، وصُفوة ، وأما آدم فعربي ، وقد ذكرنا اشتقاقه في "البقرة" وأما نوح ، فأعجمي مُعربّ ، قال أبو سليمان الدمشقي : اسم نوح : السكن ، وإنما سمي نوحاً لكثرة نوحه.
وفي سبب نوحه خمسة أقوال.
أحدها : أنه كان ينوح على نفسه ، قاله يزيد الرقاشي ، والثاني : أنه كان ينوح لمعاصي أهله ، وقومه.
والثالث : لمراجعته ربه في ولده.
والرابع : لدعائه على قومه بالهلاك.
والخامس : أنه مر بكلب مجذوم ، فقال : اخسأ يا قبيح ، فأوحى الله إليه : أعِبتني يا نوح ، أم عبت الكلب ؟ (1)
وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال.
أحدها : أنه من كان على دينه ، قاله ابن عباس ، والحسن.
والثاني : أنهم إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، قاله مقاتل.
والثالث : أن المراد "آل إبراهيم" هو نفسه ، كقوله : { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } [ البقرة : 248 ] ، ذكره بعض أهل التفسير.
وفي "عمران" قولان.
أحدهما : أنه والد مريم ، قاله الحسن ، ووهب.
والثاني : أنه والد موسى ، وهارون ، قاله مقاتل.
وفي "آله" ثلاثة أقوال.
أحدها : أنه عيسى عليه السلام ، قاله الحسن.
والثاني : أن آله موسى وهارون ، قاله مقاتل.
والثالث : أن المراد بـ "آله" نفسه ، ذكره بعض المفسرين ، وإنما خصّ هؤلاء بالذكر ، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم.
وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال.
أحدها : أن المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان ، قاله ابن عباس ، واختاره الفراء ، والدمشقي.
والثاني : اصطفاهم بالنبوة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، ومقاتل.
والثالث : اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم.
والمراد بـ "العالمين" : عالمو زمانهم ، كما ذكرنا في "البقرة". أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 375}
________________
(1) لا يخفى ما فى هذه الأقوال من بعد بعيد لا يخفى على العلماء المحققين. والله أعلم.(12/419)
لطائف ونفائس
قال العلامة ابن القيم رحمه الله :
فصل في ذكر نكتة حسنة في هذا الحديث المطلوب فيه الصلاة عليه وعلى آله كما صلى على إبراهيم وعلى آله
وهي أن أكثر الأحاديث الصحاح والحسان ، بل كلها مصرحة بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وبذكر آله ، وأما في حق المشبه به وهو إبراهيم وآله ، فإنما جاءت بذكر آل إبراهيم فقط دون ذكر إبراهيم ، أو بذكره فقط دون ذكر آله ، ولم يجئ حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم ، كما تظاهرت على لفظ : محمد وآل محمد.
ونحن نسوق الأحاديث الواردة في ذلك ، ثم نذكر ما يسره الله تعالى في سر ذلك. فنقول : هذا الحديث في الصحيح من أربعة أوجه : أشهرها ؟ حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي لك هدية ؟ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : قد عرفنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك وفي لفظ : وبارك على محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
رواه البخاري ومسلم وأبو دود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد ابن حنبل في المسند ، وهذا لفظهم إلا الترمذي فإنه قال : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم فقط ، وكذا في البركة ، ولم يذكر الآل ، وهي رواية لأبي داود.
وفي رواية : كما صليت على آل إبراهيم بذكر الآل فقط ، وكما باركت على إبراهيم بذكره فقط.
وفي الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي, قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال : قولوا : "اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" هذا هو اللفظ المشهور.
وقد روي فيه : كما صليت على إبراهيم, وكما باركت على إبراهيم بدون لفظ الآل في الموضعين.(12/420)
وفي البخاري : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قلنا يا رسول الله ، هذا السلام عليك فكيف الصلاة عليك ؟ قال : " قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم".
وفي صحيح مسلم : عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه, قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير أبن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم".
وقد روي هذا الحديث بلفظ آخر : كما صليت على إبراهيم وكما باركت على إبراهيم لم يذكر الآل فيهما.
وفي رواية أخرى : كما صليت على إبراهيم وكما باركت على آل إبراهيم بذكر إبراهيم وحده في الأول والآل فقط في الثانية.
هذه هي الألفاظ المشهورة في هذه الأحاديث المشهورة ، في أكثرها لفظ : آل إبراهيم في الموضعين ، وفي بعضها لفظ : إبراهيم فيهما ، وفي بعضها لفظ : إبراهيم في الأول والآل في الثاني, وفي بعضها عكسه.
وأما الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم ، فرواه البيهقي في سننه : من حديث يحيى بن السباق عن رجل من بني الحارث ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد وارحم محمداً وآل محمد ، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وهذا إسناد ضعيف.(12/421)
ورواه الدارقطني : من حديث ابن إسحاق ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن يزيد بن عبد ربه ، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه ، فذكر الحديث وفيه : اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد النبي الأمي ، وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ثم قال : هذا إسناد حسن متصل.
وفي النسائي : من حديث موسى بن طلحة ، عن أبيه, قال : قلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليك ؟ قال : قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ولكن رواه هكذا ، ورواه مقتصراً فيه على ذكر إبراهيم في الموضعين.
وقد روى ابن ماجه حديثاً آخر موقوفاً على ابن مسعود فيه ، إبراهيم وآل إبراهيم قال في السنن : حدثنا الحسين بن بيان ، حدثنا زياد بن عبد الله ، حدثنا المسعودي, عن عون بن عبد الله ، عن أبي فاخته ، عن الأسود بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : "إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه ، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه" ، قال : فقالوا له : فعلمنا ؟ قال : قولوا : "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وخاتم النبيين ، محمد عبدك ورسولك إمام الخير ، وقائد الخير ، ورسول الرحمة ، اللهم أبعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والآخرون ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهذا موقوف.(12/422)
وعامة الأحاديث في الصحاح والسنن كما ذكرنا أولاً بالاقتصار على الآل ، أو إبراهيم في الموضعين ، أو الآل في أحدهما وإبراهيم في الآخر ، وكذلك في حديث أبي هريرة المتقدم في أول الكتاب وغيره من الأحاديث ، فحيث جاء ذكر إبراهيم وحده في الموضعين فلأنه الأصل في الصلاة المخبر بها ، وآله تبع له فيها ، فدل ذكر المتبوع على التابع ، واندرج فيه ، وأغنى عن ذكره. وحيث جاء ذكر آله فقط فلأنه داخل في آله كما تقدم تقريره ، فيكون ذكر آل إبراهيم مغنياً عن ذكره ، وذكر آله بلفظين ، وحيث جاء في أحدهما ذكره فقط وفي الآخر ذكر آله فقط كان ذلك جمعاً بين الأمرين ، فيكون قد ذكر المتبوع الذي هو الأصل ، وذكر أتباعه بلفظ يدخل هو فيهم.
يبقى أن يقال ، فلم جاء ذكر محمد وآل محمد بالاقتران دون الاقتصار على أحدهما في عامة الأحاديث ، وجاء الاقتصار على إبراهيم وآله في عامتها ؟ .(12/423)
وجواب ذلك : أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء ، وأما الصلاة على إبراهيم فإنما جاءت في مقام الخبر وذكر الواقع ، لأن قوله صلى الله عليه وسلم : "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" جملة طلبية ، وقوله : "كما صليت على آل إبراهيم " جملة خبرية ، والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال ، كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفه ، ولهذا يشرع تكرارها ، وإبداؤها وإعادتها ، فإنها دعاء والله يحب الملحين في الدعاء ، ولهذا تجد كثيراً من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم فيها من بسط الألفاظ ، وذكر كل معنى بصريح لفظه ، دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه ، ما يشهد لذلك ، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي رواه مسلم في صحيح : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت, وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ومعلوم أنه لو قيل : اغفر لي كل ما صنعت كان أوجز ، ولكن ألفاظ الحديث في مقام الدعاء والتضرع ، وإظهار العبودية والافتقار ، واستحضار الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلاً أحسن وأبلغ من الإيجاز والاختصار.
وكذلك قوله في الحديث الآخر : اللهم اغفر لي ذنبي كله ، دقه وجله سره وعلانيته ، وأوله وآخره, وفي الحديث : " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي".(12/424)
وهذا كثير في الأدعية المأثورة ، فإن الدعاء عبودية لله ، وافتقار إليه ، وتذلل بين يديه ، فكلما كثره العبد وطوله وأعاده وأبداه ونوع جمله ، كان ذلك أبلغ في عبوديته وإظهار فقره وتذلله وحاجته ، وكان ذلك أقرب له من ربه ، وأعظم لثوابه ، وهذا بخلاف المخلوق ، فإنك كلما كثرت سؤاله وكررت حوائجك إليه أبرمته ، وثقلت عليه ، وهنت عليه ، وكلما تركت سؤاله كان أعظم عنده وأحب إليه. والله سبحانه كلما سألته كنت أقرب إليه وأحب إليه ، وكلما ألححت عليه في الدعاء أحبك ، ومن لم يسأله يغضب عليه :
فالله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب
فالمطلوب يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه.
وأما الخبر فهو خبر عن أمر قد وقع وانقضى ، لا يحتمل الزيادة والنقصان ، فلم يكن في زيادة اللفظ فيه كبير فائدة ، ولا سيما ليس المقام مقام إيضاح وتفهيم للمخاطب ليحسن معه البسط والإطناب ، فكان الإيجاز فيه والاختصار أكمل وأحسن ، فلهذا جاء فيه بلفظ : إبراهيم تارة وبلفظ : آله أخرى ، لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر من الوجه الذي قدمناه ، فكان المراد باللفظين واحداً مع الإيجاز والاختصار. وأما في الطلب فلو قيل : صل على محمد لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آله ، إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ ، ليس خبراً عن أمر قد وقع واستقر. ولو قيل : صل على آل محمد لكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما يصلى عليه في العموم ، فقيل : على محمد وعلى آل محمد فإنه يحصل له بذلك الصلاة عليه بخصوصه ، والصلاة عليه بدخوله في آله.(12/425)
وهنا للناس طريقتان في مثل هذا : أن يقال : هو داخل في آله مع اقترانه بذكره ، فيكون قد ذكر مرتين : مرة بخصوص ، ومرة في اللفظ العام ، وعلى هذا فيكون قد صلى عليه مرتين خصوصاً وعموماً ، وهذا على أصل من يقول : إن العام إذا ذكر بعد الخاص كان متناولاً له أيضا ، ويكون الخاص قد ذكر مرتين ، مرة بخصوصه ، ومرة بدخوله في اللفظ العام ، وكذلك في ذكر الخاص بعد العام ، كقوله تعالى : {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} البقرة : 98 ، وكقوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} الأحزاب : 7
الطريقة الثانية : أن ذكره بلفظ الخاص يدل على أنه غير داخل في اللفظ العام ، فيكون ذكره بخصوصه مغنياً عن دخوله في اللفظ العام ، وعلى هذه الطريقة, فيكون في ذلك فوائد :
منها أنه لما كان من أشرف النوع العام ، أفرد بلفظ دال عليه بخصوصه ، كأنه باين النوع ، وتميز عنهم بما أوجب أن يتميز بلفظ يخصه ، فيكون ذلك تنبيهاً على اختصاصه ومزيته عن النوع الداخل في اللفظ العام.
الثانية : أنه يكون فيه تنبيه على أن الصلاة عليه أصل ، والصلاة على آله تبع له إنما نالوها بتبعيتهم له.
الثالثة : أن إفراده بالذكر يرفع عنه توهم التخصيص ، وأنه لا يجوز أن يكون مخصوصاً من اللفظ العام بل هو مراد قطعاً. أ هـ {جلاء الأفهام صـ 225 ـ 232}.
تم الجزء الثانى عشر من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث عشر وأوله قوله تعالى
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}(12/426)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء الثالث عشر
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(13/3)
الجزء الثالث عشر
من الآية {35} من سورة آل عمران
وحتى الآية {59} من نفس السورة(13/4)
قوله تعالى { إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان جل المقصود هنا بيان الكرامات في آل عمران لا سيما في الولادة ، وكان آدم الممثل به عليه الصلاة والسلام قد تقدم بيان أمره في سورة البقرة سورة الكتاب المثمر للعلم ، وكذا بيان كثير مما اصطفى به إبراهيم وآله عليهم الصلاة والسلام إذ كان معظم القصد بالكلام لذريته ، وكان معظم المقصود من ذكر نوح عليه الصلاة والسلام كونه في عمود النسب ، وليس في أمر ولادته ما هو خارج عن العادة قال طاوياً لمن قبل : {إذ} أي اذكر جواباً لمن يجادلك في أمرهم ويسألك عن حالهم حين {قالت امرأة عمران} وهي حامل.(13/5)
وقال الحرالي : لما كان من ذكر في الاصطفاء إنما ذكر توطئة لأمر عيسى عليه الصلاة والسلام اختص التفضيل بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام دون سائر من ذكر معه ، وكان في هذه المناظرة بين الصورتين حظ من التكافؤ من حيث ذكر أمر خلق آدم عليه الصلاة والسلام في سورة البقرة ، فذكر خلق المثل المناظر له في السورة المناظرة لسورة البقرة وهي هذه السورة ، فعاد توقيت هذا القول إلى غاية هذا الاصطفاء ، فأنبأ عن ابتداء ما اختص منه بعيسى عليه الصلاة والسلام من قول أم مريم امرأة عمران حين أجرى على لسانها وأخطر بقلبها أن تجعل ما في بطنها نذراً ، ففصل ما به ختم من اصفطاء آل عمران ، ولذلك عرفت أم مريم في هذا الخطاب بأنها امرأة عمران ليلتئم التفصيل بجملته السابقة {رب إني نذرت لك ما في بطني} وكان نذر الولد شائعاً في بني إسرائيل إلا أنه كان عندهم معهوداً في الذكور لصلاحهم لسدانة بيت الله والقيام به ، فأكمل الله سبحانه وتعالى مريم لما كمل له الرجال - كما قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع " فذكر مريم بنت عمران عليها السلام ، فكان من كمالها خروج والدتها عنها ، وكان أصله من الأم التي لها الإشفاق ، فكان خروجها أكمل من خروج الولد لأنها لها في زمن الحمل والرضاع والتربية إلى أن يعقل الولد أباه فحينئذ يترقى إلى حزب أبيه ، ولذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - أري إبراهيم عليه الصلاة والسلاح ذبح ولده عند تمييزه ، وخرجت امرأة عمران عن حملها وهو في بطنها حين ما هو أعلق بها - انتهى.
ونذرته لله تعالى حال كونه {محرراً} أي لا اعتراض ولا حكم لأحد من الخلق عليه ، قال الحرالي : والتحرير طلب الحرية ، والحرية رفع اليد عن الشيء من كل وجه ، وفي الإتيان بصيغة التكثير والتكرير إشعار بمضي العزيمة في قطع الولاية عنه بالكلية لتسلم ولايته لله تعالى - انتهى.(13/6)
{فتقبل مني} ولما كان حسن إجابة المهتوف به الملتجأ إليه على حسب إحاطة سمعه وعلمه عللت سؤالها في التقبل بأن قصرت السمع والعلم عليه سبحانه فقالت : {إنك أنت} أي وحدك {السميع العليم} فقالت كما قال سلفها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام {ربنا تقبل منا} [ البقرة : 127 ] ، أي فلا يسمع أحد قولي مثل سمعك ، ولا يعلم أحد نيتي مثل علمك ولا أنا ، فإن كان فيهما شيء لا يصلح فتجاوز عنه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 69 ـ 70}
فصل
قال ابن عادل :
في الناصب لِ " إذْ " أوجه :
أحدها : أنه " اذكر " مقدَّراً ، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً ، أي : اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت وإليه ذهب ابو الحسن وأبو العباس.
الثاني : أن الناصب له معنى الاصطفاء ، أي : " اصْطَفَى " مقدَّراً مدلولاً عليه بـ " اصْطَفَى " الأوَّل والتقدير : واصطفى آل عمران - إذ قالت امرأة عمران. وعلى هذا يكون قوله : { وَآلَ عِمْرَانَ } [ آل عمران : 33 ] من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات ؛ إذ لو جُعِل من عطف المفردات لزم أن يكون وقتُ اصطفاءِ آدمَ وقول امرأةِ عمران كيت وكيت ، وليس كذلك ؛ لتغاير الزمانَيْن ، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظِ به ، وإلى هذا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وغيره.
الثالث : أنه منصوب بـ " سميع " وبه صرح ابن جرير الطبري ، وإليه نحا الزمخشري ؛ فإنه قال : سميع عليم لقول امرأة عمران ونِيَّتها ، و" إذْ " منصوب به.(13/7)
قال أبو حيّان : ولا يَصِحُّ ذَلِكَ ؛ لأن قوله : { عَلِيمٌ } إمّا أن يكون خبراً بعد خبر ، أو وصفاً لقوله : " سميع " فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول ؛ لأنه أجنبيٌّ عنهما ، وإن كان وَصْفاً فلا يجوز أن يَعْمَل { سَمِيعٌ } في الظرف ؛ لأنه قَدْ وُصِفَ ، واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وُصِفَ قَبْلَ معموله لا يجوز له - إذ ذاك - أن يعمل ، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ؛ لأن اتصافه تعالى بـ { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لا يتقيد بذلك الوقت.
قال شهابُ الدين : " وهذا القدر غيرُ مانع ؛ لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيره ، ولذلك تقدم على ما في خبر " أل " الموصولة وما في خبر " أن " المصدرية ".
وأما كونه - تعالى - سميعاً عليماً لا يتقيد بذلك الوقت ، فإن سَمْعَه لذلك الكلام مقيَّد بوجود ذلك الكلام ، وعلمه - تعالى - بأنها تذكر مقيَّد بذكرها لذلك ، والتغيُّر في السمع والعلم ، إنما هو في النسبِ والتعلُّقات.
الرابع : أن تكون " إذْ " زائدةً ، وهو قول أبي عُبَيْدَةَ ، والتقدير : قالت امرأة عمرانَ ، وهذا غلط من النحويين ، قال الزّجّاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً ؛ لأن إلغاء حرفٍ من كتاب الله تعالى - من غير ضرورةٍ لا يجوز ، وكان أبو عبيدة يُضَعَّفُ في النحو.
الخامس : قال الأخفش والمُبَرِّد : التقدير : " ألم تر إذْ قالت امرأة عمران ، ومثله في كتاب الله كثير ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 167 ـ 168}
سؤال : فإن قيل : إن الله سميع عليم قبل أن قالت المرأة هذا القول ، فما معنى هذا التقييد ؟
قلنا : إن سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 22}
فصل
قال ابن عادل :(13/8)
امرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا أم مريم ، وهي حنة - بالحاء المهملة والنون - وجدة عيسى - عليه السلام - وليس باسم عربي.
قال القرطبيُّ : " ولا يُعْرَف في العربية " حنة " : اسم امرأة - وفي العرب أبو حنة البدريّ ، ويقال فيه أبو حبة - بالباء الموحَّدة - وهو أصح ، واسمه عامر ، ودير حنة بالشام ، ودير آخر أيضاً يقال له كذلك.
قال أبو نواس :
يَا ديرَ حَنَّةَ مِنْ ذَاتِ الأكَيْرَاحِ... مَنْ يَصْحُ عَنْكِ فَإنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِي
وفي العرب كثير ، منهم أبو حبة الأنصاريّ وأبو السنابل بن بعْكك - المذكور في حديث سبيعة الأسلمية ، ولا يعرف " خَنَّة " - بالخاء المعجمة - إلا بنت يحيى بن أكثم ، وهي أم محمد بن نصر ، ولا يُعْرَف " جَنَّة " - بالجيم - إلاَّ أبو جنة وهو خال ذي الرمة الشاعر ، نقل هذا كله ابنُ ماكولا ".
وعمران بن ماثان ، وليس بعمران أبي موسى ، وبينهما ألف وثمانمائة سنة ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
وقيل : عمران بن أشهم ، وكان زكريا قد تزوَّج إيشاع بنت فاقوذ ، وهي أخت حنة أم مريم ، فكان يحيى بن زكريا ومريم عليهما السلام ولدي خالة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 168 ـ 169}
فصل
قال الفخر :
في كيفية هذا النذر روايات :
الرواية الأولى : قال عكرمة.
إنها كانت عاقراً لا تلد ، وكانت تغبط النساء بالأولاد ، ثم قالت : اللّهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته.(13/9)
والرواية الثانية : قال محمد بن إسحاق : إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت ، وكانت يوماً في ظل شجرة فرأت طائراً يطعم فرخاً له فتحركت نفسها للولد ، فدعت ربها أن يهب لها ولداً فحملت بمريم ، وهلك عمران ، فلما عرفت جعلته لله محرراً ، أي خادماً للمسجد ، قال الحسن البصري : إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من الله ولولاه ما فعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من الله وإن لم يكن عن وحي ، وكما ألهم الله أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 22}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { مَا فِي بَطْنِي } أتى بـ " ما " التي لغير العاقلِ ؛ لأن ما في بطنها مُبْهَمٌ أمرُه ، والمُبْهَم أمره يجوز أن يُعَبَّر عنه بـ " ما ".
ومثاله أن تقول إذا رأيتَ شبحاً من بعيد لا تدري إنسان هو أم غيره : ما هذا ؟ ولو عرفته إنساناً وجهلت كونه ذكراً أو أنثى ، قلت : ما هو أيضاً ؟ والآية من هذا القبيل ، هذا عند مَنْ يرى أن " ما " مخصوصة بغير العاقل ، وأما من يرى وقوعها على العقلاء ، فلا يتأوَّل شيئاً.
وقيل : إنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر عنه بـ " ما " التي لغير العُقَلاء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 171}
فصل
قال الفخر :(13/10)
المحرر الذي جعل حراً خالصاً ، يقال : حررت العبد إذا خلصته عن الرق ، وحررت الكتاب إذا أصلحته ، وخلصته فلم تبق فيه شيئاً من وجوه الغلط ، ورجل حر إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه تعلق ، والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب أما التفسير فقيل مخلصاً للعبادة عن الشعبي ، وقيل : خادماً للبيعة ، وقيل : عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله ، وقيل : خادماً لمن يدرس الكتاب ، ويعلم في البيع ، والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفاً على طاعة الله ، قال الأصم : لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي ، فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا ، وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين ، فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع ، ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى ، وقيل : كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم ، ثم يخير بين المقام والذهاب ، فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار ، ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 23}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : " مُحَرَّراً " في نَصبه أوجه :
أحدها : أنها حال من الموصول - وهو { مَا فِي بَطْنِي } - فالعامل فيها " نذرت ".
الثاني : أنه حال من الضمير المرفوع بالجار ؛ لوقوعه صلة " ما " وهو قريب من الأول ، فالعامل الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور.(13/11)
الثالث : أن ينتصب على المصدر ؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعول من الفعل الزَّائد على ثلاثة أحرف ، وعلى هذا ، فيجوز أن يكون في الكلام حذفُ مضاف ، تقديره : نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير ، ويجوز أن يكون " ما " انتصب على المعنى ؛ لأن معنى { نَذَرْتُ لَكَ } : حرَّرتُ لك ما في بطني تحريراً ، ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] وقوله : { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } [ الحج : 18 ] - في قراءة من فتح الراء - أي : كلَّ تمزيق ، فما له من إكرام.
ومثله قول : [ الوافر ]
ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي... فَلاَ عِيًّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَا
أي تسريحي القوافي.
الرابع : أن يكون نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديره : غلاماً مُحَرَّراً ، قاله مكيُّ بن أبي طالب - وجعل ابنُ عطية ، في هذا القول نظراً.
قال شهاب الدين : " وجه النظر فيه أن " نذر " قد أخذ مفعوله - وهو قوله : { مَا فِي بَطْنِي } فلم يتعد إلى مفعول آخرَ ، وهو نظر صحيح ".
وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالاً مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العِتْق ومقدرة معنى خدمة الكنيسة - كما جاء في التفسير ، ووقف أبو عمرو والكسائي على " امرأة " بالهاء - دون التاء - وقد كتبوا " امرأة " بالتاء وقياسها الهاء هاهنا وفي يوسف " امرأة العزيز " موضعين - وامرأة نوح ، وامرأة لوط ، وامرأة فرعون ، وأهل المدينة يقفون بالتاء ؛ إتباعاً لرسم المصحف ، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة : حمزت.
وأنشدوا :
وَاللهُ نَجَّاكَ بِكَفَّيْ مَسْلَمَتْ... مِنْ بَعْدِمَا وَبعْدِمَا وَبَعْدِمَتْ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 169 ـ 170}
فائدة
قال الفخر :(13/12)
هذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لما يصيبها من الحيض ، والأذى ، ثم إن حنة نذرت مطلقاً إما لأنها بنت الأمر على التقدير ، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 23}
فصل فى حقيقة النذر
قال ابن العربى :
هُوَ الْتِزَامُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّا يَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مِنْ الْأَعْمَالِ قُرْبَةً.
وَلَا يَلْزَمُ نَذْرُ الْمُبَاحِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَبَا إسْرَائِيلَ قَائِمًا : فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَيَصُومَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مُرُوهُ فَلْيَصُمْ وَلْيَقْعُدْ وَلْيَسْتَظِلَّ } ؛ فَأَخْبَرَهُ بِإِتْمَامِ الْعِبَادَةِ وَنَهَاهُ عَنْ فِعْلِ الْمُبَاحِ.
وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَهِيَ سَاقِطَةٌ إجْمَاعًا ؛ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ }. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 352 }
وقال ابن عادل :
والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه وهذا النوع من النَّذْر كان في بني إسرائيل ، ولم يوجَد في شرعنا.
قال ابن العربي : " لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حَمْلِها نذرٌ ؛ لكونها حُرَّةٌ ، فلو كانت امرأته أَمَة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده. وكيفما تصرفت حاله فإنه إن كان الناذرُ عبداً فلم يتقرر وله في ذلك ، وإن كان حُرًّا ، فلا يصح أن يكون ، مملوكاً له ، وكذلك المرأة مثله ، فأي وجه للنذر فيه ؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريدُ ولَده للأنس به والتسلّي ، والاستنصارِ ، فطلبت هذه المرأة أنساً به ، وسُكوناً إليه ، فلمَّا مَنَّ الله - تعالى - عليها به نذرَتْ أن حظها من الأنس متروك فيه ، وهو على خدمة الله - تعالى - موقوفٌ ، وهذا نَذْر الأحرار من الأبرار ، وأرادت به مُحَرَّراً من جهتي رق الدنيا وأشغالها. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 170 ـ 171}
قوله تعالى {فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}
قال الفخر :
التقبل : أخذ الشيء على الرضا ، قال الواحدي : وأصله من المقابلة لأنه يقبل بالجزاء ، وهذا كلام من لا يريد بما فعله إلا الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في عبادته ، ثم قالت {إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} والمعنى : أنك أنت السميع لتضرعي ودعائي وندائي ، العليم بما في ضميري وقلبي ونيتي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 23}(13/13)
من فوائد العلامة الآلوسى فى الآية
قال عليه الرحمة :
{ إِذْ قَالَتِ امرأت عمران } تقرير للاصطفاء وبيان لكيفيته ، والظرف في حيز النصب على المفعولية بفعل محذوف أي اذكر لهم وقت قولها ، وقيل : هو منصوب على الظرفية لما قبله ، وهو { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ آل عمران : 34 ] على سبيل التنازل أو السميع ولا يضر الفصل بينهما بالأجنبي لتوسعهم في الظروف ، وقيل : هو ظرف لمعنى الاصطفاء المدلول عليه باصطفى المذكور كأنه قيل : واصطفى آل عمران. { إِذْ قَالَتِ } الخ فكان من عطف الجمل لا المفردات على المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل في ذلك الوقت ، وامرأة عمران هي حنة بنت فاقوذا كما رواه إسحق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، والحاكم عن أبي هريرة وهي جدة عيسى عليه الصلاة والسلام وكان لها أخت اسمها إيشاع تزوجها زكريا عليه الصلاة والسلام هي أم يحيى فعيسى ابن خالة يحيى كما ذكر ذلك غير واحد من الإخباريين ويشكل عليه ماأخرجه الشيخان في حديث المعراج من قوله صلى الله عليه وسلم : " فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا " وأجاب صاحب "التقريب" بأن الحديث مخرج على المجاز فإنه كثيراً ما يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه ، والغرض أن بينهما عليهما الصلاة والسلام هذه الجهة من القرابة وهي جهة الخؤلة ، وقيل : كانت إيشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب على أن عمران نكح أولاً أم حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناءاً على حل نكاح الربائب في شريعتهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم ، وفيه أنه مخالف لما ذكره محيي السنة من أن إيشاع وحنة بنتا فاقوذا على أنه بعيد لعدم الرواية في الأمرين. أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حنة امرأة عمران كانت حبست عن الولد والمحيض فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخاً له فتحركت نفسها للولد فدعت الله تعالى أن يهب لها ذكراً فحاضت من(13/14)
ساعتها فلما طهرت أتاها زوجها فلما أيقنت بالولد قالت : لئن نجاني الله تعالى ووضعت ما في بطني لأجعلنه محرراً ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان فقال لها زوجها : أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى والأنثى عورة فكيف تصنعين ؟ فاغتمت لذلك فقالت عند ذلك :
{ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنّي } وهذا في الحقيقة استدعاء للولد الذكر لعدم قبول الأنثى فيكون المعنى رب إني نذرت لك ما في بطني فاجعله ذكراً على حد أعتق عبدك عني وجعله بعض الأئمة تأكيداً لنذرها وإخراجاً له عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز واللام من { لَكَ } للتعليل ، والمراد لخدمة بيتك والمحرر من لا يعمل للدنيا ولا يتزوج ويتفرغ لعمل الآخرة ويعبد الله تعالى ويكون في خدمة الكنيسة قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال مجاهد : المحرر الخادم للبيعة ، وفي رواية عند الخالص الذي لا يخالطه شيء من أمر الدنيا ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : أرادت عتيقاً خالصاً لطاعتك لا أصرفه في حوائجي ، وعلى كل هو من الحرية وهي ضربان أن لا يجري عليه حكم السبي وأن لا تتملكه الأخلاق الرديئة والرذائل الدنيوية.
وانتصابه على الحالية من { مَا } والعامل فيه { نَذَرْتُ } ؛ وقيل : من الضمير الذي في الجار والمجرور ، والعامل فيه حينئذ الاستقرار ولا يخفى رجحان الوجه الأول والحال إما مقدرة أو مصاحبة ، وجوز أبو حيان أن ينصب على المصدر أي تحريراً لأنه بمعنى النذر ، وتأكيد الجملة للإيذان بوفور الرغبة في مضمونها وتقديم الجار والمجرور لكمال الاعتناء به والتعبير عن الولد بما لإبهام أمره وقصوره عن درجة العقلاء ، والتقبل أخذ الشيء على وجه الرضا وأصله المقابلة بالجزاء وتقبل هنا بمعنى اقبل.
{ إِنَّكَ أَنتَ السميع } لسائر المسموعات فتسمع دعائي { العليم } بما كان ويكون فتعلم نيتي وهو تعليل لاستدعاء القبول من حيث إن علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلاً وإحساناً ، وتأكيد الجملة لغرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتي السمع والعلم عليه تعالى لغرض اختصاص دعائها وانقطاع حبل رجائها عما عداه سبحانه بالكلية مبالغة في الضراعة والابتهال قاله شيخ الإسلام وتقديم صفة السمع لأن متعلقاتها وإن كانت غير متناهية إلا أنها ليست كمتعلقات صفة العلم في الكثرة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 133 ـ 134}(13/15)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : " مُخْلَصًا لِلْعِبَادَةِ " ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : " خَادِمًا لِلْبِيعَةِ ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ : " عَتِيقًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ".
وَالتَّحْرِيرُ يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْعِتْقُ ، مِنْ الْحُرِّيَّةِ.
وَالْآخَرُ : تَحْرِيرُ الْكِتَابِ ، وَهُوَ إخْلَاصُهُ مِنْ الْفَسَادِ وَالِاضْطِرَابِ.
وَقَوْلُهُ : { إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } إذَا أَرَادَتْ مُخْلَصًا لِلْعِبَادَةِ أَنَّهَا تُنْشِئُهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَشْغَلُهُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا ، وَإِذَا أَرَادَتْ بِهِ أَنَّهَا تَجْعَلُهُ خَادِمًا لِلْبِيعَةِ أَوْ عَتِيقًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ مَعَانِيَ جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَقَارِبَةٌ ، كَانَ نَذْرًا مِنْ قِبَلِهَا نَذَرَتْهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهَا : نَذَرْته ثُمَّ قَالَتْ : { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَالنَّذْرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا بِأَنْ يَنْذِرَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُنَشِّئَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ ، وَأَنْ لَا يَشْغَلَهُ بِغَيْرِهِمَا ، وَأَنْ يُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ وَعُلُومَ الدِّينِ.
وَجَمِيعُ ذَلِكَ نُذُورٌ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهَا : { نَذَرْتُ لَكَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ ، وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ لِلَّهِ تَعَالَى قُرْبَةً يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهَا.(13/16)
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّذُورَ تَتَعَلَّقُ عَلَى الْأَخْطَارِ وَعَلَى أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهَا : { نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } أَرَادَتْ بِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَبُلُوغِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَخْلُصَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ النَّذْرِ بِالْمَجْهُولِ ؛ لِأَنَّهَا نَذَرَتْهُ وَهِيَ لَا تَدْرِي ذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ ضَرْبًا
مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ فِي تَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَتَرْبِيَتِهِ ، لَوْلَا أَنَّهَا تَمْلِكُ ذَلِكَ لَمَا نَذَرَتْهُ فِي وَلَدِهَا.
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ تَسْمِيَةَ وَلَدِهَا وَتَكُونُ تَسْمِيَةً صَحِيحَةً ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ الْأَبُ ؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } وَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لَوَلَدِهَا هَذَا الِاسْمَ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 291}(13/17)
قوله تعالى : {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر بما اقتضى مضى عزمها قبل الوضع أخبر بتحقيقه بعده فقال : {فلما وضعتها قالت} أي تحسراً ذاكرة وصف الإحسان استمطاراً للامتنان {رب إني وضعتها} قال الحرالي : من الوضع وهو إلقاء الشيء المستثقل {أنثى} هي أدنى زوجي الحيوان المتناكح - انتهى.
ولما كان الإخبار عادة إنما هو لمن لا يعلم الخبر بينت أن أمر الله سبحانه وتعالى ليس كذلك ، لأن المقصود بإخباره ليس مضمون الخبر وإنما هو شيء من لوازمه وهنا التحسر فقالت : {والله} أي الذي له صفات الكمال.(13/18)
ولما كان المراد التعجيب من هذه المولودة بأنها من خوارق العادات عبرت عنها بما فقالت : {أعلم بما وضعت} وعبرت بالاسم الأعظم موضع ضمير الخطاب إشارة إلى السؤال في أن يهبها من كماله ويرزقها من هيبته وجلاله ، وفي قراءة إسكان التاء الذي هو إخبار من الله سبحانه وتعالى عنها - كما قال الحرالي - إلاحة معنى أن مريم عليها الصلاة والسلام وإن كان ظاهرها الأنوثة ففيها حقيقة المعنى الذي ألحقها بالرجال في الكمال ، حتى كانت ممن كمل من النساء لما لا يصل إليه كثير من رجال عالمها ، فكان في إشعاره أن الموضوع كان ظاهره ذكراً وحقيقته أنثى.
ولما كان مقصودها مع إمضاء نذرها بعد تحقق كونها أنثى التحسر على ما فاتها من الأجر في خدمة البيت المقدس بما يقابل فضل قوة الذكر على الأنثى وصلاحيته للخدمة في كل أحواله قالت : {وليس الذكر} أي الذي هو معتاد للنذر وكنت أحب أن تهبه لي لأفوز بمثل أجره في هذا الفرض في قوته وسلامته من العوارض المانعة من المكث في المسجد ومخالطة القومة {كالأنثى} التي وضعتها ، وهي داخلة في عموم النذر بحكم الإطلاق في الضعف وعارض الحيض ونحوه فلا ينقص يا رب أجري بسبب ذلك ، ولو قالت : وليست الأنثى كالذكر ، لفهم أن مرادها أن نذرها لم يشملها فلا حق للمسجد فيها من جهة الخدمة.
قال الحرالي : وفي إشعار هذا القول تفصل مما تتخوفه أن لا يكون ما وضعته كفافاً لنذرها ، لما شهدت من ظاهر أنوثة ما وضعت ، فجعلها الله سبحانه وتعالى لها أكمل مما اشتملت عليه عزيمتها من رتبة الذكورة التي كانت تعهدها ، فكانت مريم عليها السلام أتم من معهود نذرها مزيد فضل من ربها عليها بعد وفاء حقيقة مقصودها في نذرها - انتهى.
(13/19)
ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه وتعالى كالحالية التي قبله إذا أسكنت التاء ، والتقدير : قالت كذا والحال أن الله أعلم منها بما وضعت ، والحال أيضاً أنه ليس الذكر الذي أرادته بحكم معتاد النذر كالأنثى التي وهبت لها فدخلت فيه بحكم إطلاقه ، بل هي أعلى ، لأن غاية ما تعرفه من المنذورين أن يكون كأنبيائهم المقررين لحكم التوراة ، وهذه الأنثى مع ما لها من العلو في نفسها ستكون سبباً في السؤال في نبي هو أعظم أنبيائهم ، وتلد صاحب شريعة مستقلة ، ثم يكون مقرراً لأعظم الشرائع.
ولما تم ما قالته عند الوضع او قاله الله في تلك الحالة أتم سبحانه وتعالى الخبر عن بقية كلامها وأنها عدلت عن مظهر الجلالة إلى الخطاب على طريق أهل الحضرة ، وأكدت إعلاماً بشدة رغبتها في مضمون كلامها فقال حاكيا : {وإني سميتها مريم} ومعنى هذا الاسم بلسانهم : العابدة.
قال الحرالي : فيه إشعار بأن من جاء بشيء أو قربه فحقه أن يجعل له اسماً ، ورد أن السقط إذا لم يسم يطالب من حقه أن يسميه فيقول : يا رب! أضاعوني ، فكان من تمام أن وضعتها أن تسميها ، فيكون إبداؤها لها وضع عين وإظهار اسم ، لما في وجود الاسم من كمال الوجود في السمع كما هو في العين ، ليقع التقرب والنذر بما هو كامل الوجود عيناً واسماً.
ولما كانت محررة لله سبحانه وتعالى كان حقاً أن يجري الله سبحانه وتعالى إعاذتها قولاً كما هو جاعلها معاذة كوناً من حيث هي له ، وما كان في حمى الملك لا يتطرق إليه طريدة فقالت : {وإني أعيذها بك} وفي قوله : {وذريتها} إشعار بما أوتيته من علم بأنها ذات ذرية ، فكأنها نطقت عن غيب من أمر الله سبحانه وتعالى مما لا يعلمه إلا الله ، فهو معلمه لمن شاء.
(13/20)
ولما كان من في حصن الملك وحرزه بجواره بعيداً ممن أحرقه بنار البعد وأهانه بالرجم حققت الإعاذة بقولها : {من الشيطان الرجيم} وفي هذا التخليص لمريم عليها السلام بالإعاذة ولذريتها حظ من التخليص المحمدي لما شق صدره ونبذ حظ الشيطان منه وغسل قلبه بالماء والثلج في البداية الكونية ، وبماء زمزم في البداية النبوية عند الانتهاء الكوني ، فلذلك كان لمريم ولذريتها بمحمد صلى الله عليه وسلم اتصال واصل ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، من أجل أنه ليس بيني وبينه نبي ، وبما هو حكم أمامه في خاتمة يومه وقائم من قومه دينه ". أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 71 ـ 72}(13/21)
وقال الآلوسى :
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير لما ولما علم المتكلم أن مدلولها مؤنث جاز له تأنيث الضمير العائد إليه وإن كان اللفظ مذكراً ، وأما التأنيث في قوله تعالى : { قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } فليس باعتبار العلم بل باعتبار أن كل ضمير وقع بين مذكر ومؤنث هما عبارتان عن مدلول واحد جاز فيه التذكير والتأنيث نحو الكلام يسمى جملة ، و{ أنثى } حال بمنزلة الخبر فأنث العائد إلى ( ما ) نظراً إلى الحال من غير أن يعتبر فيه معنى الأنوثة ليلزم اللغو أو باعتبار التأويل بمؤنث لفظي يصلح للمذكر والمؤنث كالنفس ، والحبلة ، والنسمة فلا يشكل التأنيث ولا يلغو { أنثى } بل هي حالة مبينة كذا قيل ولا يخلو عن نظر ، فالحق أن الضمير لما في بطني والتأنيث في الأول لما أن المقام يستدعي ظهور أنوثته واعتباره في حيز الشرط إذ عليه يترتب جواب ( لما ) لا على وضع ولد مّا ، والتأنيث في الثاني للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء وانقطاع حبل الأمل ، و{ أنثى } حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه ، وليس الغرض من هذا الكلام الإخبار لأنه إما للفائدة أو للازمها ، وعلم الله تعالى محيط بهما بل لمجرد التجسر والتحزن ، وقد قال الإمام المرزوقي : إنه قد يرد الخبر صورة لأغراض سوى الإخبار كما في قوله :
قومي هم قتلوا أميم أخي... فإذا رميت ( يصيبني سهمي )(13/22)
فإن هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار ، وحاصل المعنى هنا على ما قرر فلما وضعت بنتاً تحسرت إلى مولاها وتفجعت إذ خاب منها رجاها وعلى هذا لا إشكال أصلاً في التأنيث ولا في الجزاء نفسه ، ولا في ترتبه على الشرط ، وما قيل : إنه يحتمل أن يكون فائدة هذا الكلام التحقير للمحرر استجلاباً للقبول لأنه من تواضع لله تعالى رفعه الله سبحانه فمستحقر من القول بالنسبة إلى ما ذكرنا ؛ والتأكيد هنا قيل : للرد على اعتقادها الباطل وربما أنه يعود إلى الاعتناء والمبالغة في التحسر الذي قصدته والرمز إلى أنه صادر عن قلب كسير وفؤاد بقيود الحرمان أسير. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 134}
قال الفخر :
اعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها ، وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها ، وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة الله هو الذكر دون الأنثى فقالت {رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى} خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام لله تعالى ، تعالى الله عن أن يحتاج إلى إعلامها ، بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 23 ـ 24}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير في " وضعتها " يعود على " ما " - من حيث المعنى- ؛ لأن الذي في بطنها أنْثَى - في علم الله - فعاد الضمير على معناها دون لفظها.
وقيل : إنما أنث ؛ حَمْلاً على مضيّ النسمة أو الْجِبلَّة أو النفس ، قاله الزمخشريُّ.
وقال ابنُ عطية : حملاً على الموجودة ، ورفعاً للفظ " ما " في قوله { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً }.
قوله : { أنثى } فيه وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة على الحال ، وهي حال مؤكِّدَة ؛ لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير ، فجاءت " أنثى " مؤكدة.(13/23)
قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : كيف جاز انتصاب " أنثى " حالاً من الضمير في " وَضَعْتُهَا " وهو كذلك كقولك : وضعت الأنثى أنثى ؟
قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال ؛ لأن الحالَ وذا الحال لشيء واحد ، كما أنث الاسم في من كانت أمك ؛ لتأنيث الخبر ، ونظيره قوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثنتين } [ النساء : 176 ].
وأما على تأويل النسمة والجبلة فهو ظاهرٌ ، كأنه قيل : إني وَضَعْتُ النسمةَ أنثى ".
يعني أن الحال على الجواب الثاني - تكون مبيِّنة لا مؤكِّدة ؛ وذلك لأن النسمة والجبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى ، فلما حصل الاشتراكُ جاءت الحال مبيِّنةً لها ، إلا أن أبا حيّان ناقشة في الجواب الأول ، فقال : وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أن " أنثى " تكون حالاً مؤكِّدة ، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن يكون حالاً مؤكِّدة ، وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك - حيث عاد الضمير على معنى " ما " - فليس ذلك نظير { وَضَعْتُهَآ أنثى } ؛ لأن ذلك حَمْلٌ على معنى " ما " إذ المعنى : اية امرأة كانت أمك ، أي كانت هي أي أمُّك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبرِ ، وإنما هو من باب الحملِ على معنى " ما " ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير { وَضَعْتُهَآ أنثى } ؛ لأن الخبر تخصَّصَ بالإضافة غلى الضمير فاستفيد من الخبر ما لا يُستفاد من الاسم ، بخلاف " أنْثَى " فإنه لمجرَّد التأكيد ، وأما تنظيره بقوله : { فَإِن كَانَتَا اثنتين }. فيعني أنه ثَنَّى الاسمَ ؛ لتثنية الخبر. والكلام يأتي عليه في مكانه إن شاء الله تعالى فإنها من المشكلات ، فالأحسن أن يُجعل الضمير - في { وَضَعْتُهَآ أنثى } - عائداً على النسمة أو النفس ، فتكون الحال مبيِّنة مؤكِّدة.(13/24)
قال شهاب الدين : قوله : " ليس نظيرها ؛ لأن من كانت أمك " حُمل فيه على معنى من ، وهذا أنث لتأنيث الخبر " ليس كما قال ، بل هو نظيره ، وذلك أنه في الآية الكريمة حُمل على معنى " ما " كما حمل هناك على معنى " من " ، وقول الزمخشري : " لتأنيث الخبر " أي لأن المرادَ بـ " من " : التأنيث ، بدليل تأنيث الخبر ، فتأنيث الخبر بَيَّنَ لنا أن المراد بـ " من " المؤنث كذلك تأنيث الحال وهو أنثى ، بيّن لنا أن المراد بـ " ما " في قوله : { مَا فِي بَطْنِي } أنه شيءٌ مؤنث ، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر ، وأما قوله : " فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف { وَضَعْتُهَآ أنثى } ، فإنه لمجرد التوكيد " ليس بظاهر أيضاً ؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأكيد في كلّ من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية وقَبْل مجيء الخبر في النظير المأما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض ، فلا يضر ذلك في التنظير ، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة ، وقد تحصل لك في هذه الحالة وجهان :
أحدهما : أنها مؤكِّدة إن قلنا : إن الضمير في { وَضَعَتْهَا } عائد على معنى " ما ".
الثاني : أنها مبيِّنة إن قلنا : إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجِبلَّة لصدق كل من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكر والأنثى.
الوجه الثاني من وجهي " أنثى " : أنها بدل من " ها " في { وَضَعَتْهَا } بدل كل من كل - قاله أبو البقاء.
ويكون في هذا البدلِ بيان ما المراد بهذا الضميرِ ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبة ، فإن كان الضمير مرفوعاً نحو : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُوا } [ الأنبياء : 3 ] - على أحد الأوجهِ - فالكل يجيزون فيه البدلَ ، وإن كان غير مرفوعٍ نحو ضربته زيداً ومررت به زيدٍ فاختلِفَ فيه ، والصحيح جوازه كقول الشاعر : [ الطويل ]
(13/25)
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
بجر حاتم الأخير بدلاً من الهاء في " جُودِهِ ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 172 ـ 173}
قوله تعالى : {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}
قال الآلوسى :
{ والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } ليس المراد الرد عليها في إخبارها بما هو سبحانه أعلم به كما يتراءى من السياق بل الجملة اعتراضية سيقت لتعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه والتجهيل لها بقدره أي والله أعلم بالشيء الذي وضعته وما علق به من عظائم الأمور ودقائق الأسرار وواضح الآيات ، وهي غافلة عن ذلك كله ، و( ما ) على هذه عبارة عن الموضوعة ، قيل : والاتيان بها دون من يلائم التجهيل فإنها كثيراً ما يؤتى بها لما يجهل به وجعلها عبارة عن الواضعة أي والله تعالى أعلم بشأن أم مريم حين تحسرها وتحزنها من توهم خيبة رجاها وأنها ليست من الولي إلى الله تعالى في شيء إذ لها مرتبة عظمى وتحريرها تحرير لا يوجد منه مما لا وجه له وجزالة النظم تأباه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 135}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرأ ابن عامر وأبو بكر " وَضَعْتُ " بتاء المتكلم - وهو من كلام أمِّ مَرْيَمَ خاطبت بذلك نفسَها ؛ تَسَلِّياً لها واعتذاراً للهِ تعالى ؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس.
قال الزمخشريُّ - وقد ذكر هذه القراءة- : " تعني ولعل الله - تعالى - فيه سِرًّا وحكمةً ، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر ؛ تَسلِيَةً لنفسها ".
وقيل : قالت ذلك ؛ خوفاً أن يُظَنَّ بها أنها تُخْبِر الله - تعالى - فأزالت الشبهةَ بقولها هذا وبينت أنها إنما قالتْ ذلك للاعتذارِ لا للإعلام - وفي قولها : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } التفات من الخطاب إلى الغيبة ؛ إذ لو جَرَتْ على مقتضَى قولها : " رَبِّ " لقالت : وأنت أعلم.(13/26)
وقرأ الباقون : " وَضَعَتْ " بتاء التأنيث الساكنةِ - على إسناد الفعل لضمير أم مريم ، وهو من كلام الباري تعالى ، وفيه تنبيه على عِظَم قَدْر هذا المولود ، وأنَّ له شأناً لم تعرفيه ، ولم تعرفي إلا كونه أنثى لا غير ، دون ما يئول إليه من أمور عِظَامٍ ، وآيات واضحةٍ.
قال الزمخشريُّ : " ولتكلُّمها بذلك على وجه التحسُّر والتحزُّن قال الله - تعالى - : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعها ، وتجهيلاً لها بقدر ما وُهِبَ لها منه ، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت ، وما علق به من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين ، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت ".
وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله : { والله أَعْلَمُ } قال : " ولو كان من كلامِ مريم لكان التركيب : وأنت أعلم ". وقد تقدم جوابُه بأنه التفات.
وقرأ ابن عباس " والله أعلم بِمَا وَضَعَتِ " - بكسر التاء - خاطبها الله - تعالى - بذلك ، بمعنى : أنك لا تعلمين قدرَ هذه المولودة ، ولا قدر ما علم الله فيها من عظائمِ الأمورِ.
قوله : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } ؛ هذه الجملة - يحتمل أن تكون معترضةً ، وأن يكون لها محل ، وذلك بحسب القراءات المذكورة في " وَضَعَتْ " - كما يأتي تفصيله - والألف واللام في " الذكَر " يحتمل أن تكون للعهدِ ، والمعنى : ليس الذكر الذي طلبَتْ كالأنثى التي وَهِبَتْ لها.
قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : فما معنى قولها : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } ؟
(13/27)
قلت : هو بيان لما في قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } من التعظيم للموضوع ، والرفع منه ، ومعناه : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهِبَتْ لها ، والألف واللام فيهما يحتمل أن تكون للعهد وأن تكون للجنس ، على أن المراد : أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية ؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات والتحرير ولمخالطة الأجانب ، بخلاف الأنثى ؛ لِما يعتريها من الحيض ، وعوارض النسوان.
وكان سياقُ الكلام - على هذا - يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر ، وحصل عندَها ، وانتفت عنه صفاتُ الكمال للغرض المقصود منه ، فكان التركيبُ : وليس الأنثى كالذكر ، وإنما عدل عن ذلك ؛ لأنها بدأت بالأهم لما كانت تريده ، وهو المُتَلَجلِج في صدرها ، والحائل في نفسها ، فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به ، فصار التقديرُ : وليس جنسُ الذكرِ مثل جنس الأنثى ، لما بينهما من التفاوتِ فيما ذكر ، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء ، وفهموها عن الله - تعالى - لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنًى ؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلَمُ أن الذكر لَيْسَ كالأنثى.
وقوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } هذه الجملة معطوفة على قوله { إِنِّي وَضَعْتُهَآ } على قراءة مَنْ ضَمَّ التاء في قوله وضعت فتكون هي وما قبلها في محل نصب بالقول ، والتقدير : قالت : إني وضعتُها ، وقالت : والله أعلم بما وَضَعْتُ ، وقالت : وليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَم.
وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فتكون { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا } أيضاً معطوفاً على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ } ويكون قد فصل بين المتعاطفَيْن بجملتي اعتراض ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] قاله الزمخشريُّ.(13/28)
قال أبو حيّان : " ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان ؛ لأنه يحتمل أن يكون : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } من كلامها في هذه القراءة " ويكون المعترض جملة واحدة - كما كان من كلامها في قراءة من قرأ " وَضَعْتُ " بضم التاء - بل ينبغي أن يكون هذا المتعيِّن ؛ لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، ولأن في اعتراضِ جملتين خلافاً لمذهب أبي علي الفارسي من أنه لا يعترض جملتان.
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما - على زعمه - بين المعطوف والمعطوفِ عليه ، بقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] ليس تشبيهاً مطابقاً للآية ؛ لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم - الذي هو { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } [ الواقعة : 75 ] - وبين جوابه - الذي هو { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] - بجملة واحدة - وهي قوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } - لكنه جاء في جملة الاعتراض - بين بعض أجزائها ، وبعض اعتراض بجملة - وهي قوله : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } اعتراضٌ بها بين المنعوتِ الذي هو " لَقَسَمٌ " - وبين نعته - الذي هو " عَظِيمٌ " - فهذا اعتراضٌ ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى }.
قال شهابُ الدين : والمشاحَّة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة ، وقوله : " ليس فصلاً بجملتي اعتراض " ممنوع ، بل هو فَصْلٌ بجملتي اعتراض ، وكونه جاء اعتراضاً في اعتراض لا يضر ولا يقدَح في قوله : فصل بجملتين " ف " سمى " يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، وإلى الآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه ، تقول : سميت زيداً ، والأصل : بزيدٍ ، وجمع الشاعرُ بين الأصل والفرع في قوله : [ المتقارب ]
وَسُنِّيْتَ كَعباً بِشَرِّ الْعِظَامِ... وَكَانَ أبُوكَ يُسَمَّى الْجَعَل(13/29)
أي يسمى بالجُعَل - وقد تقدم الكلامَ في مريمَ واشتقاقها ومعناها. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 174 ـ 176}
قوله تعالى {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى}
قال الفخر :
فيه قولان الأول : أن مرادها تفضيل الولد الذكر على الأنثى ، وسبب هذا التفضيل من وجوه
أحدها : أن شرعهم أنه لا يجوز تحرير الذكور دون الإناث
والثاني : أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ، ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان
والثالث : الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة
والرابع : أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى
والخامس : أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى.
والقول الثاني : أن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر ، كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى ، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله ، وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 24}(13/30)
وقال الآلوسى :
{ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } اعتراض آخر مبين لما اشتمل عليه الأول من التعظيم وليس بياناً لمنطوقه حتى يلحق بعطف البيان الممتنع فيه العطف. واللام في الذكر والأنثى للعهد ، أما التي في الأنثى فلسبق ذكرها صريحاً في قوله سبحانه حكاية : { إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } وأما التي في الذكر فلقولها : { إِنّي نَذَرْتُ } [ آل عمران : 35 ] الخ إذ هو الذي طلبته والتحرير لا يكون إلا للذكر وسمي هذا العهد التقديري وهو غير الذهني لأن قولها : { مَا فِي بَطْنِي } [ آل عمران : 35 ] صالح للصنفين ، وقولها : { مُحَرَّرًا } [ آل عمران : 35 ] تمن لأن يكون ذكراً فأشير إلى ما في البطن حسب رجائها ، وجوز أن تكون الجملة من قولها فيكون مرادها نفي مماثلة الذكر للأنثى ، فاللام للجنس كما هو الظاهر لأنه لم يقصد خصوص ذكر وأنثى بل إن المراد أن هذا الجنس ليس كهذا الجنس ، وأورد عليه أن قياس كون ذلك من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر والعادة في مثله أن ينفى عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس ، وأجيب بأنه جار على ما هو العادة في مثله أيضاً لأن مراد أمّ مريم ليس تفضيل الذكر على الأنثى بل العكس تعظيماً لعطية الله تعالى على مطلوبها أي وليس الذكر الذي هو مطلوبي كالأنثى التي وهبها الله تعالى لي علماً منها بأن ما يفعله الرب خير مما يريده العبد وفيه نظر أما أولاً : فلأن اللام في الذكر والأنثى على هذا يكون للعهد وهو خلال الظاهر الذي ذهب إليه أكثر المفسرين ، وأما ثانياً : فلأنه ينافي التحسر والتحزن المستفاد من قولها : { رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } فإن تحزنها ذلك إنما هو لترجيحها الذكر على الأنثى ، والمفهوم من هذا الجواب ترجيحها الأنثى على الذكر اللهم إلا أن يحمل قولها ذلك على تسلية نفسها بعد ما تحزنت على هبة الأنثى بدل الذكر الذي كانت طلبته إلا أنه تبقى مخالفة الظاهر على ما هي ، فالأولى(13/31)
في الجواب عدم الخروج عما هو الظاهر والبحث فيما اقتضته العادة فقد قال في "الانتصاف" بعد نقل الإيراد وذكر القاعدة : وقد وجدت الأمر في ذلك مختلفاً فلم يثبت لي تعين ما قالوه ألا ترى إلى قوله تعالى : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء } [ الأحزاب : 32 ] فنفى عن الكامل شبه الناقص لأن الكمال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران ومنه أيضاً { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] انتهى.
وتمام الكلام في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين أنه إذا دخل نفي بلا أو غيرها ، أو ما في معناه على تشبيه مصرح بأركانه ، أو ببعضها احتمل معنيين تفضيل المشبه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه بكذا لأن وجه الشبه فيه أولى وأقوى كقولك ليس زيد كحاتم في الجود ويحتمل عكسه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه به لبعد المسافة بينهما كقول العرب ماء ولا كصداء ، ومرعى ولا كالسعدان ، وفتى ولا كمالك وقوله :
طرف الخيال ولا كليلة مدلج... ووقع في شروح "المقامات" وغيرها أن العرب لم تستعمل النفي بلا على هذا الوجه إلا للمعنى الثاني وأن استعماله لتفضيل المشبه من كلام المولدين حتى اعترضوا على قول الحريري في قوله :
غدوت ولا اغتداء الغراب... وعِيب قول صاحب "التلويح" في خطبته : نال حظاً من الاشتهار ولا اشتهار الشمس نصف النهار ، ومبنى الاعتراض على هذا ، ولعله ليس بلازم كما أشار إليه صاحب "الانتصاف" بما أورد منه الآيات ، ومما أورده الثعالبي من خلافه أيضاً في كتابه "المنتخب" فلا حسن ولا القمر ، وجواد ولا المطر على أنه لو سلم ما ذكروه فالمعاني لا حجر فيها على أن ما ورد في النفي بلا المعترضة بين الطرفين لا في كل نفي انتهى. وهو كما قال : من نفائس المعاني التي ينبغي حفظها. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 135}(13/32)
بحث علمى
" وليس الذكر كالأنثى "
بقلم الدكتور / محمد علي البار
تقديم لفضيلة الشيخ / محمد عبدالله الخطيب
هذه بحوث علمية ودراسات نفسية عن تكوين المرأة وقدراتها الحقيقية ، من عالم متميز في هذه الدراسات ومجرب من خلال المعامل في هذه الأشياء ، فهو يدلي برأيه المؤمن الخبير المحايد الذي يقول الحق دائماً ، والموقع على استعداد بقبول من يعترض على هذه الأشياء بصدر رحب ، وهذا البحث الأول ويليه مجموعة بحوث في نفس الموضوع
إن الفروق الفسيولوجية "الوظيفية" والتشريحية بين الذكر والأنثى أكثر من أن تحصى وتعد.. فهي تبتدأ بالفروق على مستوى الصبغيات "الجسيمات الملونة أو الكروموسومات" التي تتحكم بالوراثة.. والتي تدق وتدق حتى أن ثخانتها تقاس بالأنجستروم ـ واحد على بليون من المليمتر ـ ثم ترتفع إلى مستوى الخلايا ، وكل خلية في جسم الإنسان توضح لك تلك الحقيقة الفاصلة بين الذكورة والأنوثة.. تتجلى الفروق بأوضح ما يكون في نطفة الذكر(الحيوانات المنوية) ونطفة المرأة (البويضة).. ثم ترتفع الفروق بعد ذلك في أجهزة الجسم المختلفة من العظام إلى العضلات.. وتتجلى كأوضح ما يكون في اختلاف الأجهزة التناسلية بين الذكر والأنثى ، ولا تقتصر الفروق على الجهاز التناسلي وإنما تشمل جميع أجهزة الجسم.. ولكنها تدق وتدق في بعض الأجهزة وتتضح في أخرى. وجهاز الغدد الصماء هو أحد الأجهزة التي تتجلى فيها الفروق كأوضح ما يكون.. فهرمونات الذكورة تختلف عن هرمونات الأنوثة في تأثيرها اختلافا كبيراً رغم أن الفرق الكيماوى بسيط ، ويتمثل في زيادة ذرة من الكربون وثلاثة ذرات من الهيدروجين إلى التركيب الجزئى في هرمون الأنوثة.
وهذه ملاحظة أخرى هامة أشار إليها القرآن الكريم ? وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ? سورة البقرة الآية 228 ، فهرمون الذكورة يساوي هرمون الأنوثة + مجموعة مثيلية ، وكذلك الجهاز التناسلي للرجل يساوى الجهاز التناسلي للمرأة + أعضاء اضافية.(13/33)
وفي أثناء تكوين الجنين في مراحله الأولى يكون جنين الذكر مشابهاً في أول الأمر لجنين الأنثى ، ويصعب التفريق بينهما إلا على مستوى الصبغيات الكروموسومات.. ولكن سرعان ما تتميز منطقة في المخ تدعي تحت المهاد لدى الجنين الذكر على مثيله الجنين الأنثوي.. وهذه الاضافة والزيادة في مخ جنين الذكر تؤدى إلى الفروق الهائلة فيما بعد بين الجهاز التناسلي للذكر والجهاز التناسلي للأنثى.. كما يؤدي إلى الفروق الهائلة بين غدد الذكر الصماء وغدد الأنثى.. وتؤثر هذه الغدد على مختلف أنشطة الجسم وعلى هيكله أيضا.. ومن ثم يختلف بناء هيكل الذكر عن بناء هيكل الأنثى ، كما تختلف الوظائف تبعاً لذلك.. والسبب في تمايز منطقة تحت المهاد من المخ بين جنين الذكر وجنين الأنثى هو هرمون التسترون الذي تفرزه مشيمة الجنين الذكر.. ثم تنمو الغدة التناسلية وتؤثر بالتالى على المنطقة المخية ـ تحت المهاد ـ.
ومن الغريب حقا أن هيكل البناء يصمم أساسا على هيكل الأنثى ، فإن وجد صبغ الذكورة ـ كروموسوم الذكورة ـ فإنه يضيف إلى ذلك الكيان اضافات تجعل النهاية ذكراً. أما إذا اختفى هذا الكروموسوم الهام من تركيب البويضة الملقحة كما يحصل في بعض الحالات النادرة حتى تُرينا قدرة المولى عز وجل فإن النتيجة النهائية هي جسم امرأة ، وإن كانت ناقصة التكوين ، ففي حالة (ترنر) فإن البويضة الملقحة تحتوى فقط على كروموسوم X O فلا هي أنثى محتوية على X X ولا هي ذكر محتوية على X Y.. فماذا تكون النتيجة ؟
تكون النتيجة أنثى غير أنها لا تحيض ولا تحبل ولا تلد ، أما إذا كانت نتيجة التلقيح مثلا X X Y كما يحصل في حالة (كلينفلتر) فإن الطفل المولود يكون ذكراً رغم وجود صبغيات الأنوثة بصورة كاملة.. وإن كان ذكر ضعيف الهمة بارد الشهوة خائر العزيمة.. وذلك لتراكم صبغ الأنوثة فيه.(13/34)
أما إذا زاد صبغ الذكورة في البويضة الملقحة وصار حاصلها الكروموسومين X Y Y أي أن بها صبغين كروموسومين كاملين من اصباغ الذكورة ، فإن النتيجة تكون ذكراً قوي الشكيمة شديد البأس كثير العدوان.. حتى أن الفحوصات التي أجريت لاعتى المجرمين في السجون وأشدهم بأساً وأقداماً أظهرت أن كثيراً منهم كانوا ممن لديهم زيادة في صبغ كروموسوم" الذكورة!!
ولعله لو فحص الرجال المشهورون في التاريخ بزيادة الشجاعة والاقدام والرجولة والخشونة.. لربما وجدنا أن ذلك مرجعه في كثير من الحالات إلى زيادة صبغ الذكورة Y لدي هؤلاء الموصوفين بزيادة جرأتهم واقدامهم ، سواء كان ذلك في مجال الخير أو في مجال الشر.
والفرق بين رجل وآخر من حيث الإقدام وصفات الرجولة يرجع في بعض الأحيان إلى زيادة هرمون الرجولة لدى هذا وقلته النسبية لدي ذلك.
ونظرة إلى المخصيين الذين تم اخصاؤهم قبل البلوغ ترينا كيف تتحول رجولتهم إلى الأنوثة.. ولا ينبت شعر عذارى المخصي وذقنه وشاربه.. ويتوزع الدهن بنفس الطريقة التي يتوزع فيها في الأنثى.. أي في الارداف والعجز.. وتلين عظامه وترق.. ويبقى صوته رخيماً على نبرة الطفولة دون أن تصيبه غلظة الرجولة وأجشها.
أما أولئك الذين اخصوا بعد البلوغ فإن علامات الرجولة سرعان ما تندثر ، ويسقط شعر الذقن والشارب ، ولا يعود إلى النمو ثانية ، وتبدأ العضلات في الترهل.. كما تبدأ الصفات الأنثوية البدنية والنفسية في الظهور لأول مرة.(13/35)
هذه الفروق كلها تؤكد إعجاز الآية ? وللرجال عليهن درجة ? وليست المرحلة مقتصرة فقط على التركيب البيولوجي ولكنها أيضاً تشمل تركيب النفس والقدرات العقلية الكلامية قال تعالى ? أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِين? سورة الزخرف الآية 18 ، فإذا نظرت في التاريخ وجدت النابغين في كل فرع من فروع المعرفة والاختراع والحياة من الرجال ، بينما النابغات من النساء في أي مجال من مجالات المعرفة أو الاختراع محدودات ومعدودات ، ونستطيع أن نذكر المئات من الرجال في كل فن من فنون المعرفة .. وفي قيادة الجيوش وفي الاختراعات وفي الصناعة وفي المال والاقتصاد .. وإنه يسير عليك أن تعد العشرات من النساء في أي فن من هذه الفنون العامة من المعارف الإنسانية والصناعات والاختراعات ، وتستطيع أن تعدل عشرات الأنبياء والمرسلين وهم صفوة البشر ، ولكنك لا تستطيع أن تعد واحدة تتصف بصفات النبوة والرسالة رغم عظم هؤلاء النساء وهن أمهات الأنبياء وزوجاتهم وبناتهم.
إن العذراء مَريم سيدة النساء في زمانها ، وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ، لا يضارعهن أحد من النساء وفعال الواحدة منهن خير من آلاف الرجال ، لكن الحقيقة تبقى كما هي أنه لم ترقى واحدة منهن إلى مستوى النبوة.(13/36)
وليس هذا قدحاً بالمرأة فإن أعظم العباقرة يتصاغر أمام أبسط الأمهات ولا يستطيع أعظم قادة الدنيا من الرجال أن يفعل ما تفعله أبسط النساء وأجهلهن ، أنه لا يستطيع أن ينجب طفلاً ويحمله في بطنه تسعة أشهر ، كما أنه لا يمكنه رضاعته وتربيته مهما كان له من معرفة ونبوغ ، ووظيفة الأمومة لا يستطيع أن يقوم بها أي رجل مهما كان حظه عظيماً من النبوة ، ووظيفة الأمومة تتصاغر أمامها كل الوظائف الأخرى حتى جعل الرسول الكريم الجنة تحت أقدامها "الجنة تحت أقدام الأمهات" ويوصي أصحابه وأمته برعاية الأم بأضعاف أضعاف ما يوجبه للأب ، فعندما سئل المصطفى صلوات الله عليه من أحد أصحابه : من أحق الناس بحسن صحبتي وبري ؟ قال المصطفى : "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك. ثم أدناك فأدناك".
وركز القرآن الكريم على بر الوالدين وحث عليهما أيما حث ، وخص الأم بزيادة ذكر ليبين مزيد فضلها ، قال تعالى : ? وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ? سورة لقمان الآية 14 ، وقال عز من قائل ? وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا? سورة الأحقاف الآية15".
? وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا? سورة الإسراء الآية 23 ، 24.(13/37)
والفروق بين الذكر والأنثى تتجلى في الجنين من الشهر الرابع حيث تتميز أعضاء الذكورة وأعضاء الأنوثة.. وحيث يكون المخ ومنطقة تحت المهاد قد تميزت تميزاً كاملاً بين الجنين الذكر والجنين الأنثى.
وقد لاحظ العلماء والأطباء والمربون الاختلاف الشاسع في سلوك الأنثى ، ولو كانا توأمين.. فالصبي عادة أكثر عنفا ونشاطاً وإدراكاً من اخته.
وتشكو الأمهات في العادة من نشاط أولادهن الزائد وما يسببونه لهن من متاعب وتحطيم في أثاث المنزل ، بينما البنات في العادة هادئات ، وتميل الصغيرات إلى اللعب بالعرائس وإلى تسريحهن والعناية بهن ، ويقمن تلقائياً بدور الأم ، بينما يصعب على الصبي فعل ذلك ، وسرعان ما يلوي رقبة العروسة أن أعطيت له ويمزقها لينظر ماذا في أحشائها.
ويعرف الآباء والأمهات الذين رزقهم الله بذرية من الأولاد والبنات الفروق الشاسعة بين أطفالهم.. وتقف البنت الصغيرة أمام المرأة وتتدلل تلقائياً.. وكثيراً ما كنت أسمع من إحدى بناتي وهن لم يجاوزن بعد سن الثالثة عند لبسها ثوباً جديداً واستعدادها للخروج مع أمها : يا بابا شوف الجمال!!.. أو يا بابا ايه رأيك في الفستان الجميل ده.. أو يا بابا شوف التسريحة الحلوة دي..
ولم يخطر ببال الصبي أن يفعل مثل ذلك بل هو مشغول منذ طفولته الباكرة باللعب بالكرة أو بتفكيك الألعاب التي تهدى له ليعرف ما بداخلها.(13/38)
وتستمر الفروق تنمو يوما بعد يوم حتى تبلغ أوج اختلافها عند البلوغ ، عندما تستيقظ الغدد التناسلية من هجعتها الطويلة وتنشط ، فترسل هرمونات الذكورة إلى الصبي ليصبح رجلا ، فينمو شعر عذاريه وذقنه وشاربه ، ويصبح صوته أجش غليظاً.. وتنمو عضلاته وعظامه وتقوى.. ويتوزع الدهن في جسمه توزيعاً عادلاً.. ويكون عريض المنكبين قوي الساعدين مفتول الذراعين.. أما الفتاة فتنهمر عليها هرمونات الأنوثة ، فتنمو أثداؤها وأجهزتها التناسلية وتبدأ الحيض.. ويتوزع الدهن في جسمها بحيث يخفي أي نتوء أو حفرة لا ترتاح لها العين.. ويزداد الدهن في أرادافها وعجزها.. وينعم صوتها ويصير رخيما.. ليس هذا فحسب ولكن الهرمونات تؤثر في السلوك كما تؤثر في القوام والمشية ، فتجعل الفتى مقداماً محباً للمغامرة ، وتجعل الفتاة شديدة الخفر والحياء ، ميالة إلى الدلال والتغنج.
وهي فروق تظهر في الحيوان المنوى والبويضة كما تظهر في الفتاة اليافعة والشاب الذي طر شاربه. أ هـ {بحث علمى
" وليس الذكر كالأنثى " بقلم الدكتور / محمد علي البار}(13/39)
بحث علمى آخر فى قوله تعالى
{ وليس الذكر كالأنثى }
للأستاذ / عبد الرازق نوفل
بسم الله الرحمن الرحيم
يصعب في جميع الكائنات الحية التمييز بين الذكر والأنثى بالشكل الظاهر ، فغالباً ما تتشابه الذكور مع الإناث تشابها يكاد يكون تاماً بحيث لا يمكن التفريق بينها إلا عن طريق الفحص الدقيق ، فيما عدا الإنسان إذ يختلف الذكر عن الأنثى في الشكل الظاهري اختلافاً كبيراً بحيث يتبين الإنسان الذكر وتعرف الأنثى من النظرة العابرة السريعة .. ولا يختلف الرجل عن المرأة في الشكل الخارجي فقط ولا في التركيب الداخلي علاوة على المظهر الخارجي فقط وإنما أثبتت الدراسات العلمية اختلاف الرجل عن المرأة اختلافاً كبيراً في كل ناحية من النواحي وفي مختلف المناشط وذلك بالرغم من أن النطفة التي يتكون منها جنين الذكر تشابه وتماثل النطفة التي يتكون منها جنين الأنثى في سبعة وأربعين كروموزم أو صبغي ولا تختلف النطفتان إلا في كرومزوم واحد أو صبغية واحدة ... هذا الجزء من ثمانية وأربعين جزءاً الذي يختلف فيه الذكر عن الأنثى يسبب اختلافاً كبيراً وشاسعاً وعميقاً بين الذكر والأنثى في الشكل الظاهري والتركيب الداخلي والعوامل السيكولوجية .(13/40)
فلقد أثبت الدراسات التشريحية في علم وظائف الأعضاء التناسلية أنها لا تقتصر وظيفتها على التناسل وإنما هي تفرز افرازات خاصة بكل جنس وتؤثر تأثيراً مباشراً على كافة أوجه النشاط الفسيولوجي والروحي ، ولقد أثبتت التجارب العلمية أن إزالة الخصى من ذكور أي صنف من الكائنات الحية يقلل من نشاط الكائن ويزيل من صفاته كل ما يتميز به كذكر .. فالثور الذي يخصى تتولد فيه صفات البلادة بدل النشاط والهدوء بدلاً من العنف والاستكانة بدلاً من الوحشية ، كما أثبتت أن المبيض للأنثى له أثر مماثل لتأثير الخصى في الذكر فإن إيقاف عمليه يغير من صفات الأنثى تغييراً كاملاً لتأثير فكلا الجهازين يؤثران تأثيرا مباشراً في حياة الغدد .. وأثبت العلم أن المبيض لا يعمل إلا خلال جزء من حياة الأنثى فإذا وصلت إلى سن اليأس بطل عمل المبيض بينما الخصية تظل عاملة إلى مدة طويلة .. وبذلك فإن المرأة تحرم من إفرازاتها قبل الرجل بمدة أطول وهذا من أوجه الاختلاف بين الذكر والأنثى ..(13/41)
ويزيد العلامة الدكتور الكسيس كاريل على ذلك إذ يقول ( ولا ترجع الفوارق القائمة بين الرجل والمرأة إلى اختلاف شكل الأعضاء التناسلية عند كل مهما كشكل الرحم ونمو الثديين وغير ذلك فحسب ، وإنما ترجع إلى سبب أعمق كثيراً وهو غمر الكيان العضوي كله بمواد كيمائية تنتجها الغدد التناسلية التي تختلف طبيعتها وتركيبها وخواصها في الذكر عن الأنثى . والواقع أن المرأة تختلف عن الرجل جد الاختلاف ، فكل خلية من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها وهذا أيضاً شأن أجهزتها العضوية وعلى الأخص جهازها العصبي ... وأن دور الرجل في علمية التكاثر دور قصير الأجل ومحدود جداً بينما دور المرأة يطول إلى تسعة أشهر تخضع فيها المرأة إلى هذا الكائن الجيني فتظل حالتها الفسيولوجية دائمة التأثر به والإناث لا تبلغ تمام نموها إلا بعد أن تحمل مرة أو أكثر فإذا لم تلد تصبح أقل اتزانا وأكثر عصبية ) .
ويقول الدكتور تيودر وايك ( لقد مارست التحليل النفسي خمساً وأربعين سنة وأظن أنني يمكنني أن أقرر فيم يختلف الرجل والنساء ... إن عواطف الغيرة في المرأة أكبر مما هي في الرجل ، وقد يعتقد البعض أن الغيرة قد لا تكون شيئاً هاماً بحيث يلتفت إليه ، ولكن ثبت أن الغيرة تصحبها انفعالات قاسية وتغييرات نفسية وجسدية معاً مما يؤدي تأثيراً مباشراً على اتزان الفكر ودقة الحكم ، وفي حالة التكاثر يستمر الأمر بالنسبة للمرأة لمدة طويلة تبلغ تسعة أشهر في أثنائها تكون عواطفها موزعة بين جنينها وبين باقي الأفراد الذين تمارس معهم شؤون الحياة ... كما اثبت التحليل النفسي أن الرجال أكثر استعداداً للاعتراف بالأخطاء من النساء ... والاعتراف بالخطأ له تأثيره الكبير في خطة العمل في الحياة .(13/42)
ولا يقتصر الاختلاف بين الذكر والأنثى في ذلك فقط بل إنه يتعدى ذلك إلى السلوك في العمل فقد أثبتت التجربة لاسيما أخيراً بعد أن شاركت المرأة بنصيب كبير في العمل أن هناك من الأعمال ما تجيده المرأة عن الرجل خصوصاً تلك التي تحتاج إلى صبر ووقت طويل وهناك من الأعمال مالا تستطيع المرأة وإن قامت بها كان إنتاجها فيها أقل من الرجل .
أما الشكل الخارجي فاعتقد أن المرأة تختلف فيه عن الرجل اختلافاً كبيراً ووضحاً وجلياً بالرغم من أن الأجهزة الظاهرة للرجل هي التي للأنثى . فأجهزة السمع والبصر والأذن واليد والأرجل بالرغم من اتفاقها في الرجل مع الأنثى فما ابعد الفرق ظاهرياً بينهما .. بل والشعر وطبيعته يختلفان في المرأة عن الرجل ..
وهكذا مهما توغلنا في البحث وجدنا الاختلاف الشديد بين الرجل والمرأة في الشكل الظاهري والتركيب الداخلي العملي والطاقة الإنتاجية .. وكل ما وصل إليه العلم أخيراً في ذلك سبق به القرآن الكريم إذ تقول الآية الشريفة ( وليس الذكر كالأنثى ) صدق الله العظيم سورة آل عمران : 36. أ هـ {الآيات العلمية الأستاذ عبد الرزاق نوفل صـ 56 57 58}(13/43)
بحث ثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا كان مطلب بعض السياسيين والاجتماعيين بمعاملة النساء والرجال بالتساوي باعتبارهما متساويين في الخلق ؛ على حين أثبتت الحقائق العلمية العكس : وإذا تجاهلنا الثوابت العلمية في هذا الخصوص ، فيصبح المطلب إذن بمثابة كذبة بيولوجية ، أي صرف النظر عن ثوابت علمية تتصل بخلق الجسد والدماغ لكل من الجنسين. فإلى متى التظاهر بتساوي النساء مع الرجال رغم اختلافهما بيولوجياً ؟ فالوقت حان لمراجعة الموقف التقليدي القديم حول مساواة المرأة بالرجل الذي عمّ أرجاء من العالم. وحان الوقت لتصفية الخرافة الاجتماعية القائلة : الرجال والنساء متعاوضون ، أي يمكن قيام أحدهم بدور الآخر. ولكن اعلم أن الرجل يختلف عن المرأة ، مهما تحمست الدعوة إلى المساواة بينهما.
في حين هما متساويان فقط باعتبارهما من نفس الجنس ، الجنس البشري. فكل من يدعو إلى تساوي المرأة والرجل في المدركات ، المهارات ، الاستعدادات ، السلوك ، فهو يدعو دون أن يدرك إلى بناء مجتمع على أساس كذب بيولوجي (أحيائي) وعلمي. وبتعبير بسيط : الجنسان متباينان لأن دماغ كل منهما متباينان : فكما للمرآة جسد أنثوي فلها دماغ أنثوي ، وكما للرجل جسد ذكري فله دماغ ذكري. فيُصاغ دماغ الجنين الذكر إلى بنية ذكريه لتعرضه في الرحم إلى جرعات كبيرة من هرمونات منشطة الذكورة ، التستوسترون ، حيث تقدر عموماً كمية تلك الهرمونات عند الذكر في سن البلوغ عشرة أضعاف الكمية عند الأُنثى ، أو 1000% مما في المرأة. فمن أُنثى تتصرف تصرف الرجال ، كان دماغها تعرض في الرحم إلى كميات غير اعتيادية من هرمونات الذكورة.(13/44)
والدماغ هو الجهاز الإداري والعاطفي المركزي لحياة الإنسان ، وتختلف بنيته في الرجال عن النساء من الفطرة ، فتنتج اختلافات بين الجنسين في العمليات العقلية والقدرات الفكرية وفي المهارات والاستعدادات ؛ ويتعامل الدماغ مع المعارف المستلمة بطريقة مختلفة بين الجنسين ، مما يؤدي إلى اختلاف في المدركات ، ترتيب الأسبقيات ، السلوك ، ونحو ذلك. فدعوى المساواة بين الجنسين تتعارض مع الفطرة ومع العلم.
وتأمل في حالة متعارف عليها تفرّق الرجال عن النساء : فأبرز خصال سلوكية تميز الرجال عن النساء العدوانية والمغامرة ، المخاطرة ، المنافسة ، الجزم والإصرار والزعم ، الولوع إلى السلطوية ، هي خصال جُبلية غير مكتسبة : وإلى هذه الخصال تُعلّل هيمنة الرجال بدرجة كبيرة على مدار التاريخ. فالرجال لم يكتسبوا سلوكية المغامرة مثلاً عن طريق التعليم أو الممارسة أو نتيجة مؤثرات اجتماعية أو بيئية ؛ وليس في مدرسة درس يعلم المغامرة وتكتيكها ؛ بل حتى العلماء المختصين في مجال الفوارق بين الجنسين ، يقرون بأن هذه الخصال متميزة عند الرجال لأن نسبة هرمون التستوسترون عندهم عشرة أضعاف ما عند النساء Moir 15
فحتى هذه المرحلة من البحث العلمي في فوارق بنية الدماغ بين الذكر والأنثى ، ذلك يدعو إلى التفكير والتأمل في مسألة إعادة النظر في الأنظمة والسياسات التربوية المعتمدة في المدارس في الوقت الحاضر وفي أوصاف الأعمال التي تليق لكل من الجنسين وبطريقة تقر وتعتمد تلك الفوارق البيولوجية. أو بعبارة صريحة ، هل نترك أنظمة الدراسة المختلطة بين الجنسين وتوفير فرص عمل متساوية للجنسين على حالها الحاضر من دون تغيير رغم ظهور ثوابت علمية عن الفوارق بينهما ؟ (13/45)
رأي بعض علماء الأعصاب أن يوماً سيأتي لمراجعة الأنظمة والسياسات التربوية الحالية ، حتى لو اقتضى الأمر مثلاً التخلي عن المدارس المختلطة وإنشاء مدارس خاصة بالذكور وأخرى خاصة بالإناث على ضوء الفوارق الفطرية في دماغ كل منهما ، بجانب تحديد أعمال تليق بالذكر وأعمال تليق بالأنثى على ضوء الفوارق العقلية والبدنية بينهما
وإليك دراسة حديثة في المملكة المتحدة مما يعزز خيار التعليم في مدارس لجنس منفرد وأفضليته على مدارس تعليم مختلط : أُجريت الدراسة على 100 مدرسة نموذجية ذات 12 درجة ، 10 منها فقط ذات تعليم مختلط و90 ذات تعليم منفرد (منها للذكور وأخرى للإناث). وبعد تفحص نتائج الاختبار السنوي ، ظهر أن النتائج لمدارس جنس منفرد للبنين 20% أفضل من نتائج بنين في مدارس مختلطة ، وذات الحال بالنسبة لإناث في مدارس للإناث مقارنة بنظيراتهن في مدارس مختلطة. وفي سنة 1996 أجريت مراجعة لنتائج اختبار سنوية لمدارس ثانوية للبنات ، فأظهرت تفوقهن على نظيراتهن لمدارس ثانوية مختلطة!
لعلك أدركت أن المرأة بيولوجياً تتميز على الرجل في نواحي تعدها لأداء الدور اللائق بها : فهي مثلاً تتميز في الإبصار المحيطي ، في الأبصار ليلاً ، السمع والتذوق واللمس ، الحدس ، مهارات اللغة واللباقة ، المقدرة على أداء أعمال متعددة ، التفاعل مع أفراد أعلى عن التفاعل مع أشياء ، النزعة نحو مجالات ذات طابع اجتماعي وشخصي ، أقل تقيداً بالقواعد من الرجل ، ونحو ذلك : كل ذلك ضروري لأداء متطلبات البيت المتشابكة من ضمنها التربية والرعاية المباشرة للأطفال بخاصة تعلقهم الفطري الحاسم بالأم أكثر من الأب ، بالإضافة إلى ممارسة نشاطات ذات طابع اجتماعي أو شخصي ، أو ذات طابع إنساني وخيري خارج قيود القواعد ، أو القيام بأعمال مكتبية رتيبة.(13/46)
إن الإنسان بجنسيه يجني فوائد عُظمى من حياته إذا أدرك العالم كما هو مخلوق ؛ وليس بمحاولة منه إنشاء عالم حسب مشيئته ورغباته من أسس ومفاهيم يجهلها. فالرجال والنساء بإمكانهم العيش معاً بسعادة أكثر ، بتفهم وحب بعضهم البعض بدرجة أعلا ، بتنظيم العالم إلى مصير أفضل ، إذا أقر كل من الجنسين فوارقه عن الجنس الآخر. وبذلك يتمكن الجنس البشري من بناء حياته على دعامتين ثنائيتين متميزتين من حيث الهوية الجنسية. لقد آن الأوان لإيقاف الجدلية العقيمة غير المجدية بأن الرجال والنساء خُلقوا متماثلان ؛ فهم لم يُخلقوا هكذا ، ولا يمكن لأي مثالي أو مناد بإصلاح أن يغير هذه الحقيقة الفطرية الناصعة التي قضاها سبحانه لعباده الذكور والإناث. وعلينا أن نقر ونتقبل بأن الرجال أقوياء وضعفاء في مجالات ، حيثما النساء قويات وضعيفات في مجالات : فتمكنت آن موا مثلاً من جمع إحصاءات من مختلف المصادر حول نسبة الرجال والنساء في ممارسة أعمال مختلفة ، حيث تبين أن مقابل امرأة واحدة تسعة رجال
في مناصب سلطوية عليا!. والأمل هو النهاية لشعارات مصطنعة زائفة لمساواة المرأة بالرجل في كافة المجالات ، والبديل الصائب الحكيم هو الإقرار بالفوارق البيولوجية بينهما ثم قيامهما بالدور اللائق لكل منهما من أجل أداء متكامل لمختلف نشاطات الحياة. فدعنا نسلّم بحقيقة بيولوجية هي أن الرجل والمرأة لم يُخلقا متساويان ؛ إنما خُلقا متكاملان ، فنستمر على الحياة على هذا المنوال. مايكل لَفِن Michael Levin بروفيسور فلسفة في جامعة المدينة بنيويورك كتب يقول Moir 190 :(13/47)
"أدركت أن معظم النساء يجدن في الأمومة رضاء تاماً ، ومعظمهن كأمهات لا يتمتعن بالوا لدية أكثر من الآباء حسب ؛ إنما بالأحرى هن أفضل في أدائها ، أي هن أكثر ملائمة للوالدية من الآباء. فوقوف المرأة الأم على إطعام الجيل الخلَف وكساءهم وتربيتهم وتعليمهم هي مهمة رفيعة نبيلة ترقى على مهمة كسب المال من خلال العمل. أ هـ {من بحوث الدكتور : عبد الوهاب الراوي}(13/48)
قوله تعالى {وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم}
فصل
قال الفخر :
فيه أبحاث :
البحث الأول : أن ظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم ، فلذلك تولت الأم تسميتها ، لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء.
البحث الثاني : أن مريم في لغتهم : العابدة ، فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا ، والذي يؤكد هذا قولها بعد ذلك {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم }.
البحث الثالث : أن قوله {وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} معناه : وإني سميتها بهذا اللفظ أي جعلت هذا اللفظ اسماً لها ، وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة.
ثم حكى الله تعالى عنها كلاماً ثالثاً وهو قولها {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} وذلك لأنه لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد تضرعت إلى الله تعالى في أن يحفظها من الشيطان الرجيم ، وأن يجعلها من الصالحات القانتات ، وتفسير الشيطان الرجيم قد تقدم في أول الكتاب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 24 ـ 25}
لطيفة
قال ابن عادل :
قوله : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا } عطف على { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا } وأتى - هنا - بخبر " إنَّ " فعلاً مضارعاً ؛ دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها ، بخلاف قوله : { وَضَعْتُها } و{ سَمَّيْتُهَا } حيث أتى بالخبرين ماضيَيْن ؛ لانقطاعهما ، وقدم المُعَاذَ به على المعطوف ؛ اهتماماً به. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 176}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } يعني خادم الربّ في لغتهم.
{ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ } يعني مريم.
{ وَذُرِّيَّتَهَا } يعني عيسى.
وهذا يدلّ على أن الذرّيَّة قد تقع على الولد خاصّة.(13/49)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا نَخَسه الشيطان فيستهلّ صارخاً من نخسه ( الشيطان ) إلا ابن مريم وأُمّه " ثم قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم }.
قال علماؤنا : فأفاد هذا الحديثُ أن الله تعالى استجاب دعاء أُمّ مريم ، فإن الشيطان ينخَس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها.
قال قتادة : كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأُمّه جُعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لهما منه شيء ، قال علماؤنا : وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما ، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظنّ فاسد ؛ فكم تعرّض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم الله مما يَرُومه الشيطان ، كما قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ].
هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وُكِلّ به قَرِينه من الشياطين ؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فَمَرْيَمُ وابنها وإن عُصِما من نخسه فلم يُعْصما من ملازمته لهما ومقارنته. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 68}(13/50)
وقال الآلوسى :
أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسه صارخاً إلا مريم وابنها " وفي بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينها حجاب وأن الشيطان أراد أن يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب ، وفي رواية إسحق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل ولد آدم ينال منه الشيطان يطعنه حين يقع بالأرض بإصبعه ولهذا يستهل إلا ما كان من مريم وابنها فإنه لم يصل إبليس إليهما " وطعن القاضي عبد الجبار بإصبع فكره في هذه الأخبار بأنها خبر واحد على خلاف الدليل ، وذلك أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز ولأنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين ، وأيضاً لم خص عيسى وأمه دون سائر الأنبياء ؟ وأنه لو وجد المس أو النخس لدام أثره وليس فليس ، والزمخشري زعم أن المعنى على تقدير الصحة أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين ، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى : { لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82 ، 83 ] واستهلاله صارخاً من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :
لما تؤذن الدنيا به من صروفها... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة النخس والمس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلون به من نخسه انتهى.(13/51)
ولا يخفى أن الأخبار في هذا الباب كثيرة وأكثرها مدون في "الصحاح" والأمر لا امتناع فيه ، وقد أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام فليتلق بالقبول ، والتخييل الذي ركن إليه الزمخشري ليس بشيء لأن المس باليد ربما يصلح لذلك أما الاستهلال صارخاً فلا على أن أكثر الروايات لا يجري فيها مثل ذلك ، وقوله : لامتلأت الدنيا عياطاً قلنا : هي مليئة فما من مولود إلا يصرخ ، ولا يلزم من تمكنه من تلك النخسة تمكنه منها في جميع الأوقات كيف وفي "الصحيح" : "لولا أن الملائكة يحفظونكم لاحتوشتكم الشياطين كما يحتوش الذباب العسل" وفي رواية "لاختطفتكم الجن" وقسر قوله تعالى : { لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ } [ الرعد : 11 ] في أحد الوجوه به ، وبهذا يندفع أيضاً قول القاضي من أنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين وبقاء الأثر بل وحصوله أيضاً ليس أمراً ضرورياً للمس ولا للنخس والحصر باعتبار الأغلب والاقتصار على عيسى عليه السلام وأمه إيذاناً باستجابة دعاء امرأة عمران على أتم وجه ليتوجه أرباب الحاج إلى الله تعالى بشراشرهم ، أو يقدر له ما يخصصه ، وعلى التقديرين يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من العموم فلا يلزم تفضيل عيسى عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى ، ويؤيده خروج المتكلم من عموم كلامه ، وقد قال به جمع ويشهد له ما روى الجلال في "البهجة السنية" عن عكرمة قال : لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم أشرقت الأرض نوراً فقال إبليس : لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا فقالت له جنوده : لو ذهبت إليه فجاءه فركضه جبريل عليه السلام فوقع بعدن ، وهذا أولى من إبقاء العام على عمومه ، والقول بأنه لا يبعد اختصاص عيسى وأمه بهذه الفضيلة دون الأنبياء عليهم السلام ولا يلزم منه تفضيله عليهم عليهم السلام إذ قد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل ، وعلى كلا الأمرين الفاضل والمفضول لا إشكال في الإخبار من تلك الحيثية ، نعم قد يشكل على(13/52)
ظاهرها أن إعاذة أم مريم كانت بعد الوضع فلا يصح حملها على الإعاذة من المسِّ الذي يكون حين الولادة ، وأجيب بأن المس ليس إلا بالانفصال وهو الوضع ومعه الإعاذة ، غايته أنه عبر عنه بالمضارع كما أشرنا إليه لقصد الاستمرار فليتأمل ، والعجب من بعض أهل السنة كيف يتبع المعتزلة في تأويل مثل هذه الأحاديث الصحيحة لمجرد الميل إلى ترهات الفلاسفة مع أن إبقاءها على ظاهرها مما لا يرنق لهم شرباً ولا يضيق عليهم سرباً ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيراً من ماضيه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 137 ـ 138}
قوله تعالى { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر بدعائها أخبر بإجابتها فيه فقال : {فتقبلها} فجاء بصيغة التفعل مطابقة لقولها {فتقبل} ، ففيه إشعار بتدرج وتطور وتكثر ، كأنه يشعر بأنها مزيد لها في كل طور تتطور إليه ، من حيث لم يكن فاقبل مني فلم تكن إجابته {فقبلها} ، فيكون إعطاء واحداً منقطعاً عن التواصل والتتابع ، فلا تزال بركة تحريرها متجدداً لها في نفسها وعائداً بركته على أمها حتى تترقى لى العلو المحمدي فيتكون في أزواجه ومن يتصل به - انتهى.
وجاء بالوصف المشعر بالإحسان مضافاً إليها إبلاغاً في المعنى فقال : {ربها} قال الحرالي : وظهر سر الإجابة في قوله سبحانه وتعالى : {بقبول حسن} حيث لم يكن " بتقبل " - جرياً على الأول.(13/53)
ولما أنبأ القبول عن معنى ما أوليته باطناً أنبأ الإنبات عما أوليته ظاهراً في جسمانيتها ، وفي ذكر الفعل من " أفعل " في قوله : {وأنبتها} والاسم من " فعل " في قوله : {نباتاً حسناً} إعلام بكمال الأمرين من إمدادها في النمو الذي هو غيب عن العيون وكمالها في ذاتية النبات الذي هو ظاهر للعين ، فكمل في الإنباء والوقوع حسن التأثير وحسن الأثر ، فأعرب عن إنباتها ونباتها معنى حسناً - انتهى.
فوقع الجواب لأنها عناية من الله سبحانه وتعالى بها على ما وقع سؤالها فيه ، فلقد ضل وافترى من قذفها وبهتها ، وكفر وغلا من ادعى في ولدها من الإطراء ما ادعى.
وقال الحرالي : وقد أنبأ سبحانه وتعالى في هذه السورة الخاصة بقصة مريم عليها الصلاة والسلام من تقبلها وإنباتها وحسن سيرتها بما نفي اللبس في أمرها وأمر ولدها ، لأن المخصوص بمنزل هذه السورة ما هو في بيان رفع اللبس الذي ضل به النصارى ، فيذكر في كل سورة ما هو الأليق والأولى بمخصوص منزلها ، فلذلك ينقص الخطاب في القصة الواحدة في سورة ما يستوفيه في سورة أخرى لاختلاف مخصوص منزلها ، كذلك الحال في القصص المتكررة في القرآن من قصص الأنبياء وما ذكر فيه لمقصد الترغيب والتثبيت والتحذير وغير ذلك من وجوه التنبيه - انتهى ، وفيه تصرف.
ولما كان الصغير لا بد له فيما جرت به العادة من كبير يتولى أمره قال : {وكفلها} قال الحرالي : من الكفل وهو حياطة الشيء من جميع جهاته حتى يصير عليه كالفلك الدائر {زكريا} وفي قراءة التشديد إنباء بأن الله سبحانه وتعالى هو في الحقيقة كفيلها بما هو تقبلها ، وفي استخلاص لزكريا من حيث جعله يد وكالة له فيها - انتهى.
ولما كان من شأن الكفيل القيام بما يعجز عنه المكفول بين سبحانه وتعالى أن تلك الكفالة إنما كانت جرياً على العوائد وأنه تبين أن تقبل الله لها أغناها عن سواه فقال في جواب من لعله يقول : ما فعل في كفالتها ؟ : {كلما} أي كان كلما {دخل عليها زكريا المحراب} أي موضع العبادة.(13/54)
وقال الحرالي : هو صدر البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة وجهد حرب {وجد عندها رزقاً} وذلك كما وجد عند خبيب بن عدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه قطف العنب - كما سيأتي في آخر المائدة ، ومثل ذلك كثير في هذه الأمة ، وفي هذه العبارة أي من أولها إلاحة لمعنى حسن كفالته وأنه كان يتفقدها عند تقدير حاجتها إلى الطعام بما تفيده كلمة {كلما} من التكرار ، فيجد الكفيل الحق قد عاجلها برزق من غيب بما هو سبحانه وتعالى المتولي لإنباتها ليكون نباتها من غيب رزقه فتصلح لنفخ روحه ومستودع كلمته ، ولا يلحقها بعد الإعاذة ما فيه مس من الشيطان الرجيم الذي أعاذها الله سبحانه وتعالى منه بكثرة الاختلاط في موجودات الأرزاق ، فكان من حفظها أن تولى الله سبحانه وتعالى أرزاقها من غيب إلا ما يطيبه من باد ، وليكون حسن نباتها من أحسن رزق الله سبحانه وتعالى كما يقال : من غذي بطعام قوم غذي بقلوبهم ومن غذي بقلوبهم آل إلى منقلبهم ، وكانت هي مثل ما كفلها كافلها ظاهراً كفلته باطناً حين أبدى الله سبحانه وتعالى له من أمره ما لم يكن قبل بداً له ، فكان لمريم عليها الصلاة والسلام توطئة في رزقها لما يكون كماله في حملها فيكون رزقها بالكلمة ابتداء ليكون حملها بالكلمة ، فعند ذلك طلب زكريا عليه السلام نحو ما عاين لها من أن يرزقه الولد في غير إبّانه كما رزق مريم الرزق في غير أوانه ، وفي تعيين محلها بالمحراب ما يليح معنى ما ذكر من رجوليتها باطناً من حيث إن محل النساء أن يتأخرن فأبدى الله سبحانه وتعالى في محلها ذكر المحراب إشارة بكمالها ، والمحراب صدر البيت المتخذ للعبادة ، ويف لزومها لمحرابها في وقت تناول الرزق إعلام بأن الحبيس والمعتكف بيته محرابه ومحرابه بيته ، بخلاف من له متسع في الأرض ومحل من غير بيت الله ، إنما المساجد بيوت أهل الله المنقطعين إليه ، فهو محلهم في صلاتهم ومحلهم في تناول أرزاقهم ، ففيه إشعار(13/55)
بحضورها ، وحضور أهل العكوف حضور سواء في صلاتهم وطعامهم ، ولذلك أنمى حال العبد عند ربه بما هو عليه في حال تناول طعامه وشرابه ، فأهل الله سواء محياهم ومماتهم وأكلهم وصلاتهم ، من غفل عند طعامه قلبه لم يستطع أن يحضر في صلاته قلبه ، ومن حضر عند طعامه قلبه لم يغب في صلاته قلبه ، وفي ذكر الرزق شائعاً إشعار بأنها أنواع من أرزاق من حيث إنه لو اختص يخص به ما هو أخص من هذا الاسم - انتهى.(13/56)
ولما كان كأنه قيل : فما كان يقول لها إذا رأى ذلك ؟ قيل : كان كلما وجد ذلك ، أو : لما تكرر وجدانه لذلك {قال يا مريم أنّى} أي من أين {لك هذا} قال الحرالي : كلمة أنى تشعر باستغرابه وجود ذلك الرزق من وجوه مختلفة : من جهة الزمان أنه ليس زمانه ، ومن جهة المكان أنه ليس مكانه ، ومن جهة الكيف ووصوله إليها أنه ليس حاله ، وفي ذكر الضمير في قوله : {قالت هو من عند الله} إيذان بنظرها إلى مجموع حقيقة ذلك الرزق لا إلى أعيانه ، فهو إنباء عن رؤية قلب ، لا عن نظر عين لأن هو كلمة إضمار جامعة لكل ما تفصلت صورة مما اتحد مضمره ، ولما لم يكن من معهود ما أظهرته حكمته سبحانه مما يجريه على معالجات أيدي الخلق قالت {من عند الله} ذي الجلال والإكرام ، لأن ما خرج من معهود معالجة الحكمة فهو من عنده ، وما كان مستغرباً فيما هو من عنده فهو من لدنه ، فهي ثلاث رتب : رتبة لدنية ، ورتبة عندية ، ورتبة حكمية عادية ؛ فكان هذا وسط الثلاث - كما قال تعالى : {آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنه علماً} [ الكهف : 65 ] حيث كان مستغرباً عند أهل الخصوص كما قال : {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً} [ الكهف : 71 ] والإمر العجب ، ولعلو رتبته عن الرتبة العادية جرى النبأ عنه مضافاً إلى الاسم العظيم الذي هو مسمى الأسماء كلها من حيث لم يكن {من عند ربي} لما في ذكر اسم الربوبية من إشعار بمادة أو قريب منها أو ما كان من نحوها كما قال {هذا من فضل ربي} [ النمل : 40 ] لما كان من عادته المكنة على الملوك ، وكان ممكناً فيما أحاط به موجود الأركان الأربعة - انتهى.
ولما أخبرت بخرقه سبحانه وتعالى لها العادة عللت ذلك بقولها مؤكدة تنبيهاً على أن ذلك ليس في قدرة ملوك الدنيا : {إن الله} أي الذي له الإحاطة الكلية.(13/57)
قال الحرالي : في تجديد الاسم العظيم في النبأ إشعار باتساع النبأ وإيذان وإلاحة بأن ذلك يكون لك ولمن شاء الله كما هو لي بما شاء الله ، من حيث لم يكن أنه فيكون مليحاً لاختصاص ما بها ، ويؤيده عموم قولها : {يرزق من يشاء} وقولها : {بغير حساب} يشعر بأنه عطاء متصل ، فلا يتحدد ولا يتعدد ، فهو رزق لا متعقب عليه ، لأن كل محسوب في الإبداء محاسب عليه في الإعادة ، فكان في الرزق بغير حساب من علاج الحكمة بشرى برفع الحساب عنهم في المعاد وكفالة بالشكر عنه ، لأن أعظم الشكر لرزق الله سبحانه وتعالى معرفة العبد بأنه من الله تعالى ، إنما يشكر رزق الله من أخذه من الله سبحانه وتعالى - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 72 ـ 75}
فائدة
قال الفخر :
إنما قال {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} ولم يقل : فتقبلها ربها بتقبل لأن القبول والتقبل متقاربان قال تعالى : {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} [ نوح : 17 ] أي إنباتاً ، والقبول مصدر قولهم : قبل فلان الشيء قبولاً إذا رضيه ، قال سيبويه : خمسة مصادر جاءت على فعول : قبول وطهور ووضوء ووقود وولوغ ، إلا أن الأكثر في الوقود إذا كان مصدرا الضم ، وأجاز الفراء والزجاج : قبولاً بالضم ، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال : قبلته قبولاً وقبولا ، وفي الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل كالتصبر والتجلد ونحوهما فإنهما يفيدان الجد في إظهار الصبر والجلادة ، فكذا ههنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول.
فإن قيل : فلم لم يقل : فتقبلها ربها بتقبل حسن حتى صارت المبالغة أكمل ؟(13/58)
والجواب : أن لفظ التقبل وإن أفاد ما ذكرنا إلا أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع ، أما القبول فإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكر التقبل ليفيد الجد والمبالغة ، ثم ذكر القبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع ، بل على وفق الطبع ، وهذه الوجوه وإن كانت ممتنعة في حق الله تعالى ، إلا أنها تدل من حيث الاستعارة على حصول العناية العظيمة في تربيتها ، وهذا الوجه مناسب معقول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 25}
وقال ابن عادل :
قوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } الجمهور على { فَتَقَبَّلَهَا } فعلاً ماضياً على " تَفَعَّل " بتشديد العينِ - و{ رَبُّهَا } فاعل به ، وتفعل يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير ، و- " تَفَعَّل " يأتي بمعنى " فَعَل " مُجَرَّداً ، نحو تعجب وعَجب من كذا ، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه.
والثاني : أن " تفعل " بمعنى : استفعل ، أي : فاستقبلها ربُّها ، يقال : استقبلت الشيءَ أي : أخذته أول مرة.
والمعنى : أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها.
ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ... وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا
ومنه المثل : خذ الأمر بقوابله. و" تَفَعَّل " بمعنى " استفعل " كثير ، نحو : تعظم ، واستعظم ، وتكبر ، واستكبر ، وتعجَّل واستعجل.
قال بعضُ العلماء : " إن ما كان من باب التفعُّل ، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل ، كالتصبُّر والتجلُّد ، ونحوهما ، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في إظهار الصَبْرِ والجَلَدِ ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ ".
والباء - في قوله : " بِقَبُولٍ " - فيها وجهانِ : (13/59)
أحدهما : أنها زائدة ، أي : قبولاً ، وعلى هذا فينتصب " قبولاً " على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد ؛ إذْ لو جاء على " تَقَبُّل " لقيل : تَقَبُّلاً ، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً.
وَقَبُول : من المصادر التي جاءت على " فَعُول " - بفتح الفاء - قال سيبويه : خمسة مصادر جاءت على " فَعُول " قَبُول ، وطَهُور ، ووَقُود ، ووَضُوء ، وولُوع ، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ ، يقال : قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً ، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس ، كالدخولِ والخروجِ ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب : قبلت قَبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً ، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم ، وأنشدوا : [ السريع ]
قَدْ يُحْمَد الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ... بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ
بضم القاف - كذا حكاه بعضهم.
قال الزَّجَّاجُ : إن " قَبُولاً " هذا ليس منصوباً بهذا الْفِعْلِ حتى يكونَ مصدراً على غير المصدر ، بل هو منصوب بفعل موافقٍ له ، - أي : مجرداً - قال : والتقدير : فتقبلها بتقبُّلٍ حَسَنٍ ، وقَبِلَها قبولاً حَسَناً ، أي : رضيها ، وفيه بُعَدٌ.
والوجه الثاني : أن الياء ليست بزائدة ، بل هي على حالها ، ويكون المرادُ بالقبول - هنا - اسماً لما يقبل به الشيءُ ، نحو اللدود ، لما يُلَدُّ به. والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكرِ في النذر. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 177 ـ 178}
فصل
قال الفخر :
ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوهاً :(13/60)
الوجه الأول : أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها " ثم قال أبو هريرة : اقرؤا إن شئتم {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان} طعن القاضي في هذا الخبر وقال : إنه خبر واحد على خلاف الدليل فوجب رده ، وإنما قلنا : إنه على خلاف الدليل لوجوه أحدها : أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر والصبي ليس كذلك
والثاني : أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم
والثالث : لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام
الرابع : أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره ، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء ، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه ، واعلم أن هذه الوجوه محتملة ، وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر والله أعلم.
الوجه الثاني : في تفسير أن الله تعالى تقبلها بقبول حسن ، ما روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، وقالت : خذوا هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم فقال لهم زكريا : أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لا حتى نقترع عليها ، فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح ، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ، ففي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم فأخذها زكريا.
الوجه الثالث : روى القفال عن الحسن أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها كما تكلم المسيح ولم تلتقم ثدياً قط ، وإن رزقها كان يأتيها من الجنة.(13/61)
الوجه الرابع : في تفسير القبول الحسن أن المعتاد في تلك الشريعة أن التحرير لا يجوز إلا في حق الغلام حين يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد ، وههنا لما علم الله تعالى تضرع تلك المرأة قبل تلك الجارية حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد ، فهذا كله هو الوجوه المذكورة في تفسير القبول الحسن. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 25 ـ 26}
قوله تعالى : {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}
قال الفخر :
قال ابن الأنباري : التقدير أنبتها فنبتت هي نباتاً حسناً ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا ، ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين ، أما الأول فقالوا : المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد ، وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 26}
وقال الآلوسى :
{ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } أي رباها الرب تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفي رواية عنه أنه سوى خلقها فكانت تشب في يوم ما يشب غيرها في عام ، وقيل : تعهدها بما يصلحها في سائر أحوالها ، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم فإن الزارع يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات وقلع ما يخنقه من النبات. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 139}
وقال ابن كثير :
{ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } أي : جعلها شكلا مليحا ومنظرا بهيجا ، ويَسر لها أسباب القبول ، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والعلم والدين. ولهذا قال : { وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا }. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 35}
قوله تعالى : {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}
فصل
قال الفخر :(13/62)
قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( وكفلها ) بالتشديد ، ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد ، وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا ، فمن قرأ ( زكرياء ) بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرأوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه ، وهو الاختيار ، لأن هذا مناسب لقوله تعالى : {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وعليه الأكثر ، وعن ابن كثير في رواية {كفلها} بكسر الفاء ، وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان ، كالهيجاء والهيجا ، وقرأ مجاهد {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا وَأَنبَتَهَا وَكَفَّلَهَا} على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة ، ونصب {رَبُّهَا} كأنها كانت تدعو الله فقالت : اقبلها يا ربها ، وأنبتها يا ربها ، واجعل زكريا كافلاً لها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 26}
فائدة
قال ابن عاشور :
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}
عد هذا في فضائل مريم ، لأنه من جملة ما يزيد فضلها لأن أبا التربة يكسب خلقه وصلاحه مرباه.
وزكريا كاهن إسرائيلي اسمه زكريا من بني أبيا بن باكر بن بنيامين من كهنة اليهود ، جاءته النبوءة في كبره وهو ثاني من اسمه زكريا من أنبياء بني إسرائيل وكان متزوجا امرأة من ذرية هارون اسمها اليصابات وكانت امرأته نسيبة مريم كما في إنجيل لوقا قيل : كانت أختها والصحيح أنها كانت خالتها ، أو من قرابة أمها ، ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات فتنازع كفالتها جماعة من أحبار بني إسرائيل حرصا على كفالة بنت حبرهم الكبير ، واقترعوا على ذلك كما يأتي ، فطارت القرعة لزكريا ، والظاهر أن جعل كفالتها للأحبار لأنها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربى تربية صالحة لذلك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 88}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب } " المحراب " فيه وجهان :(13/63)
أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف ، وشذ عن سائر أخواته بعد " دَخَلَ " خاصَّةً ، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة " في " نحو صليت في المحراب - ولا تقول : صليت المحرابَ - ونِمْتُ في السوقِ - ولا تقول : السوقَ - إلا مع دخل خاصة ، نحو دخلت السوق والبيت... الخ. وإلا ألفاظاً أخر مذكورة في كتب النحو.
والثاني مذهب الأخفش وهو نَصب ما بعد " دَخَلَ " على المفعول به لا على الظرف فقولك : دخلت البيت ، كقولك : هدمت البيت ، في نصب كل منهما على المفعول به - وهو قول مرجوح ؛ بدليل أن " دَخَلَ " لو سُلِّطَ على غير الظَّرْفِ المختص وجب وصوله بواسطة " في " تقول : دخلتُ في الأمر - ولا تقول : دخلت الأمر - فدل ذلك على عدم تَعَدِّيه للمفعول به بنفسه.
والجواب : قال أبو عبيدة : هو سَيِّدُ المجالس ومقدَّمها وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد.
وقال أبو عمرو بن العلاء : هو القصر ؛ لعُلُوِّه وشَرَفِهِ.
وقال الأصمعيُّ : هو الغُرْفَة.
وأنشد لامرئِ القيس : [ الطويل ]
وَمَاذَا عَلَيْهِ أنّ ذَكَرْتَ أو أنِسَا... كَغِزْلاَنِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أقْيَالِ
قالوا معناه : في غرف أقيال. وأنشد غيره - لعُمَرَ بن أبي ربيعة : [ السريع ]
رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا ما جِئْتُهَا... لَمْ أدْنُ حَتَّى أرْتَقِي سُلَّما
وقيل : هو المحراب من المسجد المعهود ، وهو الأليق بالآية.
وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يَعْنُونَ به : المحراب من حيث هو ، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه. واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى : { إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } [ ص : 21 ] فوجه الإمالة تقدم الكسرة ، ووجه التَّفْخِيم أنه الأصل.
قوله : { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } " وجد " هذه بمعنى أصاب ولَقِيَ وصَادَفَ ، فيتعدى لِواحِدٍ وهو " رِزْقاً " و" عندها " الظاهر أنه ظرف للوجدان.(13/64)
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من " رِزْقاً " ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل ، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف ، ف " وجد " هو الناصب لِ " كُلَّمَا " لأنها ظرفية ، وأبو البقاء سمَّاه جوابها ؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي.
قوله : { قَالَ يامريم } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف ، قال ابو البقاء : " ولا يجوز أن يكون بدلاً من " وَجَدَ " ؛ لأنه ليس بمعناه ".
الثاني : أنه معطوف بالفاء ، فحذف العاطف ، قال أبو البقاء : " كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] ، وكذلك قول الشاعر : [ البسيط ]
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا.................................
وهذا الموضع يشبه جوابَ الشرط ، لأن " كُلَّمَا " تشبه الشرط في اقتضائها الجواب.
قال شهاب الدين : وهذا - الذي قاله - فيه نظر من حيث إنه تخيَّل أن قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } أن جوابَ الشرط هو نفس { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } حُذِفَتْ منه الفاء ، وليس كذلك ، بل جواب الشرط محذوف ، و- { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } جواب قسم مقدر قبل الشرط وقد تقدم تحقيق هذه المسألة ، وليس هذا مما حُذِفَتْ منه فاء الجزاء ألبتة ، وكيف يَدَّعِي ذلك ، ويُشَبِّهه بالبيت المذكور ، وهو لا يجوز إلا في ضرورة ؟
ثم الذي يظهر أن الجملةَ من قوله : " وَجَدَ " في محل نصب على الحال من فاعل " دَخَلَ " ويكون جواب " كُلَّمَا " هو نفس " قَالَ " والتقدير : كلما دخل عليها زكريا المحراب واجداً عندَها الرزق.
قال : وهذا بَيِّن.
ونكر " رِزْقاً " تعظيماً ، أو ليدل به على نوع " ما ".
قوله : { أنى لَكِ هذا } " أنى " خبر مقدم ، و" هَذَا " مبتدأ مؤخر ومعنى أنى هذا : من أين ؟ كذا فسَّره أبو عبيدة.
قيل : ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي : كيف تَهَيأ لكِ هذا ؟
قال الكميت : [ المنسرح ](13/65)
أنَّى وَمِنْ أيْنَ هَزَّكَ الطَّرَبُ... مِنْ حَيْثُ لاَ صَبْوةٌ وَلاَ رِيَبُ
وجوَّز أبو البقاء في " أنَّى " أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في " ذلك ". و" لك " رافع لـ " هذا " يعني بالفاعلية.
ولا حاجة إلى ذلك ، وتقدم الكلام على " أنى " في " البقرة ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 182 ـ 184}
فائدة
قال ابن عاشور :
والمحراب بناء يتخذه أحد ليخلو فيه بتعبده وصلاته ، وأكثر ما يتخذ في علو يرتقي إليه بسلم أو درج ، وهو غير المسجد ، وأطلق على غير ذلك إطلاقات ، على وجه التشبيه أو التوسع كقول عمر بن أبي ربيعة :
دمية عند راهب قسيس ... صوروها في مذبح المحراب
أرادا في مذبح البيعة ، لأن المحراب لا يجعل فيه مذبح. وقد قيل : إن المحراب مشتق من الحرب لأن المتعبد كأنه يحارب الشيطان فيه ، فكأنهم جعلوا ذلك المكان آلة لمحرب الشيطان.
ثم أطلق المحراب عند المسلمين على موضع كشكل نصف قبة في طول قامة ونصف يجعل بموضع القبلة ليقف فيه الإمام للصلاة. وهو إطلاق مولد وأول محراب في الإسلام محراب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم صنع في خلافة الوليد بن عبد الملك ، مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة. والتعريف في {الْمِحْرَابَ} تعريف الجنس ويعلم أن المراد محراب جعلته مريم للتعبد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 89}
فصل
قال الفخر :(13/66)
اختلفوا في كفالة زكريا عليه السلام إياها متى كانت ، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفوليتها ، وبه جاءت الروايات ، وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن فطمت ، واحتجوا عليه بوجهين الأول : أنه تعالى قال : {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} ثم قال : {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن والثاني : أنه تعالى قال : {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة ، وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب ، فلعل الانبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معاً.
وأما الحجة الثانية : فلعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 26 ـ 27}
فائدة
قال ابن الجوزى :
قوله تعالى : { وجد عندها رزقاً } قال ابن عباس : ثمار الجنة ، فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، وهذا قول الجماعة.
قوله تعالى : { أنى لكِ هذا } أي : من أين ؟ قال الربيع بن أنس : كان زكريا إذا خرج ، أغلق عليها سبعة أبواب ، فإذا دخل وجد عندها رزقاً.
وقال الحسن : لم ترتضع ثدياً قط ، وكان يأتيها رزقها من الجنة (1) ، فيقول زكريا : أنى لك هذا ؟ فتقول : هو من عند الله ، فتكلمت وهي صغيرة.
وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئراً ، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون قوله لها : أنى لك هذا ؟ لاستكثار ما يرى عندها. وما عليه الجمهور أصح. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 380}
________________
(1) لا يخفى ما فى هذا القول من البعد فهذا لم يتحقق لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقصة قطف العنب مشهورة فى البخارى
4901 عن عبد الله بن عباس أنه قال :
خسفت الشمس عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم قام فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله ) . قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت ؟ فقال ( إني رأيت الجنة أوأريت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ورأيت النار فلم أر كاليوم منظر قط ورأيت أكثر أهلها النساء ) . قالوا لم يا رسول الله ؟ قال ( بكفرهن ) . قيل يكفرن بالله ؟ قال ( يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط )
ومعلوم أن نعيم الجنة محله فى الآخرة ولبو حظى به أحد فى الدنيا لكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وقد منح الله بعض صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل مريم ـ عليها السلام ـ
ففى البخارى 2880
أن بنت الحارث أخبرت أنهم حين اجتمعوا لقتل خبيب استعار منها موسى يستحد بها فأعارته فأخذ ابنا لي وأنا غافلة حين أتاه قالت فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي فقال تخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك . والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب والله لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر وكانت تقول إنه لرزق من الله رزقه خبيبا. والله أعلم.(13/67)
قوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا}
قال أبو حيان :
{ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً }.
قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء.
وقال الحسن : تكلمت في المهد ولم تلقم ثدياً قط ، وإنما كانت يأتيها رزقها من الجنة.
والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة : عيسى ، وصاحب جريج ، وابن المرأة وورد من طريق شاذ : صاحب الأخدود.
والأغرب أن مريم منهم.
وقيل : كان جريج النجار ، واسمه يوسف بن يعقوب ، وكان ابن عم مريم حين كفلها بالقرعة وقد ضعف زكريا عن القيام بها ، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه ، فيزكو ذلك الطعام ويكثر ، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج ، فيسألها.
وهذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت وهو الأقرب للصواب.
وقيل : كانت ترزق من غير رزق بلادهم.
قال ابن عباس : كان عنباً في مكتل ولم يكن في تلك البلاد عنب ، وقاله ابن جبير ، ومجاهد وقيل : كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق.
والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره ، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها ، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف.
و : كلما ، تقتضي التكرار ، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها.
ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها ، والمعنى : أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها ، ولم يوجهه هو.
وأَبْعَدَ من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي ، فسماه رزقاً قال الراغب : واللفظ محتمل ، انتهى ، وهذا شبيه بتفسير الباطنية. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 461}
فائدة
قال الماوردى :
واختلف في السبب الذي يأتيها هذا الرزق لأجله على قولين :
أحدهما : أنه كان يأتيها بدعوة زكريا لها.(13/68)
والثاني : أنه كان ذلك يأتيها لنبوة المسيح عليه السلام. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 388}
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية ، ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم : أنى لك هذا ؟ قالت هو من عند الله ، فحصول ذلك الرزق عندها إما أن يكون خارقاً للعادة ، أو لا يكون ، فإن قلنا : إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه
الأول : أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلاً على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى
والثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً} والقرآن دل على أنه كان آيساً من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته ، فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقاً للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سبباً لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر
الثالث : أن التنكر في قوله {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} يدل على تعظيم حال ذلك الرزق ، كأنه قيل : رزقاً.
أي رزق غريب عجيب ، وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقاً للعادة الرابع : هو أنه تعالى قال : {وجعلناها وابنها ءَايَةً للعالمين} [ الأنبياء : 91 ] ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق ، وإلا لم يصح ذلك.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المراد من ذلك هو أن الله تعالى خلق لها ولداً من غير ذكر ؟(13/69)
قلنا : ليس هذا بآية ، بل يحتاج تصحيحه إلى آية ، فكيف نحمل الآية على ذلك ، بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها ، وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام الخامس : ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلاً خارقاً للعادة ، فنقول : إما أن يقال : إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك ، والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام ، ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالماً بحاله وشأنه ، فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم {أنى لَكِ هذا} وأيضاً فقوله تعالى : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند الله فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة العقيمة الشيخة العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا بأخبار مريم ، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال : إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام ، أو كانت كرامة لمريم عليها السلام ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء.
اعترض أبو علي الجبائي وقال : لم لا يجوز أن يقال إن تلك الخوارق كانت من معجزات زكريا عليه السلام ، وبيانه من وجهين(13/70)
الأول : أن زكريا عليه السلام دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقاً ، وأنه ربما كان غافلاً عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله تعالى ، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معين قال لها {أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} فعنذ ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة والثاني : يحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقاً معتاداً إلا أنه كان يأتيها من السماء ، وكان زكريا يسألها عن ذلك حذراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها ، فقالت هو من عند الله لا من عند غيره.
المقام الثاني : أنا لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من خوارق العادات ، بل معنى الآية أن الله تعالى كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات ، فكان زكريا عليه السلام إذا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه ربما أتاها ذلك الرزق من وجه لا ينبغي ، فكان يسألها عن كيفية الحال ، هذا مجموع ما قاله الجبائي في "تفسيره" وهو في غاية الضعف ، لأنه لو كان ذلك معجزاً لزكريا عليه السلام كان مأذوناً له من عند الله تعالى في طلب ذلك ، ومتى كان مأذوناً في ذلك الطلب كان عالماً قطعاً بأن يحصل ، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ، ولم يبق أيضاً لقوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} فائدة ، وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني.
وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركاكة لأن هذا التقدير لا يبقى فيه وجه اختصاص لمريم بمثل هذه الواقعة ، وأيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا ينبغي فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة فعلمنا سقوط هذه الأسئلة وبالله التوفيق.(13/71)
أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النبوّة لا يوجد مع غير الأنبياء ، كما أن الفعل المحكم لما كان دليلاً على العلم لا جرم لا يوجد في حق غير العالم.
والجواب من وجوه
الأول : وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي ، فإن ادعى صاحبه النبوّة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبياً ، وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه ولياً والثاني : قال بعضهم : الأنبياء مأمورون بإظهارها ، والأولياء مأمورون بإخفائها والثالث : وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به ، والولي لا يمكنه أن يقطع به والرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة ، فهذا جملة الكلام في هذا الباب وبالله التوفيق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 27 ـ 28}
فائدة
قال أبو حيان :
{ قال يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله } استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به ، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها ، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها ، وكيف أتى هذا الرزق ؟ و: أنَّى ، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان ، والأظهر أنه سؤال عن الجهة ، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق ؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين ؟ ولا يبعد أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك ؟ وقال الكميت :
أنَّى ومن أين أتاك الطرب . . .
من حيث لا صبوة ولا طرب
وجوابها سؤاله بأنه { من عند الله } ظاهره أنه لم : يأت به آدمي ألبتة ، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى.(13/72)
وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقاً ، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدّمت ، فتجيبه بأنه من عند الله ، وتحيله على مسبب الأسباب ، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض ، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم ، وبكونه يشهد مقاماً شريفاً ، واعتناءً لطيفاً بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته.
وهذا الخارق العظيم قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق ، فيكون من خصائص زكريا وقيل : كان تأسيساً لنبوّة ولدها عيسى.
وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي ، إلا إن كان ذلك في زمان نبي ، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي.
والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم ، ولو كان خارقاً لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا ، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى ، فهو كان لم يخلق بعد.
قال الزجاج : وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى : { وجعلناها وابنها آية للعالمين } وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا ، دعا لها على الإجمال.
لأن يوصل لها رزقها ، وربما غفل عن تفاصيل ذلك ، فلما رأى شيئاً معيناً في وقت معين ، سأل عنه ، فعلم أنه معجزة ، فدعا به أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنساناً ، فأخبرته أنه { من عند الله } ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين ، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 461 ـ 462}
فائدة
قال الماوردى :
{ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } فيه قولان :
أحدهما : أن الله تعالى كان يأتيها بالرزق.
والثاني : أن بعض الصالحين من عباده سخره الله تعالى لها لطفاً منه بها حتى يأتيها رزقها. والأول أشبه. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 388}(13/73)
قوله تعالى {إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}
قال الفخر :
هذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم ، وأن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى ، وقوله {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير تقدير لكثرته ، أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها ، وهذا كقوله {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [ الطلاق : 3 ] وههنا آخر الكلام في قصة حنة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 28}
وقال ابن عطية :
وقولها : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله ، وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم وأنه خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام ، والله تعالى لا تنتقص خزائنه ، فليس يحسب ما يخرج منها ، وقد يعبر بهذا العبارة عن المكثرين من الناس أنهم ينفقون بغير حساب ، وذلك مجاز وتشبيه ، والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن الله تعالى. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 427}
وقال الطبرى :
وأما قوله : "إنّ الله يَرْزُقُ مَن يشاء بغير حساب" ، فخبرٌ من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقَه ، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبدَه. لأنه جل ثناؤه لا ينقصُ سَوْقُه ذلك إليه كذلك خزائنَه ، ولا يزيدُ إعطاؤه إياه ، ومحاسَبته عليه في مُلكه ، وفيما لديه شيئًا ، ولا يعزب عنه علمُ ما يرزقه ، وإنما يُحاسب مَنْ يعطي مَا يعطيه ، مَنْ يخشى النقصانَ من ملكه ، ودخولَ النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف ، ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 359}(13/74)
لطيفة
قال الآلوسى :
أخرج أبو يعلى عن جابر : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً فأتى فاطمة فقال : يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع ؟ فقالت : لا والله فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليها فقالت له : بي أنت وأمي قد أتى الله تعالى بشيء قد خبأته لك قال : هلمي يا بنية بالجفنة فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله تعالى فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله تعالى ، وقال : من أين لك هذا يا بنية ؟ قالت : يا أبتي هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فحمد الله سبحانه ثم قال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله تعالى رزقاً فسئلت عنه قالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ثم جمع علياً والحسن والحسين وجمع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة رضي الله تعالى عنها على جيرانها. { مسند أبي يعلى كما في المطالب العالية لابن حجر (4/74) ، وفي إسناده عبد الله بن صالح متكلم فيه ، وابن لهيعة ضعفه الجمهور}. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 142}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
قيل : وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة.
العموم الذي يراد به الخصوص في قوله : على العالمين ، والإختصاص في قوله : آدم ، ونوحاً ، وآل إبراهيم ، وآل عمران.
وإطلاق اسم الفرع على الأصل.(13/75)
والمسبب على السبب ، في قوله : ذرية ، فيمن قال المراد الأباء ، والإبهام في قوله : ما في بطني ، لما تعذر عليها الإطلاع على ما في بطنها أتت بلفظ : ما ، الذي يصدق على الذكر والأنثى ، والتأكيد في قوله : { إنك أنت السميع العليم } والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها : وضعتها أنثى ، والاعتراض في قوله : { والله أعلم بما وضعت } ، في قراءة من سكن التاء أو كسرها وتلوين الخطاب ومعدوله في قوله : والله أعلم بما وضعت ، في قراءة من كسر التاء ، خرج من خطاب الغيبة في قولها : فلما وضعتها ، إلى خطاب المواجهة في قوله : بما وضعت والتكرار في : وأنى ، وفي : زكريا ، وزكريا ، وفي : من عند الله ، إن الله والتجنيس المغاير في : فتقبلها ربها بقبول ، وأنبتها نباتاً ، وفي : رزقاً ويرزق والإشارة ، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي ، في قوله : هو من عند الله ، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلاَّ الله.
وفي قوله : رزقاً ، أتى به منكّراً مشيراً إلى أنه ليس من جنس واحد ، بل من أجناس كثيرة ، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة.
والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 462}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآيات
قال رحمه الله :
المُحَرَّرُ الذي ليس في رِقِّ شيء من المخلوقات ، حرَّرَه الحق سبحانه في سابق حكمه عن رق الاشتغال بجميع الوجوه والأحوال. فلمَّا نذرت أمُّ مريم ذلك ، ووضعتها أنثى خَجِلت ، فلمَّا رأتها قالت { رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أُنْثَى } وهي لا تصلح أن تكون محرراً فقال تعالى : { وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } ولعمري ليس الذكر كالأنثى في الظاهر ، ولكن إذا تَقَبَّلَها الحقُّ - سبحانه وتعالى - طلع عنها كل أعجوبة.(13/76)
ولما قالت { إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا } قالت { فَتَقَبَّلْ مِنِّى } فاستجاب ، وظهرت آثار القبول عليها وعلى ابنها ، ونجا بحديثها عَالَمٌ وَهَلَكَ بسببها عَالَمٌ ، ووقعت الفتنة لأجلهما في عَالَم.
قالت : { وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } استجارت بالله من أن يكون للشيطان في حديثها شيء بما هو الأسهل ، لتمام ما هم به من أحكام القلوب.
قوله جلّ ذكره : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا }.
حيث بَلَّغَها فوق ما تَمَنَّتْ أمها ، ويقال تقبَّلها بقبول حسنٍ حتى أفردها لطاعته ، وتولاّهَا بما تَولَّى به أولياءه ، حتى أفضى جمع مَنْ في عصرها العَجَبَ من حُسْنِ توليه أمرها ، وإن كانت بنتاً.
ويقال القبولُ الحَسَنُ حُسْنُ تربيته لها مع علمه - سبحانه - بأنه يُقال فيه بسببها ما يُقال ، فلم يُبالِ بِقُبْح مقال الأعداء :
أجد الملامة في هواكِ لذيذةً... حُبَّاً لذكرك فليلمني اللُّوَمُ
وكما قيل :
ليقل من شاء ما... شاء فإني لا أُبالي
ويقال القبول الحسن أَنْ ربّاها على نعت العصمة حتى كانت تقول : { إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } [ مريم : 18 ].
{ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } حتى استقامت على الطاعة ، وآثرت رضاه - سبحانه - في جميع الأوقات ، وحتى كانت الثمرة منها مثل عيسى عليه السلام ، وهذا هو النبات الحسن ، وكفلها زكريا. ومن القبول الحسن والنبات الحسن أَنْ جعل كافَلَها والقَيَّمَ بأمرها وحفظها نبياً من الأنبياء مثل زكريا عليه السلام ، وقد أوحى الله إلى داود عليه السلام : إنْ رأيْتَ لي طالباً فكُنْ له خادماً.(13/77)
قوله جلّ ذكره : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هّذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
مِنْ إمارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا في المحراب ، ومن كان مسكنه وموضعه الذي يتعبَّدُ فيه وهناك يوجد المحراب - فذلك عَبْدٌ عزيز.
ويقال مِنَ القبول الحسن أنه لم يطرح أمرَها كُلَّه وشُغْلُها على زكريا عليه السلام : فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعهدها بطعام وَجَدَ عندها رزقاً لِيَعْلَمَ العاملون أن الله - سبحانه - لا يُلْقِي شُغْلَ أوليائه على غير ، ومن خدم ولياً من أوليائه كان هو في رفق الولي لا إنه تكون عليه مشقة لأجل الأولياء. وفي هذا إشارة لمن يخدم الفقراء أن يعلم أنه في رفق الفقراء.
ثم كان زكريا عليه السلام يقول : { أَنَّى لَكِ هَذَا } ؟ لأنه لم يكن يعتقد فيها استحقاق تلك المنزلة ، وكان يخاف أن غيره يغلبه وينتهز فرصة تعهدها ويسبقه بكفاية شُغْلها ، فكان يسأل ويقول : { أَنَّى لَكِ هَذَا } ومن أتاكِ به ؟(13/78)
وكانت مريم تقول : هو من عند الله لا من عند مخلوق ، فيكون لزكريا فيه راحتان : إحداهما شهود مقامها وكرامتها عند الله تعالى ، والثانية أنه لم يغلبه أحد على تعهدها ، ولم يسبق به. قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ } فلفظة كلَّما للتكرار وفي هذا إشارة : وهو أن زكريا عليه السلام لم يَذَرْ تَعهُّدَها - وإنْ وجد عندها رزقًا - بل كل يومٍ وكل وقتٍ كان يتفقد حالها لأن كراماتِ الأولياء ليست مما يجب أن يدوم ذلك قطعاً ؛ فيجوز أن يُظهِرَ الله ذلك عليهم دائماً ، ويجوز ألا يظهر ، فما كان زكريا عليه السلام يعتمد على ذلك فيترك تفقد حالها ، ثم كان يُجَدِّدُ السؤال عنها بقوله : { يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا } ؟ لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمس ، فإنه لا واجب على الله سبحانه.
وقوله : { إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } إيضاح عن عين التوحيد ، وأن رزقه للعباد ، وإحسانه إليهم بمقتضى مشيئته ، دون أن يكون مُعَلَّلاً بطاعاتهم ووسيلة عباداتهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 238 ـ 239}(13/79)
قوله تعالى {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان كأنه قيل : فما قال زكريا حينئذ ؟ قيل : {هنالك} أي في ذلك الوقت وذلك المكان العظيمي المقدار {دعا زكريا ربه} تذكراً لما عودهم الله سبحانه وتعالى به من الإكرام ، فظهرت عليه كرامات هذه الكفالة ، قال الحرالي : لما أشهده الله سبحانه وتعالى أنه يخرق عادته لمن شاء بكلمته في حق كفيلته في الظاهر ، الكافلة له في هذا المعنى ، دعا ربه الذي عوده بالإحسان أن يرزقه ولداً في غير إبانه كما رزق مريم رزقاً في غير زمانه فوجب دعاؤه - انتهى.
{قال رب} أي الذي عودني بإحسانه {هب لي من لدنك} قال الحرالي : طلب عليه من باطن الأمر كما قال سبحانه وتعالى : {وعلمناه من لدنا علماً} [ الكهف : 65 ] ، وكما قال فيه {وحناناً من لدنا} [ مريم : 13 ] ، لأن كل ما كان من لدن فهو أبطن من عند {ذرية} فيه إشعار بكثرة ونسل باق ، فأجيب بولد فرد لما كان زمان انتهاء في ظهور كلمة الروح وبأنه لا ينسل فكان يحيي حصوراً لغلبة الروحانية على إنسانيته - انتهى.
{طيبة} أي مطيعة لك لأن ذلك طلبة أهل الخصوص ، ثم علل إدلاله على المقام الأعظم بالسؤال بقوله : {إنك سميع الدعاء} أي مريده ومجيبه لأن من شأن من يسمع - ولم يمنع - أن يجب إذا كان قادراً كاملاً ، وقد ثبتت القدرة بالربوبية الكاملة التي لا تحصل إلا من الحي القيوم ، بخلاف الأصنام ونحوها مما عبد فإنها لا تسمع ، ولو سمعت لم تقدر على الإجابة إلى ما تسأل فيه لأنها مربوبة.
قال الحرالي : أعلم الداعي بما لله سبحانه وتعالى من الإجابة ، والقرب " وسيلة في قبول " دعائه - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 75 ـ 76}
فصل
قال الفخر :(13/80)
اعلم أن قولنا : ثم ، وهناك ، وهنالك ، يستعمل في المكان ، ولفظة : عند ، وحين يستعملان في الزمان ، قال تعالى : {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صاغرين} [ الأعراف : 119 ] وهو إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه ، وقال تعالى : {إِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [ الفرقان : 13 ] أي في ذلك المكان الضيق ، ثم قد يستعمل لفظة {هُنَالِكَ} في الزمان أيضاً ، قال تعالى : {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق} [ الكهف : 44 ] فهذا إشارة إلى الحال والزمان.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} إن حملناه على المكان فهو جائز ، أي في ذلك المكان الذي كان قاعداً فيه عند مريم عليها السلام ، وشاهد تلك الكرامات دعا ربه ، وإن حملناه على الزمان فهو أيضاً جائز ، يعني في ذلك الوقت دعا ربه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 29}
وقال ابن عادل :
" هنا " هو الاسم ، واللام للبعد ، والكاف حرف خطاب ، وهو منصوب على الظرف المكاني بـ " دَعَا " وزان " ذلك " ، وهو منصوب على الظرف المكاني ، بـ " دعا " أي : في ذلك المكان الذي راى فيه ما رأى من أمر مريمَ ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية بـ " مِنْ " وَ " إلَى ".
قال الشاعر : [ الرجز ]
قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمكِنَهْ... مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هُنَهْ
(13/81)
وحكمه حكم " ذَا " من كونه يُجَرَّد من حرف التنبيه ، ومن الكاف واللام ، نحو " هُنَا " وقد يَصْحَبه " ها " التنبيه ، نحو هاهنا ، ومع الكاف قليلاً ، نحو ها هناك ، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام. وأخوات " هنا " بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها - و" ثَمَّ " بفتح الثاء - وقد يقال : " هَنَّت ". ولا يشار بـ " هُنَالِكَ " وما ذُكِرَ مَعَهُ إلا للأمكنة ، كقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ } [ الأعراف : 119 ] وقوله : { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق } [ الكهف : 44 ] وقوله : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ].
وقد زعم بعضهم أن " هُنا " و" هناك " و" هنالك " للزمان ، فمن ورود " هنالك " بمعنى الزمان عند بعضهم - هذه الآية أي : في ذلك الزمان دعا زكريا ربه ، ومثله : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] ، وقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } ومنه قول زهير : [ الطويل ]
هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا................................
ومن " هنَّا " قوله : [ الكامل ]
حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ... وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ
لأن " لات " لا تعمل إلا في الأحيان.
وفي عبارة السجاوندي أن " هناك " في المكان ، و" هنالك " في الزمان ، وهو سهو ؛ لأنها للمكان سواء تجردت ، أو اتصلت بالكاف واللام معاً ، أم بالكاف من دون اللام. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 187 ـ 188}
وقال أبو حيان :
قيل : واللام في : هنالك ، دلالة على بعد المسافة بين الدعاء والإجابة ، فإنه نقل المفسرون أنه كان بين دعائه وإجابته أربعون سنة.
وقيل : دخلت اللام لبعد منال هذا الأمر لكونه خارقاً للعادة ، كما أدخل اللام في قوله : { ذلك الكتاب } لبعد مناله وعظم ارتفاعه وشرفه.(13/82)
وقال الماتريدي : كانت نفسه تحدثه بأن يهب الله له ولداً يبقى به الذكر إلى يوم القيامة ، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب ، إذ الأدب أن لا يدعو لمراد إلاَّ فيما هو معتاد الوجود وإن كان الله قادراً على كل شيء ، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد. انتهى.
وقوله : كانت تحدثه نفسه بذلك ، يحتاج إلى نقل.
وفي قوله : { هنالك دعا } دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة والأزمنة المشرفة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 463}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن قوله {هُنَالِكَ دَعَا} يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت له تعلق بهذا الدعاء ، وقد اختلفوا فيه ، والجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين قالوا : هو أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء ، ومن فاكهة الشتاء في الصيف ، فلما رأى خوارق العادات عندها ، طمع في أن يخرقها الله تعالى في حقه أيضاً فيرزقه الولد من الزوجة الشيخة العاقر.
والقول الثاني : وهو قول المعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء ، وإرهاصات الأنبياء قالوا : إن زكريا عليه السلام لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم عليها السلام اشتهى الولد وتمناه فدعا عند ذلك ، واعلم أن القول الأول أولى ، وذلك لأن حصول الزهد والعفاف والسيرة المرضية لا يدل على انخراق العادات ، فرؤية ذلك لا يحمل الإنسان على طلب ما يخرق العادة ، وأما رؤية ما يخرق العادة قد يطمعه في أن يطلب أيضاً فعلاً خارقاً للعادة ومعلوم أن حدوث الولد من الشيخ الهرم ، والزوجة العاقر من خوارق العادات ، فكان حمل الكلام على هذا الوجه أولى.
فإن قيل : إن قلتم إن زكريا عليه السلام ما كان يعلم قدرة الله تعالى على خرق العادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عند مريم عليها السلام كان في هذا نسبة الشك في قدرة الله تعالى إلى زكريا عليه السلام.(13/83)
فإن قلنا : إنه كان عالماً بقدرة الله على ذلك لمن تكن مشاهدة تلك الأشياء سبباً لزيادة علمه بقدرة الله تعالى ، فلم يكن لمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك ، فلا يبقى لقوله هنالك أثر.
والجواب : أنه كان قبل ذلك عالماً بالجواز ، فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكن عالماً به ، فلما شاهد علم أنه إذا وقع كرامة لولي ، فبأن يجوز وقوع معجزة لنبي كان أولى ، فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلك الكرامات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 29 ـ 30}
فائدة
قال الفخر :
إن دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا بعد الإذن ، لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة ، فحينئذ تصير دعوته مردودة ، وذلك نقصان في منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، هكذا قاله المتكلمون ، وعندي فيه بحث ، وذلك لأنه تعالى لما أذن في الدعاء مطلقاً ، وبين أنه تارة يجيب وأخرى لا يجيب ، فللرسول أن يدعو كلما شاء وأراد مما لا يكون معصية ، ثم إنه تعالى تارة يجيب وأخرى لا يجيب ، وذلك لا يكون نقصاناً بمنصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم على باب رحمة الله تعالى سائلون فإن أجابهم فبفضله وإحسانه وإن لم يجبهم فمن المخلوق حتى يكون له منصب على باب الخالق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 30}
فائدة
قال الماوردى :
قوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } اختلف في سبب دعائه على قولين :
أحدهما : أن الله تعالى أذن له في المسألة لأن سؤال ما خالف العادة يُمْنَع منه إلا عن إذن لتكون الإجابة إعجازاً.
والثاني : أنه لما رآى فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف طمع في رزق الولد من عاقر. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 389}(13/84)
قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام : {هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً}
فصل
قال الفخر :
أما الكلام في لفظة {لَّدُنْ} فسيأتي في سورة الكهف والفائدة في ذكره ههنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة فلما طلب الولد مع فقدان تلك الأسباب كان المعنى : أُريد منك إلهي أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 30}
وقال ابن عادل :
قوله : { مِن لَّدُنْكَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه يتعلق بـ " هَبْ " وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً ، أي : يا رب هَبْ لي من عندك. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة لِ " ذُرِّيَّة " فلما قُدِّم عليها انتَصَبَ حالاً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 188 ـ 189}
فائدة
قال أبو حيان :
{ قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } هذه الجملة شرح للدعاء وتفسير له ، وناداه بلفظ : رب ، إذ هو مربيه ومصلح حاله ، وجاء الطلب بلفظ : هب ، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضاً للواهب ، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه : لا من الوالد لكبر سنه ، ولا من الوالدة لكونها عاقراً لا تلد ، فكان وجوده كالوجود بغير سبب ، أتى هبة محضة منسوبة إلى الله تعالى بقوله : من لدنك ، أي من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب.
وتقدّم أن : لدن ، لما قرب ، و: عند ، لما قرب ولما بعد ، وهي أقل إبهاماً من : لدن ، ألا ترى أن : عند ، تقع جواباً لأين ، ولا تقع له جواباً : لدن ؟ . أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 463}
فصل
قال الفخر :(13/85)
الذرية النسل ، وهو لفظ يقع على الواحد ، والجمع ، والذكر والأنثى ، والمراد منه ههنا : ولد واحد ، وهو مثل قوله {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} [ مريم : 5 ] قال الفراء : وأنث {طَيّبَةً} لتأنيث الذرية في الظاهر ، فالتأنيث والتذكير تارة يجيء على اللفظ ، وتارة على المعنى ، وهذا إنما نقوله في أسماء الأجناس ، أما في أسماء الأعلام فلا ، لأنه لا يجوز أن يقال جاءت طلحة ، لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص ، فإذا كان ذلك الشخص مذكراً لم يجز فيها إلا التذكير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 30}
قوله تعالى : {إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء}
قال الفخر :
ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم ، بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه ، وهو كقول المصلين : سمع الله لمن حمده ، يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين ، وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} [ مريم : 4 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 30}
وقال ابن عادل :
قوله { سَمِيعٌ الدعآء } مثال مبالغة ، مُحَوَّل من سامع ، وليس بمعنى مُسْمِع ؛ لفساد المعنى ؛ لأن معناه إنك سامعه ، وقيل : مُجِيبه ، كقوله : { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون } [ يس : 25 ] أي : فأجيبوني ، وكقول المصلي : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، يريد قبل اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ من المؤمنين. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 189}(13/86)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } قصة مستقلة سيقت في أثناء قصة مريم لكمال الارتباط مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له ، و( هنا ) ظرف مكان ، واللام للبعد ، والكاف للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب ، وهي ظرف ملازم للظرفية وقد تجر بمن وإلى ؛ وجوز أن يراد بها الزمان مجازاً فإن ( هنا ) وثم وحيث كثيراً ما تستعار له وهي متعلقة بدعا وتقديم الظرف للإيذان بأنه أقبل على الدعاء من غير تأخير ، وقال الزجاج : إن ( هنا ) هنا مستعارة للجهة والحال أي من تلك الحال دعا زكريا كما تقول : من ههنا قلت كذا ، ومن هنالك قلت كذا أي من ذلك الوجه وتلك الجهة.
أخرج ابن بشر وابن عساكر عن الحسن قال : لما وجد زكريا عند مريم ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء يأتيها به جبريل قال لها : أنى لك هذا في غير حينه. قالت : هو رزق من عند الله يأتيني به الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فطمع زكريا في الولد فقال : إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير حينها لقادر على أن يصلح لي زوجتي ويهب لي منها ولداً فعند ذلك دعا ربه وذلك لثلاث ليال بقين من المحرم قام زكريا فاغتسل ثم ابتهل في الدعاء إلى الله تعالى ، وقيل : أطمعه في الولد فدعا مع أنه كان شيخاً فانياً وكانت امرأته عاقراً لما أن الحال نبهته على جواز ولادة العاقر من الشيخ من وجوه.
الأول : ما أشار إليه الأثر من حيث إن الولد بمنزلة الثمر والعقر بمنزلة غير أوانه ،
والثاني : أنه لما رأى تقبل أنثى مكان الذكر تنبه لأنه يجوز أن يقوم الشيخ مقام الشاب والعاقر مقام الناتج ،
والثالث : أنه لما رأى تقبل الطفل مقام الكبير للتحرير تنبه لذلك.(13/87)
والرابع : أنه لما رأى تكلم مريم في غير أوانه تنبه لجواز أن تلد امرأته في غير أوانه ، والخامس : أنه لما سمع من مريم { إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] تنبه لجواز أن تلد من غير استعداد ؛ ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الخدش ، وعلى العلات ليس ما رأى فقط علة موجبة للإقبال على الدعاء بل كان جزءاً من العلة التامة التي من جملتها كبر سنه عليه السلام وضعف قواه وخوف مواليه حسبما فصل في سورة مريم
{ قَالَ } شرح للدعاء وبيان لكيفيته { رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ } الجاران متعلقان بما قبلهما وجاز لاختلاف المعنى ، و{ مِنْ } لابتداء الغاية مجازاً أي أعطني من عندك { ذُرّيَّةً طَيّبَةً } أي مباركة كما قال السدي ، وقيل : صالحة تقية نقية العمل ، ويجوز أن يتعلق الجار الأخير بمحذوف وقع حالاً من ذرية ، وجاء الطلب بلفظ الهبة لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلة شيء وهو يناسب ما لا دخل فيه للوالد لكبر سنه ولا للوالدة لكونها عاقرة لا تلد فكأنه قال : أعطني ذرية من غير وسط معتاد ، والذرية في المشهور النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى.
والمراد ههنا ولد واحد ؛ قال الفراء : وأنث الطيبة لتأنيث لفظ الذرية والتأنيث والتذكير تارة يجيئان على اللفظ وأخرى على المعنى وهذا في أسماء الأجناس كما في قوله :
أبوك خليفة ولدته أخرى... وأنت خليفة ذاك الكمال(13/88)
بخلاف الأعلام فإنه لا يجوز أن يقال : جاءت طلحة لأن اسم العلم لا يفيد إلا ذلك الشخص فإذا كان مذكراً لم يجز فيه إلا التذكير. { إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء } أراد كثير الإجابة لمن يدعوك من خلقك وهو تعليل لما قبله وتحريك لسلسلة الإجابة ، وفي ذلك اقتداء بجده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ قال : { الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدعاء } [ إبراهيم : 39 ] قيل : قد ذكر الله تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ. إحداها : هذه والثانية : { إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى } [ مريم : 4 ] الخ ، والثالثة : { رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً } [ الأنبياء : 89 ] الخ ، فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات كل مرة بصيغة ، ويدل على أن بين الدعاء والإجابة زماناً ، ويصرح به ما نقل في بعض الآثار أن بينهما أربعين سنة ، وفيه منع ظاهر لجواز أن تكون الصيغ الثلاث حكاية لدعاء واحد مرة على سبيل الإيجاز ، وتارة على سبيل الإسهاب ، وأخرى على سبيل التوسط ، وهذه الحكاية في هذه الضيع إنما هي بالمعنى إذ لم يكن لسانهم عربياً ؛ ولهذا ورد عن الحسن أنه عليه السلام حين دعا قال : يا رازق مريم ثمار الصيف في الشتاء وثمار الشتاء في الصيف { هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً } ولم يذكر في الدعاء يا رب قيل : ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في
قوله تعالى : { فَنَادَتْهُ الملائكة } وفي قوله سبحانه : { فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى } [ الأنبياء : 90 ] وظاهر قوله جل شأنه في مريم : { إِنَّا نُبَشّرُكَ } [ مريم : 7 ] اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه ، وأثر إن بين الدعاء والإجابة أربعين سنة لم نجد له أثراً في الصحاح ، نعم ربما يشعر بعض الأخبار الموقوفة أن بين الولادة والتبشير مدة كما سنشير إلى ذلك قريباً إن شاء الله تعالى. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 144 ـ 145}(13/89)
وقال ابن عطية :
هناك في كلام العرب إشارة إلى مكان فيه بعد أو زمان ، و{ هنالك } باللام أبلغ في الدلالة على البعد ، ولا يعرب { هنالك } لأنه إشارة فأشبه الحروف التي جاءت لمعنى ، ومعنى هذه الآية : أن في الوقت الذي رأى زكرياء رزق الله لمريم ومكانتها منه وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت وأن الله تقبلها وجعلها من الصاحلات تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب وذلك لخوفه الموالي من ورائه حسبما يتفسر في سورة مريم إن شاء الله فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، و" الذرية " اسم جنس يقع على واحد فصاعداً كما الولي يقع على اسم جنس كذلك ، وقال الطبري : إنما أراد هنا بالذرية واحداً ودليل ذلك طلبه ولياً ولم يطلب أولياء ، وأنث " الطيبة " حملاً على لفظ الذرية كما قال الشاعر : [ الوافر ]
أبوك خليفةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذاكَ الْكَمَالُ
وكما قال الآخر :
فما تزدري مِنْ حَيَّةٍ جَبليَّة ؟ ... سِكَات إذا ما عضَّ لَيْسَ بأدْرَدا
وفيما قال الطبري تعقب وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكرياء عليه السلام ، و{ طيبة } معناه سليمة في الخلق والدين نقية ، و{ سميع } في هذه الآية بناء اسم فاعل. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 427}
وقال ابن عاشور :
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [38].(13/90)
أي في ذلك المكان ، قبل أن يخرج ، وقد نبهه إلى الدعاء مشاهدة خوارق العادة مع قول مريم : {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران : 37] والحكمة ضالة المؤمن ، وأهل النفوس الزكية يعتبرون بما يرون ويسمعون ، فلذلك عمد إلى الدعاء بطلب الولد في غير إبانه ، وقد كان في حسرة من عدم الولد كما حكى الله عند في سورة مريم. وأيضا فقد كان حينئذ في مكان شهد فيه فيضا إلهيا. ولم يزل أهل الخير يتوخون الأمكنة بما حدث فيها من خير ، والأزمنة الصالحة كذلك ، وما هي إلا كالذوات الصالحة في أنها محال تجليات رضا الله.
وسأل الذرية الطيبة لأنها التي يرجى منها خير الدنيا والآخرة بحصول الآثار الصالحة النافعة. ومشاهدة خوارق العادات خولت لزكريا الدعاء بما هو من الخوارق ، أو من المستبعدات ، لأنه رأى نفسه غير بعيد عن عناية الله تعالى ، لا سيما في زمن الفيض أو مكانه ، فلا يعد دعاؤه بذلك تجاوزا لحدود الأدب مع الله على نحو ما قرره القرافي في الفرق بين ما يجوز من الدعاء وما لا يجوز. وسميع هنا بمعنى مجيب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 90}
فصل
قال القرطبى :
دلّت هذه الآية على طلب الولد ، وهي سُنّة المرسلين والصدّيقين ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } [ الرعد : 38 ] وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وَقّاص قال : أراد عثمان أن يتبتّل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أجاز له ذلك لاختصينا.(13/91)
وخرّج ابن ماجه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النكاح من سُنَّتي فمن لم يعمل بُسنّتي فليس منّي وتزوّجوا فإني مكاثِرٌ بكم الأمم ومن كان ذا طَول فَلْيَنْكِح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وفي هذا رَدٌّ على بعض جُهّال المتصوّفة حيث قال : الذي يطلب الولدَ أحمق ، وما عَرَفَ أنه ( هو ) الغبيُّ الأخرق ؛ قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل : { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } [ الشعراء : 84 ] وقال : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ].
وقد ترجم البخاري على هذا "باب طلب الولد".
" وقال صلى الله عليه وسلم لأبى طَلْحة حين مات ابنه.
"أعْرَسْتم الليلة" ؟ قال نعم.
قال : "بارك الله لكما في غابر ليلتكما" " قال فحملت.
في البخاري : قال سفيان فقال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن.
وترجم أيضا "باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة" وساق حديث أنس بن مالك قال قالت " أم سُليم : يا رسول الله ، خادمك أنس أدع الله له.
فقال : "اللّهُمّ أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته" " وقال صلى الله عليه وسلم : " الّلهُمّ اغفر لأبي سَلَمة وارفع درجته في المهديَّين فيما واخلفه في عَقِبه في الغابرين " أخرّجه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم : " تزوجوا الوَلود الوَدود فإني مكاثر بكم الأمم " أخرجه أبو داود.
والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه ؛ لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته.
قال صلى الله عليه وسلم : " "إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث" فذكر "أو ولد صالح يدعو له" " ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.
(13/92)
فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرّع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية ، وأن يكونا مُعينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه ؛ ألا ترى قول زكريا { واجعله رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 6 ] وقال : { ذُرِيَّةً طَيِبةً }.
وقال : { هَبْ لنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِيَّاتِنَا قُرَّة أَعْيُنٍ }.
" ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس فقال : "اللّهُمّ أكثر ماله وولده وبارك له فيه" " خرّجه البخاري ومسلم ، وحسْبُك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 72 ـ 73}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
أي لما رأى كرامة الله سبحانه معها ازداد يقيناً على يقين ، ورجاء على رجاء ؛ فسأل الوَلَدَ على كبر سِنِّه ، وإجابتُه إلى ذلك كان نقضاً للعادة.
ويقال إن زكريا عليه السلام سأل الوَلَدَ ليكونَ عوناً له على الطاعة ، ووارثاً من نَسْلِه في النبوة ، ليكون قائماً بحقِّ الله ، فلذلك استحق الإجابة ؛ فإن السؤال إذا كان لحقِّ الحقِّ - لا لحظِّ النَّفْسِ - لا يكون له الرد.
وكان زكريا عليه السلام يرى الفاكهة الصيفية عند مريم في الشتاء ، وفاكهة الشتاء عندها في الصيف ، فسأل الولد في حال الكِبَر ليكون آية ومعجزة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 239 ـ 240}(13/93)
قوله تعالى { فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الله سبحانه وتعالى عند ظن عبده به سمع دعاءه كما قال {فنادته} أي فتسبب عن دعائه وحسن رجائه أن نادته {الملائكة} يعني هذا النوع ، لا كلهم بل ناداه البعض ، وكان متهيئاً بما آتاه الله سبحانه وتعالى من المفضل لمناداة الكل ، كما هو شأن أهل الكمال من الرسل {وهو قائم يصلي في المحراب} وهو موضع محاربة العابد للشيطان ، وهو أشرف الأماكن لذلك.
قال الحرالي : فيه إشعار بسرعة إجابته ولزومه معتكفه وقنوته في قيامه وأن الغالب على صلاته القيام لأن الصلاة قيام ، وسجود يقابله ، وركوع متوسط ، فذكرت صلاته بالقيام إشعاراً بأن حكم القيام غالب عليها - انتهى.
ثم استأنف في قراءة حمزة وابن عامر بالكسر لجواب من كأنه قال : بأي شيء نادته الملائكة ؟ قوله : {أن الله يبشرك} قال الحرالي : فذكر الاسم الأعظم المحيط معناه بجميع معاني الأسماء ، ولم يقل إن ربك لما كان أمر إجابته من وراء الحكمة العادية ؛ وفي قوله : {بيحيى} مسمى بصيغة الدوام - مع أنه كما قيل : قتل - إشعار بوفاء حقيقة الروحانية الحياتية فيه دائماً ، لا يطرقه طارق موت الظاهر حيث قتل شهيداً - انتهى.
{مصدقاً بكلمة} أي نبي خلق بالكلمة لا بالمعالجة العادية ، يرسله الله سبحانه وتعالى إلى عباده فيكذبه أكثرهم ويصدقه هو ، وإطلاق الكلمة عليه من إطلاق السبب على المسبب.
قال الحرالي : فكان عيسى عليه الصلاة والسلام كلمة الله سبحانه وتعالى ، ويحيى مصدقه بما هو منه كمال كلمته حتى أنهما في سماء واحدة ، ففي قوله : {من الله} إشعار بإحاطته في ذات الكلمة - انتهى.(13/94)
{وسيداً وحصوراً} أي فلا يتزين بزينة لأنه بالغ الحبس لنفسه والتضييق لعيها في المنع من النكاح.
قال في القاموس : والحصور من لا يأتي النساء وهو قادر على ذلك ، أو الممنوع منهن ، أو من لا يشتهيهن ولا يقربهن ، والمجبوب - والهَيوب المحجم عن الشيء.
وقال الحرالي : وهو من الحصر وهو المنع عما شأن الشيء أن يكون مستعملاً فيه - انتهى {ونبياً} ولما كان النبي لا يكون إلا صالحاً لم يعطف بل قال : {من الصالحين} إعلاماً بمزية رتبة الصلاح واحترازاً من المتنبيين ، فكأنه قيل : فما قال حين أجابه ربه سبحانه وتعالى ؟ فقيل : {قال} يستثبت بذلك ما يزيده طمأنينة ويقيناً وسكينة {رب} أي أيها المحسن إلي. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 76 ـ 77}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : { فَنَادَتْهُ الملائكة } قرأ الأخوان " فَنَادَاهُ المَلاَئِكَةُ " - من غير تأنيث - والباقون " فَنَادَتْهُ " بتاء التأنيث - باعتبار الجمع المُكَسَّر ، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع ، والتأنيث باعتبار الجماعة ، ولتأنيث لفظ " الملائكة " مع أن المذكور إذا تقدَّم فعلُهم - وهم جماعة - كان التأنيث فيه أحسن ؛ كقوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب } [ الحجرات : 14 ]. ومثل هذا { إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملاائكة } [ الأنفال : 50 ] تُقْرأ بالتاء والياء ، وكذا قوله : { تَعْرُجُ الملائكة } [ المعارج : 4 ].
قال الزجاج : يلحقها التأنيث للفظ الجماعة ، ويجوز أن يُعَبَّر عنها بلفظ التذكير ؛ لأنه - تعالى جمع الملائكة ، وهكذا قوله : { وَقَالَ نِسْوَةٌ } [ يوسف : 30 ].
وإنما حَسُنَ الحذفُ - هنا - للفصل بين الفعل وفاعله.
وقد تجرأ بعضُهم على قراءة العامة ، فقال : " أكره التأنيثَ ؛ لما فيه من موافقة دَعْوَى الجاهلية ؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث ".
روى إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الملائكةَ في كُلِّ القرآنِ.(13/95)
قال أبو عُبَيْد : " نراه اختار ذلك ؛ خلافاً على المشركين ؛ لأنهم قالوا : الملائكة بناتُ اللهِ ".
وروى الشعبيُّ أن ابن مسعود قال : " إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً ".
وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين ، فقال : وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية ، ولذلك قرأ " فناداه " بغير تاء - والقراءة غير جيِّدة ؛ لأن الملائكة جمع ، وما اعتلوا ليس بشيءٍ ؛ لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم } [ آل عمران : 42 ].
وهذان القولان - الصادران من أبي البقاء وغيره - ليسا بجيِّدَيْن ؛ لأنهما قراءتان متواترتان ، فلا ينبغي أن ترد إحداهما ألبتة.
والأخوان على أصلهما من إمالة " فَنَادَاهُ ". والرسم يحتمل القراءتين معاً - أعني : التذكير والتأنيث والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد - وهو جبريل.
قال الزَّجَّاج : أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة ، كقولك : فلان يركب السُّفُنَ - أي : هذا الجنس كقوله تعالى : { يُنَزِّلُ الملائكة } [ النحل : 2 ] يعني جبريل " بِالرُّوحِ " يعني الوحي. ومثله قوله : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] وهو نعيم بن مسعود ، وقوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] يعني أبا سفيان. ولما كان جبريل - عليه السلام - رئيسَ الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة ؛ تعظيماً له.
قيل : الرئيس لا بدَّ له من أتباع ، فلذلك أخبر عنه وعنهم ، وإن كان النداء قد صدر منه - قاله الفضل بن سلمة - ويؤيد كون المنادي جبريل وحده قراءةُ عبد الله - وكذا في مصحفه - فناداه جبريل.
والعطف بالفاء - في قوله " فَنَادَتْهُ " - مُؤذِنٌ بأن الدعاء مُتَعقب بالتبشير.
والنداء : رفع الصوت ، يقال : نادَى ندَاء - بضم النون وكسرها - والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم ، نحو البُكَاء ، والصُّراخ ، والدُّعاء ، والرُّغاء.
(13/96)
وقيل : المكسور مصدر ، والمصموم اسم. ولو عُكِسَ هذا لكان أبْيَنَ ؛ لموافقته نظائره من المصادر.
قال يعقوب بن السكيت : إن ضمّيت نونه قصرته ، وإن كسرتها مددته.
وأصل المادة يدل على الرفع ، ومنه المنْتَدَى والنادي ؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم. وقالت قريش : دار الندوة ، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها ، وفلان أنْدَى صَوْتاً من فلان - أي : أرفع - هذا أصله في اللغة ، وفي العرف : صار ذلك لأحسنها نَغَماً وصوتاً ، والنَّدَى : المَطَر ، ومنه : نَدِيَ ، يَنْدَى ، ويُعَبَّر به عن الجود ، كما يُعَبَّر بالمطر والغيث عنه استعارةً.
قوله : { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء ، و" يُصَلِّي " يحتمل أوجهاً :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً - عند مَنْ يرى تَعَدُّدَه مطلقاً - نحو : زيدٌ شاعرٌ فقيهٌ.
الثاني : أنه حال من مفعول النداء ، وذلك - أيضاً - عند مَنْ يجوِّز تعدُّدَ الحال.
الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في " قَائِمٌ " فيكون حالاً من حال.
الرابع : أن يكون صفة لِ " قَائِمٌ ".
قوله : { فِي المحراب } متعلق بـ " يُصَلِّي ، ويجوز أن يتعلق بـ " قَائِمٌ " إذا جعلنا يُصَلِّي حالاً من الضمير في " قَائِمٌ " ؛ لأن العامل فيه - حينئذ - وفي الحال شيء واحد ، فلا يلزم فيه فَصْل ، أما إذا جعلناه خبراً ثانياً أو صفة لِ " قَائِمٌ " أو حالاً من المفعول لزم الفصلُ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبيٍّ. هذا معنى كلام أبي حيّان.
قال شِهَابُ الدِّيْنِ : والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ؛ فإن كُلاًّ من " قَائِمٌ " و" يصلِّي " يصح أن يتسلَّط على " فِي الْمِحْرَابِ " وذلك على أي وجهٍ تقدم من وجوه الإعراب.
والمحراب - هنا - : المسجد.(13/97)
قوله : { إِنَّ الله } قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر " إنَّ " والباقون بفتحها ، فالكسر عند الكوفيين ؛ لإجراء النداء مُجْرَى القولِ ، فيُكْسر معه ، وند البصريين ، على إضْمار القول - أي : فنادته ، فقالت. والفتح والحذف - على حذف حرف الجر ، تقديره : فنادته بأن الله ، فلما حُذِفَ الخافض جَرَى الوجهان المشهوران في مَحَلِّها.
وفي قراءة عبد الله : " فنادته الملائكة يا زكريا " فقوله : " يا زكريا " هو مفعول النداء ، وعلى هذه القراءة يتعين كسر " إن " ولا يجوز فتحُها ؛ لاستيفاء الفعلِ معموليه ، وهما الضمير وما نُودي به زكريا.
قوله : { يُبَشِّرُكَ } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة في هذه السورة { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - في موضعين - وفي سورة الإسراء : { وَيُبَشِّرُ المؤمنين } [ الإسراء : 9 ] وفي سورة الكهف : { وَيُبَشِّرُ المؤمنين } - بضم الياء ، وفتح الباء ، وكسر الشين مشددة - من بَشَّرَه ، يُبَشِّرُه.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى ، وهو قوله : { ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ } [ الشورى : 23 ].
وقرأ الجميع - دون حمزة - - كذلك في سورة براءة : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } [ التوبة : 21 ] وفي الحجر - في قوله : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 53 ] - ولا خلاف في الثاني - وهو قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] - أنه بالتثقيل.
وكذلك قرأ الجميع - دون حمزة - في سورة مريم - في موضعين { إِنَّا نُبَشِّرُكَ } [ مريم : 7 ] وقوله : { لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين } [ مريم : 97 ]. وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة ، وسكون الياء وضم الشين.
(13/98)
وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفَضل ، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلماتٍ ، والقُرَّاء فيه على أربع مراتبٍ :
فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلُوا الجميعَ.
وحمزة خفّف الجميع إلا قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ].
وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميعَ إلا التي في سورة الشورَى فإنهما وافقَا فيها حمزة. والكسائي خفَّف خمساً منها ، وثقَّل أربعاً ، فخفَّفَ كلمتي هذه السورةِ ، وكلمات الإسراء والكهفِ والشورَى. وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغاتٍ : بشَّر - بالتشديد - وبَشَرَ - بالتخفيف -.
وعليه ما أنشده الفراء قوله : [ الطويل ]
بَشَرْتَ عِيَالِي إذْ رَأيْتَ صَحِيفَةً... أتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
الثالثة : أبْشَرَ - رباعياً - وعليه قراءة بعضهم " يُبَشِّرُكَ " - بضم الياء.
ومن التبشير قول الآخر : [ الكامل ]
يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ... هَلاَّ غَضِبْتَ لَنَا وَأنْتَ أمِيْرُ ؟
وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو " فَبَشِّرْهُمْ ". { وَأَبْشِرُوا } [ فصلت : 30 ] ، { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ]. قالوا : { بَشَّرْنَاكَ بالحق } [ الحجر : 55 ]. فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دونَ الماضي.
وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة.
قوله : { بيحيى } متعلق بـ { يُبَشِّرُكَ } ولا بد من حذف مضاف ، أي : بولادة يحيى ؛ لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة ، ولا بد في الكلام من حذف معمول قاد إليه السياقُ ، تقديره : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، دلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلامِ.
و " يحيى " فيه قولان :
أحدهما- وهو المشهور عند المفسِّرين- : أنه منقول من الفعل المضارع وقد سَمُّوا بالأفعالِ كثيراً ، نحو يعيش ويعمر ويموت.
قال قتادة : " سُمِّي { بيحيى } لأن الله أحياه بالإيمان ".
(13/99)
وقال الزَّجَّاج : " حيي بالعلم " وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلميَّة ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب.
والثاني : أنه أعجميّ لا اشتقاق له - وهو الظاهر - فامتناعه للعلمية والعُجْمَة الشخصية.
وعلى كلا القولين يُجْمَع على " يَحْيَوْنَ " بحَذْف الألف وبقاء الفتحةِ تدلّ عليها.
وقال الكوفيون : إن كان عربيَّا منقولاً من الفعل فالأمر كذلك ، وإن كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو ، وكسر ما قبل الياء ؛ إجراءً له مُجْرَى المنقوص ، نحو جاء القاضُون ، ورأيت القاضِين ، نقل هذا أبو حيّان نهم. ونقل ابنُ مالك عنم أن الاسم إن كانت ألفه زائدةً ضُمَّ ما قبلَ الواو ، وكُسِرَ ما قبلَ الياءِ ، نحو : جاء حبلون ورأيت حُبلِين ، وإن كانت أصليةً نحو دُجَوْن وجب فتح ما قبل الحرفين.
قالوا : فإن كان أعجمياً جاز الوجهان ؛ لاحتمال أن تكون ألفهُ أصليةً أو زائدة ؛ إذْ لا يُعْرَف له اشتقاق. ويصغر يحيى على " يُحَيَّى " وأنشد للشيخ أبي عمرو بن الحاجب في ذلك : [ مجزوء الرمل ]
أيُّها الْعَالِمُ بِالتَّصْرِ... يفِ لا زِلْتَ تُحَيَّا
قَالَ قَوْمٌ : إنَّ يَحْيَى... إنْ يُصَغَّرْ فَيُحَيَّا
وَأبَى قَوْمٌ فَقَالُوا... لَيْسَ هَذَا الرَّأيُ حَيَّا
إنَّمَا كَانَ صَوَاباً... لَوْ أجَابُوا بِيُحَيَّا
كَيْفَ قَدْ رَدُّوا يُحَيَّا... أمْ تَرَى وَجْهاً يُحَيَّا ؟
وهذا جارٍ مَجْرَى الألْغاز في تصغير هذه اللفظة ، وذلك يختلف بالتصريف والعمل ، وهو أنه لما اجتمع في آخر الاسم المصَغَّر ثلاثُ ياءاتٍ جرى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبةِ إلى الحَذْف والإثبات ، وأصل المسألة تصغير " أحْوَى " ويُنْسَب إلى " يَحْيَى " " يَحْيَى " - بحذف الألف ، تشبيهاً لها بالزائد - نحو حُبْلِيّ - في حُبْلَى - و" يَحْيَوِيّ " - بالقلب ؛ لأنها أصل كألف مَلْهَوِيّ ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً - و" يَحْيَاوِيّ " - بزيادة ألف قبل قَلْبِ ألفِهِ واواً.(13/100)
وقرأ حمزة والكسائي " يَحْيَى " بالإمالة ؛ لأجل الياء والباقون بالتفخيم.
قال ابن عباس : " سُمِّيَ " يَحْيَى ؛ لأن اللهَ أحيا به عَقْرَ أمِّه.
وقال قتادة : لأن الله أحيا قلبه بالإيمان.
وقيل : لأن الله أحياه بالطاعة حتى إنه لم يَعْصِ اللهَ ، ولم يَهِمّ بمعصيةٍ.
قال القرطبي : " كان اسمه - في الكتاب الأول - حَيَا ، وكان اسم سارة - زوجة إبراهيم - يسارة ، وتفسيره بالعربية : لا تلد ، فلما بُشِّرَت بإسحاق قيل لها : سارة ، سمَّاها بذلك جبريل - عليه السلام - فقالت : يا إبراهيم ، لم نقص من اسمي حرف ؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل - عليه السلام - فقال : إن ذلك حرف زيد في اسمِ ابنٍ لها من أفضل الأنبياء ، اسمه حيا ، فسُمِّي بيَحْيَى ".
قوله : { مُصَدِّقًا } حال من " يَحْيَى " وهذه حال مقدرة.
وقال ابن عطية : " هي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ". و" بِكلِمةٍ " متعلق بـ " مُصَدِّقاً ".
وقرأ أبو السّمال " بِكِلْمَةٍ " - بكسر الكاف وسكون اللام - وهي لغة صحيحة ؛ وذلك أنه أتبع الفاء للعين في حركتها ، فالتقى بذلك كسرتان ، فحذف الثانيةَ ؛ لأجل الاستثقال. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 190 ـ 196}
فصل
قال الفخر :
ظاهر اللفظ يدل على أن النداء كان من الملائكة ، ولا شك أن هذا في التشريف أعظم ، فإن دل دليل منفصل أن المنادي كان جبريل عليه السلام فقط صرنا إليه.(13/101)
وحملنا هذ اللفظ على التأويل ، فإنه يقال : فلان يأكل الأطعمة الطيبة ، ويلبس الثياب النفيسة ، أي يأكل من هذا الجنس ، ويلبس من هذا الجنس ، مع أن المعلوم أنه لم يأكل جميع الأطعمة ، ولم يلبس جميع الأثواب ، فكذا ههنا ، ومثله في القرآن {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [ آل عمران : 173 ] وهم نعيم بن مسعود إن الناس : يعني أبا سفيان ، قال المفضل بن سلمة : إذا كان القائل رئيساً جاز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه ، فلما كان جبريل رئيس الملائكة ، وقلما يبعث إلا ومعه جمع صح ذلك.
أما قوله {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى المحراب} فهو يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم ، والمحراب قد ذكرنا معناه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 31}
قوله تعالى {أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى}
قال الفخر :
في قوله {يُبَشّرُكَ بيحيى} وجهان
الأول : أنه تعالى كان قد عرف زكريا أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله ذرية عالية ، فإذا قيل : إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان ذلك بشارة له بيحيى عليه السلام
والثاني : أن الله يبشرك بولد اسمه يحيى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 31}(13/102)
لطيفة
قال الآلوسى :
والعدول عن إسناد التبشير بنون العظمة حسبما وقع في سورة مريم للجري على سنن الكبرياء كما في قول الخلفاء : أمير المؤمنين يرسم لك كذا وللإيذان بأن ما حكى هناك من النداء والتبشير وما يترتب عليه من المحاورة كان كل ذلك بواسطة الملك بطريق الحكاية منه سبحانه لا بالذات كما هو المتبادر وبهذا يتضح اتحاد المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل انتهى ، وكان الداعي إلى اعتبار ما هنا محكياً بعبارة من الله تعالى ظهور عدم صحة كون ما في سورة مريم من عبارة الملك غير محكي من الله تعالى ، وأن الظاهر اتحاد الدعاءين وإلا فما هنا مما لا يجب حمله على ما ذكر لولا ذلك ، والملوح غير موجب كما لا يخفى ولا بد في الموضعين من تقدير مضاف كالولادة إذ التبشير لا يتعلق بالأعيان ، ويؤل في المعنى إلى ما هناك أي إن الله يبشرك بولادة غلام اسمه يحيى. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 146}
قوله تعالى {مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله}
قال الفخر :
في المراد {بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} قولان
الأول : وهو قول أبي عبيدة : أنها كتاب من الله ، واستشهد بقولهم : أنشد فلان كلمة ، والمراد به القصيدة الطويلة.
والقول الثاني : وهو اختيار الجمهور : أن المراد من قوله {بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} هو عيسى عليه السلام ، قال السدي : لقيت أم عيسى أم يحيى عليهما السلام ، وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى ، فقالت : يا مريم أشعرت أني حبلى ؟ فقالت مريم : وأنا أيضاً حبلى ، قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله {مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} وقال ابن عباس : إن يحيى كان أكبر سناً من عيسى بستة أشهر ، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه ، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليهما السلام ، فإن قيل : لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية ، وفي قوله {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ} [ النساء : 171 ] قلنا : فيه وجوه(13/103)
الأول : أنه خلق بكلمة الله ، وهو قوله {كُنَّ} من غير واسطة الأب ، فلما كان تكوينه بمحض قول الله {كُنَّ} وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر ، لا جرم سمى : كلمة ، كما يسمى المخلوق خلقاً ، والمقدور قدرة ، والمرجو رجاء ، والمشتهي شهوة ، وهذا باب مشهور في اللغة
والثاني : أنه تكلم في الطفولية ، وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية ، فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً ، فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال : فلان جود وإقبال إذا كان كاملاً فيهما
والثالث : أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق ، كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية ، فسمى : كلمة ، بهذا التأويل ، وهو مثل تسميته روحاً من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح ، وقد سمى الله القرآن روحاً فقال : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} [ الشورى : 52 ]
والرابع : أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله ، فلما جاء قيل : هذا هو تلك الكلمة ، فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا : ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال : قد جاء قولي وجاء كلامي ، أي ما كنت أقول وأتكلم به ، ونظيره قوله تعالى : {وكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أصحاب النار} [ غافر : 6 ] وقال : {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} [ الزمر : 71 ](13/104)
الخامس : أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله ، فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم : كلمة الله ، وروح الله ، واعلم أن كلمة الله هي كلامه ، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته ، وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة ، والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال : أنها هي ذات عيسى عليه السلام ، ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 31 ـ 32}(13/105)
وقال الآلوسى :
{ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } نصب على الحال المقدرة من ( يحيى ) ، والمراد بالكلمة عيسى عليه السلام وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعليه أجلة المفسرين وإنما سمي عيسى عليه السلام بذلك لأنه وجد بكلمة كن من دون توسط سبب عادي فشابه البديعيات التي هي عالم الأمر ، و{ مِنْ } لابتداء الغاية مجازاً متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة أي بكلمة كائنة منه تعالى وأريد بهذا التصديق الإيمان وهو أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدق أنه كلمة الله تعالى وروح منه في المشهور. أخرج أحمد عن مجاهد قال : "قالت امرأة زكريا لمريم : إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك". وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال : "كان يحيى وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك" فذلك تصديقه له وكان أكبر من عيسى بستة أشهر كما قال الضحاك وغيره ، وقيل : بثلاث سنين ، قيل : وعلى كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لأن مريم ولدت وهي بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين ، واعترض بأن هذا إنما يتم لو كان دعاء زكريا عليه السلام زمن طفولية مريم قبل العشر أو الثلاث عشرة ، وليس في الآية سوى ما يشعر بأن زكريا عليه السلام لما تكرر منه الدخول على مريم ومشاهدته الرزق لديها وسؤاله لها وسماعه منها ذلك الجواب اشتاق إلى الولد فدعا بما دعا ، وهذا الدعاء كما يمكن أن يكون في مبادىء الأمر يمكن أن يكون في أواخره قبيل حمل مريم وكونه في الأواخر غير بعيد لما أن الرغبة حينئذ أوفر حيث شاهد عليه السلام دوام الأمر وثباته زمن الطفولية وبعدها ، وهذا قلما يوجد في الأطفال إذ الكثير منهم قد يلقي الله تعالى على لسانه في صغره ما قد يكون عنه بمراحل في كبره فليس عندنا ما يدل صريحاً على أن بين الولادة والتبشير مدة مديدة ولا بين الدعاء والتبشير أيضاً ، نعم عندنا ما يدل على أن يحيى أكبر من عيسى(13/106)
عليهما السلام وهو مما اتفق عليه المسلمون وغيرهم ، ففي "إنجيل متى" ما يصرح بأنه ولد قبله وقتله هيردوس قبل رفعه وأنه عمد المسيح والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وحكي عن أبي عبيدة أن معنى { بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } بكتاب منه ، والمراد به الإنجيل وإطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على القصيدة في قولهم كلمة الحويدرة للعينية المعروفة بالبلاغة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 147}
قوله تعالى {وَسَيّدًا}
قال ابن عادل :
السيد : فَيْعِل ، والأصل سَيْود ، ففُعِلَ به ما فعل بـ " ميت " ، كما تقدم ، واشتقاقه من سَادَ ، يَسُودُ ، سِيَادَةً ، وسُؤدُداً - أي فاق نظراءه في الشرف والسؤدد.
ومنه قوله : [ الرجز ]
نَفْسٌ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما... وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ والإقْدَامَا
وَصَيَّرَتْهُ بطلاً هُمَامَا
وجمعه على " فَعَلَة " شاذ قياساً ، فصيح استعمالاً ؛ قال تعالى : { إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا } [ الأحزاب : 67 ].
وقال بعضهم : سُمي سيِّداً ؛ لأنه يسود سَوَاد الناس أي : مُعْظَمهم وجُلَّهم. والأصل سَوَدَة ، و" فَعَلَة " لِ " فاعِل " نحو كافِر وكفرة ، وفاجِر وفَجَرَة ، وبارّ وبررة.
وقال ابن عباس : السَّيِّد : الحليم.
قال الجبائي : إنه كان سيداً للمؤمنين ، ورئيساً لهم في الدين - أعني : في العلم والحلم والعبادة والورع.
قال مجاهدٌ : السَّيِّد : الكريم على الله تعالى.
وقال ابن المُسَيِّبِ : السيِّد : الفقيه العالم.
وقال عكرمة : السيد : الذي لا يغلبه الغضبُ.
وقيل : هو الرئيس الذي يتبع ، ويُنتَهَى إلى قولهِ.
وقال المفضل : السيد في الدين.
وقال الضحاك : الحسن الخلق.
وقال سعيد بن جبير : هو الذي يُطيع ربَّه.
ويقول عن الضَّحَّاكِ : السيد : التقِيّ.
وقال سفيان : الذي لا يحسد.
وقيل : هو الذي يفوق قومَه في جميع خصال الخيرِ.
وقيل : هو القانع بما قسم الله له.
وقيل : هو السَّخِيّ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ سَيدُكُمْ يَا بَنِي سَلمةَ " ؟ قالوا : جَد بن قَيْس على بُخْلِه ، فقال : " وأي دواء أدوى من البخل ، لكن سَيِّدَكم عمرو بن الجموح " وفي الآية بذلك دليل على جواز تسمية الإنسان سيداً كما تجوز تسميته عزيزاً وكريماً. وقال صلى الله عليه وسلم لبني قريظة : " قوموا إلى سيِّدكم ".
وقال - في الحسن - : " إن ابني هذا سَيِّدٌ ، فلعلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْن عَظِيْمَتين من المسلمين ".
قال الكسائي : السيّد من المَعْز : [ الْمُسِّن ]. وفي الحديث : " الثَّنِيُّ من الضَّأن خير من السَّيِّد مِن الْمَعْزِ الْمُسِنّ ".
وقال الشاعر : [ الطويل ]
سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَت لَهُ... لِيَذْبَحَهَا للِضَّيْفِ أمْ شَاةُ سَيِّد. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 197 ـ 199}(13/107)
فائدة
قال الجصاص :
وقَوْله تَعَالَى : { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى يَحْيَى سَيِّدًا ، وَالسَّيِّدُ هُوَ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِلْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ : قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ } ؛ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ } ؛ { وَقَالَ لِبَنِي سَلِمَةَ : مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ ؟ قَالُوا : الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ ، قَالَ : وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنْ الْبُخْلِ وَلَكِنْ سَيِّدُكُمْ الْجَعْدُ الْأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ } فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى سَيِّدًا.
وَلَيْسَ السَّيِّدُ هُوَ الْمَالِكُ فَحَسْبُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ سَيِّدُ الدَّابَّةِ " وَسَيِّدُ الثَّوْبِ " كَمَا يُقَالُ سَيِّدُ الْعَبْدِ " وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ وَفْدَ بَنِي عَامِرٍ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : أَنْتَ سَيِّدُنَا وَذُو الطَّوْلِ عَلَيْنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : السَّيِّدُ هُوَ اللَّهُ تَكَلَّمُوا بِكَلَامِكُمْ ، وَلَا يَسْتَهْوِينَكُمْ الشَّيْطَانُ }.(13/108)
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ السَّادَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ ، وَلَكِنَّهُ رَآهُمْ مُتَكَلِّفِينَ لِهَذَا الْقَوْلِ ، فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ ، كَمَا قَالَ : { إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ } ، فَكُرِهَ لَهُمْ تَكَلُّفُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ التَّصَنُّعِ.
، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدًا فَإِنَّهُ إنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ هَلَكْتُمْ } ، فَنَهَى أَنْ يُسَمَّى الْمُنَافِقُ سَيِّدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } فَسَمُّوهُمْ سَادَاتٍ وَهُوَ ضَلَالٌ.
قِيلَ لَهُ : لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهَا ، فَكَانُوا عِنْدَهُمْ وَفِي اعْتِقَادِهِمْ سَادَاتُهُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ } وَلَمْ يَكُونُوا آلِهَةً ، وَلَكِنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ آلِهَةً فَأَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى مَا كَانَ فِي زَعْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 292}(13/109)
قوله تعالى {وَحَصُورًا}
قال الفخر :
الحصر في اللغة الحبس ، يقال حصره يحصره حصراً وحصر الرجل : أي اعتقل بطنه ، والحصور الذي يكتم السر ويحبسه ، والحصور الضيق البخيل ، وأما المفسرون : فلهم قولان
أحدهما : أنه كان عاجزاً عن إتيان النساء ، ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة ، ومنهم من قال : كان ذلك لتعذر الإنزال ، ومنهم من قال : كان ذلك لعدم القدرة ، فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول ، كأنه قال محصور عنهن ، أي محبوس ، ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب ، وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز ، ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً.(13/110)
والقول الثاني : وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد ، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب ، والظلوم ، والغشوم ، والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائماً ، فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين ، وإلا لما كان حاصراً لنفسه فضلاً عن أن يكون حصوراً ، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة ، وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 32 ـ 33}
وقال البغوى ولله دره :
واختار قوم هذا القول لوجهين { أحدهما } : لأن الكلام خرج مخرج الثناء ، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء ، و{ الثاني } : أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 35}
وقال الخازن :
وفيه قول آخر : وهو أن الحصور هو الممتنع عن الوطء مع القدرة عليه ، وإنما تركه للعفة والزهد فيه وهذا القول هو الصحيح وهو قول جماعة من المحققين وهو أليق بمنصب الأنبياء لأن الكلام إنما خرج مخرج المدح والثناء وذكر صفة النقص في معرض المدح لا يجوز ، وأيضاً فإن منصب النبوة يجل من أن يضاف إلى أحد منهم نقص أو آفة ، فحمل الكلام على منع النفس من الوطء مع القدرة عليه أولى من حمله على ترك الوطء مع العجز عنه. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 226}(13/111)
فائدة
قال ابن عاشور :
وذكر هذه الصفة في أثناء صفات المدح إما أن يكون مدحا له ، لما تستلزمه هذه الصفة من البعد عن الشهوات المحرمة ، بأصل الخلقة ، ولعل ذلك لمراعاة براءته مما يلصقه أهل البهتان ببعض أهل الزهد من التهم ، وقد كان اليهود في عصره في أشد البهتان والاختلاق ، وإما ألا يكون المقصود بذكر هذه الصفة مدحا له لأن من هو أفضل من يحيى من الأنبياء والرسل كانوا مستكملين المقدرة على قربان النساء فتعين أن يكون ذكر هذه الصفة ليحيى إعلاما لزكريا بأن الله وهبه ولدا إجابة لدعوته ، إذ قال : {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} [مريم : 5 ، 6] وأنه قد أتم مراده تعالى من انقطاع عقب زكريا لحكمة علمها ، وذلك إظهار لكرامة زكريا عند الله تعالى.
ووسطت هذه الصفة بين صفات الكمال تأنيسا لزكريا وتخفيفا من وحشته لانقطاع نسله بعد يحيى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 93}
فائدة
قال القاضى عياض :
اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصور ليس كما قال بعضهم إنه كان هيوبا أو لا ذكر له بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما معناه أنه
معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصر عنها ، وقيل مانعا نفسه من الشهوات ، وقيل ليست له شهوة في النساء.
فقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها إما بمجاهدة كعيسى عليه السلام أو بكفاية من الله تعالى كيحيى عليه السلام. أ هـ {الشفا حـ 1 صـ 88 ـ 89}(13/112)
وقال ابن عادل :
الحصور : فعول للمبالغة ، مُحَوَّل من حاصر ، كضروب.
وفي قوله : [ الطويل ]
ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا... إذَا عَدِمُوا زاداً فَإنَّكَ حَاصِرُ
وقيل : بل هو فَعُول بمعنى : مفعول ، أي : محصور ، ومثله ركوب بمعنى : مركوب ، وحلوب بمعنى : محلوب.
والحصور : الذي يكتم سره.
قال جرير : [ الكامل ]
وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا... حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أمَيْمَ ضَنِينَا
وهو البخيل - أيضاً - قال : [ البسيط ]
................................ لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئّارِ
وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع ؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء - إما لطبعه على ذلك ، وإما لمغالبته نفسه - قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن : الحصور : الذي لا يأتي النساء ولا يقربُهُنَّ ، وهو - على هذا - بمعنى فاعل ، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات.
قال سعيد بن المُسيِّبِ هو العِنِّين الذي لا ماء له ، فيكون بمعنى " مفعول " كأنه ممنوع من النساء.
واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد - مثل الشروب والظلوم والغشوم - والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائماً ، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغِلْمَة. والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضاً فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء - والصفة التي ذكروها صفة نقص ، وذكر صفة النقصان في معرِض المدحِ ، لا يجوز ، ولا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 199 ـ 200}
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح ، وذلك يدل على أن ترك النكاح أفضل في تلك الشريعة ، وإذا ثبت أن الترك في تلك الشريعة أفضل ، وجب أن يكون الأمر كذلك في هذه الشريعة بالنص والمعقول ، أما النص فقوله تعالى : {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [ الأنعام : 90 ] وأما المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان والنسخ على خلاف الأصل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 33}
قوله تعالى {وَنَبِيّا}
قال الفخر :(13/113)
اعلم أن السيادة إشارة إلى أمرين أحدهما : قدرته على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى تعليم الدين والثاني : ضبط مصالحهم فيما يرجع إلى التأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما الحصور فهو إشارة إلى الزهد التام فلما اجتمعا حصلت النبوة بعد ذلك ، لأنه ليس بعدهما إلا النبوة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 33}
قوله {مّنَ الصالحين}
قال الفخر :
فيه ثلاثة أوجه الأول : معناه أنه من أولاد الصالحين
والثاني : أنه خير كما يقال في الرجل الخير ( أنه من الصالحين )
والثالث : أن صلاحه كان أتم من صلاح سائر الأنبياء ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : " ما من نبي إلا وقد عصى ، أو هم بمعصية غير يحيى فإنه لم يعص ولم يهم ".
فإن قيل : لما كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح فلما وصفه بالنبوة فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بالصلاح ؟
قلنا : أليس أن سليمان عليه السلام بعد حصول النبوة قال : {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين} [ النمل : 19 ] وتحقيق القول فيه : أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة ، فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، وكل من كان أكثر نصيباً منه كان أعلى قدراً والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 33}
فائدة جليلة
قال فى روح البيان :
والصلاح صفة تنتظم الخير كله والمراد به هنا ما فوق الصلاح الذى لابد منه فى منصب النبوة ألبتة من أقاصى مراتبه. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 39}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { فَنَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى المِحْرَابِ }.
لما سأل السؤال ، ولازم البال أَتَتْهُ الإجابةُ.
وفيه إشارة إلى أن من له إلى الملوك حاجة فعليه بملازمة الباب إلى وقت الإجابة.(13/114)
ويقال حكم الله - سبحانه - أنه إنما يقبل بالإجابة على من هو مُعَانِقٌ لخدمته ، فأمَّا مَنْ أعرض عن الطاعة ألقاه في ذُلِّ الوحشة.
قوله جلّ ذكره : { أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ }.
قيل سمَّاه يحيى لحياة قلبه بالله ، ولسان التفسير أنه حي به عقر أمه.
ويقال إنه سبب حياة من آمن به بقلبه.
قوله : مصدقاً بكلمة من الله : أن تصديقه بكلمة " الله " فيما تعبده به أو هو مكوَّن بكلمة الله.
وقوله { وَسَيِّدًا } : السيدُ من ليس في رق مخلوق ، تحرَّر عن أسر هواه وعن كل مخلوق ، ويقال السيد من تحقق بعلويته سبحانه ، ويقال السيد من فاق أهل عصره ، وكذلك كان يحيى عليه السلام.
ويقال سيد لأنه لم يطلب لنفسه مقامًا ، ولا شَاهَدَ لنفسه قَدْرًا. ولما أخلص في تواضعه لله بكل وجهٍ رقَّاه على الجملة وجعله سيداً للجميع.
وقوله { وَحَصُورًا } أي مُعْتَقاً من الشهوات ، مكفياً أحكام البشرية مع كونه من جملة البشر. ويقال متوقياً عن المطالبات ، مانعاً نفسه عن ذلك تعززاً وتقرباً ، وقيل منعته استئصالات بواده الحقائق عليه فلم يبق فيه فَضْلٌ لحظِّ.
{ وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ } أي مستحقاً لبلوغ رتبتهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 240 ـ 241}(13/115)
قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان مطلوبه ولداً يقوم مقامه فيما هو فيه من النبوة التي لا يطيقها إلا الذكور الأقويا الكلمة ، وكانت العادة قاضية بأن ولد الشيخ يكون ضعيفاً لا سيما إن كان حرثه مع الطعن في السن في أصله غير قابل للزرع أحب أن يصرح له بمطلوبه فقال : {أنّى} أي كيف ومن أين {يكون لي} وعبر بما تدور مادته على الغلبة والقوة زيادة في الكشف فقال : {غلام} وفي تعبيره به في سياق الحصور دليل على أنه في غاية ما يكون من صحة الجسم وقوته اللازم منه شدة الداعية إلى النكاح ، وهو مع ذلك يمنع نفسه منه منعاً زائداً على الحد ، لما عنده من غلبة لاشهود اللازم منه الإقبال على العبادة بكليته والإعراض عن كل ما يشغل عنها جملة لا سيما النكاح ، بحيث يظن أنه لا إرب له فيه ، وهذا الموافق للتعبير الأول للحصور في القاموس ، وهو الذي ينبغي ألا يعرج على غيره لأنه بناء مبالغة من متعد ، ولأنه أمدح له صلى الله عليه وسلم ، ومهما دار الشيء على صفة الكمال في الأنبياء عليهم السلام وجب أن لا يعدل عنه ، وما ورد - كما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة مريم عليها السلام - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ذكره مثل هذه القذاة " (1) فقد ضعفوه ، وعلى تقدير صحته فيكون ذلك إخباراً عن أنه لما أعرض عنه رأساً ضعف ما معه لذلك ، فهو إخبار عن آخر أمره الذي أدت إليه عزيمته ، والآية مشيرة إلى ما اقتضته خلقته وغريزته وإن كان الجمع لكمال الوجود الإنساني بالنكاح أكمل كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم ويقع لعيسى عليه السلام بعد نزوله {وقد} أي والحال أنه قد {بلغني الكبر} إلى حد لا يولد فيه عادة {وامرأتى عاقر} قال الحرالي : من العقر وهو البلوغ إلى حد انقطاع النسل هرماً - انتهى ؛ كذا قال ، وآية سورة مريم تدل على أن المعنى أنها لم تزل عقيماً ، وعليه يدل كلام أهل اللغة ، قال في القاموس في الراء : العقرة وتضم : العقم ، وقد عُقرت كعُنى فهي عاقر ، ورجل عاقر وعقير :
_________________
(1) باطل لا أصل له. يأتى فى سورة مريم إن شاء الله تعالى.(13/116)
لا يولد له ولد ، والعُقَرة كهمزة : خرزة تحملها المرأة لئلا تلد ، وقال في الميم : العقم بالضم : هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد ، عقمت كفرح ونصر وكرم وعُنى ، ورحم عقيم وامرأة عقيم ورجل عقيم : لا يولد له ، وقال الإمامان أبو عبد الله القزاز في ديوانه وعبد الحق في واعيه : والعقر بضم العين وسكون القاف مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر ، يقال : الإمام أبو غالب " ابن التياني " في كتابه الموعب صاحب [ تلقيح ] العين : العقر مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر ، لكن خلقة ، ثم قال وتعقرت : إذا ولدت ثم أمسكت - والله الموفق.
ثم وصل به قوله : {قال كذلك} أي مثل هذا الفعل الجليل البعيد الرتبة.
ولما كان استنباؤه عن القوة والكمال لا عن الخلق عبر سبحانه في تعليل ذلك بالفعل بخلاف ما يأتي في قصة مريم عليها السلام فقال : {الله يفعل ما يشاء}. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 77 ـ 78}
فائدة
قال القرطبى :
قيل : الرب هنا جبريل ، أي قال لجبريل : ربَّ أي يا سيدي أنَّي يكون لي غلام ؟ يعني ولدا ؛ وهذا قول الكلبي. (1)
وقال بعضهم : قوله "رب" يعني الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 79}
أسئلة وأجوبة للإمام فخر الدين الرازى :
السؤال الأول : قوله {رَبّ} خطاب مع الله أو مع الملائكة ، لأنه جائز أن يكون خطاباً مع الله ، لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوه هم الملائكة ، وهذا الكلام لا بد أن يكون خطاباً مع ذلك المنادي لا مع غيره ، ولا جائز أن يكون خطاباً مع الملك ، لأنه لا يجوز للإنسان أن يقول للملك : يا رب.
والجواب : للمفسرين فيه قولان
_____________
(1) هذا قول ظاهر الفساد والبطلان وفيه عدول عن الظاهر ولا حاجة إليه. والله أعلم.(13/117)
الأول : أن الملائكة لما نادوه بذلك وبشروه به تعجب زكريا عليه السلام ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى والثاني : أنه خطاب مع الملائكة والرب إشارة إلى المربي ، ويجوز وصف المخلوق به ، فإنه يقال : فلان يربيني ويحسن إلي.
السؤال الثاني : لما كان زكريا عليه السلام هو الذي سأل الولد ، ثم أجابه الله تعالى إليه فلم تعجب منه ولم استبعده ؟
الجواب : لم يكن هذا الكلام لأجل أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك والدليل عليه وجهان
الأول : أن كل أحد يعلم أن خلق الولد من النطفة إنما كان على سبيل العادة لأنه لو كان لا نطفة إلا من خلق ، ولا خلق إلا من نطفة ، لزم التسلسل ولزم حدوث الحوادث في الأزل وهو محال ، فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله تعالى لا من نطفة أو من نطفة خلقها الله تعالى لا من إنسان.
والوجه الثاني : أن زكريا عليه السلام طلب ذلك من الله تعالى ، فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لما طلبه من الله تعالى ، فثبت بهذين الوجهين أن قوله {أنى يَكُونُ لِي غلام} ليس للاستبعاد ، بل ذكر العلماء فيه وجوهاً
الأول : أنه قوله {أنَّى} معناه : من أين.
ويحتمل أن يكون معناه : كيف تعطي ولداً على القسم الأول أم على القسم الثاني ، وذلك لأن حدوث الولد يحتمل وجهين
أحدهما : أن يعيد الله شبابه ثم يعطيه الولد مع شيخوخته ، فقوله {أنى يَكُونُ لِي غلام} معناه : كيف تعطي الولد على القسم الأول أم على القسم الثاني ؟ فقيل له كذلك ، أي على هذا الحال والله يفعل ما يشاء ، وهذا القول ذكره الحسن والأصم(13/118)
والثاني : أن من كان آيساً من الشيء مستبعداً لحصوله ووقوعه إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود فربما صار كالمدهوش من شدة الفرح فيقول : كيف حصل هذا ، ومن أين وقع هذا كمن يرى إنساناً وهبه أموالاً عظيمة ، يقول كيف وهبت هذه الأموال ، ومن أين سمحت نفسك بهبتها ؟ فكذا ههنا لما كان زكريا عليه السلام مستبعداً لذلك ، ثم اتفق إجابة الله تعالى إليه ، صار من عظم فرحه وسروره قال ذلك الكلام
الثالث : أن الملائكة لما بشّروه بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة أنثى أو من صلبه ، فذكر هذا الكلام لذلك الاحتمال
الرابع : أن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء فطلبه من السيد ، ثم إن السيد يعده بأنه سيعطيه بعد ذلك ، فالتذ السائل بسماع ذلك الكلام ، فربما أعاد السؤال ليعيد ذلك الجواب فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى ، فالسبب في إعادة زكريا هذا الكلام يحتمل أن يكون من هذا الباب
الخامس : نقل سفيان بن عيينة أنه قال : كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة فلما سمع البشارة زمان الشيخوخة لا جرم استبعد ذلك على مجرى العادة لا شكا في قدرة الله تعالى(13/119)
فقال ما قال (1)
السادس : نقل عن السدي أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال إن هذا الصوت من الشيطان ، وقد سخر منك فاشتبه الأمر على زكريا عليه السلام فقال : {رَبّ أنى يَكُونُ لِي غلام} وكان مقصوده من هذا الكلام أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي والملائكة لا من إلقاء الشيطان قال القاضي : لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع ويمكن أن يقال : لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملائكة ولا مدخل للشيطان فيه ، أما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فربما لم يتأكد ذلك المعجز فلا جرم بقي احتمال كون ذلك من الشيطان فلا جرم رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال. (2) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 34 ـ 35}
_____________
(1) لا يخفى ما فى هذا الوجه من البعد وبعض هذه الأوجه يحتاج إلى سند. والله أعلم.
(2) هذا الوجه فيه نظر والأولى عدم التعويل عليه لافتقاره إلى السند الصحيح.
وقد علق الآلوسى على هذا الاعتراض وجوابه بقوله :
وأنت تعلم أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى.
ولعل هذا المبحث يأتيك إن شاء الله تعالى مستوفى عند تفسير قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] الآية. وبالجملة القول باشتباه الأمر على زكريا عليه السلام في غاية البعد لا سيما وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال : إن الملائكة شافهته عليه السلام بذلك مشافهة فبشرته بيحيى. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 131}. والله أعلم.(13/120)
وقال الماوردى :
فإن قيل : فَلِمَ راجع بهذا القول بعد أن بُشَّرَ بالولد ، ففيه جوابان :
أحدهما : أنه راجع ليعلم على أي حال يكون منه الولد ، بأن يُرّدّ هو وامرأته إلى حال الشباب ، أم على حال الكبر ، فقيل له : كذلك الله يفعل ما يشاء ، أي على هذه الحال ، وهذا قول الحسن.
والثاني : أنه قال ذلك استعظاماً لمقدور الله وتعجباً. (1) أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 391}
قوله تعالى : {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر}
قال الفخر :
قال أهل المعاني : كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك ، وكلما جاز أن يقول : بلغت الكبر جاز أن يقول بلغني الكبر يدل عليه قول العرب : لقيت الحائط ، وتلقاني الحائط.
فإن قيل : يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد ، قلنا : هذا لا يجوز ، والفرق بين الموضعين أن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه ، والإنسان أيضاً يأتيه بمرور السنين عليه ، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب ، فظهر الفرق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 35}
فائدة
قال ابن الجوزى :
وفي سنة يومئذ ستة أقوال.
أحدها : أنه كان ابن مائة وعشرين سنة ، امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ، قاله ابن عباس.
والثاني : أنه كان ابن بضع وسبعين سنة ، قاله قتادة.
والثالث : ابن خمس وسبعين ، قاله مقاتل.
والرابع : ابن سبعين.
حكاه فضيل بن غزوان.
والخامس : ابن خمس وستين.
والسادس : ابن ستين ، حكاهما الزجاج. (2) أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 385}
قوله تعالى {وامرأتى عَاقِرٌ }
قال الفخر :
اعلم أن العاقر من النساء التي لا تلد ، يقال : عقر يعقر عقراً ، ويقال أيضاً عقر الرجل ، وعقر بالحركات الثلاثة في القاف إذا لم يحمل له ، ورمل عاقر : لا ينبت شيئاً ، واعلم أن زكريا عليه السلام ذكر كبر نفسه مع كون زوجته عاقراً لتأكيد حال الاستبعاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 35 }
________________
(1) هذا قول فى غاية الحسن. والله أعلم.
(2) هذه الأقوال تفتقر إلى سند صحيح.(13/121)
وقال ابن عادل :
قوله : { وامرأتي عَاقِرٌ } جملة حالية ، إما من الياء في " لِي " فيتعدد الحال - عند مَنْ يراه - وإما من الياء في " بَلَغَنِي " ، والعاقر : مَنْ لا يولد له رجلاً كان أو امرأة ، مشتقاً من العَقْر ، وهو القتل ، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده ، والفعل - بهذا المعنى - لازم ، وأما عَقَرْتُ - بمعنى " نَحَرْت " فمُتَعَدٍّ.
قال تعالى : { فَعَقَرُواْ الناقة } [ الأعراف : 77 ].
وقال الشاعر : [ الطويل ]
......................... عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
وقيل : عاقر - على النسب - أي : ذات عقر ، وهي بمعنى مفعول ، أي : معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث ، والعَُقْر بفتح العين وضمها - أصل الشيء ، ومنه عقر الدار ، وعقر الحوض ، وفي الحديث : " ما غُزِيَ قَوْمٌ قَطٌّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا " وعقرته ، أي : أصبت عقره ، أي : أصله - نحو رأسته ، أي أصبت رأسه ، والعقر - أيضاً - آخر الولد ، وكذلك بيضة العَقر ، والعقار : الخمر لأنها تعقر العقل - مجازاً - وفي كلامهم رفع فلان عقيرته ، أي : صوته ، وذلك أن رَجَلاً عُقِرَ رجله فرفع صوته ، فاستُعِير ذلك لكلّ من رفع صوته. وقال : وأنشد الفراء : [ الرجز ]
أرْزَامُ بَابٍ عَقُرَتْ أعْوَامَا... فَعَلَّقَتْ بُنَيَّهَا تَسْمَامَا
وقال بعضهم : يقال : عَقُرت المرأةُ تعقُر عَقْراً وعَقَاراً ويقال : عَقُر الرجل وعَقَر وعَقِرَ إذا لم تَحْبَل زوجته ، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة.(13/122)
قال الزّجّاج : عاقر بمعنى ذات عُقر قال : لأن فَعُلْت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة ، وكريمة ، وإنما عاقر على ذات عُقْر ، قلت : وهذا نص في أن الفعل المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عَقُرَتْ - بضم القاف ؛ إذْ لَوْ جاز فَتْحها ، أو كسرها لجاء منهما فَاعِل - من غير تأويل على النسب ، ومن ورود عاقر وصفاً للرجل قول عامر بن الطفيل : [ الطويل ]
لَبِئْسَ الْفَتَى إنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراً... جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ
قال القرطبيُّ : " والعاقر : العظيم من الرمل ، لا يُنْبِت شيئاً ، والعُقْر - أيضاً - مهر المرأة إذا وطئت بِشُبْهَةٍ وبَيْضَةُ الْعُقْر : زعموا أنها بيضة الديك ، لأنه يبيض في عمره بيضةً واحدةً إلى الطول ، وعقر النار - أيضاً - وسطها ومعظمها وعقر الحوض : مُؤخِّره - حيث تقف الإبل إذا وردت ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 206 ـ 207}
قوله {قَالَ كذلك الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء}
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" {كذلك الله} مبتدأ وخبر أي على نحو هذه الصفة الله ، ويفعل ما يشاء بيان له ، أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 35 }
وقال ابن عادل :
قوله : { كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } في الكاف وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب ، وفيه التخريجان المشهوران :
الأول - وعليه أكثر المعربين- : أنها نعت لمصدر محذوف ، وتقديره يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة ، مثل ذاك الفعل ، وهو خلق الولد بين شيخ فَانٍ وعجوز عاقرٍ.
والثاني أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدرِ ، أي : يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك وهو مذهب سيبويه ، وقد تقدم إيضاحه.(13/123)
الثاني - من وجهي الكاف- : أنها في محل رفع خبر مقدَّم ، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر ، فقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة لله ، ويفعل ما يشاء بيان له ، وقدره ابن عطية : " كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله ".
وقدّره أبو حيّان ، فقال : " وذلك على حذف مضاف ، أي : صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، فيكون { يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة ".
فالكلام - على الأول - جملة واحدة ، وعلى الثاني جملتان.
وقال ابن عطية : " ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رَبِّ على أيّ وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا ؟ فقال لهما : كما أنتما يكون لكما الغلام ، والكلام تام ، على هذا التأويل - في قوله " كذلك " ، وقوله : { الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } جملة مبيِّنة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب ".
وعلى هذا الذي ذكره يكون " كَذَلِكَ " متعلقاً بمحذوف ، و" اللهُ يَفْعَلُ " جملة منعقدة مع مبتدأ وخبر. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 207 ـ 208}
فائدة
قال ابن عادل :
قدم في هذه السورة حال نفسه ، وأخَّر حالَ امرأته ، وفي سورة مريم عكس.
فقيل : لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب ؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه ، واشتعالَ شيْبه ، وخوفه مواليه ممن ورائه ، وقال : " وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً " فلما أعاد ذِكْرَهما في استفهامه أخر ذِكْر الكِبَر ، ليوافق رؤوس الآي - وهي باب مقصود في الفصاحة - والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانيًّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 202 ـ 203}
فصل
قال ابن عادل :
الغلام : الفَتِيُّ السِّنِّ من الناس - وهو الذي بَقَلَ شَارِبُه - وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز ؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه ، وأما الكهل ، فباعتبار ما كان عليه.
قالت ليلى الأخيليّة : [ الطويل ](13/124)
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا... غُلاَمٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا
وقال بعضهم : ما دام الولد في بطن أمِّه سُمِّي جَنِيناً ، قال تعالى : { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النجم : 32 ] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم ، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا ، فإذا فُطِمَ سمي غُلاماً إلى سبع سنين ، ثم يُسَمَّى يافعاً إلى أن يبلغ عشر سنين ، ثم يُطْلَق عليه حَزَوَّر إلى خمس عشرة سنة ، ثم يصير قمراً إلى خمس وعشرين سنةً ، ثم عنطْنَطاً إلى ثلاثين.
قال الشاعر : [ الطويل ]
وَبِالْمَخْضِ حَتَّى صَارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً... إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ
ثم حَلْحَلاً إلى أربعين ، ثم كَهْلاً إلى خمسين - وقيل : إلى ستين - ثم شيخاً إلى ثمانين ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله : { فِي المهد وَكَهْلاً } [ آل عمران : 46 ] ثم هو راغم بعد ذلك.
واشتقاق " الغلام " من الغِلْمَة والاغتلام ، وهو طلب النكاح ، لما كان مسبباً عنه أخذ منه لفظه.
ويقال : اغتلم الفَحْلُ : أي : اشتدت شهوتُه إلى طلب النكاح ، واغتلم البحر ، أي : هاج وتلاطمت أمواجه ، مستعار منه.
وجمعه - في القلة - أغْلِمَةٌ ، وفي الكثرة : غِلْمان ، وقد جمع - شذوذاً - على غِلْمَة ، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع ؟
قال الفراء : " يقال : غلام بيِّن الغلومة والغلومِيَّة والغُلامية ، قال : والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون : عبد بَيِّنُ العبودية والعُبَاديَّة - يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل- ".
قال القرطبي : والغَيْلم : ذكر السلحفاة ، والغَيْلم : موضع.
وهي مصدر كَبِر يَكْبَر كِبَراً أي : طعن في السِّنِّ ، قال : [ الطويل ]
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أنَّنَا... إلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 203 ـ 204}(13/125)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى فى قصة زكريا عليه السلام : "أنى يكون لى غلام وقد بلغنى الكبر وامرأتى عاقر" وفى سورة مريم : "أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا" للسائل أن يسأل عن اختلاف السياق فى الآيتين مع اتحاد معناهما.
والجواب عن ذلك والله أعلم : أن المعنى وإن كان فى السورتين واحدا وفى قضية واحدة فإن مقاطع آى وسورة مريم وفواصلها استدعت ما يجرى على حكمها ويناسبها من لدن قوله تعالى فى افتتاح السورة : "ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا" إلى قوله فى قصة عيسى عليه السلام : "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا" ، لم تخرج فاصلة منها عن هذا المقطع ولا عدل بها إلى غيره ثم عادت إلى ذلك من لدن قوله تعالى : "واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا" إلى آخر السورة فاقتضت مناسبة آى هذه السورة ورود قصة زكريا عليه السلام على ما تقدم ولم يكن غير ذلك ليناسب أما آية آل عمران فلم يتقيد ما قبلها من الآى وما بعدها بمقطع مخصوص فجرت هى على مثل ذلك والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل صـ 110}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قيل كان بين سؤاله وبين الإجابة مدة طويلة ولذلك قال : أنَّى يكون لي غلام ؟
ويحتمل أنه قال : بأي استحقاقٍ مني تكون له هذه الإجابة لولا فضلك ؟
ويحتمل أنه قال أنَّى يكون هذا : أَعَلَى وَجهِ التبني أم على وجه التناسل ؟
ويحتمل أنه يكون من امرأة أخرى سوى هذه التي طعنت في السن أو من جهة التَّسرِّي بمملوكة ؟ أمْ مِنْ هذه ؟
فقيل له : لا بَلْ مِنْ هذه ؛ فإنكما قاسيتما وحشة الانفراد معاً ، فكذلك تكون بشارة الولد لكما جميعاً. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 241}(13/126)
{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
{الله يفعل ما يشاء} لأنه المحيط بكل شيء قدرة وعلماً فكأنه قيل : قد قرت عينه فما قال ؟ قيل {قال} إرادة تعجيل البشرى وتحقيق السراء : {رب اجعل لي آية} أي علامة أعلم بها ذلك {قال آيتك ألا تكلم الناس} أي لا تقدر على أن تكلمهم بكلام دنيوي {ثلاثة أيام }.
ولما كان الكلام يطلق على الفعل مجازاً استثنى منه قوله : {إلا رمزاً} لتخلص هذه المدة للذكر شكراً على النعمة فاحمد ربك على ذلك.
قال الحرالي : والرمز تلطف في الإفهام بإشارة تحرك طرف كاليد واللحظ والشفتين ونحوها ، والغمز أشد منه باليد ونحوها - انتهى.(13/127)
فعدم الكلام مع صحة آلته دليل إيجاد المتكلم مع ضعف آلته إلى حد لا يتكون عنها عادة ، ولما كان الأتم في القدرة أن يحبس عن كلام دون آخر قال : {واذكر ربك} أي بالحمد وهو أن تثبت له الإحاطة بكل كمال {كثيراًً} في الأيام التي منعت فيها من كلام الناس خصوصاً ، وفي سائر أوقاتك عموماً {وسبح} أي أوقع التسبيح لمطلق الخليل ربك بأن تنفي عنه كل نقص {بالعشي} وقال الحرالي : من العشو وأصل معناه : إيقاد نار على علم لمقصد هدى أو قرى ومأوى على حال وهن ، فسمي به عشي النهار لأنه وقت فعل ذلك ، ويتأكد معناه في العشاء ، ومنه سمي الطعام : العشاء {والإبكار} وأصله المبادرة لأول الشيء ، ومنه التبكير وهو السرعة ، والباكورة وهو أول ما يبدو من الثمر ، فالإبكار اقتطاف زهرة النهار وهو أوله - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 78 ـ 79}
قال ابن عادل :
قوله : { اجعل لي آيَةً } يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير ، فيتعدى لاثنين : أولهما " آية " ، الثاني : الجار قبله ، والتقديم - هنا - واجب ؛ لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة - وهي آية - أي : لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار ، وحكمها بعد دخول الناسخ حكمها قبله ، والتقدير : صير آية من الآيات لي ، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد - أي : أوجد لي آية - فيتعدى لواحد ، وفي " لِي " - على هذا - وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بالجَعْل.
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " آيةً " ؛ لأنه لو تأخَّر لجاز أن يقع صفة لها. ويجوز أن يكون للبيان.
وحرك الياء - بالفتح - نافع وأبو عمرو ، وسكنها الباقون. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 208}
فائدة
قال البيضاوى :
{ قَالَ رَبِّ اجعل لِّي ءايَةً } علامة أعرف بها الحبل لاستقبله بالبشاشة والشكر وتزيح مشقة الانتظار. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 37}(13/128)
وقال الآلوسى :
{ قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً } أي علامة تدلني على العلوق وإنما سألها استعجالاً للسرور قاله الحسن ، وقيل ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهوراً معتاداً ، ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه السلام ، وقول السدي : إنه سأل الآية ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من الشيطان ليس بشيء كما أشرنا إليه آنفاً. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 150}
وقال ابن عاشور :
وعن السدي والربيع : آية تحقق كون الخطاب الوارد عليه وإرادا من قبل الله تعالى ، وهو ما في إنجيل لوقا. وعندي في هذا نظر ، لأن الأنبياء لا يلتبس عليهم الخطاب الوارد عليهم من الله ويعلمونه بعلم ضروري. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 94}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن زكريا عليه السلام لفرط سروره بما بشّر به وثقته بكرم ربه ، وإنعامه عليه أحب أن يجعل له علامة تدل على حصول العلوق ، وذلك لأن العلوق لا يظهر في أول الأمر فقال : {رَبّ اجعل لِّى ءَايَةً} فقال الله تعالى : {ءَايتك أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 35 ـ 36}
فصل
قال الفخر :
ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً
أحدها : أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً ، وفيه فائدتان
إحداهما : أن يكون ذلك آية على علوق الولد
والثانية : أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل ، ليكون في تلك المدة مشتغلاً بذكر الله تعالى ، وبالطاعة والشكر على تلك النعمة الجسيمة وعلى هذا التقدير يصير الشيء الواحد علامة على المقصود ، وأداء لشكر تلك النعمة ، فيكون جامعاً لكل المقاصد.
ثم اعلم أن تلك الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه
أحدها : أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر ، وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من أعظم المعجزات
وثانيها : أن حصول ذلك المعجز في تلك الأيام المقدورة مع سلامة البنية واعتدال المزاج من جملة المعجزات
وثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد ، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضاً من المعجزات.(13/129)
القول الثاني في تفسير هذه الآية : وهو قول أبي مسلم : أن المعنى أن زكريا عليه السلام لما طلب من الله تعالى آية تدله على حصول العلوق ، قال آيتك أن لا تكلم ، أي تصير مأموراً بأن لا تتكلم ثلاثة أيام بلياليها مع الخلق ، أي تكون مشتغلاً بالذكر والتسبيح والتهليل معرضاً عن الخلق والدنيا شاكراً لله تعالى على إعطاء مثل هذه الموهبة ، فإن كانت لك حاجة دل عليها بالرمز فإذا أمرت بهذه الطاعة فاعلم أنه قد حصل المطلوب ، وهذا القول عندي حسن معقول ، وأبو مسلم حسن الكلام في التفسير كثير الغوص على الدقائق واللطائف.
القول الثالث : روي عن قتادة أنه عليه الصلاة والسلام عوقب بذلك من حيث سأل الآية بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصير بحيث لا يقدر على الكلام. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 36 }
وقال السمرقندى وقد أجاد :
وقال بعضهم : لم يكن عقوبة ، ولكن كانت كرامة له ، حين جعلت له علامة لظهور الحبل ، ومعجزة له. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 237}
وقال القرطبى :
المعنى : تممّ النعمة بأن تجعل لي آية ، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة ؛ فقيل له : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } أي تمنع من الكلام ثلاث ليال ؛ دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشرى الملائكة له : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد.
واختار هذا القول النحاس وقال : قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه ؛ لأن الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا ؛ والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد ، إذ كان ذلك مغيباً عني. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 81}
______________
(1) لا يخفى ما فى هذا القول من الفساد والبطلان وسيأتى الرد على هذا الوجه. والله أعلم.(13/130)
قال السمرقندى :
روى أسباط عن السدي أنه قال : لما بُشِّر بيحيى قال له الشيطان : إن النداء الذي سمعت بالبشارة من الشيطان ، ولو كان من الله ، لأوحى إليك ، كما أوحى إلى سائر الأنبياء.
فقال عند ذلك : اجْعَل لي آية ، حتى أعلم أن هذه البشارة منك. (1) أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 237}
قوله تعالى : { أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ }
قال ابن عادل :
وقوله : { أَلاَّ تُكَلِّمَ } " أن " وما في حَيِّزها في محل رفع ؛ خبراً لقوله : { آيَتُكَ } أي آيتك عدم كلامك الناس. والجمهور على نصب " تُكَلِّمَ " بأن المصدرية.
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون " أن " مخففة من الثقيلة ، واسمها - حينئذ - ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيَّة بعدها في محل رفع ، خبراً لِ " أن " ومثله : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] وقوله : { وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ المائدة : 71 ] ووقع الفاصل بين " أن " والفعل الواقع خبرها حرف نفي ، ولكن يُضعف كونَها مخفَّفةً عدمُ وقوعها بعد فعل يقين.
والثاني : أن تكون " أن " الناصبة حُمِلَتْ على " ما " أختها ، ومثله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] و" أن " وما في حيزها - أيضاً - في محل رفع ، خبراً لـ " آيتك ".
قوله : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف ، خلافاً للكوفيين ، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به.
____________
(1) لا يخفى ما فى هذه الرواية من الضعف والوهن لمكانة العصمة من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(13/131)
وقيل : وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها ، فحذف ، كقوله تعالى : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ونظائره ؛ يدل على ذلك قوله - في سورة مريم - { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] وقد يقال : إنه يؤخذ المجموع من الآيتين ، فلا حاجة إلى ادعاء حذف ؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه - يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرى ثلاث ليال وأيامها. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 209}
فائدة
قال السمرقندى :
قال : { أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ }.
وقال في آية أخرى : { قَالَ رَبِّ اجعل لِى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] ، يعني أنك مستوي الخَلْق ، ولا علة بك. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 237}(13/132)
وقال الآلوسى :
{ قَالَ ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ الناس } أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير آفة وهو الأنسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن جبير بن معتمر قال : ربا لسانه في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام ، والآية فيه عدم منعه من الذكر والتسبيح ، وعلى كلا التقديرين عدم التكليم اضطراري ، وقال أبو مسلم : إنه اختياري ، والمعنى آيتك أن تصير مأموراً بعدم التكلم إلا بالذكر والتسبيح ولا يخفى بعده هنا ، وعليه وعلى القولين قبله يحتمل أن يراد من عدم التكليم ظاهره فقط وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكون كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحداً وإلى ذلك ذهب عطاء وهو خلاف الظاهر ، ومع هذا يتوقف قبوله على توقيف ، وإنما خص تكليم الناس للإشارة إلى أنه غير ممنوع من التكلم بذكر الله تعالى { ثلاثة أَيَّامٍ } أي متوالية ، وقال بعضهم المراد ثلاثة أيام ولياليها ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي ليالي ثلاثة أيام لقوله سبحانه في سورة [ مريم : 10 ] { ثلاث لَيَالٍ } والحق أن الآية كانت عدم التكليم ستة أفراد إلا أنه اقتصر تارة على ذكر { ثلاث أَيَّامٍ } منها وأخرى على { ثلاث لَيَالٍ } وجعل ما لم يذكر في كل تبعاً لما ذكر ، قيل : وإنما قدم التعبير بالأيام لأن يوم كل ليلة قبلها في حساب الناس يومئذ ، وكونه بعدها إنما هو عند العرب خاصة كما تقدمت الإشارة إليه ، واعترض بأن آية الليالي متقدمة نزولاً لأن السورة التي هي فيها مكية والسورة التي فيها آية الأيام مدنية ، وعليه يكون أول ظهور هذه الآية ليلاً ويكون اليوم تبعاً لليلة التي قبلها على ما يقتضيه حساب العرب فتدبر.(13/133)
فالبحث محتاج إلى تحرير بعد ، وإنما جعل عقل اللسان آية العلوق لتخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاءاً لحق النعمة كأنه قيل له : آية حصول النعمة أن تمنع عن الكلام إلا بشكرها ، وأحسن الجواب على ما قيل ما أخذ من السؤال كما قيل لأبي تمام لم تقول ما لا نفهم ؟ فقال : لم لا نفهم ما يقال ؟ وهذا مبني على أن سؤال الآية منه عليه السلام إنما كان لتلقي النعمة بالشكر ، ولعل دلالة كلامه على ذلك بواسطة المقام وإلا ففي ذلك خفاء كما لا يخفى. وأخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة أن حبس لسانه عليه السلام كان من باب العقوبة حيث طلب الآية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة ولعل الجناية حينئذ من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ومع هذا حسن الظن يميل إلى الأول ، ومذهب قتادة لا آمن على الأقدام الضعيفة قتادة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 150 ـ 151}
فائدة
قال الجصاص :
قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا : { ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } عَبَّرَ تَارَةً بِذِكْرِ الْأَيَّامِ وَتَارَةً بِذِكْرِ اللَّيَالِيِ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُعْقَلُ بِهِ مِقْدَارُهُ مِنْ الْوَقْتِ الْآخَرِ ، فَيُعْقَلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثَلَاثُ لَيَالٍ مَعَهَا وَمِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ فَقَالَ : { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْعَدَدِ الْأَوَّلِ عَقِلَ الْمَلَائِكَةُ مِثْلَهُ مِنْ الْوَقْتِ الْآخَرِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 293}
قوله تعالى {إِلاَّ رَمْزًا}
قال الفخر :
أصل الرمز الحركة ، يقال : ارتمز إذا تحرك ، ومنه قيل للبحر : الراموز ، ثم اختلفوا في المراد بالرمز ههنا على أقوال
أحدها : أنه عبارة عن الإشارة كيف كانت باليد ، أو الرأس ، أو الحاجب ، أو العين ، أو الشفة
والثاني : أنه عبارة عن تحريك الشفتين باللفظ من غير نطق وصوت قالوا : وحمل الرمز على هذا المعنى أولى ، لأن الإشارة بالشفتين يمكن وقوعها بحيث تكون حركات الشفتين وقت الرمز مطابقة لحركاتهما عند النطق فيكون الاستدلال بتلك الحركات على المعاني الذهنية أسهل
والثالث : وهو أنه كان يمكنه أن يتكلم بالكلام الخفي ، وأما رفع الصوت بالكلام فكان ممنوعاً منه.
فإن قيل : الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه ؟ .
قلنا : لما أدى ما هو المقصود من الكلام سمي كلاماً ، ويجوز أيضاً أن يكون استثناءً منقطعاً فأما إن حملنا الرمز على الكلام الخفي فإن الإشكال زائل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 36 ـ 37}(13/134)
وقال ابن عادل :
قوله : { إلاَّ رَمْزًا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام ، إذ الرمز الإشارة بعَيْن ، أو حاجب أو نحوهما ، ولم يذكر أبو البقاء غيره.
وبه بدأ ابن عطية مختاراً له ، فإنه قال : " والمراد بالكلام - في الآية - إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاءُ إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيْمَان ونحوها ؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً ".
والوجه الثاني : أنه متصل ؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معانٍ : الرمز والإشارة من جملتها.
أنشدوا : [ الطويل ]
إذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ... رَدَدتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ
وقال آخر : [ الطويل ]
أرَادَتْ كَلاَماً فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا... فَلَمْ يَكُ إلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ
وهو مستعمل ، قال حبيب : [ البسيط ]
كَلَّمْتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ... فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ
وبهذا الوجه بدأ الزمخشريُّ مختاراً له ، قال : " لما أدى مؤدَّى الكلام ، وفُهِم منه ما يُفْهَم سُمِّي كلاماً ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً ".
والرمز : الإشارة والإيماء بعين ، أو حاجب أو يَدٍ - ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمُسَبِّحة ومنه قيل للفاجرة : الرَّمَّازة ، والرمَّازة ، وفي الحديث : " نَهَى عَنْ كَسْبِ الرَّمَّازَةِ " ، يقال منه : رمزت ترمُز وترمِز - بضم العين وكسرها في المضارع.
وأصل الرمز : التحرك ، يقال : رمز وارْتَمز أي : تحرَّك ، ومنه قيل للبحر : الراموز ، لتحركه واضطرابه.
وقال الراغب : " الرمز : الإشارة بالشفة والصوت الخفي ، والغمز بالحاجب. وما ارمَازَّ : أي ما تكلم رمزاً ، وكتيبه رمَّازة : أي : لم يُسْمَع منها إلا رَمزاً ؛ لكثرتها ".
ويؤيد كونه الصوت الخفي - على ما قاله الراغب - أنه كان ممنوعاً من رفع الصوت.(13/135)
قال الفراء : " قد يكون الرمز باللسان من غير أن يتبيَّن ، وهو الصوت الخفي ، شبه الهَمْس ".
وقال عطاء : أراد صوم ثلاثة أيامٍ ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزاً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 209 ـ 211}
قوله تعالى : {واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا}
قال الفخر :
فيه قولان
أحدهما : أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا {إِلاَّ رَمْزًا} فأما في الذكر والتسبيح ، فقد كان لسانه جيداً ، وكان ذلك من المعجزات الباهرة
والثاني : إن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في الأول أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكت اللسان وبقي الذكر في القلب ، ولذلك قالوا : من عرف الله كل لسانه ، فكأن زكريا عليه السلام أمر بالسكوت واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 37}
وقال الآلوسى :
{ واذكر رَّبَّكَ } أي في أيام الحبسة شكراً لتلك النعمة كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية ، وقيل : يحتمل أن يكون الأمر بالذكر شكراً للنعمة مطلقاً لا في خصوص تلك الأيام ، وأن يكون في جميع أيام الحمل لتعود بركاته إليه ، والمنساق إلى الذهن هو الأول ، والجملة مؤكدة لما قبلها مبينة للغرض منها ، واستشكل العطف من وجهين : الأول عطف الإنشاء على الإخبار ، والثاني : عطف المؤكد على المؤكد ، وأجيب بأنه معطوف على محذوف أي اشكر واذكر ، وقيل : لا يبعد أن يجعل الأمر بمعنى الخبر عطفاً على ( لا تكلم ) فيكون في تقدير : أن لا تكلم وتذكر ربك ، ولا يخفى ما فيه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 151 ـ 152}
قوله تعالى : {وَسَبّحْ بالعشى والإبكار}
قال الفخر :
في قوله {وَسَبّحْ} قولان(13/136)
أحدهما : المراد منه : وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحاً قال الله تعالى : {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ} وأيضاً الصلاة مشتملة على التسبيح ، فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح ، وههنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين
الأول : أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله {واذكر رَّبَّكَ} فرق ، وحينئذ يبطل لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز والثاني : وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى : {أَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار}
وثانيهما : أن قوله {واذكر رَّبَّكَ} محمول على الذكر باللسان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 37}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : " كَثِيراً " نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير ذلك المصدر ، أو نعت لزمان محذوف تقديره : ذِكْراً كثيراً ، أو زماناً كثيراً ، والباء في قوله : " بِالْعَشِيِّ " بمعنى " فِي " أي : في العشي والإبكار.
والعشي : يقال من وقت زوال الشمس إلى مَغيبها ، كذا قال الزمخشريُّ.
وقال الراغب : " العشيُّ من زوال الشمسِ إلى الصباحِ ". والأول هو المعروف.
قال الشاعر : [ الطويل ]
فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ... وَلاَ الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ
وقال الواحديُّ : " العَشِيّ : جمع عشية ، وهي آخر النهارِ ".
والعامة قرءوا : " والإبْكَارِ " بكسر الهمزة ، وهو مصدر أبكر يُبْكِر إبكاراً - أي : خرج بُكْرَةً ، ومثله : بَكَرَ - بالتخفيف - وابتكر.
قال عمر بن أبي ربيعة : [ الطويل ]
أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنْتَ غَادٍ فَمُبْكر.........................
وقال : [ الخفيف ]
أيُّهَا الرَّائِحُ المُجِدُّ ابْتِكَاراً........................
وقال أيضاً : [ الطويل ]
بَكَرْنَ بُكُوراً وَاسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ(13/137)
وقرئ شاذاً " والأبْكَار " - بفتح الهمزة - وهو جمع بَكَرَ - بفتح الفاء والعين - ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرُّف ، فلا يُستعمَل غيرَ ظرف ، تقول : أتيتك يوم الجمعة بَكَر. وسبب مَنْع صَرْفه التعريفُ والعدل عن " أل ". فلو أرِيدَ به وقت مُبْهَم انصرف نحو أتيتك بكراً من الأبكار ونظيره سحر وأسْحار - في جميع ما تقدم.
وهذه القراءة تناسب قوله : { بالعشي } عند من يجعلها جمع عَشِيَّة ؛ ليتقابل الجَمْعَان.
ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
وقال الراغب : أصل الكلمة هي البكرة - أول النهار - فاشتقَّ من لفظه لفظُ الفعل ، فقيل : بكر فلان بُكُوراً - إذا خرج بُكْرَةً. والبَكور : المبالغ في البكور ، وبَكَّر في حاجته ، وابتكر وبَاكَر. [ وتصور فيها ] معنى التعجيل ؛ لتقدُّمِها على سائر أوقاتِ النهار فقيل لكل مُتَعَجِّل : بَكَّر.
وظاهر هذه العبارة أن البَكَر مختص بطلوع الشمس إلى الضُّحَى ، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى فإنه على خلاف الأصلِ.
وقد صرح الواحديُّ بذلك ، فقال : " هذا معنى الإبكارِ ، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجر إلى الضُّحَى إبكاراً كما يسمى إصْبَاحاً ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 211 ـ 213}
فائدة
قال القرطبى :
في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : " "أين الله" ؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال : "أعتقها فإنها مؤمنة" " فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجي به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ؛ فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء.
وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه يلزمه.(13/138)
وقال الشافعيّ في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق.
وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهي باطل ، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان.
والقياس في هذا كله أنه باطل ؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته.
قال أبو الحسن بن بطّال : وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة.
ولعل البخاري حاول بترجمته "باب الإشارة في الطلاق والأُمور" الردَّ عليه.
وقال عطاء : أراد بقوله { أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس } صوم ثلاثة أيام.
وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزاً. وهذا فيه بُعْدٌ. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 81 }
لطيفة
قال القرطبى :
قال محمد بن كعب القرظيّ : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل { أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً } ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً } [ الأنفال : 45 ]. وذكره الطبري. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 82}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِى آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إلاَّ رَمْزًا }.
طلب الآية ليعلم الوقت الذي هو وقت الإجابة على التعيين لا لِشك له في أصل الإجابة.
وجعل آية ولايته في إمساك لسانه عن المخلوقين مع انطلاقها مع الله بالتسبيح ، أي لا تمتنع عن خطابي فإني لا أمنع أوليائي من مناجاتي.
قوله جلّ ذكره : { وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيرًا }.
بقلبك ولسانك في جميع أوقاتك.
{ وَسَبِّحْ بِالعَشِىِّ وَالإِبْكَارِ }.
في الصلاة الدائبة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 241 ـ 242}(13/139)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى : "قال ربك اجعل لى آية" يريد والله أعلم آية على الحمل ليستعجل البشارة فقيل له : "آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا" وفى سورة مريم : "آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا" مع اتحاد القصة فيسأل عن ذلك.
والجواب والله أعلم : أنه لما كان الإخبار مقصودا به التعريف بمنعه الكلام ثلاثة أيام بليالهن منصوصا على ذلك حتى لا يقع احتمال أن يكون المنع فى الليالى دون الأيام أو الأيام دون الليالى ، وهذا كما فى قوله تعالى : "سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما" فوقع التنصيص على الوقتين ليرتفع توهم أفراد أحد الوقتين دون الآخر وكذا فى آية آل عمران بذكر الأيام ليناسب قوله"إلا رمزا" إذ الرمز ما يفهم المقصود دون نطق كالإشارة بالعين وباليد وقال مجاهد بالشفتين وكيفما كان فإنما يدرك بالعين ولما لم يذكر الرمز فى آية مريم ذكر فيها الليل. وحصل التعريف باستيفاء الوقت الممنوع فيه الكلام وما جعل له عوضا منه وهو الرمز وزيد فى آية مريم التعريف باستواء الليالى فى ذلك فالمراد مستويات فسويا من صفة ليال انتصب على الحال أو يكون المراد لا خرس بك ولا مرض فيكون سويا حالا من الضمير فى تكلم فورد هنا سويا مناسبا للفواصل ومقاطع الآى وليس فى آية آل عمران ما يستدعى ذلك فورد كل على ما يجب ويناسب والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل صـ 110 ـ 111}(13/140)
قوله تعالى { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما فرغ مما للكافل بعد ما نوه بأمر المكفولة بياناً لاستجابة الدعاء من أمها لها أعاد الإشارة بذكرها والإعلام بعلي قدرها فقال عاطفاً على ما تقديره : هذا ما للكافل فاذكره لهم فإنهم لا يشكون معه في نبوتك : {و} اذكر {إذ قالت الملائكة} وعبر بالجمع والمراد جبريل وحده عليه الصلاة والسلام كما في سورة مريم عليها السلام لتهيئها لخطاب كل منهم كما مضى {يا مريم إن الله} أي الذي له الأمر كله {اصطفاك} أي اختارك في نفسك ، لا بالنظر إلى شيء آخر عما يشين بعض من هو في نفسه خيار {وطهرك} أي عن كل دنس {واصطفاك} أي اصطفاء خاصاً {على نساء العالمين} فمن هذا الاصطفاء والله سبحانه وتعالى أعلم كما قال الحرالي : أن خلصت من الاصطفاء الأول العبراني إلى اصطفاء على عربي حتى أنكحت من محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي ؛ قال صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها : " أما شعرت أن الله سبحانه وتعالى زوجني معك مريم بنت عمران " - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 79}
فصل
قال الفخر :
قالوا المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده ، وهذا كقوله {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} [ النحل : 2 ] يعني جبريل ، وهذا وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه ، لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام ، وهو قوله {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [ مريم : 17 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 38}
فصل
قال الفخر :(13/141)
اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ القرى} [ يوسف : 109 ] وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها إما أن يكون كرامة لها ، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء ، أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام ، وذلك جائز عندنا ، وعند الكعبي من المعتزلة ، أو معجزة لزكرياء عليه السلام ، وهو قول جمهور المعتزلة ، ومن الناس من قال : إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب ، كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى} [ القصص : 7 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 38}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن المذكور في هذه الآية أولاً : هو الاصطفاء ، وثانياً : التطهير ، وثالثاً : الاصطفاء على نساء العالمين ، ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولاً من الاصطفاء الثاني ، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق ، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها ، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها.
النوع الأول من الاصطفاء : فهو أمور
أحدها : أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث
وثانيها : قال الحسن : إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، وكان رزقها يأتيها من الجنة
وثالثها : أنه تعالى فرغها لعبادته ، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة
ورابعها : أنه كفاها أمر معيشتها ، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى : {أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله}
وخامسها : أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها ، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها ، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول ، وأما التطهير ففيه وجوه(13/142)
أحدها : أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية ، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} [ الأحزاب : 33 ]
وثانيها : أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال
وثالثها : طهرها عن الحيض ، قالوا : كانت مريم لا تحيض
ورابعها : وطهرك من الأفعال الذميمة ، والعادات القبيحة
وخامسها : وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم.
وأما الاصطفاء الثاني : فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب ، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة ، وجعلها وابنها آية للعالمين ، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 38 }
وقال ابن الجوزى :
وفي هذا الاصطفاء الثاني : أربعة أقوال.
أحدها : أنه تأكيد للأول.
والثاني : أن الأول للعبادة ، والثاني : لولادة عيسى عليه السلام.
والثالث : أن الاصطفاء الأول اختيار مبهمَ ، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين.
والرابع : أنه لما أطلق الاصطفاء الأول ، أبان بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 387}
فائدة
قال الآلوسى ولله دره :
المراد من نساء العالمين قيل : جميع النساء في سائر الأعصار ، واستدل به على أفضليتها على فاطمة ، وخديجة ، وعائشة رضي الله تعالى عنهن ، وأيد ذلك بما أخرجه ابن عساكر في أحد الطرق عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ، ثم فاطمة ، ثم خديجة ، ثم آسية امرأة فرعون " وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن مكحول ، وقريب منه ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيراً ما فضلت عليها أحداً "(13/143)
وبما أخرجه ابن جرير عن فاطمة صلى الله عليه وسلم على أبيها وعليها أنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول "
وقيل : المراد نساء عالمها فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي الله تعالى عنها ، ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أربع نسوة سادات عالمهن ، مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخدجية بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهن عالماً فاطمة " وما رواه الحرث بن أسامة في "مسنده" بسند صحيح لكنه مرسل "مريم خير نساء عالمها" وإلى هذا ذهب أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وهو المشهور عن أئمة أهل البيت والذي أميل إليه أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ومن حيثيات أخر أيضاً ، ولا يعكر على ذلك الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها عليها من بعض الجهات وبحيثية من الحيثيات وبه يجمع بين الآثار وهذا سائغ على القول بنبوة مريم أيضاً إذ البضعية من روح الوجود وسيد كل موجود لا أراها تقابل بشيء
وأين الثريا من يد المتناول... ومن هنا يعلم أفضليتها على عائشة رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم : " خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء " وقوله عليه الصلاة والسلام : " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام " وبأن عائشة يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة يومئذ فيها مع زوجها علي كرم الله تعالى وجهه ، وفرق عظيم بين مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي كرم الله تعالى وجهه.(13/144)
وأنت تعلم ما في هذا الاستدلال وأنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء ، أما أولاً : فلأن قصارى ما في الحديث الأول على تقدير ثبوته إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين ، وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة والسلام ، ولعلمه صلى الله عليه وسلم أنها لا تبقى بعده زمناً معتداً به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك ، ولو علم لربما قال : خذوا كل دينكم عن الزهراء ، وعدم هذا القول في حق من دل العقل والنقل على علمه لا يدل على مفضوليته وإلا لكانت عائشة أفضل من أبيها رضي الله تعالى عنه لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل لقلة لبثه وكثرة غائلته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن قوله عليه الصلاة والسلام : " إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لا يفترقان حتى يردا على الحوض " يقوم مقام ذلك الخبر وزيارة كما لا يخفى كيف لا وفاطمة رضي الله تعالى عنها سيدة تلك العترة ؟ ا. وأما ثانياً : فلأن الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها رضي الله تعالى عنها عليها ، فقد أخرج ابن جرير عن عمار بن سعد أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين " بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية وأكمل في المدح عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب والتعسف لأن ذلك الخبر وإن كان ظاهراً في الأفضلية لكنه قيل ولو على بعد : إن أل في النساء فيه للعهد ؛ والمراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الإخبار ولم يقل مثل ذلك في هذا الحديث. وأما ثالثاً : فلأن الدليل الثالث يستدعي أن يكون سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن مقامهم بلا ريب ليس كمقام صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وسلم فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية لزم ذلك قطعاً ولا قائل به.(13/145)
وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء فاطمة ، ثم أمها ، ثم عائشة بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عائشة لا أرى عليه بأساً ؛ وعندي بين مريم وفاطمة توقف نظراً للأفضلية المطلقة ، وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمت ما أميل إليه ، وقد سئل الإمام السبكي عن هذه المسألة فقال : الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أفضل ، ثم أمها ، ثم عائشة ووافقه في ذلك البلقيني وقد صحح ابن العماد أن خديجة أيضاً أفضل من عائشة لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة حين قالت : قد رزقك الله تعالى خيراً منها ، فقال لها : لا والله ما رزقني الله تعالى خيراً منها آمنت بي حين كذبني الناس وأعطتني مالها حين حرمني الناس ؛ وأيد هذا بأن عائشة أقرأها السلام النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل ، وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربها ، وبعضهم لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها وإلى التوقف مال القاضي أبو جعفر الاستروشني منا وذهب ابن جماعة إلى أنه المذهب الأسلم. وأشكل ما في هذا الباب حديث الثريد ولعل كثرة الأخبار الناطقة بخلافه تهون تأويله ، وتأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد ، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 155 ـ 156}
فائدة
قال الفخر :
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " حسبك من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ، وفاطمة عليهن السلام " فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء ، وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل ، وقول من قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها ، فهذا ترك الظاهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 39}(13/146)
فصل
قال الخازن :
عن علي بن أبي طالب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد " { أخرجه البخاري في الأنبياء . باب : وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين 6 / 470 . ومسلم في فضائل الصحابة . باب : فضائل خديجة أم المؤمنين برقم (2430) 4 / 1886 . والبغوى في شرح السنة : 14 / 156}.
قال أبو كريب : وأشار وكيع إلى السماء والأرض قيل : أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في قوله خير نسائها ومعناه إنهما خير كل النساء بين السماء والأرض قال الشيخ محيي الدين النووي : والأظهر أن معناه أن كل واحد مهما خير نساء الأرض في عصرها ، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 227 ـ 228}
فصل
قال القرطبى :
روى مسلم عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنتِ عمران وآسية امرأة فرعون وإنّ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " قال علماؤنا رحمة الله عليهم : الكمال هو التناهي والتمام ؛ ويقال في ماضيه "كمل" بفتح الميم وضمها ، ويكمل في مضارعه بالضم ، وكمال كل شيء بحسبِه.
والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة.
ولا شك أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصدّيقين والشهداء والصالحين.
وإذا تقرّر هذا فقد قيل : إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوّة فيلزم عليه أن تكون مريم عليها السلام وآسية نبيّتين ، وقد قيل بذلك.
والصحيح أن مريم نبيّة ؛ لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين حسب ما تقدّم ويأتي بيانه أيضاً في "مريم". (1)
وأما آسية فلم يرِد ما يدل على نبوّتها دلالة واضحة بل على صدّيقيتها وفضلها ، على ما يأتي بيانه في "التحريم".
_____________
(1) هذا الكلام محل نظر والصحيح خلافه كما ذكر الفخر الرازى لقوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ القرى} [ يوسف : 109 ] وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها إما أن يكون كرامة لها ، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء ، أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام ، وذلك جائز عندنا. انتهى كلام الفخر رحمه الله وهو فى غاية القوة.
وقال ابن عطية : جمهور الناس على أنه لم تنبأ امرأة. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 434} والله أعلم.(13/147)
وروي من طرق صحيحة أنه عليه السلام قال فيما رواه عنه أبو هريرة : " خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد " ومن حديث ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " وفي طريق آخر عنه : " سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة " فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حوّاء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة ؛ فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء ؛ فهي إذاً نبيّة والنبيّ أفضل من الوليّ فهي أفضل من كل النساء : الأوّلين والآخرين مطلقاً.
ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسِية.
وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كُرَيْب عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسِية "
وهذا حديث حسن يرفع الإشكال.
وقد خصّ الله مريم بما لم يؤته أحداً من النساء ؛ وذلك أن روح القدس كلمها وظهر لها ونفخ في دِرعها ودنا منها للنفخة ؛ فليس هذا لأحد من النساء.(13/148)
وصدّقت بكلمات ربها ولم تسأل آية عندما بُشِّرت كما سأل زكريا صلى الله عليه وسلم من الآية ؛ ولذلك سماها الله في تنزيله صِدّيقة فقال : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } [ المائدة : 75 ].
وقال : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ] فشهد لها بالصدّيقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقُنُوت.
وإنما بشر زكريا بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال : أنى يكون لي غلام وامرأتي عاقر ؛ فسأل آية ؛ وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بِكْرٌ ولم يمسسها بشر فقيل لها : { كذلك قَالَ رَبُّكَ } [ مريم : 21 ] فاقتصرت على ذلك ، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كُنْه هذا الأمر (1) ، ومن لأمرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب!.
ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة ؛ جاء في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم : " لو أقسمتُ لبرَرْتُ لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي إلا بضعة عشر رجلاً منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران " (2) وقد كان يحِق على من انتحل علم الظاهر
______________
(1) يفهم من هذا الكلام أنها أفضل من زكريا ـ عليه السلام ـ وليس الأمر كذلك فنبوتها محل اختلاف بين العلماء وإن كنا نرجح القول بعدم نبوتها بخلاف زكريا ـ عيه السلام ـ فنبوته محل اتفاق فكيف تفضله مريم ؟ ؟ !!!
وقد تقدم أنه طلب من الله آية وعلامة ليتعجل شكر النعمة وهذا شأن المصطفين الأخيار. والله أعلم.
(2) كيف تسبق السابقين من الرسل ؟ ؟ !!!
وأبو بكر رضى الله عنه أفضل منها " ما طلعت الشمس ولا غربت على رجل بعد النبيين أفضل من أبى بكر.(13/149)
واستدل بالأشياء الظاهرة على الأشياء الباطنة أن يعرف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " وقوله حيث يقول : " لِواء الحمد يوم القيامة بيدي ومفاتيح الكرم بيدي وأنا أوّل خطيب وأوّل شفيع وأوّل مُبشِّر وأوّل وأوّل " فلم ينْل هذا السّؤدد في الدنيا على الرسل إلا لأمر عظيم في الباطن.
وكذلك شأن مريم لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصدّيقية والتصديق بالكلمات إلا لمرتبة قريبة دانية.
ومن قال لم تكن نبية قال : إن رؤيتها للملك كما رؤي جبريل عليه السلام في صفة دِحية الكلبي حين سؤاله عن الإسلام والإيمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء والأوّل أظهر وعليه الأكثر. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 82 ـ 84}(13/150)
من فوائد العلامة الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } تتمة لشرح أحكام اصطفاء آل عمران ، ووقعت قصة زكريا ، ويحيى عليهما السلام في البين لما فيها مما يؤكد ذلك الاصطفاء ، و{ إِذْ } في المشهور منصوب بالذكر ، والجملة معطوفة على الجملة السابقة عطف القصة على القصة وبينهما كمال المناسبة لأن تلك مسوقة أولاً وبالذات لشرح حال الأم وهذه لشرح حال البنت ، والمراد من الملائكة رئيسهم جبريل عليه السلام ، والكلام هنا كالكلام فيما تقدم ، وجوز أبو البقاء كون الظرف معطوفاً على الظرف السابق وناصبه ناصبه والأول أولى ، والمراد : اذكر أيضاً من شواهد اصطفاء أولئك الكرام وقت قول الملائكة عليهم السلام { الملائكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك } أي اختارك من أول الأمر ولطف بك وميزك على كل محرر وخصك بالكرامات السنية ، والتأكيد اعتناءاً بشأن الخبر وقول الملائكة لها ذلك كان شفاها على ما دلت عليه الأخبار ونطقت به الظواهر ، وفي بعض الآثار ما يقتضي تكرر هذا القول من الملائكة لها ، فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق أنه قال : كانت مريم حبيساً في الكنيسة ومعها فيها غلام اسمه يوسف وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيراً حبيساً فكانا في الكنيسة جميعاً وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المغارة التي فيها الماء فيملآن ثم يرجعان والملائكة في ذلك مقبلة على مريم بالبشارة يا مريم إن الله اصطفاك الآية فإذا سمع ذلك زكريا عليه السلام قال : إن لابنة عمران لشأناً ، وقيل : إن الملائكة عليهم السلام ألهموها ذلك ، ولا يخفى أن تفسير القول بالإلهام وإسناده للملائكة خلاف الظاهر وإن كان لا مانع من أن يكون بواسطتهم أيضاً على أنه قول لا يعضده خبر أصلاً ، وعلى القول الأولى يكون التكليم من باب الكرامة التي يمنّ بها الله سبحانه على خواص عباده ، ومن أنكرها زعم أن ذلك إرهاص وتأسيس لنبوة عيسى عليه السلام أو معجزة لزكريا عليه السلام ، وأورد على الأول أن(13/151)
الإرهاص في المشهور أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كإظلال الغمام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم الحجر معه ، وهذا بظاهره يقتضي وقوع الخارق على يد النبي صلى الله عليه وسلم لكن قبل أن ينبأ لا على يد غيره كما فيما نحن فيه ، ويمكن أن يدفع بالعناية ؛ وأورد على الثاني بأنه بعيد جداً إذ لم يقع الكلام مع زكريا عليه السلام ولم يقترن ذلك بالتحدي أيضاً فكيف يكون معجزة له ، واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم لأن تكليم الملائكة يقتضيها ، ومنعه اللقاني بأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعاً فقد روي أنهم كلموا رجلاً خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وأخبروه أن الله سبحانه يحبه كحبه لأخبه فيه ولم يقل أحد بنبوته ، وادعى أن من توهم أن النبوة مجرد الوحي ومكالمة الملك فقد حاد عن الصواب.
ومن الناس من استدل على عدم استنباء النساء بالإجماع وبقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً } [ الأنبياء : 7 ] ولا يخفى ما فيه ، أما أولاً : فلأن حكاية الإجماع في غاية الغرابة فإن الخلاف في نبوة نسوة كحواء ، وآسية ، وأم موسى ، وسارة ، وهاجر ، ومريم موجود خصوصاً مريم فإن القول بنبوتها شهير ، بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في "الحلبيات" ، وابن السيد إلى ترجيحه ، وذكر أن ذكرها مع الأنبياء في سورتهم قرينة قوية لذلك. وأما ثانياً : فلأن الاستدلال بالآية لا يصح لأن المذكور فيها الإرسال وهو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فافهم.(13/152)
{ وَطَهَّرَكِ } أي من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء مثل الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة المسجد قاله الزجاج وروي عن الحسن وابن جبير أن المراد طهرك بالإيمان عن الكفر وبالطاعة عن المعصية ، وقيل : نزهك عن الأخلاق الذميمة والطباع الرديئة ، والأولى الحمل على العموم أي طهرك من الأقذار الحسية والمعنوية والقلبية والقالبية. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 154ـ 155}
لطيفة
قال ابن عجيبة :
لا يصطفي الله العبدَ لحضرته إلا بعد تطهيره من الرذائل ، وتحليته بأنواع الفضائل ، وقطعه عن قلبه الشواغل ، والقيام بوظائف العبودية ، وبالآداب مع عظمة الربوبية ، والخضوع تحت مجاري الأقدار ، والتسليم لأحكام الواحد القهار. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 277}(13/153)
قوله تعالى { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبرها سبحانه وتعالى بما اختصها به أمرها بالشكر فقال : {يا مريم اقنتي} أي أخلصي أفعالك للعبادة {لربك} الذي عودك الإحسان بأن رباك هذه التربية.
ولما قدم الإخلاص الذي هو روح العبادة أتبعه أشرفها فقال : {واسجدي} فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
قال الحرالي : وكان من اختصاص هذا الاصطفاء العلي - أي الثاني - ما اختصها من الخطاب بالركوع الذي لحقت به بهذه الأمة الراكعة التي أطلعها الله سبحانه وتعالى من سر عظمته التي هي إزاره على ما لم يطلع عليه أحداً ممن سواها في قوله : {واركعي مع الراكعين} كما قال لبني إسرائيل عند الأمر بالملة المحمدية {واركعوا مع الراكعين} [ البقرة : 43 ] - إلى ما يقع من كمال ما بشرت به حيث يكلم الناس كهلاً في خاتمة اليوم المحمدي ، ويكمل له الوجود الإنساني حيث يتزوج ويولد له - كما ذكر ، ولك كله فيما يشعر به ميم التمام في ابتداء الاسم وانتهائه ، وفيما بين التمامين من كريم التربية لها ما يشعر به الراء من تولي الحق لها في تربيتها ورزقها ، وما تشعر به الياء من كمالها الذي اختصت على عالمها - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 79 ـ 80}
فصل
قال الفخر :
وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع ؟ .
والجواب من وجوه
الأول : أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب
الثاني : أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجداً قال عليه الصلاة والسلام : " أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد " فلما كان السجود مختصاً بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات.(13/154)
ثم قال : {واركعى مَعَ الركعين} وهو إشارة إلى الأمر بالصلاة ، فكأنه تعالى يأمرها بالمواظبة على السجود في أكثر الأوقات ، وأما الصلاة فإنها تأتي بها في أوقاتها المعينة لها
والثالث : قال ابن الأنباري : قوله تعالى : {اقنتى} أمر بالعبادة على العموم ، ثم قال بعد ذلك {واسجدى واركعى} يعني استعملي السجود في وقته اللائق به ، واستعملي الركوع في وقته اللائق به ، وليس المراد أن يجمع بينهما ، ثم يقدم السجود على الركوع والله أعلم
الرابع : أن الصلاة تسمى سجوداً كما قيل في قوله {وأدبار السجود} [ ق : 40 ] وفي الحديث " إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين " وأيضاً المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة ، وأيضاً أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز.
إذا ثبت هذا فنقول قوله {يامريم اقنتى} معناه : يا مريم قومي ، وقوله {واسجدى} أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة ، ثم قال : {واركعى مَعَ الراكعين} إما أن يكون أمراً لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله {واسجدى} أمراً بالصلاة حال الانفراد ، وقوله {واركعى مَعَ الراكعين} أمراً بالصلاة في الجماعة ، أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله {واسجدى} أمراً ظاهراً بالصلاة ، وقوله {واركعى مَعَ الراكعين} أمراً بالخضوع والخشوع بالقلب.
الوجه الخامس في الجواب : لعلّه كان السجود في ذلك الدين متقدماً على الركوع.
السؤال الثاني : أما المراد من قوله {واركعى مَعَ الركعين }.
والجواب : قيل معناه : افعلي كفعلهم ، وقيل المراد به الصلاة في الجماعة كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين فيه ، وإن كانت لا تختلط بهم.
السؤال الثالث : لم لم يقل واركعي مع الراكعات ؟
والجواب لأن الاقتداء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 39}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن المفسرين قالوا : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات مع مريم عليها السلام شفاها ، قامت مريم في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح من قدميها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 40}(13/155)
من فوائد الآلوسى فى الآية
{ يامريم اقنتى لِرَبّكِ } الظاهر أنه من مقول الملائكة أيضاً وصوها بالمحافظة على الصلاة بعد أن أخبروها بعلو درجتها وكمال قربها إلى الله تعالى لئلا تفتر ولا تغفل عن العبادة ، وتكرير النداء للإشارة إلى الاعتناء بما يرد بعد كأنه هو المقصود بالذات وما قبله تمهيد له. والقنوت إطالة القيام في الصلاة قاله مجاهد أو إدامة الطاعة قاله قتادة وإليه ذهب الراغب ، أو الإخلاص في العبادة قاله سعيد بن جبير أو أصل القيام في الصلاة قاله بعضهم والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلة وجوب امتثال الأوامر { واسجدى واركعى مَعَ الركعين } يحتمل أن يكون المراد من ذلك كله الأمر بالصلاة إلا أنه أمر سبحانه بها بذكر أركانها مبالغة في إيجاب المحافظة عليها لما أن في ذكر الشيء تفصيلاً تقريراً ليس في الإجمال ، ولعل تقديم السجود على الركوع لأنه كذلك في صلاتهم ، وقيل : لأنه أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع ، وفي الخبر " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب أو ليقترن { اركعي } بالراكعين للإيذان بأنّ مَن ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين ، وكل من هذه الأوجه لا يخلو عن دغدغة ، أما أولاً : فلأنه إنما يتم على القول بأن القيام ليس أفضل من السجود كما نقل عن الإمام الشافعي ، وأما الثاني : فلأن خطاب القرآن مع من يعلم لغة العرب لا مع من يتعلم منه اللغة ، وأما الثالث : فلأن تماميته تتوقف على بيان وجه أنه لم يعبر بالساجدين تنبيهاً على أن من لا سجدة في صلاته ليس من المصلين ؟ وكان وجه ذلك ما يستفاد من كلام الزمخشري حيث قال : "ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع" ، وفيه من يركع فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع ، فالنكتة في التعبير ما جعلت نكتة في ذكر { واسجدى واركعى مَعَ الركعين } واعترضه أيضاً بعضهم بأنه إذا قدم الركوع ، وقيل : ( واركعي مع الراكعين(13/156)
واسجدي ) يحصل ذلك المقصود ، ولا مدخل للتقديم والتأخير في إفادة ذلك ، وقيل : المراد بالسجود وحده الصلاة كما في قوله تعالى : { وأدبار السجود } [ ق : 40 ] والتعبير عن الصلاة بذلك من التعبير بالجزء عن الكل ويراد بالركوع الخشوع والتواضع وكأن أمرها بذلك حفظاً لها من الوقوع في مهاوي التكبر والاستعلاء بما لها من علو الدرجة ، والاحتمال الأول هو الظاهر ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن الأوزاعي قال : "كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها" وما أخرجه ابن عساكر في الآية عن أبي سعيد قال : "كانت مريم تصلي حتى تورم قدماها" والأكثرون على أن فائدة قوله سبحانه : { مَعَ الراكعين } الإرشاد إلى صلاة الجماعة ، وإليه ذهب الجبائي ، وذكر بعض المحققين على أن نكتة التعبير بذلك في المقام دون واسجدي مع الساجدين الإشارة إلى أن من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك ركعة من الصلاة ، وعورض بأنه لو قيل : واسجدي مع الساجدين لربما كان فيه إشارة إلى أن من أدرك السجود مع الإمام فقد أدرك الجماعة ، ولعل هذه الإشارة أولى من الأولى في هذا المقام ، واستلزام ذلك أن من أدرك ما بعد السجود معه لا يدرك الجماعة في حيز المنع ، ولا يخفى أن المعارض والمعارض ليسا بشيء عند المنصفين ، وأحسن منهما ما أشار إليه صاحب "الكشاف" ، وزعم بعضهم أن { مَّعَ } مجاز عن الموافقة في الفعل فقط دون اجتماع أي افعلي كفعل الراكعين وإن لم توقعي الصلاة معهم قال : لأنها كانت تصلي في محرابها ، وأيضاً إنها كانت شابة وصلاة الشواب في الجماعة مكروهة ، واعترض بأنه ارتكاب للتجوز الذي هو خلاف الأصل من غير داع ، وكونها كانت تصلي في محرابها أحياناً مسلم لكن لا يدل على المدعى ، ودائماً مما لا دليل عليه وبفرضه لا يدل على المدعي أيضاً لجواز اقتدائها وهي في المحراب ، وكراهة صلاة الشابة في الجماعة لم يتحقق عندنا ثبوتها في شرع من قبلنا ، على أن الماتريدي نفى كراهة صلاة مريم(13/157)
في الجماعة وإن كانت شابة ، وقلنا : بكراهة صلاة الشواب في شرعهم أيضاً ، وعلله بكون القوم الذين كانت تصلي معهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصموا في ضمها وإمساكها ، وربما يعلل بعدم خشية الفتنة وإن كانوا أجانب ، ويستأنس لهذا بذهابها مع يوسف لملء القلة في المغارة ، ولعل أولئك الذين تركع معهم من هذا القبيل ، وإن قلنا : إنها تقتدي وهي في محرابها إما وحدها أو مع نسوة زال الإشكال ، وجاء { مَعَ الراكعين } دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة رؤوس الآي ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا : إنها مأمورة بصلاة الجماعة.
وادعى بعضهم أن في التعبير بذلك مدحاً ضمنياً لمريم عليها السلام ولم يقيد الأمرين الأخيرين بما قيد به الأمر الأول اكتفاءاً بالتقييد من أول وهلة ، وقال شيخ الإسلام : إن تجريد الأمر بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك ، وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها ، ولعل ما ذكرناه أولى لأنه مطرد على سائر الأقوال في القنوت ، وأهرج ابن أبي داود في "المصاحف" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ ( واركعي واسجدي في الساجدين ). أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 156 ـ 157}(13/158)
من فوائد ابن القيم فى الآية :
قوله تعالى {اركعي مع الراكعين} ولم يقل اسجدي مع الساجدين فإنما عبر بالسجود عن الصلاة وأراد صلاتها في بيتها لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها ثم قال لها اركعي مع الراكعين أي صلي مع المصلين في بيت المقدس ولم يرد أيضا الركوع وحده دون أجزاء الصلاة ولكنه عبر بالركوع عن الصلاة كما تقول ركعت ركعتين وأربع ركعات يريد الصلاة لا الركوع بمجرده فصارت الآية متضمنة لصلاتين صلاتها وحدها عبر عنها بالسجود لأن السجود أفضل حالات العبد وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها ثم صلاتها في المسجد عبر عنها بالركوع لأنه في الفضل دون السجود وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها وهذا نظم بديع وفقه دقيق وهذه نبذ تسير بك إلى ما وراءها ترشدك وأنت صحيح {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركوع السجود}
{وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} الحج 26
بدأ بالطائفين للرتبة والقرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين وجمعهم جمع السلامة لأن جمع السلامة أدل على لفظ الفعل الذي هو علة تعلق بها حكم التطهير ولو كان مكان الطائفين الطواف لم يكن في هذا اللفظ من بيان قصد الفعل ما في قوله للطائفين ألا ترى أنك تقول تطوفون كما تقول طائفون فاللفظان متشابهان. أهـ { بدائع الفوائد حـ63 }(13/159)
فصل
قال البقاعى :
والمراد باتباع قصتها لما مضى التنبيه على انخراطها في سلك ما مضى من أمر آدم ويحيى إفصاحاً ، وإبراهيم في ابنيه إلاحة في خرق العادة فيهم ، وأن تخصيصها بالإنكار أو التعجب والتنازع مع الإقرار بأمرهم ليس من أفعال العقلاء ؛ والظاهر أن المراد بالسجود في هذا المقام ظاهره وبالركوع الصلاة نفسها ، فكأنه قيل : واسجدي مصلية ولتكن صلاتك مع المصلين أي في جماعة ، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال ، ولم يقل : مع الراكعات ، لأن الاقتداء بالرجال أفضل وأشرف وأكمل ، وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم عليه السلام ولا من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أتباعهم إلا في موضع واحد لا يحسن جعله فيه على ظاهره ، ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء : الأول إطلاق لفظها من غير بيان كيفية ، والثاني إطلاق لفظ السجود مجرداً ، والثالث إطلاقه مقروناً بركوع أو جثو أو خرور على الوجه ونحو ذلك ؛ ففي السفر الأول منها في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ماتت زوجته سارة رضي الله تعالى وسأل بني حاث أهل تلك الأرض أن يعطوه مكاناً يدفنها فيه فأجابوه : فقام إبراهيم فسجد لشعب الأرض بني حاث وكلمهم ؛ وفيه في قصة ربانية قال : وسجد على الأرض وقال : يا رب - فذكر دعاء ثم قال : وصلى إبراهيم بين يدي الرب ؛ وفيه في قصة عبد لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه ذهب إلى بلاد حران يخطب لإسحاق عليه السلام امرأة فظفر بقصده : فجثا الرجل - أي عبد إبراهيم - على الأرض فسجد للرب وقال : تبارك الله رب سيدي إبراهيم ؛ وفيه لما أجابه أهل المرأة : فلما سمع غلام إبراهيم كلامهم سجد على الأرض قدام المرأة ، وفيه عند لقاء عيصو لآخيه يعقوب عليه الصلاة والسلام : فدنت الأمان وأولادهما فسجدوا - أي لعيصوا ، ودنت ليا وولدها فسجدوا ؛ فلما كان أخيراً دنت راحيل ويوسف فسجدوا ؛ وفيه في قصة يوسف عليه السلام : ودنا(13/160)
إخوته فخروا له سجداً وقالوا له : ها نحن لك عبيد ؛ وفي السفر الثاني عند قدوم موسى عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيل وإخباره لهم بإرسال الله سبحانه وتعالى له وإظهاره لهم الآيات : فآمن الشعب وسمعوا أن الرب قد ذكر بني إسرائيل وأبصر إلى خضوعهم وجثا الشعب وسجدوا للرب ؛ وفيه في خروجهم من مصر : فركع الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى ؛ وفيه : فاستعجل موسى فخر على وجهه على الأرض ساجداً ؛ وفيه في تلقي موسى عليه السلام لختنه شعيب عليهما السلام إذ جاءه يهنئه بما أنعم الله عليه بعد غرق فرعون : فخرج موسى يتلقى ختنه وسجد له وقبله وسأل كل منهما عن سلامة صاحبه ؛ وفيه : وقال الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام عند ما بشره بقتل الكنعانيين وغيرهم من سكان بلاد القدس : لا تسجدوا لآلهتهم ولا تعبدوها ولا تفعلوا كأفعالهم - بل كبهم كباً على وجوههم وكسر أصنامهم - واعبدوا الرب إلهكم ، وفي أوائل السفر الثالث في ذكر ظهور مجد الرب لهم في قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها على حياة موسى عليه الصلاة والسلام : وعاين ذلك جميع الشعب وحمدوا الله سبحانه وتعالى وخر الشعب كله على وجهه ، وفي الرابع عندما هم بنو إسرائيل بالرجوع إلى مصر تضجراً من حالهم : فخر موسى وهارون عليهما السلام على وجوههما ساجدين بين يدي جماعة بني إسرائيل كلها ؛ وفيه : وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما : تنحيا عن هذه الجماعة لأني مهلكها ، فخرا ساجدين على وجوههما ؛ وفيه عندما تذمروا عليه من أجل العطش : فجاء موسى وهارون من عند الجماعة إلى باب قبة الزمان فخرا على وجوههما فظهر لهما مجد الرب - فذكر قصة ضرب الحجر بالعصا وانفجار الماء ؛ وفيه في قصة بلعام بن باعور حين رأى ملكاً في طريقه فجثا على وجهه ساجداً.(13/161)
وأما إطلاق لفظ الصلاة فقال في آخر السفر الثاني : وكان إذا خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى قبة الزمان كان جميع الشعب يقفون ويستعد كل امرىء منهم على باب خيمته ، وينظرون إلى موسى عليه الصلاة والسلام من خلفه حتى يدخل إلى القبة ، وإذا دخل موسى القبة كان ينزل عمود السحاب فيقف على باب القبة ، ويكلم موسى وكان جميع الشعب ينظرون إلى عمود السحاب واقفاً على باب القبة وكان يقف جميع الشعب ويصلي كل امرىء منهم على باب خيمته ؛ وفيه : وعمل سطلاً من نحاس فنصبه عند منظر النسوة اللاتي يأتين فيصلين على باب قبة الأمد.(13/162)
وكل ما فيها من ذكر الصلاة فهكذا يطلق لفظه غير مقرون بما يرشد إلى كيفية ، فلا فائدة في سرده ؛ وهذا القبة أمر الله سبحانه وتعالى موسى عليه الصلاة والسلام باتخاذها مظهر المجد وأن يجعلها كهيئة الغمام الذي ظهر له مجده تعالى فيه في جبل طور سيناء ، وهي من غرائب الدهر في الارتفاع والسعة والهيئة ، ففيها من الخشب والبيوت والتوابيت والأعمدة والجواهر وصفائح الذهب والفضة والنحاس والسرداقات والستور من الحرير والأرجوان والكتاب والأطناب وغير ذلك مما يكل عنه الوصف ، وكله بنص من الله سبحانه وتعالى على الطول والعرض والوزن والمحل بحيث إنه كان فيها من صفائح الذهب ومساميره ونحوها تسعة وعشرون قنطاراً وأربعمائة وثلاثون مثقالاً بمثقال القدس ، ومن الفضة مائة قنطار وألف وسبعمائة وسبعون مثقالاً ، ومن النحاس سبعون قنطاراً وألفان وأربعمائة مثقال ؛ وكانت هذه القبة تنصب في مكان من الأرض وينزل بنو لاوي سبط موسى عليه الصلاة والسلام وهارون حولها يخدمونها بين يدي هارون عليه الصلاة والسلام وبنيه ، ومن دنا منها من غيرهم احترق ، وينزل أسباط بني إسرائيل حول بني لاوي ، لكل سبط منزلة لا يتعداها من شرقها وغربها وجنوبها وشمالها ، كل ذلك بأمر من الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام ؛ وكان السحاب يغشاها بالنهار ، وكان النار تضيء عليها بالليل وتزهر ، فما دام السحاب مجللاً لها فهم مقيمون ، فإذا ارتفع عنها كان إذناً في سفرهم.(13/163)
فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود ، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك حينئذٍ يسمى صلاة ، وإلاّ كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم ، وذلك موافق للغة ، قال في القاموس : سجد : خضع ؛ والخضوع التطأمن ، وأما المكان الذي فيه ذكر الركوع فالظاهر أن معناه : فصلى الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى ، لأن الركوع في اللغة يطلق على معان منها الصلاة ، يقال : ركع - أي صلى ، وركع - إذا انحنى كبواً ، والراكع من يكبو على وجهه ، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره ، لأنه لا يمكن في حال السجود ، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن بأولى مما ذكرته في الركوع - والله سبحانه وتعالى أعلم ، واحتججت باللغة لأن مترجم النسخة التي وقعت لي في عداد البلغاء ، يعرف ذلك من تأمل مواقع ترجمته لها ، على أني سألت عن صلاة اليهود الآن فأخبرت أنه ليس فيها ركوع ، ثم رأيت البغوي صرح في تفسير قوله سبحانه وتعالى : {واركعوا مع الراكعين} [ البقرة : 43 ] بأن صلاتهم لا ركوع فيها ، وكذا ابن عطية وغيرهما.(13/164)
ولما كان المقصود من ذكر هذه الآيات بيان الخوارق التي كانت لآل عمران من زكريا ويحيى وعيسى وأمه عليهم الصلاة والسلام للمجادلة بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، وبيان أن ما أشكل عليهم من أمره ليس خارجاً عن إشكال الخوارق في آله ، وكان الرد على كل طائفة بما تعتقد أولى وجب ذكر ذلك من الأناجيل الأربعة الموجودة الآن بين أظهر النصارى : ذكر قصة يحيى عليه الصلاة والسلام في حمله وولادته ونبوته وما اتفق في ذلك من الخوارق من الأناجيل وقد مزجت بين ألفاظها فجعلتها شيئاً واحداً على وجه ألم بعضه بأول أمر المسيح عليه الصلاة والسلام ؛ قال مترجمها في أول إنجيل لوقا : كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن ، أي حبر إمام ، اسمه زكريا من خدمة آل أبيا ، وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات ، وكانا كلاهما تقيين قدام الله سائرين ي جميع وصاياه وحقوق الرب بغير عيب ، ولم يكن لهما ولد لأن اليصابات كانت عاقراً ، وكانا كلاهما قد طعنا في أيامهما ، فبينما هو يكهن في أيام ترتيب خدمته أمام الله كعادة الكهنوت إذ بلغته نوبة وضع البخور فجاء ليبخر ، فدخل إلى هيكل الله وجميع الشعب يصلون خارجاً في وقت البخور ، فتراءى له ملاك الرب قائماً عن يمين مذبح البخور ، فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف فقال له الملاك : لا تخف يا زكريا! قد سمعت طلبتك ، وأمرأتك اليصابات تلد ابناً ، ويدعي اسمه يوحنا ، ويكون لك فرح وتهلل ، وكثير يفرحون بمولده ، يوكون عظيماً قدام الرب ، لا يشرب خمراً ولا سكراً ، ويمتلىء من روح القدس وهو في بطن أمه ، ويعيد كثيراً من بني إسرائيل إلى إلههم ، وهو يتقدم أمامه بالروح وبقوة ألياء ، ويقبل بقلوب الآباء على الأبناء والعصاة إلى علم الأبرار ، ويُعد للرب شعباً مستقيماً ، فقال زكريا للملاك : كيف أعلم هذا وأنا شيخ وامرأتي قد طعنت في أيامها ؟ فأجاب الملاك وقال : أنا جبريل الواقف قدام الله ، أرسلت أكلمك بهذا
وأبشرك ، ومن الآن تكون صامتاً ، لا تستطيع أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون هذا.(13/165)
وكان الشعب منتظرين زكريا متعجبين من إبطائه في الهيكل ، فلما خرج لم يقدر يكلمهم ، فعلموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل ، فكان يشير إليهم ، وأقام صامتاً ، فلما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته ، ومن بعد تلك الأيام حملت اليصابات امرأته ، وكتمت حملها خمسة أشهر قائلة : هذا ما صنع بي الرب في الأيام التي نظر إليّ فيها لينزع عني العار بين الناس ، ولما كانت في الشهر السادس أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الملاك من عند الله سبحانه وتعالى إلى مدينة في الجليل تسمى ناصرة إلى عذراء خطيبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود ، واسم العذراء مريم ، فلما دخل إليها الملاك قال لها : افرحي يا ممتلئة نعمة الرب معك! مباركة أنت في النساء ، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت قائلة ما هذا السلام ؟ فقال لها الملاك : لا تخافي يا مريم! فقد ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً ، ويدعى اسمه يسوع ، هذا يكون عظيماً ، وابن العذراء يدعى ، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ، ولا يكون لملكه انقضاء ، فقالت مريم للملاك : كيف يكون هذا ولا أعرف رجلاً ؟ فأجاب الملاك وقال لها : روح القدس يحل عليك وقوة العلي تقبلك ، فإنه ليس عند الله سبحانه وتعالى أمر عسير ، فقالت مريم : هانذا عبدة الرب فيكون فيّ كقولك ، وانصرف عنها الملاك ، فقامت مريم في تلك الأيام ومضت مسرعة إلى عين كرم إلى مدينة يهودا ، ودخلت إلى بيت زكريا فسلمت على اليصابات ، فلما سمعت اليصابات صوت سلام مريم تحرك الطفل في بطنها ، فامتلأت اليصابات من روح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت : مباركة أنت في النساء! ومباركة ثمرة بطنك! من أين لي هذا أن يأتي أمر ربي إليّ ، منذ وقع صوت سلامك في أذني تحرك الطفل بتهليل في بطني ، فطوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من الرب! فقالت مريم : تعظم نفسي بالرب ويتهلل روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى تواضع(13/166)
عبدته ، وقدوس اسمه ، ورحمته لخائفيه ، صنع القوة بذراعه وفرق المستكبرين بفكر قلوبهم ، أنزل القادرين عن الكراسي ورفع المتواضعين ، أشبع الجياع من الخيرات ، فأقامت مريم عليها السلام عندها نحواً من ثلاثة أشهر وعادت إلى بيتها.
ولما تم زمان اليصابات لتلد ولدت ابناً ، فسمع جيرانها وأقاربها أن الرب قد أعظم رحمته معها ، ففرحوا لها ، فلما كانت في اليوم الثامن جاؤوا ليختنوا الصبي ودعوه باسم أبيه زكريا فأجاب أمه قائلة : لا ولكن ادعوه يوحنا ، فقالوا لها : ليس أحد في جنسك يدعى بهذا الاسم ، فأشاروا إلى أبيه : ما تريد أن تسميه ؟ فاستدعى لوحاً وكتب قائلاً : يوحنا ، فتعجب جميعهم ، وانفتح فوه قائلاً من ساعته ولسانه ، وتكلم وبارك ، ووقع خوف عظيم على جميع جيرانهم ، وتُحدث بهذا الكلام في جميع تخوم يهودا ، وفكر جميع السامعين في قلوبهم قائلين : ماذا ترى يكون من هذا الصبي! ويد الرب كانت معه ، فامتلأ زكريا أبوه من روح القدس وبدأ قائلاً : تبارك الرب إله إسرائيل الذي اطلع وصنع نجاة لشعبه وأقام لنا قرن خلاص من بيت داود فتاه كالذي تكلم على أفواه أنبيائه القديسين من الأبد ، خلاص من أعدائنا ومن يدي كل مبغضاً ، صنع رحمة مع آبائنا ، وذكر عهدة القديس : القسم الذي عهد به لإبراهيم أبينا ليعطينا الخلاص بلا خوف من يدي أعدائنا لنخدمه بالبر والعدل قدامه في كل أيام حياتنا ، وأنت ايها الصبي نبي العلاء تدعى ، وتنطلق قدام وجه الرب لتصلح طريقة ليعطي علم الخلاص لشعبه لمغفرة الخطايا بتحنن ورحمة ، إلهنا الذي افتقدنا شرق من العلو ليضيء للجالس في الظلمة وظلال الموت لتستقيم سبل أرجلنا للسلامة.(13/167)
فأما الصبي فكان يشب ويتقوى بالروح وأقام في البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل ، وفي سنة خمس عشرة من ولاية طيباريوس قيصر وفيلاطوس النبطي على اليهودية وهيرودس رئيس الجليل ، وفيلفوس أخوه على ربع الصورية وكورة أبطرحيون وأوساسوس رئيس على ربع الإيليا ، وحنان وقيافا رؤساء الكهنة ، حلت كلمة الله سبحانه وتعالى على يوحنا بن زكريا في البرية فجاء إلى كل البلاد المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا - كا هو مكتوب في سفر كلام أشعيا النبي - قائلاً : صوت صارخ في البرية : أعدوا طريق الرب فاصنعوا سبله مستقيمة ، جميع الأودية تمتلىء وجميع الجبال والآكام تتضع ، ويصير الوعر سهلاً والخشنة إلى طريق سهلة ، ويعاين كل ذي جسد خلاص الله سبحانه وتعالى ؛ وفي إنجيل متّى : وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية يهودا ويقول : توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات - هذا هو الذي في أشعيا النبي : إذ يقول صوت صارخ ، وقال مرقس : مكتوب في أشعيا النبي : هوذا أنا مرسل ملاكي أمام وجهك ليسهل طريقك قدامك ، ثم استنعى صوت صارخ في البرية : أعدوا طريق الرب وسهلوا سبله ، وكان لباس يوحنا وبر الإبل ، ومنطقته جلداً على حقويه ، وكان طعامه الجراد وعسل البر ، حينئذٍ خرجوا إليه من يروشليم ، وكل اليهودية وجميع كور الأردن ، وكان يعمدهم في نهر الأردن معترفين بخطاياهم ؛ وفي مرقس : كان يوحنا يعمد في القفر ويكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا ، وكان يخرج إليه جميع كور يهودا وكل يروشليم فيعمدهم في نهر الأردن معترفين بخطاياهم فقال للجمع الذين يأتون إليه ويعتمدون منه : يا ثمرة الأفاعي! وفي متى : فلما رأى كثيراً من الفريسيين والزنادقة يأتون إلى معموديته قال لهم : يا أولاد الأفاعي - ثم اتفق هو ولوقا - من دلكم على الهرب من الغضب الآتي ؟ اعملوا الآن ثماراً تليق بالتوبة ولا تقولوا في نفوسكم : إن أبانا إبراهيم ، أقول لكم : إن الله سبحانه(13/168)
وتعالى قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم ها هوذا الفأس موضوع على أصول الشجر ، وكل شجرة لا تثمر ثمرة طيبة تقطع وتلقى في النار ، فسأله الجموع ، ماذا نصنع ؟ أجاب وقال لهم : من له ثوبان فليعط من ليس له ، ومن له طعام فليصنع مثل ذلك ، فأتى العشارون ليعتمدوا منه فقالوا : ماذا نصنع يا معلم ؟ فقال لهم : لا تفعلوا أكثر مما أمرتم به ، وسأله أيضاً الجند قائلين : ماذان نصنع نحن أيضاً ؟ فقال لهم : لا تعيبوا أحداً ولا تظلموا أحداً ، واكتفوا بأرزاقكم.
وإن جميع الشعب فكروا في قلوبهم وظنوا أن يوحنا المسيح ، أجابهم يوحنا أجمعين وقال لهم : أما أنا فأعمدكم بالماء للتوبة ، وسيأتي الذي هو أقوى من الذي لا أستحق أن أحل سيور حذائه ؛ وقال متى : لا أستحق أن أحمل حذاءه ؛ وقال مرقس : وكان يبشر قائلاً : الذي يأتي بعدي أوقى مني ، لست أهلاً - أعني لحل سيور حذائه ، أنا أعمدكم بالماء وهو يعمدكم بروح القدس والنار ، الذي بيده المرفش ، ينقي به الذرة ، ويجمع القمح إلى أهرائه ، ويحرق التبن بناء لا تطفأ ، ولا يخبز الشعب ، ويبشرهم بأشياء كثيرة ؛ وفي إنجيل يوحنا : كان إنسان أرسل من الله ، اسمه يوحنا ، جاء للشهادة للنور الذي هو نور الحق الذي يضيء لكل إنسان ، الآتي إلى العالم ، إلى خاصته ، جاء وخاصته لم تقبله ، فأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً ، والكلمة صارت جسداً ، وحل فينا ، ورأينا مجده مجداً مثل الوحيد الممتلىء نعمة ، وحقاً يوحنا شهد من أجله وصرخ وقال : هذا الذي قلت إنه يأتي بعدي كان قبلي ، لأنه أقدم مني ، ومن امتلائه نحن بأجمعنا أخذنا نعمة من أجل أن الناموس بموسى أعطى ، والنعمة والحق أوحيا بيسوع المسيح الذي لم يره أحد قط ، الابن الوحيد.(13/169)
هذه شهادة يوحنا إذا أرسل إليه اليهود من يروشليم كهنة ولاويين - أي ناساً من أولاد لاوي - ليسألوه : من أنت ، فاعترف وأقر أني لست المسيح ، فسألوه : فمن ألياء ؟ فقال : لست أنا النبي ، قال : كلا! فقالوا له : فمن أنت لنرد الجواب إلى الذين أرسلونا ، ماذا تقول عن نفسك ؟ قال : أنا الصوت الصارخ في البرية : سهلوا طريق الرب - كما قال أشعيا النبي.
فأما أولئك الذين أرسلوا فكانوا من الفريسيين فقالوا : ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا ألياء ولا النبي ؟ أجابهم يوحنا : أنا أعمدكم بالماء ، وفي وسطكم قائم ذاك الذي ليستم تعرفونه ، الذي يأتي بعدي وهو أقوى مني ، وهو قبلى كان ، ذاك الذي لست مستحقاً أن أحل سيور حذائه.
هذا كان في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد.(13/170)
قال لوقا : فأما هيرودس رئيس الربع فكان يوحنا يبكته من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلفوس ولأجل الشر الذي كان هيرودس يفعله ، وزاد على ذلك أنه طرح يوحنا في السجن ؛ وقال مرقس وقد ذكر آيات أظهرها المسيح : وسمع هيرودس الملك وقال : إن يوحنا المعمدان قام من الأموات ، ومن أجل تلك القوات يعمل ، وقال آخرون : إنه ألياء ، وآخرون : إنه نبي كواحد من الأنبياء ، فلما سمع هيرودس قال : أنا قطعت رأس يوحنا ؛ وفي متى : وفي ذلك الزمان سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع فقال لغلمانه : هذا هو يوحنا المعمدان ، وهو قام من الأموات ، من أجل هذه القوات يعمل ، وكان هيرودس قد أمسك يوحنا وشده وجعله في السجن ، وقال مرقس : وحبسه من أجل هيروديا امرأة فيلفوس ، لأنه كان قد تزوجها وقال له يوحنا : ما يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك ، وكانت هيروديا حنقة عليه تريد قتله ، ولم تقتله لأن هيرودس كان يخاف من يوحنا ، لأنه يعلم أنه رجل صديق قديس ويحفظه ويسمع منه كثيراً بشهوة ، وكان في يوم من الزمان وافى هيرودس مولود ، فصنع وليمة لعظمائه ورؤسائه ومقدمي الجليل ، ودخلت ابنة هيروديا فرقصت ، فوافق ذلك هيرودس وجلساءه ، فقال الملك للصبية : سلي ما أردت فأعطيك! وحلف لها أني أعطيك ما سألت ولو كان نصف ملكي ، فخرجت وقالت لأمها : أي شيء أسأله ؟ فقالت : رأس يوحنا المعمدان ، فرجعت للوقت بسرعة إلى الملك وسألت رأس يوحنا على طبق ، فحزن الملك ، ومن أجل اليمين والمنكبين لم ير منعها ، فأنفذ سيافاً من ساعته وأمر أن يؤتى برأسه في طبق ، فمضى وقطع رأسه في الحبس وجاء به في طبق وأعطاه للصبية ، فأخذته الصبية ودفعته لأمها ؛ وسمع تلاميذه فجاؤوا ورفعوا جثته وجعلوها في قبر ؛ قال متى : وجاء تلاميذه فأخذوا جسده ودفنوه وأتوا فأخبروا يسوع فلما سمع يسوع مضى من هناك في سفينة إلى البرية مفرداً ، فسمع الجمع فتبعوه ماشين من المدن ، فلما خرج أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم وأبرأ
اعلاّءهم ومرضاهم انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 80 ـ 87}(13/171)
قوله تعالى { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أتى نبينا صلى الله عليه وسلم بهذه الأخبار الغريبة المحررة العجيبة التي لا يعرفها على وجهها إلا الحذاق من علماء بني إسرائيل كان من حق سامعها أن يتنبه من غفلته ويستيقظ من رقدته ، لأنها منبهة بنفسها للمنصف الفطن على أن الآتي بها - والسامع خبير بأنه لم يخالط عالماً قط - صادقاً لا مرية في صدقه في كل ما يدعيه عن الله سبحانه وتعالى ، وكان من حق من يتنبه أن يبادر إلى الإذعان فيصرح بالإيمان ، فلما لم يفعلوا التفت إلى تنبيه الغبي وتبكيت العتي فقال : {ذلك} أي الخطاب العلي المقام الصادق المرام البديع النظام {من أنباء الغيب نوحيه} أي نجدد إيحاءه في أمثاله {إليك} في كل حين فما كنت لديهم في هذا الذي ذكرناه لك يوماً على هذا التحرير مع الإعجاز في البلاغة ويجوز أن تكون الجملة حالاً تقديرها : {و} الحال أنك {ما كنت} ولما كان هذا مع كونه من أبطن السر هو من أخفى العلم عبر فيه بلدي لما هو في أعلى رتب الغرابة كما تقدم في قوله : {هو من عند الله} وكررها زيادة في تعظيمه وتنبيهاً على أنه مما يستغرب جداً حتى عند أهل الاصطفاء فقال : {لديهم} قال الحرالي : لدى هي عند حاضرة لرفعة ذلك الشيء الذي ينبأ به عنه - انتهى.(13/172)
{إذ يلقون} لأجل القرعة - {أقلامهم} قال الحرالي : جمع قلم ، وهو مظهر الآثار المنبئة عما وراءها من الاعتبار - انتهى {أيهم} أي يستهمون أيهم {يكفل مريم} أي يحضنها ويربيها تنافساً في أمرها لما شرفها الله تعالى به {وما كنت لديهم إذ} أي حين {يختصمون} أي في ذلك حتى نقصّ مثل هذه الأخبار على هذا الوجه السديد - يعني أنه لا وجه لك إلى علم ذلك إلا بالكون معهم إذ ذاك ، أو أخذ ذلك عن أهل الكتاب ، أو بوحي منا ؛ ومن الواضح الجلي أن بعد نسبتك إلى التعلم من البشر كبعد نسبتك إلى الحضور بينهم في ذلك الوقت ، لشهرتك بالنشأة أمياً مباعداً للعلم والعلماء حتى ما يتفاخر به قومك من السجع ومعاناة الصوغ لفنون الكلام على الوجوه الفائقة ، فانحصر إخبارك بذلك في الوحي منا ، وجعل هذا التنبيه في نحو وسط هذا القصص ليكون السامع على ذكر مما مضى ويلقي السمع وهو شهيد لما بقي ، وجعله بعد الافتتاح بقصة مريم عليها السلام تنبيهاً على عظم شأنها وأنها المقصودة بالذات للرد على وفد نصارى نجران ، وكأنه أتبع التنبيه ما كان في أول القصة من اقتراعهم بالأقلام واختصامهم في كفالتها لخفائه إلا على خواص أهل الكتاب ، هذا مع ما في مناسبة الأقلام للبشارة بمن يعلمه الكتاب ، واستمر في إكمال المقال على ذلك الأسلوب الحكيم حتى تمت الحجة واستقامت المحجة فقال تعالى مبدلاً من إذ الأولى إيذاناً بأن ما بينهما اعتراض لما نبه عليه من شريف الأغراض : {إذ قالت الملائكة يا مريم}. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 87 ـ 88}
فصل
قال الفخر :
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم ، والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم ، إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي.
فإن قيل : لم نفيت هذه المشاهدة ، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة ، وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم ؟ .(13/173)
قلنا : كان معلوماً عندهم علماً يقينياً أنه ليس من أهل السماع والقراءة ، وكانوا منكرين للوحي ، فلم يبق إلا المشاهدة ، وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة ، ونظيره {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} [ القصص : 44 ] ، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور} [ القصص : 46 ] {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} [ يوسف : 102 ] {وَمَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا} [ هود : 49 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 40}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ } يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يكون " ذَلِكَ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، وتقديره : الأمر ذلك. و{ ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } متعلقاً بما بعدَه ، وتكون الجملة من " نُوحِيهِ " - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها ، وإما حالاً.
الثاني : أن يكون " ذَلِكَ " مبتدأ ، و{ مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } خبره ، والجملة من " نُوحِيهِ " مستأنفة ، والضميرُ من " نوحِيهِ " عائد على الغيب ، أي : الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار ، ولذلك أتى بالمضارع في " نُوحِيهِ ". وهذا أحسن من عَوْده على " ذَلِكَ " ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص ، وما لم يتقدم منها ، ولو أعدته على " ذَلِكَ " اختص بما مَضَى وتقدم.
الثالث : أن يكون " نُوحِيهِ " هو الخبر و{ مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك ، أو متعلقاً بـ " نُوحِيه ".
ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول " نُوحِيهِ " أي : نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 217}
فائدة
قال الفخر :(13/174)
الأنباء : الإخبار عما غاب عنك ، وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة ، يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما ، وبهذا التفسير يعد الإلهام وحياً كقوله تعالى : {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [ النحل : 68 ] وقال في الشياطين {لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ} [ الأنعام : 121 ] وقال : {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [ مريم : 11 ] فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحياً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 40}
وقال ابن عادل :
فصل
الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء ، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة.
كما في قوله : [ الطويل ]
...................... فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا
وقال تعالى : { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ]. ويكون بالكتابة ، قال زهير : [ الطويل ]
أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ... بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ
ويطلق الوحي على الشيء المكتوب ، قال : [ الكامل ]
فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا... خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا
قيل : الوُحِيّ : جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً.
قال القرطبيُّ : " وأصل الوحي في اللغة : إعلام في خفاءٍ ".(13/175)
وتعريفُ الوحي بأمر خفي من إشارة ، أو كتابة ، أو غيرها ، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً ، كقوله تعالى : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] وقال - في الشياطين - : { لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] وقال : { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] ، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 217 ـ 218}
فائدة
قال القرطبى :
{ نُوحِيهِ إِلَيكَ } فيه دلالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب ؛ وأخبر عن ذلك وصدّقه أهل الكتاب بذلك ؛ فذلك قوله تعالى : { نُوحِيهِ إِلَيكَ } فردّ الكناية إلى "ذلك" فلذلك ذُكِّر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 85}(13/176)
وقال الآلوسى :
{ ذلك } إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : { مِنْ أَنبَاء الغيب } أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير إليه المقام ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وقوله تعالى : { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } جملة مستقلة مبينة للأولى ، والإيحاء إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي ، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء ، وبمعنى الإلهام ، والضمير في { نُوحِيهِ } عائد إلى ذلك في المشهور ، واستحسن عوده إلى الغيب لأنه حينئذ يشمل ما تقدم من القصص وما لم يتقدم منها بخلاف ما إذا عاد إلى ذلك فإنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى ، وجوز أن تكون هذه الجملة خبراً عن المبتدأ قبلها ، و{ مِنْ أَنبَاء الغيب } إما متعلق بنوحيه أو حال من مفعوله أي : نوحيه حال كونه بعض أنباء الغيب وجعله حالاً من المبتدأ رأي البعض ، وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير : الأمر ذلك فيكون { ذلك } خبراً لمبتدأ محذوف والجار والمجرور حال منه ، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل. وصيغة الاستقبال عند قوم للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى ، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الأخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل : إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب ، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاءاً لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء ، ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه السلام أيضاً لما أن { تِلْكَ } هي المقصودة بالأخبار أولاً ، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في(13/177)
ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة ، وروي عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها ، وسيق ذلك تأكيداً لاصطفائها عليها السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد ، ومع هذا هو أولى مما قيل : إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه السلام ، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية ورواية ، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها عند كل أحد. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 158}
فصل
قال الطبرى فى معنى الآية :
يعني جل ثناؤه بقوله ذلك : الأخبارَ التي أخبرَ بها عبادَه عن امرأة عمران وابنتها مريم ، وزكريا وابنه يحيى ، وسائر ما قصَّ في الآيات من قوله : "إن الله اصطفى آدم ونوحًا" ، ثم جمعَ جميعَ ذلك تعالى ذكره بقوله : "ذلك" ، فقال : هذه الأنباء من"أنباء الغيب" ، أي : من أخبار الغيب.
ويعني ب"الغيب" ، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطَّلع أنت ، يا محمد ، عليها ولا قومك ، ولم يعلمها إلا قليلٌ من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم.
ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه ، حجةً على نبوته ، وتحقيقًا لصدقه ، وقطعًا منه به عذرَ منكري رسالته من كفار أهل الكتابين ، الذين يعلمون أنّ محمدًا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها ، ولم يدرك معرفتها مع خُمولها عند أهلها ، إلا بإعلام الله ذلك إياه. إذ كان معلومًا عندهم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يكتب فيقرأ الكتب ، فيصل إلى علم ذلك من قِبَل الكتب ، ولا صاحبَ أهل الكتُب فيأخذ علمه من قِبَلهم.
وأما"الغيْب" فمصدر من قول القائل : "غاب فلان عن كذا فهو يَغيب عنه غيْبًا وَغيبةً".
وأما قوله : "نُوحيه إليك" ، فإن تأويله : نُنَزِّله إليك.
وأصل"الإيحاء" ، إلقاء الموحِي إلى الموحَى إليه.(13/178)
وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء ، وبإلهام ، وبرسالة ، كما قال جل ثناؤه : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) [سورة النحل : 68] ، بمعنى : ألقى ذلك إليها فألهمها ، وكما قال : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ ) [سورة المائدة : 111] ، بمعنى : ألقيت إليهم علمَ ذلك إلهامًا ، وكما قال الراجز :
* أَوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ *
بمعنى ألقى إليها ذلك أمرًا ، وكما قال جل ثناؤه : ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) [سورة مريم : 11] ، بمعنى : فألقى ذلك إليهم إيماء.
والأصل فيه ما وصفتُ ، من إلقاء ذلك إليهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماءً ، ويكون بكتاب. ومن ذلك قوله : ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ) [سورة الأنعام : 121] ، يلقون إليهم ذلك وسوسةً ، وقوله : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) [سورة الأنعام : 19] ، ألقى إلي بمجيء جبريل عليه السلام به إليّ من عند الله عز وجل.
وأما"الوحْي" ، فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه ، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب"وحيًا" ، لأنه واقع فيما كُتِب ثابتٌ فيه ، كما قال كعب بن زهير :
أَتَى العُجْمَ والآفَاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ... بَقِينَ بَقَاءَ الوَحْيِ فِي الحَجَرِ الأصَمّ
يعني به : الكتابَ الثابت في الحجر. وقد يقال في الكتاب خاصةً ، إذا كتبه الكاتب : "وحَى" بغير ألف ، ومنه قول رؤبة :
كَأَنَّهُ بَعْدَ رِيَاحِ تَدْهَمُهْ... وَمُرْثَعِنَّاتِ الدُّجُونِ تَثِمُهْ إنْجِيلُ أَحْبَارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 404 ـ 406}
قوله تعالى : {إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
قال ابن عادل :
{ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ }.
أقلام : جمع قَلَم ، وهو فَعَل بمعنى مفعول ، أي : مَقْلُوم.(13/179)
والقَلْمُ : القَطْع ، ومثله : القبض بمعنى المقبوض ، والنقض بمعنى المنقوض ، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة.
وقيل له : قَلَم ؛ لأنه يُقْلَم ، ومنه قلمت ظفري - أي : قطعته وسويته.
قال زهير : [ الطويل ]
لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ... لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وقيل : سمي القَلَمُ قَلَماً ، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 219}
فائدة
قال الماوردى :
{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم تشاجروا عليها وتنازعوا فيها طلباً لكفالتها ، فقال زكريا : أنا أحق بها لأن خالتها عندي ، وقال القوم : نحن أحق بها لأنها بنت إمامنا وعالمنا ، فاقترعوا عليها بإلقاء أقلامهم وهي القداح مستقبلة لجرية الماء ، فاستقبلت عصا زكريا لجرية الماء مصعدة ، وانحدرت أقلامهم فقرعهم زكريا ، وهو معنى قوله تعالى : { وَكَفَّلَهَا } وهذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، والربيع.
والقول الثاني : أنهم تدافعوا كفالتها لأن زكريا قد كان كفل بها من غير اقتراع ، ثم لحقهم أزمة ضعف بها عن حمل مؤونتها ، فقال للقوم : ليأخذها أحدكم فتدافعوا كفالتها وتمانعوا منها ، فأقرع بينهم وبين نفسه فخرجت القرعة له ، وهذا قول سعيد. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 393}
قال الفخر :
ذكروا في تلك الأقلام وجوهاً
الأول : المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى ، وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه ، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين
والثاني : أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم ، هذا قول الربيع(13/180)
والثالث : قال أبو مسلم : معنى يلقون أقلامهم مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وقد قال الله تعالى : {فساهم فَكَانَ مِنَ المدحضين} [ الصافات : 141 ] وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور ، وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى ، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً.
قال القاضي : وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحاً نظراً إلى أصل الاشتقاق ، إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به ، فوجب حمل لفظ القلم عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 40 ـ 41}
سؤال : فإن قلت : لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة ؟ وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟
قلت : كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي ، فلم يبق إلا المشاهدة وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة ، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة. ونحوه { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى } [ القصص : 44 ] ، { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور } [ القصص : 46 ] ، { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ } [ يوسف : 102 ]. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 390}
فصل
قال الفخر :
ظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون أقلامهم في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب ، وإما ليس فيه دلالة على كيفية ذلك الإلقاء ، إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له ، ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا عليه السلام ، فلا جرم صار هو أولى بكفالتها والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 41}(13/181)
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة ، فقال بعضهم : إن عمران أباها كان رئيساً لهم ومقدماً عليهم ، فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها ، وقال بعضهم : إن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيت الله تعالى ، ولأجل ذلك حرصوا على التكفل بها ، وقال آخرون : بل لأن في الكتب الإلهية كان بيان أمرها وأمر عيسى عليه السلام حاصلاً فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 41}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن أولئك المختصمين من كانوا ؟ فمنهم من قال : كانوا هم خدمة البيت ، ومنهم من قال : بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي ، ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في الطريق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 41}
قوله تعالى : {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
قال الطبرى :
وإنما قيل : "أيهم يكفل مريم" ، لأن إلقاء المستهمين أقلامَهم على مريم ، إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ. ففي قوله عز وجل : "إذ يلقون أقلامهم" ، دلالة على محذوف من الكلام ، وهو : "لينظروا أيهم يكفل ، وليتبيَّنوا ذلك ويعلموه".
فإن ظن ظانّ أنّ الواجب في"أيهم" النصبُ ، إذ كان ذلك معناه ، فقد ظن خطأ. وذلك أن"النظر" و"التبين" و"العلم" مع"أيّ" يقتضي استفهامًا واستخبارًا ، وحظ"أىّ" في الاستخبار ، الابتداءُ وبطولُ عمل المسألة والاستخبار عنه. وذلك أن معنى قول القائل : "لأنظُرَنّ أيهم قام" ، لأستخبرنَ الناس : أيهم قام ، وكذلك قولهم : "لأعلمن". أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 409}
وقال الفخر :
أما قوله : {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ففيه حذف والتقدير : يلقون أقلامهم لينظروا أيهم يكفل مريم وإنما حسن لكونه معلوماً.(13/182)
أما قوله {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فالمعنى وما كنت هناك إذ يتقارعون على التكفل بها وإذ يختصمون بسببها فيحتمل أن يكون المراد بهذا الاختصام ما كان قبل الإقراع ، ويحتمل أن يكون اختصاماً آخر حصل بعد الإقراع ، وبالجملة فالمقصود من الآية شدة رغبتهم في التكفل بشأنها ، والقيام بإصلاح مهماتها ، وما ذاك إلا لدعاء أمها حيث قالت {فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} [ آل عمران : 35 ] وقالت {إِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} [ آل عمران : 36 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 41}
وقال الآلوسى :
{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } في شأنها تنافساً على كفالتها وكان هذا الاختصام بعد الاقتراع في رأي ، وقبله في آخر ، وتكرير { مَا كُنتُ لَدَيْهِمْ } مع تحقق المقصود بعطف { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } على { إِذْ يُلْقُون } للإيذان بأن كل واحد من عدم الحضور عند الإلقاء ، وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته صلى الله عليه وسلم لا سيما على الرأي الثاني في وقت الاختصام لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد لذلك قاله شيخ الإسلام. واختلف في وقت هذا الاقتراع والتشاح على قولين : أحدهما : وهو المشهور المعول عليه أنه كان حين ولادتها وحمل أمها لها إلى الكنيسة على ما أشرنا إليه من قبل ، وثانيهما : أنه كان وقت كبرها وعجز زكريا عليه السلام عن تربيتها ، وهو قول مرجوح ، وأوهن منه قول من زعم أن الاقتراع وقع مرتين مرة في الصغر وأخرى في الكبر. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 159}
وقال الطبرى :
{ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : وما كنتَ ، يا محمد ، عند قوم مريم ، إذ يختصمون فيها أيُّهم أحقّ بها وأولى.(13/183)
وذلك من الله عز وجل ، وإن كان خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فتوبيخٌ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين. يقول : كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباءَ ولم تشهدْها ، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمورَ ، ولست ممن قرأ الكتب فعَلِم نبأهم ، ولا جالَس أهلها فسمع خبَرَهم ؟ أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 410}
فصل
قال القرطبى :
استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القُرْعة ، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة ، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظِّنة عمن يتولى قسمتهم ، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنَّة.
وردّ العملَ بالقُرْعة أبو حنيفة وأصحابه ، وردّوا الأحاديث الواردة فيها ، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها.
وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوّزها وقال : القرعة في القياس لا تستقيم ، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنّة.
قال أبو عبيد : وقد عمِل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن المنذر.
واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء ، فلا معنى لقول من ردّها.
وقد ترجم البخاريّ في آخر كتاب الشهادات ( باب القُرْعةِ في المشكِلات وقولِ الله عز وجل { إذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ } ) وساق حديث النعمان بن بشير : " مثل القائم على حدود الله والمُدْهِن فيها مثل قوم استهموا على سفينة " الحديثَ.(13/184)
وسيأتي في "الأنفال" إن شاء الله تعالى ، وفي سورة "الزخرف" أيضاً بحول الله سبحانه ، وحديث أمِّ العلاء ، وأن عثمان بن مَظْعُون طار لهم سَهمُه في السُّكْنى حين اقترعت الأنصار سُكْنَى المهاجرين ، الحديث ، وحديث عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها " ؛ وذكر الحديث.
وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك ؛ فقال مرّةً : يقرع للحديث.
وقال مَرّة : يسافر بأوفقهنّ له في السفر.
وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم الناس ما في النِّداءِ والصّفّ الأوّل ثم لم يجدوا إلا أن يستهِموا عليه لاستهموا " والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وكيفية القُرْعة مذكورة في كتب الفقه والخلاف.
واحتج أبو حنيفة بأن قال : إن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز.
قال ابن العربيّ : "وهذا ضعيف ، لأن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاحّ ؛ فأما ما يخرجه التراضي فيه فباب آخر ، ولا يصح لأحد أن يقول : إن القرعة تجري مع موضِع التراضي ، فإنها لا تكون أبداً مع التراضي" وإنما تكون فيما يتَشَاحّ الناس فيه ويُضَنُّ به.
وصفة القرعة عند الشافعيّ ومن قال بها : أن تُقطع رِقاع صغار مستوية فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها ثم تجفف قليلاً ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك ويغطي عليها ثوبه ثم يدخل يده ويخرج ، فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 86 ـ 87}
فائدة أخرى :
قال القرطبى :
دلت الآية أيضاً على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدّة ، وقد قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة واسمها أمة الله لجعفر وكانت عنده خالتها ، وقال : " إنما الخالة بمنزلة الأم " وقد تقدّمت في البقرة هذه المسألة.(13/185)
وخرّج أبو داود عن عليّ قال : " خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدِم بابنة حمزة فقال جعفر : أنا آخذها أنا أحق بها ابنة عمي وخالتها عندي ، وإنما الخالة أم.
فقال عليّ : أنا أحق بها ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أحق بها.
وقال زيد : أنا أحق بها ، أنا خرجت إليها وسافرت وقدِمت بها ؛ فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر حديثاً قال : "وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أمٌّ" " وذكر ابن أبي خيثمة أن زيد بن حارثة كان وصِيّ حمزة ، فتكون الخالة على هذا أحقَّ من الوصِيّ ويكون ابن العمّ إذا كان زوجاً غير قاطع بالخالة في الحضانة وإن لم يكن مَحْرَماً لها. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 88}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
أي هذه القصص نحن عرفناكها وخاطبناك بمعانيها ، وإنْ قَصَصْنَا نحن عليك هذا - فعزيزٌ خطابُنا ، وأعزُّ وأتم مِنْ أَنْ لو كنتَ مشاهداً لها. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 243}(13/186)
من فوائد ابن القيم فى الآية :
قوله تعالى {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون}
قال قتادة كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل فاقترعوا عليها بسهامهم أيهم يكفلها فقرع زكريا وكان زوج أختها فضمها إليه
وروى نحوه عن مجاهد وقال ابن عباس لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى وهم يكتبون الوحي فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها وهذا متفق عليه بين أهل التفسير
وقال تعالى {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين يقول تعالى فقارع فكان من المغلوبين فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا
وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه
وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فسارعوا إليه فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها فليستهما عليها. أهـ { الطرق الحكمية صـ365 ـ صـ 366 }(13/187)
قوله تعالى { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد المقتضي للتفرد بالعظمة عبر بما صدرت به من اسم الذات الجامع لجميع الصفات فقال : {إن الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ، فلا راد لأمره {يبشرك} وكرر هذا الاسم الشريف في هذا المقام زيادة في إيضاح هذا المرام بخلاف ما يأتي في سورة مريم عليها السلام ، وقوله : {بكلمة} أي مبتدئة {منه} من غير واسطة أب هو من تسمية المسبب باسم السبب ، والتعبير بها أوفق لمقصود السورة وأنفى لما يدعيه المجادلون في أمره ، ثم بين أنه ليس المراد بالكلمة حقيقتها ، بل ما يكون عنها ويكون فعالاًَ بها فقال مذكراً للضمير : {اسمه} أي الذي يتميز به عمن سواه مجموع ثلاثة أشياء : {المسيح} أصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم : من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهراً متأهلاً للملك والعلم والمزايا الفاضلة مباركاً ، فدل سبحانه وتعالى على أن عيسى عليه الصلاة والسلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح وإن لم يُمسَح ؛ وأما وصف الدجال بذلك فإما أن يكون لما كان هلاكه على يد عيسى عليه الصلاة والسلام وصف بوصفه - من باب التسمية بالضد ، وإما أن يكون إشارة إلى أنه ملازم للنجاسة فهو بحيث لا ينفك - ولو مسح - عن الاحتياج إلى التطهير بالمسح من الدهن الذي يمسح به المذنبون ومن كان به برص ونحوه فيبرأ - والله سبحانه وتعالى أعلم.(13/188)
ولما وصفه بهذا الوصف الشريف ذكر اسمه فقال {عيسى} وبين أنه يكون منها وحدها من غير ذكر بقوله موضع ابنك : {ابن مريم} وذلك أنفى لما ضل به من ضل في أمره ، وأوضح في تقرير مقصود السورة وفي تفخيم هذا الذكر بجعله نفس الكلمة وبإبهامه أولاً ثم تفسيره ، وقوله : {اسمه} تعظيم لقدره وبيان لفضله على يحيى عليهما السلام حيث لم يجعل له في البشارة به مثل هذا الذكر ، ثم أتم لها البشارة بأوصاف جعلها أحوالاً دالة على أنه يظهر اتصافه بها حال الولادة تحقيقاً لظهور أثر الكلمة عليه فقال : {وجيهاً} قال الحرالي : صيغة مبالغة مما منه الوجاهة ، وأصل معناه الوجه وهو الملاحظ المحترم بعلو ظاهر فيه - انتهى.
{في الدنيا} ولما كان ذلك قد لا يلازم الوجاهة بعد الموت قال : {والآخرة} ولما كانت الوجاهة ثمَّ مختلفة ذكر أعلاها عاطفاً بالواو إشارة إلى تمكنه في الصفات فقال : {ومن المقربين} أي عند الله. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 88 ـ 89}
فصل
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { إِذْ قَالَتِ الملائكة } في هذا الظرف أوجهٌ :
أحدها : أن يكون منتصباً بـ " يَخْتَصِمُونَ ".
الثاني : أنه بدل من " إذْ يَخْتَصِمُونَ " وهو قول الزجاج.
وفي هذين الوجهين بُعْدٌ ؛ حيث يلزم اتحاد زمان الاختصام ، وزمانِ قَوْل الكلام ، ولم يكن ذلك ؛ لأن وقت الاختصام كان صغيراً جِدًّا ، ووقت قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحْيَانٍ.
قال الحسنُ : إنها كانت عاقلة في حال الصِّغَرِ ، وإن ذلك كان من كراماتها. فإن صحَّ ذلك صحَّ الاتحاد ، وقد استشعر الزمخشريُّ هذا السؤال ، فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقَعَا في زمان واسعٍ ، كما تقول : لقيته سنةَ كذا ، يعني أن اللقاءَ إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا.
الثالث : أن يكون بدلاً من { إِذْ قَالَتِ الملائكة } - أولاً - وبه بدأ الزمخشريُّ - كالمختار له - وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدلَ والمبدل منه.
الرابع : نصبه بإضمار فعل.(13/189)
الخامس : قال أبو عبيدة : " إذْ - هنا - صلة زائدة ". والمراد بالملائكة هنا : جبريل عليه السلام لما قررناه وقد تقدم الكلام في البشارة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 221}
قوله تعالى : {بِكَلِمَةٍ مّنْهُ}
قال الفخر :
وأما قوله تعالى : {بِكَلِمَةٍ مّنْهُ} فقد ذكرنا تفسير الكلمة من وجوه وأليقها بهذا الموضع وجهان
الأول : أن كل علوق وإن كان مخلوقاً بواسطة الكلمة وهي قوله {كُنَّ} إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقوداً في حق عيسى عليه السلام وهو الأب ، فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكل وأتم فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة إنه نفس الجود ، ومحض الكرم ، وصريح الإقبال ، فكذا ههنا.
والوجه الثاني : أن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل الله في أرضه ، وبأنه نور الله لما أنه سبب لظهور ظل العدل ، ونور الإحسان ، فكذلك كان عيسى عليه السلام سبباً لظهور كلام الله عزّ وجلّ بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه فلا يبعد أن يسمى بكلمة الله تعالى على هذا التأويل.
فإن قيل : ولم قلتم إن حدوث الشخص من غير نطفة الأب ممكن قلنا : أما على أصول المسلمين فالأمر فيه ظاهر ويدل عليه وجهان
الأول : أن تركيب الأجسام وتأليفها على وجه يحصل فيها الحياة والفهم ، والنطق أمر ممكن ، وثبت أنه تعالى قادر على الممكنات بأسرها ، وكان سبحانه وتعالى قادراً على إيجاد الشخص ، لا من نطفة الأب ، وإذا ثبت الإمكان ، ثم إن المعجز قام على صدق النبي ، فوجب أن يكون صادقاً ، ثم أخبر عن وقوع ذلك الممكن ، والصادق إذا أخبر عن وقوع الممكن وجب القطع بكونه كذلك ، فثبت صحة ما ذكرناه(13/190)
الثاني : ما ذكره الله تعالى في قوله {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ} [ آل عمران : 59 ] فلما لم يبعد تخليق آدم من غير أب فلأن لا يبعد تخليق عيسى من غير أب كان أولى وهذه حجة ظاهرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 42}
قال الآلوسى :
كلمة من لابتداء الغاية مجازاً وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان تأثير الكلمة في حقه أظهر وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلاً : محض الجود وعلى ذلك أكثر المفسرين وأيدوا ذلك بقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، وقيل : أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة ، ففي "التوارة" في الفصل العشرين من السفر الخامس أقبل الله تعالى من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران وسينا جبل التجلي لموسى وساعير جبل بيت المقدس وكان عيسى يتعبد فيه وفاران جبل مكة ، وكان متحنث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج موافقاً لما أخبر به : قد جاء كلامي ، وقيل : لأن الله تعالى يهدي به كما يهدي بكلمته.
ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ } [ النساء : 171 ] ولعله يرجح أول الأقوال كما يرجحه عدم اطراد الأقوال الأخر وإن لم يكن لازماً في مثل ذلك. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 160}
وقال ابن عاشور :
والكلمة مراد بها كلمة التكوين وهي تعلق القدرة التنجيزي كما في حديث خلق الإنسان من قوله "ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله" الخ.
ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة.(13/191)
وقوله : {منه} من للابتداء المجازي أي بدون واسطة أسباب النسل المعتادة وقد دل على ذلك قوله : {إِذَا قَضَى أَمْراً} [البقرة : 117]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 96}
فصل
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {بِكَلِمَةٍ مّنْهُ} فلفظة {مِنْ} ليست للتبعيض ههنا إذ لو كان كذلك لكان الله تعالى متجزئاً متبعضاً متحملاً للاجتماع والافتراق وكل من كان كذلك فهو محدث وتعالى الله عنه ، بل المراد من كلمة {مِنْ} ههنا ابتداء الغاية وذلك لأن في حق عيسى عليه السلام لما لم تكن واسطة الأب موجودة صار تأثير كلمة الله تعالى في تكوينه وتخليقه أكمل وأظهر فكان كونه كلمة {الله} مبدأ لظهوره ولحدوثه أكمل فكان المعنى لفظ ما ذكرناه لا ما يتوهمه النصارى والحلولية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 43}
قوله تعالى : {اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ}
قال ابن عادل :
قوله : { اسمه المسيح عِيسَى } اسمه مبتدأ ، والمسيح خبره ، وعيسى بدل منه ، أو عطف بيان.
قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون خبراً آخرَ ؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ ، والمبتدأ مفرد - وهو قوله : اسمه - ولو كان " عِيسَى " خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها - على تأنيث الكلمة " وأما من يجيز ذلك فقد أعرب " عِيسَى " خبراً ثانياً ، وأعربه بعضهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ - أى : هو عيسى.
ويجوز على هذا الوجه وَجْهٌ رابعٌ ، وهو النَّصْب بإضمار أعني ؛ لأن كل ما جاز قطعه رفعاص جاز قطعه نصباً ، والألف واللام في المسيح للغلبة كهي في الصعق والعيُّوق وفيه وجهان :
أحدهما : أنه فَعِيل بمعنى فاعل ، فحُوِّلَ منه مبالغةً.
قيل : لأنه يمسح الأرض بالسياحة ، أي : يقطعها ومنه : مسح القسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقالَ لعيسى : مِسِّيح - بالتشديد - على المبالغة ، كما يقال : رجل شريب.
وقيل : لأنه يمسح ذا العاهةِ فَيَبْرَأُ - قاله ابن عباس.
وقيل : كان يمسح رأسَ اليتيم.(13/192)
وقيل : يلبس المسح فسمي بما يئوب إليه.
وقيل : إنه فَعِيل بمعنى مفعول ؛ لأنه مُسِحَ بالبركة.
وقيل لأنه مُسِح من الأوزار والآثام ، أو لأنه مَشِيح القَدَم لا أخْمَصَ له.
قال الشاعر : [ الرجز ]
بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ... مُدَمْلَجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ
أو لمسح وَجْههِ بالمَلاحة ، قال : [ الطويل ]
عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مِسْحَةٌ مِنْ مَلاَحَةٍ........................
أو لأنه كان ممسوحاً بدُهْنٍ طاهرٍ مبارَكٍ ، تُمْسَح به الأنبياء ، ولا يُمْسَح به غيرُهم ، قالوا : وهذا الدهن من مسح به وقتَ الولادة فإنه يكون نبيًّا ، أو لأنه مَسَحَهُ جبريلُ بجَنَاحه وقت الولادة ؛ صوناً له عن مَسِّ الشيطان. أو لأنه خرج من بطن أمه مَمْسُوحاً بالدُّهْن.
والثاني : أنّ وزنه مَفْعِل - من السياحة - وعلى هذا تكون الميمُ فيه زائدة ، وعلى هذا كلِّه ، فهو منقول من الصفة.
وقال أبو عمرو بن العلاء : المَسِيح : الملك.
وقال النَّخَعِيُّ : المسيح : الصديق. ويكون المسيح بمعنى : الكذَّاب ، وبه سُمِّي الدجال ، والحرف من الأضداد.
وسمي الدجَّال مَسِيحاً لوجهَيْن.
أحدهما : أنه ممسوح إحدى العينَيْن.
الثاني : أنه يَمْسَح الأرضَ - أي يقطعها - في المدةِ القليلةِ ، قالوا : ولهذا قيل له : دَجَّال ؛ لضَرْبه الأرضَ ، وقَطْعِه أكثر نواحيها. يقال : قد دَجَل الرجلُ - إذا فعل ذلك.
وقيل : سُمِّي دَجَّالاً من دَجَّل الرجل إذا موَّه ولبَّس.
قال أبو عبيدٍ واللَّيْث : أصله - بالعبرانية - مَشِيحَا ، فغُيِّر.
قال أبو حيان : " فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً ، ليس مُشْتَقاً من المَسْح ، ولا من السياحة ".
قال شهاب الدينِ : " قوله : ليس مشتقاً صحيح ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مُرْتَجَلاً ولا بد ، لاحتمال أن يكون في لغتهم مَنْقُولاً من شيء عندهم ".
وعيسى أصله : يسوع ، كما قالوا في موسى : أصله موشى ، أو ميشا - بالعبرانية.
(13/193)
فيكون من الاشتقاق الأوسط لأنه يُشْتَرط فيه وجود الحروف لا ترتيبها ، والأكبر يُشترط فيه أن يكون في الفرع حرفان ، والأصغر يُشْتَرط فيه أن يكون في الفرع حروف الأصل مرتَّبَةً.
وعيسى اسم أعجمي ، فلذلك لم يَنْصَرف - في معرفة ولا نكرة - لأنَّ فيه ألفَ تأنيث ، ويكون مُشْتَقاً من عاسه يعوسه ، إذا سَاسَه وقام عليه.
وأتى الضمير مذكَّراً في قوله : " اسْمُهُ " وإن كان عائداً على الكلمة ؛ مراعاةً للمعنى ؛ إذ المراد بها مذكَّر.
وقيل - في الدَّجّال- : مِسِّيح - بكسر الميم وشد السين ، وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة ، وبعضهم يقوله بفتح الميم والخاء المعجمة - مُخَفَّفاً - والأول هو المشهور ؛ لأنه يمسح الأرض - أي : يطوفها - ويدخل جميعَ بلدانِها إلا مكةَ والمدينةَ وبيتَ المقدسِ ، فهو فعيل بمعنى فاعل. والدَّجَّال يمسح الأرضَ محنة وابنُ مريمَ يمسحها مِنْحَةً. وإن كان سُمِّي مسيحاً ؛ لأنه ممسوح العين فهو فعيل بمعنى مفعول.
قال الشاعر : [ الرجز ]
......................... إذَا الْمَسِيحُ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 222 ـ 225}(13/194)
وقال الآلوسى :
وهذه الأقوال تشعر بأن اللفظ عربي لا عبري ، وكثير من المحققين على الثاني ، واختاره أبو عبيدة ، وعليه لا اشتقاق لأنه لا يجري على الحقيقة في الأسماء الأعجمية ، وفي "الكشف" أن الظاهر فيه الاشتقاق لأنه عربي دخل عليه خواص كلامهم جعل لقب تشريف له عليه السلام كالخليل لإبراهيم ، وجعله معرباً ثم إجراؤه مجرى الصفات في إدخال اللام لأنه في كلامهم بمعنى الوصف خلاف الظاهر. ومن الناس من ادعى أن دخول اللام لا ينافي العجمة فإن التوراة والإنجيل والإسكندر لم تسمع إلا مقرونة بها مع أنها أعجمية ، ولعل ذلك لا ينافي أظهرية كون محل النزاع عربياً ، نعم قيل في عيسى : إنه مشتق من العيس وأنه إنما سمي به عليه السلام لأنه كان في لونه عيس أي بياض تعلوه حمرة كما يشير إليه خبر "كأنما خرج من ديماس" إلا أن المعول عليه فيه أنه لا اشتقاق له ، وأن القائل به كالراقم على الماء.
وهذا الخلاف إنما هو في هذا المسيح وأما المسيح الدجال فعربي إجماعاً وسمي به لأنه مسحت إحدى عينيه ، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة ، وفرق النخعي بين لقب روح الله وعدوّه بأن الأول : بفتح الميم والتخفيف ، والثاني : بكسر الميم وتشديد السين كشرير وأنكره غيره وهو المعروف. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 161}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} عبر عن العلم واللقب والوصف بالاسم ، لأن لثلاثتها أثرا في تمييز المسمى. فأما اللقب والعلم فظاهر. وأما الوصف المفيد للنسب فلأن السامعين تعارفوا ذكر اسم الأب في ذكر الأعلام للتمييز وهو المتعارف ، وتذكر الأم في النسب إما للجهل بالأب كقول بعضهم : زياد بن سمية قبل أن يلحق بأبي سفيان في زمن معاوية بن أبي سفيان ، وإما لأن لأمه مفخرا عظيما كقولهم : عمرو ابن هند ، وهو عمرو بن المنذر ملك العرب.(13/195)
والمسيح كلمة عبرانية بمعنى الوصف ، ونقلت إلى العربية بالغلبة على عيسى وقد سمى متنصرة العرب بعض أبنائهم عبد السميح وأصلها مسيح بميم مفتوحة ثم سين مهملة مكسورة مشددة ثم ياء مثناة مكسورة مشددة ثم حاء مهملة ساكنة ونطق به بعض العرب بوزن سكين.
ومعنى مسيح ممسوح بدهن المسحة وهو الزيت المعطر الذي أمر الله موسى أن يتخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهنا لبني إسرائيل ، وصارت كهنة بني إسرائيل يمسحون بمثله من يملكونهم عليهم من عهد شاول الملك ، فصار المسيح عندهم بمعنى الملك : ففي أول سفر صمويل الثاني من كتب العهد القديم قال داود للذي أتاه بتاج شاول الملك المعروف عند العرب بطالوت كيف لم تخف أن تمد يدك لتهلك مسيح الرب.
فيحتمل أن عيسى سمي بهذا الوصف كما يسمون بملك ويحتمل أنه لقب لقبه به اليهود تهكما عليه إذ اتهموه بأنه يحاول أن يصير ملكا على إسرائيل ثم غلب عليه إطلاق هذا الوصف بينهم واشتهر بعد ذلك ، فلذلك سمي به في القرآن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 97}
أسئلة وأجوبة :
السؤال الأول : المسيح : هل هو اسم مشتق ، أو موضوع ؟ .
والجواب : فيه قولان
الأول : قال أبو عبيدة والليث : أصله بالعبرانية مشيحا ، فعربته العرب وغيروا لفظه ، وعيسى : أصله يشوع كما قالوا في موسى : أصله موشى ، أو ميشا بالعبرانية ، وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق.
والقول الثاني : أنه مشتق وعليه الأكثرون ، ثم ذكروا فيه وجوهاً
الأول : قال ابن عباس : إنما سمي عيسى عليه السلام مسيحاً ، لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة ، إلا برىء من مرضه
الثاني : قال أحمد بن يحيى : سمي مسيحاً لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها ، ومنه مساحة أقسام الأرض ، وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال : لعيسى مسيح بالتشديد على المبالغة كما يقال للرجل فسيق وشريب
(13/196)
الثالث : أنه كان مسيحاً ، لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى ، فعلى هذه الأقوال : هو فعيل بمعنى : فاعل ، كرحيم بمعنى : راحم
الرابع : أنه مسح من الأوزار والآثام
والخامس : سمي مسيحاً لأنه ما كان في قدمه خمص ، فكان ممسوح القدمين
والسادس : سمي مسيحاً لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ، ولا يمسح به غيرهم ، ثم قالوا : وهذا الدهن يجوز أن يكون الله تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبياً
السابع : سمي مسيحاً لأنه مسحه جبريل صلى الله عليه وسلم بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له عن مس الشيطان
الثامن : سمي مسيحاً لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن ، وعلى هذه الأقوال يكون المسيح ، بمعنى : الممسوح ، فعيل بمعنى : مفعول.
قال أبو عمرو بن العلاء المسيح : الملك.
وقال النخعي : المسيح الصديق والله أعلم.
ولعلّهما قالا ذلك من جهة كونه مدحاً لا لدلالة اللغة عليه ، وأما المسيح الدجال فإنما سمي مسيحاً لأحد وجهين أحدهما : لأنه ممسوح أحد العينين
والثاني : أنه يمسح الأرض أي : يقطعها في المدة القليلة ، قالوا : ولهذا قيل له : دجال لضربه في الأرض ، وقطعه أكثر نواحيها ، يقال : قد دجل الدجال إذا فعل ذلك ، وقيل : سمي دجالاً من قوله : دجل الرجل إذا موه ولبس.
السؤال الثاني : المسيح كان كاللقب له ، وعيسى كالاسم فلم قدم اللقب على الاسم ؟ .
الجواب : أن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفاً رفيع الدرجة ، مثل الصديق والفاروق فذكره الله تعالى أولاً بلقبه ليفيد علو درجته ، ثم ذكره باسمه الخاص.
السؤال الثالث : لم قال عيسى بن مريم والخطاب مع مريم ؟ .
الجواب : لأن الأنبياء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات ، فلما نسبه الله تعالى إلى الأم دون الأب ، كان ذلك إعلاماً لها بأنه محدث بغير الأب ، فكان ذلك سبباً لزيادة فضله وعلو درجته.(13/197)
السؤال الرابع : الضمير في قوله : اسمه عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير ؟ .
الجواب : لأن المسمى بها مذكر.
السؤال الخامس : لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم ؟ والاسم ليس إلا عيسى ، وأما المسيح فهو لقب ، وأما ابن مريم فهو صفة.
الجواب : الاسم علامة المسمى ومعرف له ، فكأنه قيل : الذي يعرف به هو مجموع هذه الثلاثة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 43 ـ 44}
لطيفة
قال الآلوسى :
اعلم أن لفظ { ابن } في الآية يكتب بغير همزة بناءاً على وقوعه صفة بين علمين إذ القاعدة أنه متى وقع كذلك لم تكتب همزته بل تحذف في الخط تبعاً لحذفها في اللفظ لكثرة استعماله كذلك ومتى تقدمه علم لكن أضيف إلى غير علم كزيد ابن السلطان أو تقدمه غير علم ، وأضيف إلى علم كالسلطان ابن زيد أو وقع بين ما ليسا علمين كزيد العاقل ابن الأمير عمرو كتبت الألف ولم تحذف في الخط في جميع تلك الصور ، والكتاب كثيراً ما يخطئون في ذلك فيحذفون الهمزة منه في الكتابة أينما وقع ، وقد نص على خطئهم في ذلك ابن قتيبة وغيره. ومن هنا قيل : إن الرسم يرجح التبعية ، نعم في كون ذلك مطرداً فيما إذا كان المضاف إليه علم الأم خلاف ، والذي أختاره الحذف أيضاً إذا كان ذلك مشهوراً. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 162}
قوله تعالى : {وَجِيهًا فِي الدنيا والأخرة}
قال ابن عادل :
وقوله : { وَجِيهًا } حال ، وكذلك قوله : { وَمِنَ المُقَرَّبِينَ } وقوله : { وَيُكَلِّمُ } وقوله : { مِّنَ الصالحين } هذه أربعة أحوالٍ انتصبت عن قوله : " بِكَلِمَةٍ ". وإنما ذَكَّر الحالَ ؛ حملاً على المعنى ؛ إذ المعنى المرادُ بها : الولد والمُكَوِّن ، كما ذكَّر الضميرَ في " اسْمُهُ ".(13/198)
فالحال الأولى جِيءَ بها على الأصل - اسماً صريحاً - والباقية في تأويله. والثانيةُ : جار ومجرور ، وأتى بِهَا هكذا ؛ لوقوعها فاصلةً في الكلام ، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً ، لفات مناسبة الفواصل. والثالثة جملة فعليَّة ، وعطف الفعل على الاسم ؛ لتأويلهِ به ، وهو كقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] ، أي : وقَابضات ، ومثله في عطفِ الاسمِ على الفعل ؛ لأنه في تأويله ، قولُ النابغة : [ الطويل ]
1466- فَأَلْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيْرُ عَدُوَّهُ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَحِقُّ الْمَعَابِرَا
وقال الآخر : [ الرجز ]
1467- بَاتَ يُغشِّيها بِغَضَبٍ بَاتِرِ... يَقْصِدُ في أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ
والمعنى : مُبِيراً عدوه ، وقاصداً.
وجاء بالثالثة جملة فعلية ؛ لأنها في رُتْبتها ، إذ الحالُ وَصْفٌ في المعنى ، وقد تقدم أنه إذا اجتمعَ صفات مختلفة في الصراحةِ والتأويل قُدِّم الاسمُ ، ثمَّ الظرفُ - أو عديلهُ - ثم الجملةُ. فكذا فعل هنا ، فقدم الاسم - وهو { وَجِيهًا } - ثم الجار والمجرور ، ثم الفعل ، وأتى به مضارعاً ؛ لدلالته على التجدُّد وقتاً مؤقتاً ، بخلاف الوجاهةِ ، فإنَّ المرادَ ثبوتها واستقرارها ، والاسمُ مُتَكَفِّلٌ بذلِك ، والجار قريبٌ من المفرد ، فلذلك ثَنَّى به ، إذ المقصودُ ثبوتُ تَقْرِيبِهِ.
والتضعيف في " الْمُقَرَّبِينَ " للتعدية ، لا للمبالغةِ ؛ ملا تقدم من أن التضعِيفَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً ، وهذا قد أكسبه مفعولاً - كما ترى - بخلاف : قَطَّعْتُ الأثوابَ ، فإنَّ التعدي حاصل قبل ذلك.
وجيء بالرابعة - بقوله : { مِّنَ الصالحين } مراعاةً للفاصلةِ ، كما تقدم في " الْمُقَرَّبِينَ ".
والمعنى : إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ.(13/199)
ومنع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من " الْمَسِيحِ " أو من " عِيسَى " أو من " ابْن مرْيَمَ " قال : " لأنها أخبارٌ ، والعاملُ فيها الابتداءُ ، أو المبتدأ ، أو هما ، وليس شيءٌ من ذلك يعملُ في الحالِ ".
ومنع أيضاً - كونَهَا حالاً من الهاء في " اسْمُهُ " قال : " للفصل الواقعِ بينهما ، ولعدمِ العاملِ في الحال ".
قال شهابُ الدينِ : " ومذهبهُ - أيضاً - أنَّ الحالَ لا يجيءُ مِنَ المُضَافِ إليهِ ، وهو مرادُهُ بقولِهِ : ولعدم العامل. وجاءت الحالُ من النكرةِ ؛ لتخصُّصِها بالصفة بعدها. وظاهرُ كلام الواحديِّ - فيما نقَلهُ عن الفرَّاء - أنَّها يجوز أن تكون أحوالاً من " عِيسَى " فإنَّه قال : والقرَّاء تسمِّي هذا قَطْعاً ، كأنه قال : عيسى ابن مريم الوجيه ، قطعَ منه التعريف. فظاهرُ هذا يُؤذِنُ بأنَّ { وَجِيهًا } من صفةِ " عِيسَى " في الأصلِ ، فقطع عنه ، والحالُ وصفٌ في المعنى ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 226 ـ 228}
فصل
قال الفخر :
معنى الوجيه : ذو الجاه والشرف والقدر ، يقال : وجه الرجل ، يوجه وجاهة هو وجيه ، إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس والسلطان ، وقال بعض أهل اللغة : الوجيه : هو الكريم ، لأن أشرف أعضاء الإنسان وجهه فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال.
واعلم أن الله تعالى وصف موسى صلى الله عليه وسلم بأنه كان وجيهاً قال الله تعالى : {يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءَاذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً} [ الأحزاب : 69 ] ثم للمفسرين أقوال :
الأول : قال الحسن : كان وجيهاً في الدنيا بسبب النبوة ، وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى(13/200)
والثاني : أنه وجيه عند الله تعالى ، وأما عيسى عليه السلام ، فهو وجيه في الدنيا بسبب أنه يستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص بسبب دعائه ، ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته المحقين ويقبل شفاعتهم فيهم كما يقبل شفاعة أكابر الأنبياء عليهم السلام
والثالث : أنه وجهه في الدنيا بسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه اليهود بها ، ووجيه في الآخرة بسبب كثرة ثوابه وعلو درجته عند الله تعالى.
فإن قيل : كيف كان وجيهاً في الدنيا واليهود عاملوه بما عاملوه ، قلنا : قد ذكرنا أنه تعالى سمى موسى عليه السلام بالوجيه مع أن اليهود طعنوا فيه ، وآذوه إلى أن برأه الله تعالى مما قالوا ، وذلك لم يقدح في وجاهة موسى عليه السلام ، فكذا ههنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 44 ـ 45}
وقال أبو حيان :
{ وجيهاً في الدنيا والآخرة } قال ابن قتيبة : الوجيه ذو الجاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة.
وقال ابن دريد : الوجيه المحب المقبول.
وقال الأخفش : الشريف ذو القدر والجاه.
وقيل : الكريم على من يسأله ، لأنه لا يرده لكرم وجهه.
ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته ، وفي الآخرة بعلو درجته.
وقيل : في بالدنيا بالطاعة ، وفي الآخرة بالشفاعة.
وقيل : في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، وفي الآخرة بالشفاعة.
وقيل : في الدنيا كريماً لا يرد وجهه ، وفي الآخرة في علية المرسلين.
وقال الزمخشرى : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس ، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة.
وقال ابن عطية : وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه ، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 482}
قوله تعالى {وَمِنَ المقربين}
قال البيضاوى :
{ وَمِنَ المقربين } من الله ، وقيل إشارة إلى علو درجته في الجنة أو رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 40}(13/201)
فصل
قال الفخر :
قوله {وَمِنَ المقربين} فيه وجوه
أحدها : أنه تعالى جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم بواسطة هذه الصفة
وثانيها : أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه عليه السلام سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة
وثالثها : أنه ليس كل وجيه في الآخرة يكون مقرباً لأن أهل الجنة على منازل ودرجات ، ولذلك قال تعالى : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة} [ الواقعة : 7 ] إلى قوله {والسابقون السابقون * أُوْلَئِكَ المقربون} [ الواقعة : 10-11 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 45}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
لم يُبَشرها بنصيب لها في الدنيا ولا في الآخرة من حيث الحظوظ ، ولكن بَشَّرها بما أثبت في ذلك من عظيم الآية ، وكونه نبياً لله مؤيَّداً بالمعجزة.
ويقال عرَّفها أن مَنْ وقع في تغليب القدرة ، وانتهى عند حكمه يَلْقَى من عجائب القدرة ما لا عهد به لأحد. ولقد عاشت مريم مدةً بجميل الصيت ، والاشتهار بالعفة ، فشوَّش عليها ظاهر تلك الحال بما كان عند الناس بسبب استحقاق ملام ، ولكن - في التحقيق - ليس كما ظَنَّهُ الأغبياء الذين سكرت أبصارهم من شهود جريان التقدير.
وقيل إنه (.... ) عَرَّفها ذلك بالتدريج والتفصيل ، فأخبرها أن ذلك الولَدَ يعيش حتى يُكَلِّمَ الناس صبيَّا وكهلا ، وأن كيد الأعداء لا يؤثر فيه.
وقيل كهلاً بعد نزوله من السماء.
ويقال ربط على قلبها بما عرَّفها أنه إذا لم ينطق لسانها بذكر براءة سَاحتها يُنْطِقُ اللهُ عيسى عليه السلام بما يكون دلالة على صدقها وجلالتها. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 243}(13/202)
قوله تعالى { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان ذلك قد لا يقتضي خرق العادات قال : {ويكلم الناس} أي من كلمه من جميع هذا النوع ، بأي لسان كان كلمه ، حال كونه {في المهد} قال الحرالي : هو موطن الهدوء والسكون للمتحسس اللطيف الذي يكون بذلك السكون والهدو قوامه - انتهى.
وبشرها بطول حياتها بقوله : {وكهلاً} أي بعد نزوله من السماء في خاتمة اليوم المحمدي ، ويكون كلامه في الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت.
قال الحرالي : والكهولة سن من أسنان أرابيع الإنسان ، وتحقيق حده أنه الربع الثالث الموتر لشفع متقدم سنيه من الصبا والشباب فهو خير عمره ، يكون فيمن عمره ألف شهر - بضع وثمانون سنة - من حد نيف وأربعين إلى بضع وستين ، إذا قسم الأرباع لكل ربع إحدى وعشرون سنة صباً ، وإحدى وعشرون شباباً ، وإحدى وعشرون كهولة ، وإحدى وعشرون شيوخة ، فذلك بضع وثمانون سنة - انتهى.
وهذا تحقيق ما اختلف من كلام أهل اللغة ، وقريب منه قول الإمام أبي منصور عبد الملك بن أحمد الثعالبي في الباب الرابع عشر من كتابه فقه اللغة : ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب ، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين ؛ ويقال : شاب الرجل ، ثم شمط ، ثم شاخ ، ثم كبر - انتهى.
والكهل - قال أهل اللغة - مأخوذ من : اكتهل النبات - إذا تم طوله قبل أن يهيج ، وكلام الفقهاء لا يخالفه ، فإن مبناه العرف ، فالنص على كهولته إشارة لأمه بأنه ممنوع من أعدائه إذا قصدوه ، وتنبيه على أن دعواهم لصلبه كاذبة.
ولما كانت رتبة الصلاح في غاية العظمة قال مشيراً إلى علو مقدارها : {ومن الصالحين} ومعلماً بأنها محيطة بأمره ، شاملة لآخر عمره ، كما كانت مقارنة لأوله. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 89 ـ 90}
فصل
قال الفخر :(13/203)
الواو للعطف على قوله {وَجِيهاً} والتقدير كأنه قال : وجيهاً ومكلماً للناس وهذا عندي ضعيف ، لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا للضرورة ، أو الفائدة والأولى أن يقال تقدير الآية {إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ} الوجيه في الدنيا والآخرة المعدود من المقربين ، وهذا المجموع جملة واحدة ، ثم قال : {وَيُكَلّمُ الناس} فقوله {وَيُكَلّمُ الناس} عطف على قوله {إِنَّ الله يُبَشّرُكِ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 45}
قال ابن عادل :
وأجيب بأن هذا خطأ ؛ لأنه إن أراد العطف على جملة { إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ } فهي جملة اسمية فقد عطف الفعلية على الاسمية ، فوقع فيما فَرَّ منه. وإن أراد العطفَ على " يُبَشِّرُكِ " فهو خطأ ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر - و" يُبَشِّرُكِ " خبر - فيصير التقدير : إن الله يكلم الناسَ في المهدِ ، والصواب ما قالوه من كونه حالاً ، وأن الجملة الحالية إذا كانت فعلاً فهي مقدرة بالاسم ، فجاز العطف. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 130}
فصل
قال الفخر :
في المهد قولان
أحدهما : أنه حجر أمه
والثاني : هو هذا الشيء المعروف الذي هو مضجع الصبي وقت الرضاع ، وكيف كان المراد منه : فإنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد ، ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه أو كان في المهد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 45}
قال ابن عادل :
قوله : { فِي المهد } يجوز فيه وَجْهَان :
أظهرهما : أنه متعلق بمحذوف ؛ على أنه حال من الضمير في { وَيُكَلِّمُ } أي : يكلمهم صَغِيراً ، و" كَهْلاً " على هذا نسق على هذه الحال المؤوَّلة فعلى هذا تكون خمسة أحوال.
والثاني : أنه ظرف لـ " يُكَلِّمُ " كسائر المنفصلات ، و" كَهلاً " على هذا نَسَق على " وَجِيهاً " فعلى هذا يكون خَمْسَةَ أحْوَالٍ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 130}
قوله تعالى {وَكَهْلاً}(13/204)
قال ابن عادل :
و " كَهْلاً " من قولهم : اكتهلت الدوحة ، إذا عَمَّها النُّوْرُ - والمرأة كهلة.
وقال الراغب : " والكهل : مَنْ وَخَطَه الشَّيْبُ ، واكتهل النباتُ : إذا شارف اليُبُوسَةَ مشارفةَ الكهل الشَّيْبَ ".
وأنشد قولَ الأعشى - في وَصْف رَوْضَةٍ بأكمل أحوالها - : [ البسيط ]
1468- يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ... مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
وقد تقدم الكلام في تنقُّل أحوالِ الولدِ من لدُنْ كونهِ في البطن إلى شيخوخته ، عند ذِكْر " غلام ".
وقال بعضهم : " ما دامَ في بطن أمِّه ، فهو جنين ، فإذا وُلِدَ فوليد ، فإذا لم يستتمّ الأسبوع فصديغٌ ؛ وما دام يرضع فهو رضيع ، ثم هو فَطِيمٌ - عند الفِطَام - وإذا لم يرضع ؛ فجَحْوَش ، فإذا دبَّ ونما : فدراج ، فإذا سقطت رواضِعهُ فثَغور ومثغور ، [ فإذا نبتت أسنانهُ بعد السقوط بمُتَّغِر - بالتاء والثاء ] ، فإذا جاوز العشر : فمترعرع ، وناشئ. فإذا رَاهَق الحُلم : فيافع ، ومُراهق. فإذا احتلم فحَزَوَّر. والغلام يُطْلَق عليه في جميع أحواله بعد الولادة ، فإذا اخضر شارُبه ، وسال عذاره : فباقِل ، فإذا صار ذا لِحْيَةٍ : ففتًى وشارخ ، فإذا اكتملت لحيته ؛ فمُجْتَمِع ، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شابّ ، ومن الأربعين إلى ستين كهل " ، ولأهل اللغة عبارات مختلفة في ذلك ، وهذا أشهرها. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 228}
قال القرطبى :
و { المهد } مضجع الصبيّ في رضاعه.
ومهدت الأمر هيأته ووطّأته.
وفي التنزيل { فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ].
وامتهد الشيء ارتفع كما يمتهد سنام البعير.
{ وَكَهْلاً } الكهل بين حال الغلومة وحال الشيخوخة.
وامرأة كهلة.
واكتهلت الروضة إذا عمها النَّوْر.
يقول : يكلم الناس في المهد آية ، ويكلمهم كهلاً بالوحي والرسالة.
(13/205)
وقال أبو العباس : كلمهم في المهد حين برّأ أمَّه فقال : { إِنِّي عَبْدُ الله } [ مريم : 30 ] الآية.
وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزله الله تعالى من السماء أنزله على صورة ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم : { إني عبد الله } كما قال في المهد.
فهاتان آيتان وحجتان.
قال المهدوِي : وفائدة الآية أنه أعلمهم أن عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد ويعيش إلى أن يكلمهم كهلاً ، إذ كانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش.
قال الزجاج : "وكهلاً" بمعنى ويكلم الناس كهلاً.
وقال الفَرّاء والأخفش : هو معطوف على "وجِيهاً".
وقيل : المعنى ويكلم الناس صغيراً وكهلاً.
وروى ابن جُريج عن مجاهد قال : الكهل الحليم.
قال النحاس : هذا لا يُعرف في اللغة ، وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين.
وقال بعضهم : يقال له حَدَث إلى ستّ عشرة سنة.
ثم شابّ إلى اثنتين وثلاثين.
ثم يَكْتهل في ثلاثٍ وثلاثين ؛ قاله الأخفش. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 90 ـ 91}
أسئلة وأجوبة للإمام الفخر :
السؤال الأول : ما الكهل ؟ .
الجواب : الكهل في اللغة ما اجتمع قوته وكمل شبابه ، وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوي وتم قال الأعشى :
يضاحك الشمس منها كوكب شرق.. مؤزر بحميم النبت مكتهل
أراد بالمكتهل المتناهي في الحسن والكمال.
السؤال الثاني : أن تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات ، فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات ، فما الفائدة في ذكره ؟ .
والجواب : من وجوه
الأول : أن المراد منه بيان كونه متقلباً في الأحوال من الصبا إلى الكهولة والتغير على الإله تعالى محال ، والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم : إن عيسى كان إلها
والثاني : المراد منه أن يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة
(13/206)
والثالث : قال أبو مسلم : معناه أنه يكلم حال كونه في المهد ، وحال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز
الرابع : قال الأصم : المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة.
السؤال الثالث : نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثاً وثلاثين سنة وستة أشهر ، وعلى هذا التقدير : فهو ما بلغ الكهولة.
والجواب : من وجهين
الأول : بينا أن الكهل في أصل اللغة عبارة عن الكامل التام ، وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين ، فصح وصفه بكونه كهلاً في هذا الوقت
والثاني : هو قول الحسين بن الفضل البجلي : أن المراد بقوله {وَكَهْلاً} أن يكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ، ويكلم الناس ، ويقتل الدجال ، قال الحسين بن الفضل : وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 45 ـ 46}
وقال السمرقندى :
فإن قيل : ما معنى قوله كهلاً ؟ والكلام من الكهل لا يكون عجباً.
قيل له : المراد منه كلام الحكمة والعبرة.
ويقال : كهلاً بعد نزوله من السماء ، وهو قول الكلبي. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 238}
وقال الماوردى :
فيه قولان :
أحدها : أنه يكلمهم كهلاً بالوحي الذي يأتيه من الله تعالى.
والثاني : أنه يتكلم صغيراً في المهد كلام الكهل في السنّ. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 394}(13/207)
فصل
قال الفخر :
أنكرت النصارى كلام المسيح عليه السلام في المهد ، واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ، ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم ، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والاثنين لا يجوز ، ومتى حدثت الواقعة العجيبة جداً عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغاً حد التواتر ، وإخفاء ما يكون بالغاً إلى حد التواتر ممتنع ، وأيضاً فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء ههنا ممتنعاً لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلها ، ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفاً فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى ، ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجوداً ألبتة.
أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة ، وقالوا : إن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة ، وكان الحاضرون جمعاً قليلين ، فالسامعون لذلك الكلام ، كان جمعاً قليلاً ، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء ، وبتقدير : أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت ، فهم أيضاً قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوماً مخفياً إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأيضاً فليس كل النصارى ينكرون ذلك ، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب : لما قرأ على النجاشي سورة مريم ، قال النجاشي : لا تفاوت بين واقعة عيسى ، وبين المذكور في هذا الكلام بذرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 46 ـ 47}
فصل
قال القرطبى :
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدّثنا عبد الله بن إدريس عن حُصين عن هلال بن يسَاف.(13/208)
قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى وصاحب يوسف وصاحب جريج ، كذا قال : "وصاحب يوسف".
وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لم يتكلم في المهد إلاَّ ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جُريج وصاحب الجَبَّار وبيْنا صبيّ يرضع من أمّه " وذكر الحديث بطوله.
وقد جاء من حديث صُهيب في قصة الأخدود.
"أن امرأة جِيء لها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبيّ".
في غير كتاب مسلم "يرضع فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام يا أمَّه اصبري فإنك على الحق".
وقال الضحاك : تكلم في المهد ستة : شاهد يوسف وصبيّ ماشِطة امرأة فرعون وعيسى ويحيى وصاحب جُريج وصاحب الجَبّار.
ولم يذكر الأخدود ، فأسقط صاحب الأُخدود وبه يكون المتكلمون سبعة.
ولا معارضة بين هذا وبين قوله عليه السَّلام.
" لم يتكلم في المهد إلاَّ ثلاثة " بالحصر فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحى إليه في تلك الحال ، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك فأخبر به.
قلت : أما صاحب يوسف فيأتي الكلام فيه ، وأما صاحب جُريج وصاحب الجَبّار وصاحب الأُخدودِ ففي "صحيح مسلم".
وستأتي قصة الأخدود في سورة "البروج" إن شاء الله تعالى.
وأما صبيّ ماشطةِ ( امرأة ) فرعون ، فذكر البيهقيّ عن ابن عباس قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لما أسِري بي سِرْت في رائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة قالوا ماشطة ابنة فرعون وأولادها سقط مشطها من يديها فقالت : بسم الله فقالت ابنة فرعون : أبي ؟ قالت : ربّي وربُّكِ وربُّ أبيك قالت أوَ لكِ ربّ غير أبي ؟ قالت : نعم ربّي وربّكِ وربّ أبيك اللَّهُ قال فدعاها فرعون فقال : ألكِ ربّ غيري ؟ قالت : نعم ربّي وربّكَ الله قال فأمر بنُقرة من نُحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها قالت : إن لي إليك حاجةً قال : ما هي ؟ قالت : تجمع عظامي وعظامَ ولدي في موضع واحد قال : ذاك لكِ لما لكِ علينا من الحق.
(13/209)
فأمر بهم فألقوا واحداً بعد واحد حتى بلغ رضيعاً فيهم فقال قَعِي يا أمّه ولا تقاعسِي فإنا على الحق " قال وتكلم أربعة وهم صغار : هذا وشاهد يوسف وصاحب جُريج وعيسى ابن مريم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 91 ـ 92}
قوله تعالى : {وَمِنَ الصالحين }
سؤال : فإن قيل : كون عيسى كلمة من الله تعالى ، وكونه {وَجِيهًا فِي الدنيا والأخرة} وكونه من المقربين عند الله تعالى ، وكونه مكلماً للناس في المهد ، وفي الكهولة كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحاً فلم ختم الله تعالى أوصاف عيسى بقوله {وَمِنَ الصالحين} ؟ .
قلنا : إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على النهج الأصلح ، والطريق الأكمل ، ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب ، وفي أفعال الجوارح ، فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 47}
وقال الطبرى :
وأما قوله : "ومن الصالحين" ، فإنه يعني : من عِدَادهم وأوليائهم ، لأنّ أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 419}(13/210)
من فوائد الآلوسى فى الآية
{ وَيُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً } عطف على الحال الأولى أيضاً وعطف الفعل على الاسم لتأويله به سائغ شائع وهو في القرآن كثير والظرف حال من الضمير المستكن في الفعل ولم يجعل ظرفاً لغواً متعلقاً به مع صحته لعطف { وَكَهْلاً } عليه ، والمراد يكلمهم حال كونه طفلاً وكهلاً ، والمقصود التسوية بين الكلام في حال الطفولية وحال الكهولة ، وإلا فالكلام في الثاني ليس مما يختص به عليه السلام وليس فيه غرابة ، وعلى هذا فالمجموع حال لا كل على الاستقلال ، وقيل : إن كلاً منهما حال ، والثاني : تبشير ببلوغ سن الكهولة وتحديد لعمره ، والمهد مقر الصبي في رضاعه وأصله مصدر سمي به وكان كلامه في المهد ساعة واحدة بما قص الله تعالى لنا ، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام قاله ابن عباس ، وقيل : كان يتكلم دائماً وكان كلامه فيه تأسيساً لنبوته وإرهاصاً لها على ما ذهب إليه ابن الأخشيد وعليه يكون قوله : { وَجَعَلَنِى نَبِيّاً } [ مريم : 30 ] إخباراً عما يؤول إليه ، وقال الجبائي : إنه سبحانه أكمل عقله عليه السلام إذ ذاك وأوحى إليه بما تكلم به مقروناً بالنبوة ، وجوز أيضاً أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها وبراءة ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها ، والقول : بأنه معجزة لها بعيد وإن قلنا بنبوتها وزعمت النصارى أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد ولم ينطق ببراءة أمه صغيراً بل أقام ثلاثين سنة واليهود تقذف أمه بيوسف النجار وهذا من أكبر فضائحهم الصادحة برد ما هم عليه من دعوى الألوهية له عليه السلام وكذا تنقله في الأطوار المختلفة المتنافية لأن من هذا شأنه بمعزل عن الألوهية ، واعترضوا بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور فلو كان لنقل ولو نقل لكان النصارى أولى الناس بمعرفته ، وأجيب بأن الحاضرين إذ ذاك لم يبلغوا مبلغ التواتر ، ولما نقلوا كذبوا فسكتوا ، وبقي الأمر مكتوماً إلى أن نطق القرآن به ، وهذا قريب على قول ابن عباس :(13/211)
إنه لم يتكلم إلا ساعة من نهار وعلى القول الآخر وهو أنه بقي يتكلم يقال : إن الناس اشتغلوا بعد بنقل ما هو أعجب من ذلك من أحواله كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عن الغيوب والخلق من الطين كهيئة الطير حتى لم يذكر التكلم منهم إلا النزر ولا زال الأمر بقلة حتى لم يبق مخبر عن ذلك وبقي مكتوماً إلى أن أظهره القرآن.
وبعد هذا كله لك أن تقول لا نسلم إجماع النصارى على عدم تكلمه في المهد ، وظاهر الأخبار ، وقد تقدم بعضها يشير إلى أن بعضهم قائل بذلك ، وبفرض إجماعهم نهاية ما يلزم الاستبعاد وهو بعد إخبار الصادق لا يسمن ولا يغني من جوع عند من رسخ إيمانه.(13/212)
وقوي إيقانه ، وكم أجمع أهل الكتابين على أشياء نطق القرآن الحق بخلافها والحق أحق بالاتباع ، ولعل مرامهم من ذلك أن يطفئوا نور الله بأفواههم { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [ التوبة : 32 ] والكهل ما بين الشاب والشيخ ، ومنه اكتهل النبت إذا طال وقوي ، وقد ذكر غير واحد أن ابن آدم ما دام في الرحم فهو جنين ، فإذا ولد فهو وليد ؛ ثم ما دام يرضع فهو رضيع ، ثم إذا قطع اللبن فهو فطيم ، ثم إذا دب ونما فهو دارج ، فإذا بلغ خمسة أشبار فهو خماسي ، فإذا سقطت رواضعه فهو مثغور ، فإذا نبتت أسنانه فهو مثغر بالتاء والثاء كما قال أبو عمرو فإذا قارب عشر سنين أو جاوزها فهو مترعرع وناشىء ؛ فإذا كان يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق ، فإذا احتلم واجتمعت قوته فهو حزور ، واسمه في جميع هذه الأحوال غلام فإذا اخضر شاربه وأخذ عذاره يسيل قيل : قد بقل وجهه ، فإذا صار ذا فتاء فهو فتى وشارخ ، فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه فهو مجتمع ، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب ، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين. ويقال لمن لاحت فيه أمارات الكبر وخطه الشيب ، ثم يقال شاب ، ثم شمط ، ثم شاخ ، ثم كبر ، ثم هرم ، ثم دلف ، ثم خرف ، ثم اهتر ، ومحاظله إذا مات وهذا الترتيب إنما هو في الذكور وأما في الإناث فيقال للأنثى ما دامت صغيرة : طفلة ، ثم وليدة إذا تحركت ، ثم كاعب إذا كعب ثديها ثم ناهد ، ثم معصر إذا أدركت ، ثم عانس إذا ارتفعت عن حد الإعصار ، ثم خود إذا توسطت الشباب ، ثم مسلف إذا جاوزت الأربعين ، ثم نصف إذا كانت بين الشباب والتعجيز ، ثم شهلة كهلة إذا وجدت من الكبر وفيها بقية وجلد ثم شهربة إذا عجزت وفيها تماسك ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة العقل ، ثم قلعم ولطلط إذا انحنى قدّها وسقطت أسنانها.(13/213)
وعلى ما ذكر في سن الكهولة يراد بتكليمه عليه السلام كهلاً تكليمه لهم كذلك بعد نزوله من السماء وبلوغه ذلك السن بناءاً على ما ذهب إليه سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وغيرهما "أنه عليه السلام رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وأنه سينزل إلى الأرض ويبقى حياً فيها أربعاً وعشرين سنة" كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : قد كلمهم عيسى في المهد وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذٍ كهل { وَمِنَ الصالحين } أي ومعدوداً في عدادهم وهو معطوف على الأحوال السابقة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 163 ـ 164}(13/214)
قوله تعالى { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت رتبة الصلاح في غاية العظمة قال مشيراً إلى علو مقدارها : {ومن الصالحين} ومعلماً بأنها محيطة بأمره ، شاملة لآخر عمره ، كما كانت مقارنة لأوله ، وكأنها لما سمعت ذلك امتلأت تعجباً فاستخفها ذلك إلى الاستعجال بالسؤال قبل إكمال المقال بأن {قالت رب} أيها المحسن إلى {أنّى} أي من أين وكيف {يكون لي} ولما كان استبعادها لمطلق الحبل ، لا بقيد كونه ذكراً كما في قصة زكريا عليه السلام قالت {ولد} وقالت : {ولم يمسسني بشر} لفهمها ذلك من نسبته إليها فقط.
قال الحرالي : والبشر هو اسم المشهود من الآدمي في جملته بمنزلة الوجه في أعلى قامته ، من معنى البشرة ، وهو ظاهر لاجلد انتهى ( ولعل هذا الكلام خطر لها ولم تلفظ به فعلم الملك عليه السلام أنه شغل فكرها فأجابها عنه لتفريغ الفهم بأن {قال كذلك} أي مثل هذا الفعل العظيم الشأن العالم الرتبة يكون ما بشرتك به ) ولما كان استبعادها لمطلق التكوين من غير سبب أصلاً عبر في تعليل ذلك بالخلق فقال : {الله} أي الملك الأعظم الذي لا اعتراض عليه {يخلق} أي يقدر ويصنع ويخترع {ما يشاء} فعبر بالخلق إشارة إلى أن العجب فيه لا في مطلق الفعل كما في يحيى عليه السلام من جعل الشيخ كالشاب ، ثم علل ذلك بما بين سهولته فقال : {إذا قضى أمراً} أي جل أو قل {فإنما يقول له كن فيكون} بياناً للكلمة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 90}
فصل
قال الفخر :(13/215)
قال المفسرون : إنها إنما قالت ذلك لأن التبشير به يقتضي التعجب مما وقع على خلاف العادة وقد قررنا مثله في قصة زكريا عليه السلام ، وقوله {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} تقدم تفسيره في سورة البقرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 47}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { قَالَتْ رَبِّ } أي يا سَيّدي. (1)
تخاطب جبريل عليه السَّلام ؛ لأنه لما تمثل لها قال لها : إنما أنا رسولُ رَبِّك ليَهب لكِ غلاماً زكياً.
فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد فقالت : أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ أي بنكاح.
( في سورتها ) { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [ مريم : 20 ] ذكرت هذا تأكيداً ؛ لأن قولها { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } يشمل الحرام والحلال.
تقول : العادة الجارية التي أجراها الله في خلقه أن الولد لا يكون إلاَّ عن نكاح أو سِفاح.
وقيل : ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئاً ، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد : أمِن قِبل زوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء ؟ فرُوي أن جبريل عليه السَّلام حين قال لها : { كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 21 ].
نفخ في جَيب درعها وكُمّها ؛ قاله ابن جُريج.
_____________
(1) قول فى غاية البعد وعدول عن الظاهر بغير دليل والأصل أن كلمة ربى لا تطلق على غير الله إلا مع وجود القرينة وهى مفقودة هنا ويؤخذ على الإمام القرطبى ـ رحمه الله ـ أنه اقتصر على ذكر هذا الوجه فقط كأنه اختاره ورجحه بينما ذكر غيره الوجهين والفريق الثالث قال : إن المراد من قولها {قالت رب} رب العالمين
وهذا الكلام شبيه بكلام بعض المفسرين الذين قالوا أن المراد بكلمة {ربى} فى قوله تعالى فى سورة يوسف {إنه ربى أحسن مثواى} المراد به العزيز وسيأتى الرد على ذلك فى موضعه إن شاء الله.
ورحم الله الإمام الزمخشرى فقد قال فى هذا الموضع : ومن بدع التفاسير أن قولها : رب نداء لجبريل عليه السلام بمعنى يا سيدي. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 391}(13/216)
قال ابن عباس : أخذ جبريل رُدْن قميصها بأصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى.
وقيل غير ذلك على ما يأتي بيانه في سورتها إن شاء الله تعالى.
وقال بعضهم : وقع نفخ جبريل في رحمها فعلِقت بذلك.
وقال بعضهم : لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الإنس ، ولكن سبب ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأخذ الميثاق من ذُرِّيته فجعل بعض الماء في أصلاب الآباء وبعضه في أرحام الأمّهات فإذا اجتمع الماءان صارا ولداً ، وأن الله تعالى جعل الماءين جميعاً في مريم بعضه في رِحمها وبعضه في صُلبها ، فنفخ فيه جبريل لتهيج شهوتها ؛ لأن المرأة ما لم تَهِج شهوتها لا تحبل ، فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء الذي كان في صُلبها في رَحِمها فاختلط الماءان فعلِقت بذلك ؛ فذلك قوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً } يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }.
وقد تقدّم في "البقرة" القول فيه مستوفى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 92 ـ 93}(13/217)
وقال الآلوسى :
{ قَالَتْ } استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا كان منها حين قالت لها الملائكة ذلك ؟ فقيل : { قَالَتْ رَبّ أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ } يحتمل أن يكون الاستفهام مجازياً والمراد التعجب من ذلك والاستبعاد العادي ، ويحتمل أن يكون حقيقياً على معنى أنه يكون بتزوج أو غيره ، وقيل : يحتمل أن يكون استفهاماً عن أنه من أي شخص يكون ، وإعراب هذه الجملة على نحو إعراب الجملة السابقة في قصة زكريا عليه السلام { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } جملة حالية محققة لما مر ومقوية له ، والمسيس هنا كناية عن الوطء وهذا نفي عام للتزوج وغيره ، والبشر يطلق على الواحد والجمع ، والتنكير للعموم ، والمراد عموم النفي لا نفي العموم ، وسمي بشراً لظهور بشرته أو لأن الله تعالى باشر أباه وخلقه بيديه.
{ قَالَ } استئناف كسابقه ، والفاعل ضمير الرب والملك حكى لها المقول وهو قوله سبحانه : { كذلك الله يَخْلُقُ } إما بلا تغيير فيكون فيه التفات ، وإما بتغيير ، وقيل : إن الله تعالى قال لها ذلك بلا واسطة ملك ، والأول : مبني على أنه تعالى لم يكلم غير الأنبياء بل غير خاصتهم عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : القائل جبريل عليه السلام وليس على سبيل الحكاية والقرينة عليه ذكر الملائكة عليهم السلام قبله ، وحمل { قَالَتْ رَبّ } فيما تقدم على ذلك أبعد بعيد ، وقد مر عليك الكلام في مثل هذه الجملة خلا أن التعبير هنا بيخلق وهناك بيفعل لاختلاف القصتين في الغرابة فإن الثانية : أغرب فالخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بها ولهذا عقبه ببيان كيفيته فقال سبحانه : { إِذَا قَضَى أَمْرًا } أي أراد شيئاً فالأمر واحد الأمور ، والقضاء في الأصل الأحكام ، وأطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بإيجاد المعدوم وإعدام الموجود وسميت بذلك لإيجابها ما تعلقت به ألبتة ويطلق على الأمر ، ومنه { وقضى رَبُّكَ } [ الإسراء : 23 ].(13/218)
{ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي فهو يكون أي يحدث وهذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع ، وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة ، فالممثل الشيء المكون بسرعة من غير عمل وآلة ، والممثل به أمر الآمر المطاع لمأمور به مطيع على الفور ، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه. وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة بأن يراد تعلق الكلام النفسي بالشيء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه ، وعلى كلا التقديرين المراد من هذا الجواب بيان أن الله تعالى لا يعجزه أن يخلق ولداً بلا أب لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الإرادة والقدرة كيف لا وكثيراً ما نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كحدوث الفأر عن المدر والحيات عن الشعر المتعفن والعقارب عن البادورج والذباب عن الباقلاء إلى غير ذلك غايته الاستبعاد ، وهو لا يوجب ظناً فضلاً عن علم ، وبعد إخبار الصادق عن وجود ذلك الممكن يجب القطع بصحته ، والقول : بأن المادة فيما عد ونحوه موجودة وبعد وجودها لا ريب في الإمكان دون ما نحن فيه لأن مادة الآدمي منيان وليس هناك إلا مني واحد أو لا مني أصلاً فكيف يمكن الخلق ليس بشيء ، أما على مذهبنا فلأن الإيجاد لا يتوقف على سبق المادة وإلا لتسلسل الأمر ، وأما على مذهب المنكرين فيجوز أن يكون مني الأنثى بنفسه أو بما ينضم إليه مما لا يعلمه إلا الله تعالى بحالة يصلح أن يكون مادة ، وقصارى ما يلزم من ذلك الاستبعاد وهو لا يجدي نفعاً في أمثال هذه المقامات ، ويجوز أيضاً أن يقيم الله تعالى غير المني مقام المني ، وأي محال يلزم من ذلك ألا ترى كيف أقيم التراب مقام المني في أصل النوع ودعوى أن الإقامة مشروطة بكون ذلك الغير خارج الرحم ، وأما الإقامة في الرحم فمما لا إمكان لها غير بينة ولا مبينة بل العقل لا يفرق بين الأمرين في الإمكان وإنما يفرق بينهما في(13/219)
موافقة العادة وعدمها وهو أمر وراء ما نحن فيه.
ومن الناس من بين هذا المطلب بأن التخيلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث كتصور حضور المنافي للغضب وكتصور السقوط بحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلافه لو كان على قرار من الأرض وقد جعلت الفلاسفة هذا كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات فما المانع أن يقال : إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها لأن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد النتهى. وليس بشيء لأنه يعود بالنقص لحضرة البتول وأنها لتنزه ساحتها عن مثل هذا التخيل كما لا يخفى ، وفي جواب هذه الطاهرة ليوسف النجار ما يؤيد ما قلناه ، فقد أخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن وهب أنه قال : لما استقر حمل مريم وبشرها جبريل وثقت بكرامة الله تعالى واطمأنت وطابت نفساً ، وأول من اطلع على حملها ابن خال لها يقال له يوسف ، واهتم لذلك وأحزنه وخشي البلية منه لأنه كان يخدمها فلما رأى تغير لونها وكبر بطنها عظم عليه ذلك فقال معرضاً لها : هل يكون زرع من غير بذر ؟ ا قالت : نعم قال : وكيف يكون ذلك قالت : إن الله تعالى خلق البذر الأول من غير نبات وأنبت الزرع الأول من غير بذر ، ولعلك تقول : لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر ؟ ولعلك تقول : لولا أن استعان الله تعالى عليه بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته ؟ قال يوسف : أعوذ بالله أن أقول ذلك قد صدقت وقلت بالنور والحكم ، وكما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر أن يجعل زرعاً من غير بذر فأخبريني هل ينبت الشجر من غير ماء ولا مطر ؟ قالت : ألم تعلم أن للبذر والماء والمطر والشجر خالقاً واحداً فلعلك تقول : لولا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر ؟ قال أعوذ بالله تعالى أن أقول ذلك قد صدقت فأخبريني خبرك قالت : بشرني الله تعالى بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم إلى قوله تعالى : { وَمِنَ الصالحين(13/220)
} [ آل عمران : 46 ] فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله تعالى لسبب خير أراده بمريم فسكت عنها فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق فنوديت أن اخرجي من المحراب فخرجت. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 164 ـ 166}
وقال ابن عاشور :
قوله : { قالت رب } جملة معترضة ، من كلامها ، بين كلام الملائكة.
والنداء للتحسر وليس للخطاب : لأنّ الذي كلمها هو الملك ، وهي قد توجهت إلى الله.
والاستفهام في قولها { أنى يكون لي ولد } للإنكار والتعجّب ولذلك أجيب جوابين أحدهما كذلك الله يخلق ما يشاء فهو لرفع إنكارها ، والثاني إذا قضى أمراً إلخ لرفع تعجّبها.
وجملة { قال كذلك الله يخلق } إلخ جواب استفهامها ولم تعطف لأنّها جاءت على طريقة المحاورات كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها ومابعدها } في سورة البقرة ( 30 ) والقائل لها هو الله تعالى بطريق الوحي.
واسم الإشارة في قوله : كذلك } راجع إلى معنى المذكور في قوله : { إن الله يبشرك بكلمة منه إلى قوله وكهلا } [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي مثل ذلك الخلق المذكور يخلق الله ما يشاء.
وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله : { الله يخلق } لإفادة تقوى الحكم وتحقيق الخبر.
وعبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يَخْلق : لأنّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله ، فهو خلْق أنُفٌ غيرُ ناشىء عن أسباب إيجاد الناس ، فكان لفعل يخلُق هنا موقعٌ متعين ، فإنّ الصانع إذا صنع شيئاً من موادّ معتادة وصنعة معتادة ، لا يقول خلَقْت وإنما يقول صَنَعت. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 99}(13/221)
وقال الطبرى فى معنى الآية :
يعني بذلك جل ثناؤه ، قالت مريم إذ قالت لها الملائكة أنّ الله يبشرك بكلمة منه : "ربِّ أنَّى يكون لي ولد" ، من أيِّ وجه يكون لي ولد ؟ أمِن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه ، أمْ تبتدئ فيَّ خلقه من غير بعل ولا فحل ، ومن غير أن يمسَّني بشر ؟ فقال الله لها "كذلك الله يخلق ما يشاء" ، يعني : هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر ، فيجعله آيةً للناس وعبرة ، فإنه يخلق ما يشاء ويصنعُ ما يريد ، فيعطي الولد من يشاء من غير فحل ومن فحلٍ ، ويحرِمُ ذلك من يشاءُ من النساء وإن كانت ذات بعلٍ ، لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه ، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئًا ما أراد [خلقه] فيقول له : "كن فيكون" ما شاء ، مما يشاء ، وكيف شاء. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 420 ـ 421}
فائدة
قال ابن الجوزى :
قوله تعالى : { قالت رب أنّى يكون لي ولد } في علة قولها هذا قولان.
أحدهما : أنها قالت هذا تعجباً واستفهاماً ، لا شكاً وإنكاراً ، على ما أشرنا إليه في قصة زكريا ، وعلى هذا الجمهور ، والثاني : أن الذي خاطبها كان جبريل ، وكانت تظنه آدميا يريد بهاً سوءاً ، ولهذا قالت : { أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقياً } [ مريم : 18 ].
فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله ، لأنها لم تعلم أنه ملك ، فلذلك قالت : { أنى يكون لي ولد } قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى : { ولم يمسسني بشر } أي : ولم يقربني زوج.
والمس : الجماع ، قاله ابن فارس.
وسمي البشر بشراً ، لظهورهم ، والبشرة : ظاهر جلد الإنسان ، وأبشرت الأرض : أخرجت نباتها ، وبشرت الأديم : إذا قشرت وجهه ، وتباشير الصبح : أوائله.
قال : يعني جبريل : { كذلكِ الله يخلق ما يشاء } أي : بسبب ، وبغير سبب. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 390}(13/222)
لطيفة
قال ابن عطية :
وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا ، { يخلق } من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة ، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه ، وروي أن عيسى عليه السلام ، ولد لثمانية أشهر (1) فلذلك لا يعيش من يولد من غيره لمثل ذلك. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 437}
وقال ابن كثير :
ولم يقل : "يفعل" كما في قصة زكريا ، بل نص هاهنا على أنه يخلق ؛ لئلا يبقى شبهة ، وأكد ذلك بقوله : { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : فلا يتأخر شيئًا ، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة ، كقوله تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] أي : إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها ، فيكون ذلك الشيء سريعًا كلمح بالبصر. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 44}
لطيفة
قال التسترى :
قوله : { كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ 47 ] قال : إذا كان في علمه السابق الأزلي أمر فأراد إظهاره قال له كن فيكون ، قال القائل شعر : [ من الطويل ]
قضى قبلَ خلقِ ما هو خالقٌ ... خلائقَ لا يَخفى عليه أمورُها
هواها ونجواها ومضمر قلبها ... وقبل الهوى ماذا يكون ضميرُها. أ هـ {تفسير السعدى صـ 76}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { قَالَت رَبِّ أنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ }.
كما شاهدت ظهور أشياء ناقضة للعادة في رزقنا فكذلك ننقض العادة في خلق ولدٍ من غير مسيس بشر.
قوله جلّ ذكره : { إِذَا قَضَى أَمْرًا }.
أي أراد إمضاء حُكْم.
{ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }.
فلا يتعسر عليه إبداء ولا إنشاء.
ولمَا بسطوا فيها لسان الملامة أنطق الله عيسى عليه السلام وهو ابن يومٍ حتى قال :
{ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ }. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 244}
________________
(1) هذه الرواية تفتقر إلى سند صحيح. والله أعلم.(13/223)
قوله تعالى { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
فلما أجابها عما شغل قلبها من العجب فتفرغ الفهم أخذ في إكمال المقال بقوله عطفاً علي {ويكلم الناس} بالياء كما قبله في قراءة نافع وعاصم ، وبالنون في قراءة الباقين نظراً إلى العظمة إظهاراً لعظمة العلم : {ويعلمه} أو يكون مستأنفاً فيعطف على ما تقديره : فنخلقه كذلك ونعلمه {الكتاب} أي الكتابة أو جنس الكتاب فيشمل ذلك معرفة الكتاب وحفظه وفهمه وغير ذلك من أمره {والحكمة} أي العلوم الإلهية لتفيده تهذيب الأخلاق فيفيض عليه قول الحق وفعله على أحكم الوجوه بحيث لا يقدر أحد على نقض شيء مما يبرمه.
ولما وصفه بالعلوم النظرية والعملية فصار متأهلاً لأسرار الكتب الإلهية قال : {والتوراة} أي التي تعرفينها {والإنجيل} بإنزاله عليه تالياً لهما ، وتأخيره في الذكر الشرط فيقتضي اتصاف كل مقضي بهذه الأوصاف كلها. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 90}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : { وَيُعَلِّمُهُ الكتاب } قرأ نافع وعاصم ويعقوب { وَيُعَلِّمُهُ } - بياء الغيبة - والباقون بنون المتكلم المعظم نفسه ، وعلى كلتا القراءتين ففي محل هذه الجملة أوجهٌ :
أحدها : أنها معطوفة على " يُبَشِّرُكِ " أي : أن الله يبشركِ بكلمةٍ ويعلم ذلك المولود المُعَبَّر عنه بالكلمة.
الثاني : أنها معطوفة على " يَخْلُقُ " أي : كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه. وإلى هذين الوجهين ، ذهب جماعة منهم الزمخشريُّ وأبو علي الفارسيّ ، وهذان الوجهان ظاهران على قراءة الياء ، وأما قراءة النون ، فلا يظهر هذان الوجهان عليها إلا بتأويل الالتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم ، إيذاناً بالفخامة والتعظيم.(13/224)
فأما عطفه على " يُبَشِّرُكِ " فقد استبعده أبو حيَّانَ جِدًّا ، قال : " لطول الفصل بين المعطوف ، والمعطوف عليه " ، وأما عطفه على " يَخْلُقُ " فقال : " هو معطوف عليه سواء كانت - يعني " يَخْلُقُ " خبراً عن الله أم تفسيراص لما قبلها ، إذا أعربت لفظ " اللهُ " مبتدأ ، وما قبله خبر ".
يعني أنه تقدم في إعراب { كَذَلِكَ الله } في قصة زكريا أوجهٍ :
أحدها ما ذكره - ف " يُعَلِّمُهُ " معطوف على " يخلُقُ " بالاعتبارين [ المذكورين ] ؛ إذْ لا مَانِعَ من ذلك ، وعلى هذا الذي ذكره أبو حيّان وغيره ، تكون الجملة الشرطية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والجملة من " نُعَلِّمُهُ " - في الوجهين المتقدمين - مرفوعة المحل ، لرفع محل ما عُطِفَتْ عليه.
الثالث : أن يعطف على " يُكَلِّمُ " فيكون منصوباً على الحال ، والتقدير : يُبَشِّرُكَ بكلمة مُكَلِّماً ومُعلِّماً الكتاب ، وهذا الوجه جوزه ابنُ عَطِيَّةَ وغيره.
الرابع : أن يكون معطوفاً على " وَجِيهاً " ؛ لأنه في تأويل اسم منصوبٍ على الحال ، وهذا الوجه جوَّزه الزمخشريُّ.
واستبعد أبو حيّان هذين الوجهين الأخيرين - أعني الثالث والرابع - قال : " الطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثلُه في لسان العرب ".
الخامس : أن يكون معطوفاً على الجملة المحكية بالقول : - وهي { كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ }.
قال أبو حيّان : " وعلى كلتا القراءتين هي معطوفة على الجملة المقولة ؛ وذلك أن الضمير في ( قال كذلك ) لله - تعالى - والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ ( الله ) مبتدأ خبره ما قبله ، أم مبتدأ ، وخبره " يَخْلُقُ " - على ما مر إعرابه في { قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } - فيكون هذا من القول لمريم على سبيل الاغتباط ، والتبشير بهذا الولد ، الذي أوجده اللهُ منها ".
السادس : أن يكون مستأنفاً ، لا محلَّ له من الإعراب.(13/225)
قال الزَّمَخْشريُّ - بعد أن ذكر فيه أنه يجوز أن يكون معطوفاً على " يُبَشِّرُكِ " أو يخلق أو " وَجِيهاً " - : " أو هو كلام مبتدأ " يعني مستأنفاً.
قال أبو حيّان : " فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله ، أو من الله - على اختلاف القراءتين - فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في وتعلمه ، فحينئذٍ يَسِحُّ أن يكون ابتداءَ كلامٍ ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عُطِف عليه ابتداء كلام ، حتى يكون المعطوف كذلك ".
قال شهاب الدين : " وهذا الاعتراض غير لازم ؛ لأنه لا يلزم من جعله كلاماً مستأنفاً أن يُدَّعَى زيادة الواو ، ولا أنه لا بد من معطوف عليه ؛ لأن النحويين ، وأهل البيان نَصُّوا على أن الواوَ تكون للاستئناف ، بدليل أن الشعراء يأتُون بها في أوائل أشعارهم ، من غير تقدُّم شيءٍ يكون ما بعدَها معطوفاً عليه ، والأشعار مشحونة بذلك ، ويُسمونها واوَ الاستئناف ، ومَن منع ذلك قدَّر أنّ الشاعرَ عطف كلامه على شيء منويٍّ في نفسه ، ولكن الأول أشهر القولين ".
وقال الطبريُّ : قراءة الياء عطف على قوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } ، وقراءة النون ، عطف على قوله : { نُوحِيهِ إلَيْكَ }.
قال ابن عطيةَ : " وهذا الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى ". ولم يبين أبو محمد وجه إفساد المعنى.(13/226)
قال أبو حيّان : " أما قراءةُ النون ، فظاهر فساد عطفه على " نُوحِيهِ " من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان الْعَرَبِ ؛ لبُعْدِ الفَصْل المُفْرِط ، وتعقيد التركيب وتنافي الكلامِ ، وأما من حيث المعنى فإنَّ المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه في المعنى ، فيصير المعنى بقوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } ، أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمرانَ وولادتها لمريم ، وَكَفَالَةِ زكريا ، وقصته في ولادة يحيى ، وتبشير الملائكة لمريمَ بالاصطفاء والتطهير كل ذلك من أخبار الغيب - نعلمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم [ معناه ] مع معنى ما قبله.
أما قراءة الياء وعطف " وَيُعَلِّمُهُ " على " يَخْلُقُ " فليست مُفْسِدَةً للمعنى ، بل هو أوْلَى وأصَحّ ما يحمل عطف " وَيُعَلِّمُهُ " لقُرب لفظه وصحة معناه - وقد ذكرنا جوازَه قبل - ويكون الله أخبر مريم بأنه - تعالى - يخلق الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادة بِمثلِهَا ، مثلما خلق لك ولداً من غير أبٍ ، وأنه - تعالى - يُعَلِّمُ هذا الولَد الذي يخلقه لك ما لم يُعَلِّمْه مَنْ قَبْلَه من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشيرٍ لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس - من بني إسرائيل - بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه - تعالى - من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف وَيُعَلِّمُهُ " اه.
قال أبو البقاء : " يُقْرَأ - نعلمه - بالنون ، حملاً على قوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ } ويقرأ بالياء ؛ حملاً على " يُبَشِّرُكِ " وموضعه حال معطوفة على " وَجِيهاً ".
قال أبو حيّان : وقال بعضهم : " وَنُعَلِّمُهُ " - بالنون - حملاً على " نُوحِيهِ " - إن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح ".(13/227)
قال شهاب الدين : " يتعين أن يعني بقوله : حَمْلاً ؛ الالتفات ليس إلا ، ولا يجوز أن يعني به العطف لقوله : وموضعه حال معطوفة على " وَجِيهاً " وكيف يستقيم أن يُرِيدَ عطفه على " يُبَشِّرُكِ " أو على توجيهه مع حكمه عليه بأنه معطوف على " وَجِيهاً " ؟ هذا ما لا يستقيم أبداً ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 233 ـ 236}
وقال الطبرى :
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مختلفتان ، غير مختلفتي المعاني ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصوابَ في ذلك ، لاتفاق معنى القراءتين ، في أنه خبر عن الله بأنّه يعلم عيسى الكتاب ، وما ذكر أنه يعلمه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 422}
وقال الآلوسى :
{ وَيُعَلّمُهُ الكتاب } عطف على { يُبَشّرُكِ } [ آل عمران : 45 ] أي : إن الله يبشرك بكلمة ويعلم ذلك المولود المعبر عنه بالكلمة الكتاب ولا يرد عليه طول الفصل لأنه اعتراض لا يضر مثله ، أو على { يَخْلُقُ } [ آل عمران : 47 ] أي كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه أو على { يكلم } [ آل عمران : 46 ] فتكون في محل نصب على الحال والتقدير يبشرك بكلمة مكلماً الناس ومعلماً الكتاب أو على { الله وَجِيهاً } [ آل عمران : 45 ] وجوز أن تكون جملة مستأنفة ليست داخلة في حيز قول الملائكة عليهم السلام ، والواو تكون للاستئناف وتقع في ابتداء الكلام كما صرح به النحاة فلا حاجة كما قال الشهاب إلى التأويل بأنها معطوفة على جملة مستأنفة سابقة وهي { إِذْ قَالَتِ } [ آل عمران : 42 ] الخ ولا إلى مقدرة ، ولا إشكال في العطف كما قال التحرير ، وكذا لا يدعي أن الواو زائدة كما قال أبو حيان ، فهذه أوجه من الإعراب مختلفة بالأولوية ، وأغرب ما رأيته ما نقله الطبرسي عن بعضهم أن العطف على جملة { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } [ آل عمران : 44 ] بل لا يكاد يستطيبه من سلم له ذوقه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 166}(13/228)
فصل
قال الفخر :
في هذه الآية أمور أربعة معطوف بعضها على بعض بواو العطف ، والأقرب عندي أن يقال : المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة ، ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة ، ثم بعد أن صار عالماً بالخط والكتابة ، ومحيطاً بالعلوم العقلية والشرعية ، يعلمه التوراة ، وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة ، لأن التوراة كتاب إلهي ، وفيه أسرار عظيمة ، والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث على أسرار الكتب الإلهية ، ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل ، وإنما أخر ذكر الإنجيل عن ذكر التوراة لأن من تعلم الخط ، ثم تعلم علوم الحق ، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله الله تعالى على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله تعالى عليه بعد ذلك كتاباً آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى ، والمرتبة العليا في العلم ، والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية ، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية ، فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 47 ـ 48}(13/229)
قال الآلوسى :
{ الكتاب } مصدر بمعنى الكتابة أي يعلمه الخط باليد قاله ابن عباس وإليه ذهب ابن جريج ، وروي عنه أنه قال : أعطى الله تعالى عيسى عليه السلام تسعة أجزاء من الخط وأعطى سائر الناس جزءاً واحداً ، وذهب أبو علي الجبائي إلى أن المراد بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام سوى التوراة والإنجيل مثل الزبور وغيره ، وذهب كثيرون إلى أن أل فيه للجنس والمراد جنس الكتب الإلهية إلا أن المأثور هو الأول ، والقول بأن المراد بالكتاب الجنس لكن في ضمن فردين هما التوراة والإنجيل ، وتجعل الواو فيما بعد زائدة مقحمة وما بعدها بدلاً أو عطف بيان من الهذيان بمكان. وقرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب وسهل ويعلمه بالياء ، والباقون بالنون قيل : وعلى ذلك لا يحسن بعض تلك الوجوه إلا بتقدير القول أي إن الله يبشرك بعيسى ويقول : نعلمه أو وجيهاً ومقولاً فيه نعلمه الكتاب { والحكمة } أي الفقه وعلم الحلال والحرام قاله ابن عباس وقيل : جميع ما علمه من أمور الدين ، وقيل : سنن الأنبياء عليهم السلام ، وقيل : الصواب في القول والعمل ، وقيل : إتقان العلوم العقلية ، وقد تقدم الكلام على ذلك.
{ والتوراة } أفردا بالذكر على تقدير أن يراد بالكتاب ما يشملهما لوفور فضلهما وسمو شأوهما على غيرهما ، وتعليمه ذلك قيل : بالإلهام ، وقيل : بالوحي ، وقيل : بالتوفيق والهداية للتعلم ، وقد صح أنه عليه السلام لما ترعرع وفي رواية الضحاك عن ابن عباس لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى المعلم لكن الروايات متضافرة أنه جعل يسأل المعلم كلما ذكر له شيئاً عما هو بمعزل عن أن ينبض فيه ببنت شفة ، وذلك يؤيد أن علمه محض موهبة إلهية وعطية ربانية ، وذكر الإنجيل لكونه كان معلوماً عند الأنبياء والعلماء متحققاً لديهم أنه سينزل. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 166}
وقال السمرقندى :
{ الكتاب } يعني كتب الأنبياء.
وهذا قول الكلبي.(13/230)
وقال مقاتل : يعني الخط والكتابة ، فعلّمه الله بالوحي والإلهام.
{ والحكمة } يعني الفقه { والتوراة والإنجيل } يعني يحفظ التوراة عن ظهر قلبه.
وقال بعضهم : وهو عالم بالتوراة.
وقال بعضهم : ألهمه الله بعدما كبر حتى تعلم في مدة يسيرة. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 239}
وقال ابن عطية :
{ الكتاب } هو الخط باليد فهو مصدر كتب يكتب . هذا قول ابن جريج وجماعة المفسرين ، وقال بعضهم : هي إشارة إلى كتاب منزل لم يعين وهذه دعوى لا حجة عليها.
، وأما { الحكمة } ، فهي السنة التي يتكلم بها الأنبياء ، في الشرعيات ، والمواعظ ، ونحو ذلك ، مما لم يوح إليهم في كتاب ولا بملك ، لكنهم يلهمون إليه وتقوى غرائزهم عليه ، وقد عبر بعض العلماء عن { الحكمة } بأنها الإصابة في القول والعمل ، فذكر الله تعالى في هذه الآية أنه يعلم عيسى عليه السلام الحكمة ، والتعليم متمكن فيما كان من الحكمة بوحي أو مأثوراً عمن تقدم عيسى من نبي وعالم ، وأما ما كان من حكمة عيسى الخاصة به فإنما يقال فيها يعلمه على معنى يهيىء غريزته لها ويقدره ويجعله يتمرن في استخراجها ويجري ذهنه إلى ذلك ، و{ التوراة } هي المنزلة على موسى عليه السلام ، ويروى أن عيسى كان يستظهر التوراة وكان أعمل الناس بما فيها ، ويروى أنه لم يحفظها عن ظهر قلب إلا أربعة ، موسى ويوشع بن نون وعزير وعيسى عليهم السلام ، وذكر { الإنجيل } لمريم وهو ينزل - بعد - لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء وأنه سيزل . أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 438}
وقال البيضاوى :
{ الكتاب } الكتبة أو جنس الكتب المنزلة. (1)
وخص الكتابان لفضلهما. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 41}
____________
(1) وما الذى يمنع أن يكون المراد من الكتاب القرآن الكريم ومن الحكمة سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد ورد هذا المعنى فى أكثر من موضع عند اقتران الكتاب بالحكمة ، ويؤيد هذا المعنى أن عيسى ـ عليه السلام ـ سينزل آخر الزمان قبيل الساعة ويقتل الدجال ولن يأتى بشرع جديد وإنما يحكم بشريعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإذا كان الأمر كذلك فلابد له من معرفة الكتاب {القرآن} والحكمة {سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله أعلم بمراد كتابه.(13/231)
قوله تعالى { وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر الكتاب المنزل عليه حسن ذكر الرسالة فقال بعد ما أفاد عظمتها بجعله ما مضى مقدمات لها : {ورسولاً} عطفاً على " تالياً " المقدر ، أو ينصب بتقدير : يجعله {إلى بني إسراءيل} أي بالإنجيل.
ولما كان ذكر الرسالة موجباً لتوقع الآية دلالة على صحتها ، وكان من شأن الرسول مخاطبة المرسل إليهم وإقباله بجميع رسالته عليهم اتبعه ببيان الرسالة مقروناً بحرف التوقع فقال : {أني} أي ذاكراً أني {قد جئتكم بآية من ربكم} أي الذي طال إحسانه إليكم ، ثم أبدل من " آية " {إني أخلق لكم} أي لأجل تربيتكم بصنائع الله {من الطين} قال الحرالي : هو متخمر الماء والتراب حيث يصير متهيئاً لقبول وقع الصورة فيه {كهيئة} وهي كيفية وضع أعضاء الصورة بعضها من بعض التي يدركها ظاهر الحس - انتهى وهي الصورة المتهيئة لما يراد منها {الطير} ثم ذكر احتياجه في إحيائه إلى معالجة بقوله معقباً للتصوير : {فأنفخ} قال الحرالي : من النفخ ، وهو إرسال الهواء من منبعثه بقوة انتهى.(13/232)
{فيه} أي في ذلك الذي هو مثل الهيئة {فيكون طيراً} أي طائراً بالفعل - كما في قراءة نافع ، وذكر المعالجة لئلا يتوهم أنه خالق حقيقة ، ثم أكد ذلك إزالة لجميع الشبه بقوله : {بإذن الله} أي بتمكين الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال ، له روح كامل لحمله في الهواء تذكيراً بخلق آدم عليه السلام من تراب ، وإشارة إلى أن هذا أعجب من خلق آدمي من أنثى فقط فلا تهلكوا في ذلك.
ولما ذكر ما يشبه أمر آدم عليه السلام أتبعه علاج أجساد أولاده بما يردها إلى معتادها بما يعجز أهل زمانه ، وكان الغلب عليهم الطب وبدأ بأجزائها فقال : {وأبرىء} قال الحرالي : من الإبراء وهو تمام التخلص من الداء ، والداء ما يوهن القوى ويغير الأفعال العامة للطبع والاختيار - انتهى.
{الأكمه والأبرص} بإيجاد ما فقد منها من الروح المعنوي ؛ والكمه - قال الحرالي - ذهاب البصر في أصل معناه : تلمع الشيء بلمع خلاف ما هو عليه ، ومنه براص الأرض - لبقع لا نبت فيها ، ومنه البريص في معنى البصيص ، فما تلمع من الجلد على غير حاله فهو لذلك برص وقال الحرالي : البرص عبارة عن سور مزاج يحصل بسببه تكرج ، أي فساد بلغم يضعف القوة المغيرة عن إحالته إلى لون الجسد - انتهى.(13/233)
ولما فرغ من رد الأرواح إلى جزاء الجسم أتبعه رد الروح الكامل في جميعه المحقق لأمر البعث المصور له بإخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة في بعض الآدميين فقال : {وأحي الموتى} أي برد أرواحهم إلى أشباحهم ، بعضهم بالفعل وبعضهم بالقوة ، لأن الذي أقدرني على البعض قادر على ذلك في الكل ، وقد أعطاني قوة ذلك ، وهذا كما نقل القضاعي أن الحسن قال : " أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أنه طرح بنيّة له في وادي كذا ، فمضى معه إلى الوادي وناداها باسمها : يا فلانة! أجيبي بإذن الله سبحانه وتعالى! فخرجت وهي تقول : لبيك وسعديك! فقال لها : إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أردك إليهما ، فقالت : لا حاجة لي بهما ، وجدت الله خيراً لي منهما " وقد تقدم في البقرة عند {أرني كيف تحيي الموتى} [ البقرة : 260 ] ما ينفع هنا ، وقصة قتادة ابن دعامة في رده صلى الله عليه وسلم عينه بعد أن أصابها سهم فسالت على خده ، فصارت أحسن من أختها شهيرة ، وقصة أويس القرني رحمه الله تعالى في إبراه الله سبحانه وتعالى له من البرص ببرّه لأمه كذلك.(13/234)
ولما كان ذلك من أمر الإحياء الذي هو من خواص الإلهية وأبطن آيات الملكوتية ربما أورث لبساً في أمر الإله تبرأ منه ورده إلى من هو له ، مزيلاً للبس وموضحاً للأمر فقال مكرراً لما قدمه في مثله معبراً بما يدل على عظمه : {بإذن الله} أي بعلمه وتمكينه ، ثم أتبعه ما هو من جنسه في الإخراج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فقال : {وأنبئكم} أي من الأخبار الجليلة من عالم الغيب {بما تأكلون} أي مما لم أشاهده ، بل تقطعون بأني كنت غائباً عنه {وما تدخرون} ولما كان مسكن الإنسان أعز البيوت عنده وأخفى لما يريد أن يخفيه قال : {في بيوتكم} قال الحرالي : من الادخار : افتعال من الدخرة ، قلب حرفاه الدال لتوسط الدال بين تطرفهما في متقابلي حالهما ؛ والدخرة ما اعتنى بالتمسك به عدة لما شأنه أن يحتاج إليه فيه ، فما كان لصلاح خاصة الماسك فهو ادخار ، وما كانت لتكسب فيما يكون من القوام فهو احتكار - انتهى.
ولما ذكرهذه الخوارق نبه على أمرها بقوله : {إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآية لكم} أي أيها المشاهدون على أني عبد الله ومصطفاه ، فلا تهلكوا في تكويني من أنثى فقط فتطروني ، فإني لم أعمل شيئاً منها إلا ناسباً له إلى الله سبحانه وتعالى وصانعاً فيه ما يؤذن بالحاجة المنافية للإلهية ولو بالدعاء ، وأفرد كاف الخطاب أولاً لكون ما عده ظاهراً لكل أحد على انفراده أنه آية لجميع المرسل إليهم ، وكذا جمع ثانياً قطعاً لتعنت من قد يقول : إنها لا تدل إلا باجتماع أنظار جميعهم - لو جمع الأول ، وإنها ليست آية لكلهم بل لواحد منهم - لو وحد في الثاني ، ولما كانت الآيات لا تنفع مع المعاندات قال : {إن كنتم مؤمنين} أي مذعنين بأن الله سبحانه وتعالى قادر على ما يريد ، وأهلاً لتصديق ما ينبغي التصديق به. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 90 ـ 93}
فصل
قال الفخر :
في هذه الآية وجوه(13/235)
الأول : تقدير الآية : ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ونبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل ، قائلاً {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ} والحذف حسن إذا لم يفض إلى الاشتباه
الثاني : قال الزجاج : الاختيار عندي أن تقديره : ويكلم الناس رسولاً ، وإنما أضمرنا ذلك لقوله {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} والمعنى : ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم ،
الثالث : قال الأخفش : إن شئت جعلت الواو زائدة ، والتقدير : ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة ، والإنجيل رسولاً إلى بني إسرائيل ، قائلاً : أني قد جئتكم بآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 48}
وقال ابن عادل :
قوله : { وَرَسُولاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن صفة - بمعنى مُرْسَل - على " فَعُول " كالصَّبور والشَّكُور.
والثاني : أنه - في الأصل - مصدر ، ومن مَجِيء " رسول " مصدراً قوله : [ الطويل ]
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ... يِسِرِّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
وقال آخر : [ الوافر ]
ألاَ أبْلِغْ أبَا عَمْرٍو رَسُولاً... بِأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
أي أبلغه رسالة.
ومنه قوله تعالى : " إنَّا رسُولُ رَبِّ العالمين " - على أحد التأويلين - أي : إنا ذوا رسالةِ ربِّ العالمينَ. وعلى الوجهين يترتب الكلامُ في إعراب " رَسُولاً " ، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون معطوفاً على " يُعَلِّمُهُ " - إذا أعربناه حالاً معطوفاً على " وَجِيهاً " - إذ التقدير وجيهاً ومُعَلَّماً ومُرْسَلاً.
قاله الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ.
وقال أبو حيّان : " وقد بيَّنا ضَعْفَ إعرابِ مَنْ يقول : إن " وَيُعَلِّمُهُ " معطوف على " وَجِيهاً " ؛ للفصل المُفْرِط بين المتعاطفَيْن [ وهو مبني على إعراب " ويعلمه " ] ".(13/236)
الثاني : أن يكون نَسَقاً على " كَهْلاً " الذي هو حال من الضمير المستتر في " وَيُكَلِّمُ " ، أي : يكلم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيلَ ، وقد جَوَّز ذلك ابنُ عطيةَ ، واستبعده أبو حيّان ؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.
قال شهاب الدين : " ويظهر أن ذلك لا يجوز - من حيث المعنى - إذْ يصير التقدير : يكلم الناس في حال كونه رسولاً إليهم وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ ".
فإن قيل : هي حَالٌ مُقَدَّرة ، كقولهم : مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً ، وقوله : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ].
وقيل : الأصل في الحال أن تكون مقارنة ، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لَبْسَ.
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مُضْمَرٍ لائقٍ بالمعنى ، تقديره : ويجعله رسولاً ، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملاً يناسب. وهذا كما قالوا في قوله : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] وقوله : [ مجزوء الكامل ]
يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا... مُتَقَلِّداً سيْفاً وَرُمْحَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
فَعَلَفتُهَا تبْناً وَمَاءً بَارِداً...........................
وقول الآخر : [ الوافر ]
............................ وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا
أي : واعتقدوا الإيمانَ ، وحاملاً رُمْحاً ، وسيقتها ماءً بارداً ، وكحَّلْنَ العيون.
وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة.
الرابع : أن يكون منصوباً بإضمار فعل من لفظ " رسول " ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول مُضْمَرٍ - أيضاً - هو من قول عيسى.(13/237)
الخامس : أن الرسول - فيه بمعنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، ويوضِّحُ هذين الوجهين الأخيرين ، ما قاله الزمخشريُّ : " فإن قلت : عَلاَم تَحْمِل " وَرَسُولاً " و" مُصَدِّقاً " من المنصوبات المتقدمة ، وقوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } و{ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يأبى حَمله عليها ؟
قلت : هو من المضايق ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يُضمر له " وأرسَلْت " - على إرادة القول - تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ، ويقول : أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم ، ومصدقاً لما بين يديَّ.
الثاني : أن الرسول والمصدِّق فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، ومصدقاً لما بين يدي ". اه.
إنما احتاج إلى إضمار ذلك كُلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات ، لا يصح عطفه عليه في الظاهر ؛ لأن الضمائر المتقدمة غُيَّب ، والضميرانِ المصاحبانِ لهذين المنصوبين في حُكْم المتكلم ؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير ؛ ليناسب الضمائر.
وقال أبو حيان : " وهذا الوجه ضعيف ؛ إذْ فيه إضمارُ الْقَوْلِ ومعموله - الذي هو أرسلت - والاستغناء عنهما باسمِ منصوبٍ على الحال المؤكِّدة ، إذْ يُفْهَم من قوله : وأرسلت ، أنه رسول ، فهي - على هذا - حال مؤكِّدة ".
واختار أبو حيّان الوجه الثالث ، قال : " إذْ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى - ويكون قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } معمولاً لـ " رَسُولاً " أي : ناطقاً بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور ".
الثالث : أن يكون حالاً من مفعول " وَيًعَلِّمُهُ " وذلك على زيادة الواو - كأنه قيل : ويعلمه الكتاب ، حال كونه رسولاً. قاله الأخفشُ ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو ، وهو مذهب مَرْجُوحٌ.
وعلى الثاني وهو كون " الرسول " مصدراً كالرسالة في نصبه وجهان :(13/238)
أحدهما : أنه مفعول به - عطفاً على المفعول الثاني لِ " يُعَلِّمُهُ " - أي : ويعلمه الكتاب والرسالة معاً ، أي : يعلمه الرسالة أيضاً.
الثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، وفيه التأويلات المشهورة في : رَجُلٌ عَدْل.
وقرأ اليزيديُّ " وَرَسُولٍ " بالجر - وخرجها الزمخشريُّ على أنها منسوقة على قوله : " بِكَلِمَةٍ " أي : يبشرك بكلمة وبرسول.
وفيه بُعْدٌ لكثرة الفصل بين المتعاطفين ، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج.
قوله : { إلى بني إِسْرَائِيلَ } فيه وَجْهَانِ :
أحدهما : أن يتعلق بنفس " رسول " إذْ فعله يتعدى بـ " إِلَى ".
والثاني : أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة لـ " رَسُولاً " فيكون منصوبَ المحلِّ في قراءة الجمهور ، مجرورة في قراءة اليزيديِّ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 236 ـ 239}
فائدة
قال الفخر :
هذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل بخلاف قول بعض اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين منهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 48}(13/239)
وقال الآلوسى :
وتخصيصهم بالذكر للإيذان بخصوص بعثته ، أو للرد على من زعم من اليهود أنه مبعوث إلى غيرهم. ولي في نسبة هذا الزعم لبعض اليهود تردد وليس ذلك في الكتب المشهورة والذي رأيناه فيها أنهم في عيسى الذي قص الله تعالى علينا من أمره ما قص فرقتان : فرقة ترميه وحاشاه بأفظع ما رمت به أمة نبيها وهم أكثر اليهود ، وفرقة يقال لهم ( العنانية أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت يصدقونه في مواعظه وإشاراته ويقولون : إنه لم يخالف التوراة ألبتة بل قررها ودعا الناس إليها ، وإنه من المستجيبين لموسى عليه السلام ، ومن بني إسرائيل المتعبدين وليس برسول ولا نبي ، ويقولون : إن سائر اليهود ظلموه حيث كذبوه أولاً ولم يعرفوا مدعاه وقتلوه آخراً ولم يعرفوا مرامه ومغزاه ) نعم من اليهود فرقة يقال لهم العيسوية أصحاب أبي عيسى إسحق بن يعقوب الأصفهاني الذي يسميه بعضهم ( بعرقيد الوهيم ) يزعمون : أن لله تعالى رسولاً بعد موسى عليه السلام يسمى المسيح إلا أنه لم يأت بعد ويدعون أن له خمسة من الرسل يأتون قبله واحداً بعد واحد وأن صاحبهم هذا أحد رسله وكل من هذه الأقوال بعيد عما ادعاه صاحب القيل بمراحل ولعله وجد ما يوافق دعواه ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
هذا واختلف في زمن رسالته عليه السلام فقيل : في الصبا وهو ابن ثلاث سنين. وفي "البحر" : أن الوحي أتاه بعد البلوغ وهو ابن ثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين قيل : وثلاثة أشهر وثلاثة أيام ثم رفع إلى السماء وهو القول المشهور ، وفيه أن أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وقيل : موسى وآخرهم عيسى على سائرهم أفضل الصلاة وأكمل السلام. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 167}(13/240)
سؤال : ما المراد بالآية ؟
الجواب : المراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد ههنا أنواعاً من الآيات ، وهي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار عن المغيبات فكان المراد من قوله {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ} الجنس لا الفرد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 48}
قوله تعالى : {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله }
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة {أني} بفتح الهمزة ، وقرأ نافع بكسر الهمزة فمن فتح {أني} فقد جعلها بدلاً من آية كأنه قال : وجئتكم بأنى أخلق لكم من الطين ، ومن كسر فله وجهان أحدهما : الاستئناف وقطع الكلام مما قبله والثاني : أنه فسّر الآية بقوله {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ} ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال الله تعالى : {وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [ الفتح : 29 ] ثم فسّر الموعود بقوله {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} وقال : {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ} [ آل عمران : 59 ] ثم فسّر المثل بقوله.
{خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [ آل عمران : 59 ] وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كقراءة من فتح {أني} على جعله بدلاً من آية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 48 ـ 49}
وقال ابن عادل :
قوله : { أني أَخْلُقُ } قرأ نافع بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها ، فالكسر من ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : على إضمار القول ، أي : فقلت : إني أخلق.
الثاني : أنه على الاستئناف.
والثالث : على التفسير ، فسر بهذه الجملة قوله : " بِآيَةْ " ، كأن قائلاً قال : وما الآية ؟ فقال هذا الكلام.(13/241)
ونظيره قوله : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] ثم قال : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ف " خَلَقَهُ " مفسرة للمثل ؛ ونظيره - أيضاً قوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ المائدة : 9 ] ثم فسر الوعد { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ]. وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف ؛ فإن المستأنَفَ يؤتى به تفسيراً به لمجرد الإخبار بما تضمنه ، وفي الوجه الثالث نقول : إنه متعلِّق بما تقدمه ، مفسِّر له.
وأما قراءة الجماعة ففيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنها بدل من { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } فيجيء ، فيها ما تقدم في تلك ؛ لأن حكمها حكمها.
الثاني : أنها بدل من " بِآيَةٍ " فيكون محلُّها الجَرّ ، أي : وجئتكم بأني أخلق لكم ، وهذا نفسه آية من الآيات.
وهذا البدلُ يحتمل أن يكون كُلاًّ من كُلٍّ - إن أريد بالآية شيء خاصٌّ - وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس.
الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر ، تقديره : هي أني أخلق ، أي : الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة - في الحقيقة - جوابٌ لسؤال مقدر ، كأن قائلاً قال : وما الآية ؟ فقال ذلك.
الرابع : أن تكون منصوبةً بإضمار فعل ، وهو - أيضاً - جواب لذلك السؤال ، كأنه قال : أعني أني أخلُقُ.
وهذان الوجهان يلاقيان - في المعنى - قراءة نافع - على بعض الوجوه - فإنهما استئناف. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 240 ـ 241}
قوله تعالى {أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين}
قال الفخر :
{أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين} أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى : {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ} [ البقرة : 21 ] أن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره ههنا أيضاً فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد ، أما القرآن فآيات(13/242)
أحدها : قوله تعالى : {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [ المؤمنون : 14 ] أي المقدرين ، وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقاً بالتقدير والتسوية
وثانيها : أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الاولين} [ الشعراء : 137 ] وفي العنكبوت {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [ العنكبوت : 17 ] وفي سورة ص {إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق} [ ص : 7 ] والكاذب إنما سمي خالقاً لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره
وثالثها : هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين} أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} [ المائدة : 110 ] وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير
ورابعها : قوله تعالى : {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً} [ البقرة : 29 ] وقوله {خلق} إشارة إلى الماضي ، فلو حملنا قوله {خلق} على الإيجاد والإبداع ، لكان المعنى : أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي ، وذلك باطل بالاتفاق ، فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض ، وأما الشعر فقوله :
ولأنت تفري ما خلقت وبع.. ض القوم يخلق ثم لا يفري
وقوله :
ولا يعطي بأيدي الخالق ولا.. أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد : فهو أنه يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير ، وفلان خليق بكذا ، أي له هذا المقدار من الاستحقاق ، والصخرة الخلقاء الملساء ، لأن الملاسة استواء ، وفي الخشونة اختلاف ، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية.(13/243)
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في لفظ {الخالق} قال أبو عبد الله البصري : إنه لا يجوز إطلاقه على الله في الحقيقة ، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على الله محال ، وقال أصحابنا : الخالق ، ليس إلا الله ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : {الله خالق كُلّ شَىْء} [ الرعد : 16 ] ومنهم من احتج بقوله {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ} [ فاطر : 3 ] وهذا ضعيف ، لأنه تعالى قال : {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماء} [ فاطر : 3 ] فالمعنى هل من خالق غير الله موصوف بوصف كونه رازقاً من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه ، ليس إلا الله ، صدق قولنا أنه لا خالق إلا الله.
وأجابوا عن كلام أبي عبد الله بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالاً في حق الله تعالى فالعلم ثابت.
إذا عرفت هذا فنقول : {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين} معناه : أصور وأقدر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 49 ـ 50}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الآية, هذه الآية يوهم ظاهرها أن بعض المخلوقين ربما خلق بعضهم, ونظيرها قوله تعالى : {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} الآية, وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الله خالق كل شيء كقوله تعالى : {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}, وقوله : {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} إلى غير ذلك من الآيات. والجواب ظاهر وهو معنى خلق عيسى كهيئة الطير من الطين : هو أخذه شيئا من الطين وجعله على هيئة أي صورة الطير, وليس المراد الخلق الحقيقي ؛ لأن الله متفرد به - جل وعلا -. وقوله : {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} معناه : تكذبون, فلا منافاة بين الآيات كما هو ظاهر. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 50}
قوله تعالى {كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { كَهَيْئَةِ } في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها نَعْت لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديره : أني أخلق لكم هيئة مثلَ هيئة الطير. والهيئة إما أن تكونَ في الأصل مصدراً ، ثم أطلِقَت على المفعول - أي : المُهَيَّأ - كالخلق بمعنى : المخلوق ، وإما أن تكون اسماً لحال الشيء وليست مصدراً ، والمصدر : التَّهْيِيء - والتَّهَيُّؤ - والتَّهْيِئَة.
ويقال : هاء الشيء يَهِيءُ هَيْئاً وهَيْئَةً - إذا ترتب واستقر على حال مخصوص - ويتعدى بالتضعيف ، قال تعالى : { وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } [ الكهف : 16 ] ، والطين معروف ، يقال : طَانَهُ الله على كذا وطَلَمَهُ - بإبدال النون ميماً - أي : جبله عليه ، والنفخ مَعْرُوفٌ.(13/244)
الثاني : أن الكاف مفعول به ؛ لأنها اسم كسائر الأسماء - وهذا رأي الأخْفَشِ ، حيث يجعل الكاف اسماً حيث وقعت وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه - كوقوعها مجرورة بحرف جر ، أو إضافة ، أو وقوعها فاعلةً أو مبتدأ. وقد تقدم ذلك.
الثالث : أنها نعت لمصدر محذوف ، قاله الواحديُّ نقلاً عن أبي عليٍّ بعد كلامٍ طويلٍ : " ويكون الكاف موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد ، تقديره : أنِّي أخلق لكم من الطّينِ خلقاً مثل هيئة الطَّيْرِ ".
وفيما قاله نظرٌ من حيث المعنى ؛ لأن التحدِّي إنما يقع في أثر الخلق - وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات - لا في نفس الخلق ، اللهم إلا أن نقول : المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم.
قال الزمخشري : أي أقدِّر لكم شيئاً مثل هيئة الطّيرِ. وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله : " أقدر " تفسير للخلق ؛ لأن الخلق هنا - التقدير - كما تقدم - وليس المراد الاختراع ، فإنه مختص بالباري - تعالى-.
وقرأ الزهريُّ : " كَهَيْئَةِ " - بنقل حركة الهمزة إلى الياء.
وقرأ أبو جعفر : " كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ ".
قوله : { فَأَنْفُخُ فِيهِ } في هذا الضمير ستة أوجُهٍ :
أحدها : أنه عائد على الكاف ؛ لأنها اسم - عند مَنْ يرى ذلك - أي : فأنفخ في مثل هيئة الطير.
الثاني : أنه عائد على " هَيْئَةِ " ، لأنها في معنى الشيء المُهَيَّأ ، فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً وإن كانت مؤنثةً - اعتباراً بمعناها دون لفظها ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة } [ النساء : 8 ] ثم قال { فارزقوهم مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] فأعاد الضمير في { مِنْهَا } على { القِسْمَةَ } لما كانت بمعنى المقسوم.
الثالث : أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف ، أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير.
الرابع : أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ. وهو أني أخلق. ويكون الخلق بمنزلة المخلوق.(13/245)
الخامس : أنه عائد على ما دَلَّت عليه الكاف من معنى المثل ؛ لأن المعنى : أخلق من الطِّينِ مثلَ هيئة الطَّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره : أني أخلق لكم خلقاً مثل هيئة الطير. قاله الفارسي ؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك.
السادس : أنه عائد على الطين ، قاله أبو البقاء ، وأفسده الواحديُّ ، قال : " ولا يجوز أن تعود الكناية على " الطِّينِ " لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيَّئاً منه - والطين المتقدم ذكرُه عام فلا تعود إليه الكناية ، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين ".
وفي هذا الرَّد نَظَر ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّم عمومَ الطين المتقدم ، بل المراد بعضه. ولذلك أدخل عليه " مِنْ " التي تقتضي التبعيض ، فإذا صار المعنى : أني أخلق بعض الطين ، عاد الضَّمِيرُ عليه من غير إشكال ، ولكنَّ الواحدي جعل " مِنْ " في الطين لابتداء الغاية ، وهو الظَّاهِرُ.
قال أبو حيّان : " وقرأ بعض القُرَّاء " فأنْفَخَهَا ". أعَاد الضمير على الهيئة المحذوفة ؛ إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو على الكاف - على المعنى - إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة : { فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً } [ المائدة : 110 ] ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر ، كما حذف في قوله : [ البسيط ]
مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلاَ قَمَتْكَ نَائِحَةٌ... وَلاَ بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أسْلاَبِ
وقول النابغة : [ البسيط ]
.................... كَالْهِبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْما
يريد ولا قامت عليك ، وينفخ في الفَحْمِ. وهي قراءة شائة ، نقلها الفرَّاء ".
قال شهابُ الدين : " وعجبت منه ، كيف لم يَعْزُها ، وقد عزاها صاحبُ الكشَّاف إلى عبد الله ، قال : وقرأ : " أعبدُ الله " فأنفخها ".
قوله : { فَيَكُونُ } في " يكون " وجهان : (13/246)
أحدهما : أنها تامة ، أي : فيوجد ، ويكون " طيراً " - على هذا - حالاً.
والثاني : أنها ناقصة ، و" طَيْراً " - على هذا - حالاً.
والثاني : أنها ناقصة ، و" طيراً " خبرها. وهذا هو الذي ينبغي أن يكون ؛ لأن في وقوع اسم الجنس حالاً لا حاجة إلى تأويل ، وإنما يظهر ذلك على قراءة نَافعٍ " طَائِراً " ؛ لأنه - حينئذٍ - اسم مشتق.
وإذا قيل بنقصانها ، فيجوز أن تكون على بابها ، ويجوز أن تكون بمعنى " صار " الناقصة ، كقوله : [ الطويل ]
بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَاَنَّهَا... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي صارت.
وقال أبو البقاء : " فيكون - أي فيصير - فيجوز أن يكون " كان " هنا - التامة ؛ لأن معناها " صار " بمعنى : انتقل ، ويجوز أن تكون الناقصة ، و" طَائِراً " - على الأول - حالٌ ، وعلى الثاني - خَبَرٌ ".
قال شِهَابُ الدِّينِ : " ولا حاجة إلى جعله إياها - في حال تمامها - بمعنى " صار " التامة التي معناها معنى " انتقل " بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث ، ووجد ، وحصل ، وشبهها وإذا جعلوها بمعنى " صار " فإنما يعنون " صار " الناقصة ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 242 ـ 245}
قال الفخر :
قرأ نافع {فَيَكُونُ طائراً} بالألف على الواحد ، والباقون {طَيْراً} على الجمع ، وكذلك في المائدة والطير اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع.
يروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة ، وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش ، فأخذ طيناً وصوره ، ثم نفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض ، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ، ثم اختلف الناس فقال قوم : إنه لم يخلق غير الخفاش ، وكانت قراءة نافع عليه.
وقال آخرون : إنه خلق أنواعاً من الطير وكانت قراءة الباقين عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 50}
وقال ابن عادل : (13/247)
وقرأ نافع ويَعْقُوبُ فيكون طائِراً - هنا وفي المائدة - والباقون " طَيْراً " في الموضعين.
فأما قراءة نافع فوجَّهَهَا بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحيد ، والتقدير : فيكون ما أنفخ فيه طائراً ولا يعترض عليه بأن الرسمَ الكريمَ إنما هو " طَيْراً " - دون ألف - لأن الرسم يُجوِّز حذف مثل هذه الألف تخفيفاً ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ولا طير - دون ألف - ولم يقرأه أحد " طائر " - بالألف - فالرسم محتمل ، لا مُنَافٍ.
قال بعضهم كالشارح لما تقدم - : ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير ؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاشِ ، وزعم آخرون أن معنى قراءته : يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائراً ، قال : كقوله تعالى : { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي اجلدوا كل واحد منهم وهو كثير من كلامهم.
وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يُرَاد به اسم الجنس - أي : جنس الطير - ويُحْتَمل أن يُرَاد به الواحد فما فوقه ، ويحتمل أن يراد به الجمع ، ولا سيما عند من يرى أن طيراً صيغة جمع نحو رَكْب وصَحْب وتَجْر ؛ جمع راكب وصاحب وتاجر - وهو الأخفشُ - وأما عند سيبويه فهي عنده أسماء جموع ، لا جموع صريحة وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. وحسن قراءة الجماعة لموافقتها لما قبلها - في قوله : { مِّنَ الطير } - ولموافقة الرسم لفظاً ومعنى. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 245}
فصل
قال القرطبى :
{ فَأَنفُخُ فِيهِ } أي في الواحد منه أو منها أو في الطين فيكون طائراً.
وطائر وطَيْر مثل تاجر وتَجْر.
قال وَهْب (1) : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الخلق من فعل الله تعالى.
وقيل : لم يخلق غيرَ الخُفّاش لأنه أكمل الطير خلقاً ليكون أبلغ في القدرة ، لأن لها ثَدْياً وأسناناً وأُذناً ، وهي تحيض وتطهر وتلد.
________________
(1) تقدم أن أخبار وهب بن منبه وكعب الأحبار يجب التوقف فى قبولها. والله أعلم.(13/248)
ويقال : إنما طلبوا خَلْق خُفّاش لأنه أعجب من سائر الخلق ؛ ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور ، فيكون له الضرّع يخرج منه اللبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يُسفر جداً ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة.
ويقال : إن سؤالهم كان له على وجه التعنّت فقالوا : أخلق لنا خُفّاشاً واجعل فيه روحاً إن كنت صادقاً في مقالتك ؛ فأخذ طيناً وجعل منه خفاشاً ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض ؛ وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله ، كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 94}
سؤال : فإن قال قائل : وكيف قيل : "فأنفخ فيه" ، وقد قيل : "أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير" ؟
قيل : لأن معنى الكلام : فأنفخ في الطير. ولو كان ذلك : "فأنفخ فيها". كان صحيحًا جائزًا ، كما قال في المائدة ، ( فَتَنْفُخُ فِيهَا ) [سورة المائدة : 110] : يريد : فتنفخ في الهيئة.
وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين : "فأنفخها" ، بغير"في". وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول : "رب ليلة قد بتُّها ، وبتُّ فيها" ، قال الشاعر :
مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا قَامَتْكَ نَائِحَةٌ... وَلا بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أَسْلابِ
بمعنى : ولا قامت عليك ، وكما قال الآخر :
إحْدَى بَنِي عَيِّذِ اللهِ اسْتَمَرَّ بِهَا... حُلْوُ العُصَارَةِ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّوَرُ. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 426 ـ 427}
فصل
قال الفخر :(13/249)
قال بعض المتكلمين : الآية تدل على أن الروح جسم رقيق كالريح ، ولذلك وصفها بالفتح ، ثم ههنا بحث ، وهو أنه هل يجوز أن يقال : إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية ، بحيث متى نفخ في شيء كان نفخه فيه موجباً لصيرورة ذلك الشيء حياً ، أو يقال : ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخة عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات ، وهذا الثاني هو الحق لقوله تعالى : {الذى خَلَقَ الموت والحياة} [ الملك : 2 ] وحكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قال في مناظرته مع الملك {رَبّيَ الذى يُحْىِ وَيُمِيتُ} [ البقرة : 258 ] فلو حصل لغيره ، هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 50}
فائدة
قال الفخر :
القرآن دلّ على أنه عليه الصلاة والسلام إنما تولد من نفخ جبريل عليه السلام في مريم وجبريل صلى الله عليه وسلم روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى عليه السلام للحياة والروح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 50}
قوله تعالى {بِإِذُنِ الله}
قال الفخر :
قوله {بِإِذُنِ الله} معناه بتكوين الله تعالى وتخليقه لقوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [ آل عمران : 145 ] أي إلا بأن يوجد الله الموت ، وإنما ذكر عيسى عليه السلام هذا القيد إزالة للشبهة ، وتنبيهاً على إني أعمل هذا التصوير ، فأما خلق الحياة فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 50}
لطيفة
قال الزمخشرى :
وكرر { بِإِذُنِ الله } دفعاً لوهم من توهم فيه اللاهوتية. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 392}(13/250)
فائدة
قال ابن عطية :
حقيقة الإذن في الشيء هي العلم بأنه يفعل والتمكين من ذلك ، فإن اقترن بذلك قول فذلك أمكن في الإذن وأبلغ ، ويخرج من حد الإذن إلى حد الأمر ولكن تجده أبداً في قسم الإباحة ، وتأمل قوله تعالى : { فهزموهم بإذن الله } [ البقرة : 251 ] ، وقول النبي عليه السلام ، وإذنها صماتها. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 439}
فصل
قال ابن عادل :
روي أن عيسى - عليه السلام - لما ادَّعَى النبوةَ ، وأظهر المعجزات ، طالبوه بخَلْق خفاش فأخذ طيناً ، فصوَّره ، فنفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض.
قال وَهْبٌ : كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتاً ، ليتميز فعلُ الخلْق من فعل الخالق.
قيل : خلق الخُفَّاش ، لأنه أكمل الطير خَلْقاً ، وأبلغ في القدرة ؛ لأن لها ثَدْياً وأسْنَاناً وأذناً ، وهي تحيض وتطهر وتَلِد.
وقيل : إنما طالبوه بخلق خُفَّاش ؛ لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بغير ريش ويلد كما يَلِد الحيوان ، ولا يبيض كما يبيض سائر الطُّيور ، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن ، ولا يُبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس سَاعةً ، وبعد طلوع الفجر سَاعةً - قبل أن يُسْفِر جِدًّا - ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة. قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش. وقال آخرون : إنه خلق أنواعاً من الطّيْرِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 246}(13/251)
فصل
قال القرطبى :
{ وَأُحْيِي الموتى بِإِذْنِ الله } قيل : أحيا أربعة أنفس : العاذر وكان صديقاً له ، وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح ؛ فالله أعلم ، فأما العاذر فإنه كان قد توفي قبل ذلك بأيام فدعا الله فقام بإذن الله وودكه يقطر فعاش وولد له ، وأما ابن العجوز فإنه مرّ به يُحمل على سريره فدعا الله فقام ولبِس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله ، وأما بنت العاشر فكان أتى عليها ليلة فدعا الله فعاشت بعد ذلك وولد لها ؛ فلما رأوا ذلك قالوا : إنك تحيي من كان موته قريباً فلعلهم لم يموتوا فأصابتهم سكتةٌ فأحي لنا سام بن نوح.
فقال لهم : دلّوني على قبره فخرج وخرج القوم معه حتى انتهى إلى قبره فدعا الله فخرج من قبره وقد شاب رأسه.
فقال له عيسى : كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيْبٌ ؟ فقال : يا روح الله ، إنك دعوتني فسمعت صوتاً يقول : أجب روح الله ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن هول ذلك شاب رأسي.
فسأله عن النزع فقال : يا روح الله ، إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي ؛ وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة ، فقال للقوم : صدّقوه فإنه نبيّ ؛ فآمن به بعضهم وكذّبه بعضهم وقالوا : هذا سحر.
وروي من حديث إسمعيل ابن عياش قال : حدّثني محمد بن طلحة عن رجل أن عيسى ابن مريم كان إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك }.
وفي الثانية "تنزيل السجدة" فإذا فرغ حمِد الله وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء : يا قديمُ يا خَفيّ يا دائمُ يا فَرْدُ يا وتْرُ يا أحد يا صمد ؛ ذكره البيهقي وقال : ليس إسناده بالقويّ. (1) أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 94 ـ 95}
_____________
(1) كيف تصح هذه الرواية والقرآن لم ينزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة فى سماء الدنيا جملة فى ليلة القدر ثم ينزل منجما على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى ثلاث وعشرين سنة.
إن هذا لشىء عجاب وكذلك بعض الروايات السابقة تفتقر إلى نقل صحيح والأولى الوقوف عندما أخبر عنه القرآن. والله أعلم.(13/252)
فائدة
قال ابن كثير :
{ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ } قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تناسب أهل زمانه ، فكان الغالب على زمان موسى ، عليه السلام ، السحر وتعظيم السحرة. فبعثه الله بمعجزة بَهَرَت الأبصار وحيرت كل سحار ، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام ، وصاروا من الأبرار. وأما عيسى ، عليه السلام ، فبُعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة ، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه ، إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة. فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد ، أو على مداواة الأكمه ، والأبرص ، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد ؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعثه [الله] في زمن الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء ، فأتاهم بكتاب من الله ، عز وجل ، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدًا ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه كلام الخلق أبدًا. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 45}
قوله تعالى : {وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله }
قال ابن عادل :
قوله : " وأبرئ الأكمه " وأبرئ عطف على " أخْلُقُ " فهو داخل في خبر " أنِّي ". يقال : أبرأت زيد عن العاهة ومن الدِّيْن ، وبَرَّأتك من الدين - بالتضعيف. وبَرَأت من المرض أبْرأ وبَرِئْتُ - أيضاً - وأما برئت من الدَّيْنِ ومن الذَّنْب ، فبَرِئْتُ لا غَيْرُ.
وقال الأصمعيُّ : برئتُ من المرض لغةُ تَمِيم ، وبَرَأتُ لغَةُ الحجازِ.(13/253)
قال الراغبُ : " بَرَأتُ من المرض وَبَرئْتُ ، وَبَرَأت من فلان " ، فالظاهرُ من هذا أنه لا يقال الوجهان - أعني فتح الراء وكسرها - إلا في البراءة من المرض ونحوه. وأما الدَّيْنُ والذَّنْبُ ونحوهما ، فالفتح ليس إلا.
والبراءة : التخلص من الشيء المكروه مجاورته ؛ وكذلك التَّبَري والبراء.
فصل
من وُلِدَ أعْمَى ، يقال : كَمِه يَكْمَهُ فهو أكْمَه.
قال رؤبة : [ الرجز ]
فَارْتَدَّ عَنْهَا كَارْتِدَادِ الأكْمَهِ... يقال : كمهتها ، أي : أعميتها.
قال الزمخشريُّ والراغبُ وغيرُهما : " الأكمهُ : من وُلِدَ مطموس العينين " ، وهو قول ابنِ عباس وقتادة.
قال الزمخشري : " ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير ".
قال الراغب : " وقد يُقال لمن ذَهَبَتْ عينُه : أكمه ".
قال سُوَيد : [ الرمل ]
كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضّتَا.........................
قال الحسنُ والسُّدِّيُّ : هو الأعمى.
وقال عكرمةُ : هو الأعمش.
وقال مجاهد : هو الذي يبصر بالنهار ولا يُبْصر بالليل.
والبرص : داء معروف ، وهو بياضٌ يَعْتَري الإنسانَ ، ولم تكن العربُ تنْفر من شيء نُفْرَتَها منه ، ويُقال : برص يبرص بَرَصاً ، أي : أصابه ذلك ، ويقال له : الوَضَح ، وفي الحديث : " وَكَانَ بِهَا وَضَحٌ ". والوضَّاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له : الأبرص. ويقال للقمر : أبْرَص ؛ لشدة بياضِه.
وقال الراغب " وللنكتة التي عليه " وليس بِظَاهِرٍ ، فَإنَّ النُّكْتَةَ التي عليه سوداء ، والوزغ سامٌّ أبرص ، سُمِّيَ بذلك ؛ تشبيهاً بالبرص ، والبريص : الذي يَلْمَع لمعان البرص ويقارب البصيص. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 247 ـ 248}
فصل
قال الفخر :(13/254)
ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي ولد أعمى ، وقال الخليل وغيره هو الذي عمي بعد أن كان بصيراً ، وعن مجاهد هو الذي لا يبصر بالليل ، ويقال : إنه لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب "التفسير" ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام ، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده ، قال الكلبي : كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بيا حي يا قيوم وأحيا عاذر ، وكان صديقاً له ، ودعا سام بن نوح من قبره ، فخرج حياً ، ومرّ على ابن ميت لعجوز فدعا الله ، فنزل عن سريره حياً ، ورجع إلى أهله وولد له ، وقوله {بِإِذُنِ الله} رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلهية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 51}
فائدة
قال ابن عادل :
إنما خَصَّ هذين المرضَيْن لأنهما أعْيا الأطباء ، وكان الغالب في زمن عيسى - عليه السلام - الطبَّ ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 248}
فصل
قال الآلوسى :
كان دعاؤه الذي يدعو للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم "اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيء قدير" ومن خواص هذا الدعاء كما قال وهب أنه إذا قرىء على الفزع والمجنون وكتب له وسقى منه نفع إن شاء الله تعالى. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 169}(13/255)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله سبحانه : "ورسولا إلى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم ما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم" ، وقال فى المائدة : "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرئ الأكمه والأبرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى..الآية" ، للسائل أن يسأل عن تذكير الضمير وتأنيثه وعن وجه تكرير قوله تعالى : "بإذنى" فى آية المائدة مضافا إلى ضميره سبحانه فى أربعة مواضع مع وجازة الكلام وتقارب ألفاظ الآية وقد جرى هذا الغرض فى آية آل عمران فورد فيها ذلك في موضعين خاصة مضافا من اسمه سبحانه ؟
والجواب عن السؤال الأول بعد تمهيد الجواز فى تذكير الضمير فى قوله"فأنفخ فيه" فى الآية الأولى وتأنيثه فى الآية الثانية"فأنفخ فيها" مع اتحاد ما يعود عليه. فأقول وأسأل الله توفيقه : قال الزمخشرى فى الأولى : "الضمير للكاف أى فى ذلك الشئ المماثل لهيئة الطير فيكون طيرا أى فيصير طائرا كبقية الطيور ، وقال فى قوله : "فتنتفخ فيها" الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التى كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه فى شئ قال وكذلك الضمير فى تكون انتهى نص كلامه وهو بين.
وبقى السؤال عن وجه تخصيص كل من الموضعين بالوارد فيه وهو مقصودنا فى هذا الكتاب ، وعن وجه التكرار فى قوله تعالى فى سورة المائدة"بإذنى" فى أربعة مواضع مع وجازة الكلام وتقارب ألفاظ الآية ؟(13/256)
الجواب عن وجه التخصيص والله أعلم : أن الترتيب الذى استقر عليه القرآن فى سوره وآياته أصل مراعى وقد تقدم بعض إشارة إلى ذلك ولعلنا سنزيد فى بيانه إن شاء الله وعودة الضمير على اللفظ وما يرجع إليه أولى وعودته على المعنى ثان عن ذلك وكلا التعبيرين عال فصيح فعاد فى آية آل عمران على الكاف لأنها تعاقب مثل وهو مذكر فهذا لحظ لفظى ثم عاد فى آية المائدة إلى الكاف من حيث هى فى المعنى صفة لأن المثل صفة فى التقدير المعنوى فحصل مراعاة المعنى ثانيا على ما يجب كما ورد فى قوله تعالى : "ومن يقنت منكن لله ورسوله" بعودة الضمير من يقنت مذكرا رعيا للفظ "من" ، ثم قال : وتعمل بالتاء رعيا للمعنى وهو كثير وقد بينا أن رعى اللفظ فى ذلك هو الأولى فجرى فى آية آل عمران على ذلك لأنها متقدمة فى الترتيب وجرى فى آية المائدة على ما هو ثان إذ هى ثانية فى الترتيب وذلك على ما يجب.
وجواب ثان : وهو أنه قد ورد قبل ضمير آية آل عمران من لدن قوله تعالى : "وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم" إلى قوله : "فأنفخ فيه" نحو من عشرين ضميرا من ضمائر المذكر فورد الضمير فى قوله"فأنفخ فيه" ضمير مذكر ليناسب ما تقدمه ويشاكل الأكثر الوارد قبله.
أما آية العقود فمفتتحة بقوله تعالى : "اذكر نعمتى عليك" وخلقه الطائر ونفخه فيه من أجل نعمه تعالى عليه لتأييده بذلك فناسب ذلك تأنيث الضمير ولم تكثر الضمائر هنا ككثرتها هناك فجاء كل من الآيتين على أتم مناسبة.(13/257)
والجواب عن السؤال الثانى : وهو تكرر قوله تعالى"بإذنى" فى آية المائدة أربع مرات مع تقارب الألفاظ ؟ ووجه أن آية آل عمران إخبار وبشارة لمريم بما منح لبنها عيسى عليه السلام وبمقاله عليه السلام لبنى اسرائيل تعريفا برسالته وتحديا بمعجزاته وتبرئا من دعوى استبداد أو انفراد بقدرة فى مقاله : " أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله" إلى قوله تعالى"إن فى ذلك لآية لكم" إلى ما بعده ولم تتضمن هذه الآية غير البشارة والإعلام وأما آية المائدة فقصد بها غير هذا وبنيت على توبيخ النصارى وتعنيفهم فى مقالهم فى عيسى عليه السلام فوردت متضمنة عده سبحانه إنعامه على نبيه عيسى عليه السلام على طريقة تجارى العتب وليس بعتب تقريرا يقطع بمن وقع فى العظيمة ممن عبده ومثل ذلك فيما يجرى بيننا ولكلام الله سبحانه وتعالى المثل الأعلى قول القائل لعبده الأحب إليه المتبرئ من عصيانه : ألم أفعل لك كذا ألم أعطك كذا ويعدد عليه نعما ثم يقول : أفعل لك ذلك غيرى ؟ ، هل أحسنت إلى فلان إلا بما أعطيتك ؟ ، هل قهرت عدوك إلا بمعونتى لك ؟ فيقصد السيد بهذا قطع تخيل من ظن أن ما كان من هذا العبد من إحسان إلى أحد أو إرغام عدو أن ذلك من قبل نفسه مستبدا به وليس من قبل سيده فإذا قرره السيد على هذا واعترف العبد بأن ذلك كما قال السيد انقطعت حجة من ظن خلافه وتوهم استقلال العبد فعلى هذا النحو والله أعلم وردت الآية الكريمة ولذلك تكرر فيها ما تكرر مع الآيات قوله تعالى : "بإذنى" وتكرر ذلك أربع مرات عقب أربع آيات مما خص به عليه السلام من خلق الطير والنفخ فيه فيحيا وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وهى من الآيات التى ضل بسببها من ضل من النصارى وحملتهم على قولهم بالتليث تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله" فأعلم الله سبحانه وتعالى أن تلك الآيات بإذنه(13/258)
وأكد
ذلك تأكيدا يرفع توهم حول أو قوة لغير الله سبحانه أو استبداد ممن ظنه ونزه نبيه عيسى عليه السلام عن نسبة شئ من ذلك لنفسه مستقلا بإيجاده أو ادعاء فعل شئ إلا بقدرة ربه سبحانه وإذنه وبرأه من شنيع مقالتهم.
ويزيد هذا الغرض بيانا ما أعقبت به هذا الآية من قوله تعالى : "وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهيين من دون الله...الآيات" فهل هذا للنصارى إلا أعظم توبيخ وتقريع والمقصود منه جواب عيسى عليه السلام بقوله فى إخبار الله سبحانه عنه : "ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق" فافتتح بتنزيه ربه ثم نفى عن نفسه ما نسبوا إليه وأتبع بالتبرى والتسليم لربه فقال : "إن كنت قلته فقد علمته" فآية آل عمران بشارة وإخبار لمريم وآية المائدة واردة فيما يقوله سبحانه لعيسى عليه السلام توبيخا للنصارى كما بينا فلما اختلف القصدان اختلفت العبارتان. أ هـ {ملاك التأويل صـ 111 ـ 115}(13/259)
قوله تعالى حكاية عنه {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُون وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { بِمَا تَأْكُلُونَ } يجوز في " ما " أن تكون موصولةً - اسميَّة أو حرفيَّة - ونكرة موصوفة. فعلى الأول والثالث تحتاج إلى عامل بخلاف الثاني - عند الجمهور - وكذلك " ما " في قوله : { وَمَا تَدَّخِرُونَ } محتملة لما ذكر. وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع ؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 249}
قال الفخر :
في هذه الآية قولان
أحدهما : أنه عليه الصلاة والسلام كان من أول مرة يخبر عن الغيوب ، روى السدي : أنه كان يلعب مع الصبيان ، ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم ، وكان يخبر الصبي بأن أمك قد خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء ثم قالوا لصبيانهم : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، وجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم ، فقالوا له ، ليسوا في البيت ، فقال : فمن في هذا البيت ، قالوا : خنازير قال عيسى عليه السلام كذلك يكونون فإذا هم خنازير.
والقول الثاني : إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة ، وذلك لأن القوم نهوا عن الادخار ، فكانوا يخزنون ويدخرون ، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 51}(13/260)
وقال الآلوسى :
{ وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ } ( ما ) في الموضعين موصولة ، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أي تأكلونه وتدخرونه والظرف متعلق بما عنده وليس من باب التنازع ، والادخار الخبء وأصل تدخرون تذتخرون بذال معجمة فتاء فأبدلت التاء ذالاً ثم أبدلت الذال دالاً وأدغمت ، ومن العرب من يقلب التاء دالاً ويدغم ، وقد كان هذا الإخبار بعد النبوة وإحيائه الموتى عليه السلام على ما في بعض الإخبار ، وقيل : قبل ، فقد أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : كان عيسى عليه السلام وهو غلام يلعب مع الصبيان يقول لأحدهم : تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك ؟ فيقول : نعم فيقول : خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها : أطعميني ما خبأت لي فتقول : وأي شيء خبأت لك ؟ فيقول : كذا وكذا فتقول : من أخبرك ؟ ا فيقول : عيسى ابن مريم فقالوا : والله لأن تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوه عليهم فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاهم في بيت فسأل عنهم فقال : ما هؤلاء أكان هؤلاء الصبيان ؟ قالوا : لا إنما هي قردة وخنازير قال : اللهم اجعلهم قردة وخنازير فكانوا كذلك ، وذهب بعضهم أن ذلك كان بعد نزول المائدة وأيد بما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الآية أنه قال : { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ } من المائدة { وَمَا تَدَّخِرُونَ } منها ، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فادخروا وخانوا فعلوا قردة وخنازير ، ويمكن أن يقال : إن كل ذلك قد وقع وعلى سائر التقادير فالمراد الأخبار بخصوصية هذين الأمرين كما يشعر به الظاهر ، وقيل : المراد الإخبار بالمغيبات إلا أنه قد اقتصر على ذكر أمرين منها ولعل وجه تخصيص الإخبار بأحوالهم لتيقنهم بها فلا يبقى لهم شبهة ، والسر في ذكر هذين الأمرين بخصوصهما أن غالب سعي الإنسان(13/261)
وصرف ذهنه لتحصيل الأكل الذي به قوامه والادخار الذي يطمئن به أكثر القلوب ويسكن منه غالب النفوس فليفهم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 170}
سؤال : فإن قال قائل : وما كان في قوله لهم : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" من الحجة له على صدقه ، وقد رأينا المتنجِّمة والمتكهِّنة تخبرُ بذلك كثيرًا فتصيب ؟
قيل : إن المتنجِّم والمتكهِّن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك ، أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه. ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورُسله ، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ، ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه ، من غير أصل تقدّم ذلك احتذاه ، أو بنى عليه ، أو فزع إليه ، كما يفزَع المتنجم إلى حسابه ، والمتكهن إلى رئيِّه. فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذِّبة على الله ، أو المدَّعية علم ذلك.
فهكذا فعل الأنبياء وحججها ، إنما تأتي بما أتت به من الحجج بما قد يوصل إليه ببعض الحيل ، على غير الوجه الذي يأتي به غيرها ، بل من الوجه الذي يعلم الخلق أنه لا يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قِبَل الله. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 432 ـ 434}. بتصرف يسير.
وقال الفخر :
الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة ، وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً ، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ، ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 51}(13/262)
قوله تعالى {إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
قال الفخر :
المعنى إن في هذه الخمسة لمعجزة قاهرة قوية دالة على صدق المدعي لكل من آمن بدلائل المعجزة في الحمل على الصدق ، بلى من أنكر دلالة أصل المعجز على صدق المدعي ، وهم البراهمة ، فإنه لا يكفيه ظهور هذه الآيات ، أما من آمن بدلالة المعجز على الصدق لا يبقى له في هذه المعجزات كلام ألبتة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 50 ـ 51}
وقال الطبرى :
يعني بذلك جل ثناؤه : إنّ في خلقي من الطين الطيرَ بإذن الله ، وفي إبرائي الأكمهَ والأبرصَ ، وإحيائي الموتى ، وإنبائيَ إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ، ابتداءً من غير حساب وتنجيم ، ولا كهانة وعرافة لعبرةً لكم ومتفكَّرًا ، تتفكرون في ذلك فتعتبرون به أنيّ محق في قولي لكم : "إني رسولٌ من ربكم إليكم" ، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق "إن كنتم مؤمنين" ، يعني : إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته ، مقرّين بتوحيده ، وبنبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 437}(13/263)
وقال الآلوسى :
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي المذكور من الخوارق الأربعة العظيمة ، وهذا من كلام عيسى عليه السلام حكاه الله تعالى عنه ، وقيل : هو من كلام الله تعالى سيق للتوبيخ { لآيَةً } أي جنسها ، وقرىء لآيات { لَكُمْ } دالة على صحة الرسالة دلالة واضحة حيث لم يكن ذلك بتخلل آلات وتوسط أسباب عادية كما يفعله الأطباء والمنجمون. ومن هنا يعلم أن علم الجفر وعلم الفلك ونحوهما لما كانت مقرونة بأصول وضوابط لا يقال عنها : إنها علم غيب أبداً إذ علم الغيب شرطه أن يكون مجرداً عن المواد والوسائط الكونية وهذه العلوم ليست كذلك لأنها مرتبة على قواعد معلومة عند أهلها لولاها ما علمت تلك العلوم ، وليس ذلك كالعلم بالوحي لأنه غير مكتسب بل الله تعالى يختص به من يشاء وكذا العلم بالإلهام فإنه لا مادة له إلا الموهبة الإلهية والمنحة الأزلية ، على أن بعضهم ذهب إلى أن تلك العلوم لا يحصل بها العلم المقابل للظن بل نهاية ما يحصل الظن الغالب وبينه وبين علم الغيب بون بعيد ، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فيه مجاز المشارفة أي إن كنتم موفقين للإيمان ، ويحتمل أن يكون المعنى إن كنتم مصدقين ، وجواب الشرط على التقديرين محذوف أي انتفعتم بذلك. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 170}
وقال ابن عطية :
وقوله { إن كنتم مؤمنين } ، توقيف والمعنى ، لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم وإلا فليست بنافعة ولا هادية ، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا ، هذا كله على أن المخاطبة لمن لم يؤمن - بعد - وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل ، وإن كان خطابه لمؤمنين ، أو كما كانوا مؤمنين بموسى ، فمعنى الآية التثبيت وهز النفس كما تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء : ما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن كنت من الرجال. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 441}(13/264)
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ، أي : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية ، وتدبَّرتموها. وقدر بعضهم صفةً محذوفةً لـ " آية " أي : لآية نافعة. قال ابو حيّان : " حتى يتَّجه التعلُّق بهذا الشرط " وفيه نظر ؛ إذْ يَصِحّ التعلُّق بالشرط دون تقدير هذه الصفة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 251}
لطيفة
قال ابن عاشور :
وتعرض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذي جعلوا منها دليلا على ألوهية عيسى ، بعلة أن هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر ، فمن قدر عليها فهو الإله ، وهذا دليل سفسطائي أشار الله إلى كشفه بقوله : {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله : {بِإِذْنِ اللَّهِ} مرتين. وقد روى أهل السير أن نصارى نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبي صلى الله عليه وسلم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 102}(13/265)
قوله تعالى { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان ترجمة {أني قد جئتكم} آتياً إليكم بآية كذا ، مصدقاً بها لما أتيت به ، عطف على الحال المقدر منه تأكيداً لأنه عبد الله قوله : {ومصدقاً لما بين يدي} أي كان قبل إتياني إليكم {من التوراة} أي المنزلة على أخي موسى عليه الصلاة والسلام ، لأن القبلية تقتضي العدم الذي هو صفة المخلوق ؛ أو يعطف على {بآية} إذا جعلنا الباء للحال ، لا للتعدية ، أي وجئتكم مصحوباً بآية ومصدقاً.(13/266)
ولما ذكر التوراة أتبعها ما يدل على أنه ليس كمن بينه وبين موسى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في إقرارها كلها على ما هي عليه وتحديد أمرها على ما كان زمن موسى عليه الصلاة والسلام بل هو مع تصديقها ينسخ بعضها فقال : {ولأحل} أي صدقتها لأحثكم على العمل بها ولأحل {لكم بعض الذي حرم عليكم} أي فيها تخفيفاً عليكم {وجئتكم} اية ليس مكرراً لتأكيد : {أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين} على ما توهم ، بل المعنى - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أتاهم بهذه الخوارف التي من جملتها إحياء الموتى ، وكان من المقرر عندهم - كما ورد في الأحاديث الصحيحة - التحذير من الدجال ، وكان من المعلوم من حاله أنه يأتي بخوارق ، منها إحياء ميت ويدعى الإلهية ، كان من الجائز أن يكون ذلك سبباً لشبهة تعرض لبعض الناس ، فختم هذا الدليل على رسالته بما هو البرهان الأعظم على عبوديته ، وذلك مطابقته لما دعا إليه الأنبياء والمرسلون كلهم من إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى فقال : وجئتكم {بآية} أي عظيمة خارقة للعادة {من} عند {ربكم} أي المحسن إليكم بعد التفرد بخلقكم ، وهي أجل الأمارات وأدلها على صدقي في رسالتي ، هو عدم تهمتي بوقوع شبهة في عبوديتي.
ولما تقرر بذكر الآية مرة بعد مرة مع ما أفادته من تأسيس التفصيل لأنواع الآيات تأكيد رسالته تلطيفاً لطباعهم الكثيفة ، فينقطع منها ما كانت ألفته في الأزمان المتطاولة من العوائد الباطلة سبب عن ذلك ما يصرح بعبوديته أيضاً فقال مبادراً للإشارة إلى أن الأدب مع المحسن آكد والخوف منه أحق وأوجب لئلا يقطع إحسانه ويبدل امتنانه {فاتقوا الله} أي الذي له الأمر كله {وأطيعون} أي في قبولها فإن التقوى مستلزمة لطاعة الرسول. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 93 ـ 94}
فصل
قال الفخر :(13/267)
قد ذكرنا في قوله {وَرَسُولاً إلى بَنِى إسرائيل أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} [ آل عمران : 49 ] أن تقديره وأبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} فقوله {وَمُصَدّقًا} معطوف عليه والتقدير : وأبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} ، وإني بعثت {مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة} وإنما حسن حذف هذه الألفاظ لدلالة الكلام عليها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 52}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { مُصَدِّقًا } نَسَقٌ على محل بآيةٍ ، لأن محل " بآيَةٍ " في محل نصبٍ على الحالِ ؛ إذ التقدير وجئتكم متلبساً بآيةٍ ومصدقاً.
وقال الفراء والزَّجَّاجُ : نصب " مُصَدِّقاً " على الحال ، المعنى : وجئتكم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ ، وجاز إضمار " جئتكم " ، لدلالة أول الكلام عليه - وهو قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } - ومثله في الكلام : جئته بما يُحِبُّ ومُكْرِماً له.
قال الفراء : " ولا يجوز أن يكون " مُصَدِّقاً " معطوفاً على " وَجِيهاً " ؛ لأنه لو كان كذلك لقال : أو مصدقاً لما بين يديه ، يعني : أنه لو كان معطوفاً عليه ؛ لأتى معه بضمير الغيبة ، لا بضمير التكلُّم ". وذكر غير الفرّاء ، ومنع - أيضاً - أن يكون منسوقاً على " رَسُولاً " قال : لأنه لو كان مردوداً عليه لقال : ومصدقاً لما بين يديك ؛ لأنه خاطب بذلك مريم ، أو قال : بين يديه.
يعني أنه لو كان معطوفاً على " رَسُولاً " لكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير الخطاب ؛ مراعاةً لمريم ، أو بضمير الخطاب مراعاةً للاسم الظاهر.
قال أبو حيّان : وقد ذكرنا أنه يجوز في " رَسُولاً " أن يكون منصوباً بإضمار فعل- أي : وأرسلت رسولاً - فعلى هذا التقدير يكون " مُصَدِّقاً " معطوفاً على " رَسُولاً ".
قوله : { مِنَ التوراة } فيه وجهان :(13/268)
أحدهما : أنه حال من " ما " الموصولة ، أي : الذي بين يدي حال كونه من التوراةِ ، فالعامل فيه مصدقاً لأنه عامل في صاحب الحالِ.
الثاني : أنه حال من الضمير المُسْتَتِر في الظرف الواقع صِلَةً. والعامل فيه الاستقرارُ المُضْمَرُ في الظرف أو نفس الظرف ؛ لقيامه مقامَ الفعل. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 251}
فصل
قال الفخر :
إنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقاً لجميع الأنبياء عليهم السلام ، لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة ، فكل من حصل له المعجز ، وجب الاعتراف بنبوته ، فلهذا قلنا : بأن عيسى عليه السلام يجب أن يكون مصدقاً لموسى بالتوراة ، ولعلّ من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام إليهم تقرير التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين.
وأما المقصود الثاني : من بعثة عيسى عليه السلام قوله {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ }.
وفيه سؤال : وهو أنه يقال : هذه الآية الأخيرة مناقضة لما قبلها لأن هذه الآية الأخيرة صريحة في أنه جاء ليحل بعد الذي كان محرماً عليه في التوراة ، وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة ، وهذا يناقض قوله {وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة }.(13/269)
والجواب : إنه لا تناقض بين الكلام ، وذلك لأن التصديق بالتوراة لا معنى له إلا اعتقاد أن كل ما فيها فهو حق وصواب ، وإذا لم يكن الثاني مذكوراً في التوراة لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرماً فيها ، مناقضاً لكونه مصدقاً بالتوراة ، وأيضاً إذا كانت البشارة بعيسى عليه السلام موجودة في التوراة لم يكن مجيء عيسى عليه السلام وشرعه مناقضاً للتوراة ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : إنه عليه السلام ما غير شيئاً من أحكام التوراة ، قال وهب بن منبه : إن عيسى عليه السلام كان على شريعة موسى عليه السلام كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس ، ثم إنه فسّر قوله {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} بأمرين أحدهما : إن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى ، فجاء عيسى عليه السلام ورفعها وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السلام
والثاني : أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات كما قال الله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ثم بقي ذلك التحريم مستمراً على اليهود فجاء عيسى عليه السلام ورفع تلك التشديدات عنهم ، وقال آخرون : إن عيسى عليه السلام رفع كثيراً من أحكام التوراة ، ولم يكن ذلك قادحاً في كونه مصدقاً بالتوراة على ما بيناه ورفع السبت ووضع الأحد قائماً مقامه وكان محقاً في كل ما عمل لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حق وصدق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 52 ـ 53}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { وَلأُحِلَّ } فيه أوجُهٌ :(13/270)
أحدها : أنه معطوف على معنى " مُصَدِّقاً " إذ المعنى : جئتكم لأصَدِّقَ ما بين يديَّ ولأحِلَّ لكم ، ومثله من الكلام : جئته مُعْتَذِراً إليه ولأجْتَلِبَ رِضاهُ - أي : دئت لأعتذر ولأجتلب - كذا قال الواحديُّ ، وفيه نظرٌ ؛ لأن المعطوف عليه حال ، وهذا تعليلٌ.
قال أبو حيّان : - بعد أن ذكر هذا الوَجْهَ - : " وهذا هو العطف على التوهُّم وليس هذا منه ؛ لأن معقولية الحال مخالفة لمعقوليَّة التعليلِ ، والعطف على التوهُّم لا بُدَّ أن يكون المعنى مُتَّحِداً في المعطوف والمعطوف عليه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض.
وكذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
تَقِيٌّ نَقِيٌّ ، لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةً... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
كيف اتخذ معنى النفي في قوله : لم يُكَثِّرْ ، وفي قوله : ولا بِحَقلَّدٍ ، أي : ليس بمكثر ولا بحقلدٍ.
وكذلك ما جاء منه ".
قال شهابُ الدّينِ : " ويمكن أن يريد هذا القائلُ أنه معطوف على معنى " مُصَدِّقاً " أي : بسبب دلالته على علةٍ محذوفةٍ ، هي موافقة له في اللفظ ، فنسب العطف على معناه ، باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه - أعني مدلول المادة - وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل ".
الثاني : إنه معطوف على عِلَّةٍ مقدرة ، أي : جئتكم بآية ، ولأوسِّعَ عليكم ولأحِلَّ ، أو لأخفِّفَ عنكم ولأحِلَّ ، ونحو ذلك.
الثالث : أنه معمول لفعلٍ مُضْمَرٍ ؛ لدلالة ما تقدم عليه ، أي : وجئتكم لأحِلَّ ، فحذف العامل بعد الواو.
والرابع : أنه متعلق بقوله : { وَأَطِيعُونِ } والمعنى اتبعوني لأحِلَّ لكم. وهذا بَعِيدٌ جداً أو مُمتنع.(13/271)
الخامس : أن يكون { ولأُحِلَّ لَكُمْ } رداً على قوله : " بِآيةٍ ". قال الزمخشريُّ : { وَلأُحِلَّ } رَدٌّ على قوله { بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : جئتكم بآية من ربكم ولأحلَّ.
قال أبو حيان : " ولا يستقيم أن يكون { وَلأُحِلَّ لَكُم } رداَّ على " بآيَةٍ " ، لأن " بِآيَةٍ " في موضع حال و" لأحل " تعليل ، ولا يَصِحُّ عطف التعليل على الحال ؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوفِ عليه ، فإن عطفت على مصدر ، أو مفعولٍ به ، أو ظرفٍ ، أو حالٍ ، أو تعليل وغير ذلك شارَكه في ذلك المعطوف ".
قال شهاب الدين : ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد رداً على " بآية " من حيث دلالتها على عمل مقدر.
قوله : { بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } المراد بـ " بَعْض " مدلوله في الأصل.
قال أبو عبيدة : إنها - هنا - بمعنى " كل ".
مستدلاًّ بقول لَبِيد : [ الكامل ]
تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضَهَا... أوْ يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يعني كلّ النفوس.
وقد يرد الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الزنا ، والسرقةَ ، والقَتْلَ ؛ لأنها كانت محرَّمةً عليهم ، فلو كان المعنى : ولأحِلَّ لكم كُلَّ الذي حُرِّم عليكم لأحلَّ لهم ذلك كلَّه.
واستدل بعضهم على أن " بَعْضاً " بمعنى " كُلّ " بقول الآخر : [ الطويل ]
أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
أي : أهون من كل شر.
واستدل آخرون بقول الشَّاعِر : [ البسيط ]
إنَّ الأمُورَ إذَا الأحْدَاثُ دَبَّرَهَا... دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ
(13/272)
أي : في كلها خللاً ، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه ؛ إذ مراد لبيد بـ " بَعْضَ النُّفُوسِ " نفسه هو والتبعيض في البيت الآخر واضح ؛ فإن الشر بعضه أهون من بعضٍ آخر لا من كُلِّه ، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان خَلَلاً ، بل قد يأتي تدبيره خيراً من تدبير الشيخ.
وقرأ العامة : " حُرِّمَ " بالبناء للمفعول ، والفاعل هو الله. وقرأ عكرمة " حَرَّمَ " مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى ، أو الموصول في قوله : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ لأنه كتاب مُنزَّل ، أو موسى ؛ لأنه هو صاحب التوراة ، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه.
وقرأ إبراهيم النّخْعِيُّ : " حَرُمَ " - بوزن شَرُفَ وظَرُفَ - ونُسِب الفعل إليه مجازاً للعلم بأن المُحَرِّم هو الله.
قوله : { وَجِئْتُكُمْ } هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيداً للأولَى ؛ لتقدُّم معناها ولفظها قبل ذلك.
قال أبو البقاء : " هذا تكرير للتوكيد ؛ لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها ".
ويحتمل أن تكون للتأسيس ؛ لاختلاف متعلَّقها ومتعلَّق ما قبلها.
قال أبو حَيَّانَ : قوله : { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } للتأسيس ، لا للتوكيد لاختلاف متعلقها لقوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وتكون هذه الآية هي { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } ، لأن هذا القولَ شاهدٌ على صحة رسالتِه ؛ إذ جميعُ الرُّسُلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجعل هذا القولَ آيةَ وعلامةً ؛ لأنه رسول كسائر الرُّسُلِ ؛ حيث هداه للنظر في أدلَّةِ العقل والاستدلال قاله الزمخشريُّ ، [ وهو صحيح ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 252 ـ 255}. بتصرف يسير.
فصل
قال القرطبى :
{ بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } يعني من الأطعمة.
قيل : إنما أحل لهم عيسى عليه السلام ما حُرّم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة ، نحو أكل الشحوم وكل ذي ظفر.(13/273)
وقيل : إنما أحل لهم أشياء حرّمتها عليهم الأحبار ولم تكن في التوراة محرّمة عليهم.
قال أبو عبيدة : يجوز أن يكون "بعض" بمعنى كل ؛ وأنشد لِبيد :
تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذا لم أرضها . . .
أو يَرْتَبِطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها
وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة ؛ لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل في هذا الموضع ، لأن عيسى صلى الله عليه وسلم إنما أحل لهم أشياء مما حرّمها عليهم موسى من أكل الشحوم وغيرها ولم يحل لهم القتل ولا السرقة ولا فاحشة.
والدليل على هذا أنه روى عن قتادة أنه قال : جاءهم عيسى بألْيَن مما جاء به موسى صلَّى الله عليهما وعلى نبينا ؛ لأن موسى جاءهم بتحريم الإبل وأشياءَ من الشحوم فجاءهم عيسى بتحليل بعضها.
وقرأ النَّخَعيّ { بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } مثل كرم ، أي صار حراماً.
وقد يوضع البعض بمعنى الكل إذا انضمت إليه قرينة تدل عليه ؛ كما قال الشاعر :
أبا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فاستبقِ بعضَنا . . .
حَنَانَيْك بعضُ الشر أهْوَنُ من بعِض
يريد بعض الشر أهون من كله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 96}(13/274)
وقال الآلوسى :
{ بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } أي في شريعة موسى عليه السلام. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال : كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام وكان قد حرم عليهما فيما جاء به موسى عليه السلام لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى ، وفي أشياء من السمك ، وفي أشياء من الطير مما لا صيصية له ، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاء عيسى بالتخفيف منه في "الإنجيل". وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله ، وهذا يدل على أن "الإنجيل" مشتمل على أحكام تغاير ما في "التوراة" وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى ، ولا يخل ذلك بكونه مصدقاً للتوراة فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول لا رفع وإبطال كما تقرر ، وهذا مثل نسخ القرآن بعضه ببعض ، وذهب بعضهم إلى أن "الإنجيل" لم يخص أحكاماً ولا حوى حلالاً وحراماً ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وزواجر ، وما سوى ذلك من الشرائع والأحكام فمحالة على "التوراة" ، وإلى أن عيسى عليه السلام لم ينسخ شيئاً مما في "التوراة" ، وكان يسبت ويصلي نحو البيت المقدس ، ويحرم لحم الخنزير ، ويقول بالختان إلا أن النصارى غيروا ذلك بعد رفعه فاتخذوا يوم الأحد بدل يوم السبت لما أنه أول يوم الأسبوع ومبدأ الفيض ، وصلوا نحو المشرق لما تقدم ، وحملوا الختان على ختان القلب وقطعه عن العلائق الدنيوية والعوائق عن الحضرة الإلهية وأحلوا لحم الخنزير مع أن مرقس حكى في "إنجيله" أن المسيح أتلف الخنزير وغرق منه في البحر قطيعاً كبيراً وقال لتلامذته : لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير فقرنها بالكلاب ، وسبب ذلك زعمهم أن بطرس رأى في النوم صحيفة نزلت من السماء ، وفيها صور الحيوانات وصورة الخنزير وقيل له : يا بطرس كل منها ما أحببت ونسب هذا القول إلى وهب بن منبه ، والذاهبون إليه أولوا الآية بأن المراد ما(13/275)
حرمه علماؤهم تشهياً أو خطأ في الاجتهاد ، واستدلوا على ذلك بأن المسيح عليه السلام قال في "الإنجيل" : ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها ، ولا يخفى أن تأويل الآية بما أولوه به بعيد في نفسه ، ويزيده بعداً أنه قرىء حرم بالبناء للفاعل وهو ضمير ما { بَيْنَ يَدَىِ } أو الله تعالى ، وقرىء أيضاً حرم بوزن كرم ، وأن ما ذكروه من كلام المسيح عليه السلام لا ينافي النسخ لما علمت أنه ليس بإبطال وإنما هو بيان لانتهاء الحكم الأول ، ومعنى التكميل ضم السياسة الباطنة التي جاء بها إلى السياسة الظاهرة التي جاء بها موسى عليه السلام على ما قيل أو نسخ بعض أحكام التوراة بأحكام هي أوفق بالحكمة وأولى بالمصلحة وأنسب بالزمان ، وعلى هذا يكون قول المسيح حجة للأولين لا عليهم ، ولعل ما ذهبوا إليه هو المعول عليه كما لا يخفى على ذوي العرفان. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 171 ـ 172}
قوله تعالى : {وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}
فائدة
قال ابن الجوزى :
{ وجئتكم بآية } أي : بآيات تعلمون بها صدقي ، وإنما وحد ، لأن الكل من جنس واحد. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 393}
قال الفخر :
خوفهم فقال : {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله تعالى فبيّن أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم به عن ربي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 53}
قال الطبرى :
يعني بذلك : وجئتكم بآية من ربكم تعلمون بها يقينًا صدقي فيما أقول "فاتقوا الله" ، يا معشرَ بني إسرائيل ، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى ، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه "وأطيعون" ، فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ربي وربكم ، فاعبدوه ، فإنه بذلك أرسلني إليكم ، وبإحلال بعض ما كان محرّمًا عليكم في كتابكم ، وذلك هو الطريق القويمُ ، والهدى المتينُ الذي لا اعوجاج فيه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 441}(13/276)
سؤال : فإن قلت : كيف جعل هذا القول آية من ربه ؟
قلت لأنّ الله تعالى جعله له علامة يعرف بها أنه رسول كسائر الرسل ، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والاستدلال. ويجوز أن يكون تكريراً لقوله : { جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم ، من خلق الطير ، والإبراء ، والإحياء ، والإنباء بالخفايا ، وبغيره من ولادتي بغير أب ، ومن كلامي في المهد ، ومن سائر ذلك. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 392 ـ 393}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
{ ومصدّقاً } حال من ضمير المقدّر معه ، وليس عطفاً على قوله : { ورسولا } [ آل عمران : 49 ] لأنّ رسولاً من كلام الملائكة ، { ومصدقاً } من كلام عيسى بدليل قوله : { لما بين يدي }.
والمصدّق : المخبر بصِدق غيره ، وأدخلت اللام على المفعول للتقوية ، للدلالة على تصديقٍ مُثبت محقّق ، أي مصدّقاً تصديقاً لا يشوبُه شك ولا نِسبةٌ إلى خطأ.
وجَعْل التصديق متعدياً إلى التوراة تَوْطئة لقوله : { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم }.
ومعنى ما بين يديّ ما تقدم قبلي ، لأنّ المتقدّم السابق يمشي بين يدي الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق ، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة ، لأنّها لما اتّصل العمل بها إلى مَجيئه ، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل.
ويستعمل بين يديْ كذا فِي معنى المشاهَد الحاضر ، كما تقدم في قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم في سورة البقرة.
وعَطْف قوله ولأحِلّ } على { رسولاً } وما بعده من الأحوال : لأنّ الحال تشبه العلة ؛ إذ هي قيد لعاملها ، فإذا كان التقييد على معنى التعليل شابَه المفعولَ لأجله ، وشابَه الجرور بلام التعليل ، فصح أن يُعطف عليها مجرورٌ بلام التعليل.
ويجوز أن يكون عطفاً على قوله : { بآية من ربكم } فيتعلّق بفعللِ جئتكم.
وعقب به قوله : { مصدّقاً لما بين يديّ } تنبيهاً على أنّ النسخ لا ينافي التصديق ؛ لأنّ النسخ إعلام بتغيُّر الحكم.(13/277)
وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل ، وفي تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعياً لحالهم في أزمنة مختلفة ، وبهذا كان رسولاً.
قيل أحلّ لهم الشحوم ، ولحوم الإبل ، وبعض السمك ، وبعض الطير : الذي كان محرّماً من قبل ، وأحلّ لهم السبت ، ولم أقف على شيء من ذلك في الإنجيل.
وظاهر هذا أنّه لم يحرّم عليهم ما حلّل لهم ، فما قيل : إنّه حرّم عليهم الطلاق فهو تقوُّل عليه وإنّما حذّرهم منه وبَيّن لهم سوء عواقبه ، وحرّم تزوج المرأة المطلّقة وينضم إلى ذلك ما لا تخلو منه دعوة : من تذكير ، ومواعظ ، وترغيبات.
{ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } { إِنَّ الله رَبِّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ }.
وقوله : { وجئتكم بآية من ربكم } تأكيد لقوله الأولِ : { أنى قد جئتكم بآية من ربكم } [ آل عمران : 49 ].
وإنما عطف بالواو لأنه أريد أن يكون من جملة الأخبار المتقدّمة ويحصل التأكيد بمجرّد تقدم مضمونه ، فتكون لهذه الجملة اعتباران يجعلانها بمنزلة جملتين ، وليبنى عليه التفريع بقوله : { فاتقوا الله وأطيعون }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 103}
من اللطائف فى الآيات السابقة
قال ابن عجيبة :
(13/278)
كل من انقطع بكليته إلى مولاه ، وصدف عن حظوظه ، وهواه ، وأفنى شبابه في طاعة ربه ، وجعل يلتمس في حياته دواء قلبه ، تحققت له البشارة في العاجل والآجل ، وحصل له التطهير من درن العيوب والرذائل ، ورزقه من فواكه العلوم ، ما تتضاءل دون إدراكه غاية الفهوم ، هذه مريم البتول أفنت شبابها في طاعة مولاها ، فقربها إليه وتولاها ، وبشرها بالاصطفائية والتطهير ، وأمرها شكراً بالجد والتشمير ، ثم بشّرها ثانياً بالولد النزيه والسيد النبيه ، روح الله وكلمة الله ، من غير أب ولا سبب ، ولا معالجة ولا تعب ، أمره بأمر الله ، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، هذا كله ببركة الانقطاع وسر الاتباع.
قال صلى الله عليه وسلم : " من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة ، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ ، ومن انطقعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها ".
وقال بعضهم : صِدْقُ المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر ، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر ، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله ، وأحيا موتى القلوب بذكر الله ، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب ، يدل على طاعة الله ، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله ، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم ، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 281}(13/279)
قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان كأنه قيل : ما تلك الآية التي سميتها " آية " بعد ما جئت به من الأشياء الباهرة قال : {إن الله} الجامع لصفات الكمال {ربي وربكم} أي خالقنا ومربينا ، أنا وأنتم في ذلك شرع واحد ، وقراءة من فتح {إن} أظهر في المراد {فاعبدوه هذا} أي الذي دعوتكم إليه {صراط مستقيم} أنا وأنتم فيه سواء ، لا أدعوكم إلى شيء إلا كنت أول فاعل له ، ولا أدعي أني إله ولا أدعو إلى عبادة غير الله تعالى كما يدعي الدجال ويغره من الكذبة الذين تظهر الخوارق على أيديهم امتحاناً من الله سبحانه وتعالى لعباده فيجعلونها سبباً للعلو في الأرض والترفع على الناس ، وجاء بالتحذير منهم وتزييف أحوالهم الأنبياء ، وإلى هذا يرشد قول عيسى عليه السلام فيما سيأتي عن إنجيل يوحنا أن من يتكلم من عنده إنما يطلب المجد لنفسه ، فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم ؛ وإلى مثل ذلك أرشدت التوراة فإنه جعل العلامة على صدق الصادق وكذب الكاذب الدعوة ، فمن كانت دعوته إلى الله سبحانه وتعالى وجب تصديقه ، من كذبه هلك ، ومن دعا إلى غيره وجب تكذيبه ، ومن صدقه هلك ؛ قال في السفر الخامس منها : وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب ، ولا يوجد فيكم من يقبر ابنه أو ابنته في النار نذراً للأصنام ، ولا من يطلب تعليم العرافين ، ولا من يأخذ بالعين ، ولا يوجد فيكم من يتطير طيرة ، ولا ساحر ، ولا من يرقى رقية ، ولا من ينطلق إلى العرافين والقافة فيطلب إليهم ويسألهم عن الموتى ، لأن كل من يعمل هذه الأعمال هو نجس بين يدي الله ربكم ، ومن أجل هذه النجاسة يهلك الله هذه الشعوب من بين أيديكم ؛ ولكن كونوا متواضعين مخبتين أما الله ربكم ، لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والمنجمين ، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم ، بل يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي ، فأطيعوا ذلك النبي كما أطعتم الله ربكم في حوريب يوم(13/280)
الجماعة وقلتم : لا نسمع صوت الله ربنا ولا نعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت ، فقال الرب : ما أحسن ما تكلموا! سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك وأجري قولي فيه ويقول لهم ما آمره به ، والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ، فأما النبي الذي يتكلم ويتجرأ باسمي ويقول ما لم آمره أن يقوله ويتكلم بأسماء الآلهة الأخرى ليقتل ذلك النبي ، وإن قلتم في قلوبكم : كيف لنا أن نعرف القول الذي لم يقله الرب ، إذا تكلم ذلك النبي باسم الرب فلم يكمل قوله : ولم يتم فلذلك القول لم يقله الرب ولكن تكلم ذلك النبي جراءة وصفاقة وجه ، فلا تخافوه ولا تفزعوا منه ؛ وقال قبل ذلك بقليل : وإذا أهلك الله الشعوب التي تنطلقون إليها وأبادهم م نبين أيديكم وورثتموهم وسكنتم أرضهم ، احفظوا ، لا تتبعوا آلهتهم من بعد ما يهلكهم الله من بين أيديكم ، ولا تسألوا عن آلهتهم ولا تقولوا : كيف كانت هذه الشعوب تعبد آلهتها حتى نفعل نحن مثل فعلها ؟ ولا تفعلوا مثل فعالها أمام الله ربكم ، لأنهم عملوا بكل ما أبغض الله وأحرقوا بنيهم وبناتهم لآلهتهم ، ولكن القول الذي آمركم به إياه احفظوا وبه اعملوا! لا تزيدوا ولا تنقصوا منه شيئاً فإن قام بينكم نبي أو من يفسر أحلاماً وعمل آية أو عجيبة ويقول : اقبلوا بنا نعبد الآلهة الأخرى التي لا تعرفونها ونتبعها - لا يقبل قول ذلك النبي وصاحب الأحلام ، لأنه إنما يريد ، أن يجربكم ليعلم هل تحبون الله ربكم ، احفظوا وصاياه واتقوا واسمعوا قوله واعبدوه والحقوا به ، فأما ذلك النبي وذلك الذي تحلّم الأحلام فليقتل ، لأنه نطق بإثم أمام الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر وخلصكم من العبودية فأراد أن يضلكم عن الطريق الذي أمركم الله ربكم أن تسيروا فيه ، واستأصلوا الشر من بينكم ، وإن شوقك أخوك ابن أمك وأبيك أو ابنتك أو حليلتك أو صديقك ويقول لك : هلم بنا نتبع الآلهة الأخرى التي لم تعرفها أنت ولا آباؤك من(13/281)
آلهة الشعوب التي حولكم - القريبة منكم والبعيدة - ومن أقطار الأرض إلى أقصاها - لا تقبل قوله ولا تطعه ولا تشفق عليه ولا ترحمه ولا تلتمّ عليه ولا تتعطف عليه ، ولكن اقتله قتلاً ، وابدأ به أنت قتلاً ، ثم يبدأ به جميع الشعوب ، وارجموه بالحجارة وليمت ، لأنه أراد أن يضلك عن عبادة الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر وخلصك من العبودية ، ويسمع بذلك جميع بني إسرائيل ، ويفزعون فلا يعودوا أن يعملوا مثل هذا العمل السوء بينكم ، وإذا سمعتم أن في قرية من القرى التي أعطاكم الله قوماً قد ارتكبوا خطيئة وأضلوا أهل قريتهم وقالوا لهم : ننطلق فنعبد آلهة أخرى لم تعرفوها ، ابحثوا نعماً وسلوا حسناً ، إن كان القول الذي بلغكم يقيناً وفعلت هذه النجاسة في تلك القرية اقتلوا أهل تلك القرية بالسيف ، واقتلوا كل من فيها من النساء والصبيان والبهائم بالسيف ، واجمعوا جميع نهبها خارج القرية وأحرقوا القرية بالنار وأحرقوا كل نهبها أما الله ربكم ، وتصير القرية تلاً خراباً إلى الأبد ولا تبنى أيضاً ، ولا يلصق بأيديكم من خرابها شيء ليصرف الرب غضبه عنكم ويعطف عليكم ويفيض رحمته عليكم ويجيبكم ويرحمكم ويكثركم كما قال لآبائكم ؛ هذا إن أنتم سمعتم قول الله ربكم ، وحفظتم وصاياه التي أمرتكم بها اليوم ، وعملتم الحسنات أمام الله ربكم ، فإذا فعلتم هذا صرتم لله ربكم ، لا تأثموا ولا تصيروا شبه الوحش ولا تخدشوا وجوهكم وبين أعينكم على الميت ، لأنكم شعب طاهر لله ربكم ، وإياكم اختار الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً أفضل من جميع شعوب الأمم - انتهى.
(13/282)
فقد تبين من هذا كله أن عيسى عليه الصلاة والسلام مصدق للتوراة في الدعاء إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وأن الآية الكبرى على صدق النبي الحق اختصاصه الله تعالى بالدعوة وتسويته بين نفسه وجميع من يدعوه في الإقبال عليه والتعبد له والتخشع لديه ، وأن الآية على كذب الكاذب دعاؤه إلى غير الله ؛ وفي ذلك وأمثاله مما سيأتي عن الإنجيل في سورة النساء تحذير من الدجال وأمثاله ، فثبت أن المراد بالآية في هذه الآية ما قدمته من الإخبار بأن الله سبحانه وتعالى رب الكل والأمر بعبادته ، وهذا كما يأتي من أمر الله سبحانه وتعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [ آل عمران : 64 ] إلى قوله : {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} [ آل عمران : 64 ]. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 94 ـ 96}
قال الفخر فى معنى الآية :
ختم كلامه بقوله {إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ} ومقصوده إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولون : إنه إله وابن إله لأن إقراره لله بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال النصارى عليه ، ثم قال : {فاعبدوه} والمعنى : أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه ، ثم أكد ذلك بقوله {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 53}
وقال السمرقندى :
{ إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ } أي خالقي وخالقكم ، ورازقي ورازقكم ، فاعبدوه ، أي وحدوه ولا تشركوا به شيئاً { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } يعني هذا التوحيد الذي أدعوكم إليه طريق مستقيم ، لا عوج فيه ، وهو طريق الجنة. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 241}
وقال ابن عاشور :
قوله : { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } إنّ مكسورة الهمزة لا محالة ، وهي واقعة موقع التعليل للأمر بالتقوى والطاعة كشأنها إذا وقعت لِمجرّد الاهتمام كقول بشار
...
.
بَكِّرا صَاحِبَيّ قَبْلَ الهَجير(13/283)
إنّ ذَاكَ النجَاحَ في التبْكِيرِ...
ولذلك قال : { ربي وربكم } فهو لكونه ربّهم حقيق بالتقوى ، ولكونه ربّ عيسى وأرسله تقتضي تقواه طاعةَ رسوله.
وقوله : فاعبدوه تفريع على الرُّبوبية ، فقد جعل قولَه إنّ الله ربي تعليلاً ثم أصلا للتفريع.
وقوله : { هذا صراط مستقيم } الإشارة إلى ما قاله كلِّه أي أنّه الحق الواضح فشبهه بصراط مستقيم لا يضلّ سالكه ولا يتحير. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 104}(13/284)
وقال الآلوسى :
{ إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٍ } بيان للآية المأتي بها على معنى : هي قولي : إن الله ربي وربكم. ولما كان هذا القول مما أجمع الرسل على حقيته ودعوا الناس إليه كان آية دالة على رسالته ، وليس المراد بالآية على هذا المعجزة ليرد أن مثل هذا القول قد يصدر عن بعض العوام بل المراد أنه بعد ثبوت النبوة بالمعجزة كان هذا القول لكونه طريقة الأنبياء عليهم السلام علامة لنبوته تطمئن به النفوس ، وجوز أن يراد من الآية المعجزة على طرز ما مر ، ويقال : إن حصول المعرفة والتوحيد والاهتداء للطريق المستقيم في الاعتقادات والعبادات عمن نشأ بين قوم غيروا دينهم وحرفوا كتب الله تعالى المنزلة وقتلوا أنبياءهم ولم يكن ممن تعلم من بقايا أخبارهم من أعظم المعجزات وخوارق العادات. أو يقال من الجائز أن يكون قد ذكر الله تعالى في التوراة إذا جاءكم شخص من نعته كذا وكذا يدعوكم إلى كيت وكيت فاتبعوه فإنه نبي مبعوث إليكم فإذا قال : أنا الذي ذكرت بكذا وكذا من النعوت كان من أعظم الخوارق ، وقرىء أن الله بفتح همزة أن على أن المنسبك بدل من ( آية ) أو أن المعنى : جئتكم بآية دالة على أن الله الخ ، ومثل هذا محتمل على قراءة الكسر أيضاً لكن بتقدير القول ، وعلى كلا التقديرين يكون قوله تعالى : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } [ آل عمران : 50 ] اعتراضاً ، وقد ذكر غير واحد أن الظاهر أن هذه الجملة معطوفة عل جملة { جِئْتُكُم } [ آل عمران : 49 ] الأولى وكررت ليتعلق بها معنى زائد وهو قوله سبحانه : { إِنَّ الله رَبّى } أو للاستيعاب كقوله تعالى : { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ الملك : 4 ] أي : جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالمخفيات ، ومن ولادتي بغير أب ، ومن كلامي في المهد ونحو ذلك والكلام الأول : لتمهيد الحجة عليهم ، والثاني : لتقريبها إلى الحكم(13/285)
وهو إيجاب حكم تقوى الله تعالى وطاعته ولذلك جيء بالفاء في { فاتقوا الله } [ آل عمران : 50 ] كأنه قيل : لما جئتكم بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات فاتقوا الله الخ ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : { إِنَّ الله } الخ ابتداء كلام وشروعاً في الدعوة المشار إليها بقول مجمل ، فإن الجملة الاسمية المؤكدة بأن للإشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد ، وقوله تعالى : { فاعبدوه } إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه ملازمة الطاعة التي هي الاتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، وتعقيب هذين الأمرين بقوله سبحانه : { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } تقرير لما سبق ببيان أن الجمع بين الأمرين الاعتقاد الحق ، والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة ، ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر لأن الله ربي وربكم فاعبدوه فهو كقوله تعالى : { لإيلاف قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] الخ ، والإشارة إما إلى مجموع الأمرين ، أو إلى الأمر الثاني المعلول للأمر الأول ، والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض ؛ وجملة { هذا } الخ على ما قيل : استئناف لبيان المتقضي للدعوة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 172 ـ 173}
فائدة
قال الطبرى :
وهذه الآية وإن كان ظاهرُها خبرًا ، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد الذين حاجُّوه من أهل نجران ، بإخبار الله عزّ وجل عن أن عيسى كان بريئًا مما نسبه إليه مَن نسبه إلى غير الذي وصفَ به نفسه ، من أنه لله عبدٌ كسائر عبيده من أهل الأرض ، إلا ما كان الله جل ثناؤه خصَّه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلا على صدقه - كما آتى سائرَ المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم - وحُجةً على نبوته. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 442}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :(13/286)
قوله : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } قراءة العامة بكسر همزة " إنّ " على الإخبار المستأنف ؛ وهذا ظاهر على قولنا : إن { جِئْتُكُمْ } تأكيد.
أما إذا جعلناه تأسيساً ، وجُعِلَت الآية هي قوله : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } - بالمعنى المذكور أولاً - فلا يصحُ الاستئناف ، بل يكون الكسر على إضمار القول ، وذلك القول بدلٌ من الآية ، كأن التقدير : وجئتكم بآية من ربكم قَوْلي : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } ، ف " قَوْلِي " بدلٌ من آية ، و" إنّ " وما في حَيِّزها معمول " قولي " ، ويكون قوله : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } اعتراضاً بين البدل والمُبْدَل منه.
وقرئ بفتح الهمزة ، وفيه أوجُهٌ :
أحدها : أنه بدل من " آية " ، كأن التقدير : وجئتكم بأن الله ربي وربكم ، أي : جئتكم بالتوحيد.
وقوله : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } اعتراضٌ أيضاً.
الثاني : أن ذلك على إضمار لام العلة ، ولام العلةِ متعلقة بما بعدها من قوله { فاعبدوه } ، والتقدير : فاعبدوه لأن الله ربي وربكم كقوله : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] إلى أن قال : { فَلْيَعْبُدُواْ } [ قريش : 3 ] إذ التقدير فليعبدوا ، لإيلاف قريش ، وهذا عند سيبويه وأتباعه - ممنوع ؛ لأنه متى كان المعمول أنّ وصلتها يمتنع تقديمها على عاملها لا يجيزون : أنَّ زيداً منطق عرفت - تريد عرفت أن زيداً منطلقٌ - للفتح اللفظي ، إذْ تَصَدُّرُها - لفظاً يقتضي كسرها.
الثالث : أن يكون على إسقاط الْخَافِضِ - وهو على - و" على " يتعلق بآية بنفسها ، والتقدير : وجئتكم بآية على أن الله ، كأنه قيل : بعلامة ودلالة على توحيد الله - تعالى - قاله ابنُ عَطِيَّةَ ، وعلى هذا فالجملتان الأمْرِيَّتان اعتراض - أيضاً - وفيه بُعْدٌ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 255 ـ 256}(13/287)
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة والبديع : إسناد الفعل للآمر به لا لفاعله ، في قوله : إن الله يبشرك ، اذ هم المشافهون بالبشارة ، والله الآمر بها.
ومثله : نادى السلطان في البلد بكذا ، وإطلاق اسم السبب على المسبب في قوله : بكلمة منه ، على الخلاف الذي في تفسير : كلمة.
والاحتراس : في قوله : وكهلاً ، من ما جرت به العادة أن من تكلم في حال الطفولة لا يعيش.
والكناية : في قوله : ولم يمسسني بشر ، كنى بالمسّ عن الوطء ، كما كنى عنه : بالحرث ، واللباس ، والمباشرة.
والسؤال والجواب في : قالت الملائكة وفي أنى يكون ؟ والتكرار : في : جئتكم بآية.
وفي : أنى أخلق لكم.
و ، في : الطير ، وفي : بإذن الله ، وفي : ربي وربكم ، وفي : ما ، في قوله : بما تأكلون وما.
والتعبير عن الجمع بالمفرد في : الآية ، وفي : الأكمة والأبرص ، وفي : إذا قضى أمراً.
والطباق في : وأحيي الموتى ، وفي : لاحل وحرم والالتفات في : ونعلمه فيمن قرأ بالنون والتفسير بعد الإبهام في : من قال : الكتاب مبهم غير معين ، والتوراة والإنجيل تفسير له والحذف في عدة مواضع. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 492}(13/288)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى : مخبرا عن عيسى عليه السلام : "إن الله ربى وربكم فاعبدوه" ، وفى سورة مريم : "وإن الله ربى وربكم فاعبدوه" ، فعطف الآية على ما قبلها بواو النسق وفى سورة الزخرف : "إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه" بغير حرف النسق مع زيادة الفصل بالضمير من قوله"هو" ولم يقع ذلك فى الآيتين قبل كما لم يقع العطف فى الأولى والثالثة فانفردت كل آية من الثلاث بما وردت عليه مع اتحاد المقصد فيما أعطته كل واحدة منها فللسائل أن يسأل عن ذلك ؟
والجواب والله أعلم : أن آية مريم لما تضمنت مقالة عيسى عليه السلام وآية كلامه فى المهد مخبرا عن حاله النبوية وما منحه الله من الخصائص الاصطفائية فقال : "إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا" إلى ما أعقب به هذا من الخصائص الجليلة منسوقا بعضها على بعض ليبين تعداد تلك النعم إلى قوله : "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا" ، فذكر ما حفظ الله عليه من كرامته فى هذه الأحوال الثلاثة البشرية وهى : حال الولادة وحال الموت وحال البعث بعده وهذه أحوال تتنزه الربوبية عنها وتتعالى عن تجويزها عليه سبحانه وإذا صحبتها العادة لم تكن نقصا فى البشرية إذ بها امتيازها وهى من حيث الحيوانية الحادثة فصلها. ثم لما كان من تمام إخبار عيسى عليه السلام وتعريفه بما عرف به وتكميل ما قصد به إقراره لله سبحانه بالربوبية للكل فى قوله : "وإن الله ربى وربكم فاعبدوه" وكان متصلا بما تقدم وكأن قد قال : إنى عبد الله ومخصوص منه بكذا وكذا ومعترف بانفراد خالقى بملك الكل وقهرهم وخلقهم فهو ربهم ومالكهم والمعبود الحق فلما كان الكلام من حيث معناه متصلا وقد ورد أثناءه ما يعطى بظاهره حين أخبر تعالى عنه بقوله عليه السلام : "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا"(13/289)
إن كلام عيسى عليه السلام قد تم وانقضى وشرع فى قضية أخرى من التعريف بحقيقة أمر عيسى عليه السلام فقال تعالى : "ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" فورد هنا مورد الجمل التى كأنها مفصولة مما قبلها مع الحاجة إليها واتصال ما بعدها بما قبلها لك يكن بد من حرف النسق ليحصل منه أنه كلام غير منقطع بعضه من بعض ولا مستأنف بل هو معطوف على ما تقدمه من كلام عيسى عليه السلام فلم يكن بد من حرف النسق لإحراز هذا الالتحام إذ لم يكن ليحصل دون حرف النسق حصوله معه فقيل : "وإن الله ربى وربكم" وهو حكاية قول عيسى
متصلا من حيث معناه بقوله : "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا" فالوجه عطفه عليه مع الحاجة إلى ما توسط الكلامين فهذا وجه ورود الواو هنا ولم يعرض فى آية آل عمران فصل بين الآية وما قبلها يوهم انقطاعا فيحتاج إلى الواو فهذا وجه دخولها فى هذه الآية والله أعلم.(13/290)
وأما زيادة الضمير الفصلى فى سورة الزخرف فيحرز بمفهومه معنى ضروريا دعا إليه ما تقدم فى الآية قبله وذلك ما أشار اليه قوله سبحانه وتعالى : "ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون" إلى ما يتلو هذه ففى التفسير أنه لما نزل قوله تعالى : "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" الآية تعلق بها الكفار وقالوا قد عبدت الملائكة وعبد المسيح وأنت يا محمد تزعم أن عيسى نبى مقرب وأن الملائكة عباد مقربون فإذا كان هؤلاء مع آلهتنا فى النار فقد رضينا وجادلوا بهذا فأنزل الله تعالى : "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" وهذا مبسوط فى كتب التفسير فلما كان قد تقدم فى سورة الزخرف ذكر آلهتهم وقولهم : "ءآلهتنا خير أم هو" يعنون المسيح ناسبه ما أعقبه به من قوله تعالى حاكيا عن المسيح عليه السلام : "إن الله ربى وربكم" فكأن قد قيل : هؤلاء غيره فأحرز"هو" هذا المعنى ولم يرد فى آية آل عمران وآية مريم من ذكر آلهتهم ما ورد هنا فلم يحتج إلى الضمير المحرز لما ذكرناه وسنورد إن شاء الله فى قوله تعالى فى سورة النجم : "وأنه أضحك وأبكى وأنه أمات وأحيا" قوله بعد : "وأنه هو أغنى وأقنى وأنه هو رب الشعرى" بإثبات هذا الضمير فى أربعة مواضع وكونه لم يثبت فى قوله : "وأنه خلق الزوجين" ولا فى قوله : "وأن عليه النشأة الأخرى" ولا فى قوله : "وأنه أهلك عادا الأولى" وتوجيه ذلك والفرق بين ما ورد فيه منها الضمير وما لم يرد فيه ما يوضح وجه وروده فى آية الزخرف وسقوطه فى الآيتين قبلها أتم إيضاح وأشفاه ، ومن هذا قوله تعالى : "فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم" فـ"أنت" هنا كـ"هو" فيما ذكر
ومحرزة ذلك المعنى من إفراد المشار اليه بالضمير بما حصله الخبر فتأمله فإنه بين فيما ذكرناه والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل صـ 115 ـ 118}(13/291)
من ردود شيخ الإسلام ابن تيمية على شبه النصارى
قال عليه الرحمة والرضوان ما نصه :
فصل
وقولهم فالإله واحد خالق واحد رب واحد
هو حق في نفسه لكن قد نقضوه بقولهم في عقيدة إيمانهم نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد إله حق من إله حق من جوهر أبيه مساو الأب في الجوهر فأثبتوا هنا إلهين ثم أثبتوا روح القدس إلها ثالثا وقالوا إنه مسجود له فصاروا يثبتون ثلاثة آلهة ويقولون إنما نثبت إلها واحدا وهو تناقض ظاهر وجمع بين النقيضين بين الإثبات والنفي
ولهذا قال طائفة من العقلاء إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا بل تكلموا بجهل وجمعوا في كلامهم بين النقيضين ولهذا قال بعضهم لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولا وقال آخر لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولا وامرأته قولا آخر وابنه قولا ثالثا فصل
وقولهم لا يتبعض ولا يتجزأ مناقض لما ذكروه في أمانتهم ولما يمثلونه به
فإنه يمثلونه بشعاع الشمس والشعاع يتبعض ويتجزأ فإن ما يقوم منه بهذا الموضع بعض وجزء منه ويمكن زوال بعضه مع بقاء بعض فإنه إذا وضع على مطرح الشعاع شيء فصل ما بين جانبيه وصار الشعاع الذي كان بينهما على ذلك الفوقاني فاصلا بين الشعاعين السافلين
يبين ذلك أن الشعاع قائم بالأرض والهواء وكل منهما متجزىء متبعض وما قام بالمتبعض فهو متبعض فإن الحال يتبع المحل وذلك يستلزم التبعض والتجزىء فيما قام به
ويقولون أيضا إنه اتحد بالمسيح وأنه صعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه بل لما صعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام وإنسان تام فهم لا يقولون إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط بل اللاهوت المتحد
بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا(13/292)
وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال إن له معنى لا نفهمه بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا وإن كانوا يعقلون ما قالوه فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد وليس هو متصلا به بل غايته أن يكون مماسا له بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر
وأيضا فيقال لهم المتحد بالمسيح أهو ذات رب العالمين أم صفة من صفاته فإن كان هو الذات فهو الأب نفسه ويكون المسيح هو الأب نفسه وهذا مما اتفق النصارى على بطلانه فإنهم يقولون هو الله وهو ابن الله كما حكى الله عنهم ولا يقولون هو الأب والابن والأب عندهم هو الله وهذا من تناقضهم
وإن قالوا المتحد بالمسيح صفة الرب فصفة الرب لا تفارقه ولا يمكن اتحادها ولا حلولها في شيء دون الذات
وأيضا فالصفة نفسها ليست هي الإله الخالق رب العالمين بل هي صفته ولا يقول عاقل إن كلام الله أو علم الله أو حياة الله هي رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض فلو قدر أن المسيح هو صفة الله نفسها لم يكن هو الله ولم يكن هو رب العالمين ولا خالق السماوات والأرض
والنصارى يقولون إن المسيح رب العالمين خالق كل شيء وهو خالق آدم ومريم وإن كان ابن آدم ومريم فإنه خالق ذلك بلاهوته وهو ابن آدم ومريم بناسوته
فلو قدر أن المسيح هو صفة الرب لم تكن الصفة هي الخالق فكيف والمسيح ليس هو صفة الله نفسها بل هو مخلوق بكلمة الله وسمى كلمة الله لأن الله كونه بكن
وقال تعالى {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}(13/293)
وسماه روحه لأنه خلقه من نفخ روح القدس في أمه لم يخلقه كما خلق غيره من أب آدمي
قال الله تعالى {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}
وإن قالوا المتحد به بعض ذلك دون بعض فقد قالوا بالتبعيض والتجزئة فهم بين أمرين إما بطلان مذهبهم وإما اعترافهم بالتبعيض والتجزئة مع بطلانه
وأيضا فقولهم إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر ابن الله الوحيد المولود قبل كل الدهور
يقال لهم هذا الابن المولود المساوي للأب في الجوهر الذي هو إله حق من إله حق هل هو صفة قائمة بغيرها أو عين قائمة بنفسها
فإن كان الأول فالصفة ليست إلها ولا هي خالقة ولا يقال لها مولودة من الله ولا أنها مساوية لله في الجوهر ولم يسم قط أحد من الأنبياء ولا أتباع الأنبياء صفات الله لا ابنا له ولا ولدا ولا قال إن صفة الله تولدت منه ولا قال عاقل إن الصفة القديمة تولدت من الذات القديمة
وهم يقولون إن المسيح إله خلق السماوات والأرض لاتحاد ناسوته بهذا الابن المولود قبل كل الدهور المساوي الأب في الجوهر
وهذا كله نعت عين قائمة بنفسها كالجواهر القائمة بنفسها لا نعت صفات قائمة بغيرها وإذا كان كذلك كان التبعيض والتجزئة
لازمة لقولهم فإن القول بالولادة الطبيعية مستلزم لأن يكون خرج منه جزء قال تعالى
سورة الزخرف الآيات 15 ـ 19
وأما هذا المعنى الذي يثبته من يثبته من علماء النصارى ويسمونه ولادة وبنوة فيسمونه الصفة القديمة الأزلية القائمة بالموصوف ابنا ويسمونها تارة النطق وتارة الكلمة وتارة العلم وتارة الحكمة ويقولون هذا مولود من الله وابن الله(13/294)
فهذا لم يقله أحد من الأنبياء وأتباعهم ولا من سائر العقلاء غير هؤلاء المبتدعة من النصارى ولا يفهم أحد من العقلاء من اسم الولادة والبنوة هذا المعنى
والأنبياء لم يطلقوا لفظ الابن إلا على مخلوق وهم يقولون هو أب للمسيح بالطبع ولغيره بالوضع فلا يعقل جمهور العقلاء
وغيرهم من هذا المعنى إلا البنوة المعقولة بانفصال جزء من الوالد وهذا ينكره من ينكره من علمائهم
لكنهم لم يتبعوا الأنبياء ولم يقولوا ما تعقله العقلاء فضلوا فيما نقوله عن الأنبياء وأضلوا أتباعهم فيما قالوه وعوامهم وإن كانوا لا يقولون إن ولادة الله مثل ولادة الحيوان بانفصال شيء يوجد فيقولون ولادة لاهوتية بانفصال جزء من اللاهوت حل في الناسوت لا يعقل من الولادة غير هذا
وأيضا فقولهم ونؤمن بروح القدس الرب المحي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد ناطق في الأنبياء فقولهم المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات إذ لو كان القائم بنفسه منبثقا لكان علمه وقدرته وسائر صفاته منبثقة منه بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة فإن الكلام يخرج من المتكلم وأما الحياة فلا تخرج من الحي فلو كان في
الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن ويقولون هي العلم والكلام أو النطق والحكمة أولى بأن تكون منبثقة من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام
وقد قالوا أيضا إنه مع الأب مسجود له وممجد والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجود لها وقالوا هو ناطق في الأنبياء وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء أو صفة ملك من الملائكة كجبريل فإذا كان هذا منبثقا من الأب والانبثاق الخروج فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا
وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلا من وجوه(13/295)
منها أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض وليس جوهرا قائما بنفسه وهذا عندهم حي مسجود له وهو جوهر
ومنها أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس ولا قائما بها وحياة الرب صفة قائمة به
ومنها أن الانبثاق خصوا به روح القدس ولم يقولوا في الكلمة إنها منبثقة
والانبثاق لو كان حقا لكان بالكلمة أشبه منه بالحياة وكلما تدبر العاقل كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد
ما لا يخفى إلا على أجهل العباد ووجد فيه من مناقضته التوراة والإنجيل وسائر كتب الله ما لا يخفى من تدبر هذا وهذا
ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول فقولهم متناقض في نفسه مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين
فصل
قالوا وأما تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا أي الكلمة مع الناسوت فإنه لم يخاطب الباري أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب حسب ما جاء في هذا الكتاب بقوله
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء}
وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف روح القدس وغيرها فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف والكثائف تظهر في غير كثيف كلا
ولذلك ظهر في عيسى بن مريم إذ الإنسان أجل ما خلقه الله ولهذا خاطب الخلق وشاهدوا منه ما شاهدوا
والجواب من طرق
أحدها : أنه يقال هذا الذي ذكروه وادعوا أنه تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا أي الكلمة مع الناسوت وهو الذي يعبر عنه باتحاد اللاهوت بالناسوت هو أمر ممتنع في صريح العقل وما علم أنه ممتنع في صريح العقل لم يجز أن يخبر به رسول فإن الرسل إنما تخبر بما لا يعلم بالعقل أنه ممتنع فأما ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع فالرسل منزهون عن الإخبار عنه(13/296)
الطريق الثاني : أن الأخبار الإلهية صريحة بأن المسيح عبد الله ليس بخالق العالم والنصارى يقولون هو إله تام وإنسان تام
الطريق الثالث : الكلام فيما ذكروه
فأما الطريق الأول فمن وجوه
أحدها : أن يقال المتحد بالمسيح إما أن يكون هو الذات المتصفة بالكلام أو الكلام فقط وإن شئت قلت المتحد به إما الكلام مع الذات وإما الكلام بدون الذات فإن كان المتحد به الكلام مع الذات كان المسيح هو الأب وهو الابن وهو روح القدس وكان المسيح هو الأقانيم الثلاثة
وهذا باطل باتفاق النصارى وسائر أهل الملل وباتفاق الكتب الإلهية وباطل بصريح العقل كما سنذكره إن شاء الله
وإن كان المتحد به هو الكلمة فقط فالكلمة صفة والصفة لا تقوم
بغير موصوفها والصفة ليست إلها خالقا والمسيح عندهم إله خالق فبطل قولهم على التقديرين وإن قالوا المتحد به الموصوف بالصفة فالموصوف هو الأب والمسيح عندهم ليس هو الأب وإن قالوا الصفة فقط فالصفة لا تفارق الموصوف ولا تقوم بغير الموصوف والصفة لا تخلق ولا ترزق وليست الإله والصفة لا تقعد عن يمين الموصوف والمسيح عندهم صعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه
وأما كونه هو الأب فقط وهو الذات المجردة عن الصفات فهذا أشد استحالة وليس فيهم من يقول بهذا
الوجه الثاني : أن الذات المتحدة بناسوت المسيح مع ناسوت المسيح إن كانتا بعد الاتحاد ذاتين وهما جوهران كما كانا قبل الاتحاد فليس ذلك باتحاد
وإن قيل صارا جوهرا واحدا كما يقول من يقول منهم إنهما صارا كالنار مع الحديدة أو اللبن مع الماء فهذا يستلزم استحالة كل منهما وانقلاب صفة كل منهما بل حقيقته كما استحال الماء واللبن إذا اختلطا والنار مع الحديدة وحينئذ فيلزم أن يكون اللاهوت استحال وتبدلت صفته وحقيقته والاستحالة لا تكون إلا بعدم شيء ووجود آخر فيلزم عدم شيء من القديم الواجب الوجود بنفسه(13/297)
وما وجب قدمه استحال عدمه وما وجب وجوده امتنع عدمه فإن القديم لا يكون قديما إلا لوجوبه بنفسه أو لكونه لازما للواجب بنفسه إذ لو لم يكن لازما له بل كان غير لازم له لم يكن قديما بقدمه والواجب بنفسه يمتنع عدمه ولازمه لا يعدم إلا بعدمه فإنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم
الوجه الثالث : أن يقال الناس لهم في كلام الله عز وجل عدة أقوال وقول النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس في كلام الله فثبت بطلانه على كل تقدير وذلك أن كلام الله سبحانه إما أن يكون صفة له قائما به وإما أن يكون مخلوقا له بائنا عنه وإما أن يكون لا هذا ولا هذا بل هو ما يوجد في النفوس وهذا الثالث هو أبعد الأقوال عن أقوال الأنبياء وهو قول من يقول من الفلاسفة والصابئة إن الرب لا تقوم به الصفات وليس هو خالقا باختياره
ويقولون مع ذلك إنه ليس عالما بالجزئيات ولا قادرا على تغيير الأفلاك بل كلامه عندهم ما يفيض على النفوس وربما سموه كلاما بلسان الحال
وهؤلاء ينفون الكلام عن الله ويقولون ليس بمتكلم وقد يقولون متكلم مجازا لكن لما نطقت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أطلقه من دخل في الملل منهم ثم فسره بمثل هذا وهذا أحد قولي الجهمية
والقول الثاني : أنه متكلم حقيقة لكن كلامه مخلوق خلقه في غيره وهو قول المعتزلة وغيرهم والقول الآخر للجهمية
وعلى هذين القولين فليس لله كلام قائم به حتى يتحد بالمسيح أو يحل به والمخلوق عرض من الأعراض ليس بإله خالق وكثير من أهل الكتاب اليهود والنصارى من يقول بهذا وهذا
وأما القول الأول : وهو قول سلف الأئمة وأئمتها وجمهورها وقول كثير من سلف أهل الكتاب وجمهورهم فإما أن يقال الكلام قديم النوع بمعنى أنه لم يزل يتكلم بمشيئته أو قديم العين وإما أن يقال ليس بقديم بل هو حادث والأول هو القول المعروف عن أئمة السنة والحديث(13/298)
وأما القائلون بقدم العين فهم يقولون الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته لاعتقادهم أنه لا تحله الحوادث وما كان بمشيئته وقدرته لا يكون إلا حادثا
ولهم قولان منهم قال القديم معنى واحد أو خمسة معان وذلك المعنى يكون أمرا ونهيا وخبرا وهذه صفات له لا أقسام له وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة
ومنهم من قال هو حروف أو حروف وأصوات قديمة الأعيان
والقول الثالث : إنه متكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته قالوا وهو حادث ويمتنع أن يكون قديما لامتناع كون المقدور
المراد قديما وهذه الطوائف بنوا أقوالهم على أن ما لم يخل عن الحوادث فهو حادث لامتناع وجود ما لا نهاية له عندهم وإذا امتنع ذلك تعين أن يكون لنوع الحوادث ابتداء كما للحادث المعنى ابتداء ولم يسبق الحوادث كان معه أو بعده فيكون حادثا فلهذا منع هؤلاء أن تكون كلمات الله لا نهاية لها في الأزل وإن كان من هؤلاء من يقول بدوام وجودها في الأبد
وأما القول بأن كلمات الله لا نهاية لها مع أنها قائمة بذاته فهو القول المأثور عن أئمة السلف وهو قول أكثر أهل الحديث وكثير من أهل الكلام ومن الفلاسفة وهذه الأقوال قد بسط الكلام عليها في غير موضع
والمقصود هنا أن قول النصارى باطل على كل قول من هذه الأقوال الأربعة كما تقدم بيان بطلانه على ذينك القولين فإنه على قول الجمهور الذين يجعلون لله كلمات كثيرة إما كلمات لا نهاية لها ولم تزل وإما كلمات لها ابتداء وإذا كان له كلمات كثيرة فالمسيح ليس هو الكلمات التي لا نهاية لها وليس هو كلمات كثيرة بل إنما خلق بكلمة من كلمات الله كما في الكتب الإلهية القرآن والتوراة إنه يخلق الأشياء بكلماته
قال تعالى في قصة بشارة مريم بالمسيح
{قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}
وقال أيضا
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}(13/299)
وقال {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}
وقد أخبر الله في القرآن بخلقه للأشياء بكلماته في غير موضع بقوله
{إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}
وفي التوراة ليكن يوم الأحد ليكن كذا ليكن كذا
وأيضا فعلى قول هؤلاء وعلى قول من يجعل كلامه إما معنى واحدا وإما خمسة معاني وإما حروف وأصوات هي شيء واحد فكلهم يقولون إن الكلام صفة قائمة بالموصوف لا يتصور أن يكون جوهرا قائما بنفسه ولا يتصور أن يكون خالقا ولا للكلام مشيئة ولا هو جوهر آخر غير جوهر المتكلم ولا يتحد بغير المتكلم بل جمهورهم يقولون إنه لا يحل أيضا بغير المتكلم
ومن قال بالحلول منهم فلا يقول إن الحال جوهر ولا إله خالق فتبين أن ما قاله النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس
في كلام الله مع أن أكثر هذه الأقوال خطأ ولما كان قول النصارى فساده أظهر للعقلاء كان الخطأ الذي في أكثر هذه الأقوال قد خفي على العقلاء الذين قالوها ولم يخف عليهم فساد قول النصارى
وأيضا فالذين قالوا بالحلول من الغلاة الذين يكفرهم المسلمون كالذين يقولون بحلوله في بعض أهل البيت أو بعض المشايخ هم وإن كانوا كفارا شاركوا النصارى في الحلول ولكن لم يقولوا أن الكلمة التي حلت هي الإله الخالق فيتناقضون تناقضا ظاهرا مثل ما في قول النصارى من التناقض البين ما ليس في قول هؤلاء وإن كانوا في بعض الوجوه قولهم شر من قول النصارى
الوجه الرابع : أن يقال لو كان المسيح نفس كلمة الله فكلمة الله ليست هي الإله الخالق للسماوات والأرض ولا هي تغفر الذنوب وتجزي الناس بأعمالهم سواء كانت كلمته صفة له أو مخلوقة له كسائر صفاته ومخلوقاته فإن علم الله وقدرته وحياته لم تخلق العالم ولا يقول أحد يا علم الله اغفر لي ويا قدرة الله توبي علي ويا كلام الله ارحمني ولا يقول يا توراة الله(13/300)
أو يا إنجيله أو يا قرآنه اغفر لي وارحمني وإنما يدعو الله سبحانه وهو سبحانه متصف بصفات الكمال فكيف والمسيح ليس هو نفس الكلام
فإن المسيح جوهر قائم بنفسه والكلام صفة قائمة بالمتكلم وليس هو نفس الرب المتكلم فإن الرب المتكلم هو الذي يسمونه الأب والمسيح ليس هو الأب عندهم بل الابن فضلوا في قولهم من جهات
منها جعل الأقانيم ثلاثة وصفات الله لا تختص بثلاثة
ومنها جعل الصفة خالقة والصفة لا تخلق
ومنها جعلهم المسيح نفس الكلمة والمسيح خلق بالكلمة فقيل له كن فكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفسير ذلك وإنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات يخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه الروح وخلقوا من ماء الأبوين الأب والأم
والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء رجل بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به وقال الله كن فكان ولهذا شبهه الله بآدم في قوله
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}
فإن آدم عليه السلام خلق من تراب وماء فصار طينا ثم أيبس الطين ثم قال له كن فكان وهو حين نفخ الروح فيه صار بشرا تاما لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح فإن الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمه فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر ثم يخرج طفلا يرتضع ثم يكبر شيئا بعد شيء وآدم عليه السلام حين خلق جسده قيل له كن فكان بشرا تاما بنفخ الروح فيه ولكن لم يسم كلمة الله لأن جسده خلق من التراب والماء وبقي مدة طويلة يقال أربعين سنة فلم يكن خلق جسده إبداعيا في وقت واحد بل خلق شيئا فشيئا وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة(13/301)
وأما المسيح عليه السلام فخلق جسده خلقا إبداعيا بنفس نفخ روح القدس في أمه قيل له كن فكان فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أن الاسم العام إذا كان له نوعان خصت أحد النوعين باسم وأبقت الاسم العام مختصا بالنوع كلفظ الدابة والحيوان فإنه عام في كل ما يدب وكل حيوان ثم لما كان للآدمي اسم يخصه
بقي لفظ الحيوان يختص به البهيم ولفظ الدابة يختص به الخيل أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك وكذلك لفظ الجائز والممكن وذوي الأرحام وأمثال ذلك فلما كان لغير المسيح ما يختص به أبقي اسم الكلمة العامة مختصا بالمسيح
الطريق الثاني أن ما ذكروه حجة عليهم فإن الله إذا لم يكلم أحد من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب فالمسيح عيسى بن مريم يجب أن لا يكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل إليه رسولا
وقوله تعالى
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب}
يعم كل بشر المسيح وغيره
وإذا امتنع أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فامتناع أن يتحد به أو يحل فيه أولى وأحرى
فإن ما اتحد به وحل فيه كلمة الله من غير حجاب بين اللاهوت والناسوت وهم قد سلموا أن الله لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب
الوجه الثالث أن قوله
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب}
يقتضي أن يكون الحجاب حجابا يحجب البشر كما حجب موسى فيقتضي ذلك أنهم لا يرونه في الدنيا وإن كلمهم كما أنه كلم موسى ولم يره موسى بل سأل الرؤية فقال
{قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}
قيل أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا وعندهم في التوراة أن الإنسان لا يمكنه أن يرى الله في الدنيا فيعيش(13/302)
وكذلك قال عيسى لما سألوه عن رؤية الله فقال إن الله لم يره أحد قط وهذا معروف عندهم وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون الحجاب الحاجب للبشر ليس هو من البشر وهذا يبطل قول النصارى فإنهم يقولون إن الرب احتجب بحجاب بشري وهو الجسد الذي ولدته مريم فاتخذه حجابا وكلم الناس من ورائه والقرآن يدل على أن الحجاب ليس من البشر
يبين هذا الوجه الرابع وهو أن ذلك الجسد الذي ولدته مريم هو من جنس أجسام بني آدم فإن جاز أن يتحد به ويحل فيه ويطيق الجسد البشري ذلك في الدنيا بما يجعله الله فيه من القوة جاز أن يتحد بغيره من الأجسام بما يجعله فيها من القوة وإذا جاز أن يتحد بها جاز أن يكلمها بغير حجاب بينه وبينها بطريق الأولى والأحرى وهذا خلاف ما ذكروه وخلاف القرآن
فتبين أن نفي الأنبياء لأن يراه المرء في الدنيا هو نفي لمماسته ببشر بطريق الأولى والأحرى والناسوت المسيحي هو بشر فإذا لم يمكنه أن يرى الله فكيف يمكنه أن يتحد به ويماسه ويصير هو وإياه كاللبن والماء والنار والحديد أو كالروح والبدن
الوجه الخامس : أنه من المعلوم أن رؤية الآدمي له أيسر من
اتحاده به وحلوله فيه وأولى بالإمكان فإذا كانت الرؤية في الدنيا قد نفاها الله ومنعها على ألسن رسله موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه فكيف يجوز اتصاله بالبشر واتحاده به
الوجه السادس أنه لو كان حلوله في البشر مما هو ممكن وواقع لم يكن لاختصاص واحد من البشر بذلك دون من قبله وبعده معنى فإن القدرة شاملة والمقتضى وهو وجود الله وحاجة الخلق موجودة ولهذا لما كانت الرسالة ممكنة أرسل من البشر غير واحد ولما كان سماع كلامه للبشر ممكنا سمع كلامه غير واحد ورؤيته في الدنيا بالأبصار لم تقع لأحد باتفاق علماء المسلمين لكن لهم في النبي قولان والذي عليه أكابر العلماء وجمهورهم أنه لم يره بعينه كما دل على ذلك الكتاب والسنة(13/303)
والخلة لما كانت ممكنة اتخذ إبراهيم خليلا واتخذ محمد أيضا خليلا كما في الصحيح من غير وجه عن النبي أنه قال إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وقال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا
لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعني نفسه
الوجه السابع : قولهم وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف مثل الروح وغيرها فكلمة الله التي بها خلقت الكثائف تظهر في غير كثيف كلا
فيقال لهم ظهور اللطائف في الكثائف كلام مجمل فإن أردتم أن روح الإنسان تظهر في جسده أو الجني يتكلم على لسان المصروع ونحو ذلك فليس هذا مما نحن فيه وإن أردتم أن الله تعالى نفسه يحل في البشر فهذا محل النزاع فأين الدليل عليه وأنتم لم تذكروا إلا ما يدل على نقيض ذلك
الوجه الثامن أن هذا أمر لم يدل عليه عقل ولا نقل ولا نطق نبي من الأنبياء بأن الله يحل في بشر ولا ادعى صادق قط حلول الرب فيه وإنما يدعي ذلك الكذابون كالمسيح الدجال الذي يظهر في آخر الزمان ويدعي الإلهية فينزل الله تبارك وتعالى عيسى ابن مريم
مسيح الهدى فيقتل مسيح الهدى الذي ادعيت فيه الإلهية بالباطل المسيح الدجال الذي ادعى الإلهية بالباطل ويبين أن البشر لا يحل فيه رب العالمين
ولهذا لما أنذر النبي بالمسيح الدجال وقال
ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذر قومه به
وذكر النبي له ثلاث دلائل ظاهرة تظهر لكل مسلم تبين كذبه
أحدها قوله
مكتوب بين عينيه كافر {ك ف ر} يقرأه كل مؤمن قارىء وغير قارىء
الثاني قوله واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت فبين أن الله لا يراه أحد في الدنيا بعينيه وكل بشر فإنه يرى في الدنيا بالعين فعلم أن الله لا يتحد ببشر
الثالث قوله أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور ودلائل نفي الربوبية عنه كثيرة(13/304)
لكن لما كان حلول اللاهوت في البشر واتخاذه به مذهبا ضل به طوائف كثيرون من بني آدم النصارى وغيرهم وكان المسيح الدجال يأتي بخوارق عظيمة والنصارى احتجوا على إلهية المسيح بمثل ذلك ذكر النبي من علامات كذبه أمورا ظاهرة لا يحتاج فيها إلى بيان موارد النزاع التي ضل فيها خلق كثير من الآدميين فإن كثيرا من الناس بل أكثرهم تدهشهم الخوارق حتى يصدقوا صاحبها قبل النظر في إمكان دعواه وإذا صدقوه صدقوا النصارى في دعوى إلهية المسيح وصدقوا أيضا من ادعى الحلول
والاتحاد في بعض المشايخ أو بعض أهل البيت أو غيرهم من أهل الإفك والفجور
وبهذا يظهر الجواب عما يورده بعض أهل الكلام كالرازي على هذا الحديث حيث قالوا دلائل كون الدجال ليس هو الله ظاهرة فكيف يحتج النبي على ذلك بقوله إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور وهذا السؤال يدل على جهل قائله بما يقع فيه بنو آدم من الضلال وبالأدلة البينة التي تبين فساد الأقوال الباطلة وإلا فإذا كان بنو إسرائيل في عهد موسى ظنوا أن العجل هو إله موسى فقالوا هذا إلهكم وإله موسى وظنوا أن موسى نسيه
والنصارى مع كثرتهم يقولون إن المسيح هو الله وفي المنتسبين إلى القبلة خلق كثير يقولون ذلك في كثير من المشايخ وأهل البيت حتى إن كثيرا من أكابر شيوخ المعرفة والتصوف يجعلون هذا نهاية التحقيق والتوحيد وهو أن يكون الموحد هو الموحد وينشدون ... ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد ...
... توحيد من يخبر عن نعته ... عارية أبطلها الواحد ...
... توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد ...
فكيف يستبعد مع إظهار الدجال هذه الخوارق العظيمة أن يعتقد فيه أنه الله وهو يقول أنا الله وقد اعتقد ذلك فيمن لم يظهر فيه مثل خوارقه من الكذابين وفيمن لم يقل أنا الله كالمسيح وسائر الأنبياء والصالحين(13/305)
الوجه التاسع : قولهم فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا فيقال لهم كلمة الله التي يدعون ظهورها في المسيح أهي كلام الله الذي هو صفته أو ذات الله المتكلمة أو مجموعها فإن قلتم الظاهر فيه نفس الكلام فهذا يراد به شيئان
إن أريد به أن الله أنزل كلامه على المسيح كما أنزله على غيره من الرسل فهذا حق اتفق عليه أهل الإيمان ونطق به القرآن
وإن أريد به أن كلام الله فارق ذاته وحل في المسيح أو غيره فهو باطل مع أن هذا لاينفع النصارى فإن المسيح عندهم إله خلق السماوات والأرض وهو عندهم ابن آدم وخالق آدم وابن مريم وخالق مريم ابنها بناسوته وخالقها بلاهوته
وإن أرادوا بظهور الكلمة ظهور ذات الله أو ظهور ذاته وكلامه في الكثيف الذي هو الإنسان فهذا أيضا يراد به ظهور نوره في قلوب المؤمنين كما قال تعالى
الله نور السماوات والأرض إلى قوله كوكب دري الآية
وكما ظهر الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من
جبال فاران وكما تجلى لإبراهيم كما ذكره في التوراة فهذا لا يختص بالمسيح بل هو لغيره كما هو له
وإن أرادوا أن ذات الرب حلت في المسيح أو في غيره فهذا محل النزاع فأين دليلهم على إمكان ذلك ثم وقوعه مع أن جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم يقولون هذا غير واقع بل هو ممتنع
الوجه العاشر : قولهم فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا كلام باطل
فإن ظهور ما يظهر من الأمور الإلهية إذا أمكن ظهوره فظهوره في اللطيف أولى من ظهوره في الكثيف فإن الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام وتتلقى كلام الله من الله وتنزل به على الأنبياء عليهم السلام فيكون وصول كلام الله إلى ملائكة قبل وصوله إلى البشر وهم الوسائط(13/306)
كما قال تعالى {أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء}
والله تعالى أيد رسله من البشر حتى أطاقوا التلقي عن الملائكة وكانت الملائكة تأتيهم أحيانا في غير الصورة البشرية وأحيانا في الصورة البشرية فكان ظهور الأمور الإلهية باللطائف ووصولها إليهم أولى منه بالكثائف ولو جاز أن يتحد الرب سبحانه بحي من الأحياء ويحل فيه لكان حلوله في ملك من الملائكة واتحاده به أولى من حلوله واتحاده بواحد من البشر
الوجه الحادي عشر : أن الناسوت المسيحي عندهم الذي اتحد به هو البدن والروح معا فإن المسيح كان له بدن وروح كما لسائر البشر واتحد به عندهم اللاهوت فهو عندهم اسم يقع على بدن وروح آدميين وعلى اللاهوت وحينئذ فاللاهوت على رأيهم إنما اتحد في لطيف وهو الروح وكثيف وهو البدن لم يظهر في كثيف فقط ولولا اللطيف الذي كان مع الكثيف وهو الروح لم يكن للكثيف فضيلة ولا شرف
الوجه الثاني عشر : أنهم يشبهون اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن كما شبهوا هنا ظهوره فيه بظهور الروح في البدن وحينئذ فمن المعلوم أن ما يصيب البدن من الآلام تتألم به الروح وما تتألم به الروح يتألم به البدن فيلزمهم أن يكون الناسوت لما صلب وتألم وتوجع الوجع الشديد كان اللاهوت أيضا متألما متوجعا وقد خاطبت بهذا بعض النصارى فقال لي الروح بسيطة أي لا يلحقها ألم فقلت له فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت أمنعمة أو معذبة فقال هي في العذاب فقلت فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذب فإذا
شبهتم اللاهوت في الناسوت بالروح في البدن لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت كما تتألم الروح إذا تألم البدن فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك
الوجه الثالث عشر : أن قولهم وإذا كانت اللطائف لاتظهر إلا في الكثائف فكلمة الله لا تظهر إلا في كثيف كلا(13/307)
تركيب فاسد لا دلالة فيه وإنما يدل إذا بينوا أن كل لطيف يظهر في كثيف ولا يظهر في غيره حتى يقال فلهذا ظهر الله في كثيف ولم يظهر في لطيف وإلا فإذا قيل إنه لا يحل لا في لطيف ولا كثيف أو قيل إنه يحل فيهما بطل قولهم بوجوب حلوله في المسيح الكثيف دون اللطيف وهم لم يؤلفوا الحجة تأليفا منتجا ولا دلوا على مقدماتها بدليل فلا أتوا بصورة الدليل ولا مادته بل مغاليط لا تروج إلا على جاهل يقلدهم
ولا يلزم من حلول الروح في البدن أن يحل كل شيء في البدن بل هذه دعوى مجردة فأرواح بني آدم تظهر في أبدانهم ولا تظهر في أبدان البهائم بل ولا في الجن والملائكة تتصور في صورة الآدميين وكذلك الجن والإنسان لا يظهر في غير صورة الإنسان فأي دليل من كلامهم على أن الرب يحل في الإنسان الكثيف ولا يحل في اللطيف
والقوم شرعوا يحتجون على تجسيم كلمة الله الخالقة فقالوا وأما تجسيم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا أي الكلمة مع
الناسوت فإن الله لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب وليس فيما ذكروه قط دلالة لا قطعية ولا ظنية على تجسيم كلمة الله الخالقة وولادتها مع الناسوت
الوجه الرابع عشر : أنهم قالوا وأما تجسيم كلمة الله الخالقة ثم قالوا فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف فتارة يجعلونها خالقة وتارة يجعلونها مخلوقا بها ومعلوم أن الخالق ليس هو المخلوق به والمخلوق به ليس هو الخالق فإن كانت الكلمة خالقة فهي خلقت الأشياء ولم تخلق الأشياء بها وإن كانت الأشياء خلقت بها فلم تخلق الأشياء بل خلقت الأشياء بها ولو قالوا إن الأشياء خلق بها بمعنى أن الله إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون لكان هذا حقا لكنهم يجعلونها خالقة مع قولهم بما يناقض ذلك(13/308)
الوجه الخامس عشر : أن يقال لهم إذا كان الله لم يخاطب بشرا إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء فتكليمه للبشر بالوحي ومن وراء حجاب كما كلم موسى وبإرسال ملك كما أرسل الملائكة إما أن يكون كافيا في حصول مراد الرب من الرسالة إلى عباده أو ليس كافيا بل لا بد من حلوله نفسه في بشر فإن كان ذلك كافيا أمكن أن يكون المسيح مثل غيره فيوحي الله إليه أو يرسل إليه ملكا فيوحي بإذن الله ما يشاء أو يكلمه من وراء حجاب كما كلم
موسى وحينئذ فلا حاجة به إلى اتحاده ببشر مخلوق وإن كان التكلم ليس كافيا وجب أن يتحد بسائر الأنبياء كما اتحد بالمسيح فيتحد بنوح وإبراهيم وموسى وداود وغيرهم يبين هذا
الوجه السادس عشر : وهو أنه من المعلوم أن الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح أفضل من عوام النصارى الذين كانوا بعد المسيح وأفضل من اليهود الذين كذبوا المسيح فإذا كان الرب قد يفضل باتحاده في المسيح حتى كلم عباده بنفسه فيتحد بالمسيح محتجبا ببدنه الكثيف وكلم بنفسه اليهود المكذبين للمسيح وعوام النصارى وسائر من كلمه المسيح فكان أن يكلم من هم أفضل من هؤلاء من الأنبياء والصالحين بنفسه أولى وأحرى مثل أن يتحد بإبراهيم الخليل فيكلم إسحاق ويعقوب ولوطا محتجبا ببدن الخليل أو يتحد بيعقوب فيكلم أولاده أو غيرهم محتجبا ببدن يعقوب أو يتحد بموسى بن عمران فيكلم هارون ويوشع بن نون وغيرهما محتجبا ببدن موسى فإذا كان هو سبحانه لم يفعل ذلك إما لامتناع ذلك وإما لأن عزته وحكمته اعلى من ذلك مع عدم الحاجة إلى ذلك علم أنه لا يفعل ذلك في المسيح بطريق الأولى والأحرى
الوجه السابع عشر : أنه إذا أمكنه أن يتحد ببشر فاتحاده بملك من الملائكة أولى وأحرى وحينئذ فقد كان اتحاده بجبريل الذي أرسله إلى الأنبياء أولى من اتحاده ببشر يخاطب اليهود وعوام النصارى. أ هـ { الجواب الصحيح حـ 3 صـ 299 ـ 324}(13/309)
قوله تعالى { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ختم سبحانه وتعالى هذه البشارة بالآية القاطعة القويمة الجامعة ، وكان قوله : في أول السورة {يصوركم في الأرحام كيف يشاء} وقوله هنا {يخلق ما يشاء} مغنياً عن ذكر حملها ، طواه وأرشد السياق حتماً إلى أن التقدير : فصدق الله فيما قال لها ، فحملت به من غير ذكر فولدته - على ما قال سبحانه وتعالى - وجيهاً وكلم الناس في المهد وبعده ، وعلمه الكتاب والحكمة وأرسله إلى بني إسرائيل ، فأتم لهم الدلائل ونفى الشبه على ما أمره به الذي أرسله سبحانه وتعالى وعلموا أنه ناسخ لا مقرر ، فتابعه قوم وخالفه آخرون فغطوا جميع الآيات وأعرضوا عن الهدى والبينات ، ونصبوا له الأشراك والحبائل وبغوه الدواهي والغوائل ، فضلوا على علم وظهر منهم الكفر البين واعوجوا عن الصراط المستقيم عطف عليه قوله مسلياً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : {فلما أحس} قال الحرالي : من الإحساس وهو منال الأمر بادراً إلى العلم والشعور الوجداني - انتهى {عيسى منهم الكفر} أي علمه علم من شاهد الشيء بالحس ورأى مكرهم على ذلك يتزايد وعنادهم يتكاثر بعد أن علم كفرهم علماً لا مرية فيه ، فاستغاث بالأنصار وعلم أن منجنون الحرب قد دار ، فعزم على إلحاقهم دار البوار {قال من أنصاري }.
ولما كان المقصود ثبات الأنصار معه إلى أن يتم أمره عبر عن ذلك بصلة دلت على تضمين هذه الكلمة كلمة توافق الصلة فقال : {إلى} أي سائرين أو واصلين معي بنصرهم إلى {الله} أي الملك الأعظم {قال الحواريون} قال الحرالي : جمع حواري وهو المستخلص نفسه في نصرة من تحق نصرته بما كان من إيثاره على نفسه بصفاء وإخلاص لا كدر فيه ولا شوب - انتهى.(13/310)
وهو مصروف لأن ياءه عارضة {نحن أنصار الله} أي الذي أرسلك وأقدرك على ما تأتي به من الآيات ، فهو المحيط بكل شيء عزة وعلماً ، ثم صححوا النصرة وحققوا بأن عللوا بقولهم : {آمنا بالله} أي على ما له من صفات الكمال ، ثم أكدوا ذلك بقولهم مخاطبين لعيسى عليه الصلاة والسلام رسولهم أكمل الخق إذ ذاك : {واشهد بأنا مسلمون} أي منقادون لجميع ما تأمرنا به كما هو حق من آمن لتكون شهادتك علينا أجدر لثباتنا ولتشهد لنا بها يوم القيامة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 96 ـ 97}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك ههنا قصة ولادته ، وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء ، شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات ، وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى : {فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 53 ـ 54}(13/311)
وقال الآلوسى :
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } شروع في بيان مآل أحواله عليه السلام ، وقيل : يحتمل أن يكون كله من قبل الملائكة شرحاً لطرف منها داخلاً تحت القول ، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله تعالى : { وَرَسُولاً إلى بَنِى إسرائيل } [ آل عمران : 49 ] ولا يكون { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } [ آل عمران : 49 ] متعلقاً بما قبله ، ولا يكون داخلاً تحت القول ويكون المحذوف هناك فجاء عيسى كما بشر الله تعالى رسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم الآية ، والفاء هنا مفصحة بمثل القدر هناك على التقدير الثاني ، وأصل الإحساس الإدراك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وقد استعير هنا استعارة تبعية للعلم بلا شبهة ، وقيل : إنه مجاز مرسل عن ذلك من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم والداعي لذلك أن الكفر مما لا يحس ، والقول بأن المراد إحساس آثار الكفر ليس بشيء ، والمراد من الكفر إصرارهم عليه وعتوهم فيه مع العزيمة على إيقاع مكروه به عليه السلام ، وقد صح أنه عليه السلام لقي من اليهود قاتلهم الله تعالى شدائد كثيرة.(13/312)
أخرج إسحق بن بشر وابن عساكر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : "كان اليهود يجتمعون على عيسى عليه السلام ويستهزءون به ويقولون له : يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد ؟ ا فيخبرهم ويسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فسألها فقالت : ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر. ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب فقالت : يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين ؟ يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا يا روح الله سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون عليَّ كرب الموت فدعا ربه فقبضها إليه فاستوت عليها الأرض فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضباً" وروي عن مجاهد أنهم أرادوا قتله ولذلك استنصر قومه ، ومن لابتداء الغاية متعلق بأحس أي ابتدأ الإحساس من جهتهم ؛ وجوز أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أي لما أحس الكفر حال كونه صادراً منهم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 147 ـ 175}
فصل
قال ابن عادل :
الإحساس : الإدراك ببعص الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمُّ واللمس والسمع والبصر - يقال : أحسَسْتُ بالشيء وبالشيء وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به ، ويقال : حَسَيْت - بإبدال سينه الثانية ياءً - وأحست بحذف أول سِينيه-.
قال الشاعر : [ الوافر ]
سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا... أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ
قال سيبويه : ومما شَذَّ من المضاعف - يعني في الحَذْف - فشبيه بباب أقمت ، وليس وذلك قولهم أَحَسْتُ وأَحَسْنَ - يريدون : أحسست وأحسَسْنَ ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت : لم أحس ، لم تحذف.(13/313)
وقيل : الإحساس : الوجود والرؤية ، يقال : هل أحْسَسَْ صاحبَك - أي : وجدته ، أو رأيته ؟
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ " الحِسّ " في القرآن على أربعة أضربٍ :
الأول : بمعنى الرؤية ، قال تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } [ آل عمران : 52 ] وقوله تعالى : { أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] أي رأوه. وقوله { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } [ مريم : 98 ] أي : هل تَرَى منهم ؟
الثاني : بمعنى القتل ، قال تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [ آل عمران : 152 ] أي : تقتلونهم.
الثالث : بمعنى البحث ، قال تعالى : { فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } [ يوسف : 87 ].
الرابع : بمعنى الصوت ، قال تعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } [ الأنبياء : 102 ] أي : صَوْتَهَا.
قوله : { مِّنْهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بـ " أحَسَّ " و" مِنْ " لابتداء الغاية أي : ابتداء الإحساس من جهتهم.
الثاني : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه حال من الكفر ، أي : أحس الكفر حال كونه صادراً منهم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 256 ـ 257}
فصل
قال الفخر :
الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وههنا وجهان
أحدهما : أن يجري اللفظ على ظاهره ، وهو أنهم تكلموا بالكفر ، فأحس ذلك بإذنه
والثاني : أن نحمله على التأويل ، وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر ، وعزمهم على قتله ، ولما كان ذلك العلم علماً لا شبهة فيه ، مثل العلم الحاصل من الحواس ، لا جرم عبر عن ذلك العلم بالإحساس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 54}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه(13/314)
الأول : قال السدي : أنه تعالى لما بعثه رسولاً إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم ، وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فكان مستضعفاً ، وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ، وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج مع أمه يسيحان في الأرض ، فاتفق أنه نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً ، فسأله عيسى عن السبب فقال : ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوماً يطعمه ويسقيه هو وجنوده ، وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي ، فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك ، قالت : يا بني ادع الله ليكفي ذلك ، فقال : يا أماه إن فعلت ذلك كان شر ، فقالت : قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه فقال عيسى عليه السلام : إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ، فلما فعل ذلك دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً ، وما في الخوابي خمراً ، فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر ؟ فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال : إن من دعا الله حتى جعل الماء خمراً إذا دعا أن يحيي الله تعالى ولدي لا بد وأن يجاب ، وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام ، فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك ، فقال عيسى : لا نفعل ، فإنه إن عاش كان شراً ، فقال : ما أبالي ما كان إذا رأيته ، وإن أحييته تركتك على ما تفعل ، فدعا الله عيسى ، فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا ، وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً في الخلق ، وقصد اليهود قتله ، وأظهروا الطعن فيه والكفر به.(13/315)
والقول الثاني : إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة ، وأنه ينسخ دينهم ، فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه ، طالبين قتله ، فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم ، وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله.
والقول الثالث : إن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجح فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} فما أجابه إلا الحواريون ، فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 54}
قوله تعالى : {قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله}
فصل
قال الفخر :
في الآية أقوال
الأول : أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين ، وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك ، وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثنى عشر فقال عيسى عليه السلام : الآن تصيد السمك ، فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد ، فطلبوا منه المعجزة ، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى ، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى ، وملؤا السفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام.
والقول الثاني : أن قوله {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلباً لقتله ، ثم ههنا احتمالات
الأول : أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثنى عشر من الحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟ .(13/316)
فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم : أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى باذنه ، فقال له عيسى : حسبك ثم أخذ اذن العبد فردها إلى موضعها ، فصارت كما كانت ، والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه.
والاحتمال الثاني : أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى {فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [ الصف : 14 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 55}
قوله تعالى {إِلَى الله}
قال الفخر :
فيه وجوه
الأول : التقدير : من أنصاري حال ذهابي إلى الله أو حال التجائي إلى الله
والثاني : التقدير : من أنصاري إلى أن أبين أمر الله تعالى ، وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى ههنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمر الله تعالى
الثالث : قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى : {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} [ النساء : 2 ] أي معها ، وقال صلى الله عليه وسلم : " الذود إلى الذود إبل " أي مع الذود.(13/317)
قال الزجاج : كلمة {إلى} ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول : ذهب زيد مع عمرو لأن {إلى} تفيد الغاية و{مَّعَ} تفيد ضم الشيء إلى الشيء ، بل المراد من قولنا أن {إلى} ههنا بمعنى {معَ} هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي وكذلك المراد من قوله {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} [ النساء : 2 ] أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم ، وكذلك قوله عليه السلام : " الذود إلى الذود إبل " معناه : الذود مضموماً إلى الذود إبل والرابع : أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ضحى " اللّهم منك وإليك " أي تقرباً إليك ، ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياته {إلى} أي انضم إلى ، فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى الخامس : أن يكون {إلى} بمعنى اللام كأنه قال : من أنصاري لله نظيره قوله تعالى : {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ} [ يونس : 35 ] والسادس : تقدير الآية : من أنصاري في سبيل الله.
و ( إلى ) بمعنى ( في ) جائز ، وهذا قول الحسن. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 55}
وقال ابن عادل :
وقد رد أبو البقاء كونَها بمعنى : " مع " فقال : [ وقيل : هي بمعنى : " مع " ] وليس بشيء ؛ فإن " إلَى " لا تصلح أن تكون بمعنى " مع " ولا قياس يُعَضِّدُهُ.
وقيل : إن " إلَى " بمعنى اللام من أنصاري لله ؟ كقوله : { يهدي إِلَى الحق } ، كذا قدره الفارسي.
وقيل : ضمَّن أنصاري معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي ، فيكون " إلَى الله " متعلقاً بنفس " أنصاري ".
وقيل : متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في " أنْصَارِي " أي : مَنْ أنصاري ذَاهِباً إلى الله ملتجِئاً إليه ، قاله الزمخشريُّ.(13/318)
وقيل : التقدير : من أنصاري إلى أن أبَيِّن أمر الله ، وإلى أن أظهر دينه ، ويكون " إلَى " هاهنا غاية ؛ كأنه أراد : من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمرُ الله ؟
وقيل : المعنى : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه ؟
وفي الحديث : أنه - عليه السلام - كان يقول - إذا ضَحَّى- : " اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ " أي تقرّبنا إليك. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 258 ـ 289}
قوله تعالى : {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله}
قال الفخر :
ذكروا في لفظ {الحواري} وجوهاً
الأول : أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل ، وخالصته ، ومنه يقال للدقيق حواري ، لأنه هو الخالص منه ، وقال صلى الله عليه وسلم للزبير : " إنه ابن عمتي ، وحواري من أمتي " والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود ، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم.
القول الثاني : الحواري أصله من الحور ، وهو شدة البياض ، ومنه قيل للدقيق حواري ، ومنه الأحور ، والحور نقاء بياض العين ، وحورت الثياب : بيضتها ، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم ؟ فقال سعيد بن جبير : لبياض ثيابهم ، وقيل كانوا قصارين ، يبيضون الثياب ، وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحاً لهم ، وإشارة إلى نقاء قلوبهم ، كالثوب الأبيض ، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب ، طاهر الذيل ، إذا كان بعيداً عن الأفعال الذميمة ، وفلان دنس الثياب : إذا كان مقدماً على ما لا ينبغي.(13/319)
القول الثالث : قال الضحاك : مرّ عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب ، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا ، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري ، وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري ، وقال مقاتل بن سليمان : الحواريون : هم القصارون ، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلاً على خواص الرجل وبطانته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 56}
وقال ابن عادل :
والحواريون ، جمع حواري ، وهو النّاصرُ ، وهو مصروفٌ - وإن ماثل " مفاعل " ؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حَوَاليّ - وهو المحتال - وهذا بخلاف : قَمَارِيّ وَبخَاتِيّ ، فإنهما ممنوعان من الصرف ، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ - عارضة ، بخلافها في قَمَاري وبخاتيّ فإنها موجودة - قبل جمعهما - في قولك قُمْريّ وبُخْتِيّ. والحواريّ : الناصر - كما تقدم - ويُسَمَّى كل من تبع نبياً ونصره : حوارياً ؛ تسمية له باسم أولئك ؛ تشبيهاً بهم ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم في الزبير : " ابن عمتي وحواريّ أمتي " وفيه أيضاً - " إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْر " ، وقال معمر قال قتادة : إن الحواريّين كلهم من قريش : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة ، وجعفر ، وأبو عبيدةِ بن الجراح ، وعثمان بن مَظْعُون وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وَقّاصِ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوامِ - رضي الله عنهم أجمعين. وقيل : الحواريّ : هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جِرتُ الثوب ، أي : أخلصت بياضَه بالغَسْل ، ومنه سُمِّي القَصَّار حوارياً ؛ لتنظيفه الثياب ، وفي التفسير : إن أتباع عيسى كانوا قصارين.
قال أبو عبيدة : سمي اصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين.
وقال الفرزدق : [ البسيط ]
1487- فَقُلْتُ : إنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ... إذَا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلاَبِيْبِ(13/320)
يعني النساء ؛ لبياضهن وصفاء لونهن - ولا سيما المترفِّهات - يقال لهن : الحواريات ، ولذلك قال الزَّمَخْشَريُّ : وحواري الرَّجُلِ : صفوته وخالصته ، ومنه قيل للحضريات : الحواريات ؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن.
[ وأنشد لأبي حلزة اليشكري ] : [ الطويل ]
فَقُلْ للحَوَارِيَّاتِ : يبكين غيرَنا... ولا تبكِنا إلا الكلابُ النوابحُ
ومنه سميت الحور العين ؛ لبياضهن ونظافتهن ، والاشتقاق من الحور ، وهو تبيض الثياب وغيرها :
وقال الضّحّاكُ : هم الغَسَّالون وهم بلغة النبط - وهواري - بالهاء مكان الحاء-.
قال ابن الأنباري : فمن قال بهذا القول قال : هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبطِ وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون.
وقيل : " هم المجاهدون " كذا نقله ابنُ الأنباريّ.
وأنشد : [ الطويل ]
وَنَحْنُ أُنَاسٌ تَمْلأُ البِيْضُ هَامُنَا... وَنَحْنُ الحَوَارِيُّونَ يَوْمَ نُزَاحِفُ
جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقَاءِ تُرُوسُنَا... إلَى الْمَوْتِ نَمْشِي لَيْسَ فِينَا تَجَانُفُ
قال الواحديُّ : والمختار - من هذه الأقوال عند أهل اللغة - أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة.
وقال الراغبُ : حوَّرت الشيء : بيَّضت ودوَّرته ، ومنه الخبز الحُوَّارَى ، والحواريُّون : أنصار عيسى.(13/321)
وقيل : اشتقاقه من حار يَحُور - أي : رَجَع. قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الانشقاق : 14 ]. أي لن يرجع ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حَوَراً - أي : رجع - وحار يحور حَوَراً - إذا تردَّد في مكانه ومنه : حار الماء في القدر ، وحار في أمره ، وتحيَّر فيه ، وأصله تَحَيْوَرَ ، فقُلِبَت الواوُ ياءً ، فوزنه تَفَيْعَل ، لا تفعَّل ؛ إذْ لو كان تفعّل لقيل : تحوَّر نحو تجوَّز ومنه قيل للعود الذي تُشَدُّ عليه البكرة : مِحْوَر ؛ لتردُّدِهِ ، ومَحَارة الأذُنِ ، لظاهره المنقعر - تشبيهاً بمحارة الماء ؛ لتردُّد الهواء بالصوت كتردُّد الماء في المحارة ، والقوم في حوارى أي : في تَرَدُّد إلى نقصان ، ومنه : " نعوذ بالله من الحور بعد الكور " وفيه تفسيران : أحدهما : نعوذ بالله من التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه والثاني : نعوذ بالله من النقصان والتردُّد في الحال بعد الزيادةِ فيها.
ويقال : حَارَ بعدما كان. والمحاورة : المرادَّة في [ الكلام ] ، وكذلك التحاورُ ، والحوار ، ومنه : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [ الكهف : 34 ] و{ والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } [ المجادلة : 1 ] ومنه أيضاً : كلمته فما رجع إليَّ حواراً وحَوِيراً ومَحُورة وما يعيش بحَوْر - أي : بعَقْل يرجع إليه. والحور : ظهور قَلِيلِ بَيَاض في العين من السواد ، وذلك نهاية الحُسْنِ في العينِ ، يقال - منه - : أحورت عينه ، والمذكر أحور ، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور - نحو حُمر في جمع أحمر وحمراء-.
وقيل : سُمِّيت الحوراءُ حوراء لذلك.
وقيل : اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه ، قاله أبو البقاء والضَّحَّاك ، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض ، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام ، وما يشوب الدين.
قاله ابن المبارك : سُمُّوا بذلك ؛ لما عليهم من أثر العبادة ونورها.(13/322)
وقال رَوْحُ بن قَاسِم : سألت قتادةَ عن الحواريِّين ، فقال : هم الذين تَصْلُح لهم الخلافةُ ، وعنه أنه قال : الحواريون هم الوزراء.
والياء في " حواريّ وحواليّ " ليست للنسب ، بل زيادة كزيادتها في كُرْسِيٍّ ، وقرأ العامة " الْحَوَارِيُّونَ " بتشديد الياء في جميع القرآن ، وقرأ الثَّقَفِي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرأن ، قالوا : لأن التشديد ثقيل. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 259 ـ 261}
قال الآلوسى :
ونقل جمع عن القفال أنه يجوز أن يكون بعضهم من الملوك وبعضهم من الصيادين وبعضهم من القصارين وبعضهم من الصباغين وبعضهم من سائر الناس وسموا جميعا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام والمخلصين في محبته وطاعته
والاشتقاق كيف كانوا هو الاشتقاق ، ومأخذه إما أن يؤخذ حقيقياً وإما أن يؤخذ مجازياً وهو الأوفق بشأن أولئك الأنصار ، وقيل : إنه مأخوذ من حار بمعنى رجع ومنه قوله تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الإنشقاق : 14 ] وكأنهم سموا بذلك لرجوعهم إلى الله تعالى.(13/323)
ومن الناس من فسر الحواري بالمجاهد فإن أريد بالجهاد ما هو المتبادر منه أشكل ذلك حيث إنه لم يصح أن عيسى عليه السلام أمر به ؛ وادعاه بعضهم مستدلاً بقوله تعالى : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أنصارى } [ الصف : 14 ] ولا يخفى أن الآية ليست نصاً في المقصود لجواز أن يراد بالتأييد التأييد بالحجة وإعلاء الكلمة ، وإن أريد بالجهاد جهاد النفس بتجريعها مرائر التكاليف لم يشكل ذلك. نعم استشكل أن عيسى عليه السلام إذا لم يكن مأموراً بالقتال فما معنى طلبه الأنصار ؟ وأجيب بأنه عليه السلام لما علم أن اليهود يريدون قتله استنصر للحماية منهم كما قاله الحسن ومجاهد ولم يستنصر للقتال معهم على الإيمان بما جاء به ، وهذا هو الذي لم يؤمر به لا ذلك بل ربما يدعى أن ذلك مأمور به لوجوب المحافظة على حفظ النفس ، وقد روي أن اليهود لما طلبوه ليقتلوه قال للحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى فيه شبهي فيقتل مكاني ؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم ، وفي بعض الأناجيل أن اليهود لما أخذوا عيسى عليه السلام سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بإذنه فقال له عيسى عليه السلام : حسبك ثم أدنى أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت ، وقيل : يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة ولتمييز الموافق من المخالف وذلك لا يستدعي الأمر بالجهاد كما أمر نبينا روح جسد الوجود صلى الله عليه وسلم وهو الظاهر لمن أنصف ، والمراد من أنصار الله أنصار دينه ورسوله وأعوانهما على ما هو المشهور. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 176 ـ 177}
قال الطبرى :
وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى"الحواريين" ، قولُ من قال : "سموا بذلك لبياض ثيابهم ، ولأنهم كانوا غسّالين".(13/324)
وذلك أن"الحوَر" عند العرب شدة البياض ، ولذلك سمي"الحُوَّارَى" من الطعام"حُوّارَى" لشدة بياضه ، ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين"أحور" ، وللمرأة"حوراء". وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سُمُّوا بالذي ذكرنا ، من تبييضهم الثيابَ ، وأنهم كانوا قصّارين ، فعرفوا بصحبة عيسى ، واختياره إياهم لنفسه أصحابًا وأنصارًا ، فجرى ذلك الاسم لهم ، واستُعمل حتى صار كل خاصّة للرجل من أصحابه وأنصاره : "حواريُّه" ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم.
"إنّ لكلّ نبيَ حواريًّا ، وَحوَاريَّ الزبير". { ذكره الطبري بغير إسناد ، وهو من صحيح الحديث. أخرجه البخاري في مواضع (الفتح 6 : 39 / 7 : 64 ، 412 / 13 : 203 ، 204) ، وأخرجه مسلم في صحيحه 15 : 188. وكان في المطبوعة : "إن لكل نبي حواري" ، وصوابه ما أثبت. والرواية الأخرى بحذف : "إن" أي : "لكل نبي حواري" }. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 450 ـ 451}
وقال ابن عاشور :
وقد أكثر المفسرون وأهل اللغة في احتمالات اشتقاقه واختلاف معناه وكلّ ذلك إلصاق بالكلمات التي فيها حروف الحاء والواو والراء لا يصحّ منه شيء.
والحواريون اثنا عشر رجلا وهم : سَمْعَان بطرس ، وأخوه أندراوس ، ويوحنا بن زبْدي ، وأخوه يعقوب وهؤلاء كلّهم صيادو سَمك ومتَّى العشَّار وتوما وفيليبس ، وبرثو لماوس ، ويعقوب بن حلفي ، ولباوس ، وسمعان القانوى ، ويهوذا الأسخريوطي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 105}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا ؟ .
فالقول الأول : إنه عليه السلام مرّ بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم "تعالوا نصطاد الناس" قالوا : من أنت ؟ قال : "أنا عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله" فطلبوا من المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به ، فهم الحواريون.(13/325)
القول الثاني : قالوا : سلمته أمه إلى صباغ ، فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته ، فقال له : ههنا ثياب مختلفة ، وقد علمت على كل واحد علامة معينة ، فاصبغها بتلك الألوان ، بحيث يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جباً واحداً ، وجعل الجميع فيه وقال : "كوني بإذن الله كما أريد" فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت علي الثياب ، قال : "قم فانظر" فكان يخرج ثوباً أحمر ، وثوباً أخضر ، وثوباً أصفر كما كان يريد ، إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه ، وآمنوا به فهم الحواريون.
القول الثالث : كانوا الحواريون اثنى عشر رجلاً اتبعوا عيسى عليه السلام ، وكانوا إذا قالوا : يا روح الله جعنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا يا روح الله : عطشنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج الماء فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا ، وقد آمنا بك فقال : "أفضل منكم من يعمل بيده ، ويأكل من كسبه" فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ، فسموا حواريين.
القول الرابع : أنهم كانوا ملوكاً قالوا وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً ، وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلام على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : تعرفونه ، قالوا : نعم ، فذهبوا بعيسى عليه السلام ، قال : من أنت ؟ قال : أنا عيسى بن مريم ، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون قال القفال : ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السمك ، وبعضهم من القصارين ، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام ، وأعوانه ، والمخلصين في محبته ، وطاعته ، وخدمته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 56 ـ 57}
فائدة(13/326)
قال الفخر :
المراد من قوله {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه ، لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال ، فالمراد منه ما ذكرناه.
أما قوله {آمنا بالله} فهذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله ، لأجل أنا آمنا بالله ، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله ، والذب عن أوليائه ، والمحاربة مع أعدائه.
ثم قالوا : {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم ، إشهاد لله تعالى أيضاً ، ثم فيه قولان
الأول : المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك ، والذب عنك ، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه
الثاني : أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام ، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 57}
وقال ابن عاشور :
وكان جواب الحواريين دالاّ على أنهم علموا أنّ نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله ، وليس في قولهم : { نحن أنصار الله } ما يفيد حصراً لأنّ الإضافة اللفظية لا تفيد تعريفاً ، فلم يحصل تعريف الجزأين ، ولكنّ الحواريين بادروا إلى هذا الانتداب.
وقد آمن مع الحواريّين أفراد متفرّقون من اليهود ، مثل الذين شفى المسيح مرضاهم ، وآمن به من النساء أمّه عليها السلام ، ومريم المجدلية ، وأم يوحنا ، وحماة سمعان ، ويوثا امرأة حوزي وكيل هيرودس ، وسوسة ، ونساء أخر ولكنّ النساء لا تطلب منهنّ نصره. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 105 ـ 106}
وقال الآلوسى : (13/327)
{ ءامَنَّا بالله } مستند لتلك الدعوى جارية مجرى العلة لها { واشهد } عطف على { مِنَ } ولا يضر اختلافهما إنشائية وإخبارية لما تحقق في محله ، وقيل : إن { مِنَ } لإنشاء الإيمان أيضاً فلا اختلاف { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي منقادون لما تريده منا ويدخل فيه دخولاً أولياً نصرتهم له ، أو بأن ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فهو إقرار معنى بنبوة من قبله عليه السلام وهذا طلب منهم شهادته عليه السلام لهم يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم إيذاناً كما قال الكرخي بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية وجاء في المائدة ( 111 ) { بِأَنَّنَا } لأن ما فيها كما قيل أول كلام الحواريين فجاء على الأصل ، وما هنا تكرار له بالمعنى فناسب فيه التخفيف لأن كلاً من التخفيف والتكرار فرع ، والفرع بالفرع أولى. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 177}
فائدة
قال الماوردى :
واختلفوا في سبب استنصار المسيح بالحواريين على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه استنصر بهم طلباً للحماية من الكفار الذين أرادوا قتله حين أظهر دعوته ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد.
والثاني : أنه استنصر بهم ليتمكن من إقامة الحجة وإظهار الحق.
والثالث : لتمييز المؤمن الموافق من الكافر المخالف. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 395 ـ 396}
فائدة
قال الشنقيطى :
لم يبين هنا الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى ولكنه بين في سورة الصف ، أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم في نصرة الله ودينه ، وذلك في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله } [ الصف : 14 ] الآية. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 230}(13/328)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى : "فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون" ، وفى سورة المائدة : "وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون" فحذفت النون من"أنا"فى آية آل عمران تخفيفا وثبتت فى آية المائدة فقيل : "أننا" مع أن التخفيف بالحذف جائز فيهما والإثبات جائز وهو الأصل فللسائل أن يسأل عن وجه تخصيص كل من الموضعين بما ورد فيه ؟
والجواب عن ذلك والله أعلم أن آية المائدة لما ورد فيها التفصيل فيما يجب الإيمان به وذلك قوله : "أن آمنوا بى وبرسولى" فجاء على أتم عبارة فى المطلوب وأوفاها ناسب ذلك ورود"أننا" على أوفى الحالين وهو الورود على الأصل ، ولما لم يقع إفصاح بهذا التفصيل فى آية آل عمران حين قال تعالى : "قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله" فلم يقع هنا"وبرسوله" إيجازا للعلم به وشهادة السياق ناسب هذا الإيجاز كما ناسب الإتمام فى آية المائدة الإتمام فقيل هنا : "واشهد بأنا مسلمون" وجاء كل على ما يجب ولو قدر ورود العكس لما ناسب والله سبحانه أعلم بما أراد. أ هـ {ملاك التأويل صـ 118}(13/329)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } الآية.
حين بَلَّغهم الرسالة واختلفوا - فمنهم من صدَّقه ومنهم من كذّبه وهم الأكثرون - عَلِمَ أن النبوة لا تنفك عن البلاء وتسليط الأعداء ، فقطع عنهم قلبه ، وصدق إلى الله قصده ، وقال لقومه : مَنْ أنْصاري إلى الله ليساعدوني على التجرد لحقِّه والخلوص في قصده ؟ فقال مَنْ انبسطت عليهم آثار العناية ، واستخلصوا بآثار التخصيص : نحن أنصار الله ، آمنا بالله ، واشهد علينا بالصدق ، وليس يشكل عليك شيءٌ مما نحن فيه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 245}(13/330)
قوله تعالى { رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
لما خاطبوا الرسول أدباً ترقوا إلى المرسل في خطابهم إعظاماً للأمر وزيادة في التأكيد فقالوا مسقطين لأداة النداء استحضاراً لعظمته بالقرب لمزيد القدرة وترجي منزلة أهل الحب : {ربنا آمنا بما أنزلت} أي على ألسنة رسلك كلهم {واتبعنا الرسول} الآتي إلينا بذلك معتقدين رسالته منك وعبوديته لك {فاكتبنا} لتقبّلك شهادتنا واعتدادك بها {مع الشاهدين} أي الذين قدمت أنهم شهدوا لك بالوحدانية مع الملائكة أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 97}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم ، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى ، وقالوا : {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول فاكتبنا مَعَ الشاهدين} وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا : في الآية المتقدمة {آمنا بالله} ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا {بِمَا أَنزَلَتْ} وآمنوا برسول الله حيث ، قالوا {واتبعنا الرسول} فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب ، فقالوا {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين ، ويفضل على درجته ، لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى : {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [ البقرة : 143 ] الثاني : وهو منقول أيضاً عن ابن عباس {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى : {فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين} [ الأعراف : 6 ].
وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلاً ، فأحيوا الموتى ، وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام.(13/331)
والقول الثالث : {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق ، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم ، حيث قالوا {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيداً للأمر ، وتقوية له ، وأيضاً طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوّة.
القول الرابع : إن قوله {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السموات مع الملائكة قال الله تعالى : {كَلاَّ إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ} [ المطففين : 18 ] فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهوراً في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين.
القول الخامس : إنه تعالى قال : {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [ آل عمران : 18 ] فجعل أولو العلم من الشاهدين ، وقرن ذكرهم بذكر نفسه ، وذلك درجة عظيمة ، ومرتبة عالية ، فقالوا {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك.
والقول السادس : أن جبريل عليه السلام لما سأل محمداً صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال : " أن تعبد الله كأنك تراه " وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية ، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود ، لا في مقام الغيبة ، فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال ، إلى مقام الشهود والمكاشفة ، فقالوا {فاكتبنا مَعَ الشاهدين }.(13/332)
القول السابع : إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام ، فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له ، ذابين عنه ، قالوا {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك ، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 57 ـ 58}(13/333)
وقال الآلوسى :
{ رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ } عرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على رسوله استمطاراً لسحائب إجابة دعائهم الآتي ، وقيل : مبالغة في إظهار أمرهم { واتبعنا الرسول } أي امتثلنا ما أتى به منك إلينا { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } أي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد لهم بالصدق رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروى أبو صالح عنه أنهم من آمن من الأمم قبلهم ، وقيل : المراد من { الشاهدين } الأنبياء لأن كل نبي شاهد لأمته وعليها ، وقال مقاتل : هم الصادقون ، وقال الزجاج : هم الشاهدون للأنبياء بالتصديق ، وقيل : أرادوا مع المستغرقين في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من نصرة رسولك ، وقيل : أرادوا اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله تعالى : { إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلّيّينَ } [ المطففين : 81 ] ولا يخفى ما في هذا الأخير من التكلف والمعنى على ما عداه أدخلنا في عداد أولئك ، أو في عداد أتباعهم ، قيل : وعبروا عن فعل الله تعالى ذلك بهم بلفظ { فاكتبنا } إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال ، وقيل : المراد اجعل ذلك وقدره في صحائف الأزل. ومن الناس من جعل الكتابة كناية عن تثبيتهم على الإيمان في الخاتمة ، والظرف متعلق بمحذوف وقع حالاً من مفعول اكتبنا. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 177}(13/334)
وقال الطبرى :
وهذا خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم قالوا : "ربنا آمنا" ، أي : صدّقنا "بما أنزلت" ، يعني : بما أنزلتَ على نبيك عيسى من كتابك "واتبعنا الرسول" ، يعني بذلك : صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به ، وأعوانه على الحق الذي أرسلتَه به إلى عبادك وقوله : "فاكتبنا مع الشاهدين" ، يقول : فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق ، وأقرُّوا لك بالتوحيد ، وصدّقوا رسلك ، واتبعوا أمرك ونهيك ، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك ، وأحِلَّنا محلهم ، ولا تجعلنا ممن كفر بك ، وصدَّ عن سبيلك ، وخالف أمرك ونهيك.
يعرّف خلقه جل ثناؤه بذلك سبيلَ الذين رضي أقوالهم وأفعالهم ، ليحتذوا طريقهم ، ويتبعوا منهاجهم ، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته ويكذّب بذلك الذين انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة ، في دعواهم على أنبياء الله أنهم كانوا على غيرها ويحتجُّ به على الوفد الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجران : بأنّ قِيلَ مَنْ رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قِيلهم ، ومنهاجهم غير منهاجهم. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 452 ـ 453}(13/335)
قوله تعالى { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}
قال البقاعى :
ولعله عقب قوله {فاكتبنا مع الشاهدين}
بقوله : {ومكروا} المعطوف على قوله : {قال من أنصاري إلى الله} بالإضمار الصالح لشمول كل من تقدم له ذكر إشارة إلى أن التمالؤ عليه يصح أن ينسب إلى المجموع من حيث هو مجموع ، أما مكر اليهود فمشهور ، وأما الحواريون الاثنا عشر فنقض أحدهم وهو الذي تولى كبر الأمر وجر اليهود إليه ودلهم عليه - كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في سورة النساء ، وترتيب المكر على الشرط يفهم أنهم لما علموا إحساسه بفكرهم خافوا غائلته فأعملوا الحيلة في قتله.
والمكر - قال الحرالي - إعمال الخديعة والاحتيال في هدم بناء ظاهر كالدنيا ، والكيد أعمال الخدعة والاحتيال في هدم بناء باطن كالتدين والتخلق وغير ذلك ، فكان المكر خديعة حس والكيد خديعة معنى - انتهى.
ثم إن مكرهم تلاشى واضمحل بقوله : {ومكر الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً.
ولما كان المقام لزيادة العظمة أظهر ولم يضمر لئلا يفهم الإضمار خصوصاً من جهة ما فقال : {والله} أي والحال أنه الذي له هذا الاسم الشريف فلم يشاركه فيه أحد بوجه {خير الماكرين} بإرادته تأخير حربه لهم إلى وقت قضاه في الأزل فأمضاه وذلك عند مجيء الدجال بجيش اليهود فيكون أنصاره الذين سألهم ربه هذه الأمة تشريفاً لهم ، ثم بين ما فعله بهم من القضاء الذي هو على صورة المكر في كونه أذى يخفى على المقصود به بأنه رفعه إليه وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه وإنما صلبوا أحدهم ، ويقال : إنه الذي دلهم ، وأما هو عليه الصلاة والسلام فصانه عنده بعد رفعه إلى محل أوليائه وموطن قدسه لينزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضرب عليهم الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذى طلبوا به العز إلى آخر الدهر فكان تدميرهم في تدبيرهم ، وذلك أخفى الكيد. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 97 ـ 98}. بصرف يسير.(13/336)
فصل
قال الفخر :
أصل المكر في اللغة ، السعي بالفساد في خفية ومداجاة ، قال الزجاج : يقال مكر الليل ، وأمكر إذا أظلم ، وقال الله تعالى : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} [ الأنفال : 30 ] وقال : {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [ يوسف : 102 ] وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه ، ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى : {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} [ يونس : 71 ] فلما كان المكر رأياً محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقص والفتور ، لا جرم سمي مكراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 58}
فصل
قال الفخر :
أما مكرهم بعيسى عليه السلام ، فهو أنهم هموا بقتله ، وأما مكر الله تعالى بهم ، ففيه وجوه
الأول : مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ، وذلك أن يهودا ملك اليهود ، أراد قتل عيسى عليه السلام ، وكان جبريل عليه السلام ، لا يفارقه ساعة ، وهو معنى قوله {وأيدناه بِرُوحِ القدس} [ البقرة : 87 ] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتاً فيه روزنة ، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة ، وكان قد ألقى شبهه على غيره ، فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق ، فرقة قالت : كان الله فينا فذهب ، وأخرى قالت : كان ابن الله ، والأخرى قالت : كان عبد الله ورسوله ، فأكرمه بأن رفعه إلى السماء ، وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم ، وفي الجملة ، فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه.(13/337)
الوجه الثاني : أن الحواريين كانوا اثنى عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم ، ودل اليهود عليه ، فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى ، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم ، وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام ، فكان ذلك هو مكر الله بهم.
الوجه الثالث : ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام ، فشمسوهم وعذبوهم ، فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله ، وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل ، فقال : لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم ، ثم بعث إلى الحواريين ، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام ، فأخبروه فتابعهم على دينهم ، وأنزل المصلوب فغيبه ، وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ، وكان اسم هذا الملك طباريس ، وهو صار نصرانياً ، إلا أنه ما أظهر ذلك ، ثم إنه جاء بعده ملك آخر ، يقال له : مطليس ، وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح والهم بقتله.
القول الرابع : أن الله تعالى سلّط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم ، وهو قوله تعالى : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} [ الإسراء : 5 ] فهذا هو مكر الله تعالى بهم.
القول الخامس : يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره ، وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 58 ـ 59}(13/338)
وقال الآلوسى :
{ وَمَكَرُواْ } أي الذين أحس منهم الكفر إذ وكلوا به من يقتله غيلة { وَمَكَرَ الله } بأن ألقى شبهه عليه السلام على غيره فصلب ورفعه إليه ، قال ابن عباس : لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام دخل خوخة وفيها كوة فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل منهم خبيث : أدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى ، وقال وهب : أسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض فأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلاً يقال له يهودا وهو الذي دلهم على عيسى وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم وقال : ما تجعلون لي إن دللتكم عليه ؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فأدخل البيت ورفع وقال : أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى فلما صلب شبه عيسى وأتى على ذلك سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى : اهبط على مريم ثم لتجمع لك الحواريين وبثهم في الأرض دعاة فهبط عليها واشتعل الجبل نوراً فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله سبحانه ، وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون قصد كل منهم بلدة من أرسله عيسى إليهم.(13/339)
وروي عن غير واحد أن اليهود لما عزموا على قتله عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين : أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة ؟ فقال واحد منهم : أنا يا نبي الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه السلام فكساه الله النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ورفعه إليه ، ثم إن أصحابه لما رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة : كان الله تعالى فينا فصعد إلى السماء ، وقالت فرقة أخرى : كان فينا ابن الله عز وجل ثم رفعه الله سبحانه إليه ، وقالت فرقة أخرى منهم : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء هم المسلمون ، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام مندرس الآثار إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم ، وروي عن ابن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته واسمه داود بن نوذا فقيل له : إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله تعالى وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فعل وفعل فقال : لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بني إسرائيل فقتل منهم خلقاً عظيماً ، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له طيطوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه السلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في بيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 177 ـ 178}(13/340)
فائدة
قال البغوى :
{ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) }
قوله تعالى : { وَمَكَرُوا } يعني كفار بني إسرائيل الذي أحس عيسى منهم الكفر وبروا في قتل عيسى عليه السلام ، وذلك أن عيسى عليه السلام بعد إخراج قومه إياه وأمه عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به فذلك مكرهم ، قال الله تعالى : { وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ } فالمكر من المخلوقين : الخبث والخديعة والحيلة ، والمكر من الله : استدراج العبد وأخذه بغتة من حيث لا يعلم كما قال : " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون "( 182 -الأعراف ) وقال الزجاج : مكر الله عز وجل مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته كقوله تعالى : " الله يستهزئ بهم "( 15 -البقرة ) " وهو خادعهم "( 142 -النساء ) ومكر الله تعالى خاصة بهم في هذه الآية ، وهو إلقاؤه الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى عليه السلام حتى قتل.(13/341)
قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن عيسى استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا : قد جاء الساحر ابن الساحرة ، والفاعل ابن الفاعلة ، وقذفوه وأمه فلما سمع ذلك عيسى عليه السلام دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير. فلما رأى ذلك يهوذا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السلام ، وثاروا إليه ليقتلوه فبعث الله إليه جبريل فأدخله في خوخة في سقفها روزنة فرفعه الله إلى السماء من تلك الروزنة ، فأمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له : ططيانوس أن يدخل الخوخة ويقتله ، فلما دخل لم ير عيسى ، فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها ، فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام ، فلما خرج ظنوا أنه عيسى عليه السلام فقتلوه وصلبوه ، قال وهب : طرقوا عيسى في بعض الليل ، ونصبوا خشبة ليصلبوه ، فأظلمت الأرض ، فأرسل الله الملائكة فحالت بينهم وبينه ، فجمع عيسى الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال : ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة ، فخرجوا وتفرقوا ، وكانت اليهود تطلبه ، فأتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال لهم : ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه. ولما دخل البيت ألقى الله عليه شبه عيسى ، فرفع عيسى وأخذ الذي دلهم علي فقال : أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وقتلوه وصلبوه ، وهم يظنون أنه عيسى ، فلما صلب شبه عيسى ، جاءت مريم أم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون تبكيان عند المصلوب ، فجاءهما عيسى عليه السلام فقال لهما : علام تبكيان ؟ إن الله تعالى قد رفعني ولم يصبني إلا خير ، وإن هذا شيء شبه لهم ، فلما كان بعد سبعة أيام قال الله عز وجل لعيسى عليه السلام : اهبط على مريم المجدلانية اسم موضع في جبلها ، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ، ولم يحزن حزنها ثم ليجتمع لك الحواريون فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل(13/342)
فأهبطه الله عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورًا ، فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله عز وجل إليه وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى ، فلما أصبح الحواريون حدَّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله تعالى { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ }
وقال السدي : إن اليهود حبسوا عيسى في بيت وعشرة من الحواريين فدخل عليهم رجل منهم فألقى الله عليه شبهه ، وقال قتادة ذكر لنا أن نبي الله عيسى عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول ، فقال رجل من القوم : أنا يا نبي الله فقتل ذلك الرجل ومنع الله عيسى عليه السلام ورفعه إليه وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش ، وكان إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا ، قال أهل التواريخ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ، وولدت عيسى ببيت لحم من أرض أوري شلم لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل فأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة ، ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين ، وعاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين. (1) أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 44 ـ 45}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } من باب المقابلة ، أي : لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به. هكذا قيل ، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم } [ الأعراف : 99 ] والمكر في اللغة أصله الستر ، يقال : مكر اللَّيْلُ ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه.
____________
(1) كلام أهل التاريخ يحتاج إلى سند صحيح. والله أعلم.(13/343)
قال القرطبي : وأصل المكر في اللغة : الاحتيال والخِداع ، والمكر : خَدَالةُ الساق ، والمكر : ضَرْب من النبات ويقال : بل هو المَغْرَة ، حكاه ابنُ فارس ، قالوا : واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملقف ، تخيلوا منه أن المكر منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه ، وامرأة ممكورة الخَلْق ، أي : ملتفة الجسم ، وكذا ممكورة البَطْن.
ثم أطلق المكر على الخُبْث والخداع ، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعيُ بالفساد ، قال الزّجّاجُ هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم ، وعب ربعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلةٍ ، وذلك ضربان : محمود ، وهو أن يتحرَّى به فِعْلَ جَميلٍ ، وعلى ذلك قوله : { والله خَيْرُ الماكرين }. ومذموم ، وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح ، نحو : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 263 ـ 264}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
لم يبين هنا مكر اليهود بعيسى ولا مكر الله باليهود ، ولكنه بين في موضع آخر أن مكرهم به محاولتهم قتله ، وذلك في قوله : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } [ النساء : 157 ] وبين أن مكره بهم إلقاؤه الشبه على غير عيسى وإنجاؤه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وذلك في قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } [ النساء : 157 ] ، وقوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } [ النساء : 157-158 ] الآية. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 213}
فصل
قال الفخر :
المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر ، والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات وذكروا في تأويله وجوهاً أحدها : أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر ، كقوله {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [ الشورى : 40 ] وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة ، وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء(13/344)
والثاني : أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك الثالث : أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات ، لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير ، وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 59}
وقال ابن عاشور فى معنى الآية :
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
عطف على جملة { فلما أحس عيسى منهم الكفر } فإنّه أحس منهم الكفر وأحس منهم بالغدر والمكر.
وضمير مكروا عائد إلى ما عاد إليه ضمير منهم وهم اليهود وقد بَيّن ذلك قولُه تعالى ، في سورة الصف ( 14 ) : { قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } والمكر فعل يُقصد به ضر ضُرُّ أحَد في هيئة تخفى عليه ، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع ، والمراد هنا : تدبير اليهود لأخذ المسيح ، وسعيُهم لدى ولاة الأمور ليمكّنوهم من قتله.
ومَكْرُ الله بهم هو تمثيل لإخفاق الله تعالى مساعيَهم في حال ظنهم أن قد نجحت مساعيهم ، وهو هنا مشاكلة.
وجَازَ إطلاق المكر على فعل الله تعالى دونَ مشاكلة كما في قوله : { أفأمنوا مكر اللَّه } ( 99 ) في سورة الأعراف وبعض أساتذتنا يسمي مثل ذلك مشاكلة تقديرية.
ومعنى : والله خير الماكرين } أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم.(13/345)
ويجوز أن يكون معنى خير الماكرين : أنّ الإملاء والاستدراج ، الذي يقدّره للفجّار والجبابرة والمنافقين ، الشبيه بالمَكر في أنّه حَسَن الظاهر سَيّء العاقبة ، هو خير محض لا يترتّب عليه إلاّ الصلاح العام ، وإن كان يؤذي شخصاً أو أشخاصاً ، فهو من هذه الجهة مجرّد عما في المكر من القُبح ، ولذلك كانت أفعاله تعالى منزّهة عن الوصف بالقبح أو الشناعة ، لأنها لا تقارنها الأحوال التي بها تقبح بعض أفعال العباد ؛ من دلالة على سفاهة رَأي ، أو سوء طوية ، أو جُبن ، أو ضُعف ، أو طَمع ، أو نحو ذلك.
أي فإن كان في المكر قبْح فمكر الله خير محض ، ولك على هذا الوجه أن تجعل "خَيْر" بمعنى التفضيل وبدونه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 106}
وقال ابن عطية :
المكر في اللغة ، السعي على الإنسان دون أن يظهر له ذلك ، بل أن يبطن الماكر ضد ما يبدي ، وقوله { والله خير الماكرين } معناه في أنه فاعل في حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل ففي الأغلب ، لأنه في الأباطيل يحتاج إلى التحيل ، والله سبحانه أشد بطشاً وأنفذ إرادة ، فهو خير من جهات لا تحصى ، لا إله إلا هو. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 443}
وقال الثعالبى :
{ وَمَكَرُواْ } ، يريدُ في تحيُّلهم في قتله بزعمهم فهذا هو مَكْرُهُمْ ، فجازاهم اللَّه تعالى ؛ بأنْ طرح شَبَهَ عيسى على أحد الحواريِّين ؛ في قول الجمهور ، أو على يهوديٍّ منهم كَانَ جَاسُوساً ، وأعقبَ بَنِي إسرائيل مذلَّةً وهَوَاناً في الدُّنيا والآخرة ، فهذه العُقُوبة هي التي سَمَّاها اللَّه تعالى مَكْراً في قوله : { وَمَكَرَ الله } ، وذلك مَهْيَعٌ أنْ تسمَّى العقوبةُ باسم الذنب.(13/346)
وقوله : { والله خَيْرُ الماكرين } : معناه : فاعلُ حقٍّ في ذلك ، وذكر أبو القَاسِمِ القُشَيْرِيُّ في "تحبيره" ، قال : سُئِلَ مَيْمُونٌ ، أحسبه : ابن مِهْرَانَ ؛ عن قولِهِ تعالى : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } فقال : تخليتُهُ إياهم ، مع مَكْرهم هو مَكْرُهُ بهم. انتهى. ونحوه عن الجُنَيْدِ ، قال الفَرَّاء : المَكْرُ من المخْلُوقِ الْخِبُّ والحِيلَة ، ومِنَ الإله الاِسْتِدْرَاجُ ، قال اللَّه تعالى : { سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] قال ابن عبَّاس : كُلَّما أحْدَثُوا خطيئةً ، أحدثنا لَهُمْ نعمة. انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 271 ـ 272}
فائدة
قال فى روح البيان :
أيها العبد خف من وجود إحسان مولاك إليك ودوام إساءتك معه فى دوام لطفه بك وعطفه عليك أن يكون استدراجا لك حتى تقف معها وتغتر لها وتفرح لما أوتيت فتؤخذ بغتة قال الله تعالى { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون }
قال سهل رضى الله عنه فى معنى هذه الآية نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر عليها فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم أخذوا
وقال أبو العباس ابن عطاء يعنى كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة ومن جهل المريد بنفسه وبحق ربه أن يسيىء الأدب بإظهار دعوى أو تورط فى بلوى فتؤخر العقوبة عنه إمهالا له فيظنه إهمالا فيقول لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد وأوجب الإبعاد اعتبارا بالظاهر من الأمر من غير تعريج على ما وراء ذلك وما ذاك إلا لفقد نور بصيرته أو ضعف نورها وإلا فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر حتى ربما ظن أنه متوفر فى عين تقصير ولو لم يكن من قطع المدد إلا منع المزيد لكان قطعا لأن من لم يكن فى زيادة فهو فى نقصان
ولو لم يكن من الإبعاد إلا أن يخليك وما تريد فيصرفك عنه بمرادك هذا والعياذ بالله مكر وخسران(13/347)
وعن ابن حنبل أنه كان يوصى بعض أصحابه فقال خف سطوة العدر وارج رقة الفضل ولا تأمن من مكره تعالى ولو أدخلك الجنة ففى الجنة وقع لأبيك آدم ما وقع. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 50 ـ 51}
لطيفة
قال الماوردى :
والفرق بين المكر والحيلة أن الحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من غير قصد إلى الإضرار ، والمكر : التوصل إلى إيقاع المكروه به. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 396}
لطيفة
قال ابن عجيبة :
قيل للجنيد رضي الله عنه : كيف رَضِيَ المكرَ لنفسه ، وقد عابه على غيره ؟ قال : لا أدري ، ولكن أنشدني فلان للطبرانية :
فديتُك قد جُبِلْتُ على هواكَ... ونفْسِي ما تَحِنُّ إلى سِوَاكَ
; أُحِبّك ، لا بِبَعْضِي بل بكُلِّي... وإن يُبْقِ حُبُّكَ لي حِرَاكَا
وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدي... وتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَ
فقال له السائل : أسألُك عن القرآن ، وتجيبني بشعر الطبرانية ؟ قال : ويحك ، قد أجبتك إن كنت تعقل. إنَّ تخليته إياهم مع المكرية ، مكرٌ منه بهم. ه.
قلت : وجه الشاهد في قوله : ( وتفعله فيحسن منك ذاك ) ، ومضمن جوابه : أن فعل الله كله حسن في غاية الإتقان ، لا عيب فيه ولا نقصان ، كما قال صاحب العينية :
وَكلُّ قبِيح إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ... أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ... فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ
وتخليته تعالى إياهم مع المكر ، تسبب عنه الرفع إلى السماء ، وإبقاء عيسى حيّاً إلى آخر الزمان ، حتى ينزل خليفة عن نبينا - عليه الصلاة والسلام - ، فكان ذلك في غاية الكمال والإتقان ، لكن لا يفطن لهذا إلا أهل العرفان. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 282 ـ 283}(13/348)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
وأما الباقون فجدُّوا في الشقاق ، وبالغوا في العداوة ، ودسُّوا له المكائد ، ومكروا ولكن أذاقهم الله وبال مكرهم ، فتوهموا أنهم صلبوا عيسى عليه السلام وقتلوه ، وذلك جهل منهم ، ولَبْسٌ عليهم. فاللهُ - سبحانه - رفع عيسى عليه السلام نبيَّه ووليَّه ، وحُقُّ الطردُ واللَّعنُ على أعدائه ، وهذا مَكْرُهُ بهم :
{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 245}(13/349)
قوله تعالى {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)}
قال البقاعى :
{إذ} أي مكر حين {قال الله} أي ما له من التفرد بصفات الكمال {يا عيسى إني متوفيك} وعبر عن ذلك بطريق الكناية الإيمائية فإن عصمته من قتل الكفار ملزومة للموت حتف الأنف ، وأما قول الزمخشري : أي مستوفى أجلك ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم - ليكون كناية تلويحية عن العصمة من القتل لأنها ملزومة لتأخيره إلى الأجل المكتوب والتأخير ملزوم للموت حتف الأنف - فلا ينبغي الاغترار به لأنه مبني على مذهب الاعتزال من أن القاتل قطع أجل المقتول المكتوب ، وكأن القاضي البيضاوي لم يتفطن له فترجم هذه العبارة بما يؤديها ؛ ويجوز أن يكون معنى متوفيك : آخذك إليّ من غير أن يصلوا منك إلى محجم دم ولا ما فوقه من عضو ولا نفس فلا تخش مكرهم.
قال في القاموس : أوفى فلاناً حقه : أعطاه وافياً ، كوفّاه ووافاه فاستوفاه وتوفاه.
ثم زاد سبحانه وتعالى في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال : {ورافعك} وزاد إعظام ذلك بقوله : {إليّ ومطهرك من الذين كفروا }.(13/350)
ولما كان لذوي الهمم العوال ، أشد التفات إلى ما يكون عليه خلائفهم بعدهم من الأحوال ، بشره سبحانه وتعالى في ذلك بما يسره فقال : {وجاعل الذين اتبعوك} أي ولو بالاسم {فوق الذين كفروا} أي ستروا ما يعرفون من نبوتك بما رأوا من الآيات التي أتيت بها مطابقة لما عندهم من البشائر بك {إلى يوم القيامة} وكذا كان ، لم يزل من اتسم بالنصرانية حقاً أو باطلاً فوق اليهود ، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد.
ولما كان البعث عاماً دل عليه بالالتفات إلى الخطاب فقال تكميلاً لما بشر به من النصرة : {ثم إليّ مرجعكم} أي المؤمن والكافر في الآخرة {فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون}. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 98 ـ 99}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { إِذْ قَالَ الله } في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : قوله : { وَمَكَرَ الله } أي : مكر الله بهم في هذا الوقت.
الثاني : { خَيْرُ الماكرين }.
الثالث : أنه "اذكر" ـ مقدرا ـ فيكون مفعولا به كما تقدم تقريره. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 265}
فصل
قال الفخر :
اعترفوا بأن الله تعالى شرف عيسى في هذه الآية بصفات :
الصفة الأولى : {إِنّي مُتَوَفّيكَ} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [ المائدة : 117 ] واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما : إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ، ولا تأخير فيها
والثاني : فرض التقديم والتأخير فيها ،
أما الطريق الأول فبيانه من وجوه
الأول : معنى قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي متمم عمرك ، فحينئذ أتوفاك ، فلا أتركهم حتى يقتلوك ، بل أنا رافعك إلى سمائي ، ومقربك بملائكتي ، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن(13/351)
والثاني : {مُتَوَفّيكَ} أي مميتك ، وهو مروي عن ابن عباس ، ومحمد بن إسحاق قالوا : والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه
أحدها : قال وهب : توفي ثلاث ساعات ، ثم رفع (1)
وثانيها : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه الله ورفعه
الثالث : قال الربيع بن أنس : أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء ، قال تعالى : {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [ الزمر : 42 ].
الوجه الرابع : في تأويل الآية أن الواو في قوله {مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال ، فأما كيف يفعل ، ومتى يفعل ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه سينزل ويقتل الدجال " ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك.
_______________
(1) هذا قول باطل وفاسد ومخالف لإجماع الأمة ويؤيد ما يقوله النصارى ـ قاتلهم الله ـ وكان الأحرى بالفخر ـ رحمه الله ـ أن يبين فساد هذا القول ، وكما تقدمت الإشارة إلى وجوب التوقف فى أخبار وهب بن منبه
قال القرطبى ـ رحمه الله ـ عن هذا الوجه :
وهذا فيه بعد ؛ فإنه صح في الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزولُه وقتلُه الدجّال على ما بيناه في كتاب التذكرة.
وفي هذا الكتاب حسب ما تقدّم ، ويأتي.
وقال ابن زيد : متوفيك قابضك ، ومتوفيك ورافعك واحد ولم يمت بعدُ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 100}(13/352)
الوجه الخامس : في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي ، وهو أن المراد {إِنّي مُتَوَفّيكَ} عن شهواتك وحظوظ نفسك (1) ، ثم قال : {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله ، وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة ، والغضب والأخلاق الذميمة.
والوجه السادس : إن التوفي أخذ الشيء وافياً ، ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى : {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} [ النساء : 113 ].
والوجه السابع : {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
الوجه الثامن : أن التوفي هو القبض يقال : وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه ، كما يقال : سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه ، وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له.
فإن قيل : فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تكراراً.
قلنا : قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء ، فلما قال بعده {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً.
___________
(1) لا يخفى ما فى هذا الوجه من البعد البعيد. والله أعلم.(13/353)
الوجه التاسع : أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير : متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي ورافع عملك إلي ، وهو كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [ فاطر : 10 ] والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله ، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه ، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.
الطريق الثاني : وهو قول من قال : لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير ، قالوا إن قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} يقتضي إنه رفعه حياً ، والواو لا تقتضي الترتيب ، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير ، والمعنى : أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن.
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 60 ـ 61}(13/354)
وقال محمد بن أبى بكر الرازى :
لما هدده اليهود بالقتل بشره بأنه يقبض روحه بالوفاة لا بالقتل ، والواو لا تفيد الترتيب ليلزم من الآية موته قبل رفعه.أ هـ {تفسيرالرازى صـ 63}
وقال البغوى :
{ إِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } اختلفوا في بعض التوفي هاهنا ، قال الحسن والكلبي وابن جريج : إني قابضك ورافعك في الدنيا إليِّ من غير موت ، يدل عليه قوله تعالى : " فلما توفيتني "( 117 -المائدة ) أي قبضتني إلى السماء وأنا حي ، لأن قومه إنما تنصروا بعد رفعه إلى السماء لا بعد موته ، فعلى هذا للتوفي تأويلان ، أحدهما : إني رافعك إلي وافيًا لم ينالوا منك شيئا ، من قولهم توفيت كذا واستوفيته إذا أخذته تامًا والآخر : أني [مستلمك] من قولهم توفيت منه كذا أي تسلمته ، وقال الربيع بن أنس : المراد بالتوفي النوم [وكل ذي عين نائم] وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائما إلى السماء ، معناه : أني منومك ورافعك إلي كما قال الله تعالى : " وهو الذي يتوفاكم بالليل "( 60 -الأنعام ) أي ينيمكم. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 2 صـ 45}
وقال السمرقندى :
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } ففي الآية تقديم وتأخير ، ومعناه إني رافعك من الدنيا إلى السماء ، ومتوفّيك بعد أن تنزل من السماء على عهد الدجال ويقال : إنه ينزل ويتزوج امرأة من العرب بعدما يقتل الدجال ، وتلد له ابنة ، فتموت ابنته ، ثم يموت هو بعدما يعيش سنين ، لأنه قد سأل ربه أن يجعله من هذه الأمة ، فاستجاب الله دعاءه. (1) أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 243}
فصل
قال ابن عادل :
قال القرطبيُّ : " والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاةْ ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس ".
_______________
(1) هذا الكلام يحتاج إلى سند.(13/355)
وقال الضحاك : وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً ، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ ، فأخذوا بباب الغرفة ، فقال المسيح للحواريين : أيُّكُمْ يخرج ، ويقتل ، ويكون معي في الجنة ؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله ، فألقَى إليه مدرعة من صوف ، وعمامة من صوفٍ ، ونَاوَلَه عُكَّازه ، وألقي عليه شبه عيسى ، فخرج على اليهود فقتلوه ، وصلبوه ، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ ، وألبسه النورَ ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ، فَطَارَ مع الملائكة ، ثم إن اصحابه تفرقوا ثلاث فرق :
فقالت فرقة : كان اللهُ فينا ، ثم صعد إلى السماء ، وهم اليعقوبية.
وقالت فرقة : كان فينا ابن الله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهم النسطورية.
وقالت فرقة : كان فينا عبدُ الله ورسوله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهؤلاء هم المسلمون.
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يَزَل الإسلامُ طامساً حتى بَعَثَ اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } [ الصف : 14 ] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 267 ـ 268}
فصل
قال القرطبى :(13/356)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لينزِلنّ ابن مريم حكما عادلاً فليكسِرنّ الصليب وليقتلنّ الخنزير وليضعن الجِزية ولتُتركُنّ الْقِلاَصُ فلا يسعى عليها ولتَذهبَن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعونّ إلى المال فلا يقبله أحد " وعنه أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ليُهلنّ ابن مريم بفَجِّ الرّوْحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثَنينّهما " ولا ينزل بشرع مبتدإ فينسخ به شريعتنا بل ينزل مجدِّداً لما دَرَس منها متبعها.
كما في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " وفي رواية : "فأمّكم منكم".
قال ابن أبي ذِئب : تدري ما أمّكم منكم ؟ .
قلت : تخبِرني.
قال : فأمّكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنةِ نبيكم صلى الله عليه وسلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 101}
كلام غريب للشيخ الطاهر بن عاشور :
قال رحمه الله :
قوله تعالى {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}
استئناف ؛ وإذ ظرف غير متعلق بشيء ، أو متعلق بمحذوف ، أي اذكر إذ قال الله : كما تقدم في قوله : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة : 30] وهذا حكاية لأمر رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه. وقدم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناسا له ، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه. مع العلم بأنه يحب لقاء الله ، وتبشيرا له بأن الله مظهر دينه ، لأن غاية هم الرسول هو الهدى ، وإبلاغ الشريعة ، فلذلك قال لهك {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} والنداء فيه للاستئناس ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يقبض نبي حتى يخير".(13/357)
وقوله : {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ظاهر معناه : إني مميتك ، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأن أصل فعل توفى الشيء أنه قبضه تاما واستوفاه. فيقال : توفاه الله أي قدر موته ، ويقال : توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته ، ويطلق التوفي على النوم مجازا بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام : 60] وقوله : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر : 42]. أي وأما التي تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتا شبيها بالموت التام كقوله : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ثم قال حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} فالكل إماتة في التحقيق ، وإنما فصل بينهما العرف والاستعمال ، ولذلك فرع بالبيان بقوله : "فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ، فالكلام منتظم غاية الانتظام ، وقد اشتبه نظمه على بعض الأفهام. وأصرح من هذه الآية آية المائدة فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم لأنه دل على أنه قد توفى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض ، وحملها على النوم بالنسبة لعيسى لا معنى له ؛ لأنه إذا أراد رفعه لم يلزم أن ينام ؛ ولأن النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد ، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة ، ولذلك قال ابن عباس ، ووهب بن منبه : إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية قال مالك : مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة قال ابن رشد في البيان والتحصيل يحتمل أن قوله : مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز.(13/358)
وقال الربيع : هي وفاة نوم رفعه الله في منامه ، وقال الحسن وجماعة : معناه إني قابضك من الأرض ، ومخلصك في السماء ، وقيل : متوفيك متقبل عملك. والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة : أن عيسى ينزل في آخر مدة الدنيا ، فأفهم أن له حياة خاصة أخص من حياة أرواح بقية الأنبياء ، التي هي حياة أخص من حياة بقية الأرواح ؛ فإن حياة الأرواح متفاوتة كما دل عليه حديث "أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر". ورووا أن تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله ، فمنهم من تأول معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى ، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها ، وجعل حياته بحياة ثانية ، فقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاث ساعات ورفعه فيها ، ثم أحياه عنده في السماء ، وقال بعضهم : توفي سبع ساعات. وسكت ابن عباس ومالك عن تعيين كيفية ذلك ، ولقد وفقا وسددا. ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء ، وأن يكون نزوله إن حمل على ظاهره بعثا له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية ، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ "يبعث الله عيسى فيقتل الدجال" رواه مسلم عن عبد الله ابن عمر ، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة.(13/359)
وقد قيل في تأويله : إن عطف {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} على التقديم والتأخير ؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إني رافعك إلي ثم متوفيك بعد ذلك ، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أن في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود "ويمكث" أي "عيسى أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون" والوجه أن يحمل قوله تعالى : {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} على حقيقته ، وهو الظاهر ، وأن تؤول الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حي على معنى حياة كرامة عند الله ، كحياة الشهداء وأقوى ، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره دون تأويل ، أن ذلك يقوم مقام البعث ، وأن قوله في حديث أبي هريرة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى ، وهم جمع من الصحابة ، والروايات مختلفة وغير صريحة. ولم يتعرض القرآن في عد مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان. (1) أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 106 ـ 109}
________________
(1) كما ترى فإن بعض كلامه لا يخلو من بعد بعيد لا يخفى على المتأمل. والله أعلم.(13/360)
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} الآية, هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام, وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك كقوله : {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}, وقوله : {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية على ما فسرها به ابن عباس في إحدى الروايتين, وأبو مالك والحسن وقتادة وابن زيد وأبو هريرة, ودلّت على صدقه الأحاديث المتواترة, واختاره ابن جرير, وجزم ابن كثير أنه الحق من أن قوله : {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :(13/361)
الأول : أنّ قوله تعالى : {مُتَوَفِّيكَ} لا يدل على تعيين الوقت, ولا يدل على كونه قد مضى, وهو مُتَوَفّيه قطعاً يوماً ما, ولكن لا دليل على أنّ ذلك اليوم قد مضى, وأما عطفه {وَرَافِعُكَ إِلَيّ} على قوله : {مُتَوَفِّيكَ} فلا دليل عليه لإطباق جمهور اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع, وإنما تقتضي مطلق التشريك, وقد ادّعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك, وعزاه الأكثر للمحققين, وهو الحق, خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه, وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه. وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي, حكاه عنه صاحب (الضياء اللامع) وقوله صلى الله عليه وسلم : "أبدأ بما بدأ الله به" يعني الصفا, لا دليل عليه على اقتضائها الترتيب, وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكر عنه صاحب الضياء اللامع وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية, فكذلك لا تقتضي المنع منهما فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية بدليل الحديث المتقدم. وقد يكون المعطوف بها مرتبا كقول حسان : ( هجوت محمد وأجبت عنه ) على رواية الواو, وقد يراد بها المعية كقوله : {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ}, وقوله : {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}, ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .(13/362)
الوجه الثاني : أنّ معنى {مُتَوَفِّيكَ} أي منيمك ورافعك إليّ أي في تلك النومة, وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}, وقوله : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}, وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين, واستدل بالآيتين المذكورتين وقوله صلى الله عليه وسلم : "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا.." الحديث .
الوجه الثالث : أنّ {مُتَوَفِّيكَ} اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ومنه قولهم : "توفّى فلان دينه" إذا قبضه إليه.. فيكون معنى {مُتَوَفِّيكَ} على هذا قابضك منهم إلي حيا, وهذا القول هو اختيار بن جرير. وأما الجمع بأنه توفّاه ساعات أو أياما ثم أحياه فالظاهر أنه من الإسرائليات, وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 50 ـ 53}(13/363)
كلام نفيس للعلامة الآلوسى فى الآية الكريمة
قال عليه الرحمة :
{ إِذْ قَالَ الله } ظرف لمكر أو لمحذوف نحو وقع ذلك ولو قدر أذكر كما في أمثاله لم يبعد وتعلقه بالماكرين بعيد إذ لا يظهر وجه حسن لتقييد قوة مكره تعالى بهذا الوقت { ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : هذا من المقدم والمؤخر أي : رافعك إليّ ومتوفيك ، وهذا أحد تأويلات اقتضاها مخالفة ظاهر الآية للمشهور المصرح به في الآية الأخرى ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة " وثانيها : أن المراد إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك. وثالثها : أن المراد قابضك ومستوفي شخصك من الأرض من توفى المال بمعنى استوفاه وقبضه. ورابعها : أن المراد بالوفاة هنا النوم لأنهما أخوان ويطلق كل منهما على الآخر ، وقد روي عن الربيع أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وهو نائم رفقاً به ، وحكي هذا القول والذي قبله أيضاً عن الحسن. وخامسها : أن المراد أجعلك كالمتوفى لأنه بالرفع يشبهه ، وسادسها : أن المراد آخذك وافياً بروحك وبدنك فيكون { وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } كالمفسر لما قبله ، وسابعها : أن المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن إيصاله بالملكوت ، وثامنها : أن المراد مستقبل عملك ، ولا يخلو أكثر هذه الأوجه عن بعد لا سيما الأخير ، وقيل : الآية محمولة على ظاهرها ، فقد أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال : توفى الله تعالى عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه. وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفى عيسى سبع ساعات ثم أحياه ، وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين ، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين ، وورد ذلك في رواية ضعيفة عن ابن عباس والصحيح كما قاله(13/364)
القرطبي أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم وهو اختيار الطبري والرواية الصحيحة عن ابن عباس ، وحكاية أن الله تعالى توفاه سبع ساعات ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى. ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود ، ويزعمون أنه في الإنجيل وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم ، ولا بأس بنقله ورده فإن في ذلك ردّ عواهم فيه عليه السلام الربوبية على أتم وجه ، فنقول : قالوا : بينما المسيح مع تلاميذه جالس ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهودا الأسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وقد قال لهم يهودا : الرجل الذي أقبل هو هو فأمسكوه فلما رأى يهودا المسيح قال : السلام عليك يا معلم ثم أمسكوه فقال يسوع : مثل ما يفعل باللصوص خرجتم لي بالسيوف والعصي وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أعلم فلم تتعرضوا لي لكن هذه ساعة سلطان الظلمة فذهبوا به إلى رئيس الكهنة حيث تجتمع الشيوخ وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلاً وجلس ناحية منها متنكراً ليرى ما يؤول أمره إليه فالتمس المشايخ على يسوع شهادة يقتلونه بها فجاء جماعة من شهود الزور فشهد منهم اثنان أن يسوع قال : أنا أقدر أن أنقض هيكل الله تعالى وأبنيه في ثلاثة أيام فقال له الرئيس : ما تجيب عن نفسك بشيء ؟ فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي أنت المسيح ؟ فقال أنت قلت ذاك وأنا أقول لكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى تروه جالساً عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء وأن ناساً من القيام ههنا لا يذوقون الموت حتى يرون ابن الإنسان آتياً في ملكوته فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شق ثيابه وقال : ما حاجتنا إلى شهادة يهودا قد سمعتم ماذا ترون في أمره ؟ فقالوا : هذا مستوجب الموت فحينئذٍ بصقوا في وجه البعيد ولطموه وضربوه وهزأوا به وجعلوا يلطمونه ويقولون : بين لنا من لطمك ولما كان من الغد أسلموه لفيلاطس(13/365)
القائد فتصايح الشعب بأسره يصلب يصلب فتحرج فيلاطس من قتله ، وقال : أي شر فعل هذا فقال الشيوخ : دمه عليهم وعلى أولادهم فحينئذٍ ساقه جند القائد إلى الأبروطوريون فاجتمع عليه الشعب ونزعوه ثيابه وألبسوه لباساً أحمر وضفوا إكليلاً من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبة ثم جثوا على ركبهم يهزأون به ويقولون : السلام عليك يا ملك اليهود وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في رأسه ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه إلى موضع يعرف بالجمجمة فصلبوه وسمروا يديه على الخشبة فسألهم شربة ماء فأعطوه خلاً مدافاً بمرّ فذاقه ولم يسغه وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحاً مكتوباً هذا يسوغ ملك اليهود استهزاءاً به ، ثم جاءوا بلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيراً له وكان اليهود يقولون له : يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وإن كنت ابن الله كما تقول انزل عن الصليب ، وقال اليهود : هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه إن كان متوكلاً على الله تعالى فهو ينجيه مما هو فيه ؟ ولما كان ست ساعات من يوم الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم آلوي آلوي إيما صاصا أي إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني وأخذ اليهود سفنجة فيها خل ورفعها أحدهم على قصبة وسقاه ، وقال آخر : دعوه حتى نرى من يخلصه فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح وانشق حجاب الهيكل وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا للناس ولما كان المساء جاء رجل من ألزامه يسمى يوسف بلفائف نقية وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة ثم جعل على باب القبر حجراً عظيماً وجاء مشايخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا : يا سيدي ذكرنا أن ذاك الضال كان قد ذكر لتلاميذه أنا أقوم بعد ثلاثة أيام فلو أمرت من يحرس القبر حتى تمضي المدة كي لا تأتي تلاميذه ويسرقوه ثم يشيعون في الشعب أنه قام فتكون(13/366)
الضلالة الثانية شراً من الأولى فقال لهم القائد : اذهبوا وسدوا عليه واحرسوه كما تريدون فمضوا وفعلوا ما أرادوا ، وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقتها لينظرن إلى القبر.
وفي "إنجيل مرقص" إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس وإذا ملك قد نزل من السماء برجة عظيمة فألقى الحجر عن القبر وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق فكاد الحرس أن يموتوا من هيبته ثم قال للنسوة : لا تخافا قد علمت أنكما جئتما تطلبان يسوع المصلوب ليس هو ههنا إنه قد قام تعالين انظرن إلى المكان الذي كان فيه الرب واذهبا وقولا لتلاميذه إنه سبقكم إلى الخليل فمضتا وأخبرتا التلاميذ ودخل الحراس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر فقالوا : لا تنطقوا بهذا ورشوهم بفضة على كتمان القضية فقبلوا ذلك منهم وأشاعوا أن التلاميذ جاءوا وسرقوه ومهدت المشايخ عذرهم عند القائد ومضت الأحد عشر تلميذاً إلى الخليل وقد شك بعضهم ، وجاء لهم يسوع وكلمهم وقال لهم : اذهبوا فعمدوا كل الأمم وعلموهم ما أوصيكم به ، وهو ذا أنا معكم إلى انقضاء الدهر انتهى.(13/367)
وههنا أمور :
الأول : أنه يقال للنصارى : ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواتراً أو آحاداً فإن زعموا أنه آحاد لم تتم بذلك حجة ولم يثبت العلم إذ الآحاد لم يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب ، وإذا كان الآحاد يعرض لهم ذلك فكيف يحتج بقولهم في القطعيات ؟ ا وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم : أحد شروط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة بأن يكون الإخبار في كل طبقة ممن لا يمكن مواطأته على الكذب فإن زعمتم أن خبر قتل المسيح كذلك أكذبتم نصوص الإنجيل الذي بأيديكم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم وعليه معولكم : إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة قليلة من تلامذته فلما قبض عليه هربوا بأسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فلما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إليه فعرفته فقالت : هذا كان مع يسوع فحلف أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم حتى تركوه وذهب ، ولم يكد يذهب وأن شاباً آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره بأيديهم وذهب عرياناً فهؤلاء أصحابه وأتباعه لم يحضر أحد منهم بشهادة الإنجيل ، وأما أعداؤه اليهود الذين تزعمون أنهم حضروا الأمر فلا نسلم أنهم بلغوا عدد التواتر بل كانوا آحاداً وهم أعداء يمكن تواطؤهم على الكذب على عدوهم إيهاماً منهم أنهم ظفروا به وبلغوا منه أمانيهم فانخرم شرط التواتر.
ويؤيد هذا أن رؤساء الكهنة فيما زعمتم رشوا الحراس فلا يبعد أن تكون هذه العصابة من اليهود صلبوا شخصاً من أصحاب يسوع وأوهموا الناس أنه المسيح لتتم لهم أغراضهم على أن الأخباريين ذكروا أن بختنصر قتل علماء اليهود في مشارق الأرض ومغاربها لأنهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوا حتى لم يبق منهم إلا شرذمة ، فالمخبرون لم يبلغوا حد التواتر في الطبقة الوسطى أيضاً.(13/368)
الثاني : أن في هذا الفصل ما تحكم البداهة بكذبه ، وما تضحك الثكلى منه ، وما يبعده العقل مثل قوله للكهنة : إنكم من الآن ما ترون ابن الإنسان يريدون بالإنسان الرب سبحانه فإنه لم يرد إطلاق ذلك عليه جل شأنه في كتاب ، وقوله : إن ناساً من القيام ههنا الخ فإنه لم ير أحد من القيام هناك قبل موتة عيسى عليه السلام آتياً في ملكوته ، وقول الملك للنسوة : تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرب فإنه يقال فيه : أرب يقبر وإله يلحد ، أف لتراب يغشى وجه هذا الإله ، وتباً لكفن ستر محاسنه ، وعجباً للسماء كيف لم تبد وهو سامكها وللأرض لم تمد وهو ماسكها وللبحار كيف لم تغض وهو مجريها وللجبال كيف لم تسر وهو مرسيها وللحيوان كيف لم يصعق وهو مشبعه وللكون كيف لم يمحق وهو مبدعه سبحان الله كيف استقام الوجود والرب في اللحود ، وكيف ثبت العالم على نظام والإله في الرغام إنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة بهذا الرب والرزية بهذا الإله لقد ثكلته أمه ، وعدمه لا أبا لك قومه ؟ ا وقوله : إلهي إلهي لم خذلتني فإنه ينافي الرضا بمرّ القضاء ، ويناقض التسليم لأحكام الحكيم ، وذلك لا يليق بالصالحين فضلاً عن المرسلين على أنه يبطل دعوى الربوبية التي تزعمونها والألوهية التي تعتقدونها ، وقولهم : إنه قام كثير من القديسين من قبورهم الخ فإنه كذب صريح لأنه لو كان صحيحاً لأطبق الناس على نقله ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع ، وقولهم : مضت الأحد عشر تلميذاً إلى الخليل الخ فإنه قد انطفأ فيه سراج التلميذ الثاني عشر على ما يقتضيه قول المسيح : ويل لمن يسلم ابن الإنسان مع أن يسوع بزعمكم قال لتلاميذه الاثني عشر وفيهم يهودا الإسخريوطي الذي أسلمه للقتل : إنكم ستجلسون يوم القيامة على اثني عشر كرسياً تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل ، وقولهم : إنهم سألهم شربة ماء فإنه في غاية البعد لأن الإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوماً وأربعين(13/369)
ليلة ومثله لا يجزع من فراق الماء ساعة لا سيما وقد كان يقول لتلاميذه : إن لي طعاماً لا تعرفونه إلى غير ذلك.
الثالث : إن ما ذكروا من قيام المسيح من قبره ليلة السبت مع صلبه يوم الجمعة مخالف لما رواه "متى في إنجيله" فإنه قال فيه : سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال : الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلا آية يونيان النبي يعني يونس عليه السلام لأنه أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال وكذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال الرابع : أن في هذه القصة ما يدل دلالة واضحة على أن المصلوب هو الشبه وأن الله تعالى حمى المسيح عليه السلام عن الصلب كما سيتضح لك مع زيادة تحقيق عند قوله تعالى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبّهَ لَهُمْ } [ النساء : 157 ] هذا وإنما أكد الحكم السابق اعتناءاً به أو لأن تسلط الكفار عليه جعل المقام مقام اعتقاد أنهم يقتلونه ، وأراد سبحانه بقوله : { وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } رافعك إلى سمائي ، وقيل : إلى كرامتي ، وعلى كل فالكلام على حذف مضاف إذ من المعلوم أن البارىء سبحانه ليس بمتحيز في جهة ، وفي رفعه إلى أي سماء خلاف ، والذي اختاره الكثير من العارفين أنه رفع إلى السماء الرابعة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رفعه إلى السماء الدنيا فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه الله تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس.(13/370)
وفي الخازن أنه سبحانه لما رفعه عليه السلام إليه كساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً ، وأورد بعض الناس ههنا إشكالات وهي أن الله تعالى كان قد أيده بجبريل عليه السلام كما قال سبحانه : { وأيدناه بِرُوحِ القدس } [ البقرة : 87 ] ثم إن طرف جناح من أجنحة جبريل كان يكفي للعالم فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه ؟ ا وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكيف لم يقدر على إماتتهم ودفع شوكتهم ، أو على إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين من التعرض له ؟ وأيضاً لما خلصه من الأعداء بأن رفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير ؟ وأجيب عن الكل بأن بناء التكليف على الاختيار ، ولو أقدر الله تعالى جبريل ، أو عيسى عليهما السلام على دفع الأعداء ، أو رفعه من غير إلقاء شبهه إلى السماء لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، والقول بأن فتح باب إلقاء الشبه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وإبطال التواتر ، وأيضاً إن في ذلك الإلقاء تمويهاً وتخليطاً وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى ليس بشيء ، أما أولاً : فلأن إلقاء شبه شخص على آخر وإن كان ممكناً في نفسه إلا أن الأصل عدم الإلقاء واستقلال كل من الحيوان بصورته التي هي له ، نعم لو أخبر الصادق بإلقاء صورة شخص على آخر قلنا به واعتقدناه فحينئذٍ لا يرتفع الأمان عن المحسوسات بل هي باقية على الأصل فيها فيما لم يخبر الصادق بخلافه على أن إبطال التواتر بفتح هذا الباب ممنوع لأنه لم يشترط في الخبر أن يكون عن أمر ثابت في نفس الأمر بل يكفي فيه كونه عن أمر محسوس على ما قاله بعض المحققين ، وأما ثانياً : فلأن التمويه والتلبيس إن كان على الأعداء فلا نسلم أنه مما لا يليق بالحكمة وإن كانت النجاة مما تمكن بدون(13/371)
الإلقاء وإن كان ذلك على أوليائه فلا نسلم أن في الإلقاء تمويهاً لأنهم كانوا عارفين يقيناً بأن المطلوب الشبه لا عيسى عليه السلام كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ، والقول بأن المطلوب قد ثبت بالتواتر أنه بقي حياً زماناً طويلاً فلولا أنه كان عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ولو فعل ذلك لاشتهر وتواتر ليس بشيء أيضاً ، أما أولاً : فلأن دعوى تواتر بقاء المصلوب حياً زماناً طويلاً مما لم يثبتها برهان والثابت أن المصلوب إنما صلب في الساعة الثانية من يوم الجمعة ومات في الساعة السادسة من ذلك اليوم وأنزل ودفن ، ومقدار أربع ساعات لا يعد زماناً طويلاً كما لا يخفى ، وأما ثانياً : فلأن عدم تعريف المصلوب نفسه إما لأنه أدركته دهشة منعته من البيان والإيضاح ، أو لأن الله تعالى أخذ على لسانه لم يستطع أن يخبر عن نفسه صوناً لنبيه عليه السلام أن يفصح الرجل عن أمره ، أو لأنه لصديقيته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه رغبة في الشهادة ، ولهذا ورى في الجواب الذي نقلته النصارى في القصة وقد وعد المسيح عليه السلام التلاميذ على ما نقلوا قبل بقولهم لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا والشبه من جملتهم فوفى بما وعد من نفسه على عادة الصديقين من أصحاب الأنبياء عليهم السلام فهو من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ومن ذهب إلى أن الشبه كان من الأعداء لا من الأولياء روى أنه جعل يقول لليهود عند الصلب : لست المسيح وإنما أنا صاحبكم لكنه لم يسمع ولم يلتفت إلى قوله وصلبوه ، والقول بأنه لو كان ذلك لتواتر لا يخفى ما فيه لمن أحاط بما ذكرناه خبراً فتأمل. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 179 ـ 183}(13/372)
فصل
قال ابن عطية :
أجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل ويظهر هذه الملة ملة محمد ويحج البيت ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعاً وعشرين سنة ، وقيل أربعين سنة ، ثم يميته الله تعالى. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 444}
فصل
قال الفخر :
المشبهة يتمسكون بهذه الآية في إثبات المكان لله تعالى وأنه في المساء ، وقد دللنا في المواضع الكثيرة من هذا الكتاب بالدلائل القاطعة على أنه يمتنع كونه تعالى في المكان فوجب حمل اللفظ على التأويل ، وهو من وجوه :
الوجه الأول : أن المراد إلى محل كرامتي ، وجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله {إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى} [ الصافات : 99 ] وإنما ذهب إبراهيم صلى الله عليه وسلم من العراق إلى الشام وقد يقول السلطان : ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي ، وقد يسمى الحجاج زوار الله ، ويسمى المجاورون جيران الله ، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا.
الوجه الثاني : في التأويل أن يكون قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} معناه إنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير الله لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السموات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله.
الوجه الثالث : إن بتقدير القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك سبباً لانتفاعه وفرحه بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والروح والراحة والريحان ، فعلى كلا القولين لا بد من حمل اللفظ على أن المراد : ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك ، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان لله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 61}(13/373)
قوله تعالى : {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ}
قال الفخر :
المعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم ، وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 61}
وقال الآلوسى :
{ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } يحتمل أن يكون تطهيره عليه السلام بتبعيده منهم بالرفع ، ويحتمل أن يكون بنجاته مما قصدوا فعله به من القتل ، وفي الأول : جعلهم كأنهم نجاسة ، وفي الثاني : جعل فعلهم كذلك والأول هو الظاهر وإلى الثاني ذهب الجبائي. والمراد من الموصول اليهود ، وأتى بالظاهر على ما قيل دون الضمير : إشارة إلى علة النجاسة وهي الكفر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أن المراد من الموصول اليهود والنصارى والمجوس وكفار قومه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 183}
فائدة
قال ابن عاشور :
والتطهير في قوله : {ومطهرك} مجازي بمعنى العصمة والتنزيه ؛ لأن طهارة عيسى هي هي ، ولكن لو سلط عليه أعداؤه لكان ذلك إهانة له.
وحذف متعلق كفروا لظهوره أي الذين كفروا بك وهم اليهود ، لأن اليهود ما كفروا بالله بل كفروا برسالة عيسى ، لأن عيسى لم يبعث لغيرهم فتطهيره لا يظن أنه تطهير من المشركين بقرينة السياق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 109}
قوله تعالى {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة}
فصل
قال الفخر :
قوله {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} فيه وجهان(13/374)
الأول : أن المعنى : الذين اتبعوا دين عيسى يكونون فوق الذين كفروا به ، وهم اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة ، فيكون ذلك إخباراً عن ذل اليهود وإنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة ، فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأما بعد الإسلام فهم المسلمون ، وأما النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث أن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال ، ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهودياً ولا بلدة مملوءة من اليهود بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك
الثاني : أن المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والدليل.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} هو الرفعة بالدرجة والمنقبة ، لا بالمكان والجهة ، كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 61 ـ 62}
فائدة
قال ابن عادل :
{ إلى يَوْمِ القيامة } متعلق بالجَعْل ، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم. ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدَّر في فَوْقَ أي : جاعلهم قاهرين لهم ، إلى يَوْمِ القيامةِ ، يعني أنهم ظاهرون على اليهود ، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا ، فأما يوم القيامة ، فَيَحْكُمُ اللهُ بينهم ، فيدخل الطائع الجَنَّةَ ، والعاصي النَّارَ وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا ، وانقضائها ؛ لن لهم استعلاءٌ آخر غير هذا الاستعلاء.(13/375)
قال أبو حيّان : " والظاهر أن " إلى " تتعلق بمحذوف وهو العامل في " فَوْقَ " وهو المفعول الثاني لـ " َجَاعِل " إذْ معنى " جاعل " هنا مُصَيِّر ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة. وهذا على أن الفوقية مجاز ، أما إن كانت الفوقية حقيقة - وهي الفوقية في الجنة - فلا تتعلق " إلى " بذلك المحذوف ، بل بما تقدم من " مُتَوَفِّيك " أو من " رَافِعُكَ " أو من " مُطَهِّرُكَ " إذْ يصح تعلُّقه بكل واحد منها ، أما تعلقه بـ " رَافِعُكَ " أو بـ " مُطَهِّرُكَ " فظاهر ، وأما بـ " مُتَوَفِّيكَ " فعلى بعض الأقوال ".
يعني ببعض الأقوال أن التوفي يُرادُ به : قابضك من الأرض من غير موت ، وهو قول جماعة - كالحسن والكلبي [ وابن جريج ] وابن زيد وغيرهم. أو يراد به ما ذكره الزمخشريُّ : وهو مُسْتَوْفٍ أجلك ، ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلَكَ الكفارُ ، ومؤخِّرُك إلى أجل كتبتُهُ لك ، ومميتك حَتْفَ أنفكِ لا قَتْلاً بأيدي الكفار ، وإن على قول مَنْ يقول : إنه تَوَفٍّ حقيقةً فلا يُتَصَوَّر تعلُّقه به ؛ لأن القائلَ بذلك لم يَقُل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة ، بل قائل يقول : إنه تُوُفِّي ثَلاثَ ساعاتٍ ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْرٌ في اليقظة. وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثةُ عواملَ ، وإذا ضَمَمْنَا إليها كَوَن الفوقية مجازاً تنازع فيها أربعة عوامل ، والظاهر أنه متعلق بـ " جَاعِل ". وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم " أحكم " ونحوه قبل الباء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 268 ـ 269}
وقال ابن كثير :(13/376)
وقوله تعالى : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : برفعي إياك إلى السماء { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وهكذا وقع ؛ فإن المسيح ، عليه السلام ، لما رفعه الله إلى السماء تَفَرَّقت أصحابه شيَعًا بعده ؛ فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته ، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله ، وآخرون قالوا : هو الله. وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن ، ورَد على كل فريق ، فاستمروا كذلك قريبا من ثلاثمائة سنة ، ثم نَبَع لهم ملك من ملوك اليونان ، يقال له : قسطنطين ، فدخل في دين النصرانية ، قيل : حيلة ليفسده ، فإنه كان فيلسوفا ، وقيل : جهلا منه ، إلا أنه بَدل لهم دين المسيح وحرفه ، وزاد فيه ونقص منه ، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة - التي هي الخيانة الحقيرة-وأحل في زمانه لحم الخنزير ، وصَلّوا له إلى المشرق وصوروا له الكنائس ، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه ، فيما يزعمون. وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارت ما يزيد على اثنى عشر ألف معبد ، وبنى المدينة المنسوبة إليه ، واتبعه الطائفة المَلْكِيَّة منهم. وهم في هذا كله قاهرون لليهود ، أيَّدهم الله عليهم لأنهم أقرب إلى الحق منهم ، وإن كان الجميع كفار ، عليهم لعائن الله.
فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق -كانوا هم أتباع كُل نبي على وجه الأرض- إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي ، خاتم الرسل ، وسيد ولد آدم ، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق ، فكانوا أولى بكل نبي من أمته ، الذين يزعمون أنهم على ملّته وطريقته ، مع ما قد حَرّفوا وبدلوا.
(13/377)
ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله بشريعته شريعة جميع الرسل بما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الدين الحق ، الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة ، ولا يزال قائما منصورًا ظاهرا على كل دين. فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها ، واحتازوا جميع الممالك ، ودانت لهم جميعُ الدول ، وكسروا كسرى ، وقَصروا قيصر ، وسلبوهما كُنُوزَهما ، وأنفقت في سبيل الله ، كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم ، عز وجل ، في قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } الآية[ النور : 65 ] ولهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا سلبوا النصارى بلاد الشام وأَجْلَوهم إلى الروم ، فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية ، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة. وقد أخبر الصادق المصدوق أمَّته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ، ويستفيؤون ما فيها من الأموال ، ويقتلون الروم مَقْتلة عظيمة جدا ، لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها ، وقد جمعت في هذا جزءا مفردا. ولهذا قال تعالى : { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي : يوم القيامة { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 47 ـ 48}
قوله تعالى {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
قال الفخر :(13/378)
المعنى أنه تعالى بشّر عيسى عليه السلام بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة ، والدرجات الرفيعة العالية ، وأما في القيامة فإنه يحكم بين المؤمنين به ، وبين الجاحدين برسالته ، وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 62}
وقال الآلوسى :
{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي مصيركم بعد يوم القيامة ورجوعكم ، والضمير لعيسى عليه السلام والطائفتين ، وفيه تغليب على الأظهر ، و{ ثُمَّ } للتراخي ؛ وتقديم الظرف للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد ، ويحتمل أن يكون الضمير لمن اتبع وكفر فقط ، وفيه التفات للدلالة على شدة إرادة إيصال الثواب والعقاب لدلالة الخطاب على الاعتناء. { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي فأقضي بينكم إثر رجوعكم إليّ ومصيركم بين يدي { فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من أمور الدين ، أو من أمر عيسى عليه السلام ، والظرف متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 184}
وقال ابن عاشور :
وجملة {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} عطف على جملة {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إذ مضمون كلتا الجملتين من شأن جزاء الله متبعي عيسى والكافرين به ، وثم للتراخي الرتبي ؛ لأن الجزاء الحاصل عند مرجع الناس إلى الله يوم القيامة ، مع ما يقارنه من الحكم بين الفريقين فيما اختلفوا فيه ، أعظم درجة وأهم من جعل متبعي عيسى فوق الذين كفروا في الدنيا.
والظاهر أن هذه الجملة مما خاطب الله به عيسى ، وأن ضمير مرجعكم ، وما معه من ضمائر المخاطبين ، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به.
ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض ، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني.(13/379)
والمرجع مصدر ميمي معناه الرجوع. وحقيقة الرجوع غير مستقيمة هنا فتعين أنه رجوع مجازي ، فيجوز أن يكون المراد به البعث للحساب بعد الموت ، وإطلاقه على هذا المعنى كثير في القرآن بلفظه وبمرادفه نحو المصير ، ويجوز أن يكون مرادا به انتهاء إمهال الله إياهم في أجل أراده فينفذ فيهم مراده في الدنيا.
ويجوز الجمع بين المعنيين باستعمال اللفظ في مجازيه ، وهو المناسب لجمع العذابين في قوله : {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وعلى الوجهين يجري تفسير حكم الله بينهم فيما هم فيه يختلفون. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 109 ـ 110}
فوائد ولطائف
قال ابن عادل :
{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } في الآخرة { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدّينِ ، وأمر عيسى عليه السلام ؛ التفات من غيبة إلى خطابِ ؛ وذلك أنه - تعالى - قدَّم ذِكْر مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه - وهم اليهود - وقدَّم - أيضاً - ذِكْرَ مَنْ آمن به - وهم الحواريون رضي الله عنهم - وقفَّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل مُتَّبِعِي عيسى فوق مخالفيه ، فلو جاء النظم على هذا السياق - من غير التفات ، لكان : ثم إليّ مرجعهم ، فأحكم بَيْنَهُم فيما كانوا ، ولكنه التفت إلى الخطاب ؛ لأنه أبلغ في البشارة ، وأزجر في النذارة.(13/380)
وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني : إني مُتَوفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ وَجَاعِلُ - هذا الترتيب معنًى حَسَنٌ جِدًّا ؛ وذلك أنه - تعالى - بشَّره - أولاً - بأنه متوفيه ، ومتولّي أمره ، فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ ، ثم بَشَّرَه - ثانياً - بأنه رافعه إليه - أي : إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته ، ومحل عبادته ؛ ليسكن فيها ، ويعبدَ ربَّه مع عابديه - ثم - ثالثاً - بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به ، ثم رابعاً - برفعة تابعيه على من خالَفهم ؛ ليتمَّ بذلك سروره ، ويكمل فرحه. وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره ؛ لأن - الإنسان بنفسه أهم ، وبشأنه أعْنَى ، كقوله : { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا } [ التحريم : 6 ] وفي الحديث : " ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنَ تَعُولُ ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 272}
فصل
قال الفخر :
بقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال : {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبّهَ لَهُمْ} [ النساء : 157 ] والأخبار أيضاً واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت ، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه ، وتارة يروى أنه عليه السلام رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه حتى يقتل مكانه ، وبالجملة فكيفما كان ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات :(13/381)
الإشكال الأول : إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة ، فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانياً ليس بولدي بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات ، وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمداً صلى الله عليه وسلم يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع ، وأيضاً فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية.
والإشكال الثاني : وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال ، هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} [ المائدة : 110 ] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه ؟ وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له ؟ .
والإشكال الثالث : إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره ، وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه ؟ .
والإشكال الرابع : أنه إذا ألقى شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه هو عيسى مع أنه ما كان عيسى ، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس ، وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.(13/382)
والإشكال الخامس : أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام ، وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً ، فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر ، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ونبوّة عيسى ، بل في وجودهما ، ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكل ذلك باطل.
والإشكال السادس : أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً ، فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع ، ولقال : إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره ، ولبالغ في تعريف هذا المعنى ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى ، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم ، فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات :
والجواب عن الأول : أن كل من أثبت القادر المختار ، سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زيد مثلاً ، ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور ، فكذا القول فيما ذكرتم :
والجواب عن الثاني : أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، وذلك غير جائز.
وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث : فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقي شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء.
والجواب عن الرابع : أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين ، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة ، وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.
والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم.
(13/383)
والجواب عن السادس : إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلماً وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة ، وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه ، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع ، والله ولي الهداية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 62 ـ 63}(13/384)
قوله تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [ آل عمران : 55 ] بيّن بعد ذلك مفصلاً ما في ذلك الاختلاف ، أما الاختلاف فهو أن كفر قوم وآمن آخرون ، وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة ، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات ، فهو أن يوفيهم أجورهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 63 ـ 64}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : { فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } في محل هذا الموصول قولان :
أظهرهما - وهو الأظهر- : أنه مرفوع على الابتداء ، والخبر الفاء وما بعدها.
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر ، على أن المسألة من باب الاشتغال ، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره ، وهذا وجه ضعيف ؛ لأن " أمَّا " لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يَلِها إلا المبتدأ امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل ، ومن جوَّز ذلك قال : بأنه يُضْمَر الفعلُ متأخِّراً عن الاسم ، ولا يضمر قبله. قال : لئلا يَلِيَ " أمَّا " فعل - وهي لا يليها الأفعال ألبتة - فَتُقَدِّر - في قولك : أما زيداً فضربتُهُ - أما زيداً ضربتُ فضَرَبْتُه ، وكذا هنا يُقَدَّر : فأما الذين كفروا أعَذِّبُ فأعَذِّبُهُم ؛ قدر العامل بعد الصلة ، ولا تقدره قبل الموصول ؛ لما ذكرناه. وهذا ينبغي أن لا يجوز ؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكابِ وجهٍ ضعيفٍ جدًّا في أفصح الكلامِ.
وقد قرئ شاذًّا { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] بنصب " ثمود " واستضعفها الناس. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 272 ـ 273}
فصل
قال الفخر :
أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين(13/385)
أحدهما : القتل والسبي وما شاكله ، حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به ، فذلك داخل في عذاب الدنيا
والثاني : ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب ، وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا ؟ قال بعضهم : إنه عقاب في حق الكافر ، وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقاباً بل يكون ابتلاءً وامتحاناً ، وقال الحسن : إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقاباً بل يكون أيضاً ابتلاءً وامتحاناً ، ويكون جارياً مجرى الحدود التي تقام على النائب ، فإنها لا تكون عقاباً بل امتحاناً ، والدليل عليه أنه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقاباً.
فإن قيل : فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذاب للكافر على كفره ، وهذا على خلاف قوله تعالى : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} [ النحل : 61 ] وكلمة {لَوْ} تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا ، وأيضاً قال تعالى : {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [ غافر : 17 ] وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم ، لا في الدنيا ، قلنا : الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة ، والآيات التي ذكرتموها عامة ، والخاص مقدم على العام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 64}
فصل
قال الفخر :
لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة ، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد ، ولسنا نجد الأمر كذلك ، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين ، ولا نجد بين الناس تفاوتاً.
قلنا : بل التفاوت موجود في الدنيا ، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى عليه السلام ، ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم ، فزال الإشكال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 63 ـ 64}
فصل
قال الفخر :
وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم.(13/386)
فإن قيل : أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة.
قلنا : المانع هو العهد ، ولذلك إذا زال العهد حل قتله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 64}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } تفسير للحكم المدلول عليه بقوله سبحانه : { فاحكم } [ آل عمران : 55 ] وتفصيل له على سبيل التقسيم بعد الجمع ، وإلى ذلك ذهب كثير من المحققين ، واعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة لا محالة ، فكيف يصح تفسيره بالعذاب المقيد بقوله تعالى : { فِى الدنيا والآخرة } ؟ ا وأجيب بوجوه
الأول : أن المقصود التأبيد وعدم الانقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة ،
الثاني : أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومهما اللغوي أي الأول والآخر ، ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا أبعد من الأول جداً.
الثالث : ما ذكر صاحب "الكشف" من أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي ، وقوله سبحانه : { إلى يَوْمِ القيامة } [ آل عمران : 55 ] غاية الفوقية لا غاية الجعل ، والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود على وزان قولك : سأعيرك سكنى هذا البيت إلى شهر ثم أخلع عليك بثوب من شأنه كذا وكذا فإنه يلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا الخلع ، وعلى هذا توفية الأجر لِغُنْمِ الدارين ، ولا يخفى أن في لفظ { كُنتُمْ } في قوله جل وعلا : { فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ آل عمران : 55 ] بعض نبوة عن هذا المعنى ، وأن المعنى أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا.(13/387)
الرابع : أن العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم ، والمعنى أضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة قال في "الكشف" : وفيه تقابل حسن وإن هذه الفوقية مقدمة عذاب الآخرة ومؤكدته ، وإدماج أنها فوقية عدل لا تسلط وجود ، ولا يخفى أنه بعيد من اللفظ جداً إذ معنى أعذبه في الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال : إن اتخاذ الكل لا يلزم أن يكون باتخاذ كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعل به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة. الخامس : أن في الدنيا والآخرة متعلق بشديد تشديداً لأمر الشدة وليس بشيء كما لا يخفى ، والأولى من هذا كله ما ذكره بعض المحققين أن يحمل معنى { ثُمَّ } [ آل عمران : 55 ] على التراخي الرتبي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذٍ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متأخراً عن الجعل في الزمان سواء كان قوله جل شأنه : { إلى يَوْمِ القيامة } [ آل عمران : 55 ] غاية للجعل أو الفوقية فلا محذور ، ثم إن المراد بالعذاب في الدنيا إذلالهم بالقتل والأسر والسبي وأخذ الجزية ونحو ذلك ، ومن لم يفعل معه شيء من وجوه الإذلال فهو على وجل إذ يعلم أن الإسلام يطلبه وكفى بذلك عذاباً ، وبالعذاب في الآخرة عقاب الأبد في النار { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله ، وصيغة الجمع كما قال مولانا مفتي الروم لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لكل واحد منهم ناصر واحد. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 184}(13/388)
وقال ابن عطية :
وقوله تعالى : { فأما الذين كفروا } الآية ، إخبار بما يجعل عليه حالهم من أول أمرهم وليس بإخبار عما يفعل بعد يوم القيامة ، لأنه قد ذكر الدنيا وهي قبل ، وإنما المعنى ، فأما الكافرون فالصنع بهم أنهم يعذبون { عذاباً شديداً في الدنيا } بالأسر والقتل والجزية والذل ، ولم ينله منهم فهو تحت خوفه إذ يعلم أن شرع الإسلام طالب له بذلك ، وقد أبرز الوجود هذا ، وفي { الآخرة } معناه ، بعذاب النار. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 445}
فائدة
قال ابن عاشور :
اعلم أن قوله فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة قضية جزئية لا تقتضي استمرار العذابين :
فأما عذاب الدنيا فهو يجري على نظام أحوال الدنيا : من شدة وضعف وعدم استمرار ، فمعنى انتفاء الناصرين لهم منه انتفاء الناصرين في المدة التي قدرها الله لتعذيبهم في الدنيا ، وهذا متفاوت ، وقد وجد اليهود ناصرين في بعض الأزمان مثل قصة أستير في الماضي وقضية فلسطين في هذا العصر.
وأما عذاب الآخرة : فهو مطلق هنا ، ومقيد في آيات كثيرة بالتأييد ، كما قال : {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة : 167].
وجملة {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} تذييل للتفصيل كله فهي تذييل ثاني لجملة {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} بصريح معناها ، أي أعذبهم لأنهم ظالمون والله لا يحب الظالمين وتذييل لجملة {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى آخرها ، بكناية معناها ؛ لأن انتفاء محبة الله الظالمين يستلزم أنه يحب الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلذلك يعطيهم ثوابهم وافيا.
ومعنى كونهم ظالمين أنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وظلم الله النصارى بأن نقصوه بإثبات ولد له وظلموا عيسى بأن نسبوه ابنا لله تعالى ، وظلمه اليهود بتكذيبهم إياه وأذاهم.
وعذاب الدنيا هو زوال الملك وضرب الذلة والمسكنة والجزية ، والتشريد في الأقطار ، وكونهم يعيشون تبعا للناس ، وعذاب الآخرة هو جهنم.
ومعنى : {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أنهم لا يجدون ناصرا يدفع عنهم ذلك وإن حاوله لم يظفر به. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 110 ـ 111}(13/389)
قوله تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)}
فائدة
قال الفخر :
ذكر الذين آمنوا ، ثم وصفهم بأنهم عملوا الصالحات ، وذلك يدل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان ، وقد تقدم ذكر هذه الدلالة مراراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 65}
فصل
قال ابن عادل :
قرأ حفص عن عاصم والحسن " فَيُوَفِّيهِمْ " - بياء الغيبة - والباقون بالنون. فقراءة حفص على الالتفاتِ من التكلُّم إلى الغيبة ؛ تفنُّناً في الفصاحةِ ، وقراءة الباقين جاريةٌ على ما تقدم من إتِّسَاق النظم ، ولكن جاء هناك بالمتكلم وحده ، وهنا بالمتكلم وحده المعظم نفسه ؛ اعتناءً بالمؤمنين ، ورفْعاً من شأنهم ؛ لمَّا كانوا مُعَظَّمِينَ عندَه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 273}
وقال السمرقندى :
قرأ عاصم في رواية حفص ، فيوفيهم بالياء ، يعني يوفيهم أجورهم ، وأما الباقون بالنون ، يعني أن الله قال { فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } وهذا لفظ الملوك ، إنهم يتكلمون بلفظ الجماعة ، ويقولون : نحن نفعل كذا وكذا ، ونكتب إلى فلان ، ونأمر بكذا ، فالله تعالى خاطب العرب بما يفهمون فيما بينهم كما قال في سائر المواضع { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } [ القمر : 19 ] { إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] وكذلك ها هنا قال : "فنوفيهم أجورهم" أي نعطيهم ثواب عملهم. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 243}(13/390)
فصل
قال الفخر :
احتج من قال بأن العمل علة للجزاء بقوله {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} فشبههم في عبادتهم لأجل طلب الثواب بالمستأجر ، والكلام فيه أيضاً قد تقدم والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 65}
فائدة
قال ابن عطية :
وتوفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة فذلك هو بحسب الأعمال ، وأما نفس دخول الجنة فبرحمة الله وبفضله. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 445}
وقال ابن عاشور :
وأسند {فيوفيهم} إلى نون العظمة تنبيها على عظمة مفعول هذا الفاعل ؛ إذ العظيم يعطي عظيما.
والتقدير فيوفيهم أجورهم في الدنيا والآخرة بدليل مقابله في ضدهم من قوله : {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وتوفية الأجور في الدنيا تظهر في أمور كثيرة : منها رضا الله عنهم ، وبركاته معهم ، والحياة الطيبة ، وحسن الذكر.
وجملة {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} تذييل ، وفيها اكتفاء : أي ويحب الذين آمنوا وعملوا الصالحات. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 111}
فصل
قال الفخر :
المعتزلة احتجوا بقوله {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي ، قالوا : لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محباً له ، إذا كان ذلك الشيء من الأفعال وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص ، فقد يقال : أحب زيداً ، ولا يقال : أريده ، وأما إذا علقتا بالأفعال : فمعناهما واحد إذا استعملتا على حقيقة اللغة ، فصار قوله {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} بمنزلة قوله ( لا يريد ظلم الظالمين ) هكذا قرره القاضي ، وعند أصحابنا أن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو تعالى وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه ، وهذه المسألة قد ذكرناها مراراً وأطواراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 65}(13/391)
من فوائد الإمام البقاعى فى الآية
قال رحمه الله :
لم يقل : وأما الذين اتبعوك - لئلا يلتبس الحال وإن كان من اتبع النبي الأمي فقد اتبعه في بشارته به والأمر باتباعه بل قال : {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} لأن هذه ترجمة الذين اتبعوه حق الاتباع.
ولما كان تمام الاعتناء بالأولياء متضمناً لغاية القهر للأعداء أبدى في مظهر العظمة قوله تعظيماً لهم وتحقيراً لأعدائهم : {فيوفيهم أجورهم} أي نحبهم من غير أن نبخسهم منها شيئاً أو نظلم أحداً من الفريقين في شيء فإن الله سبحانه وتعالى متعال عن ذلك {والله} الذي له الكمال كله {لا يحب الظالمين} من كانوا ، أي لا يفعل معهم فعل المحب ، فهو يحبط أعمالهم لبنائها على غير أساس الإيمان ، فالآية من الاحتباك ، ونظمها على الأصل : فنوفيهم لأنا نحبهم والله يحب المؤمنين ، والذين ظلموا نحبط أعمالهم لأنا لا نحبهم والله لا يحب الظالمين ؛ فتوفية الأجر أولاً ينفيها ثانياً ، وإثبات الكراهة ثانياً يثبت ضدها أولاً ، وحقيقة الحال أنه أثبت للمؤمنين لازم المحبة المراد منها في حق الله سبحانه وتعالى لأنه أسّر ، ولازم المراد من عدمها في الظالمين لأنه أنكأ. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 99}(13/392)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ وَأَمَّا الذين ءامَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات } بيان لحال القسم الثاني ، وبدأ بقسم { الذين كَفَرُواْ } [ آل عمران : 56 ] لأن ذكر ما قبله من حكم الله تعالى بينهم أول ما يتبادر منه في بادىء النظر التهديد فناسب البداءة بهم ولأنهم أقرب في الذكر لقوله تعالى : { فَوْقَ الذين كَفَرُواْ } [ آل عمران : 55 ] ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وهموا بقتله { فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي فيوفر عليهم ويتمم جزاء أعمالهم القلبية والقالبية ويعطيهم ثواب ذلك وافياً من غير نقص. وزعم بعضهم أن توفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة والظاهر أنها أعم من ذلك وعلق التوفية على الإيمان والعمل الصالح ولم يعلق العذاب بسوى الكفر تنبيها على درجة الكمال في الإيمان ودعاءاً إليها وإيذاناً بعظم قبح الكفر ، وقرأ حفص. ورويس عن يعقوب فيوفيهم بياء الغيبة ، وزاد رويس ضم الهاء ، وقرأ الباقون بالنون جرياً على سنن العظمة والكبرياء ، ولعل وجه الالتفات إلى الغيبة على القراءة الأولى الإيذان بأن توفية الأجر مما لا يقتضي لها نصب نفس لأنها من آثار الرحمة الواسعة ولا كذلك العذاب ، والموصول في الآيتين مبتدأ خبره ما بعد الفاء ، وجوز أن يكون منصوباً بفعل محذوف يفسره ما ذكر ، وموضع المحذوف بعد الصلة كما قال أبو البقاء ولا يجوز أن يقدر قبل الموصول لأن أما لا يليها الفعل. { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } أي لا يريد تعظيمهم ولا يرحمهم ولا يثني عليهم ، أو المراد يبغضهم على ما هو الشائع في مثل هذه العبارة ، والجملة تذييل لما قبل مقرر لمضمونه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 185}(13/393)
وقال أبو حيان :
{ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } بدأ أولاً بقسم الكفار ، لأن ما قبله من ذكر حكمه تعالى بينهم هو على سبيل التهديد والوعيد للكفار ، والإخبار بجزائهم ، فناسبت البداءة بهم ، ولأنهم أقرب في الذكر بقوله : { فوق الذين كفروا } وبكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله ، ثم أتى ثانياً بذكر المؤمنين ، وعلق هناك العذاب على مجرَّد الكفر ، وهنا علق توفية الأجر على الإيمان وعمل الصالحات تنبيهاً على درجة الكمال في الإيمان ، ودعاء إليها.
والتوفية : دفع الشيء وافياً من غير نقص ، والأجور : ثواب الأعمال ، شبهه بالعامل الذي يوفى أجره عند تمام عمله.
وتوفية الأجور هي : قسم المنازل في الجنة بحسب الأعمال على ما رتبها تعالى ، وفي الآية قبلها قال : { فأعذبهم } أسند الفعل إلى ضمير المتكلم وحده ، وذلك ليطابق قوله : { فأحكم بينكم } وفي هذه الآية قال : فيوفيهم ، بالياء على قراءة حفص ، ورويس ، وذلك على سبيل الالتفات والخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة.
وقرأ الجمهور : فنوفيهم ، بالنون الدالة على المتكلم المعظم شأنه ، ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية ليخالف في الإخبار بين النسبة الإسنادية فيما يفعله بالكافر وبالمؤمن ، كما خالف في الفعل ، ولأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند الله ، فناسبه الإخبار عن المجازي بنون العظمة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 499}(13/394)
قوله تعالى : { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام من ابتداء تكوينه إلى انتهاء رفعه وما كان بعده من أمر أتباعه مشيراً بذلك إلى ما فيه من بدائع الحكم وخزائن العلوم واللطائف المتنزلة على مقادير الهمم على أتقن وجه وأحكمه وأتمه وأخلصه وأسلمه ، وختمه بالتنفير من الظلم ، وكان الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وكان هذا القرآن العظيم قد حاز من حسن الترتيب ورصانة النظم بوضع كل شيء منه لفظاً ومعنى في محله الأليق به المحل الأعلى ، لا سيما هذه الآيات التي أتت بالتفصيل من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فلم تدع فيه شكاً ولا أبقت شبهة ولا لبساً ، أتبع ما تقدم من تفصيل الآيات البينات قوله منبهاً على عظمة هذه الآيات الشاهدات الآتي بها صلى الله عليه وسلم بأوضح الصدق بإعجازها في نظمها وفي العلم بمضامينها من غير معلم من البشر كما تقدم نحو ذلك في {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} {هود : 49 ] {ذلك} أي النبأ العظيم والأمر الجسيم الذي لم تكن تعلم شيئاً منه ولا علمه من شبان قومك {نتلوه} أي نتابع قصه بما لنا من العظمة {عليك} وأنت أعظم الخلق حال كونه {من الآيات} أي التي لا إشكال فيها ، ويجوز أن يكون خبر اسم الإشارة ، {والذكر الحكيم} إشارة إلى ذلك لأن الحكمة وضع الشيء في أعدل مواضعه وأتقنها ، وأشار بأداة البعد تنبيهاً على علو منزلته ورفيع قدره. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 99 ـ 100}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { { ذلك نَتْلُوهُ } يجوز أن يكون " ذَلِكَ " مبتدأ ، " نَتْلُوهُ " الخبر " مِنَ الآيَاتِ " حال أو خبر بعد خبر.(13/395)
ويجوز أن يكون " ذَلِكَ " منصوباً بفعل مقدَّر يفسِّره ما بعده - فالمسألة من باب الاشتغال - و" مِنَ الآيَاتِ " حال ، أو خبر مبتدأ مُضمَرٍ [ أي : هو من الآيات ، ولكنّ الأحسن الرفعُ بالابتداء ؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار ، وعندهم " زيد ضربته " أحسن من " زيداً ضربته " ، ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ مضمر ] ، يعني الأمر ذلك ، و" نَتْلُوهُ " على هذا حال من اسم الإشارة ، و{ مِنَ الآيَاتِ } حال من مفعول " نَتْلُوهُ ".
ويجوز أن يكون " ذَلِكَ " موصولاً بمعنى " الذي " و" نَتْلُوهُ " صلة وعائد ، وهو مبتدأ خبره الجار بعده أي : الذي نتلوه عليك كائن من الآيات ، أي : المعجزات الدالة على نبوتك. جوَّز ذلك الزَّجَّاجُ وتبعه الزمخشريُّ ، وهذا مذهب الكوفيين.
أما البصريون فلا يُجيزُون أن يكون اسماً من أسماء الإشارة موصولاً إلا " ذَا " خاصةً ، بشروطٍ تقدم ذكرها ؛ ويجوز أن يكون " ذلك " مبتدأ ، و" مِنَ الآيَاتِ " خبره ، و" نَتْلُوهُ " جملة في موضع نصب على الحال ، والعامل معنى اسم الإشارة.
قوله : " نَتْلُوهُ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه وإن كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى ، أي : الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك ، كقوله : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } [ البقرة : 102 ].
والثاني : أنه على بابه ؛ لأن الكلام لم يتم ، ولم يفرغ من قصة عيسى - عليه السلام - إذْ بقي منها بقية.
و " من " فيها وجهانِ :
أظهرهما : أنها تبعيضية ؛ لأن المَتلُوَّ عليه - من قصة عيسى - بعض معجزاته وبعض القرآن وهذا أوْجَهُ وأوضحُ. والمرادُ بالآيات - على هذا - العلامات الدالة على نبوتك.
والثاني : أنها لبيان الجنسِ ، وإليه ذهب ابنُ عَطِيَّةَ وبَدَأ به.
(13/396)
قال أبو حيّان : وَلاَ يَتأتَّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز ؛ لأن تقدير " من " البيانية بالموصول ليس بظاهر ؛ إذ لو قلتَ : ذلك تتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل ، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آياتٍ وذكراً [ على سبيل المجاز ].
والحكيمُ : صيغة مبالغة محول من " فاعل ". ووصف الكتاب بذلك مجازاً ؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزِّله والمتكلم به ، فوصف بصفة من هو من سببه - وهو الباري تبارك وتعالى - أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحْكِم في نظمه. وجوزوا أن تكون بمعنى " مُفْعَل " أي : مُحْكَم ، كقوله : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] إلا أن " فعيل " بمعنى " مُفْعَل " قليل ، قد جاءت منه أليْفَاظ ، قالوا : عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [ في سبيل الله ] فهو حبيس ومُحْبَس. وفي قوله : " نَتْلُوه " التفات من غيبة إلى تكلُّم ؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر - وهو قوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } - كذا قاله أبو حيّان ، وفيه نظرٌ ؛ إذ يُحْتَمل أن يكون قوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } جِيء به اعتراضاً بَيْنَ أبعاض هذه القصَّةِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 274 ـ 275}
فصل
قال الفخر :
التلاوة والقصص واحد في المعنى ، فإن كلا منهما يرجع معناه إلى شيء يذكر بعضه على إثر بعض ، ثم إنه تعالى أضاف التلاوة إلى نفسه في هذه الآية ، وفي قوله {نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى} [ القصص : 3 ] وأضاف القصص إلى نفسه فقال : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [ يوسف : 3 ] وكل ذلك يدل على أنه تعالى جعل تلاوة الملك جارية مجرى تلاوته سبحانه وتعالى ، وهذا تشريف عظيم للملك ، وإنما حسن ذلك لأن تلاوة جبريل صلى الله عليه وسلم لما كان بأمره من غير تفاوت أصلاً أُضيف ذلك إليه سبحانه وتعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 65}
فائدة
قال الفخر :(13/397)
قوله {مِنَ الآيات} يحتمل أن يكون المراد منه ، أن ذلك من آيات القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك ، لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارىء من كتاب أو من يوحى إليه ، فظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ ، فبقي أن ذلك من الوحي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 65}
فصل
قال الفخر :
{والذكر الحكيم} فيه قولان
الأول : المراد منه القرآن وفي وصف القرآن بكونه ذكراً حكيماً وجوه
الأول : إنه بمعنى الحاكم مثل القدير والعليم ، والقرآن حاكم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه والثاني : معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وكثرة علومه والثالث : أنه بمعنى المحكم ، فعيل بمعنى مفعل ، قال الأزهري : وهو شائع في اللغة ، لأن حكمت يجري مجرى أحكمت في المعنى ، فرد إلى الأصل ، ومعنى المحكم في القرآن أنه أحكم عن تطرق وجوه الخلل إليه قال تعالى : {أُحكمت آياته} [ هود : 1 ] والرابع : أن يقال القرآن لكثرة حكمه إنه ينطق بالحكمة ، فوصف بكونه حكيماً على هذا التأويل.
القول الثاني : أن المراد بالذكر الحكيم ههنا غير القرآن ، وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام ، أخبر أنه تعالى أنزل هذا القصص مما كتب هنالك ، والله أعلم بالصواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 65 ـ 66}(13/398)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ ذلك } أي المذكور من أمر عيسى عليه السلام والإتيان بما يدل على البعد للإشارة إلى عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف. { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } أي نسرده ونذكره شيئاً بعد شيء ، والمراد تلوناه إلا أنه عبر بالمضارع استحضاراً للصورة الحاصلة اعتناءاً بها ، وقيل : يمكن الحمل على الظاهر لأن قصة عيسى عليه السلام لم يفرغ منها بعد { مِنَ الآيات } أي الحجج الدالة على صدق نبوتك إذ أعلمتهم بما لا يعلمه إلا قارىء كتاب ، أو معلم ولست بواحد منهما فلم يبق إلا أنك قد عرفته من طريق الوحي { والذكر } أي القرآن ، وقيل : اللوح المحفوظ وتفسيره به لاشتماله عليه ، و{ مِنْ } تبعيضية على الأول ، وابتدائية على الثاني وحملها على البيان وإرادة بعض مخصوص من القرآن بعيد { الحكيم } أي المحكم المتقن نظمه ، أو الممنوع من الباطل ، أو صاحب الحكمة ، وحينئذ يكون استعماله لما صدر عنه مما اشتمل على حكمته ؛ إما على وجه الاستعارة التبعية في لفظ حكيم ، أو الإسناد المجازي بأن أسند للذكر ما هو لسببه وصاحبه ، وجعله من باب الاستعارة المكنية التخييلية بأن شبه القرآن بناطق بالحكمة وأثبت له الوصف بحكيم تخييلا محوج إلى تكلف مشهور في دفع شبهة ذكر الطرفين حينئذ فتأمل ، وجوز في الآية أوجه من الإعراب ، الأول : أن ذلك مبتدأ ، و{ نَتْلُوهُ } خبره ، و{ عَلَيْكَ } متعلق بالخبر ، و{ مِنَ الآيات } حال من الضمير المنصوب ، أو خبر بعد خبر ، أو هو الخبر وما بينهما حال من اسم الاشارة على أن العامل فيه معنى الإشارة لا الجار والمجرور قيل : لأن الحال لا يتقدم العامل المعنوي ، الثاني : أن يكون ذلك خبراً لمحذوف أي : الأمر ذلك ، و{ نَتْلُوهُ } في موضع الحال من { ذلك } و{ مِنَ الآيات } حال من الهاء ، الثالث : أن يكون ذلك في موضع نصب بفعل دل عليه نتلو فيكون { مِنَ الآيات } حالا من الهاء أيضاً. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 185}(13/399)
قوله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ثم أكد ظلمهم وصور حكمته بمثل هذا الفرقان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الكاشف لما في ذلك مما ألبس عليهم فقال : {إن مثل عيسى} أي في كونه من أنثى فقط {عند الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في إخراجه من غير سبب حكمي عادي {كمثل آدم} في أن كلاًّ منهما أبدع من غير أب ، بل أمر آدم أعجب فإنه أوجده من غير أب ولا أم ، ولذلك فسر مثله بأنه {خلقه} أي قدره وصوره جسداً من غير جنس البشر ، بل {من تراب} فعلمنا أن تفسير مثل عيسى كونه خلقه من جنس البشر من أم فقط بغير أب ، فمثل عيسى أقل غرابة من هذه الجهة وإن كان أغرب من حيث إنهم لم يعهدوا مثله ، فلذلك كان مثل آدم مثلاً له موضحاً لأنه مع كونه أغرب اشهر ( وعبر بالتراب دون الماء والطين والحمأ وغيره كما في غير هذا الموطن ، لأن التراب أغلب أجزائه ولأن المقام لإظهار العجب ، وإبداع ما أسكنه أنواع الأنوار بالهداية والعلوم الباهرة من التراب الذي هو أكثف الأشياء أغرب كما أن تغليب ظلام الضلال على الشياطين من كونهم من عنصر نير أعجب ).(13/400)
ولما شبه المثل بالمثل علمنا أن مثل عيسى كل ولد نشاهده تولد من أنثى ، ومثل آدم كل حيوان نشاهده تولد من تراب ، وما شاهده بنو إسرائيل من خلق عيسى عليه الصلاة والسلام الطير من الطين فهذا المثل الذي هو كل ما تولد من أنثى مثل ذلك المثل الذي هو كل ما تولد من تراب في أن كلاًّ منهما لم يكن إلا بتكوين الله سبحانه وتعالى ، وإلا لكان كل جماع موجباً للولد وكل تراب موجباً لتولد الحيوان منه ، فلما كان أكثر الجماع لا يكون منه ولد علمنا أن الإيجاد بين الذكر والأنثى إنما هو بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته ، ومن إرادته وقدرته كونه من ذكر وأنثى ، فلا فرق في ذلك بين أن يريد كونه من أنثى بتسبيب جماع من ذكر يخرق به عادة الجماع فيجعله موجباً للحبل وبين أن يريد كونه من أنثى فقط فيخرق به عادة ما نشاهده الآن من التوليد بين الذكر والأنثى ، كما أنا لما علمنا أنه ليس كل تراب يكون منه حيوان علمنا قطعاً أن هذا المتولد من تراب إنما هو بإرادة القادر واختياره لا بشيء آخر ، وإلى ذلك أشار يحيى عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سلف قريباً : إن الله قادر على أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم ، أي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق المسببات فلا فرق حينئذ بين مسبب وسبب ، بل كلها في قدرته سواء ، وإلى ذلك أشار قوله : {ثم قال له كن} أي بشراً كاملاً روحاً وجسداً ، وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في {فيكون} دون الماضي وإن كان المتبادر إلى الذهب أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويراً لها إشارة إلى أنه كان مع الأمر من غير تخلف وتنبيهاً على أن هذا هو الشأن دائماً ، يتجدد مع كل مراد ، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلاً - كما تقدم التصريح به في آية {إذا قضى أمراً} [ البقرة : 117 ] وذلك أغرب مما كان سبب ضلال النصارى الذين يجادل عن معتقدهم وفد نجران ، قال سبحانه وتعالى ذلك إشارة إلى أنهم ظلموا في القياس ، وكان العدل أن يقاس في خرقه(13/401)
للعادة بأبي أمه الذي كان يعلم الأسماء كلها وسجد له الملائكة ، لا بخالقه ومكونه تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال الحرالي : جعل سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام مثلاً مبدؤه السلالة الطينية ، وغايته النفخة الأمرية ، وكان عيسى عليه الصلاة ولاسلام مثلاً مبدؤه الروحية والكلمة ، وغايته التكمل بملابسة السلالة الطينية ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : إنه عند نزوله في خاتمة اليوم المحمدي يتزوج امرأة من بني أسد ويولد له غلام لتكمل به الآدمية في العيسوية كما كملت العيسوية في الآدمية وليكون مثلاً واحداً أعلى جامعاً {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} [ الروم : 27 ] - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 100 ـ 101}
فصل
قال الفخر :
أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان من جملة شبههم أن قالوا : يا محمد ، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى ، فقال : إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابناً لله تعالى ، فكذا القول في عيسى عليه السلام ، هذا حاصل الكلام ، وأيضاً إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم ؟ بل هذا أقرب إلى العقل ، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس ، هذا تلخيص الكلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 66}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } دليل على صحة القياس.
والتشبيه واقع على أن عيسى خُلِقَ من غير أبٍ كآدم ، لا على أنه خلق من تراب.(13/402)
والشيء قد يشبه بالشيء وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد ؛ فإن آدم خُلِقَ من تراب ولم يُخلق عيسى من تراب فكان بينهما فرق من هذه الجهة ، ولكن شبه ما بينهما أنهما خلقهما من غير أبٍ ؛ ولأن أصلِ خلقتهما كان من تراب لأنّ آدم لم يخلق من نفس التراب ، ولكنه جعل التراب طيناً ثم جعله صلصالاً ثم خلقه منه ، فكذلك عيسى حوّله من حال إلى حال ، ثم جعله بشراً من غير أبٍ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 102 ـ 103}
فصل
قال ابن عادل :
{ إِنَّ مَثَلَ عيسى } جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها تعلقاً صناعياً ، بل معنويًّا. وزعم بَعْضهُمْ أنها جواب القسم ، وذلك القسم هو قوله : { والذكر الحكيم } كأنه قيل : أقسم بالذكر الحكيم أنَّ مثل عيسى ، فَيَكُونُ الْكَلاَمُ قد تم عند قوله : { مِنَ الآيَاتِ } ثم استأنف قسماً ، فالواو حَرْف جَرٍّ ، لا عطف وهذا بَعِيدٌ ، أو مُمْتَنعٌ ؛ إذ فيه تفكيكٌ لنَظْم القرآنِ ، وإذْهاب لرونقه وفصاحته.
قوله : { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } في هذه الجملة وَجْهَانِ :
أظهرهما : أنها مفسِّرة لوجه الشبه بين المثلين ، فلا مَحَلَّ لَهَا حينئذٍ مِنَ الإعْرَابِ.
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من آدَمَ عليه السلام و" قد " معه مضمرة ، والعامل فيها معنى التشبيه والهاء في طخَلَقَهُ " عائدة على " آدم " ولا تعود على " عِيْسَى " لِفَسَادِ المعنى.
وقال ابن عطية : " ولا يجوز أن تكون خَلَقَه [ صفة ] لآدم ولا حالاً منه ".
قال الزّجّاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيهان بل هو كلامٌ مَقْطُوعٌ منه مَضمَّن تفسير الْمَثَلِ ، كما يقال في الكَلامِ : مثلك مثل زيد ، يشبه في امر من الأمور ، ثم يخبر بقصة زيد ، فيقول : فعل كذا وكذا.
قال أبو حيّان : " وَفيهِ نَظرٌ " ولم يُبَيِّنُ وَجْهَ النظر.(13/403)
قال شهاب الدِّينِ : " والظاهر من هذا النظر أن الاعتراضَ - وهو قوله : لا يكون حالاً أنت فيها غير لازمٍ ؛ إذ تقدير " قَدْ " تُقَرِّبُه من الحال. وقد يظهر الجوابُ عما قاله الزَّجَّاجُ من قول الزمخشريِّ : قدره جسداً من طين { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ } أي : أنشأه بَشَراً ".
قال أبو حيّان : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء - لا بمعنى التقدير - لم يأت بقوله : " كُنْ " ؛ لأن ما خلق لا يقال له : كُنْ ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى : { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } عِبَارةً عَنْ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.
وقال الواحديُّ : قوله { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } لَيْسَ بِصِلَةٍ لآدم وَلاَ صِفَةٍ ؛ لأن الصِّلَةَ للمبهمات ، والصفة للنَّكِرِاتِ ، ولكنه خبر مُسْتَأنَف على وجه التفسِيرِ لحال آدمَ عليه السلام.
وعلى قول الزجّاج : { مِن تُرَابٍ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق بـ " خَلَقَهُ " أي : ابتدأ خلقه من هذا الجنس.
الثاني : أنه حال من مفعول " خلقه " تقديره : خلقه كائناً من تراب ، وهذا لا يساعده المعنى.
وَالْمَثَلُ هاهنا منهم من فسَّره بمعنى الحال والشأن.
قال الزَّمَخْشَريُّ : " إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدمَ ". وعلى هذا التفسير فالكاف على بابها - من كونها حرف تشبيه - وفسَّر بعضُهم المثل بمعنى الصفة ، كقوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] ، أي : صفة الجنة.
قال ابنُ عَطِيَّة : وهذا عندي خطأٌ وضَعْفٌ في فَهْمِ الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمُتَصَوَّر من آدمَ ؛ إذ النّاس كلهم مُجْمِعُون على أن الله - تعالى - خلقه من تراب ، من غير فحل ، وكذلك قوله : { مَّثَلُ الْجَنَّةِ } عبارة عن المُتَصَوَّر منها. والكاف في " كَمَثَلِ " اسم على ما ذكرناه من المعنى.
(13/404)
قال أبو حيّان : " ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام مَنْ جعل المثل بمعنى الشأن والحَال أو بمعنى الصفةِ ".
[ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : قَد تَقَدَّمَ فَي أوَّلِ الْبَقَرةِ أنَّ الْمَثَلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَن الصِّفَةِ ، وَقَدْ لا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَغَايُرِهِمَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ النَّاسِ فِيهِ ، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ " ريِّ الظَّمآنِ " عن الفارسيّ الْجَميعِ ، وقَالَ : " المَثَلُ بِمعنَى الصِّفَةِ ، لا يمكن تَصْحِيحُهُ فِي اللُّغَةِ ، إنَّمَا الْمثَلُ التشبيه على هذا تدور تصاريفُ الكلمةِ ، ولا معنى للوصفية في التشابه ؛ ومعنى المثل ] في كلامهم أنها كلمة يُرْسِلها قائلُها لحكمة تُشَبَّه بها الأمور ، وتقابَل بها الأحوال وقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة.
قال بعضهم : إن الكافَ زائدة.
وقال آخرون : إنّ " مَثَلاً " زائدة فحصل في الكافِ ثَلاَثَةُ أقوالٍ :
قيل : أظهرها : أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة وقد تقدم تحقيقه.
وقال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب ووُجِد آدم من غير أب ولا أمٍّ ؟
قلت : هو مثله في أحد الطَّرَفَيْنِ ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به ؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ ، وهما في ذلك يظهران ، ولأن الوجود من غير أب ولا أمٍّ أغرب وأخرق للعادةِ من الوجود من غي رأب ، فشبَّه الغريبَ بالأغرب ؛ ليكون أقطعَ للخَصْم ، وأحسم لمادة شُبْهَتِه ، إذا نُظِّر فيما هو أغرب مما اسْتَغْرَبَه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 275 ـ 277}(13/405)
بحث نفيس للدكتور عبد المجيد الزندانى
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين وبعد : فهذا هو البروفيسور ج. س. جورنجر أستاذ في كلية الطب قسم التشريح في جامعة جورج تاون في واشنطن. التقينا بهذا الأستاذ وسألناه : هل ذكر في تاريخ علم الأجنة أن الجنين يخلق في أطوار ؟ وهل هناك من الكتب المتعلقة بعلم الأجنة ما قد أشار إلى هذه الأطوار في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعده بقرون ، أم أن هذا التقسيم إلى أطوار لم يعرف إلا في منتصف القرن التاسع عشر ؟ أجابنا بقوله : لقد كانت هناك عناية من اليونانيين بدراسة الجنين ، وقد حاول عدد منهم أن يصف ما يدور للجنين وما يحدث فيه. قلنا له : نعم ، نعلم هذا ، إن هناك نظريات لبعض العلماء منهم أرسطو وغيره ، ولكن هل هناك من ذكر أن هناك أطواراً ؟ لأننا نعلم أن الأطوار لم تعرف إلا في منتصف القرن التاسع عشر ، ولم تثبت إلا في أوائل القرن العشرين.فبعد نقاش طويل قال : لا. قلنا : هل هناك مصطلحات أطلقت على هذه الأطوار كالمصطلحات التي وردت في القرآن الكريم ؟ قال : لا. قلنا فما رأيك في هذه المصطلحات التي تغطي أطوار الجنين ؟ بعد مناقشة طويلة معه قدم بحثاً وألقاه في المؤتمر الطبي السعودي الثامن عن هذه الأطوار التي وردت في القرآن الكريم ، وعن جهل البشرية بها ، وعن شمول ودقة هذه المصطلحات التي أطلقها القرآن الكريم على هذه الأطوار لأحوال الجنين بعبارات موجزة وألفاظ مختصرة شملت حقائق واسعة. ثم هو ذا يتكلم عن رأيه في هذا فيقول : البروفيسور جورنجر : إنه وصف للتطور البشري منذ تكوين الأمشاج إلى أن أصبحت كتلاً عضوية ، عن هذا الوصف والإيضاحات الجلية والشاملة لكل مرحلة من مراحل تطور الجنين في معظم الحالات إن لم يكن في جميعها يعود هذا الوصف في قدمه إلى قرون عديدة قبل تسجيل المراحل المختلفة للتطور الجنيني البشري التي وردت في العلوم التقليدية العلمية.الشيخ الزنداني : وتطرق البحث مع(13/406)
البروفيسور جورنجر حول هذه الظاهرة التي كشفت علمياً وكشفت حديثاً أنها لتزيل الإشكال الذي كان يثيره النصارى.
النصارى يقولون ها هو ذا عيسى عليه السلام قد خلق من أم فمن هو أبوه ؟ يثيرون هذا الإشكال لا يتصورون أن يكون هناك خلق بدون أب. أجاب عليهم القرآن الكريم وبين لهم وضرب لهم مثلاً بآدم قال تعالى : ?إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون? (سورة آل عمران ، الآية : 59).إننا نجد ثلاثة أنواع من الخلق. آدم مخلوق بدون أب ولا أم. حواء مخلوقة بدون أم. عيسى عليه السلام مخلوق بدون أب. والذي قدر أن يخلق آدم عليه السلام بدون أب وأم قادر على أن يخلق عيسى عليه السلام من أم بدون أب ، ومع ذلك لا يزال النصارى يجادلون ، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يكشف لهم حجة بعد حجة وبرهاناً بعد برهان.لماذا تستشكلون هذا أيها النصارى ؟ قالوا : لأنا لا نرى أبداً مخلوقاً يمكن أن يأتي بغير أب ولا أم. فإذا بالعلم يكشف أن كثيراً من الحيوانات الدنيا وكثيراً من الكائنات الآن تتوالد وتنجب بدون تلقيح الذكور ، فهذا النحل : جميع ذكوره عبارة عن بيض لم يلقح بماء الذكور والبيضة التي تلقح بماء الذكور تكون شغالة أنثى. أما الذكور فهي مخلوقة من بيض الملكة بدون ماء الذكور وهناك أمثلة كثيرة على ذلك. بل لقد حدث في التقدم العلمي أن تمكن الإنسان أن ينبه بعض البيض لبعض الكائنات فتنمو هذه البيضة بدون حاجة إلى تلقيح الذكر. وها هو ذا البروفيسور جورنجر يحدثنا عن هذا الأمر.البروفيسور جورنجر : في نوع آخر لتناول الموضوع فإن البيض غير المخصب لكثير من الحيوانات اللافقارية والبرمائية والثديية السفلي يمكن تنشيطه بوسائل ميكانيكية ، كالوخز بالإبرة ، أو بوسائل مادية كالصدمة الحرارية ، أو بوسائل كيميائية بأي عدد من المواد الكيمائية المختلفة ، ويستمر البيض إلى مراحل تطور متقدمة ، في بعض الأجناس يعتبر هذا النوع من التطور الجيني طبيعياً.(13/407)
الشيخ الزنداني : أين الإشكال إذاً عند النصارى ؟ يقولون مستحيل أن يكون هناك مخلوق من أم بدون أب. ويقدم هذا الدليل ويصبح ذلك من الأمور التي يمكن أن تقاس فيما بعد فأي إشكال بعد ذلك ؟ لقد أجاب الله تعالى الجواب القاطع الشافي وضرب مثلاً بآدم الذي هم يؤمنون به ليس له أب وليس له أم.
أنتم تستشكلون مخلوقاً من أم بدون أب فإن الله قد قدم لكم مثلاً مخلوقاً أنتم تعرفونه وتؤمنون به بدون أب وبدون أم وهو آدم عليه السلام. ?إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون?.
ويشاء الله جل وعلا أن يأتي هذا التقدم العلمي والكشف العلمي ليقيم دليلاً بعد دليل على بيان الحق الذي جاء به القرآن ، وهكذا يتجلى هذا الكتاب الكريم مع مرور الزمن وتتجلى آياته ، وتتضح لأكابر علماء عصرنا وللعلماء جيلاً بعد جيل ، فهو الكتاب الذي لا يشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه. أ هـ { بحث للدكتور عبد المجيد الزندانى}
لطيفة
من طريف ما ذكره الدكتور عبد الرزاق نوفل أنه قد ورد ذكر آدم في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة ، ومثل ذلك العدد ورد ذكر عيسى بن مريم. أ هـ { الإعجاز العددي للقرآن الكريم دكتور عبد الرزاق نوفل صـ243}.(13/408)
قوله تعالى : {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ}
قال الفخر :
قوله تعالى : {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم ، قال الزجاج : هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد ، تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور ، ثم تخبر بقصة زيد فتقول فعل كذا وكذا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 66}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول ، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول وهو محال ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم عليه السلام كما في هذه الآية ، وقال : {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [ النساء : 1 ] وقال : {هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [ الأعراف : 189 ] ثم إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوهاً كثيرة
أحدها : أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية
والثاني : أنه مخلوق من الماء ، قال الله تعالى : {وَهُوَ الذى خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [ الفرقان : 54 ]
والثالث : أنه مخلوق من الطين قال الله تعالى : {الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ} [ السجدة : 7 ، 8 ]
والرابع : أنه مخلوق من سلالة من طين قال تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ * ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} [ المؤمنون : 12 ، 13 ]
الخامس : أنه مخلوق من طين لازب قال تعالى : {إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [ الصافات : 11 ]
السادس : إنه مخلوق من صلصال قال تعالى : {إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [ الحجر : 28 ](13/409)
السابع : أنه مخلوق من عجل ، قال تعالى : {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [ الأنبياء : 37 ] الثامن : قال تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } [ البلد : 4 ] أما الحكماء فقالوا : إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه :
الأول : ليكون متواضعاً
الثاني : ليكون ستاراً
الثالث : ليكون أشد التصاقاً بالأرض ، وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض ، قال تعالى : {إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً} [ البقرة : 30 ]
الرابع : أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة ، وخلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية ، وخلق السموات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهاناً باهراً ودليلاً ظاهراً على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج ، والخالق بلا مزاج وعلاج الخامس : خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئاً لنار الشهوة ، والغضب ، والحرص ، فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً تتجلى فيه صور الأشياء ، ثم إنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طيناً وهو قوله {إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ} ثم إنه في المرتبة الرابعة قال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين ، ثم إنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع :
أحدها : أنه من صلصال والصلصال : اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت.
والثاني : الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة ، وتغير لونه إلى السواد.
والثالث : تغير رائحته قال تعالى : {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [ البقرة : 259 ] أي لم يتغير.
(13/410)
فهذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 66 ـ 67}
فصل
قال الفخر :
في الآية إشكال ، وهو أنه تعالى قال : {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدماً على قول الله له {كُنَّ} وذلك غير جائز.
وأجاب عنه من وجوه الأول : قال أبو مسلم : قد بينا أن الخلق هو التقدير والتسوية ، ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإراداته لإيقاعه على الوجه المخصوص وكل ذلك متقدم على وجود آدم عليه السلام تقديماً من الأزل إلى الأبد ، وأما قوله {كُنَّ} فهو عبارة عن إدخاله في الوجود فثبت أن خلق آدم متقدم على قوله {كُنَّ }.
والجواب الثاني : وهو الذي عول عليه القاضي أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له {كُنَّ} أي أحياه كما قال : {ثم أنشأناه خلقاً آخر} فإن قيل الضمير في قوله خلقه راجع إلى آدم وحين كان تراباً لم يكن آدم عليه السلام موجوداً.
أجاب القاضي وقال : بل كان موجوداً وإنما وجد بعد حياته ، وليست الحياة نفس آدم وهذا ضعيف لأن آدم عليه السلام ليس عبارة عن مجرد الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص ، بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة وهي : إما المزاج المعتدل ، أو النفس ، وينجر الكلام من هذا البحث إلى أن النفس ما هي ، ولا شك أنها من أغمض المسائل.
الجواب : الصحيح أن يقال لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم عليه السلام قبل ذلك ، تسمية لما سيقع بالواقع.(13/411)
والجواب الثالث : أن قوله {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر كما في قوله تعالى : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [ البلد : 17 ] ويقول القائل : أعطيت زيداً اليوم ألفاً ثم أعطيته أمس ألفين ، ومراده : أعطيته اليوم ألفاً ، ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} أي صيره خلقاً سوياً ثم إنه يخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له {كُنَّ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 67 ـ 68}
فصل
قال الفخر :
في الآية إشكال آخر وهو أنه كان ينبغي أن يقال : ثم قال له كن فكان فلم يقل كذلك بل قال : {كُنْ فَيَكُونُ }.
والجواب : تأويل الكلام ، ثم قال له {كُنْ فَيَكُونُ} فكان.
واعلم يا محمد أن ما قال له ربك {كُنَّ} فإنه يكون لا محالة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 68}(13/412)
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ إِنَّ مَثَلَ عيسى } ذكر غير واحد أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا ؟ قال : ما أقول ؟ قالوا : تقول : إنه عبد الله قال : أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنساناً قط من غير أب فإن كنت صادقاً فأرنا مثله فأنزل الله تعالى هذه الآية". وأخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه { طس } [ النمل : 1 ] سليمان : بسم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد الله إليكم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام ، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف : ما رأيك ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله تعالى إبراهيم في ذرية إسمعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل نبياً وليس لي في النبوة رأي لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبد الله بن شرحبيل ، وحيار بن قنص فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا : ما تقول في عيسى ابن مريم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة فأنزل الله هذه الآية { إِنَّ مَثَلَ عيسى } إلى قوله سبحانه : { فَنَجْعَل لَّعْنَتُ(13/413)
الله عَلَى الكاذبين } [ آل عمران : 61 ] فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه : إنى أرى أمراً ثقيلاً إن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فتلاعناه لا يبقى على ظهر الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له : ما رأيك ؟ فقال : رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً فقالا له : أنت وذاك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني رأيت خيراً من ملاعنتك قال : وما هو ؟ قال : حكمك اليوم إلى الليل وليلك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية ، وروي غير ذلك كما سيأتي قريباً ، والمثل هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه والكاف زائدة كما قيل به بل بمعنى الحال والصفة العجيبة أي : إن صفة عيسى عندَ الله أي : في تقديره وحكمه ، أو فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه ، والظرف متعلق فيما تعلق به الجار في قوله سبحانه : { كَمَثَلِ ءادَمَ } أي كصفته وحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب(13/414)
{ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لوجه الشبه باعتبار أن في كل الخروج عن العادة وعدم استكمال الطرفين ، ويحتمل أنه جيء بها لبيان أن المشبه به أغرب وأخرق للعادة فيكون ذلك أقطع للخصم وأحسم للمادة شبهته ، و{ مِنْ } لابتداء الغاية متعلقة بما عندها ، والضمير المنصوب لآدم والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي صر بشراً فصار ، فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحماً ودماً زمان طويل ، فقد روي أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح ؛ والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذاناً بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن ، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله ، وذهب كثير من المحققين إلى أن { ثُمَّ } للتراخي في الأخبار لا في المخبر به ، وحملوا الكلام على ظاهره ، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي كما لا يخفى ، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب ، والقول بأنه عائد على عيسى ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه ، قيل : وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه السلام من غير أب بخلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم ، ثم إن الظاهر أن عيسى عليه السلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليها السلام بجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا إليه فيما تقدم. والقول بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب مما لا مستند له من عقل ولا نقل { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 12 ] لا يدل عليه بوجه أصلا. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 186 ـ 187}(13/415)
ومن فوائد السمرقندى
قال رحمه الله :
{ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله } نزلت في وفد نجران ، السيد والعاقب ، والأسقف ، وجماعة من علمائهم وأحبارهم ، قدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وناظروه في أمر عيسى عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هُوَ عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ " ، فقالوا : أرنا خلقاً من خلق الله تعالى بغير أب ، وَكَانَ يُحيي الموتى ، وكان فيه دليل على ما قلنا ، وكانوا يقولون : إنه اتخذه ابناً ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسْلِمُوا " فقالوا : قد أسلمنا قبلك ، فقال لهم : " كَذَبْتُمْ ، إنَّمَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الإسْلامِ ثَلاثٌ ، أَكْلُ لَحْمِ الخَنْزِيرِ ، وَعِبَادَةُ الصَّلِيبِ ، وَقَوْلُكُمْ : لله وَلَدٌ " ، فقالوا له : من أبو عيسى ؟ فنزل قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ } يعني : شبه خلق عيسى عند الله كشبه خلق آدم { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } يعني : صوّره من غير أب ولا أم { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فكان بشراً بغير أب ، كذلك عيسى كان بشراً بغير أب ، وفي هذه الآية دليل علمي أن الشيء يشبه بالشيء ، وإن كان بينهما فرق كبير ، بعد أن يجتمعا في وصف واحد ، كما أن هاهنا خلق آدم من تراب ، ولم يخلق عيسى من تراب ، وكان بينهما فرق من هذا الوجه ، ولكن الشبه بينهما أنه خلقهما من غير أب ، ولأن أصل خلقهما جميعاً كان من تراب ، لأن آدم لم يخلق من نفس التراب ، ولكنه جعل التراب طيناً ، ثم جعله صلصالاً ، ثم خلقه منه ، فكذلك عيسى عليه السلام حوله من حال إلى حال ، ثم خلقه بشراً من غير أب. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 244}(13/416)
وقال ابن كثير :
يقول تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ } في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب { كَمَثَلِ آدَمَ } فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم ، بل { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى ، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقا من غير أب ، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى ، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل ، فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادًا. ولكن الرب ، عَزّ وجل ، أراد أن يظهر قدرته لخلقه ، حين خَلَق آدم لا من ذكر ولا من أنثى ؛ وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ، ولهذا قال تعالى في سورة مريم : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [ مريم : 21 ]. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 49}
لطيفة
قال ابن عادل :
وعن بعض العلماء أنه أسِر بالروم ، فقال لهم : لِمَ تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أبَ لَه.
قال : فآدم أوْلَى ؛ لأنه لا أبوين له ، قالوا : فإنه كان يُحْيي الموتَى ؟ قال : فحَزقيل أوْلَى ؛ لأن عيسى أحْيَى أربعةَ نفر ، وحزقيل أحْيَى ثَمَانِيةَ آلاف ، قالوا : فإنه كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص.
قال : فجَرْجيس أوْلَى ؛ لأنه طُبخَ ، وأحرق ، وخَرَجَ سَالِماً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 278}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ } الآية.
خَصَّهما بتطهير الروح عن التناسخ في الأصلاب وأفرد آدم بصفَةِ البدء ؛ وعيسى عليه السلام بتخصيص نفخ الروح فيه على وجه الإعزاز ، وهما وإنْ كانا كبيري الشأن فنِقْصُ الحدثان والمخلوقية لازِمٌ لهما. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 246}
لطيفة
قال أبو حيان :
وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين آدم وعيسى في خمسة عشر وصفاً : في التكوين ، و: في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا.(13/417)
وفي العبودية ، وفي النبوّة.
وفي المحنة : عيسى باليهود ، وآدم بابليس ، وفي : أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى الله.
وفي الصورة ، وفي الرفع إلى السماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال الحمد لله.
وألهم عيسى ، حين أخرج من بطن أمّة فقال : { إني عبد الله } وفي العلم ، قال : { وعلم آدم الاسماء } وقال : { ويعلمه الكتاب والحكمة } وفي نفخ الروح فيهما { ونفخت فيه من روحي } { فنفخنا فيه من روحنا } وفي الموت ، وفي فقد الأب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 501}(13/418)
فصل
قال الإمام السهيلى رحمه الله :
ذكر نصارى نجران وما أنزل الله فيهم
قد تقدم أن نجران عرفت بنجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان وأما أهلها فهم بنو الحارث بن كعب من مذحج.
أسماء وفد نجران ومعتقدهم ومجادلتهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق : فكانت تسمية الأربعة عشر الذين يئول إليهم أمرهم العاقب وهو عبد المسيح والسيد وهو الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أخو بني بكر بن وائل ، وأوس والحارث وزيد وقيس ، ويزيد ونبيه وخويلد وعمرو ، وخالد وعبد الله ويحنس في ستين راكبا ، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح والأيهم السيد - وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يقولون هو الله ويقولون هو ولد الله ويقولون هو ثالث ثلاثة. وكذلك قول النصرانية.
فهم يحتجون في قولهم " هو الله " بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا ، وذلك كله بأمر الله تبارك وتعالى : ولنجعله آية للناس
ويحتجون في قولهم " إنه ولد الله " بأنهم يقولون لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله.
ويحتجون في قولهم " إنه ثالث ثلاثة " بقول الله فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ، فيقولون لو كان واحدا ما قال إلا فعلت ، وقضيت ، وأمرت ، وخلقت ، ولكنه هو وعيسى ومريم. ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن - فلما كلمه الحبران ، قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما ، قالا : قد أسلمنا ، قال إنكما لم تسلما ، فأسلما ، قالا : بلى ، قد أسلمنا قبلك. قال كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير قالا : فمن أبوه يا محمد ؟ فصمت عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلم يجبهما
( تأويل كن فيكون )(13/419)
ذكر فيه قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم من أبوه يا محمد يعنون عيسى ، فأنزل الله تعالى : إن مثل عيسى عند الله إلى قوله كن فيكون وفيها نكتة فإن ظاهر الكلام أن يقول خلقه من تراب ثم قال له كن فكان فيعطف بلفظ الماضي على الماضي ، والجواب أن الفاء تعطي التعقيب والتسبيب فلو قال فكان لم تدل الفاء إلا على التسبيب وأن القول سبب للكون فلما جاء بلفظ الحال دل مع التسبيب على استعقاب الكون للأمر من غير مهل وأن الأمر بين الكاف والنون قال له كن فإذا هو كائن واقتضى لفظ فعل الحال كونه في الحال فإن قيل وهي مسألة أخرى : إن آدم مكث دهرا طويلا ، وهو طين صلصال وقوله للشيء كن فيكون يقتضي التعقيب وقد خلق السموات والأرض في ستة أيام وهي ستة آلاف سنة فأين قوله كن فيكون من هذا ؟
فالجواب ما قال أهل العلم في هذه المسألة وهو أن قول الباري سبحانه كن يتوجه إلى المخلوق مطلقا ومقيدا ، فإذا كان مطلقا كان كما أراد لحينه وإذا كان مقيدا بصفة أو بزمان كان كما أراد على حسب ذلك الزمان الذي تقيد الأمر به فإن قال له كن في ألف سنة كان في ألف سنة وإن قال له كن فيما دون اللحظة كان كذلك. أ هـ {الروض الأنف 5 صـ 5 ـ 8}(13/420)
لطيفة
قال فى الميزان :
منزلة عيسى عند الله وموقفه في نفسه
كان (عليه السلام) عبدا لله
وكان نبيا سورة مريم آية 30
وكان رسولا إلى بني إسرائيل آل عمران آية 49
وكان واحدا من الخمسة أولي العزم صاحب شرع وكتاب وهو الإنجيل الأحزاب آية 7 الشورى آية 13 المائدة آية 46
وكان سماه الله بالمسيح عيسى آل عمران آية 45
وكان كلمة لله وروحا منه النساء آية 171
وكان إماما الأحزاب آية 7
وكان من شهداء الأعمال النساء آية 159 المائدة آية 117
وكان مبشرا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصف آية 6
وكان وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين آل عمران آية 45
وكان من المصطفين آل عمران آية 33
وكان من المجتبين وكان من الصالحين الأنعام آية 87 ـ 85
وكان مباركا أينما كان وكان زكيا وكان آية للناس ورحمة من الله وبرا بوالدته وكان مسلما عليه مريم آية 33 وكان ممن علمه الله الكتاب والحكمة آل عمران آية 48 فهذه اثنتان وعشرون خصلة من مقامات الولاية هي جمل ما وصف الله به هذا النبي المكرم ورفع بها قدره. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 281 ـ 282}(13/421)
كلام نفيس للعلامة ابن القيم عن عقيدة النصارى
قال عليه الرحمة :
"المثلثة" ، أمة الضلال ، وعباد الصليب ، الذين سبوا الله الخالق مسبّة ما سبّه إياها أحد من البشر ، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي {لم يلده ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد} ، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء ، بل قالوا فيه ما {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} ، فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها : إن الله ثالث ثلاثة ، وإن مريم صاحبته ، وإن المسيح ابنه ، وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة ، وجرى له ما جرى ، إلى أن قتل ومات ودفن ، فدينها عبادة الصلبان ، ودعاء الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان ، يقولون في دعائهم : يا والدة الإله ارزقينا ، واغفري لنا وارحمينا!.
فدينهم : شرب الخمور ، وأكل الخنزير ، وترك الختان ، والتعبد بالنجاسات ، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة ، والحلال ما حلله القس والحرام ما حرمه ، والدين ما شرعه ، وهو الذي يغفر لهم الذنوب ، وينجيهم من عذاب السعير. أ هـ {هداية الحيارى صـ 20 ـ 21}
وقال أيضا :
[فصل : أساس دين النصارى قائم على شتم الله والشرك به خرافة الفداء]
وإن كان المعير للمسلمين من أمة الضلال وعبّاد الصليب والصور المدهونة في الحيطان والسقوف.
فيقال له : ألا يستحيي من أصل دينه الذي يدين به : اعتقاده أن رب السموات والأرض - تبارك وتعالى - نزل عن كرسي عظمته وعرشه ، ودخل في فرج امرأة تأكل وتشرب وتبول وتتغوط وتحيض ، فالتحم ببطنها ، وأقام هناك تسعة أشهر ، يتلبط بين نجو وبول ودم طمث ، ثم خرج إلى القماط والسرير ، كلما بكي ألقمته أمه ثديها ، ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان ، ثم آل أمره إلى لطم اليهود خديه ، وصفعهم قفاه ، وبصقهم في وجهه ، ووضعهم تاجاً من الشوك على رأسه ، والقصبة في يده ، استخفافاً به وانتهاكاً لحرمته.(13/422)
ثم قربوه من مركب خص بالبلاء راكبه ، فشدوه عليه ، وربطوه بالحبال ، وسمروا يديه ورجليه ، وهو يصيح ويبكي ويستغيث من حر الحديد وألم الصلب.
هذا وهو الذي خلق السموات والأرض ، وقسم الأرزاق والآجال ، ولكن اقتضت حكمته ورحمته أن يمكن أعداءه من نفسه لينالوا منه ما نالوا ، فيستحقوا بذلك العذاب والسجن في الجحيم ، ويفدي أنبياءه ورسله وأولياءه بنفسه ، فيخرجهم من سجن إبليس ، فإن روح آدم وإبراهيم ونوح وسائر النبيين عندهم كانت في سجن إبليس في النار ، حتى خلصها من سجنه بتمكينه أعداءه من صلبه.
وأما قولهم في "مريم" ، فإنهم يقولون : إنها أم المسيح ابن الله في الحقيقة ، ووالدته في الحقيقة ، لا أم لابن الله إلا هي ، ولا والدة له غيرها ، ولا أب لابنها إلا الله ، ولا ولد له سواه ، وإن الله اختارها لنفسه ولولادة ولده وابنه من بين سائر النساء ، بأنها حبلت بابن الله ، وولدت ابنه الذي لا ابن له في الحقيقة غيره ، ولا والد له سواه ، وإنها على العرش جالسة عن يسار الرب تبارك وتعالى والد ابنها ، وابنها عن يمينه.
والنصارى يدعونها ، ويسألونها سعة الرزق ، وصحة البدن ، وطول العمر ، ومغفرة الذنوب ، وأن تكون لهم عند ابنها ووالده ، الذي يعتقد عامتهم أنه زوجها ، ولا ينكرون ذلك عليهم ، سوراً وسنداً وذخراً وشفيعاً وركناً ، ويقولون في دعائهم : يا والدة الإله اشفعي لنا. وهم يعظمونها ويرفعونها على الملائكة وعلى جميع النبيين والمرسلين ، ويسألونها ما يسأل الإله من العافية والرزق والمغفرة ، حتى أن "اليعقوبية" يقولون في مناجاتهم لها : يا مريم ، يا والدة الله ، كوني لنا سوراً وسنداً وذخراً وركناً ، "والنسطورية" يقولون : يا والدة المسيح كوني لنا كذلك! ، ويقولون لليعقوبية : لا تقولوا يا والدة الإله ، وقولوا : يا والدة المسيح ، فقالت لهم اليعقوبية : المسيح عندنا وعندكم إله في الحقيقة ، فأي فرق بيننا وبينكم في ذلك ؟ ، ولكنكم أردتم مصالحة المسلمين ومقاربتهم في التوحيد.(13/423)
هذا ؛ والأوقاح الأرجاس من هذه الأمة تعتقد أن الله سبحانه اختار مريم لنفسه ولولده ، وتخطاها كما يتخطى الرجل المرأة.
قال النظام بعد أن حكى ذلك عنهم : "وهم يفصحون بهذا عند من يثقون به ، وقد قال ابن الأخشيد هذا عنهم في المعونة ، وقال : إليه يشيرون ، ألا ترون أنهم يقولون : من لم يكن والداً يكون عقيماً ، والعقم آفة وعيب ، وهذا قول جميعهم ، وإلى المباضعة يشيرون ، ومن خالط القوم وطاولهم وباطنهم عرف ذلك منهم ، فهذا كفرهم وشركهم برب العالمين ، ومسبتهم له ، ولهذا قال فيهم أحد الخلفاء الراشدين : أهينوهم ولا تظلموهم ، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث الصحيح أنه قال : "شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وكذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، أما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً ، وأنا الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته".
فلو أتي الموحدون بكل ذنب ، وفعلوا كل قبيح ، وارتكبوا كل معصية ؛ ما بلغت مثقال ذرة في جنب هذا الكفر العظيم برب العالمين ، ومسبته هذا السب ، وقول العظائم فيه.(13/424)
فما ظن هذه الطائفة برب العالمين أن يفعله بهم إذا لقوه : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ، ويسأل المسيح على رؤس الأشهاد وهم يسمعون : {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؟ ، فيقول المسيح مكذباً لهم ومتبرئاً منهم : {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
[فصل : النصارى مخالفون للمسيح في كل فروع دينهم أيضاً : في الطهارة والصلاة والصوم وأكل الخنزير وتعليق الصليب...]
فهذا أصل دينهم وأساسه الذي قام عليه.
وأما فروعه وشرائعه : فهم مخالفون للمسيح في جميعها ، وأكثر ذلك بشهادتهم وإقرارهم ، ولكن يحيلون على البطارقة والأساقفة ، فإن المسيح صلوات الله وسلامه عليه كان يتدين بالطهارة ، ويغتسل من الجنابة ، ويوجب غسل الحائض ، وطوائف النصارى عندهم أن ذلك كله غير واجب ، وأن الإنسان يقوم من على بطن المرأة ، ويبول ، ويتغوط ، ولا يمس ماء ، ولا يستجمر ، والبول والنجو ينحدر على ساقه وفخذه ، ويصلي كذلك وصلاته صحيحة تامة ، ولو تغوط وبال وهو يصلي لم يضره ، فضلاً عن أن يفسو أو يضرط ، ويقولون : إن الصلاة بالجنابة والبول والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة ، لأنها حينئذ أبعد من صلاة المسلمين واليهود ، وأقرب إلى مخالفة الأمتين ، ويستفتح الصلاة بالتصليب بين عينيه.(13/425)
وهذه الصلاة رب العالمين برئ منها ، وكذلك المسيح وسائر النبيين ، فإن هذه بالاستهزاء أشبه منها بالعبادة ، وحاشى المسيح أن تكون هذه صلاته ، أوصلاة أحد من الحواريين ، والمسيح كان يقرأ في صلاته ما كان الأنبياء وبنوا إسرائيل يقرؤنه في صلاتهم من التوراة والزبور ، وطوائف النصارى إنما يقرؤن في صلاتهم كلاماً قد لحنه لهم الذين يتقدمون ويصلون بهم ، يجري مجرى النوح والأغاني. فيقولون : هذا قداس فلان ، وهذا قداس فلان. ينسبونه إلى الذين وضعوه ، وهم يصلون إلى الشرق ، وما صلى المسيح إلى الشرق قط ، وما صلى إلى أن توفاه الله إلا إلى بيت المقدس ، وهي قبلة داود والأنبياء قبله ، وقبلة بني إسرائيل.
والمسيح اختتن ، وأوجب الختان ، كما أوجبه موسى وهارون والأنبياء قبل المسيح.
والمسيح حرّم الخنزير ، ولعن آكله ، وبالغ في ذمه ، والنصارى تقر بذلك ، ولقي الله ولم يطعم من لحمه بوزن شعيرة ، والنصارى تتقرب إليه بأكله.
والمسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومونه قط ، ولا صامه في عمره مرة واحدة ، ولا أحد من أصحابه ، ولا صام صوم العذارى في عمره ، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه ، ولا حرم فيه ما يحرمونه ، ولا عطل السبت يوماً واحد حتى لقي الله ، ولا اتخذ الأحد عيداً قط ، والنصارى تقر أنه رقى مريم المجد الأنسية ، فأخرج منها سبع شياطين ، وأن الشياطين قالت له : أين نأوي ؟ ، فقال لها : اسلكي هذه الدابة النجسة ، يعني : الخنزير.
فهذه حكاية النصارى عنه ، وهم يزعمون أن الخنزير من أطهر الدواب وأجملها.
والمسيح سار في الذبائح والمناكح والطلاق والمواريث والحدود سيرة الأنبياء قبله.
[الراهب والقسيس يغفر ذنوبهم !! ويطيب لهم نسائهم!](13/426)
وليس عند النصارى على من زنا أو لاط أو سكر حد في الدنيا أبداً ، ولا عذاب في الآخرة ، لأن القس والراهب يغفره لهم ، فكلما أذنب أحدهم ذنباً أهدى للقس هدية أو أعطاه درهماً أو غيره ليغفر له ربه!! ، وإذا زنت امرأته أحدهم بيّتها عند القس ليطيبها له ، فإذا انصرفت من عنده وأخبرت زوجها أن القس طيبها قبل ذلك منها وتبرك به!.
[المسيح لم يفوض الأساقفة والبتاركة في التشريع]
مناقضة النصارى لليهود
وهم يقرون أن المسيح قال : "إنما جئتكم لأعمل بالتوراة وبوصايا الأنبياء قبلي ، وما جئت ناقضاً بل متمماً ، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئاً من شريعة موسى ، ومن نقض شيئاً من ذلك يدعى ناقضاً في ملكوت السماء".
وما زال هو وأصحابه كذلك إلى أن خرج من الدنيا ، وقال لأصحابه : "اعملوا بما رأيتموني أعمل ، وارضوا من الناس بما أرضيتكم به ، ووصوا الناس بما وصيتكم به ، وكونوا معهم كما كنت معكم ، وكونوا لهم كما كنت لكم".
وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريباً من ثلاثمائة سنة ، ثم أخذ القوم في التغير والتبديل ، والتقرب إلى الناس بما يهوون ، ومكايدة اليهود ومناقضتهم بما فيه ترك دين المسيح ، والانسلاخ منه جملة.
فرأوا اليهود قد قالوا في المسيح : إنه ساحر مجنون ، ممخرق ، ولد زنية. فقالوا : هو إله تام ، وهو ابن الله!!. ورأوا اليهود يختتنون فتركوا الختان!!.(13/427)
ورأوهم يبالغون في الطهارة فتركوها جملة!!. ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض وملامستها ومخالطتها جملة ، فجامعوها. ورأوهم يحرمون الخنزير ، فأباحوه وجعلوه شعار دينهم. ورأوهم يحرمون كثيراً من الذبائح والحيوان ، فأباحوا ما دون الفيل إلى البعوضة ، وقالوا : كل ما شئت ، ودع ما شئت ، لا حرج. ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة ، فاستقبلوا هم الشرق. ورأوهم يحرمون على الله نسخ شريعة شرعها ، فجوزوا هم لأساقفتهمم وبتاركتهم أن ينسخوا ما شاؤا ، ويحللوا ما شاؤا ، ويحرموا ما شاؤا. ورأوهم يحرمون السبت ويحفظونه ، فحرموا هم الأحد وأحلوا السبت ، مع إقرارهم بأن المسيح كان يعظم السبت ويحفظه. ورأوهم ينفرون من الصليب ، فإن في التوراة : "ملعون من تعلق بالصليب" ، والنصارى تقر بهذا ، فعبدوا هم الصليب. كما أن في التوراة تحريم الخنزير نصاً فتعبدوا هم بأكله. وفيها الأمر بالختان ، فتعبدوا هم بتركه ، مع إقرار النصارى بأن المسيح قال لأصحابه : "إنما جئتكم لأعمل بالتوراة ووصايا الأنبياء قبلي ، وما جئت ناقضاً بل متمماً ، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئاً من شريعة موسى" ، فذهبت النصارى تنقضها شريعة شريعة في مكايدة اليهود ومغايظتهم.(13/428)
وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم "بافر كسيس" : أن قوماً من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتوا أنطاكية وغيرها من الشام ، فدعوا الناس إلى دين المسيح الصحيح ، فدعوهم إلى العمل بالتوراة وتحريم ذبائح من ليس من أهلها ، وإلى الختان وإقامة السبت ، وتحريم الخنزير ، وتحريم ما حرمته التوراة ، فشق ذلك على الأمم واستثقلوه ، فاجتمع النصارى ببيت المقدس وتشاوروا ، فيما يحتالون به على الأمم ليحببوهم إلى دين المسيح ، ويدخلوا فيه ، فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم ، والترخيص لهم ، والاختلاط بهم ، وأكل ذبائحهم ، والانحطاط في أهوائهم ، والتخلق باخلاقهم ، وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم ، وأنشأوا في ذلك كتاباً ، فهذا أحد مجامعهم الكبار ، وكانوا كلما أرادوا إحداث شيء اجتمعوا معاً وافترقوا فيه على ما يريدون إحداثه ، إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكبر منه في عهد قسطنطين الرومي ابن هيلانة الحرانية الفندقية ، وفي زمنه بدل دين المسيح ، وهو الذي أشاد دين النصارى المبتدع وقام به وقعد ، وكان عدتهم زهاء ألفى رجل ، فقرروا تقريراً ثم رفضوه ولم يرتضوه ، ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً منهم - والنصارى يسمونهم الآباء - ، فقرروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم ، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم ، لا يتم لأحد منهم نصرانية إلا به ، ويسمونه "سنهودس" وهي "الأمانة"!!.
أمانة المثلثة أكبر خيانة(13/429)
ولفظها : "نؤمن بالله الأب الواحد ، خالق ما يرى وما لا يرى ، وبالرب الواحد اليسوع المسيح ابن الله بكر أبيه ، وليس بمصنوع ، إله حق من إله حتى ، من جوهر أبيه ، الذي بيده أتقنت العوالم ، وخلق كل شيء ، الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ، وتجسد من روح القدس ومن مريم البتول ، وحبلت به مريم البتول وولدته ، وأخذ وصلب ، وقتل أيام فيلاطس الرومي ، ومات ودفن ، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب ، وصعد إلى السماء ، وجلس عن يمين أبيه ، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء.
ونؤمن بالرب الواحد ، روح القدس ، روح الحق ، الذي يخرج من أبيه روح محبته ، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا ، وبجماعة واحدة قديسية سليحية جاثليقية ، وبقيام أبداننا ، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين".
فصرحوا فيه بأن المسيح رب ، وأنه ابن الله ، وأنه بكره ليس له ولد غيره ، وأنه ليس بمصنوع ، أي : ليس بعبد مخلوق ، بل هو رب خالق ، وأنه إله حق ، استل وولد من إله حق ، وأنه مساوٍ لأبيه في الجوهر ، وأنه بيده أتقنت العوالم ، وهذه اليد التي أتقنت العوالم بها عندهم هي التي ذاقت حر المسامير كما صرحوا به في كتبهم ، وهذه ألفاظهم ، قالوا : "وقد قال القدوة عندنا : إن اليد التي سمرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت طين آدم وخلقته ، وهي اليد التي شبرت السماء ، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى"!.
قالوا : وقد وصفوا صنيع اليهودية وهذه ألفاظهم : "وإنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه" ، قالوا : "وفي بشارة الأنبياء به : أن الإله تحبل به امرأة عذراء ، وتلده ، ويؤخذ ويصلب ويقتل"!!.(13/430)
قالوا : "وأما "سنهودس" دون الأمم ، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهم القدوة ، وفيه : "أن مريم حبلت بالإله وولدته وأرضعته وسقته وأطعمته" ، قالوا : "وعندنا : أن المسيح ابن آدم ، وهو ربه وخالقه ورازقه ، وابن ولده إبراهيم ، وربه وخالقه ورازقه ، وابن إسرائيل ، وربه وإلهه ورازقه ، وابن مريم ، وربها وخالقها ورازقها" ، قالوا : "وقد قال علماؤنا ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا : "اليسوع في البدء ولم يزل كلمة ، والكلمة لم تزل الله ، والله هو الكلمة ، فذاك الذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله ، وهوابن الله ، وهو كلمة الله" هذه ألفاظهم.(13/431)
قالوا : "فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم ، ولمسوه بأيديهم ، وهو الذي حبلت به مريم ، وخاطب الناس من بطنها حيث قال للأعمى : أنت مؤمن بالله ، قال الأعمى : ومن هو حتى أؤمن به ؟ ، قال : هو المخاطب لك ، ابن مريم ، فقال : آمنت بك وخر ساجداً" ، قالوا : "فالذي حبلت به مريم هو الله وابن الله وكلمة الله" ، وقالوا : "وهو الذي ولد ورضع وفطم ، وأخذ وصلب وصفع ، وكتفت يداه وسمر وبصق في وجهه ، ومات ودفن ، وذاق ألم الصلب والتسمير والقتل لأجل خلاص النصارى من خطاياهم". قالوا : "وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبي ، ولا عبد صالح ، بل هو رب الأنبياء ، وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم ومؤيدهم ، ورب الملائكة ، قالوا : وليس مع أمه بمعنى الخلق والتدبير واللطف والمعونة ، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث ولا الحيوانات ، ولكنه معها بحبلها به واحتواء بطنها عليه ، فلهذا فارقت إناث جميع الحيوانات ، وفارق ابنها جميع الخلق ، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء وحبلت به مريم وولدته إلهاً واحداً ، ومسيحاً واحداً ، ورباً واحداً ، وخالقاً واحداً ، لا يقع بينهما فرق ، ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه ، لا في حبل ، ولا في ولادة ، ولا في حال نوم ، ولا مرض ، ولا صلب ، ولا موت ، ولا دفن ، بل هو متحد به في حال الحبل ، فهو في تلك الحال مسيح واحد ، وخالق واحد ، وإله واحد ، ورب واحد ، وفي حال الولادة كذلك ، وفي حال الصلب والموت كذلك ، قالوا : فمنا من يطلق في لفظه وعبارته حقيقة هذا المعنى فيقول : مريم حبلت بالإله ، وولدت الإله ، ومات الإله. ومنا من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها ويعطي معناها وحقيقتها ، ويقول : مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة ، وولدت المسيح في الحقيقة ، وهي أم المسيح في الحقيقة ، والمسيح إله في الحقيقة ، ورب في الحقيقة ، وابن الله في الحقيقة ، وكلمة الله في الحقيقة ، لا ابن لله في الحقيقة سواه ، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو.(13/432)
قالوا : فهؤلاء يوافقون في المعنى قول من قال : حبلت بالإله ، وولدت الإله ، وقتل الإله ، وصلب الإله ، ومات ودفن ، وإن منعوا اللفظ والعبارة. قالوا : وإنما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا ، لئلا يتوهم علينا إذا قلنا : حبلت بالإله ، وولدت الإله ، وألم الإله ، ومات الإله ، أن هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو أب ، ولكنا نقول : حل هذا كله ونزل بالمسيح ، والمسيح عندنا وعند طوائفنا إله تام ، من إله تام ، من جوهر أبيه ، فنحن وإخواننا في الحقيقة شيء واحد ، ولا فرق بيننا إلا في العبارة فقط. قالوا : فهذا حقيقة ديننا وإيماننا ، والآباء والقدوة قد قالوا قبلنا وسنوه لنا ، ومهدوه ، وهم أعلم بالمسيح منا.
ولا تختلف المثلثة عباد الصليب من أولهم إلى آخرهم أن المسيح ليس بنبي ولا عبد صالح ، ولكنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه ، وأنه إله تام من إله تام ، وأنه خالق السموات والأرضين ، والأولين والآخرين ، ورازقهم ومحييهم ومميتهم ، وباعثهم من القبور ، وحاشرهم ومحاسبهم ومثيبهم ومعاقبهم ، والنصارى تعتقد أن الأب انخلع من ملكه كله وجعله لابنه ، فهو الذي يخلق ويرزق ، ويميت ويحيي ، ويدبر أمر السموات والأرض ، ألا تراهم يقولون في أمانتهم : "ابن الله وبكر أبهي ، وليس بمصنوع" - إلى قولهم - : "بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء" - إلى قولهم - : "وهو مستعد للمجئ تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء" ، ويقولون في صلواته ومناجاتهم : "أنت أيها المسيح اليسوع تحيينا وترزقنا ، وتخلق أولادنا ، وتقيم أجسادنا ، وتبعثنا وتجازينا"!!.
[المسيح يكذب دعوى ربوبيته وإلهيته ويصرح بأنه نبي بشر](13/433)
وقد تضمن هذا كله تكذيبهم الصريح للمسيح ، وإن أوهمتهم ظنونهم الكاذبة أنهم يصدقونه ، فإن المسيح قال لهم : "إن الله ربي وربكم ، وإلهي وإلهكم" ، فشهد على نفسه أنه عبد الله ، مربوب مصنوع ، كما أنهم كذلك ، وأنه مثلهم في العبودية والحاجة والفاقة إلى الله ، وذكر أنه رسول الله إلى خلقه كما أرسل الأنبياء قبله.
ففي إنجيل "يوحنا" أن المسيح قال في دعائه : "إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنت الله الواحد الحق ، وأنك أرسلت اليسوع المسيح" ، وهذا حقيقة شهادة المسلمين : أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وقال لبني إسرائيل : "تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله" ، فذكر ما غايته : أنه رجل بلّغهم ما قاله الله ، ولم يقل : وأنا إله ، ولا ابن الإله على معنى التوالد ، وقال : "إني لم أجيء لأعمل بمشيئة نفسي ، ولكن بمشيئة من أرسلني" ، وقال : "إن الكلام الذي تسمعونه مني ليس من تلقاء نفسي ، ولكن من الذي أرسلني ، والويل لي إن قلت شيئاً من تلقاء نفسي ، ولكن بمشيئة هو من أرسلني".
وكان يواصل العبادة من الصلاة والصوم ويقول : "ماجئت لأُخدم ، إنما جئت لأَخْدِم" ، فأنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله الله بها وهي منزلة الخدام ، وقال : "لست أدين العباد بأعمالهم ، ولا أحاسبهم بأعمالهم ، ولكن الذي أرسلني هو الذي يلي ذلك منهم" ، كل هذا في الإنجيل الذي بأيدي النصارى.
وفيه : أن المسيح قال : "يارب ، قد علموا أنك قد أرسلتني ، وقد ذكرت لهم اسمك" ، فأخبر أن الله ربه ، وأنه عبده ورسوله.
وفيه : "أن الله الواحد رب كل شيء ، أرسل من أرسل من البشر إلى جميع العالم ليقبلوا إلى الحق".
وفيه : أنه قال : "إن الأعمال التي أعمل هي الشاهدات لي بأن الله أرسلني إلى هذا العالم".(13/434)
وفيه : "ما أبعدني وأتعبني إن أحدثت شيئاً من قبل نفسي ، ولكن أتكلم وأجيب بما علمني ربي". وقال : "إن الله مسحني وأرسلني ، وأنا عبد الله ، وإنما أعبد الله الواحد ليوم الخلاص". وقال : "إن الله عز وجل ما أكل ، ولا يأكل ، وما شرب ، ولا يشرب ، ولم ينم ، ولا ينام ، ولا ولد له ، ولا يلد ، ولا يولد ، ولا رآه أحد ، ولا يراه أحد إلا مات".
وبهذا يظهر لك سر قوله تعالى في القرآن : {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} ، تذكيراً للنصارى بما قال لهم المسيح ، وقال في دعائه لما سأل ربه أن يحيي الميت : "أنا أشكرك وأحمدك لأنك تجيب دعائي في هذا الوقت وفي كل وقت ، فأسألك أن تحيي هذا الميت ليعلم بنو إسرائيل أنك أرسلتني ، وأنك تجيب دعائي".
وفي الإنجيل : أن المسيح حين خرج من السامرية ولحق بجلجال قال : "لم يكرم أحد من الأنبياء في وطنه" ، فلم يزد على دعوى النبوة.
وفي إنجيل لوقا : "لم يقتل أحد من الأنبياء في وطنه فكيف تقتلونني".
وفي إنجيل مرقس : "إن رجلاً أقبل إلى المسيح وقال : أيها المعلم الصالح ، أي خير أعمل لأنال الحياة الدائمة ؟ ، فقال له المسيح : لم قلت صالحاً ؟ ، إنما الصالح الله وحده ، وقد عرفت الشروط ، لا تسرق ، ولا تزني ، ولا تشهد بالزور ، ولا تخن ، وأكرم أباك وأمك".
وفي إنجيل يوحنا : أن اليهود لما أرادوا قبضه رفع بصره إلى السماء وقال : "قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك ، واجعل لي سبيلاً أن أملك كل من ملكتني الحياة الدائمة ، وإنما الحياة الباقية أن يؤمنوا بك إلهاً واحداً ، وبالمسيح الذي بعثت ، وقد عظمتك على أهل الأرض ، واحتملت الذي أمرتني به فشرفني" ، فلم يدع سوى أنه عبد مرسل مأمور مبعوث.(13/435)
وفي إنجيل متى : "لا تنسبوا أباكم الذي على الأرض ، فإن أباكم الذي في السماء وحده ، ولا تدعوا معلمين فإنما معلمكم المسيح وحده" ، والأب في لغتهم الرب المربي ، أي : لا تقولوا إلهكم وربكم في الأرض ، ولكنه في السماء ، ثم أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه ومالكه وهو أن غايته أنه يعلم في الأرض ، وإلههم هو الذي في السماء.
وفي إنجيل لوقا حين دعا الله فأحيا ولد المرأة فقالوا : "إن هذا النبي لعظيم ، وإن الله قد تفقد أمته".
وفي إنجيل يوحنا : إن لمسيح أعلن صوته في البيت ، وقال لليهود : "قد عرفتموني ، كنت كاذباً مثلكم ، وأنا أعلم وأنتم تجهلون أني منه وهو بعثني" ، فما زاد في دعواه على ما ادعاه الأنبياء ، فأمسكت المثلثة قوله : "إني منه" وقالوا : إله حق من إله حق.
وفي القرآن : {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} ، وقال هود : {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وكذلك قال صالح ، ولكن أمة الضلال كما أخبر الله عنهم يتبعون المتشابه ، ويردون المحكم.
وفي الإنجيل أيضاً أنه قال لليهود وقد قالوا له : {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} ، فقال لهم : : "لو كان الله أباكم لأطعتموني ، لأني رسول منه ، خرجت مقبلاً ، ولم أقبل من ذاتي ، ولكن هو بعثني ، لكنكم لا تقبلون وصيتي ، وتعجزون عن سماع كلامي ، إنما أنتم أبناء الشيطان ، وتريدون إتمام شهواته".
وفي الإنجيل : إن اليهود أحاطت به ، وقالت له : "إلى متى تخفي أمرك إن كنت المسيح الذي ننتظره فأعلمنا بذلك" ، ولم تقل : إن كنت الله أو ابن الله ، فإنه لم يدّع ذلك ، ولا فهمه عنه أحد من أعدائه ولا أتباعه.(13/436)
وفي الإنجيل أيضاً : "أن اليهود أرادوا القبض عليه ، فبعثوا لذلك الأعوان ، وأن الأعوان رجعوا إلى قوادهم ، فقالوا لهم : لم لم تأخذوه ، فقالوا : ماسمعنا آدمياً أنصف منه ، فقالت اليهود : وأنتم أيضاً مخدوعون ، أترون أنه آمن به أحد من القواد ، أو من رؤساء أهل الكتاب ؟ ، فقال لهم بعض أكابرهم : أترون كتابكم يحكم على أحد قبل أن يسمع منه ؟ ، فقالوا له : اكشف الكتب ، ترى أنه لا يجيء من جلجال نبي" ، فما قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه ومالكه أنه نبي ، ولو علمت من دعواه الإلهية لذكرت ذلك له ، وأنكرته عليه ، وكان أعظم أسباب التنفير عن طاعته ، لأن كذبه كان يعلم بالحس والعقل والفطرة واتفاق الأنبياء.
ولقد كان يجب لله سبحانه - لو سبق في حكمته أن يبرز لعباده ، وينزل عن كرسي عظمته ، ويباشرهم بنفسه - أن لا يدخل في فرج امرأة ، ويقيم في بطنها بين البول والنجو والدم عدة أشهر ، وإذ قد فعل ذلك ، لا يخرج صبياً صغيراً ، يرضع ويبكي ، وإذ قد فعل ذلك ، لا يأكل مع الناس ويشرب معهم وينام ، وإذ قد فعل ذلك فلا يبول ولا يتغوط ، ويمتنع من الخرأة إذ هي منقصة ابتلي بها الإنسان في هذه الدار لنقصه وحاجته ، وهو تعالى المختص بصفات الكمال ، المنعوت بنعوت الجلال ، الذي ما وسعته سمواته ولا أرضه ، وكرسيه وسع السموات والأرض ، فكيف وسعه فرج امرأة. تعالى الله رب العالمين.
وكلكم متفقون على أن المسيح كان يأكل ويشرب ، ويبول ويتغوط ، وينام.
[ما يراد بلفظ : "الأب" و"الرب" و"الإله" و"السيد" في كتبهم التي اشتبهت عليهم]
[أسئلة على إلهية المسيح تنتظر الجواب من عبّاد الصليب]
فيا معشر المثلثة وعبّاد الصليب ، أخبرونا من كان الممسك للسموات والأرض حين كان ربها وخالقها مربوطاً على خشبة الصليب ، وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال ، وسمرت اليد التي أتقنت العوالم ، فهل بقيت السموات والأرض خلواً من إلهها وفاطرها ، وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم ؟ !!.(13/437)
أم تقولون : استخلف على تدبيرها غيره ، وهبط عن عرشه لرب نفسه على خشبة الصليب ، وليذوق حر المسامير ، وليوجب اللعنة على نفسه ، حيث قال في التوراة : "ملعون من تعلق بالصليب" أم تقولون : كان هو المدبر لها في تلك الال ، فكيف وقد مات ودفن! ؟ .
أم تقولون - وهوحقيقة قولكم - : لا ندري ، ولكن هذا في الكتب ، وقد قاله الآباء ، وهم القدوة!!. والجواب عليهم!!
فنقول لكم وللآباء معاشر المثلثة عبّاد الصليب : ما الذي دلكم على إلهية المسيح ؟ ، فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض من أعدائه عليه ، وسوقه إلى خشبة الصليب ، وعلى رأسه تاج من الشوك ، وهم يبصقون في وجهه ويصفعونه ، ثم أركبوه ذلك المركب الشنيع ، وشدوا يديه ورجليه بالحبال ، وضربوا فيها المسامير ، وهو يستغيث ، وتعلق ، ثم فاضت نفسه وأودع ضريحه ، فما أصحه من استدلال عند أمثالكم ممن هم أضل من الأنعام ؟ ، وهم عار على جميع الأنام!!
وإن قلتم : إنما استدللنا هذا الاستدلال صحيحاً ، فآدم إله المسيح ، وهو أحق بأن يكون إلهاً منه ، لأنه لا أم له ، ولا أب ، ولا مسيح له أم ، وحواء أيضاً اجعلوها إلهاً خامساً ، لأنها لا أم لها ، وهي أعجب من خلق المسيح ؟ !! ، والله سبحانه قد نوع خلق آدم وبنيه إظهاراً لقدرته ، وأنه يفعل ما يشاء ، فخلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى ، وخلق زوجه حوى من ذكر لا من أنثى ، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر ، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى.
وإن قلتم : استدللنا على كونه إلهاً بأنه أحيا الموتى ، ولا يحييهم إلا إله. فاجعلوا موسى إلهاً آخر ، فإنه أتى من ذلك بشيء لم يأت المسيح بنظيره ولا ما يقاربه ، وهو جعل الخشبة حيواناً عظيماً ثعباناً ، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولاً.(13/438)
فإن قلتم : هذا غير إحياء الموتى. فهذا اليسع النبي أتى بإحياء الموتى وهم يقرون بذلك ، وكذلك إيليا النبي أيضاً أحيا صبياً بإذن الله ، وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه ، وفي كتبكم من ذلك كثير عن الأنبياء والحواريين ، فهل صار أحد منهم إلهاً بذلك.! ؟
وإن قلتم : جعلناه إلهاً للعجائب التي ظهرت على يديه ، فعجائب موسى أعجب وأعجب ، وهذا إيليا النبي بارك على دقيق العجوز ودهنها فلم ينفد ما في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سبع سنين!!.
وإن جعلتموه إلهاً لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافاً من الناس ، فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى!! ، وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جداً حتى شبعوا وملؤا أوعيتهم ، وسقاهم كلهم من ماء يسير لا يملأ اليد حتى ملؤوا كل سقاء في العسكر ، وهذا منقول عنه بالتواتر! ؟ .
وإن قلتم : جعلناه إلهاً لأنه صاح بالبحر فسكنت أمواجه ، فقد ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق اثنى عشر طريقاً ، وقام الماء بين الطرق كالحيطان ، وفجر من الحجر الصلد اثنى عشر عيناً سارحة.!
وإن جعلتموه إلهاً لأنه أبرأ الأكمه والأبرص ، فإحياء الموتى أعجب من ذلك ، وآيات موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أعجب من ذلك.(13/439)
وإن جعلتموه إلهاً لأنه ادعى ذلك ، فلا يخلو إما أن يكون الأمر كما تقولون عنه ، أو يكون إنما ادعى العبودية والافتقار ، وأنه مربوب مصنوع مخلوق. فإن كان كما ادعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجال ، وليس بمؤمن ولا صادق ، فضلاً عن أن يكون نبياً كريماً ، وجزاؤه جهنم وبئس المصير ، كما قال تعالى : {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} ، وكل من ادعى الإلهية من دون الله فهو من أعظم أعداء الله ، كفرعون ، ونمرود ، وأمثالهما من أعداء الله ، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله ونبوته ورسالته ، وجعلتموه من أعظم أعداء الله ، ولهذا كنتم أشد الناس عداوة للمسيح في صور محب موال!
ومن أعظم ما يعرف به كذب المسيح الدجال أنه يدعي الإلهية ، فيبعث الله عبده ورسوله مسيح الهدى ابن مريم فيقتله ، ويظهر للخلائق أنه كان كاذباً مفترياً ، ولو كان إلهاً لم يقتل ، فضلاً عن أن يصلب ويسمر ويبصق في وجهه!.
وإن كان المسيح إنما ادّعى أنه عبد ونبي ورسول كما شهدت به الأناجيل كلها ، ودلَّ عليه العقل والفطرة ، وشهدتم أنتم له بالإلهية - وهذا هو الواقع - ، فلم تأتوا على إلهيته ببينة غير تكذيبه في دعواه ، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضع عديدة مايصرح بعبوديته ، وأنه مربوب مخلوق ، وأنه ابن البشر ، وأنه لم يدع غير النبوة والرسالة ، فكذبتموه في ذلك كله وصدقتم من كذب على الله وعليه.
وإن قلتم : إنما جعلناه إلهاً لأنه أخبر بما يكون بعده من الأمور ، فكذلك عامة الأنبياء ، وكثير من الناس يخبر عن حوادث في المستقبل جزئية ، ويكون ذلك كما أخبر به ، ويقع من ذلك كثير للكهان والمنجمين والسحرة!.
وإن قلتم : إنما جعلناه إلهاً لأنه سمى نفسه ابن الله في غير موضع من الإنجيل ، كقوله : "إني ذاهب إلى أبي" ، "وإني سائل أبي" ، ونحو ذلك ، وابن الإله إله.(13/440)
قيل : فاجعلوا أنفسكم كلكم آلهة ، في غير موضع أنه سماه : "أباه ، وأباهم" ، كقوله : "أذهب إلى أبي وأبيكم" ، وفيه : "ولا تسبوا أباكم على الأرض ، فإن أباكم الذي في السماء وحده" ، وهذا كثير في الإنجيل ، وهو يدل على أن الأب عندهم الرب.
وإن جعلتموه إلهاً لأن تلاميذه ادعوا ذلك له ، وهم أعلم الناس به ؛ كذبتم أناجيلكم التي بأيديكم ، فكلها صريحة أظهر صراحة بأنهم ما ادعوا له إلا ما ادعاه لنفسه من أنه عبد ، فهذا "متى" يقول في الفصل التاسع من إنجيله ، محتجاً بنبوة شعيا في المسيح عن الله عز وجل : "هذا عبدي الذي اصطفيته ، وحبيبي الذي ارتاحت نفسي له" ، وفي الفصل الثامن من إنجيله : "إني أشكرك يارب" ، "ويارب السموات والأرض".
وهذا "لوقا" يقول في آخر إنجيله : "إن المسيح عرض له ولآخر من تلاميذه في الطريق ملكوهما محزونان ، فقال لهما وهما لا يعرفانه : ما بالكما محزونين ؟ ، فقالا : كأنك غريب في بيت المقدس ، إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر الناصري ، فإنه كان رجلاً نبياً قوياً تقياً في قوله وفعله عند الله وعند الأمة ، أخذوه وقتلوه".
وهذا كثير جداً في الإنجيل.
وإن قلتم : إننا جعلناه إلهاً لأنه صعد إلى السماء.
فهذا أخنوخ وإلياس قد صعدا إلى السماء ، وهما حيان مكرمان لم تشكهما شوكة ، ولا طمع فيهما طامع ، والمسلمون مجمعون على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صعد إلى السماء وهو عبد محض ، وهذه الملائكة تصعد إلى السماء ، وهذه أرواح المؤمنين تصعد إلى السماء بعد مفارقتها الأبدان ، ولا تخرج بذلك عن العبودية ، وهل كان الصعود إلى السماء مخرج عن العبودية بوجه من الوجوه ؟ !!.
وإن جعلتموه إلهاً لأن الأنبياء سمته إلهاً ورباً وسيداً ، ونحو ذلك ، فلم يزل كثير من أسماء الله عز وجل تعلق على غيره عند جميع الأمم وفي سائر الكتب ، وما زالت الروم والفرس والهند والسريانيون والعبرانيون والقبط وغيرهم يسمون ملوكهم آلهة وأرباباً.(13/441)
وفي السفر الأول من التوراة : "أن نبي الله دخلوا على بنات إلياس ورأوهن بارعات الجمال فتزوجوا منهن".
وفي السفر الثاني من التوراة في قصة المخرج من مصر : "إني جعلتك إلهاً لفرعون".
وفي المزمور الثاني والثمانين لداود : "قام الله لجميع الآلهة" هكذا في العبرانية ، وأما من نقله إلى السريانية فإنه حرفه فقال : "قام الله في جماعة الملائكة" ، وقال في هذا المزمور وهو يخاطب قوماً بالروح : "لقد ظننت أنكم آلهة ، وأنكم أبناء الله كلكم".
وقد سمى الله سبحانه عبده بالملك ، كما سمى نفسه بذلك ، وسماه بالرؤف الرحيم كما سمى نفسه بذلك ، وسماه بالعزيز وسمى نفسه بذلك.
اسم الرب واقع على غير الله تعالى في لغة أمة التوحيد ، كما يقال : هذا رب المنزل ، ورب الإبل ، ورب هذا المتاع ، وقد قال شعيا : "عرف الثور من اقتناه ، والحار مربط ربه ، ولم يعرف بنو إسرائيل".
وإن جعلتموه إلهاً لأنه صنع من الطين صورة طائر ثم نفخ فيها فصارت لحماً ودماً وطائراً حقيقة ، ولا يفعل هذا إلا الله. قيل : فاجعلوا موسى بن عمران إله الآلهة ، فإنه ألقى عصا فصارت ثعباناً عظيماً ، ثم أمسكها بيده فصارت عصا كما كانت.
وإن قلتم : جعلناه إلهاً لشهادة الأنبياء والرسل له بذلك. قال عزرا حيث سباهم بختنصر إلى أرض بابل إلى أربعمائة واثنين وثمانين سنة : "يأتي المسيح ويخلص الشعوب والأمم" ، وعند انتهاء هذه المدة أى : المسيح ، ومن يطبق تخليص الأمم غير الإله التام. قيل لكم : فاجعلوا جميع الرسل آلهة ، فإنهم خلصوا الأمم من الكفر والشرك ، وخلصوهم من النار بإذن الله وحده ، ولا شك أن المسيح خلص من آمن به واتبعه من ذل الدنيا وعذاب الآخرة ، كما خلص موسى بني إسرائيل من فرعون وقومه ، وخلصهم بالإيمان بالله واليوم الآخر من عذاب الآخرة ، وخلص الله سبحانه بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله من الأمم والشعوب مالم يخلصه نبي سواه ، فإن وجبت بذلك الإلهية لعيسى فموسى ومحمد أحق بها منه.(13/442)
وإن قلتم : أوجبنا له بذلك الإلهية لقول أرمياء النبي عن ولادته : "وفي ذلك الزمان يقوم لداود ابن ، وهو ضوء النور ، يملك الملك ، ويقيم الحق والعدل في الأرض ، يخلص من آمن به من اليهود ومن بني إسرائيل ومن غيرهم ، ويبقى بيت المقدس من غير مقاتل ، ويسمى الإله" ، فقد تقدم أن اسم الإله في الكتب المتقدمة وغيرها قد أطلق على غيره هو بمنزلة الرب والسيد والأب ، ولو كان عيسى هو الله لكان أجل من أن يقال ويسمى الإله ، وكان يقول : وهوالله ، فإن الله سبحانه لا يعرف بمثل هذا ، وفي هذا الدليل الذي جعلتموه به إلهاً أعظم الأدلة على أنه عبد وأنه ابن البشر ، فإنه قال : "يقوم لداود أب" فهذا الذي قام لداود هو الذي سمى بالإله ، فعلم أنه هذا الاسم لمخلوق مصنوع مولود ، لا لرب العالمين وخالق السموات والأرضين.
وإن قلتم : إنما جعلناه إلهاً من جهة قول شعيا النبي : "قل لصهيون : يفر ويتهلل ، فإن الله يأتي ويخلص الشعوب ، ويخلص من آمن به ، ويخلص مدينة بيت المقدس ، ويظهر الله ذراعه الطاهر فيها لجميع الأمم المتبددين ، ويجعلهم أمة واحدة ، ويصير جميع أهل الأرض خلاص الله ، لأنه يمشي معهم وبين أيديهم ، ويجمعهم إله إسرائيل".
قيل لهم : هذا يحتاج أولاً : إلى أن يعلم أن ذلك في نبوة أشعيا بهذا اللفظ بغير تحريف للفظة ، ولا غلط في الترجمة ، وهذا غير معلوم ، وإن ثبت ذلك لم يكن فيه دليل على أنه إله تام ، وأنه غير مصنوع ولا مخلوق ، فإنه نظير ما في التوراة : "جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران" ، وليس في هذا ما يدل على أن موسى ومحمداً إلهان ، والمراد بهذا : مجيء دينه وكتابه وشرعه وهداه ونوره.(13/443)
وأما قوله : "ويظهر ذراعه والطاهر لجميع الأمم المبددين" ففي التوراة مثل هذا وأبلغ منه في غير موضع. وأما قوله : "ويصر جميع أهل الأرض خلاص الله ، لأنه يمشي معهم ومن بين أيديهم" فقد قال في التوراة في السفر الخامس لبني إسرائيل : "لا تهابوهم ولا تخافوهم ، لأن الله ربكم السائر بين أيديكم وهو محارب عنكم" ، وفي موضع آخر قال موسى : "إن الشعب هو شعبك ، فقال : أنا أمضي أمامك ، فقال : إن لم تمض أنت أمامنا وإلا فلا تصعدنا من ههنا ، فكيف أعلم أنا ، وهذا الشعب أني وجدت نعمة كذا إلا بسيرك معنا" ، وفي السفر الرابع : "إني أصعدت هؤلاء بقدرتك ، فيقولان لأهل هذه الأرض الذي سمعوا منك الله فيما بين هؤلاء القوم يرونه عيناً بعين ، وغمامك تغيم عليهم ، ويعود غماماً يسير بين أيديهم نهاراً ويعود نهاراً ليلاً" ، وفي التوراة أيضاً : "يقول الله لموسى : إني آت إليك في غلظ الغمام ، لكي يسمع القوم مخاطبتي لك" ، وفي الكتب الإلهية ، وكلام الأنبياء من هذا كثير ، وفيما حكى خاتم الأنبياء عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي".
وإن قلتم : جعلناه إلهاً لقول زكريا في نبوته1 : "صهيون ، لأني آتيك وأحل فيك وأترائى ، وتؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة ، ويكونون له شعباً واحداً ، ويحل هو فيهم ، ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك ، ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهودا ويملك عليهم إلى الأبد".
قيل لكم : إن أوجبتم له الإلهية بهذا فلتجب لإبراهيم وغيره من الأنبياء ، فإن عند أهل الكتاب وأنتم معهم أن الله تجلى لإبراهيم ، واستعلن له وترائى له.(13/444)
وأما قوله : "وأحل فيك" لم يرد سبحانه بهذا حلول ذاته التي لا تسعها السموات والأرض في بيت المقدس ، وكيف تحل ذاته في مكان يكون فيه مقهوراً مغلوباً مع شرار الخلق ؟ ! ، كيف وقد قال : "ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك" ؟ ! ، أفترى عرفوا قوته بالقبض عليه ، وشد يديه بالحبال ، وربطه على خشبة الصليب ، ودق المسامير في يديه ورجليه ، ووضع تاج الشوك على رأسه ، وهو يستغيث ولا يغاث ، وما كان المسيح يدخل بيت المقدس إلا وهو مغلوب مقهور مستخف في غالب أحواله.
ولو صح مجيء هذه الألفاظ صحة لا تدفع ، وصحت ترجمتها كما ذكروه ؛ لكان معناها أن معرفة الله والإيمان به وذكره ودينه وشرعه حل في تلك البقعة ، وبيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته مالم يكن قبل ذلك.
وجماع الأمر : أن النبوات المتقدمة والكتب الإلهية لم تنطق بحرف واحد يقتضي أن يكون ابن البشر إلهاً تاماً إله حق من إله حق ، وأنه غير مصنوع ولا مربوب ، بل لم يخصه إلا بما خص به أخوه ، وأولى الناس به محمد بن عبد الله في قوله : "إنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" ، وكتب الأنبياء المتقدمة وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك كله يصدق بعضه بعضاً ، وجميع ما تستدل به المثلثة عبّاد الصليب على إلهية المسيح من ألفاظ وكلمات في الكتب ، فإنها مشتركة بين المسيح وغيره كتسميته أباً وكلمة وروح حق وإلهاً ، وكذلك ما أطلق من حلول روح القدس فيه وظهور الرب فيه أو في مكانه. أ هـ {هداية الحيارى صـ 217 ـ 238}
تم الجزء الثالث عشر من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع عشر وأوله قوله تعالى
{ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) }(13/445)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء الرابع عشر
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(14/3)
الجزء الرابع عشر
من الآية {60} من سورة آل عمران
وحتى الآية {83} من نفس السورة(14/4)
قوله تعالى { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ابتدأ القصة بالحق في قوله : {نزل عليك الكتاب بالحق} ختمها بذلك على وجه آكد وأضخم فقال : {الحق} أي الكامل في الثبات كائن {من ربك} أي المحسن إليك بأنه لا يدع لخصم عليك مقالاً ، ولما تسبب عما مضى نقلاً وعقلاً الاعتقاد الحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام قال : {فلا تكن من الممترين} مشيراً بصيغة الافتعال إلى أنه لا يشك فيه بعد هذا إلا من أمعن الفكر في شبه يثيرها وأوهام يزاولها ويستزيرها ، وما أحسن ما في سفر الأنبياء الإسرائيليين الذي هو بأيدي الطائفتين اليهود ثم النصارى ، يتناقلونه معتقدين ما فيه ، وأوضحه في خلاف معتقدهم في عيسى عليه الصلاة والسلام وموافقة معتقدنا فيه ، لكنهم لا يتدبرون ، وذلك أنه قال في نبوة أشعيا عليه السلام : اسمع مني يا يعقوب عبدي وأنت يا إسرائيل الذي انتخبته! أنا الذي خلقتك في الرحم وأعنتك ، ثم قال : هكذا يقول : يقول الرب : أنا الذي جبلتك في الرحم وخلصتك وأعنتك ، أنا الذي خلقت الكل ، وأنا الذي مددت السماء وحدي ، وأنا الذي ثبتّ الأرض ، أنا الذي أبطل آيات العرافين ، وأصير كل تعريفهم جهلاً ، وأرد الحكماء إلى خلفهم ، وأعرف أعمالهم للناس ، وأثبت كلمة عبيدي ، وأتمم قول رسلي ؛ ثم قال : أنا الرب الذي خلقت هذه الأشياء ، الويل للذي يخاصم خالقه ولا يعلم أنه من خزف الطين! لعل الطين يقول للفاخوري : لماذا تصنعني ؟ أو لعله يقول له : لست أنا من صنعتك ، الويل للذي يقول لأبيه : لماذا ولدتني ؟ أو لأمه : لماذا حبلت بي ؟ هكذا يقول الرب قدوس إسرائيل ومخلصه : أنا الذي خلقت السماء ومددتها بيدي وجميع أجنادها ، وجعلت فيها الكواكب البهية. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 101 ـ 102}
فصل
قال الفخر :
في الحق تأويلان(14/5)
الأول : قال أبو مسلم المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا : إن مريم ولدت إلها ، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار ، فالله تعالى بيّن أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ثم نهى عن الشك فيه ، ومعنى ممتري مفتعل من المرية وهي الشك.
والقول الثاني : أن المراد أن الحق في بيان هذه المسألة ما ذكرناه من المثل وهو قصة آدم عليه السلام فإنه لا بيان لهذه المسألة ولا برهان أقوى من التمسك بهذه الواقعة ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 68 ـ 69}
لطيفة
قال أبو السعود :
والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبِ لتشريفه عليه الصلاة والسلام والإيذانِ بأن تنزيلَ هذه الآياتِ الحقةِ الناطقةِ بكنه الأمر تربيةٌ له عليه الصلاة والسلام ولُطفٌ به. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 46}
فصل
قال ابن عادل :
قوله : { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ مستقلةً برأسِهَا والمعنى أنَّ الحقَّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو مِنْ ربك ، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربكَ قصةُ عيسى وأمُهُ ، فهو حقٌّ ثابتٌ.
ويجوز أن يكونَ " الحقُّ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : ما قَصَصْنَا عليكَ من خبرِ عيسى وأمه ، وحُذِفَ لكونه معلوماً. و{ مِّن رَّبِّكُمْ } على هذا - فيهِ وجهانِ :
أحدهما : أنه حال فيتعلق بمحذوف.
والثاني : أنه خبر ثان - عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة.
وقال بعضهم : " الحق رفع بإضمار فعل ، أي : جاءك الحق ".
وقيل : إنه مرفوع بالصفة ، وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : من ربك الحق. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 281}
قوله تعالى : {فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين}
قال الفخر :(14/6)
الامتراء الشك ، قال ابن الأنباري : هو مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذي يجتذب عند الحلب ، يقال قد مارى فلان فلاناً إذا جادله ، كأنه يستخرج غضبه ، ومنه قيل الشكر يمتري المزيد أي يجلبه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 68}
فصل
قال الفخر
قوله تعالى : {فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين} خطاب في الظاهر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكاً في صحة ما أنزل عليه ، وذلك غير جائز ، واختلف الناس في الجواب عنه ، فمنهم من قال : الخطاب وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه في المعنى مع الأمة قال تعالى : {يا أيها النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [ الطلاق : 1 ]
والثاني : أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى : فدم على يقينك ، وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 69}
وقال الآلوسى :
{ فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين } خطاب له صلى الله عليه وسلم ، ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ يونس : 105 ] بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين.
إحداهما : أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نوراً على نور
وثانيتهما : أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطفه بغيره ، وجوز أن يكون خطاباً لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 187}(14/7)
وقال ابن عاشور :
الخطاب في { فلا تكن من الممترين } للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود التعريض بغيره ، والمعرَّض بهم هنا هم النصارى الممترُون الذين امتروا في الإلاهية بسبب تحقق أن لاَ أبَ لِعيسى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 113}
وقال ابن عطية :
ونهي النبي عليه السلام في عبارة اقتضت ذم الممترين ، وهذا يدل على أن المراد بالامتراء غيره ، ولو قيل : فلا تكن ممترياً لكانت هذه الدلالة أقل ، ولو قيل فلا تمتر لكانت أقل ونهي النبي عليه السلام عن الامتراء مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 447}
وقال الزمخشرى :
ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممتريا من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة ، وأن يكون لطفاً لغيره. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 395}
وقال فى روح البيان :
ولا يتصور كونه عليه السلام شاكا فى صحة ما أنزل عليه والمعنى دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان على الحق والتنزه عن الشك فيه
قال الإمام أبو منصور رحمه الله العصمة لا تزيل المحنة ولا ترفع النهى. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 54}
فائدة
قال السعدى :
في هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها ، فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل ، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة ، سواء قدر العبد على حلها أم لا فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه ، لأن ما خالف الحق فهو باطل ، قال تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون ، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه ، وإلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه. أ هـ {تفسير السعدى صـ 133}(14/8)
فصل
قال البقاعى :
ذكر ما يحتاج إليه المفسرون - ويثمر إن شاء الله سبحانه وتعالى زيادة الإيقان لكل مسلم - من قصة عيسى عليه السلام في ولادته وما يتعلق بهذه السورة من مبدإ أمره ومنتهاه وبعض ما ظهر على يديه من الآيات ولسانه من الحكم المشيرة إلى أنه عبد الله ورسوله وغير ذلك من الأناجيل الأربعة التي في أيدي النصارى اليوم ، وقد أدخلت كلام بعضهم في بعض وجمعت ما تفرق من المعاني في سياقاتهم بحيث صار الكل حديثاً واحداً :
قال متى - ومعظم السياق له - : كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن ابراهيم عليهم الصلاة والسلام ، ثم قال : لكل الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً ، ومن داود إلى زربابل أربعة عشر جيلاً ، ومن زربابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً ؛ لما خطبت مريم أمه ليوسف قبل أن يفترقا وجدت حبلاً من روح القدس ، وكان يوسف خطيبها صديقاً ولم يرد أن ينشرها ، وهم بتخليتها سراً ، وفيما هو مفكر في هذا إذا ظهر له ملاك الرب في الحلم قائلاً : يا يوسف بن داود! لا تخف أن تأخذ مريم خطيبتك ، فإن الذي تلده هو من روح القدس ، وستلد ابناً ويدعى اسمه يسوع ، وهو يخلص شعبه من خطاياهم ، هذا كله كان لكي يتم ما قيل من قبل الرب على لسان النبي القابل : ها هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً ، ويدعى اسمه " عمانويل " الذي تفسيره : الله معنا ، فقام يوسف من النوم وصنع كما أمره ملاك الرب وأخذ مريم خطيبته ولم يعرفها حتى ولدت ابناه البكر ، ودعي اسمه يسوع.(14/9)
وفي إنجيل لوقا : ولما كان في تلك الأيام - أي أيام ولادة يحيى بن زكريا عليهم السلام - خرج أمر من أوغوسطوس قيصر بأن يكتب جميع المسكونة هذه الكتبة الأولى في ولاية فرسوس على الشام ، فمضى جميعهم ليكتتب كل واحد منهم في مدينته ، فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم ، لأنه كان من بيت داود وقبيلته ليكتتب مع مريم خطيبته وهي حبلى ، فبينما هما هناك إذ تمت أيام ولادتها لتلد ، فولدت ابنها البكر ولفته وتركته في مزود لأنه لم يكن لهما موضع حيث نزلا ، وكان في تلك الكورة رعاة يسهرون لحراسة الليل نوباً على مراعيهم ، وإذا ملاك الرب قد وقف بهم ومجد الرب أشرق عليهم ، فخافوا خوفاً عظيماً ، قال لهم الملاك : لا تخافوا الآن ، هو ذا أبشركم بفرح عظيم يكون لكم ولجميع الشعوب ، لأنه ولد لكم اليوم مخلص ، الذي هو المسيح في مدينة داود ، وهذه علامة لكم أنكم تجدون طفلاً ملفوفاً موضوعاً في مزود ، وللوقت بغتة تراءى مع الملاك جنود كثيرة سماويون ، يسبحون الله سبحانه وتعالى ويقولون : المجد لله في العلى ، وعلى الأرض السلام ، وفي الناس المسرة ؛ فلما صعد الملائكة إلى السماء قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض : امضوا بنا إلى بيت لحم لننظر الكلام الذي أعلمنا به الرب ، فجاؤوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف والطفل موضوعاً في مزود ؛ فلما رأوه علموا أن الكلام الذي قيل لهم عن الصبي حق ، وكل من سمع تعجب مما تكلم به الرعاة ، وكانت مريم تحفظ هذا الكلام كله وتقيه ، ورجع الرعاة يمجدون الله سبحانه وتعالى ويسبحون على كل ما سمعوا وعاينوا كما قيل لهم.
(14/10)
ولما تمت ثمانية أيام أتوا به ليختن ودعوا اسمه يسوع كالذي دعاه الملاك قبل أن تحبل به في البطن ، فلما كملت أيام تطهيرها - على ما في ناموس موسى - صعدوا به إلى يروشليم ليقيموه للرب ، كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم أمه يدعى قدوس الرب ، ويقرب عنه - كما هو مكتوب في ناموس الرب - زوج يمام أو فرخا حمام ؛ وكان إنسان بايروشليم اسمه شمعون ، وكان رجلاً باراً تقياً ، يرجو عز بني إسرائيل ، وروح القدس كان عليه ، وكان يوحى إليه من روح القدس أنه لا يموت حتى يعاين المسيح الرب ، فأقبل بالروح إلى الهيكل عندما جاؤوا بالطفل يسوع ليصفى عنه كما يجب في الناموس ، فحمله على ذراعه وبارك الرب قائلاً : الآن يا سيد! أطلق عبدك بسلام لكلامك ، لأن عيني أبصرتك خلاصك الذي أعددت قدام جميع الشعوب ، نور استعلن للأمم ومجد لشعبك إسرائيل ، وكان يوسف وأمه يتعجبان مما يقال عنه ، وباركهما شمعون وقال لمريم أمه : هوذا هذا موضوع لسقوط كثير وقيام كثير من بني إسرائيل.
وكانت حنة النبية ابنة فانوئل من سبط أشير قد طعنت في أيامها وأقامت مع زوجها سبعة وستين بعد بكوريتها ، وترملت أربعة وثمانين عاماً غير مفارقة للهيكل عائدة للصّوم ، وللطلبة ليلاً ونهاراً ، وفي تلك الساعة جاءت قدامه معترفة لله وكانت تتكلم من أجله عند كل أحد ، تترجى خلاص يروشليم ، فلما أكملوا كل شيء على ما في ناموس الرب رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة ، فأما الصبي فكان ينشأ ويتقوى بالروح ويمتلىء بالحكمة ، ونعمة الله كانت عليه ، وأبواه يمضيان إلى يروشليم في كل سنة في عيد الفصح.
(14/11)
وقال متى : فلما ولد يسوع في بيت لحم يهودا في أيام هيرودس الملك إذا مجوس وافوا من المشرق إلى يروشليم قائلين : أين هو المولود ملك اليهود لأنا رأينا نجمة في المشرق ، ووافينا لنسجد له ، فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجمع يروشليم وجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب واتسخبرهم : أين يولد المسيح ؟ فقالوا له : في بيت لجحم أرض يهودا - كما هو مكتوب في النبي : وأنت يا بيت لحم أرض يهودا لست بصغيرة في ملوك يهود ، يخرج منك مقدم ، الذي يرعى شعب بني إسرائيل.
(14/12)
حينئذ دعا هيرودس والروم المجوس سراً ، وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم قائلاً : امضوا فابحثوا عن الصبي باجتهاد ، فإذا وجدتموه فأخبروني لآتي أنا وأسجد له ، فلما سمعوا من الملك ذهبوا ، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يقدمهم حتى جاء ووقف حيث كان الصبي ، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً ، وأتوا إلى البيت فرأوا الصبي ، مع مريم أمه ، فخروا له سجداً وفتحوا أوعيتهم وقدموا له قرابين ذهباً ولُباناً ومُرّاً ، وأنحى إليهم في الحلم أن لا يرجعوا إلى هيردوس ، بل يذهبوا في طريق أخرى إلى كورتهم ، فلام ذهبوا وإذ ملاك الرب تراءى ليوسف في الحلم قائلاً : قم ، خذ الصبي وأمه واهرب إلى أرض مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيردوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه ، فقام وأخذ الصبي أمه ليلاً ، ومضى إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس ، لكي يتم ما قيل من قبل الرب بالنبي القابل من مصر : دعوت ابني ؛ حينئذ لما رأى هيرودس سخرية المجوس به غضب جداً وأرسل ، فقتل كل صبيان بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون ، كنحو الزمان الذي تحقق عنده من المجوس ، حينئذ تم ما قيل من أرميا النبي حيث يقول : صوت سمع في الزأمة ، بكاء ونوح وعويل كثير ، راحيل تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزى لفقدهم ؛ فلما مات هيرودس ظهر ملاك الرب ليوسف في الحلم بمصر قائلاً : قم ، خذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل ؛ فما سمع أن أورشلاوش قد ملك على اليهودية عوض هيرودس أبيه خاف أن يذهب إلى هناك ، فأخبر في الحلم وذهب إلى حور ناحية الجليل ، فأتى وسكن في مدينة تدعى ناصرة لكي يتم ما قيل في الأنبياء : إنه يدعى ناصريا وفي إنجيل لوقا : فلما تمت له اثنتا عشرة سنة مضوا إلى يروشليم إلى العيد كالعادة ، فلما كملت الأيام ليعودوا تخلف عنهما يسوع في يروشليم ولم تعلم أمه ويوسف ، لأنهما كانا يظنان أنه مع السائرين في الطريق ، فلما ساروا نحو يوم(14/13)
طلباه عند أقربائهما ومعارفهما فلم يجداه ، فرجعا إلى يروشليم يطلبانه ، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالساً بين العلماء يسمع منهم ويسألهم ، وكان كل من يسمعه مبهوتين من علمه وإجابته لهم ، فلما أبصراه بهتا ، فقالت له أمه : يا بني! ما هذا الذي صنعت بنا ؟ إن أباك وأنا كنا نطلبك باجتهاد معذبين ، فقال لهما : لم تطلباني ؟ أما تعلمان أنه ينبغي أن أكون في الذي لأبي ؟ فأما هما فلم يفهما الكلام ونزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان يطيعهما ، فأما يسوع فكان ينشأ في قامته وفي الحكمة والنعمة عند الله والناس.
قال متى : وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية يهودا - إلى آخر ما تقدم آنفاً من بشارة يحيى عليه الصلاة والسلام به ، ثم قال : حينئذ أتى يسوع من الجليل إلى الأردن ليعتمد من يوحنا ، فامتنع يوحنا منه وقال : أنا المحتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي ، فأجاب يسوع : دع الآن ، هكذا يجب لنا أن نكمل كل البر ، حينئذ تركه فاعتمد يسوع ، وللوقت صعد من الماء فانفتحت له السماوات ، ورأى روح الله نازلاً كمثل حمامة جائياً إليه.
وقال مرقس : وكان تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واصطنع في نهر الأردن من يوحنا ، فساعة صعد من الماء رأى السماوات قد انشقت ، وروح القدس كالحمامة نزلت عليه ، وللوقت أخرجه الروح إلى البرية ، وأقام بها أربعين يوماً وأربعين ليلة ، وهو مع الوحوش ، والملائكة تخدمه.
وقال متى : وصام أربعين يوماً وأربعين ليلة.
(14/14)
وقال لوقا : وكان لما اعتمد جميع الشعب واعتمد يسوع فبينما هو يصلي انفتحت السماء ونزل عليه روح القدس شبه جسد حمامة ، وكان قد صار ليسوع ثلاثون سنة وكان يُظنّ أنه ابن يوسف وأن يسوع امتلأ من روح القدس ورجع من الأردن ، فانطلق به الروح أربعين يوماً ، لم يأكل شيئاً في تلك الأيام ؛ ثم قال : ورجع يسوع إلى الجليل بقوة الروح وخرج خبره في كل الكورة ، وكان يعلم في مجامعهم ويمجده كل أحد ، وجاء إلى الناصرة حيث كان تربى ودخل كعادته إلى مجمعهم يوم السبت ، وقام ليقرأ فدفع إليه سفر أشعيا النبي فلما فتح السفر وجد الموضع الذي فيه مكتوب : روح الرب عليّ ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأشفي منكسري القلوب وأبشر المأسورين بالتخلية والعميان بالنظر ، وأرسل المربوطين بالتخلية ، وأبشر بالسنة المقبولة للرب والأيام التي أعطانا إلهنا ؛ ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم وجلس ، وكل من كان في الجمع كانت عيونهم محدقة إليه ، فبدأ يقول لهم : اليوم كمل هذا المكتوب بأسماعكم ؛ وفي إنجيل يوحنا : إن يسوع قال : إن كنت أنا أشهد لنفسي فليست شهادتي حقاً ، ولكن الذي يشهد لي بها حق ، أنتم أرسلتم إليّ يوحنا فشهد لي بالحق ، وأما أنا فلست أطلب شهادة من إنسان ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم ، وأنا على أعظم من شهادة يوحنا لأن الأعمال التي أعملها تشهد من أجلي أن الرب أرسلني ، والذي أرسلني قد شهد لي ولم تسمعوا قط صوته ولا عرفتموه ولا رأيتموه ، وكلمته لا تثبت فيكم لأنكم لستم تؤمنون بالذي أرسل ، فتشوا الكتب التي تظنون أن تكون لكم بها حياة الأبد فهي تشهد من أجلي ، لست آخذ المجد من الناس أنا أتيت باسم أبي فلم تقبلوني ، وإن أتاكم آخر باسم نفسه قبلتموه ، كيف تقدرون أن تؤمنوا وإنما تقبلون المجد بعضكم ، من بعض ولا تظنون أن المجد من الله تعالى الواحد ، لا تظنوا أني أشكوكم ، إن لكم من يشكوكم : موسى الذي عليه تتوكلون ، فلو كنتم آمنتم بموسى
آمنتم بي ، لأن ذلك كتب من أجلي ، وإن كنتم لا تؤمنون بكتب ذلك فكيف تؤمنون بكلامي - انتهى ما وقع الاختيار أخيراً على إثباته هنا ، وفيه من الألفاظ المنكرة في شرعنا إطلاق الأب والابن ، وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 102 ـ 106}(14/15)
قوله تعالى { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أتاهم سبحانه وتعالى من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام بالفصل في البيان الذي ليس بعده إلا العناد ، فبين أولاً ما تفضل فيه عيسى عليه الصلاة والسلام من أطوار الخلق الموجبة للحاجة المنافية للإلهية ، ثم فضح بتمثيله بآدم عليه الصلاة والسلام شبهتَهم ، ألزمهم عل تقديره بالفيصل الأعظم للمعاند الموجب للعذاب المستأصل أهل الفساد فقال سبحانه وتعالى : {فمن} أي فتسبب عما آتيناك به من الحق في أمره أنا نقول لك : من {حآجك فيه} أي خاصمك بإيراد حجة ، أي كلام يجعله في عداد ما يقصد.
ولما كان الملوم إنما هو من بلغته هذه الآيات وعرف معناها دون من حاج في الزمان الذي هو بعد نزولها دون اطلاعه عليها قال : {من} أي مبتدئاً المحاجة من ، ويجوز أن يكون الإتيان بمن لئلا يفهم أن المباهلة تختص بمن استغرق زمان البعد بالمجادلة {بعدما جآءك من العلم} أي الذي أنزلنان إليك وقصصناه عليك في أمره {فقل تعالوا} أي اقبلوا أيها المجادلون إلى أمر نعرف فيه علو المحق وسفول المبطل {ندع أبنآءنا وأبناءكم} أي الذي هم أعز ما عند الإنسان لكونهم بعضه {ونساءنا ونساءكم} أي اللاتي هن أولى ما يدافع عنه أولو الهمم العوالي {وأنفسنا وأنفسكم} فقدم ما يدافع عنه ذوو الأحساب ويفدونه بنفوسهم ، وقدم منه الأعز الألصق بالأكباد وختم بالمدافع ، وهذا الترتيب على سبيل الترقي إذا اعتبرت أنه قدم الفرع ثم الأصل وبدأ بالأدنى وختم بالأعلى ، وفائدة الجمع الإشارة إلى القطع بالوثوق بالكون على الحق.(14/16)
ثم ذكر ما له هذا الجمع مشيراً بحرف التراخي إلى خطر الأمر وأنه مما ينبغي الاهتمام به والتروي له وإمعان النظر فيه لوخامة العاقبة وسوء المنقلب للكاذب فقال : {ثم نبتهل} أي نتضرع - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما نقله الإمام أبو حيان في نهره.
وقال الحرالي : الابتهال طلب البهل ، والبهل أصل معناه التخلي والضراعة في مهم مقصود - انتهى.
{فنجعل لعنت الله} أي الملك الذي له العظمة كلها فهو يجبر ولا يجار عليه ، أي إبعاد وطرده {على الكاذبين} وقال ابن الزبير بعد ما تقدم من كلامه : ثم لما أتبعت قصة آدم عليه الصلاة والسلام - يعني في البقرة - بذكر بني إسرائيل لوقوفهم من تلك القصص على ما لم تكن العرب تعرفه ، وأنذروا وحذروا ؛ أتبعت قصة عيسى عليه الصلاة والسلام - يعني هنا - بذكر الحواريين وأمر النصارى إلى آية المباهلة - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 106 ـ 107}
وقال الفخر :
(14/17)
اعلم أن الله تعالى بيّن في أول هذه السورة وجوهاً من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد ، وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام ، وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم ، وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم عليه السلام أن يكون ابناً لله تعالى لم يلزم من عدم الأب البشري لعيسى عليه السلام أن يكون ابناً لله ، تعالى الله عن ذلك ولما لم يبعد انخلاق آدم عليه السلام من التراب لم يبعد أيضاً انخلاق عيسى عليه السلام من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى عليه السلام ، ومن أنصف وطلب الحق ، علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى ، فعند ذلك قال تعالى : {فَمَنْ حَاجَّكَ} بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند ، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة فقال : {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} إلى آخر الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 69}(14/18)
مناظرة بين الإمام فخر الدين الرازى وبين عالم نصرانى
قال الإمام الفخر :
اتفق أني حين كنت بخوارزم ، أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم ، فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي : ما الدليل على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام ، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن رددنا التواتر ، أو قبلناه لكن قلنا : إن المعجزة لا تدل على الصدق ، فحينئذ بطلت نبوّة سائر الأنبياء عليهم السلام ، وإن اعترفنا بصحة التواتر ، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ، ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعاً بنبوّة محمد عليه السلام ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول ، فقال النصراني : أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبياً بل أقول إنه كان إلها ، فقلت له الكلام في النبوّة لا بد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته ، يجب أن لا يكون جسماً ولا متحيزاً ولا عرضاً وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوماً وقتل بعد أن كان حياً على قولكم وكان طفلاً أولاً ، ثم صار مترعرعاً ، ثم صار شاباً ، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً والمحتاج لا يكون غنياً والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً.(14/19)
والوجه الثاني : في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة ، وقد مزقوا ضلعه ، وأنه كان يحتال في الهرب منهم ، وفي الاختفاء عنهم ، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد ، فإن كان إلها أو كان الإله حالاً فيه أو كان جزءاً من الإله حالاً فيه ، فلم لم يدفعهم عن نفسه ؟ ولم لم يهلكهم بالكلية ؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم! وبالله أنني لأتعجب جداً! إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته ، فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده.
والوجه الثالث : وهو أنه : إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد ، أو يقال حل الإله بكليته فيه ، أو حل بعض الإله وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة أما الأول : فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم ، فحين قتله اليهود كان ذلك قولاً بأن اليهود قتلوا إله العالم ، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله! ثم إن أشد الناس ذلاً ودناءة اليهود ، فالإله الذي تقتله اليهود إله في غاية العجز! وأما الثاني : وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم ، فهو أيضاً فاسد ، لأن الإله لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم ، وإن كان جسماً ، فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم ، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله ، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحل ، وكان الإله محتاجاً إلى غيره ، وكل ذلك سخف ، وأما الثالث : وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله ، وجزء من أجزائه ، فذلك أيضاً محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية ، فعند انفصاله عن الإله ، وجب أن لا يبقى الإله إلها ، وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلهية ، لم يكن جزأ من الإله ، فثبت فساد هذه الأقسام ، فكان قول النصارى باطلاً.(14/20)
الوجه الرابع : في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى ، ولو كان إلها لاستحال ذلك ، لأن الإله لا يعبد نفسه ، فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور ، دالة على فساد قولهم ، ثم قلت للنصراني : وما الذي دلك على كونه إلها ؟ فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى ، فقلت له هل تسلم إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا ؟ فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع ، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، فأقول : لما جوّزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام ، فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد ؟ فقال : الفرق ظاهر ، وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول ، لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه ، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك ، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا ، فقلت له : تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى : فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل ، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك ، وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت : إن مذهباً يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسة والركاكة.(14/21)
الوجه الخامس : أن قلب العصا حية ، أبعد في العقل من إعادة الميت حياً ، لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان ، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلها ولا ابناً للإله ، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية كان ذلك أولى ، وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 69 ـ 71}(14/22)
مناظرة القاضى أبى بكر الباقلانى في مجلس ملك الروم وأخباره معه
وجه عضد الدولة في بعض سفراته ، إلى ملك الروم الأعظم ، القاضي أبا بكر ابن الطيب ، واختصه بذلك ، ليظهر رفعة الإسلام ، ويغض من النصرانية. فلما تهيأ للخروج ، قال للقاضي ، وزير عضد الدولة : الطالع خروجاً? فسأله القاضي أبو بكر. فلما فسر مراده ، قال : لا أقول بهذا. لأن السعد والنحس كله ، والشر والخير كله ، بيد الله عز وجلّ. ليس للكواكب هاهنا مثقال ذرة من القدرة. وإنما وضعت كتب المنجمين ليتمعش بها الجاهلون ، بين العامة. ولا حقيقة لها. فقال الوزير : احضروا لي ابن الصدفي ، ليست المناظرة من شأني. ولا أنا قائم بها ، وإنما أنا أحفظ علم النجوم ، وأقول إذا كان من النجوم كذا كان كذا. وأما تعليله ، فهو من علم المنطق. فأحضر وأمر بمكالمة القاضي ، فقال له أبو سليمان : هذا القاضي يقول : إن الباري سبحانه ، قادر على أن يركب عشرة أنفس في ذلك المركب الذي في دجلة ، فإذا وصلوا إلى الجانب الآخر يكون الله قد زاد فيهم آخر فيكونون أحد عشر. ويكون الحادي عشر من خلقه الله في ذلك الوقت. ولو قلت أنا لا يقدر على ذلك أو هذا محال ، قطعوا لساني وقتلوني ، وإن أحسنوا إليّ كتفوني ، ورموني في الدجلة. وإذا كان الأمر كما ذكرت لم يكن لمناظرتي معه معنى. فالتفت الوزير إلى القاضي وقال : ما تقول أيها القاضي? فقلت : ليس كلامنا هاهنا في قدرة الباري تعالى ، والباري تعالى قادر على كل شيء. وإن جحده هذا الجاهل ، وإنما كلامنا في تأثيرات هذه الكواكب ، فانتقل إلى ما ذكر لعجزه وقلة معرفته ، وإلا فأي تعلق للكلام في قدرة الباري ، عز وجلّ ، في مسألتنا? وأنا وإن قلت إن القديم تعالى قادر على ذلك ، ما أقول إنه يخرق العادة ، وبفعل هذا. لأنه لا يجوز عندنا أن يخلق اليوم إنساناً من غير أبوين ، فإذا كان كذلك فقد علم الوزير أن هذا فرار من الزحف. فقال هو كما ذكرت. فقال المنطيقي : المناظرات دربة وتجربة ، وأنا لا أعرف مناظرات هؤلاء القوم ، وهم لا يعرفون مواضعتنا وعبارتنا ، ولا تجمل(14/23)
المناظرة بين قوم هذا حالهم. فقال له الوزير : قبلنا اعتذارك والحق أبلج. قال القاضي : ومال إليّ بوجهه ، وقال : سر في دعة الله. فخرجت. فدخلنا بلاد الروم ، حتى وصلت إلى ملك الروم بالقسطنطينية ، وأخبر الملك بقدومنا. فأرسل إلينا من تلقانا ، وقال : لا تدخلوا على الملك بعمائمكم ، حتى تنزعوها. إلا أن تكون مناديل لطاف ، وحتى تنزعوا أخفافكم. فقلت : لا أفعل ، ولا أدخل ، إلا بما أنا عليه من الزي ، واللباس. فإن رضيتم ، وإلا فخذوا الكتب تقرأونها ، وأرسلوا بجوابها وأعود به. فأخبر بذلك الملك ، فقال : أريد معرفة سبب هذا وامتناعه عما مضى عليه رسمي مع الرسل. فسئل القاضي عن ذلك. فقال : أنا رجل من علماء المسلمين ، وما تحبونه منا ذلّ وصغار ، والله تعالى قد رفعنا بالإسلام وأعزّنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأيضاً فإن من شأن الملوك ، إذا بعثوا رسلهم إلى ملك آخر ، رفع أقدارهم ، لا إذلالهم. سيما إذا كان الرسول من أهل العلم. ووضع قدره انهدام جانبه ، عند الله تعالى ، وعند المسلمين. فعرّف الترجمان الملك بذلك ، فقال : دعوه يدخل ومن معه كما يشاؤون. ندخل بها على سلطاننا الأكرم ، الذي هو تحت يد أمير المؤمنين ، وأدخل بها على سلطاننا الأكرم الذي أمرنا الله تعالى ورسوله ، بطاعته. فما تنكرون عليّ هذا ، وأنا رجل من علماء المسلمين? فإن دخلت بغير هيئتي ورجعت إلى حكمك ، أهنت العلم ونفسي ، وذهب عند المسلمين جاهي. فقال للترجمان : قل له قد قبلنا عذرك ، ورفعنا منزلتك ، وليس محلك عندنا محل سائر الرسل ، وإنما محلك عندنا محل الأبرار الأخيار ، وقد أخبرنا صاحبكم في كتبه : إنك لسان المسلمين والمناظر عنهم ، وأنا أشتهي أن أعرف ذلك وأسمعه منك ، كما ذكروه عنك. قلت : إذا أذن الملك ، فقال : أنزلوا حيث أعددت لكم ، ويكون بعد هذا الاجتمال. قال القاضي : فنهضنا إلى موضع أُعدّ لنا ، وذكر أبو بكر البغدادي الحافظ : أن القاضي ، لما وصل إلى مدينة الطاغية ، وعرّف به وبمحله من العلم ، (14/24)
فكر الطاغية في أمره ، وعلم أنه لا يكفر له إذا دخل عليه - كما جرى رسم الرعية أن يقبل الأرض بين يدي ملوكها - فرأى أن يضع سريره ، وراء باب لطيف ، لا يمكن أن يدخل أحد منه إلا راكعاً ، ليدخل القاضي من ذلك الباب. فلما رآه القاضي ، تفكّر وأدار رأسه ، وحنى رأسه راكعاً ، ودخل من الباب يمشي مستقبلاً الملك بدبره ، حتى صار بين يديه. ثم رفع رأسه ، ونصب ظهره. ثم أدار وجهه إلى الملك حينئذ ، فعجب من فطنته ، ووقعت له الهيبة في قلبه. قال غيره : قال القاضي : فلما كان يوم الأحد ، بعث الملك في طلبي ، وقال : من شأن الرسول حضور مائدة الملك. فنحب أن تجيب إلى طعامنا ولا تنقض كل رسومنا. فقلت لرسوله : أنا من علماء المسلمين ، ولست كالرسل من الجند وغيرهم ، الذين لا يعرفون ما يجب عليهم في هذا الموطن. والملك يعلم أن العلماء لا يقدرون أن يدخلوا هذه الأشياء ، وهم يعلمون ، وأخشى أن يكون على مائدته من لحوم الخنازير ، وما حرمه الله تعالى على رسوله ، وعلى المسلمين? فذهب الترجمان ، وعاد إليّ وقال : يقول لك الملك : ليس على مائدتي ، ولا في طعامي شيء تكرهه. وقد استحسنت ما أتيت به ، وما أنت عندنا كسائر الرسل ، بل أعظم ، وما كرهت من لحوم الخنزير ، إنما هو خارج من حضرتي بيني وبينه حجاب. فنهضت على كل حال. وجلست وقدّم الطعام ، ومددت يدي وأوهمت الأكل ، ولم آكل منه شيئاً مع أني لم أرَ على مائدته ما يكره. فلما فرغ من الطعام ، بخّر المجلس وعطّره ، ثم قال : هذا الذي تدعونه في معجزات نبيّكم من انشقاق القمر ، كيف هو عندكم? قلت : هو صحيح عندنا ، وانشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى رأى الناس ذلك. وإنما رآه الحضور ، ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال. فقال الملك : وكيف لم يره جميع الناس? قلت : لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره. فقال : وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة? لأي شيء لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس ، وإنما رأيتموه أنتم خاصة? قلت : (14/25)
فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة? وأنتم رأيتموها دون اليهود ، والمجوس والبراهمة ، وأهل الإلحاد ، وخاصة يونان جيرانكم ، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن ، وأنتم رأيتموها دون غيركم. فتحيّر الملك وقال بكلامه : سبحان الله ، وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني. وقال : نحن لا نطيقه. لأن صاحبه قال : ما في مملكتي مثله ، ولا للمسلمين في عصره مثله. فلم أشعر إذ جاؤوا برجل كالذئب أشقر الشعر مسبله ، فقعد ، وحكيت له المسألة فقال : الذي قاله المسلم لازم ، هو الحق لا أعرف له جواباً إلا ما ذكره. فقلت له : أتقول إن الكسوف إذا كان ، يراه جميع أهل الأرض أم يراه أهل الإقليم الذي بمحاذاته? قال : لا يراه إلا من كان في محاذاته. قلت : فما أنكرت من انشقاق القمر ، إذا كان في ناحية لا يراه إلا أهل تلك الناحية ، ومن تأهب للنظر له? فأما من أعرض عنه ، وكان في الأمكنة التي لا يرى القمر منها فلا يراه. فقال : هو كما قلت. ما يدفعك عنه دافع. وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوه. وأما الطعن في غير هذا الوجه ، فليس بصحيح. فقال الملك : وكيف يطعن في النقلة? فقال النصراني : شبه هذا من الآيات ، إذا صح ، وجب أن ينقله الجم الغفير ، إلى الجم الغفير ، حتى يتصل بنا العلم الضروري به ، ولو كان كذلك ، لوقع إلينا العلم الضروري به. فلما لم يقع لنا العلم الضروري به ، دلّ أن الخبر مفتعل باطل. فالتفت الملك إليّ وقال : الجواب. قلت : يلزمه في نزول المائدة ، ما يلزمني في انشقاق القمر ، ويقال له لو كان نزول المائدة صحيحاً ، لوجب أن ينقله العدد الكثير ، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا ثنوي إلا ويعلم هذا بالضرورة. ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة ، دلّ أن الخبر كذب. فبهت النصراني والملك ، ومن ضمه المجلس. وانفض المجلس على هذا يديه. ثم رفع رأسه ، ونصب ظهره. ثم أدار وجهه إلى الملك حينئذ ، فعجب من فطنته ، ووقعت له الهيبة في قلبه.(14/26)
قال القاضي : ثم سألني الملك في مجلس ثانٍ ، فقال : ما تقولون في المسيح عيسى بن مريم عليه السلام? قلت روح الله ، وكلمته ، وعبده ، ونبيه ، ورسوله. كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له : كن ، فيكون. وتلوت عليه النص. فقال : يا مسلم تقولون : المسيح عبد ، فقلت : نعم ، كذا نقول ، وبه ندين. قال : ولا تقولون إنه ابن الله? قلت : معاذ الله ، "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله" الآيتان ، إنكم لتقولون قولاً عظيماً. فإذا جعلتم المسيح ابن الله ، فمن أبوه وأخوه وجده وعم وخاله. وعددت عليه الأقارب ، فتحيّر وقال : يا مسلم ، العبد يخلق ، ويحيي ويميت ويبرئ الأكمه والأبرص? قلت : لا يقدر العبد على ذلك وإنما ذلك كله من فعل الله عز وجلّ. قال : وكيف يكون المسيح عبداً لله وخلقاً من خلقه ، وقد أتى بهذه الآيات ، وفعل ذلك كله? قلت : معاذ الله ما أحيى المسيح الموتى ولا أبرأ الأكمه والأبرص. فتحيّر وقلّ صبره ، وقال : يا مسلم ، تنكر هذا مع اشتهاره في الخلق ، وأخذ الناس له بالقبول? فقلت : ما قال أحد من أهل الفقه والمعرفة ، إن الأنبياء عليهم السلام ، يفعلون المعجزات من ذاتهم. وإنما هو شيء يفعله الله تعالى على أيديهم ، تصديقاً لهم ، يجري مجرى الشهادة. فقال : قد حضر عندي جماعة من أولاد نبيّكم ، وأهل دينكم المشهورين فيكم ، وقالوا ، إن ذلك في كتابكم. فقلت : أيها الملك ، في كتابنا أن ذلك كله بإذن الله ، وتلوت عليه منصوص القرآن في المسيح : "بإذن الله" وقلت : إنما فعل ذلك كله بإذن الله وحده لا شريك له ، لا من ذات المسيح. ولو كان المسيح يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص من ذاته ، لجاز أن يقال : موسى ، فلق البحر ، وأخرج يده بيضاء من غير سوء من ذاته. وليست معجزات الأنبياء عليهم السلام من ذاتهم وأفعالهم ، دون إرادة الخالق. فلما لم يجز هذا ، لم يجز أن تسند المعجزات التي ظهرت على يد المسيح إليه. فقال الملك : وسائر الأنبياء كلهم من آدم ، إلى من بعده كانوا يتضرّعون للمسيح ، حتى(14/27)
يفعل ما يطلبون. قلت : أوَفي لسان اليهود عظم ، لا يقدرون أن يقولوا إن المسيح كان يتضرّع إلى موسى? وكل صاحب نبي يقول : إن المسيح كان يتضرع إلى نبيه ، فلا فرق بين الموضعين في الدعوى. قال القاضي رحمه الله : ثم تكلمنا في مجلس ثالث فقلت له : أتحد اللهوت بالناسوت? قال : أراد أن ينجي الناس من الهلاك. قلت له : درى بأنه يقتل ويصلب ويفعل به كذا ولم يؤمن به اليهود? فإن قلت إنه لا يدري ما أراد اليهود به ، بطل أن يكون إلهاً. وإذا بطل أن يكون إلهاً ، بطل أن يكون ابناً ، وإن قلت قد درى ودخل في هذا الأمر على بصيرة ، فليس بحكيم ، لأن الحكمة تمنع من التعرض للبلاء. فبهت. وكان آخر مجلس كان لي معه. وذكر ابن حيّان عمن حدثه أن الطاغية ، وعد القاضي أبا بكر بالاجتماع معه في محفل من محافل النصرانية ليوم سمّاه. فحضر أبو بكر وقد احتفل المجلس ، وبولغ في زينته ، فأدناه الملك وألطف سؤاله ، وأجلسه على كرسيه ، دون سريره بقليل. والملك في أبهته وخاصته ، عليه التاج ، والذرية ورجال مملكته ، على مراتبهم. وجاء البطرك قيم ديانتهم ، وقد أوعد الملك إليه في التيقظ ، وقال له : إن فناخسرو ملك الفرس ، الذي سمعت بدهائه وبكرامته ، لا ينفذ إلا من يشبهه في رحلته وحيلته. فتحفظ منه. وأظهر دينك. فلعلك تتعلق منه بسقطة ، أو تعثر منه على زلة تقضي بفضلنا عليه. فجاء البطرك قيم الديانة ، وولي النِّحلة. فسلم القاضي عليه أحفل سلام. وسأله أحفى سؤال ، وقال له : كيف الأهل والولد? فعظم قوله هذا عليه ، وعلى جميعهم وتغيروا له ، وصلبوا على وجوههم ، وأنكروا قول أبي بكر عليه ، فقال : يا هؤلاء تستعظمون لهذا الإنسان اتخاذ الصاحبة والولد ، وتربون به عن ذلك ، ولا تستعظمونه لربكم ، عزّ وجهه ، فتضيفون ذلك إليه? سوءة لهذا الرأي ما أبين غلطه. فسقط في أيديهم ، ولم يردوا جواباً. وتداخلتهم له هيبة عظيمة ، وانكسروا ، ثم قال الملك للبطرك : ما ترى في أمر هذا الشيطان. قال : تقضي حاجته ، وتلاطف صاحبه ،(14/28)
وتبعث بالهدايا إليه ، وتخرج العراقي عن بلدك من يومك إن قدرت. وإلا لم آمن الفتنة منه على النصرانية. ففعل الملك ذلك وأحسن جواب عضد الدولة ، وهداياه ، وعجل تسريحه ، ومعه عدة من أسارى المسلمين والمصاحف. ووكل بالقاضي من جنده من يحفظه ، حتى وصل إلى مأمنه. أ هـ {الإنصاف فيما يجب ولا يجوز فيه الخلاف
للقاضى أبى بكر الباقلانى صـ 10 ـ 18}. بتصرف يسير(14/29)
[ مُنَاظَرَةُ ابن القيم لِأَحَدِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي نُبُوّتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَدَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ مُنَاظَرَةٌ فِي ذَلِكَ فَقُلْت لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَلَا يَتِمّ لَكُمْ الْقَدْحُ فِي نُبُوّةِ نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا بِالطّعْنِ فِي الرّبّ تَعَالَى وَالْقَدْحِ فِيهِ وَنِسْبَتِهِ إلَى أَعْظَمِ الظّلْمِ وَالسّفَهِ وَالْفَسَادِ تَعَالَى اللّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ كَيْفَ يَلْزَمُنَا ذَلِكَ ؟ قُلْت : بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَتِمّ لَكُمْ ذَلِكَ إلّا بِجُحُودِهِ وَإِنْكَارِ وُجُودِهِ تَعَالَى وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنّهُ إذَا كَانَ مُحَمّدٌ عِنْدَكُمْ لَيْسَ بِنَبِيّ صَادِقٍ وَهُوَ بِزَعْمِكُمْ مَلِكٌ ظَالِمٌ فَقَدْ تَهَيّأَ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللّهِ وَيَتَقَوّلَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ ثُمّ يُتِمّ لَهُ ذَلِكَ وَيَسْتَمِرّ حَتّى يُحَلّلَ وَيُحَرّمَ وَيَفْرِضَ الْفَرَائِضَ وَيُشَرّعَ الشّرَائِعَ وَيَنْسَخَ الْمِلَلَ وَيَضْرِبَ الرّقَابَ وَيَقْتُلَ أَتْبَاعَ الرّسُلِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَقّ وَيَسْبِي نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَيُتِمّ لَهُ ذَلِكَ حَتّى يَفْتَحَ الْأَرْضَ وَيَنْسُبَ ذَلِكَ كُلّهُ إلَى أَمْرِ اللّهِ تَعَالَى لَهُ بِهِ وَمَحَبّتِهِ لَهُ وَالرّبّ تَعَالَى يُشَاهِدُهُ وَمَا يَفْعَلُ بِأَهْلِ الْحَقّ وَأَتْبَاعِ الرّسُلِ وَهُوَ مُسْتَمِرّ فِي الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلّهِ يُؤَيّدُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيُعْلِي أَمْرَهُ وَيُمَكّنُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ النّصْرِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَةِ الْبَشَرِ وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنّهُ يُجِيبُ دَعَوَاتِهِ وَيُهْلِكُ أَعْدَاءَهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ نَفْسِهِ وَلَا سَبَبٍ بَلْ تَارَةً بِدُعَائِهِ وَتَارَةً يَسْتَأْصِلُهُمْ سُبْحَانَهُ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ(14/30)
مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَ ذَلِكَ يَقْضِي لَهُ كُلّ حَاجَةٍ سَأَلَهُ إيّاهَا وَيَعِدُهُ كُلّ وَعْدٍ جَمِيلٍ ثُمّ يُنْجِزُ لَهُ وَعْدَهُ عَلَى أَتَمّ الْوُجُوهِ وَأَهْنَئِهَا وَأَكْمَلِهَا هَذَا وَهُوَ عِنْدَكُمْ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالظّلْمِ فَإِنّهُ لَا أَكْذَبَ مِمّنْ كَذَبَ عَلَى اللّهِ وَاسْتَمَرّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَظْلَمَ مِمّنْ أَبْطَلَ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَسَعَى فِي رَفْعِهَا مِنْ الْأَرْضِ وَتَبْدِيلِهَا بِمَا يُرِيدُ هُوَ وَقَتَلَ أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ وَأَتْبَاعَ رُسُلِهِ وَاسْتَمَرّتْ نُصْرَتُهُ عَلَيْهِمْ دَائِمًا وَاَللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ كُلّهِ رَبّهِ أَنّهُ أَوْحَى إلَيْهِ أَنّهُ لَا { أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ } [ الْأَنْعَامِ 93 ] فَيَلْزَمُكُمْ مَعَاشِرَ مَنْ كَذّبَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ لَا بُدّ لَكُمْ مِنْهُمَا : إمّا أَنْ تَقُولُوا : لَا صَانِعَ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَبّرَ وَلَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعٌ مُدَبّرٌ قَدِيرٌ حَكِيمٌ لَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَقَابَلَهُ أَعْظَمَ مُقَابَلَةٍ وَجَعَلَهُ نَكَالًا لِلظّالِمِينَ إذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُلُوكِ غَيْرُ هَذَا فَكَيْفَ بِمَلِكِ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ؟ . الثّانِي : نِسْبَةُ الرّبّ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الْجَوْرِ وَالسّفَهِ وَالظّلْمِ وَإِضْلَالِ الْخَلْقِ دَائِمًا أَبَدَ الْآبَادِ لَا بَلْ نُصْرَةِ الْكَاذِبِ وَالتّمْكِينِ لَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَإِجَابَةِ دَعَوَاتِهِ وَقِيَامِ أَمْرِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ دَائِمًا وَإِظْهَارِ دَعْوَتِهِ وَالشّهَادَةِ لَهُ(14/31)
بِالنّبُوّةِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي كُلّ مَجْمَعٍ وَنَادٍ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمِ الرّاحِمِينَ فَلَقَدْ قَدَحْتُمْ فِي رَبّ الْعَالَمِينَ أَعْظَمَ قَدْحٍ وَطَعَنْتُمْ فِيهِ أَشَدّ طَعْنٍ وَأَنْكَرْتُمُوهُ بِالْكُلّيّةِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنّ كَثِيرًا مِنْ الْكَذّابِينَ قَامَ فِي الْوُجُودِ وَظَهَرَتْ لَهُ شَوْكَةٌ وَلَكِنْ لَمْ يَتِمّ لَهُ أَمْرُهُ وَلَمْ تَطُلْ مُدّتُهُ بَلْ سَلّطَ عَلَيْهِ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ فَمَحَقُوا أَثَرَهُ وَقَطَعُوا دَابِرَهُ وَاسْتَأْصَلُوا شَأْفَتَهُ . هَذِهِ سُنّتُهُ فِي عِبَادِهِ مُنْذُ قَامَتْ الدّنْيَا وَإِلَى أَنْ يَرِثَ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا . فَلَمّا سَمِعَ مِنّي هَذَا الْكَلَامَ قَالَ . مَعَاذَ اللّهِ أَنْ نَقُولَ إنّهُ ظَالِمٌ أَوْ كَاذِبٌ بَلْ كُلّ مُنْصِفٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُقِرّ بِأَنّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النّجَاةِ وَالسّعَادَةِ فِي الْأُخْرَى . قُلْتُ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ سَالِكُ طَرِيقِ الْكَذّابِ وَمُقْتَفِي أَثَرِهِ بِزَعْمِكُمْ مِنْ أَهْلِ النّجَاةِ وَالسّعَادَةِ ؟ فَلَمْ يَجِدْ بُدّا مِنْ الِاعْتِرَافِ بِرِسَالَتِهِ وَلَكِنْ لَمْ يُرْسِلْ إلَيْهِمْ . قُلْت : فَقَدْ لَزِمَك تَصْدِيقَهُ وَلَا بُدّ وَهُوَ قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ الْأَخْبَارُ بِأَنّهُ رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ إلَى النّاسِ أَجْمَعِينَ كِتَابِيّهِمْ وَأُمّيّهِمْ وَدَعَا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَى دِينِهِ أَقَرّوا بِالصّغَارِ وَالْجِزْيَةِ فَبُهِتَ الْكَافِرُ وَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَزَلْ فِي جِدَالِ الْكُفّارِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ وَنِحَلِهِمْ إلَى أَنْ تُوُفّيَ
وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَقَدْ أَمَرَهُ اللّه سُبْحَانَهُ بِجِدَالِهِمْ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي السّورَةِ الْمَكّيّةِ وَالْمَدَنِيّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجّةِ إلَى الْمُبَاهَلَةِ وَبِهَذَا قَامَ الدّينُ وَإِنّمَا جَعَلَ السّيْفَ نَاصِرًا لِلْحُجّةِ وَأَعْدَلُ السّيُوفِ سَيْفٌ يَنْصُرُ حُجَجَ اللّهِ وَبَيّنَاتِهِ وَهُوَ سَيْفُ رَسُولِهِ وَأُمّتِهِ. أ هـ {زاد المعاد حـ 3 صـ 560 ـ 561}(14/32)
فصل
قال الفخر :
روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران ، ثم إنهم أصروا على جهلهم ، فقال عليه السلام : " إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم " فقالوا : يا أبا القاسم ، بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا قالوا للعاقب : وكان ذا رأيهم ، يا عبد المسيح ما ترى ، فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط من شعر أسود ، وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي رضي الله عنه خلفها ، وهو يقول ، إذا دعوت فأمنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، ثم قالوا : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك فقال صلوات الله عليه : " فإذا أبيتم الباهلة فأسلموا ، يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما على المسلمين " ، وعليكم ما على المسلمين ، فأبوا ، فقال : " فإني أناجزكم القتال " ، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة : ألفا في صفر ، وألفا في رجب ، وثلاثين درعاً عادية من حديد ، فصالحهم على ذلك ، وقال : " والذي نفسي بيده ، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله ، حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا " ، وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود ، فجاء(14/33)
الحسن رضي الله عنه فأدخله ، ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة ، ثم علي رضي الله عنهما ثم قال : {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} [ الأحزاب : 33 ] واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 71}
فصل
قال ابن عادل :
يجوز في " مَنْ " وجهان :
أحدهما : أن تكونَ شرطية - وهو الظاهرُ - أي : إن حاجَّكَ أحدٌ فقُل له كيت وكيت.
ويجوز أن تكونَ موصولة بمعنى : " الذي " وإنما دخلت الفاءُ في الخبرِ لتضمُّنه معنى الشرطِ [ والمحاجةِ مفاعلة وهي من اثنين ، وكانَ الأمرُ كذلِكَ ].
" فِيهِ " متعلق بـ " حَاجَّكَ " أى : جادلَكَ في شأنِهِ ، والهاء فيها وجهان :
أولهما : وهو الأظهرُ - عودُها على عيسى عليه السلامُ.
الثاني : عودها على " الْحَقِّ " ؛ لأنه أقربُمذكورٍ ، والأول أظْهَرُ ؛ لأنَّ عيسى هو المحدَّثُ عنهُ ، وهو صاحبُ القصة. قوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ } متعلق بـ " حَاجَّكَ " - أيضاً - و" ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، ففاعل " جَاءََكَ " ضمير يعود عليها ، أي : من بعد الذي جاءك هو. { مِنَ الْعِلْمِ } حال من فاعل " جَاءَكَ ".
ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفيَّةً ، وحينئذٍ يقال : يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعلِ ، أو عَوْد الضمير على الحرف ؛ لأن " جَاءَكَ " لا بد له من فاعل ، وليس معنا شيء يصلح عوده عليه إلا " ما " وهي حرفية.(14/34)
والجوابُ : أنه يجوز أن يكون الفاعل قوله : { مِنَ الْعِلْمِ } و" من " مزيدة - : من بعد ما جاءك العلم - وهذا إنما يتخرج على قول الأخفش ؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً. و" مِنْ " في قوله : " مِنَ الْعِلْمِ " يحتمل أن تكون تبعيضيَّة - وهو الظاهر - وأن تكون لبيان الجنس. والمراد بالعلم هو أنَّ عيسى عبد الله ورسوله ، وليس المراد - هاهنا - بالعلم نفس العلم ؛ لن العلمَ الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك ، بل المرادُ بالعلم ، ما ذكره من الدلائل العقلية ، والدلائل الواصلة إليه بالوحي. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 282 ـ 283}
فائدة
قال الفخر :
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} أي في عيسى عليه السلام ، وقيل : الهاء تعود إلى الحق ، في قوله {الحق مِن رَّبّكَ} [ هود : 17 ] {مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} [ البقرة : 145 ] بأن عيسى عبد الله ورسوله عليه السلام وليس المراد ههنا بالعلم نفس العلم لأن العلم الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك ، بل المراد بالعلم ما ذكره بالدلائل العقلية ، والدلائل الواصلة إليه بالوحي والتنزيل ، فقل تعالوا : أصله تعاليوا ، لأنه تفاعلوا من العلو ، فاستثقلت الضمة على الياء ، فسكنت ، ثم حذفت لاجتماع الساكنين ، وأصله العلو والارتفاع ، فمعنى تعالى ارتفع ، إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجيء ، وصار بمنزلة هلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 71 ـ 72}(14/35)
وقال الآلوسى :
{ فَمَنْ حَاجَّكَ } أي جادلك وخاصمك من وفد نصارى نجران إذ هم المتصدون لذلك { فِيهِ } أي في شأن عيسى عليه السلام لأنه المحدث عنه وصاحب القصة ، وقيل : الضمير للحق المتقدم لقربه وعدم بعد المعنى { مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } أي الآيات الموجبة للعلم ، وإطلاق العلم عليها إما حقيقة لأنها كما قيل : نوع منه ، وإما مجاز مرسل ، والقرينة عليه ذكر المحاجة المقتضية للأدلة ، والجار والمجرور الأخير حال من فاعل { جَاءكَ } الراجع إلى { مَا } الموصولة ، و{ مِنْ } من ذلك تبعيضية ، وقيل : لبيان الجنس { فَقُلْ } أي لمن حاجك { تَعَالَوْاْ } أي أقبلوا بالرأي والعزيمة ، وأصله طلب الإقبال إلى مكان مرتفع ، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء { نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه للمباهلة ، وفي تقديم من قدم على النفس في المباهلة مع أنها من مظان التلف والرجل يخاطر لهم بنفسه إيذاناً بكمال أمنه صلى الله عليه وسلم وكمال يقينه في إحاطة حفظ الله تعالى بهم ، ولذلك مع رعاية الأصل في الصيغة فإن غير المتكلم تبع له في الإسناد قدم صلى الله عليه وسلم جانبه على جانب المخاطبين. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 187}
فصل
قال الفخر :
هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعد أن يدعو أبناءه ، فدعا الحسن والحسين ، فوجب أن يكونا ابنيه ، ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام {وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وسليمان} [ الأنعام : 84 ] إلى قوله {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى} [ الأنعام : 85 ] ومعلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم لا بالأب ، فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ72}
فصل
قال الفخر :(14/36)
كان في الري رجل يقال له : محمود بن الحسن الحمصي ، وكان معلم الاثنى عشرية ، وكان يزعم أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد عليه السلام ، قال : والذي يدل عليه قوله تعالى : {وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} وليس المراد بقوله {وَأَنفُسَنَا} نفس محمد صلى الله عليه وسلم لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره ، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد ، ولا يمكن أن يكون المراد منه ، أن هذه النفس هي عين تلك النفس ، فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة ، وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أن محمداً عليه السلام كان نبياً وما كان علي كذلك ، ولانعقاد الإجماع على أن محمداً عليه السلام كان أفضل من علي رضي الله عنه ، فيبقى فيما وراءه معمولاً به ، ثم الإجماع دل على أن محمداً عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء ، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية ، ثم قال : ويؤيد الاستدلال بهذه الآية ، الحديث المقبول عند الموافق والمخالف ، وهو قوله عليه السلام : (14/37)
" من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في خلته ، وموسى في هيبته ، وعيسى في صفوته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه " فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم ، وذلك يدل على أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، وأما سائر الشيعة فقد كانوا قديماً وحديثاً يستدلون بهذه الآية على أن علياً رضي الله عنه مثل نفس محمد عليه السلام إلا فيما خصه الدليل ، وكان نفس محمد أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم ، فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضاً من سائر الصحابة ، هذا تقدير كلام الشيعة ، والجواب : أنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمداً عليه السلام أفضل من علي ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان ، على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ، وأجمعوا على أن علياً رضي الله عنه ما كان نبياً ، فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى الله عليه وسلم ، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 72}(14/38)
وقال أبو حيان :
وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له.
وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء عليهم السلام سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية ، ووسع المجال فيها ، فزعم أن الولي أفضل من النبي ، ولم يقصر ذلك على وليّ واحد ، كما قصر ذلك الحمصي ، بل زعم : أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة.
قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، والنبي يأخذ عن الله بواسطة ومن أخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة.
وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام.
نعوذ بالله من ذلك ، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، لقد يقشعرّ المؤمن من سماع هذا الافتراء وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين ، إلى أنه من أهل الصلاح ، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه ، فسئل عنه.
فقال : فيه ما أخذته عن رسول الله ، وفيه ما أخذته عن الله شفاهاً ، أو شافهني به ، الشك من السامع.
فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على الله حيث ادعى مقام من كلمة الله : كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء ؟. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 504 }(14/39)
وقال الآلوسى :
واستدل بها {قصة المباهلة} الشيعة على أولوية علي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءاً على رواية مجيء علي كرم الله تعالى وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجه أن المراد حينئذ بأبنائنا الحسن والحسين وبنسائنا فاطمة ، وبأنفسنا الأمير ، وإذا صار نفس الرسول وظاهر أن المعنى الحقيقي مستحيل تعين أن يكون المراد المساواة ، ومن كان مساوياً للنبي صلى الله عليه وسلم فهو أفضل وأولى بالتصرف من غيره ، ولا معنى للخليفة إلا ذلك ، وأجيب عن ذلك أما أولاً : فبأنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير بل المراد نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم ، ويجعل الأمير داخلاً في الأبناء ، وفي العرف يعد الختن ابناً من غير ريبة ، ويلتزم عموم المجاز إن قلنا : إن إطلاق الإبن على ابن البنت حقيقة ، وإن قلنا : إنه مجاز لم يحتج إلى القول بعمومه وكان إطلاقه على الأمير وابنيه رضي الله تعالى عنهم على حد سواء في المجازية.(14/40)
وقول الطبرسي وغيره من علمائهم إن إرادة نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم من أنفسنا لا تجوز لوجود { نَدْعُ } والشخص لا يدعو نفسه هذيان من القول ، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث دعته نفسه إلى كذا ، ودعوت نفسي إلى كذا ، وطوعت له نفسه ، وآمرت نفسي ، وشاورتها إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فيكون حاصل { نَدْعُ أَنفُسَنَا } نحضر أنفسنا وأي محذور في ذلك على أنا لو قررنا الأمير من قبل النبي صلى الله عليه وسلم لمصداق أنفسنا فمن نقرره من قبل الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة { نَدْعُ } إذ لا معنى لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وأبناءهم ونساءهم بعد قوله : { تَعَالَوْاْ } كما لا يخفى. وأما ثانياً : فبأنا لو سلمنا أن المراد بأنفسنا الأمير لكن لا نسلم أن المراد من النفس ذات الشخص إذ قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملة ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسِهِمْ مِّن دياركم } [ البقرة : 84 ] { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] { لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً } [ النور : 12 ] فلعله لما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم في النسب والمصاهرة واتحاد في الدين عبر عنه بالنفس ، وحينئذ لا تلزم المساواة التي هي عماد استدلالهم على أنه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم الاشتراك في النبوة والخاتمية والبعثة إلى كافة الخلق ونحو ذلك وهو باطل بالإجماع لأن التابع دون المتبوع ولو كان المراد المساواة في البعض لم يحصل الغرض لأن المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل من هي له أفضل وأولى بالتصرف بالضرورة ، وأما ثالثاً : فبأن ذلك لو دلّ على خلافة الأمير كما زعموا لزم كون الأمير إماماً في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو باطل بالاتفاق وإن قيد بوقت دون وقت فمع أن التقييد(14/41)
مما لا دليل عليه في اللفظ لا يكون مفيداً للمدعي إذ هو غير متنازع فيه لأن أهل السنة يثبتون إمامته في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائماً في محل النزاع ، ولضعف الاستدلال به في هذا المطلب بل عدم صحته كالاستدلال به على أفضلية الأمير علي كرم الله تعالى وجهه على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لزعم ثبوت مساواته للأفضل منهم فيه لم يقمه محققو الشيعة على أكثر من دعوى كون الأمير والبتول والحسين أعزة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع عبد الله المشهدي في كتابه "إظهار الحق ".
وقد أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال : "لما نزلت هذه الآية { قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ } الخ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلي" وهذا الذي ذكرناه من دعائه صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأربعة المتناسبة رضي الله تعالى عنهم هو المشهور المعول عليه لدى المحدثين ، وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهم "أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده" وهذا خلاف ما رواه الجمهور.(14/42)
واستدل ابن أبي علان من المعتزلة بهذه القصة أيضاً على أن الحسنين كانا مكلفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين ، وذهب الإمامية إلى أنها يشترط فيها كمال العقل والتمييز ، وحصول ذلك لا يتوقف على البلوغ فقد يحصل كمال قبله ربما يزيد على كمال البالغين فلا يمتنع أن يكون الحسنان إذ ذاك غير بالغين إلا أنهما في سن لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل على أنه يجوز أن يخرق الله تعالى العادات لأولئك السادات ويخصهم بما لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم به وهم القوم الذين لا تحصى خصائصهم. وذهب النواصب إلى أن المباهلة جائزة لإظهار الحق إلى اليوم إلا أنه يمنع فيها أن يحضر الأولاد والنساء ، وزعموا رفعهم الله تعالى لا قدراً ، وحطهم ولا حط عنهم وزراً أن ما وقع منه صلى الله عليه وسلم كان لمجرد إلزام الخصم وتبكيته وأنه لا يدل على فضل أولئك الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام ، وأنت تعلم أن هذا الزعم ضرب من الهذيان ، وأثر من مس الشيطان.
وليس يصح في الأذهان شيء... إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن ذهب إلى جواز المباهلة اليوم على طرز ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم استدل بما أخرجه عبد بن حميد عن قيس بن سعد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان بينه وبين آخر شيء فدعاه إلى المباهلة ، وقرأ الآية ورفع يديه فاستقبل الركن وكأنه يشير بذلك رضي الله تعالى عنه إلى كيفية الابتهال وأن الأيدي ترفع فيه ، وفيما أخرجه الحاكم تصريح بذلك وأنها ترفع حذو المناكب. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 189 ـ 190}
قوله تعالى {ثُمَّ نَبْتَهِلْ}
قال الفخر :
قوله {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نتباهل ، كما يقال اقتتل القوم وتقاتلوا واصطحبوا وتصاحبوا ، والابتهال فيه وجهان(14/43)
أحدهما : أن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء ، وإن لم يكن باللعن ، ولا يقال : ابتهل في الدعاء إلا إذا كان هناك اجتهاد
والثاني : أنه مأخوذ من قولهم عليه بهلة الله ، أي لعنته وأصله مأخوذ مما يرجع إلى معنى اللعن ، لأن معنى اللعن هو الإبعاد والطرد وبهله الله ، أي لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها ، بل هي مرسلة مخلاة ، كالرجل الطريد المنفي ، وتحقيق معنى الكلمة : أن البهل إذا كان هو الإرسال والتخلية فكان من بهله الله فقد خلاه الله ووكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شك فيه فمن باهل إنساناً ، فقال : علي بهلة الله إن كان كذا ، يقول : وكلني الله إلى نفسي ، وفرضني إلى حولي وقوتي ، أي من كلاءته وحفظه ، كالناقة الباهل التي لا حافظ لها في ضرعها ، فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة لها في الدفع عن نفسها ، ويقال أيضاً : رجل باهل ، إذا لم يكن معه عصاً ، وإنما معناه أنه ليس معه ما يدفع عن نفسه ، والقول الأول أولى ، لأنه يكون قوله {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي ثم نجتهد في الدعاء ، ونجعل اللعنة على الكاذب وعلى القول الثاني يصير التقدير : ثم نبتهل ، أي ثم نلتعن {فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين} وهي تكرار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 72 ـ 73}
وقال ابن عادل :
قوله : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } قال ابنُ عبّاس : نتضرع في الدعاء.(14/44)
وقال الكلبي : نجتهد ونبالغ في الداعاء وقال الكسائيُّ وأبو عبيدة : نَلتعن. والابتهال : افتعال ، من البُهْلَة ، وهي - بفتح الباء وضمها - اللعنة ، قال الزمخشريُّ : ثم نتباهل بأن نقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم والبهلة - بالفتح والضم - اللعنة ، وبَهَلَه الله : لعنه وأبعده من رحمته من قولك : أبهله إذا أهمله ، وناقة باهل : لا صِرَارَ عليها ، أي : مرسلة مُخَلاَّة - كالرجل الطريد المنفي - وإذا كان البهل هو الإرسال والتخلية ، فمن بهله الله فقد خلاه ، ووكله إلى نفسه ، فهو هالك لا شك فيه - كالناقة الباهل التي لا حافظ لها ، فمن شاء حلبها ، لا تقدر على الدفع عن نفسها هذا أصل الابتهال ، ثم استُعْمِل في كل دعاء مُجْتَهَدٍ فيه - وإن لم يكن التعاناً - [ يعني أنه اشتهر في اللغة : فلان يبتهل إلى الله - تعالى - في قضاء حاجته ، ويبتهل في كشف كربته ].
قال شهاب الدّين : ما أحسن ما جعل " الافتعال " - هنا - بمعنى التفاعل ؛ لأن المعنى لا يجيء إلا على ذلك ، وتفاعل و" افتعل " أخوان في مواضع ، نحو اجتوروا وتجاوروا ، واشتوروا وتشاوروا ، واقتتل القوم وتقاتلوا ، واصطحبوا وتصاحبوا ، لذلك صحت واو اجتوروا واشتوروا.
قال الراغبُ : وأصل البهل : كون الشيء غيرَ مراعى ، والباهل : البعير المُخَلَّى عن قيده والناقة المخلَّى ضرعها عن صِرَارٍ ، وأنشد لامرأة : أتيتك باهلاً غير ذات صِرار.
وأبهلت فلاناً : خليته وإرادته ؛ تشبيهاً بالبعير الباهل ، والبهل والابتهال في الدعاء : الاسترسال فيه والتضرع ، نحو { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل } ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن.
قال الشاعر : ( وهو لبيد ) : [ الرمل ]
مِنْ قُرُومٍ سَادَةٍ في قَوْمِهِمْ... نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ(14/45)
وظاهر هذا أنَّ الابتهال عام في كل دعاء - لعناً كان أو غيره - ثم خُصَّ في هذه الآية باللعن ، وظاهر عبارة الزمخشري أن أصله خصوصيته باللعن ، ثم تُجُوِّز فيه ، فاستُعمِل في كل اجتهاد في دعاء - لعناً كان ، أو غيره - والظاهر من أقوال اللغويين ما ذكره الراغب.
قال أبو بكر بن دُرَيْد في مقصورته : [ الرجز ]
لَمْ أرَ كَالْمُزْنِ سَوَاماً بُهَّلا تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهْيَ سُدَى
بهلاً جمع باهلة - أي : مهملة ، وفاعلة تجمع على فُعَّل ، نحو ضُرَّب. والسُّدَى : المهمل - أيضاً - وأتى بـ " ثُمَّ " هنا ، تنبيهاً على خطئهم في مباهلته ، كأنه يقول لهم : لا تعجلوا ، وتَأنَّوْا ؛ لعلَّه أن يظهر لكم الحق ، فلذلك أتى بحرف التراخي.
قوله : { فَنَجْعَل } هي المتعدية لاثنين - بمعنى نصير - و{ عَلَى الكاذبين } هو المفعول الثاني. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 287 ـ 288}
لطيفة
قال ابن عادل :
ورد لفظ " الْعِلْم " في القرآن على أربعة [ أضربٍ ].
الأول : العلم القرآن ، قال تعالى : { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } [ آل عمران : 61 ].
الثاني : النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } [ الجاثية : 17 ] أي : محمد ، لما اختلف فيه أهلُ الكتاب.
الثالث : الكيمياء ، قال تعالى - حكاية عن قارون- : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } [ القصص : 78 ].
الرابع : الشرك ، قال تعالى : { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } [ غافر : 83 ] أي من الشرك. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 283}(14/46)
فصل
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [61].
تفريع على قوله : {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فلا تكن من الممترين} لما فيه من إيماء إلى أن وفد نجران ممترون في هذا الذي بين الله لهم في هذه الآيات : أي فإن استمروا على محاجتهم إياك مكابرة في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة.
ذلك أن تصميمهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محضة بعد ما جاءك من العلم وبينت لهم ، فلم يبق أوضح مما حاججتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة ، وقلة يقين ، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا.
و {تعالوا} اسم فعل لطلب القدوم ، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قصد العلو ، فكأنهم أرادوا في الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور ، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني :
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا . . .
تعالي أقاسك الهموم تعالي
فقد لحنوه فيه.
ومعنى : {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره ، والمقصود هو قوله : {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} إلى آخره.
وثم هنا للتراخي الرتبي.
والابتهال مشتق من البهل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقا لأن الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول.
ومعنى {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ } فندع بإيقاع اللعنة على الكاذبين.
وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاء لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يكفوا.(14/47)
روى المفسرون وأهل السيرة أن وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب : نلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي.
وهذه المباهلة لعلها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم.
وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء : لأنه لما ظهرت مكابرتهم في الحق وحب الدنيا ، علم أن من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحب إليه من الحق كما قال شعيب أرهطي أعز عليكم من الله وأنه يخشى سوء العيش ، وفقدان الأهل ، ولا يخشى عذاب الآخرة.
والظاهر أن المراد بضمير المتكلم المشارك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن معه من المسلمين ، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللائي كن معهم.
والنساء : الأزواج لا محالة ، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا ورد غير مضاف ، قال تعالى : {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب : 32] وقال : {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} وقال النابغة :
حذارا على أن لا تنال مقادتي . . .
ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا عَلَى الْكَاذِبِينَ وإياكم ، وأما الأبناء فيحتمل أن المراد شبانهم ، ويحتمل أنه يشمل الصبيان ، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة.
والابتهال افتعال من البهل ، وهو اللعن ، يقال : بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بهلة وبهلة بالضم والفتح ثم استعمل الابتهال مجازا مشهورا في مطلق الدعاء قال الأعشى :
لا تقعدن وقد أكلتها حطبا . . .
تعوذ من شرها يوما وتبتهل
وهو المراد هنا بدليل أنه فرع عليه قوله : {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} على الكاذبين.
وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلا واثق بأنه على الحق.(14/48)
وهذه المباهلة لم تقع لأن نصارى نجران لم يستجيبوا إليها.
وقد روى أبو نعيم في الدلائل أن النبي هيأ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ليصحبهم معه للمباهلة.
ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 113 ـ 114}
ومن فوائد العلامة الجصاص
قال رحمه الله :
قَوْله تَعَالَى : { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } الِاحْتِجَاجُ الْمُتَقَدِّمُ لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَهُمْ { وَفْدُ نَجْرَانَ وَفِيهِمْ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ رَأَيْت وَلَدًا مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ } } ؛ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.(14/49)
وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيمَا حَكَى عَنْ الْمَسِيحِ : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْإِنْجِيلِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ : " إنِّي ذَاهِبٌ إلَى أَبِي ، وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ " ؛ وَالْأَبُ السَّيِّدُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ : وَأَبِي ، وَأَبِيكُمْ ؟ فَعَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْأُبُوَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لَلْبُنُوَّةِ ، فَلَمَّا قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَفُوهُ وَاعْتَرَفُوا بِهِ ، وَأَبْطَلَ شُبْهَتَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ بِأَمْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُمْ حِينَئِذٍ إلَى الْمُبَاهَلَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } الْآيَةَ ؛ فَنَقَلَ رُوَاةُ السِّيَرِ وَنَقْلَةُ الْأَثَرِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ دَعَا النَّصَارَى الَّذِينَ حَاجُّوهُ إلَى الْمُبَاهَلَةِ ، فَأَحْجَمُوا عَنْهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : إنْ بَاهَلْتُمُوهُ اضْطَرَمَ الْوَادِي عَلَيْكُمْ نَارًا ، وَلَمْ يَبْقَ نَصْرَانِيٌّ ، وَلَا نَصْرَانِيَّةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }.(14/50)
وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَحْضُ شُبَهِ النَّصَارَى فِي أَنَّهُ إلَهٌ أَوْ ابْنُ الْإِلَهِ ؛ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّهُمْ عَرَفُوا يَقِينًا أَنَّهُ نَبِيٌّ مَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمُبَاهَلَةِ ؟ فَلَمَّا أَحْجَمُوا وَامْتَنَعُوا عَنْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَرَفُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ بِالدَّلَائِلِ الْمُعْجِزَاتِ وَبِمَا وَجَدُوا مِنْ نَعْتِهِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ.(14/51)
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ابْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ { أَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ حِينَ أَرَادَ حُضُورَ الْمُبَاهَلَةِ وَقَالَ : تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنُونَ غَيْرُهُمَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ } وَقَالَ { حِينَ بَالَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ صَغِيرٌ : لَا تُزْرِمُوا ابْنِي } وَهُمَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَيْضًا ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى } وَإِنَّمَا نِسْبَتُهُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يُسَمَّيَا ابْنَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِمَا ، وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ إطْلَاقِ اسْمِ ذَلِكَ فِيهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي } ؛ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ أَوْصَى لَوَلَدِ فُلَانٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَلَهُ وَلَدُ ابْنٍ وَوَلَدُ ابْنَةٍ : " إنَّ الْوَصِيَّةَ لَوَلَدِ الِابْنِ دُونَ وَلَدِ الِابْنَةِ ".(14/52)
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَلَدَ الِابْنَةِ يَدْخُلُونَ فِيهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فِي جَوَازِ نِسْبَتِهِمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْأَثَرِ ، وَأَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ النَّاسِ إنَّمَا يُنْسَبُونَ إلَى الْآبَاءِ وَقَوْمِهِمْ دُونَ قَوْمِ الْأُمِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَاشِمِيَّ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً رُومِيَّةً أَوْ حَبَشِيَّةً أَنَّ ابْنَهُ يَكُونُ هَاشِمِيًّا مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ ؟ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ : بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ فَنِسْبَةُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُنُوَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَخْصُوصٌ بِهِمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمَا ؛ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَعَالِمُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِيمَنْ سِوَاهُمَا ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى الْأَبِ وَقَوْمِهِ دُونَ قَوْمِ الْأُمِّ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 295 ـ 296}
أسئلة وأجوبة للإمام الفخر
السؤال الأول : الأولاد إذا كانوا صغاراً لم يجز نزول العذاب بهم وقد ورد في الخبر أنه صلوات الله عليه أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليهما السلام فما الفائدة فيه ؟.(14/53)
والجواب : إن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلكت معهم الأولاد والنساء ، فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً ، وفي حق الصبيان لا يكون عقاباً ، بل يكون جارياً مجرى إماتتهم وإيصال الآلام والأسقام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده وأهله شديدة جداً فربما جعل الإنسان نفسه فداءً لهم وجنة لهم ، وإذا كان كذلك فهو عليه السلام أحضر صبيانه ونساءه مع نفسه وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ليكون ذلك أبلغ في الزجر وأقوى في تخويف الخصم ، وأدل على وثوقه صلوات الله عليه وعلى آله بأن الحق معه.
السؤال الثاني : هل دلت هذه الواقعة على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ؟.
الجواب : أنها دلّت على صحة نبوته عليه السلام من وجهين
أحدهما : وهو أنه عليه السلام خوفهم بنزول العذاب عليهم ، ولو لم يكن واثقاً بذلك ، لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه لأن بتقدير : أن يرغبوا في مباهلته ، ثم لا ينزل العذاب ، فحينئذ كان يظهر كذبه فيما أخبر ومعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان من أعقل الناس ، فلا يليق به أن يعمل عملاً يفضي إلى ظهور كذبه فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم
وثانيهما : إن القوم لما تركوا مباهلته ، فلولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته ، وإلا لما أحجموا عن مباهلته.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنهم كانوا شاكين ، فتركوا مباهلته خوفاً من أن يكون صادقاً فينزل بهم ما ذكر من العذاب ؟.
قلنا هذا مدفوع من وجهين
الأول : أن القوم كانوا يبذلونه النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولو كانوا شاكين لما فعلوا ذلك(14/54)
الثاني : أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا : إنه والله هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل ، وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال فكان ذلك تصريحاً منهم بأن الامتناع عن المباهلة كان لأجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند الله تعالى.
السؤال الثالث : أليس إن بعض الكفار اشتغلوا بالمباهلة مع محمد صلى الله عليه وسلم ؟ حيث قالوا {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [ الأنفال : 32 ] ثم إنه لم ينزل العذاب بهم ألبتة ، فكذا ههنا ، وأيضاً فبتقدير نزول العذاب ، كان ذلك مناقضاً لقوله {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [ الأنفال : 33 ].
والجواب : الخاص مقدم على العام ، فلما أخبر عليه السلام بنزول العذاب في هذه السورة على التعيين وجب أن يعتقد أن الأمر كذلك.
السؤال الرابع : قوله {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} هل هو متصل بما قبله أم لا ؟.
والجواب : قال أبو مسلم : إنه متصل بما قبله ولا يجوز الوقف على قوله {الكاذبين} وتقدير الآية فنجعل لعنة الله على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق وعلى هذا التقدير كان حق {إن} أن تكون مفتوحة ، إلا أنها كسرت لدخول اللام في قوله {لَهُوَ} كما في قوله {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} [ العاديات : 11 ] وقال الباقون : الكلام تم عند قوله {عَلَى الكاذبين} وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلقة بما قبلها ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 73 ـ 74}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ } الآية.(14/55)
يعني بعدما ظَهَرْتَ على صدق ما يُقال لك ، وتَحقَّقْتَ بقلبك معرفة ما خاطبناك ، فلا تحتشم من حملهم على المباهلة ، وثقْ بأن لك القهر والنصرة ، وأَنَّا توليناك ، وفي كنف قُرْبنا آويناك ، ولو أنهم رغبوا في هذه المباهلة لأحرقت الأودية عليهم نيراناً مؤججة ، ولكن أخَّر الله - سبحانه - ذلك عنهم لعلمه بِمَنْ في أصلابهم من المؤمنين.
والإشارة في هذه الآية لِمَنْ نزلت حالته عن أحوال الصديقين ، فإنه إذا ظهرت أنوارهم انخنست آثار هؤلاء فلا إقرار ، ولا عنهم آثار. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 247}
فائدة
قال أبو حيان :
قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله ، وهو : { إذ قال الله يا عيسى } والله لم يشافهه بذلك ، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة.
والاستعارة في : { متوفيك } وفي : { فوق الذين كفروا } والتفصيل لما أجمل في : { إليّ مرجعكم فأحكم } بقوله : فأما ، وأمّا ، والزيادة لزيادة المعنى في { من ناصرين } أو : المثل في قوله { إن مثل عيسى }.
والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله { نتلوه } وفي { فيكون } وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في { كمثل آدم } وبالتجوز بتسمية الشيء باسم أصله في { خلقه من تراب }.
وخطاب العين ، والمراد به غيره ، في { فلا تكن من الممترين }.
والعام يراد به الخاص في { ندع أبناءنا } الآية والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال ، والحذف في مواضع كثيرة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 504 ـ 505}(14/56)
قوله تعالى { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان العلم الأزلي حاصلاً بأن المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام يكفون عن المباهلة بعد المجادلة خوفاً من الاستئصال في العاجلة مع الخزي الدائم في الآجلة ، وكان كفهم عن ذلك موجباً للقطع بإبطالهم في دعواهم لكل من يشاهدهم أو يتصل به خبرهم ، حسن كل الحسن تعقيب ذلك بقوله : - تنبيهاً على ما فيه من العظمة - {إن هذا} أي الذي تقدم ذكره من أمر عيسى عليه السلام وغيره {لهو} أي خاصة دون غيره مما يضاده {القصص الحق} والقصص - كما قال الحرالي - تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئاً بعد شيء على ترتيبها ، في معنى قص الأثر ، وهو اتباعه حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر - انتهى.
ولما بدأ سبحانه وتعالى القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلاً على ذلك بأنه الحي القيوم صريحاً ختمها بمثل ذلك إشارة وتلويحاً فقال - عاطفاً على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله معمماً للحكم معرقاً بزيادة الجار في النفي : {وما من إله} أي معبود بحق ، لأن له صفات الكمال ، فهو بحيث يضر وينفع {إلا الله} أي المحيط بصفات الكمال ، لأنه الحي القيوم - كما مضى التصريح به ، فاندرج في ذلك عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره ، وقد علم من هذا السياق أنهم لما علموا تفرده تركوا المباهلة رهبة منه سبحانه وتعالى علماً منهم بأنهم له عاصون ولحقّه مضيعون وأن ما يدعون إلهيته لا شيء في يده من الدفع عنهم ولا من النفع لهم ، فلا برهان أقطع من هذا.(14/57)
ولما كان في نفي العزة والحكمة عن غيره تعالى نوع خفاء أتى بالوصفين على طريق الحصر فقال - عاطفاً على ما قدّرته مام أرشد السياق إلى أنه علة ما قبله من نفي : {وإن الله} أي الملك الأعظم {لهو} أي وحده {العزيز الحكيم} وهذا بخلاف الحياة والقيومية فإنه لم يؤت بهما على طريق الحصر لظهورهما ، وقد علم بلا شبهة بما علم من أنه لا عزيز ولا حكيم إلا هو أنه لا إله إلا هو. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 107 ـ 108}
فصل
قال الفخر :
قوله {إِنَّ هَذَا} إشارة إلى ما تقدم ذكره من الدلائل ، ومن الدعاء إلى المباهلة {لَهُوَ القصص الحق} والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين ، ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة فبين تعالى إن الذي أنزله على نبيه هو القصص الحق ليكون على ثقة من أمره ، والخطاب وإن كان معه فالمراد به الكل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 74}
فصل
قال ابن عادل :
قال أبو مُسْلِمٍ : هذا الكلام متصل بما قبله ، ولا يجوز الوقف على قوله : { الكاذبين } ، وتقدير الآية : فنجعلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِيْنَ بأن هذا هو القصص الحقُ ، وعلى هذا التقدير كان حق " إنَّ " أن تكون مفتوحةً ، إلا أنها كُسِرَت ؛ لدخول اللاَّمِ في قوله : { لَهُوَ الْقَصَصُ } ، كما في قوله : { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } [ العاديات : 11 ].
قال الباقون : الكلام تمّ عند قوله : { عَلَى الكاذبين } وما بعده جملة أخْرَى مستقلة غير مُتعَلِّقةٍ بما قبلها ، فَقَوْلُهُ : { هذا } الكلام إشارةٌ إلى ما تقدم من الدلائلِ والدعاءِ إلى الْمُبَاهَلَةِ ، وأخبار عيسى.
وقيل : هو إشارة لما بعده - وهو قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } - وضُعفَ هذا بوجهين :
أحدهما : أنَّ هذا ليس بقصصٍ.
الثاني : أن مقترن بحرف العطف.(14/58)
واعتذر بعضهم عن الأول ، فقال : إن أراد بالقصص الخبر ، فيصح على هذا ، ويكون التقدير : إن الخبر الحق { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } ولكن الاعتراض الثاني باقٍ ، لم يُجَبْ عنه.
و " هُوَ " يجوز أن يكون فَصْلاً ، و" القصص " خبر " إن " ، و" الْحَقُّ " صفته ، ويجوز أن يكون " هو " مبتدأ و" الْقَصَصُ " خبره ، والجملة خبر " إنَّ ".
والقصص مصدر قولهم : قَصَّ فلانٌ الحديثَ ، يَقُصُّهُ ، قَصًّا ، وقَصَصاً وأصله : تتبع الأثَر ، يقال : فلان خرج يقصُّ أثَرَ فلان ، أي : يتبعه ، ليعرف أين ذَهَبَ. ومنه قوله : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] ، أي ، اتبعي أثره ، وكذلك القاصّ في الكلام ، لأنه يتتبع خَبراً بعد خبر. وقد تقدم التنبيه على قراءتي " لهْو " بسكون الهاء وضمها ؛ إجراء لها مجرى عضد.
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : لم جاز دخولُ اللامِ على الفَصْل ؟
قلت : إذا جاز دخولُها على الخبر كان دخولُها على الفَصْل أجودَ ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 191 ـ 192}
قوله تعالى {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله}
قال الفخر :
{وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} هذا يفيد تأكيد النفي ، لأنك لو قلت عندي من الناس أحد ، أفاد أن عندك بعض الناس ، فإذا قلت ما عندي من الناس من أحد ، أفاد أنه ليس عندك بعضهم ، وإذا لم يكن عندك بعضهم ، فبأن لا يكون عندك كلهم أولى فثبت أن قوله {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحد الحق سبحانه وتعالى.(14/59)
ثم قال : {وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم} وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النصارى ، وذلك لأن اعتمادهم على أمرين أحدهما : أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فكأنه تعالى قال : هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية ، بل لا بد وأن يكون عزيزاً غالباً لا يدفع ولا يمنع ، وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ما كان كذلك ، وكيف وأنتم تقولون إن اليهود قتلوه ؟
والثاني : أنهم قالوا : إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها ، فيكون إلها ، فكأنه تعالى قال : هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلهية ، بل لا بد وأن يكون حكيماً ، أي عالماً بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور ، فذكر {العزيز الحكيم} ههنا إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ونظير هذه الآية ما ذكره تعالى في أول السورة من قوله {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} [ آل عمران : 6 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 75}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن { مِنْ إله } مبتدأ ، و" مِنْ " مزيدة فيه ، و" إلاَّ اللهُ " خبره ، تقديره : ما إلَهٌ إلا اللهُ ، وزيدت " مِنْ " للاستغراق والعموم.
قال الزمخشريُّ : و" مِنْ " - في قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } - بمنزلة البناء على الفتح في : لا إلَهَ إلا اللهُ - في إفادة معنى الاستغراق.
قال شهابُ الدينِ : الاستغراق في : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، لم نستفده من البناء على الفتح ، بل استفدناه من " مِنْ " المقدَّرة ، الدالة على الاستغراق ، نَصَّ النحويون على ذلك ، واستدلوا عليه بظهورها في قول الشاعر : [ الطويل ]
فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ... وَقَالَ : ألاَ لاَ مِنْ سَبيلٍ إلَى هِنْدٍ(14/60)
الثاني : أن يكون الخبر مُضْمَراً ، تقديره : وما من إله لنا إلا الله ، و{ إِلاَّ الله } بدل من موضع { مِنْ إله } ، لأن موضعه رفع بالابتداء ، ولا يجوز في مثله الإبدالُ من اللفظ ، لِئَلاّ يلزم زيادة " مِنْ " في الواجب ، وذلك لا يجوز عند الجمهور.
ويجوز في مثل هذا التركيب نصب ما بعد " إِلاَّ " على الاستثناء ، ولكن لم يُقرأ به ، إلا أنَّه جائز لُغَةً أنْ يُقَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ - برفع لفظ الجلالة بدلاً من الموضع ، ونصبها على الاستثناء من الضمير المستكن في الخبر المقدر ؛ إذ التقدير : لا إله استقر لنا إلا الله.
وقال بَعْضُهُم : دخلت " مِنْ " لإفادة تأكيد النفي ؛ لأنك لو قلتَ : ما عندي من الناس أحد ، أفاد أن عندك بعض الناس. فإذا قلتَ : ما عندي من الناس من أحدٍ ، أفاد أن ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أوْلَى ، فثبت أن قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحدُ الحقُّ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 192 ـ 193}
فائدة
قال الآلوسى :
{ وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } رد النصارى في تثليثهم ، وكذا فيه رد على سائر الثنوية ، و{ مِنْ } زائدة للتأكيد كما هو شأن الصلات ، وقد فهم أهل اللسان كما قال الشهاب أنها لتأكيد الاستغراق المفهوم من النكرة المنفية لاختصاصها بذلك في الأكثر ، وقد توقف محب الدين في وجه إفادة الكلمات المزيدة للتأكيد بأي طريق هي فإنها ليست وضعية ، وأجاب بأنها ذوقية يعرفها أهل اللسان ، واعترض بأن هذا حوالة على مجهول فلا تفيد ، فالأولى أن يقال : إنها وضعية لكنه من باب الوضع النوعي فتدبر(14/61)
{ وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز } أي الغالب غلبة تامة ، أو القادر قدرة كذلك ، أو الذي لا نظير له { الحكيم } أي المتقن فيما صنع ، أو المحيط بالمعلومات ، والجملة تذييل لما قبلها ، والمقصود منها أيضاً قصر الإلهية عليه تعالى رداً على النصارى أي قصر إفراد فالفصل والتعريف هنا كالفصل والتعريف هناك فما قيل : إنهما ليسا للحصر إذ الغالب على الأغيار لا يكون إلا واحداً فيلغو القصر فيه إلا أن يجعل قصر قلب ، والمقام لا يلائمه مما لا عصام له كما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 191}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال عليه الرحمة :
جملة { إن هذا لهو القصص الحق } وما عطف عليها بالواو اعتراض لبيان ما اقتضاه قوله : { الكاذبين } [ آل عمران : 61 ] لأنهم نفوا أن يكون عيسى عبد الله ، وزعموا أنه غلب فإثبات أنه عبد هو الحق.
واسم الإشارة راجع إلى ما ذكر من نفي الإلهية عن عيسى.
والضمير في قوله لَهو القصصُ ضمير فصل ، ودخلت عليه لام الابتداء لزيادة التقوية التي أفادَها ضمير الفصل ؛ لأنّ اللام وَحدها مفيدة تقوية الخبر وَضمير الفصل يفيد القصر أي هذا القصص لا ما تَقُصُّه كتُب النصارى وعَقائِدهم.
والقصَص بفتح القاف والصاد اسم لما يُقَص ، يقال : قَصّ الخبر قَصّاً إذا أخبر به ، والقَصُّ أخص من الإخبار ؛ فإنّ القص إخبار بخبرٍ فيه طولٌ وتفصيل وتسمى الحادثة التي من شأنها أن يُخبر بها قِصة بكسر القاف أي مقصوصة أي مما يقُصها القُصّاص ، ويقال للذي ينتصب لتحديث الناس بأخبار الماضين قَصّاص بفتح القاف.
فالقصصُ اسم لما يُقص : قال تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص وقيل : هو اسم مصدر وليس هو مصدراً ، ومن جرى على لسانه من أهل اللغة أنه مصدر فذلك تسامح من تسامح الأقدمين ، فالقصّ بالإدغام مصدر ، والقصص بالفَكّ اسم للمصدر واسم للخبر المقصوص.
وقوله : وما من إله إلا الله } تأكيد لحقيَّة هذا القصص.(14/62)
ودخلت من الزائدة بعد حرف نفي تنصيصاً على قصد النفي الجنس لتدل الجملة على التوحيد ، ونفي الشريك بالصراحة ، ودلالةِ المطابقة ، وأن ليس المراد نفي الوحدة عن غير الله ، فيوهم أنه قد يكون إلاَ هَان أو أكثر في شقّ آخر ، وإن كان هذا يؤول إلى نفي الشريك لكن بدلالة الالتزام.
وقوله : { وإن الله لهو العزيز الحكيم } فيه ما في قوله : { إن هذا لهو القصص الحق } فأفاد تقوية الخَبر عَن الله تعالى بالعزّة والحكم ، والمقصود إبطال إلهية المسيح على حسب اعتقاد المخاطبين من النصارى ، فإنهم زعموا أنه قتله اليهود وذلك ذِلّة وعجز لا يلتئمان مع الإلهية فكيف يكون إله وهو غير عزيز وهو محكوم عليه ، وهو أيضاً إبطال لإلهيته على اعتقادنا ؛ لأنه كان محتَاجَاً لإنقاذه من أيدي الظالمين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 115}
قوله تعالى {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ثبت ذلك كله سبب عنه تهديدهم على الإعراض بقوله - منبهاً بالتعبير بأداة الشك على أنه لا يعرض عن هذا المحل البين إلا من كان عالماً بأن مبطل ، ومثل ذلك لا يظن بذي عقل ولا مروة ، فمن حق ذكره أن يكون من قبيل فرض المحالات : {فإن تولوا} أي عن إجابتك إلى ما تدعوا إليه {فإن الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {عليهم} بهم ، هكذا كان الأصل ، فعدل عنه لتعليق الحكم بالوصف تنفيراً من مثل حالهم فقال : {بالمفسدين} أي فهو يحكم فيهم بعلمه فينتقم منهم فسادهم بعزته انتقاماً يتقنه بحكمته فينقلبون منه بصفقة خاسر ولا يجدون من ناصر. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 108}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :(14/63)
وقوله : { فَإِنْ تَوَلَّوْا } يجوز أن يكون مضارعاً - حُذِفَتْ منه إحدى التاءَين ، تخفيفاً - على حَدِّ قراءة : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] و{ تَذَكَّرُون } [ الأنعام : 152 ] - ويؤيد هذا نسق الكلام ، ونظمُه في خطاب من تقدم في قوله : { تَعَالَوْا } ثم جرى معهم في الخطاب إلى أن قال لهم : فَإن تولّوا.
قال ابو البقاء : " ويجوز أن يكون مستقبلاً ، تقديره : تتولوا - ذكره النَّحَّاسُ - وهو ضعيفٌ ؛ لأن حَرْفَ الْمُضَارَعَِ لا يُحْذَف ".
قال شهاب الدين : " وهذا ليس بشيء ؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَف - في هذا النحو - من غير خِلافٍ. وسيأتي من ذلك طائفة كثيرة ".
وقد أجمعوا على الحذف في قوله : { تَنَزَّلُ الملائكة وَالرُّوحُ فِيهَا } [ القدر : 4 ].
ويجوز أن يكون ماضياً ، أي : فإن تَوَلَّى وَفْدُ نجرانَ المطلوب مباهلتهم ، ويكون - على ذلك - في الكلام التفات ؛ إذْ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبةٍ.
قوله : { بِالْمُفْسِدِينَ } من وقوع الظاهر موقعَ المُضْمَرِ ، تنبيهاً على العلة المقتضية للجزاءِ ، وكان الأصل : فإن الله عليم بكم - على الأول - وبهم - على الثاني. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 193 ـ 194}
فصل
قال الفخر
والمعنى : فإن تولوا عما وصفت من أن الله هو الواحد ، وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً قادراً على جميع المقدورات ، حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات مع أن عيسى عليه السلام ما كان عزيزاً غالباً ، وما كان حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات.
فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى الله ، فإن الله عليم بفساد المفسدين ، مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة ، قادر على مجازاتهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 75}(14/64)
وقال الآلوسى :
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات ، وهذا على تقدير أن يكون الفعل ماضياً ، ويحتمل أن يكون مضارعاً وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفاً ، وأصله تتولوا { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } أي بهم أو بكم ، والجملة جواب الشرط في الظاهر لكن المعنى على ما يترتب على علمه { بالمفسدين } من معاقبته لهم ، فالكلام للوعيد ووضع الظاهر موضع الضمير تنبيهاً على العلة المقتضية للجزاء والعقاب وهي الإفساد ، وقيل : المعنى على أن الله عليم بهؤلاء المجادلين بغير حق وبأنهم لا يقدمون على مباهلتك لمعرفتهم نبوتك وثبوت رسالتك ، والجملة على هذا أيضاً عند التحقيق قائمة مقام الجواب إلى أنه ليس الجزاء والعقاب ، والكلام منساق لتسليته صلى الله عليه وسلم ولا يخفى ما فيه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 191}
وقال أبو حيان :
والمعنى : ما يترتب على علمه بالمفسدين من معاقبته لهم ، فعبر عن العقاب بالعلم الذي ينشأ عنه عقابهم ، ونبه على العلة التي توجب العقاب ، وهي الإفساد ، ولذلك أتى بالاسم الظاهر دون الضمير ، وأتى به جمعاً ليدل على العموم الشامل لهؤلاء الذين تولوا ولغيرهم ، ولكونه رأس آية ، ودل على أن توليهم إفساد أي إفساد. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 505 ـ 506}
وقال ابن الجوزى :
قوله تعالى : { فإن تولوا } فيه ثلاثة أقوال.
أحدها : عن الملاعنة ، قاله مقاتل.
والثاني : أنه عن البيان الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج.
والثالث : عن الإقرار بوحدانية الله ، وتنزيهه عن الصاحبة والولد ، قاله أبو سليمان الدمشقي ، وفي الفساد هاهنا قولان.
أحدهما : أنه العمل بالمعاصي ، قاله مقاتل.
والثاني : الكفر ، ذكره الدمشقي. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 400}(14/65)
قوله تعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نكصوا عن المباهلة بعد أن أورد عليهم أنواع الحجج فانقطعوا ، فلم تبق لهم شبهة وقبلوا الصغار والجزية ، فعلم انحلالهم عما كانوا فيه من المحاجة ولم يبق إلا إظهار النتيجة ، اقتضى ذلك عظم تشوفه صلى الله عليه وسلم إليها لعظم حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق ، فأمره بأن يذكرها مكرراً إرشادهم بطريق أخف مما مضى بأن يؤنسهم فيما يدعوهم إليه بالمؤاساة ، فيدعو دعاء يشمل المحاجين من النصارى وغيرهم ممن له كتاب من اليهود وغيرهم إلى الكلمة التي قامت البراهين على حقيتها ونهضت الدلائل على صدقها ، دعاء لا أعدل منه ، على وجه يتضمن نفي ما قد يتخيل من إرادة التفضل عليهم والاختصاص بأمر دونهم ، وذلك أنه بدأ بمباشرة ما دعاهم إليه ورضى لهم ما رضي لنفسه وما اجتمعت عليه الكتب واتفقت عليه الرسل فقال سبحانه وتعالى : {قل} ولما كان قد انتقل من طلب الإفحام خاطبهم تلطفاً بهم بما يحبون فقال : {يا أهل الكتاب} إشارة إلى ما عندهم في ذلك من العلم {تعالوا} أي ارفعوا أنفسكم من حضيض الشرك الأصغر والأكبر الذي أنتم به {إلى كلمة} ثم وصفها بقوله : {سواء} أي ذات عدل لا شطط فيه بوجه {بيننا وبينكم} ثم فسرها بقوله : {ألا نعبد إلا الله} أي لأنه الحائز لصفات الكمال ، وأكد ذلك بقوله : {ولا نشرك به شيئاً} أي لا نعتقد له شريكاً وإن لم نعبده.(14/66)
ولما كان التوجه إلى غير الله خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى عبر بصيغة الافتعال فقال : {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً} أي كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين يحلون ويحرمون.
ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية نبه على أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد ، والأجتراء على ما يختص به الله سبحانه وتعالى فقال : {من دون الله} الذي اختص بالكمال.
ولما زاحت الشكوك وانتفت العلل أمر بمصارحتهم بالخلاف في سياق ظاهره المتاركة وباطنه الإنذار الشديد المعاركة فقال - مسبباً عن ذلك مشيراً بالتتعبير بأداة الشك إلى أن الإعراض عن هذا العدل لا يكاد يكون : {فإن تولوا} أي عن الإسلام له في التوحيد {فقولوا} أنتم تبعاً لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال : {أسلمت لرب العالمين} [ البقرة : 131 ] وامتثالاً لوصيته إذ قال : {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [ البقرة : 132 ] {اشهدوا بأنا} أي نحن {مسلمون} أي متصفون بالإسلام منقادون لأمره ، فيوشك أن يأمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالكم لنصرته عليكم جرياً على عادة الرسل ، فنجيبه بما أجاب به الحواريون المشهدون بأنهم مسلمون ، ثم نبارزكم متوجهين إليه معتمدين عليه ، وأنتم تعرفون أيامه الماضية ووقائعه السالفة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 109 ـ 110}
وقال الفخر : (14/67)
اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أورد على نصارى نجران أنواع الدلائل وانقطعوا ، ثم دعاهم إلى المباهلة فخافوا وما شرعوا فيها وقبلوا الصغار بأداء الجزية ، وقد كان عليه السلام حريصاً على إيمانهم ، فكأنه تعالى قال : يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم أنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال ، و{قُلْ يا أهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض ، ولا ميل فيه لأحد على صاحبه ، وهي {أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} هذا هو المراد من الكلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 76}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [64].
رجوع إلى المجادلة ، بعد انقطاعها بالدعاء إلى المباهلة ، بعث عليه الحرص على إيمانهم ، وإشارة إلى شيء من زيغ أهل الكتابين عن حقيقة إسلام الوجه لله كما تقدم بيانه.
وقد جيء في هذه المجادلة بحجة لا يجدون عنها موئلا وهي دعوتهم إلى تخصيص الله بالعبادة ونبذ عقيدة إشراك غيره في الإلهية.
فجملة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} بمنزلة التأكيد لجملة {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا} [آل عمران : 61] لأن مدلول الأولى احتجاج عليهم بضعف ثقتهم بأحقية اعتقادهم ، ومدلول هذه احتجاج عليهم بصحة عقيدة الإسلام ، ولذلك لم تعطف هذه الجملة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 116}
فصل
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {يا أَهْلَ الكتاب} ففيه ثلاثة أقوال
أحدها : المراد نصارى نجران(14/68)
والثاني : المراد يهود المدينة والثالث : أنها نزلت في الفريقين ، ويدل عليه وجهان
الأول : أن ظاهر اللفظ يتناولهما
والثاني : روي في سبب النزول ، أن اليهود قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام ، ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى! وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير! فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وعندي أن الأقرب حمله على النصارى ، لما بينا أنه لما أورد الدلائل عليهم أولاً ، ثم باهلهم ثانياً ، فعدل في هذا المقام إلى الكلام المبني على رعاية الإنصاف ، وترك المجادلة ، وطلب الإفحام والإلزام ، ومما يدل عليه ، أنه خاطبهم ههنا بقوله تعالى : {يا أهلَ الكتاب} وهذا الاسم من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب حيث جعلهم أهلاً لكتاب الله ، ونظيره ، ما يقال لحافظ القرآن يا حامل كتاب الله ، وللمفسر يا مفسر كلام الله ، فإن هذا اللقب يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب وفي تطييب قلبه ، وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 76 }
وقال ابن عباس : نزلت في القسيسين والرهبان ، فبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس ، وأشراف الحبشة. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 400}
قال الطبرى :(14/69)
وإنما قلنا عنى بقوله : "يا أهل الكتاب" ، أهلَ الكتابين ، لأنهما جميعًا من أهل الكتاب ، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله : "يا أهل الكتاب" بعضًا دون بعض. فليس بأن يكون موجَّهًا ذلك إلى أنه مقصود به أهلُ التوراة ، بأولى منه بأن يكون موجهًا إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل ، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دُون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحدُ الفريقين بذلك بأولى من الآخر لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر ، ولا أثر صحيح فالواجب أن يكون كل كتابيّ معنيًّا به. لأن إفرادَ العبادة لله وحدَه ، وإخلاصَ التوحيد له ، واجبٌ على كل مأمور منهيٍّ من خلق الله. واسم"أهل الكتاب" ، يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل ، فكان معلومًا بذلك أنه عني به الفريقان جميعًا. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 485}
قوله تعالى : {تعالو إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {تَعَالَوْاْ} فالمراد تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالاً من مكان إلى مكان لأن أصل اللفظ مأخوذ من التعالي وهو الارتفاع من موضع هابط إلى مكان عال ، ثم كثر استعماله حتى صار دالاً على طلب التوجه إلى حيث يدعى إليه.
أما قوله تعالى : {إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا} فالمعنى هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض ، لا ميل فيه لأحد على صاحبه ، والسواء هو العدل والإنصاف ، وذلك لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف ، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير ، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف ، فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف فقد سوى بين نفسه وبين غيره وحصل الاعتدال ، وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل.(14/70)
ثم قال الزجاج {سَوَآء} نعت للكملة يريد : ذات سواء ، فعلى هذا قوله {كَلِمَةٍ سَوَاء} أي كلمة عادلة مستقيمة مستوية ، فإذا آمنا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 76 }
وقال الطبرى :
وأما تأويل قوله : "تعالوا" ، فإنه : أقبلوا وهلمُّوا.
وإنما"هو تفاعلوا" من"العلوّ" فكأن القائل لصاحبه : "تعالَ إليّ" ، قائلٌ"تفاعل" من"العلوّ" ، كما يقال : "تَدَانَ مني" من"الدنوّ" ، و"تقارَبْ مني" ، من"القرب".
وقوله : "إلى كلمة سواء". فإنها الكلمة العدلُ ، "والسَّواء" من نعتِ"الكلمة".
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع"سواء" في الإعراب"لكلمة" ، وهو اسمٌ لا صفة.
فقال بعض نحويي البصرة : جر"سواء" لأنها من صفة"الكلمة" وهي العدل ، وأراد مستوية. قال : ولو أراد"استواء" ، كان النصب. وإن شاء أن يجعلها على"الاستواء" ويجرّ ، جاز ، ويجعله من صفة"الكلمة" ، مثل"الخلق" ، لأن"الخلق" هو"المخلوق"."والخلق" قد يكونُ صفةً واسمًا ، ويجعل"الاستواء" مثل"المستوى" ، قال عز وجل : ( الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) [سورة الحج : 25] ، لأن"السواء" للآخر ، وهو اسمٌ ليس بصفة فيجرى على الأول ، وذلك إذا أراد به"الاستواء". فإن أراد به"مستويًا" جاز أن يُجرَي على الأول. والرفع في ذا المعنى جيدٌ ، لأنها لا تغيَّر عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل"عدل" و"رضًى" و"جُنُب" ، وما أشبه ذلك. وقالوا : [في قوله] : ( أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ) [سورة الجاثية : 21] ، فـ"السواء" للمحيا والممات بهذا ، المبتدأ.
وإن شئت أجريته على الأول ، وجعلتَه صفة مقدمة ، كأنها من سبب الأول
فجرت عليه. وذلك إذا جعلته في معنى"مستوى". والرفع وجه الكلام كما فسَّرتُ لك.(14/71)
وقال بعض نحويي الكوفة : "سواء" مصدرٌ وضع موضع الفعل ، يعني موضع"متساوية" : و"متساو" ، فمرة يأتي على الفعل ، ومرّةً على المصدر. وقد يقال في"سواء" ، بمعنى عدل : "سِوًى وسُوًى" ، كما قال جل ثناؤه : ( مَكَانًا سُوًى ) و(سِوًى) [سورة طه : 58] ، يراد به : عدل ونصَفٌ بيننا وبينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك( " إِلَى كَلَمَةٍ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم " ). أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 485 ـ 487}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { إلى كَلَمَةٍ } مُتَعَلِّق بـ " تَعَالَوْا " فذكر مفعول " تَعَالَوْا " قبلها ، فإنه لم يذكر مفعوله ؛ فإن المقصودَ مُجَرَّدُ الإقبال ، ويجوز أن يكون حذفه للدلالة عليه ، تقديره : تعالوا إلى المباهلة.
وقرأ العامة " كَلِمَةٍ " - بفتح الكاف وكسر اللام - وهو الأصل ، وقرأ أبو السَّمَّال " كِلْمَةٍ " بوزن سدرة و" كَلْمَةٍ " كَضَرْبَة وتقدم هذا قريباً.
وكلمة مفسَّرة بما بعدها - من قوله : " ألاّ نَعْبُدَ إلاَّ الله " - فالمرادُ بها كَلاَمٌ كَثِيرٌ ، وهَذا مِنْ بَابَ إطلاق الجزء والمراد به الكل ، ومنه تسميتهم القصيدة جميعاً قافيةً - والقافية جزء منها قال : [ الوافر ]
أعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ... فَلَمَّا اشتدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي
وَكَمْ عَلَّمُْهُ نَظْمَ الْقَوَافِي... فَلَمَّا قَالَ قَافِيَةً هَجَانِي
ويقولون كلمة الشهادة - يعنون : لا إله إلا الله ، مُحَمدٌ رَسُولُ اللهِ - وقال صلى الله عليه وسلم : " أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالهَا شاعرٌ كلمة لبِيدٍ ".
يريد : [ الطويل ]
ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ... وَكُلُّ نَعِيمٍ - لا مَحَالَةَ - زَائِلُ
وهذا كما يسمون الشيء بجزئه في الأعيان ، لأنه المقصود منه ، قالوا لرئيس القوم - وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه- : عَيْن ، فأطلقوا عليه " عيناً ".(14/72)
وقال بعضهم : وُضِعَ المفردُ موضعَ الجمع ، كما قال : [ الطويل ]
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى ، فَأمَّا عِظَامُهَا... فَبِيضٌ ، وَأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
وقيل : أطلقت الكلمة على الكلمات ؛ لارتباط بعضها ببعضٍ ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة - إذا اخْتلَّ جُزْءٌ منها اختلت الكلمةُ ؛ لأن كلمة التوحيد - لا إله إلا الله - هي كلماتٌ لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في " الله " إلا بمجموعها.
وقرأ العامة " سَوَاءٍ " بالجر ؛ نعتاً لِ " كَلِمَةٍ " بمعنى عَدْلٍ ، ويدل عليه قراءة عبد الله : إلى كلمة عدل ، وهذا تفسير لا قراءة.
وسواء في الأصل - مصدر ، ففي الوصف التأويلات الثلاثة المعروفة ، ولذلك لم يُؤنث كما لم تؤنث بـ " امرأة عدل " ؛ لأن المصادر لا تُثَنَّى ، ولا تُجْمَع ، ولا تُؤنَّثُ ، فإذا فتحت السين مَدَدْتَ ، وإذا كسرتَ أو ضممت قصرت ، كقوله : { مكَانًا سُوًى } [ طه : 58 ].
وقرأ الحسن " سَوَاءٌ " بالنصب ، وفيها وجهان :
أحدهما : نصبها على المصدر.
قال الزمخشريُّ : " بمعنى : اسْتَوْتِ اسْتِوَاءً " ، وكذا الحوفيّ.
والثاني : أنه منصوب على الحال ، وجاءت الحالُ من النكرةِ ، وقد نصَّ عليه سيبويه.
قال أبو حيّان : " ولكن المشهور غيره ، والذي حسَّن مجيئَها من النكرة - هنا - كونُ الوَصْفِ بالمصدر على خلاف الأصل ، والصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى ".
وكأن أبا حيان غض من تخريج الزمخشريِّ والحوفيّ ، فقال : " والحال والصفة متلاقيان من حيثُ المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عاملٍ ، وإلى تأويل " سواء " بمعنى استواء ".
والأشهر استعمال " سَوَاء " بمعنى اسم الفاعل - أي : مُسْتوٍ.
قال شهاب الدين : " وبذلك فسَّرها ابن عباس ، فقال : إلى كَلِمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 294 ـ 295}
فائدة
قال ابن عطية :(14/73)
وقوله : { سواء } نعت للكلمة ، قال قتادة والربيع وغيرهما : معناه إلى كلمة عدل ، فهذا معنى " السواء " ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " إلى كلمة عدل بيننا وبينكم " ، كما فسر قتادة والربيع ، وقال بعض المفسرين : معناه إلى كلمة قصد .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا قريب في المعنى من الأول ، والسواء والعدل والقصد مصادر وصف بها في هذه التقديرات كلها ، والذي أقوله في لفظة { سواء } انها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً فلم يكونوا على استواء حال فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه ، ف { سواء } على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه.
والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير اللفظة بعدل ، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، وعلى هذا الحد جاءت لفظة { سواء } في قوله تعالى : { فانبذ إليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] على بعض التأويلات ، ولو دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حراً مقاسماً لك في عيشك ، لكنت قد دعوته إلى السواء ، الذي هو استواء الحال على ما فسرته ، واللفظ على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب برحمته. (1) أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 449}
لطيفة
قال ابن الجوزى :
فأما "الكلمة" فقال المفسرون هي : لا إله إلا الله
فإن قيل : فهذه كلمات ، فلم قال كلمة ؟ فعنه جوابان.
_______________
(1) هذا الكلام استحنه ابن عاشور وتعقبه أبو حيان بقوله :
وهو تكثير لا طائل تحته ، والظاهر انتصاب الظرف بسواء. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 507}(14/74)
أحدهما : أن الكلمة تعبر عن ألفاظ وكلمات.
قال اللغويون : ومعنى كلمة : كلام فيه شرح قصة وإن طال ، تقول العرب : قال زهير في كلمته يراد في قصيدته.
قالت الخنساء :
وقافيةٍ مثلِ حدِّ السنا . . .
ن تبقى ويذهبُ من قالها
تقدُّ الذّؤابة مِن يَذْبلٍ . . .
أبت أن تُزايل أوعالَها
نطْقتَ ابنَ عمروٍ فسهَّلتها . . .
ولم ينطق الناس أمثالها
فأوقعت القافية على القصيدة كلها ، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة ، من البيت ، وإنما سميت قافية ، لإن الكلمة تتبع البيت ، وتقع آخره ، فسُميت قافية من قول العرب : قفوت فلاناً : إذا اتبعته ، وإلى هذا الجواب يذهب الزجاج وغيره.
والثاني : أن المراد بالكلمة : كلمات ، فاكتفى بالكلمة من كلمات ، كما قال علقمة بن عبدة.
بِها جيفُ الحسرى فأمّا عظامُها . . .
فبيضٌ وأما جلدُها فصليب
أراد : وأما جلودها ، فاكتفى بالواحد من الجمع ، ذكره والذي قبله ابن الأنباري. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 401}
قوله تعالى {أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله}
فصل
قال الفخر :
إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء أولها : {أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله}
وثانيها : أن {لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}
وثالثها : أن {لاَّ يَتَّخِذِ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} وإنما ذكر هذه الثلاثة لأن النصارى جمعوا بين هذه الثلاثة فيعبدون غير الله وهو المسيح ، ويشركون به غيره وذلك لأنهم يقولون إنه ثلاثة : أب وابن وروح القدس ، فأثبتوا ذوات ثلاثة قديمة سواء ، وإنما قلنا : إنهم أثبتوا ذوات ثلاثة قديمة ، لأنهم قالوا : إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح ، وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم ، ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين وإلا لما جازت عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم ، ولما أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلة فقد أشركوا ، وأما إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فيدل عليه وجوه :(14/75)
أحدها : إنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم
والثاني : إنهم كانوا يسجدون لأحبارهم
والثالث : قال أبو مسلم : من مذهبهم أن من صار كاملاً في الرياضة والمجاهدة يظهر فيه أثر حلول اللاهوت ، فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فهم وإن لم يطلقوا عليه لفظ الرب إلا أنهم أثبتوا في حقه معنى الربوبية
والرابع : هو أنهم كانوا يطيعون أحبارهم في المعاصي ، ولا معنى للربوبية إلا ذلك ، ونظيره قوله تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [ الجاثية : 23 ] فثبت أن النصارى جمعوا بين هذه الأمور الثلاثة ، وكان القول ببطلان هذه الأمور الثلاثة كالأمر المتفق عليه بين جمهور العقلاء وذلك ، لأن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله ، فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح على هذا الوجه ، وأيضاً القول بالشركة باطل باتفاق الكل ، وأيضاً إذا كان الخالق والمنعم بجميع النعم هو الله ، وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والطاعة إلا إليه ، دون الأحبار والرهبان ، فهذا هو شرح هذه الأمور الثلاثة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 77}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } فيه ستة أوجهٍ :
أحدها : أنه بدل من " كَلِمةٍ " - بدل كل من كل.
الثاني : بدل من " سَوَاء " جوزه أبو البقاء ؛ وليس بواضح ، لأن المقصود إنما هو الموصوف لا صفته فنسبة البدلية إلى الموصوف أوْلَى ، وعلى الوجهين ف " أنْ " وما في حَيِّزها في محل جَرٍّ.
الثالث : أنه في محل رَفْع ؛ خبراً لمبتدأ مُضْمَرٍ ، والجملة استئناف ، جواب لسؤال مقدَّر ، كأنه لما قيل : { تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ } قال قائل : ما هي ؟ فقيل : هي أن لا نعبد إلا الله ، وعلى هذا الأوجه الثلاثة ف " بَيْنَ " منصوب بـ " سَوَاءٍ " ظرفاً له ، أي : يقع الاستواء في هذه الجهة.
وقد صرَّح بذلك [ الشاعر ] ، حيث قال : [ الوافر ](14/76)
أرُونِي خُطَّةً لا عَيبَ فيهَا... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
والوقف التام - حينئذ - عند قوله : { مِّن دُونِ الله } ؛ لارتباط الكلام معنًى وإعراباً.
الرابع : أن يكون " أنْ " وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء ، والخبرُ : الظرفُ قبله.
الخامس : جوَّز ابو البقاء أن يكون فاعلاً بالظرف قبله ، وهذا إنما يتأتَّى على رأي الأخفش ؛ إذا لم يعتمد الظرفُ.
وحينئذ يكون الوقف على " سَوَاءٍ " ثم يبتدأ بقوله : { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } وهذا فيه بُعْدٌ من حيثُ المعنى ، ثم إنهم جعلوا هذه الجملة صفة لـ " كَلِمةٍ " ، وهذا غلط ؛ لعدم رابطة بين الصفة والموصوف ، وتقدير العائد ليس بالسهل.
وعلى هذا فَقوْل أبي البقاء : وقيل : تم الكلامُ على " سَوَاءٍ " ، ثم استأنف ، فقال : { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ } ، أي : بيننا وبينكم التوحيد ، فعلى هذا يكون { أَلاَّ نَعْبُدَ } مبتدأ ، والظرف خبره ، والجملة صفة لـ " الكلمة " ، غير واضح ؛ لأنه - من حيث جعلها صفة - كيف يحسن أن يقول : تم الكلام على " سَوَاءٍ " ثم استأنف ؟ بل كان الصواب - على هذا الإعراب - أن تكون الجملة استئنافية - كما تقدم.
السادس : أن يكون : { أَلاَّ نَعْبُدَ } مرفوعاً بالفاعلية بـ " سَوَاءٍ " ، وإلى هذا ذَهَب الرُّمَّانِيُّ ؛ فإن التقدير - عنده - إلى كلمة مستوٍ فيها بيننا وبينكم عدم عبادةُ غيرِ الله تعالى :
قال أبو حيّان : " إلا أن فيه إضمارَ الرابطِ - وهو فيها - وهو ضعيف ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 296}
فائدة
قال ابن عادل :(14/77)
وقوله : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } قال القرطبي : معنى قوله : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه ، إلا فيما حلَّلَه الله - تعالى - وهو نظير قوله تعالى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] أي : أنزلوهم منزلةَ ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لِما لم يحرمْه الله ولم يحللْه ، وهذا يدل على بُطْلان القول بالاستحسان المجردِ الذي لا يستند إلى دليلٍ شرعيٍّ.
قال إلكيا الطبريُّ : " مثل [ استحسانات ] أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون [ مستندات بينة ] ".
قال عكرمةُ : " هو سجودُ بعضهم لبعض " ، أي : لا نسجد لغير الله ، وكان السجود إلى زمان نبينا عليه السلامُ - ثم نُهِيَ عنه.
وروى ابن ماجه - في سننه - عن أنس ، قال : " قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أيَنحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ ؟ قال : " لاَ " ، قُلْنَا : أيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضاً ؟ قَالَ : " لا ، وَلَكِنْ تَصَافَحُوا ".
وقيل : لا نطيع أحداً في معصية الله. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 298 ـ 299}
فائدة
قال القرطبى :
وفيه ردّ على الروافض الذين يقولون : يجب قبول ( قول ) الإمام دون إبانة مستند شرعيّ ، وأنه يحل ما حرّمه الله من غير أن يبين مستنداً من الشريعة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 106 ـ 107}
تنبيه
قال أبو حيان :
قال الطبرى (1) : في قوله : { أرباباً من دون الله } أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه الله ، ولم يحله.
وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، كتقديرات دون مستند ، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، كما ذهب إليه الرّوافض. انتهى. وفيه بعض اختصار. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 508}
_____________
(1) اطلعت على أكثر من طبعة للبحر المحيط فوجدت هذا الكلام منسوبا إلى الطبرى وهو تصحيف فهذا الكلام غير موجود فى الطبرى ، والصواب نسبته إلى القرطبى. والله أعلم.(14/78)
وقال الآلوسى :
{ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله } أي لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله تعالى قاله ابن جريج ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدي بن حاتم "أنه لما نزلت هذه الآية قال : ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم : أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ؟ قال : نعم فقال عليه الصلاة والسلام : هو ذاك" قيل : وإلى هذا أشار سبحانه بقوله عز من قائل : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] وعن عكرمة أن هذا الاتخاذ هو سجود بعضهم لبعض ، وقيل : هو مثل اعتقاد اليهود في عزير أنه ابن الله ، واعتقاد النصارى في المسيح نحو ذلك ، وضمير بيننا على كل تقدير للناس لا للممكن وإن أمكن حتى يشمل الأصنام لأن أهل الكتاب لم يعبدوها.
وفي التعبير بالبعض نكتة وهي الإشارة إلى أنهم بعض من جنسنا فكيف يكونون أربابا ؟ا
فإن قلت : إن المخاطبين لم يتخذوا البعض أرباباً من دون الله بل اتخذوهم آلهة معه سبحانه
أجيب : بأنه أريد من دون الله وحده ، أو يقال : بأنه أتى بذلك للتنبيه على أن الشرك لا يجامع الاعتراف بربوبيته تعالى عقلاً قاله بعضهم وللنصارى سود الله تعالى حظهم الحظ الأوفر من هذه المنهيات ، وسيأني إن شاء الله تعالى بيان فرقهم وتفصيل كفرهم على أتم وجه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 193}
لطيفة
قال أبو حيان :(14/79)
وفي قوله : بعضنا بعضاً ، إشارة لطيفة ، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية ، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهاً ، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوّة في قولهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } { إن نحن إلا بشر مثلكم } { أنؤمن لبشرين مثلنا } فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعاداً : وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى ، يؤكد بعضها بعضاً ، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله ، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام ، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله ، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 508}
قوله تعالى : {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
قال الفخر :
المعنى إن أبوا إلا الإصرار ، فقولوا إنا مسلمون ، يعني أظهروا أنكم على هذا الدين ، لا تكونوا في قيد أن تحملوا غيركم عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 77}(14/80)
وقال الآلوسى :
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } المراد فإن تولوا عن موافقتكم فيما ذكر مما اتفق عليه الكتب والرسل بعد عرضه عليهم فاعلموا أنهم لزمتهم الحجة وإنما أبوا عناداً فقولوا لهم : أنصفوا واعترفوا بأنا على الدين الحق وهو تعجيز لهم أو هو تعريض بهم لأنهم إذا شهدوا بالإسلام لهم فكأنهم قالوا : إنا لسنا كذلك ، وإلى هذا ذهب بعض المحققين ، وقيل : المراد فإن تولوا فقولوا : إنا لا نتحاشى عن الإسلام ولا نبالي بأحد في هذا الأمر فاشهدوا بأنا مسلمون فإنا لا نخفي إسلامنا كما أنكم تخافون وتخفون كفركم ولا تعترفون به لعدم وثوقكم بصر الله تعالى ، ولا يخفى أن هذا على ما فيه إنما يحسن لو كان الكلام في منافقي أهل الكتاب لأن المنافقين هم الذين يخافون فيخفون ، وأما هؤلاء فهم معترفون بما هم عليه كيف كان فلا يحسن هذا الكلام فيهم ، و{ تَوَلَّوْاْ } هنا ماض ولا يجوز أن يكون التقدير تتولوا لفساد المعنى لأن { فَقُولُواْ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ( وتتولوا ) خطاب للمشركين ، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جواب. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 193 ـ 194}
وقال ابن عطية :
وقوله تعالى : { فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون } أمر بتصريح مخالفتهم بمخاطبتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف تكون. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 449}
وقال الزمخشرى :
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن التوحيد { فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب وسلم لي الغلبة.
ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 398}(14/81)
وقال ابن عاشور :
وقوله : {فَإِنْ تَوَلَّوْا} جيء في هذا الشرط بحرف إن لأن التولي بعد نهوض هذه الحجة وما قبلها من الأدلة غريب الوقوع ، فالمقام مشتمل على ما هو صالح لاقتلاع حصول هذا الشرط ، فصار فعل الشرط من شأنه أن يكون نادر الوقوع مفروضا ، وذلك من مواقع إن الشرطية فإن كان ذلك منهم فقد صاروا بحيث يؤيس من إسلامهم فأعرضوا عنهم ، وأمسكوا أنتم بإسلامكم ، وأشهدوهم أنكم على إسلامكم.
ومعنى هذا الإشهاد التسجيل عليهم لئلا يظهروا إعراض المسلمين عن الاسترسال في محاجتهم في صورة العجز والتسليم بأحقية ما عليه أهل الكتاب فهذا معنى الإشهاد عليهم بأنا مسلمون. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 117}
لطيفة
قال أبو حيان :
وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة ، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود ، وهو المحضر في الحسّ. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 508}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ }.
قال أبو البقاء : هو ماضٍ ، ولا يجوز أن يكون التقدير : " فإن تتولوا " لفساد المعنى ؛ لأن قوله : { فَقُولُواْ اشهدوا } خطاب للمؤمنين ، و" يَتولّوا " للمشركين وعند ذلك لا يبقى في الكلام جوابُ الشرط ، والتقدير : فقولوا لهم وهذا ظاهر.
والمعنى : إن أبَوْا إلا الإصرارَ فقولوا لهم : اشْهَدُوا بأنا مسلمون [ مخلصون بالتوحيد ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 299}(14/82)
من فوائد الإمام الجصاص فى الآية
قال رحمه الله :
قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ } الْآيَةَ.
قَوْله تَعَالَى : { كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ نَتَسَاوَى جَمِيعًا فِيهَا ؛ إذْ كُنَّا جَمِيعًا عِبَادَ اللَّهِ ، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي تَشْهَدُ الْعُقُولُ بِصِحَّتِهَا ؛ إذْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَبِيدَ اللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْعِبَادَةَ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ طَاعَةُ غَيْرِهِ إلَّا فِيمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي طَاعَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ مِنْهَا مَعْرُوفًا ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِالْمَعْرُوفِ ؛ لِئَلَّا يَتَرَخَّصَ أَحَدٌ فِي إلْزَامِ غَيْرِهِ طَاعَةَ نَفْسِهِ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْمُبَايِعَاتِ : { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ } فَشَرَطَ عَلَيْهِنَّ تَرْكَ عِصْيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُهُنَّ بِهِ تَأْكِيدًا ؛ لِئَلَّا يُلْزِمَ أَحَدًا طَاعَةَ غَيْرِهِ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.(14/83)
وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } أَيْ لَا يَتْبَعْهُ فِي تَحْلِيلِ شَيْءٍ ، وَلَا تَحْرِيمِهِ إلَّا فِيمَا حَلَّلَهُ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } وَقَدْ رَوَى عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : { أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَالَ : أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ عَنْك ثُمَّ قَرَأَ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُمْ قَالَ : أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ ؟ قَالَ : فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ } ؛ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا ؛ لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ فِي قَبُولِ تَحْرِيمِهِمْ وَتَحْلِيلِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ ، وَلَمْ يُحَلِّلْهُ.
وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُطَاعَ بِمِثْلِهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي هُوَ خَالِقُهُمْ ، وَالْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي لُزُومِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرَهُ وَتَوْجِيهِ الْعِبَادَةِ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 296 ـ 297}(14/84)
ومن فوائد ابن كثير فى الآية
قال رحمه الله :
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ومن جرى مجراهم { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ } والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا. ثم وصفها بقوله : { سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي : عدل ونصف ، نستوي نحن وأنتم فيها. ثم فسرها بقوله : { أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا }
لا وَثَنا ، ولا صنما ، ولا صليبا ولا طاغوتا ، ولا نارًا ، ولا شيئًا بل نُفْرِدُ العبادة لله وحده لا شريك له. وهذه دعوة جميع الرسل ، قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الانبياء : 25 ]. [وقال تعالى] { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ].
ثم قال : { وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } وقال ابن جُرَيْج : يعني : يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. وقال عكرمة : يعني : يسجد بعضنا لبعض.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : فإن تولوا عن هذا النَّصَف وهذه الدعوة فأشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم.
وقد ذكرنا في شرح البخاري ، عند روايته من طريق الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن أبي سفيان ، في قصته حين دخل على قيصر ، فسألهم عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه ، فأخبره بجميع ذلك على الجلية ، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مُشْركًا لم يُسْلم بعد ، وكان ذلك بعد صُلْح الحُدَيْبِيَة وقبل الفتح ، كما هو مُصَرّح به في الحديث ، ولأنه لما قال هل يغدر ؟ قال : فقلت : لا ونحن منه في مُدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال : ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه : والغرض أنه قال : ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، فإذا فيه :(14/85)
"بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم
مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ ، سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ فَإِن تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأريسيِّين ، و{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }.
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صَدْر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وَفْد نجْران ، وقال الزهري : هم أول من بَذَلَ الجزية. ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح ، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هِرقْل في جملة الكتاب ، وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري ؟ والجواب من وجُوه :
أحدها : يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين ، مَرّةً قبل الحديبية ، ومرة بعد الفتح.
الثاني : يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية ، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك ، ويكون قول ابن إسحاق : "إلى بضع وثمانين آية" ليس بمحفوظ ، لدلالة حديث أبي سفيان.
الثالث : يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية ، وأن الذي بذلوه مُصَالحةً عن المباهلة لا على وجه الجزية ، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك.(14/86)
الرابع : يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكَتْب هذا [الكلام] في كتابه إلى هرقل لم يكن أنزل بعد ، ثم نزل القرآن موافقة له كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحجاب وفي الأسارى ، وفي عدم الصلاة على المنافقين ، وفي قوله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] وفي قوله : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } الآية [ التحريم : 5 ]. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 55 ـ 57}
فصل
قال الخازن :
عن ابن عباس أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه
"بسم الله الرحمن الرحيم"
من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم اليرسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون لفظ الحديث أحد روايات البخاري ، { أخرجه البخاري : في التفسير تفسير سورة آل عمران باب : قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم . . . 8 / 214}.
وقد أخرجه بأطول من هذا وفيه زيادة قوله الأريسيين وفي رواية الأريسيين والأريس الأكار وهو الزراع والفلاح وقيل : هم أتباع عبدالله بن أريس رجل كان في الزمن الأول بعثه الله فخالفه قومه وقيل هم الأروسيون وهم نصارى أتباع عبدالله بن أروس وهم الأروسة.(14/87)
وقيل : هم الأريسون بضم الهمزة وهم الملوك الذين يخالفون أنبياءهم وقيل : هم المتبخترون وقيل : هم اليهود والنصارى الذين صددتهم عن الإسلام واتبعوك على كفرك. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 237 ـ 238}
لطيفة
قال البيضاوى :
( تنبيه ) انظر إلى ما راعى في هذه القصة من المبالغة في الإِرشاد وحسن التدرج في الحجاج بين : أولاً ، أحوال عيسى عليه الصلاة والسلام وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية ، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم ، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإِعجاز ، ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإِرشاد وسلك طريقاً أسهل ، وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإِنجيل وسائر الأنبياء والكتب ، ثم لما لم يجد ذلك أيضاً عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك وقال { فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 49}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { قُل يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } الآية.
هي كلمة التوحيدِ وإفرادِ الحق سبحانه في إنشاء الأشياء بالشهود.
وقوله : { أَلاَّ نَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ } : لا تطالع بِسِرِّك مخلوقاً. وكما لا يكون غيرُه معبودَك فينبغي ألا يكون غيرُه مقصودَك ولا مشهودَك ، وهذا هو اتِّقاء الشِرْك ، وأنت أول الأغيار الذين يجب ألا تشهدهم.
{ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًاْ } ويظهر صدقُ هذا بترك المدح والذم لهم.
ونفي الشكوى والشك عنهم ، وتنظيف السر عن حسبان ذرة من المحو والإثبات منهم. قال صلى الله عليه وسلم " أصدق كلمة قالتها العربُ قول لبيد "
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل... وكل نعيمٍ لا مَحالة زائل
فإنَّ الذي على قلوبهم من المشاق أشد. وأمَّا أهل البداية فالأمر مُضيَّقٌ عليهم في الوظائف والأوراد ، فسبيلهم الأخذ بما هو الأشق والأصعب ، لفراغهم بقلوبهم من المعاني ، فمن ظنَّ بخلاف هذا فقد غلط. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 248}(14/88)
فائدة
قال التسترى :
قوله : { قُلْ يا أهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } [ 64 ] يعني إلى طمع عدل بيننا وبينكم ، لأنهم كانوا مقرين بأن خالقهم وخالق السماوات والأرض هو الله تعالى ، فنوحده ولا نعبد إلاَّ إياه . وأصل العبادة : التوحيد مع أكل الحلال وكف الأذى ، ولا يحصل الأكل الحلال إلاَّ بكف الأذى ، ولا كف الأذى إلاَّ بأكل الحلال ، وأن تعلموا أكل الحلال وترك أذى الخلق والنية في الأعمال كما تعلموا فاتحة الكتاب ، ليصفوا إيمانكم وقلوبكم وجوارحكم ، فإنما هي الأصول . قال : حكى محمد بن سوار عن الثوري أنه قال : منزلة لا إله إلاَّ الله في العبد بمنزلة الماء في الدنيا ، قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] فمن لم ينفعه اعتقاد لا إله إلاَّ الله والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ميت . قال سهل : وإني لأعرف رجلاً من أولياء الله تعالى اجتاز برجل مصلوب وجهه إلى غير القبلة ، فقال : أين ذلك اللسان الذي كنت تقول به صادقاً : " لا إله إلاَّ الله " ، ثم قال : اللهم هب لي ذنبه . قال سهل : فاستدار نحو القبلة بقدرة الله .
وهو قوله تعالى : { تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [ 64 ] الآية . والثالث إطاعة بالجوارح خالصاً لله ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والقنوع والرضا ، فدعاهم بذلك إلى أطيب القول وأحسن الفعال ، ولو لم يكن الإيمان بالله والقرآن الذي هو علم الله فيه الدعوة إلى الإقرار بالربوبية والتبعد إياه في الفزع ، لم تعرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أجابهم من الخلق. أ هـ {تفسير التسترى صـ 78}(14/89)