(الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه , وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس , وأنزل الفرقان . إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد , والله عزيز ذو انتقام . إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء). .
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب . قل للذين كفروا : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار). .
(إن الدين عند الله الإسلام , وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم , ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب). .
(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). .
(قل اللهم مالك الملك , تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء , وتعز من تشاء وتذل من تشاء , بيدك الخير , إنك على كل شيء قدير). .
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه , وإلى الله المصير). .
(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين). .
(أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ?). .
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ? ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم). .(11/23)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم , فأصبحتم بنعمته إخوانا . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها , كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون . . .). .
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم , منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون . لن يضروكم إلا أذى , وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق , ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). .
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم . قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر . قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم , وتؤمنون بالكتاب كله . وإذا لقوكم قالوا : آمنا , وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور . إن تمسسكم حسنة تسؤهم , وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها . وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط).
ومن هذه الحملة الطويلة التي اقتطفنا منها هذه الآيات , وتنوع توجيهاتها وتلقيناتها تتبين عدة أمور :
أولها : ضخامة الجهد الذي كان يبذله أهل الكتاب في المدينة وغيرها , وعمق الكيد وتنوع أساليبه , واستخدام جميع الوسائل لزعزعة العقيدة وخلخلة الصف المسلم من ورائها .
وثانيها : ضخامة الآثار التي كان هذا الجهد يتركها في النفوس وفي حياة الجماعة المسلمة , مما اقتضى هذا البيان الطويل المفصل المنوع المقاطع والأساليب .(11/24)
وثالثها : هو ما نلمحه اليوم من وراء القرون الطويلة . من أن هؤلاء الأعداء هم الذين يلاحقون هذه الدعوة وأصحابها في الأرض كلها ; وهم الذين تواجههم هذه العقيدة وأهلها . ومن ثم اقتضت إرادة الحكيم الخبير أن يقيم هذا المشعل الهادي الضخم البعيد المطارح لتراه الأجيال المسلمة قويا واضحا عميق التركيز على كشف الأعداء التقليديين لهذه الأمة ولهذا الدين !
أما القطاع الثاني في السورة فهو خاص بغزوة أحد . وهو يشتمل كذلك على تقريرات في حقائق التصور الإسلامي والعقيدة الإيمانية . وعلى توجيهات في بناء الجماعة المسلمة على أساس تلك الحقائق . إلى جانب استعراض الأحداث والوقائع , والخواطر والمشاعر , استعراضا يتبين منه بجلاء حالة الجماعة المسلمة يومها وقطاعاتها المختلفة التي أشرنا إليها في أول هذا التمهيد .
وعلاقة هذا المقطع بالمقطع الأول في السورة ظاهرة . فهو يتولى عملية بناء التصور الإسلامي وتجليته - في مجال المعركة والحديد ساخن ! - كما يتولى عملية تثبيت هذه الجماعة على التكاليف المفروضة على أصحاب دعوة الحق في الأرض . مع تعليمهم سنة الله في النصر والهزيمة . ويربيهم بالتوجيهات القرآنية كما يربيهم بالأحداث الواقعية .
وإنه ليصعب استيفاء الحديث هنا عن طبيعة هذا المقطع ومحتوياته وقيمته في بناء العقيدة وبناء الجماعة . . ولما كان هذا المقطع يقع بجملته في الجزء الرابع [ من الظلال ] فلنرجىء الحديث عنه إلى هذا الجزء [ إن شاء الله ] . .(11/25)
ونمضي إلى ختام السورة - بعد فصل غزوة أحد - فإذا هو تلخيص لموضوعاتها الأساسية , يبدأ بإشارة موحية إلى دلالة هذا الكون [ كتاب الله المنظور ] وإيحاءاته للقلوب المؤمنة . . ويأخذ في دعاء رخي ندي من هذه القلوب , على مشهد الآيات في كتاب الكون المفتوح : (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم , ويتفكرون في خلق السماوات والأرض . ربنا ما خلقت هذا باطلا , سبحانك ! فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة . إنك لا تخلف الميعاد . . .). . وهو يمثل نصاعة التصور ووضوحه . وخشوع القلب وتقواه .
ثم تجيء الاستجابة من الله - سبحانه - فيذكر فيها الهجرة والجهاد والإيذاء في سبيل الله :
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض . فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي , وقاتلوا وقتلوا , لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله . والله عنده حسن الثواب . . .). . وفيه إشارة وعلاقة بغزوة أحد وأحداثها وآثارها .
ثم يذكر أهل الكتاب - الذين استغرق الحديث عنهم مقطع السورة الأول - ليقول للمسلمين إن الحق الذي بأيديهم لا يجحده أهل الكتاب كلهم . فإن منهم من يؤمن به ويشهد بأحقيته : (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم , وما أنزل إليهم , خاشعين لله , لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا . . .).(11/26)
وتختم السورة بدعوة المسلمين - بإيمانهم - إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى : (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون). . وهو ختام يناسب جو السورة وموضوعاتها جميعا . .
ولا يتم التعريف المجمل بهذه السورة حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها , تتناثر نقطها في السورة كلها , وتتجمع وتتركز في مجموعها , حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد . .
أول هذه الخطوط بيان معنى "الدين" ومعنى "الإسلام" . . فليس الدين - كما يحدده الله - سبحانه - ويريده ويرضاه - هو كل اعتقاد في الله . . إنما هي صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه - سبحانه - صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع : توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية . وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله . فلا يقوم شيء إلا بالله تعالى , ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى . ومن ثم يكون الدين الذي يقبله الله من عباده هو "الإسلام" وهو في هذه الحالة : الاستسلام المطلق للقوامة الإلهية , والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شؤون الحياة , والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر , واتباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب . وهو في صميمه كتاب واحد , وهو في صميمه دين واحد . . الإسلام . . بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء . والذي يلتقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل . . كل في زمانه . . متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة ; والطاعة والاتباع في منهج الحياة كله بلا استثناء .
ويتكىء سياق السورة على هذا الخط ويوضحه في أكثر من ثلاثين موضعا من السورة بشكل ظاهر ملحوظ . . نضرب له بعض الأمثلة في هذا التعريف المجمل :(11/27)
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم). . (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم). . (إن الدين عند الله الإسلام). . (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن . وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم ? فإن أسلموا فقد اهتدوا . .). .(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم , ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون). . (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله . . .). .(قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين). . (قال الحواريون : نحن أنصار الله , آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون . ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين). .(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون). .(ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين). . (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ?). . (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه). . وغيرها كثير . .
فأما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له , وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق . . ونضرب له كذلك بعض الأمثلة في هذا التعريف بالسورة حتى نواجهه مفصلا عند استعراض النصوص بالتفصيل :(11/28)
(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا - وما يذكر إلا أولوا الألباب - ) (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد). .(الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار). . (قال الحواريون : نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون . ربناآمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين). . (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). . (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون , يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين). (وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين , وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين). .(الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيمانا , وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل). .(الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم , ويتفكرون في خلق السماوات والأرض . ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته , وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك , ولا تخزنا يوم القيامة . إنك لا تخلف الميعاد). . (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم , وما أنزل إليهم خاشعين لله , لا يشترون(11/29)
بآيات الله ثمنا قليلا). . وغيرها كثير . .
والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين , والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير , وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله , ولا يتبعون منهجه في الحياة . . وقد أشرنا إلى هذا الخط من قبل ولكنه يحتاج إلى إبراز هنا بقدر ما هو بارز وأساسي في سياق السورة , وهذه نماذج من هذا الخط العريض :
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء - إلا أن تتقوا منهم تقاة - ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير . قل . إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض . والله على كل شيء قدير). .(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون). .
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله . ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . . .)إلخ . . (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا . . .)إلخ . . (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم , قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر . . .)إلخ . .(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا , ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين). .(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد , متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد). . وغيرها كثير . .(11/30)
وهذه الخطوط الثلاثة العريضة متناسقة فيما بينها متكاملة , في تقرير التصور الإسلامي , وتوضيح حقيقة التوحيد ومقتضاه في حياة البشر وفي شعورهم بالله , وأثر ذلك في موقفهم من أعداء الله الذي لا موقف لهم سواه .
والنصوص في مواضعها من السياق أكثر حيوية وأعمق إيحاء . . لقد نزلت في معمعان المعركة . معركة العقيدة , ومعركة الميدان . المعركة في داخل النفوس , والمعركة في واقع الحياة . . ومن ثم تضمنت ذلك الرصيد الحي العجيب , من الحركة والتأثير والإيحاء . .أ هـ {الظلال حـ 1 صـ 348 ـ 359}(11/31)
قوله تعالى {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
{بسم الله} الواحد المتفرد بالإحاطة بالكمال {الرحمن} الذي وسعت رحمة ايجاد كل مخلوق وأوضح للمكلفين طريق النجاة {الرحيم} الذي اختار أهل التوحيد لمحل أنسه وموطن جمعه وقدسه {الم} المقاصد التي سيقت لها هذه السورة إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى ، والإخبار بأن رئاسة الدنيا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة ، وأن ما أعد للمتقين من الجنة والرضوان هو الذي ينبغي الأقبال عليه والمسارعة اليه وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار ما يتعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة هذا ما كان ظهر لي أولاً ، وأحسن منه أن نخص القصد الأول وهو التوحيد بالقصد فيها فإن الأمرين الآخرين يرجعان إليه ، وذلك لأن الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة ،
فالقيام يكون على كل نفس ، والاستقامه العدل كما قال : {قائماً بالقسط} [ آل عمران : 18 ] أي بعقاب العاصي وثواب الطائع بما يقتضي للموفق ترك العصيان ولزوم الطاعة ؛ وهذا الوجه أوفق للترتيب ، لأن الفاتحة لما كانت جامعة للدين إجمالاً جاء به التفصيل محاذياً لذلك ، فابتدىء بسورة الكتاب المحيط بأمر الدين ، ثم بسورة التوحيد الذي هو سر حرف الحمد وأول حروف الفاتحة ، لأن التوحيد هو الأمر الذي لا يقوم بناء إلا عليه ،(11/32)
ولما صح الطريق وثبت الأساس جاءت التي بعدها داعية إلى الاجتماع على ذلك ؛ وأيضاً فلما ثبت بالبقرة أمر الكتاب في أنه هدى وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه لإثبات الدعوة الجامعة في قوله سبحانه وتعالى : {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [ البقرة : 21 ] فأثبت الوحدانيه له بإبطال إلهيه غيره بإثبات أن عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان يحيي الموتى عبده فغيره بطريق الأولى ، فلما ثبت أن الكل عبيده دعت سورة النساء إلى إقبالهم إليه واجتماعهم عليه ؛ ومما يدل على أن القصد بها هو التوحيد تسميتها بآل عمران ، فإن لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعرب عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من أخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه ، فهو التاج الذي هو خاصة الملك المحسوسة ،
كما أن التوحيد خاصته المعقولة ،
والتوحيد موجب لزهرة المتحلي به فلذلك سميت الزهراء.
القصد الأول التوحيد
ومناسبه هذا الأول بالابتدائية لآخر ما قبلها أنه لما كان آخر البقرة في الحقيقة آية الكرسي وما بعدها إنما هو بيان ، (11/33)
لأنها أوضحت أمر الدين بحيث لم يبقى وراءها مرمى لمتنعت ، أو تعجب من حال من جادل في الإلهية أو استبعد شيئاً من القدرة ولم ينظر فيما تضمنته هذه الآية من الأدله مع وضوحه ، أو إشارة إلى الاستدلال على البعث بأمر السنابل في قالب الإرشاد إلى ما ينفع في اليوم الذي نفى فيه نفع البيع والخلة والشفاعة من النفقات ، وبيان بعض ما يتعلق بذلك ، وتقرير أمر ملكه لما منه الإنفاق من السماوات والأرض ، والإخبار بإيمان الرسول وأتباعه بذلك ، وبأنهم لا يفرقون بين أحد من الرسل المشار إليهم في السورة ، وبصدقهم في التضرع برفع الأثقال التي كانت على من قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم ، وبالنصرة على عامة الكافرين ؛ لما كان ذلك على هذا الوجه ناسب هذا الاختتام غايه المناسبة ابتداء هذه السورة بالذي وقع الإيمان به سبحانه وتعالى ووجهت الرغبات آخر تلك إليه ؛ وأحسن منه أنه لما نزل إلينا كتابه فجمع مقاصده في الفاتحه على وجه أرشد فيه إلى سؤال الهداية ثم شرع في تفصيل ما جمعه في الفاتحة ، فأرشد في أول البقرة إلى أن الهدايه في هذا الكتاب ،
وبيّن ذلك بحقية المعنى والنظم كما تقدم إلى أن ختم البقرة بالإخبار عن خلص عباده بالإيمان بالمنزل بالسمع والطاعة ،
وأفهم ذلك مع التوجه بالدعاء إلى المنزل له أن له سبحانه وتعالى كل شيء وبيده النصر ، علم أنه واحد لا شريك له حي لا يموت قيوم لا يغفل وأن ما أنزل هو الحق ، فصرح أول هذه بما أفهمه آخر تلك ، كما يصرح بالنتيجة بعد المقدمات المنتجة لها فقال : {الله} أي الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه لأن له الإحاطة بجميع أوصاف الكمال والنزاهة الكاملة من كل شائبة نقص.(11/34)
وقال الحرالي مشيراً إلى القول الصحيح في ترتيب السور من أنه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقراراً لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السوري في مقرر هذا الكتاب : هو ما رضيه الله سبحانه وتعالى فأقره ؛ فلما كانت سورة الفاتحة جامعة لكلية أمر الله سبحانه وتعالى فيما يرجع إليه ، وفيما يرجع إلى عبده ، وفيما بينه وبين عبده ، فكانت أم القرآن وأم الكتاب ؛ جعل مثنى تفصيل ما يرجع منها إلى الكتاب المنبأ عن موقعه في الفاتحة مضمناً سورة البقرة إلى ما أعلن به ، لألأ نور آية الكرسي فيها ، وكان منزل هذه السورة من مثنى تفصيل ما يرجع إلى خاص علن الله سبحانه وتعالى في الفاتحة ، فكان منزلة سورة آل عمران منزله تاج الراكب وكان منزله سورة البقرة منزلة سنام المطية ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة ،
لكل شيء تاج وتاج القرآن سورة آل عمران " وإنما بدىء هذا الترتيب لسورة الكتاب لأن علم الكتاب أقرب إلى المخاطبين من تلقي علن أمر الله ، فكان في تعلم سورة البقرة والعمل بها تهيؤ لتلقي ما تضمنته سورة آل عمران ليقع التدرج والتدرب بتلقي الكتاب حفظاً وبتلقيه على اللقن منزل الكتاب بما أبداه علنه في هذه السورة ؛ وبذلك يتضح أن إحاطة {الم} المنزلة في أول سورة البقرة إحاطة كتابية بما هو قيامه وتمامه ،
ووصلة ما بين قيامه وتمامه ، وأن إحاطة {الم} المنزلة في أو هذه السورة إحاطة إلهية حيايية قومية مما بين غيبة عظمة اسمه {الله} إلى تمام قيوميته البادية في تبارك ما أنبأ عنه اسمه {الحي القيوم} وما أوصله لطفه من مضمون توحيده المنبىء عنه كلمه الإخلاص في قوله : {لا إله إلا هو} فلذلك كان هذا المجموع في منزله قرآناً حرفياً وقرآناً كلمياً اسمياً وقرآناً كلامياً تفصيليا مما هو اسمه الأعظم كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم :(11/35)
" اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : {وإلهكم أله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} [ البقرة : 163 ] ،
{الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} " وكما وقعت إلاحة في سورة البقرة لما وقع بها الإفصاح في سورة آل عمران كذلك وقع في آل عمران من نحو ما وقع تفصيله في سورة البقرة ليصير منزلاً واحداً بما أفصح مضمون كل سورة بالإحة الأخرى ، فلذلك هما غمامتان وغيايتان على قارئهما يوم القيامة كما تقدم لا تفترقان ، فأعظم {الم} هو مضمون {الم} الذي افتتحت به هذه السورة ويليه في الرتبة ما افتتحت به سورة البقرة ،
ويليه في الرتبة ما افتتحت به سور الآيات نحو قوله سبحانه وتعالى {الم تلك آيات الكتاب الحكيم} [ لقمان : 2 ] فللكتاب الحكيم إحاطة قواماً وتماماً ووصلة ، ولمطلق الكتاب إحاطة كذلك ، وإحاطه الإحاطات وأعظم العظمة إحاطة افتتاح هذه السورة ؛ وكذلك أيضاً اللواميم محيطة بإحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف اللواميم ،
وإحاطة الحواميم من دون إحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف الطواسيم على ما يتضح تراتبه وعلمه لمن آتاه الله فهماً بمنزله قرآن الحروف المخصوص بإنزاله هذه الأمة دون سائر الأمم ،
الذي هو من العلم الأزلي العلوي ؛ ثم قال : ولما كانت أعظم الإحاطات إحاطة عظمة اسمه " الله " الذي هو مسمى التسعة والتسعين أسماء التي أولها {إله} كان ما أفهمه أول الفهم هنا اسم ألف بناء في معنى إحاطات الحروف على نحو إحاطة اسمه " الله " في الأسماء ،
فكانت هذه الألف مسمى كل ألف كما كان اسمه {الله} سبحانه وتعالى مسمى كل اسم سواه حتى أنه مسمى سائر الأسماء الأعجمية التي هي أسماؤه سبحانه وتعالى في جميع الألسن كلها مع أسماء العربية أسماء لمسمى هو هذا الاسم العظيم الذي هو {الله} الأحد الذي لم يتطرق إليه شرك ، (11/36)
كما تطرق إلى أسمائه من اسمه {إله} إلى غايه اسمه " الصبور " وكما كان إحاطة هذا الألف أعظم إحاطة حرفية وسائر الألفات أسماء لعظيم إحاطتة ؛ وكذلك هذه الميم أعظم إحاطة ميم تفصلت فيه وكانت له أسماء بمنزلة ما هي سائر الألفات أسماء لمسمى هذا الألف كذلك سائر الميمات اسم لمسمى هذا الميم ،
كما أن اسمه {الحي القيوم} أعظم تمام كل عظيم من أسماء عظمته ؛ وكذلك هذه اللام بمنزلة ألفه وميمه ،
وهي لام الإلهية الذي أسراره لطيف التنزل إلى تمام ميم قيوميته ؛ فمن لم ينته إلى فهم معاني الحروف في هذه الفاتحة نزل له الخطاب إلى ما هو إفصاح إحاطتها في الكلم والكلام المنتظم في قوله : {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ،
فهو قرآن حرفي يفصله قرآن كلمي يفصله قرآن كلامي انتهى.
فقوله : {الله} أي الذي آمن به الرسول وأتباعه بما له من الإحاطة بصفات الكمال {لا إله إلا هو} أي متوحد لا كفوء له فقد فاز قصدكم إليه بالرغبة وتعويلكم عليه في المسألة.
قال الحرالي : فما أعلن به هذا الاسم العظيم أي الله في هذه الفاتحة هو ما استعلن به في قوله تعالى : {قل هو الله أحد} [ الإخلاص : 1 ] ،
ولما كان إحاطة العظمة أمراً خاصاً لأن العظمة إزاء الله الذي لا يطلع عليه إلا صاحب سر كان البادي لمن دون أهل الفهم من رتبة أهل العلم اسمه " الله الصمد " الذي يعنى اليه بالحاجات والرغبات المختص بالفوقية والعلو الذي يقال للمؤمن عنه : أين الله ؟ فيقول : في السماء ،
إلى حد علو أن يقول : فوق العرش ،
فذلك الصمد الذي أنبأ عنه اسمه {إله} الذي أنزل فيه إلزام الإخلاص والتوحيد منذ عبدت في الأرض الأصنام ،
فلذلك نضم توحيد اسمه الإله بأحدية مسمى هو من اسمه العظيم " الله " ، ورجع عليه باسم المضمر الذي هو في جبلات الأنفس وغرائز القلوب الذي تجده غيباً في بواطنها فتقول فيه : هو ، (11/37)
فكان هذا الخطاب مبدوءاً بالاسم العظيم المظهر منتهياً إلى الاسم المضمر ، كما كان خطاب {قل هو الله أحد} [ الإخلاص : 1 ] مبدوءاً بالاسم المضمر منتهياً إلى الاسم العظيم المظهر ، وكذلك أيضاً اسم الله الأعظم في سورة {قل هو الله أحد} [ الإخلاص : 1 ] كما هو في هذه الفاتحة.
ولما كان لبادي الخلق افتقار إلى قوام لا يثبت طرفة عين دون قوامه كان القوام البادي آيته هي الحياة فما حيي ثبت وما مات فني وهلك ؛ انتهى ولما كان المتفرد بالملك من أهل الدنيا يموت قال : {الحي} أي الحياة الحقيقية التي لا موت معها.
ولما كان الحي قد يحتاج في التدبير إلى وزير لعجزه عن الكفاية بنفسه في جميع الأعمال قال : {القيوم} إعلاماً بأن به قيام كل شيء وهو قائم على كل شيء.
قال الحرالي : فكما أن الحياة بنفخة من روح أمره فكل متماسك على صورته حي بقيوميته انتهى.
وفي وصفه بذلك إعلام بأنه قادر على نصر جنده وإعزاز دينه وعون وليه ، وحث على مراقبته بجهاد أعدائه ودوام الخضوع لديه والضراعة اليه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 3 ـ 7}
فصل
قال الفخر :
قرأ أبو بكر عن عاصم {الم ، الله} بسكون الميم ، ونصب همزة : الله ، والباقون موصولاً بفتح الميم ، أما قراءة عاصم فلها وجهان الأول : نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء والثاني : أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل ، فمن فصل وأظهر الهمزة فللتفخيم والتعظيم ، وأما من نصب الميم ففيه قولان :
القول الأول : وهو قول الفراء واختيار كثير من البصريين أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر ، يقول : ألف ، لام ، ميم ، كما تقول : واحد ، إثنان ، ثلاثة ، وعلى هذا التقدير وجب الابتداء بقوله : الله ، فإذا ابتدأنا به نثبت الهمزة متحركة ، إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف ، ثم ألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها.(11/38)
فإن قيل : إن كان التقدير فصل إحدى الكلمتين عن الأخرى امتنع إسقاط الهمزة ، وإن كان التقدير هو الوصل امتنع بقاء الهمزة مع حركتها ، وإذا امتنع بقاؤها امتنعت حركتها ، وامتنع إلقاء حركتها على الميم.
قلنا : لم لا يجوز أن يكون ساقطاً بصورته باقياً بمعناه فأبقيت حركتها لتدل على بقائها في المعنى هذا تمام تقرير قول الفرّاء.
والقول الثاني : قول سيبويه ، وهو أن السبب في حركة الميم التقاء الساكنين ، وهذا القول رده كثير من الناس ، وفيه دقة ولطف ، والكلام في تلخيصه طويل.
وأقول : فيه بحثان أحدهما : سبب أصل الحركة ، والثاني : كون تلك الحركة فتحةً.
أما البحث الأول : فهو بناء على مقدمات :
المقدمة الأولى : أن الساكنين إذا اجتمعا فإن كان السابق منهما حرفاً من حروف المد واللين لم يجب التحريك ، لأنه يسهل النطق بمثل هذين الساكنين ، كقولك : هذا إبراهيم وإسحاق ويعقوب موقوفة الأواخر ، أما إذا لم يكن كذلك وجب التحريك لأنه لا يسهل النطق بمثل هذين ، لأنه لا يمكن النطق إلا بالحركة.(11/39)
المقدمة الثانية : مذهب سيبويه أن حرف التعريف هي اللام ، وهي ساكنة ، والساكن لا يمكن الابتداء به فقدموا عليها همزة الوصل وحركوها ليتوصلوا بها إلى النطق باللام ، فعلى هذا إن وجدوا قبل لام التعريف حرفاً آخر فإن كان متحركاً توصلوا به إلى النطق بهذه اللام الساكنة وإن كان ساكناً حركوه وتوصلوا به إلى النطق بهذه اللام ، وعلى هذا التقدير يحصل الاستغناء عن همزة الوصل لأن الحاجة إليها أن يتوصل بحركتها إلى النطق باللام ، فإذا حصل حرف آخر توصلوا بحركته إلى النطق بهذه اللام ، فتحذف هذه الهمزة صورة ومعنى ، حقيقة وحكماً ، وإذا كان كذلك امتنع أن يقال : ألقيت حركتها على الميم لتدل تلك الحركة على كونها باقية حكماً ، لأن هذا إنما يصار إليه حيث يتعلق بوجوده حكم من الأحكام ، أو أثر من الآثار ، لكنا بينا أنه ليس الأمر كذلك فعلمنا أن تلك الهمزة سقطت بذاتها وبآثارها سقوطاً كلياً ، وبهذا يبطل قول الفرّاء.
المقدمة الثالثة : أسماء هذه الحروف موقوفة الأواخر ، وذلك متفق عليه.
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول : الميم من قولنا {الم} ساكن ولام التعريف من قولنا {الله} ساكن ، وقد اجتمعا فوجب تحريك الميم ، ولزم سقوط الهمزة بالكلية صورة ومعنى ، وصح بهذا البيان قول سيبويه ، وبطل قول الفرّاء.(11/40)
أما البحث الثاني : فلقائل أن يقول : الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر ، فلم اختير الفتح ههنا ، قال الزجاج في الجواب عنه : الكسر ههنا لا يليق ، لأن الميم من قولنا {الم} مسبوقة بالياء فلو جعلت الميم مكسورة لاجتمعت الكسرة مع الياء وذلك ثقيل ، فتركت الكسرة واختيرت الفتحة ، وطعن أبو علي الفارسي في كلام الزجاج ، وقال : ينتقض قوله بقولنا : جير ، فإن الراء مكسورة مع أنها مسبوقة بالياء ، وهذا الطعن عندي ضعيف ، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها ، فإذا اجتمعا عظم الثقل ، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك {الله} وهو في غاية الخفة ، فيصير اللسان منتقلاً من أثقل الحركات إلى أخف الحركات ، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان ، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة ، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا {الله} فكان النطق به سهلاً ، فهذا وجه تقرير قول سيبويه ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 132 ـ 134}(11/41)
فصل
قال الفخر :
في سبب نزول أول هذه السورة قولان :
القول الأول : وهو قولُ مقاتل بن سليمان : إن بعض أول هذه السورة في اليهود ، وقد ذكرناه في تفسير {الم ، ذلك الكتاب} [ البقرة : 1 2 ].(11/42)
والقول الثاني : من ابتداء السورة إلى آية المُباهلة في النَّصارى ، وهو قول محمد بن إسحاق قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ستون راكباً فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم ، أحدهم : أميرهم ، واسمه عبد المسيح ، والثاني : مشيرهم وذو رأيهم ، وكانوا يقولون له : السيد ، واسمه الأيهم ، والثالث : حبرهم وأسقفهم وصاحب مدراسهم ، يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل ، وملوك الروم كانوا شرفوه ومولوه وأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم ، فلما قدموا من بحران ركب أبو حارثة بغلته ، وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة ، فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت ، فقال كرز أخوه : تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو حارثة : بل تعست أمك ، فقال : ولم يا أخي ؟ فقال : إنه والله النبي الذي كنا ننتظره ، فقال له أخوه كرز : فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا ، قال : لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالاً كثيرة وأكرمونا ، فلو آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم لأخذوا منا كل هذه الأشياء ، فوقع ذلك في قلب أخيه كرز ، وكان يضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك ، ثم تكلم أولئك الثلاثة : الأمير ، والسيد والحبر ، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على اختلاف من أديانهم ، فتارة يقولون عيسى هو الله ، وتارة يقولون : هو ابن الله ، وتارة يقولون : ثالث ثلاثة ، ويحتجون لقولهم : هو الله ، بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويبرىء الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ، ويحتجون في قولهم : إنه ولد الله بأنه لم يكن له أب يعلم ، ويحتجون على ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا وجعلنا ، ولو كان واحداً لقال فعلت فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلموا ، فقالوا : قد أسلمنا ، فقال صلى الله عليه وسلم كذبتم كيف يصح إسلامكم وأنتم(11/43)
تثبتون لله ولداً ، وتعبدون الصليب ، وتأكلون الخنزير ، قالوا : فمن أبوه ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يناظر معهم ، فقال : ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت ، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا : بلى ، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟ قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ، فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك ؟ قالوا : لا ، قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا : لا ، قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، فهل تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وتعلمون أن عيسى حملته امرأة كحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ، ويحدث الحدث قالوا : بلى فقال صلى الله عليه وسلم : " فكيف يكون كما زعمتم ؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحوداً ، ثم قالوا : يا محمد ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : بلى " ، قالوا : فحسبنا فأنزل الله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه} [ آل عمران : 7 ] الآية.(11/44)
ثم إن الله تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بملاعنتهم إذ ردوا عليه ذلك ، فدعاهم رسول الله إلى الملاعنة ، فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما تريد أن نفعل ، فانصرفوا ثم قال بعض أولئك الثلاثة لبعض : ما ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط إلا وفى كبيرهم وصغيرهم ، وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم ، وأنتم قد أبيتم إلا دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ، ونرجع نحن على ديننا ، فابعث رجلاً من أصحابك معنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضا ، فقال عليه السلام : آتوني العشية أبعث معكم الحكم القوي الأمين وكان عمر يقول : ما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ رجاء أن أكون صاحبها ، فلما صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره ، وجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يزل يردد بصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح ، فدعاه فقال : اخرج معهم واقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه ، قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة.
واعلم أن هذه الرواية دالة على أن المناظرة في تقرير الدين وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأن مذهب الحشوية في إنكار البحث والنظر باطل قطعاً ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 134 ـ 135}
فصل
قال القرطبى :
للعلماء في تسمية "البقرة وآل عمران" بالَّزهرَاوَيْن ثلاثة أقوال :
الأول : أنهما النّيِّرتان ، مأخوذ من الزّهْر والزُّهْرَةِ ؛ فإمّا لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من أنوارهما ، أي من معانيهما.
وإما لِما يترتب على قراءتهما من النور التامّ يوم القيامة ، وهو القول الثاني.(11/45)
الثالث : سُمّيتا بذلك لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم ، كما ذكره أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن اسِمَ الله الأعظم في هاتين الآيتين {وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} والتي في آل عمران {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} " أخرجه ابن ماجه أيضاً.
والغمام : السحاب الملْتَفّ ، وهو الغَيَايَة إذا كانت قريباً من الرأس ، وهي الظّلة أيضاً.
والمعنى : أن قارئهما في ظِلّ ثوابهما ؛ كما جاء "الرجل في ظِلّ صدقته" وقوله "تُحاجّان" أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ، ملائكة كما جاء في بعض الحديث : " إن من قرأ {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} الآية - خلق الله سبعين ملكاً يستغفرون له إلى يوم القيامة " وقوله : "بينهما شَرقٌ" قُيِّد بسكون الراء وفتحها ، وهو تنبيه على الضياء ؛ لأنه لما قال : "سَوْداوان" قد يُتَوَهّم أنهما مُظْلمتان ، فنفى ذلك بقوله "بينهما شَرْق".
ويعني بكونهما سوداوان أي من كثافتهما التي بسببها حالتا بين مَنْ تحتهما وبين حرارة الشمس وشدّة اللّهَب. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 3 ـ 4}(11/46)
من لطائف العلامة الفيروزابادى فى سورة آل عمران
قال رحمه الله :
من أَسمائها سورة آل عمران ، والسُّورة التى يذكر فيها آل عمران ، والزَّهراء.
وعمران المذكور هو عمران والد موسى هارون عليهما السّلام وهو ابن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب. وأَما عمران والد مريم فهو ابن ماتان بن أَسعراد بن أَبى ثور.
وهذه السّورة مَدَنية باتِّفاق جميع المفسرين. وكذلك كلُّ سورة تشتمل على ذكر أَهل الكتاب. وعدد آياتها مئتان بإِجماع القُرَّاء.
وكلماتها ثلاثة آلاف وأَربعمائة وثمانون. وحروفها أَربعة عشر أَلفاً وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفاً.
والآيات المختلف فيها سبع : الم ، {الإِنْجِيل} الثانى ، {أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} {وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيل} ، {مِمَّا تُحِبُّونَ} ، {مَقَامَ إِبْرَاهِيم} ، والإِنجيل الأَول فى قوله بعضهم.
مجموع فواصل آياتها (ل ق د ا ط ن بـ م ر) يجمعها قولى : (لقد أَطنب مُرّ) والقاف آخر آية واحدة {ذُوقُواْ عَذَابَ لْحَرِيقِ}والهمز آخر ثلاث آيات {لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ} {إِنَّكَ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ} {كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}.(11/47)
ومضمون السّورة مناظرة وَفْد نجران ، إِلى نحو ثمانين آية من أَوّلها ، وبيان المحكَم ، والمتشابِه ، وذمٌّ الكفَّار ، وَمَذَمَّة الدنيا ، وشَرَفُ العُقْبى ، ومدح الصَّحابة ، وشهادة التَّوحيد ، والرَّد على أَهل الكتاب ، وحديث ولادة مَرْيم ، وحديث كَفَالة زكريا ، ودعائه ، وذكر ولادة عيسى ، ومعجزاته ، وقصى الحَوَاريّين ، وخبر المباهلة ، والاحتجاج على النَّصارى ، ثمّ أَربعون آية فى ذكر المرتدِّين ، ثم ذكر خيانة علماء يهودَ ، وذكر الكعبة ، ووجوب الحج ، واختيار هذه الأُمّة الفُضْلى ، والنَّهى عن موالاة الكفار ، وأَهل الكتاب ، ومخالفى المِلَّةِ الإِسلامية. ثم خمس وخمسون آية فى قصّة حَرْب أُحُدٍ ، وفى التخصيص ، والشكوى من أَهل المركز ، وعذر المنهزِمين ، ومنع الخَوض فى باطل المنافقين ، (وتقرير قصّة الشهداء ، وتفصيل غَزْوَة بدر الصغرى ، ثم رجع إِلى ذكر المنافقين) فى خمس وعشرين آية ، والطَّعن على علماء اليهود ، والشكوى منهم فى نقض العهد ، وترك بيانهم نعتَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المذكور فى التَّوراة ، ثم دعواتِ الصحابة ، وجدهم فى حضور الغزوات ، واعتنامهم درجة الشهادة. وختم السورة بآيات الصبر والمصابرة والرِّباط.
وأَمَّا الناسخ والمنسوخ فى هذه السورة فخمس آيات : {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ}. بآية السّيف
{كَيْفَ يَهْدِي للَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إِلى تمام ثلاث آيات {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوْا} نزلت فى الستة الذين ارتدوا ثم تابوا وأَسلموا {اتَّقُواْ للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} {وَجَاهِدُوْا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} {فاَتَّقُواْ للَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 1 صـ 158 ـ 160}(11/48)
فصل
قال القرطبى :
هذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار ، فمن ذلك ما جاء أنها أمَانٌ من الحيات ، وكنْزٌ للصُّعْلوك ، وأنها تُحَاجّ عن قارئها في الآخرة ، ويُكْتَب لمن قرأ آخرها في ليلةٍ كقيام ليلة ، إلى غير ذلك.
ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده حدّثنا أبو عُبَيْد القاسم بن سلاَم قال : حدثني عُبَيْد الله الأشجَعي قال : حدثني مِسْعَر قال : حدثني جابر ، قبل أن يقع فيما وقع فيه ، عن الشَّعْبيّ قال : قال عبد الله : نعِم كنْزُ الصُّعْلوك سورةُ "آل عمران" يقوم بها في آخر الليل.
حدّثنا محمد بن سعيد حدّثنا عبد السلام عن الجُرَيْرِيّ عن أبي السَّلِيل قال : أصاب رجل دماً قال : فأوى إلى وادي مَجَنّة : وادٍ لا يمشي فيه أحد إلا أصابته جنّة ، وعلى شَفير الوادي راهبان ، فلمّا أمسى قال أحدهما لصاحبه : هلك والله الرجل! قال : فافتتح سورةَ "آل عمران" قالا : فقرأ سورة طَيْبة لعله سينجو.
قال : فأصبح سليماً.
وأسند عن مَكْحُول قال : من قرأ سورة "آل عمران" يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى الليل.
وأسند عن عثمان ابن عفان قال : من قرأ آخر سورة "آل عمران" في ليلة كتب له قيام ليلة.
في طريقه ابن لَهِيَعة.(11/49)
وخرّج مسلم عن النوّاس بنِ سَمْعَان الكِلاَبيّ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " يُؤتَى بالقرآن يوم القيامة وأهلهِ الذين كانوا يعملون به تَقْدُمه سورة البقرة وآل عمران وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمْثَالٍ ما نسيتُهُنَّ بعدُ ، قال : كأنهما غمامتان أو ظُلّتان سَوْداوان بينهما شَرْقٌ أو كأنَّهما حِزْقانِ من طير صَوَافَّ تُحَاجّان عن صاحبهما " وخرّج أيضاً عن أبي أُمَامَة الباهليّ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الّزهْرَاوَين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غَيَايتَان أو كأنهما فِرْقَانِ من طير صَوَافّ تُحاجَّان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخْذها بركةٌ وتركها حسْرةٌ ولا يستطيعها البَطَلة " قال معاوية : وبلغني أن البطلة السَحَرَة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 2 ـ 3}(11/50)
فصل
قال الفخر :
اعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب ، وذلك لأن أولئك النصارى الذين نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل لهم : إما أن تنازعوه في معرفة الإله ، أو في النبوّة ، فإن كان النزاع في معرفة الإله وهو أنكم تثبتون له ولداً وأن محمداً لا يثبت له ولداً فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية ، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم ، والحي القيوم يستحيل عقلاً أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوّة ، فهذا أيضاً باطل ، لأن بالطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى فهو بعينه قائم في محمد صلى الله عليه وسلم ، وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل ههنا ، فكيف يمكن منازعته في صحة النبوّة ، فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جداً فلننظر ههنا إلى بحثين.
البحث الأول : ما يتعلق بالإلهيات فنقول : إنه تعالى حي قيوم ، وكل من كان حياً قيوماً يمتنع أن يكون له ولد ، وإنما قلنا : إنه حي قيوم ، لأنه واجب الوجود لذاته ، وكل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى : {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم} وإذا كان الكل محدثاً مخلوقاً امتنع كون شيء منها ولداً له وإلها ، كما قال : {إِن كُلُّ مَن فِى السموات والأرض إِلاَّ ءَاتِى الرحمن عَبْداً} [ مريم : 93 ] وأيضاً لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حياً قيوماً ، وثبت أن عيسى ما كان حياً قيوماً لأنه ولد ، وكان يأكل ويشرب ويحدث ، والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه ، فثبت أنه ما كان حياً قيوماً ، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلها ، فهذه الكلمة وهي قوله {الحى القيوم} جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث.(11/51)
وأما البحث الثاني : وهو ما يتعلق بالنبوّة ، فقد ذكره الله تعالى ههنا في غاية الحسن ونهاية الجودة ، وذلك لأنه قال : {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} [ آل عمران : 3 ] وهذا يجري مجرى الدعوى ، ثم إنه تعالى أقام الدلالة على صحة هذه الدعوى ، فقال : وافقتمونا أيها اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدىً للناس ، فإنما عرفتم أن التوراة والإنجيل كتابان إلهيان ، لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قول المحق وقول المبطل والمعجز لما حصل به الفرق بين الدعوى الصادقة والدعوى الكاذبة كان فرقاً لا محالة ، ثم أن الفرقان الذي هو المعجز كما حصل في كون التوراة والإنجيل نازلين من عند الله ، فكذلك حصل في كون القرآن نازلاً من عند الله وإذا كان الطريق مشتركاً ، فإما أن يكون الواجب تكذيب الكل على ما هو قول البراهمة ، أو تصديق الكل على ما هو قول المسلمين ، وأما قبول البعض ورد البعض فذلك جهل وتقليد ، ثم إنه تعالى لما ذكر ما هو العمدة في معرفة الإله على ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام ، وما هو العمدة في إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم أردفه بالتهديد والوعيد فقال : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} [ آل عمران : 4 ] فقد ظهر أنه لا يمكن أن يكون كلام أقرب إلى الضبط ، وإلى حسن الترتيب وجودة التأليف من هذا الكلام ، والحمد لله على ما هدى هذا المسكين إليه ، وله الشكر على نعمه التي لا حد لها ولا حصر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 135 ـ 136}
فائدة
قال القرطبى :
روى الكِسائيّ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلّى العشاء فاستفتح "آل عمران" فقرأ الم.
الله لا إله إلا هو الحيُّ القَيَّامُ" فقرأ في الركعة الأولى بمائة آية ، وفي الثانية بالمائة الباقية.(11/52)
قال علماؤنا : ولا يقرأ سورة في ركعتين ، فإن فعل أجزأه.
وقال مالك في المجموعة : لا بأس به ، وما هو بالشأن.
قلت : الصحيح جواز ذلك.
وقد قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم "بالأعراف" في المغرب فرّقها في ركعتين.
خرّجه النسائي أيضاً ، وصحّحه أبو محمد عبد الحق. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 2}
فائدة
قال الماوردى :
فإن قيل : {الم} اسم من أسماء الله تعالى كان قوله : {اللهَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} نعتاً للمسمى به ، وتفسيره أن {الم} هو الله لا إله إلا هو.
وإن قيل : إنه قسم كان واقعاً على أنه سبحانه لا إله إلا هو الحي القيوم ، إثباتاً لكونه إلهاً ونفياً أن يكون غيره إلهاً.
وإن قيل بما سواهما من التأويلات كان ما بعده مبتدأ موصوفاً ، وأن الله هو الذي لا إله إلا هو الحي القيوم. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 367}
قوله تعالى {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ}
قال الفخر :
أما قوله {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فهو رد على النصارى لأنهم كانوا يقولون بعبادة عيسى عليه السلام فبيّن الله تعالى أن أحداً لا يستحق العبادة سواه.(11/53)
ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال : {الحى القيوم} فأما الحي فهو الفعال الدراك وأما القيوم فهو القائم بذاته ، والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم ، من الليل والنهار ، والحر والبرد ، والرياح والأمطار ، والنعم التي لا يقدر عليها سواه ، ولا يحصيها غيره ، كما قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [ إبراهيم : 34 ] وقرأ عمر رضي الله عنه {الحى القيوم} قال قتادة ، الحي الذي لا يموت ، والقيوم القائم على خلقه بأعمالهم ، وآجالهم ، وأرزاقهم ، وعن سعيد بن جبير : الحي قبل كل حي ، والقيوم الذي لا ند له ، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن قولنا : الحي القيوم محيط بجميع الصفات المعتبرة في الإلهية ، ولما ثبت أن المعبود يجب أن يكون حياً قيوماً ودلّت البديهة والحسن على أن عيسى عليه السلام ما كان حياً قيوماً ، وكيف وهم يقولون بأنه قتل وأظهر الجزع من الموت.
علمنا قطعاً أن عيسى ما كان إلها ، ولا ولداً للإله تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 136}
قال الطبرى :
وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع ، وأنّ ذلك وصفٌ من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء ، في رزقه والدفع عنه ، وكلاءَته وتدبيره وصرفه في قدرته من قول العرب : "فلان قائم بأمر هذه البلدة" ، يعنى بذلك : المتولي تدبيرَ أمرها.
فـ"القيوم" إذ كان ذلك معناه "الفيعول" من قول القائل : "الله يقوم بأمر خلقه". وأصله"القيووم" ، غير أن"الواو" الأولى من"القيووم" لما سبقتها"ياء" ساكنة وهي متحركة ، قلبت"ياء" ، فجعلت هي و"الياء" التي قبلها"ياء" مشدّدة. لأن العرب كذلك تفعل بـ"الواو" المتحركة إذا تقدمتها"ياء" ساكنة.
وأما"القيَّام" ، فإن أصله"القيوام" ، وهو"الفيعال" من"قام يقوم" ، سبقت"الواو" المتحركة من"قيوام""ياء" ساكنة ، فجعلتا جميعًا"ياء" مشدّدة.(11/54)
ولو أن"القيوم""فَعُّول" ، كان"القوُّوم" ، ولكنه"الفيعول". وكذلك"القيّام" ، لو كان"الفعَّال" ، لكان"القوَّام" ، كما قيل : "الصوّام والقوّام" ، وكما قال جل ثناؤه : ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ) [سورة المائدة : 8] ، ولكنه"الفيعال" ، فقيل : "القيام". وأما"القيِّم" ، فهو"الفيعل" من"قام يقوم" ، سبقت"الواو" المتحركة"ياء" ساكنة ، فجعلتا"ياء" مشددة ، كما قيل : "فلان سيدُ قومه" من"ساد يسود" ، و"هذا طعام جيد" من"جاد يجود" ، وما أشبه ذلك.
وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ ، لأنه قصد به قصدَ المبالغة في المدح ، فكان"القيوم" و"القيّام" و"القيم" أبلغ في المدح من"القائم" ، وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته ، إن شاء الله ، "القيام" ، لأنّ ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من"الياء""الواو" ، فيقولون للرجل الصوّاغ :
"الصيّاغ" ، ويقولون للرجل الكثير الدّوران : "الدَّيار". وقد قيل إن قول الله جل ثناؤه : ( لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) [سورة نوح : 26] إنما هو"دوّار" ، "فعَّالا" من"دار يَدُور" ، ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز ، وأقِرّت كذلك في المصحف. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 158 ـ 160}
فائدة
قال عاشور :
ابتدئ الكلام بمسند إليه خبره فعلي : لإفادة تقوية الخبر اهتماما به.
وجيء بالاسم العلم : لتربية المهابة عند سماعه ، ثم أردف بجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، جملة معترضة أو حالية ، ردا على المشركين ، وعلى النصارى خاصة. وأتبع بالوصفين {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} لنفي اللبس عن مسمى هذا الاسم ، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلهية ، وأن غيره لا يستأهلها ؛ لأنه غير حي أو غير قيوم ، فالأصنام لا حياة لها ، وعيسى في اعتقاد النصارى قد أميت ، فما هو الآن بقيوم ، ولا هو في حال حياته بقيوم على تدبير العالم ، وكيف وقد أوذي في الله ، وكذب ، واختفى من أعدائه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 8}
لطيفة
قال القشيرى :
هو الذي لا يلهو فيشتغل عنك ، ولا يسهو فتبقى عنه ، فهو على عموم أحوالك رقيبُ سِرِّك ؛ إنْ خلوتَ فهو رقيبك ، وإن توسطت الخَلْقَ فهو رقيبك ، وفي الجملة - كيفما دارت بك الأحوال - فهو حبيبك. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 218}(11/55)
قوله تعالى {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان من معنى القيوم أنه المدبر للمصالح اتصل به الإعلام بتنزيل ما يتضمن ذلك ، وهو الكتاب المذكور في قوله : {بما أنزل إليه من ربه} [ البقرة : 285 ] والكتب المذكورة في أول البقرة في قوله : {بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [ البقرة : 4 ] وفي آخرها بقوله {وكتبه ورسله} [ البقرة : 285 ] التي من جملتها التوراة والإنجيل اللذان فيهما الآصار المرفوعة عنا ، ثم شرح بعده أمر التصوير في الأحشاء ، وذلك لأن المصالح قسمان : روحانية وجسمانية ، وأشرف المصالح الروحانية العلم الذي هو الروح كالروح للبدن فإنها تصير به مرآة مجلوة ينجلي فيها صور الحقائق ، وأشرف المصالح الجسمانية تعديل المزاج وتسوية البنية في أحسن هيئة ، وقدم الروحانية المتكفل بها الكتاب لأنها أشرف.
ولما كانت مادة " كتب " دائرة على معنى الجمع عبر بالتنزيل الذي معناه التفريق لتشمل هذه الجملة على وجازتها من أمره على إجمال وتفصيل فقال : وقال الحرالي : ولما كانت إحاطة الكتاب أي في البقرة ابتداء وأعقبها أي في أول هذه السورة إحاطة الإلهية جاء هذا الخطاب رداً عليه ، فتنزل من الإحاطة الإلهية إلى الأحاطة الكتابية بالتنزيل الذي هو تدرج من رتبة إلى رتبة دونها ؛ انتهى فقال : {نزّل} أي شيئاً فشيئاً في هذا العصر {عليك} أي خاصة بما اقتضاه تقديم الجار من الحصر ، وكأن موجب ذلك ادعاء بعضهم أنه يوحي إليه وأنه يقدر على الإتيان بمثل هذا الوحي {الكتاب} أي القرآن الجامع للهدى منجماً بحسب الوقائع ، لم يغفل عن واحدة منها ولا قدم جوابها ولا أخره عن محل الحاجة ، لأنه قيوم لا يشغله شأن عن شأن.(11/56)
قال الحرالي : وهذا الكتاب هو الكتاب المحيط الجامع الأول الذي لا ينزل إلا على الخاتم الآخر المعقب لما أقام به حكمته من أن صور الأواخر مقامة بحقائق الأوائل ، فأول الأنوار الذي هو نور محمد صلى الله عليه وسلم هو قثم خاتم الصور التي هي صورة محمد انتهى.
تنزيلاً ملتبساً {بالحق} أي الأمر الثابت ، فهو ثابت في نفسه ، وكل ما ينشأ عنه من قول وفعل كذلك.
قال الحرالي : وكما أن هذا الكتاب هو الكتاب الجامع الأول المحيط بكل كتاب كذلك هو الحق المنزل به هذا الكتاب هو الحق الجامع المحيط الذي كل حق منه ، وهو الحق الذي أقام به حكمته فيما رفع ووضع انتهى.
حال كونه {مصدقاً} ولما كان العامل مرفوعاً لأنه أمر فاعل قواه في اللام فقال : {لما بين يديه} أي من الكتب السماوية التي أتت بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عن الحضرة الإلهية.
قال الحرالي : لما كان هذا الكتاب أولاً وجامعاً ومحيطاً كان كل كتاب بين يديه ولم يكن من ورائه كتاب انتهى.
ولما كان نزاع وفد ونجران في الإله أو النبي أو فيهما كان هذا الكلام كفيلاً على وجازتة بالرد عليهم في ذلك ببيان الحق في الإله بالقيومية ، وفي المعنى بالكتاب المعجز ، ولما كانوا مقرين بالكتب القديمة أشار إلى أن ليس لهم إنكار هذا الكتاب وهو أعلى منها في كل أمر أوجب تصديقها وإلى أن من أنكره بعد ذلك كان من الأمر الظاهر أنه معاند لا شك في عناده فقال : {وأنزل التوراة} وهو " فوعلة " لو صرفت من الورى وهو قدح النار من الزند ، استثقل اجتماع الواوين فقلب أولهما تاء كما في اتحاد واتّلاج واتّزار واتّزان ونحوه قال الحرالي : فهي توراة بما هي نور أعقبت ظلام ما وردت عليه من كفر دعي إليها من الفراعنة ، فكان فيها هدى ونور {والإنجيل} من النجل ،
وضع على زيادة " إفعيل " لمزيد معنى ما وضعت له هذة الصيغة ، وزيادتاها مبالغه في المعنى ، (11/57)
وأصل النجل استخراج خلاصه الشيء ، ومنه يقال للولد : نجل أبيه.
كان الإنجيل استخلص خلاصه نور التوراة فأظهر باطن ما شرع في التوراة ظاهرة ، فإن التوراة كتاب إحاطة لأمر الظاهر الذي يحيط بالأعمال وإصلاح أمر الدنيا وحصول الفوز من عاقبة يوم الأخرى فهو جامع إحاطة الظواهر ،
وكل آية ظاهرة فمن كتاب التوراة والإنجيل كتاب إحاطة لأمر البواطن يحيط بالأمور النفسانية التي بها يقع لمح موجود الآخرة مع الإعراض عن إصلاح الدنيا بل مع هدمها ، فكان الإنجيل مقيماً لأمر الآخرة هادماً لأمر الدنيا مع حصوله أدنى بلغة ، وكانت التوراة مقيمة لإصلاح الدنيا مع تحصيل الفوز في الآخرة ، فجمع هذان الكتابان إحاطتي الظاهر والباطن ، فكان منزل التوراة من مقتضى اسمه الظاهر ، وكان منزل الإنجيل من مقتضى اسمه الباطن ،
كما كان منزل الكتاب الجامع من مقتضى ما في أول هذه السورة من أسمائه العظيمة مع لحظ التوحيد ليعتبر الكتاب والسورة بما نبه بتنزيله من اسمه الله وسائر أسمائه على وجوه إحاطاتها انتهى وفيه تصرف ؛ فأحاط هذا الكتاب إحاطة ظاهرة بأمري الظاهر والباطن بما أذن منه تصديقه للكتابين ، وخصهما سبحانه وتعالى بالتنويه بذكرهما إعلاماً بعلي قدرهما. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 7 ـ 9}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الكتاب ههنا هو القرآن ، وقد ذكرنا في أول سورة البقرة اشتقاقه ، وإنما خص القرآن بالتنزيل ، والتوراة والإنجيل بالإنزال ، لأن التنزيل للتكثير ، والله تعالى نزل القرآن نجما نجما ، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه ، وأما التوراة والإنجيل فإنه تعالى أنزلهما دفعة واحدة ، فلهذا خصهما بالإنزال ، ولقائل أن يقول : هذا يشكل بقوله تعالى : {الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [ الكهف : 1 ] وبقوله {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [ الإسراء : 105 ].
واعلم أنه تعالى وصف القرآن المنزّل بوصفين : (11/58)
الوصف الأول : قوله {بالحق} قال أبو مسلم : إنه يحتمل وجوهاً أحدها : أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة وثانيها : أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ، ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل وثالثها : أنه حق بمعنى أنه قول فصل ، وليس بالهزل ورابعها : قال الأصم : المعنى أنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية ، وشكر النعمة ، وإظهار الخضوع ، وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات وخامسها : أنزله بالحق لا بالمعاني الفاسدة المتناقضة ، كما قال : {أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} وقال : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [ النساء : 82 ].
والوصف الثاني : لهذا الكتاب قوله {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} والمعنى أنه مصدق لكتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولما أخبروا به عن الله عزّ وجلّ ، ثم في الآية وجهان الأول : أنه تعالى دلّ بذلك على صحة القرآن ، لأنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقاً لسائر الكتب ، لأنه كان أُمياً لم يختلط بأحد من العلماء ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا قرأ على أحد شيئاً ، والمفتري إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب والتحريف ، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص بوحي الله تعالى الثاني : قال أبو مسلم : المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبياً قط إلا بالدعاء إلى توحيده ، والإيمان به ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان ، فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك ، بقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه.
والجواب : أن تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم.
السؤال الثاني : كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب ، مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام ؟ .(11/59)
والجواب : إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثه ، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن ، كانت موافقة للقرآن ، فكان القرآن مصدقاً لها ، وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها ، لأن دلائل المباحث الإلهية لا تختلف في ذلك ، فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 36 ـ 37}
قال ابن عاشور :
وقوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} خبر عن اسم الجلالة. والخبر هنا مستعمل في الامتنان ، أو هو تعريض ونكاية بأهل الكتاب : الذين أنكروا ذلك. وجيء بالمسند فعلا لإفادة تقوية الخبر ، أو للدلالة مع ذلك على الاختصاص : أي الله لا غيره نزل عليك الكتاب إبطالا لقول المشركين : إن القرآن من كلام الشيطان ، أو من طرائق الكهانة ، أو يعلمه بشر.(11/60)
والتضعيف في {نَزَّلَ} للتعدية فهو يساوي الهمز في أنزل ، وإنما التضعيف يؤذن بقوة الفعل في كيفيته أو كميته ، في الفعل المتعدي بغير التضعيف ، من أجل أنهم قد أتوا ببعض الأفعال المتعدية ، للدلالة على ذلك ، كقولهم : فسر وفسر ، وفرق وفرق ، وكسر وكسر ، كما أتوا بأفعال قاصرة بصيغة المضاعفة ، دون تعدية للدلالة على قوة الفعل ، كما قالوا : مات وموت وصاح وصيح. فإما إذا صار التضعيف للتعدية فلا أوقن بأنه يدل على تقوية الفعل ، إلا أن يقال : إن العدول عن التعدية بالهمز ، إلى التعدية بالتضعيف ، بقصد ما عهد في التضعيف من تقوية معنى الفعل ، فيكون قوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} أهم من قوله {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} على عظم شأن نزول القرآن ، وقد بينت ذلك مستوفى في المقدمة الأولى من هذا التفسير ، ووقع في "الكشاف" ، هنا وفي مواضع متعددة ، أن قال : إن نزل يد على التنجيم وإن أنزل يدل على أن الكتابين أنزلا جملة واحدة وهذا لا علاقة له بمعنى التقوية المدعى للفعل المضاعف ، إلا أن يعني أن نزل مستعمل في لازم التكثير ، وهو التوزيع ورده أبو حيان بقول تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان : 32] نزل عليك القرءان جملة واحدة فجمع بين التضعيف وقوله {جُمْلَةً وَاحِدَةً} . وأزيد أن التوراة والإنجيل نزلا مفرقين كشأن كل ما ينزل على الرسل في مدة الرسالة ، وهو الحق ؛ إذ لا يعرف أن كتابا نزل على رسوله دفعة واحدة. والكتاب : القرآن. والباء في قوله {بِالْحَقِّ} للملابسة ، ومعنى ملابسته للحق اشتماله عليه في جميع ما يشتمل عليه من المعاني قال تعالى {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء : 105].
ومعنى {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أنه مصدق للكتب السابقة له ، وجعل السابق بين يديه : لأنه يجيء قبله. فكأنه يمشي أمامه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 9}
وقال أبو حيان : (11/61)
{نزل عليك الكتاب بالحق} الكتاب هنا : القرآن ، باتفاق المفسرين ، وتكرر كثيراً ، والمراد القرآن ، فصار علماً. بالغلبة.
وقرأ الجمهور : نزّل ، مشدداً و: الكتاب ، بالنصب ، وقرأ النخعي ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : نزل ، مخففاً ، و: الكتابُ ، بالرفع ، وفي هذه القراءة تحتمل الآية وجهين : أحدهما : أن تكون منقطعة.
والثاني : أن تكون متصلة بما قبلها ، أي : نزل الكتاب عليك من عنده ، وأتى هنا بذكر المنزل عليه ، وهو قوله : عليك ، ولم يأت بذكر المنزل عليه التوراة ، ولا المنزل عليه الإنجيل ، تخصيصاً له وتشريفاً بالذكر ، وجاء بذكر الخطاب لما في الخطاب من المؤانسة ، وأتى بلفظة : على ، لما فيها من الاستعلاء.
كأن الكتاب تجلله وتغشاه ، صلى الله عليه وسلم.
ومعنى : بالحق : بالعدل ، قاله ابن عباس ، وفيه وجهان : أحدهما : العدل فيما استحقه عليك من حمل أثقال النبوة.
الثاني : بالعدل فيما اختصك به من شرف النبوة.
وقيل : بالصدق فيما اختلف فيه ، قاله محمد بن جرير.
وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الأخبار عن القرون الخالية.
وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على الطاعة ، ومن الوعيد بالعقاب على المعصية.
وقيل : معنى بالحق : بالحجج والبراهين القاطعة.
والباء : تحتمل السببية أي : بسبب إثبات الحق ، وتحتمل الحال ، أي : محقاً نحو : خرج زيد بسلاحه ، أي متسلحاً.
{مصدقا لما بين يديه} أي : من كتب الأنبياء ، وتصديقه إياها أنها أخبرت بمجيئه ، ووقوع المخبر به يجعل المخبر صادقاً ، وهو يدل على صحة القرآن ، لأنه لو كان من عند غير الله لم يوافقها ، قاله أبو مسلم وقيل : المراد منه أنه لم يبعث نبياً قط ، إلاَّ بالدعاء إلى توحيده ، والإيمان ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، والشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان.(11/62)
فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك ، والقرآن ، وإن كان ناسخاً لشرائع أكثر الكتب ، فهي مبشرة بالقرآن وبالرسول ، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن.
فقد وافقت القرآن ، وكان مصدقاً لها ، لأن الدلائل الدالة على ثبوت الإلهية لا تختلف.
وانتصاب : مصدقاً ، على الحال من الكتاب ، وهي حال مؤكدة ، وهي لازمة ، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه ، فهو كما قال :
أنا ابن دارة معروفاً به نسبي . . .
وهل بدارة يا للناس من عار ؟
وقيل : انتصاب : مصدقاً ، على أنه بدل من موضع : بالحق ، وقيل : حال من الضمير المجرور.
و : لما ، متعلق بمصدقاً ، واللام لتقوية التعدية ، إذ : مصدقاً ، يتعدى بنفسه ، لأن فعله يتعدى بنفسه.
والمعنى هنا بقوله {لما بين يديه} المتقدم في الزمان.
وأصل هذا أن يقال : لما يتمكن الإنسان من التصرف فيه.
كالشيء الذي يحتوي عليه ، ويقال : هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 392 ـ 393}
قوله تعالى : {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل}
قال الفخر :
قال صاحب "الكشاف" : التوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، والاشتغال باشتقاقهما غير مفيد ، وقرأ الحسن {والإنجيل} بفتح الهمزة ، وهو دليل على العجمية ، لأن أفعيل بفتح الهمزة معدوم في أوزان العرب ، واعلم أن هذا القول هو الحق الذي لا محيد عنه ، ومع ذلك فننقل كلام الأدباء فيه.
أما لفظ {التوراة} ففيه أبحاث ثلاثة : (11/63)
البحث الأول : في اشتقاقه ، قال الفرّاء التوراةَ معناها الضياء والنور ، من قول العرب ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت النار ، قال الله تعالى : {فالموريات قَدْحاً} [ العاديات : 2 ] ويقولون : وريت بك زنادي ، ومعناه : ظهر بك الخير لي ، فالتوراة سميت بهذا الاسم لظهور الحق بها ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء} [ الأنبياء : 48 ].
البحث الثاني : لهم في وزنه ثلاثة أقوال :
القول الأول : قال الفرّاء : أصل التوراة تورية تفعلة بفتح التاء ، وسكون الواو ، وفتح الراء والياء ، إلا أنه صارت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
القول الثاني : قال الفرّاء : ويجوز أن تكون تفعلة على وزن توفية وتوصية ، فيكون أصلها تورية ، إلا أن الراء نقلت من الكسر إلى الفتح على لغة طيىء ، فإنهم يقولون في جارية : جاراة ، وفي ناصية : ناصاة ، قال الشاعر :
فما الدنيا بباقاة لحي.. وما حي على الدنيا بباق
والقول الثالث : وهو قول الخليل والبصريين : إن أصلها : وورية ، فوعلة ، ثم قلبت الواو الأولى تاء ، وهذا القلب كثير في كلامهم ، نحو : تجاه ، وتراث ، وتخمة ، وتكلان ، ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت توراة وكتبت بالياء على أصل الكلمة ، ثم طعنوا في قول الفرّاء ، أما الأول : فقالوا : هذا البناء نادر ، وأما فوعلة فكثير ، نحو : صومعة ، وحوصلة ، ودوسرة والحمل على الأكثر أولى ، وأما الثاني : فلأنه لا يتم إلا بحمل اللفظ على لغة طيىء ، والقرآن ما نزل بها ألبتة.
البحث الثالث : في التوراة قراءتان : الإمالة والتفخيم ، فمن فخم فلأن الراء حرف يمنع الإمالة لما فيه من التكرير ، والله أعلم.(11/64)
وأما الإنجيل ففيه أقوال الأول : قال الزجاج : إنه افعيل من النجل ، وهو الأصل ، يقال : لعن الله ناجليه ، أي والديه ، فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم ، لأن الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين والثاني : قال قوم : الإنجيل مأخوذ من قول العرب : نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته ويقال للماء الذي يخرج من البئر : نجل ، ويقال : قد استنجل الوادي ، إذا خرج الماء من النز فسمي الإنجيل إنجيلاً لأنه تعالى أظهر الحق بواسطته والثالث : قال أبو عمرو الشيباني : التناجل التنازع ، فسمي ذلك الكتاب بالإنجيل لأن القوم تنازعوا فيه والرابع : أنه من النجل الذي هو سعة العين ، ومنه طعنة نجلاء ، سمي بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه لهم.(11/65)
وأقول : أمر هؤلاء الأدباء عجيب كأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخر ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل وإما الدور ، ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعاً أولا : حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها ، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا ، والفرع هو ذاك الآخر ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل ، وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة ، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء ، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت توراة لظهورها ، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يسمى بالتوراة فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يسمى بالإنجيل ، والطين أصل الكوز ، فوجب أن يكون الطين إنجيلاً والذهب أصل الخاتم والغزل أصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، ثم أنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بدّ وأن يتمسكوا بالوضع ، ويقولوا : العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع ، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة ، فلم لا نتمسك به في أول الأمر ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات ، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسُّريانية ، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب ، فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 38 ـ 39}
وقال ابن عاشور : (11/66)
والتوراة اسم للكتاب المنزل على موسى عليه السلام. وهو اسم عبراني أصلة طورا بمعنى الهدي ، والظاهر أنه اسم للألواح التي فيها الكلمات العشر التي نزلت على موسى عليه السلام في جبل الطور ؛ لأنها أصل الشريعة التي جاءت في كتب موسى ، فأطلق ذلك الاسم على جميع كتب موسى ، واليهود يقولون "سفر طورا" فلما دخل هذا الاسم إلى العربية أدخلوا عليه لام التعريف التي تدخل على الأوصاف والنكرات لتصير أعلاما بالغلبة : مثل العقبة ، ومن أهل اللغة والتفسير من حاولوا توجيها لاشتقاقه اشتقاقا عربيا ، فقالوا : إنه مشتق من الوري وهو الوقد ، بوزن تفعلة أو فوعلة ، وربما أقدمهم على ذلك أمران : أحدهما دخول حرف التعريف عليه ، وهو لا يدخل على الأسماء العجمية ، وأجيب بأن لا مانع من دخولها على المعرب كما قالوا : الإسكندرية ، وهذا جواب غير صحيح ؛ لأن الإسكندرية وزن عربي ؛ إذ هو نسب إلى إسكندر ، فالوجه في الجواب أنه إنما ألزم التعريف لأنه معرب عن اسم بمعنى الوصف اسم علم فلما عربوه ألزموه اللام لذلك.
الثاني أنها كتبت في المصحف بالياء ، وهذا لم يذكروه في توجيه كونه عربيا ، وسبب كتابته كذلك الإشارة إلى لغة إمالته.
وأما الإنجيل فاسم للوحي الذي أوحي به إلى عيسى عليه السلام فجمعه أصحابه.(11/67)
وهو اسم معرب قيل من الرومية وأصله "إثانجيليوم" أي الخبر الطيب ، فمدلوله مدلول اسم الجنس ، ولذلك أدخلوا عليه كلمة التعريف في اللغة الرومية ، فلما عربه العرب أدخلوا عليه حرف التعريف ، وذكر القرطبي عن الثعلبي أن الإنجيل في السريانية وهي الآرامية أنكليون ولعل الثعلبي اشتبه عليه الرومية بالسريانية ، لأن هذه الكلمة ليست سريانية وإنما لما نطق بها نصارى العراق وظنها سريانية ، أو لعل في العبارة تحريفا وصوابها اليونانية وهو في اليونانية "أووانيليون" أي اللفظ الفصيح. وقد حاول بعض أهل اللغة والتفسير جعله مشتقا من النجل وهو الماء الذي يخرج من الأرض ، وذلك تعسف أيضا. وهمزة الإنجيل مكسورة في الأشهر ليجري على وزن الأسماء العربية ؛ لأن إفعيلا موجود بقلة مثل إبزيم. وربما نطق به يفتح الهمزة ، وذلك لا نظير له في العربية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 9 ـ 10}
من فوائد الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله : (11/68)
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} أي القرآن الجامع للأصول والفروع ولما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وفي التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية الأفراد في الانطواء على كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح إليه التصريح باسم "التوراة" و"الإنجيل" ، وفي الإتيان بالظرف وتقديمه على المفعول الصريح واختيار ضمير الخطاب ، وإيثار على على إلى ما لا يخفى من تعظيمه صلى الله عليه وسلم والتنويه برفعة شأنه عليه الصلاة والسلام ؛ والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر للاسم الجليل أو هي الخبر ، وما قبل كله اعتراض أو حال ، و{الحى القيوم} [ آل عمران : 2 ] صفة أو بدل ، وقرأ الأعمش {نَزَّلَ} بالتخفيف ، ورفع الكتاب والجملة حينئذٍ منقطعة عما قبلها ، وقيل : متعلقة به بتقدير من عنده {بالحق} أي بالصدق في أخباره أو بالعدل كما نص عليه الراغب أو بما يحقق أنه من عند الله تعالى من الحجج القطعية وهو في موضع الحال أي متلبساً بالحق أو محقاً ، وفي "البحر" يحتمل أن يكون الباء للسببية أي بسبب إثبات الحق {مُصَدّقاً} حال من الكتاب إثر حال أو بدل من موضع الحال الأول أو حال من الضمير في المجرور وعلى كل حال فهي حال مؤكدة {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي الكتب السالفة والظرف مفعول ( مصدقاً ) واللام لتقوية العمل وكيفية تصديقه لما تقدم تقدمت {وَأَنزَلَ} ذكرهما تعييناً ( لما بين يديه ) وتبييناً لرفعة محله بذلك تأكيد لما قبل وتمهيد لما بعد ولم يذكر المنزل عليه فيهما لأن الكلام في الكتابين لا فيمن نزلا عليه والتعبير بأنزل فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له نزولين ، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة ، ونزول من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاث وعشرين سنة على المشهور ، ولهذا يقال فيه : نزل وأنزل وهذا أولى مما قيل(11/69)
: إن نزل يقتضي التدريج وأنزل يقتضي الإنزال الدفعي إذ يشكل عليه {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة} [ الفرقان : 32 ] حيث قرن نزل بكونه جملة ، وقوله تعالى : {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب} [ النساء : 140 ] وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئاً فشيئاً كما في تسلسل ، والألفاظ لا بد فيها من ذلك فصيغة نزل تدل عليه ، والإنزال مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم ، وبالإنزال الذي قد قوبل به خلافه ، أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 75 ـ 76}(11/70)
قوله تعالى {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما لم يكن إنزالهما مستغرقاً للماضي لأنه لم يكن في أول الزمان أدخل الجار معرياً من التقيد بمن نزلا عليه لشهرته وعدم النزاع بخلاف القرآن {من قبل} أي من قبل هذا الوقت إنزالاً انقضى أمره ومضى زمانه حال كون الكل {هدى} أي بياناً ، ولذا عم فقال : {للناس} وأما في أول البقرة فبمعنى خلق الهداية في القلب ، فلذا خص المتقين ؛ والحاصل أن هذه الآية كالتعليل لآخر البقرة فكأنه قيل : كل آمن بالله لأنه متفرد بالألوهية ، لأنه متفرد بالحياة ، لأنه متفرد بالقيومية ؛ وآمن برسله الذين جاؤوا بكتبه المنزلة بالحق من عنده بواسطة ملائكته.
ولما كانت مادة " فرق " للفصل عبر بالإنزال الذي لا يدل على التدريج لما تقدم من إرادة الترجمة بالإجمال والتفصيل على غاية الإيجاز لاقتضاء الإعجاز ،
وجمع الكتابين في إنزال واحد واستجد لكتابنا إنزالاً تنبيهاً على علو رتبته عنهما بمقدار علو رتبه المتقين الذين هو هدى لهم ، وبتقواهم يكون لهم فرقان على رتبة الناس الذين هما هدى لهم فقال تعالى : {وأنزل الفرقان} أي الكتاب المصاحب للعز الذي يكسب صاحبه قوة التصرف فيما يريد من الفصل والوصل الذي هو وظيفه السادة المرجوع إليهم عند الملمات ، المقترن بالمعجزات الفارقة بين الحق والباطل ، وسترى هذا المعنى إن شاء الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال بأوضح من هذا ؛ فعل ذلك لينفذ قائله أمر الكتاب المقرر فيه الشرع الحق المباين لجميع الملل الباطلة والأهواء المضلة والنحل الفاسدة ، وذلك هو روح النصر على أعداء الله المرشد إلى الدعاء به ختام البقرة.(11/71)
قال الحرالي : فكان الفرقان جامعاً لمنزل ظاهر التوراة ومنزل باطن الإنجيل جمعاً يبدي ما وراء منزلهما بحكم استناده للتقوى التي هي تهيؤ لتنزل الكتاب {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} [ الانفال : 29 ] فكان الفرقان أقرب الكتب للكتاب الجامع ، فصار التنزيل في ثلاث رتب : رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع ، ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع بين الظاهر والباطن ، ثم منزل التوراة والإنجيل المختفي فيه موضع ظاهر التوراة بباطن الإنجيل انتهى.
ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها أنه لما خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط وهي أدنى أسباب النماء كان وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت ، وأن الخلق أخذ في النقصان ، وهذا العالم أشرف على الزوال ،
فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بني إسرائيل ، وكان هذا النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقاً ، وكان مبعوثاً مع نفس الساعة ،
وكان نزوله هو آخر الزمان علماً على الساعة ،
وصدرت هذه السورة التي نزل كثير منها بسببه بالوحدانية إشارة إلى أن الوارث قد دنا زمان إرثه ، وأن يكون ولا شيء معه كما كان ، وأن الحين الذي يتمحض فيه تفرد الواحد قد حان ، والآن الذي يقول فيه سبحانه له الملك اليوم قد آن ؛ ويوضح ذلك أنه لما كان آدم عليه الصلاه والسلام مخلوقاً من التراب الذي هو أمتن أسباب النماء ،
وهو غالب على كل ما جاوره ، وكانت الأنثى مخلوقة من آدم الذي هو الذكر وهو أقوى سببي التناسل كان ذلك إشارة إلى كثرة الخلائق ونمائهم وازديادهم ، (11/72)
فصدر أول سورة ذكر فيها خلقه وابتداء أمره بالكتاب إشارة إلى أن ما يشير إليه ذكره من تكثر الخلائق وانتشار الأمم والطوائف داع إلى إنزال الشرائع وإرسال الرسل بالأحكام والدلائل ، فالمعنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما كان منه الابتداء وعيسى عليه الصلاة والسلام لما كان دليلاً على الانتهاء اقتضت الحكمة أن يكون كل منهما مما كان منه ، وأن تصدر سورة كل بما صدرت به والله سبحانه وتعالى الموفق.
وقال ابن الزبير ما حاصله : إن اتصالها بسورة البقرة والله سبحانه وتعالى أعلم من جهات : إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها ، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضاً إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم ، فإن هذا الكتاب جاء مصدقاً لما نزل نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه ، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين ، ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة ، وذكر من تعنت بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم أخبر سبحانه وتعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة ، وأنزل بعدها الإنجيل ، وأن كل ذلك هدى لمن وفق ، إعلاماً منه سبحانه وتعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن من تقدمهم قد بين لهم {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [ الإسراء : 15 ] ؛ والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار قوله سبحانه وتعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} [ آل عمران : 59 ] انتهى.(11/73)
ولما علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق وهو الإيمان علم أن لمخالفي أمره من أضداد المؤمنين الموصوفين وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور ، فاتصل بذلك بقوله : {إن الذين كفروا} أي غطوا ما دلتهم عليه الفطرة الأولى التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها ، ثم ما بينت لهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عنه سبحانه وتعالى من البيان الذي لا لبس معه {بآيات الله} المستجمع لصفات الكمال إقبالاً منهم على ما ليس له أصلاً صفة كمال ، وهذا الكفر كما قال الحرالي دون الكفر بأسماء الله الذي هو دون الكفر بالله ، قال : فكما بدأ خطاب التنزيل من أعلاه نظم به ابتداء الكفر من أدناه انتهى.
{لهم عذاب شديد} كما تقتضيه صفتا العزة والنقمة ، وفي وصفه بالشدة إيذان بأن من كفر دون هذا الكفر كان له مطلق عذاب.
قال الحرالي : ففي إشعاره أن لمن داخله كفر ما حط بحسب خفاء ذلك الكفر ، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف انتهى.
والآية على تقدير سؤال ممن كأنه قال : ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة ؟ أو يقال : إنه لما قال : {وأنزل الفرقان} [ آل عمران : 4 ] أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة فقال : وأحسن من ذلك كله أنه سبحانه وتعالى ولما أنزل سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين ، وبين أن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدالة على تمام العلم وشمول القدرة ، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى ، أيد ذلك بالإعلام بأن ذلك الكتاب مع أنه هاد اليه حق ، ودل على ذلك لمصادقته لما قبله من الكتب. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 9 ـ 11}
فصل
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ}.(11/74)
فاعلم أنه تعالى بيّن أنه أنزل التوراة والإنجيل قبل أن أنزل القرآن ، ثم بيّن أنه إنما أنزلهما هدى للناس ، قال الكعبي : هذه الآية دالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن عمى على الكافرين وليس بهدى لهم ، ويدل على معنى قوله {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [ فصلت : 44 ] أن عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز ، كقول نوح عليه السلام {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً} [ نوح : 6 ] لما فروا عنده.
واعلم أن قوله {هُدًى لّلنَّاسِ} فيه احتمالان الأول : أن يكون ذلك عائداً إلى التوراة والإنجيل فقط ، وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق ، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى والوصفان متقاربان.
فإن قيل : إنه وصف القرآن في أول سورة البقرة بأنه هدىً للمتقين ، فلم لم يصفه ههنا به ؟ .
قلنا : فيه لطيفة ، وذلك لأنا ذكرنا في سورة البقرة أنه إنما قال : {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [ البقرة : 2 ] لأنهم هم المنتفعون به ، فصار من الوجه هدىً لهم لا لغيرهم ، أما ههنا فالمناظرة كانت مع النصارى ، وهم لا يهتدون بالقرآن فلا جرم لم يقل ههنا في القرآن إنه هدىً بل قال : إنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما فلا جرم وصفهما الله تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدىً ، فهذا ما خطر بالبال والله أعلم.
القول الثاني : وهو قول الأكثرين : أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى ، فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل ، والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 139 ـ 140}
وقال الآلوسى : (11/75)
{مِن قَبْلُ} متعلق بأنزل أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب ، وقيل : من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان كذا قالوا برمتهم ، وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالهما متضمن للإرهاص لبعثته صلى الله عليه وسلم حيث قيد الإنزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه : {هُدًى لّلنَّاسِ} أي أنزلهما كذلك لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان به صلى الله عليه وسلم واتباعه حيث يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه لا غير ، والقول بأنه يهتدى بهما أيضاً فيما عدا الشرائع المنسوخة من الأمور التي يصدقها القرآن ليس بشيء لأن الهداية إذ ذاك بالقرآن المصدق لا بهما كما لا يخفى على المنصف ، ويجوز أن ينتصب ( هدى ) على أنه حال منهما والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذوي هدى ، وجعله حالاً من {الكتاب} [ آل عمران : 3 ] مما لا ينبغي أن يرتكب معه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 77}
فائدة
قال ابن عاشور :
وتقديم {مِنْ قَبْلُ} على {هُدىً لِلنَّاسِ} للاهتمام به. وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهم أن هدى التوراة والإنجيل مستمر بعد نزول القرآن. وفيه إشارة إلى أنها كالمقدمات لنزول القرآن ، الذي هو تمام مراد الله من البشر {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ} [آل عمران : 19] فالهدى الذي سبقه غير تام.(11/76)
و {لِلنَّاسِ} تعريفه إما للعهد : وهم الناس الذين خوطبوا بالكتابين ، وإما للاستغراق العرفي : فإنهما وإن خوطب بهما ناس معروفون ، فإن ما اشتملا عليه يهتدي به كل من أراد أن يهتدي ، وقد تهود وتنصر كثير ممن لم تشملهم دعوة موسى عليه وعيسى عليهما السلام ، ولا يدخل في العموم الناس الذين دعاهم محمد صلى الله عليه وسلم : لأن القرآن أبطل أحكام الكتابين ، وأما كون شرع من قبلنا شرعا لنا عند معظم أهل الأصول ، فذلك فيما حكاه عنهم القرآن لا ما يوجد في الكتابين ، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 10 ـ 11}
قوله تعالى : {وَأَنزَلَ الفرقان}
قال ابن عاشور :
والفرقان في الأصل مصدر فرق كالشكران والكفران والبهتان ، ثم أطلق عليه ما يفرق به بين الحق والباطل قال تعالى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الفرقان : 41] وهو يوم بدر. وسمي به القرآن قال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان : 1] والمراد بالفرقان هنا القرآن ؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وفي وصفه بذلك تفضيل لهديه على هدي التوراة والإنجيل ، لأن التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي ، لما فيها من البرهان ، وإزالة الشبهة. وإعادة قوله {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} بعد قوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} للاهتمام ، وليوصل الكلام به في قوله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران : 4] الآية أي بآياته في القرآن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 11}
وقال الفخر :
ولجمهور المفسرين فيه أقوال(11/77)
الأول : أن المراد هو الزبور ، كما قال : {وَءَاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً} [ النساء : 163 ] والثاني : أن المراد هو القرآن ، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه ومدحاً بكونه فارقاً بين الحق والباطل أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل ، وعلى هذا التقدير فلا تكرار.(11/78)
والقول الثالث : وهو قول الأكثرين : أن المراد أنه تعالى كما جعل الكتب الثلاثة هدى ودلالة ، فقد جعلها فارقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع ، فصار هذا الكلام دالاً على أن الله تعالى بيّن بهذه الكتب ما يلزم عقلاً وسمعاً ، هذا جملة ما قاله أهل التفسير في هذه الآية وهي عندي مشكلة أما حمله على الزبور فهو بعيد ، لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام ، بل ليس فيه إلا المواعظ ، ووصف التوراة والإنجيل مع اشتمالهما على الدلائل ، وبيان الأحكام بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك ، وأما القول الثاني : وهو حمله على القرآن فبعيد من حيث إن قوله {وَأَنزَلَ الفرقان} عطف على ما قبله ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه والقرآن مذكور قبل هذا فهذا يقتضي أن يكون هذا الفرقان مغايراً للقرآن ، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث ، لأن كون هذه الكتب فارقة بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب وعطف الصفة على الموصوف وإن كان قد ورد في بعض الأشعار النادرة إلا أنه ضعيف بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام الله تعالى ، والمختار عندي في تفسير هذه الآية وجه رابع ، وهو أن المراد من هذا الفرقان المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب ، وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله تعالى افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين ، فلما أظهر الله تعالى على وفق دعواهم تلك المعجزات حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب ، فالمعجزة هي الفرقان ، فلما ذكر الله تعالى أنه أنزل الكتاب بالحق ، وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك ، بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق ، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة ، فهذا هو ما عندي في تفسير هذه الآية ، وهب أن أحداً من المفسرين ما ذكره إلا أن حمل كلام الله تعالى(11/79)
عليه يفيد قوة المعنى ، وجزالة اللفظ ، واستقامة الترتيب والنظم ، والوجوه التي ذكروها تنافي كل ذلك ، فكان ما ذكرناه أولى والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 140}
وقال الطبرى :
والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك ، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع وأن يكون معنى"الفرقان" في هذا الموضع : فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذين حاجُّوه في أمر عيسى ، وفي غير ذلك من أموره ، بالحجة البالغة القاطعة عذرَهم وعذرَ نُظرائهم من أهل الكفر بالله.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ، لأن إخبارَ الله عن تنزيله القرآنَ - قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله : "نزل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقًا لما بين يديه". ولا شك أن ذلك"الكتاب" ، هو القرآن لا غيره ، فلا وجه لتكريره مرة أخرى ، إذ لا فائدة في تكريره ، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداءً. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 164}
وقال أبو السعود : (11/80)
{وَأَنزَلَ الفرقان} الفرقانُ في الأصل مصدرٌ كالغفران أُطلق على الفاعل مبالغة والمرادُ به هاهنا إما جنسُ الكتبِ الإلهية عُبِّر عنها بوصف شامل لما ذُكر منها وما لم يُذكر على طريق التتميم بالتعميم إثرَ تخصيصِ بعضِ مشاهيرها بالذكر كما في قوله عز وجل : {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} إلى قوله تعالى : {وفاكهة} وإما نفسُ الكتبِ المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يُذكر فما سبق ، على طريقة العطفِ بتكرير لفظِ الإنزال تنزيلاً للتغايُر الوصفي منزلةَ التغايُر الذاتي كما في قوله سبحانه : {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وأما الزبورُ فإنه مشتمِلٌ على المواعظ الفارقة بين الحقِّ والباطِلِ الداعية إلى الخير والرشاد الزاجرةِ عن الشر والفساد ، وتقديمُ الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولاً لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام والشرائع وشيوعِ اقرانِهما في الذكر وأما القُرآنُ نفسُه فذُكر بنعت مادحٍ له بعد ما ذكر باسم الجنس تعظيماً لشأنه ورفعاً لمكانه وقد بُين أولاً تنزيلُه التدريجيُّ إلى الأرض وثانياً إنزالُه الدفعيّ إلى السماء الدنيا أو أريد بالإنزال القدْرُ المشترك العاري عن قيد التدريج وعدمِه ، وإما المعجزاتُ المقرونةُ بإنزال الكتبِ المذكورة الفارقة بين المُحقِّ والمُبْطل. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 5}
وقال الآلوسى : (11/81)
{وَأَنزَلَ الفرقان} أخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القرآن فرق به بين الحق والباطل فأحل فيه حلاله وحرم حرامه وشرع شرائعه وحد حدوده وفرائضه وبين بيانه وأمر بطاعته ونهى عن معصيته ، وذكر بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيماً لشأنه ورفعاً لمكانه ، وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى عليه السلام وغيره ، وأيد هذا بأن صدر السورة كما قدمنا نزلت في محاجة النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر أخيه عيسى عليه السلام وعليه يكون المراد بالفرقان بعض القرآن ولم يكتف باندراجه في ضمن الكل اعتناءاً به ، ومثل هذا القول ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن المراد به كل آية محكمة ، وقيل : المراد به جنس الكتب الإلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر ، وقيل : نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإنزال تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي ، وقيل : المراد به الزبور وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولاً لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام وشيوع اقترانهما في الذكر ، واعترض بأن الزبور مواعظ فليس فيه ما يفرق بين الحق والباطل من الأحكام ، وأجيب بأن المواعظ لما فيها من الزجر والترغيب فارقة أيضاً ولخفاء الفرق فيها خصت بالتوصيف به ، وأورد عليه بأن ذكر الوصف دون الموصوف يقتضي شهرته به حتى يغني عن ذكر موصوفه والخفاء إنما يقتضي إثبات الوصف دون التعبير به ، وقيل : المراد به المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق والمبطل ، وعلى أي تقدير كان فهو مصدر في الأصل كالغفران أطلق على الفاعل مبالغة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 77}(11/82)
وقال ابن عطية :
وقال بعض المفسرين ، {الفرقان} هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل ، فيما قدم وحدث ، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل ، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز ، ثم التوراة والإنجيل ، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل ، كما فعلت هذه الكتب. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 399}
لطيفة
قال القشيرى :
{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى للنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ}.
أي إنا أنزلنا قبلك كُتُبَنَا على المرسلين فما أخْلَيْنَا كتابًا من ذِكْرِكْ ، قال قائلهم :
وعندي لأحبابنا الغائبين... صحائفُ ذِكرُك عنوانُها
وكما أتممنا بك أنوار الأنبياء زيَّنا بذكرك جميع ما أنزلنا من الأذكار. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 219}(11/83)
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ختم أوصافه بأنه فرقان لا يدع لبساً ولا شبهة أنتج ذلك قطعاً أن الذين قدم أول تلك أنهم أصروا على الكفر به خاسرون ، فأخبر سبحانه وتعالى بما أعد لهم من العذاب فقال : {إن الذين} مؤكداً مظهراً لما كان من حقه الإضمار ، لولا إرادة تعليق الحكم بالوصف وهو الكفر أي الستر لما تفضل عليهم به من الآيات ؛ ثم قرر قدرته على ما هدد به وعبر به فقال : عاطفاً على ما أرشد السياق مع العطف على غير مذكور إلى أنه : فالله سبحانه وتعالى عالم بما له من القيومية بجميع أحوالهم : {والله} أي الملك العظيم مع كونه رقيباً {عزيز} لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {ذو انتقام} أي تسلط وبطش شديد بسطوة.
قال الحرالي : فأظهر وصف العزة موصولاً بما أدام من انتقامه بما يعرب عنه كلمة ذو المفصحة بمعنى صحبة ودوام ، فكأن في إشعاره دواماً لهذا الانتقام بدوام أمر الكتاب الجامع المقابل علوه لدنو هذا الكفر ، وكان في طي إشعار الانتقام أحد قسمي إقامة اليومية في طرفي النقمة والرحمة ، فتقابل هذان الخطابان إفصاحاً وإفهاماً من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحاً فافهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة ، فإنه كما أنزل الكتب هدى أنزل متشابهها فتنة ، فتعادل الإفصاحان والإلاحتان ، وتم بذلك أمر الدين في هذه السورة انتهى.
وما أحسن إطلاق العذاب بعد ذكر الفرقان ليشمل الكون في الدنيا نصرة للمؤمنين استجابة لدعائهم ، وفي الآخرة تصديقاً لقولهم وزيادة في سرورهم ونعيمهم ، وتهديداً لمن تُرك كثير من هذه السورة بسببهم وهم وفد نصارى نجران.(11/84)
يجادلون النبي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فتارة يقولون : هو الله ، وتارة يقولون : هو ابن الله ، وتارة يقولون ، هو ثالث ثلاثة ، وكان بعضهم عالماً بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وبأن أحمد الذي بشر به هو هذا النبي العربي فقال له بعض أقاربه : فلم لا تتبعه وأنت تعلم أن عيسى أمر باتباعه ؟ فقال له : لو اتبهناه لسلبنا ملك الروم جميع ما ترى من النعمة ، وكان ملوك الروم قد أحبوهم لاجتهادهم في دينهم وعظموهم وسودوهم وخولوهم في النعم حتى عظمت رئاستهم وكثرت أموالهم على ما بين في السيرة الهشامية وغيرها ، واستمر سبحانه وتعالى يؤكد استجابته لدعاء أوليائه بالنصرة آخر البقرة في نحو قوله :
{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم} [ آل عمران : 10 ] {قل للذين كفروا ستغلبون} [ آل عمران : 12 ] إلى أن ختم السورة بشرط الاستجابة فقال : {اصبروا وصابروا} [ آل عمران : 200 ] ، ثم قال توضيحاً لما قدم في آية الكرسي من إثبات العلم ، واستدلالاً على وصفه سبحانه وتعالى بالقيومية التي فارق بها كل من يدعي فيه الإلهية مشيراً بذلك إلى الرد على من جادل في عيسى عليه الصلاة والسلام فأطراه بدعواه أنه إله ، وموضحاً لأن كتبه هدى وأنه عالم بالمطيع والعاصي بما تقدم أنه أرشد العطف في {والله عزيز} لى تقديره ، ومعللاً لوصفه بالعزة والقدرة لما يأتي في سورة طه من أن تمام العلم يستلزم شمول القدرة. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 11 ـ 12}
وقال أبو حيان :
لما قرر تعالى أمر الإلهية ، وأمر النبوّة بذكر الكتب المنزلة ، توعد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة ، وغيرها ، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا ، كالقتل ، والأسر ، والغلبة ، وعذاب الآخرة : كالنار. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 394}
قال الفخر : (11/85)
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر في هذه الألفاظ القليلة جميع ما يتعلق بمعرفة الإله ، وجميع ما يتعلق بتقرير النبوّة أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال :
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}.
واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى ، فقصر اللفظ العام على سبب نزوله ، والمحققون من المفسرين قالوا : خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 140 ـ 141}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}
استئناف بياني ممهد إليه بقوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} لأن نفس السامع تتطلع إلى معرفة عاقبة الذين أنكروا هذا التنزيل.
وشمل قوله {الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ} المشركين واليهود والنصارى في مرتبة واحدة ، لأن جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن ، وهو المراد بآيات الله هنا لأنه الكتاب الوحيد الذي يصح أن يوصف بأنه آية من آيات الله ؛ لأنه معجزة. وعبر عنهم بالوصول إيجازا ؛ لأن الصلة تجمعهم ، والإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قوله {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 11}
وقال الآلوسى : (11/86)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله} يحتمل أن تكون الإضافة للعهد إشارة إلى ما تقدم من آيات الكتب المنزلة ، ويحتمل أن تكون للجنس فتصدق الآيات على ما يتحقق في ضمن ما تقدم وعلى غيره كالمعجزات وأضافها إلى الاسم الجليل تعييناً لحيثية كفرهم وتهويلاً لأمرهم وتأكيداً لاستحقاقهم العذاب ، والمراد بالموصول إما من تقدم في سبب النزول أو أهل الكتابين أو جنس الكفرة وعلى التقديرين يدخل أولئك فيه دخولاً أولياً {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} ابتداء وخبر في موضع خبر إن ويجوز أن يرتفع العذاب بالظرف والتنكير للتفخيم ففيه إشارة إلى أنه لا يقدر قدره وهو مناط الحصر المستفاد من تقديم الظرف والتعليق بالموصول الذي هو في حكم المشتق يشعر بالعلية وهو معنى تضمنه الشرط وترك فيه الفاء لظهوره فهو أبلغ إذا اقتضاه المقام. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 78}
قوله تعالى : {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}
قال الفخر :
العزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة ، يقال انتقم منه انتقاماً أي عاقبه ، وقال الليث يقال : لم أرض عنه حتى نقمت منه وانتقمت إذا كافأه عقوب بما صنع ، والعزيز إشار إلى القدرة التامة على العقاب ، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب ، فالأول : صفة الذات ، والثاني : صفة الفعل ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 141}
وقال البيضاوى :
{والله عَزِيزٌ} غالب لا يمنع من التعذيب. {ذُو انتقام} لا يقدر على مثله منتقم ، والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بالفتح والكسر ، وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد والإِشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيماً للأمر ، وزجراً عن الإِعراض عنه. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 5}
وقال الآلوسى : (11/87)
{والله عَزِيزٌ} أي غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {ذُو انتقام} افتعال من النقمة وهي السطوة والتسلط يقال : انتقم منه إذا عاقبه بجنايته ، ومجرده نقم بالفتح والكسر وجعله بعضهم بمعنى كره لا غير والتنوين للتفخيم ، واختار هذا التركيب على منتقم مع اختصاره لأنه أبلغ منه إذ لا يقال صاحب سيف إلا لمن يكثر القتل لا لمن معه السيف مطلقاً ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر للوعيد مؤكد له. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 78}
وقال أبو حيان :
{والله عزيز ذو انتقام} أي : ممتنع أو غالب لا يغلب ، أو منتصر ذو عقوبة ، وقد تقدّم أن الوصف : بذو ، أبلغ من الوصف بصاحب ، ولذلك لم يجيء في صفات الله صاحب ، وأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات ، وأشار بذي انتقام ، إلى كونه فاعلاً للعقاب ، وهي من صفات الفعل.
قال الزمخشري : {ذو انتقام} له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم. انتهى.
ولا يدل على هذا الوصف لفظ : ذو انتقام ، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 394 ـ 395}(11/88)
قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)}
قال البقاعى :
{إن الله} بما له من صفات الكمال التي منها القيومية {لا يخفى عليه شيء} وإن دق ، ولما كان تقريب المعلومات بالمحسوسات أقيد في التعليم والبعد عن الخفاء قال وإن كان علمه سبحانه وتعالى لا يتقيد بشيء : {في الأرض ولا في السماء} أي ولا هم يقدرون على أن يدعوا في عيسى عليه الصلاة والسلام مثل هذا العلم ، بل في إنجيلهم الذي بين أظهرهم الآن في حدود السبعين والثمانمائة التصريح بأنه يخفى عليه بعض الأمور ، قال في ترجمة إنجيل مرقس في قصة التي كانت بها نزف الدم : إنها أتت من ورائه فأمسكت ثوبه فبرأت فعلم القوة التي خرجت منه ، فالتفت إلى الجمع وقال : من مس ثوبي ؟ فقال له تلاميذه : ما ندري ، الجمع يزحمك ، ويقول : من اقترب ؟ فجاءت وقالت له الحق ، فقال : يا ابنة! إيمانك خلصك ؛ وهو في إنجيل لوقا بمعناه ولفظه : فجاءت من ورائه وأمسكت طرف ثوبه ، فوقف جري دمها الذي كان يسيل منها ، فقال يسوع من لمسني ؟ فأنكر جميعهم ، فقال بطرس والذي معه : يا معلم الخير! الجميع يزحمك ويضيق عليك ويقول : من الذي لمسني من قرب مني ؟ قد علمت أن قوة خرجت مني إلى آخره.
وقال ابن زبير : ثم أشار قوله تعالى : {إن الله لا يخفى عليه شيء} إلى ما تقدم أي في البقرة من تفصيل أخبارهم.
فكان الكلام في قوة أن لو قيل : أيخفي عليه مرتكبات العباد! وهو مصورهم في الأرحام والمطلع عليهم حيث لا يطلع عليهم غيره انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 12 ـ 13}
قال القرطبى :
هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل ؛ ومثله في القرآن كثير.(11/89)
فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون ؛ فكيف يكون عيسى إلهاً أو ابن إله وهو تَخْفى عليه الأشياء!. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 7}
وقال الآلوسى :
قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}
استئناف لبيان سعة علمه سبحانه وإحاطته بجميع ما في العالم الذي من جملته إيمان من آمن وكفر من كفر إثر بيان كمال قدرته وعظيم عزته وفي بيان ذلك تربية للوعيد وإشارة إلى دليل كونه حياً وتنبيه على أن الوقوف على بعض المغيبات كما وقع لعيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الإلهية ، والمراد من الأرض والسماء العالم بأسره ، وجعله الكثير مجازاً من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، ومن قال : إنه لا يصح في ( كل ) كل وجزء بناءاً على اشتراط التركيب الحقيقي وزوال ذلك الكل بزوال ذلك الجزء جعل المذكور كناية لا مجازاً ، وتقديم الأرض على السماء إظهاراً للاعتناء بشأن أحوال أهلها واهتماماً بما يشير إلى وعيد ذوي الضلالة منهم وليكون ذكر السماء بعد من باب العروج قيل : ولذا وسط حرف النفي بينهما ، والجملة المنفية خبر لأن ، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وكلمة في متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء مؤكدة لعمومه المستفاد من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيء مّا كائن في العالم بأسره كيفما كانت الظرفية ، والتعبير بعدم الخفاء أبلغ من التعبير بالعلم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 78}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين : (11/90)
الاحتمال الأول : أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم ، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم ، وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين أحدهما : أن يكون عالماً بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية والثاني : أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها ، والأول : لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ، والثاني : لا يتم إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات ، فقوله {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات ، فحينئذ يكون عالماً لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات ، لا يشغله سؤال عن سؤال ، ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين ثم قوله {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} إشارة إلى كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات ، وحينئذ يكون قادراً على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم ، وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائماً بالقسط قيوماً بجميع الممكنات والكائنات ، ثم فيه لطيفة أخرى ، وهي أن قوله {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه ، والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع ، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي ، وذلك هو أن نقول : إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة ، والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالماً ، فلما كان دليل كونه تعالى عالماً هو ما ذكرنا ، فحين ادعى كونه عالماً بكل المعلومات بقوله {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك ، وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة ، والتركيب الغريب ، وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، فبعضها عظام ، وبعضها(11/91)
غضاريف ، وبعضها شرايين ، وبعضها أوردة ، وبعضها عضلات ، ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن ، والتأليف الأكمل ، وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون ، ويدل على كونه عالماً من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم ، فكان قوله {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} دالاً على كونه قادراً على كل الممكنات ، ودالاً على صحة ما تقدم من قوله {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، وقادر على كل الممكنات ، ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات ، فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولاً من أنه هو الحي القيوم ، ومن تأمل في هذه اللطائف علم أنه لا يعقل كلام أكثر فائدة ، ولا أحسن ترتيباً ، ولا أكثر تأثيراً في القلوب من هذه الكلمات.
والاحتمال الثاني : أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها ، وذلك لأن النصارى ادعوا إلهية عيسى عليه السلام ، وعولوا في ذلك على نوعين من الشبه ، أحد النوعين شبه مستخرجة من مقدمات مشاهدة ، والنوع الثاني : شبه مستخرجة من مقدمات إلزامية.
أما النوع الأول من الشبه : فاعتمادهم في ذلك على أمرين أحدهما : يتعلق بالعلم والثاني : يتعلق بالقدرة.
أما ما يتعلق بالعلم فهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب ، وكان يقول لهذا : أنت أكلت في دارك كذا ، ويقول لذاك : إنك صنعت في دارك كذا ، فهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالعلم.(11/92)
وأما الأمر الثاني من شبههم ، فهو متعلق بالقدرة ، وهو أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ، وهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالقدرة ، وليس للنصارى شبه في المسألة سوى هذين النوعين ، ثم إنه تعالى لما استدل على بطلان قولهم في إلهية عيسى وفي التثليث بقوله {الحى القيوم} [ آل عمران : 2 ] يعني الإله يجب أن يكون حياً قيوماً ، وعيسى ما كان حياً قيوماً ، لزم القطع إنه ما كان إلها ، فأتبعه بهذه الآية ليقرر فيها ما يكون جواباً عن هاتين الشبهتين : (11/93)
أما الشبهة الأولى : وهي المتعلقة بالعلم ، وهي قولهم : إنه أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلها ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلها لاحتمال أنه إنما علم ذلك بوحي من الله إليه ، وتعليم الله تعالى له ذلك ، لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات يدل دلالة قاطعة على أنه ليس بإله لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن الإله هو الذي يكون خالقاً ، والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى عليه السلام ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات ، فكيف والنصارى يقولون : إنه أظهر الجزع من الموت فلو كان عالماً بالغيب كله ، لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله ، وأنه يتأذى بذلك ويتألم ، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه ، فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات والإله هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات ، فوجب القطع بأن عيسى عليه السلام ما كان إلها فثبت أن الاستدلال بمعرفة بعض الغيب لا يدل على حصول الإلهية ، وأما الجهل ببعض الغيب يدل قطعاً على عدم الإلهية ، فهذا هو الجواب عن النوع الأول من الشبه المتعلقة بالعلم.
أما النوع الثاني : من الشبه ، وهو الشبهة المتعلقة بالقدرة فأجاب الله تعالى عنها بقوله {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلها ، لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهاراً لمعجزته وإكراماً له.(11/94)
أما العجز عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم الإلهية ، وذلك لأن الإله هو الذي يكون قادراً على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب ، والتأليف الغريب ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادراً على الإحياء والإماتة على هذا الوجه وكيف ، ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه ، فثبت أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلها ، أما عدم حصولهما على وفق مراده في سائر الصور يدل على أنه ما كان إلها ، فظهر بما ذكر أن هذه الشبهة الثانية أيضاً ساقطة.
وأما النوع الثاني من الشبه : فهي الشبه المبنية على مقدمات إلزامية ، وحاصلها يرجع إلى نوعين.
النوع الأول : أن النصارى يقولون : أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر ، فوجب أن يكون ابناً له فأجاب الله تعالى عنه أيضاً بقوله {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} لأن هذا التصوير لما كان منه فإن شاء صوره من نطفة الأب وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب.(11/95)
والنوع الثاني : أن النصارى قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم ألست تقول : إن عيسى روح الله وكلمته ، فهذا يدل على أنه ابن الله ، فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي ، واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز ، فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات ، فوجب رده إلى التأويل ، وذلك هو المراد بقوله {هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ ءايات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات} [ آل عمران : 7 ] فظهر بما ذكرنا أن قوله {الحى القيوم} إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإله ولا ابن له ، وأما قوله {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم ، وقوله {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة ، وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر ، فوجب أن يكون ابناً لله ، وأما قوله {هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} [ آل عمران : 7 ] فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن أن عيسى روح الله وكلمته ، ومن أحاط علماً بما ذكرناه ولخصناه علم أن هذا الكلام على اختصاره أكثر تحصيلاً من كل ما ذكره المتكلمون في هذا الباب ، وأنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت هذه الآية عليه ، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وأما كلام من قبلنا من المفسرين في تفسير هذه الآيات فلم نذكره لأنه لا حاجة إليه فمن أراد ذلك طالع الكتب ، ثم أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم بالتثليث ، فقال : {لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم ، وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب ، وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصور لا يكفي في كونه إلها فإن الإله(11/96)
لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز ، وكامل العلم وهو الحكيم ، وبقي في الآية أبحاث لطيفة ، أما قوله {لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} فالمراد أنه لا يخفى عليه شيء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 141 ـ 144}
قال الطبرى :
يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء. يقول : فيكف يخفى علىّ يا محمدُ - وأنا علامُ جميع الأشياء - ما يُضَاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم ، في مقالتهم التي يقولونها فيه ؟ . أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 166}
سؤال : فإن قيل : ما الفائدة في قوله {فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} مع أنه لو أطلق كان أبلغ ؟ .
قلنا : الغرض بذلك إفهام العباد كمال علمه ، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى ، وذلك لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض ، فيعين العقل على معرفة عظمة علم الله عزّ وجلّ والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ، ولذلك فإن المعاني الدقيقة إذا أُريد إيضاحها ذكر لها مثال ، فإن المثال يعين على الفهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 144}
فائدة
قال أبو حيان :
{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} شيء نكرة في سياق النفي ، فتعم ، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات ، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء ، إذ هما أعظم ما نشاهده ، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة ، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية ، إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم ، وفي ذلك ردّ على النصارى ، إذ شبهتهم في إدعاء إلهية عيسى كونه : يخبر بالغيوب ، وهذا راجع إلى العلم ، وكونه : يحيي الموتى ، وهو راجع إلى القدرة.(11/97)
فنبهت الآية على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء ، فلا يخفي عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلها ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالماً بجميع المعلومات ، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى قادراً على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلهاً ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادراً على تركيب الصور وإحيائها ، بل إنباؤه ببعض المغيبات ، وخلقه وأحياؤه بعض الصور ، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي ، وإقداره تعالى له على ذلك ، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها ، وأمثالها ، على أيدي رسله.
وفي ذكر التصوير في الرحم ردّ على من زعم أن عيسى إله ، إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم.
وقيل : في قوله {لا يخفى عليه شيء} تحذير من مخالفته سراً وجهراً ، ووعيد بالمجازاة وقيل : المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى عليه السلام.
وقال الزمخشري : مطلع على كفر من كفر ، وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه.
وقال الماتريدي : لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق ، فكيف تخفى عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم ؟ وكل هذه تخصيصات.
واللفظ عام ، فيندرج فيه هذا كله.
وقال الراغب : لا يخفى عليه شيء ، أبلغ من : يعلم في الأصل ، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحداً.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير ، والربيع ، في قوله : {هو الذي يصوركم} ردّ على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة كيف تشاء.
قال الماتريدي : فيه إبطال قول من يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب ، لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه ، فكيف يعرف القائف أنه صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور ؟ انتهى.
والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة ، فتكون الأولى : إخباراً عنه تعالى بالعلم التام ، والثانية : إخباراً بالقدرة التامة وبالإرادة.(11/98)
والثالثة : بالإنفراد بالإلهية ، ويحتمل أن يكون خبراً عن : أن.
وقال الراغب ، هنا : يصوركم ، بلفظ الحال ، وفي موضع آخر : فصوركم ، لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله ، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات ، وأيضاً : فصوركم ، إنما هو على نسبة التقدير ، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرع منه.
ويصوركم على حسب ما يظهر لنا حالاً فحالاً. انتهى.
وقرأ طاووس : تصوركم ، أي صوركم لنفسه ولتعبده.
كقولك : أثلت مالاً ، أي : جعلته أثلة.
أي : أصلاً.
وتأثلته إذا أثلته لنفسك.
وتأتي : تفعَّل ، بمعنى : فعل ، نحو : تولى ، بمعنى : ولي.
ومعنى {كيف يشاء} أي : من الطول والقصر ، واللون ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك من الاختلافات.
وفي قوله : {كيف يشاء} إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب ، لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط.
و : كيف ، هنا للجزاء ، لكنها لا تجزم.
ومفعول : يشاء ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : كيف يشاء أن يصوركم.
كقوله {ينفق كيف يشاء} أي : كيف يشاء أن ينفق ، و: كيف ، منصوب : بيشاء ، والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم ، ونصبه على الحال ، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، نحو قولهم : أنت ظالم إن فعلت ، التقدير : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم ، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب ، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى ، فتعلقها كتعلق إن فعلت ، كقوله : أنت ظالم.
وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه ، لا يهتدى له إلاَّ بعد تمرّن في الإعراب ، واستحضار للطائف النحو.
وقال بعضهم {كيف يشاء} في موضع الحال ، معمول : يصوركم ؛ ومعنى الحال أي : يصوركم في الأرحام قادراً على تصوريكم مالكاً ذلك.
وقيل : التقدير في هذه الحال : يصوركم على مشيئته ، أي مريداً ، فيكون حالاً من ضمير اسم الله ، ذكره أبو البقاء ، وجوّز أن يكون حالاً من المفعول ، أي : يصوركم منقلبين على مشيئته.(11/99)
وقال الحوفي : يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر ، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة ، وكما يشاء. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 395 ـ 396}
فائدة
قال البيضاوى :
{إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْء فِي الأرض وَلاَ فِي السماء} أي شيء كائن في العالم كلياً كان أو جزئياً ، إيماناً أو كفراً. فعبَّر عنه بالسماء والأرض إِذ الحس لا يتجاوزهما ، وإنما قدم الأرض ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ، ولأن المقصود بالذكر ما اقترف فيها. وهو كالدليل على كونه حياً. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 6}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
لا يتنفس عبدٌ نَفَساً إلا والله سبحانه وتعالى مُحْصِيه ، ولا تحصل في السماء والأرض ذرة لا وهو سبحانه مُحْدِثهُ ومُبْدِيه ، ولا يكون أحد بوصف ولا نعت إلا هو متوليه.
هذا على العموم ، فأمَّا على الخصوص : فلا رَفَعَ أحدٌ إليه حاجةً إلا وهو قاضيها ، ولا رجع أحدٌ إليه في نازلة إلا وهو كافيها. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 219}
قوله تعالى {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (11/100)
ولما قرر سبحانه وتعالى شمول علمه أتبعه دليله من تمام قدرته فقال : وقال الحرالي : ولما كان كل تفصيل يتقدمه بالرتبة مجمل جامع ، وكانت تراجم السورة موضع الإجمال ليكون تفصيلها موضع التفاصيل ، وكان من المذكور في سورة الكتاب ما وقع من اللبس كذلك كان في هذه السورة التي ترجمها جوامع إلهية ما وقع من اللبس في أمر الإلهية في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فكان في هذه الآيه الجامعة توطئة لبيان الأمر في شأنه عليه السلام من حيث إنه مما صور في الرحم وحملته الأنثى ووضعته ، وأن جميع ما حوته السماء والأرض لا ينبغي أن يقع فيه لبس في أمر الإلهية ؛ انتهى فقال مبيناً أمر قدرته بما لا يقدر عليه عيسى عليه الصلاة والسلام ولا غيره : {هو} أي وحده {الذي} وقرعهم بصرف القول من الغيبه إلى الخطاب ليعظم تنبههم على ما هم فيه من قهر المصور لهم على ما أوجدهم عليه مما يشتهونه ولا يفقهونه فقال : {يصوركم} أي أن كنتم نطفاً من التصوير وهو إقامه الصورة.
وهي تمام البادي التي يقع عليها حس الناظر لظهورها ، فصورة كل شيء تمام بدوه قال الحرالي : {في الأرحام} أي التي لا اطلاع لكم عليها بوجه ، ولما كان التصوير في نفسه أمراً معجباً وشيناً للعقل إذا تأمله وإن كان قد هان لكثرة الإلف باهراً فكيف بأحواله المتباينه وأشكاله المتخالفة المتباينة أشار إلى التعجب من أمره وجليل سره بآلة الاستفهام وإن قالوا : إنها في هذا الوطن شرط ، فقال : {كيف} أي كما {يشاء} أي على أي حالة أراد ، سواء عنده كونكم من نطفتي ذكر وأنثى أو نطفة أنثى وحدها دليلاً على كمال العلم والقيومية ، وإيماء إلى أن من صور في الأرحام كغيره من العبيد لا يكون إلا عبداً ، إذ الإله متعال عن ذلك لما فيه من أنواع الاحتياج والنقص.(11/101)
وقال الحرالي : فكان في إلاحة هذه الآية توزيع أمر الإظهار على ثلاثة وجوه تناظر وجوه التقدير الثلاثة التي في فاتحة سورة البقرة ، فينتج هدى وإضلالاً وإلباساً أكمل الله به وحيه ، كما أقام بتقدير الإيمان والكفر والنفاق خلقه فطابق الأمر الخلق فأقام الله سبحانه وتعالى بذلك قائم خلقه وأمره ، فكان في انتظام هذه الإفهامات أن بادي الأحوال الظاهرة عند انتهاء الخلق إنما ظهرت لأنها مودعة في أصل التصوير فصورة نورانية يهتدي بها وصورة ظلمانية يكفر لأجلها ، وصورة ملتبسة عيشية علمية يفتتن ويقع الإلباس والالتباس من جهتها ، مما لا يفي ببيانها إلا الفرقان المنزل على هذه الأمه ، ولا تتم إحاطة جميعها إلا في القرآن المخصوصة به أئمة هذه الأمه انتهى.(11/102)
فقد علم أن التصوير في الرحم أدق شيء علماً وقدرة ، فعلم فاعله بغيره والقدرة عليه من باب الأولى فثبت أنه لا كفوء له ؛ فلذلك وصل به كلمه الإخلاص وقال الحرالي : ولما تضمنت إلاحة هذه الآية ما تضمنته من الإلباس والتكفير أظهر سبحانه وتعالى كلمه الإخلاص ليظهر نورها أرجاس تلك الإلباسات وتلك التكفيرات فقال : {لا إله إلا هو} إيذاناً بما هي له الإلباس والتكفير من وقوع الإشراك بالإلهية والكفر فيها والتلبس والإلتباس في أمرها ؛ فكان في طي هذا التهليل بشرى بنصرة أهل الفرقان وأهل القرآن على أهل الالتباس والكفران وخصوصاً على أهل الإنجيل الذين ذكرت كتبهم صريحاً في هذا التنزيل بل يؤيد إلاحته في التهليل إظهار الختم في هذه الآية بصفتي العزة المقتضية للانتقام من أهل عداوته والحكمة المقتضية لإكرام أهل ولايته ؛ انتهى فقال : {العزيز} أي الغالب غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة ولا انفلات ، ولا معجز له في إنفاذ شيء من أحكامه {الحكيم} أي الحاكم بالحكمة ، فالحكم المنع عما يترامى إليه المحكوم عليه وحمله على ما يمتنع منه من جميع أنواع الصبر ظاهراً بالسياسة العالية نظراً له ، والحكمة العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم من قوام أمر العاجله وحسن العقبى في الآجلة ؛ ففي ظاهر ذلك الجهد ، وفي باطنه الرفق ، وفي عاجله الكره ، وفي آجله الرضى والروح ؛ ولايتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم ، فبذلك يكون تنزيل أمر العزة على وزن الحكمة قاله الحرالي بالمعنى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 13 ـ 14}
وقال ابن عاشور :
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء}(11/103)
استئناف ثان يبين شيئا من معنى القيومية ، فهو كبدل البعض من الكل ، وخص من بين شؤون القيومية تصوير البشر لأنه من أعجب مظاهر القدرة ؛ ولأن فيه تعريضا بالرد على النصارى في اعتقادهم إلهية عيسى من أجل أن الله صوره بكيفية غير معتادة فبين لهم أن الكيفيات العارضة للموجودات كلها من صنع الله وتصويره : سواء المعتاد ، وغير المعتاد.
و {كَيْفَ} هنا ليس فيها معنى الاستفهام ، بل هي دالة على مجرد معنى الكيفية ؛ أي الحالة ، فهي هنا مستعملة في أصلها الموضوعة له في اللغة ؛ إذ لا ريب في أن كيف مشتملة على حروف مادة الكيفية ، والتكيف ، وهو الحالة والهيئة ، وإن كان الأكثر في الاستعمال أن تكون اسم استفهام ، وليست كيف فعلا ؛ لأنها لا دلالة فيها على الزمان ، ولا حرفا لاشتمالها على مادة اشتقاق. وقد تجيء كيف اسم شرط إذا اتصلت بها ما الزائدة وفي كل ذلك لا تفارقها الدلالة على الحالة ، ولا يفارقها إيلاء الجملة الفعلية إياها إلا ما شذ من قولهم : كيف أنت. فإذا كانت استفهاما فالجملة بعدها هي المستفهم عنه فتكون معمولة للفعل الذي بعدها ، ملتزما تقديمها عليه ؛ لأن للاستفهام الصدارة ، وإذا جردت عن الاستفهام كان موقعها من الإعراب على حسب ما يطلبه الكلام الواقعة هي فيه من العوامل كسائر الأسماء.
وأما الجملة التي بعدها حينئذ فالأظهر أن تعتبر مضافا إليها اسم كيف ويعتبر كيف من الأسماء الملازمة للإضافة. وجرى في كلام بعض أهل العربية أن فتحة كيف فتحة بناء.
والأظهر عندي أن فتحة كيف فتحة نصب لزمتها لأنها دائما متصلة بالفعل فهي معمولة له على الحالية أو نحوها ، فلملازمة ذلك الفتح إياها أشبهت فتحة البناء.
فكيف في قوله هنا {كَيْفَ يَشَاءُ} يعرب مفعولا مطلقا "ليصوركم" ، إذ التقدير : حال تصوير يشاؤها كما قاله ابن هشام في قوله تعالى {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفجر : 6].(11/104)
وجوز صاحب "المغني" أن تكون شرطية ، والجواب محذوف لدلالة قوله {يُصَوِّرُكُمْ} عليه وهو بعيد ؛ لأنها لا تأتي في الشرط إلا مقترنة بما. وأما قول الناس كيف شاء فعل فلحن. وكذلك جزم الفعل بعدها قد عد لحنا عند جمهور أئمة العربية.
ودل تعريف الجزأين على قصر صفة التصوير عليه تعالى وهو قصر حقيقي لأنه كذلك في الواقع ؛ إذ هو مكون أسباب ذلك التصوير وهذا إيماء إلى كشف شبهة النصارى إذ توهموا أن تخلق عيسى بدون ماء أب دليل على أنه غير بشر وأنه إله وجهلوا أن التصوير في الأرحام وإن اختلفت كيفياته لا يخرج عن كونه خلقا لما كان معدوما فكيف يكون ذلك المخلوق المصور في الرحم إلها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 12 ـ 13}
قال الفخر :
قال الواحدي : التصوير جعل الشيء على صورة ، والصورة هيئة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله من صاره يصوره إذا أماله ، فهي صورة لأنها مائلة إلى شكل أبويه وتمام الكلام فيه ذكرناه في قوله تعالى : {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [ البقرة : 260 ] وأما الأرحام فهي جمع رحم وأصلها من الرحمة ، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة والعطف ، فلهذا سمي ذلك العضو رحماً ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 144}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ} أخبر تعالى : عن تصويره للبشر في أرحام الأُمهات.
وأصل الرحِم من الرّحْمة ، لأنها مما يُتَراحَم به.
واشتقاق الصُّورَة من صاره إلى كذا إذا أماله ؛ فالصورة مائلة إلى شَبَهٍ وهَيْئة.
وهذه الآية تعظيم لله تعالى ، وفي ضمنها الرد على نصارى نَجْران ، وأنّ عيسى من المَصوَّرين ، وذلك مما لا ينكره عاقل.
وأشار تعالى إلى شرح التّصْوير في سورة "الحج" و"المؤمنون".
وكذا شرحه النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود ، على ما يأتي هناك بيانه إن شاء الله تعالى.
وفيها الردّ على الطبائعيين أيضاً إذْ يجعلونها فاعلةً مستبِدّة.(11/105)
وقد مضى الردّ عليهم في آية التوحيد وفي مسند ابن سنجر واسمه محمد بن سنْجر حديث : " إن الله تعالى يخلق عِظام الجنين وغَضارِيفه من مَنِى الرجل وشحمه ولحمه من مَنِى المرأة " وفي هذا أدَلُّ دليل على أن الولد يكون من ماء الرجل والمرأة ، وهو صريح في قوله تعالى : {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [ الحجرات : 13 ] وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان وفيه : أنّ اليهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان.
قال : "ينفعك إن حدّثتك" ؟ .
قال : أسمعُ بأُذُنيّ ، قال : جئتك أسألك عن الولد.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ماء الرجل أبيضُ وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فَعَلا مَنىُّ الرجل مَنيَّ المرأة أذكَرا بإذْن الله تعالى وإذا عَلاَ مَنىُّ المرأة مَنىَّ الرجلِ آنَثَا بإذن الله " الحديث. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 7 ـ 8}
وقال الطبرى :
يعني بذلك جل ثناؤه : الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورًا أشباحًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب ، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى ، وهذا أسود وهذا أحمر. يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء ، ممنّ صوره وخلقه كيف شاء وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ ، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه ، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحامُ عليه مشتملة ، وإنما تشتمل على المخلوقين. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 166 ـ 167}(11/106)
وقال الشوكانى :
{هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قد كان عيسى ممن صوّر في الأرحام لا يدفعون ذلك ، ولا ينكرونه ، كما صوّر غيره من بني آدم ، فكيف يكون إلهاً ، وقد كان بذلك المنزل ؟! وأخرج ابن المنذر ، عن ابن مسعود في قوله : {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قال : ذكوراً ، وإناثاً . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من الصحابة في قوله : {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوماً ، ثم تكون علقة أربعين يوماً ، ثم تكون مضغة أربعين يوماً ، فإذا بلغ أن يخلق بعث الله ملكاً يصوّرها ، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه ، فيخلط منه المضغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصوّر ، كما يؤمر فيقول : أذكر أم أنثى ، أشقيّ أم سعيد ، وما رزقه ، وما عمره ؟ وما أثره ، وما مصائبه ؟ فيقول الله ، ويكتب الملك ، فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قال : من ذكر ، وأنثى ، وأحمر ، وأسود ، وتامّ الخلق ، وغير تام الخلق. أ هـ {فتح القدير حـ 1 صـ 313}
فائدة
قال فى الميزان :
والتعميم بعد التخصيص في الخطاب أعنى قوله : يصوركم بعد قوله نزل عليك للدلالة على أن إيمان المؤمنين أيضا ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر فتطيب نفوسهم بالرحمة والموهبة الإلهية في حق أنفسهم ويتسلوا بما سمعوه من أمر القدر ومن أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 14}
قوله تعالى : {كَيْفَ يَشَآءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {كَيْفَ يَشَآءُ} يعني من حُسْن وقُبْح وسواد وبَيَاض وطُول وقِصَر وسَلامة وعاهة ، إلى غير ذلك من الشقاء والسعادة.
وذُكر عن إبراهيم بن أدْهم أنّ القرّاء اجتمعوا إليه ليسمعوا ما عنده من الأحاديث ، فقال لهم : إني مشغول عنكم بأربعة أشياء ، فلا أتفرّغ لرواية الحديث.
فقيل له : وما ذاك الشغل ؟ قال : أحدها أنِّي أتفكر في يوم المِيثاق حيث قال : "هؤلاء في الجنة ولا أُبَالي وهؤلاء في النار ولا أُبَالي" فلا أدري من أي الفريقين كنتُ في ذلك الوقت.(11/107)
والثاني حيث صُوِّرتُ في الرَّحِم فقال الملك الذي هو موكلّ على الأرحام : "يا ربِّ شَقِيُّ هو أم سعيد" فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت.
والثالث حين يقبِضُ ملكُ الموت روحي فيقول : "ياربِّ مع الكفر أم مع الإيمان " فلا أدري كيف يخرج الجواب.
والرابع حيث يقول : {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [ يس : 59 ] فلا أدري في أيِّ الفريقين أكونُ.
ثم قال تعالى : {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي لا خالق ولا مصوّر سواه ؛ وذلك دليل على وحدانيته ، فكيف يكون عيسى إلهاً مُصوِّراً وهو مُصوَّرٌ.
{العزيز} الذي لا يغالب.
{الحكيم} ذو الحكمة أو المُحْكِم ، وهذا أخص بما ذكر من التصوير. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 8}
وقال الطبرى :
وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسَه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مِثل ، أو أن تَجوز الألوهة لغيره وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا ، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى ، ولجميع من ادّعى مع الله معبودًا ، أو أقرّ بربوبية غيره.
ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته ، وعيدًا منه لمن عبد غيره ، أو أشرك في عبادته أحدًا سواه ، فقال : "هو العزيز" الذي لا ينصر من أرادَ الانتقام منه أحدٌ ، ولا ينجيه منه وَأْلٌ ولا لَجَأٌ ، وذلك لعزته التي يذلُّ لها كل مخلوق ، ويخضع لها كل موجود.
ثم أعلمهم أنه"الحكيم"
في تدبيره وإعذاره إلى خلقه ، ومتابعة حججه عليهم ، ليهلك من هلك منهم عن بيّنة ، ويحيا من حيَّ عن بينة. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 168 ـ 169}(11/108)
وقال البيضاوى :
{هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} أي من الصور المختلفة ، كالدليل على القيومية ، والاستدلال على أنه عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره. وقرىء "تصوركم" أي صوركم لنفسه وعبادته. {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} إذ لا يعلم غيره جملة ما يعلمه ولا يقدر على مثل ما يفعله. {العزيز الحكيم} إشارة إلى كمال قدرته وتناهي حكمته. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 6 ـ 7}
فائدة
قال الآلوسى :
{لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} كرر الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى وانحصارها فيه توكيداً لما قبلها ومبالغة في الرد على من ادعى إلهية عيسى عليه السلام وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة إذ من هذان الوصفان له هو المتصف بالألوهية لا غيره ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير أو التناهي في القدرة والحكمة لأن خلقهم على ما ذكر من النمط البديع أثر من آثار ذلك. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 78}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : {هُوَ الَّذِى يُصَوِّرُكُمْ فِى الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}.
هذا فيما لا يزال من حيث الخلقة ، وهو الذي قدَّر أحوالكم في الأزل كيف شاء ، وهذا فيما لم يزل من حيث القضاء والقسمة.
{لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}.
فلا يُعَقِّبُ حكمهُ بالنقض ، أو يُعَارَضُ تقديره بالإهمال والرفض. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 220}
لطيفة
قال ابن عجيبة : (11/109)
مَنْ تحقق أن الله واحدٌ في ملكه ، لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وأنه أحاط به علماً وسمعاً وبصراً ، وأن أمره بين الكاف والنون ، {إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [ يس : 82 ] - كيف يشكو ما نزل به منه إلى أحد سواه ؟ أم كيف يرفع حوائجه إلى غير مولاه ؟ أم كيف يعول هما ، وسيدُه من خيره لا ينساه ؟ من دبرك في ظلمة الأحشاء ، وصوَّرك في الأرحام كيف يشاء ، وآتاك كل ما تسأل وتشاء ، كيف يَنْساكَ من بره وإحسانه ؟ أم كيف يخرجك عن دائرة لطفه وامتنانه ؟ وفي ذلك يقول لسان الحقيقة :
تَذَكَّر جَمِيلِي فِيكَ إِذْ كُنْتَ نُطْفَةً... وَلا تَنْسَ تَصْوِيرِي لشَخْصِكَ في الْحَشا
وَكُنْ وَاثِقاً بِي في أُمُورِكَ كُلِّها... سأَكْفِيكَ مِنْهَا ما يُخافُ ويُخْتَشَى
وَسَلِّمْ ليّ الأمْرَ واعْلَمْ بأنني... أُصَرِّفُ أحْكَامِي وأَفْعَلُ مَا أشا. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 248}(11/110)
بحث فى مراحل تطوّر الجنين من روائع الخلق
قال صاحب الأمثل :
إنّ عظمة مفهوم هذه الآية تجلّت اليوم أكثر من ذي قبل نتيجة للتقدّم الكبير في علم الأجنّة. فهذا الجنين يبدأ بخلية ، لا شكل لها ولا هيكل ولا أعضاء ولا أجهزة. ولكنّها تتّخذ أشكالاً مختلفة كلّ يوم وهي في الرحم ، وكأنَّ هناك فريقاً من الرسّامين المهرة يحيطون بها ويشتغلون عليها ـ ليلَ نهار وبسرعة عجيبة ـ ليصنعوا من هذه الذرّة الصغيرة وفي وقت قصير إنساناً سويّاً في الظاهر ، وفي جوفه أجهزة دقيقة رقيقة متعقّدة ومحيّرة. لو أنّ فيلماً صوّر مراحل تطوّر الجنين ـ وقد صوّر فعلاً ـ وشاهده الإنسان يمرّ من أمام عينيه لأدرك بأجلى صورة عظمة الخلق وقدرة الخالق.
والعجيب في الأمر أنّ كلّ هذا الرسم يتمّ على الماء الذي يضرب به المثل في عدم احتفاظه بما يرسم عليه.
من الجدير بالذكر أنّه عندما يتمّ اللقاح ويُخلق الجنين للمرّة الأُولى يسرع بالانقسام التصاعدي على هيئة ثمرة التوت التي تكون حبّاتها متلاصقة ، ويطلق عليه اسم "مرولا". وفي غضون هذا التقدّم تُخلق "المشيمة" وتتكامل ، وتتّصل من جهة قلب الأُم بوساطة شريانين ووريد واحد ، ومن الجهة الأُخرى تتّصل بسرّة الجنين الذي يتغذّى على الدم القادم إلى المشيمة.
وبالتدريج وعلى أثر التغذية والتطور واتجاه الخلايا نحو الخارج يتجوّف باطن "المرولا" ، وعندئذ يطلق عليه اسم "البلاستولا" ، ولا تلبث هذه حتى يتكاثر عدد خلاياها ، مؤلّفة كيساً ذا جدارين ، ثمّ يحدث فيه انخفاض يقسم الجنين إلى قسمي الصدر والبطن.
إلى هنا تكون جميع الخلايا متشابهة ولا اختلاف بينها في الظاهر.
ولكن بعد هذه المرحلة يبدأ الجنين بالتصوّر ، وتتشكّل أجزاؤه بأشكال مختلفة بحسب وظيفتها المستقبلية ، وتتكون الأنسجة والأجهزة ، وتقوم كلّ مجموعة من الخلايا ببناء أحد أجهزة الجسم وصياغته ، كالجهاز العصبي وجهاز الدورة الدموية ، وجهاز الهضم ، وغيرها من الأجهزة ، حتّى يصبح الجنين بعد هذه المراحل من التطوّر في مخبئه الخفي في رحم أُمّه إنساناً كامل الصورة. وسوف ندرج ـ بمشيئة الله ـ شرحاً كاملاً لتطوّر الجنين ومراحل تكامله في تفسير الآية 12 من سورة "المؤمنون".أ هـ {الأمثل حـ 3 صـ 392 ـ 393}(11/111)
بحث نفيس
حديث القرآن والسنة عن الحامض النووى فى الأمشاج
شكل توضيحي لجزيء (DNA)
بقلم الدكتور محمود عبد الله إبراهيم نجا
مدرس مساعد بقسم الفارماكولوجيا الاكلينيكيه- كلية طب- جامعة المنصورة - مصر
إن الحمد لله تعالى نحمده سبحانه ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فهو المهتدى ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وأشهد أن لا اله ألا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله. وبعد....(11/112)
يتناول هذا البحث قضية الجينات التي تمثل الجزء الأساسي من خلق وتصوير ذرية آدم في الأصلاب وفي الأرحام. ومع أن كل الكائنات الحية مختلفة في الأشكال والصفات إلا أنها بالإجماع تعتمد على وجود الحامض النووي في كل خلاياها مما يدفعنا إلى الاستنتاج بأن من أوجد هذه الكائنات لابد وأن يكون واحداً. ومع ذلك فقد خرج علينا من زعم بأن الحياة نشأت صدفة, وحتى الآن لم يستطع هؤلاء الْمُضِلِّينَ أن يقدموا دليلا واحدا على أباطيلهم. فالخلق والتصوير من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}الكهف51. والله قد شهد لنفسه بالوحدانية وبأنه خلق كل ما في الكون {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}الرعد16, ولا يدعى الخلق إلا من علم سر المخلوقات {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}آل عمران6,5. وحين ينسب الله التصوير في الأرحام لنفسه فإنه بذلك يقدم دليلا عمليا على أنه يعلم سر المخلوقات بما في ذلك الحامض النووي الذي ينقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء عبر النطفة التي منها يتم تصوير وخلق الذرية في الأرحام. فالله قد أخبرنا أنه بدأ خلق الإنسان بخلق آدم من الطين {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ}السجدة7, وخلق حواء من آدم {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء}النساء1, فكأن الإنسان كله قد خلقه الله من الطين باعتبار مادة الأصل {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ}المؤمنون12, ثم جعل الله نسل آدم من الماء المهين {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن(11/113)
سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ}السجدة 7, 8 , أي من الأمشاج الذكرية والأنثوية التي تخلق وتصور في الأصلاب ثم تجتمع لتعطى ألنطفه (زيجوت = Zygot) فى الرحم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}المؤمنون 13,12, ونلاحظ أن الهاء في (جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً) عائده على الإنسان بكل صفاته. وفي هذا الأخبار الرباني عن جعل الإنسان نطفه إعجاز علمي غاية في الدقة, إذ كيف تتساوى النطفة التي تمثل خليه واحده لا ترى بالعين المجردة مع الإنسان الذي يتركب من بلايين الخلايا. وهذا الإعجاز لم يعرفه العلم إلا منذ فتره بسيطة عندما فحص النطفة ليكتشف وجود إنسان كامل يعرف باسم الحامض النووي (دنا (DNA = لا يكاد يذكر في الحجم ولكنه يحمل شفره وراثية كاملة للإنسان ويمكن أن نسميه بالإنسان الجيني أو النطفة الأمشاج {هلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}الإنسان 1 , 2. والنطفة هي المسؤله عن نقل البرنامج الوراثي (Genetic programming) من الآباء إلى الأبناء {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}عبس19.(11/114)
و السؤال الآن, هل اكتفى الله بذكر المكان الذي تتكون فيه الأمشاج وهو الأصلاب كما في قوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) الطارق 6,5, 7 , أم أن الله قد بين لنا في قرآنه وعلى لسان نبيه كيفية خلق الأمشاج في الأصلاب على وجه التفصيل كما هو معلوم الآن في العلوم الحديثة. والحقيقة أن المتدبر لآيات الله التي تتكلم عن الخلق والتصوير سوف يكتشف أن الله بهاتين الكلمتين قد وصف كيفية خلق الأمشاج في الأصلاب بدقة شديدة تفوق قدرة العلوم الحديثة, ولما لا والله يقول عن نفسه (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) 1 هود.
تركيب الحامض النووي وكيفية التقدير الوراثي
DNA structure and Genetic Programming(11/115)
وحدة بناء الإنسان هي الخلية التي تحوى صوره للإنسان تعرف باسم الحامض النووي (دنا = DNA) الذي يحمل الشفرة الوراثية لكل صفات الإنسان المرئية وغير المرئية (كاللون والطول والعقل), وكأني بالله قد جعل للإنسان تمثالا (صورة) متناهي في الصغر يتكدس داخل نواة الخلية في حيز لا يزيد عن واحد على المليون من المليمتر المكعب ولكنه إذا فُرِدَ يزيد طوله على المترين. وفي بعض مراحل الخلية نجد الحامض النووي مقسم إلى ستة وأربعين جسيم صبغي تعرف بالكروموسومات التي يشبه كل منها حرف اكس (X) وهى مرتبه في أزواج عددها ثلاثة وعشرين زوجا متماثل في الشكل ومختلف في التركيب الجيني. والحامض النووي يتكون من حلزونيين ملتفين حول بعضهما وهو بدوره يحمل الجينات المسؤولة عن الصفات الوراثية الخاصة بكل إنسان. وكل جين يتركب من تتابع معين من القواعد الأمينية (Nucleotides) والتي تنحصر في أربعة أنواع وهى(ايه= A) و(جى= G) و(تى= T) و(سى= C) بحيث أن القواعد الموجودة على أحد الحلزونين تكون مكمله للقواعد الموجودة على الحلزون الأخر كما لو كان أحد الحلزونين يمثل صورة الحلزون الأخر في المرآة بحيث تكون القاعدة(ايه) مكمله للقاعدة (تى) والقاعدة (جى) مكمله للقاعدة (سى) (صوره 1).
(صوره 1 : تركيب الحامض النووى)(11/116)
ومن آيات الله أن كافة خلايا الجسد تحوى 46 كروموسوم فردى إلا خلايا الأمشاج فإنها تحوى نصف هذا العدد أي 23 كروموسوم فردى. وبعد التلقيح بين الذكر والأنثى تلتقي الأمشاج في الرحم لتتكون النطفة التي تحمل الشفرة الوراثية للذرية مع العلم بأن نصف الصفة الوراثية يأتي من الذكر والنصف الأخر يأتي من الأنثى. والشفرة الوراثية في النطفة هي المسؤله عن تكوين الذرية في الأرحام وذلك من خلال تصوير كل جين في الشفرة الوراثية لخلق البروتين المماثل لذلك الجين. وكأن تمثال الشفرة الوراثية الموجود في النطفة يعمل كقالب لصب الذرية عليه في الأرحام.
التقدير الوراثي في القرآن والسنة
لاحظنا مدى دقة كلمة التصوير في وصف انتقال الصفات الوراثية من الخلايا الجسدية إلى الأمشاج ومن النطفة إلى الجنين في الرحم. وعليه فان الآيات والأحاديث التي تتناول التقدير الوراثي لابد وأنها تتحدث عن التصوير مقرونا بالخلق أو منفصلا عنه.
أولا : آيات التصوير بترتيب المصحف :
1. (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ) 6 آل عمران.
2. (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ)11 الأعراف.
3. (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) 64 غافر.
4. (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسماء الْحُسْنَى)24 الحشر.
5. (هُوَبَصِيرٌ.خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) 2, 3 التغابن.
6. (يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ.الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ .فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) 6, 7, 8 الانفطار.(11/117)
ثانيا : أحاديث التصوير :
1. (خلق الله آدم على صورته) أحمد والبخاري ومسلم.
2. (إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعين ليله بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب اذكر أم أنثى فيقضى ربك ما يشاء ويكتب الملك ) مسلم.
3. (اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين) مسلم والنسائي والدراقطنى والبيهقى. وفي رواية أخرى جاء الحديث بزيادة فأحسن صورته موافقة لما في القرآن (سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صورته ) مسلم وسنن أبى داود والنسائي. وفي رواية أخرى جاء الحديث بزيادة فأحسن صوره (سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صوره ) مسلم وأحمد وابن حبان والدار قطني وأبو داود.
الهدف من البحث
1. إثبات إعجاز القرآن والسنة في وصف الحامض النووي والتقدير الوراثي بكلمتين هما الخلق والتصوير.
2. شرح دورة الخلية (cell cycle) وما يحدث فيها من انقسام منصف (ميوزى) أو تضاعفي (ميتوزى).
3. شرح كيفية تحسين النسل في أثناء تكوين الأمشاج وفي أثناء التقدير الوراثي للنطفة.
4. شرح العلاقة بين الخلق والتصوير في الأصلاب وفي الأرحام.
العلاقة بين الخلق والتصوير(11/118)
إذا أخذنا بترتيب سور المصحف نجد أن أول مره يجتمع فيها الخلق مع التصوير في آية واحده هي (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ) 11 الأعراف. وبالرجوع إلى كتب المفسرين نجد أنهم قد اختلفوا في تأويل هذه الآية, واختلاف العلماء في تفسير هذه الآية يرجع إلى اختلافهم في فهم الجمع في (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) هل هو لتعظيم آدم أم أنه جمع حقيقي يشمل آدم وحواء والذرية. أيضا اختلفوا حول زمان خلق وتصوير الذرية هل هو قبل السجود لآدم أم بعد السجود. كما اختلفوا أيضا حول مكان خلق وتصوير الذرية, هل هو في الأصلاب أم في الأرحام أم في الاثنين معا.
فذهب بعض العلماء كالطبري وابن كثير إلى أن المقصود في هذه الآية هو آدم وأن التصوير حدث بعد الخلق لإيجاد الشكل الخارجي لآدم وقبل سجود الملائكة, فقال الطبري وابن كثير نقلا عن الزجاج وابن قتيبة (خَلَقْنَاكُمْ) أي خلقنا آدم و(صَوَّرْنَاكُمْ) بتصويرنا آدم وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر, فالعرب قد تخطاب الرجل بالأفعال تضيفها إليه والمراد في ذلك سلفه كما قال الله لليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة) فالخطاب موجه إلى الأحياء من اليهود والمراد به سلفهم المعدوم, فكذلك (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) أى خلقنا أباكم آدم ثم صورناه.(11/119)
و حيث أن أصحاب هذا القول لم يعرفوا ما وصل إليه العلم الحديث من أن التصوير الوراثي للأبناء يمر بثلاثة مراحل, الأولى في الأصلاب أثناء تكوين الأمشاج, والثانية عند اجتماع الأمشاج لتكوين النطفة, أما الثالثة فهي تصوير الجنين من النطفة في الأرحام. ولما اقتصر علم أصحاب هذا القول على معرفة تصوير الأرحام {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ}آل عمران6, قالوا باستحالة أن يكون هناك تصوير للذرية قبل السجود لآدم وفات عليهم أن الإنسان قبل أن يخلق في الأرحام يخلق في الأصلاب ({فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}الطارق7,6,5. والأمشاج خلقت في صلب آدم وحواء من قبل السجود لآدم ومنها أخذ الله الذرية حين الميثاق {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى}الأعراف172, وفي الحديث (أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال : ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا) رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني.
و اذا كان الإنسان على ضعف قدراته إذا أراد أن يبنى بيتا واجتمعت لديه مقدرات البناء تكلم عن البيت قبل اكتمال البناء كأنه موجود, فيقول مثلا أنا ذاهب إلى البيت على اعتبار ما سوف يكون. فكيف بالله القادر لا يتكلم عن الذرية قبل السجود لآدم وهو قد خلق الأمشاج (أصل الذرية) في صلب آدم قبل السجود, ولا يعقل أن آدم كان بدون خصية وأمشاج قبل السجود وآدم قد خلق كاملا قبل السجود كما نص على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على صورته) وقول الله تعالى (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين).(11/120)
و قد كنت أظن أنني أول من ذهب إلى أن الجمع في (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) قد يمتد ليدل على الجنس البشرى آدم وحواء والذرية, وأن التصوير قد يمتد أيضا ليشمل تصوير الذرية من آدم. إلا أنني وبفضل الله قد وجدت أن هذا الرأي قد سبقني إليه بعض كبار المفسرين كالقرطبي والشوكانى وأبو جعفر النحاس نقلا عن أقوال العديد من السلف الصالح :
1. عن ابن عباس {خَلَقْنَاكُمْ} آدم و{صَوَّرْنَاكُمْ} فذريته خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في الأرحام.
2. عن قتادة والسدي والضحاك قال : {َقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي خلقنا آدم ثم صورنا الذرية في الأرحام
3. عن عكرمة والأعمش {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} خلقناكم في أصلاب الرجال وصورناكم في الأرحام.
4. عن مجاهد {خَلَقْنَاكُمْ} قال : آدم و{صَوَّرْنَاكُمْ} قال : خلقناكم في ظهر آدم ثم صورناكم حين الميثاق
5. عن الحسن {خَلَقْنَاكُمْ} يريد آدم وحواء فآدم من التراب وحواء من ضلع من أضلاعه {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ثم وقع التصوير بعد فالمعنى : ولقد خلقنا أبويكم ثم صورناهما.(11/121)
فأقوال أصحاب هذا القول تدل على أن التصوير في {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} يمتد ليشمل الذرية. والاختلاف بينهم على مكان تصوير الذرية فمنهم من قال خلقوا وصوروا في الأصلاب ومنهم من قال في الأرحام ومنهم من قال خلقوا في الأصلاب وصوروا في الأرحام. قال القرطبي كل هذه الأقوال محتمل وأصحها ما يعضده التنزيل قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} يعني آدم و{َخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} حواء {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} أي جعلنا ذريته نطفا خلقوا في أصلاب الآباء وصوروا في الأرحام. فيكون معنى الآية, بدأ الله خلقكم أيها الناس بآدم وحواء وخلقكم منهما بخلق الأمشاج التي تحمل التقدير (البرنامج الوراثي) لخلقكم وتصويركم في الأرحام ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم.
علاقة التصوير في القرآن والسنة بالحامض النووي
لكل كائن حي كالإنسان صورة مميزة عن باقي الكائنات ركبها الله وفق مشيئته (في أي صورة ما شاء ركبك). والعلم الحديث يقول بأن الصورة الشكلية للكائن لن تتركب إلا في وجود الحامض النووي (دنا) الذي يمثل الصورة الجينية (الشفرة الوراثية) للصورة الشكلية للكائن. وبإذن الله سوف نثبت في هذا البحث أن التصوير المذكور في القرآن والسنة يحمل في طياته إلى جانب الكلام عن الشكل الخارجي الكلام عن الحامض النووي ودوره في انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء وذلك بالأدلة الآتية :
1. الخالق اسم عام والمصور اسم خاص(11/122)
ذكر الله التصوير في الكلام عن الإنسان في ستة آيات فقط في مقابل العدد الكبير من الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان وغيره من المخلوقات. وكل المخلوقات الغير الحية كالسماوات والأرض والجبال والشمس والقمر والنجوم لها صورتها الشكلية الخاصة بها, ولو كانت تأخذ صورتها باسم المصور لاقترن فعل التصوير بفعل الخلق في ايجادها كما حدث مع الإنسان. ومثال ذلك :
أ - حواء {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}النساء1
ب - الأنعام {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ}النحل5
ت - النبات {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض} يس36
ث - إبليس {َ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}الأعراف12
ج - الجان {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ}الحجر27
ح - السماء والأرض (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) 57 غافر
خ - الطرائق {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}المؤمنون17(11/123)
و هذا يوضح لنا أن كل مصور مخلوق وليس كل مخلوق بمصور, قال تعالى {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}الرعد16. ومن المعلوم أن المخلوقات تنقسم إلى صنفين أحدهما له ذريه والآخر ليس له ذريه. وكل ذريه هي صوره من أبائها ولا يحدث ذلك إلا عن طريق الجينات والقواعد الوراثية المعلومة. وعليه فعدم ذكر التصوير مع الجمادات لأنها لا تتكاثر بينما ذكر التصوير مع الإنسان لأنه يتكاثر وله ذريه على صوره أبيها آدم في كل التركيبات إلا أنها تختلف عنه في الشكل. ولما كانت القوانين التي تحكم تكاثر الكائنات الحية الأخرى مشابهة لقوانين تكاثر الإنسان فلم يذكر الله التصوير مع هذه الكائنات لأنه معلوم بالاستنباط من سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري (أتى رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ولد لي غلام أسود فقال النبي هل لك من ابل, قال نعم, قال ما ألوانها, قال حمر, قال هل فيها أورق, قال نعم, قال فأنى ذلك, قال لعل نزعه عرق, قال لعل ابنك هذا نزعه عرق).
2. تحدى الله الناس بإيجاد الذباب بالخلق وليس بالتصوير
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}الحج73, ولو كان التحدي بالتصوير لفعلها الإنسان بالاستنساخ بأن يأتي بخليه من الذبابة بما تحتويه من كروموسومات تحمل صوره وراثية مطابقة للذبابة الأم وباستثارة هذه الخلية بطريقه معينه فنحصل على ذبابه طبق الأصل من الذبابة الأم وهذا ما قد حدث بالفعل مع النعجة دولي. ومع أن الاستنساخ ليس بمعجزه لأن الإنسان يستخدم فيه الحامض النووي المصنوع من قبل الله إلا أن الله لم يتحدى البشر بالتصوير ولو تحداهم بالتصوير لأعجزهم لأنهم لن يستطيعوا صنع الحامض النووي. ولأن الله لا يريد الجدل بل يريد التعجيز فقد تحداهم بالخلق وليس التصوير كما تحدى النمرود بأن يأتي بالشمس من المغرب ولم يجادله في إحياء الموتى.(11/124)
3. معنى التصوير
قال القرطبي والشوكانى أصل اشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله, فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة (أ.ه). وهذا التعريف يعطينا فكره عن لوازم التصوير وهي مصور وآلة تصوير والشئ المراد أخذ صوره له ومادة يتم التصوير عليها (الفيلم). وقد قال تعالى عن نفسه أنه المصور وآلة التصوير عنده كن فيكون. فما هو هذا الشيء المراد أخذ صوره له وما هي المادة التي يتم التصوير عليها (الفيلم) ؟
بعد أن خلق الله آدم خلقا كاملا بصورته كما في الحديث المتفق عليه (خلق الله آدم على صورته) صار آدم هو الشيء الذي يتم أخذ صوره له وهذه الصورة قد أخذت على مادة يتم التصوير عليها. أقول وبالله التوفيق بأن هذه المادة التي تحمل صوره طبق الأصل من آدم هي الحامض النووي الموجود بداخل خلايا جسم آدم. ومن المعلوم أن الحامض النووي هو صوره طبق الأصل من صاحبه وقد استخدمت هذه الحقيقة في عملية استنساخ الكائنات الحية من الخلايا الخاصة بها ومثال ذلك النعجة دوللي. ويدل على صحة هذا الفهم قول الله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ}آل عمران 6 , فالله هو المصور وآلة التصوير كن والصورة هي الذرية, والشيء الذي تم تصوير الذرية منه في الأرحام هو الحامض النووي في النطفة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}المؤمنون 13,12. فالحامض النووي يمثل الوسيط في نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء بحيث يكون الآباء هم الأصل والذرية لهم صوره, قال تعالى واصفا الذرية بكلمة صوره {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}الانفطار8. والتصوير بهذه الكيفية يعطى الكمال لاسم الله المصور لأنه بذلك أوجد التقدير الوراثي لخلق الذرية من النطفة في الأرحام.
4. دقة كلمة التصوير في وصف انتقال الصفات الوراثية عبر الحامض النووي(11/125)
لا يستطيع أي عالم من علماء الوراثة أن ينكر أن الحامض النووي في الخلية البشرية هو صورة (تمثال) الجسم البشرى وأن الجنين في الرحم هو صورة (تمثال) الحامض النووي في النطفة. ولذا سمى الله الجنين في الرحم صورة (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ) (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ). وكلمة التصوير المستخدمة في القرآن والسنة أدق من كلمة النسخ (Copy = Transcript) المستخدمة في اللغة الانجليزية لوصف انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء عبر الأمشاج, فالنسخ يقتضي النقل الحرفي بدون تغيير أي المساواة أو التكرار. والتكرار قد يحدث في التكاثر اللاجنسى في الكائنات الحية من أجل تضاعف عدد الخلايا ولكنه لا يحدث في أثناء انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء عبر الأمشاج وإلا لما كان هناك تحسين في النسل ولكان الأبناء مثل الآباء في الشكل والتركيب الوراثي. أما كلمة التصوير (التمثيل) لغة العرب فتدل على احتمالية حدوث تغير في الصورة عن الأصل حتى ولو كان التغيير في الاتجاه فقط كما يحدث لصورة الإنسان في المرآة أو في الصور الفوتوغرافية. كما أن التصوير قد يكون مطابق للأصل فيكون بمعنى النسخ. إذا فالتصوير قد يراد به التساوي أو الاختلاف.
و هذا الفارق الكبير بين النسخ والتصوير (التمثيل) ليس ابتداعا منى ولكنه معروف ومستخدم في لغة العرب ونجده كالأتى :
معنى النسخ في لغة العرب :
في لسان العرب : يُراد به النقل ، ومنه نسخ الكتاب : أي نقل صورته إلى كتاب آخر {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}الجاثية29 ، أي ننسخ ما تكتبه الحفظة ، فيثبت عند الله سبحانه.
معنى التصوير والصورة في لغة العرب.(11/126)
1. لسان العرب : المُصَوِّرْ هو الذي صَوَّر جميع الموجودات ورتبها فأَعطى كل شيء منها صورة خاصة يتميز بها على كثرتها. وقد صَوَّرَهُ صُورةً حَسَنَةً فتَصَوَّر (تشكل). والتَّصاوِيرُ : التَّماثيلُ.
2. مختار الصحاح : التِّمْثَالُ هو الصورة المصورة.
3. تاج العروس : الصُّورَةُ بالضَّمّ : الشَّكْلُ والهَيْئةُ والحقيقةُ والصِّفة. وقال المصنّف في البصائر : الصُّورَةُ ما ينتقش به الإنسان ويتميَّزُ بها عن غيره وذلك ضَرْبانِ : ضَرْبٌ محسوس يُدْركُها الإنسانُ وكثيرٌ من الحيوانات كصُورَةِ الإنْسَان والفَرَسِ والحِمارِ . والثاني : معقُولٌ يُدْرِكه الخاصَّةُ دونَ العَامَّة كالصُّورَةِ التي اخْتُصّ الإنْسَانُ بها من العَقْلِ والرَّويّضةِ والمَعَاني التي مُيِّزَ بها وإلى الصُّورتَيْن أشارَ تعالى (وَصَوَّرَكُمْ فأحْسَنَ صُوَرَكُمْ). وقد صَوَّرَهُ صُورةً حَسَنَةً فتَصَوَّر (تشكل).
معنى التماثلُ في لغة العرب وعلاقة ذلك بالتصوير.
1. في لسان العرب وتاج العروس : مِثل كلمةُ تَسْوِيَةٍ والفرقُ بين المُماثَلةِ والمُساواةِ أنّ التساويَ هو التكافُؤُ في المِقدارِ لا يزيدُ ولا يَنْقُصُ وأمّا المُماثَلةُ فقد تكون على الإطلاق فمعناه أنّه يَسُدُّ مَسَدَّه وإذا قيل : هو مثلُه في كذا فهو مُساوٍ له في جِهةٍ دونَ جِهةٍ. وماثَلَ الشيءَ شابهه والتِّمْثالُ الصُّورةُ والجمع التَّماثيل ومَثَّل له الشيءَ صوَّره حتى كأَنه ينظر إِليه. والتِّمْثال اسم للشيء المصنوع مشبَّهاً بخلق من خلق الله وجمعه التَّماثيل وأَصله من مَثَّلْت الشيء بالشيء إِذا قدَّرته على قدره.
2. مختار الصحاح : مِثْلٌ كلمة تسوية والمَثَلُ ما يضرب به من الأَمْثَالِ ومَثَّلَ له كذا تمثِيلاً إذا صور له مثاله بالكتابة أو غيرها والتِمْثَالُ الصورة والجمع التَمَاثِيلُ
علاقة التصوير والتمثيل بالحامض النووى والكروموسومات(11/127)
1. العلاقة بين الكائن الحي والحامض النووي علاقة مماثله (تصوير) وليست مساواة (نسخ) وذلك لاختلاف الحجم فهما غير متكافئين في المقدار اذ أن الحامض النووي في حجم الذر بالنسبة للكائن الحي. إلا أن الحامض النووي يحمل صوره للكائن تمثل الشَّكْلُ والهَيْئةُ والحقيقةُ والصِّفة بمعنى أنه يحمل الصفات المرئية وغير المرئية للكائن. فالحامض النووي يشبه الإنسان في جهة دون جهة.
2. الحامض النووي عبارة عن شفره وراثية مشابهه للكائن. وعليه فالحامض النووي هو اسم لشيء مصنوع مشبَّهاً بخلق من خلق الله وأَصله من مَثَّلْت الشيء بالشيء إِذا قدَّرته على قدره ويكون تَمْثيل الشيء بالشيء تشبيهاً به واسم ذلك الممثَّل تِمْثال.
3. الحامض النووي يسد مسد الكائن الحي فهو مِثلُه على الإطلاق في الصفات وبالحامض النووي يستدل على الكائن الخاص بذلك الحامض النووي اذ أن لكل كائن الحامض النووي الخاص به.
تعريف اسم الله المصور :
هو قدرة الله على أن يجعل لكل كائن من الكائنات الحية صورة مميزة له عن الكائنات الأخرى مع أخذ صوره طبق الأصل من الصفات الشكلية للكائن على الحامض النووي بحيث يكون لكل صفه شكليه ((phenotype صفه جينية(Genotype) مقابله لها بكيفية لا يعلمها إلا الله, وبحيث يكون لكل كائن حي صورة وراثية خاصة به.
شرح آيات وأحاديث الخلق والتصوير(التقدير) الوراثي للإنسان
يدور الكلام في هذا الباب على أربعة مراحل اساسيه :
1. خلق وتصوير آدم وحواء والخلايا الجنسية المكونة لأمشاج الذرية
2. خلق وتصوير الأمشاج في الأصلاب
3. التلقيح والتقدير الوراثي في النطفة
4. خلق وتصوير الذرية في الأرحام
ولكبر حجم الموضوع فسوف اكتفى في هذا البحث بشرح المرحلتين الأولى والثانية مع ربطهما بالرابعة لتتم الفائدة, على أن يكون شرح المرحلتين الثالثة والرابعة في بحث لاحق بإذن الله.(11/128)
1- خلق وتصوير آدم وحواء والخلايا الجنسية المكونة لأمشاج الذرية
قال تعالى عن الخلق الأول (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ) 11 الأعراف
معنى خلقناكم في الآية : (صوره 2)
خلق الجنس البشرى بالكامل ابتداء من خلق آدم بكل صفاته الشكلية المرئية وغير المرئية بما فيها الخلية الجنسية المكونة للمشيج الذكرى (Spermatogonium) في الخصية ثم خلق حواء من آدم (و خلق منها زوجها) بكل صفاتها الشكلية المرئية وغير المرئية بما فيها الخلية الجنسية المكونة للمشيج الأنثوي (Oogonium) في المبيض. والخلايا الجنسية هي بداية خلق أمشاج الذرية في الأصلاب كما سنرى ذلك في المرحلة الثانية من مراحل التقدير الوراثي للإنسان. (صوره 2. معنى خلقناكم)
معنى صورناكم في الآية : صورة 3
هذه الكلمة تدل على ثلاثة أنواع من التصوير الوراثي :
1. تصوير آدم : هو تصوير الصفات الشكلية المرئية وغير المرئية (phenotype)لجسد آدم على الحامض النووي في الخلية الجسدية والجنسية بحيث لا توجد صغيره أو كبيره من صفات آدم الجسدية إلا ولها صوره طبق الأصل ممثله بعدد معين من الجينات (Genotyping).
2. تصوير حواء : وقد تم والله أعلم كتصوير آدم.
3. تصوير الذرية : بما أن كلمة صورناكم تتضمن تصوير الخلايا الجنسية لآدم وحواء والتي تمثل الأصل في تصوير أمشاج الذرية في الأصلاب, إذاّ فكلمة صورناكم تشمل تصوير الذرية في الأصلاب كما سنرى ذلك في المرحلة الثانية من مراحل التقدير الوراثي للإنسان.
(صوره 3. معنى صورناكم)
2- خلق وتصوير الأمشاج في الأصلاب (gametogenesis)
(صوره 4. شكل الكروموسوم)(11/129)
بدأ الله خلق الذرية في الأصلاب بخلق الخلايا الجنسية (Germinal cells) المكونة للحيوانات المنوية في آدم (Spermatogonium) والمكونة للبويضات في حواء (Oogonium). والخلايا الجنسية في الخصية والمبيض تحتوى على 46 كروموسوم فردى (23 زوج) مثل الخلايا الجسدية, وكل كروموسوم يتكون من خيطين متصلين بنقطه مركزيه(centromere) على شكل حرف اكس (صوره 4), وهذه الكروموسومات تظهر في الخلية في فترات انقسامها.
يتم خلق الأمشاج من الخلايا الجنسية كالآتي :
أولا : الانقسام التضاعفي = الميتوزى(Mitosis) .
الهدف منه زيادة عدد الخلايا الجنسية وتكوين مخزون للمستقبل. في هذا الانقسام يحدث انشطار لكل كروموسوم في الخلية الجنسية إلى نصفين بحيث تتحول ال 46 كروموسوم كامل في الخلية الجنسية إلى 92 نصف كروموسوم. يتبع ذلك انقسام الخلية الجنسية إلى خليتين متماثلتين تحتوى كل منهما على 46 نصف كروموسوم. بعد الانقسام إلى خليتين يتم تصوير (نسخ) كل نصف كروموسوم في كل خليه ليعطى النصف المكمل له بحيث تتحول أنصاف الكروموسومات إلى كروموسومات كاملة (صوره 5).
(صوره 5 . الانقسام التضاعفي = الميتوزى)
ثانيا : الانقسام الاختزالي = الميوزى (Meiosis).
الهدف منه تحويل الخلية الجنسية في الأصلاب إلى الأمشاج وذلك على مرحلتين :
1. الانقسام الاختزالي الأول = التنصيفى (الميوزى الأول) : (صورة 6)(11/130)
يهدف إلى اختزال عدد 46 كروموسوم فردى كامل (23 زوج) في الخلية الجنسية إلى نصف العدد في الأمشاج أى 23 كروموسوم فردى كامل. وفيه تنقسم الخلية الجنسية إلى خليتين كل منهما تحتوى على 23 كروموسوم فردى كامل وتسمى الخلية المشيجيه الأولية. مع العلم بأنه أثناء الانقسام التنصيفى الأول يحدث تبادل لبعض الجينات بين كل كروموسومين من الكروموسومات الزوجية المتماثلة في الشكل وهذا ما يعرف في الوراثة باسم التصالب (كيازما) أو العبور (CHISMATA = Cross over). ويعد التصالب المسؤول الرئيسي عن تحسين النسل حيث ينشأ عنه اختلاف في صفات الأمشاج الجينية عن بعضها البعض وعن الأصل بحيث أن الأبناء لا تشابه الآباء وبحيث يختلف البشر عن بعضهم البعض. وعملية التصالب لكي تحدث تمر بالخطوات الآتية (صورة 7) :
أ - في كل زوج من الكروموسومات الزوجية المتماثلة يحدث ميل لأحدهما على الأخر
ب - التعانق بين كل كروموسومين من الكروموسومات الزوجية المتماثلة في الشكل
ت - تكثف بعض من أجزاء الكروموسومات المتعانقه ليتكون عليها عقد (loop = Knob) قريبة الشبه من شلة الخيط (Slooped skeins) المتصله بخيط رفيع أو رأس الإنسان على عنقه.
ث - تثاقل العقد على أطراف الكروموسومات المتعانقة (أو تثاقل الرأس على العنق إذا مالت جانبا)
ج - هذا التثاقل عند أطراف الكروموسومات المتعانقة يؤدى إلى حدوث توتر عند العنق لا يزول إلا بحدوث تشققات عند العنق (Craks) ينشأ عنها تقطع أطراف الكروموسومات المتعانقة إلى قطع صغيره مع تبادل القطع بين الكروموسومات المتعانقة لكي ينشأ تغيير في صفات الأمشاج الجينية عن بعضها البعض وعن الأصل.
(صوره 7. خطوات التصالب)
(صورة 6. الانقسام الميوزى الأول)
2. الانقسام الاختزالي الثاني = المتساوي (الميوزى الثاني) : (صورة 8)(11/131)
يهدف إلى تضاعف الخليتين المشيجييتين الأوليتين الناتجتين من الانقسام الميوزى الأول إلى أربع خلايا مشيجيه ثانوية لها نفس التركيب الجينى للخليه المشيجيه الأولية, أي انقسام بدون تحسين وراثي. وحاصل الميوزى الثاني في الذكر هو أربع حيوانات منوية كل منها يحتوى على 23 كر وموسوم فردى كامل, أما في الأنثى فبويضة واحدة وثلاثة أجسام قطبيه كل منها يحتوى على 23 كروموسوم فردى كامل. وخطوات هذا الانقسام هي نفس خطوات الانقسام التضاعفي (الميتوزى) السابق شرحه (صوره 5).
(صورة 8. الانقسام الميوزى الثاني)
وصف خلق وتصوير الأمشاج في القرآن والسنة
1. وصف الانقسام التضاعفي = الميتوزى (Mitosis) الذي يؤدى إلى زيادة عدد الخلايا الجنسية
لوصف هذا الانقسام نحتاج إلى الكلمات الآتية :
أ - الخلق لوصف الإيجاد والزيادة في عدد الخلايا (خليه تتحول إلى خليتين)
ب - التصوير لوصف تحول أنصاف الكروموسومات إلى كروموسومات كاملة كالموجوده في الخلية الأم, أي أنه تصوير بدون تحسين.
ت - وصف العلاقة بين الخلق والتصوير بأنهما منفصلين, فنربط بينهما بـ (ثم).
هذه المواصفات تجتمع في (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ) 11 الأعراف.
وهذا النوع من التصوير حدث في أصلاب آدم وحواء والذرية.
2. وصف الانقسام الاختزالي الأول = التنصيفى (الميوزى الأول) الذي ينصف الخلية الجنسية
لوصف هذا الانقسام نحتاج إلى الكلمات الآتية :
أ - الخلق لوصف الإيجاد والزيادة في عدد الخلايا (خليه واحده تتحول إلى خليتين)
ب - التصوير لوصف حدوث التصالب بين الكروموسومات وتبادل الجينات (وصف دقيق)
ت - ناتج عملية التصالب وهو حدوث تحسين في صور الأبناء عن الآباء
ث - وصف العلاقة بين الخلق والتصوير بالمصاحبه فنربط بينهما بـ (الواو)(11/132)
هذه المواصفات تجتمع في آية {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}التغابن2, 3. وفي الحديث الصحيح الموافق للآية (سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صورته) وفي رواية أخرى (سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صوره).
وهذا النوع من التصوير حدث في أصلاب آدم وحواء والذرية.
قال المفسرون (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي الصورة الشكلية الحسنه. وإذا كان هذا هو المعنى فماذا نقول في القبيح والأحدب والذي ينقصه عضو أو يزيد عليه عضو أو تأتى أعضائه في غير مكانها الأصلي كأن يأتي القلب في اليسار مثلا وهذه الاختلافات الشكلية ليست بقليلة, فاللون الأسود تمثله أمة الزنوج وقصر القامة صفة الأسيويين. والله يركب الإنسان في أي صوره شاء حسن أو قبيح {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}الانفطار8. والأصل أن الله أحسن كل شيء خلقه وخلق الإنسان في أحسن تقويم بالنسبة لسائر الأجناس, وما كان لنا أن ندرك عظمة الله في فعله إلا بوجود القبيح.
اتفقنا على أن التصوير لا يخص الشكل الخارجي وإنما يخص الحامض النووي والتقدير الوراثي, وعليه (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ليس حسن الشكل. وبالرجوع إلى لسان العرب وجدت أن معنى (أَحْسَنَ) بتسكين الحاء وفتح السين والنون هو(حَسَّن) بتشديد السين بمعنى التحسين, وعليه فان الآية جاءت لتصف التصوير الوراثي المسؤول عن تحسين صور الذرية بحيث لا تشابه الآباء والذي يحدث في الانقسام المنصف (الميوزى) الأول المشتمل على التصالب ، وهذا القول تشهد له الأدلة الآتية : (11/133)
1. الآية تخاطب الذرية ولا تخاطب آدم وحواء, وهذا ما لا يمكن أن يحدث في هذه الآية لأن آدم وحواء هما أصل الذرية وليسا بصورتين يدخل عليهما التحسين, ولذا فان الخطاب في الآية صريح في كونه موجه للذرية فقط (خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ).
2. جاء الكلام عن التصوير في هذه الآية في سياق الكلام عن الخلق, فلابد أن الآية تتكلم عن التصوير أثناء عملية خلق ذرية آدم.
3. الفعل (صُوَرَكُم) على صيغة الماضي فلابد أن هذا الفعل حدث قبل الفعل (يُصَوِّرُكُمْ) المذكور في آية آل عمران (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ), ولو قال قائل بأن صيغة الماضي هذه أيضا قد تصف الجنين بعد إتمام تصويره في الرحم فنرد بأن التصوير هنا يتكلم عن التقدير الوراثي وليس عن وصف الصورة الشكلية. وطالما أن الفعل (صُوَرَكُم) سابق في الزمن للفعل(يُصَوِّرُكُمْ) فلابد أن الكلام في (صوركم) عن خلق الأمشاج في الأصلاب لأنها المرحلة السابقة للنطفة التي تتكون في الرحم.
4. كلمة (صُوَرَكُم) يلزمها وجود مصور وهو الله, وشيء يتم إعطاءه الصورة, وشيء يتم أخذ صوره منه, والخطاب للذرية ب(صُوَرَكُم) يدل على أن الصورة سوف تعطى للذرية وبالتالي فان الصورة سوف تأخذ من الآباء. وانتقال الصورة من الآباء إلى الأبناء لا يكون إلا في أثناء خلق الأمشاج.
5. اقترن الخلق بالتصوير في الآيتين بحرف العطف الواو الذي يدل على المصاحبة وتبعهما وصف النتيجة الفورية للتصوير بقوله (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) لتدل على التحسين الوراثي الناتج عن التصالب وكأن الآية تكون هكذا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ------------ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) 3,2 التغابن.(11/134)
6. لا توجد كلمه على وجه الأرض لوصف أحداث عملية التصالب ككلمة (صُوَرَكُم) التي تأحذ عدة معانى يكمل بعضها بعضا من أجل وصف التصالب وصفا دقيقا لا يقدر عليه البشر. فالصورة مشتقه من الصَّوَرُ وهو الميل وذلك ما نجده في معاجم اللغة العربية كلسان العرب وتاج العروس :
أ - الصَّوَرُ بالتحريك : المَيَل وصارَ الشيءَ صَوْراً : أَماله فمال وخص بعضهم به إِمالة العنق والرجلُ يَصُور عُنُقَهُ إِلى الشيء إِذا مال نحوه بعنقه وصارَ وجَهَهُ يَصُورُ : أَقْبَل به .
ب - ُوفي حديث عكرمة : حَمَلَة العَرْشِ كلُّهم صُورٌ هو جمع أَصْوَر وهو المائل العنق لثقل حِمْلِهِ .
ت - وصارَ الشَّيْءَ يَصُورُه صَوْراً : قَطَعَه وفَصَّلَه صُورَةً صُورَةً
ث - وفي التنزيل (فَصُرْهُنَّ إلَيْك)َ قال بعضُهم : صُرْهُنّ : وَجِّهْههُنّ وصِرْهُنّ : قَطِّعْهُنّ وشَقِّقْهُنّ.
ومجموع هذه المعاني السابقة هو ملخص التصالب الذي يحدث فيه ميل وتعانق للكروموسومات مع تشقق وتقطع لبعض أجزاءها لثقل الحمل على بعض أجزائها, ثم التحسين بتبادل الأجزاء المتقطعة بين الكروموسومات المتعانقة (صوره 5)(11/135)
7. تخيل لو أن الله قال (وَصَوَّرَكُمْ) فقط ولم يقل (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) لكان المفروض وراثيا أن تكون الأبناء صوره طبق الأصل من الآباء. ولكن لما ذكر الله (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) دل هذا على حدوث تغيير معين في الصفة الجينية للأمشاج عن الصفة الجينية للآباء عن طريق التصالب. هذا التغيير في الصفة الجينية هو الذي يؤدى إلى الاختلاف العظيم الذي نراه في الصفات الشكلية للبشر كلهم. وهذا ما سجله العلم الحديث ليثبت عظمة القرآن وأنه ليس من كلام البشر فيقول العلم بأنه إذا فرضنا أن الخلية الجنسية تحوى زوج واحد من الكروموسومات فعند حدوث التصالب بينهما نحصل على نوعين مختلفين من الأمشاج, وإذا كانت الخلية الجسدية تحتوى على زوجين من الكروموسومات فان ناتج التصالب بينها هو أربع أنواع من الأمشاج المختلفة, وفي حالة وجود ثلاثة أزواج يكون الناتج ثمانية أنواع من الأمشاج المختلفة وهكذا نسير حتى نصل إلى العدد ثلاثة وعشرين زوج من الكروموسومات وبعد حدوث التصالب بينها تكون الاختلافات بين الأمشاج الناتجة هو (232 ) وهذا العدد يقترب من ثمانية ملايين من الاختلافات بين الأمشاج ولذا فإننا ندرك عظمة قول الله (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) فالاختلافات بين البشر بالملايين فهي لا تقتصر على الناس في زماننا ولكنها موجودة منذ أن خلق الله آدم ومستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولذا نجد الخطاب في الآية (وَصَوَّرَكُمْ) موجه إلى كل ذرية آدم إلى قيام الساعة.
3. الانقسام الاختزالي الثاني = المتساوي (الميوزى الثاني) الذي يهدف إلى تضاعف الخلايا المشيجيه(11/136)
وصف هذا الانقسام هو نفس وصف الانقسام التضاعفي = الميتوزى (Mitosis) الذي يؤدى إلى زيادة عدد الخلايا الجنسية حيث أن الميتوزى والميوزى الثاني يحدثان بنفس الكيفية. فتنقسم الخلية المشيجيه الأولية التي تحوى 23 كؤوموسوم كامل إلى خليتين مشيجيتين ثانويتين بكل منهما 23 نصف كروموسوم, ثم بعد الانقسام يحدث تصوير لأنصاف الكروموسومات لتكوين كروموسومات كاملة. ولذا فإنه يوصف بقول الله (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ) 11 الأعراف.
هذا النوع من التصوير يحدث في أصلاب آدم وحواء والذرية.
خلاصة الكلام عن الخلق والتصوير في الأصلاب
تتكون الأمشاج في الأصلاب من الخلايا الجنسية بثلاثة أنواع من الانقسامات لكل خليه (صورة 9) :
الانقسام الأول : هدفه تضاعف عدد الخلايا الجنسية ويحدث بالانقسام التضاعفي (الميتوزى) وهو الخلق الذي يتبعه التصوير (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ).
الانقسام الثاني : هدفه تحويل الخلية الجنسية إلى خليه مشيحيه أوليه مع تحسين الصفات الوراثية في الأبناء عن الآباء ويحدث بالانقسام الميوزى الأول وهو الخلق مصحوب بالتصوير (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وحديث (خلقه وصوره فأحسن صورته).
الانقسام الثالث : وهدفه تضاعف كل خليه مشيحيه أوليه إلى مشيجين وبدون تحسين ويحدث بالانقسام الميوزى الثاني في الخلايا المشيجيه وهو الخلق ثم التصوير (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ).(11/137)
و أمام هذا الإبداع الذي لا نظير له لا أملك إلا أن أدع التعليق على هذا الإعجاز لله القائل عن نفسه {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ. أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ. أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}الواقعة59,58,57, ولذا فإنه تحدى كل من دونه قائلا (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) لقمان11.
أخطاء العلم الحديث في وصف خلق وتصوير الأمشاج في الأًصلاب
استخدم العلم الحديث بعض المسميات التي لا تدل على مسماها بالقدر الكافي لوصف أحداث خلق وتصوير الأمشاج في الأًصلاب بما يدل على أنهم لا يملكون العلم المطلق بينما استطاع المولى تبارك وتعالى بعلمه المطلق من أن يصف أحداث خلق وتصوير الأمشاج في الأًصلاب وصفا دقيقا من خلال استخدام المسميات التي تدل على مسماها بالقدر الكافي ومن أمثلة ذلك :
1- تكوين الأمشاج عند العلم الحديث (spermatogenesis & oogenesis) بدل خلق الأمشاج
لفظة التكوين لا تدل على الخالق وكأن الأمشاج فاعله بإرادتها. كما أن هذه اللفظة لا تدل على وجود تقدير جيني وتصوير وراثي وهو الحدث الخفي الذي يتم في أثناء تكوين الأمشاج.
أما لفظة خلق المنى فتدل على الخالق وتعنى في لغة العرب الإيجاد والتكوين كما أنها تعنى التقدير قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ).
2- الانقسام الخلوي عند العلم الحديث (Cell division) بدل التخليق في القرآن (Creation)
الانقسام كلمه تدل على التنصيف بحيث أن جمع النصفين الناتجين يعطى الأصل وذلك يستحيل الحدوث عند الكلام عن الأمشاج لسببين الأول هو حدوث التصالب الذي يغير تركيب الكروموسومات الجيني في الأمشاج عن الأصل والثاني هو زيادة عدد الكروموسومات من 46 في الأصل إلى 92 في الأمشاج المتكونة.(11/138)
أما التخليق فهو تحويل مادة معلومة ذات صوره معلومة إلى مادة أخرى مغايرة للمادة الأولى في الشكل والتركيب بحيث يستحيل استرجاع المادة الأولى من المادة المخلوقة . وعليه فان جمع النصفين لا يعطى الأصل لحدوث تغيير في الكروموسومات تركيبا وعددا وذلك متفق مع تعريف الخلق.
3- التصالب أو العبور Chiasma = Cross over بدل التصويري التحسيني
التصالب لا يعنى إلا التعامد ولا يمكن أن يصف شكل حرف اكس (X) أما العبور فقد يصف التعامد وقد يصف شكل حرف اكس (X). وبما أن أطراف الكروموسومات المتماثلة تميل على بعضها وتتعانق في شكل حرف اكس فان كلا اللفظين غير دقيق لوصف شكل التلاقي بين الكروموسومات المتماثلة. كما أن كلا اللفظين لا ينص على كيفية حدوث التحسين الوراثي من خلال تبادل الجينات.
أما التصوير التحسيني (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) فيصف عملية التلاقي بين الكروموسومات المتماثلة في الانقسام الميوزى الأول والذي يحدث فيه ميل وتعانق وفو لا يكون إلا على شكل حرف اكس (X) ثم تشقق وتقطع لبعض أجزاء الكروموسومات لثقل حمل الرأس على العنق يترتب على ذلك التحسين بتبادل الأجزاء المتقطعة بين الكروموسومات المتعانقة. (صورة 10)
.
(صورة 10. الفرق بين التصالب والتعانق)
4. الانقسام التضاعفي والاختزالي الثاني بدل (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)
أطلق العلم الحديث مسميان مختلفين وهما الانقسام التضاعفي والانقسام الاختزالي الثاني لوصف حدث واحد تتضاعف فيه أي خليه إلى خليتين بدون تحسين وراثي. بينما أطلق الله عليهما القرآن مسمى واحد وهو (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) لكونهما نوع واحد.
3- خلق وتصوير الذرية من النطفة في الأرحام
تتميز هذه المرحلة بحدثين مهمين :
الحدث الأول : تضاعف عدد خلايا النطفة وتطورها خلقا من بعد خلق(11/139)
تنقسم النطفة ذات ال 46 كروموسوم في الأرحام بهدف تضاعف عدد خلاياها من واحده إلى اثنتين فأربع فثمانيه ويستمر التضاعف طوال الحمل حتى تتكون بلايين الخلايا(صوره 11). ومع كل انقسام تتحول النطفة إلى خلق جديد يختلف عما قبله وعما بعده أى أنها تتغير خلقا من بعد خلق (صوره 12) مع العلم بأن التركيب الوراثي للخلايا الناتجة من الانقسام المستمر في النطفة ثابت لا يتغير (أى بدون تحسين). ويحدث هذا التضاعف في النطفة بنفس الكيفية التي تتضاعف بها الخلايا الجنسية في الأصلاب أى بالانقسام التضاعفي أو الميتوزى (Mitosis), ومع كل انقسام ينشطر كل كروموسوم إلى نصفين ثم تنقسم الخلية إلى خليتين كل منهما تحتوى على ستة وأربعين نصف كروموسوم ثم يحدث تصوير لأنصاف الكروموسومات لتكوين كروموسومات كاملة (صوره 13).
(صوره 12. تطور النطفة خلقا من بعد خلق)
(صوره 11. تطور النطفة بالتضاعف)
الحدث الثاني : مرحلة التخليق في الرحم
و ذلك من خلال تمايز خلايا النطفة إلى أعضاء مع تصنيع البروتين الازم لتصنيع تلك الأعضاء ثم تركيبها في أماكنها الخاصة بها. ولأن الكلام عن هذه المرحلة يطول فسوف أؤجله للبحث القادم بإذن الله.
وصف القرآن لخلق وتصوير الذرية في الأرحام (تطور النطفة)
لكي نصف مرحلة تضاعف عدد خلايا النطفة نحتاج الكلمات الآتية :
أ - الخلق ثم التصوير لوصف انقسام خلايا النطفة وتضاعفها
ب - عدم ذكر لفظة التحسين مع التصوير لأن التركيب الوراثي للخلايا الناتجة من الانقسام المستمر في النطفة ثابت لا يتغير
ت - كل انقسام في النطفة ينقلها إلى خلقه جديدة مختلفة عن الخلقة السابقة في التركيب
ث - الخلق في الفعل المضارع المستمر لأنه ممتد طوال فترة الحمل
هذه الكلمات نجدها في آيتين من كتاب الله
الأولى : (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) الأعراف 11.
لوصف تضاعف النطفة بالانقسام الميتوزى وبدون تحسين وراثى (صوره 13).(11/140)
الثانية : {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ}الزمر6.
يخلقكم بالمضارع المستمر لتصف الزيادة المستمرة في النطفة وتغيرها خلقا من بعد خلق (صوره 11 , 12). وأثناء تطور النطفة خلقا من بعد خلق تتميز عند مراحل معينه لتعطى الأطوار {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}المؤمنون14, فالأطوار ما هي إلا مراحل معينه في (خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ).
العلاقة بين الخلق والتصوير في الأصلاب وفي الأرحام
مما سبق يتضح لنا أن آية (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ) 11 الأعراف, تصف الانقسام التضاعفي للخلايا الجنسية في الأصلاب كما تصف الانقسام التضاعفي لخلايا النطفة في الأرحام. أى أنها تصف خلق الذرية في الأصلاب وفي الأرحام كما وصفت أيضا خلق وتصوير آدم وحواء. وعليه فكما قلت من قبل فان أصح الأقوال في تفسير هذه الآية هو ما ذهب إليه القرطبي من الجمع بين أقوال السلف الصالح للوصول إلى حل لغز هذه الآية مع التذكير بأن الله يحكى لنا في هذه الآية أنه أتم خلق وتصوير آدم وحواء وأمشاج الذرية في الأصلاب وأنه أنه وضع في الأمشاج التقدير الوراثي لخلق وتصوير الذرية في الأرحام ثم قال للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا.
و بهذا التفسير يتبين لنا أن الله هو صاحب العلم المطلق والأقدر على وصف خلق وتصوير الإنسان من العلم الحديث, ويتأكد لنا الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن والسنة من خلال وصف الحامض النووي والتقدير الوراثي بكلمتين معجزتين هما الخلق والتصوير.
المقترحات المبنية على البحث(11/141)
1. إعادة تسمية الدورة الخلوية من القرآن والسنة
إن أبرز ما يميز الدورة الخلوية هو حدوث انقسام للخلايا مع نسخ للحامض النووي. وقد عبر القرآن عن كلمة الانقسام بكلمة الخلق وعن كلمة النسخ بكلمة التصوير. وقد رأينا كيف أن كلمتى الخلق والتصوير أدق من كلمتى الانقسام والنسخ ولذا فاننى أقترح إعادة تسمية الدورة الخلوية بالمصطلحات الإسلامية الدقسقة فتسمى بدورة الخلق والتصوير. كما أقترح استبدال مسمى الانقسام الميتوزى بمصطلح (الخلق ثم التصوير) واستبدال الانقسام الميوزى بمصطلح (الخلق والتصوير التحسيني). وأرجو أن يتم تعديل هذه المصطلحات في كتب الهندسة الوراثية التي تدرس للمسلمين مع السعي في محاولة إقناع العالم الغربي بصحة المصطلحات الإسلامية عن مصطلحاتهم الوضعية.
2. وضع ترجمة صحيحة لكلمة التصوير في التراجم الأجنبية للقرآن الكريم
الكلمة المستخدمة في اللغة الانجليزية كترجمة للتصوير هي (enshape) وهذه الكلمة تعنى التشكيل والشكل الخارجي ولا يمكن أن تدل على تصوير شيء من شيء (بمعنى وجود أصل وصورة) ولذا فاننى أقترح تعميم استخدام كلمة (Image) والتي تعنى تصوير شيء من شيء كما تشير إلى ذلك قواميس اللغة الانجليزية.(11/142)
الخاتمة
لا يسعني في نهاية هذا البحث إلا أن أرجو الله العلى القدير أن يجعل هذا البحث سببا في هداية الكثير من القلوب التي تاهت عن معرفة ربها فصارت تعبد آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون وتركوا عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له ولا ولد الذي خلقهم ورزقهم ودبر كل أمرهم وصدق الله إذ يقول (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) 3 الفرقان. ولكن الإنسان كثيرا ما ينسى الخالق ويدين بالفضل لسواه (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)4 النحل. ولأن القرآن نزل لهداية الناس كافه فقد خاطب العقول بأساليب شتى تتلاءم مع الكم العلمي لكل شخص فتارة تكون بسيطة لكي يفهمها العامة من الناس بعلمهم البسيط وتارة تكون ذات أساليب علميه معجزه تحتاج إلى البحث العلمي لمعرفة أسرارها. وحيث أن الكثير من أهل هذا الزمان صاروا لا يؤمنون إلا بالمادة فقد خاطب القرآن عقولهم بأسرار من العلوم الحديثة التي أثبتوها بعد جهد مضني ليفاجئوا بأن القرآن قد سبقهم بعدة قرون من الزمان إلى ذكر هذه الأسرار العلمية في وقت كان يستحيل فيه اكتشاف هذه الأسرار بعقول البشر ليثبت لهم أن هذه الآيات الجلية لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال من كلام البشر وصدق الله إذ يقول (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)53 فصلت. فآيات الله كثيرة وما يعقلها إلا العالمون (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز الحميد)6 سبأ.(11/143)
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطأ أو نسيان فمنى ومن الشيطان والله ورسوله منه براء وأرجو الله العظيم أن يتقبل منى هذا العمل القليل وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم . وإذا صح فهمي في هذا البحث فيمكن بعد ذلك مناقشة الأبحاث الآتية والتي تعتمد كلها على أن الخلق غير التصوير وعلى أن المقصود بالتصوير هو التصوير الوراثي وليس الشكل الخارجي :
1. كيفية التقدير الوراثي في النطفة
2. كيفية خلق وتصوير الذرية في الأرحام
3. كيفية خلق عيسى في مريم ونفى إلوهية المسيح باتفاق القرآن والإنجيل.
4. إثبات النشأة والاختلاف مع بيان بطلان نظرية التطور عند كل من دارون وشاهين
5. هل كان آدم طوله ستون ذراعا في السماء وما هي الطفرة الجينية التي أدت إلى نقصان
الطول في الجنس البشرى ؟
6. إثبات البنوة باستخدام الحامض النووي في القرآن والسنة
7. متى يعد الإجهاض قتلا للنفس وما هي أنسب وسيله لمنع الحمل ؟
8. تحدى الله لعلماء الهندسة الوراثية في باب الخلق وباب الخلد
9. كيف يتعرف الجسم على شقيه الأيمن والأيسر ؟ بحيث لا تتبدل الأعضاء اليمنى مع الأعضاء اليسرى إلا في حالات نادرة جدا كأن يذهب القلب إلى اليمين أو الكبد إلى اليسار. أ هـ {حديث القرآن والسنة عن الحامض النووى فى الأمشاج
شكل توضيحي لجزيء (DNA)
بقلم الدكتور محمود عبد الله إبراهيم نجا
مدرس مساعد بقسم الفارماكولوجيا الاكلينيكيه- كلية طب- جامعة المنصورة - مصر}(11/144)
بحث ثالث
استنساخ الإنسان والحيوان ضجة مفتعلة وأكذوبة كبيرة وإفساد عظيم
بقلم : عبدالرحمن بن عبدالخالق
ضجة مفتعلة :
الضجة الكبرى التي تعم العالم وتقول إن بعض علماء الأحياء قد استطاعوا أن يخلقوا (يستنسخوا) شاة من شاة أخرى ، وأن الطريق قد أصبح مهيئاً لاستنساخ الحيوان بعضه من بعض دون الحاجة إلى اجتماع الذكر والأنثى ، وأن الطريق قد أصبح مهيأ لاستنساخ البشر حسب الطلب ، دونما حاجة إلى ماء الرجل وبويضة المرأة ، ضجة كبيرة تقوم على أكذوبة كبرى ، وتغرير ظاهر.
حقيقة الأمر :
فحقيقة الأمر هو أن علماء الأحياء هؤلاء عبثوا ببويضة ملقحة وانتزعوا منها (النواة) وحقنوها بخلية حية من شاة أخرى ، أن الذي حدث بعد ذلك في ظن فاعليه هو انقسام هذه الخلية الحية ، ونشأة الجنين منها ، وتخلق الشاة من هذه الخلية ، وقد كانت التجربة بتفصيل أكثر كما يلي :
1) تم الحصول على بويضة من الشاة واستخرجت منها النواة.
2) تم الحصول على خلية عادية من شاة أخرى ، واستخرجت منا النواة.
3) تم وضع نواة الخلية العادية في البويضة.
4) وضعت البويضة في رحم الأم فتم تكاثرها إلى أن أنجبت الأم شاة.
وهذه العملية قد تمت بعد إجراء نحواً من ثلاثمائة عملية دمج للحمض النووي المأخوذ من خلايا ضرع مع بويضات نعاج مخصبة ، وكلها قد فشلت وربما انتجت (مسوخاً) لم يعلن عنها.
يقول د. عبدالخالق محمد : "إن استنساخ خلايا آدمية بالغة باستخدام التقنية الآنف ذكرها ، لا يزال مستحيلاً حتى الآن ، والمحاولات المتكررة والصعبة لاستنساخ خلايا ثديية بالغة باءت جميعها بالفشل ، وهي في مهدها ، وفي الحالات القليلة الناجحة ، كانت النتيجة مخلوقات مشوهة تشوهاً بالغاً ، وغير مقبول إلى أن ظهر الدكتور ويلموت وزملاؤه علينا بمقالهم الشهير في مجلة Nature يعلنون فيه نجاح محاولتهم مع الخلايا الحيوانية البالغة وعنوان نجاحهم النعجة دوللي.(11/145)
إلا أن أحدا لا يعرف بعد ، ما إذا كان النجاح في دوللي مجرد نتيجة لحدوث عطل جنيني مؤقت في الخلايا البالغة التي أجريت عليها التجربة ، وفي لحظة التجربة ولأنه لم يسبق لأحد أن استطاع استئناس الحمض الجزئي في خلايا البويضة ، بمعنى أن الحمض الجزئي ، وكما يعتقد عدد من العلماء لا بد له حتى يتفاعل في خلايا البويضة من أن يشعر أنه في بيته ، وكيف يتم ذلك ؟ لا أحد يعرف بعد".
الطريق الثاني للإستنساخ :
وأما الطريق الثاني الذي اتبعه هؤلاء العلماء في الاستنساخ هو طريق التوائم ، وذلك أن الإنسان في البداية خلية واحدة تنقسم بعد ذلك إلى خليتيين ثم إلى أربع خلايا وهكذا.
ثم يكون مضغة (كتلة جنينية بمقدار ما يمضغة الإنسان) ثم تحول هذه الكتلة في عمل تخصصي لكل منها فخلايا تذهب تكون اللحم ، وأخرى إلى الجلد ، وأخرى إلى العظام... الخ
وقد تمكن العلماء من فصل الخلية التي نتجت عن انقسام الخلية الأم إلى اثنتين وعزلهما وذلك المحيط بالخليتين المنقسمتين وعزل كل خلية منقسمة عن الأخرى وإعادة إغلاق الفتح الذي تم بغشاء صناعي مكون من مادة هلامية لتكون لكل خلية غشاء كامل يحيط بها يمكنها بعد ذلك من الانقسام هي الأخرى بطريقة طبيعية لخليتين جديدتين ويمكن أيضاً عمل فتح بهما وعزلهما عن بعضهما وإعادة إغلاق هذا الغشاء الذي عمل فيه الفتح بنفس المادة الهلامية ، وهي نفس طريقة تكوين التوائم في بداية الحل حيث تنقسم الخلية المخصبة (البويضة المتحدة مع الحيوان المنوي) لتعطي طفلين.
وإذا تم حفظ هذه النسخ (التوائم) مجمدة ، ولم يسمح لها بالتكاثر لفترة من الزمن ثم غرست في الأرحام ، وتخلقت فإنه يمكن الحصول على نسخ متعددة بمواصفات الخلية الأولى..(11/146)
وكالعادة في كل كشف أو إعلان عن شيء جديد يتسابق الذين يسارعون في الكفر في التأييد والتشجيع ، ونسج الأحلام. فما كان يعلن هذا الأمر إلا وانبرى من تضيق صدورهم بحقيقة أن الله (خالق كل شيء) من الانتفاش والظن أن الإنسان سينزع من الله صفة الخلق ، وأن البشر سيخلقون غداً بمواصفات حسب الطلب ، والأنعام سيكون حسب القياس الهندسي!! ومنهم من سارع إلى وجوب استنساخ الفراعنة وملكات الجمال... الخ.
وهذه الضجة تشبه ما قام من ضجة بعد إعلان داروين عن نظريته في الخلق ، وزعم أن التطور كان من الخلية الأولى إلى الإنسان... ثم عاش البشر في هذا الوهم سنين طوالاً ، وكفروا بالخالق ثم اكتشفوا أن زعم داروين باطل ومثله اكتشاف انفجار سديمي في الكون وبعده جاء الزعم أننا اكتشفنا بداية الخلق ، وأن هذا يفسر نشأة الكون... الخ
استنساخ الحيوان مستحيل :
استنساخ الحيوان من جزء منه غير البويضة الملقحة أمر مستحيل : وهذا العبث في الأجنة بشقيه الآنفين ليس خلقاً ولا استحداثاً للإنسان أو الحيوان ، ولن يكون شأن الإنسان والحيوان شأن النبات يتكاثر بجزء من أغصانه أو نسيجه أو براعمه لأن شأن الحيوان آخر.
وعندما يشاء الله خلق إنسان أو حيوان فإن البويضة الملقحة وحدها هي التي تنقسم فيها الخلايا إلى مجموعات عاملة وكل مجموعة تعرف طريقها ومكانها فالخلايا التي تكون المخ والأعصاب تأخذ طريقها والخلايا التي تكون العظام كذلك والخلايا التي تكون الشعر كذلك... ولا يعرف البشر إلى يومنا هذا ولن يعرفوا قط لماذا تتصرف الخلايا هكذا ؟! ولماذا لا تذهب الخلايا التي تكون العين ليكون موقعها عند الأقدام مثلاً والخلايا التي تكوِّن الكبد ليكون موقعها في الدماغ ، والخلايا التي تكوِّن مخ الإنسان ليكون موقعها عند مقعدته ، وليس في تجويف رأسه!!(11/147)
وهذا الإنقسام والتحول من حال إلى حال في المخلوق إنما هو من صنع الله وحده {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} وهو الذي ينتقل بهذا الخلق من طور إلى طور قال تعالى : {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة ، فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}
وقد امتن الله علينا بهذا الخلق في آيات كثيرة وبين أن هذا من دلائل قدرته وحده سبحانه وتعالى ، وأن الذي خلق الإنسان على هذا النحو قادر على إعادته قال جل وعلا : {يا أيا الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور}
لا قياس بين الإنسان والنبات : (11/148)
والذي جعل كثيراً من الناس يقع في هذا الوهم وهو إمكانية استنساخ الإنسان والحيوان من عضو من أعضائه هو قياسه على النبات فإن الضجة التي قامت حول استنبات النخيل من النسيج الداخلي للنخلة هو الذي أوهم الناس في هذا الوهم وهو ظنهم أن حال الإنسان والحيوان كحال النبات ، وهذا قياس مع الفارق ، فإن النبات يتكاثر منذ بدء الخلق بطرق شتى بالبذرة والبراعم ، والعقلة ، وكنا أطفالاً نأخذ جزءاً من الأغصان البالغة لأشجار الورد والعنب ، والتوت ، والصفصاف ، فينبت منها أشجارها ، ونأخذ البراعم فنركبها على فصائلها ، ويتكون لدينا في الشجرة الواحدة مجموعة من الأشجار كل غصن يثمر نوعاً مختلفاً ولوناً مختلفاً ، وأما الحيوان فلن يستنبت بجزء منه ، ولن يخلق بغير الطريق الذي رسمه الله.
العلم والجنوح :
وهذا السعي الحثيث لخلق إنسان وحيوان من غير الطريق الذي وضعه الله سعى قديم عبثي إفسادي وهو نتاج للمعتقد المدون في التوراة القديمة ، والمأخوذ عن كفار الرومان الأقدمين وهذا المعتقد يقول بأن صراعاً بين الإنسان والإله قائم منذ القدم وأن الإله لأنه حاز العلم فإنه قهر به هذا الإنسان ، وأن الإنسان استطاع أن يسرق شعلة المعرفة من الإله ، وبذلك أصبح كالله عارفاً الخير والشر ، ولو أنه استطاع أن يأكل من شجرة الحياة لعاش خالداً كما هو شأن الآلهة ، ومن أجل ذلك حرس الإله شجرة الحياة حتى لا يصل الإنسان إليها فيكون شأنه كشأن الآلهة ، ولقد أخذ اليهود هذه القصة الخرافية ، وأسقطوها على النصوص الدينية عندهم فادعوا أن الشجرة التي أكل آدم منها هي شجرة المعرفة ، وأن الله عندما اكتشف (هكذا) أن الإنسان أكل من هذه الشجرة وأصبح مثل الله يعلم الخير والشر طرده من الجنة حتى لا يتوصل كذلك إلى الأكل من شجرة الحياة فيخلد كخلود الله!!
تقول التوراة المكذوبة مصورة هذه القصة : (11/149)
(وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة بهية للنظر وجيدة للأكل ، وشجرة الحياة في وسط الجنة ، وشجرة معرفة الخير والشر.. وأوصى الرب الإله آدم قائلاً : من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت)
ثم تزعم التوراة أن الحية جاءت إلى حواء وأغوتها بالأكل من الشجرة ، وأخبرتها أن الله لم يذكر لهما الحقيقة عندما حذرهما من هذه الشجرة قائلة : ( بل الله عالم أنه يوم تأكلان منها تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر)
وتقول التوراة أنه لما أكلت حواء وآدم من الشجرة (انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان) وأن الله لما علم بذلك قال (هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر ، والآن يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيا إلى الأبد. فطرد الإنسان وأقام شرقي عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طرائق شجرة الحياة. (الإصحاح الثاني والثالث والرابع - سفر التكوين)
وما الشعلة الأولمبية إلا رمز لسرقة الإنسان لقبس المعرفة من الآلهة!!
فسعى الشعوب الرومانية بعقليتها القديمة والتي جسدتها التوراة وجعلتها عقيدة لليهود ثم للنصارى كذلك إلى إحلال أنفسهم مكان الرب وسعيهم المتواصل للإستغناء عنه ، بل ومغالبته ، سعي قديم ، وما محاولة إيجاد حيوان أو إنسان بغير طريق الخلق الإلهي إلا ثمرة من ثمار هذا السعي.
لماذا السعي فيما كفانا الله مئونته وجعله شأناً من شأنه ؟ (11/150)
وإلا فلماذا السعي فيما كفانا الله مئونته ، وتكفل هو سبحانه وتعالى بفعله ، بل لماذا السعي في التدخل في شئونه ، ومحاولة إزاحة يده ، وإبطال فعله والتطاول عليه : {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء}.. {أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج}.. {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث}.. {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه}.. {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} فالخلق من شأن الله سبحانه وتعالى ولن يتنازل عنه لغيره لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل ، ولا كذلك لكافر معاند...
وقد تحدى الله البشر جميعاً بأحقر المخلوقات عندهم وهو الذباب ، وأخبر سبحانه وتعالى إخباراً في موقع التحدي أن البشر لن يخلقوا هذا الشيء الحقير عندهم ، بل لن يستطيعوا أن يقضوا عليه لو شاءوا... وأنه سيظل يأخذ منهم ويسلبهم أرواحهم ، وكثيراً من أموالهم إلى أن تقوم الساعة ، فكم من البشر يموت كل عام بفعل الذباب ، وكم من طعام يجد طريقه إلى القمامة لأن الذباب وقع عليه ، وكل هذا سلب للبشر ، ولن يستطيع البشر بكل آلاتهم أن يقضوا على هذه الحشرة وما دونها ، وهذه الصراصير التي تحارب بكل أنواع المبيدات يعترف الخبراء بها أن الصرصور الأمريكي (الصغير) والأمريكي بالذات يستحيل القضاء عليه ولو بالقنبلة الذرية!! وهذه أجيال الجراثيم الجديدة ، والفيروسات الجديدة الوافدة من الغرب المتقدم أصبحت أشد استعصاءاً على الأدوية والمضادات الحيوية من فيروسات العالم المتأخر الفقير التي هي أقل حنكة وخبرة من فيروسات العالم المتحضر التي استطاعت أن تهزم مستحضراتهم المتقدمة... ولن يكون في الأرض والسماء إلا ما يشاء الله!!
لماذا لا يكتفي البشر بما خلق الله سبحانه وتعالى في أرضه من أنواع البشر ، والحيوان والنبات.(11/151)
فمن البشر خلق الله سبحانه وتعالى جميع الألوان المناسبة التي هي في تمام الخلق ، وجميع الأشكال المناسبة التي هي في تمام الخلق ، وجعل هذا الاختلاف دليل على عظمته وقدرته وإحسانه للخلق فهو الخالق الباري المصور {الذي أحسن كل شيء خلقه}
فالبشر ألوانهم الأسود والأبيض وما بينها من درجات هذا اللون مع الإشراب بالحمرة ، والآن أرأيت لو أن إنسان لونه في خضرة النبات أو في زرقة السماء أيكون جميلاً ؟!
بل انظر إلى ما دون ذلك من الخلق : ألوان الشعر في الإنسان أترى أنه يمكن أن يضيف البشر لوناً جديداً ، يكون جميلاً ؟! هل هذه الشعور الخضراء والزرقاء التي يلون بها الشباب الذي يسمونهم (بالبانكس) هل هي ألوان جميلة ؟! يستطيع الإنسان أن يفسد الخلق ، ولن يزايد المخلوق على الخالق ، ولا تبديل لخلق الله.
ومحاولة تغيير خلق الله حتى لو كان في الصورة الظاهرية موجب للعن الله وسخطه كما قال صلى الله عليه وسلم : [لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله] وهذا في تغيير الصورة الظاهرية.
والله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في كمال الخلق {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} وكل محاولة لتبديل هذا الخلق ستدمر الإنسان نفسه ، وتوجد مسخاً.
الحيوان : لن يخلقوا نوعاً جديداً :
وقد خلق الله سبحانه وتعالى لنا أربعة أنواع من الأنعام كل نوع من ذكر وأنثى وهي الإبل ، والبقر ، والغنم ، والماعز.(11/152)
ومحاولة خلق نوع خامس مستحيل ولن يكون!! بل ومحاولة الاستغناء بالذكر عن الأنثى أو بالأنثى عن الذكر لن يكون أيضاً لأنه سبحانه وتعالى يقول في معرض امتنانه على خلقه : {ومن الأنعام حمولة وفرشاً ، كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبؤني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} ..
وهذه الآيات مشعرة أنه لن يكون خلق نوع جديد من أنواع الأنعام ، ولن يكون استغناء عن الذكور أو الأناثي.
وإذا كان الله قد كفى الإنسان مؤونة الخلق فلماذا يجهد الإنسان نفسه في خلق أنواع جديدة.
النبات : لن يخلقوا نوعاً جديداً :
حاول بعض الباحثين في علم النبات الخلط بين جينات البطاطس والطماطم فأخرجوا ثمرة سامة!! إنه العبث والإفساد.(11/153)
المجال الذي كلف الله به الإنسان في الزراعة مجال كبير مناسب لطاقة الإنسان وعلمه : الغرس ، والزرع ، والتسميد ، والري ، والرعاية ، ومقاومة الحشرات والآفات والتعرف على خصائص النبات وفوائده واستخداماته ، والتعرف على طريقة الانتفاع به كل ذلك مما يسره الله للإنسان ، وأما الاعتداء على فعل الرب فلا. قال تعالى : {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} فتفجير قلب النواة وتنشيط خلاياها ، والإيحاء لها بأن يكون منها خلايا تصنع الجذور وتتجه إلى أسفل ، وخلايا تصنع الساق والأوراق وتتجه إلى أعلى لتشق التربة ، وخلايا في كل ورقة لتحويل الضوء إلى غذاء ، والغذاء إلى أوراق وثمار ، وتفاعل الماء والأملاح والضوء والهواء لخلق هذا الكائن الحي من النبات الذي يرهف حسه فيحس بالأصوات ، ويعرف الليل فينام فيه ، ويخرج ثاني أكسيد الكربون ، ويعرف النهار فيستيقظ فيه ، ويخرج الأوكسجين ، كل هذا من فعل الرب الإله الخالق جل وعلا وليس من فعل الإنسان {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيت لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}
وكل محاولة لتبديل خلق الله في النبات ستبوء بالفشل ، وتنقلب على الإنسان سماً زعافاً.
العبث بخلق الإنسان أكبر جريمة : (11/154)
وإذا كانت محاولة الإنسان في خلق مزيد من النباتات قد باءت بالفشل ولن تكون ، وكذلك إذا كانت محاولة خلق أحياء أخرى من الحيوانات أو الزواحف لن يكون تكاثر إلا باجتماع الذكر والأنثى... ولا شك أن محاولة الجمع بين خلايا نوع من الحيوان ونوع آخر لاستحداث نوع جديد هو من العبث والإفساد وإمكانية هذا إنما هو في الجمع من الفصائل الواحدة كإنزاء الحمير على الخيل ، والعكس ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إنزاء الحمير على الخيل ، وإنزاء الذئاب على الكلاب والعكس ، وأما الجمع بين البقر والغنم ، وبين الإبل والخيل فمستحيل... وإذا كان هذا في النبات والحيوان مستحيلاً وهو داخل في باب الإفساد ، والعبث ، ومحاولة مغالبة الرب جل وعلا ، وتبديل مخلوقاته ، ونسبة شيء من الخلق للإنسان..
أقول إذا كان هذا في النبات والحيوان عدواناً وعبثاً فإنه في الإنسان أشد إجراماً وإتلافاً..
فمحاولات خلق إنسان يكون نسيجه وخلقه مزيجاً من خلايا الإنسان والقرد ليكون في حجم الغوريلا ، وقوة احتمالها ، وفي عقل الإنسان ، واستقامة قوامه..
نقول إن هذا مع استحالته إلا أن السعي الحثيث في إيجاده وصرف مليارات الدولارات لإيجاده لا يدخل إلا في باب العبث والفساد ، والعدوان على خلق الله سبحانه وتعالى ومحاولة تبديله ، ولنا أن نتصور مقدار الفساد لو كان هذا في مكنة الإنسان أن يوجد إنساناً له جسم القرد وعقل الإنسان ، أو عقل الإنسان وجسم القرد ، كيف يمكن التعامل مع بشر هذه صفاتهم ، ولو أن البشر استطاعوا أن يوجدوا إنساناً بعقل الخروف وصوفه ، أو في جسم الثور أو عقله ، أو في خفة الطير وعقل الغراب!!
الحمد لله الذي لم يجعل مصائر الخلق في أيدي هؤلاء العابثين المعتدين على سلطان الرب..
التشويهات والنتائج الفظيعة لهذا العبث لا يعلن عنها : (11/155)
وللأسف أن المسوخ والتشويهات ، والنتائج الفظيعة لهذا العبث لا يعلن عنها وهي تأخذ طريقها إلى الاتلاف وصناديق القمامة!! والقوم ما زالوا يعبثون وينفقون مليارات الدولارات في مصادمة نواميس الله في الخلق.
والمخاطر التي تنتظرها من هذا العبث كثيرة جداً :
وأما المخاطر التي ينتظرها العالم الإسلامي من هذا العبث فكثيرة جداً منها :
1) جعل العالم الإسلامي الفقير حقلاً لهذه التجارب الإجرامية ، وخاصة بعد أن تبين للغرب خطورة هذه التجارب ، ونتائجها المدمرة ، ولكن الشركات التي تتنافس في إيجاد أي جديد تكسب من ورائه ، سينقلون هذا العالم الإسلامي ودوله الفقيرة وسيكون نساؤه ورجاله ميداناً لذلك (استئجار الأرحام ، العبث بالأجنة ، انتزاع الشيفرة الوراثية من البويضة الملقحة ، وزرع شيفرة أخرى ، قتل الأجنة ، إنتاج مواليد بلا هوية من أجل أن يكونوا قطعاً للغيار ، إنتاج مواليد بلا هوية من أجل الاستمتاع والشذوذ... الخ)
ومن سيوقف هذا العبث الإجرامي ؟!!
ما أشبه الليلة بالبارحة :
عندما تم قبل سنوات اخصاب بويضة امرأة بحيوان منوي خارج الرحم ، ثم أعيد زراعة البويضة بعد تلقيحها إلى رحم امرأة ، ثم عاشت هذه البويضة وغرست في الرحم وكان منها إنسان قامت قيامة البشر وسموا هذا الفعل (طفل الأنبوب) وظن كثير من الجهال أن هؤلاء العابثين قد خلقوا إنساناً في أنبوبة الاختبار!!(11/156)
وقلنا يومها إن الأمر ليس بجديد وهؤلاء العلماء لم يخلقوا شيئاً ، وأن تلقيح البويضة التي خلقها الله خارج الرحم من حيوان منوي خلقه الله ، ثم زرعها من جديد في الرحم الذي خلقه الله ، ثم تولى الله سبحانه وتعالى رعاية هذا الجنين نطفة فعلقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة إلى أن ولد إنساناً ، كل هذا من خلق الله وإنما الذي صنعه الإنسان هو الجمع بين الحيوانات المنوية ، والبويضة في حقل تزواجهما خارج الرحم ، وأمام عين الطبيب ، وعلماً أن الحيوان المنوي الذي يتفضل ويسبق غيره من ملايين الملايين من أمثاله للفوز بالدخول إلى البويضة لا يتلقى أوامره من الطبيب!!
وإنما يتلقى الأمر من الله!! والطبيب القابع خلف المجهر يراقب العملية إنما هو متفرج فقط ولا يستطيع أيضاً أن يشجع حيواناً منوياً بعينه ليقتحم العقبة وينفذ إلى داخل البويضة!!
وقلنا يومذاك وما زلنا نقول إن هذا عبث لا فائدة منه ، والأضرار الناجمة عنه أكبر بكثير من المنافع المحتملة والمتحصلة... فإن هذا لا يفيد إلا امرأة واحدة من كل مليون امرأة يكون مبيضها قادراً على إنتاج بويضة كاملة سليمة ، ولكن قناة المبيض ضيقة لا تسمح بمرور البويضة فانتزاع البويضة منها ، وتلقيحها خارج الرحم بحيوان منوي لزوجها ثم إعادة غرسها في الرحم مرة أخرى قد يؤدي إلى أن تنجب ولداً منها ومن زوجها.
وهذه واحدة من ملايين ، ولكن هذا العمل الشيطاني سيؤدي وقد أدى إلى أضرار كثيرة جداً فإن البشر لما تعلموا أنه يمكن تلقيح البويضة خارج الرحم ، ويمكن حفظ هذه اللقيحة في درجات حرارة منخفضة ثم إعادة غرسها في الرحم مرة أخرى تفتقت العقليات الإجرامية والكسبية المادية عن طرق كثيرة للعبث والإجرام والكسب المادي من وراء ذلك ؟ ومن ذلك :
1) استئجار امرأة لتحمل نيابة عن امرأة أخرى ، فيلقى في رحمها بويضة ملقحة من المرأة الأخرى. ثم لمن يكون الطفل بعد ذلك لصاحبة البويضة ؟ أو الأم المستأجرة ؟ (11/157)
2) شراء لقائح جاهزة وزرعها في أرحام من لا يخافون الله!!
3) شراء النطف حسب المواصفات المطلوبة للمصارعين والملاكمين والبارعين في طب أو هندسة أو سياسة (وهذا نكاح استبضاع جديد للجاهلية الجديدة شبيهاً بما كان في الجاهلية الأولى).
4) شراء البويضات حسب الطلب ، ومن أجل ذلك نشأت بنوك النطف أو بنوك المنى.
5) استئجار أرحام النساء الفقيرات لإنتاج أطفال لاستخدامهم في قطع الغيار فقط : أخذ عيونهم ، وغددهم ، وكلاهم ، وأكبادهم ، وقلوبهم من أجل الأغنياء!!
6) إنتاج أطفال بلا هوية لاستخدامهم في الاستمتاع الحيواني في الشذوذ والزنا!!
وهذه المصانع البشرية تقوم اليوم في بلدان كثيرة على قدم وساق... مكاسبها المادية أعظم من مكاسب الحشيش والأفيون والهيروين ، ولكنها تجارة إجرامية ، بل أعظم إجراماً من التجارة في هذه المواد المدمرة.
القوانين لن تقف أمام هذا العبث :
والخلاصة : نعتقد أن محاولة استنساخ الحيوان والإنسان بالطرق الآنفة هو عبث لا خير من ورائه البتة ، ونعلم أن سن القوانين لن يوقفه لأن الكسب المادي من ورائه كبير جداً ، وكم سنت من القوانين لتحريم الخمر ومنعها ليس في العالم الإسلامي فقط بل في أمريكا ، وكذلك تحريم المخدرات ، والتدخين ، وقد بين العلماء والحكماء مخاطر الزنا ، وأخطار الشذوذ الجنسي ، وآثاره المدمرة ، وأقلها الإيدز ، وأخطار السحاق ، ولكن التجارة في كل هذه القبائح والسموم كانت وما زالت رائجة ، والمتاجرون بهذه الفواحش والمنكرات والشذوذ كانوا أكبر من القانون والأعراف والأخلاق لأنهم كما قال سبحانه وتعالى {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فيبتكن أذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}(11/158)
ومع كل هذا فعلينا أن نحمي العباد والبلاد من هذا العبث الشيطاني.
وبعد فهذه بعض المخاطر المتوقعة من عمليات الاستنساخ الحيواني والبشري حسب الصور الممكنة الآن :
أما في حال الإنسان :
فإن الإنسان المصنع أو المخلوق بطريقة استئجار الأرحام سيكون ملكاً للجهة التي قامت بتصنيعه شركة كانت أو غنياً ، وسيصبح هذا الإنسان سلعة يستعمل في قطع الغيار أو مكان الحيوان ، أو في الشذوذ الجنسي ، وستقل تكلفة تصنيع هذا الإنسان مع الوقت ويكون في مككنة الأفراد.
وأما في الحيوان :
فإن إدخال المورثات البشرية في عناصر تركيب الحيوان سيكون أمراً خطيراً فهو أولاً تدخل في عمل الخالق ، ثم ربما كان مدمراً للحيوان نفسه ، ثم للإنسان إذا أكل لحمه أو شرب لبنه.
وإفساد الإنسان بالأطعمة لا يكون لبدنه فقط بل ربما كان لروحه أيضاً. أ هـ {استنساخ الإنسان والحيوان ضجة مفتعلة وأكذوبة كبيرة وإفساد عظيم
بقلم : عبدالرحمن بن عبدالخالق}(11/159)
قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
قال البقاعى :
ولما ختم سبحانه وتعالى بوصف العزة الدالة على الغلبة الدالة على كمال القدرة والحكمة المقتضي لوضع كل شيء في أحسن محاله وأكملها المستلزم لكمال العلم ، تقديراً لما مر من التصوير وغيره ، وكان هذا الكتاب أكمل مسموعات العباد لنزوله على وجه هو أعلى الوجوه ، ونظمه على أسلوب أعجز الفصحاء وأبكم البلغاء إلى غير ذلك من الأمور الباهرة والأسرار الظاهرة ، وعلى عبد هو أكمل الخلق ؛ أعقب الوصفين بقوله بياناً لتمام علمه وشمول قدرته : {هو} أي وحده {الذي} ولما فصل أمر المنزل إلى المحكم والتشابه نظر إليه جملة كما اقتضاه التعبير بالكتاب فعبر بالإنزال دون التنزيل فقال : {أنزل عليك} أي خاصة {الكتاب} أي القرآن ، وقصر الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا موضع الراسخين وهو رأسهم دلالة على أنه لا يفهم هذا حق فهمه من الخلق غيره.(11/160)
قال الحرالي : ولما كانت هذه السورة فيما اختصت به من علن أمر الله سبحانه وتعالى مناظرة بسورة البقرة فيما أنزلت من إظهار كتاب الله سبحانه وتعالى كان المنتظم بمنزل فاتحتها ما يناظر المنتظم بفاتحة سورة البقرة ، فلما كانت سورة البقرة منزل كتاب هو الوحي انتظم بترجمتها الإعلام بأمر كتاب الخلق الذي هو القدر ، فكما بين في أول سورة البقرة كتاب تقدير الذي قدره وكتبه في ذوات من مؤمن وكافر ومردد بينهما هو المنافق فتنزلت سورة كتاب للوحي إلى بيان قدر الكتاب الخلقي لذلك كان متنزل هذا الافتتاح الإلهي إلى أصل منزل الكتاب الوحي ؛ ولما بين أمر الخلق أن منهم من فطره على الإيمان ومنهم من جبله على الكفر ومنهم من أناسه بين الخلقين ، بين في الكتاب أن منه ما أنزله على الإحكام ومنه ما أنزله على الاشتباه ؛ وفي إفهامه ما أنزله على الافتنان والإضلال بمنزله ختم الكفار ؛ انتهى فقال : {منه آيات محكمات} أي لا خفاء بها.
قال الحرالي : وهي التي أبرم حكمها فلم ينبتر كما يبرم الحبل الذي يتخذ حكمة أي زماماً يزم به الشيء الذي يخاف خروجه على الانضباط ، كأن الآيه المحكمة تحكم النفس عن جولانها وتمنعها من جماحها وتضبطها إلى محال مصالحها ، ثم قال : فهي آي التعبد من الخلق للخلق اللائي لم يتغير حكمهن في كتاب من هذه الكتب الثلاث المذكورة ، فهن لذلك أم انتهى.
(11/161)
ولما كان الإحكام في غاية البيان فكان في تكامله ورد بعض معانيه إلى بعض كالشيء الواحد ، وكان رد المتشابه إليه في غايه السهولة لمن رسخ إيمانه وصح قصده واتسع علمه ليصير الكل شيئاً واحداً أخبر عن الجمع بالمفرد فقال : {هن أم الكتاب} والأم الأمر الجامع الذي يؤم أي يقصد ، وقال الحرالي : هي الأصل المقتبس منه الشيء في الروحانيات والنابت منه أو فيه في الجسمانيات {وأخر} أي منه {متشابهات} قال الحرالي : والتشابه تراد التشبه في ظاهر أمرين لشبه كل واحد منهما بالآخر بحيث يخفى خصوص كل واحد منهما ؛ ثم قال : وهن الآي التي أخبر الحق سبحانه وتعالى فيهن عن نفسه وتنزلات تجلياته ووجوه إعانته لخلقه وتوفيقه وإجرائه ما أجرى من اقتداره وقدرته في بادئ ما أجراه عليهم ، فهن لذلك متشبهات من حيث إن نبأ الحق عن نفسه لا تناله عقول الخلق ، ولا تدركه أبصارهم ، وتعرف لهم فيما تعرف بمثل أنفسهم ، فكأن المحكم للعمل والمتشابه لظهور العجز ، فكان لذلك حرف المحكم أثبت الحروف عملاً ، وحرف المتشابه أثبت الحروف إيماناً ، واجتمعت على إقامته الكتب الثلاث ، واختلفت في الأربع اختلافاً كثيراً فاختلف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها ، واتفق على محكمها ومتشابهها انتهى.
(11/162)
فبين سبحانه وتعالى بهذا أنه كما يفعل الأفعال المتشابهه مثل تصوير عيسى عليه الصلاة والسلام من غير نطفة ذكر ، مع إظهار الخوارق على يديه لتبين الراسخ في الدين من غيره كذلك يقول الأقوال المتشابهه ، وأنه فعل في هذا الكتاب ما فعل في غيره من كتبه من تقسيم آياته إلى محكم ومتشابه ابتلاء لعباده ليبين فضل العلماء الراسخين الموقنين بأنه من عنده ، وأن كل ما كان من عند الله سبحانه وتعالى فلا اختلاف فيه في نفس الأمر ، لأن سبب الاختلاف الجهل أو العجز ، وهو سبحانه وتعالى متعال جده منزه قدره عن شيء من ذلك ، فبين فضلهم بأنهم يؤمنون به ، ولا يزالون يستنصرون منه سبحانه وتعالى فتح المنغلق وبيان المشكل حتى يفتحه عليهم بما يرده إلى المحكم ، وهذا على وجه يشير إلى المهمة الذي تاه فيه النصارى ، والتيه الذي ضلوا فيه عن المنهج ، واللج الذي أغرق جماعاتهم ، وهو المتشابه الذي منه أنهم زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يقول له القائل : يا رب! افعل لي كذا ويسجد له ، فيقره على ذلك ويجيب سؤاله ، فدل ذلك على أنه إله ، ومنه إطلاقه على الله سبحانه وتعالى أباً وعلى نفسه أنه ابنه ، فابتغوا الفتنه فيه واعتقدوا الأبوة والنبوة على حقيقتهما ولم يردوا ذلك إلى المحكم الذي قاله لهم فأكثر منه ، كما أخبر عنه أصدق القائلين سبحانه وتعالى في الكتاب المتواتر الذي حفظه من التحريف والتبديل :
(11/163)
{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [ فصلت : 42 ] ، وهو {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} [ مريم : 30 ، 31 ] {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} [ المائدة : 117 ] {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [ مريم : 51 ] ، هذا مما ورد في كتابنا الذي لم يغيروا ما عندهم فإن كانوا قد بدلوه فقد ولله الحمد منه في الأناجيل الأربعة التي بين أظهرهم الآن في أواخر هذا القرن التاسع من المحكم ما يكفي في رد المتشابه إليه ، ففي إنجيل لوقا أن جبريل عليه الصلاة والسلام ملاك الرب لما تبدى لمريم مبشراً بالمسيح عليه السلام وخافت منه قال لها : لا تخافي يا مريم ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى ، وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً يدعى يسوع ، يكون عظيماً ، وابن العذراء يدعى ؛ ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ؛ وفي إنجيله أيضاً وإنجيل متى أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال وقد أمره إبليس أن يجرب قدره عند الله بأن يطرح نفسه من شاهق : مكتوب : لا تجرب الرب إلهك ، وقال وقد أمره أن يسجد له : مكتوب : للرب إلهك اسجد ، وإياه وحده اعبد ، وصرح أن الله سبحانه وتعالى واحد في غير موضع ؛ وفي إنجيل لوقا أنه دفع إلى المسيح سفر أشعيا النبي فلما فتحه وجد الموضع الذي فيه مكتوب : روح الرب عليّ ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأبشر بالسنة المقبولة للرب ، والأيام التي أعطانا إلهنا ، ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم ؛ وفيه وفي غيره من أناجيلهم : من قبل هذا فقد قبلني ، ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني ، ومن سمع منكم فقد سمع مني ، ومن جحدكم فقد جحدني ، ومن جحدني فقد شتم الذي أرسلني ومن أنكرني قدام الناس أنكرته قدام الناس ، أنكرته قدام ملائكة الله ، وفي إنجيل يوحنا أنه قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام : الذي أرسله الله إنما ينطق(11/164)
بكلام الله لأنه ليس بالكيس ، أعطاه الله الروح ، وقال : قد سأله تلاميذه أن بأكل فقال لهم : طعامي أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله ؛ وفيه في موضع آخر : الحق الحق أقول لكم! أن من يسمع كلامي وآمن بمن أرسلني وجبت له الحياة المؤبده ، لست أقدر أعمل شيئاً من ذات نفسي ، وإنما أحكم بما أسمع ، وديني عدل لأني لست أطلب مسرتي بل مسرة من أرسلني ؛ وفي إنجيل مرقس أنه قال لناس : تعلمتم وصايا الناس وتركتم وصايا الله ، وزجر بعض من اتبعه فقال : اذهب يا شيطان! فإنك لم تفكر في ذات الله ، وتفكر في ذات الناس ؛ فقد جعل الله إلهه وربه ومعبوده ، واعترف له بالوحدانيه وجعل ذاته مبايناً لذات الناس الذي هو منهم ؛ وفي جميع أناجيلهم نحو هذا ، وأنه كان يصوم ويصلي لله ويأمر تلاميذه بذلك ، ففي إنجيل لوقا أنهم قالوا له : يا رب! علمنا نصلي كما علم يوحنا تلاميذه ، فقال لهم : إذا صليتم فقولوا : أبانا الذي في السماوات يتقدس اسمك! كفافنا أعطنا في كل يوم ، واغفر لنا خطايانا لأنا نغفر لمن لنا عليه ، ولا تدخلنا في التجارب ، لكن نجنا من الشرير ؛ ولما دخل الهيكل بدأ يخرج الذين يبيعون ويشترون فيه ، فقال لهم : مكتوب أن بيتي هو بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مفازة اللصوص! فعلم من هذا كله أن إطلاق اسم الرب عليه لأن الله سبحانه وتعالى أذن له أن يفعل بعض أفعاله التي ليست في قدرة البشر ، والرب يطلق على السيد أيضاً ، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام :
{اذكرني عند ربك} [ يوسف : 42 ].
(11/165)
ثم وجدت في أوائل إنجيل يوحنا أن الرب تأويله العلم ، ولو ردوا أيضاً الأب والابن إلى هذا المحكم وأمثاله وهي كثيرة في جميع أناجيلهم لعلموا بلا شبهة أن معناه أن الله سبحانه وتعالى يفعل معه ما يفعل الوالد مع ولده من الترية والحياطة والنصرة والتعظيم والإجلال ، كما لزمهم حتماً أن يأولوا قوله فيما قدمته : أبانا الذي في السماوات ، وقوله في إنجيل متى لتلاميذه : هكذا فليضىء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات ، وقال : وأحسنوا إلى من أبغضكم ، وصلوا على من يطردكم ويخزيكم لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات ، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار ، والممطر على الصديقين والظالمين ، انظروا! لا تصنعوا أمراً حكم قدام الناس لكي يروكم ، فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات ، وإذا صنعت رحمة فلا تضرب قدامك بالبوق ، ولا تصنع كما يصنع المراؤون في المجامع وفي الأسواق لكي يمجدوا من الناس ، الحق أقول لكم! لقد أخذوا أجرهم ؛ وأنت إذا صنعت رحمة لا تعلم شمالك ما صنعته يمينك ، لتكون صدقة في خفية ، وأبوك الذي يرى الخفية يعطيك على نية ؛ وقل في الفصل العاشر منه : وصل لأبيك سراً ، وأبوك يرى السر فيعطيك علانية.
وهكذا في جميع آيات الأحكام من الإنجيل كرر لهم هذه اللفظة تكريراً كثيراً ، فكما تأول لها النصارى بأن المراد منها تعظيمهم له أشد من تعظيمهم لآبائهم ليعتني بهم أكثر من اعتناء الوالد بالولد فكذلك يأولون ما في إنجيل لوقا وغيره أن أم عيسى وإخواته أتوا اليه فلم يقدروا لكثره الجمع على الوصول إليه فقالوا له أملك وإخواتك خارجاً يريدون أن ينظروا إليك ، فأجاب : أمي وأخوتي الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها ؛ فكذلك يلزمهم تأويلها في حق عيسى عليه الصلاة والسلام لذلك ليرد المتشابه إلى المحكم.
(11/166)
وإن لم يأولوا ذلك في حق أنفسهم وحملوه على الظاهر كما هو ظاهر قوله سبحانه وتعالى : {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} [ المائدة : 18 ] كانوا مكابرين في المحسوس بلا شبهة ، فإن كل أحد منهم مساو لجميع الناس وللبهائم في أن له أبوين ، وكانت دعواهم هذة ساقطة لا يردها عليهم إلا من تبرع بإلزامهم بمحسوس آخر هم به يعترفون ، وقد أقام هو نفسه عليه الصلاة والسلام أدلة على صرفها عن ظاهرها ، منها غير ما تقدم أنه كثيراً ما كان يخبر عن نفسه فيقول : ابن الإنسان يفعل كذا ، ابن البشر قال كذا يعني نفسه الكريمة ، فحيث نسب نفسه إلى البشر كان مريداً للحقيقة ، لأنه ابن امرأة منهم ، وهو مثلهم في الجسد ، والمعاني حيث نسبها إلى الله سبحانه وتعالى كان على المجاز كما تقدم.
(11/167)
وأما السجود فقد ورد في التوراة كثيراً لأحاد الناس من غير نكير ، فكأنه كان جائزاً في شرائعهم فعله لغير الله سبحانه وتعالى على وجه التعظيم والله سبحانه وتعالى أعلم ، وأما نحن فلا يجوز فعله لغير الله ، ولا يجوز في شريعتنا أصلاً إطلاق الأب ولا الابن بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ، وكذا كل لفظ أوهم نقصاً سواء صح أن ذلك كان جائزاً في شرعهم أم لا ، وإذا راجعت تفسير البيضاوي لقوله سبحانه وتعالى في البقرة {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} [ البقرة : 117 ] زادك بصيرة فيما هنا ؛ والحاصل أنهم لم يصرفوا ذلك في حق عيسى عليه الصلاة والسلام عن ظاهره وحقيقته وتحكموا بأن المراد منه المجاز وهو هنا إطلاق اسم الملزوم على اللازم ، وكذا غيره من متشابه الإنجيل ، كما فعلنا نحن بمعونة الله سبحانه وتعالى في وصف الله سبحانه وتعالى بالرضى والغضب والرحمة والضحك وغير ذلك مما يستلزم حمله على الظاهر وصفات المحدثين ، وكذا ذكر اليد والكف والعين ونحو ذلك فحملنا ذلك كله على أن المراد منه لوازمه وغاياته مما يليق بجلاله سبحانه وتعالى مع تنزيهنا له سبحانه وتعالى عن كل نقص وإثباتنا له كل كمال ، فإن الله سبحانه وتعالى عزه وجده وجل قدره ومجده أنزل حرف المتشابه ابتلاء لعباده لتبين الثابت من الطائش والموقن من الشاك.(11/168)
قال الحرالي في كتابه عروة المفتاح : وجه إنزال هذا الحرف تعرف الحق للخلق بمعتبر ما خلقهم عليه ليلفتوا عنه وليفهموا خطابه ، وليتضح لهم نزول رتبهم عن علو ما تعرف به لهم ، وليختم بعجزهم عن إدراك هذا الحرف علمهم بالأربعة يعني الأمر والنهي والحلال والحرام ، وحبسهم بالخامس وتوقفهم عنه والاكتفاء بالإيمان منه ما تقدم من عملهم بالأربعة ، واتصافهم بالخامس ليتم لهم العبادة بالوجهين من العمل والوقوف والإدراك والعجز {فارجع البصر هل ترى من فطور} [ الملك : 3 ] علماً وحساً {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} [ الملك : 4 ] عجزاً ، أعلمهم بحظ من علم أنفسهم وغيرهم بعد أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ثم أعجزهم عن علم أمره وأيامه الماضية والآتية وغائب الحاضرة ليسلموا له اختيار فيرزقهم اليقين بأمره وغائب أيامه ، كما أسلموا له في الصغر اضطراراً ، فرزقهم حظاً من علم خلقه ، فمن لم يوقفه في حد الإيمان اشتباه خطابه سبحانه وتعالى عن نفسه وما بينه وبين خلقه وحاول تدركه بدليل أو فكر أو تأويل حرم اليقين بعلي الأمر والتحقيق في علم الخلق ، وأوخذ بما أضاع من محكم ذلك المتشابه حين اشتغل لما يعنيه من حال نفسه بما لا يعنيه من أمر ربه ، فكان كالمتشاغل بالنظر في ذي الملك ، وتنظره يرمي نفسه عن مراقبة ما يلزمه من تفهم حدوده وتذلله لحرمته ؛ وجوامع منزل هذا الحرف في رتبتين : مبهمة ومفصلة ، أما انبهامه فلوقوف العلم به على تعريف الله سبحانه وتعالى من غير واسطة من وسائط النفس من فكر ولا استدلال ، وليتدرب المخاطب بتوقفه على المبهم على توقفه عن مفصله ومبهمه ، وهو جامع الحروف المنزلة في أوائل السور التسع والعشرين من سوره وبه افتتح الترتيب في القرآن ، ليتلقى الخلق بادي أمر الله بالعجز والوقوف والاستسلام إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى بعلمه بفتح من لدنه ، ولذلك لم يكن في تنزيله في هذه الرتبة ريب(11/169)
لمن علمه الله سبحانه وتعالى كنهه من حيث لم يكن للنفس مدخل في علمه ، وذلك قوله سبحانه وتعالى : {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه} [ البقرة : 1 ، 2 ] لمن علمه الله إياه {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} [ البقرة : 2 ، 3 ] وقوفاً عن محاولة علم ما ليس في وسع الخلق علمه ، حتى تلحقه العنايه من ربه فعلمه ما لم يكن في علمه ؛ وأما الرتبة الثانية فمتشابه الخطاب المفصل المشتمل على إخبار الله عن نفسه وتنزيلات أمره ، ورتب إقامات خلقه بإبداع كلمته وتصيير حكمته وباطن ملكوته وعزيز جبروته وأحوال أيامه ؛ وأول ذلك في ترتيب القرآن إخباره عن استوائه في قوله :
(11/170)
{ثم استوى إلى السماء} [ البقرة : 29 ] إلى قوله سبحانه وتعالى {فأينما تولوا فثم وجه الله} [ لبقرة : 115 ] إلى سائر ما أخبر عنه من عظم شأنه في جملة آيات متعددات لقوله سبحانه وتعالى {إلا لنعلم من يتبع الرسول} [ البقرة : 143 ] ، {فإني قريب} [ البقرة : 186 ] {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة} [ البقرة : 210 ] ، {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [ البقرة : 255 ] {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [ البقرة : 279 ] ، {هو الذي يصوركم في الأرحام} [ آل عمران : 6 ] ، {ويحذركم الله نفسه} [ آل عمران : 128 ] ، {ولله ملك السماوات والأرض} [ آل عمران : 189 ] ، {والله على كل شيء قدير} [ البقرة : 284 ] ، {وكان الله سميعاً بصيراً} [ النساء : 85 ] ، {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [ المائده : 64 ] ، {وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} [ الأنعام : 3 ] ، {خلق السماوات والأرض} [ الأعراف : 54 ] ، {ثم استوى على العرش} [ الأعراف : 54 ] ، {ولتصنع على عيني} [ طه : 39 ] ، {قل من بيده ملكوت كل شيء} [ المؤمنون : 88 ] ، {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله} [ القصص : 30 ] ، {كل شيء هالك إلا وجهه} [ القصص : 88 ] ، {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [ الأحزاب : 43 ] ، {إن الله وملائكته يصلون علىلنبي} [ الأحزاب : 56 ] ، {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ الأعراف : 12 ] ، {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [ الزخرف : 84 ] ، {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه} [ الجاثيه : 13 ] ، {وله الكبرياء في السماوات والأرض} [ الجاثيه : 37 ] ، {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك} [ الرحمن : 26 ، 27 ] ، {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [ الحديد : 3 ] ، {وهو معكم أين ما كنتم} [ الحديد : 4 ] ، {ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم ولا(11/171)
خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} [ المجادلة : 7 ] ، {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} [ الحشر : 2 ] ، {تبارك الذي بيده الملك} [ الملك : 1 ] ، {تعرج الملائكة والروح اليه} [ المعارج : 4 ] ، {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [ القيامة : 22 ، 23 ] ، {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} [ الإنسان : 30 ] ، {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [ الفجر : 22 ] إلى سائر ما أخبر فيه عن تنزلات أمره وتسوية خلقه وما أخبرعنه حبيبه صلى الله عليه وسلم من محفوظ الأحاديث التي عرف بها أمته ما يحملهم في عبادتهم على الانكماش والجد والخشية والوجل والإشفاق وسائر الأحوال المشار إليها في حرف المحكم من نحو حديث النزول والقدمين والصورة والضحك والكف والأنامل ، وحديث عناية لزوم التقرب بالنوافل وغير ذلك من الأحاديث التي ورد بعضها في الصحيحين ، واعتنى بجمعها الحافظ المتقن أبو الحسن الدارقطني رحمه الله تعالى ، ودوَّن بعض المتكلمين جملة منها لقصد التأويل ، وشدد النكير في ذلك أئمة المحدثين ، يؤثر عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ورحمة أنه قال : آيات الصفات وأحاديث الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الله سبحانه وتعالى ، تأويلها تلاوتها ، ولذلك أئمة الفقهاء وفتياهم لعامة المؤمنين والذي اجتمعت عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولقنته العرب كلها أن ورود ذلك عن الله ومن رسوله ومن الأئمة إنما هو لمقصد الإفهام ، لا لمقصد الإعلام ، فلذلك لم يستشكل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شيئاً قط ، بل كلما كان وارده عليهم أكثر كانوا به أفرح ، وللخطاب به أفهم ، حتى قال بعضهم لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم :
(11/172)
" إن الله تعالى يضحك من عبده : لا نعدم الخير من رب يضحك " وهم وسائر العلماء بعدهم صنفان : إما متوقف عنه في حد الإيمان ، قانع بما أفاد من الإفهام ، وإما مفتوح عليه بما هو في صفاء الإيقان ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى تعرف لعباده في الأفعال والآثار في الآفاق وفي أنفسهم تعليماً ، وتعرف للخاصة منهم بالأوصاف العليا والأسماء الحسنى مما يمكنهم اعتباره تعجيزاً ، فجاوزوا حدود التعلم بالإعلام إلى عجز الإدراك فعرفوا أن لا معرفة لهم ، وذلك هو حد العرفان وإحكام قراءة هذا الحرف المتشابه في منزل القرآن ، وتحققوا أن {ليس كمثله شيء} [ الشورى : 11 ] و{لم يكن له كفواً أحد} [ الإخلاص : 4 ] فتهدفوا بذلك لما يفتحه الله على من يحبه من صفاء الإيقان ، والله يحب المحسنين.
ثم قال فيما به تحصل قراءة هذا الحرف : اعلم أن تحقيق الإسلام بقراءة حرف المحكم لا يتم إلا بكمال الإيمان بقراءة حرف المتشابه تماماً لأن حرف المحكم حال يتحقق للعبد.
(11/173)
ولما كان حرف المتشابه إخباراً عن نفسه سبحانه وتعالى بما يتعرف به لخلقه من أسماء وأوصاف كانت قراءته بتحقق العبد أن تلك الأسماء والأوصاف ليست مما تدركه حواس الخلق ولا ما تناله عقولهم ، وإن أجرى على تلك الاسماء والأوصاف على الخلق فيوجه ، لا يلحق أسماء الحق ولا أوصافه منها تشبيه في وهم ولا تمثيل في عقل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [ الشورى : 11 ] ، {ولم يكن له كفواً أحد} [ الإخلاص : 4 ] ، فلاذي يصح به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلب فالمعرفة بأن جميع أسماء الحق وأوصافه تعجز عن معرفتها إدراكات الخلق وتقف عن تأويلها إجلالاً وإعظاماً معلوماتُهم ، وأن حسبها معرفتها بأنها لا تعرفها ، وأما من جهة حال النفس والاستكانة لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف من التحقق بما يقابلها والبراءة من الاتصاف بها لأن ما صلح للسيد حرم على العبد لتحقق فقر الخلق من تسمي الحق بالغنى ، ولا يتسمى بالغنى فيقدح في هداه ، فيهلك باسمه ودعواه ، ولتحقق ذلهم من تسميته تعالى بالعزة وعجزهم عن تسميته بالقدرة ، واستحقاق تخليهم من جميع ما تعرف به من أوصاف الملك والسلطان والغضب والرضى والوعد والوعيد والترغيب والترهيب إلى سائر ما تسمى به في جميع تصرفاته مما ذكر في المتشابه من الآي ، وأشير إليه من الأحاديث ، وما عليه اشتملت " واردات الأخبار " في جميع الصحف والكتب ، ومرائي الصالحين ومواقف المحدثين ومواجد المروّعين ؛ وأما من جهة العمل فحفظ اللسان عن إطلاق ألفاظ التمثيل والتشبيه تحقيقاً لما في مضمون قوله سبحانه وتعالى
{ولم يكن له كفواً أحد} [ الإخلاص : 4 ] لأن مقتضاها الرد على المشبه من هذه الأمة ، وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر سوى ما ذكر من لفظ اللسان ، فقراءته كالتوطئة لتخليص العبادة بالقلب في قراءة مفرد حرف الأمثال ؛ والله العلي الكبير انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 14 ـ 22}
قال الفخر :
(11/174)
قد ذكرنا في اتصال قوله {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} بما قبله احتمالين أحدهما : أن ذلك كالتقرير لكونه قيوماً والثاني : أن ذلك الجواب عن شبه النصارى ، فأما على الاحتمال الأول فنقول : إنه تعالى أراد أن يبين أنه قيوم وقائم بمصالح الخلق ومصالح الخلق قسمان : جسمانية وروحانية ، أما الجسمانية فأشرفها تعديل البنية ، وتسوية المزاج على أحسن الصور وأكمل الأشكال ، وهو المراد بقوله {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام} [ آل عمران : 6 ] وأما الروحانية فأشرفها العلم الذي تصير الروح معه كالمرآة المجلوة التي تجلت صور جميع الموجودات فيها وهو المراد بقوله {هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} وأما على الاحتمال الثاني فقد ذكرنا أن من جملة شبه النصارى تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام : إنه روح الله وكلمته ، فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكم وعلى متشابه ، والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم ، هو في غاية الحسن والاستقامة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 144 ـ 145}
وقال الآلوسى : (11/175)
قوله تعالى {هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} استئناف لإبطال شبه الوفد وإخوانهم الناشئة عما نطق به القرآن في نعت المسيح عليه السلام إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه. قيل : إن الوفد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تزعم أن عيسى كلمة الله تعالى وروح منه ؟ قال : بلى قالوا : فحسبنا ذلك فنفى سبحانه عليهم زيفهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه كذا قيل ومنه يعلم وجه مناسبة الآية لما قبلها ، واعترض بأن هذا الأثر لم يوجد له أثر في الصحاح ولا سند يعول عليه في غيرها ، وقصارى ما وجد عن الربيع أن المراد بالموصول الآتي الوفد ، وفيه أن الأثر بعينه أخرجه في "الدر المنثور" عن أبي حاتم وابن جرير عن الربيع ، وعن بعضهم أن الآية نزلت في اليهود ، وذلك حين مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة ( 1 ، 2 ) {الم ذلك الكتاب} فأتى أخاه حي بن أخطب في رجال من يهود فقال : أتعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه {الم ذلك الكتاب} فقال : أنت سمعته ؟ قال : نعم فمشى حي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك {الم ذلك الكتاب} ؟ فقال : بلى فقال : لقد بعث الله تعالى قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة هل مع هذا غيره ؟ قال : نعم {المص} [ الأعراف : 1 ] قال : هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا غيره ؟ قال : نعم {الر} [ يونس : 1 ] قال : هذه أثقل وأطول هل مع هذا غيره ؟ قال : بلى {المر} [ الرعد : 1 ] قال : هذه أثقل وأطول ثم قال : لقد لبس علينا أمرك حتى ما(11/176)
ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ثم قال : قوموا ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه : وما يدريكم لعله لقد جمع هذا كله لمحمد ؟ فقالوا : لقد تشابه علينا أمره". وقد أخرج ذلك البخاري في "التاريخ" وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أن فيه فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم وهو مؤذن بعدم الجزم بذلك ومع هذا يبعده ما تقدم من رواية "إن الله تعالى أنزل في شأن أولئك الوفد من مصدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية" وعلى تقدير الإغماض عن هذا يحتمل أن يكون وجه اتصال الآية بما قبلها أن في المتشابه خفاءاً كما أن تصوير ما في الأرحام كذلك أو أن في هذه تصوير الروح بالعلم وتكميله به وفيما قبلها تصوير الجسد وتسويته فلما أن في كل منهما تصويراً وتكميلاً في الجملة ناسب ذكره معه ولما أن بين التصوير الحقيقي الجسماني والذي ليس هو كذلك من الروحاني من التفاوت والتباين ترك العطف. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 79}
فصل
قال القرطبى :
خرّج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم " وعن أبي غالب قال : كنت أمشي مع أبي أُمَامة وهو على حمارٍ له ، حتى إذا انتهى إلى دَرَج مسجد دمشق فإذا رؤوس منصوبة ؛ فقال : ما هذه الرُّؤوس ؟ قيل : هذه رؤوس خوارج يجاء بهم من العراق.(11/177)
فقال أبو أُمامة : كِلابُ النار كِلابُ النار كلابُ النار شرُّ قتلى تحت ظل السماء ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه يقولها ثلاثاً ثم بكى.
فقلت : ما يبكيك يا أبا أُمَامة ؟ قال : رحمةً لهم ، إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه ؛ ثم قرأ {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} إلى آخر الآيات.
ثم قرأ {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات} [ آل عمران : 105 ].
فقلت : يا أبا أُمَامة ، هُمْ هؤلاء ؟ قال نعم.
قلتُ : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إني إذَّاً لَجَريءٌ إني إذا لجريء بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمسٍ ولا ست ولا سبع ، ووضع أصبعيْه في أُذُنَيْه ، قال : وإلاّ فصُمَّتا قالها ثلاثاً ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقةً واحدةٌ في الجنة وسائرهم في النار ولتَزيدنّ عليهم هذه الأمة واحدة واحدةٌ في الجنة وسائرُهم في النار ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 9}
لطيفة
قال ابن عاشور :
ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل ، الذي هو مختص بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر ، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلا من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 14}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم ، ودل على أنه بكليته متشابه ، ودل على أن بعضه محكم ، وبعضه متشابه.(11/178)
أما ما دل على أنه بكليته محكم ، فهو قوله {الر تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم} [ يونس : 1 ] {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} [ هود : 1 ] فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم ، والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاماً حقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين ، والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله : محكم ، فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم.
وأما ما دل على أنه بكليته متشابه ، فهو قوله تعالى : {كتابا متشابها مَّثَانِيَ} [ الزمر : 23 ] والمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [ النساء : 82 ] أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر ، ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة.
وأما ما دل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه ، فهو هذه الآية التي نحن في تفسيرها ، ولا بد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ، ثم من تفسيرهما في عرف الشريعة : أما المحكم فالعرب تقول : حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت ، ومنعت ، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحكمة اللجام التي هي تمنع الفرس عن الاضطراب ، وفي حديث النخعي : احكم اليتيم كما تحكم ولدك أي امنعه عن الفساد ، وقال جرير : أحكموا سفهاءكم ، أي امنعوهم ، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له ، وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي ، وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز ، قال الله تعالى :
(11/179)
{إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا} [ البقرة : 70 ] وقال في وصف ثمار الجنة {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} [ البقرة : 25 ] أي متفق المنظر مختلف الطعوم ، وقال الله تعالى : {تشابهت قُلُوبُهُمْ} [ البقرة : 118 ] ومنه يقال : اشتبه علي الأمران إذا لم يفرق بينهما ، ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وقال عليه السلام : " الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات " وفي رواية أخرى مشتبهات.
ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه ، إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، ونظيره المشكل سمي بذلك ، لأنه أشكل ، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشابهه ، ثم يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل ، ويحتمل أن يقال : إنه الذي لا يعرف أن الحق ثبوته أو عدمه ، وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ، ومشابهاً له ، وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان ، فلا جرم سمي غير المعلوم بأنه متشابه ، فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ، فنقول :
الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير المحكم والمتشابه ، ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين ، ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول :
(11/180)
اللفظ الذي جعل موضوعاً لمعنى ، فإما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى ، وإما أن لا يكون فإذا كان اللفظ موضوعاً لمعنى ولا يكون محتملاً لغيره فهذا هو النص ، وأما إن كان محتملاً لغيره فلا يخلو إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر ، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما على السواء ، فإن كان احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهراً ، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً ، وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً ، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً ، فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه أن اللفظ إما أن يكون نصاً ، أو ظاهراً ، أو مؤولاً ، أو مشتركاً ، أو مجملاً ، أما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح ، إلا أن النص راجح مانع من الغير ، والظاهر راجح غير مانع من الغير ، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم.
وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة ، وإن لم يكن راجحاً لكنه غير مرجوح ، والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد ، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه ، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً وقد بينا أن ذلك يسمى متشابهاً إما لأن الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن ، وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم ، فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه ، ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية ، فههنا يتوقف الذهن ، مثل : القرء ، بالنسبة إلى الحيض والطهر ، إنما المشكل بأن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المعنيين ، ومرجوحاً في الآخر ، ثم كان الراجح باطلاً ، والمرجوح حقاً ، ومثاله من القرآن قوله تعالى :
(11/181)
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} [ الإسراء : 16 ] فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا ، ومحكمه قوله تعالى : {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء} [ الأعراف : 28 ] رداً على الكفار فيما حكى عنهم {وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا} [ الأعراف : 28 ] وكذلك قوله تعالى : {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [ التوبة : 67 ] وظاهر النسيان ما يكون ضداً للعلم ، ومرجوحه الترك والآية المحكمة فيه قوله تعالى : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [ مريم : 64 ] وقوله تعالى : {لاَ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى} [ طه : 52 ].
واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول : إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة ، فالمعتزلي يقول قوله {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [ الكهف : 29 ] محكم ، وقوله {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين} [ التكوير : 29 ] متشابه والسني يقلب الأمر في ذلك فلا بد ههنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب فنقول : اللفظ إذا كان محتملاً لمعنيين وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحاً ، وبالنسبة إلى الآخر مرجوحاً ، فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح ، فهذا هو المحكم وأما إن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح ، فهذا هو المتشابه فنقول : صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظياً وإما أن يكون عقلياً.
(11/182)
أما القسم الأول : فنقول : هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظيين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس ، اللّهم إلا أن يقال : إن أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان ، أو يقال : كل واحد منهما وإن كان راجحاً إلا أن أحدهما يكون أرجح ، وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول :
أما الأول فباطل ، لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة ألبتة ، لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات ، ونقل وجوه النحو والتصريف ، وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز ، وعدم التخصيص ، وعدم الإضمار ، وعدم المعارض النقلي والعقلي ، وكان ذلك مظنون ، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً ، فثبت أن شيئاً من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعاً.
(11/183)
وأما الثاني وهو أن يقال : أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائماً فيهما معاً ، فهذا صحيح ، ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنياً ، ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية ، بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهيه فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال ، وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره ، فعنذ هذا يتعين التأويل ، فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلاً ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره ، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل ، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف ، وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهباً أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل ، فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب ، والله ولي الهداية والرشاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 145 ـ 147}
قال الماوردى :
{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} اختلف المفسرون في تأويله على سبعة أقاويل :
أحدها : أن المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ ، قاله ابن عباس ، وابن مسعود.(11/184)
والثاني : أن المحكم ما أحكم الله بيان حلاله وحرامه فلم تشتبه معانيه ، قاله مجاهد.
والثالث : أن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل أوجهاً ، قاله الشافعي ومحمد بن جعفر بن الزبير.
والرابع : أن المحكم الذي لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه الذي تكررت ألفاظه ، قاله ابن زيد.
والخامس : أن المحكم الفرائض والوعد والوعيد ، والمتشابه القصص والأمثال.
والسادس : أن المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره ، والمتشابه ما لم يكن إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه ، كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج عيسى ونحوه ، وهذا قول جابر بن عبد الله.
والسابع : أن المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال.
ويحتمل ثامناً : أن المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة ، والمتشابه ما كانت معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصيام بشهر رمضان دون شعبان.
وإنما جعله محكماً ومتشابهاً استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر ، وقد روى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القرآن على ثلاثة أجزاء : حلال فاتبعه ، وحرام فاجتنبه ، ومتشابه يشكل عليك فَكِلْه إلى عالمه. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 369 ـ 370}
وقال الطبرى :
وأما"المحكمات" ، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل ، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ، وأمر وزجر ، وخبر ومثل ، وعظة وعِبر ، وما أشبه ذلك.
ثم وصف جل ثناؤه : هؤلاء"الآيات المحكمات" ، بأنهن : "هُنّ أمّ الكتاب". يعني بذلك : أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود ، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم ، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.(11/185)
وإنما سماهن"أمّ الكتاب" ، لأنهن معظم الكتاب ، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه ، وكذلك تفعل العرب ، تسمي الجامعَ معظم الشيء"أمًّا" له. فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر : "أمّهم" ، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة : "أمها".
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
ووحَّد"أمّ الكتاب" ، ولم يجمع فيقول : هن أمَّهات الكتاب ، وقد قال : "هُنّ" لأنه أراد جميع الآيات المحكمات"أم الكتاب" ، لا أن كل آية منهن"أم الكتاب". ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن"أم الكتاب" ، لكان لا شك قد قيل : "هن أمهات الكتاب". ونظير قول الله عز وجل : "هن أمّ الكتاب" على التأويل الذي قلنا في توحيد"الأم" وهي خبر لـ"هُنّ" ، قوله تعالى ذكره : ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) [سورة المؤمنون : 50] ولم يقل : آيتين ، لأن معناه : وجعلنا جميعهما آية. إذ كان المعنى واحدًا فيما جُعلا فيه للخلق عبرة. ولو كان مرادًا الخبرُ عن كل واحد منهما على انفراده ، بأنه جعل للخلق عبرة ، لقيل : وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين ، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريم ولدت من غير رجل ، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيًّا ، فكان في كل واحد منهما للناس آية.
وقد قال بعض نحويي البصرة : إنما قيل : "هن أم الكتاب" ، ولم يَقل : "هن أمهات الكتاب" على وجه الحكاية ، كما يقول الرجل : "ما لي أنصار" ، فتقول : "أنا أنصارك" أو : "ما لي نظير" ، فتقول : "نحن نظيرك".
قال : وهو شبيهُ : "دَعنى من تَمرْتَان" ، وأنشد لرجل من فقعس :
تَعَرَّضَتْ لِي بِمَكَانِ حَلِّ... تَعرُّض المُهْرَةِ فِي الطِّوَلِّ تَعَرُّضًا لَمْ تَألُ عَنْ قَتْلا لِي
حاكيهنّ ، بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن وأن معلومًا أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله : "أمّ الكتاب" ، فيجوز أن يقال : أخرج ذلك مُخرَج الحكاية عمن قال ذلك كذلك.
أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 170 ـ 172}
وقال ابن الجوزى :
وفي المتشابه سبعة أقوال.
(11/186)
أحدها : أنه المنسوخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والسدي في آخرين.
والثاني : أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل ، كقيام الساعة ، روي عن جابر بن عبد الله.
والثالث : أنه الحروف المقطعة كقوله : "ألم" ونحو ذلك ، قاله ابن عباس.
والرابع : أنه ما اشتبهت معانيه ، قاله مجاهد.
والخامس : أنه ما تكررت ألفاظه ، قاله ابن زيد.
والسادس : أنه ما احتمل من التأويل وجوهاً.
وقال ابن الأنباري : المحكم ما لا يحتمل التأويلات ، ولا يخفى على مميّز ، والمتشابه : الذي تعتوره تأويلات.
والسابع : أنه القصص ، والأمثال ، ذكره القاضي أبو يعلى. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 351}
وقال ابن كثير :
وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه ، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله ، حيث قال : {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} فيهن حجة الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.
قال : والمتشابهات في الصدق ، لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ، ولا يحرّفن عن الحق.(11/187)
ولهذا قال تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي : ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي : إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ، وينزلوه عليها ، لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه ؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم ، ولهذا قال : {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي : الإضلال لأتباعهم ، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن ، وهذا حجة عليهم لا لهم ، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، وتركوا الاحتجاج بقوله [تعالى] {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف : 59] وبقوله : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [ آل عمران : 59 ] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله ، وعبد ، ورسول من رسل الله. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 7 ـ 8}
وقال القرطبى :
اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة ، فقال جابر بن عبد الله ، وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما : المحكمات من آي القرآن ما عرِف تأويله وفهم معناه وتفسيره.
والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه.
قال بعضهم : وذلك مِثل وقت قيام الساعة ، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى ، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
قلت : هذا أحسن ما قيل في المتشابه.
وقد قدّمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خيثم أنّ الله تعالى أنزل القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء ؛ الحديث.
وقال أبو عثمان ؛ المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزىء الصلاة إلا بها.
وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ، لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط.
(11/188)
وقد قيل : القرأن كله محكم : لقوله تعالى : {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [ هود : 1 ] وقيل : كله متشابه ؛ لقوله : {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} [ الزمر : 23 ].
قلت : وليس هذا من معنى الآية في شيء ؛ فإن قوله تعالى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [ هود : 1 ] أي في النظم والرصْف وأنه حق من عند الله.
ومعنى "كتاباً مُتَشَابِهاً" ، أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا.
وليس المراد بقوله "آيَاتٌ مُحُكَمَاتٌ" "وأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ" هذا المعنى ؛ وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه ، من قوله {إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [ البقرة : 70 ] أي التبس علينا ، أي يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر.
والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا ، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحداً.
وقيل : إن المتشابه ما يحتمل وجوها ، ثم إذا رُدَّتْ الوجوه إلى وجه واحد وأبطِل الباقي صار المتشابه محكماً.
فالمحكم أبداً أصل تردّ إليه الفروع ، والمتشابه هو الفرع.
وقال ابن عباس : المحكمات هو قوله في سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [ الأنعام : 151 ] إلى ثلاث آيات ، وقوله في بني إسرائيل {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [ الإسراء : 23 ] قال ابن عطية : وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات.
وقال ابن عباس أيضاً ؛ المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات المنسوخات ومقدّمه ومؤخّره وأمثالُه وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ، وقال ابن مسعود وغيره : المحكمات الناسخات ، والمتشابهات المنسوخات ، وقاله قتادة والربيع والضحاك.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخُصُوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.(11/189)
والمتشابهات لهنّ تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهنّ العباد ؛ وقاله مجاهد وابن إسحاق.
قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية.
قال النحاس : أحسن ما قيل في المحكمات ، والمتشابهات أنّ المحكمات ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره ؛ نحو {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [ الإخلاص : 4 ] {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} [ طه : 82 ] والمتشابهات نحو {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [ الزمر : 53 ] يرجع فيه إلى قوله جل وعلا : {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} [ طه : 82 ] وإلى قوله عز وجل ؛ {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [ النساء : 48 ].
قلت : ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية ، وهو الجاري على وَضْع اللسان ؛ وذلك أن المحْكَم آسم مفعول من أحْكِم ، والإحكام الإتْقان ؛ ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد ، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها ؛ ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. والله أعلم.
وقال ابن خويزِمَنْدَاد : للمتشابه وجوهٌ ، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أيّ الآيتين نسخت الأُخرى ؛ كقول عليّ وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتدّ أقْصَى الأجلين.
فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون وضع الحمل ، ويقولون : سورة النساء القصرى نسختْ أربعة أشهر وعَشْراً.
وكان عليّ وابن عباس يقولان لم تنسخ.
وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نُسخت أم لم تُنْسَخ.
وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدّم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه ؛ كقوله تعالى : {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [ النساء : 24 ] يقتضي الجمع بين الأقارب من مِلك اليمين ، وقوله تعالى : {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [ النساء : 23 ] يمنع ذلك.
(11/190)
ومنه أيضاً تعارض الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقْيسَة ، فذلك المتشابه.
وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملاً أو مجملاً يحتاج إلى تفسير ؛ لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه.
والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعاً ؛ كما قرىء : {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [ المائدة : 6 ] بالفتح والكسر ، على ما يأتي بيانه "في المائدة" إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 9 ـ 12}
فصل
قال الفخر :
في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول : ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْاْ} [ الأنعام : 151 ] إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود ، وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور ، وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه ، وأقول : التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع ، وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى ، والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق ، ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك ، فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس ، لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم.
وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل ، وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية ، فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة.
القول الثاني : وهو أيضاً مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ ، والمتشابه هو المنسوخ.(11/191)
والقول الثالث : قال الأصم : المحكم هو الذي يكون دليله واضحاً لائحاً ، مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى : {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} [ المؤمنون : 14 ] وقوله {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ} [ الأنبياء : 30 ] وقوله {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} [ البقرة : 22 ] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا تراباً ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكماً لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانياً.
واعلم أن كلام الأصم غير ملخص ، فإنه إن عنى بقوله : المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة ، والمتشابه ما لا يكون كذلك ، وهو إما المجمل المتساوي ، أو المؤول المرجوح ، فهذا هو الذي ذكرناه أولاً ، وإن عنى به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل ، فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل ، والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل ، وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابهاً ، لأن قوله {فَخَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية ، وإن أهل الطبيعة يقولون : السبب في ذلك الطبائع والفصول ، أو تأثيرات الكواكب ، وتركيبات العناصر وامتزاجاتها ، فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل ، فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل ، ولعلّ الأصم يقول : هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل ، إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهراً بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادراً ، ومنها ما يكون الدليل فيه خفياً كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول : هو المحكم والثاني : هو المتشابه.
(11/192)
القول الرابع : أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي ، أو بدليل خفي ، فذاك هو المحكم ، وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه ، وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة ، والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين ، ونظيره قوله تعالى : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} [ الأعراف : 187 ] [ النازعات : 42 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 147 ـ 148}(11/193)
فوائد لغوية
قال الآلوسى :
وقوله سبحانه : {مِنْهُ آيات} الظرف فيه خبر مقدم ، وآيات مبتدأ مؤخر أو بالعكس ، ورجح الأوّل : بأنه الأوفق بقواعد الصناعة ، والثاني : بأنه أدخل في جزالة المعنى إذ المقصود الأصلي انقسام الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب ، والجملة إما مستأنفة أو في حيزالنصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل عليك الكتاب كائناً على هذه الحالة أي منقسماً إلى محكم وغيره أو الظرف وحده حال و( آيات ) مرتفع به على الفاعلية {محكمات} صفة آيات أي واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي أصله والعمدة فيه يرد إليها غيرها والعرب تسمي كل جامع يكون مرجعاً أماً والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما أفرد الأم مع أن الآيات متعددة لما أن المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان أن الكل بمنزلة آية واحدة {وَأَخَّرَ} نعت لمحذوف معطوف على ( آيات ) أي وآيات أخر وهي كما قال الرضيّ : جمع أخرى التي هي مؤنث آخر ومعناه في الأصل أشد تأخراً فمعنى جاءني زيد ، ورجل آخر جاءني زيد ، ورجل أشد تأخراً منه في معنى من المعاني ، ثم نقل إلى معنى غيره فمعنى رجل آخر رجل غير زيد ولا يستعمل إلا فيما هو من جنس المذكور أولا فلا يقال : جاءني زيد وحمار آخر ولا امرأة أخرى ، ولما خرج عن معنى التفضيل استعمل من دون لوازم أفعل التفضيل أعني من والإضافة واللام وطوبق بالمجرد عن اللام والإضافة ما هو له نحو رجلان آخران ورجال آخرون وامرأة أخرى وامرأتان أخريان ونسوة أخر ، وذهب أكثر النحويين إلى أنه غير منصرف لأنه وصف معدول عن الآخر قالوا : لأن الأصل في أفعل التفضيل أن لا يجمع إلا مقروناً بالألف واللام كالكبر والصغر فعدل عن أصله وأعطى من الجمعية مجرداً ما لا يعطي غيره إلا مقروناً ، وقيل : الدليل على عدل ( أخر ) أنه لو كان مع من المقدرة كما في الله أكبر للزم أن يقال بنسوة(11/194)
آخر على وزن أفعل لأن أفعل التفضيل ما دام بمن ظاهرة أو مقدرة لا يجوز مطابقته لمن هو له بل يجب إفراده ، ولا يجوز أن يكون بتقدير الإضافة لأن المضاف إليه لا يحذف إلا مع بناء المضاف ، أو مع ساد مسد المضاف إليه ، أو مع دلالة ما أضيف إليه تابع المضاف أخذاً من استقراء كلامهم فلم يبق إلا أن يكون أصله اللام ، واعترض عليه أبو علي بأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معرفة كسحر.
وأجيب بأنه لا يلزم في المعدول عن شيء أن يكون بمعناه من كل وجه وإنما يلزم أن يكون قد أخرج عما يستحقه وما هو القياس فيه إلى صيغة أخرى ، نعم قد تقصد إرادة تعريفه بعد النقل إما بألف ولام يضمن معناها فيبنى ، أو إما بعلمية كما في سحر فيمنع من الصرف ، ولما لم يقصد في ( أخر ) إرادة الألف واللام أعرب ، ولا يصح إرادة العلمية لأنها تضاد الوصفية المقصودة منه. وقال ابن جني : إنه معدول عن آخر من ، وزعم ابن مالك أنه التحقيق وظاهر كلام أبي حيان اختياره واستدلوا عليه بما لا يخلو عن نظر.(11/195)
ووصف آخر بقوله سبحانه : {متشابهات} وهي في الحقيقة صفة لمحذوف أي محتملات لمعان متشابهات لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق ، وعدم الاتضاح قد يكون للاشتراك أو للإجمال ، أو لأن ظاهره التشبيه فالمتشابه في الحقيقة وصف لتلك المعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بما هو وصف للمدلول فسقط ما قيل : إن واحد متشابهات متشابهة ، وواحد ( أخر ) أخرى ، والواحد هنا لا يصح أن يوصف بهذا الواحد فلا يقال : أخرى متشابهة إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضاً وليس المعنى على ذلك وإنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى فكيف صح وصف الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصف مفرده بمفرده ؟ ا ولا حاجة إلى ما تكلف في الجواب عنه بأنه ليس من شرط صحة وصف المثنى والمجموع صحة بسط مفردات الأوصاف على أفراد الموصوفات كما أنه لا يلزم من الإسناد إليهما صحة إسناده إلى كل واحد كما في {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} [ القصص : 15 ] إذ الرجل لا يقتتل ، وقيل : إنه لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بها سمي كل ما لا يهتدي العقل إليه متشابهاً وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المشكل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة وعليه يكون المتشابه مجازاً أو كناية عما لا يتضح معناه مثلاً فيكون السؤال مغالطة غير واردة رأساً وهذا الذي ذكره في تفسير المحكم والمتشابه هو مذهب كثير من الناس وعليه الشافعية.(11/196)
وتقسيم الكتاب إليهما من تقسيم الكل إلى أجزائه بناءاً على أن المراد من الكتاب ما بين الدفتين ولامه لتعريف العهد ، وحينئذ إما أن يراد بالكتاب الثاني المضاف إليه أم الأول الواقع مقسماً كما يشعر به حديث إعادة الشيء معرفة ويكون وضع المظهر موضع المضمر اعتناءاً بشأن المظهر وتفخيماً له والإضافة على معنى في كما في واحد العشرة فلا يلزم كون الشيء أصلاً لنفسه لأن المعنى على أن الآيات المحكمات التي هي جزء مما بين الدفتين أصل فيما بين الدفتين يرجع إليه المتشابه منه ، واعتبار ظرفية الكل للجزء يدفع توهم لزوم ظرفية الشيء لنفسه وهذا أولى من القول بتقدير مضاف بين المتضايفين بأن يقال التقدير أم بعض الكتاب فإنه وإن بقي فيه الكتاب على حاله إلا أنه لا يخلو عن تكلف ، وإما أن يراد به الجنس فإنه كالقرآن يطلق على القدر المشترك بين المجموع وبين كل بعض منه له به نوع اختصاص كما بين في الأصول ، ويراد من هذا الجنس ما هو في ضمن الآيات المتشابهات فاللام حينئذ للجنس والإضافة على معنى اللام ولا يعارضه حديث الإعادة إذ هو أصل كثيراً ما يعدل عنه ولا يتوهم منه كون الشيء أماً لنفسه أصلاً ولا أن المقام مقام الإضمار ليحتاج إلى الجواب عن ذلك ، وبعض فضلاء العصر العاصرين حميا العلم من كرم أذهانهم الكريمة أحسن عصر جوز كون الإضافية لامية ، و( الكتاب ) المضاف إليه هو الكتاب الأول بعينه وليس في الكلام مضاف محذوف وما يلزم على ذلك من كون الشيء أماً لنفسه وأصلاً لها لا يضر لاختلاف الاعتبار فإن أمومته لغيره من المتشابه باعتبار رده إليه وإرجاعه له وأمومته لنفسه باعتبار عدم احتياجه لظهور معناه إلى شيء سوى نفسه ، ولا يخفى عليك أن الأم إن كانت في كلا الاعتبارين حقيقة لزم استعمال المشترك في معنييه وإن كانت في كليهما مجازاً لزم الجمع بين معنيين مجازيين ، وإن كانت حقيقة في الأصل باعتبار ما يرجع إليه غيره كما يفهم من بعض عباراتهم(11/197)
مجازاً في الأصل بمعنى المستغني عن غيره لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولا مخلص عن ذلك إلا بارتكاب عموم المجاز ، هذا وجوز أن يكون التقسيم إلى القسمين المحكم والمتشابه من تقسيم الكلى إلى جزئياته فأل في الكتاب للجنس أولاً وآخراً إلا أن المراد من الكتاب في الأول الماهية من حيث هي كما هو الأمر المعروف في مثل هذا التقسيم ، وفي الثاني الماهية باعتبار تحققها في ضمن بعض الأفراد وهو المتشابه ، ويجوز أن يراد من الثاني أيضاً مجموع ما بين الدفتين والكلام فيه حينئذ على نحو ما سبق ، قيل : وقصارى ما يلزم من هذا التقسيم بعد تحمل القول بأنه خلاف الظاهر صدق الكتاب على الأبعاض وهو مما لا يتحاشى منه بل هو غرض من فسر الكتاب بالقدر المشترك ، وأنت تعلم أن فيه غير ذلك إلا أنه يمكن دفعه بالعناية فتدبر. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 80 ـ 82}
فائدة
قال القرطبى :
روى البخاريّ عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياءَ تختلفُ عليّ.
قال : ما هو ؟ قال : {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [ المؤمنون : 101 ] وقال : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [ الصافات : 27 ] وقال : {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [ النساء : 42 ] وقال : {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [ الأنعام : 23 ] فقد كتموا في هذه الآية.
وفي النازعات {أَمِ السمآء بَنَاهَا} {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [ النازعات : 27 30 ] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ، ثم قال {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [ فصلت : 9 11 ] فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء.
وقال : {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [ الفتح : 14 ].(11/198)
{وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} [ الفتح : 7 ].
{وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} [ النساء : 134 ] فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس : "فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ" في النفخة الأُولى ، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ؛ ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وأمّا قوله : {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، وقال المشركون : تعالوا نقول : لم نكن مشركين ؛ فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم ؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً ، وعنده يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
وخلق الله الأرض في يومين ، ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات في يومين ، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى ، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين ؛ فذلك قوله :
{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [ النازعات : 30 ].
فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام ، وخلقت السماء في يومين.
وقوله : {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} يعني نفسه ذلك ، أي لم يزل ولا يزال كذلك ؛ فإن الله لم يرِد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد.
ويحك! فلا يختلِف عليك القرآن ؛ فإن كلا من عند الله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 12 ـ 13}
فصل نفيس
قال الفخر : (11/199)
اعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات ، وقال : إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر ، كقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً} [ الأنعام : 25 ] والقدري يقول : بل هذا مذهب الكفار ، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ} [ فصلت : 5 ] وفي موضع آخر {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [ البقرة : 88 ] وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [ القيامة : 22 ، 23 ] والنافي يتمسك بقوله {لاَ تُدْرِكُهُ الأبصار} [ الأنعام : 103 ] ومثبت الجهة يتمسك بقوله {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} [ النحل : 50 ] وبقوله {الرحمن عَلَى العرش استوى} [ طه : 5 ] والنافي يتمسك بقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} [ الشورى : 11 ] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه : محكمة ، والآيات المخالفة لمذهبه : متشابهة وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ، ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا ، أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً نقياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض.
واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوهاً :
الوجه الأول : أنه متى كانت المتشابهات موجودة ، كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب ، قال الله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [ آل عمران : 142 ].
(11/200)
الوجه الثاني : لو كان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد ، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه ، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكم وعلى المتشابه ، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ، ويؤثر مقالته ، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب ، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب ، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق.
الوجه الثالث : أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة ، أما لو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد.
الوجه الرابع : لما كان القرآن مشتملاً على المحكم والمتشابه ، افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة.
(11/201)
الوجه الخامس : وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية ، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح ، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات ، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات ، فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 148 ـ 149}
وقال ابن الجوزى :
فإن قيل : فما فائدة إنزال المتشابه ، والمراد بالقرآن البيان والهدى ؟ فعنه أربعة أجوبة.
أحدها : أنه لما كان كلام العرب على ضربين.
أحدهما : الموجز الذي لا يخفى على سامعه ، ولا يحتمل غير ظاهره.
والثاني : المجاز ، والكنايات ، والإشارات ، والتلويحات ، وهذا الضرب الثاني هو المستحلى عند العرب ، والبديع في كلامهم ، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين ، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله ، فكأنه قال : عارضوه بأي الضربين شئتم ، ولو نزل كله محكماً واضحاً ، لقالوا : هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا.
ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية ، أو تعريض أو تشبيه ، كان أفصح وأغرب.
قال امرؤ القيس :
وما ذرفت عيناك إلا لنضر بي . . .
بسهميك في أعشار قلب مقتَّل
فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه ، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد ، وزاد في بلاغته.
وقال امرؤ القيس أيضاً :
رمتني بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل فلم أننصر . . .
وقال أيضاً :
فقلت له لما تمطى بصُلبه . . .
وأردف أعجازاً وناء بكلكل
فجعل لليل صلباً وصدراً على جهة التشبيه ، فحسن بذلك شعره.
وقال غيره : (11/202)
من كميت أجادها طابخاها لم تمت كل موتها في القدور . . .
أراد بالطابخين : الليل والنهار على جهة التشبيه.
وقال آخر :
تبكي هاشماً في كل فجر . . .
كما تبكي على الفنن الحمام
وقال آخر :
عجبت لها أنى يكون غناؤها . . .
فصيحاً ولم تفتح بمنطقها فما
فجعل لها غناء وفماً على جهة الاستعارة.
والجواب الثاني : أن الله تعالى أنزله مختبراً به عباده ، ليقف المؤمن عنده ، ويرده إلى عالمه ، فيعظم بذلك ثوابه ، ويرتاب به المنافق ، فيداخله الزيغ ، فيستحق بذلك العقوبة ، كما ابتلاهم بنهر طالوت.
والثالث : أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردّهم المتشابه إلى المحكم ، فيطول بذلك فكرهم ، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم ، فيثابون على تعبهم ، كما يثابون على سائر عباداتهم ، ولو جعل القرآن كله محكماً لاستوى فيه العالم والجاهل ، ولم يفضل العالم على غيره ، ولماتت الخواطر ، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم.
وقد قال الحكماء : عيب الغنى : أنه يورث البلادة ، وفضل الفقر : أنه يبعث على الحيلة ، لأنه إذا احتاج احتال.
والرابع : أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة ، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلَّمون ، ويمرّنوهم على انتزاع الجواب ، لأنهم إذا قدروا على الغامض ، كانوا على الواضح أقدر ، فلما كان ذلك حسناً عند العلماء ، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو ، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة ، وابن الأنباري. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 353}
قوله تعالى {هُنَّ أُمُّ الكتاب}
قال الفخر :
فيه سؤالان :
السؤال الأول : ما معنى كون المحكم أماً للمتشابه ؟ .(11/203)
الجواب : الأم في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء ، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها ، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات ، لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات وقيل : أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب ، وهو أنه قال : إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها ، فعبّر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الإبن ، ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة ، فكان قوله {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [ مريم : 35 ] محكماً لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية ، وكان قوله : عيسى روح الله وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم.
السؤال الثاني : لم قال : {أُمُّ الكتاب} ولم يقل : أمهات الكتاب ؟ .
الجواب : أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر ، ونظيره قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً} [ المؤمنون : 50 ] ولم يقل آيتين ، وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة ، فكذلك ههنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 150}
قوله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه ، بيّن أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه ، والزيغ الميل عن الحق ، يقال : زاغ زيغاً : أي مال ميلاً واختلفوا في هؤلاء الذين أُريدوا بقوله {فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} فقال الربيع : هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروح منه قال : بلى.
(11/204)
فقالوا : حسبنا. فأنزل الله هذه الآية ، ثم أنزل {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ} [ آل عمران : 59 ] وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور وقال قتادة والزجاج : هم الكفار الذين ينكرون البعث ، لأنه قال في آخر الآية {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
(11/205)
وقال المحققون : إن هذا يعم جميع المبطلين ، وكل من احتج لباطله بالمتشابه ، لأن اللفظ عام ، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون {ائتنا بِعَذَابِ الله} [ العنكبوت : 29 ] {ومتى تَأْتِينَا الساعة} [ سبأ : 3 ] {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [ الحجر : 7 ] فموهوا الأمر على الضعفة ، ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى : {الرحمن عَلَى العرش استوى} [ طه : 5 ] فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصاً بالحيز فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسماً مركباً وكل مركب فإنه ممكن ومحدث ، فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإله في مكان ، فيكون قوله {الرحمن عَلَى العرش استوى} متشابهاً ، فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد ، فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي ، وثبت أن حصول ذلك الداعي من الله تعالى ، وثبت متى كان الأمر كذلك كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجباً ، وعدمه عند عدم هذه الداعية واجباً ، فحينئذ يبطل ذلك التفويض ، وثبت أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته ، فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر وإن كثرت استدلالاً بالمتشابهات ، فبيّن الله تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات لأجل أن في قلوبهم زيغاً عن الحق وطلباً لتقرير الباطل.
(11/206)
واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة ، والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله : المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب ، وتكليف ما لا يطاق إلى الله تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات.
(11/207)
وقال أبو مسلم الأصفهاني : الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال ، ولا يتأوله على المحكم الذي بيّنه الله تعالى بقوله {وَأَضَلَّهُمُ السامرى} [ طه : 85 ] {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} [ طه : 79 ] {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [ البقرة : 26 ] وفسروا أيضاً قوله {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} [ الإسراء : 16 ] على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم ، وأن الله تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال : {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [ البقرة : 185 ] {وَيُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} [ النساء : 26 ] وتأولوا قوله تعالى : {زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [ النمل : 4 ] على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن كقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [ الرعد : 11 ] {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} [ القصص : 59 ] وقال : {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [ فصلت : 17 ] وقال : {فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} [ يونس : 108 ] وقال : {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ} [ الحجرات : 7 ] فكيف يزين النعمة ؟ فهذا ما قاله أبو مسلم ، وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات ، وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات ؟ ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر ، وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر ؟ ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة ، فإذا دلّ على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية ، فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من(11/208)
غير مرجح ، وذلك تصريح بنفي الصانع ، ولا يتم إلا إذا قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به ، فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص ، وذلك نفي للصانع ، ولزم منه أيضاً أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالماً وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالماً ، ولو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها ، فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه ، فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة.
وأما المحقق المنصف ، فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها : ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية ، فذاك هو المحكم حقاً وثانيها : الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها ، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره وثالثها : الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه ، فيكون من حقه التوقف فيه ، ويكون ذلك متشابهاً بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ، ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر ، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 150 ـ 152}
قوله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
قال البقاعى :
(11/209)
وقد بين سبحانه وتعالى أنه لا يضل بحرف المتشابه إلا ذوو الطبع العوج الذين لم ترسخ أقدامهم في الدين ولا استنارت معارفهم في العلم فقال : {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي اعوجاج عدلوا به عن الحق.
(11/210)
وقال الحرالي : هو ميل المائل إلى ما يزين لنفسه الميل إليه ، والمراد هنا أشد الميل الذي هو ميل القلب عن جادة الاستواء وفي إشعاره ما يلحق بزيغ القلوب من سيىء الأحوال في الأنفس وزلل الأفعال في الأعمال ، فأنبأ تعالى عما هو الأشد وأبهم ما هو الأضعف : {فيتبعون} في إشعار هذه الصيغة بما تنبئ عنه من تكلف المتابعه بأن من وقع له الميل فلفته لم تلحقه مذمه هذا الخطاب ، فإذا وقع الزلل ولم يتتابع حتى يكون اتباعاً سلم من حد الفتنة بمعالجة التوبة {ما تشابه منه} فأبهمه إبهاماً يشعر بما جرت به الكليات فيما يقع نبأ عن الحق وعن الخلق من نحو أوصاف النفس كالتعليم والحكيم وسائر أزواج الأوصاف كالغضب والرضى بناء على الخلق في بادئ الصورة من نحو العين واليد والرجل والوجه وسائر بوادي الصورة ، كل ذلك مما أنه متشابهات أنزلها الله تعالى ليتعرف للخلق بما جبلهم عليه مما لو لم يتعرف لهم به لم يعرفوه ، ففقائدة إنزالها التعرف بما يقع به الامتحان بإحجام الفكر عنه والإقدام على التعبد له ، ففائدة إنزاله عملاً في المحكم وفائدة إنزاله فيه توقفاً عنه ليقع الابتلاء بالوجهين : عملاً بالمحكم ووقوفاً عن المتشابه ، قال عليه الصلاة والسلام : " لا تتفكروا في الله " وقال علي رضي الله عنه : من تفكر في ذات الله تزندق ووافق العلماء إنكار الخلق عن التصرف في تكييف شيء منه ، كما ذكر عن مالك رحمه الله تعالى في قوله : الكيف مجهول والسؤال عنه بدعة ، فالخوض في المتشابه بدعة ، والوقوف عنه سنة ؛ وأفهم عنه الإمام أحمد يعني فيما تقدم في آيات الصفات من أن تأويلها تلاوتها ، هذا هو حد الإيمان وموقفه ، وإليه أذعن الراسخون في العلم ، وهم الذين تحققوا في أعلام العلم ، ولم يصغوا إلى وهم التخييل والتمثل به في شيء مما أنبأ الله سبحانه وتعالى به نفسه ولا في شيء مما بينه وبين خلقه وكان في توقفهم عن الخوض في المتشابه تفرغهم للعمل في المحكم ، لأن(11/211)
المحكم واضح وجداني ، متفقه عليه مدارك الفطن وإذعان الجبلات ومنزلات الكتب ، لم يقع فيه اختلاف بوجه حتى كان لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، للزوم الواجب من العمل بالمحكم في إذعان النفس ، فكما لا يصلح العراء عن الاتصاف بالمحكم لا يصلح الترامي إلى شيء من الخوض في المتشابه لأحد من أهل العلم والإيمان أهل الدرجات ، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلق وفطرهم على إدراك حظ من أنفسهم من أحوالهم ، وأوقفهم عن إدراك ما هو راجع إليه ، فأمر الله وتجلياته لا تنال إلا بعنايه منه ، يزج العبد زجه يقطع به الحجب الظلمانية والنورانية التي فيها مواقف العلماء ؛ فليس في هذا الحرف المتشابه إلا أخذ لسانين : لسان وقفة عن حد الإيمان للراسخين في العلم المشتغلين بالاتصاف بالتذلل والتواضع والتقوى والبر الذي أمر صلى الله عليه وسلم أن يتبع فيه حتى ينتهي العبد إلى أن يحبه الله ، فيرفع عنه عجز الوقفه عن المتشابه ، وينقذه من حجاب النورانية ، فلا يشكل عليه دقيق ولا يعييه خفي بما أحبه الله ، وما بين ذلك من خوض دون إنقاذ هذه العناية فنقص عن حد رتبة الإيمان والرسوخ في العلم ، فكل خائض فيه ناقص من حيث يحب أن يزيد ، فهو إما عجز إيماني من حيث الفطر الخلقي ، وإما تحقق إيقاني توجبه العناية والمحبة انتهى.
ولما ذكر سبحانه وتعالى اتباعهم له ذكر علته فقال : {ابتغاء الفتنة} أي تمييل الناس عن عقائدهم بالشكوك {وابتغاء تأويله} أي ترجيعه إلى ما يشتهونه وتدعوا إليه نفوسهم المائلة وأهويتهم الباطلة بادعاء أنه مآله.
قال الحرالي : والابتغاء افتعال : تكلف البغي ، وهو شدة الطلب ، وجعله تعالى ابتغاءين لاختلاف وجهيه ، فجعل الأول فتنة لتعلقه بالغير وجعل الثاني تأويلاً أي طلباً للمآل عنده ، لاقتصاره على نفسه ، فكان أهون الزيغين انتهى.
(11/212)
ولما بين زيغهم بين أن نسبة خوضهم فيما لا يمكنهم علمه فقال : {وما} أي والحال أنه ما {يعلم} في الحال وعلى القطع {تأويله} قال الحرالي : هو ما يؤول إليه أمر الشيء في مآله إلى معاده {إلا الله} أي المحيط قدرة وعلماً ، قال : ولكل باد من الخلق مآل كما أن الآخرة مآل الدنيا {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [ الأعراف : 53 ] لذلك كل يوم من أيام الآخرة مآل للذي قبله ، فيوم الخلود مآل يوم الجزاء ، ومآل الأبد مآل يوم الخلود ؛ وأبد الأبد مآل الأبد ، وكذلك كل الخلق له مآل من الأمر فأمر الله مآل خلقه وكذلك الأمر ، كل تنزيل أعلى منه مآل التنزيل الأدنى إلى كمال الأمر ، وكل أمر الله مآل من أسمائه وتجلياته ، وكل تجل أجلى مآل لما دونه من تجل أخفى ، قال عيه الصلاة والسلام :
" فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها الحديث إلى قوله : أنت ربنا " فكان تجليه الأظهر لهم مآل تجليه الأخفى عنهم ؛ فكان كل أقرب للخلق من غيب خلق وقائم أمر وعلى تجل إبلاغاً إلى ما وراءه فكان تأويله ، فلم تكن الإحاطة بالتأويل المحيط إلا لله سبحانه وتعالى.
ولما ذكر الزائغين ذكر الثابتين فقال : {والراسخون في العلم} قال الحرالي : وهم المتحققون في أعلام العلم من حيث إن الرسوخ النزول بالثقل في الشيء الرخو ليس الظهورعلى الشيء ، فلرسوخهم كانوا أهل إيمان ، ولو أنهم كانوا ظاهرين على العلم كانوا أهل إيقان ، لكنهم راسخون في العلم لم يظهروا بصفاء الإيقان على نور العلم ، فثبتهم الله سبحانه وتعالى عند حد التوقف فكانوا دائمين على الإيمان بقوله : {يقولون آمنا به} بصيغة الدوام انتهى أي هذا حالهم في رسوخهم.
ولما كان هذا قسيماً لقوله : {وأما الذين في قلوبهم زيغ} كان ذلك واضحاً في كونه ابتداء وأن الوقوف على ما قبله ، ولما كان هذا الضمير محتملاً للمحكم فقط قال : {كل} أي من المحكم والمتشابه.
(11/213)
قال الحرالي : وهذه الكلمة معرفة بتعريف الإحاطة التي أهل النحاة ذكرها في وجوه التعريف إلا من ألاح معناها منهم فلم يلقن ولم ينقل جماعتهم ذلك ؛ وهو من أكمل وجوه التعريف ، لأن حقيقة التعريف التعين بعيان أو عقل ، وهي إشارة إلى إحاطة ما أنزله على إبهامه ، فكان مرجع المتشابه والمحكم عندهم مرجعاً واحداً ، آمنوا بمحل اجتماعه الذي منه نشأ فرقانه ، لأن كل مفترق بالحقيقة إنما هو معروج من حد اجتماع ، فما رجع إليه الإيمان في قلولهم : آمنا به ، هو محل اجتماع المحكم والمتشابه في إحاطة الكتاب قبل تفصيله انتهى.
{من عند ربنا} أي المحسن إلينا بكل اعتبار ، ولعله عبر بعند وهي بالأمر الظاهر بخلاف لدن إشارة إلى ظهور ذلك عند التأمل ، وعبروه عن الاشتباه.
ولما كان مع كل مشتبه أمر إذا دقق النظر فيه رجع إلى مثال حاضر للعقل إما محسوس وإما في حد ظهور المحسوس قال معمماً لمدح المتأملين على دقة الأمر وشدة عموضه بإدغام تاء التفعل مشيراً إلى أنهم تأهلوا بالرسوخ إلى الارتقاء عن رتبته ، ملوحاً إلى أنه لا فهم لغيرهم عاطفاً على ما تقديره : فذكرهم الله من معاني المتشابه ببركه إيمانهم وتسليمهم بما نصبه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يمكن أن يكون إرادة منه سبحانه وتعالى وإن لم يكن على القطع بأنه إرادة : {وما يذكر} أي من الراسخين بما سمع من المتشابه ما في حسه وعقله من أمثال ذلك {إلا أولوا الألباب} قال الحرالي : الذين لهم لب العقل الذي للراسخين في العلم ظاهره ، فكان بين أهل الزيغ وأهل التذكر مقابلة بعيدة ، فمنهم متذكر ينتهي إلى إيقان ، وراسخ في العلم يقف عند حد إيمان ، ومتأول يركن إلى لبس بدعة ، وفاتن يتبع هوى ؛ فأنبأ جملة هذا البيان عن أحوال الخلق بالنظر إلى تلقي الكتاب كما أنبأ بيان سورة البقرة عن جهات تلقيهم للأحكام انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 22 ـ 26}
فصل
قال الفخر : (11/214)
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الزائغين يتبعون المتشابه ، بيّن أن لهم فيه غرضين ، فالأول : هو قوله تعالى : {ابتغاء الفتنة} والثاني : هو قوله {وابتغاء تَأْوِيلِهِ}.
فأما الأول : فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه ، يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر ، وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوهاً : أولها : قال الأصم : إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين ، صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين ، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة وثانيها : أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً بذلك الباطل عاكفاً عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة وثالثها : أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه.
(11/215)
وأما الغرض الثاني لهم : وهو قوله تعالى : {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير ، من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه ، وأولته تأويلاً إذا صيرته إليه ، هذا معنى التأويل في اللغة ، ثم يسمى التفسير تأويلاً ، قال تعالى : {سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [ الكهف : 78 ] وقال تعالى : {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [ النساء : 59 ] وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى ، واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان ، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم ؟ وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون ؟ قال القاضي : هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما : أن يحملوه على غير الحق : وهو المراد من قوله {ابتغاء الفتنة} والثاني : أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه ، وهو المراد من قوله {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} ثم بيّن تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} واختلف الناس في هذا الموضع ، فمنهم من قال : تم الكلام ههنا ، ثم الواو في قوله {والراسخون فِي العلم} واو الابتداء ، وعلى هذا القول : لا يعلم المتشابه إلا الله ، وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفرّاء ، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا.
والقول الثاني : أن الكلام إنما يتم عند قوله {والرسخون فِي العلم} وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضاً مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين والذي يدل على صحة القول الأول وجوه :
(11/216)
الحجة الأولى : أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ، ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد ، علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة ، وفي المجازات كثرة ، وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية ، والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف ، فإذا كانت المسألة قطعية يقينية ، كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز ، مثاله قال الله تعالى :
{لا يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [ البقرة : 286 ] ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية ، فلا بد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات ، وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية ، وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف ، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية ، فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلاً ، وأيضاً قال الله تعالى : {الرحمن عَلَى العرش استوى} [ طه : 5 ] دلّ الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان ، فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها ، إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية ، والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين ، وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه ، والفطرة الأصلية تشهد بصحته ، وبالله التوفيق.
الحجة الثانية : وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم ، حيث قال : {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزاً لما ذم الله تعالى ذلك.
(11/217)
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد منه طلب وقت قيام الساعة ، كما في قوله {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها ، قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي} [ الأعراف : 178 ] وأيضاً طلب مقادير الثواب والعقاب ، وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [ الحجر : 7 ].
قلنا : إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين محكم ومتشابه ، ودلّ العقل على صحة هذه القسمة من حيث إن حمل اللفظ على معناه الراجح هو المحكم ، وحمله على معناه الذي ليس براجح هو المتشابه ، ثم أنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركاً للظاهر ، وأنه لا يجوز.
الحجة الثالثة : أن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به ، وقال في أول سورة البقرة {فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق} فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح ، لأن كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به ، إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها ، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى ، وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث ، فإذا سمعوا آية ودلّت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى ، بل مراده منه غير ذلك الظاهر ، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه ، وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب ، فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ، ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن.
(11/218)
الحجة الرابعة : لو كان قوله {والراسخون فِي العلم} معطوفاً على قوله {إِلاَّ الله} لصار قوله {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} ابتداء ، وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة ، بل كان الأولى أن يقال : وهم يقولون آمنا به ، أو يقال : ويقولون آمنا به.
فإن قيل : في تصحيحه وجهان الأول : أن قوله {يَقُولُونَ} كلام مبتدأ ، والتقدير : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني : أن يكون {يَقُولُونَ} حالا من الراسخين.
قلنا : أما الأول فمدفوع ، لأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الاضمار أولى من تفسيره بما يحتاج معه إلى الاضمار والثاني : أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره ، وههنا قد تقدم ذكر الله تعالى وذكر الراسخين في العلم فوجب أن يجعل قوله {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} حالا من الراسخين لا من الله تعالى ، فيكون ذلك تركاً للظاهر ، فثبت أن ذلك المذهب لا يتم إلا بالعدول عن الظاهر ومذهبنا لا يحتاج إليه ، فكان هذا القول أولى.
الحجة الخامسة : قوله تعالى : {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل ، وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله ، فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة.
الحجة السادسة : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يسع أحداً جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير تعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى.
وسئل مالك بن أنس رحمه الله عن الاستواء ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عند بدعة ، وقد ذكرنا بعض هذه المسألة في أول سورة البقرة ، فإذا ضم ما ذكرناه ههنا إلى ما ذكرنا هناك تم الكلام في هذه المسألة ، وبالله التوفيق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 152 ـ 154}
وقال القرطبى :
والتأويل يكون بمعنى التفسير ، كقولك : تأويل هذه الكلمة على كذا.
ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه.(11/219)
واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه ، أي صار.
وأوّلته تأويلاً أي صيرته.
وقد حدّه بعض الفقهاء فقالوا : هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه.
فالتفسير بيان اللفظ ؛ كقوله {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [ البقرة : 1 ] أي لا شك.
وأصله من الفسر وهو البيان ؛ يقال : فسرت الشيء ( مخففاً ) أفْسِره ( بالكسر ) فَسْراً.
والتأويل بيان المعنى ؛ كقوله لا شك فيه عند المؤمنين.
أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك.
وكقول ابن عباس في الجد أبا ؛ لأنه تأوّل قول الله عز وجل : {يابني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [ الأعراف : 26 ].
وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه ؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً ، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل ؛ فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال ؛ ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : عبد الله راكباً ، بمعنى أقبل عبد الله راكباً ؛ وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله : عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ؛ فكان يصلح حالاً له ؛ كقول الشاعر أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب :
أرسلتُ فيها قَطِماً لُكَالِكَا . . .
يَقْصُر يَمْشِي ويطول بَارِكا
أي يقصر ماشياً ؛ فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده ، وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفى الله سبحانه شيئاً عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك.
ألا ترى قوله عز وجل : {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [ النمل : 65 ] وقوله : {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [ الأعراف : 187 ] وقوله : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [ القصص : 88 ] ، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يُشْرِكه فيه غيره.
(11/220)
وكذلك قوله تبارك وتعالى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}.
ولو كانت الواو في قوله : {والراسخون} للنسق لم يكن لقوله : {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} فائدة. والله أعلم.
قلت : ما حكاه الخطابيّ من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل ، وأنهم داخلون في علم المتشابه ، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به ؛ وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم.
و {يقولون} على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين ؛ كما قال :
الريحُ تَبْكِي شَجْوَها . . .
والبرقُ يلْمَع في الغَمامَهْ
وهذا البيت يحتمل المعنيين ؛ فيجوز أن يكون "والبرق" مبتدأ ، والخبر "يلمع" على التأويل الأوّل ، فيكون مقطوعاً مما قبله.
ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح ، و"يلمع" في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامِعاً.
واحتج قائلو هذه المقالة أيضاً بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم ؛ فكيف يمدحهم وهم جهّال! وقد قال ابن عباس : أنا ممن يعلم تأويله.
وقرأ مجاهد هذه الآية وقال : أنا ممن يعلم تأويله ؛ حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي.
قلت : وقد ردّ بعض العلماء هذا القول إلى القول الأوّل فقال : وتقدير تمام الكلام {عِند اللَّهِ} أن معناه وما يعلم تأويلَه إلا الله يعني تأويلَ المتشابهات ، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنّا به كلٌّ من عند ربنا بما نُصِب من الدلائل في المُحْكَم ومكّن من ردّه إليه.
فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كلٌّ من عند ربنا ، وما لم يحِط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصّالح فعلمه عند ربِّنا.
فإن قال قائل : قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس : لا أدري ما الأوّاهُ ولا ما غِسْلِين ، قيل له : هذا لا يلزم ؛ لأن ابن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه.(11/221)
وجوابٌ أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل وكل راسخ فيجب هذا ، فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر.
ورجّح ابن فورك أنّ الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك ؛ وفي قوله عليه السلام لابن عباس : " اللَّهمّ فقهه في الدين وعلمه التأويل " ما يبين لك ذلك ، أي علمه معاني كتابك.
والوقف على هذا يكون عند قوله {والرّاسِخُونَ في الْعِلْم}.
قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وهو الصحيح ؛ فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المُحْكَم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب.
وفي أيّ شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع!.
لكن المتشابه يتنوّع ، فمنه ما لا يعلم أَلبتّة كأمر الرُّوح والساعة مما استأثر الله بغيبه ، وهذا لا يتعاطى عِلمه أحد لا ابن عباس ولا غيره.
فمن قال من العلماء الحُذَّاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع ، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومَنَاحٍ في كلام العرب فيُتأوّل ويُعلم تأويله المستقيم ، ويُزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم ؛ كقوله في عيسى : {وَرُوحٌ مِّنْهُ} [ النساء : 171 ] إلى غير ذلك.
فلا يُسمّى أحدٌ راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قُدّر له.
وأمّا من يقول : إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخالُ الراسخين في علم التأويل ؛ لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح.
والرسوخ : الثبوت في الشيء ، وكل ثابت راسخ.
وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض ؛ قال الشاعر :
لقد رَسَختْ في الصّدْر مِنِّي مودّةٌ . . .
لِلَيْلَى أبَتْ آياتُها أنْ تَغَيَّرا
ورسَخ الإيمان في قلب فلان يَرْسَخ رسوخاً.
وحكى بعضهم : رسخ الغَدِيرُ : نَضَب ماؤه ؛ حكاه ابن فارس فهو من الأضداد.
ورَسَخ ورَضَخ ورَصُن ورسَب كله ثبت فيه.
(11/222)
وسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال : " هو مَنْ بَرّتْ يمينُه وصدَق لسانُه واستقام قلبه " فإن قيل : كيف كان في القرآن متشابه والله يقول : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [ النحل : 44 ] فكيف لم يجعله كله واضحاً ؟ قيل له : الحكمة في ذلك والله أعلم أن يظهر فضل العلماء ، لأنه لو كان كله واضحاً لم يظهر فضلُ بعضهم على بعض.
وهكذا يفعل من يصنِّف تصنيفاً يجعل بعضه واضحاً وبعضه مشكلاً ، ويترك للجُثْوَة موضعاً ؛ لأن ما هان وجودُه قلّ بهاؤه. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 16 ـ 19}
فائدة
قال القرطبى :
هذه الآية تعمّ كل طائفة من كافر وزِنديق وجاهل وصاحب بِدعة ، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران.
وقال قتادة في تفسير قوله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} : إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم.
قلت : قد مرّ هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعاً ، وحسبك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 13}
فصل
قال القرطبى :
قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه :
متبِعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلباً للتشكيك في القرآن وإضلالِ العوامّ ، كما فعلته الزنادقة والقرامِطة الطاعنون في القرآن ؛ أو طلباً لاعتقاد ظواهر المتشابه ، كما فعلته المجسِّمة الذِين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجِسمية حتى اعتقدوا أن البارىء تعالى جسم مجسم وصورة مصوّرة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع ، تعالى الله عن ذلكا ؛ أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها ، أو كما فعل صبِيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال.
فهذه أربعة أقسام :
الأوّل : لا شك في كفرهم ، وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة.(11/223)
الثاني : الصحيح القول بتكفيرهم ، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور ، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد.
الثالث : اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها.
وقد عرف أنّ مذهب السلف ترك التعرّض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها ، فيقولون أمِرّوها كما جاءت.
وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملِها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها.
الرابع : الحكم فيه الأدب البليغ ، كما فعله عمر بصبيغ.
وقال أبو بكر الأنباريّ : وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن ، لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير ، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب ، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلاً إلى أن يقصدوا ضَعَفَة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل.
فمن ذلك ما حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن زيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبِيغ بن عِسل قدِم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء ؛ فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعدّ له عراجين من عراجين النخل.
فلما حضر قال له عمر : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله صبِيغ.
فقال عمر رضي الله عنه : وأنا عبد الله عمر ؛ ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشَجّه ، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب ما كنت أجدُ في رأسي.
وقد اختلفت الروايات في أدبه ، وسيأتي ذكرها في "الذاريات".
ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته.
ومعنى {ابتغاء الْفِتْنَةِ} طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم ، ويردّوا الناس إلى زيغِهم.
(11/224)
وقال أبو إسحاق الزجاج : معنى {ابتغاء تأويله} أنهم طلبوا تأويل بعثِهم وإحيائهم ، فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله.
قال : والدليل على ذلك قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [ الأعراف : 53 ] أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب {يَقُولُ الَّذينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} أي تركوه {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} [ الأعراف : 53 ] أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرّسل.
قال : فالوقف على قوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 13 ـ 15}
فصل
قال ابن عاشور :
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}
تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق ؛ لأنه لما قسم الكتاب إلى محكم ومتشابه ، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني ، تشوقت النفس إلى معرفة تلقي الناس للمتشابه. أما المحكم فتلقي الناس له على طريقة واحدة ، فلا حاجة إلى تفصيل فيه ، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه : وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقيهم للمتشابهات ؛ لأن بيان هذا هو الأهم في الغرض المسوق له الكلام ، وهو كشف شبهة الذين غرتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حق تأويلها ، ويعرف حال قسيمهم وهم الذين لا زيغ في قلوبهم بطريق المقابلة ثم سيصرح بإجمال حال المهتدين في تلقي متشابهات القرآن.
والقلوب محال الإدراك ، وهي العقول ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة : 283] في سورة البقرة.
والزيغ : الميل والانحراف عن المقصود : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم : 17] ويقال : زاغت الشمس. فالزيغ أخص من الميل ؛ لأنه ميل عن الصواب والمقصود.(11/225)
والاتباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة ، أي يعكفون على الخوض في المتشابه ، يحصونه. شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعه.
وقد ذكر علة الاتباع ، وهو طلب الفتنة ، وطلب أن يؤولوه ، وليس طلب تأويله في ذاته بمذمة ، بدليل قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} كما سنبينه وإنما محل الذم أنهم يطلبون تأويلا ليسوا أهلا له فيؤولونه بما يوافق أهواءهم. وهذا ديدن الملاحدة وأهل الأهواء : الذين يتعمدون حمل الناس على متابعتهم تكثيرا لسوادهم.
ولما وصف أصحاب هذا المقصد بالزيغ في قلوبهم ، علمنا أنه ذمهم بذلك لهذا المقصد ، ولاشك أن كل اشتغال بالمتشابه إذا كان مفضيا إلى هذا المقصد يناله شيء من هذا الذم. فالذين اتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون ، والزنادقة ، والمشركون مثال تأويل المشركين : قصة العاصي بن وائل من المشركين إذ جاءه خباب بن الأرت من المسلمين يتقاضاه أجرا ، فقال العاصي متهكما به وإني لمبعوث بعد الموت أي حسب اعتقادكم فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد فالعاصي توهم ، أو أراد الإيهام ، أن البعث بعد الموت رجوع إلى الدنيا ، أو أراد أن يوهم دهماء المشركين ذلك ليكون أدعى إلى تكذيب الخبر بالبعث ، بمشاهدة عدم رجوع أحد من الأموات ، ولذلك كانوا يقولون {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان : 36].
ومثال تأويل الزنادقة : ما حكاه محمد بن علي بن رازم الطائي الكوفي قال : كنت بمكة حين كان الجنابي زعيم القرامطة بمكة ، وهم يقتلون الحجاج ، ويقولون : أليس قال لكم محمد المكي "ومن دخله كان آمنا فأي أمن هنا ؟ " قال : فقلت له : هذا خرج في صورة الخبر ، والمراد به الأمر أي ومن دخله فأمنوه ، كقوله {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة : 228].
(11/226)
والذين شابهوهم في ذلك كل قوم يجعلون البحث في المتشابه ديدنهم ، ويفضون بذلك إلى خلافات وتعصبات. وكل من يتأول المتشابه على هواه ، بغير دليل على تأويله مستند إلى دليل أو استعمال عربي.
وقد فهم أن المراد : التأويل بحسب الهوى ، أو التأويل الملقي في الفتنة ، بقرينة قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الآية ، كما فهم من قوله {فَيَتَّبِعُونَ} أنهم يهتمون بذلك ، ويستهترون به ، وهذا ملاك التفرقة بين حال من يتبع المتشابه للإيقاع في الشك والإلحاد ، وبين حال من يفسر المتشابه ويؤوله إذا دعاه داع إلى ذلك ، وفي "البخاري" عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس "إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي" قال : "فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" قال : "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" وقال : "ولا يكتمون الله حديثا" قال : "قالوا والله ربنا ما كنا مشركين". قال ابن عباس فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. فأما قوله {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام : 23] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون : تعالوا نقل : ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواهم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثا. وأخرج البخاري ، عن عائشة : قالت "تلا رسول الله هذه الآية إلى قوله {أولو الألباب} قالت قال رسول الله : فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاولئك الذين سماهم الله فاحذروهم" .(11/227)
ويقصد من قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} التعريض بنصارى نجران ؛ إذ ألزموا المسلمين بأن القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو خلقنا وأمرنا وقضينا ، وزعموا أن ذلك الضمير له وعيسى ومريم ولاشك أن هذا إن صح عنهم هو تمويه ؛ إذ من المعروف أن في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 21 ـ 23}
قوله تعالى : {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا}
قال الفخر :
الرسوخ في اللغة الثبوت في الشيء.
واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية ، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية ، فإذا رأى شيئاً متشابهاً ، ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى ، علم حينئذ قطعاً أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره ، وأن ذلك المراد حق ، ولا يصير كون ظاهره مردوداً شبهة في الطعن في صحة القرآن.
ثم حكي عنهم أيضاً أنهم يقولون {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} والمعنى : أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند ربنا ، وفيه سؤالان :
السؤال الأول : لو قال : كل من ربنا كان صحيحاً ، فما الفائدة في لفظ {عِندَ} ؟ .
الجواب ؛ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد ، فذكر كلمة {عِندَ} لمزيد التأكيد.
السؤال الثاني : لم جاز حذف المضاف إليه من {كُلٌّ} ؟ .
الجواب : لأن دلالة المضاف عليه قوية ، فبعد الحذف الأمن من اللبس حاصل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 154 ـ 155}
فصل
قال القرطبى : (11/228)
قوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} يقال : إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : بلغنا أنه نزل عليك {الم} ، فإن كنت صادقاً في مقالتك فإن ملك أُمّتك يكون إحدى وسبعين سنة ؛ لأن الألِف في حساب الجّمل واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فنزل {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}.
والتأويل يكون بمعنى التفسير ، كقولك : تأويل هذه الكلمة على كذا.
ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه.
واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه ، أي صار.
وأوّلته تأويلاً أي صيرته.
وقد حدّه بعض الفقهاء فقالوا : هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه.
فالتفسير بيان اللفظ ؛ كقوله {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [ البقرة : 1 ] أي لا شك.
وأصله من الفسر وهو البيان ؛ يقال : فسرت الشيء ( مخففاً ) أفْسِره ( بالكسر ) فَسْراً.
والتأويل بيان المعنى ؛ كقوله لا شك فيه عند المؤمنين.
أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك.
وكقول ابن عباس في الجد أبا ؛ لأنه تأوّل قول الله عز وجل : {يابني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [ الأعراف : 26 ]. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 15 ـ 16}
وقال ابن كثير :
(11/229)
ومن العلماء من فصل في هذا المقام ، فقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان ، أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء ، وما يؤول أمره إليه ، ومنه قوله تعالى : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [ يوسف : 100] وقوله (9) {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [ الأعراف : 53] أي : حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا ، فالوقف على الجلالة ؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل ، ويكون قوله : {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ و{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء كقوله تعالى : {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [ يوسف : 36 ] أي : بتفسيره ، فإن أريد به هذا المعنى ، فالوقف على : {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا فيكون قوله : {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} حالا منهم ، وساغ هذا ، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه ، كقوله : {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى قوله : {[وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ] يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا [الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ]} الآية [ الحشر : 8-10 ] ، وكقوله تعالى : {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر : 22 ] أي : وجاءت الملائكة صفوفًا صفوفًا.(11/230)
وقوله إخبارًا عنهم أنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أي : بالمتشابه {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي : الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق ، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له ؛ لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد لقوله : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [ النساء : 82 ] ولهذا قال تعالى : {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ} أي : إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحِمْصَيّ ، حدثنا نُعَيْم بن حماد ، حدثنا فياض الرَّقِّيّ ، حدّثنا عبد الله بن يزيد -وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أنسًا ، وأبا أمامة ، وأبا الدرداء ، رضي الله عنهم ، قال : حدثنا أبو الدرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم ، فقال : "من بَرَّت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن أَعَفَّ بطنه وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم". {تفسير ابن أبي حاتم (2/72) ورواه الطبري (6/207) والطبراني في الكبير كما في الدر (2/151) من طريق عبد الله بن يزيد به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/324) : "عبد الله بن يزيد ضعيف"}.
(11/231)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عمر بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارءون فقال : "إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم فَكِلُوهُ إلى عَالِمِه". {المسند (2/185) ورواه ابن ماجة برقم (85) والبغوي في شرح السنة (1/260) من طريق عمرو بن شعيب به. وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجة" (1/58) : "إسناده صحيح ورجاله ثقات"}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 11 ـ 12}
وقال ابن عاشور :
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
جملة حال أي وهم لا قبل لهم بتأويله ؛ إذ ليس تأويله لأمثالهم ، كما قيل في المثل "ليس بعشك فادرجي".
ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات ، غير الراجعة إلى التشريع ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله بما لا أعلم وجاء في زمن عمر رضي الله عنه رجل إلى المدينة من البصرة ، يقال له صبيغ بن شريك أو ابن عسل التميمي فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن ، وعن أشياء فأحضره عمر ، وضربه ضربا موجعا ، وكرر ذلك أياما ، فقال حسبك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنت أجد في رأسي ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته. ومن السلف من تأول عند عروض الشبهة لبعض الناس ، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا.
(11/232)
قال ابن العربي في "العواصم من القواصم" - "من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية" . قلت : أما الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابها ، وتأولوه بحسب أهوائهم ، وأما الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه ، واعتقدوا سبب التشابه واقعا ، فالأولون دخلوا في قوله {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ، والأخيرون خردوا من قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أو وما يعلم تأويله إلا الله ، فخالفوا الخلف والسلف. قال ابن العربي "في العواصم" وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا : لا حكم إلا لله يعني أنهم اخذوا بظاهر قوله تعالى {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم.
والمراد الراسخون في العلم : الذين تمكنوا في علم الكتاب ، ومعرفة محامله ، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى ، بحيث لا تروج عليهم الشبه. والرسوخ في كلام العرب : الثبات والتمكن في المكان ، يقال : رسخت القدم ترسخ رسوخا إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل ، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلله الشبه ، ولا تتطرقه الأخطاء غالبا ، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة. فالراسخون في العلم : الثابتون فيه العارفون بدقائقه ، فهم يحسنون مواقع التأويل ، ويعلمونه.(11/233)
ولذا فقوله {وَالرَّاسِخُونَ} معطوف على اسم الجلالة ، وفي هذا العطف تشريف عظيم : كقوله : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران : 18] وإلى هذا التفسير مال ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع بن سليمان ، والقاسم بن محمد ، والشافعية ، وابن فورك ، والشيخ أحمد القرطبي ، وابن عطية ، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر الله بعلمها ، ويؤيد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة ، ووصفهم بالرسوخ ، فآذن بأن لهم مزية في فهم المتشابه ؛ لأن المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام ، ففي أي شيء رسوخهم. وحكى إمام الحرمين ، عن ابن عباس : أنه قال في هاته الآية "أنا ممن يعلم تأويله".
وقيل : الوقف على قوله {إِلَّا اللَّهَ} وإن جملة {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مستأنفة ، وهذا مروي عن جمهور السلف ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة ، وابن مسعود ، وأبي ، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية ، وقاله عروة بن الزبير ، والكسائي ، والأخفش والفراء ، والحنفية ، وإليه مال فخر الدين.
ويؤيد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم ؛ فأنه دليل بين على أن الحكم الذي أثبت لهذا الفريق ، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضلات ، وهو تأويل المتشابه ، على أن أل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل ، فيكون الراسخون معطوفا على اسم الجلالة فيدخلون في أنهم يعلمون تأويله.
(11/234)
ولو كان الراسخون مبتدأ وجملة يقولون آمنا به خبرا ، لكان حاصل هذا الخبر مما يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم ، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة. قال ابن عطية تسميتهم راسخين تقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه الجميع وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام بقريحة معدة وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعدو إن يكون ترجيحا لأحد التفسيرين ، وليس إبطالا لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله ، وما لا مطمع في تأويله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 23 ـ 25}
قوله تعالى {كل من عند ربنا}
قال الآلوسى :
وفي التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال المتشابه ، والحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر في المصلحة والإيصال إلى معارج الكمال أولاً فأولاً ، وقد قالوا : إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبره وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد به من الأحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخراج المقاصد الرائقة والمعاني اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجاب ويطيب لهم المقام في رياض الصواب ، وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية ونهاية في رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 83}
قوله تعالى : {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}
قال الفخر :
{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}(11/235)
هذا ثناء من الله تعالى على الذين قالوا آمنا به ، ومعناه : ما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة ، فصار هذا اللفظ كالدلالة على أنهم يستعملون عقولهم في فهم القرآن ، فيعلمون الذي يطابق ظاهره دلائل العقول فيكون محكماً ، وأما الذي يخالف ظاهره دلائل العقول فيكون متشابهاً ، ثم يعلمون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض والباطل ، فيعلمون أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى ، وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية ، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول ، وتوافق اللغة والإعراب.
واعلم أن الشيء كلما كان أشرف كان ضده أخس ، فكذلك مفسر القرآن متى كان موصوفاً بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم الله الثناء عليه ، ومتى تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحراً في علم الأصول ، وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 155}
كلام نفيس للعلامة الآلوسى
قال رحمه الله : (11/236)
{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} عطف على جملة {يَقُولُونَ} سيق من جهته تعالى مدحاً للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر لما أنهم قد تجردت عقولهم عما يغشاها من الركون إلى الأهواء الزائغة المكدرة لها واستعدوا إلى الاهتداء إلى معالم الحق والعروج إلى معارج الصدق ، وللإشارة إلى ذلك وضع الظاهر موضع الضمير هذا على تقدير أن يكون الوقف على ( الراسخون ) وهو الذي ذهب إليه الشافعية. وسائر من فسر المتشابه بما لم يتضح معناه ، وأما على تقدير أن يكون الوقف على {إِلاَّ الله} وهو الذي ذهب إليه الحنفية القائلون بأن المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه فالراسخون مبتدأ وجملة {يَقُولُونَ} خبر عنه ، ورجوح الأول بوجوه : أما أولاً : فلأنه لو أريد بيان حظ الراسخين مقابلاً لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أن يقال وأما الراسخون فيقولون ، وأما ثانياً : فلأنه لا فائدة حينئذ في قيد الرسوخ بل هذا حكم العالمين كلهم ، وأما ثالثاً : فلأنه لا ينحصر حينئذ الكتاب في المحكم والمتشابه على ما هو مقتضى ظاهر العبارة حيث لم يقل ومنه متشابهات لأن ما لا يكون متضح المعنى ويهتدي العلماء ألى تأويله ورده إلى المحكم لا يكون محكماً ولا متشابهاً بالمعنى المذكور وهو كثير جداً وأما رابعاً : فلأن المحكم حينئذ لا يكون أمّ الكتاب بمعنى رجوع المتشابه إليه إذ لا رجوع إليه فيما استأثر الله تعالى بعلمه كعدد الزبانية مثلاً ، وأما خامساً : فلأنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ولو كان التأويل مما لا يعلمه إلا الله تعالى لما كان للدعاء معنى ، وأما سادساً : فلأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه كان يقول : أنا ممن يعلم تأويله ، وأما سابعاً : فلأنه سبحانه وتعالى مدح الراسخين بالتذكر في هذا المقام وهو يشعر بأن لهم الحظ الأوفر من معرفة ذلك ، وأما ثامناً : فلأنّه يبعد أن(11/237)
يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ، والقول بأن أما للتفصيل فلا بد في مقابلة الحكم على الزائغين من حكم على الراسخين ليتحقق التفصيل.
(11/238)
غاية الأمر أنه حذفت أما والفاء ، وبأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فالجمع في قوله سبحانه : {أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} والتقسيم في قوله تعالى : {مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات} والتفريق في قوله عز شأنه : {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الخ فلا بد في مقابلة ذلك من حكم يتعلق بالمحكم وهو أن الراسخين يتبعونه ويرجعون المتشابه إليه على ما هو مضمون قوله سبحانه : {والرسخون فِي العلم} الخ مجاب عنه بأن كون أما للتفصيل أكثري لا كلي ولو سلم فليس ذكر المقابل في اللفظ بلازم. ثم لو سلم بأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فذكر المقابل على سبيل الاستئناف أو الحال أعني : ( يقولون ) الخ كاف في ذلك ، ورجح الثاني بأنه مذهب الأكثرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباعهم خصوصاً أهل السنة ، وهو أصح الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، ولم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة بالنسبة إلى الأكثرين كما نص عليه ابن السمعاني وغيره ويد الله تعالى مع الجماعة ويدل على صحة مذهبهم أخبار كثيرة : الأول ما أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره". والحاكم في "مستدركه" عن ابن عباس أنه كان يقرأ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبراً بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه على من دونه ، وحكى الفراء أن في قراءة أبيّ بن كعب أيضاً ويقول الراسخون في العلم. وأخرج ابن أبي داود في "المصاحف" من طريق الأعمش قال في قراءة ابن مسعود وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به الثاني ما أخرج الطبراني في "الكبير" عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال(11/239)
فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يبتغي تأويله إلا الله تعالى " الحديث الثالث : ما أخرج ابن مردويه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به " الرابع : عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن في سبعة أبواب على سبعة : زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعلموا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا : آمنا به كل من عند ربنا " وأخرج البيهقي في "الشعب" نحوه عن أبي هريرة ، الخامس : ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعاً " أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب " إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن المتشابه مما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى ، وذهب بعض المحققين إلى أن كلا من الوقف والوصل جائز ولكل منهما وجه وجيه وبين ذلك الراغب بأن القرآن عند اعتبار بعضه ببعض ثلاث أضرب محكم على الإطلاق. ومتشابه على الإطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه ، فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب. متشابه من جهة اللفظ فقط. ومن جهة المعنى. ومن جهتهما معاً ، فالأول : ضربان. أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة أما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون ، أو الاشتراك كاليد والعين. وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب. ضرب لاختصار الكلام نحو {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} [ النساء : 3 ] وضرب لبسطه نحو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} [ الشورى : 11 ] لأنه لو قيل : ليس مثله(11/240)
شيء كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام نحو {أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً} [ الكهف : 1 ، 2 ] إذ تقديره أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه ، والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب.
الأول : من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو {فاقتلوا المشركين} [ التوبة : 5 ]. والثاني : من جهة الكيفية كالوجوب والندب في نحو {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [ النساء : 3 ]. والثالث : من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [ آل عمران : 102 ]. والرابع : من جهة المكان والأمور التي نزلت فيه الآية نحو {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} [ البقرة : 189 ] و{إِنَّمَا النسىء زِيَادَةٌ فِى الكفر} [ التوبة : 37 ] فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه ، والخامس : من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد كشرط الصلاة والنكاح ، ثم قال : وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم ؛ ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب. ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة وغير ذلك. وقسم للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة. وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفة بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم ، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنه : "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل2.
(11/241)
وإذا عرفت هذا ظهر لك جواز الأمرين الوقف على {إِلاَّ الله} والوقف على {الراسخون} وقال بعض أئمة التحقيق : الحق أنه إن أريد بالمتشابه ما لا سبيل إليه للمخلوق فالحق الوقف على {إِلاَّ الله} وإن أريد ما لا يتضح بحيث يتناول المجمل ونحوه فالحق العطف ، ويجوز الوقف أيضاً لأنه لا يعلم جميعه أو لا يعلمه بالكنه إلا الله تعالى ، وأما إذا فسر بما دل القاطع أي النص النقلي أو الدليل الجازم العقلي على أن ظاهره غير مراد ولم يقم دليل على ما هو المراد ففيه مذهبان. فمنهم من يجوز الخوض فيه وتأويله بما يرجع إلى الجادة في مثله فيجوز عنده الوقف وعدمه. ومنهم من يمنع الخوض فيه فيمتنع تأويله ويجب الوقف عنده ، والذاهبون إلى الوقف من السادة الحنفية أجابوا عما ذكره غيرهم في ترجيح ما ذهبوا إليه من الوجوه ، فعن الأول : بأنه أريد بيان حظ الراسخين مقابلاً لبيان حظ الزائغين إلا أنه لم يقل وأما الراسخون مبالغة في الاعتناء بشأن الراسخين حيث لم يسلك بهم سبيل المعادلة اللفظية لهؤلاء الزائغين وصينوا عن أن يذكروا معهم كما يذكر المتقابلان في الأغلب في مثل هذه المقامات وقريب من هذا قوله تعالى : {الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت} [ البقرة : 257 ] حيث لم يقل والطاغوت أولياء الذين كفروا ، ولا الذين آمنوا وليهم الله تعظيماً لشأنه تعالى ورعاية للاعتناء بشأن المؤمنين ، وعن الثاني : بأن فائدة قيد الرسوخ المبالغة في قصر علم تأويل المتشابه عليه تعالى لأنه إذا لم يعلموه هم كما يشعر به الحكم عليهم بأنهم يقولون آمنا به فغيرهم أولى بعدم العلم فلم يبق عالم به إلا الله تعالى.(11/242)
وعن الثالث : بأنه يلتزم القول بعد الحصر ، وفي "الإتقان" أن بعضاً قال : إن الآية لا تدل على الحصر في الشيئين إذ ليس فيها شيء من طرقه ولولا ذلك لأشكل قوله تعالى : {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} [ النمل : 44 ] لأن المحكم لا تتوقف معرفته على البيان والمتشابه لا يرجى بيانه فما هذا الذي يبينه النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وعن الرابع : بالتزام أن إضافة أم إلى ( الكتاب ) على معنى في ، والمحكم أم في ( الكتاب ) ولكن لا للمتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه بل هو أم وأصل في فهم العبادات الشرعية كوجوب معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وعلى تقدير القول بأن الإضافة لامية يلتزم الأمومة للكتاب باعتبار بعضه وهو الواسطة بين القسمين لأن متضح الدلالة كثيراً ما يرجع إليه في خفيها مما لم يصل إلى حد الاستئثار ، وعن الخامس : بأن التأويل الذي دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس لا يتعين حمله على تأويل ما اختص علمه به تعالى بل يجوز حمله على تفسير ما يخفى تفسيره من القسم المتردد بين الأمرين اللذين ذكرهما الراغب كما ذكره. وعن السادس : بأن الرواية عن ابن عباس أنه قال : "أنا ممن يعلم تأويله" معارضة بما هو أصح منها بدرجات فتسقط عن درجة الاعتبار ، وعلى تقدير تسليم اعتبارها يمكن أن يقال : مراده رضي الله تعالى عنه أنا ممن يعلم تأويله أي المتشابه في الجملة حسبما دعا لي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا وإن قيل : إنه متشابه لكنه في الحقيقة واسطة بين المحكم والمتشابه بالمعنى المراد ، وعن السابع : بأن مدح الراسخين بالتذكر ليس لأن لهم حظاً في معرفته بل لأنهم اتعظوا فخالفوا هواهم ووقفوا عند ما حدّ لهم مولاهم ولم يسلكوا مسلك الزائغين ولم يخوضوا مع الخائضين ويمكن على بعد أن يراد بالتذكر الانتفاع مجازاً أي إن الراسخين هم الذين ينتفعون به حيث يؤمنون به لخوص عقولهم عن غشاوة(11/243)
الهوى كما أنهم آمنوا بالغيب وهذا بخلاف الزائغين حيث صار المتشابه ضرراً عليهم ووبالاً لهم إذ ضلوا فيه كثيراً وأضلوا عن سواء السبيل ، وقد قال سبحانه من قبل فيما ضربه من المثل : {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [ البقرة : 26 ] وعن الثامن : بأنه لا بعد في أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ويكون ذلك من باب الابتلاء كما ابتلى سبحانه عباده بتكاليف كثيرة وعبادات وفيرة لم يعرف أحد حقيقة السر فيها ، والسر في هذا الابتلاء قص جناح العقل وكسر سورة الفكر وإذهاب عجب طاوس النفس ليتوجه القلب بشراشره تجاه كعبة العبودية ويخضع تحت سرادقات الربوبية ويعترف بالقصور ويقر بالعجز عن الوصول إلى ما في هاتيك القصور وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة هذا إذا أريد بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ما لا سبيل لأحد منهم إلى معرفته من طريق الفكر ، وأما إذا أريد ما لا سبيل إلى معرفته مطلقاً سواء كانت على الإجمال أو التفصيل بالوحي أو بالإلهام لنبي أو لوليّ فوجود مثل هذا المخاطب به في القرآن في حيز المنع ، ولعل القائل بكون المتشابه مما استأثر الله تعالى بعلمه لا يمنع تعليمه للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الوحي مثلا ولا إلقاءه في روع الوليّ الكامل مفصلاً لكن لا يصل إلى درجة الإحاطة كعلم الله تعالى وإن لم يكن مفصلاً فلا أقل من أن يكون مجملاً ومنع هذا وذاك مما لا يكاد يقول به من يعرف رتبة النبي صلى الله عليه وسلم ورتبة أولياء أمته الكاملين وإنما المنع من الإحاطة ومن معرفة على سبيل النظر والفكر وهو الطريق المعتاد والسبيل المسلوك في معرفته المشكلات واستحصال النظريات ولتبادر هذا المعنى من يعلم إذا أسند إلى الراسخين منع إسناده إليهم ومتى أريد منه العلم لا من طريق الفكر صح الإسناد وجاز العطف ولكن دون توهم هذه الإرادة من ظاهر الكلام(11/244)
خرط القتاد ، فلهذا شاع القول بعدم العطف وكان القول به أسلم.
ويؤيد ما قلنا ما ذكره الإمام الشعراني قال : أخبرني شيخنا عليّ الخواص قدس سره إن الله تعالى أطلعه على معاني سورة الفاتحة فخرّج منها مائتي ألف علم وأربعين ألف علم وتسعمائة وتسعين علماً وكان يقول : لا يسمى عالماً أي عند أهل الله تعالى إلا من عرف كل لفظ جاءت به الشريعة ، وقال في "الكشف" في نحو {ق} {ص} {حم} {طس} : لعل إدراك ما تحته عند أهله كإدراكنا للأوليات ولا يستبعد ، ففيض الباري عم نواله غير محصور ؛ واستعداد الإنسان الكامل عن القبول غير محسور ، ومن لم يصدق إجمالاً بأن وراء مدركات الفكرة ومباديها طوراً أو أطواراً حظ العقل منها حظ الحس من المعقولات فهو غير متخلص عن مضيق التعطيل أو التشبيه وإن لم يتدارك حاله بقي بعد كشف الغظا في هذا التيه ، ولتتحقق من هذا أن المراتب مختلفة وأن الإحاطة على الحقائق الإلهية كما هي مستحيلة إلا للباري جل ذكره وأنه لا بد للعارف وإن وصل إلى أعلى المراتب أن يبقى له ما يجب الإيمان به غيباً وهو من المتشابه الذي يقول الراسخون فيه : {بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا} فهذا ما يجب أن يعتقد كي لا يلحد.
(11/245)
ثم اعلم أن كثيراً من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه ، ومذهب السلف والأشعري رحمه الله تعالى من أعيانهم كما أبانت عن حاله الإبانة أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل ، وذهب الخلف إلى تأويلها وتعيين مراد الله تعالى منها فيقولون : الاستواء مثلاً بمعنى الاستيلاء والغلبة ، وذلك أثر من آثار بعض الصفات الثمانية التي ليس لله تعالى عندهم وراءها صفة حتى ادعى السكوتي وليته سكت أن ما وراء ذلك ممتنع إذ لا يلزم من نفيه محال وكل ما لا يلزم من نفيه محال لا يكون واجباً ، والله تعالى لا يتصف إلا بواجب ، وذكر الشعراني في "الدرر المنثورة" أن مذهب السلف أسلم وأحكم إذ المؤل انتقل عن شرح الاستواء الجسماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث مّا إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} [ الشورى : 11 ] ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول شاعر :
قد استوى بشر على العراق... من غير حرب ودم مهراق
(11/246)
وأين استواء بشر على العراق من استواء الرحمن على العرش ، ونهاية الأمر يحتاج إلى القول بأن المراد استيلاء يليق بشأن الرحمن جل شأنه فليقل من أول الأمر قبل تحمل مؤنة هذا التأويل استواء يليق بشأن من عز شأنه وتعالى عن إدراك العقول سلطانه ، وهذا أليق بالأدب وأوفق بكمال العبودية وعليه درج صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها وإليها دعا أئمة الحديث في القديم والحديث حتى قال محمد بن الحسن كما أخرجه عنه اللالكائي : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه ، وورد عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له ضبيع قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقد أعدّ له عراجين النخل فقال : من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله ضبيع فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه وفي رواية فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برىء ثم عاد إليه ثم تركه حتى برىء فدعا به ليعود فقال : إن كنت تريد قتلتي فاقتلني قتلاً جميلاً فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين.
(11/247)
لا يقال إن تركت أمثال هذه المتشابهات على ظواهرها دلت على التجسيم وإن لم ترد ظواهرها فقد أولت لأن التأويل على ما قالوا : إخراج الكلام عن ظاهره لأنا نقول : نختار الشق الثاني ولا نسلم أن التأويل إخراج الكلام عن ظاهره مطلقاً بل إخراجه إلى معنى معين معلوم كما يقال الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء على أن للتأويل معنيين مشهورين لا يصدق شيء منهما على نفي الظاهر من غير تعيين للمراد ، أحدهما : ترجمة الشيء وتفسيره الموضح له ، وثانيهما : بيان حقيقته وإبرازها إما بالعلم أو بالعقل فإن من قال : بعد التنزيه لا أدري من هذه المتشابهات سوى أن الله تعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقاً بجلاله جل جلاله ، ولا أعرف ذلك المعنى لم يقل في حقه أنه ترجم وأوضح ولا بين الحقيقة وأبرز المراد حتى يقال إنه أول ، ومن أمعن النظر في مأخذ التأويل لم يشك في صحة ما قلنا ، نعم ذهبت شرذمة قليلة من السلف إلى إبقاء نحو المذكورات على ظواهرها إلا أنهم ينفون لوازمها المنقدحة للذهن الموجبة لنسبة النقص إليه عز شأنه ويقولون : إنما هي لوازم لا يصح انفكاكها عن ملزوماتها في صفاتنا الحادثة ، وأما في صفات من ليس كمثله شيء فليست بلوازم في الحقيقة ليكون القول بانفكاكها سفسطة وأين التراب من رب الأرباب وكأنهم إنما قالوا ذلك ظناً منهم أن قول الآخرين من السلف تأويل ، و( الراسخون في العلم ) لا يذهبون إليه أو أنهم وجدوا بعض الآثار يشعر بذلك مثل ما حكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس في {استوى} [ طه : 5 ] أنه بمعنى استقر ، وما أخرجه أبو القاسم من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله تعالى : {الرحمن عَلَى العرش استوى} [ طه : 5 ] إنها قالت : الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر.
(11/248)
وقريب من هذا القول ما يصرح به كلام كثير من ساداتنا الصوفية فإنهم قالوا : إن هذه المتشابهات تجرى على ظواهرها مع القول بالتنزيه الدال عليه قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} [ الشورى : 11 ] حيث إن وجود الحق تعالى شأنه لا تقيده الأكوان وإن تجلى فيما شاء منها إذ له كمال الإطلاق حتى عن قيد الإطلاق ، ولا يخفى أن إجراء المتشابهات على ظاهرها مع التنزيه اللائق بجلال ذاته سبحانه طور ما وراء طور العقل وبحر لا يسبح فيه إلا من فاز بقرب النوافل.
(11/249)
وذكر بعض أئمة التدقيق أن العقل سبيله في العلم بالصفات الثمانية المشهورة كعلمه بتلك الصفات التي يدعي الخلف رجوعها إليها إذا أحد النظر ، فقد قام البرهان وشاهد العيان على عدم المماثلة ذاتاً وصفات أيضاً لكن صفاته المتعالية وأسماؤه الحسنى قسمان ، قسم يناسب ما عندنا من الصفات نوع مناسبة وإن كانت بعيدة ، ولا يقال : فلا بد فيه في أفهامنا معاشر الناقصين من أن يسمى بتلك الأسماء المشتهرة عندنا فيسمى علماً مثلاً لا دواة ولا قلماً وقسم ليس كذلك وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم " أو استأثرت به في علم الغيب عندك " فقد يذكر له أسماء مشوقة لأن منه ما للإنسان الكامل منه نصيب بطريق التخلق والتحقق فيذكر تارة اليد والنزول والقدم ونحو ذلك من المخيلات مع العلم البرهاني والشهود الوجداني بتنزهه تعالى عن كل كمال يتصوره الإنسان ويحيط به فضلاً عن النقصان ، فيعلم أنه أشار إلى ذلك القسم الذي علم بالإجمال ويتوجه إذ ذاك بكليته شطر كعبة الجلال والجمال فيفاض عليه من ينبوع الكمال ما يستأنس عنده وينكشف له جلية الحال ، وإذ ليس له مناسبة بما عندنا لا توجد عبارة يترجم عنها إلا على سبيل الخيال ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : " من عرف الله تعالى كلّ لسانه " وأخرى بين مقصد الكل ومن أحبه سبحانه ما يصان عن تهمة إدراك الأغيار من نحو تلك الفواتح ، ولعل إدراكها عند أهلها كإدراك الأوليات إلا أنه لا إحاطة بل لا بد من بقاء شيء كما أشير إليه ، وعلى هذا أيضاً الأليق أن يوقف لأنه شعار من لنا فيهم الأسوة الحسنة مع ظهور وجهه لكن لا تجعل الآية حجة على من تأول نحو {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} [ الزمر : 67 ] مثلاً إذ لا يسلم أنه داخل في ذلك المتشابه والحمل على المجاز الشائع في كلام العرب والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى مجهول ، نعم لو قيل : إن تصوير العظمة على هذا(11/250)
الوجه دال على أن العقل غير مستقل بإدراكها وأنها أجل من أن تحيط بها العقول فالكنه من المتشابه الذي دلت الآية عليه ويجب الإيمان به كان حسناً ، وجمعاً بين ما عليه السلف ومشى عليه الخلف وهو الذي يجب أن يعتقد كيلاً يلزم ازدراء بأحد الفريقين كما فعل ابن القيم حتى قال : لام الأشعرية كنون اليهودية أعاذنا الله تعالى من ذلك ، وعلى هذا يجب أن يفسر المتشابه في الآية بما يعم القسمين ، والمحكم ( أم ) يرجع إليه في تمييز القسمين أحدهما : فرعه الإيماني. والثاني : فرع الإيقاني ، وابن دقيق العيد توسط في مسألة التأويل ، ويحتمل أنه لم يخرج ما قاله هذا المدقق أخيراً من المتشابه فقال : إذا كان التأويل قريباً من لسان العرب لم ينكر أو بعيداً توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً معهوداً من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى : {ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله} [ الزمر : 56 ] فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له فليفهم هذا المقام فكم زلت فيه أقوام بعد أقوام. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 83 ـ 89}
من فوائد الشيخ الشنقيطى فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}.(11/251)
يحتمل أن المراد بالتأويل في هذه الآية الكريمة التفسير وإدراك المعنى ، ويحتمل أن المراد به حقيقة أمره التي يؤول إليها وقد قدمنا في مقدمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي ذكرناها فيه أن كون أحد الاحتمالين هو الغالب في القرآن. يبين أن ذلك الاحتمال الغالب هو المراد. لأن الحمل على الأغلب أونلى من الحمل على غيره. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الغالب في القرآن إطلاق التأويل على حقيقة الأمر التي يؤول إليها كقوله : {هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} [ يوسف : 100 ] وقوله : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [ الأعراف : 53 ] الآية. وقوله : {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [ يونس : 39 ] وقوله : {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [ النساء : 59 ] إلى غير ذلك من الآيات. قال ابن جرير الطبري : وأصل التأويل من آل الشيء إلى كذا إذا صار إليه ورجع يؤول أولا ، وأولته أنا صيرته إليه ، وقال : وقد أنشد بعض الرواية بيت الأعشى :
على أنها كانت تأول حبها... تأول ربعي السقاب فأصحبا
قال : ويعني بقوله : تأول حبها مصير حبها ، ومرجعه وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيراً في قلبه فآل من الصغر إلى العظم ، فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديماً كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب ، فصار كبيراً مثل أمه. قال وقد ينشد هذا البيت :
على أنها كانت توابع حبها... توالي ربعي السقاب فأصحبا اه
وعليه فلا شاهد فيه ، والربعي السقب. الذي ولد في أول النتاج ومعنى أصحب انقاد لكل من يقوده ، ومنه قول امرئ القيس :
ولست بذي رثية إمر... إذا قيد مستكرهاً أصحبا
والرثية : وجع المفاصل. والإمر : بكسر الهمزة وتشديد الميم مفتوحة بعدها راء هو الذي يأتمر لكل احد. لضعفه وأنشد بيت الأعشى المذكور الأزهري وصاحب اللسان :
(11/252)
ولكنها كانت نوى أجنبية... توالى ربعي السقاب فأصحبا
وأطالا في شرحه وعليه فلا شاهد فيه أيضاً.
تنبيه : اعلم أن التأويل يطلق ثلاثة إطلاقات :
الأول : هو ما ذكرنا من أنه الحقيقة التي يؤول إليها الأمر ، وهذا هو معناه في القرآن.
الثاني : يراد به التفسير والبيان ، ومنه بهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في ابن عباس : " اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل " وقول ابن جرير وغيره من العلماء ، القول في تأويل قوله تعالى : كذا أي : تفسيره وبيانه. وقول عائشة الثابت في الصحيح : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي " يتأول القرآن تعني يمتثله ويعمل به ، والله تعالى أعلم.
الثالث : هو معناه المتعارف في اصطلاح الأصوليين ، وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل يدل على ذلك ، وحاصل تحرير مسالة التأويل عند أهل الأصول أنه لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح :
الأولى : أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل على ذلك ، وهذا هو التأويل المسمى عندهم بالتأويل الصحيح ، والتأويل القريب كقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح :
" الجار أحق بصَقَبِه " فإن ظاهره المبادر منه ثبوت الشفعة للجار ، وحمل الجار في هذا الحديث على خصوص الشريك المقاسم حمل له على محتمل مرجوح ، إلا أنه دل عليه الحديث الصحيح المصرح بأنه إذا صرفت الطرق وضربت الحدود ، فلا شفعة.
(11/253)
الحالة الثانية : أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلاً وليس بدليل في نفس الأمر ، وهذا هو المسمى عندهم بالتأويل الفاسد ، والتأويل البعيد ، ومثل له الشافعية ، والمالكية ، والحنابلة بحمل الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل ، باطل " على المكاتبة ، والصغيرة ، وحمله أيضاً - رحمه الله - المسكين في قوله : {سِتِّينَ مِسْكِينًا} [ المجادلة : 4 ] على المد ، فأجاز إعطاء ستين مداً لمسكين واحد.
الحالة الثالثة : أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل أصلاً ، وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعباً ، كقول بعض الشيعة. {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [ البقرة : 67 ] يعني عائشة رضي الله عنها ، وأشار في مراقي السعود إلى حد التأويل ، وبيان الأقسام الثلاثة بقوله معرفاً للتاويل :
حمل لظاهر على المرجوح... واقسمه للفاسد والصحيح
صحيحه وهو القريب ما حمل... مع قوة الدليل عند المستدل
وغيره الفاسد والبعيد... وما خلا فلعبا يفيد
إلى أن قال :
فجعل مسكين بمعنى المد... عليه لائح سمات البعد
كحمل مرأة على الصغيره... وما ينافي الحرة الكبيره
وحمل ما ورد في الصيام... على القضاء مع الالتزام
أما التأويل في اصطلاح خليل بن إسحاق المالكي الخاص به في مختصره ، فهو عبارة عن اختلاف شروح المدونة في المراد عند مالك - رحمه الله - وأشار له في المراقي بقوله :
والخلف في فهم الكتاب صير... إياه تأويلا لدى المختصر
(11/254)
والكتاب في اصطلاح فقهاء المالكية المدونة قوله تعالى : {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [ آل عمران : 7 ] الآية. لا يخفى أن هذه الواو محتملة للاستئناف ، فيكون قوله : {والراسخون فِي العلم} مبتدأ ، وخبره يقولون ، وعليه فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وحده ، والوقف على هذا تام على لفظة الدلالة ومحتملة لأن تكون عاطفة ، فيكون قوله : {والراسخون} معطوفاً على لفظ الجلالة ، وعليه فالمتشابه يعلم تأويله الراسخون في العلم أيضاً ، وفي الآية إشارات تدل على أن الواو استئنافية لا عاطفة ، قال ابن قدامة : في روضة الناظر ما نصه : ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه ، متفرد بعلم المتشابه ، وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى :
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} [ آل عمران : 7 ] لفظاً ومعنى أما اللفظ فلأنه لو أراد عطف الراسخين لقال : ويقولون آمنا به بالواو أما المعنى فلأنه ذم مبتغى التأويل ، ولو كان ذلك للراسخين معلوماً لكان مبتغيه ممدوحاً لا مذموماً. ولأن قولهم آمنا به ، يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه سيما إذا تبعوه بقولهم : كل من عند ربنا ، فذكرهم ربهم ها هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره ، وأنه صدر من عنده ، كما جاء من عنده المحكم. ولأن لفظة أما لتفصيل الجمل فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه إياهم باتباع المتشابه وابتغاء تأويله يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة ، وهم الراسخون. ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرناه اه من الروضة بلفظه.
(11/255)
ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة ، دلالة الاستقراء في القرآن أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئاً وأثبته لنفسه ، أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك كقوله : {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [ النمل : 65 ] وقوله : {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [ الأعراف : 187 ]. وقوله : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [ القصص : 88 ]. فالمطابق لذلك أن يكون قوله : {ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} [ آل عمران : 7 ] معناه : أنه لا يعلمه إلا هو وحده كما قاله الخطابي وقال : لو كانت الواو في قوله : {والراسخون} [ آل عمران : 7 ] للنسق لم يكن لقوله : {كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [ آل عمران : 7 ] فائدة والقول بأن الوقف تام على قوله : {إِلاَّ اللهُ} وأن قوله : {والراسخون} ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا.
وممن قال بذلك عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، نقله عنهم القرطبي وغيره ونقله ابن جرير عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد.
وقال أبو نهيك الأسدي : غنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم آمنا به كل من عند ربنا ، والقول بأن الواو عاطفة مروي أيضاً عن ابن عباس وبه قال مجاهد والربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. وممن انتصر لهذا القول وأطال فيه ابن فورك ونظير الآية في احتمال الاستئناف والعطف قول الشاعر :
الريح تبكي شجوها... والبرق يلمع في الغمامة
فيحتمل أن يكون البرق مبتدأ والخبر يلمع كالتأويل الأول ، فيكون مقطوعاً مما قبله ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على الريح ، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي : لامعاً.(11/256)
واحتج القائلون بأن الواو عاطفة بأن الله سبحانه وتعالى مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم بذلك وهم جهال.
قال القرطبي : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمرو : هذا القول هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع. انتهى منه بلفظه.
قال مقيده - عفا الله عنه - يجاب عن كلام شيخ القرطبي المذكور بأن رسوخهم في العلم هو السبب الذي جعلهم ينتهون حيث انتهى علمهم ويقولون فيما لم يقفوا على علم حقيقته من كلام الله جل وعلا : {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [ آل عمران : 7 ] بخلاف غير الراسخين فإنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وهذا ظاهر.
وممن قال بأن الواو عاطفة الزمخشري في تفسيره الكشاف. والله تعالى أعلم ونسبة العلم إليه أسلم.
وقال بعض العلماء : والتحقيق في هذا المقام أن الذين قالوا هي عاطفة ، جعلوا معنى التأويل التفسير وفهم المعنى كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم " اللهم علمه التأويل " أي : التفسير وفهم معاني القرآن ، والراسخون يفهمون ما خوطبوا به وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليهز والذين قالوا هي استئنافية جعلوا معنى التأويل حقيقة ما يؤول إليه الأمر وذلك لا يعلمه إلا الله ، وهو تفصيل جيد ولكنه يشكل عليه أمران : الأول قول ابن عباس رضي الله عنهما : " التفسير على أربعة أنحاء : تفسير : لا يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله ". فهذا تصريح من ابن عباس أن هذا الذي لا يعلمه إلا الله بمعنى التفسير لا ما تؤول إليه حقيقة الأمر.
(11/257)
وقوله هذا ينافي التفصيل المذكور. الثاني : أن الحروف المقطعة في أوائل السور لا يعلم المراد بها إلا الله إذ لم يقم دليل على شيء معين أنه هو المراد بها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا من لغة العرب. فالجزم بأن معناها كذا على التعيين تحكم بلا دليل.
تنبيهان
الأول : اعلم أنه على القول بأن الواو عاطفة فإن إعراب جملة يقولون مستشكل من ثلاث جهات : الأولى أنها حال من المعطوف وهو الراسخون ، دون المعطوف عليه وهو لفظ الجلالة. والمعروف إتيان الحال من المعطوف والمعطوف عليه معاً كقولك : جاء زيد وعمرو راكبين.
وقوله تعالى : {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ} [ إبراهيم : 33 ].
وهذا الإشكال ساقط. لجواز إتيان الحال من المعطوف فقط دون المعطوف عليه ، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى : {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [ الفجر : 22 ] فقوله صفاً حال من المعطوف وهو الملك ، دون المعطوف عليه وهو لفظة ربك.
وقوله تعالى : {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} [ الحشر : 10 ] الآية. فجملة يقولون حال من واو الفاعل في قوله الذين جاءوا ، وهو معطوف على قوله : {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} [ الحشر : 8 ] وقوله : {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [ الحشر : 9 ] فهو حال من المعطوف دون المعطوف عليه كما بينه ابن كثير وغيره.
(11/258)
الجهة الثانية : من جهات الإشكال المذكور هي ما ذكره القرطبي عن الخطابي قال عنه : واحتج له بعض أهل اللغة ، فقال معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين : آمنا ، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال ، وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه. لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال. ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكباً يعني : أقبل عبد الله راكباً ، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ، فكان يصلح حالاً له كقول الشاعر أنشدنيه أبو عمر قال : أنشدنا أبو العباس ثعلب :
أرسلت فيها قطماً لكالكا... يقصر يمشي ويطول باركاً
أي يقصر ماشياً ، وهذا الإشكال أيضاً ساقط. لأن الفعل العامل في الحال المذكورة غير مضمر. لأنه مذكور في قوله يعلم ولكن الحال من المعطوف دون المعطوف عليه ، كما بينه العلامة الشوكاني في تفسيره وهو واضح.
الجهة الثالثة : من جهات الإشكال المذكورة هي : أن المعروف في اللغة العربية أن الحال قيد لعاملها ووصف لصاحبها ، فيشكل تقييد هذا العامل الذي هو يعلم بهذه الحال التي هي يقولون آمنا. إذ لا وجه لتقييد علم الراسخين بتأويله بقولهم آمنا به. لأن مفهومه أنهم في حال عدم قولهم آمنا به لا يعلمون تأويله وهو باطل ، وهذا الإشكال قوي وفيه الدلالة على منع الحالية في جملة يقولون على القول بالعطف.
(11/259)
التنبيه الثاني : إذا كانت جملة يقولون : لا يصح أن تكون حالاً لما ذكرنا فما وجه إعرابها على القول بأن الواو عاطفة ؟ الجواب والله تعالى أعلم أنها معطوفة بحرف محذوف والعطف بالحرف المحذوف ، أجازه ابن مالك وجماعة من علماء العربية. والتحقيق جوازه ، وأنه ليس مختصاً بضرورة الشعر كما زعمه بعض علماء العربية ، والدليل على جوازه وقوعه في القرآن ، وفي كلام العرب. فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} [ الغاشية : 8 ] الآية. فإنه معطوف بلا شك على قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [ الغاشية : 2 ] بالحرف المحذوف الذي هو الواو ويدل له إثبات الواو في نظيره في قوله تعالى في سورة القيامة : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [ القيامة : 22-24 ] الآية. وقوله تعالى في عبس : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [ عبس : 38-40 ] الآية.
وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى : {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ} [ التوبة : 92 ] الآية. قال يعني وقلت : بالعطف بواو محذوفة وهو أحد احتمالات ذكرها ابن هشام في المغني ، وجعل بعضهم منه
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [ آل عمران : 19 ] على قراءة فتح همزة إن قال : هو معطوف بحرف محذوف على قوله : {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [ آل عمران : 18 ] أي : وشهد أن الدين عند الله الإسلام وهو أحد احتمالات ذكرها صاحب المغني أيضاً ومنه حديث " تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره " يعني ومن درهمه ومن صاع إلخ.
حكاه الأشموني وغيره ، والحديث المذكور أخرجه مسلم والإمام أحمد وأصحاب السنن ومن شواهد حذف حرف العطف قول الشاعر :
(11/260)
كيف أصبحت كيف أمسيت... مما يغرس الود في فؤاد الكريم
يعني وكيف أمسيت وقول الحطيئة :
إن امرأ رهطه بالشام منزله... برمل يبرين جار شد ما اغتربا
أي : ومنزله برمل يبرين. وقيل : الجملة الثانية صفة ثانية لا معطوفة وعليه فلا شاهد في البيت ، وممن أجاز العطف بالحرف المحذوف الفارسي وابن عصفور خلافاً لابن جني والسهيلي.
ولا شك أن في القرآن أشياء لا يعلمها إلا الله كحقيقة الروح. لأن الله تعالى يقول : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [ الإسراء : 85 ] الآية وكمفاتح الغيب التي نص على أنها لا يعلمها إلا هو بقوله : {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} [ الأنعام : 59 ] الآية.
وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى : {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث} [ لقمان : 34 ] الآية. وكالحروف المقطعة في أوائل السور وكنعيم الجنة لقوله تعالى : {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [ السجدة : 17 ] الآية. وفيه أشياء يعلمها الراسخون في العلم دون غيرهم كقوله تعالى : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ الحجر : 92-93 ] وقوله : {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [ الأعراف : 6 ] مع قوله : {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [ الرحمن : 39 ] وقوله : {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [ القصص : 78 ] وكقوله : {وَرُوحٌ مِّنْهُ} [ النساء : 171 ] والرسوخ الثبوت. ومنه قول الشاعر :
لقد رسخت في القلب مني مودة... لليلى أبت آياتها أن تغيرا. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 214 ـ 220}
فائدة
قال السعدى فى معنى الآية : (11/261)
القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى ، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله {منه آيات محكمات} أي : واضحات الدلالة ، ليس فيها شبهة ولا إشكال {هن أم الكتاب} أي : أصله الذي يرجع إليه كل متشابه ، وهي معظمه وأكثره ، {و} منه آيات {أخر متشابهات} أي : يلتبس معناها على كثير من الأذهان : لكون دلالتها مجملة ، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها ، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد ، وهي الأكثر التي يرجع إليها ، ومنه آيات تشكل على بعض الناس ، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي ، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة ، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي : ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم ، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد {فيتبعون ما تشابه منه} أي : يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه ، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه {ابتغاء الفتنة} لمن يدعونهم لقولهم ، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه ، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة ، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه ، وقوله {وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله} للمفسرين في الوقوف على {الله} من قوله {وما يعلم تأويله إلا الله} قولان ، جمهورهم يقفون عندها ، وبعضهم يعطف عليها {والراسخون في العلم} وذلك كله محتمل ، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على {إلا الله} لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته ، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها ، وحقائق(11/262)
أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك ، فهذه لا يعلمها إلا الله ، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها ، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته ، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله {الرحمن على العرش [استوى ]} فقال السائل : كيف استوى ؟ فقال مالك : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك ، تلك الصفة معلومة ، وكيفيتها مجهولة ، والإيمان بها واجب ، والسؤال عنها بدعة ، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها ، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا ، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني ، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه ، لأنه لا يعلمها إلا الله ، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون ، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح ، كان الصواب عطف {الراسخون} على {الله} فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا ، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون {كل} من المحكم والمتشابه {من عند ربنا} وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وفيه تنبيه على الأصل الكبير ، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله ، وأشكل عليهم مجمل المتشابه ، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم ، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال {وما يذكر} أي : يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا {أولوا الألباب} أي : أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم ، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه ، وما يضرهم فيتركونه ، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته ، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من(11/263)
العقول النافعة. أ هـ {تفسير السعدى صـ 122}
فصل
قال ابن عاشور :
وقد أشارت الآية : إلى أن آيات القرآن صنفان : محكمات وأضدادها ، التي سميت متشابهات ، ثم بين أن المحكمات هي أم الكتاب ، فعلمنا أن المتشابهات هي أضداد المحكمات ، ثم أعقب ذلك بقوله {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران : 7] أي تأويله الذي لا قبل لأمثالهم به فعلمنا أن المتشابهات هي التي لم يتضح المقصود من معانيها ، فعلمنا أن صفة المحكمات ، والمتشابهات ، راجعة إلى ألفاظ الآيات.
ووصف المحكمات بأنها أم الكتاب فاحتمل أن يكون المراد من الأم الأصل ، المرجع ، وهما متقاربان : أي هن أصل القرآن أو مرجعه ، وليس يناسب هذين المعنيين إلا دلالة القرآن ؛ إذ القرآن أنزل للإرشاد والهدي ، فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع ، والآداب والمواعظ ، وكانت أصولا لذلك : باتضاح دلالتها ، بحيث تدل على معان لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالا ضعيفا غير معتد به ، وذلك كقوله : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [التورات : 11] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء : 23] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة : 185] {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة : 205] {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات : 40-41]. وباتضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوع إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع.(11/264)
والمتشابهات مقابل المحكمات ، فهي التي دلت على معان تشابهت في أن يكون كل منها هو المراد. ومعنى تشابهها : أنها تشابهت في صحة القصد إليها ، أي لم يكن بعضها أرجح من بعض ، أو يكون معناها صادقا بصور كثيرة متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مرادا ، فلا يتبين الغرض منها ، فهذا وجه تفسير الآية فيما أرى.
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال : مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء. فعن ابن عباس : أن المحكم مالا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله تعالى ، وتحريم الفواحش ، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام : 151] والآيات من سورة الإسراء {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء : 23] ، وأن المتشابه المجملات التي لم تبين كحروف أوائل السور.
وعن ابن مسعود ، وابن عباس أيضا : أن المحكم ما لم ينسخ والمتشابه المنسوخ وهذا بعيد عن أن يكون مرادا هنا لعدم مناسبته للوصفين ولا لبقية الآية.
وعن الأصم : المحكم ما اتضح دليله ، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبر ، وذلك كقوله تعالى : {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف : 11] فأولها محكم وآخرها متشابه.
وللجمهور مذهبان : أولهما أن المحكم ما اتضحت دلالته ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه ، ونسب هذا القول لمالك ، في رواية أشهب ، من جامع العتبية ، ونسبه الخفاجي إلى الحنفيه وإليه مال الشاطبي في الموافقات.
(11/265)
وثانيهما أن المحكم الواضح الدلالة ، والمتشابه الخفيها ، وإليه مال الفخر : فالنص والظاهر هما المحكم ، لاتضاح دلالتهما ، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرقه احتمال ضعيف ، والمجمل والمؤول هما المتشابه ، لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما : أي المؤول دالا على معنى مرجوح ، يقابله معنى راجح ، والمجمل دالا على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر ، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية.
قال الشاطبي : فالتشابه : حقيقي ، وإضافي ، فالحقيقي : ما لا سبيل إلى فهم معناه ، وهو المراد من الآية ، والإضافي : ما اشتبه معناه ، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر. فإذا تقصى المجتهد أدلة الشريعة وجد فيها ما يبين معناه ، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدا في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير.
وقد دلت هذه الآية على أن من القرآن محكما ومتشابها ، ودلت آيات أخر على أن القرآن كله محكم ، قال تعالى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود : 1] وقال {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس : 1] والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته ، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه ، قال تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر : 23] والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقية ، وهو معنى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فلا تعارض بين هذه الآيات : لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها ، بحسب ما تقتضيه المقامات.
(11/266)
وسبب وقوع المتشابهات في القرآن : هو كونه دعوة ، وموعظة ، وتعليما ، وتشريعا باقيا ، ومعجزة ، وخوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع ، فجاء على أسلوب مناسب لجمع هذه الأمور ، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية ، أو الأمالي العلمية ، وإنما كانت هجيراهم الخطابة والمقاولة ، فأسلوب المواعظ والدعوة قريب من أسلوب الخطابة ، وهو لذلك لا يأتي على أساليب الكتب المؤلفة للعلم ، أو القوانين الموضوعة للتشريع ، فأودعت العلوم المقصودة منه في تضاعيف الموعظة والدعوة ، وكذلك أودع فيه التشريع ، فلا تجد أحكام نوع من المعاملات ، كالبيع ، متصلا بعضها ببعض ، بل تلفيه موزعا على حسب ما اقتضته مقامات الموعظة والدعوة ، ليخف تلقيه على السامعين ، ويعتادوا علم ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه فكانت متفرقة يضم بعضها إلى بعض بالتدبر. ثم إن إلقاء تلك الأحكام كان في زمن طويل ، يزيد على عشرين سنة ، ألقي إليهم فيها من الأحكام بمقدار ما دعت إليه حاجتهم ، وتحملته مقدرتهم ، على أن بعض تشريعه أصول لا تتغير ، وبعضه فروع تختلف باختلاف أحوالهم ، فلذلك تجد بعضها عاما ، أو مطلقا ، أو مجملا ، وبعضها خاصا ، أو مقيدا ، أو مبينا ، فإذا كان بعض المجتهدين يرى تخصيص عموم بعض عموماته بخصوص بعض الخصوصيات مثلا ، فلعل بعضا منهم لا يتمسك إلا بعمومه ، حينئذ ، كالذي يرى الخاص والوارد بعد العام ناسخا ، فيحتاج إلى تعيين التاريخ ، ثم إن العلوم التي تعرض لها القرآن هي من العلوم العليا : وهي علوم فيما بعد الطبيعة ، وعلوم مراتب النفوس ، وعلوم النظام العمراني ، والحكمة ، وعلوم الحقوق. وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات المرادات في هاته العلوم ، وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها ، ما أوجب تشابها في مدلولات الآيات الدالة عليها. وإعجاز القرآن : منه إعجاز نظمي ومنه إعجاز علمي ، وهو فن جليل من الإعجاز بينته في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.(11/267)
فلما تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها ، فيما تعرض إليه ، جاء به محكيا بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو في نفس الأمر ، وربما إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولا لأقوام ، فيعدون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه فإذا جاء من بعدهم علموا أن ما عده الذين قبلهم متشابها ما هو إلا محكم.
على أن من مقاصد القرآن أمرين آخرين :
أحدهما كونه شريعة دائمة ، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين ، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين ، وثانيهما تعويد حملة هذه الشريعة ، وعلماء هذه الأمة ، بالتنقيب ، والبحث ، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة ، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كل زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع ، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية ، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة. من أجل هذا كانت صلوحية عباراته لاختلاف منازع المجتهدين ، قائمة مقام تلاحق المؤلفين في تدوين كتب العلوم ، تبعا لاختلاف مراتب العصور.
فإذا علمت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمى بالمتشابه في القرآن. وبقي أن نذكر لك مراتب التشابه وتفاوت أسبابها. وأنها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشر مراتب :
أولاها : معان قصد إيداعها في القرآن ، وقصد إجمالها : إما لعدم قابلية البشر لفهمها ، ولو في الجملة ، إن قلنا بوجود المجمل ، الذي أستأثر الله بعلمه ، على ما سيأتي ، ونحن لا نختاره ، وإما لعدم قابليتهم لكنه فهمها ، فألقيت إليهم على وجه الجملة أو لعدم قابلية بعضهم في عصر ، أوجهة ، لفهمها بالكنه ومن هذا أحوال القيامة ، وبعض شؤون الربوبية كالإتيان في ظلل من الغمام ، والرؤية ، والكلام ، ونحو ذلك.
(11/268)
وثانيتها : معان قصد إشعار المسلمين بها ، وتعين إجمالها ، مع إمكان حملها على معان معلومة ، لكن بتأويلات : كحروف أوائل السور ، ونحو {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة : 29]1.
ثالثتها : معان عالية ضاقت عن إيفاء كنهها اللغة الموضوعة لأقصى ما هو متعارف أهلها ، فعبر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرب معانيها إلى الأفهام ، وهذا مثل أكثر صفات الله نحو الرحمان ، الرؤوف ، المتكبر ، نور السماوات والأرض.
رابعتها : معان قصرت عنها الأفهام في بعض أحوال العصور ، وأودعت في القرآن ليكون وجودها معجزة قرآنية عند أهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجاز النظمي ، نحو قوله {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس : 38] {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر : 22] {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر : 5] {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل : 88] {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون : 20] {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور : 35] {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود : 7] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت : 11] وذكر سد يأجوج ومأجوج2.
خامستها : مجازات وكنايات مستعملة في لغة العرب ، إلا أن ظاهرها أوهم معاني لا يليق الحمل عليها في جانب الله تعالى : لإشعارها بصفات تخالف كمال الإلهية ، وتوقف فريق في محملها تنزيها ، نحو {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور : 48] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات : 47] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن : 27]3.
(11/269)
وسادستها : ألفاظ من لغات العرب لم تعرف لدى الذين نزل القرآن بينهم : قريش والأنصار مثل {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس : 31] ومثل {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل : 47]1 {إِنَّ إبراهيم لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة : 114] {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة : 36]2.
سابعتها : مصطلحات شرعية لم يكن للعرب علم بخصوصها ، فما اشتهر منها بين المسلمين معناه ، صار حقيقة عرفية : كالتيمم ، والزكاة ، وما لم يشتهر بقي فيه إجمال : كالربا قال عمر نزلت آيات الربا في آخر ما أنزل فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينها وقد تقدم في سورة البقرة.
ثامنتها : أساليب عربية خفيت على أقوام فظنوا الكلام بها متشابها ، وهذا مثل زيادة الكاف في قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : 11] ومثل المشاكلة في قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء : 142] فيعلم أن إسناد خادع إلى ضمير الجلالة إسناد بمعنى مجازي اقتضته المشاكلة.
وتاسعتها : آيات جاءت على عادات العرب ، ففهمها المخاطبون ، وجاء من بعدهم فلم يفهموها ، فظنوها من المتشابه ، مثل قوله {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة : 158] ، في الموطإ قال ابن الزبير قلت لعائشة وكنت يومئذ حدثا لم أتفقه لأرى بأسا على أحد إلا يطوف بالصفا والمروة فقالت له : ليس كما قلت إنما كان الأنصار يهلون لمناة الطاغية الخ. ومنه {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة : 187] {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة : 93] الآية فإن المراد فيما شربوا من الخمر قبل تحريمها.(11/270)
عاشرتها : أفهام ضعيفة عدت كثيرا من المتشابه وما هو منه ، وذلك أفهام الباطنية ، وأفهام المشبه ، كقوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم : 42].
وليس من المتشابه ما صرح فيه بأنا لا نصل إلى علمه كقوله {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء : 85] ولا ما صرح فيه بجهل وقته كقوله {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} الأعراف : 187].
وليس من المتشابه ما دل على معنى يعارض الحمل عليه دليل آخر ، منفصل عنه ؛ لأن ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين ، أو ترجيح أحدهما على الآخر ، مثل قوله تعالى خطابا لإبليس {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء : 64] الآية في سورة الإسراء مع ما في الآيات المقتضية {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر : 7] {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة : 205].
وقد علمتم من هذا أن ملاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة : إما لضيقها عن المعاني ، وإما لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى ، وإما لتناسي بعض اللغة ، فيتبين لك أن الإحكام والتشابه : صفتان للألفاظ ، باعتبار فهم المعاني.
وإنما أخبر عن ضمير آيات محكمات ، وهو ضمير جمع ، باسم مفرد ليس دالا على أجزاء وهو {أَمْ} ، لأن المراد أن صنف الآيات المحكمات يتنزل من الكتاب منزلة أمه أي أصله ومرجعه الذي يرجع إليه في فهم الكتاب ومقاصده. والمعنى : هن كأم للكتاب. ويعلم منه أن كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمنه من المعنى. وهذا كقول النابغة يذكر بني أسد :
فهم درعي التي استلأمت فيها
أي مجموعهم كالدرع لي ، ويعلم منه أنه كل أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع. ومن هذا المعنى قوله تعالى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان : 74]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 15 ـ 21}(11/271)
فائدة
قال الشوكانى :
اعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم ، والمتشابه ؛ وقد قدّمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما ، ونزيدك ها هنا إيضاحاً ، وبياناً ، فنقول : إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدّمناه فواتح السور ، فإنها غير متضحة المعنى ، ولا ظاهرة الدلالة ، لا بالنسبة إلى أنفسها ؛ لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ، ويعرف عرف الشرع ما معنى الم ، المر ، حم ، طس ، طسم ونحوها ؛ لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ، ولا من كلام الشرع ، فهي غير متضحة المعنى ، لا باعتبارها نفسها ، ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ، ويوضحها ، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم ، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب ، ولا في عرف الشرع ما يوضحها ، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح ، وما في قوله : {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} إلى الآخر الآية [ لقمان : 34 ] ، ونحو ذلك ، وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار غيره ، كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه ، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة ، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار أمر آخر يرجحه.(11/272)
وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب ، أو في عرف الشرع ، أو باعتبار غيره ، وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز ، أو في السنة المطهرة ، أو الأمور التي تعارضت دلالتها ، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب ، أو السنة ، أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف ، فلا شك ، ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه ، ومن زعم أنها من المتشابه ، فقد اشتبه عليه الصواب ، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ، ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمى ما دل لما ذهب إليه محكماً ، وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابهاً : سيما أهل علم الكلام ، ومن أنكر هذا ، فعليه بمؤلفاتهم.
واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم ، ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية بل بمعنى آخر ، ومن ذلك قوله تعالى : {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} [ هود : 1 ] وقوله : {تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم} [ يونس : 1 ] والمراد بالمحكم بهذا المعنى : أنه صحيح الألفاظ قويم المعاني فائق في البلاغة ، والفصاحة على كل كلام.
وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بل بمعنى آخر ، ومنه قوله تعالى : {كتابا متشابها} [ الزمر : 23 ] والمراد بالمتشابه بهذا المعنى : أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة ، والفصاحة ، والحسن ، والبلاغة. أ هـ {فتح القدير حـ 1 صـ 317}(11/273)
فائدة
قال الكرمى :
وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها
قال وذهبت طائفة من أهل السنة إلى أنا نؤولها على ما يليق بجلاله تعالى وهذا مذهب الخلف
قال وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه فقال في الرسالة النظامية الذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقدا هو اتباع سلف الأمة فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها فلو كان تأويل هذه الظواهر سائغا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب
وقال الإمام ابن الصلاح وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها انتهى
قلت وهذا القول هو الحق وأسلم الطرق فإنك تجد كل فريق من المتأولين يخطئ الأخر ويرد كلامه ويقيم البرهان على صحة قوله ويعتقد أنه هو المصيب وأن غيره هو المخطئ ومن طالع كلام طوائف المتكلمين والمتصوفين علم ذلك علم اليقين ... الناس شتى وآراء مفرقة ... كل يرى الحق فيما قال واعتقدا قال أصحابنا أسلم الطرق التسليم فما سلم دين من لم يسلم لله ورسوله ويرد علم ما اشتبه إلى عالمه ومن أراد علم ما يمتنع علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة والإيمان والتعمق في الفكر ذريعة الخذلان وسلم الحرمان والإسراف في الجدال يوجب عداوة الرجال. أ هـ {أقاويل الثقات صـ 65 ـ 67}(11/274)
فائدة جليلة
قال ابن عاشور :
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابها : من آيات القرآن ، ومن صحاح الأخبار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فكان رأي فريق منهم الإيمان بها ، على إبهامها وإجمالها ، وتفويض العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى ، وهذه طريقة سلف علمائنا ، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلمين ، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم ، ويعبر عنها بطريقة السلف ، ويقولون : طريقة السلف أسلم ، أي أشد سلامة لهم من أن يتأولوا تأويلات لا يدرى مدى ما تفضي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتسق مع ما شرعه للناس من الشرائع ، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم ، وانصرافهم عن التعمق في طلب التأويل.
وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعان من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز ، واستعارة ، وتمثيل ، مع وجود الداعي إلى التأويل ، وهو تعطش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلة القرآن والسنة ، ويعبر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف ، ويقولون : طريقة الخلف أعلم ، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم لجدال الملحدين ، والمقنع لمن يتطلبون الحقائق من المتعلمين ، قد يصفونها بأنها أحكم أي أشد إحكاما ؛ لأنها تقنع أصحاب الأغراض كلهم. وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسرين وعلماء الأصول ، ولم اقف على تعيين أول من صدر
عنه ، وقد تعرض الشيخ ابن تيمية في "العقيدة الحموية" إلى رد هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل. والموصوف بأسلم وبأعلم الطريقة لا أهلها ؛ فإن أهل الطريقتين من أئمة العلم ، وممن سلموا في دينهم من الفتن.(11/275)
وليس في وصف هذه الطريقة ، بأنها أعلم أو أحكم ، غضاضة من الطريقة الأولى ؛ لأن العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى ، فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي ، وهديهم النبوي ، وفيهم من لا يعير البحث عنها جانبا من همته ، مثل سائر العامة. فلا جرم كان طي البحث عن تفصيلها أسلم للعموم ، وكان تفصيلها بعد ذلك أعلم لمن جاء بعدهم ، بحيث لو لم يؤولوها به لأوسعوا ، للمتطلعين إلى بيانها ، مجالا للشك أو الإلحاد. أو ضيق الصدر في الاعتقاد.
واعلم أن التأويل منه ما هو واضح بين ، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يعادل حمل اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه. فهذا القسم من التأويل حقيق بألا يسمى تأويلا ، وليس أحد محمليه بأقوى من الآخر إلا أن أحدهما أسبق في الوضع من الآخر ، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبق إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتض ترجيح ذلك المعنى ، فكم من إطلاق مجازي للفظ هو أسبق إلى الإفهام من إطلاقه الحقيقي. وليس قولهم في علم الأصول بأن الحقيقة أرجح من المجاز بمقبول على عمومه.
وتسمية هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية. وعده من المتشابه جمود.
ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكن القرائن أو الأدلة أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه فهذا حقيق بأن يعد من المتشابه.
ثم إن تأويل اللفظ في مثله يتيسر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنه المراد إذا جرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في قوله : {بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات : 47] وقوله : {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور : 48] فمن أخذوا من مثله أن لله أعينا لا يعرف كنهها ، أو له يدا ليست كأيدينا ، فقد زادوا في قوة الاشتباه.
(11/276)
ومنه ما يعبر تأويله احتمالا وتجويزا بأن يكون الصرف عن الظاهر متعينا وأما حمله على ما أولوه به فعلى وجه الاحتمال والمثال ، وهذا مثل قوله تعالى : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5] وقوله : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة : 210] فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يدعي أحد أن ما أوله به المراد منه ولكنه وجه تابع لإمكان التأويل ، وهذا النوع أشد مواقع التشابه والتأويل.
وقد استبان لك من هذه التأويلات : أن نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 26 ـ 28}(11/277)
فائدة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
الْمُحْكَمُ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً يُقَابَلُ بِالْمُتَشَابِهِ وَالْجَمِيعُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَتَارَةً يُقَابَلُ بِمَا نَسَخَهُ اللَّهُ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مُقَابِلًا لِمَا نَسَخَهُ اللَّهُ مُطْلَقًا حَتَّى يَقُولَ : هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً وَيَجْعَلُ الْمَنْسُوخَ لَيْسَ مُحْكَمًا وَإِنْ كَانَ اللَّهُ أَنْزَلَهُ أَوَّلًا اتِّبَاعًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ : {فَيَنْسَخُ اللَّهُ} {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}.(11/278)
فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَعَانٍ تُقَابِلُ الْمُحْكَمَ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا. وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ " الْإِحْكَامَ " تَارَةً يَكُونُ فِي التَّنْزِيلِ فَيَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فَالْمُحْكَمُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَحْكَمَهُ اللَّهُ أَيْ فَصَلَهُ مِنْ الِاشْتِبَاهِ بِغَيْرِهِ وَفَصَلَ مِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ الْإِحْكَامَ هُوَ الْفَصْلُ وَالتَّمْيِيزُ وَالْفَرْقُ وَالتَّحْدِيدُ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ الشَّيْءُ وَيَحْصُلُ إتْقَانُهُ ؛ وَلِهَذَا دَخَلَ فِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ كَمَا دَخَلَ فِي الْحَدِّ فَالْمَنْعُ جُزْءُ مَعْنَاهُ لَا جَمِيعُ مَعْنَاهُ. وَتَارَةً يَكُونُ " الْإِحْكَامُ " فِي إبْقَاءِ التَّنْزِيلِ عِنْدَ مَنْ قَابَلَهُ بِالنَّسْخِ الَّذِي هُوَ رَفْعُ مَا شُرِعَ وَهُوَ اصْطِلَاحِيٌّ أَوْ يُقَالُ - وَهُوَ أَشْبَهُ بِقَوْلِ السَّلَفِ - كَانُوا يُسَمُّونَ كُلَّ رَفْعٍ نَسْخًا سَوَاءٌ كَانَ رَفْعَ حُكْمٍ أَوْ رَفْعَ دَلَالَةٍ ظَاهِرَةٍ. وَإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيَّتِهِ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ لَفْظِ الْمُبَلِّغِ وَقَدْ يَكُونُ فِي سَمْعِ الْمُبَلِّغِ وَقَدْ يَكُونُ فِي فَهْمِهِ كَمَا قَالَ : {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الْآيَةَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَمِعَ النَّصَّ الَّذِي قَدْ رُفِعَ حُكْمُهُ أَوْ دَلَالَةً لَهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي تِلْكَ التِّلَاوَةِ اتِّبَاعَ ذَلِكَ الْمَنْسُوخِ فَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ بِالنَّاسِخِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ رَفْعُ الْحُكْمِ وَبَيَانُ الْمُرَادِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : الْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَارَةً يَكُونُ " الْإِحْكَامُ " فِي(11/279)
التَّأْوِيلِ وَالْمَعْنَى وَهُوَ تَمْيِيزُ الْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ غَيْرِهَا حَتَّى لَا تَشْتَبِهَ بِغَيْرِهَا. وَفِي مُقَابَلَةِ الْمُحْكَمَاتِ الْآيَاتُ الْمُتَشَابِهَاتُ الَّتِي تُشْبِهُ هَذَا وَتُشْبِهُ هَذَا فَتَكُونُ مُحْتَمِلَةً لِلْمَعْنَيَيْنِ. قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " الْمُحْكَمُ " الَّذِي لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَالْمُتَشَابِهُ الَّذِي يَكُونُ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَفِي مَوْضِعِ كَذَا. وَلَمْ يَقُلْ فِي الْمُتَشَابِهِ لَا يَعْلَمُ تَفْسِيرُهُ وَمَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا قَالَ : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} وَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا هُوَ. وَالْوَقْفُ هُنَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَجَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ. وَلَكِنْ لَمْ يَنْفِ عِلْمَهُمْ بِمَعْنَاهُ وَتَفْسِيرِهِ بَلْ قَالَ : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وَهَذَا يَعُمُّ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَمَا لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى لَا يُتَدَبَّرُ : وَقَالَ : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا مِنْهُ نَهَى عَنْ تَدَبُّرِهِ. وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ إنَّمَا ذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ فَأَمَّا مَنْ تَدَبَّرَ الْمُحْكَمَ وَالْمُتَشَابِهَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَطَلَبَ فَهْمَهُ وَمَعْرِفَةَ مَعْنَاهُ فَلَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ بَلْ أَمَرَ بِذَلِكَ وَمَدَحَ عَلَيْهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ التَّأْوِيلَ قَدْ(11/280)
رَوَى أَنَّ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كحيي بْنِ أَخْطَبَ وَغَيْرِهِ مَنْ طَلَبَ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ تَأْوِيلَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا سَلَكَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مُوَافَقَةً لِلصَّابِئَةِ الْمُنَجِّمِينَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ سِتُّمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ عَامًا لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَدَدُ مَا لِلْحُرُوفِ فِي حِسَابِ الْجُمَّلِ بَعْدَ إسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ وَهَذَا مِنْ نَوْعِ تَأْوِيلِ الْحَوَادِثِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ. وَرُوِيَ أَنَّ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ مَنْ تَأَوَّلَ ( إنَّا و( نَحْنُ عَلَى أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ هَذَا ضَمِيرُ جَمْعٍ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ فَأُولَئِكَ تَأَوَّلُوا فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ وَهَؤُلَاءِ تَأَوَّلُوا فِي اللَّهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ : ( إنَّا و( نَحْنُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَيُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ الَّذِي مَعَهُ أَعْوَانُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسِهِ وَيُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ الْمُعَظِّمُ نَفْسَهُ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ مَنْ مَعَهُ غَيْرُهُ لِتَنَوُّعِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا يَقُومُ مَقَامَ مُسَمًّى فَصَارَ هَذَا مُتَشَابِهًا لِأَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ وَالْمَعْنَى مُتَنَوِّعٌ. و" الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرِكَةُ فِي اللَّفْظِ " هِيَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَبَعْضُ " الْمُتَوَاطِئَةِ " أَيْضًا مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَيُسَمِّيهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ "(11/281)
الْوُجُوهُ وَالنَّظَائِرُ " وَصَنَّفُوا " كُتُبَ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ " فَالْوُجُوهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالنَّظَائِرِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُصَنِّفِينَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوهَ وَالنَّظَائِرَ جَمِيعًا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فَهِيَ نَظَائِرُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَوُجُوهٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ بَلْ كَلَامُهُمْ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَدَعُونَ الْمُحْكَمَ الَّذِي لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ مِثْلَ {وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ} {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ} {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَيَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ لِيَفْتِنُوا بِهِ النَّاسَ إذَا وَضَعُوهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا. وَذَلِكَ أَنَّ " الْكَلَامَ نَوْعَانِ " : إنْشَاءٌ فِيهِ الْأَمْرُ وَإِخْبَارٌ فَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ هُوَ نَفْسُ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إنَّ السُّنَّةَ هِيَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ. {قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ} تَعْنِي قَوْلَهُ : {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. وَأَمَّا(11/282)
الْإِخْبَارُ فَتَأْوِيلُهُ عَيْنُ الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ بِهِ إذَا وَقَعَ لَيْسَ تَأْوِيلُهُ فَهْمَ مَعْنَاهُ.
(11/283)
وَقَدْ جَاءَ اسْمُ " التَّأْوِيلِ " فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهَذَا مَعْنَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ فَصَّلَ الْكِتَابَ وَتَفْصِيلُهُ بَيَانُهُ وَتَمْيِيزُهُ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ ثُمَّ قَالَ : {هَلْ يَنْظُرُونَ} أَيْ يَنْتَظِرُونَ {إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَجِيءُ مَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِوُقُوعِهِ مِنْ الْقِيَامَةِ وَأَشْرَاطِهَا : كَالدَّابَّةِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَمَجِيءِ رَبِّك وَالْمَلَكِ صَفًّا صَفًّا وَمَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ الصُّحُفِ وَالْمَوَازِينِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَنْوَاعِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ : {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يُعْلَمُ وَقْتَهُ وَقَدْرَهُ وَصِفَتَهُ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وَيَقُولُ : {أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ(11/284)
خَمْرًا وَلَبَنًا وَمَاءً وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِهَذِهِ بَلْ بَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ عَظِيمٌ مَعَ التَّشَابُهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ مِثْلَهُ فَأَشْبَهَ اسْمُ تِلْكَ الْحَقَائِقِ أَسْمَاءَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ كَمَا أَشْبَهَتْ الْحَقَائِقُ الْحَقَائِقَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. فَنَحْنُ نَعْلَمُهَا إذَا خُوطِبْنَا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ مِنْ جِهَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ لِتِلْكَ الْحَقَائِقِ خَاصِّيَّةٌ لَا نُدْرِكُهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا سَبِيلَ إلَى إدْرَاكِنَا لَهَا لِعَدَمِ إدْرَاكِ عَيْنِهَا أَوْ نَظِيرِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ هِيَ تَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ. وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ أَكْلٌ وَشُرْبٌ وَلِبَاسٌ وَنِكَاحٌ وَيَمْنَعُونَ وُجُودَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَنَافَقَ الْمُؤْمِنِينَ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَفْهِيمِ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ إنْ كَانَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الصَّابِئَةِ الْمُنْكِرَةِ لِحَشْرِ الْأَجْسَادِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ مُنَافِقَةِ الْمِلَّتَيْنِ الْمُقِرِّينَ بِحَشْرِ الْأَجْسَادِ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى تَفْهِيمِ النَّعِيمِ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الرُّوحَانِيِّ وَالسَّمَاعِ الطَّيِّبِ وَالرَّوَائِحِ الْعَطِرَةِ. فَكُلُّ ضَالٍّ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ إلَى(11/285)
مَا اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ. وَكَانَ فِي هَذَا أَيْضًا مُتَّبِعًا لِلْمُتَشَابِهِ إذْ الْأَسْمَاءُ تُشْبِهُ الْأَسْمَاءَ وَالْمُسَمَّيَاتُ تُشْبِهُ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَكِنْ تُخَالِفُهَا أَكْثَرَ مِمَّا تُشَابِهُهَا. فَهَؤُلَاءِ يَتَّبِعُونَ هَذَا الْمُتَشَابِهَ {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} بِمَا يُورِدُونَهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ تَكُونَ فِي الْجَنَّةِ هَذِهِ الْحَقَائِقُ {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} لِيَرُدُّوهُ إلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي يَعْلَمُونَهُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} فَإِنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ قَالَ اللَّهُ فِيهَا : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. وَقَوْلُهُ : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} إمَّا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْكِتَابِ أَوْ عَلَى الْمُتَشَابِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ ( مِنْهُ و( مِنْهُ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فَهَذَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمُحْكَمَةِ وَالْمُتَشَابِهَةِ الَّتِي فِيهَا إخْبَارٌ عَنْ الْغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْغَيْبِ وَمَتَى يَقَعُ إلَّا اللَّهُ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ التَّأْوِيلَ لِلْكِتَابِ كُلِّهِ مَعَ إخْبَارِهِ أَنَّهُ مُفَصَّلٌ بِقَوْلِهِ {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} فَجَعَلَ التَّأْوِيلَ الْجَائِي لِلْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ. وَقَدْ(11/286)
بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ لَا يَعْلَمُهُ وَقْتًا وَقَدْرًا وَنَوْعًا وَحَقِيقَةً إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا نَعْلَمُ نَحْنُ بَعْضَ صِفَاتِهِ بِمَبْلَغِ عِلْمِنَا لِعَدَمِ نَظِيرِهِ عِنْدَنَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ لِلْكِتَابِ كُلِّهِ وَالْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ ارْتَفَعَتْ الشُّبْهَةُ وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلَى قَوْلِهِ : {إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عِلْمُهَا إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ عِلْمُ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ وَحَقِيقَتِهَا وَإِلَّا فَنَحْنُ قَدْ عَلِمْنَا مِنْ صِفَاتِهَا مَا أَخْبَرَنَا بِهِ. فَعِلْمُ تَأْوِيلِهِ كَعِلْمِ السَّاعَةِ وَالسَّاعَةُ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَهَذَا وَاضِحٌ بَيِّنٌ. وَلَا يُنَافِي كَوْنَ عِلْمِ السَّاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ نَعْلَمَ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مَا عَلِمْنَاهُ وَأَنْ نُفَسِّرَ النُّصُوصَ الْمُبَيِّنَةَ لِأَحْوَالِهَا فَهَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى مَا تَشَابَهَ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَلِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مُتَشَابِهٌ بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِهَذَا فِي الْآثَارِ : " الْعَمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَالْإِيمَانُ بِمُتَشَابِهِهِ " لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْخَبَرِ(11/287)
الْإِيمَانُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِيهِ مِنْ التَّشَابُهِ مَا ذَكَرْنَاهُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : " الْمُتَشَابِهُ " الْأَمْثَالُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ و" الْمُحْكَمُ " الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَإِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ غَيْرُ مُشْتَبِهٍ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ أُمُورٌ نَفْعَلُهَا قَدْ عَلِمْنَاهَا بِالْوُقُوعِ وَأُمُورٌ نَتْرُكُهَا لَا بُدَّ أَنْ نَتَصَوَّرَهَا.
(11/288)
وَمِمَّا جَاءَ مِنْ لَفْظِ " التَّأْوِيلِ " فِي الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وَالْكِنَايَةُ عَائِدَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَهُوَ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى : {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَا كَانَ لِيُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْمَنْفِيِّ كَقَوْلِهِ : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} وَقَوْلِهِ : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} لِأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ كَمَا تَحَدَّاهُمْ وَطَالَبَهُمْ لَمَّا قَالَ : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَهَذَا تَعْجِيزٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ تَعَالَى : {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أَيْ مُصَدِّقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} أَيْ مُفَصِّلَ(11/289)
الْكِتَابِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُفَصَّلُ الْكِتَابِ وَالْكِتَابُ اسْمُ جِنْسٍ وَتَحَدَّى الْقَائِلِينَ : افْتَرَاهُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ الْمُفْتَرُونَ قَالَ : {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أَيْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ وَبَيْنَ إتْيَانِ تَأْوِيلِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ وَأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ إتْيَانَ تَأْوِيلِهِ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِعِلْمِهِ مَعْرِفَةُ مَعَانِي الْكَلَامِ عَلَى التَّمَامِ وَإِتْيَانُ التَّأْوِيلِ نَفْسُ وُقُوعِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْمُخْبَرِ بِهِ فَمَعْرِفَةُ الْخَبَرِ هِيَ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةُ الْمُخْبَرِ بِهِ هِيَ مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِهِ. و" نُكْتَةُ ذَلِكَ " أَنَّ الْخَبَرَ لِمَعْنَاهُ صُورَةٌ عِلْمِيَّةٌ وُجُودُهَا فِي نَفْسِ الْعَالِمِ كَذِهْنِ الْإِنْسَانِ مَثَلًا وَلِذَلِكَ الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْعِلْمِ وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَدُلُّ ابْتِدَاءً عَلَى الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ ثُمَّ تَتَوَسَّطُ ذَلِكَ أَوْ تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْخَارِجَةِ فَالتَّأْوِيلُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْخَارِجَةُ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ وَمَعْنَاهُ فَهُوَ مَعْرِفَةُ الصُّورَةِ الْعِلْمِيَّةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيُعْلَمَ وَيُفْهَمَ وَيُفْقَهَ وَيُتَدَبَّرَ وَيُتَفَكَّرَ فِيهِ(11/290)
مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَأْوِيلُهُ. وَيَبِينُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ عَنْ الْكُفَّارِ : {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} فَقَدْ أَخْبَرَ - ذَمًّا لِلْمُشْرِكِينَ - أَنَّهُ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ حُجِبَ بَيْنَ أَبْصَارِهِمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ بِحِجَابِ مَسْتُورٍ وَجَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا. فَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةٌ أَنْ يَفْقَهُوا بَعْضَهُ لَشَارَكُوهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ : {أَنْ يَفْقَهُوهُ} يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ. فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُفْقَهَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِي مَاذَا أُنْزِلَتْ وَمَاذَا عَنَى بِهَا وَمَا اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ لَا مُتَشَابِهًا وَلَا غَيْرَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ مَرَّاتٍ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ كَانَ يَقُولُ : لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ يُجِيبُ مُجَاهِدًا عَنْ كُلِّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَمَلَ مُجَاهِدًا وَمَنْ وَافَقَهُ كَابْنِ قُتَيْبَةَ عَلَى أَنْ جَعَلُوا الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فَجَعَلُوا الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ(11/291)
التَّأْوِيلَ لِأَنَّ مُجَاهِدًا تَعَلَّمَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَبَيَانَ مَعَانِيهِ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " التَّأْوِيلِ " فِيهِ اشْتِرَاكٌ بَيْنَ مَا عَنَاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَبَيْنَ مَا كَانَ يُطْلِقُهُ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَبَيْنَ اصْطِلَاحِ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَبِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ التَّأْوِيلِ اعْتَقَدَ كُلُّ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ مَعْنًى بِلُغَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ. وَمُجَاهِدٌ إمَامُ التَّفْسِيرِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَشَأْنٌ آخَرُ. وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا قَالَ هَذِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ وَلَا قَالَ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ : إنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا وَلَا يَفْهَمُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعُهُمْ وَإِنَّمَا قَدْ يَنْفُونَ عِلْمَ بَعْضِ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَإِنَّمَا وَضَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الطَّوَائِفِ بِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِ الْقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَقَّبُوهَا : " هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ ". وَمَا " تَعَبَّدْنَا بِتِلَاوَةِ حُرُوفِهِ بِلَا فَهْمٍ " فَجَوَّزَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مُتَمَسِّكِينَ(11/292)
بِظَاهِرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِأَنَّ اللَّهَ يَمْتَحِنُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ وَمَنَعَهَا طَوَائِفُ لِيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إلَى تَأْوِيلَاتِهِمْ الْفَاسِدَةِ الَّتِي هِيَ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَالْغَالِبُ عَلَى كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْخَطَأُ أُولَئِكَ يُقَصِّرُونَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ فِيهِ : {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} وَهَؤُلَاءِ مُعْتَدُونَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
(11/293)
وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ بِلَقَبِ شَنِيعٍ فَقَالَ : " لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِكَلَامِ وَلَا يَعْنِيَ بِهِ شَيْئًا خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ ". وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ مُسْلِمٌ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ. وَإِنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ ؟ وَبَيْنَ نَفْيِ الْمَعْنَى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَنَفْيِ الْفَهْمِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ بَوْنٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ احْتَجَّ بِمَا لَا يَجْرِي عَلَى أَصْلِهِ فَقَالَ : هَذَا عَبَثٌ وَالْعَبَثُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ. وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبُحُ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ شَيْءٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ : الْعَبَثُ صِفَةُ نَقْصٍ فَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الْحُرُوفِ وَهِيَ عِنْدَهُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ الْفِعْلُ عِنْدَهُ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ فَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ وَلَا عَقْلٌ صَرِيحٌ. وَمَثَارُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَمَحَارُ عُقُولِهِمْ : أَنَّ مُدَّعِي التَّأْوِيلِ أَخْطَئُوا فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ وَفِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ تَأْوِيلُهُمْ الَّذِي هُوَ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ لِعِلْمِهِمْ
(11/294)
بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَصِحَّةِ عُقُولِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِكَلَامِ السَّلَفِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ عَلِمُوا يَقِينًا أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَصَارُوا مَرَاتِبَ مَا بَيْنَ قَرَامِطَةٍ وَبَاطِنِيَّةٍ يَتَأَوَّلُونَ الْأَخْبَارَ وَالْأَوَامِرَ وَمَا بَيْنَ صَابِئَةٍ فَلَاسِفَةٍ يَتَأَوَّلُونَ عَامَّةَ الْأَخْبَارِ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ حَتَّى عَنْ أَكْثَرِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا بَيْنَ جهمية وَمُعْتَزِلَةٍ يَتَأَوَّلُونَ بَعْضَ مَا جَاءَ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ وَفِي آيَاتِ الْقَدَرِ وَيَتَأَوَّلُونَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ وَآخَرُونَ مِنْ أَصْنَافِ الْأُمَّةِ وَإِنْ كَانَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ السُّنَّةُ فَقَدْ يَتَأَوَّلُونَ أَيْضًا مَوَاضِعَ يَكُونُ تَأْوِيلُهُمْ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَاَلَّذِينَ ادَّعَوْا الْعِلْمَ بِالتَّأْوِيلِ مِثْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْبِدَعِ رَأَوْا أَيْضًا أَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَرَأَوْا عَجْزًا وَعَيْبًا وَقَبِيحًا أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِكَلَامِ يَقْرَءُونَهُ وَيَتْلُونَهُ وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَهُ وَهُمْ مُصِيبُونَ فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ سَمْعٍ وَعَقْلٍ ؛ لَكِنْ أَخْطَئُوا فِي مَعْنَى التَّأْوِيلِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ وَفِي التَّأْوِيلِ الَّذِي أَثْبَتُوهُ وَتَسَلَّقَ بِذَلِكَ مُبْتَدِعَتُهُمْ إلَى تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ(11/295)
وَصَارَ الْأَوَّلُونَ أَقْرَبَ إلَى السُّكُوتِ وَالسَّلَامَةِ بِنَوْعِ مِنْ الْجَهْلِ وَصَارَ الْآخَرُونَ أَكْثَرَ كَلَامًا وَجِدَالًا وَلَكِنْ بِفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ وَقَوْلٍ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُونَهُ وَإِلْحَادٍ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ. فَهَذَا هَذَا. وَمَنْشَأُ الشُّبْهَةِ الِاشْتِرَاكُ فِي لَفْظِ التَّأْوِيلِ. فَإِنَّ " التَّأْوِيلَ " فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُحَدِّثَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَنَحْوِهِمْ هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ إلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ : هَذَا الْحَدِيثُ أَوْ هَذَا النَّصُّ مُؤَوَّلٌ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى كَذَا قَالَ الْآخَرُ : هَذَا نَوْعُ تَأْوِيلٍ وَالتَّأْوِيلُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ. وَالْمُتَأَوِّلُ عَلَيْهِ وَظِيفَتَانِ : بَيَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ وَبَيَانُ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلصَّرْفِ إلَيْهِ عَنْ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَتَنَازَعُونَ فِيهِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ إذَا صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ التَّأْوِيلِ أَوْ ذَمِّ التَّأْوِيلِ أَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ آيَاتُ الصِّفَاتِ لَا تُؤَوَّلُ وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا وَقَالَ الثَّالِثُ : بَلْ التَّأْوِيلُ جَائِزٌ يُفْعَلُ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ وَيُتْرَكُ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ يَصْلُحُ لِلْعُلَمَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَالتَّنَازُعِ. وَأَمَّا " التَّأْوِيلُ " فِي لَفْظِ السَّلَفِ فَلَهُ مَعْنَيَانِ : " أَحَدُهُمَا " تَفْسِيرُ(11/296)
الْكَلَامِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَوْ خَالَفَهُ فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ وَالتَّفْسِيرُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مُتَقَارِبًا أَوْ مُتَرَادِفًا
(11/297)
وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - هُوَ الَّذِي عَنَاهُ مُجَاهِدٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري يَقُولُ فِي تَفْسِيرِهِ : الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ كَذَا وَكَذَا وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمُرَادُهُ التَّفْسِيرُ. و" الْمَعْنَى الثَّانِي " فِي لَفْظِ السَّلَفِ - وَهُوَ الثَّالِثُ مِنْ مُسَمَّى التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا - : هُوَ نَفْسُ الْمُرَادِ بِالْكَلَامِ فَإِنَّ الْكَلَامَ إنْ كَانَ طَلَبًا كَانَ تَأْوِيلُهُ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا كَانَ تَأْوِيلُهُ نَفْسَ الشَّيْءِ الْمُخْبَرِ بِهِ. وَبَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى وَاَلَّذِي قَبْلَهُ بَوْنٌ ؛ فَإِنَّ الَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ التَّأْوِيلُ فِيهِ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ كَالتَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ وَالْإِيضَاحِ وَيَكُونُ وُجُودُ التَّأْوِيلِ فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لَهُ الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ وَاللَّفْظِيُّ وَالرَّسْمِيُّ. وَأَمَّا هَذَا فَالتَّأْوِيلُ فِيهِ نَفْسُ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَاضِيَةً أَوْ مُسْتَقْبَلَةً. فَإِذَا قِيلَ : طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَتَأْوِيلُ هَذَا نَفْسُ طُلُوعِهَا. وَيَكُونُ " التَّأْوِيلُ " مِنْ بَابِ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ الْخَارِجِيِّ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ هُوَ الْحَقَائِقُ الثَّابِتَةُ فِي الْخَارِجِ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِهَا وَشُؤُونِهَا وَأَحْوَالِهَا وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ لَا تُعْرَفُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْكَلَامِ وَالْإِخْبَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُ قَدْ تَصَوَّرَهَا أَوْ تَصَوَّرَ نَظِيرَهَا بِغَيْرِ كَلَامٍ وَإِخْبَارٍ ؛ لَكِنْ يَعْرِفُ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا قَدْرَ مَا أَفْهَمَهُ(11/298)
الْمُخَاطِبُ : إمَّا بِضَرْبِ
(11/299)
الْمَثَلِ وَإِمَّا بِالتَّقْرِيبِ وَإِمَّا بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْوَضْعُ وَالْعُرْفُ الثَّالِثُ هُوَ لُغَةُ الْقُرْآنِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا التَّبْيِينَ فِي ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيُوسُفَ : {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} وَقَوْلُهُ : {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} وَقَوْلُ الْمَلَأِ : {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي} وَقَوْلُ يُوسُفَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ مِصْرَ {آوَى إلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}. فَتَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي هِيَ رُؤْيَا الْمَنَامِ هِيَ نَفْسُ مَدْلُولِهَا الَّتِي تُؤَوَّلُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ : {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} وَالْعَالِمُ بِتَأْوِيلِهَا : الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ. كَمَا قَالَ يُوسُفُ : {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} أَيْ فِي الْمَنَامِ {إلَّا(11/300)
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} أَيْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا التَّأْوِيلُ.
(11/301)
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} قَالُوا : أَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَصِيرًا. فَالتَّأْوِيلُ هُنَا تَأْوِيلُ فِعْلِهِمْ الَّذِي هُوَ الرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالتَّأْوِيلُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ تَأْوِيلُ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَا. وَالتَّأْوِيلُ فِي الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْعَالِمِ : {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} إلَى قَوْلِهِ : {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} فَالتَّأْوِيلُ هُنَا تَأْوِيلُ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا الْعَالِمُ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَمِنْ قَتْلِ الْغُلَامِ وَمِنْ إقَامَةِ الْجِدَارِ فَهُوَ تَأْوِيلُ عَمَلٍ لَا تَأْوِيلُ قَوْلٍ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ مَصْدَرُ أَوَّلَهُ يُؤَوِّلُهُ تَأْوِيلًا مِثْلَ حَوَّلَ تَحْوِيلًا وَعَوَّلَ تَعْوِيلًا. وَأَوَّلَ يُؤَوِّلُ تُعَدِّيهِ آلَ يَئُولُ أَوْلًا مِثْلَ حَالَ يَحُولُ حَوْلًا. وَقَوْلُهُمْ : آلَ يَئُولُ أَيْ عَادَ إلَى كَذَا وَرَجَعَ إلَيْهِ وَمِنْهُ " الْمَآلُ " وَهُوَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الشَّيْءُ وَيُشَارِكُهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ " الْمَوْئِلُ " فَإِنَّهُ مِنْ وَأَلَ وَهَذَا مِنْ أَوِلَ. وَالْمَوْئِلُ الْمَرْجِعُ قَالَ تَعَالَى : {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}. وَمِمَّا يُوَافِقُهُ فِي اشْتِقَاقِهِ الْأَصْغَرِ " الْآلُ " فَإِنَّ آلَ الشَّخْصِ مَنْ(11/302)
يَئُولُ إلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي عَظِيمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُضَافُ إلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ الْمُضَافِ يَصْلُحُ أَنْ يَئُولَ إلَيْهِ الْآلُ كَآلِ إبْرَاهِيمَ وَآلِ لُوطٍ وَآلِ فِرْعَوْنَ بِخِلَافِ الْأَهْلِ وَالْأَوَّلُ أَفْعَلُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَأْنِيثِهِ أُولَى كَمَا قَالُوا جُمَادَى الْأُولَى. وَفِي الْقَصَصِ : {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ}. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : فَوْعَلَ وَيَقُولُ : أولة. إلَّا أَنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى شَاهِدٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ ؛ بَلْ عَدَمُ صَرْفِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْعَل لَا فَوْعَلَ فَإِنَّ فَوْعَلَ مِثْلُ كوثر وَجَوْهَرٍ مَصْرُوفٌ ، سُمِّيَ الْمُتَقَدِّمُ أَوَّلَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَئُولُ إلَيْهِ وَيُبْنَى عَلَيْهِ فَهُوَ أُسٌّ لِمَا بَعْدَهُ وَقَاعِدَةٌ لَهُ. وَالصِّيغَةُ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ لَا صِفَةٍ مِثْلُ أَكْبَرَ وَكُبْرَى وَأَصْغَرَ وَصُغْرَى لَا مِنْ بَابِ أَحْمَرَ وَحَمْرَاءَ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : جِئْته مِنْ أَوَّلِ أَمْسِ وَقَالَ : {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} فَإِذَا قِيلَ هَذَا أَوَّلُ هَؤُلَاءِ فَهُوَ الَّذِي فُضِّلَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إلَى مَا قَبْلَهُ فَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَهَذَا السَّابِقُ كُلُّهُمْ يَئُولُ إلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ تَقَدَّمَ فِي فِعْلٍ فَاسْتَنَّ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ كَانَ السَّابِقَ الَّذِي يَئُولُ الْكُلُّ إلَيْهِ فَالْأَوَّلُ لَهُ وَصْفُ السُّؤْدُدِ وَالِاتِّبَاعِ. وَلَفْظُ " الْأَوَّلِ " مُشْعِرٌ بِالرُّجُوعِ وَالْعَوْدِ و" الْأَوَّلُ " مُشْعِرٌ بِالِابْتِدَاءِ وَالْمُبْتَدَأِ ؛ (11/303)
خِلَافَ الْعَائِدِ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ أَوَّلًا لِمَا بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ :
(11/304)
أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ وأَوَّلُ يَوْمٍ فَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الرُّجُوعِ وَالْعَوْدِ هُوَ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ لَا لِلْمُضَافِ. وَإِذَا قُلْنَا : آلُ فُلَانٍ فَالْعَوْدُ إلَى الْمُضَافِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ فِي كَوْنِهِ مَآلًا وَمَرْجِعًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُفَضَّلًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَآلٌ وَمَرْجِعٌ لَا آيِلٌ رَاجِعٌ ؛ إذْ لَا فَضْلَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ رَاجِعًا إلَى غَيْرِهِ آيِلًا إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْفَضْلُ فِي كَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ وَيُؤَالُ إلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَتْ الصِّيغَةُ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ أَشْعَرَتْ بِأَنَّهُ مُفَضَّلٌ فِي كَوْنِهِ مَآلًا وَمَرْجِعًا وَالتَّفْضِيلُ الْمُطْلَقُ فِي ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّابِقَ الْمُبْتَدِئَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ مَا أَوَّلَهُ إلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ أَوْ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْكَلَامُ أَوْ مَا تَأَوَّلَهُ الْمُتَكَلِّمُ ؛ فَإِنَّ التَّفْعِيلَ يَجْرِي عَلَى غَيْرِ فِعْلٍ كَقَوْلِ : {وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَأَوَّلَ الْكَلَامُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأْوِيلًا وَتَأَوَّلْت الْكَلَامَ تَأْوِيلًا وَأَوَّلْت الْكَلَامَ تَأْوِيلًا. وَالْمَصْدَرُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الصِّفَةِ إذْ قَدْ يَحْصُلُ الْمَصْدَرُ صِفَةً بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَعَدْلِ وَصَوْمٍ وَفِطْرٍ وَبِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَدِرْهَمِ ضَرْبِ الْأَمِيرِ وَهَذَا خَلْقُ اللَّهِ. فَالتَّأْوِيلُ : هُوَ مَا أُوِّلَ إلَيْهِ الْكَلَامُ أَوْ يُؤَوَّلُ إلَيْهِ أَوْ تَأَوَّلَ هُوَ إلَيْهِ. وَالْكَلَامُ إنَّمَا يَرْجِعُ وَيَعُودُ وَيَسْتَقِرُّ وَيَؤُولُ وَيُؤَوَّلُ إلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْمَقْصُودِ بِهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ {لِكُلِّ(11/305)
نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} قَالَ حَقِيقَةٌ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ خَبَرًا فَإِلَى الْحَقِيقَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا يَئُولُ وَيَرْجِعُ وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا مَآلٌ وَلَا مَرْجِعٌ بَلْ كَانَ كَذِبًا وَإِنْ كَانَ طَلَبًا فَإِلَى الْحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبَةِ يَئُولُ وَيَرْجِعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ مَوْجُودًا وَلَا حَاصِلًا. وَمَتَى كَانَ الْخَبَرُ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا فَإِلَى الْحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمُنْتَظَرَةِ يَئُولُ كَمَا {رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} قَالَ إنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ} وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ الْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَالدُّخَانُ وَالْقَمَرُ وَالرُّومُ.(11/306)
فَصْلٌ
وَأَمَّا إدْخَالُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَوْ بَعْضِ ذَلِكَ فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ. أَوْ اعْتِقَادُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ كَمَا يَقُولُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَصَابُوا فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَقُولُونَهُ وَنَجَوْا مِنْ بِدَعٍ وَقَعَ فِيهَا غَيْرُهُمْ فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : مَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَنَقُولُ أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ فَإِنِّي مَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا غَيْرِهِ أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ الدَّاخِلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ مَعْنَاهُ. وَجَعَلُوا أَسْمَاءَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْأَعْجَمِيِّ الَّذِي لَا يُفْهَمُ وَلَا قَالُوا : إنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ وَإِنَّمَا قَالُوا كَلِمَاتٍ لَهَا مَعَانٍ صَحِيحَةٌ. قَالُوا فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ : تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ. وَنَهَوْا عَنْ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَرَدُّوهَا وَأَبْطَلُوهَا الَّتِي مَضْمُونُهَا تَعْطِيلُ النُّصُوصِ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ. وَنُصُوصُ أَحْمَد وَالْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ بَيِّنَةٌ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُبْطِلُونَ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَيُقِرُّونَ النُّصُوصَ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَاهَا وَيَفْهَمُونَ مِنْهَا بَعْضَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَمَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ نُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْفَضَائِلِ وَغَيْرِ(11/307)
ذَلِكَ. وَأَحْمَد قَدْ قَالَ فِي غَيْرِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ : تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ وَفِي أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ مِثْلَ قَوْلِهِ : {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا} وَأَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ وَمَقْصُودُهُ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُحَرَّفُ كَلِمُهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يُحَرِّفُهُ وَيُسَمَّى تَحْرِيفُهُ تَأْوِيلًا بِالْعُرْفِ الْمُتَأَخِّرِ. فَتَأْوِيلُ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ تَحْرِيفٌ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ نَصُّ أَحْمَد فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَكَلَّمَ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ الْمُتَشَابِهِ وَبَيَّنَ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيرَهُ بِمَا يُخَالِفُ تَأْوِيلَ الْجَهْمِيَّة وَجَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى سُنَنِ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ. فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَعْنَى هَذَا الْمُتَشَابِهِ وَأَنَّهُ لَا يُسْكَتُ عَنْ بَيَانِهِ وَتَفْسِيرِهِ بَلْ يُبَيَّنُ وَيُفَسَّرُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ لَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ أَوْ إلْحَادٍ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.(11/308)
وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَك مَا وَقَعَ هُنَا مِنْ الِاضْطِرَابِ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبْطَالِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُنْحَرِفِينَ الْمُلْحِدِينَ. و" التَّأْوِيلُ الْمَرْدُودُ " هُوَ صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إلَى مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ. فَلَوْ قِيلَ إنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ لَكَانَ فِي هَذَا تَسْلِيمٌ للجهمية أَنَّ لِلْآيَةِ تَأْوِيلًا يُخَالِفُ دَلَالَتَهَا لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ نَفْيُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَرَدُّهَا ؛ لَا التَّوَقُّفُ فِيهَا وَعِنْدَهُمْ قِرَاءَةُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ تَفْسِيرُهَا وَتَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ دَالَّةً عَلَى الْمَعَانِي لَا تُحَرَّفُ وَلَا يُلْحَدُ فِيهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُتَشَابِهِ لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ أَنْ نَقُولَ : لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ فِي الْقُرْآنِ بِأَسْمَاءِ مِثْلِ الرَّحْمَنِ وَالْوَدُودِ وَالْعَزِيزِ وَالْجَبَّارِ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّءُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ مِثْلِ " سُورَةِ الْإِخْلَاصِ " و" آيَةِ الْكُرْسِيِّ " وَأَوَّلِ " الْحَدِيدِ " وَآخِرِ " الْحَشْرِ " وَقَوْلِهِ : {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} و{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَأَنَّهُ {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} و{الْمُقْسِطِينَ} و{الْمُحْسِنِينَ} وَأَنَّهُ يَرْضَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ}(11/309)
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}. {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}. {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}. {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} - إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لِمَنْ ادَّعَى فِي هَذَا أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ : أَتَقُولُ هَذَا فِي جَمِيعِ مَا سَمَّى اللَّهُ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ فَإِنْ قُلْت : هَذَا فِي الْجَمِيعِ كَانَ هَذَا عِنَادًا ظَاهِرًا وَجَحْدًا لِمَا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ كُفْرٌ صَرِيحٌ. فَإِنَّا نَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ : {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} مَعْنًى وَنَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ : {إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مَعْنًى لَيْسَ هُوَ الْأَوَّلَ وَنَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} مَعْنًى وَنَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ : {إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} مَعْنًى. وَصِبْيَانُ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَكُلُّ عَاقِلٍ يَفْهَمُ هَذَا.أ هـ {مجموع الفتاوى حـ 13 صـ 273 ـ 297}(11/310)
قوله تعالى {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما علم بذلك أن الراسخين أيقنوا أنه من عند الله المستلزم لأنه لا عوج فيه أخبر أنهم أقبلوا على التضرع إليه في أن يثبتهم بعد هدايته ثم أن يرحمهم ببيان ما أشكل عليهم بقوله حاكياً عنهم وهو في الحقيقة تلقين منه لهم لطفاً بهم مقدماً ما ينبغي تقديمه من السؤال في تطهير القلب عما لا ينبغي على طلب تنويره بما ينبغي لأن إزالة المانع قبل إيجاد المقتضي عين الحكمة : {ربنا} أي المحسن إلينا {لا تزغ قلوبنا} أي عن الحق.
ولما كان صلاح القلب صلاح الجملة وفساده فسادها وكان ثبات الإنسان على سنن الاستقامة من غير عوج أصلاً مما لم يجر به سبحانه وتعالى عادته لغير المعصومين قال نازعاً الجار مسنداً الفعل غلى ضمير الجملة : {بعد إذ هديتنا} إليه.
وقال الحرالي : ففي إلاحة معناه أن هذا الابتهال واقع من أولي الألباب ليترقوا من محلهم من التذكر إلى ما هو أعلى وأبطن انتهى.
فلذلك قالوا : {وهب لنا من لدنك} أي أمرك الخاص بحضرتك القدسية ، الباطن عن غير خواصك {رحمة} أي فضلاً ومنحة منك ابتداء من غير سبب منا ، ونكرها تعظيماً بأن أيسر شيء منها يكفي الموهوب.
ولما لم يكن لغيره شيء أصلاً فكان كل عطاء من فضله قالوا وقال الحرالي : ولما كان الأمر اللدني ليس مما في فطر الخلق وجبلاتهم وإقامة حكمتهم ، وإنما هو موهبة من الله سبحانه وتعالى بحسب العناية ختم بقوله : {إنك أنت الوهاب} وهي صيغة مبالغة من الوهب والهبة ، وهي العطية سماحاً من غير قصد من الموهوب انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 26}
فصل
قال الفخر : (11/311)
اعلم أنه تعالى كما حكى عن الراسخين أنهم يقولون آمنا به حكي عنهم أنهم يقولون {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا} وحذف {يَقُولُونَ} لدلالة الأول عليه ، وكما في قوله {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} [ آل عمران : 191 ] وفي هذه الآية اختلف كلام أهل السنة وكلام المعتزلة.
أما كلام أهل السنة فظاهر ، وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان ، وصالح لأن يميل إلى الكفر ، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى ، فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر ، فهي الخذلان ، والإزاغة ، والصد ، والختم ، والطبع ، والرين ، والقسوة ، والوقر ، والكنان ، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن ، وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي : التوفيق ، والرشاد ، والهداية ، والتسديد ، والتثبيت ، والعصمة ، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن " والمراد من هذين الأصبعين الداعيتان ، فكما أن الشيء الذي يكون بين أصبعي الإنسان يتقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الأصبعين ، فكذلك القلب لكونه بين الداعيتين يتقلب كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين ، ومن أنصف ولم يتعسف ، وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس ، ولو جوّز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر لزمه نفي الصانع وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك " ومعناه ما ذكرنا فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه وتعالى في أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل بعد أن جعلها مائلة إلى الحق ، فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني.(11/312)
ومما يؤكد ما ذكرناه أن الله تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتبعون المتشابهات ، بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال ، وترك الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه فلا بد وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن من المحكمات ، ثم إن الله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم بسبب أنهم قالوا ذلك ، وهذا يدل على أن هذه الآية من أقوى المحكمات ، وهذا كلام متين.
وأما المعتزلة فقد قالوا : لما دلّت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يكون بفعل الله تعالى ، وجب صرف هذه الآية إلى التأويل ، فأما دلائلهم فقد ذكرناها في تفسير قوله تعالى : {سَوَاء عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [ البقرة : 6 ].(11/313)
ومما احتجوا به في هذا الموضع خاصة قوله تعالى : {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [ الصف : 5 ] وهو صريح في أن ابتداء الزيغ منهم ، وأما تأويلاتهم في هذه الآية فمن وجوه الأول : وهو الذي قاله الجبائي واختاره القاضي : أن المراد بقوله {لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} يعني لا تمنعها الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان ، وذلك لأنه تعالى لما منعهم ألطافه عند استحقاقهم منع ذلك جاز أن يقال : أزاغهم ويدل على هذا قوله تعالى : {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [ الصف : 5 ] والثاني : قال الأصم : لا تبلنا ببلوى تزيغ عندها قلوبنا فهو كقوله {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دياركم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} [ النساء : 66 ] وقال : {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ} [ الزخرف : 33 ] والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ ، وقد يقول القائل : لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذياً لك الثالث : قال الكعبي {لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي لا تسمنا باسم الزائغ ، كما يقال : فلان يكفر فلاناً إذا سماه كافراً ، والرابع : قال الجبائي : أي لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك بعد إذ هديتنا ؛ وهذا قريب من الوجه الأول إلا أن يحمل على شيء آخر ، وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال ، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر ، فقوله {لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} محمول على أن يميته قبل أن يصير كافراً ، وذلك لأن إبقاءه حياً إلى السنة الثانية يجري مجرى ما إذا أزاغه عن طريق الجنة الخامس : قال الأصم {لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل السادس : قال أبو مسلم : احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ ، فهذا جمل ما ذكروه في تأويل هذه الآية وهي بأسرها ضعيفة.(11/314)
أما الأول : فلأن من مذهبم أن كل ما صحّ في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لطفاً وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلهيته ، ولصار جاهلاً ومحتاجاً والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجة إلى الدعاء في طلبه بل هذا القول يستمر على قول بشر بن المعتمر وأصحابه الذين لا يوجبون على الله فعل جميع الألطاف.
وأما الثاني : فضعيف ، لأن التشديد في التكليف إن علم الله تعالى له أثراً في حمل المكلف على القبيح قبح من الله تعالى ، وإن علم الله تعالى أنه لا أثر له ألبتة في حمل المكلف على فعل القبيح كان وجوده كعدمه فيما يرجع إلى كون العبد مطيعاً وعاصياً ، فلا فائدة في صرف الدعاء إليه.
وأما الثالث : فهو أن التسمية بالزيغ والكفر دائر مع الكفر وجوداً وعدماً والكفر والزيغ باختيار العبد ، فلا فائدة في قوله لا تسمنا باسم الزيغ والكفر.
وأما الرابع : فهو أنه لو كان علمه تعالى بأنه يكفر في السنة الثانية ، يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأن لا يؤمن قط ويكفر طول عمره يوجب عليه لا يخلقه.
وأما الخامس : وهو حمله على إبقاء العقل فضعيف ، لأن هذا متعلق بما قال قبل هذه الآية {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [ آل عمران : 7 ].
وأما السادس : وهو أن الحراسة من الشيطان ومن شرور النفس إن كان مقدوراً وجب فعله ، فلا فائدة في الدعاء وإن لم يكن مقدوراً تعذر فعله فلا فائدة في الدعاء ، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الوجوه ، وأن الحق ما ذهبنا إليه.
فإن قيل : فعلى ذلك القول كيف الكلام في تفسير قوله تعالى : {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [ الصف : 5 ].
قلنا : لا يبعد أن يقال إن الله تعالى يزيغهم ابتداء فعند ذلك يزيغون ، ثم يترتب على هذا الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى وكل ذلك لا منافاة فيه.(11/315)
أما قوله تعالى : {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} أي بعد أن جعلتنا مهتدين ، وهذا أيضاً صريح في أن حصول الهداية في القلب بتخليق الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 155 ـ 157}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} في الكلام حذف تقديره يقولون.
وهذا حكاية عن الراسخين.
ويجوز أن يكون المعنى قل يا محمد ، ويقال : إزاغة القلب فسادٌ ومَيْل عن الدِّين ، أفكانوا يخافون وقد هُدُوا أن ينقلهم الله إلى الفساد ؟ فالجواب أن يكونوا سألوا إذ هداهم الله ألاّ يبتليهم بما يثقُل عليهم من الأعمال فَيَعْجِزوا عنه ؛ نحو {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ} [ النساء : 66 ] قال ابن كيسان : سألوا ألا يَزِيغوا فيُزِيغ الله قلوبهم ؛ نحو {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [ الصف : 5 ] أي ثبِّتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نَزيغ فنستحق أن تُزيغ قلوبنا.
وقيل : هو منقطع مما قبلُ ؛ وذلك أنه تعالى لما ذكر أهل الزيغ عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذُكِرت وهي أهل الزّيْغ.
وفي ( الموطأ ) عن أبي عبد الله الصنابِحِيّ أنه قال : قدِمتُ المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليتُ وراءه المغرب ، فقرأ في الركعتين الأُوليين بأُمّ القرآن وسورة من قصار المُفَصَّل ، ثم قام في الثالثة ، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه ، فسمعته يقرأ بأُمّ القرآن وهذه الآية {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية.
قال العلماء : قراءته بهذه الآية ضرْبٌ من القُنوتْ والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردّة.
والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم ، وفي كل صلاة أيضاً إذا دهِم المسلمين أمرٌ عظيم يُفزعهم ويخافون منه على أنفسهم.(11/316)
وروى الترمِذِيّ من حديث " شَهْر بن حَوْشَب قال قلت لأُمّ سَلَمة : يا أُمّ المؤمنين ، ما كان أكثَرُ دعاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت : كان أكثر دعائه "يا مُقَلِّب القلوب ثَبِّتْ قلبي على دِينك".
فقلت : يا رسول الله ، ما أكثر دعاءَك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك! قال : "يا أُمّ سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ".
فتلا معاذ {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْد إذْ هَدَيْتَنَا} " قال : حديث حسن.
وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم : إن الله لا يضِل العباد.
ولو لم تكن الإزاغة من قِبله لما جاز أن يُدْعَى في دفع ما لا يجوز عليه فعلُه.
وقرأ أبو واقد الجرّاح "لا تَزِغْ قُلُوبَنَا" بإسناد الفعل إلى القلوب ، وهذه رغبة إلى الله تعالى.
ومعنى الآية على القراءتين ألا يكون منك خلق الزيغ فيها فتزيغ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 19 ـ 20}
لطيفة
قال الخازن :
وإنما خص القلوب بالذكر لفائدة وهي أن الله تعالى جعل القلوب ، محلاً للخواطر والإرادات والنيات وهي مقدمات الأفعال ثم جعل سائر الجوارح تابعة للقلوب في الحركات والسكنات والله أعلم. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 213}(11/317)
فائدة
قال ابن عاشور :
زيغ القلب يتسبب عن عوارض تعرض للعقل : من خلل في ذاته ، أو دواع من الخلطة أو الشهوة ، أو ضعف الإرادة ، تحول بالنفس عن الفضائل المتحلية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس فتذودها النفس عنها بما استقر في النفس من تعاليم الخير المسماة بالهدى ، ولا يدري المؤمن ، ولا العاقل ، ولا الحكيم ، ولا المهذب : أية ساعة تحل فيها به أسباب الشقاء ، وكذلك لا يدري الشقي ، ولا المنهمك ، الأفن : أية ساعة تحف فيها به أسباب الإقلاع عما هو متلبس به من تغير خلق ، أو خلق ، أو تبدل خليط ، قال تعالى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام : 110] ولذا كان دأب القرآن قرن الثناء بالتحذير ، والبشارة بالإنذار. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 29}
فائدة
قال الآلوسى :
" أخرج الحكيم الترمذي من طريق عتبة بن عبد الله بن خالد بن معدان عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما الإيمان بمنزلة القميص مرة تقمصه ومرة تنزعه " والروايات بمعنى ذلك كثيرة وهي تدل على جواز عروض الكفر بعد الإيمان بطروّ الشك مثلاً والعياذ بالله تعالى ، وفي كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضاً ما يدل على ذلك فقد أخرج ابن سعد عن أبي عطاف أن أبا هريرة كان يقول أي رب لا أزنين أي رب لا أسرقن أي رب لا أكفرن قيل له : أوَ تخاف ؟ قال : آمنت بمحرف القلوب ثلاثاً ، وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء قال : "كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال : اجلس يا عويمر فلنؤمن ساعة فنجلس فنذكر الله تعالى على ما يشاء ثم قال : يا عويمر هذه مجالس الإيمان إن مثل الإيمان ومثلك كمثل قميصك بينا أنا قد نزعته إذ لبسته وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته يا عويمر للقلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً" ، وعن أبي أيوب الأنصاري "ليأتين على الرجل أحايين وما في جلده موضع إبرة من النفاق وليأتين عليه أحايين وما في جلده موضع إبرة من إيمان.(11/318)
وادعى بعضهم أن هذا بالنسبة إلى الإيمان الغير الكامل وما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما بعد حصول الإيمان الكامل والتصديق الجازم والعلم الثابت المطابق فلا يتصور رجعة وكفر أصلاً لئلا يلزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال والتزم تأويل جميع ما يدل على ذلك ، ولا يخفى أن هذا القول مما يكاد يجر إلى الأمن من مكر الله تعالى والتزام تأويل النصوص لشبهة اختلجت في الصدر هي أوهن من بيت العنكبوت في التحقيق مما لا يقدم عليه من له أدنى مسكة كما لا يخفى فتدبر. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 90}
قوله تعالى : {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً}
قال الفخر :
اعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مقدم على تنويره مما ينبغي ، فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولاً أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة ، ثم أنهم ابتغوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة ، وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة ، وإنما قال : {رَحْمَةً} ليكون ذلك شاملاً لجميع أنواع الرحمة ، فأولها : أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة ، وثانيها : أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة ، وثالثها : أن يحصل في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ورابعها : أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت وخامسها : أن يحصل في القبر سهولة السؤال ، وسهولة ظلمة القبر.(11/319)
وسادسها : أن يحصل في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وترجيح الحسنات فقوله {مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} يتناول جميع هذه الأقسام ، ولما ثبت بالبراهين الباهرة القاهرة أنه لا رحيم إلا هو ، ولا كريم إلا هو ، لا جرم أكد ذلك بقوله {مِن لَّدُنْكَ} تنبيهاً للعقل والقلب والروح على أن المقصود لا يحصل إلا منه سبحانه ، ولما كان هذا المطلوب في غاية العظمة بالنسبة إلى العبد لا جرم ذكرها على سبيل التنكير ، كأنه يقول : أطلب رحمة وأية رحمة ، أطلب رحمة من لدنك ، وتليق بك ، وذلك يوجب غاية العظمة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 157 ـ 158}
وقال ابن عاشور :
وقوله {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} طلبوا أثر الدوام على الهدى وهو الرحمة ، في الدنيا والآخرة ، ومنع دواعي الزيغ والشر. وجعلت الرحمة من عند الله لأن تيسير أسبابها ، وتكوين مهيئاتها ، بتقدير الله ؛ إذ لو شاء الله لكان الإنسان معرضا لنزول المصائب والشرور في كل لمحة ؛ فإنه محفوف بموجودات كثيرة ، حية وغير حية ، هو تلقائها في غاية الضعف ، لولا لطف الله به إيقاظ عقله لاتقاء الحوادث ، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة ، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه ، وبجعل تلك القوى الغالبة له قوى عمياء لا تهتدي سبيلا إلى قصده ، ولا تصادفه إلا على سبيل الندور ولهذا قال تعالى {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى : 19] ومن أجلى مظاهر اللطف أحوال الاضطرار والالتجاء وقد كنت قلت كلمة اللطف عند الاضطرار. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 30}
فائدة
قال الطبرى : (11/320)
وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم ، وأن يعطيهم رحمةً منه معونة لهم للثبات على ما هُم عليه من حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون ما أبان عن خطأ قول الجهَلة من القدَرية : أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها ، جَوْرٌ. لأن ذلك لو كان كما قالوا ، لكان الذين قالوا : "ربنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذ هدَيتنا" ، بالذم أولى منهم بالمدح. لأن القول لو كان كما قالوا ، لكان القوم إنما سألوا ربَّهم بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم أن لا يظلمهم ولا يجورَ عليهم. وذلك من السائل جهلٌ ، لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عبادَه ولا يجور عليهم. وقد أعلم عبادَه ذلك ونَفاه عن نفسه بقوله : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) [سورة فصلت : 46]. ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها. وفي فساد ما قالوا من ذلك ، الدليلُ الواضح على أن عدلا من الله عز وجل : إزاغةُ من أزاغَ قلبه من عباده عن طاعته ، فلذلك استحقّ المدحَ مَنْ رغب إليه في أن لا يزيغه ، لتوجيهه الرغبة إلى أهلها ، ووضعه مسألته موضعها ، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته إلى ربه في ذلك ، مع محله منه وكرامته عليه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 212 ـ 213}
وقال الآلوسى :
{رَحْمَةً} مفعول لـ {هب} وتنوينه للتفخيم ، والمراد بالرحمة الإحسان والإنعام مطلقاً ، وقيل : الإنعام المخصوص وهو التوفيق للثبات على الحق ، وفي سؤال ذلك بلفظ الهبة إشارة إلى أن ذلك منه تعالى تفضل محض من غير شائبة وجوب عليه عز شأنه وتأخير المفعول الصريح للتشويق. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 90}
وقال أبو حيان : (11/321)
{وهب لنا من لدنك رحمة} سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة ، لأن الهبة كذلك تكون ، وخصوها بأنها من عنده ، والرحمة إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة ، بل يكون المعنى : نعيماً ، أو ثواباً صادراً عن الرحمة.
ولما كان المسؤول صادراً عن الرحمة ، صح أن يسألوا الرحمة إجراءً للسبب مجرى المسبب وقيل : معنى رحمة توفيقاً وسداداً وتثبيتاً لما نحن عليه من الإيمان والهدى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 403}
قوله تعالى : {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب}
قال الفخر :
{إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} كأن العبد يقول : إلهي هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلي ، لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك ، وغاية جودك ورحمتك ، فأنت الوهاب الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك وكرمك ، يا دائم المعروف ، يا قديم الإحسان ، لا تخيب رجاء هذا المسكين ، ولا ترد دعاءه ، واجعله بفضلك أهلاً لرحمتك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 158}
وقال أبو السعود :
{إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤولِ وأنت إما مبتدأٌ أو فصلٌ أو تأكيدٌ لاسم إنّ وإطلاقُ الوهاب ليتناول كلَّ موهوب ، وفيه دِلالة على أن الهدى والضلال من قِبله تعالى وأنه متفضّلٌ بما يُنعم به على عباده من غير أن يجب عليه شيء. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 9}
وقال ابن عاشور :
والقصر في قوله {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} للمبالغة ، لأجل كمال الصفة فيه تعالى ؛ لأن هبات الناس بالنسبة لما أفاض الله من الخيرات شيء لا يعبأ به. وفي هذه الجملة تأكيد بأن ، وبالجملة الاسمية ، وبطريق القصر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 30}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية(11/322)
ما ازدادوا قرباً إلا ازدادوا أدباً ، واللياذ إلى التباعد أقوى أسباب رعاية الأدب ويقال حين صدقوا في حسن الاستعانة أُمِدُّوا بأنوار الكفاية. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 221}
فائدة
قال السعدى :
وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد :
إحداها : العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله ، المبين لأحكامه وشرائعه ،
الثانية : الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم ، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققا ، وعارفا مدققا ، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه ، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علما وحالا وعملا
الثالثة : أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه ، بقوله {يقولون آمنا به كل من عند ربنا}
الرابعة : أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون ،
الخامسة : اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}
السادسة : أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر ، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب ،
السابعة : أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه ، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل. أ هـ {تفسير السعدى صـ 123}
فائدة
قال سهل : ليس للعبد حيلة سوى أن يواظب في جميع عمره على قول : " رب سلم سلم ، الأمان الأمان ، الغوث الغوث " .
قال الله تعالى : {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [ الأعراف : 29 ] يعني ينبغي للموحد أن يعلم يقيناً أنه ليس كل من أجل الحق أحبه ، لأن إبليس قابله بعلاء الحب فقال : {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [ الإسراء : 61 ] وأنت الله لا يجوز أن يعبد غيرك ، حتى لعنه . فليس كل من تقرب إليه قبله وليس كل من أطاعه قبل طاعته ، إنه بصير بما في الضمير ، فلا يأمن أحد أن يفعل به كما فعل بإبليس لعنه بأنوار عصمته ، وهو عنده في حقائق لعنته ، ستر عليه ما سبق منه إليه حتى عاقبه بإظهاره عليه ، فليس للعبد إلاَّ استدامة الغوث بين يديه.
قال : وموضع الإيمان بالله تعالى القلب ، وموضع الإسلام الصدر ، وفيه تقع الزيادة والنقصان. أ هـ {تفسير التسترى صـ 67} بتصرف يسير.(11/323)
قوله تعالى {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان من المعلوم من أول ما فرغ السمع من الكتاب في الفاتحة وأول البقرة وأثنائها أن للناس يوماً يدانون فيه وصلوا بقولهم السابق قوله : {ربنا إنك جامع} قال الحرالي : من الجمع ، وهو ضم ما شأنه الافتراق والتنافر لطفاً أو قهراً انتهى.
{الناس} أي كلهم {ليوم} أي يدانون فيه {لا ريب فيه} ثم عللوا نفي الريب بقولهم عادلين عن الخطاب آتين بالاسم الأعظم لأن المقام للجلال : {إن الله} أي المحيط بصفات الكمال {لا يخلف} ولما كان نفي الخلف في زمن الوعد ومكانه أبلغ من نفي خلافه نفسه عبر بالمفعال فقال : {الميعاد} وقال الحرالي : هو مفعال من الوعد ، وصيغ لمعنى تكرره ودوامه ، والوعد العهد في الخير انتهى.(11/324)
وكل ذلك تنبيهاً على أنه يجب التثبت في فهم الكتاب والإحجام عن مشكله خوفاً من الفضيحة يوم الجمع يوم يساقون إليه ويقفون بين يديه ، فكأنه تعالى يقول للنصارى : هب أنه أشكل عليكم بعض أفعالي وأقوالي في الإنجيل فهلا فعلتم فعل الراسخين فنزهتموني عما لا يليق بجلالي من التناقض وغيره ، ووكلتم أمر ذلك إليّ ، وعولتم في فتح مغلقه عليّ خوفاً من يوم الدين ؟ قال ابن الزبير : ثم لما بلغ الكلام إلى هنا أي إلى آيه التصوير كان كأنه قد قيل : فكيف طرأ عليهم ما طرأ مع وجود الكتب ؟ أخبر تعالى بشأن الكتاب وأنه محكم ومتشابه ، وكذا عيره من الكتب والله سبحانه وتعالى أعلم ، فحال أهل التوفيق تحكيم المحكم ، وحال أهل الزيغ اتباع المتشابه والتعلق به ، وهذا بيان لقوله : {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} [ البقرة : 26 ] وكل هذا بيان لكون الكتاب العزيز أعظم فرقان وأوضح بيان إذ قد أوضح أحوال المختلفين ومن أين أتى عليهم مع وجود الكتب ، وفي أثناء ذلك تنبيه العباد على عجزهم وعدم استبدادهم لئلا يغتر الغافل فيقول مع هذا البيان ووضوح الأمر : لا طريق إلى تنكب الصراط ، فنبهوا حين علموا الدعاء من قوله : {وإياك نستعين} [ الفاتحة : 4 ] ثم كرر تنبيههم لشدة الحاجة ليذكر هذا أبداً ، ففيه معظم البيان ، ومن اعتقاد الاستبداد ينشأ الشرك الأكبر إذ اعتقاد الاستبداد بالأفعال إخراج لنصف الموجودات عن يد بارئها {والله خلقكم وما تعملون} [ الصافات : 96 ] فمن التنبيه {إن الذين كفروا} [ البقرة : 6 ] ومنه : {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} [ البقرة : 26 ] ومنه {آمن الرسول} [ البقرة : 285 ] إلى خاتمتها ، هذا من جلي التنبيه ومحكمه ، ومما يرجع إليه ويجوز معناه بعد اعتباره : {وإلهكم إله واحد} [ البقرة : 163 ] وقوله : {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [ البقرة : 255 ] ، فمن رأى الفعل أو بعضه لغيره تعالى حقيقة فقد قال بإلهية غيره ، ثم حذروا أشد(11/325)
التحذير لما بين لهم فقال تعالى : {إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد} [ آل عمران : 4 ] ثم ارتبطت الآيات إلى آخرها انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 26 ـ 27}
قال الفخر :
اعلم أن هذا الدعاء من بقية كلام الراسخين في العلم ، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية منقرضة ، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفاً وكلامك لا يكون كذباً ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ، ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين ، بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد ، فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 158}
فائدة
قال الفخر :
قوله {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} تقديره : جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه ، فحذف لكون المراد ظاهراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 158}
لطيفة
قال ابن عاشور :
قوله : {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} استحضروا عند طلب الرحمة أحْوجَ ما يكونون إليها ، وهو يومُ تكونُ الرحمة سبباً للفوز الأبدي ، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءَهم على سبيل الإيجاز ، كأنّهم قالوا : وهب لنا من لدنك رحمة ، وخاصّة يوم تجمّع الناس كقول إبراهيم : {ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} [ إبراهيم : 41 ] على ما في تذكّر يوم الجمع من المناسبة بعد ذكر أحوال الغواة والمهتدين ، والعلماءِ الراسخين.
ومعنى {لا ريب فيه} لا ريب فيه جديراً بالوقوع ، فالمراد نفي الريب في وقوعه.(11/326)
ونفوه على طريقه نفي الجنس لعدم الاعتداد بارتياب المرتابين ، هذا إذا جعلتَ ( فيه ) خبراً ، ولك أن تجعله صفةً لريبَ وتجعلَ الخبر محذوفاً على طريقة لا النافية للجنس ، فيكون التقدير : عندنا ، أو لَنَا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 30}
وقال الآلوسى :
{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس} المكلفين وغيرهم {لِيَوْمِ} أي لحساب يوم ، أو لجزاء يوم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تهويلاً لما يقع فيه ، وقيل : اللام بمعنى إلى أي جامعهم في القبول إلى يوم {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لا ينبغي أن يرتاب في وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء ، وقيل : الضمير المجرور للحكم أي لا ريب في هذا الحكم ، فالجملة على الأول صفة ليوم ، وعلى الثاني لتأكيد الحكم ومقصودهم من هذا كما قال غير واحد عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها المقصد الأسني عندهم ، والتأكيد لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين بأحوال الآخرة لمزيد الرغبة في استنزال طائر الإجابة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 91}
وقال أبو حيان :
ومعنى : ليوم لا ريب فيه ، أي : لجزاء يوم ، ومعنى : لا ريب فيه ، لا شك في وجوده لصدق من أخبر به ، وإن كان يقع للمكذب به ريب فهو بحال ما لا ينبغي أن يرتاب فيه.
وقيل : اللام ، بمعنى : في ، أي : في يوم ، ويكون المجموع لأجله لم يذكر ، وظاهر هذا الجمع أنه الحشر من القبور للمجازاة ، فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، ويدل على أنه مستقبل قراءة أبي حاتم : جامع الناس ، بالتنوين ، ونصب : الناس.(11/327)
وقيل : معنى الجمع هنا أنه يجمعهم في القبور ، وكأن اللام تكون بمعنى إلى للغاية ، أي : جامعهم في القبور إلى يوم القيامة ، ويكون اسم الفاعل هنا لم يلحظ فيه الزمان ، إذ من الناس من مات ، ومنهم من لم يمت ، فنسب الجمع إلى الله من غير اعتبار الزمان ، والضمير في : فيه ، عائد على اليوم ، إذ الجملة صفة له ، ومن أعاده على الجمع المفهوم من جامع ، أو على الجزاء الدال عليه المعنى ، فقد أبعد. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 404}
فصل
قال الفخر :
قال الجبائى : إن كلام المؤمنين تم عند قوله {لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} فأما قوله {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} فهو كلام الله عزّ وجلّ ، كأن القوم لما قالوا {إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} صدقهم الله تعالى في ذلك وأيد كلامهم بقوله {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} كما قال حكاية عن المؤمنين في آخر هذه السورة {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} [ آل عمران : 194 ] ومن الناس من قال : لا يبعد ورود هذا على طريقة العدول في الكلام من الغيبة إلى الحضور ، ومثله في كتاب الله تعالى كثير ، قال تعالى : {حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ} [ يونس : 22 ].
فإن قيل : فلم قالوا في هذه الآية {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} وقالوا في تلك الآية {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد}.(11/328)
قلت : الفرق - والله أعلم - أن هذه الآية في مقام الهيبة ، يعني أن الإلهية تقتضي الحشر والنشر لينتصف المظلومين من الظالمين ، فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام ، أما قوله في آخر السورة {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} [ آل عمران : 194 ] فذاك المقام مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله ، وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن المقام مقام الهيبة ، فلا جرم قال : {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 158 ـ 159}
فصل
قال الفخر :
احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق ، قال : وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ، بدليل قوله تعالى : {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا} [ الأعراف : 44 ] والوعد والموعد والميعاد واحد ، وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد فكان هذا دليلاً على أنه لا يخلف في الوعيد.
والجواب : لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقاً ، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل ، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه يوعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ، أما قوله تعالى : {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا}.(11/329)
قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك كما في قوله {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [ آل عمران : 21 ] وقوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [ الدخان : 49 ] وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله ، فكان المراد من الوعد تلك المنافع ، وتمام الكلام في مسألة الوعيد قد مرّ في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {بَل مَن كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} [ البقرة : 81 ] وذكر الواحدي في البسيط طريقة أخرى ، فقال : لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب ، قال : والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك ، قال الشاعر :
إذ وعد السراء أنجز وعده.. وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وروى المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء ، وبين عمرو بن عبيد ، قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد : ما تقول في أصحاب الكبائر ؟ قال : أقول إن الله وعد وعداً ، وأوعد إيعاداً ، فهو منجز إيعاده ، كما هو منجز وعده ، فقال أبو عمرو بن العلاء : إنك رجل أعجم ، لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب ، إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما وأنشد :
وإني وإن أوعدته أو وعدته.. لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام قال له عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو فهل يسمى الله مكذب نفسه ؟ فقال : لا ، فقال عمرو بن عبيد : فقد سقطت حجتك ، قالوا : فانقطع أبو عمرو بن العلاء.
(11/330)
وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قست الوعيد على الوعد وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ، وذلك لأن الوعد حق عليه والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم ، فظهر الفرق بين الوعد والوعيد ، وبطل قياسك ، وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق ، فأما قولك : لو لم يفعل لصار كاذباً ومكذباً نفسه ، فجوابه : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتاً جزماً من غير شرط ، وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو ، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى ، فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 159 ـ 160}
قوله تعالى : {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد}
قال السمرقندى :
{إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد}
في البعث ويقال معناه {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} في إجابة الدعاء يعني يوم يجمع الناس في الآخرة. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 220}
وقال الآلوسى : (11/331)
{إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب ، وقيل : تأكيد بعد تأكيد للحكم السابق وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات للإشارة إلى تعظيم الموعود والإجلال الناشيء من ذكر اليوم المهيب الهائل ، وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية للإخلاف ؛ وهذا بخلاف ما في آخرة السورة حيث أتى بلفظ الخطاب فيه لما أن مقامه مقام طلب الإنعام ، وقال الكرخي : الفرق بينهما أن ما هنا متصل بما قبله اتصالاً لفظياً فقط وما في الآخرة متصل اتصالاً معنوياً ولفظياً لتقدم لفظ الوعد ، وجوز أن تكون هذه الجملة من كلامه تعالى لتقرير قول الراسخين لا من كلام الراسخين فلا التفات حينئذ ، قال السفاقسي : وهو الظاهر و( الميعاد ) مصدر ميمي بمعنى الحدث لا بمعنى الزمان والمكان وهو اللائق بمفعولية يخلف وياؤه منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 91}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
اليوم جمع الأحباب على بساط الاقتراب ، وغداً جمع الكافة لمحل الثواب والعقاب ، اليوم جمع الأسرار لكشف الجلال والجمال ، وغداً جمع الأبشار لشهود الأحوال ، ومقاساة ما أخبر عنه من تلك الأحوال. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 221 ـ 222}(11/332)
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تحقق أن يوم الجمع كائن لا محالة تحقق أن من نتائجه تحقيقاً لعزته سبحانه وتعالى وانتقامه من الكفرة قوله تعالى : {إن الذين كفروا} أي الذين يظنون لسترهم ما دلت عليه مرأى عقولهم أنهم يمتنعون من أمر الله لأنهم يفعلون في عصيانه وعداوة أوليائه فعل من يريد المغالبه {لن تغني عنهم أموالهم} أي وإن كثرت ، وقدمها لأن بها قوام ما بعدها وتمام لذاته ، وأكد بإعادة النافي ليفيد النفي عن كل حالة وعن المجموع فيكون أصرح في المرام {ولا أولادهم} وإن جلت وعظمت {من الله} أي الملك الأعظم {شيئاً} أي من إغناء مبتدئاً من جهة الله ، وإذا كانت تلك الجهة عارية عما يغني كان كل ما يأتيهم من قبله سبحانه وتعالى من بأس واقعاً بهم لا مانع له ، فمهما أراد بهم كان من خذلان في الدنيا وبعث بعد الموت وحشر بعد البعث وعذاب في الآخرة ، فأولئك المعرضون منه لكل بلاء {وأولئك هم وقود النار} وفي ذلك أعظم تنبيه على أن الزائغين الذين خالفوا الراسخين فوقفت بهم نعمه المقتضيه لتصديقه عن تصديقه ليست مغنية عنهم تلك النعم شيئاً ، وأنهم مغلوبون لا محالة في الدنيا ومحشورون في الآخرة إلى جهنم.
ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد كان الأليق بخطابها أن يكون الدعاء فيه إلى الزهد أتم من الدعاء في غيرها ، والإشارة فيه إلى ذلك أكثر من الإشارة في غيره ، فكانت هذه الآية قاطعة للقلوب النيرة بما أشارت إليه من فتنة الأموال والأولاد الموجبة للهلاك.(11/333)
قال الحرالي : ولما كان من مضمون ترجمة سورة البقرة إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على سر التقدير الذي صرف عن الجواب فيه وإظهار سره موسى كليم الله وعيسى كلمة الله عليهما الصلاة والسلام كان مما أظهره الله سبحانه وتعالى لعامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم إعلاء لها على كل أمة ، واختصاصاً لها بما علا اختصاص نبيها صلى الله عليه وسلم حتى قال قائلهم : أخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني لقوم لم يظهروا على سر القدر ، وقال : والذي يحلف به عبد الله بن عمر : لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر ، فأفهم الله سبحانه وتعالى علماء هذه الأمة أن أعمالها لا تقبل إلا على معرفة سر التقدير لتكون قلوبها بريئة من أعمال ظواهرها ، كما قيل في أثارة من العلم : من لم يختم عمله بالعلم لم يعمل ، ومن لم يختم علمه بالجهل لم يعلم فختم العامل عمله بالعلم أن يعلم أنه لا عمل له ، وأن المجرى على يديه أمر مقدر قدره الله تعالى عليه وأقامه فيه لما خلقه له من حكمته من وصفه من خير أو شر ومن تمام كلمته في رحمته أو عقوبته ليظهر بذلك حكمة الحكيم ، ولا حجة للعبد على ربه ولا حجة للصنعة على صانعها ولله سبحانه وتعالى الحجة البالغة ؛ وكذلك العالم متى لم ينطو سره على أنه لا يعلم وإنما العلم عند الله سبحانه وتعالى لم يثبت له علم ، فذلك ختم العمل بالعمل وختم العلم بالجهل ، فكما أطلعه سبحانه وتعالى في فاتحة سورة البقرة على سر تقديره في خلقه أظهره في فاتحة سورة آل عمران على علن قيوميته الذي هو شاهده في وحي ربه ، كما هو بصير بسر القدر في تفرق أفعال خلقه ، فكان منزل سورة البقرة قوام الأفعال ومنزل سورة آل عمران قوام التنزيل والإنزال فكان علن القيومية قوام التنزيل للكتاب الجامع الأول ، والتنزيل قوام إنزال الكتب ، وإنزال الكتاب الجامع لتفسير الكتب قوام تفصيل الآيات المحكمات والمتشابهات ، والإحكام والتشابه إقامة(11/334)
الهدى والفتنة ، والهدى والفتنة إقامة متصرف الحواس الظاهرة والباطنة ، والأحوال وما دونها من الأفعال على وجه جمع يكون قواماً لما تفصل من مجمله وتكثر من وحدته وتفرق من اجتماعه ، ولعلو مضمون هذه السورة لم يقع فيها توجه الخطاب بها لصنف الناس ، واختص خطابها بالذين آمنوا في علو من معاني الإيمان لما ذكر من شرف سن الإيمان على سن الناس في تنامي أسنان القلوب ، وكان خطاب سورة البقرة بمقتضى رتبة العقل الذي به يقع أول الإصغاء والاستماع ، كما ظهر في آيات الاعتبار فيها في قوله سبحانه وتعالى : {إن في خلق السماوات والأرض} [ البقرة : 164 ] إلى قوله : {لقوم يعقلون} [ البقرة : 164 ] فكان خطاب سورة آل عمران إقبالاً على أولي الألباب الذين لهم لب العقل ، بما ظهر في أولها وخاتمتها في قوله : {وما يذكر إلا أولوا الألباب} [ آل عمران : 7 ] وفي خاتمتها في آيات اعتبارها في قوله سبحانه وتعالى {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} [ آل عمران : 190 ] فبالعقل يقع الاعتبار لمنزل الكتاب وباللب يكون التذكر ، إيلاء إلى الذي نزل الكتاب ، وبالجملة فمثاني هذه السورة من تفاصيل آياتها وجمل جوامعها مما هو أعلق بطيب الإيمان واعتبار اللب ، كما أن منزل سورة البقرة أعلق بما هو من أمر الأعمال وإقامة معالم الإسلام بما ظهر في هذه السورة من علن أمر الله ، وبما افتتحت به من اسم الله الأعظم الذي جميع الأسماء أسماء له لإحاطته واختصاصها بوجه ما ، فكان فيها علن التوحيد وكماله وقوام تنزيل الأمر وتطورالخلق في جميع متنزلها ومثانيها ، وظهر فيها تفصيل وجوه الحكم العلية التي تضمن جملة ذكرها الآية الجامعة في سورة البقرة في قوله سبحانه وتعالى {يؤتي الحكمة من يشاء} [ البقرة : 269 ] فكان من جملة بناء الحكمة ما هو السبب في ظهور الكفر من الذين كفروا بما غلب عليهم من الفتنة بأموالهم وأولادهم حتى ألهتهم عن ذكر(11/335)
الله ، فانتهوا فيه إلى حد الكفر الذي نبه عليه {الذين آمنوا} في قوله سبحانه وتعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} [ المنافقون : 9 ] انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 28 ـ 29}
فصل
قال الفخر :
في قوله {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا} قولان الأول : المراد بهم وفد نجران ، وذلك لأنا روينا في بعض قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه : إني لأعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً ولكنني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال والجاه ، فالله تعالى بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة.
والقول الثاني : أن اللفظ عام ، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 160}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعاً به ، ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة.
أما الأول : فهو المراد بقوله {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم} وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد ، فهما أقرب الأمور التي يفزع المرء إليها في دفع الخطوب فبيّن الله تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا لأن أقرب الطرق إلى دفع المضار إذا لم يتأت في ذلك اليوم ، فما عداه بالتعذر أولى ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [ الشعراء : 88 ، 89 ] وقوله {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا} [ الكهف : 46 ] وقوله {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [ مريم : 80 ] وقوله {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاء ظُهُورِكُمْ} [ مريم : 80 ].(11/336)
وأما القسم الثاني : من أسباب كمال العذاب ، فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} وهذا هو النهاية في شرح العذاب فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس ، والوقود بفتح الواو الحطب الذي توقد به النار ، وبالضم هو مصدر وقدت النار وقوداً كقوله : وردت وروداً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 160 ـ 161}
وقال السمرقندى :
إنما ذكر الأموال والأولاد ، لأن أكثر الناس يدخلون النار ، لأجل الأموال والأولاد ، فأخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم في الآخرة ، لكيلا يفني الناس أعمارهم ، لأجل المال والولد ، وإنما ذكر الله تعالى الكفار ، لكي يعتبر بذلك المؤمنون. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 221}
فائدة
قال الفخر :
في قوله {مِنَ الله} قولان أحدهما : التقدير : لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه والثاني : قال أبو عبيدة {مِنْ} بمعنى عند ، والمعنى لن تغني عند الله شيئاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 161}
قوله تعالى {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}
قال الآلوسى :
وإيثار الجملة الإسمية للدلالة على تحقق الأمر وتقرره ، أو للإيذان بأن حقيقة حالهم ذلك وأنهم في حال كونهم في الدنيا وقود النار بأعيانهم ، وهي إما مستأنفة مقررة لعدم الإغناء أو معطوفة على الجملة الأولى الواقعة خبراً لأن ، و{هُمْ} يحتمل أن يكون مبتدأ ويحتمل أن يكون فصلاً. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 93}
فائدة
قال ابن عاشور فى معنى الآية :
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}
استئناف كلام ناشيء عن حكاية ما دعا به المؤمنون : من دوام الهداية ، وسؤال الرحمة ، وانتظار الفوز يوم القيامة ، بذكر حال الكافرين في ذلك اليوم ، على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة.(11/337)
وتعقيب دعاء المؤمنين ، بذكر حال المشركين ، إيماء إلى أنّ دعوتهم استجيبت.
والمراد بالذين كفروا : المشركون ، وهذا وصف غالب عليهم في اصطلاح القرآن وقيل : الذين كفروا بنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم أريد هنا قُريظة والنضير وأهلُ نجران ؛ ويُرجَّح هذا بأنّهم ذُكِّروا بحال فرعون دون حال عاد وثمود فإنّ اليهودوالنصارى أعلق بأخبار فرعون.
كما أنّ العرب أعلق بأخبار عاد وثمود ، وأنّ الردّ على النصارى من أهمّ أغراض هذه السورة.
ويجوز أن يكون المراد جميع الكافرين : من المشركين ، وأهل الكتابَيْن ، ويكون التذكير بفرعون لأنّ وعيد اليهود في هذه الآية أهم.
ومعنى "تُغني" تُجزِي وتكفي وتدفع ، وهو فِعل قاصر يتعدّى إلى المفعول بعن نحو : "ما أغني مَالِيَهْ".
ولدلالة هذا الفعل على الإجزاء والدفع ، كان مؤذناً بأنّ هنالك شيئاً يدفع ضُرّه ، وتُكفى كلفتُه ، فلذلك قَد يذكرون مع هذا الفعل متعلِّقاً ثانياً ويُعَدُّونَ الفعل إليه بحرف ( مِن ) كما في هذه الآية.
فتكون ( مِن ) للبدل والعوض على ما ذهب إليه في "الكشاف" ، وجعل ابن عطية ( من ) للابتداء.
وقوله : {من الله} أي من أمر يضاف إلى الله ؛ لأنّ تعليق هذا الفعل ، تعليقاً ثانياً ، باسم ذات لايقصد منه إلاّ أخصّ حال اشتهرت به ، أو في الغرض المسوق له الكلام فيقدّر معنى اسم مضاف إلى اسم الجلالة.
والتقدير هنا من رحمة الله ، أو من طاعته ، إذا كانت ( مِنْ ) للبدل وكَذا قدّره في "الكشاف" ، ونظّره بقوله تعالى : {وإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً} [ النجم : 28 ].
وعلى جعل ( من ) للابتداء كما قال ابن عطية تقدّر من غضب الله ، أو من عذابه ، أي غناء مبتدِئاً من ذلك : على حدّ قولهم : نَجَّاه من كذا أي فصله منه ، ولا يلزم أن تكون ( مِن ) مَعَ هذا الفعل ، إذا عدّي بعَن ، مماثلة لمِنْ الواقعة بعد هذا الفعل الذي يُعَدّ بعن ، لإمكان اختلاف معنى التعلّق باختلاف مساق الكلام.
(11/338)
والغالب أن يأتوا بعد فعل أغنى بلفظ ( شيء ) مع ذكر المتعلِّقين كما في الآية ، وبدون ذكر متعلِّقين ، كما في قول أبي سفيان ، يومَ أسْلَمَ : "لقد علمتُ أنْ لَوْ كان معه إله غيرُه لقد أغنى عنّي شيئاً".
وانتصب قوله : {شيئاً} على النيابة عن المفعول المطلق أي شيئاً من الغَناء.
وتنكيره للتحقير أي غناء ضعيفاً ، بله الغناء المهم ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لعدم استقامة معنى الفعل في التعدي.
وقد ظهر بهذا كيفية تصرفّ هذا الفعل التصرّفَ العجيب في كلامهم ، وانفتح لك ما انغلق من عبارة الكشّاف ، وما دونها ، في معنى هذا التركيب.
وقد مرّ الكلام على وقوع لفظ شيء عند قوله : {ولنبلونَّكم بشيء من الخوف} [ البقرة : 155 ].
وإنّما خصّ الأموال والأولاد من بين أعلاق الذين كفروا ؛ لأنّ الغناءَ يكون بالفداء بالمال ، كدفع الديات والغرامات ، ويكون بالنصر والقتال ، وأوْلى مَن يدافع عن الرجل ، من عشيرته ، أبناؤه ، وعن القبيلة أبناؤُها.
قال قيس بن الخطيم :
ثَأرْتُ عَدِيَّا والخَطِيمَ ولَمْ أضعْ
وَلاَيَة أشْيَاخخٍ جُعِلْتُ إزَاءَها...
والأموال المكاسب التي تقتات وتدخّرُ ويتعاوض بها ، وهي جمع مال ، وغلب اسم المال في كلام جلِّ العرب على الإبل قال زهير :
صَحيحاتِ مالٍ طَالعات بمخرم
وغلب في كلام أهل الزرع والحرث على الجنّات والحوائط وفي الحديث " كان أبو طلحة أكثرَ أنصاري بالمدينة مالاً وكان أحَبُّ أمواله إليه بئر حاء " ، ويطلق المال غالباً على الدراهم والدنانير كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس " أيْن المال الذي عند أم الفضل.
" والظاهر أنّ هذا وعيد بعذاب الدنيا ؛ لأنّه شُبِّه بأنّه {كدأب ءال فرعون} إلى قوله {فأخذهم الله بذنوبهم} وشأنُ المشبّه به أن يكون معلوماً ؛ ولأنّه عطف عليه عذاب الآخرة في قوله : {وأولئك هم وقود النار}.
(11/339)
وجيء بالإشارة في قوله : {وأولئك} لاستحضارهم كأنّهم بحيث يشار إليهم ، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيأتي من الخَبر وهو قوله : {هم وقود النار}.
وعطفت هذه الجملة ، ولم تفصل ، لأنّ المراد من التي قبلهالا وعيد في الدنيا وهذه في وعيد الآخرة بقرينة قوله ، في الآية التي بعد هذه : {ستُغْلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد} [ آل عمران : 12 ].
والوَقود بفتح الواو ما يوقد به كالَضوء ، وقد تقدّم نظيره في قوله : {التي وقودها الناس والحجارة} في سورة البقرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 31 ـ 33}
لطيفة
قال أبو حيان :
أتى بلفظ : هم ، المشعرة بالاختصاص ، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق ، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 405}
فصل
قال القرطبى :
خرّج ابن المبارك من حديث العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " "يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى تخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرءون القرآن فإذا قرءوه قالوا مَنْ أقْرَأُ منا ؟ من أعْلَمُ منا ؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال : هل ترون في أُولئكم من خير" ؟ قالوا لا.
قال : "أُولئك منكم وأُولئك من هذه الأُمّة وأُولئك هم وقود النار" ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 22}(11/340)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا ابن لَهِيْعة ، أخبرني ابن الهاد ، عن هند بنت الحارث ، عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس قالت : بينما نحن بمكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ، فقال هل بلغت ، اللهم هل بلغت..." ثلاثًا ، فقام عمر بن الخطاب فقال : نعم. ثم أصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه ، وَلَتَخُوضُنَّ البحار بالإسلام ، وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤونه ، ثم يقولون : قد قرأنا وعلمنا ، فمن هذا الذي هو خير منا ، فهل في أولئك من خير ؟ " قالوا : يا رسول الله ، فمن أولئك ؟ قال : "أولئك منكم وأولئك هم وقود النار". وكذا رأيته بهذا اللفظ. {تفسير ابن أبي حاتم (2/90) وفيه ابن لهيعة ، وقد توبع ، تابعه عبد العزيز بن أبي حازم عن يزيد بن الهاد به. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/250) قال الهيثمي في مجمع الزوائد : (1/186) "رجاله ثقات ، إلا أن هند بنت الحارث الخثعمية التابعية لم أر من وثقها ولا من جرحها".}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 15 ـ 16}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}
فلا فداء ينفعهم ، ولا غناء يدفعهم ، ولا مال يُقبَلُ منهم ، ولا حجاب يُرفَع عنهم ، ولا مقال يسمع فيهم ، بهم يُسَعَّرُ الجحيم ، ولهم الطرد الأليم ، والبعد الحميم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 222}
لطيفة
قال الشنقيطى : (11/341)
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار يوم القيامة لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئاً ، وذكر أنهم وقود النار أي : حطبها الذي تتقد فيه ، ولم يبين هنا هل نفيه لذلك تكذيب لدعواهم أن أموالهم وأولادهم تنفعهم ، وبين في مواضع أخر أنهم ادعوا ذلك ظناً منهم أنه ما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك ، وأن الآخرة كالدنيا يستحقون فيها ذلك أيضاً فكذبهم في آيات كثيرة فمن الآيات الدالة على أنهم ادعوا ذلك قوله تعالى : {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [ سبأ : 35 ] وقوله : {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [ مريم : 77 ] يعني في الآخرة كما أوتيته في الدنيا وقوله : {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [ فصلت : 50 ] أي : بدليل ما أعطاني في الدنيا وقوله : {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [ الكهف : 36 ] قياساً منه للآخرة على الدنيا ورد الله عليهم هذه الدعوى في آيات كثيرة كقوله هنا : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} الآية. وقوله : {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} [ المؤمنون : 55-56 ] وقوله : {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} [ سبأ 37 ] وقوله : {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [ آل عمران : 178 ] وقوله {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [ الأعراف : 182-183 ] إلى غير ذلك من الآيات.(11/342)
وصرح في موضع آخر أن كونهم وقود النار المذكور هنا على سبيل الخلود وهو قوله : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ آل عمران : 116 ]. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 220}
لطيفة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى : "كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب" ، وفى سورة الأنفال : "كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب" ، وبعدها : "كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين".
للسائل أن يسأل عن هذه الآى فى ستة مواضع : السؤال الأول : الإخبار عنهم فى آية آل عمران وفى ثانية الأنفال بقوله"كذبوا" وقال فى الأولى من الأنفال"كفروا".ما وجه ذلك ؟ والثانى : ما وجه اختلاف الإضافة فى كذبهم وتكذيبهم ؟ ففى آل عمران"بآياتنا" وفى الأولى من الأنفال"بآيات الله" وفى الثانية"بآيات ربهم" ، والثالث : قوله فى ثانية الأنفال"فأهلكناهم بذنوبهم" وفى الأخريين"فأخذهم الله بذنوبهم" ، والرابع : قوله فى سورة آل عمران"والله شديد العقاب" ، وفى الأولى من الأنفال"إن الله قوى شديد العقاب" ولم يرد فى الثانية هذا الوصف ، والخامس : تفصيل العقاب فى ثانية الأنفال ولم يرد فى الآخريين ذلك التفصيل ، والسادس : تعلق المجرور من قوله"كدأب آل فرعون" وليس هذا مما بنى عليه هذا الكتاب إلا أنه تتمة.(11/343)
والجواب عن الأول : أن آية آل عمران لما تقدم قبلها ذكر تنزيل الكتب الثلاثة والإشارة إلى ما تضمنته من الهدى والفرقان وإنما أتى على من كفر بصده عنها وتكذيبه ناسب ذلك قوله تعالى : "كذبوا بآياتنا" ولما لم يقع فى سورة الأنفال من أولها إلى الآية الأولى من الآيتين ذكر شئ من الكتب المنزلة ولا ذكر إنزالها وإنما تضمنت حال المسلمين مع معاصريهم من كفار العرب ومعظم ذلك فى قتالهم وحربهم ناسب ذلك التعبير بالكفر فقال تعالى"كفروا بآيات الله" ثم لما تلتها الآية الأخرى من غير طول بينهما وقع التعبير فيها بالتكذيب فقال"كذبوا بآيات ربهم" وعدل عن لفظ كفروا لثقل التكرر مع القرب وليحصل وسمهم بالكفر والتكذيب.(11/344)
والجواب عن السؤال الثانى : أن الآية الأولى من سورة الأنفال إنما جئ فيها بالاسم الظاهر فقيل"كفروا بآيات الله" ، لتقدم ذكر الملائكة فى قوله"ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم" بنسبة الفعل للملائكة وتقدم أيضا" وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم" ولم يتقدم فى آل عمران ذكر فعل لغير الله تعالى ولا نسبة شئ لسواه فجئ بآيات مضافة إلى ضميره تعالى فقال"كذبوا بآياته" على طريقة الالتفات وجاء فى الأنفال"كذبوا بآيات الله" بالإضافة إلى الاسم الظاهر ليعلم أن الأمر له عز وجل وأنه مريهم الآيات ولا فعل إلا له وأن الملائكة مسخرون بأمره وفعلهم من خلقه وتزيين الشيطان لهؤلاء الكفار إنما هو بقدر الله وسابق مشيئته وكل ذلك خلقه وملكه والآيات آياته وله المثل الأعلى وقيل فى الثانية"بآيات ربهم" ليجرى مع ما تقدمه متصلا به من قوله تعالى : "ذلك بأن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم" فذكر ابتداءه بالنعم فناسبه ذكر ملكيته سبحانه لهم بقوله"بآيات ربهم" فهو المحسن والمالك ثم جرى القدر بما سبق لهم فإيراد قوله"كذبوا بآيات ربهم" مع ما تقدم أوقع فى نفوسهم وأشد فى تحسرهم وندامتهم إذا شاهدوا الأمر فعلموا أنه مالكهم وأنه ابتدأهم بالنعم فغيروا فحصل من ذلك أنهم قابلوا نعم ربهم بالكفر مع بيان الأمر ووضوحه ولو قيل : بآيات الله لما أحرز هذا المعنى المعرف بملكيته لهم والمشير لندامتهم وتحسرهم ولا خفاء بالفرق بين قول القائل لمن كفر بنعمة الله : إنما كفرت بنعمة مالك المحسن إليك ومبتديك بالنعم وبين أن لو قيل له : إنما كفرت بنعمة الله فتأمل ما بينهما ولهذا ابتدئ دعاء الخلق فى سورة البقرة إلى الإيمان بقوله : "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم" إلى آخر الآية.(11/345)
والجواب عن السؤال الثالث : أنه قصد فى الآية الثانية من الأنفال تفصيل عقابهم بإغراق آل فرعون وأخذ من عداهم بغير ذلك وقال "فأهلكناهم بذنوبهم" ليخالف قوله تعالى فى الآية قبل : "فأخذهم الله بذنوبهم" لاسثقال لفظ التكرار فيما تقارب ولما قصد من التفصيل وقد ضم الفريقين من المهلكين بذنوبهم والمغرقين فى قوله : "وكل كانوا ظالمين".
وعن الرابع أن قوله تعالى فى الآية الأولى من الأنفال : "إن الله قوى شديد العقاب" مقابل به قول الشيطان لمن قدم ذكره من الكفار : "لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم" فقوبل قوله المضمحل بإسناد القوة لله ـ عز وجل ـ كما قال تعالى : "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا..الآية" ، ولما لم يرد فى سورة آل عمران مثل هذا وقع الاكتفاء بقوله"والله شديد العقاب" وزيد التأكيد فى أول الأنفال بـ"إن" وزيادة اسمه سبحانه القوى لما ذكرنا آنفا من رعى التقابل.
والجواب عن السؤال الخامس ما قيل فى الجواب عن السؤال الثالث من قصد التفصيل ثم إن الوجه فى تخصيص هذا الموضع بذلك أنه آخر موضع وقع التذكير فيه بعبادة آل فرعون فى تكذيبهم وأخذهم بكفرهم والترتيب الذى استقر عليه الكتاب العزيز متوقف على الآتى به صلى الله عليه وسلم وقد بينا ذلك فى غير هذا وأن من ظن أن الترتيب من قبل الصحابة فقد غفل وذهب عما بنى عليه من جليل الاعتبار وسنذكر ذلك فى سورة القمر إن شاء الله.
والجواب عن السؤال السادس : أن الكاف متعلقة بمحذوف هو الخبر للمبتدأ المقدر إذ التقدير دأبهم أو دأب هؤلاء أو هذا كدأب آل فرعون وما قدر الناس من التعلق بقوله : وأولئك وفود النار أو غير هذا من التقدير لا يرجح عند الاختبار ويضعف تقدير ذبلك فى ثانية الأنفال ويتكلف فى الأولى منها ولا يحسن معه المعنى ولا يفوز وفى استقلال الجملة من قوله"كدأب آل فرعون" وعدم التعلق الاعرابى بما قبله فى جملة أخرى جزالة النظم وقوة المعنى فتأمله.(11/346)
والجواب عن السؤال السادس : أن الكاف متعلقة بمحذوف هو الخبر للمبتدأ المقدر إذ التقدير دأبهم أو دأب هؤلاء أو هذا كدأب آل فرعون وما قدر الناس من التعلق بقوله : وأولئك هم وقود النار أو غير هذا من التقدير لا يرجح عند الاختبار ويضعف تقدير ذلك فى ثانية الأنفال ويتكلف فى الأولى منها ولا يحسن معه المعنى ولا يفوز وفى استقلال الجملة من قوله "كدأب آل فرعون" وعدم التعلق الإعرابى بما قبله فى جملة أخرى جزالة النظم وقوة المعنى فتأمله. أ هـ {ملاك التأويل صـ 105 ـ 107}
لطيفة
قال ابن عجيبة :
كل من جحد أهل الخصوصية ، وفاته حظه من مشاهدة عظمة الربوبية ، حتى حصل له الطرد والبعاد ، وفاته مرافقة أهل المحبة والوداد ، لن تغني عنه - بدلاً مما فاته - أموالُ ولا أولاد ، واتصلت به الأحزان والأنكاد ؛ كما قال الشاعر :
مَنْ فَاتَه منكَ وصلٌ حَظُّه الندمُ... ومَنْ تَكُنْ هَمِّه تَسْمُو به الهممُ
وقال آخر :
مَنْ فاتَهُ طَلَبُ الوُصُولِ وَنَيْلُهُ... مِنْه ، فقُلْ : ما الذِي هُوَ يَطلُبُ!
حَسْبُ المحِبِّ فناؤه عما سِوى... مَحْبوبِهِ إنْ حاضِرٌ وَمُغَيَّبُ
وقال آخر :
لكُلِّ شَيء إذا فارقْتَهُ عِوَضٌ... وَلَيْسَ لله إنْ فارقْتَ مِنْ عَوِضِ
وفي الحكم : " ماذا وَجَدَ مَنْ فقدك ؟ وما الذي فَقَدَ مَنْ وَجَدَك ؟ لقد خاب مَنْ رَضِي دونك بدلاً ، ولقد خسر من بغى عنك مُتحولاً ". فكل من وقف مع شيء من السِّوى ، وفاته التوجه إلى معرفة المولى ، فهو في نار القطيعة والهوى ، مع النفوس الفرعونية ، وأهل الهمم الدنية. نسأل الله تعالى العافية. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 252}(11/347)
قوله تعالى {كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان السبب المقتضي لاستمرارالكفر من النصارى المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الخوف ممن فوقهم من ملوك النصرانية نبههم سبحانه وتعالى على أول قصة أسلافهم من بني إسرائيل ، وما كانوا فيه من الذل مع آل فرعون ، وما كان فيه فرعون من العظمة التي تُقسر بها ملوك زمانهم ، ثم لما أراد الله سبحانه وتعالى قهر أسلافهم له لم تضرهم ذلتهم ولا قلتهم ، ولا نفعته عزته ولا كثرة آله ، فلذلك صرح بهم سبحانه وتعالى وطوى ذكر من قبلهم فقال : {كدأب} أي لم يغن عنهم ذلك شيئاً مثل عادة {آل فرعون} أي الذين اشتهر لديكم استكبارهم وعظمتهم وفخارهم ، قال الحرالي : الدأب العادة الدائمة التي تتأبد بالتزامها ، وآل الرجل من إذ أحصر تراءى فيهم فكأنه لم يغب ؛ وفرعون اسم ملك مصر في الكفر ، ومصر أرض جامعة كليتها وجملة ، إقليمها نازل منزلة الأرض كلها ، فلها إحاطة بوجه ما ، فلذلك أعظم شأنها في القرآن وشأن العالي فيها من الفراعنة ، وكان الرسول المبعوث إليه أول المؤمنين بما وراء أول الخلق من طليعة ظهور الحق لسماع كلامه بلا واسطة ملك ، فكان أول من طوى في رتبة بنوتة رتبة البنوة ذات الواسطة ، فلذلك بدىء به في هذا الخطاب لعلو رتبة بنوته بما هو كليم الله ومصطفاه على الناس ، ولحق به من تقدمهم بما وقعت في بنوته من واسطة زوج أو ملك ، وخص آله لأنه هو كان عارفاً بأمر الله سبحانه وتعالى فكان جاحداً لا مكذباً انتهى.(11/348)
{والذين} ولما كان المكذبون إنما هم بعض المتقدمين أدخل الجار فقال : {من قبلهم} وقد نقلت إليكم أخبارهم وقوتهم واستظهارهم فكأنه قيل : ماذا كانت عادتهم ؟ فقيل : {كذبوا} ولما كان التكذيب موجباً للعقوبة كان مظهر العظمة به أليق ، فصرف القول إليه فقال : {بآياتنا} السورية والصورية مع ما لها من العظمة بما لها من إضافتها إلينا {فأخذهم} ولما أفحشوا في التكذيب عدل إلى أعظم من مظهر العظمة تهويلاً لأخذهم فقال : {الله} فاظهر الاسم الشريف تنبيهاً على باهر العظمة {بذنوبهم} أي من التكذيب وغيره.
قال الحرالي : فيه إشعار بأن صريح المؤاخذة مناط بالذنوب ، وأن المؤاخذة الدنيوية لا تصل إلى حد الانتقام على التكذيب ، فكان ما ظهر من أمر الدنيا يقع عقاباً على ما ظهر من الأعمال ، وما بطن من أمر الآخرة يستوفي العقاب على ما أصرت عليه الضمائر من التكذيب ، ولذلك يكون عقاب الدنيا طهرة للمؤمن لصفاء باطنه من التكذيب ، ويكون واقع يوم الدنيا كفاف ما جرى على ظاهره من المخالفة فكأن الذنب من المؤمن يقع في دنياه خاصة ، والذنب من الكافر يقع في دنياه وأخراه من استغراقه لظاهره وباطنه ، وأظهر الاسم الشريف ولم يضمر للتنبيه على زيادة العظمة في عذابهم لمزيد اجترائهم فقال : {والله} أي الحال أن الملك الذي لا كفوء له في جبروته ولا شيء من نعوته {شديد العقاب} لا يعجزه شيء. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 30}
فصل
قال الفخر :
يقال : دأبت الشيء أدأب دأبا ودؤبا إذا أجهدت في الشيء وتعبت فيه ، قال الله تعالى : {سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} [ يوسف : 47 ] أي بجد واجتهاد ودوام ، ويقال : سار فلان يوماً دائباً ، إذا أجهد في السير يومه كله ، هذا معناه في اللغة ، ثم صار الدأب عبارة عن الشأن والأمر والعادة ، يقال : هذا دأب فلان أي عادته ، وقال بعضهم : الدؤب والدأب الدوام.(11/349)
إذا عرفت هذا فنقول : في كيفية التشبيه وجوه الأول : أن يفسر الدأب بالاجتهاد ، كما هو معناه في أصل اللغة ، وهذا قول الأصم والزجاج ، ووجه التشبيه أن دأب الكفار ، أي جدهم واجتهادهم في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ، ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم ، فكذا نهلك هؤلاء.
الوجه الثاني : أن يفسر الدأب بالشأن والصنع ، وفيه وجوه الأول : {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} أي شأن هؤلاء وصنعهم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى ، ولا فرق بين هذا الوجه وبين ما قبله إلا أنا حملنا اللفظ في الوجه الأول على الاجتهاد ، وفي هذا الوجه على الصنع والعادة والثاني : أن تقدير الآية : أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، ويجعلهم الله وقود النار كعادته وصنعه في آل فرعون ، فإنهم لما كذبوا رسولهم أخذهم بذنوبهم ، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل ، وتارة إلى المفعول ، والمراد ههنا ، كدأب الله في آل فرعون ، فإنهم لما كذبوا برسولهم أخذهم بذنوبهم ، ونظيره قوله تعالى : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله} [ البقرة : 165 ] أي كحبهم الله وقال : {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} [ الإسراء : 77 ] والمعنى : سنتي فيمن أرسلنا قبلك والثالث : قال القفال رحمه الله : يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى ، والعادة المضافة إلى الكفار ، كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم كعادة من قبلهم في إيذاء رسلهم ، وعادتنا أيضاً في إهلاك هؤلاء ، كعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين ، والمقصود على جميع التقديرات نصر النبي صلى الله عليه وسلم على إيذاء الكفرة وبشارته بأن الله سينتقم منهم.
(11/350)
الوجه الثالث : في تفسير الدأب والدؤب ، وهو اللبث والدوام وطول البقاء في الشيء ، وتقدير الآية ، وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون ، أي دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون.
والوجه الرابع : أن الدأب هو الاجتهاد ، كما ذكرناه ، ومن لوازم ذلك التعب والمشقة ليكون المعنى ومشقتهم وتعبهم من العذاب كمشقة آل فرعون بالعذاب وتعبهم به ، فإنه تعالى بيّن أن عذابهم حصل في غاية القرب ، وهو قوله تعالى : {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [ نوح : 25 ] وفي غاية الشدة أيضاً وهو قوله {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [ غافر : 46 ].
الوجه الخامس : أن المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب ، فكان التشبيه بآل فرعون حاصلاً في هذين الوجهين ، والمعنى : أنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد ، بل صاروا مضطرين إلى ما نزل بهم فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم في أنه ينزل بكم مثل ما نزل بالقوم تقدم أو تأخر ولا تغني عنكم الأموال والأولاد.
الوجه السادس : يحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال فكذلك ينزل بكم أيها الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك من القتل والسبي وسلب الأموال ويكون قوله تعالى : {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ} [ آل عمران : 12 ] كالدلالة على ذلك فكأنه تعالى بيّن أنه كما نزل بالقوم العذاب المعجل ، ثم يصيرون إلى دوام العذاب ، فسينزل بمن كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم أمران أحدهما : المحن المعجلة وهي القتل والسبي والإذلال ، ثم يكون بعده المصير إلى العذاب الأليم الدائم ، وهذان الوجهان الأخيران ذكرهما القاضي رحمه الله تعالى.
(11/351)
أما قوله تعالى : {والذين مِن قَبْلِهِمْ} فالمعنى : والذين من قبلهم من مكذبي الرسل ، وقوله {كَذَّبُواْ بئاياتنا} المراد بالآيات المعجزات ومتى كذبوا بها فقد كذبوا لا محالة بالأنبياء.
ثم قال : {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} وإنما استعمل فيه الأخذ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على التخلص.
ثم قال : {والله شَدِيدُ العقاب} وهو ظاهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 161 ـ 162}
وقال القرطبى :
اختلفوا في الكاف ؛ فقيل : هي في موضع رفع تقديره دَأْبُهم كدَأْب آل فرعون ، أي صنيع الكفّار معك كصنيع آل فرعون مع موسى.
وزعم الفرّاء أن المعنى : كفرت العرب ككفر آل فرعون.
قال النحاس : لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا ، لأن كفروا داخلة في الصِّلة.
وقيل : هي متعلقة بـ {أَخَذَهُمُ الله} ، أي أخذ آل فرعون.
وقيل : هي متعلقة بقوله {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم} أي لم تُغْنِ عنهم غَنَاء كما لم تُغن الأموال والأولاد عن آل فرعون.
وهذا جواب لمن تخلّف عن الجهاد وقال : شغلتنا أموالنا وأهلونا.
ويصح أن يعمل فيه فعلٌ مقدّر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق.
ويؤيد هذا المعنى {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب} {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [ غافر : 45 ، 46 ].
والقول الأوّل أرجح ، واختاره غير واحد من العلماء.
قال ابن عرفة : {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أي كعادة آل فرعون.
يقول : اعتاد هؤلاء الكفرة الإلحاد والإعنات للنبيّ صلى الله عليه وسلم كما اعتاد آل فرعون من إعنات الأنبياء ؛ وقال معناه الأزهريّ.
فأمّا قوله في سورة ( الأنفال ) {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [ الأنفال : 52 ] فالمعنى جُوزِي هؤلاء بالقتل والأسر كما جُوزِي آل فرعون بالغرق والهلاك.(11/352)
قوله تعالى : {بِآيَاتِنَا} يحتمل أن يريد الآيات المتلوّة ، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدّلالة على الوحدانية.
{فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب}. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 23}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {كدأب ءال فرعون} موقع كاف التشبيه موقع خبرٍ لمبتدأ محذوف يدل عليه المشبّه به ، والتقدير : دأبُهم في ذلك كدأب آل فرعون ، أي عادتهم وشأنهم كشأن آل فرعون.
والدأب : أصله الكَدْح في العمل وتكريره ، وكأنّ أصل فعله متعدَ ، ولذلك جاء مصدره على فَعْل ، ثم أطلق على العادة لأنّها تأتي من كثرة العمل ، فصار حقيقة شائعة قال النابغة :
كدأبِك في قومٍ أرَاكَ اصطنعتَهُم
أي عادتك ، ثم استعمل بمعنى الشَّأن كقول امرىء القيس :
كدأبك من أم الحُويرث قبلَها
وهو المراد هنا ، في قوله : {كدأب ءال فرعون} ، والمعنى : شأنهم في ذلك كشأن آل فرعون ؛ إذ ليس في ذلك عادة متكرّرة ، وقد ضرب الله لهم هذا المثل عبرة وموعظة ؛ لأنّهم إذا استقْرَوْا الأمم التي أصابها العذاب ، وجدوا جميعهم قد تماثلوا في الكفر : بالله ، وبرسله ، وبآياته ، وكفَى بهذا الاستقراء موعظة لأمثال مشركي العرب ، وقد تعيّن أن يكون المشبّه به هو وعيد الاستئصال والعذاب في الدنيا ؛ إذ الأصل أنّ حال المشبّه ، أظهر من حال المشبّه به عند السامع.
وعليه فالأخذ في قوله : {فأخذهم الله بذنوبهم} هو أخذ الانتقام في الدنيا كقوله : {أخذناهم بغتة فإذا هم مُبلسون فقطع دابر القوم الذي ظلموا} [ الأنعام : 44 ، 45 ].
(11/353)
وأريد بآل فرعون فرعون وآلهُ ؛ لأنّ الآل يطلق على أشدّ الناس اختصاصاً بالمضاف إليه ، والاختصاص هنا اختصاص في المتابعةِ والتواطؤ على الكفر ، كقوله : {أدْخِلُوا ءال فرعون أشدّ العذاب} [ غافر : 46 ] فلذكر الآل هنا من الخصوصية ما ليس لذكر القوم ؛ إذ قوم الرجل قد يخالفون ، فلا يدل الحكم المتعلّق بهم على أنّه مساوٍ لهم في الحكم ، قال تعالى : {ألا بعداً لعاد قوم هود} [ هود : 60 ] في كثير من الآيات نظائرها ، وقال : {أن ائْتِ القومَ الظالمين قومَ فرعون} [ الشعراء : 10 ، 11 ].
وقوله : "كذبوا" بيان لدأبهم ، استئناف بياني.
وتخصيص آل فرعون بالذكر من بين بقية الأمم لأنّ هلكهم معلوم عند أهل الكتاب ، بخلاف هلك عاد وثمود فهو عند العرب أشهر ؛ ولأنّ تحدّي موسى إياهم كان بآيات عظيمة فما أغنتهم شيئاً تُجاه ضلالهم ؛ ولأنّهم كانوا أقرب الأمم عهداً بزمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو كقول شعيب : {وما قوم لوط منكم ببعيد} [ هود : 89 ] وكقول الله تعالى للمشركين : {وإنّها لبسبيل مقيم} [ الحجر : 76 ] وقوله : {وإنّهما لبإمام مبين} [ الحجر : 79 ] وقوله : {وإنّكم لَتَمُرُّون عليهم مُصبحين وبالليلِ أفلا تعقلون} [ الصافات : 137 ، 138 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 33 ـ 34}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
في كاف " كَدَأب " وجهانِ :
أحدهما : أنها في محل رَفْع ؛ خَبَراً لِمبتدأ مُضْمَر ، تقديره : دأبهم - في ذلك " كَدَأبِ آلِ فِرعَوْن " وبه بدأ الزمخشريُّ ، وابنُ عطية.
الثاني : أنها في محل نَصْب ، وفي الناصب لها تسعةُ أقوالٍ :
أحدها : أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف ، والعامل فيه " كَفَرُوا " ، تقديره : إنَّ الذين كفروا كُفْراً كدأب آل فرعون ، أي : كعادتهم في الكفر ، وهو رأي الفرَّاءِ.
وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فلزم الفصلُ بينَ أبْعَاضِ العلةِ بالأجنبيِّ ، وهو لا يجوز.(11/354)
الثاني : أنه مصوب بـ " كَفَرُوا " لكن مقدر ؛ لدلالة هذا الملفوظ به عليه.
الثالث : أن الناصبَ مقدَّر ، مدلول عليه بقوله : " لَنْ تُغْنِيَ " أي : بطل انتفاعهم بالأموالِ والأولادِ كعادة آل فرعونَ في ذلك. والمعنى : إنكم قد عرفتم ما حلَّ بآل فرعون ومَنْ قبلَهم من المكذبين بالرسل - من العذاب المعجل الذي عنده - لم ينفعهم مال ولا ولد.
الرابع : أنه منصوب بلفظ " وَقُودُ " ، أي : تُوقَد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون ، كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشريُّ ، وفيه نظر ؛ لأن الوقود - على القراءة المشهورة - الأظهر فيه أنه اسم لِما يوقد به ، وإذا كان اسماً فلا عَمَل له ، فإن قيل : إنه مصدر على قراءة الحَسن صَحَّ ، ويكون معنى الدأب : الدؤوب - وهو اللُّبْثُ والدوام ، وطول البقاء في الشيء - وتقدير الآية : " وَأُولَئِكَ هُم وَقُودُ كَدَأْبِ آل فِرْعَونَ ".
[ أي : دؤوبهم في النار كدأب آل فرعون ].
الخامس : أنه منصوب بنفس " لَنْ تُغْنِي " أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تُغنِ عن أولئك ، ذكره الزمخشري ، وضعَّفه أبو حيَّان بلزوم الفصل بين العامل ومعموله بالجملة - التي هي قوله : {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} قال : " على أي التقديرين اللَّذَيْنِ قدرناهما فيهما من أن تكون معطوفة على خبر " إنَّ " أو على الجملة المؤكَّدة بـ " إنَّ " قال : فإن جعلتها اعتراضيةً - وهو بعيد - جازَ ما قال الزمخشريُّ ".
السادس : أن يكون العامل فيها فعلاً مقدَّراً ، مدلولاً عليه بلفظ " الوَقُود " ، تقديره : توقَد بهم كعادة آل فرعون ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، قاله ابنُ عطية.
السابع : أن العامل يُعَذَّبُونَ كعادةِ آل فرعونَ ، يدل عليه سياق الكلام.
(11/355)
الثامن : أنه منصوب {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ، والضمير في " كَذَّبُوا " - على هذا - لكفار مكة وغيرهم من معاصِرِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم - أي : كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعونَ في ذلك التكذيب.
التاسع : أن العامل فيه قوله : {فَأَخَذَهُمُ الله} ، أي : فأخذهم الله أخْذاً كأخذه آل فرعون ، والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل ، وتارةً إلى المفعول ، والمعنى : كَدَأبِ الله في آل فرعون ، ونظيره قوله تعالى : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} [ البقرة : 165 ] أي : كَحُبِّهم لله ، وقال : {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} [ الإسراء : 77 ] والمعنى : سنتي فيمن أرسلنا قبلك ، وهذا مردود ؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها ، لا يجوز قمت زيداً فضربت وأما زيداً فاضرب ، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة.
وقد حكى بعضُ النحاةِ - عن الكوفيين - أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف ، فعلى هذا يجوز هذا القول ، وفي كلام الزمخشريِّ سهو ؛ فإنه قال : ويجوز أن ينتصب محلُّ الكاف بـ " لَنْ تُغْنِيَ " أو بـ " خَالِدُونَ " ، [ أي : لم تُغنِ عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، أو هم فيها خالدون كما يُخَلَّدُون ].
وليس في لفظ الآية الكريمة {خَالِدُونَ} ، إنما نظم الآية {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} ، ويبعد أن يقال : أراد " خَالِدُون " مُقَدَّراً ، يدل عليه السياق ، اللهم إلا إن فسرنا الدأبَ باللُّبْث والدوام وطول البقاء.
(11/356)
وقال القفَّالُ : " يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى ، والعادة المضافة إلى الكفار ، كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم كعادة من قبلهم في إيذاء رُسُلِهِم وعادتنا أيضاً في إهلاك الكفارِ ، كحعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين ، والمقصود - على جميع التقديراتِ - نصر النبي صلى الله عليه وسلم على إيذاء الكفار ، وبشارته بأن الله سينتقم منهم ".
الدأب : العادة ، يقال : دأب ، يَدْأبُ ، اي : واظب ، ولازم ، ومنه {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} [ يوسف : 47 ] ، أي : مداومة.
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1347... - كَدَأبكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
وَجَارَتِهَا أمِّ الرَّبَابِ بِمَاسَلِ... وقال زُهير : [ الطويل ]
1348 - لأرْتَحِلَنّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لأدْأبَنّْ... إلَى اللَّيْلِ إلاَّ أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ
وقال الواحديُّ : " الدأب : الاجتهاد والتعب ، يقال : صار فلان يومه كله يَدْأب فيه ، فهو دائب ، أي : اجتهد في سَيْرِه ، هذا أصله في اللغة ، ثم [ يصير ] الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة ؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله ".
وكذا قال الزمخشريُّ ، قال : " مصدر دأب في العمل إذا كَدَح فيه ، فوُضِع مَوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنه وحاله ".
ويقال : دأَب ، ودأْب - بفتح الهمزة وسكونها - وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأَن وكالمَعْز والمَعَز وقرأ حفص : {سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} بالفتح.
قال الفرَّاء : " والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنَّعْل والنَّعَل ، والنَّهْر والنَّهَر ، والشَّأْم والشَّأَم.
وأنشد : [ البسيط ]
1349 - قَدْ سَارَ شَرْقِيُّهُمْ حَتَّى أتَوْا سَبَأ... وَانْسَاحَ غَرْبِيُّهُمْ حَتَّى هَوى الشَّأَمَا
(11/357)
{والذين مِن قَبْلِهِمْ} يجوز أن يَكُونَ مجروراً نسقاً على {آلِ فِرْعَوْنَ} ، وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء ، والخبر قوله - بعد ذلك - {كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} ، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً ، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكافِ في محل رفع ، فقال : " فعلى هذا - أي : على كونها مرفوعة المحل ؛ خبراً لمبتدأ مضمر - يجوز في {والذين مِن قَبْلِهِمْ} مبتدأ ، و" كَذَّبُوا " خبره ".
قوله : {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} قد تقدم أنه يجوز أن يكون خَبراً عن " الَّذِينَ " إن قيل : إنه مبتدأ ، فإن لم يكن مبتدأ فقد تقدم أيضاً أنه يكون تفسيراً للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ، وما فعل بهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتِنا ، فهو جوابُ سؤال مقدر ، وأن يكون حالاً ، وفي قوله : {بِآيَاتِنَا} التفات ؛ لأن قبله {مِّنَ الله} وهو اسم ظاهر.
والمراد بالآيات : المعجزات ، والباء في " بِذُنُوبِهِمْ " يَجوز أن تكون سببيةً ، أي : أخذهم بسبب ما اجترحوا ، وأن تكون للحالِ ، أي أخذهم متلبسين بالذنوب ، غير تائبين منها والذنب في الأصل - التِّلْو والتابع ، وسُمِّيَت الجريمةُ ذَنْباً ؛ لأنها يتلو ، أي : يتبع عقابُها فاعلمه والذَّنُوب : الدَّلْو ؛ لأنها تتلو الحبلَ في الجذبِ ، وأصل ذلك من ذَنَب الحيوان ؛ لأن يذنبه أي : يتلوه ، يقال : ذنبه يذنبه ذنباً ، أي : تبعه ، واستعمل في الأخذ ؛ لأن مَنْ بينَ يده العقاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يَقْدر على التخلُّص. قوله {شَدِيدُ العقاب} كقوله : {سَرِيعُ الحساب} [ البقرة : 202 ] ، أي : شديدٌ عِقَابه وقد تقدم تحقيقه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 51 ـ 54}
فائدة
قال الماوردى :
وفيمن أشار إليهم أنهم كدأب آل فرعون قولان : (11/358)
أحدهما : أنهم مشركو قريش يوم بدر ، كانوا في انتقام الله منهم لرسله والمؤمنين ، كآل فرعون في انتقامه منهم لموسى وبني إسرائيل ، فيكون هذا على القول الأول تذكيراً للرسول والمؤمنين بنعمة سبقت ، لأن هذه الآية نزلت بعد بدر استدعاء لشكرهم عليها ، وعلى القول الثاني وعداً بنعمة مستقبلة لأنها نزلت قبل قتل يهود بني قينقاع ، فحقق وعده وجعله معجزاً لرسوله. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 373}
فائدة
قال أبو السعود :
وقوله تعالى : {كَذَّبُواْ بئاياتنا} بيانٌ وتفسير لدأبهم الذي فعلوا ، على طريق الاستئناف المبني على السؤال كأنه قيل : كيف كان دأبهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتنا وقوله تعالى : {فَأَخَذَهُمُ الله} تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم أي فأخذهم الله وعاقبهم ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصاً ، فدأبُ هؤلاء الكفرةِ أيضاً كدأبهم ، وقيل : كذبوا الخ حال من {فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ} على إضمار قد أي دأبُ هؤلاء كدأب أولئك وقد كذبوا الخ ، وأما كونه خبراً عن الموصول كما قيل فمما يذهب برونق النظم الكريم ، والالتفاتُ إلى التكلم أولاً للجري على سنن الكبرياء ، وإلى الغَيبة ثانياً بإظهار الجلالة لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة.
{بِذُنُوبِهِمْ} إن أريد بها تكذيبُهم بالآيات فالباء للسببية جيء بها تأكيداً لما تفيده الفاء من سببية ما قبلها لما بعدها وإن أريد بها سائرُ ذنوبهم فالباء للملابسة جيء بها للدلالة على أن لهم ذنوباً أخرى أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غيرَ تائبين عنها كما في قوله تعالى : {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} والذنب في الأصل التِلْوُ والتابع ، وسُمّيت الجريمةُ ذنباً لأنها تتلو أي يتبعُ عقابُها فاعلَها {والله شَدِيدُ العقاب} تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله من الأخذ وتكملةٌ له. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 11}
وقال ابن كثير : (11/359)
{وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي : شديد الأخذ أليم العذاب ، لا يمتنع منه أحد ، ولا يفوته شيء بل هو الفعال لما يريد ، الذي قد غلب كل شيء وذل له كل شيء ، لا إله غيره ولا رب سواه. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 16}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ}.
لم يبين هنا من هؤلاء الذين من قبلهم وما ذنوبهم التي أخذهم الله بها.
وبين في مواضع أخر أن منهم قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وأن ذنوبهم التي أخذهم بها هي الكفر بالله وتكذيب الرسل وغير ذلك من المعاصي ، كعقر ثمود للناقة وكلواط قوم لوط ، وكتطفيف قوم شعيب للمكيال والميزان ، وغير ذلك كما جاء مفصلاً في آيات كثيرة كقوله في نوح وقومه : {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ} [ العنكبوت : 14 ] ونحوها من الآيات وكقوله في قوم هود : {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} [ الذاريات : 41 ] الآية ونحوها من الآيات وكقوله في قوم صالح : {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [ هود : 67 ] الآية ونحوها من الآيات وكقوله في قوم لوط : {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [ الحجر : 74 ] الآية ونحوها من الآيات وكقوله في قوم شعيب : {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [ الشعراء : 189 ] ونحوها من الآيات. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 221}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
أصرُّوا في العتوِّ على سَنَنهم ، وأدَمْنَا لهم في الانتقام سَنَنَا ، فلا عن الإصرار أقلعوا ، ولا في المَبَارِّ طَمعوا ، ولعمري إنهم هم الذين نَدِموا وتحسَّرُوا على ما قدَّموا - ولكن حينما وجدوا البابَ مسدوداً ، والندمَ عليهم مردوداً. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 222}(11/360)
قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تم ذلك على هذه الوجوه الظاهره التي أوجبت اليقين لكل منصف بأنهم مغلوبون وصل بها أمره صلى الله عليه وسلم وهو الحبيب العزيز بأن يصرح لهم بمضمون ذلك فقال : {قل للذين كفروا} أي من أهل زمانك جرياً على منهاج أولئك الذين أخذناهم {ستغلبون} كما غلبوا وإن كنتم ملأ الأرض لأنكم إنما تغالبون خالقكم وهو الغالب لكل شيء : " وليُغلَبنّ مُغالبُ الغَلاّب " واللام على قراءة الجمهور بالخطاب معدية ، وعلى قراءة الغيب معللة ، أي قل لأجلهم ، أو هي بمعنى عن ، أي قل عنهم ، وقد أفهم الإخبار بمجرد الغلبة دون ذكر العذاب كما كان يذكر في تهديد من قبلهم أن أخذهم بيد المغالبة والمدافعة والنصرة تشريفاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم لأنه عرض عليه عذابهم فأبى إلا المدافعة على سنة المصابرة ، فكان أول ذلك غلبته صلى الله عليه وسلم على مكة المشرفة ، وكان فتحها فتحاً لجميع الأرض لأنها أم القرى نبه على ذلك الحرالي.
{وتحشرون} أي تجمعون بعد موتكم أحياء كما كنتم قبل الموت {إلى جهنم} قال الحرالي : وهي من الجهامة ، وهي كراهه المنظر انتهى ؛ فتكون مهادكم ، لا مهاد لكم غيرها {وبئس} أي والحال أنها بئس {المهاد}. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 31}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ}
استئناف ابتدائي ، للانتقال من النذارة إلى التهديد ، ومن ضرب المثل لهم بأحوال سلفهم في الكفر ، إلى ضرب المثل لهم بسابق أحوالهم المؤذنة بأن أمرهم صائر إلى زوال ، وأن أمر الإسلام ستندك له صم الجبال. وجيء في هذا التهديد بأطنب عبارة وأبلغها ؛ لأن المقام مقام إطناب لمزيد الموعظة ، والتذكير بوصف يوم كان عليهم ، يعلمونه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 34}
فصل(11/361)
قال الفخر :
قرأ حمزة والكسائي {سَيُغْلَََبُونَ وَيُحْشَرون} بالياء فيهما ، والباقون بالتاء المنقطة من فوق فيهما ، فمن قرأ بالياء المنقطة من تحت ، فالمعنى : بلغهم أنهم سيغلبون ، ويدل على صحة الياء قوله تعالى : {قُل لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [ الجاثية : 14 ] و{قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} [ النور : 30 ] ولم يقل غضوا ، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة ، ويدل على حسن التاء قوله {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب} [ آل عمران : 81 ] والفرق بين القراءتين من حيث المعنى أن القراءة بالتاء أمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم ، والقراءة بالياء أمر بأن يحكي لهم والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 162 ـ 163}
وقال ابن عادل :
قرأ الأخوان : " سَيُغلبُونَ " و" يُحْشَرُونَ " - بالغيبة - والباقون بالخطاب ، وهما واضحان كقولك : قل لزيد : قم ؛ على الحكاية ، وقل لزيد : يقوم وقد تقدم نحو من هذا في قوله : {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [ البقرة : 83 ].
وقال أبو حيّان : - في قراءة الغيبة- : " الظاهر أنَّ الضميرَ للذين كفروا ، وتكون الجملة - إذ ذاك ليست محكية بـ " قل " بل محكية بقول آخَرَ ، التقدير : قل لهم قولي : سيغلبون وإخباري أنهم سيقع عليهم الغَلَبةُ ، كما قال : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سلف " فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيُغْلَبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيُغْلَبُون ".
وهذا الذي قاله سبقه إليه الزمخشريُّ ، فأخذه منه ، ولكن عبارة الزمخشريِّ أوضحُ ، قال رحمه الله : فإن قلت : أيُّ فَرْقٍ بين القراءتين - من حيث المعنى ؟
(11/362)
قلت معنى القراءة بالتاء - أي من فوق - الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحَشْر إلى جهنَّمَ ، فهو إخبار بمعنى : ستُغْلَبُون وتُحْشَرون ، فهو كائن من نفس المتوعَّد به ، وهو الذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكي لهم ما أخْبِرَ به من وعيدهم بلفظه ، كأنه قال : أدِّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك : " سيُغْلَبون ويُحْشَرون ".
وجوَّز الفرَّاءُ وثعلبُ أن يكون الضمير في " سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ " لكفار قريش ، ويُرَاد بالذين كفروا اليهود ، والمعنى : قل لليهود : ستُغْلَبُ قريش. وهذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط.
قال مَكيٌّ : " ويقوِّي القراءة بالياء - أي من تحت - إجماعهم على الياء في قوله : {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [ الأنفال : 38 ] ، والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ ، لإجماع الحَرَميَّينِ وعاصم وغيرهم على ذلك ".
قال شهابُ الدينِ : ومِثْل إجماعهم على قوله : {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ} [ الأنفال : 38 ] إجماعُهم على قوله {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} [ النور : 30 ] ، وقوله : {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ} [ الجاثية : 14 ] ، وقال الفرّاء : " مَن قرأ بالتاءِ جعل اليهود والمشركين داخِلينَ في الخطاب ، ثم يجوز - في هذا المعنى - التاء والياء ، كما تقول في الكلام : قل لعبد الله : إنه قائم ، وإنك قائم ".
وفي حرف عبد الله : {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} ، ومَن قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود ، وأنَّ الغَلَبَةَ تقع على المشركين ، كأنه قيل : قل يا محمد لليهود سيُغْلَب المشركون ، ويُحْشَرُونَ ، فليس يجوز في هذا المعنى إلاَّ الياءُ لأن المشركين غيب. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 55 ـ 56}
قال الآلوسى :
(11/363)
وقد صدق الله تعالى وعده رسوله صلى الله عليه وسلم فقتل كما قيل من بني قريظة في يوم واحد ستمائة جمعهم في سوق بني قينقاع وأمر السياف بضرب أعناقهم وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها وأجلى بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم وهذا من أوضح شواهد النبوة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 95}
فصل
قال الفخر :
ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً
الأول : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر وقدم المدينة ، جمع يهود في سوق بني قينقاع ، وقال : يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً ، فقالوا : يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفراً من قريش لا يعرفون القتال ، لو قاتلتنا لعرفت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الرواية الثانية : أن يهود أهل المدينة لما شاهدوا وقعة أهل بدر ، قالوا : والله هو النبي الأمي الذي بشرنا به موسى في التوراة ، ونعته وأنه لا ترد له راية ، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا فلما كان يوم أُحد ونكب أصحابه قالوا : ليس هذا هو ذاك ، وغلب الشقاء عليهم فلم يسلموا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثالثة : أن هذه الآية واردة في جمع من الكفار بأعيانهم علم الله تعالى أنهم يموتون على كفرهم ، وليس في الآية ما يدل على أنهم من هم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 163}
قال أبو حيان :
والظاهر أن : الذين كفروا ، يعم الفريقين المشركين واليهود ، وكل قد غلب بالسيف ، والجزية ، والذلة ، وظهور الدلائل والحجج ، وإلى معناها الغاية ، وإن جهنم منتهى حشرهم ، وأبعد من ذهب إلى أن : إلى ، في معنى : في ، فيكون المعنى : إنهم يجمعون في جهنم وبئس المهاد ، يحتمل أن يكون من جملة المقول ، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى ، قاله الراغب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 410}
فائدة
قال الماوردى :
وفي الغلبة هنا قولان :
أحدهما : بالقهر والاستيلاء ، إن قيل إنها خاصة.(11/364)
والثاني : بظهور الحجة ، إن قيل إنها عامة. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 373 ـ 374}
فصل في تكليف ما لا يطاق
قال الفخر :
احتج من قال بتكليف ما لا يطاق بهذه الآية ، فقال : إن الله تعالى أخبر عن تلك الفرقة من الكفار أنهم يحشرون إلى جهنم ، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب هذا الخبر كذباً وذلك محال ، ومستلزم المحال محال ، فكان الإيمان والطاعة محالاً منهم ، وقد أمروا به ، فقد أمروا بالمحال وبما لا يطاق ، وتمام تقريره قد تقدم في تفسير قوله تعالى : {سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [ البقرة : 6 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 163}
فائدة
قال الفخر :
قوله {سَتُغْلَبُونَ} إخبار عن أمر يحصل في المستقبل ، وقد وقع مخبره على موافقته ، فكان هذا إخباراً عن الغيب وهو معجز ، ونظيره قوله تعالى : {غُلِبَتِ الروم فِى أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} الروم : 2 ، 3 ) الآية ، ونظيره في حق عيسى عليه السلام {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ} [ آل عمران : 49 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 163}
فائدة
قال الفخر :
دلّت الآية على حصول البعث في القيامة ، وحصول الحشر والنشر ، وأن مرد الكافرين إلى النار.
ثم قال : {وَبِئْسَ المهاد} وذلك لأنه تعالى لما ذكر حشرهم إلى جهنم وصفه فقال : {بِئْسَ المهاد} والمهاد : الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش ، قال الله تعالى : {والأرض فرشناها فَنِعْمَ الماهدون} [ الذاريات : 48 ] فلما ذكر الله تعالى مصير الكافرين إلى جهنم أخبر عنها بالشر لأن بئس مأخوذ من البأساء هو الشر والشدة ، قال الله تعالى : {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [ الأعراف : 165 ] أي شديد وجهنم معروفة أعاذنا الله منها بفضله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 163}
وقال القرطبى : (11/365)
{وَبِئْسَ المهاد} يعني جهنم ؛ هذا ظاهر الآية.
وقال مجاهد : المعنى بئس ما مهدوا لأنفسهم ، فكأنّ المعنى : بئس فعلهم الذي أدّاهم إلى جهنم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 24}
وقال ابن عادل :
قوله : {بِئْسَ المهاد} المخصوص بالذم محذوفٌ ، أي بئس المهاد جهنمُ ، والحذف للمخصوص يدل على صحة مذهب سيبويه من أنه مبتدأ.
والجملة قبله خبره ، ولو كان - كما قال غيره - مبتدأ محذوف الخبر ، أو بالعكس ، لما حذف ثانياً ؛ للإجحاف بحذف سائر الجملة.
و " بئس " مأخوذ من البأساء ، وهو الشر والشدة ، قال تعالى : {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [ الأعراف : 165 ] أي : شديد. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 57}
وقال الآلوسى :
{وَبِئْسَ المهاد} إما من تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل جهنم وتفظيع حال أهلها ، ومهاد كفراش لفظاً ومعنى ، والمخصوص بالذم مقدر وهو جهنم ، أو ما مهدوه لأنفسهم.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
أخبرهم أنهم يفوتهم حديث الحق في الآجل ، ولا تكون لهم لذةُ عيشٍ في العاجل ، والذي يلقونه في الآخرة من شدة العقوبة بالحُرْقة فوق ما يصيبهم في الدنيا من الغيبة عن الله والفرقة ، ولكن سَقِمتْ البصائر فلم يحسوا بأليم العقاب. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 222}(11/366)
قوله تعالى {قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم من العرب بمعرض أن يقولوا حين قيل لهم ذلك : كيف نغلب وما هم فينا إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ؟ قيل لهم : إن كانت قصة آل فرعون لم تنفعكم لجهل أو طول عهد فإنه {قد كان لكم آية} أي عظيمة بدلالة تذكير كان {في فئتين} تثنية فئة للطائفة التي يفيء إليها أي يرجع من يستعظم شيئاً ، استناداً إليها حماية بها لقوتها ومنعتها {التقتا} أي في بدر {فئة} أي منهما مؤمنة ، لما يرشد إليه قوله : {تقاتل في سبيل الله} أي الملك الأعلى لتكون كلمة الله هي العليا ، ومن كان كذلك لم يكن قطعاً إلا مؤمناً {وأخرى} أي منهما {كافرة} أي تقاتل في سبيل الشيطان ، فالآية كما ترى من وادي الاحتباك ، وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء إيجازاً ، يدل ما ذكر من كل على ما حذف من الآخر ، وبعبارة أخرى : هو أن يحذف من كل جملة شيء إيجازاً ويذكر في الجملة الأخرى ما يدل عليه.(11/367)
ولما نبه سبحانه وتعالى على الاعتبار بذكر الآية نبه على موضعها بقوله : {يرونهم} وضمن يرى البصيرية القاصرة على مفعول واحد فعل الظن ، وانتزع منه حالاً ودل عليها بنصب مفعول ثان فصار التقدير : ظانيهم {مثليهم} فعلى قراءة نافع بالتاء الفوقانية يكون المعنى : ترون أيها المخاطبون الكفار المقاتلين للمؤمنين ، وعلى قراءة غيره بالغيب المعنى ، يرى المسلمون الكفار مثلي المسلمين {رأي العين} أي بالحزر والتخمين ، لا بحقيقة العدد ، هذا أقل ما يجوزونه فيهم ، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ومع ذلك فجزاهم الله على مصادمتهم ونصرهم عليهم ، أو يرى الكفار المسلمين مثلي الكفار مع كونهم على الثلث من عدتهم ، كما هو المشهور في الآثار تأييداً من الله سبحانه وتعالى لأوليائه ليرعب الأعداء فينهزموا ، أو يرى الكفار المسلمين ضعفي عدد المسلمين قال الحرالي : لتقع الإراءة على صدقهم في موجود الإسلام الظاهر والإيمان الباطن ، فكان كل واحد منهم بما هو مسلم ذاتاً ، وبما هو مؤمن ذاتاً ، فالمؤمن المسلم ضعفان أبداً {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين} [ الأنفال : 66 ] وذلك بما أن الكافر ظاهر لا باطن له فكان ذات عين ، لا ذات قلب له ، فكان المؤمن ضعفه ، فوقعت الإراءة للفئة المؤمنة على ما هي عليه شهادة من الله سبحانه وتعالى بثبات إسلامهم وإيمانهم ، وكان ذلك أدنى الإراءة لمزيد موجود الفئة المقاتلة في سبيل الله بمقدار الضعف الذي هو أقل الزيادة الصحيحة ، وأما بالحقيقة فإن التام الدين بما هو مسلم مؤمن صاحب يقين إنما هو بالحقيقة عشر تام نظير موجود الوجود الكامل ، فهو عشر ذوات بما هو صاحب يقين ودين {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [ الأنفال : 65 ] انتهى.
(11/368)
وهذا التقليل والتكثير واقع بحسب أول القتال وآخره ، وقبل اللقاء وبعده ، لما أراد الله سبحانه وتعالى من الحكم كما في آية الأنفال ، والمعنى : إنا فاعلون بكم أيها الكفارعلى أيديهم ما فعلناه بأولئك ، وقد كانوا قائلين أعظم من مقالاتكم ، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئاً ، ولا شدة شكيمتهم ونخوتهم فإن الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين لطيبهم {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} [ المائدة : 100 ].
ولما كان التقدير : فنصر الله سبحانه وتعالى الفئة القليلة ، عطف عليه قوله : {والله} أي الذي له الأمر كله {يؤيد} والأيد تضعيف القوة الباطنة {بنصره} قال الحرالي : والنصر لا يكون إلا لمحق ، وإنما يكون لغير المحق الظفر والانتقام انتهى.
{من يشاء} أي فلا عجب فيه في التحقيق ، فلذلك اتصل به قوله : {إن في ذلك} أي الأمر الباهر ، وفي أداة البعد كما قال الحرالي إشارة بعد إلى محل علو الآية {لعبرة} قال : هي المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى ، ومن علم أدنى إلى علم أعلى ، ففي لفظها بشرى بما ينالون من ورائها مما هو أعظم منها إلى غاية العبرة العظمى من الغلبة الخاتمة التي عندها تضع الحرب أوزارها حيث يكون من أهل الكمال بعدد أهل بدر ثلاثمائة ثلاثة عشر ، فهو غاية العبرة لمن له بصر نافذ ونظر جامع بين البداية والخاتمة {كما بدأنا أول خلق نعيده} [ الأنبياء : 104 ] - انتهى.
{لأولي الأبصار} أي يصيرون بها من حال إلى أشرف منها في قدرة الله وعظمته وفعله بالاختيار.
(11/369)
قال الحرالي : أول موقع العين على الصورة نظر ، ومعرفة خبرتها الحسية بصر ، ونفوذه إلى حقيقتها رؤية ، فالبصر متوسط بين النظر والرؤية كما قال سبحانه وتعالى : {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [ الأعراف : 198 ] فالعبرة هي المرتبة الأولى لأولي الأبصار الذين يبصرون الأواخر بالأوائل ، فأعظم غلبة بطشه في الابتداء غلبة بدر ، وأعظمها في الانتهاء الغلبة الخاتمة التي لا حرب وراءها ، التي تكون بالشام في آخر الزمان - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 31 ـ 33}
وقال الآلوسى :
{قَدْ كَانَ لَكُمْ} من تتمة القول المأمور به جيء به لتقرير مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضاً واختاره شيخ الإسلام وذهب إليه البلخي أي قد كان لكم أيها اليهود المغترون بعددهم وعددهم {ءايَةً} أي علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم أنكم ستغلبون {فِي فِئَتَيْنِ} أي فرقتين أو جماعتين من الناس كانت المغلوبة منهما مدلة بكثرتها معجبة بعزتها فأصابها ما أصابها {التقتا} يوم بدر {فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله} فهي في أعلى درجات الإيمان ولم يقل مؤمنة مدحاً لهم بما يليق بالمقام ورمزاً إلى الاعتداد بقتالهم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 95}
فائدة
قال الفخر :
لم يقل : قد كانت لكم آية ، بل قال : {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} وفيه وجهان :
الأول : أنه محمول على المعنى ، والمراد : قد كان لكم إتيان هذا آية.
والثاني : قال الفرّاء : إنما ذكر للفصل الواقع بينهما ، وهو قوله {لَكُمْ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 164}
قال ابن عادل :
" قَدْ كَانَ " جواب قسم محذوفٍ ، و" آيَةٌ " اسم " كان " ولم يُؤنث الفعلُ ؛ لأن تأنيث الآية مجازيٌّ ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان.
وقال بعضهم : محمول على المعنى ، والمعنى : قد كان لكم بيانُ هَذه الآيةِ.
وفي خبر " كان " وَجهَانِ :
أحدهما : أنه " لَكُم " و" فِي فِئَتَيْنِ " في محل رفع نَعْتاً لِ " آيَةٌ ".(11/370)
والثاني : أنه " فِي فِئَتَيْنِ " وفي " لَكُمْ " وجهانِ :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من " آية " ؛ لأنه - في الأصل - صفة لآية ، فلمَّا تقدَّم نُصِبَ حَالاً.
الثاني : أنه متعلق بـ " كان " ذكره أبو البقاء ، وهذا عند مَنْ يَرَى أنها تعمل في الظرف وحرف الجر ولكن في جَعْل " فِي فِئَتَيْنِ " الخَبَرَ إشْكالٌ ، وهو أن حكم اسم " كان " حكم المبتدأ ، فلا يجوز ، أن يكونَا اسماً لها إلا ما جاز الابتداء به ، وهنا لو جعلت " آية " مبتدأ ، وما بعدها خبراً لم يجز ؛ إذْ لا مُسَوِّغَ لربتداء بهذه النكرة ، بخلاف ما إذا جَعَلْتَ " لَكُم " الخبرَ ، فإنَّه جائز لوجود المسوِّغ ، وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جَرٍّ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 57} باختصار يسير.
قال القرطبى :
لا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بَدْر.
واختلف من المخاطب بها ؛ فقيل : يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون ، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار ، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة ؛ وبكل احتمال منها قد قال قوم.
وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدِموا على مثليْهم وأمثالهم كما قد وقع. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 25}
فصل
قال الفخر : (11/371)
وجه النظم أنا ذكرنا أن الآية المتقدمة ، وهي قوله تعالى : {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} نزلت في اليهود ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا ألسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا فالله تعالى قال لهم إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدة والعدة فإنكم ستغلبون ثم ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الحكم ، فقال : {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ} يعني واقعة بدر كانت كالدلالة على ذلك لأن الكثرة والعدة كانت من جانب الكفار والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ثم إن الله تعالى قهر الكفار وجعل المسلمين مظفرين منصورين وذلك يدل على أن تلك الغلبة كانت بتأييد الله ونصره ، ومن كان كذلك فإنه يكون غالباً لجميع الخصوم ، سواء كانوا أقوياء أو لم يكونوا كذلك فهذا ما يجري مجرى الدلالة على أنه عليه السلام يهزم هؤلاء اليهود ويقهرهم وإن كانوا أرباب السلاح والقوة ، فصارت هذه الآية كالدلالة على صحة قوله {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} الآية ، فهذا هو الكلام في وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 164}
فصل
قال الفخر :
{الفئة} الجماعة ، وأجمع المفسرون على أن المراد بالفئتين : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ومشركوا مكة روي أن المشركين يوم بدر كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً ، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، وقادوا مائة فرس ، وكانت معهم من الإبل سبعمائة بعير ، وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وهم مائة نفر ، وكان في الرجال دروع سوى ذلك ، وكان المسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بين كل أربعة منهم بعير ، ومعهم من الدروع ستة ، ومن الخيل فرسان ، ولا شك أن في غلبة المسلمين للكفار على هذه الصفة آية بينة ومعجزة قاهرة.(11/372)
واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وجوهاً الأول : أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور ، منها : قل العدد ، ومنها : أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا ، ومنها قلة السلاح والفرس ، ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني منها : كثرة العدد ، ومنها أنهم خرجوا متأهبين للحرب ، ومنها كثرة سلاحهم وخيلهم ، ومنها أن أولئك الأقوام كانوا ممارسين للمحاربة ، والمقاتلة في الأزمنة الماضية ، وإذا كان كذلك فلم تجر العادة أن مثل هؤلاء العدد في القلة والضعف وعدم السلاح وقلة المعرفة بأمر المحاربة يغلبون مثل ذلك الجمع الكثير مع كثرة سلاحهم وتأهبهم للمحاربة ، ولما كان ذلك خارجاً عن العادة كان معجزاً.
والوجه الثاني : في كون هذه الواقعة آية أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش بقوله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} [ الأنفال : 7 ] يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان ، وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخباراً عن الغيب ، فكان معجزاً.
والوجه الثالث : في بيان كون هذه الواقعة آية ما ذكره تعالى بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين} والأصح في تفسير هذه الآية أن الرائين هم المشركون والمرئيين هم المؤمنون ، والمعنى أن المشركين كانوا يرون المؤمنون مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين ، أو مثلي عدد المسلمين وهو ستمائة ، وذلك معجز.
فإن قيل : تجويز رؤية ما ليس بموجود يفضي إلى السفسطة.
(11/373)
قلنا : نحمل الرؤية على الظن والحسبان ، وذلك لأن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنهم في غاية الكثرة ، وإما أن نقول إن الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرين والجواب الأول أقرب ، لأن الكلام مقتصر على الفئتين ولم يدخل فيهما قصة الملائكة. والوجه الرابع : في بيان كون هذه القصة آية ، قال الحسن : إن الله تعالى أمد رسوله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة بخمسة آلاف من الملائكة لأنه قال : {فاستجاب لَكُمْ أنّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ} [ الأنفال : 9 ] وقال : {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملائكة} [ آل عمران : 125 ] والألف مع الأربعة آلاف : خمسة آلاف من الملائكة وكان سيماهم هو أنه كان على أذناب خيولهم ونواصيها صوف أبيض ، وهو المراد بقوله {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء} والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 164 ـ 165}
قوله تعالى : {فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ}
قال الفخر :
المراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله هم المسلمون ، لأنهم قاتلوا لنصرة دين الله.
وقوله {وأخرى كَافِرَةٌ} المراد بها كفار قريش. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 165}
فائدة
قال فى الميزان :
قوله تعالى {فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة} لم يقل وأخرى في سبيل
الشيطان أو في سبيل الطاغوت ونحو ذلك لأن الكلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين بل لبيان أن لا غنى من الله تعالى وأن الغلبة له فالمقابلة بالحقيقة بين الإيمان بالله والجهاد في سبيله وبين الكفر به تعالى. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 94}
قوله تعالى : {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين}
قال الفخر : (11/374)
قرأ نافع وأبان عن عاصم {تَرَوْنَهُمْ} بالتاء المنقطة من فوق ، والباقون بالياء فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود ، والمعنى ترون أيها اليهود المسلمين مثل ما كانوا ، أو مثلي الفئة الكافرة ، أو تكون الآية خطاباً مع مشركي قريش والمعنى : ترون يا مشركي قريش المسلمون مثلي فئتكم الكافرة ، ومن قرأ بالياء فللمغالبة التي جاءت بعد الخطاب ، وهو قوله {فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ} فقوله {يَرَوْنَهُمْ} يعود إلى الإخبار عن إحدى الفئتين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 166}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه قد تقدم في هذه الآية ذكر الفئة الكافرة وذكر الفئة المسلمة فقوله {يرونهم مثليهم} يحتمل أن يكون الراؤن هم الفئة الكافرة ، والمرئيون هم الفئة المسلمة ، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذان احتمالان ، وأيضاً فقوله {مّثْلَيْهِمْ} يحتمل أن يكون المراد مثلي الرائين وأن يكون المراد مثلي المرئين فإذن هذه الآية تحتمل وجوهاً أربعة الأول : أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين.
والاحتمال الثاني : أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين ، والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم.
فإن قيل : هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال {وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} [ الأنفال : 44 ].
فالجواب : أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين ، فقللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم ، فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا معلوبين ، ثم إن تقليلهم في أول الأمر ، وتكثيرهم في آخر الأمر ، أبلغ في القدرة وإظهار الآية.(11/375)
والاحتمال الثالث : أن الرائين هم المسلمون ، والمرئيين هم المشركون ، فالمسلمون رأوا المشركين مثلى المسلمين ستمائة وأزيد ، والسبب فيه أن الله تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين قال الله تعالى : {إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [ الأنفال : 66 ].
فإن قيل : كيف يرونهم مثليهم رأي العين ، وكانوا ثلاثة أمثالهم ؟ .
الجواب : أن الله تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم ، وذلك لأنه تعالى قال : {إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم ، وإزالة للخوف عن صدورهم.
والاحتمال الرابع : أن الرائين هم المسلمون ، وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد ، لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين ، والآية تنافي ذلك ، وفي الآية احتمال خامس ، وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع اليهود ، فيكون المراد ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة.
فإن قيل : كيف رأوهم مثليهم فقد كانوا ثلاثة أمثالهم فقد سبق الجواب عنه.
بقي من مباحث هذا الموضع أمران :
(11/376)
البحث الأول : أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئياً ، والاحتمال الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئياً أما الأول : فهو محال عقلاً ، لأن المعدوم لا يرى ، فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي ، وأما الثاني : فهو جائز عند أصحابنا ، لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزاً لا واجباً ، وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات ، فلم يبعد أن يقال : إنه حصل ذلك المعجز ، وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد ، فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه أحدها : أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام ، فلا جرم يرى البعض دون البعض وثانيها : لعلّه يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعاً عن إدراك البعض وثالثها : يجوز أن يقال : إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعاً عن إدراك ثلث العسكر ، وكل ذلك محتمل.
(11/377)
البحث الثاني : اللفظ وإن احتمل أن يكون الراؤن هم المشركون ، وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر فقيل : إن كون المشرك رائياً أولى ، ويدل عليه وجوه الأول : أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول ، فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلاً ، وأبعدهما مفعولاً أولى من العكس ، وأقرب المذكورين هو قوله {وأخرى كَافِرَةٌ} والثاني : أن مقدمة الآية وهو قوله {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} خطاب مع الكفار فقراءة نافع بالتاء يكون خطاباً مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم ، فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركاً الثالث : أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية الكفار ، حيث قال : {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا} فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه ، أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة الكافر والله أعلم.
واحتج من قال : الراؤن هم المسلمون ، وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال ، ولو كان الراؤن هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال ، وكان ذلك أولى والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 166 ـ 167}
وقال القرطبى :
قرأ نافع "تَرَوْنَهُم" بالتاء والباقون بالياء.
{مِّثْلَيْهِمْ} نصب على الحال من الهاء والميم في "ترونهم".
والجمهور من الناس على أن الفاعل بترون هم المؤمنون ، والضمير المتصل هو للكفار.
وأنكر أبو عمرو أن يقرأ "ترونهم" بالتاء ؛ قال : ولو كان كذلك لكان مِثليكم.
قال النحاس : وذا لا يلزم ، ولكن يجوز أن يكون مِثلى أصحابكم.
قال مكيّ : "تَرَوْنَهُم" بالتاء جرى على الخطاب في {لَكُم} فيحسن أن يكون الخطاب للمسلمين ، والهاء والميم للمشركين.
(11/378)
وقد كان يلزم من قرأ بالتاء أن يقرأ مثليكم بالكاف ، وذلك لا يجوز لمخالفة الخط ؛ ولكن جرى الكلام على الخروج من الخطاب إلى الغيبة ؛ كقوله تعالى : {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [ يونس : 22 ] ، وقوله تعالى : {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ} [ الروم : 39 ] فخاطب ثم قال : {فأولئك هُمُ المضعفون} [ الروم : 39 ] فرجع إلى الغيبة.
فالهاء والميم في {مِثْلَيْهِم} يحتمل أن يكون للمشركين ، أي ترون أيها المسلمون المشركين مثليْ ما هم عليه من العدد ؛ وهو بعيد في المعنى ؛ لأن الله تعالى لم يُكْثر المشركين في أعين المسلمين بل أعلمنا أنه قلَّلَهم في أعين المؤمنين ، فيكون المعنى ترون أيها المؤمنون المشركين مِثليْكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ، فقلَّلَ الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مِثَليْ عِدّتهم لتقوى أنفُسهم ويقع التجاسُر ، وقد كانوا أُعلِموا أنّ المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، وقلّل المسلمين في أعين المشركين ليجْتَرئوا عليهم فينْفُذ حكم الله فيهم.
ويحتمل أن يكون الضمير في {مِثليْهِم} للمسلمين ، أي ترون أيها المسلمون المسلمين مِثليْ ما أنتم عليه من العدد ، أي ترون أنفسكم مثليْ عددكم ؛ فعل الله ذلك بهم لتقوى أنفسهم على لقاء المشركين.
والتأويل الأوّل أولى ؛ يدل عليه قوله تعالى : {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} [ الأنفال : 43 ] وقوله : {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [ الأنفال : 44 ].
وروى عن ابن مسعود أنه قال : قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أظنهم مائة.
فلما أخذنا الأسارى أخبرونا أنهم كانوا ألفاً.
وحكى الطبريّ عن قوم أنهم قالوا : بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكافرين حتى كانوا عندهم ضِعفيْهم.
وضعَّف الطبري هذا القول.
قال ابن عطية : وكذلك هو مردود من جهات.
(11/379)
بل قلّل الله المشركين في أعين المؤمنين كما تقدّم.
وعلى هذا التأويل كان يكون "ترون" للكافرين ، أي ترون أيها الكافرون المؤمنين مثليهم ، ويحتمل مثليكم ، على ما تقدّم.
وزعم الفرّاء أنّ المعنى تروْنَهم مثلَيْهم ثلاثةَ أمثالهم.
وهو بعيدٌ غير معروف في اللغة.
وقال الزجاج : وهذا باب الغلط ، فيه غلط في جميع المقاييس ؛ لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساوياً له ، ونعقِل مثليْه ما يساويه مرتين.
قال ابن كَيْسان : وقد بين الفرّاء قوله بأن قال : كما تقول وعندك عبدٌ : أحتاج إلى مثله ، فأنت محتاج إليه وإلى مثله.
وتقول : أحتاج إلى مثليه ، فأنت محتاج إلى ثلاثة.
والمعنى على خلاف ما قال ، واللغةُ.
والذي أوقع الفرّاء في هذا أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين يوم بدر ؛ فتوهّم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عِدّتهم ، وهذا بعيد وليس المعنى عليه.
وإنما أراهم الله على غير عِدّتهم لجهتين : إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك ؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبهم بذلك.
والأخرى أنه آية للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وسيأتي ذكر وقعة بدر إن شاء الله تعالى.
وأمّا قراءة الياء فقال ابن كيسان : الهاء والميم في {يرونهم} عائدة على {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} والهاء والميم في {مثليْهم} عائدة على {فِئَةٌ تُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ} وهذا من الإضمار الذي يدل عليه سياق الكلام ، وهو قوله : {يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ}.
فدل ذلك على أن الكافرين كانوا مِثْلَي المسلمين في رأي العين وثلاثة أمثالهم في العدد.
قال : والرؤية هنا لليهود.
وقال مكيّ : الرؤية للفئة المقاتلة في سبيل الله ، والمرئية الفئة الكافرة ؛ أي ترى الفئةُ المقاتلة في سبيل الله الفئةَ الكافرة مثْلَي الفئة المؤمنة ، وقد كانت الفئة الكافرة ثلاثة أمثال المؤمنة فقلّلهم الله فى أعينهم على ما تقدّم.
والخطاب في {لكم} لليهود.
(11/380)
وقرأ ابن عباس وطلحة "تُرَوْنَهم" بِضم التاء ، والسلميّ بالتاء مضمومة على ما لم يسم فاعله.أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 26 ـ 27}
وقال ابن الجوزى :
فإن قيل : كيف يقال : إن المشركين استكثروا المسلمين ، وإن المسلمين استكثروا المشركين ، وقد بين قوله تعالى : {وإِذ يريكموهم إِذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم} [ الأنفال : 44 ] أن الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى ؟ فالجواب : أنهم استكثروهم في حال ، واستقلوهم في حال ، فإن قلنا : إن الفئة الرائية المسلمون ، فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ماهم عليه ، ثم قلل الله المشركين في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم ، فنصرهم الله بذلك السبب.
قال ابن مسعود : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم ، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً.
وقال في رواية اخرى : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا منهم رجلاً ، فقلت : كم كنتم ؟ قال : ألفاً.
وإن قلنا : إن الفئة الرائية المشركون ، فإنهم استقلوا المسلمين في حال ، فاجترؤوا عليهم ، واستكثروهم في حال ، فكان ذلك سبب خذلانهم ، وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ ، قالوا للمسلمين : كم كنتم ؟ قالوا : كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر.
قالوا : ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 358}
وقال فى روح البيان :
قللهم أولا فى أعينهم حتى اجترأوا عليهم فلما لاقوهم كثروا فى أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير فى حالين مختلفين وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى أبلغ فى القدرة وإظهار الآية. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 12}
وقال ابن كثير :(11/381)
وقوله : {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} قال بعض العلماء -فيما حكاه ابن جرير : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ، أي : جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم. وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة ، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر لهم المسلمين ، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة ، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا. وهكذا كان الأمر ، كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدّهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم.
والقول الثاني : " أن المعنى في قوله : {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} أي : ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم ، أي : ضعفيهم في العدد ، ومع هذا نصرهم الله عليهم. وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي ، عن ابن عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا. وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية ، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس ، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف كما رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدّة قريش ، فقال : كثير ، قال : "كم ينحرون كل يوم ؟ " قال : يومًا تسعًا ويومًا عشرًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف".
وروى أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن حارثة ، عن علي ، قال : كانوا ألفًا ، وكذا قال ابن مسعود. والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف ، وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين ، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم. لكن وجه ابن جرير هذا ، وجعله صحيحًا كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ، وتكون محتاجًا إلى ثلاثة آلاف ، كذا قال. وعلى هذا فلا إشكال.
(11/382)
لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين ، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر : {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} ؟ [ الأنفال : 44 ] والجواب : أن هذا كان في حال ، والآخر كان في حال أخرى ، كما قال السُّدِّي ، عن [مرة] الطيب عن ابن مسعود في قوله : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ]} الآية ، قال : هذا يوم بدر. قال عبد الله بن مسعود : وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضْعَفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا ، وذلك قوله تعالى : {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}.
وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة. قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا. فعندما عاين كل الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم ، أي : أكثر منهم بالضعف ، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم ، عز وجل. ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ، ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء ، وهؤلاء في أعين هؤلاء ، ليقدم كل منهما على الآخر.
(11/383)
{لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} أي : ليفرّق بين الحق والباطل ، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر ، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين ، كما قال تعالى : {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [ آل عمران : 123 ] وقال هاهنا : {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ} أي : إن في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكم الله وأفعاله ، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 17 ـ 18}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
فأما قراءة نافع ففيها ثمانية أوجهٍ :
أحدها : أن الضميرَ في " لَكُمْ " والمرفوع في " تَرَوْنَهُمْ " للمؤمنين ، والضمير المنصوب في " تَرَوْنَهُمْ " والمجرور في " مِثْلَيْهِمْ " للكافرين ، والمعنى : قد كان لكم - أيها المؤمنون - آية في فئتين بأن رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد ، وهو أبلغ في القدرة ؛ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عَدَدِ الكافرين ، ومع ذلك انتصروا عليهم وغلبوهم ، وأوقعوا بهم الأفاعيلَ ، ونحوه قوله تعالى : {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [ البقرة : 249 ].(11/384)
واستبعد بعضهم هذا التأويلَ ؛ لقوله تعالى - في الأنفال [ الآية : 44 ] - : {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} ، فالقصة واحدة ، وهناك تدل الآية على أن الله - تعالى - قلَّل المشركين في أعين المؤمنين ؛ لئلا يَجْبُنُوا عنهم ، وعلى هذا التأويل - المذكور ههنا - يكون قد كثرهم في أعينهم. ويمكن أن يجاب باختلاف الحالين ؛ وذلك أنه في وقتٍ أراهم [ إياهم ] مثلي عددهم ؛ ليمتحنهم ويبتليهم ، ثم قلَّلهم في أعينهم ؛ ليقدموا عليهم ، فالآيتان باعتبارين ، ومثله قوله تعالى : {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [ الرحمن : 39 ] ، وقوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ الحجر : 92 ] وقوله : {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [ النساء : 42 ] مع قوله : {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [ المرسلات : 35 ].
قال الفرّاء : المراد بالتقليل : التهوين ، كقولك - في الكلام - إني لأرى كثيركم قليلاً ، أي : قد هوّن عليّ ، [ لا أني أرى الثلاثة اثنين ].
(11/385)
الثاني : أن يكون الخطاب في " تَرَوْنَهُم " للمؤمنين - أيضاً - والضمير المنصوب في " تَرَوْنَهُمْ " للكافرين - أيضاً - والضمير المجرور في " مِثْلَيْهِمْ " للمؤمنين ، والمعنى : تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون الكافرين مثلَي عدد أنفسكم ، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأي العينِ ؛ وذلك أن الكفار كانوا ألفاً ونَيِّفاً ، والمسلمون على الثلث منهم ، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم ، على ما قرر عليهم - في مقاومة الواحدِ للاثنين - في قوله تعالى : {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مائة صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [ الأنفال : 66 ] بعدما كُلِّفوا أن يقاوم كلُّ واحد عشرة في قوله تعالى : {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مائة يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ} [ الأنفال : 65 ].
قال الزمخشريُّ - رحمه الله - " وقراءة نافع لا تُساعِد عليه " ، يعني على هذا التأويل المذكور ولم يُبين وجه عدم المساعدةِ ، ووجهه - والله أعلم - أنه كان ينبغي أن يكون التركيبُ : ترونهم مثليكم - بالخطاب في " مِثْلَيهم " لا بالغيبة.
قال أبو عبدِ الله الفارسيّ - بعد الذي ذكره الزمخشريّ- : " قلت : بل يُساعد عليه ، إن كان الخطاب في الآية للمسلمين ، وقد قيل ذلك " اه ، فلم يأت أبو عبد الله بجواب ؛ إذ الإشكالُ باقٍ. وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجوابين :
أحدهما : أنه من باب الالتفاتِ من الخطاب إلى الغيبة ، وأنَّ حقَّ الكلام : مثلَيْكم - بالخطاب - إلا أنه التفت إلى الغيبة ، ونظَّره بقوله تعالى : {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [ يونس : 22 ].
والثاني : أن الضمير في " مِثْلَيْهِمْ " وإن كان المراد به المؤمنين إلا أنه عاد على قوله : {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله} ، والفئة المقاتلة في سبيل الله عبارة عن المؤمنين المخاطبين.(11/386)
والمعنى : تَرَوْنَ - أيها المؤمنون - الفئةَ الكافرةَ مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله ، [ فكأنه ] قيل : ترونهم - أيها المؤمنون - مثليكم ، وهو جواب حسن.
فإن قيل : كيف يرونهم مثليهم رأيَ العينِ ، وقد كانوا ثلاثة أمثالكم ؟
فالجواب : أن الله - تعالى - إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم ؛ وذلك لأنه - تعالى - قال : {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مائة صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} فأظهر ذلك العدد [ من المشركين ] للمؤمنين ؛ تقوية لقلوبهم ، وإزالةٌ للخوف عن صدورهم.
الثالث : أن يكون الخطاب في " لَكُمْ " وفي " تَرَونَهُم " للكفار وهم قريش ، والضمير المنصوب والمجرور للمؤمنين أي : قد كان لكم - أيها المشركون - آية ؛ حيث ترون المسلمين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون قد كثرهم في أعين الكفارِ ، ليجبنُوا عنهم ، فيعود السؤالُ المذكور بين هذه الآية ، وآية الأنفال ، وهي قوله تعالى : {وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} [ الأنفال : 44 ] ، فكيف يقال - هنا - إنه يكثرهم ؟ فيعود الجواب المتقدم باختلاف الحالتين ، وهو أنه قللهم أولاً ، ليجترئ عليهم الكفارُ ، فلما التقى الجمعان كثرهم في أعينهم ؛ ليحصل لهم الخَوَرُ والفَشَلُ.
الرابع : كالثالث ، إلا أن الضمير في " مثليهم " يعود على المشركين ، فيعودُ ذلك السؤالُ ، وهو أنه كان ينبغي أن يقال : مثليكم ، ليطابق الكلام ، فيعود الجوابان.
(11/387)
وهما : إما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وإما عوده على الفئة الكافرة ؛ لأنها عبارة عن المشركين ، كما كان ذلك الضمير عبارة عن الفئة المقاتلة ، ويكون التقدير : ترون - أيها المشركون - المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة. وعلى هذا فيكونون قد رَأوا المؤمنين مثلي أنفسِ المشركين - ألفين ونيفاً - وهذا مَدَدٌ من الله تعالى ، حيثُ أرى الكفارَ المؤمنين مثلي عدد المشركين ، حتى فشلوا ، وجبنوا ، فطمع المسلمون فيهم ، فانتصروا عليهم ، ويؤيده قوله تعالى : {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} [ آل عمران : 13 ] الإرادة - هنا - بمنزلة المدد بالملائكة في النصرة بكليهما ، ويعود السؤال ، وهو كيف كثرهم إلى هذه الغايةِ مع قوله - في الأنفال- : {وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} [ الأنفال : 44 ] ؟ ويعود الجواب.
الخامس : أن الخطاب في " لَكُم " و" تَرَوْنَهُمْ " لليهود ، والضميران - المنصوب والمجرور - على هذا عائدان على المسلمين ، على معنى : ترونهم - لو رأيتموهم - مثليهم ، وفي هذا التقدير تكلُّف لا حاجة إليه.
(11/388)
وكأن هذا القائل اختار أن يكون الخطاب في الآية المتقدمة - وهي قوله : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} - {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} - لليهود ، فجعله في " تَرَوْنَهُم " لهم - أيضاً - ولكن الخروج من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أوْلَى من هذا التقدير المتكلف ؛ لأن اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ ، حتى يُخَاطَبُوا برؤيتهم لهم كذلك ، ويجوز - على هذا القول - أن يكون الضمير - المنصوب والمجرور - عائدَيْن على الكفار ، أي : أنهم كُثِّرَ في أعينهم الكفارُ ، حتى صاروا مثلي عدد المؤمنين ، ومع ذلك غلبهم المؤمنون ، وانتصروا عليهم ، فهو أبلغ في القدرة. ويجوز أن يعود المنصوب على المسلمين ، والمجرور على المشركين ، أي : ترون - أيها اليهود المسلمين مثلي عدد المشركين ؛ مهابةً لهم ، وتهويلاً لأمر المؤمنين ، كما كان ذلك في حق المشركين - فيما تقدم من الأقوال- ، ويجوز أن يعود المنصوب على المشركين ، والمجرور على المسلمين ، والمعنى : ترون - أيها اليهود لو رأيتم - المشركين مثلي عدد المؤمنين وذلك أنتم قُلِّلوا في أعينهم ؛ ليَحْصُل لهم الفزَعُ والغَمُّ ؛ لأنه كان يغمهم قلةُ المؤمنين ، ويعجبهم كثرتهم ونصرتهم على المسلمين ، حَسَداً وبَغْياً.
فهذه ثلاثة أوجهٍ مرتبة على الوجهِ الخامسِ ، فتصير ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع. أما قراءة الباقين ففيها أوجه :
أحدها : أنها كقراءة الخطاب ، فكل ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا ، ولكنه جاء على باب الالتفاتِ من خطاب إلى غيبةٍ.
الثاني : في أن الخطاب في " لَكُمْ " للمؤمنين ، والضمير المرفوع في " يَرَوْنَهُم " للكفار ، والمنصوب والمجرور للمسلمين ، والمعنى : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين - ستمائة ونيفاً وعشرين - أراهم الله - مع قتلهم - إياهم ضعفهم ؛ ليهابوهم ، ويجبنوا عنهم.
(11/389)
الثالث : أن الخطاب في " لَكُم " للمؤمنين - أيضاً - والضمير المرفوع في " يَرَوْنَهُم " للكفار ، والمنصوب للمسلمين ، والمجرور للمشركين ، أي : يرى المشركون [ المؤمنين ] مثلي عدد المشركين أراهم الله المؤمنين أضعافهم ؛ لما تقدم في الوجه قبله.
الرابع : أن يعود الضميرُ المرفوعُ في " يَرَوْنَهُم " على الفئة الكافرةِ ؛ لأنها جمع في المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين ، أو [ على ] المسلمين ، أو أحدهما لأحدهم.
والذي تقوى في هذه الآيةِ - من جميع الوجوه المتقدمةِ - من حيث المعنى أن يكون مدارُ الآيةِ على تقليل المسلمين ، وتكثير الكافرين ؛ لأن مقصود الآية ومساقها للدلالةِ على قدرةِ الله الباهرةِ ، وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم ، وخُذْلان الكافرين مع كَثْرةِ عددهم وتحزبهم لنعلم أن النصر كله من عند الله ، وليس سببه كثرتكم وقلةَ عدوِّكم ، بل سببه ما فعله الله تعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم ، ويؤيده قوله بعد ذلك : {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} وقال في موضع آخر : {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} [ التوبة : 25 ].
وقال أبو شامة - بَعْدَ ذِكر هذا المعنى وتقويته- : فالهاء في " يَرَوْنَهُمْ " للكفار ، سواء قُرِئ بالغيبة أم بالخطاب ، والهاء في " مِثلَيْهم " للمسلمين.
فإن قلت : إن كان المراد هذا فهلاَّ قيل : يَرَونَهُمْ ثلاثةَ أمثالهم ، فكان أبلغ في الآية ، وهي نَصْر القليل على هذا الكثير ، والعدة كانت كذلك أو أكثر ؟
(11/390)
قلت : أخبر عن الواقع ، وكان آية أخرى مضمومة إلى آيةِ البصر ، وهي تقليل الكفارِ في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه ، وهو أن الواحد من المسلمين يَغْلِب الاثنين ، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا ، وفيه فائدةُ وقوع ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه انتهى.
قال شهاب الدين : " وإلى هذا المعنى ذهب الفراء ، أعني أنهم يرونهم ثلاثةَ أمثالهم فإنه قال : مثليهم : ثلاثة أمثالهم ، كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ".
وغلطة أبو إسحاقَ - في هذا - وقال : مِثْل الشيء : ما ساواه ، ومثلاه [ ما ساواه ] مرتين.
قال ابن كَيْسان : الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا - يوم بدر - ثلاثة أمثالِ المؤمنين فتوهَّم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم ، والمعنى ليس عليه ، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين :
إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبُهم بذلك.
والأخرى : أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم.
والجملة - على قراءة نافع - يحتمل أن تكون مستأنفةً ، لا محل لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون لها محل ، وفيه - حينئذ - وجهانِ :
أحدهما : النصب على الحال من الكاف في " لَكُم " أي : قد كان لكم حال كونكم ترونهم.
والثاني : الجر ؛ نعتاً لـ " فِئَتَيْنِ " ؛ لأن فيها ضميراً يرجع عليهما ، قاله أبو البقاء وأما على قراءة الغيبة فيحتمل الاستئناف ، ويحتمل الرفع ؛ صفة لإحدى الفئتين ، ويحتمل الجر ؛ صفة لـ " فِئَتَيْنِ " أيضاً ، على أن تكون الواو في " يَرَوْنَهُمْ " ترجع إلى اليهود ؛ لأن في الجملة ضميراً يعود على الفئتين. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 61 ـ 65}
فائدة
قال السمرقندى :
فإن قيل : إن اليهود لم يكونوا حضوراً في ذلك الوقت ، فكيف يرون ذلك ؟(11/391)
قيل له : إذا انتشر الخبر فهموا ، وعلموا ذلك صار كالمعاينة ، ولأن لهم جواسيس عند المسلمين يخبرون اليهود بذلك ، فصار كأن كلهم رأى ذلك ، ومن قرأ بالياء معناه أن المسلمين يرون الكفار مثليهم.
ويقال إن المشركين حين خرجوا من مكة ، كانوا ألفاً وثلاثمائة رجل ، فلما وجدوا العير سالمة رجع مع العير ثلاثمائة وخمسون ، وتخلف تسعمائة وخمسون للحرب ، وكان أبو سفيان بن حرب في تلك العير ، فرجع إلى مكة ، وحثّهم على المسير ، ولم يكن حاضراً وقت الحرب ، وإنما قال الكلبي في كتابه : نزلت في جمع أبي سفيان وأصحابه ، لأن أبا سفيان هو الذي حثهم على الخروج. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 222 ـ 223}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : {رَأْيَ العين} في انتصابه ثلاثة أوجهٍ ، تقدم منها اثنان النصب على المصدر التوكيدي ، أو النصب على المصدر التشبيهيّ.
الثالث : أنه منصوب على ظرف المكانِ ، قال الواحديُّ : ".. كما تقول : ترونهم أمامكم ، ومثله هو مني مَزجَرَ الكلب ، وَمَناطَ [ الْعُنق ] ، وهذا إخراج للفظ عن موضوعه - مع عدم المساعد - معنًى أو صناعةً.
و " رأى " مشترك بين " رأى " معنى أبصر ، ومصدره : الرَّأي ، والرؤية ، وبمعنى اعتقد وله الرأي وبمعنى الحلم ، وله الرؤيا كالدنيا ، فوقع الفرق بالمصدر ، فالرؤية للبصر خاصةً ، والرؤيا للحلم فقط ، والرأي مشترك بين البصرية والاعتقادية ، يقال : هذا رأي فلان ، أي : اعتقاده.
قال : [ الطويل ]
1357 - رَأى النَّاسَ - إلاَّ مَنْ رَأى مِثْلَ رَأيِهِ... خَوَارِدَ تَرَّاكِينَ قَصْدَ الْمَخَارِجِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 69}
قوله تعالى : {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء}
قال الفخر : (11/392)
نصر الله المسلمين على وجهين : نصر بالغلبة كنصر يوم بدر ، ونصر بالحجة ، فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال : هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة ، وبالعاقبة الحميدة ، والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره ، لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 167}
قوله تعالى : {إِنَّ فِى ذلك لَعِبْرَةً}
قال الفخر :
العبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر ، ومنه العبارة وهي كلام الذي يعبر بالمعنى إلى المخاطب ، وعبارة الرؤيا من ذلك ، لأنها تعبير لها ، وقوله {لأُوْلِى الأبصار} أي لأولي العقول ، كما يقال : لفلان بصر بهذا الأمر ، أي علم ومعرفة ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 167 ـ 168}
قال الماوردى :
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ} فيه وجهان :
أحدهما : أن في نصرة الله لرسوله يوم بدر مع قلة أصحابه عبرة لذوي البصائر والعقول.
والثاني : أن فيما أبصره المشركون من كثرة المسلمين مع قلتهم عبرة لذوي الأعين والبصائر. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 375}
لطيفة
قال فى روح البيان :
على العاقل أن يعتبر بالآيات ولا يغتر بكثرة الأعداد من الأموال والأولاد وعدم اجتهاده لمعاده فإن الله يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب غليظ(11/393)
واعلم أن المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الأزلى بالشقاوة ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا فغلبات الهوى والنفس ترد إلى أسفل سافلين الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه فى قعر جهنم وبئس المهاد فإنه مهده فى معاشه والنار ناران نار الله ونار الجحيم فأما نار الله فهى نار حسرة القطيعة عن الله فيها يعذب قلوب المحجوبين عن الله كقوله تعالى {نار الله الموقدة التي تتطلع على الأفئدة} وأما نار الجحيم فهى نار الشهوات والمعاملات على الغفلات من المخالفات فهى تحرق قشور الجلود كما قال تعالى {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} ولا يتخلص من هذه النار إلا لب القلوب وأن عذاب حرقة الجلد بالنسبة إلى عذاب حرقة القلوب كنسيم الحياة وسموم الممات فلا بد من تزكية النفس فإنها سبب للخلاص من عذاب الفرقة قيل لبعضهم بم يتخلص العبد من نفسه قال بربه انتهى
فإذا أراد الله أن ينصر عبده على ما طلب منه أمده بجنود الأنوار فكلما اعترته ظلمة قام لها نور فأذهبها وقطع عنه مواد الظلم والأغيار فلم يبق للهوى مجال ولا للشهوة والأخلاق الذميمة مقال ولا قال ، فالنور جند القلب كما إن الظلمة جند النفس والمراد بالنور حقائق ما يستفاد من معانى الأسماء والصفات وبالظلمة معانى ما يستفاد من الهوى والعوائد الردئية قال تعالى {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها} أى غيروا حالها عما هى عليه وكذلك إذا وردت الواردات الربانية على القلوب الممتلئة أخرجت منها كل صفة ردئية وكستها كل خلق زكية فهذه الدولة إنما تنال بترك الدنيا والعقبى فكيف يمتلىء بالأنوار قلب من خالط الأغيار وأحب المال والأولاد ولم يخف من رب العباد. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 12 ـ 13}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا} الآية.(11/394)
ذكر في هذه الآية الكريمة أن وقعة بدر آية أي : علامة على صحة دين الإسلام إذ لو كان غير حق لما غلبت الفئة القليلة الضعيفة المتمسكة به الفئة الكثيرة القوية التي لم تتمسك به.
وصرح في موضع آخر أن وقعة بدر بينة أي لا لبس في الحق معها وذلك في قوله : {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [ الأنفال : 42 ].
وصرح أيضاً بأن وقعة بدر فرقان فارق بين الحق والباطل وهو قوله : {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [ الأنفال : 41 ] الآية. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 222}
فائدة
قال الجصاص :
وقَوْله تَعَالَى : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ الْفِئَةُ الرَّائِيَةُ لِلْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ، فَرَأَوْهُمْ مِثْلَيْ عُدَّتِهِمْ ، وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَمْثَالَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ وَالْمُسْلِمُونَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ ، فَقَلَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ لِتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ : قَوْلُهُ : {قَدْ كَانَ لَكُمْ} آيَةٌ مُخَاطِبَةٌ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلَى جَهَنَّمَ} وَقَوْلُهُ : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَتَمَامٌ لَهُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْكَافِرِينَ رَأَوْا الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْهِمْ ، وَأَرَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ لِيُجَنِّبَ قُلُوبَهُمْ وَيُرْهِبَهُمْ فَيَكُونُ أَقْوَى لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ أَحَدُ أَبْوَابِ النَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْخِذْلَانِ لِلْكَافِرِينَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحَدُهُمَا : غَلَبَةُ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ لِلْكَثِيرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَجْرَى الْعَادَةِ ؛ لِمَا أَمَدَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ.
وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَعَدَهُمْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ اللِّقَاءِ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ وَقَالَ : {هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ} وَكَانَ كَمَا وَعَدَ اللَّهُ ، وَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 286}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إذا أراد اللهُ إمضاءَ أمرٍ قلَّل الكثير في أعين قوم ، وكثَّر القليل في أعين قوم ، وإذا لبَّس على بصيرة قوم لم ينفعهم نفاذ أبصارهم ، وإذا فتح أسرار آخرين فلا يضرهم انسداد بصائرهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 223}(11/395)
قوله تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما علم بهذا أن الذي وقف بهم عن الإيمان من الأموال والأولاد وسائر المتاع إنما هو شهوات وعرض زائل ، لا يؤثره على اتباع ما شرعه الملك إلا من انسلخ من صفات البشر إلى طور البهائم التي لا تعرف إلا الشهوات ، وختم ذلك بذكر آية الفئتين كان كأنه قيل : الآية العلامة ، ومن شأنها الظهور ، فما حجبها عنهم ؟ فقيل : تزيين الشهوات لمن دنت همته.(11/396)
وقال الحرالي : لما أظهر سبحانه وتعالى في هذه السورة ما أظهره بقاء لعلن قيوميته من تنزيل الكتاب الجامع الأول ، وإنزال الكتب الثلاثة : إنزال التوراة بما أنشاء عليه قومها من وضع رغبتهم ورهبتهم في أمر الدنيا ، فكان وعيدهم فيها ووعدهم على إقامة ما فيها إنما هو برغبة في الدنيا ورهبتها ، لأن كل أمة تدعى لنحو ما جبلت عليه من رغبة ورهبة ، فمن مجبول على رغبة ورهبة في أمر الدنيا ، ومن مجبول على ما هو من نحو ذلك في أمر الآخرة ومن مفطور على ما هو من غير ذلك من أمر الله ، فيرد خطاب كل أمة وينزل عليها كتابها من نحو ما جبلت عليه ، فكان كتاب التوراة كتاب رجاء ورغبة وخوف ورهبة في موجود الدنيا ، وكان كتاب الإنجيل كتاب دعوة إلى ملكوت الآخرة ، وكانا متقابلين ، بينهما ملابسة ، لم يفصل أمرهما فرقان واضح ، فكثر فيهما الاشتباه ، فأنزل الله تعالى الفرقان لرفع لبس ما فيهما فأبان فيه المحكم والمتشابه من منزل الوحي ، وكما أبان فيه فرقان الوحي أبان فيه أيضاً فرقان الخلق وما اشتبه من أمر الدنيا والآخرة ووام التبس على أهل الدنيا من أمر الخلق بلوائح آيات الحق عليهم ، فتبين في الفرقان محكم الوحي من متشابهه ، ومحكم الخلق من متشابهه وكان متشابه الخلق هو المزين من متاع الدنيا ، ومحكم الخلق هو المحقق من دوام خلق الآخرة ، فاطلع نجم هذه الآية لإنارة غلس ما بنى عليه أمر التوراة من إثبات أمر الدنيا لهم وعداً ووعيداً ، لتكون هذه الآية توطئة لتحقيق صرف النهي عن مد اليد والبصر إلى ما متع به أهلها ، فأنبأ تعالى أن متاع الدنيا أمر مزين ، لا حقيقة لزينته ولا حسن لما وراء زخرفه فقال : {زين للناس} فأبهم المزين لترجع إليه ألسنة التزيين مما كانت في رتبة علو أو دنو ، وفي إناطة التزيين بالناس دون الذين آمنوا ومن فوقهم إيضاح لنزول سنهم في أسنان القلوب وأنهم ملوك الدنيا وأتباعهم ورؤساء القبائل وأتباعهم الذين هم أهل الدنيا {حب(11/397)
الشهوات} جمع شهوة ، وهي نزوع النفس إلى محسوس لا تتمالك عنه - انتهى.
وفي هذا الكلام إعلام بأن الذي وقع عليه التزين الحب ، لا الشيء المحبوب ، فصار اللازم لأهل الدنيا إنما هو محبة الأمر الكلي من هذه المسميات وربما إذا تشخص في الجزئيات لم تكن تلك الجزئيات محبوبة لهم ، وفيه تحريك لهمم أهل الفرقان إلى العلو عن رتبة الناس الذين أكثرهم لا يعلمون ولا يشكرون ولا يعقلون ، ثم بين ذلك بما هو محط القصد كله ، وآخر العمل من حيث إن الأعلق بالنفس حب أنثاها التي هي منها {خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} [ النساء : 1 ] فقال : {من النساء} أي المبتدئة منهن ، وأتبعه ما هو منه أيضاً وهو بينه وبين الأنثى فقال : {والبنين} قال الحرالي : وأخفى فتنة النساء بالرجال ستراً لهن ، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم حيث قال : {وعصى آدم ربه} [ طه : 121 ] فأخفاهن لما في ستر الحرم من الكرم ، والله سبحانه وتعالى حي كريم - انتهى.
ثم أتبع ذلك ما يكمل به أمره فقال : {والقناطير} قال الحرالي : جمع قنطار ، يقال : هو مائة رطل ويقال : إن الرطل اثنتا عشرة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً ، والدرهم خمسون حبة وخمساً من حب الشعير ، وأحقه أن يكون من شعير المدينة {المقنطرة} أي المضاعفة مرات - انتهى.(11/398)
ثم بينها بقوله : {من الذهب والفضة} ثم أتبعها الزينة الظاهرة التي هي أكبر الأسباب في تحصيل الأموال فقال : {والخيل} قال الحرالي : اسم جمع لهذا الجنس المجبول على هذا الاختيال لما خلق له من الاعتزاز به وقوة المنة في الافتراس عليه الذي منه سمي واحدة فرساً {المسومة} أي المعلمة بأعلام هي سمتها وسيماها التي تشتهر بها جودتها ، من السومة - بضم السين ، وهي العلامة التي تجعل على الشاة لتعرف بها ، وأصل السوم بالفتح الإرسال للرعي مكتفي في المرسل بعلامات تعرف بها نسبتها لمن تتوفر الدواعي للحفيظة عليها من أجله من الواقع عليها من الخاص والعام ، فهي مسومة بسيمة تعرف بها جودتها ونسبتها {والأنعام} وهي جمع نعم ، وهي الماشية فيها إبل ، والإبل واحدها ، فإذا خلت منها الإبل لم يجر على الماشية اسم نعم - انتهى.
وقال في القاموس : النعم - وقد تسكن عينه - الإبل والشياء جمع أنعام ، وجمع جمعه أناعيم.
وقال القزاز في جامعه : النعم اسم يلزم الإبل خاصة ، وربما دخل في النعم سائر المال ، وجمع النعم أنعام ، وقد ذكر بعض اللغويين أن النعم في الإبل خاصة ، فإذا قلت : الأنعام - دخل فيها البقر والغنم ، قال : وإن أفردت الإبل والغنم لم يقل فيها نعم ولا أنعام.
وقال قوم : النعم والأنعام بمعنى ، وقال في المجمل : والأنعام البهائم ، وقال الفارابي في ديوان الأدب : والنعم واحد الأنعام ، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل.
ولما ذكر هذه الأعيان التي زين حبها في نفسها أتبعها ما يطلب لأجل تحصيلها أو تنيتها وتكثيرها فقال : {والحرث}.
ولما فصلها وختمها بما هو مثل الدنيا في البداية والنهاية والإعادة أجمل الخبر عن ثمرتها وبيان حقيقتها فقال : {ذلك} أي ما ذكر من الشهوات المفسر بهذه الأعيان تأكيداً لتخسيسه البعيد من إخلاد ذوي الهمم إليه ليقطعهم عن الدار الباقية.
وقال الحرالي : الإشارة إلى بعده عن حد التقريب إلى حضرة الجنة انتهى.(11/399)
{متاع الحياة الدنيا} أي التي هي مع دناءتها إلى فناء.
قال الحرالي : جعل سبحانه وتعالى ما أحاط به حس النظر العاجل من موجود العادل أدنى ، فافهم أن ما أنبأ به على سبيل السمع أعلى ، فجعل تعالى من أمر اشتباه كتاب الكون المرئي به وذكر المشهود أن عجل محسوس العين وحمل على تركه وقبض اليد بالورع والقلب بالحب عنه ، وأخر مشهود مسموع الأذن من الآخرة وأنبأ بالصدق عنه ونبه بالآيات عليه ليؤثر المؤمن مسمعه على منظره ، كما آثر الناس منظرهم على مسمعهم ، حرض لسان الشرع على ترك الدنيا والرغبة في الأخرى ، فأبت الأنفس وقبلت قلوب وهيم لسان الشعر في زينة الدنيا فقبلته الأنفس ولم تسلم القلوب منه إلا بالعصمة ، فلسان الحق يصرف إلى حق الآخرة ولسان الخلق يصرفه إلى زينة الدنيا ، فأنبا سبحانه وتعالى أن ما في الدنيا متاع ، والمتاع ما ليس له بقاء ، وهو في نفسه خسيس خساسة الجيفة انتهى.
ثم أتبع ذلك سبحانه وتعالى حالاً من فاعل معنى الإشارة لقال : {والله} الذي بيده كل شيء ، ويجوز أن يكون عطفاً على ما تقديره : وهو سوء المبدأ في هذا الذهاب إلى غاية الحياة ، والله {عنده حسن المآب} قال الحرالي : مفعل من الأوب وهو الرجوع إلى ما منه كان الذهاب انتهى.
فأرشد هذا الخطاب اللطيف كل من ينصح نفسه إلى منافرة هذا العرض الخسيس بأنه إن حصل له يعرض عنه بأن يكون في يده ، لا في قلبه فلا يفرح به بحيث يشغله عن الخير ، بل يجعل عوناً على الطاعة وأنه إن منع منه لا يتأسف عليه لتحقق زواله ولرجاء الأول إلى ما عند خالقه الذي ترك ذلك لأجله. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 33 ـ 36}
وقال ابن عاشور :
{زُيِّنَ}
(11/400)
استئناف نشأ عن قوله {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [آل عمران : 10] إذ كانت إضافة أموال وأولاد إلى ضمير هم على أنها معلومة للمسلمين ، قصد منه عظة المسلمين ألا يغتروا أولادهم بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا ، وتلهيهم عن التهمم بها به الفوز في الآخرة ، فإن التحذير يستدعي التحذير من البدايات ، وقد صدر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس ، حتى يكونوا على أشد الحذر منها ؛ لأن ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس.
والتزيين تصيير الشيء زينا أي حسنا ، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين ، وإزالة ما يعتريه من القبح أو التشويه ، ولذلك سمي الحلاق مزينا.
وقال امرؤ القيس :
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن : التي ترغب الناظرين في اقتنائه ، قال تعالى {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. وكلمة زين قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنها وخفتها قال عمر بن أبي ربيعة :
أزمعت خلتي مع الفجر بينا ... جلل الله ذلك الوجه زينا
وفي حديث سنن أبي داود : أن أبا برزة الأسلمي دخل على عبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض فلما دخل أبو برزة قال عبيد الله لجلسائه : إن محمديكم هذا الدحداح. قال أبو برزة : ما كنت أحسب أني أبقى في قوم يعيرونني بصحبة محمد. فقال عبيد الله إن صحبة محمد لك زين غير شين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 37}
فصل
قال الفخر : (11/401)
في كيفية النظم قولان الأول : ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفاً من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه ، وأيضاً روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة باطلة ، وأن الآخرة خير وأبقى.
القول الثاني : وهو على التأويل العام أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِى ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِى الأبصار} ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بيّن أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية ، واللذات الدنيوية ، ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها ، وتبقى تبعاتها ، ثم إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} [ آل عمران : 15 ] ثم بيّن طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 168}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن قوله {زُيّنَ لِلنَّاسِ} من الذي زين ذلك ؟ أما أصحابنا فقولهم فيه ظاهر ، وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو الله تعالى وأيضاً قالوا : لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان ، فإن كان ذلك شيطاناً آخر لزم التسلسل ، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان ، وإن كان من الله تعالى ، وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك ، وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} [ القصص : 63 ] يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا ، وهذا الكلام ظاهر جداً.(11/402)
أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال :
القول الأول : حكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زين لهم ، وكان يحلف على ذلك بالله ، واحتج القاضي لهم بوجوه أحدها : أنه تعالى أطلق حب الشهوات ، فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان وثانيها : أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ، ومنتهى مقصوده ، لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها : قوله تعالى : {ذلك متاع الحياة الدنيا} ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزيناً له ورابعها : قوله بعد هذه الآية {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} [ آل عمران : 15 ] والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه ، وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه.
(11/403)
والقول الثاني : قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه أحدها : أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده ، وإباحتها للعبيد تزيين لها ، فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى ، وخلق للمشتهي علماً بما في تناول المشتهى من اللذة ، ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزيناً لها وثانيها : أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة ، والله تعالى قد ندب إليها ، فكان مزيناً لها ، وإنما قلنا : إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول : أن يتصدق بها والثاني : أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى والثالث : أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سبباً لاشتغال العبد بالشكر العظيم ، ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعراً هذا معناه والرابع : أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثواباً ، فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس : قوله تعالى : {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً} [ البقرة : 29 ] وقال : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطيبات مِنَ الرزق} [ الأعراف : 32 ] وقال : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} [ الكهف : 7 ] وقال : {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} [ الأعراف : 31 ] وقال في سورة البقرة {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} [ البقرة : 22 ] وقال {كُلُواْ مِمَّا فِى الأرض حلالا طَيّباً} [ البقرة : 168 ] وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى ، ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد {زُيّنَ لِلنَّاسِ} على تسمية الفاعل.
(11/404)
والقول الثالث : وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل ، وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجباً أو مندوباً كان التزيين فيه من الله تعالى ، وكل ما كان حراماً كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي ، وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم ، وكان من حقه أن يذكره ويبيّن أن التزيين فيه من الله تعالى ، أو من الشيطان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 168 ـ 169}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} زين من التزيين.
واختلف الناس مَن المزيِّن ؛ فقالت فرقةٌ : الله زيَّن ذلك ؛ وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ذكره البخاريّ.
وفي التنزيل : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} [ الكهف : 7 ] ؛ ولما قال عمر : الآن يا ربِّ حين زيّنتها لنا! نزلت {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} [ آل عمران : 15 ] وقالت فرقة : المزيِّن هو الشيطان ؛ وهو ظاهر قول الحسن ، فإنه قال : مَنْ زيّنَها ؟ ما أحدٌ أشدّ لها ذَمّا من خالقها.
فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجِبِلّة على الميل إلى هذه الأشياء.
وتزيين الشيطان إنما هو بالوَسْوَسة والخديعة وتحسين أخْذِها من غير وجوهها.
والآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس ، وفي ضمن ذلك توبيخٌ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهِم.
وقرأ الجمهور "زُيِّنَ" على بناء الفعل للمفعول ، ورفع {حُبُّ}.
وقرأ الضحاك ومجاهد "زَيَّنَ" على بناء الفعل للفاعل ، ونصب "حُبَّ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 28}
قوله تعالى {حُبُّ الشهوات}
قال القرطبى :
حركت الهاء من {الشَّهَوَاتِ} فرقاً بين الاسم والنعت.
والشّهوات جمع شَهْوة وهي معروفة.
ورجل شهوان للشيء ، وشيء شهيّ : أي مُشْتَهًى.
واتباع الشهوات مردٍ وطاعتها مهلكة.(11/405)
وفي صحيح مسلم : " حُفِّت الجنة بالمكاره وحُفّت النار بالشهوات " رواه أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها.
وأن النار لا ينْجَى منها إلا بترك الشهوات وفِطام النفس عنها.
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " طريق الجنة حزْنٌ برَبْوة وطريق النار سهل بسَهْوَة " ؛ وهو معنى قوله : " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " أي طريق الجنة صعبة المسلك فيه أعلى ما يكون من الرّوَابِي ، وطريق النار سهل لا غِلظ فيه ولا وعورة ، وهو معنى قوله "سهل بسهوة" وهو بالسين المهملة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 28}
فصل
قال الفخر :
قوله {حُبُّ الشهوات} فيه أبحاث ثلاثة :
البحث الأول : أن الشهوات ههنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال ، كما يقال للمقدور قدرة ، وللمرجو رجاء وللمعلوم علم ، وهذه استعارة مشهورة في اللغة ، يقال : هذه شهوة فلان ، أي مشتهاه ، قال صاحب "الكشاف" : وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها والثانية : أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ، فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها.
البحث الثاني : قال المتكلمون : دلّت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه ، والشهوة من فعل الله تعالى ، والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات.(11/406)
البحث الثالث : قال الحكماء : الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب ، وأما من أحب شيئاً وأحب أن يحبه فذاك هو كمال المحبة ، فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة ، كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام {إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} [ ص : 32 ] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير ، وإن كان ذلك في جانب الشر ، فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها : أنه يشتهي أنواع المشتهيات وثانيها : أنه يحب شهوته لها وثالثها : أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة ، ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة ، ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من الله تعالى ، ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس ، وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق ، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس ، والعقل أيضاً يدل عليه ، وهو أن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب ومطلوب لذاته واللذيذ النافع قسمان : جسماني وروحاني ، والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر ، وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة ، ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية ، فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة ، وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر ، ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة ، فلهذا السبب عم الله هذا الحكم فقال : {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 169(11/407)
ـ 170}
فائدة
قال ابن عاشور :
تعليق التزيين بالحب جرى على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأن المزين للناس هو الشهوات ، أي المشتهيات نفسها ، لا حبها ، فإذا زينت لهم أحبوها ؛ فإن الحب ينشأ عن الاستحسان ، وليس الحب بمزين ، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبوها ، وقد سكت المفسرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق.
والوجه عندي إما أن يجعل {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} مصدرا نائبا عن مفعول مطلق ، مبينا لنوع التزيين : أي زين لهم تزيين حب ، وهو أشد التزيين ، وجعل المفعول المطلق نائبا عن الفاعل ، وأصل الكلام : زين للناس الشهوات حبا ، فحول وأضيف إلى النائب عن الفاعل ، وجعل نائبا عن الفاعل ، كما جعل مفعولا في قوله تعالى {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص : 32]. وإما أن يجعل حب مصدرا بمعنى المفعول ، أي محبوب الشهوات أي الشهوات المحبوبة. وإما أن يجعل زين كناية مرادا به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزين من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار ، فعبر عن ذلك بالتزيين ، أي تحسين ما ليس بخالص الحسن فإن مشتهيات الناس تشمل على أمور ملائمة مقبولة ، وقد تكون في كثير منها مضار ، أشهدها أنها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزين تغطي نقائصه بالمزينات ، وبذلك لم يبق في تعليق زين بحب إشكال.
وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين ، لأن ما يدل على الغرائز والسجايا ، لما جهل فاعله في متعارف العموم ، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول : كقولهم عني بكذا ، واضطر إلى كذا ، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين ، وهو الإغضاء عما في المزين من المساوي ؛ لأن الفاعل لم يبق مقصودا بحال ، والمزين في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحب الشهوات ، وذلك أمر جبلي جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى {وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} [يس : 72].(11/408)
ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلة ، كان فاعله على الحقيقة هو خالق هذه الجبلات ، فالمزين هو الله بخلقه لا بدعوته ، وروي مثل هذا عن عمر بن الخطاب ، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة. كان المزين هو ميل النفس إلى المشتهى ، أو ترغيب الداعين إلى تناول الشهوات : من الخلان والقرناء ، وعن الحسن : المزين هو الشيطان ، وكأنه ذهب إلى أن التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد ، وقصره على هذا وهو بعيد لأن تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة ، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلا إذا جعلها وسائل للحرام ، وفي الحديث قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر. فقال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالح الأعمال على المشتهيات المخلوطة أنواعها بحلال منها وحرام ، والمعرضة للزوال ، فإن الكمال بتزكية النفس لتبلغ الدرجات القدسية ، وتناول النعيم الأبدي العظيم ، كما أشار إليه قوله {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 38 ـ 39}
قوله تعالى : {مِنَ النساء والبنين}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {مِنَ النساء} بدأ بهِنّ لكثرة تشوّف النفوس إليهن ؛ لأنهنّ حبائل الشيطان وفتنة الرجال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تركت بعدي فِتنةً أشدَّ على الرجال من النساء " أخرجه البخاريّ ومسلم.
ففتنة النساء أشدّ من جميع الأشياء.
ويقال : في النساء فتنتان ، وفي الأولاد فتنة واحدة.
فأمّا اللتان في النساء فإحداهما : أن تؤدِّي إلى قطع الرِحم ؛ لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأُمَّهَات والأخوات.
والثانية : يُبْتلي بجمع المال من الحلال والحرام.
وأمّا البنون فإن الفتنة فيهم واحدة ، وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم.
(11/409)
وروى عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُسْكِنوا نساءكم الغُرَفَ ولا تُعَلِّموهنّ الكِتاب "
حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن في إسكانهن الغرف تطلّعاً إلى الرجال ، وليس في ذلك تحْصِينٌ لهن ولا سِتْر ؛ لأنهن قد يُشْرفْن على الرجال فتحدُث الفتنة والبلاء ، ولأنهن قد خُلِقْن من الرجل ؛ فهِمّتها في الرجل والرجلُ خُلِق فيه الشهوة وجُعِلَتْ سَكَناً له ؛ فغير مأمونٍ كل واحد منهما على صاحبه.
وفي تعلمهن الكتاب هذا المعنى من الفتنة وأشد.
وفي كتاب ( الشِّهاب ) عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أعْرُوا النساء يَلْزَمْن الحِجَال " فعلى الإنسان إذا لم يصبر في هذه الأزمان أن يبحث عن ذات الدِّين ليسلَم له الدِّين ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " عَلَيْكَ بذاتِ الدين تَرِبَتْ يداك " أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَزَوَّجوا النساء لحسنِهن فعسى حسنُهن أن يُرْدِيهن ولا تزوجوهنّ لأموالهن فعسى أموالهن أن تُطْغِيهن ولكن تَزوجوهن على الدِّين ولأُمَةٌ سَوْداء خَرْمَاء ذات دِين أفضلُ ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 29}
فصل
قال الفخر :
وأما قوله تعالى : {مِنَ النساء والبنين} ففيه بحثان :
البحث الأول : {مِنْ} في قوله {مِنَ النساء والبنين} كما في قوله {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [ الحج : 30 ] فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضاً معنى هذه الآية : زين للناس حب النساء وكذا وكذا التي هي مشتهاة.(11/410)
البحث الثاني : اعلم أنه تعالى عدد ههنا من المشتهيات أموراً سبعة أولها : النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى : {خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [ الروم : 21 ] ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة.
المرتبة الثانية : حب الولد : ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى ، لا جرم خصه الله تعالى بالذكر ، ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك.
واعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة ، فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل ، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات ، والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 169 ـ 170}
{القناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {والقناطير} القناطير جمع قنطار ، كما قال تعالى : {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [ النساء : 20 ] وهو العُقْدَة الكبيرة من المال ، وقيل : هو اسم للمِعْيار الذي يُوزَن به ؛ كما هو الرطل والربع.
ويقال لِما بَلَغ ذلك الوزنَ : هذا قنطار ، أي يعدل القنطار.
والعرب تقول : قَنْطَر الرجلُ إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار.
وقال الزجاج : القِنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ؛ تقول العرب : قنطرتَ الشيء إذا أحكمته ؛ ومنه سميت القنطرة لإحكامها.
قال طرفة :
كَقَنْطَرَةِ الرُّوميِّ أقسم ربُّها . . .
لتُكْتَنَفَنْ حتّى تُشَادُ بقَرْمَدِ
والقنطرة المعقودة ؛ فكأنّ القنطار عَقْدُ مالٍ.
(11/411)
واختلف العلماء في تحرير حَدِّهِ كم هو على أقوال عديدة ؛ فروى أُبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القنطار ألف أُوقِيَّة ومائتا أوقِية " ؛ وقال بذلك معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وجماعة من العلماء.
قال ابن عطية : "وهو أصح الأقوال ، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية".
وقيل : اثنا عشر ألف أوقية ؛ أسنده البستِيّ في مسنده الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " القنطار اثنا عشر ألف أوْقية الأوقية خير مما بين السماء والأرض " وقال بهذا القول أبو هريرة أيضاً.
وفي مسند أبي محمد الدارميّ عن أبي سعِيد الخدريّ قال : "من قرأ في ليلة عشر آيات كُتِب من الذاكرين ، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ بخمسمائة آية إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر" قيل : وما القنطار ؟ قال : "ملء مَسْك ثَوْرٍ ذهباً".
موقوف ؛ وقال به أبو نَضْرَة العَبْديّ.
وذكر ابن سِيدَه أنه هكذا بالسريانية.
وقال النقاش عن ابن الكلبيّ أنه هكذا بلغة الروم.
وقال ابن عباس والضحاك والحسن : ألف ومائتا مِثقالٍ من الفضة ؛ ورفعه الحسن.
وعن ابن عباس : اثنا عشر ألف درهم من الفضة ، ومن الذهب ألف دينار دِية الرجل المسلم ؛ وروي عن الحسن والضحاك.
وقال سعِيد بن المسَيِّب : ثمانون ألفاً.
قتادة : مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألف درهم من الفضة.
وقال أبو حمزة الثُّمَاليّ : القنطار بإقرِيفية والأندلس ثمانية آلاف مثقال من ذهب أو فضة.
السديّ : أربعة آلاف مثقال.
مجاهد : سبعون ألف مثقال ؛ وروي عن ابن عمر.
وحكى مكيّ قولاً أن القنطار أربعون أوقية من ذهب أو فضة ؛ وقاله ابن سِيَدة في المحكم ، وقال : القنطار بلغة بَرْبَرْ ألف مثقال.
وقال الربيع ابن أنس : القنطار المال الكثير بعضه على بعض ؛ وهذا هو المعروف عند العرب ، ومنه قوله : {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} أي مالاً كثيراً.
(11/412)
ومنه الحديث : "إنّ صفوان بن أُمية قَنْطَر في الجاهلية وقَنْطَر أبوه" أي صار له قنطار من المال.
وعن الحكم : القنطار هو ما بين السماء والأرض.
واختلفوا في معنى "المُقَنْطَرَةِ" فقال الطبرِيّ وغيره : معناه المُضَعَّفَة ، وكأنّ القناطير ثلاثةٌ والمقنطرة تسعٌ.
وروي عن الفرّاء أنه قال : القناطير جمع القنطار ، والمقنطرة جمع الجمع ، فيكون تسع قناطير.
السديّ : المقنطرة المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم.
مكيّ : المقنطرة المُكَملة ؛ وحكاه الهروي ؛ كما يقال : بِدَرٌ مُبَدَّرَة ، وآلافٌ مؤَلّفة.
وقال بعضهم.
ولهذا سمي البناء القنطرة لتكاثف البناء بعضه على بعض.
ابن كيسان والفرّاء : لا تكون المقنطرة أقل من تسع قناطير.
وقيل : المقَنْطَرة إشارة إلى حضور المال وكونه عتيداً.
وفي صحيح البستيِّ عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطِرِين ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 30 ـ 31}
وقال الفخر :
فيه أبحاث :
(11/413)
البحث الأول : قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ، والقنطرة مأخوذة من ذلك لتوثقها بعقد الطاق ، فالقنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب ، وحكى أبو عبيد عن العرب أنهم يقولون : إنه وزن لا يحد ، واعلم أن هذا هو الصحيح ، ومن الناس من حاول تحديده ، وفيه روايات : فروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القنطار اثنا عشر ألف أوقية " وروى أنس عنه أيضاً أن القنطار ألف دينار ، وروى أُبي بن كعب أنه عليه السلام قال : " القنطار ألف ومائتا أوقية " وقال ابن عباس : القنطار ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم ، وهو مقدار الدية ، وبه قال الحسن ، وقال الكلبي : القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة ، وفيه أقوال سوى ما ذكرنا لكنا تركناها لأنها غير مقصودة بحجة ألبتة.
البحث الثاني : {المقنطرة} منفعلة من القنطار ، وهو للتأكيد ، كقولهم : ألف مؤلفة ، وبدرة مبدرة ، وإبل مؤبلة ، ودراهم مدرهمة ، وقال الكلبي : القناطير ثلاثة ، والمقنطرة المضاعفة ، فكان المجموع ستة.
البحث الثالث : الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء ، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء ، وصفة المالكية هي القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب ، لا جرم كانا محبوبين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 171}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {مِنَ الذهب والفضة} الذهب مؤنثة ؛ يقال : هي الذهب الحسنةُ ، جمعها ذهاب وذُهُوب.
ويجوز أن يكون جمع ذَهْبَة ، ويجمع على الأذْهَاب.
وذهب فلان مذهباً حسناً.
والذهب : مكيالٌ لأهل اليمن.
ورجل ذَهِبٌ إذا رأى معدِن الذّهَبِ فدَهِش.
والفضّة معروفة ، وجمعها فِضَضٌ.
(11/414)
فالذهب مأخوذة من الذَّهَاب ، والفضة مأخوذة من انفض الشيء تفرّق ؛ ومنه فَضَضْتُ القوم فانفضوا ، أي فرّقتهم فتفرّقوا.
وهذا الاشتقاق يُشعر بزوالهما وعدم ثُبوتهما كما هو مشاهد في الوجود.
ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول بعضهم :
النّار آخرُ دِينارٍ نطقتَ به . . .
والهمُّ آخِرُ هذا الدِّرْهمِ الجاري
والمرءُ بينهما إن كان ذا وَرَعٍ . . .
مُعذّبَ القلبِ بَيْن الهَمِّ والنار. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 32}
قوله تعالى {والخيل المسومة والأنعام والحرث}
قال الفخر :
قال الواحدي : الخيل جمع لا واحد له من لفظه ، كالقوم والنساء والرهط ، وسميت الأفراس خيلاً لخيلائها في مشيها ، وسميت حركة الإنسان على سبيل الجولان اختيالا ، وسمي الخيال خيالا ، والتخيل تخيلا ، لجولان هذه القوة في استحضار تلك الصورة ، والأخيل الشقراق ، لأنه يتخيل تارة أخضر ، وتارة أحمر ، واختلفوا في معنى {المسومة} على ثلاثة أقوال الأول : أنها الراعية ، يقال : أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي ، كما يقال : أقمت الشيء وقومته ، وأجدته وجودته ، وأنمته ونومته ، والمقصود أنها إذا رعت ازدادت حسناً ، ومنه قوله تعالى : {فِيهِ تُسِيمُونَ} [ النحل : 10 ].(11/415)
والقول الثاني : المسومة المعلمة قال أبو مسلم الأصفهاني : وهو مأخوذ من السيما بالقصر والسيماء بالمد ، ومعناه واحد ، وهو الهيئة الحسنة ، قال الله تعالى : {سيماهم فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} [ الفتح : 29 ] ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة ، فقال أبو مسلم : المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل ، وهي أن تكون الأفراس غراً محجلة ، وقال الأصم : إنما هي البلق ، وقال قتادة : الشية ، وقال المؤرج : الكي ، وقول أبي مسلم أحسن لأن الإشارة في هذه الآية إلى شرائف الأموال ، وذلك هو أن يكون الفرس أغر محجلا ، وأما سائر الوجوه التي ذكروها فإنها لا تفيد شرفاً في الفرس.
القول الثالث : وهو قول مجاهد وعكرمة : أنها الخيل المطهمة الحسان ، قال القفال : المطهمة المرأة الجميلة.
المرتبة السادسة : {الأنعام} وهي جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، ولا يقال للجنس الواحد منها : نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها.
المرتبة السابعة : {الحرث} وقد ذكرنا اشتقاقه في قوله {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} [ البقرة : 205 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 171 ـ 172}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {والخيل} الخيل مؤنثة.
قال ابن كيسان : حُدِّثت عن أبي عبيدة أنه قال : واحد الخيل خائل ، مثل طائر وطير ، وضائن وضَيْن ؛ وسمِّي الفرس بذلك لأنه يختال في مشيه.
وقال غيره : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، واحده فرس ، كالقوم والرهْط والنساء والإبل ونحوها.
وفي الخبر من حديث عليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق الفرس من الريح ولذلك جعلها تطير بلا جناح " وَهْبُ بن مُنَبِّه : خلقها من رِيح الجَنُوب.
قال وهب : فليس تسبيحة ولا تكبيرة ولا تهليلة يكبرها صاحبها إلا وهو يسمعها فيجيبه بمثلها.
وسيأتي لذكر الخَيْل ووصفها في سورة "الأنفال" ما فيه كفايةٌ إن شاء الله تعالى.(11/416)
وفي الخبر : "إن الله عرض على آدم جميع الدواب ، فقيل له : اختر منها واحداً فاختار الفرس ؛ فقيل له : اخترت عِزّك ؛ فصار اسمه الخير من هذا الوجه".
وسميّت خيلاً لأنها مَوْسُومَة بالعِزِّ فمن ركبه اعتز بِنحْلة الله له ويختال به على أعداء الله تعالى.
وسمّي فرساً لأنه يفترس مسافات الجوّ افتراس الأسد وثبانا ، ويقطعها كالالتهام بيديه على شيء خبطاً وتناولاً ، وسمي عربياً لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت ، وإسماعيل عربي ، فصار له نِحلة من الله تعالى فسمي عربياً.
وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الشيطان داراً فيها فرس عتِيق " وإنما سمي عتيقاً لأنه قد تخلص من الهجانة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خير الخيلِ الأدهم الأقرح الأرثم ( ثم الأقرح المحجل ) طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشيةِ " أخرجه الترمِذِيّ عن أبي قتادة.
وفي مسند الدارميّ عنه " أن رجلاً قال : يا رسول الله ، إني أُريد أن أشتري فرساً ( فأيها أشترِي ) ؟ قال : "اشترِ أدهم أرثم محجلاً طلق اليمين أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم" " وروى النسائِي عن أنس قال : لم يكن أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل.
وروى الأئمة عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل ثلاثة لرجلٍ أجر ولرجلٍ سِتر ولرجل وِزر " الحديث بطوله ، شهرته أغنت عن ذكره. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 32 ـ 33}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : {والأنعام} قال ابن كيسان : إذا قلت نَعَمٌ لم تكن إلا للإبل ، فإذا قلت أنعامٌ وقعت للإبل وكل ما يرعى.
قال الفرّاء : هو مُذَكَّر ولا يؤنّث ؛ يقولون : هذا نَعَمٌ واردٌ ، ويجمع أنعاماً.
قال الهَروِيّ : والنَّعَم يذكّر ويؤنّث ، والأنعام المَواشي من الإبل والبقر والغنم ؛ وإذا قيل : النّعَم فهو الإبل خاصّة.
وقال حسان : (11/417)
وكانت لا يزال بها أنِيس . . .
خِلاَلَ مُروجِها نَعَمٌ وشَاءُ
وفي سنن ابن ماجه عن عروة البارِقيّ يرفعه قال : " الإبلُ عِزٌّ لأهلها والغنم بركةٌ والخيرُ معقودٌ في نواصي الخيل إلى يوم القيامة " وفيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشاة من دوابّ الجنة " وفيه عن أبي هريرة قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأغنياء باتخاذ الغنم ، والفقراء باتخاذ الدَّجَاج.
وقال : " عند اتخاذ الأغنياءِ الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى " وفيه عن أُمِّ هانِىء أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها : " اتخذي غَنَماً فإنّ فيها بركة " أخرجه عن أبي بكر بن أبي شَيْبة عن وكيع عن هِشام بن عُرْوة عن أبيه عن أُمّ هانِىء ، إسناد صحيح.
وقال رحمه الله فى قى قوله تعالى : {والحرث}
الحرث هنا اسم لكل ما يُحْرَث ، وهو مصدر سمِّي به ؛ تقول : حَرَث الرجل حَرْثاً إذا أثار الأرض لمعنى الفِلاَحَة ؛ فيقع اسم الحراثةَ على زرع الحبوب وعلى الجَنّات وعلى غير ذلك من نوع الفِلاحة.
وفي الحديث : " احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا " يقال حرثت واحترثت.
وفي حديث عبد الله.
"احرثوا هذا القرآن" أي فَتِّشُوه.
قال ابن الأعرابيّ : الحرث التّفْتِيشُ ؛ وفي الحديث : " أصدقُ الأسماء الحارِثُ " لأن الحارث هو الكاسب ، وآحتراث المال كسبه ، والمِحْراث مُسْعر النار والحَرَاثُ مَجْرى الوَتَر في القوس ، والجمع أحْرِثه ، وأحرث الرجل ناقتَه أهْزَلها.
وفي حديث معاوية : ما فعلتْ نَواضحُكم ؟ قالوا : حرَثْناها يومَ بَدْر.
قال أبو عبيد : يعنون هزلناها ؛ يقال : حرثت الدابة وأحرثتها ، لغتان.
وفي صحيح البخاريّ.(11/418)
عن أبي أُمامة الباهِلِيّ قال وقد رأى سِكّة وشيئاً من آلة الحرث فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يدخلُ هذا بيت قومٍ إلا دخله الذُّلّ " قيل : إنّ الذلّ هنا ما يلزَم أهل الشغلَ بالحرث من حقوق الأرض التي يطالبهم بها الأئمة والسلاطين.
وقال المهلب : معنى قوله في هذا الحديث والله أعلم الحَضّ على مَعالي الأحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات ؛ وذلك لِما خشِي النبيّ صلى الله عليه وسلم على أُمّته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله ؛ لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأُمم الراكبة للخير المتعيشة من مكاسبها ؛ فحضهم على التعيُّش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المِهْنَة.
ألا ترى أنّ عمر قال : تمعْدَدوا واخشوشنوا واقطعوا الرّكُبَ وثِبوا على الخيل وَثْباً لا تغلبنّكم عليها رعاة الإبل.
فأمرهم بملازمة الخيل ، ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما مِن مسلم غَرَسَ غَرْساً أو زَرَع زرعاً فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقة ".
قال العلماء : ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال ، كل نوع من المال يتموّل به صنف من الناس ؛ أمّا الذهب والفضة فيتموّل بها التجار ، وأمّا الخيل المسوّمة فيتموّل بها الملوك ، وأمّا الأنعام فيتموّل بها أهل البوادِي ، وأمّا الحرث فيتموّل بها أهل الرساتيق.
فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتموّل ، فأمّا النساء والبنون ففتنة للجميع. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 34 ـ 36}
فائدة
قال الشنقيطى :
قوله تعالى : {والخيل المسومة والأنعام والحرث}.
لم يبين هنا كم يدخل تحت لفظ الأنعام من الأصناف.(11/419)
ولكنه قد بين في مواضع أخر أنها ثمانية أصناف هي الجمل والناقة والثور والبقرة والكبش والنعجة والتيس والعنز كقوله تعالى : {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} [ الأنعام : 142 ] ثم بين الأنعام بقوله : {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين} [ الأنعام : 143 ] يعني الكبش والنعجة {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [ الأنعام : 144 ] يعني : الثور والبقرة وهذه الثمانية هي المرادة بقوله : {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [ الزمر : 6 ] وهي المشار إليها بقوله : {فَاطِرُ السماوات والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [ الشورى : 11 ] الآية.
تنبيه : ربما أطلقت العرب لفظ النعم على خصوص الإبل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " من حُمرِ النَّعَم " يعني : الإبل وقول حسان رضي الله عنه :
وكانت لا يزال بها أنيس... خلال مروجها نعم وشاء أي : إبل وشاء. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 223}
قوله تعالى {ذلك متاع الحياة الدنيا}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا} أي ما يُتَمتّع به فيها ثم يذهب ولا يبقى.
وهذا منه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.
روى ابن ماجه وغيره عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة " وفي الحديث : " إزهد في الدنيا يحِبك الله " أي في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضروريّ.
قال صلى الله عليه وسلم : " ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيتٌ يسكنه وثوبٌ يُوارِي عورتَه وجِلْف الخبز والماء " أخرجه الترمذِي من حديث المقدام بن معد يكرب.
وسئل سهل بن عبد الله : بِم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات ؟ قال : بتشاغله بما أُمِر به. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 36 ـ 37}
فائدة
قال ابن عاشور : (11/420)
وأفرد كاف الخطاب لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغير معين ، على أن علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البعد ، والبعد هنا بعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة.
والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 41}
فصل
قال الفخر :
قال القاضي : ومعلوم أن متاعها إنما خلق ليستمتع به فكيف يقال إنه لا يجوز إضافة التزيين إلى الله تعالى ، ثم قال للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه : منها أن ينفرد به من خصه الله تعالى بهذه النعم فيكون مذموماً ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه فيكون أيضاً مذموماً ، ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم ، ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح.
ثم قال تعالى : {والله عِندَهُ حُسْنُ المأب} اعلم أن المآب في اللغة المرجع ، يقال : آب الرجل إياباً وأوبة وأبية ومآبا ، قال الله تعالى : {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} والمقصود من هذا الكلام بيان أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده ويتوصل بها إلى سعادة آخرته ، ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب وصف المآب بالحسن.
فإن قيل : المآب قسمان : الجنة وهي في غاية الحسن ، والنار وهي خالية عن الحسن ، فكيف وصف المآب المطلق بالحسن.
قلنا : المآب المقصود بالذات هو الجنة ، فأما النار فهي المقصود بالغرض ، لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ، كما قال : سبقت رحمتي غضبي ، وهذا سر يطلع منه على أسرار غامضة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 172}
فائدة
قال ابن كثير فى معنى الآية :(11/421)
يخبر تعالى عما زُيِّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين ، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد ، كما ثبت في الصحيح أنه ، عليه السلام ، قال مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّساء". فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد ، فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه ، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه ، "وإنَّ خَيْرَ هَذه الأمَّةِ كَانَ أكْثرهَا نسَاءً". {رواه البخاري في صحيحه برقم (5069) موقوفا على ابن عباس}.
وقوله ، عليه السلام الدُّنْيَا مَتَاع ، وخَيْرُ مَتَاعِهَا المرْأةُ الصَّالحةُ ، إنْ نَظَرَ إلَيْها سَرَّتْهُ ، وإنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْه ، وإنْ غَابَ عَنْها حَفِظْتُه في نَفْسهَا وَمَالِهِ". {رواه مسلم في صحيحه برقم (1467) والنسائي في السنن (6/69) وابن ماجه في السنن برقم (1855) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه}.
وقوله في الحديث الآخر : "حُبِّبَ إلَيَّ النِّسَاءُ والطِّيبُ وجُعلَتْ قُرة عَيْني فِي الصَّلاةِ". {رواه أحمد في المسند (3/128) والنسائي في السنن (7/61) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه}.
وقالت عائشة ، رضي الله عنها : لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل ، وفي رواية : من الخيل إلا النساء. {رواه النسائي في الكبرى (4404) من طريق سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك ، به. وله شاهد من حديث معقل بن يسار ، رواه أحمد في مسنده (5/27)}.(11/422)
وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا ، وتارة يكون لتكثير النسل ، وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له ، فهذا محمود ممدوح ، كما ثبت في الحديث : "تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ ، فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ". {رواه أبو داود في السنن برقم (2050) والنسائي في السنن (6/65) وابن حبان في صحيحه برقم (1229) "موارد" والحاكم في المستدرك (2/162) وصححه وأقره الذهبي من حديث معقل بن يسار.
ورواه أحمد في المسند (3/158) وابن حبان في صحيحه برقم (1228) والبيهقي في السنن الكبرى (7/81 ، 82) من حديث أنس بن مالك}.
وحب المال -كذلك-تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء ، والتجبر على الفقراء ، فهذا مذموم ، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات ، فهذا ممدوح محمود عليه شرعًا. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 19}
وقال السعدى : (11/423)
يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية ، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها ، قال تعالى {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات ، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم ، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين : قسم : جعلوها هي المقصود ، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها ، فشغلتهم عما خلقوا لأجله ، وصحبوها صحبة البهائم السائمة ، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها ، ولا يبالون على أي : وجه حصلوها ، ولا فيما أنفقوها وصرفوها ، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب ، والقسم الثاني : عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده ، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته ، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودون منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته ، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم ، وعلموا أنها كما قال الله فيها {ذلك متاع الحياة الدنيا} فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة ، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم. وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء ، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها ، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار ، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور ، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية ، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار ، والأنهار الجارية على حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن ، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم ، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم ، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة ، ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة بينهما. أ هـ {تفسير السعدى صـ 124}(11/424)
فائدة
قال الثعالبى :
وقوله تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات...} الآيةُ هذه الآيةُ ابتداءُ وعظٍ لجميع الناس ، وفي ضمن ذلك توبيخٌ ، والشهواتُ ذميمةٌ ، واتباعها مُرْدٍ ، وطاعتها مَهْلَكَةٌ ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ، وَحُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ " ، فَحَسْبُكَ أَنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِهَا ، فمَنْ واقعها ، خلص إِلى النَّار ، قلْتُ : وقد جاءت إحاديثٌ كثيرةٌ في التزْهِيدِ في الدنيا ، ذكَرْنا من صحيحها وحَسَنِهَا في هذا المُخْتَصَرِ جملةً صالحةً لا توجد في غيره من التَّفَاسير ، فعلَيْكَ بتحصيله ، فتَطَّلعَ فيه على جواهرَ نفيسةٍ ، لا توجَدُ مجموعةً في غيره ؛ كما هي بحَمْدِ اللَّه حاصلةٌ فيه ، وكيف لا يكونُ هذا المختصر فائقاً في الحُسْن ، وأحاديثه بحَمْد اللَّه مختارةٌ ، أكثرها من أصولِ الإسلامِ الستَّةِ : البخاريِّ ، ومسلمٍ ، وأبي داود ، والتِّرمذيِّ ، والنَّسائِيِّ ، وابنِ مَاجَة ، فهذه أصول الإِسلام ، ثم مِنْ غيرها ؛ كصحيح ابن حِبَّانَ ، وصحيح الحاكمِ ، أعني : "المُسْتَدْرَكَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ" ، وأَبِي عَوَانَةَ ، وابْنِ خُزَيْمَةَ ، والدَّارِمِيِّ ، وَالمُوَطَّإِ ، وغيرِها من المسانيدِ المشهورةِ بيْن أئمَّة الحديثِ ؛ حَسْبما هو معلومٌ في علْمِ الحديث ، وقصْدِي من هذا نُصْحُ من اطلع على هذا الكتاب أنْ يعلم قَدْرَ ما أنعم اللَّه به علَيْه ، فإِن التحدُّث بالنعم شُكْر ، ولنرجَعْ إلى ما قصدناه من نَقْلِ الأحاديث :
روى الترمذيُّ عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنْ أَرَدتِّ اللُّحُوقَ بِي ، فَلْيَكْفِيكِ مِنَ الدُّنْيَا ، كَزَادِ الرَّاكِبَ ، وإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ ، وَلاَ تَسْتَخْلِفِي ثَوْباً حتى تَرْقَعِيهِ " حديث غَرِيبٌ ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ " ، خرَّجه أبو داود وقد نقله البغويُّ في "مصابيحه". أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 248 ـ 249}(11/425)
لطيفة
قال ابن عجيبة :
قال أبو هاشم الزاهد رضي الله عنه : وَسَمَ اللّهُ الدنيا بالوحشة ؛ ليكون أنس المريد بربه دونها ، وليقبل المطيعون بالإعراض عنها ، وأهلُ المعرفة بالله من الدنيا مستوحشون ، وإلا الله مشتاقون. ه.
وقد تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من شر فتنتها ، غناها وفقرها. وأكثرُ القرآن مشتملٌ على ذمها ، وتحذير الخلق منها ، بل ما من داع يدعو إلى الله تعالى إلا وقد حذر منها ، ورغَّب في الآخرة ، بل هو المقصود بالذات من بيان الشرائع ، وكيف لا - وهي عدوة الله ؛ لقطعها طريق الوصلة إليه ، ولذلك لم ينظر إليها منذ خلقها. وعدوة لأوليائه ؛ لأنها تزينت بزينتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها ، وعدوة لأعدائه ؛ لأنها استدرجتهم بمكرها ، واقتنصتهم بشبكتها ، فوثقوا بها ، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها ، كفانا الله شرّها بمنِّه وكرمه. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 255}
من فوائد العلامة ابن القيم فى الآية
قال عليه الرحمة والرضوان :
وأما آية آل عمران فإنها لما كانت في سياق الإخبار بما زين للناس من الشهوات التي آثروها على ما عند الله واستغنوا بها قدم ما تعلق الشهوة به أقوى والنفس إليه أشد سعرا وهو النساء التي فتنتهن أعظم فتن الدنيا وهي القيود التي حالت بين العباد وبين سيرهم إلى الله ثم ذكر البنين المتولدين منهم فالإنسان يشتهي المرأة للذة والولد وكلاهما مقصود له لذاته ثم ذكر شهوة الأموال لأنها تقصد لغيرها فشهوتها شهوة الوسائل وقدم أشرف أنواعها وهو الذهب ثم الفضة بعده ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا يعاشر عشرة النساء والأولاد فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بها وقدم أشرف هذا النوع وهو الخيل فإنها حصون القوم ومعاقلهم وعزهم وشرفهم فقدمها على الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم ثم ذكر الأنعام وقدمها على الحرث لأن الجمال بها والانتفاع أظهر وأكثر من الحرث كما في قوله تعالى : {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} والانتفاع بها أكثر من الحرب فإنه ينتفع بها ركوبا وأكلا وشربا ولباسا وأمتعة وأسلحة ودواء وقنية إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع وأيضا فصاحبها أعز من صاحب الحرث وأشرف وهذا هو الواقع فإن صاحب الحرث لا بد له من نوع مذلة ولهذا قال بعض السلف وقد رأى سكة ما دخل هذا دار قوم إلا دخلهم الذل فجعل الحرث في آخر المراتب وضعا له في موضعه. أ هـ {بدائع الفوائد حـ 1 صـ 84 ـ 85}(11/426)
كلام نفيس يتعلق بالآية لحجة الإسلام الغزالى
قال رحمه الله ما نصه :
بيان حقيقة الدنيا في نفسها وأشغالها التي استغرقت همم الخلق حتى أنستهم أنفسهم وخالقهم ومصدرهم وموردهم
اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة وللإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل فهذه ثلاثة أمور قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها وليس كذلك أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها فهي الأرض وما عليها قال الله تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا فالأرض فراش للآدميين ومهاد ومسكن ومستقر وما عليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح
ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام المعادن والنبات والحيوان
أما النبات فيطلبه الآدمي للاقتيات والتداوي وأما المعادن فيطلبها للآلات والأواني كالنحاس والرصاص وللنقد كالذهب والفضة ولغير ذلك من المقاصد وأما الحيوان فينقسم إلى الإنسان والبهائم
أما البهائم فيطلب منها لحومها للمآكل وظهورها للمركب والزينة
وأما الإنسان فقد يطلب الآدمي أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم ويستسخرهم كالغلمان أو ليتمتع بهم كالجواري والنسوان ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم والإكرام وهو الذي يعبر عنه بالجاه إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا وقد جمعها الله تعالى في قوله زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين وهذا من الإنس والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وهذا من الجواهر والمعادن وفيه تنبيه على غيرها من اللآليء واليواقيت وغيرها والخيل المسومة والأنعام وهي البهائم والحيوانات والحرث وهو النبات والزرع(11/427)
فهذه هي أعيان الدنيا إلا أن لها مع العبد علاقتين علاقة مع القلب وهو حبه لها وحظه منها وانصراف همه إليها حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المعلقة بالدنيا كالكبر والغل والحسد والرياء والسمعة وسوء الظن والمداهنة وحب الثناء وحب التكاثر والتفاخر وهذه هي الدنيا الباطنة وأما الظاهرة فهي الأعيان التي ذكرناها
العلاقة الثانية مع البدن وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره وهي جملة الصناعات والحرف التي الخلق مشغولون بها والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين علاقة القلب بالحب وعلاقة البدن بالشغل ولو عرف نفسه وعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى وأعني بالدابة البدن فإنه لا يبقى إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا يعلف وماء وجلال ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه ومقصده مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها وينظفها ويكسوها ألوان الثياب ويحمل إليها أنواع الحشيش ويبرد لها الماء بالثلج حتى تفوته القافلة وهو غافل عن الحج وعن مرور القافلة وعن بقائه في البادية فريسة للسباع هو وناقته والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشغل بتعهد البدن إلا بالضرورة كما لا يدخل بيت الماء إلا لضرورة ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن ومن همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج منها وأكثر ما شغل عن الله تعالى هو البطن فإن القوت ضروري وأمر المسكن والملبس أهون ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها وحظوظهم منها ولكنهم جهلوا وغفلوا وتتابعت أشغال الدنيا عليهم واتصل بعضها ببعض وتداعت إلى غير نهاية محدودة فتاهوا في كثرة الأشغال ونسوا مقاصدها(11/428)
ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا وكيفية حدوث الحاجة إليها وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى تتضح لك أشغال الدنيا كيف صرفت الخلق عن الله تعالى وكيف أنستهم عاقبة أمورهم فنقول الأشغال الدنيوية هي الحرف والصناعات والأعمال التي ترى الخلق منكبين عليها وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث القوت والمسكن والملبس فالقوت للغذاء والبقاء والملبس لدفع الحر والبرد والمسكن لدفع الحر والبرد ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحا بحيث يستغني عن صنعة الإنسان فيه
نعم خلق ذلك للبهائم فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء ولباسها شعورها وجلودها فتستغني عن اللباس والإنسان ليس كذلك فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات وأوائل الأشغال الدنيوية وهي الفلاحة والرعاية والاقتناص والحياكة والبناء أما البناء فللمسكن والحياكة وما يكتنفها من أمر الغزل والخياطة فللملبس والفلاحة للمطعم والرعاية للمواشي والخيل أيضا للمطعم والمركب والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب فالفلاح يحصل النباتات والراعي يحفظ الحيوانات ويستنتجها والمقتنص يحصل ما نبت ونتج بنفسه من غير صنع آدمي وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنعة آدمي ونعني بالاقتناص ذلك ويدخل تحته صناعات وأشغال عدة ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة والفلاحة والبناء والاقتناص والآلات إنما تؤخذ إما من النبات وهو الأخشاب أو من المعادن كالحديد والرصاص وغيرهما أو من جلود الحيوانات فحدثت الحاجة إلى ثلاث أنواع أخر من الصناعات النجارة والحدادة والخز وهؤلاء هم عمال الآلات ونعني بالنجارة كل عامل في الخشب كيفما كان وبالحداد كل عامل في الحديد وجواهر المعادن حتى النحاس والإبري وغيرهما وغرضنا ذكر الأجناس فأما آحاد الحرف فكثيرة وأما الخراز فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها فهذه أمهات الصناعات ثم إن الإنسان خلق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه وذلك لسببين أحدهما حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما(11/429)
والثاني : التعاون على تهيئة أسباب المطعم والملبس ولتربية الولد فإن الاجتماع يفضي إلى الولد لا محالة والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في المنزل بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد بصناعة فإن الشخص الواحد كيف يتولى الفلاحة وحده وهو يحتاج إلى آلاتها وتحتاج الآلة إلى حداد ونجار ويحتاج الطعام إلى طحان وخباز وكذلك كيف ينفرد بتحصيل الملبس وهو يفتقر إلى حراسة القطن وآلات الحياكة والخياطة وآلات كثيرة فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده وحدثت الحاجة إلى الاجتماع ثم لو اجتمعوا في صحراء مكشوفة لتأذوا بالحر والبرد والمطر واللصوص فافتقروا إلى أبنية محكمة ومنازل ينفرد كل أهل بيت به وبما معه من الآلات والأثاث والمنازل تدفع الحر والبرد والمطر وتدفع أذى الجيران من اللصوصية وغيرها لكن المنازل قد تقصدها جماعة من اللصوص خارج المنازل فافتقر أهل المنازل إلى التناصر والتعاون والتحصن بسور يحيط بجميع المنازل فحدثت البلاد لهذه الضرورة
ثم مهما اجتمع الناس في المنازل والبلاد وتعاملوا تولدت بينهم خصومات إذ تحدث رياسة وولاية للزوج على الزوجة وولاية للأبوين على الولد لأنه ضعيف يحتاج إلى قوام به ومهما حصلت الولاية على عاقل أفضى إلى الخصومة بخلاف الولاية على البهائم إذ ليس لها قوة المخاصمة وإن ظلمت
فأما المرأة فتخاصم الزوج والولد يخاصم الأبوين هذا في المنزل(11/430)
وأما أهل البلد أيضا فيتعاملون في الحاجات ويتنازعون فيها ولو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتواردون على المراعي والأراضي والمياه وهي لا تفي بأغراضهم فيتنازعون لا محالة ثم قد يعجز بعضهم عن الفلاحة والصناعة بعمى أو مرض أو هرم وتعرض عوارض مختلفة ولو ترك ضائعا لهلك ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له فحدث بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى
فمنها صناعة المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم العدل
ومنها صناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ودفع اللصوص عنهم
ومنها صناعة الحكم والتوصل لفصل الخصومة ومنها الحاجة إلى الفقه وهو معرفة القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق ويلزموا الوقوف على حدوده حتى لا يكثر النزاع وهو معرفة حدود الله تعالى في المعاملات وشروطها
فهذه أمور سياسية لا بد منها ولا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتمييز والهداية وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ويحتاجون إلى المعاش ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلا تعطلت الصناعات ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت تعطلت البلاد عن الحراس واستضر الناس فمست الحاجة إلى أن يصرف إلى معايشهم وأرزاقهم الأموال الضائعة التي لا مالك لها إن كانت أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح وإن أرادوا التوسع فتمس الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة فتحدث الحاجة إلى الخراج ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج الحاجة لصناعات أخر إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على الفلاحين وأرباب الأموال وهم العمال وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة والمتخرجون وإلى من يجمع عنده ليحفظه إلى وقت التفرقة وهم الخزان وإلى من يفرق عليهم بالعدل وهو الفارض للعساكر وهذه الأعمال لو تولاها عدد لا تجمعهم رابطة انخرم النظام فتحدث منه الحاجة إلى ملك يدبرهم وأمير مطاع يعين لكل عمل شخصا ويختار لكل واحد ما يليق به ويراعي النصفة في أخذ الخراج وإعطائه واستعمال الجند في الحرب وتوزيع أسلحتهم وتعين جهات الحرب ونصب الأمير والقائد على كل طائفة منهم إلى غير ذلك من صناعات الملك فيحدث من ذلك بعد الجند الذين هم أهل السلاح وبعد الملك الذي يراقبهم بالعين الكالئة ويدبرهم الحاجة إلى الكتاب والخزان والحساب والجباة والعمال
ثم هؤلاء أيضا يحتاجون إلى معيشة ولا يمكنهم الاشتغال بالحرف فتحدث الحاجة إلى مال الفرع مع مال الأصل وهو المسمى فرع الخراج وعند هذا يكون الناس في الصناعات ثلاث طوائف الفلاحون والرعاة والمحترفون
والثانية الجندية الحماة بالسيوف
والثالثة المترددون بين الطائفتين في الأخذ والعطاء وهم العمال والجباة وأمثالهم فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس والمسكن وإلى ماذا انتهى(11/431)
وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسببه أبواب أخر وهكذا تتناهى إلى غير حد محصور كأنها هاوية لا نهاية لعمقها من وقع في مهواة منها سقط منها إلى أخرى وهكذا على التوالي فهذه هي الحرف والصناعات إلا أنها لا تتم إلا بالأموال والآلات والمال عبارة عن أعيان الأرض وما عليها مما ينتفع به وأعلاها الأغذية ثم الأمكنة التي يأوى الإنسان إليها وهي الدور ثم الأمكنة التي يسعى فيها للتعيش كالحوانيت والأسواق والمزارع ثم الكسوة ثم أثاث البيت وآلاته ثم آلات الآلات وقد يكون الآلات ما هو حيوان كالكلب آلة الصيد والبقر آلة الحراثة والفرس آلة الركوب في الحرب ثم يحدث من ذلك حاجة البيع فإن الفلاح ربما يسكن قرية ليس فيها آلة الفلاحة والحداد والنجار يسكنان قرية لا يمكن فيها الزراعة فبالضرورة يحتاج الفلاح إليهما ويحتاجان إلى الفلاح فيحتاج أحدهما أن يبذل ما عنده للآخر حتى يأخذ منه غرضه وذلك بطريق المعاوضة إلا أن النجار مثلا إذا طلب من الفلاح الغذاء بآلته ربما لا يحتاج الفلاح في ذلك الوقت إلى آلته فلا يبيعه والفلاح إذا طلب الآلة من النجار بالطعام ربما كان عنده طعام في ذلك الوقت فلا يحتاج إليه فتتعوق الأغراض فاضطروا إلى حانوت يجمع آلة كل صناعة ليترصد بها صاحبها أرباب الحاجات وإلى أبيات يجمع إليها ما يحمل الفلاحون فيشتريه منهم صاحب الأبيات ليترصد به أرباب الحاجات فظهرت لذلك الأسواق والمخازن فيحمل الفلاح الحبوب فإذا لم يصادف محتاجا باعها بثمن رخيص من الباعة فيخزنونها في انتظار أرباب الحاجات طمعا في الربح وكذلك في جميع الأمتعة والأموال ثم يحدث لا محالة بين البلاد والقرى تردد فيتردد الناس يشترون من القرى الأطعمة ومن البلاد الآلات وينقلون ذلك ويتعيشون به لتنتظم أمور الناس في البلاد بسببهم إذ كل بلد ربما لا توجد فيه كل آلة وكل قرية لا يوجد فيها كل طعام فالبعض يحتاج إلى البعض فيحوج إلى النقل فيحدث التجار(11/432)
المتكفلون بالنقل وباعثهم عليه حرص جمع المال لا محالة فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار لغرض غيرهم ونصيبهم منها جمع المال الذي يأكله لا محالة غيرهم إما قاطع طريق وإما سلطان ظالم ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاما للبلاد ومصلحة للعباد بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة
ولو عقل الناس وارتفعت هممهم لزهدوا في الدنيا ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد أيضا ثم هذه الأموال التي تنقل لا يقدر الإنسان على حملها فتحتاج إلى دواب تحملها وصاحب المال قد لا تكون له دابة فتحدث معاملة بينه وبين مالك الدابة تسمى الإجارة ويصير الكراء نوعا من الاكتساب أيضا ثم يحدث بسبب البياعات الحاجة إلى النقدين فإن من يريد أن يشتري طعاما بثوب فمن أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم هو والمعاملة تجري في أجناس مختلفة كما يباع ثوب بطعام وحيوان بثوب وهذه أمور لا تتناسب فلا بد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال ثم يحتاج إلى مال يطول بقاؤه لأن الحاجة إليه تدوم
وأبقى الأموال المعادن فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس ثم مست الحاجة إلى الضرب والنقش والتقدير فمست الحاجة إلى دار الضرب والصيارفة وهكذا تتداعى الأشغال والأعمال بعضها إلى بعض حتى انتهت إلى ما تراه فهذه أشغال الخلق وهي معاشهم وشي من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم وتعب في الابتداء وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه عنه مانع فيبقى عاجز عن الاكتساب لعجزه عن الحرف فيحتاج إلى أن يأكل مما يسعى فيه غيره فيحدث منه حرفتان خسيستان اللصوصية والكداية إذ يجمهما أنهما يأكلان من سعي غيرهما ثم الناس يحترزون من اللصوص والمكدين ويحفظون عنهم أموالهم فافتقروا إلى صرف عقولهم في استنباط الحيل والتدابير أما اللصوص فمنهم من يطلب أعوانا ويكون في يديه شوكة وقوة فيجتمعون ويتكاثرون ويقطعون الطريق كالأعراب والأكراد وأما الضعفاء منهم فيفزعون إلى الحيل إما بالنقب أو التسلق عند انتهاز فرصة الغفلة وإما بأن يكون طرارا أو سلالا إلى غير ذلك من أنواع التلصص الحادثة بحسب ما تنتجه الأفكار المصروفة إلى استنباطها وأما المكدي فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له اتعب واعمل كما عمل غيرك فمالك والبطالة فلا يعطي شيئا فافتقروا إلى حيلة في استخراج الأموال وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة فاحتالوا للتعلل بالعجز إما بالحقيقة كجماعة يعمون أولادهم وأنفسهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون وإما بالتعامي والتفالج والتجانن والتمارض وإظهار ذلك بأنواع من الحيل مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق ليكون ذلك سبب الرحمة وجماعة يلتمسون أقوالا وأفعالا يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال في حال التعجب ثم قد يندم بعد زوال التعجب ولا ينفع الندم وذلك قد يكون بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة والأفعال المضحكة وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام المنثور المسجع مع حسن(11/433)
الصوت والشعر الموزون أشد تأثيرا في النفس لا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة وفضائل أهل البيت أو الذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق وصنعة ما يشبه العوض وليس بعوض كبيع التعويذات والحشيش الذي يخيل بائعه أنها أدوية فيخدع بذلك الصبيان والجهال وكأصحاب القرعة والفأل من المنجمين ويدخل في هذا الجنس الوعاظ والمكدون على رءوس المنابر إذا لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام وأخذ أموالهم بأنواع الكدية وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين وكل ذلك استنبط بدقيق الفكرة لأجل المعيشة فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت والكسوة ولكنهم نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومآبهم فتاهوا وضلوا وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة الاشتغالات بالدنيا خيالات فاسدة فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه
فطائفة غلبهم الجهل والغفلة فلم تنفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة أمورهم فقالوا المقصود أن نعيش أياما في الدنيا فنجتهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب ثم نكسب حتى نأكل فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ليأكلوا وهذا مذهب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين فإنه يتعب نهارا ليأكل ليلا ويأكل ليلا ليتعب نهارا وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت
وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا يتنعم في الدنيا بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا وهي شهوة البطن والفرج فهؤلاء نسوا أنفسهم وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة يأكلون كما تأكل الأنعام ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد أدركوا غاية السعادة فشغلهم ذلك عن الله تعالى وعن اليوم الآخر(11/434)
وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع فهم يتعبون في الأسفار طول الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحا وبخلا عليها أن تنقص وهذه لذتهم وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات فيكون للجامع تعبه ووباله وللآكل لذته ثم الذين يجمعون ينظرون إلى أمثال ذلك ولا يعتبرون وطائفة ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح بالتجمل والمروءة فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال : إنه غني وإنه ذو ثروة ويظنون أن ذلك هو السعادة فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس
وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير فصرفوا هممهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة لطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة وأن ذلك غاية المطلب وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقة كلهم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم والملبس والمسكن ونسوا ما تراد له هذه الأمور الثلاثة والقدر الذي يكفي منها وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها وتداعى بهم ذلك إلى مهاو لم يمكنهم الرقي منها فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب والأشغال وعرف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل وحرفة وعمل إلا وهو عالم بمقصوده وعالم بحظه ونصيبه منه وأن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال عنه وفرغ القلب وغلب عليه ذكر الآخرة وانصرفت الهمة إلى الاستعداد له وإن تعدى به قدر الضرورة كثرت الأشغال وتداعى البعض إلى البعض وتسلسل إلى غير نهاية فتتشعب به الهموم ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان ولم يتركهم وأضلهم في الإعراض أيضا حتى انقسموا إلى طوائف(11/435)
فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا وإليه ذهب طوائف من العباد من أهل الهند فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولا من إماتة الصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية وأن السعادة في قطع الشهوة والغضب ثم أقبلوا على المجاهدة وشددوا على أنفسهم حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة وبعضهم فسد عقله وجن وبعضهم مرض وانسد عليه الطريق في العبادة وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع في الإلحاد وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله وأن الله تعالى مستغن عن عبادة العباد لا ينقصه عصيان عصيان عاص ولا تزيده عبادة متعبد فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد
وظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى فإذا حصلت المعرفة فقد وصل وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة فتركوا السعي والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف وإنما التكليف على عوام الخلق ووراء هذا مذاهب باطلة وضلالات هائلة يطول إحصاؤها إلى ما يبلغ نيفا وسبعين فرقة وإنما الناجي منها فرقة واحدة وهي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء من الدنيا ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص والحر والبرد ومن الكسوة كذلك حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكنه همته واشتغل بالذكر والفكر طول العمر وبقي ملازما لسياسة الشهوات ومراقبا لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى ولا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية وهم الصحابة فإنه عليه السلام لما قال الناجي منها واحدة قالوا يا رسول الله ومن هم قال أهل السنة والجماعة فقيل ومن أهل السنة والجماعة قال ما أنا عليه وأصحابي // حديث افتراق الأمة وفيه الناجي منهم واحدة قالوا ومن هم قال أهل السنة والجماعة الحديث أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة فقالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي ولأبي داود من حديث معاوية وابن ماجه من حديث أنس وعوف بن مالك وهي الجماعة وأسانيدها جياد //
وقد كانوا على النهج القصد وعلى السبيل الواضح الذي فصلناه من قبل فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا بل للدين وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط بل كان أمرهم بين ذلك قواما وذلك هو العدل والوسط بين الطرفين وهو أحب الأمور إلى الله تعالى. أ هـ {الإحياء حـ 3 صـ 224 ـ 230}(11/436)
قوله تعالى {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوجب الإعراض عن هذا العرض فكان السامع جديراً بأن يقول فعلاً أقبل ؟ أمر سبحانه وتعالى أقرب الخلق إليه وأعزهم لديه بجوابه لتكون البشارة داعية إلى حبه فقال : {قل} أي لمن فيه قابلية الإقبال إلينا ، ولما أجرى سبحانه وتعالى هذه البشارة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لتقوم الحجة على العباد بحاله كما تقوم بمقاله من حيث إنه لا يدعو إلى شيء إلا كان أول فاعل له ، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له ، لإيثاره الغائب المسموع من بناء الآخرة على العاجل المشهود من أثر الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه حين أشفق عليه من تأثير رمال السرير في جنبه فذكر ما فيه فارس والروم من النعيم : " أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ " شوق إليها بالاستفهام في قوله : {أؤنبئكم بخير من ذلكم} أي الذي ذكر من الشهوات ، وعظمه بأداة البعد وميم الجمع لعظمته عندهم والزيادة في التعظيم ما يرشد إليه ، ثم استأنف بيان هذا الخير بقوله : {للذين اتقوا} أي اتصفوا بالتقوى فكان مما أثمر لهم اتصافهم بها أن أعرضوا عن هذه الشهوات من حيث إنها شهوات وجعلوها عبادات واقية لهم من عذاب ربهم ، فتلذذوا بالنساء لا لمجرد الشهوة بل لغض البصر من الجانبين وابتغاء ما كتب لهم من الولد إنفاذاً لمراد ربهم من تكثير خلائفهم في الأرض للإصلاح ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : " تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة " ونحو ذلك وفرحوا بالبنين لا لمجرد المكاثرة بل لتعليمهم العلم وحملهم على الذكر والجهاد والشكر وأنواع السعي في رضى السيد ، وحازوا النقدين لا للكنز ، بل للإنفاق في سبيل الخيرات ، وربطوا للجهاد ، لا للفخر والرئاسة على العباد بل لقمع أولياء الشيطان ورفع أولياء الرحمن المسلتزم لظهور الإيمان ، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم متشابه اقتنائها فقال : " وهي(11/437)
لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر " ثم عظم سبحانه وتعالى ما لهم بقوله مرغباً بلفت القول إلى وصف الإحسان المقتضي لتربية الصدقات وغيرها من الأعمال الصالحات : {عند ربهم} أي المحسن إليهم بلباس التقوى الموجب لإيثارهم الآخرة على الدنيا ، وقوله : {جنّات} مرفوع بالابتداء ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف إذا كان وللذين ، متعلقاً بخير ، ثم وصفها بقوله : {تجري من تحتها الأنهار} أي أن ماءها غير مجلوب ، بل كل مكان منها متهيىء لأن ينبع منه ماء يجري لتثبت بهجتها وتدوم زهرتها ونضرتها ، ثم أشار بقوله : {خالدين فيها} إلى أنها هي المشتملة على جميع الإحسان المغنية عن الحرث والأنعام ، وأن ذلك على وجه لا انقطاع له.
قال الحرالي : وفي معنى لفظ الخلود إعلام بسكون الأنفس إليها لما فيها من موافقتها انتهى.
ولعله إنما خص من بين ما تقدم من الشهوات ذكر النسوان في قوله : {وأزواج} لأنها أعظم المشتهيات ، ولا يكمل التلذذ بها إلا بحصول جميع ما يتوقف ذلك عليه ، فصار ذكرهن على سبيل الامتنان من القادر كناية عن جميع ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
ولما كانت التقوى حاملة على تطهير الأنفس من أوضار الأدناس من الأوصاف السيئة وكان الوصف بالمفرد أدل على أنهن في أصل الطهارة كأنهن نفس واحدة قال عادلاً عما هو الأولى من الوصف بالجمع لجمع من يعقل : {مطهرة} لأنهن مقتبسات من أنفسهم {خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} [ الروم : 31 ].
ولما ذكر حظ البدن قرر لذة هذا النعيم بما للروح ، وزاده من الأضعاف المضاعفة ما لا حد له بقوله : {ورضوان} قال الحرالي : بكسر الراء وضمها ، اسم مبالغة في معنى الرضى ، وهو على عبرة امتلاء بما تعرب عنه الألف والنون وتشعر ضمة رائه بظاهر إشباعه ، وكسرتها بباطن إحاطته - انتهى.(11/438)
ولما جرى وعد الجنات على اسم الربوبية الناظر إلى الإحسان بالتربية فخم أمر هذا الجزاء وأعلاه على ذلك بنوطه بالاسم الأعظم فقال : {من الله} أي المحيط بصفات الكمال.
ولما كان شاملاً لجميعهم وكان ربما ظن أنهم فيه متساوون أشار إلى التفاوت بقوله مظهراً في موضع الإضمار إشارة إلى الإطلاق عن التقييد بحيثية ما : {والله} أي الذي له الحكمة البالغة {بصير بالعباد} أي بنياتهم ومقادير ما يستحقونه بها على حسب إخلاصها ، وبغير ذلك من أعمالهم وأقوالهم وسائر أحوالهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 36 ـ 38}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}
استئناف بياني ، فإنه نشأ عن قوله {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 14] المقتضي أن الكلام مسوق مساق الغض من هذه الشهوات. وافتتح الاستئناف بكلمة {قُلْ} للاهتمام بالمقول ، والمخاطب بقل النبي صلى الله عليه وسلم. والاستفهام للعرض تشويقا من نفوس المخاطبين إلى تلقي ما سيقص عليهم كقوله تعالى {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف : 10] الآية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 41}
فصل
قال الفخر :
ذكروا في متعلق الاستفهام ثلاثة أوجه الأول : أن يكون المعنى : هل أؤنبئكم بخير من ذلكم ، ثم يبتدأ فيقال : للذين اتقوا عند ربهم كذا وكذا والثاني : هل أؤنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا ، ثم يبتدأ فيقال : عند ربهم جنّات تجري والثالث : هل أنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا عند ربهم ، ثم يبتدى فيقال : جنّات تجري. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 172 ـ 173}
فصل
قال الفخر :
في وجه النظم وجوه(11/439)
الأول : أنه تعالى لما قال : {والله عِندَهُ حُسْنُ المأب} [ آل عمران : 14 ] بيّن في هذه الآية أن ذلك المآب ، كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا ، فقال {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} الثاني : أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى {والأخرة خَيْرٌ وأبقى} [ الأعلى : 17 ] الثالث : كأنه تعالى نبّه على أن أمرك في الدنيا وإن كان حسناً منتظماً إلا أن أمرك في الآخرة خير وأفضل ، والمقصود منه أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأوسع وأفسح من بطن الأم ، فكذلك الآخرة أطيب وأوسع وأفسح من الدنيا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 173}
فصل
قال ابن عادل :
قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى ، وتسهيل الثانية ، والباقون بالتحقيق فيهما ، ومَد هاتَيْن الهمزَتَيْن - بلا خلاف - قالون عن نافع ، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل.
وورش على أصله من نقل حركة الهمزة الأولى إلى لام " قُلْ ".
ولا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها ، وتحرير مذاهبهم ؛ فإنه موضع عسير الضبط ، فنقول : الوارد من ذلك في القرآن الكريم ثلاثة مواضع - أعني همزتين ، أولاهُمَا مفتوحةُ ، والثانية مضمومة - الأول : هذا الموضع.
والثاني : {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ ص : 8 ] ، والثالث : {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} [ القمر : 25 ] ، والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتب :
أحدها : مرتبة قالون ، وهي تسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ ، وإدخال ألِفٍ بين الهمزتين - بلا خلاف - كذا رواه عن نافع.
الثانية : مرتبة وَرْش وابن كثير ، وهي تسهيل الثانية - أيضاً - بين بين ، من غير إدخال ألِفٍ بين الهمزتين بخلاف كذا روى ورش عن نافع.(11/440)
الثالثة : مرتبة الكوفيين وابنِ ذكوان عن ابن عامر ، وهي تحقيق الثانيةِ ، من غير إدخال ألف بلا خلاف- ، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر.
الرابعة : مرتبة هشام ، وهي أنه رُويَ عنه ثلاثةُ أوجه :
الأول : التحقيق ، وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في الثلاثِ مواضِعَ.
الثاني : التحقيق ، وإدخال ألف بينهما في المواضع الثلاثة.
الثالث : التفرقة بين السور ، فيُحقق ويُقْصِر في هذه السورة ، ويُسَهِّل ويمد في السورتين الأخْرَيَيْن.
الخامسة : مرتبة أبي عمرو ، وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه. وتسهيل هذه الأوجه تقدم في أول البقرة.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِئَ : أَؤُنَبِّئكم - بواوٍ خالصةٍ بعد الهمزةِ ؛ لانضمامها - وليس ذلك بالوَجْه.
وفي قوله : {أَؤُنَبِّئُكُم} التفاتٌ من الغيبة - في قوله : " للنَّاسِ " - إلى الخطاب ، تشريفاً لهم.
" بِخَيْرٍ " متعلق بالفعل ، وهذا الفعل لَمَّا لم يضمن معنى " أعلم " تعدى لاثنين ، الأول تعدى إليه بنفسه ، وإلى الثاني بالحرف ، ولو ضُمِّنَ معناها لتعدَّى إلى ثلاثة.
و " مِنْ ذَلِكُمْ " متعلق بـ " خَيْر " ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل ، والإشارة بـ " ذَلِكُمْ " إلى ما تقدم من ذكر الشهوات وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع ، ولا يجوز أن تكون " خير " ليست للتفضيل ، ويكون المراد به خيراً من الخيور ، ويكون " مِنْ " صفة لقوله : " خَيْرٍ ".
قال أبو البقاء : " من " في موضع نَصْب بخير ، تقديره [ بما يفضل من ذلك ، ولا يجوز أن يكون صلة لخير ؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها ] مما رغبوا فيه بعضاً لِمَا زهدوا فيه من الأموال ونحوها ، وتابَعَهُ في ذلك أبو حيان. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 81 ـ 83}
فائدة
قال الفخر : (11/441)
إنما قلنا : إن نعم الآخرة خير من نعم الدنيا ، لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة ، ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية ، وأيضاً فنعم الدنيا منقطعة لا محالة ، ونعم الآخرة باقية لا محالة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 173}
لطيفة
قال ابن الجوزى :
روى عطاء بن السائب عن أبي بكر بن حفص قال : لما نزل قوله تعالى : {زين للناس حب الشهوات}.
قال عمر : يارب الآن حين زينتها ؟! فنزلت : {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم} ووجه الآية أنه خبَّر أن ما عنده خير مما في الدنيا ، وإن كان محبوباً ، ليتركوا ما يحبون لما يرجون. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 360}
قوله تعالى : {لّلَّذِينَ اتقوا}
قال الآلوسى :
وقوله تعالى : {ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات} استئناف مبين لذلك الخير المبهم على أن {لِلَّذِينَ} خبر مقدم ، و{جنات} مبتدأ مؤخر ، و{عِندَ رَبّهِمْ} يحتمل وجهين كونه ظرفاً للاستقرار وكونه صفة للجنات في الأصل قدم فانتصب حالاً منها ، وفي ذكر ذلك إشارة إلى علو رتبة الجنات ورفعة شأنها ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين إيذان بمزيد اللطف بهم ، والمراد منهم المتبتلون إليه تعالى المعرضون عمن سواه كما ينبىء عن ذلك الأوصاف الآتية وتعليق حصول الجنات وما يأتي بعد بهذا العنوان للترغيب في تحصيله والثبات عليه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 101}(11/442)
وقال الفخر :
أما قوله تعالى : {لّلَّذِينَ اتقوا} فقد بينا في تفسير قوله تعالى : {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [ البقرة : 2 ] أن التقوى ما هي وبالجملة ، فإن الإنسان لا يكون متقياً إلا إذا كان آتياً بالواجبات ، متحرزاً عن المحظورات ، وقال بعض أصحابنا : التقوى عبارة عن اتقاء الشرك ، وذلك لأن التقوى صارت في عرف القرآن مختصة بالإيمان ، قال تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [ الفتح : 26 ] وظاهر اللفظ أيضاً مطابق له ، لأن الاتقاء عن الشرك أعم من الاتقاء عن جميع المحظورات ، ومن الاتقاء عن بعض المحظورات ، لأن ماهية الاشتراك لا تدل على ماهية الامتياز ، فحقيقة التقوى وماهيتها حاصلة عند حصول الاتقاء عن الشرك ، وعرف القرآن مطابق لذلك ، فوجب حمله عليه فكان قوله {لّلَّذِينَ اتقوا} محمولاً على كل من اتقى الكفر بالله.
أما قوله تعالى : {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ} ففيه احتمالان الأول : أن يكون ذلك صفة للخير ، والتقدير : هل أنبئكم بخير من ذلاكم عند ربهم للذين اتقوا والثاني : أن يكون ذلك صفة للذين اتقوا والتقدير : للذين اتقوا عند ربهم خير من منافع الدنيا ويكون ذلك إشارة إلى أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا لمن كان متقياً عند الله تعالى ، فيخرج عنه المنافق ، ويدخل فيه من كان مؤمناً في علم الله.
وأما قوله {جنات} فالتقدير : هو جنّات ، وقرأ بعضهم {جنات} بالجر على البدل من خير ، واعلم أن قوله {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وصف لطيب الجنّة ودخل تحته جميع النعم الموجودة فيها من المطعم والمشرب والملبس والمفرش والمنظر ، وبالجملة فالجنة مشتملة على جميع المطالب ، كما قال تعالى : {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [ الزخرف : 71 ].
ثم قال : {خالدين فِيهَا} والمراد كون تلك النعم دائمة.(11/443)
ثم قال : {وأزواج مُّطَهَّرَةٌ ورضوان مّنَ الله} وقد ذكرنا لطائفها عند قوله تعالى في سورة البقرة : {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} [ البقرة : 25 ] وتحقيق القول فيه أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن ، ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب ، فقال {مُّطَهَّرَةٍ} ويدخل في ذلك : الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع ، ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة ، ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 173 ـ 174}
فائدة
قال السمرقندى :
{وأزواج مُّطَهَّرَةٌ} معناه في الخَلْق والخُلُق ، فأما الخَلْقُ فإنهن لا يَحضنَ ولا يتمخَّطْن ، ولا يأتين الخلاء ، وأما الخُلُق ، فإنهن لا يَغِرْن ولا يحسدن ، ولا ينظرن إلى غير أزواجهن. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 224 ـ 225}
قوله تعالى : {ورضوان مّنَ الله}
قال ابن عادل :
قوله : " وَرِضْوَان " فيه لغتان :
ضم الراء ، وهي لغة تميم وقيس ، وبها قرأ عاصم في جميع القرآن إلا في الثانية من سورة المائدة وهي {مَنِ اتبع رِضْوَانَه} [ المائدة : 16 ] ، فبعضهم نقل عنه الجَزْم بكسرها ، وبعضهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة.
والكسر ، وهو لغة الحجاز ، وبها قرأ الباقون - وهل هما بمعنى واحد ، أو بَينهما فرقٌ ؟
قولان :
أحدهما : أنهما مصدران بمعنى واحد - كالعُدْوان.
قال الفرّاء : " رَضِيتُ رِضاً ، ورِضْوَاناً ورُضْواناً ، ومثل الرِّضْوَان - بالكسر - الحِرْمان ، وبالضم الطُّغْيَان ، والرُّجحان ، والكُفْران ، والشُّكْران ".
الثاني : أن المكسور اسم ، ومنه رِضوان : خازن الجنة صلّى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته.
والمضموم هو المصدر ، و" مِنَ اللهِ " صفة لِ " رِضْوَان ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 86}
فصل
قال الفخر : (11/444)
قال المتكلمون : الثواب له ركنان أحدهما : المنفعة ، وهي التي ذكرناها ، والثاني : التعظيم ، وهو المراد بالرضوان ، وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم ، حامد لهم ، مثن عليهم ، أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع ، وأما الحكماء فإنهم قالوا : الجنّات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية ، والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية ، وهو عبارة عن تجلي نور جلال الله تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفته ، ثم يصير في أول هذه المقامات راضياً عن الله تعالى ، وفي آخرها مرضياً عند الله تعالى ، والله الإشارة بقوله {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [ الفجر : 28 ] ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ورضوان مّنَ الله أكْبَرُ ذلك هُوَ الفوز العظيم} [ التوبة : 72 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 174}
وقال أبو حيان :
{ورضوان من الله} بدأ أولاً بذكر المقر ، وهو الجنات التي قال فيها {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التامّ من الأزواج المطهرة ، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم ، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني ، حيث علم برضا الله عنه ، كما جاء في الحديث أنه تعالى : " يسأل أهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا "(11/445)
ففي هذه الآية الانتقال من عال إلى أعلى منه ، ولذلك جاء في سورة براءة ، قد ذكر تعالى الجنات والمساكن الطيبة فقال : {ورضوان من الله أكبر} يعنى أكبر مما ذكر من ذكر من الجنات والمساكن.
وقال الماتريدي : أهل الجنة مطهرون لأن العيوب في الأشياء علم الفناء ، وهم خلقوا للبقاء ، وخص النساء بالطهر لما فيهنّ في الدنيا من فضل المعايب والأذى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 417}
وقال ابن عاشور :
وجنات مبتدأ محذوف الخبر : أي لهم ، أو خبرا لمبتدأ محذوف. وقد ألغي ما يقابل شهوات الدنيا في ذكر نعيم الآخرة ؛ لأن لذة البنين ولذة المال هنالك مفقودة ، للاستغناء عنها ، وكذلك لذة الخيل والأنعام ؛ إذ لا دواب في الجنة ، فبقي ما يقابل النساء والحرث ، وهو الجنات والأزواج ، لأن بهما تمام النعيم والتأنس ، وزيد عليهما رضوان الله الذي حرمه من جعل حظه لذات الدنيا وأعرض عن الآخرة. ومعنى المطهرة المنزهة مما يعتري نساء البشر مما تشمئز منه النفوس ، فالطهارة هنا حسية ومعنوية.
وعطف {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} على ما أعد للذين اتقوا عند الله : لأن رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي ؛ لأن رضوان الله تقريب روحاني قال تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة : 72].
وقرأ الجمهور : {رِضْوَانٌ} بكسر الراء وقرأه أبو بكر عن عاصم : بضم الراء وهما لغتان.
وأظهر اسم الجلالة في قوله {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، دون أن يقول ورضوان منه أي من ربهم : لما في اسم الجلالة من الإيماء إلى عظمة ذلك الرضوان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 42}
{والله بَصِيرٌ بالعباد}
قال الفخر :
{والله بَصِيرٌ بالعباد} أي عالم بمصالحهم ، فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة ، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 174}
وقال الآلوسى : (11/446)
{والله بَصِيرٌ بالعباد} أي خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلاً ويعاقب المسىء عدلاً ، أو خبير بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم ما أعدّ ، فالعباد على الأول : عام ؛ وعلى الثاني : خاص ، وقد بدأ سبحانه في هذه الآية أولاً بذكر الْمَقَرّ وهو الجنات ، ثم ثَنى بذكر ما يحصل به الأنس التام وهو الأزواج المطهرة ، ثم ثلث بذكر ما هو الإكسير الأعظم والروح لفؤاد الواله المغرم وهو رضا الله عز وجل. وفي الحديث : أنه سبحانه " يسأل أهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول جل شأنه ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً ". أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 101}
وقال ابن عاشور :
وجملة {والله بصير بالعباد} اعتراض لبيان الوعد أي أنه عليم بالذين اتقوا ومراتب تقواهم ، فهو يجازيهم ، ولتضمن بصير معنى عليم عدي بالباء. وإظهار اسم الجلالة في قوله {والله بصير بالعباد} لقصد استقلال الجملة لتكون كالمثل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 42}
فائدة
قال ابن عطية فى معنى الآية : (11/447)
في هذه الآية تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها ، وذكر تعالى حال الدنيا وكيف استقر تزيين شهواتها ، ثم جاء الإنباء بخير من ذلك ، هازاً للنفوس وجامعاً لها لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن عقل ، وأنبىء : معناه أخبر ، وذهبت فرقة من الناس إلى أن الكلام الذي أمر النبي صلى عليه السلام بقوله تم في قوله تعالى : {عند ربهم} و{جنات} على هذا مرتفع بالابتداء المضمر تقديره : ذلك جنات ، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله : {من ذلكم} وأن قوله {للذين} خبر متقدم ، و{جنات} رفع بالابتداء ، وعلى التأويل الأول يجوز في {جنات} الخفض بدلاً من خير ، ولا يجوز ذلك على التأويل الثاني ، والتأويلان محتملان ، وقوله {من تحتها} يعني من تحت أشجارها وعلوها من الغرف ونحوها و{خالدين} نصب على الحال ، وقوله : {وأزواج} عطف على الجنات وهو جمع زوج وهي امرأة الإنسان ، وقد يقال زوجة ، ولم يأت في القرآن ، و{مطهرة} ، معناه من المعهود في الدنيا من الأقذار والريب وكل ما يصم في الخلق والخلق ، ويحتمل أن يكون الأزواج الأنواع والأشباه ، والرضوان ، مصدر من الرضى وفي الحديث عن النبي عليه السلام : أن أهل الجنة إذا استقروا فيها وحصل لكل واحد منهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال الله لهم : أتريدون أن أعطيكم ما هو أفضل من هذا ؟ قالوا يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول الله تعالى : " أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً " ، هذا سياق الحديث ، وقد يجيء مختلف الألفاظ والمعنى قريب بعضه من بعض ، وفي قوله تعالى : {والله بصير بالعباد} وعد ووعيد. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 411}(11/448)
وقال البيضاوى :
{قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} يريد به تقرير أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا. {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} استئناف لبيان ما هو خير ، ويجوز أن يتعلق اللام بخير ويرتفع جنات على ما هو جنات ، ويؤيده قراءة من جرها بدلاً من {خَيْرٌ}. {وأزواج مُّطَهَّرَةٌ} مما يستقذر من النساء. {ورضوان مّنَ الله} قرأ عاصم في رواية أبي بكر في جميع القرآن بضم الراء ما خلا الحرف الثاني في المائدة وهو قوله تعالى : {رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} بكسر الراء وهما لغتان. {والله بَصِيرٌ بالعباد} أي بأعمالهم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء ، أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعد لهم جنات ، وقد نبه بهذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا وأعلاها رضوان الله تعالى لقوله تعالى : {ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ} وأوسطها الجنة ونعيمها. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 15}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
بيَّن فضيلة أهل التقوى على أرباب الدنيا ، فقال : هؤلاء لهم متابعة المنى وموافقة الهوى وأولئك لهم الدرجات العُلى ، والله بصير بالعباد ؛ أنزل كل قوم مَنْزِلَه ، وأوصله إلى ما لَهُ أَهَّله. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 224}(11/449)
لطائف وفوائد ومواعظ
قال ابن رجب الحنبلى :
ذكر وصف الجنة وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة حين سأله عن بناء الجنة فقال : لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وتربتها الزعفران ] وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر مرفوعا أخرجه الطبراني فهذه أربعة أشياء :
أحدها : بناء الجنة : ويحتمل أن المراد بنيان قصورها ودورها ويحتمل أن يراد بناء حائطها وسورها المحيط بها وهو أشبه وقد روي من وجه آخر [ عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا وهو أشبه : حائط الجنة لبنة من فضة ولبنة من ذهب ودرجها الياقوت واللؤلؤ قال : وكنا نتحدث : أن رضراض أنهارها اللؤلؤ وترابها الزعفران ] وفي مسند البزار [ عن أبي سعيد مرفوعا : خلق الله الجنة لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك فقال لها : تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فقالت الملائكة : طوبى لك منزل الملوك ] ومما يبين أن المراد ببناء الجنة في هذه الأحاديث بناء سورها المحيط بها ما في الصحيحين [ عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : جنتان من ذهب وآنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة وآنيتهما وما فيهما ] و[ قد روي عن أبي موسى مرفوعا : جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من فضة لأصحاب اليمين ] وفي الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إنها جنان كثيرة ] وقد روي : [ أن بناء بعضها من در وياقوت ] خرج ابن لأبي الدنيا [ من حديث أنس مرفوعا : خلق الله جنة عدن بيده لبنة بيضاء ولبنة من ياقوتة حمراء ولبنة من زبرجد خضراء ملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ وحشيشها الزعفران ثم قال لها : انطقي قالت : قد أفلح المؤمنون قال وعزتي لا يجاورني فيك بخيل ] وروى عطية [ عن أبي سعيد قال : إن الله خلق جنة عدن من ياقوتة حمراء ثم قال لها : تزيني فتزينت ثم قال لها : تكلمي فقالت : طوبى لمن رضيت عنه ثم أطبقها وعلقها بالعرش فهي تفتح في كل سحر فذلك برد السحر ] وعن ابن عباس قال : كان عرش الله على الماء ثم اتخذ دونها أخرى وطبقهما بلؤلؤة واحدة لا تعلم الخلائق ما فيهما وهما اللتان لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون وذكر صفوان بن عمرو عن بعض مشايخه قال : الجنة مائة درجة أولها : درجة فضة أرضها فضة(11/450)
ومساكنها فضة وترابها المسك والثانية : ذهب وأرضها ذهب وآنيتها ذهب وترابها المسك والثالثة : لؤلؤ وأرضها لؤلؤ وآنيتها لؤلؤ وترابها المسك وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم تلا {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} وفي صحيح مسلم [ عن المغيرة بن شعبة يرفعه : سأل موسى ربه قال : يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة فيقول : يا رب كيف وقد أخذ الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول رضيت يا رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة : رضيت يا رب فيقال : هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول : رضيت يا رب قال : فأعلاهم منزلة قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال : ومصداقه في كتاب الله : {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} ]
الثاني : ملاط الجنة : وأنه المسك الأذفر وقد تقدم مثل ذلك في غير حديث والملاط : هو الطين ويقال : الطين الذي يبنى منه البنيان والأذفر الخالص ففي الصحيحين [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ] والجنابذ : مثل القباب وقد قيل : إنه أراد بترابها ما خالطه الماء وهو طينها كما في صحيح البخاري [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الكوثر : طينه المسك الأذفر ] وقد قيل في تأويل قوله تعالى : {ختامه مسك} : إن المراد بالختام : ما يبقى في سفل الشراب من التفل وهذا يدل على أن أنهارها تجري على المسك ولذلك يرسب منه في الإناء في آخر الشراب كما يرسب الطين في آنية الماء في الدنيا(11/451)
الثالث : حصباء الجنة : وأنه اللؤلؤ والياقوت والحصباء : الحصي الصغار وهو الرضراض وفي المسند [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الكوثر : أن رضراضه اللؤلؤ ] وفي رواية : [ حصباؤه اللؤلؤ ] وفي الترمذي [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن مجراه على الدر والياقوت ] وفي الطبراني [ من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حاله المسك الأبيض ورضراضه الجوهر وحصباؤه اللؤلؤ ] وفي المسند [ من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حاله المسك ورضراضه التوم ] والتوم : الجوهر والحال : الطين قال أبو العالية : قرأت في بعض الكتب : يا معشر الربانيين من أمة محمد انتدبوا لدار أرضها زبرجد أخضر تجري عليها أنهار الجنة فيها الدر واللؤلؤ والياقوت وسورها زبرجد أخضر متدليا عليها أشجار الجنة بثمارها(11/452)
الرابع : تراب الجنة : وأنه الزعفران وقد سبق في رواية أخرى : [ الزعفران والورس ] وقد قيل : إن المراد بالتراب ههنا : تربة الأرض التي لا ماء عليها فأما ما كان عليه ماء فإنه مسك كما سبق وسبق أيضا في بعض الروايات حشيشها الزعفران وهو نبات أرضها وترابها فأما حديث ترابها المسك : فقد قيل : إنه محمول على تراب يخالطه الماء كما تقدم وقيل : إن المراد : أن ريح ترابها ريح مسك ولونه لون الزعفران ويشهد لهذا حديث الكوثر : [ إن حاله المسك الأبيض ] فريحه ريح المسك ولونه مشرق لا يشبه لون مسك الدنيا بل هو أبيض وقد يكون منه أبيض ومنه أصفر والله أعلم وفي صحيح مسلم [ من حديث أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن الصياد عن تربة الجنة : فقال : درمكة بيضاء مسك خالص فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ] ورواية : أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه وفي المسند والترمذي [ عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تربة الجنة درمكة ثم سأل اليهود ؟ فقالوا : خبزة فقال : الخبز من الدرمك ] والتي تجتمع به هذه الأحاديث كلها أن تربة الجنة في لونها بيضاء ومنها ما يشبه لون الزعفران في بهجته وإشراقه وريحها ريح المسك الأذفر الخالص وطعمها طعم الخبز الحواري الخالص وقد يختص هذا بالأبيض منها فقد اجتمعت لها الفضائل كلها لا حرمنا الله ذلك برحمته وكرمه(11/453)
وقوله صلى الله عليه وسلم : [ من يدخلها ينعم لا يبأس ويخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم ] إشارة إلى بقاء الجنة وبقاء جميع ما فيها من النعيم وإن صفات أهلها الكاملة من الشباب لا تتغير أبدا وملابسهم التي عليهم من الثياب لا تبلى أبدا وقد دل القرآن على مثل هذا في مواضع كثيرة كقوله : {وجنات لهم فيها نعيم مقيم} وقوله تعالى : {أكلها دائم وظلها} وقوله تعالى : {خالدين فيها أبدا} في مواضع كثيرة وفي صحيح مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ] وفيه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد أن لكم أن تنعموا ولا تبأسوا أبدا وأن لكم أن تصحوا وتسقموا أبدا وأن لكم أن تشبوا ولا تهرموا أبدا ونودوا أن تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ] وفي رواية لغيره زيادة : [ وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا ] وفي الترمذي مرفوعا : [ أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم ] و[ عن أبي سعيد مرفوعا : يدخل أهل الجنة أبناء ثلاثين لا يزيدون عليها أبدا ] ومن حديث علي مرفوعا : [ إن في الجنة مجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له ] وخرج الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا : [ إن مما يتغنين به الحور العين : نحن الخالدات فلا نمتنه نحن الآمنات فلا نخفنه نحن المقيمات فلا نظعنه ] ومن حديث أم سلمة مرفوعا : [ أن نساء أهل الجنة يقلن : نحن الخالدات فلا نموت ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا ] وفيما ذكره صلى الله عليه وسلم في صفة من يدخل الجنة تعريض بذم الدنيا الفانية(11/454)
فإنه من يدخلها وإن نعم فيها فإنه يبأس ومن أقام فيها فإنه يموت ولا يخلد ويفنى شبابهم وتبلى ثيابهم وتبلى أجسامهم وفي القرآن نظير هذا وهذا التعريض بذم الدنيا وفنائها مع مدح الآخرة وذكر كمالها وبقائها كما قال تعالى : {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد} وقال الله تعالى : {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} الآية ثم قال : {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} وقال الله تعالى : {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة} الآية وقال الله تعالى : {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} وقال الله تعالى : {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته} إلى قوله : {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} وقال الله تعالى : {بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى} وقال الله تعالى : {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} وقال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال(11/455)
لقومه : {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} والمتاع : هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع ويفنى فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها وتقلب أحوالها وهو أدل دليل على انقضائها وزوالها فتتبدل صحتها بالسقم ووجودها بالعدم وشبيبتها بالهرم ونعيمها بالبؤس وحياتها بالموت فتفارق الأجسام النفوس وعمارتها بالخراب واجتماعها بفرقة الأحباب وكل ما فوق التراب تراب قال بعض السلف في يوم عيد وقد نظر إلى كثرة الناس وزينة لباسهم : هل ترون إلا خرقا تبلى أو لحما يأكله الدود غدا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : يا دار تخربين ويموت سكانك وفي الحديث : [ عجبا لمن رأى الدنيا وسرعة تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ]
قال الحسن : إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لب بها فرحا
وقال مطرف : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيما لا موت فيه وقال يونس بن عبيد : ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال
وقال يزيد الهاشمي : أمن أهل الجنة الموت فطاب لهم العيش وأمنوا الاسقام فهنيئا لهم في جوار الله طول المقام عيوب الدنيا بادية وهي تغيرها ومواعظها منادية لكن حبها يعمي ويصم فلا يسمع محبها نداءها ولا يرى كشفها للغير وإيذاءها
( قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع )
( كم واثق بالعمر أفنيته ... وجامع بددت ما يجمع )
كم قد تبدل نعيمها بالضر والبؤس كم أصبح من هو واثق بملكها وأمسى وهو منها قنوط بؤوس
قالت بعض بنات ملوك العرب الذين نكبوا : أصبحنا وما في الأرض أحد إلا وهو يحسدنا ويخشانا وأمسينا وما في العرب أحد إلا وهو يرحمنا
دخلت أم جعفر بن يحيى البرمكي على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش تلبسه وقالت : هجم علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة قائمة وأنا أزعم أن ابني جعفرا عاق لي(11/456)
كانت أخت أحمد بن طولون صاحب مصر كثيرة السرف في إنفاق المال حتى أنها زوجت بعض لعبها فأنفقت على وليمة عرسها مائة ألف دينار فما مضى إلا قليل حتى رؤيت في سوق من أسواق بغداد وهي تسأل الناس
اجتاز بعض الصالحين بدار فيها فرح وقائلة تقول في غنائها :
( ألا يا دار لا يدخلك حزن ... ولا يزري بصاحبك الزمان )
ثم اجتاز بها عن قريب وإذا الباب مسود وفي الدار بكاء وصراخ فسأل عنهم ؟ فقيل : مات رب الدار فطرق الباب وقال : سمعت من هذه الدار قائلة تقول : كذا وكذا فبكت امرأة وقالت : يا عبد الله إن الله يغير ولا يتغير والموت غاية كل مخلوق فانصرف من عندهم باكيا
بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته وفدا إلى اليمن فاجتازوا في طريقهم بماء من مياه العرب عنده قصور مشيدة وهناك مواش عظيمة ورقيق كثير ورأى نسوة كثيرة مجتمعات في عرس لهن وجارية بيدها دف تقول :
( معاشر الحساد موتوا كمدا ... كذا نكون ما بقينا أبدا )
فنزلوا بقربهم فأكرمهم سيد الماء واعتذر إليهم باشتغاله بالعرس فدعوا له وارتحلوا ثم إن بعض أولئك الوفد أرسلهم معاوية إلى اليمن فمروا بالقرب من ذلك الماء فعدلوا إليه لينزلوا فيه فإذا القصور المشيدة قد خربت كلها وليس هناك ماء ولا أنيس ولم يبق من تلك الآثار إلا تل خراب فذهبوا إليه فإذا عجوز عمياء تأوي إلى نقب في ذلك التل فسألوها عن أهل ذلك الماء فقالت : هلكوا كلهم فسألوها عن ذلك العرس المتقدم فقالت : كانت العروس أختي وأنا كنت صاحبة الدف فطلبوا أن يحملوها معهم فأبت وقالت : عزيز علي أن أفارق هذه العظام البالية حتى أصير إلى ما صارت إليه فبينما هي تحدثهم إذ مالت فنزعت نزعا يسيرا ثم ماتت فدفنوها وانطلقوا(11/457)
حمل إلى سليمان بن عبد الملك في خلافته من خراسان ستة أحمال مسك إلى الشام فأدخلت على ابنه أيوب وهو ولي عهده فدخل عليه الرسول بها في داره فدخل إلى دار بيضاء وفيها غلمان عليهم ثياب بياض وحليتهم فضة ثم دخل إلى دار صفراء فيها غلمان عليهم ثياب صفر وحليتهم الذهب ثم دخل إلى دار خضراء فيها غلمان عليهم ثياب خضر وحليتهم الزمرد ثم دخل على أيوب وهو وجاريته على سرير فلم يعرف أحدهما من الآخر لقرب شبههما فوضع المسك بين يديه فانتهبه كله الغلمان ثم خرج الرسول فغاب بضعة عشر يوما ثم رجع فمر بدار أيوب وهي بلاقع فسأل عنهم ؟ فقيل له : أصابهم الطاعون فماتوا
كان يزيد بن عبد الملك ـ وهو الذي انتهت إليه الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز ـ له جارية تسمى حبابة وكان شديد الشغف بها ولم يقدر على تحصيلها إلا بعد جهد شديد فلما وصلت إليه خلى بها يوما في بستان وقد طار عقله فرحا بها فبينما هو يلاعبها ويضاحكها إذ رماها بحبة رمان أو حبة عنب وهي تضحك فدخلت في فيها فشرقت بها فماتت فما سمحت نفسه بدفنها حتى أراحت فعوتب على ذلك فدفنها ويقال : إنه نبشها بعد دفنها ويروى : إنه دخل بعد موتها إلى خزائنها ومقاصيرها ومعها جارية لها فتمثلت الجارية ببيت :
( كفى حزنا بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا )
فصاح وخر مغشيا عليه فلم يفق إلى أن مضى هوي من الليل ثم أفاق فبكى بقية ليلته ومن الغد فدخلوا عليه فوجدوه ميتا
قال بعض السلف : ما من حبرة إلا يتبعها عبرة * وما كان ضحك في الدنيا إلا كان بعده بكاء * من عرف الدنيا حق معرفتها حقرها وأبغضها كما قيل :
( أما لو بيعت الدنيا بفلس ... أنفت لعاقل أن يشتريها )(11/458)
ومن عرف الآخرة وعظمتها ورغب فيها عباد الله هلموا إلى دار لا يموت سكانها ولا يخرب بنيانها ولايهرم شبابها ولا يتغير حسنها وإحسانها هواؤها النسيم وماؤها التسنيم يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين ويتمتعون بالنظر إلى وجهه كل حين : {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}
قال عون بن عبد الله بن عتبة : بنى ملك ممن كان قبلنا مدينة فتنوق في بنائها ثم صنع طعاما ودعا الناس إليه وأقعد على أبوابها ناسا يسألون كل من خرج هل رأيتم عيبا ؟ فيقولون لا حتى جاء في آخر الناس قوم عليهم أكسية فسألوهم : هل رأيتم عيبا ؟ فقالوا : عيبين فأدخلوهم على الملك فقال : هل رأيتم عيبا ؟ فقالوا عيبين قال : وما هما ؟ قالوا : تخرب ويموت صاحبها قال : فتعلمون دار لا تخرب ولا يموت صاحبها ؟ قالوا نعم فدعوه فاستجاب لهم وانخلع من ملكه وتعبد معهم فحدث عون بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فوقع منه موقعا حتى هم أن يخلع نفسه من الملك فأتاه ابن عمه مسلمة فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين في أمة محمد فوالله لئن فعلت ليقتتلن بأسيافهم قال : ويحك يا مسلمة حملت ما لا أطيق وجعل يرددها ومسلمة يناشده حتى سكن. أ هـ لطائف المعارف صـ 27 ـ 34}(11/459)
قوله تعالى {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأنه بصير بمن يستحق ما أعد من الفوز أتبعه ما استحقوا ذلك به من الأوصاف تفضلاً منه عليهم بها وبإيجاب ذلك على نفسه حثاً لهم على التخلق بتلك الأوصاف فقال : - وقال الحرالي : لما وصف تعالى قلوبهم بالتقوى وبرأهم من الاستغناء بشيء من دونه وصف أدبهم في المقال فقال ؛ انتهى - {الذين يقولون ربنا} أي يا من ربانا بإحسانه وعاد علينا بفضله ، وأسقط أداة النداء إشعاراً بما لهم من القرب لأنهم في حضرة المراقبة ؛ ولما كانت أحوالهم في تقصيرها عن أن يقدر الله حق قدره كأنها أحوال من لم يؤمن اقتضى المقام التأكيد فقالوا : {إننا} فأثبتوا النون إبلاغاً فيه {آمنا} أي بما دعوتنا إليه ، وأظهروا هذا المعنى بقولهم : {فاغفر لنا ذنوبنا} أي فإننا عاجزون عن دفعها ورفع الهمم عن مواقعتها وإن اجتهدنا لما جبلنا عليه من الضعف والنقص ، تنبيهاً منه تعالىعلى أن مثل ذلك لا يقدح في التقوى إذا هدم بالتوبة لأنه ما أصر من استغفر ، والتوبة تجب ما قبلها.
قال الحرالي : وبين المغفرة على مجرد الإيمان إشارة إلى أنه لا تغيرها الأفعال ، من ترتب إيمانه على تقوى غفرت ذنوبه ، فكانت مغفرة الذنوب لأهل هذا الأدب في مقابلة الذين آخذهم الله بذنوبهم من الذين كذبوا ، ففي شمول ذكر الذنوب في الصنفين إعلام بإجراء قدر الذنوب على الجميع ، فما كان منها مع التكذيب أخذ به ، وما كان منها مع التقوى والإيمان غفر له - انتهى.
ولما رتب سبحانه وتعالى الغفران على التقوى ابتداء رتب عليها الوقاية انتهاء فقال : {وقنا عذاب النار} أي الذي استحققناه بسوء أعمالنا. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 38 ـ 39}
فائدة
لغوية
قال ابن عادل : (11/460)
قوله تعالى : {الذين يَقُولُونَ} يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ ، والنصبَ ، والجرَّ ، فالرفع من وجهينِ :
أحدهما : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : الذين يقولون كذا مستجاب لهم ، أو لهم ذلك الجزاء المذكور.
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون ؟ فقيل : الذين يقولون كيت ، وكيت.
والنصب من وجه واحدٍ ، وهو النصب بإضمار أعني ، أو أمدح ، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر ، ويُسَمَّيَان : الرفع على القطع ، والنصب على القطع.
والجر من وجهين :
أحدهما : النعت.
والثاني : البدل ، ثم لك - في جعله نَعْتاً أو بَدَلاً - وجهان :
أحدهما : جعله نعتاً لِلَّذِينَ اتَّقَوا ، أو بدلاً منه.
والثاني : جعله نعتاً للعباد ، أو بدلاً منهم.
واستضعف ابو البقاء جعله نعتاً للعباد ، قال : [ ويضعف أن يكون صفةً للعباد ] ؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم اللهِ ، وهو جائز - على ضعفه - ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة ، فهو يُجازيهم عليها ، كما قال : {والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم} [ النساء : 25 ].
والجملة من قوله : {والله بَصِيرٌ} يجوز أن تكون معترضة ، لا محل لها ، إذا جعلتَ " الَّذِينَ يَقُولُونَ " تابعاً لِ " الَّذِينَ اتَّقَوا " - نعتاً أو بدلاً- ، وإن جعلته مرفوعاً ، أو منصوباً فلا. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 87}
وقال البيضاوى :
{الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النار} صفة للمتقين ، أو للعباد ، أو مدح منصوب أو مرفوع. وفي ترتيب السؤال على مجرد الإِيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة أو الاستعداد لها. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 16}
فصل
قال الفخر : (11/461)
اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا {رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا} ثم إنهم قالوا بعد ذلك {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة والله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم ، والثناء عليهم ، فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من الله تعالى ، فإن قالوا : الإيمان عبارة عن جميع الطاعات أبطلنا ذلك عليهم بالدلائل المذكورة في تفسير قوله {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} وأيضاً فمن أطاع الله تعالى في جميع الأمور ، وتاب عن جميع الذنوب ، كان إدخاله النار قبيحاً من الله عندهم ، والقبيح هو الذي يلزم من فعله ، إما الجهل ، وإما الحاجة فهما محالان ، ومستلزم المحال محال ، فإدخال الله تعالى إياهم النار محال ، وما كان محال الوقوع عقلاً كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله الله عبثاً وقبيحاً ، ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا وَتَوَفَّنَا مَع الأبرار} [ آل عمران : 193 ].
فإن قيل : أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله {الصابرين والصادقين} [ آل عمران : 17 ].
قلنا : تأويل هذه الآية ما ذكرناه ، وذلك لأنه تعالى جعل مجرّد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة ، ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين ، ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى ، فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان ، ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات ، علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة ، وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 174 ـ 175}
وقال ابن عاشور : (11/462)
وقوله : {الذين يقولون} عطف بيان {للذين اتقوا} وصفهم بالتقوى وبالتوجّه إلى الله تعالى بطلب المغفرة.
ومعنى القول هنا الكلامُ المطابق للواقع في الخبرِ ، والجاري على فرط الرغبة في الدعاء ، في قولهم : {فاغفر لنا ذنوبنا} إلخ ، وإنّما يجري كذلك إذا سعى الداعي في وسائل الإجابة وترقّبها بأسبابها التي ترشد إليها التقوى ، فلا يُجازَى هذا الجزاءَ من قال ذلك بفمه ولم يعمل لهُ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 42}
فائدة
قال الطبرى :
ومعنى قوله : "الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا" : الذين يقولون : إننا صدّقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك "فاغفر لنا ذنوبنا" ، يقول : فاستر علينا ذنوبنا ، بعفوك عنها ، وتركك عقوبتنا عليها "وقنا عذاب النار" ، ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك : لا تعذبنا يا ربنا بالنار.
وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار ، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه.
وأصل قوله : "قنا" من قول القائل : "وقى الله فلانًا كذا" ، يراد : دفع عنه ، "فهو يقيه". فإذا سأل بذلك سائلٌ قال : "قِنِى كذا". أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 263 ـ 264}(11/463)
قوله تعالى {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
قال الحرالي : ولما وصف تقوى قلوبهم باطناً وأدب مقالهم ظاهراً وصف لهم أحوال أنفسهم ليتطابق ظاهر أمرهم بمتوسطه وباطنه فقال : {الصابرين} فوصفهم بالصبر إشعاراً بما ينالهم من سجن الدنيا وشدائدها ، والصبر أمدح أوصاف النفس ، به تنحبس عن هواها وعما زين من الشهوات المذكورة بما تحقق من الإيمان بالغيب الموجب لترك الدنيا للآخرة فصبروا عن الشهوات ؛ أما النساء فبالاقتصار على ما ملكوه وأما البنون فبمراعاة أن ما تقدم خير مما تأخر ، قال صلى الله عليه وسلم - يعني فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه " لسقط أقدمه بين يدي أحب إليَّ من فارس أخلفه خلفي " (1)
وأما الذهب والفضة فبالنظر إليها أصناماً يضر موجودها ، وبالحري أن ينال منها السلامة بنفقة لا يكاد يصل إنفاقها إلى أن يكون كفارة كسبها وجمعها ، فكان الصبر عنها أهون من التخلص منها ؛ وأما الخيل فلما يصحبها من التعزز الممد لخيلاء النفس الذي هو أشد ما على النفس أن تخرج عن زهوها وخيلائها إلى احتمال الضيم والسكون بحب الذل ، يقال : إنه آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة ؛ وأما الأنعام فبالاقتصار منها على قدر الكفاف ، لأن كل مستزيد تمولاً من الدنيا زائداً على كفاف منه من مسكن أو ملبس أو مركب أو مال فهو محجر على من سواه من عباد الله ذلك الفضل الذي هم أحق به منه ، قال صلى الله عليه وسلم : " لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد " الحديث {وإن من شيء إلا عندنا خزائنة وما ننزله إلا بقدر معلوم} [ الحجر : 21 ] ؛ وأما الحرث فبالاقتصار منه على قدر الكفاية لما يكون راتباً للإلزام ومرصداً للنوائب ومخرجاً للبذر ، فإن أعطاه الله فضلاً أخرجه بوجه من وجوه الإخراج ولو بالبيع ، ولا يمسكه متمولاً لقلبه إلى غيره من الأعيان فيكون محتكراً ، قال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما " من احتكر أربعين يوماً فقد برىء من الله وبرىء الله منه "
_________________
(1) {منكر أخرجه ابن ماجة 1607 وابن عدى فى الكامل 7 / 261 كلاهما من حديث أبى هريرة
قال البوصيرى فى الزوائد : قال المزى فى التهذيب والأطراف : يزيد لم يدرك أبا هريرة ، ويزيد بن عبد الملك ، وإن وثقه ابن سعد فقد ضعفه أحمد وابن معين وخلف. أ هـ
وأعله ابن عدى بيزيد بن عبد الملك ، وأسند تضعيفه عن ابن معين والبخارى ، وقال أحمد : عنده مناكير}(11/464)
فبذلك يتحقق الصبر بحبس النفس عما زين للناس من التمولات من الدنيا الزائدة على الكفاف التي هي حظ من لا خلاق له في الآخرة ، ولذلك يحق أن تكون هذه الكلمات معربة بالنصب مدحاً ، لأن الصفات المتبعة للمدح حليتها النصب في لسان العرب ، وإنما يتبع في الإعراب ما كان لرفع لبس أو تخصيص - انتهى.
ولما كان سن التقوى فوق سن الإيمان عطف أمداحهم كلها بالواو إيذاناً بكمالهم في كل وصف منها وتمكنهم فيءه بخلاف ما في آية براءة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى فقال : {والصادقين} قال الحرالي : في عطف الصفات ما يؤذن بكمال الوصف لأن العرب تعطفها إذا كملت وتتبع بعضها بعضاً إذا تركبت والتأمت ، يعني مثل : الرمان حلو حامض - إذا كان غير صادق الحلاوة ولا الحموضة ، ففي العطف إشعار بكمال صبرهم عن العاجلة على ما عينه حكم النظم ، في الآية السابقة ، ومن شأن الصابر عن الدنيا الصدق ، لأن أكثر المداهنة والمراءاة إنما ألجأ إليها التسبب إلى كسب الدنيا ، فإذا رغب عنها لم يحمله على ترك الصدق حامل قيتحقق به فيصدق في جميع أموره والصدق مطابقة أقواله وأفعاله لباطن حاله في نفسه وعرفان قلبه - انتهى {والقانتين} أي المخلصين لله في جميع أمورهم الدائمين عليه.
ولما ذكر سبحانه وتعالى العمل الحامل عليه خوف الحق ورجاؤه أتبعه ما الحامل عليه ذلك مع الشفقة على الخلق ، لأن من أكرم المنتمي إليك فقد بالغ في إكرامك فقال : {والمنفقين} أي ما رزقهم الله سبحانه وتعالى في كل ما يرضيه ، فإنه لا قوام لشيء من الطاعات إلا بالنفقة.
قال الحرالي : فيه إشعار بأن من صبر نوّل ، ومن صدق أعلى ، ومن قنت جل وعظم قدره ، فنوله الله ما يكون له منفقاً ، والمنفق أعلى حالاً من المزكي ، لأن المزكي يخرج ما وجب عليه فرضاً ، والمنفق يجود بما في يده فضلاً - انتهى.(11/465)
ولما ذكر هذه الأعمال الزاكية الجامعة العالية أتبعها الإشارة إلى أن الاعتراف بالعجز عن الوفاء بالواجب هو العمدة في الخلاص : {والمستغفرين} أي من نقائصهم مع هذه الأفعال والأحوال التي هي نهاية ما يصل إليه الخلق من الكمال {بالأسحار} التي هي أشق الأوقات استيقاظاً عليهم ، وأحبها راحة لديهم ، وأولاها بصفات القلوب ، وأقربها إلى الإجابة المعبر عنها في الأحاديث بالنزول كما يأتي بيانه في آية التهجد في سورة الإسراء.
قال الحرالي : وهو جمع سحر ، وأصل معناه التعلل عن الشيء بما يقاربه ويدانيه ويكون منه بوجه ما ، فالوقت من الليل الذي يتعلل فيه بدنو الصباح هو السحر ، ومنه السحور ، تعلل عن الغداء ؛ ثم قال : وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال سبحانه وتعالى : {كانوا قليلاً من الّيل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [ الذاريات : 17 ، 18 ] فهم يستغفرون من حسناتهم كما يستغفر أهل السيئات من سيئاتهم تبرؤاً من دعوى الأفعال ورؤية الأعمال التئاماً بصدق قولهم في الابتداء : {ربنا إننا آمنا} وكمال الإيمان بالقدر خيره وشره ، فباجتماع هذه الأوصاف السبعة من التقوى والإيمان والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار كانت الآخرة خيراً لهم من الدنيا وما فيها ، وقد بان بهذا محكم آيات الخلق من متشابهها بعد الإعلام بمحكم آيات الأمر ومتشابهها ، فتم بذلك منزل الفرقان في آيات الوحي المسموع والكون المشهود - انتهى.(11/466)
ولعله سبحانه وتعالى أشار بهذه الصفات الخمس المتعاطفة إلى دعائم الإسلام الخمس ، فأشار بالصبر إلى الإيمان ، وبالصدق إلى الزكاة المصدقة لدعواه ، وبالقنوت الذي مدار مادته على الإخلاص إلى الصلاة التي هي محل المراقبة ، وبالإنفاق إلى الحج الذي أعظم مقوماته المال ، وبالاستغفار إلى الصيام الذي مبناه التخلي من أحوال البشر والتحلي بحلية الملك لا سيما في القيام ولا سيما في السحر ؛ وسر ترتيبها أنه لما ذكر ما بين العبد والخالق في التوحيد الذي هو العدول أتبعه ما بينه وبين الخلائق في الإحسان ، ولما ذكر عبادة القلب والمال ذكر عبادة البدن الدالة على الإخلاص في الإيمان ، ولما ذكر عبادة البدن مجرداً بعد عبادة المال مجرداً ذكر عبادة ظاهرة مركبة منهما ، شعارها تعرية الظاهر ، ثم أتبعه عبادة بدنية خفية ، عمادها تعرية الباطن ، فختم بمثل ما بدأ به ، وهو ما لا يطلع عليه حق الاطلاع إلا الله سبحانه وتعالى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 39 ـ 41}
وقال أبو حيان :
لما ذكر الإيمان بالقول ، أخبر بالوصف الدّال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف ، فصبروا على أداء الطاعة ، وعن اجتناب المحارم ، ثم بالوصف الدال على مطابقة الاعتقاد في القلب للفظ الناطق به اللسان ، فهم صادقون فيما أخبروا به من قولهم : {ربنا إننا آمنا} وفي جميع ما يخبرون. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 418}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى ذكر ههنا صفات خمسة : (11/467)
الصفة الأولى : كونهم صابرين ، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات ، وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد ، وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى ، كما قال : {الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون} [ البقرة : 156 ] قال سفيان بن عيينة في قوله {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ} [ السجدة : 24 ] إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر ، ويروى أنه وقف رجل على الشبلي ، فقال : أي صبر أشد على الصابرين ؟ فقال الصبر في الله تعالى ، فقال لا ، فقال : الصبر لله تعالى فقال لا فقال : الصبر مع الله تعالى ، قال : لا.
قال : فإيش ؟ قال : الصبر عن الله تعالى ، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف.
وقد كثر مدح الله تعالى للصابرين ، فقال : {والصابرين فِى البأساء والضراء وَحِينَ البأس} [ البقرة : 177 ].
الصفة الثانية : كونهم صادقين ، اعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنيّة ، فالصدق في القول مشهور ، وهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه ، يقال : صدق فلان في القتال وصدق في الحملة ، ويقال في ضده : كذب في القتال ، وكذب في الحملة ، والصدق في النيّة إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل.
الصفة الثالثة : كونهم قانتين ، وقد فسرناه في قوله تعالى : {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} [ البقرة : 238 ] وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها.
الصفة الرابعة : كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر.(11/468)
الصفة الخامسة : كونهم مستغفرين بالأسحار ، والسحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر ، وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت ، واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلّى قبل ذلك فقوله {والمستغفرين بالأسحار} يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه الأول : أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل ، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء ، فهناك وقت الجود العام والفيض التام ، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير ، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب والثاني : أن وقت السحر أطيب أوقات النوم ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة ، وأقبل على العبودية ، كانت الطاعة أكمل والثالث : نقل عن ابن عباس {والمستغفرين بالأسحار} يريد المصلين صلاة الصبح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 175 ـ 176}
فصل
قال القرطبى :
واختلف في معنى قوله تعالى : {والمستغفرين بالأسحار} فقال أنس بن مالك : هم السائلون المغفرة.
قتادة : المصَلّون.
قلت : ولا تناقض ، فإنهم يصلون ويستغفرون.
وخص السّحَر بالذكر لأنه مظانّ القبول ووقت إجابة الدعاء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى مخبراً عن يعقوب عليه السلام لبنيه : {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} [ يوسف : 98 ] : "إنه أخّر ذلك إلى السحر" خرّجه الترمذيّ وسيأتي.
وسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل "أيّ الليل أسمع" ؟ فقال : "لا أدري غير أنّ العرش يهتزّ عند السحر".
يقال سحر وسحر ، بفتح الحاء وسكونها ، وقال الزجاج : السحر من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني ، وقال ابن زيد : السحر هو سدس الليل الآخر.(11/469)
قلت : أصح من هذا ما روى الأئمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " ينزِل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأوّل فيقول أنا المِلك أنا المِلك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفِر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر " في رواية " حتى ينفجر الصبح " لفظ مسلم.
وقد اختلف في تأويله ؛ وأُولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النَّسائيّ مفسَّراً عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ الله عز وجل يمهِل حتى يمضي شطرُ الليل الأوّل ثم يأمر منادياً فيقول هل من داعٍ يُستجاب له هل من مستغفِر يغفر له هل من سائل يُعطى " صححه أبو محمد عبد الحق ، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال ، وأنّ الأوّل من باب حذف المضاف ، أي ينزل ملَكُ ربنا فيقول.
وقد روي "يُنزَل" بضم الياء ، وهو يبيّن ما ذكرنا ، وبالله توفيقنا.
وقد أتينا على ذكره في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى".
مسألة : الاستغفار مندوبٌ إليه ، وقد أثنى الله تعالى على المستغفرين في هذه الآية وغيرها فقال : {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [ الذاريات : 18 ].
وقال أنس بن مالك : أُمِرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة.
وقال سفيان الثورِيّ : بلغني أنه إذا كان أوّل الليل نادى منادٍ لِيقِم القانتون فيقومون كذلك يُصلّون إلى السحر ، فإذا كان عند السحر نادى مناد : أين المستغفرون فيستغفر أُولئك ، ويقوم آخرون فيصلون فيلحقون بهم.
فإذا طلع الفجر نادى منادٍ : ألا ليقم الغافلون فيقومون من فرِشهم كالموتى نُشِروا من قبورهم.(11/470)
وروى عن أنس سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقول إني لأهمّ بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى عُمّار بيوتي وإلى المتحابّين فيّ وإلى المتهجدين والمستغفرين بالأسحار صرفت عنهم العذاب بهم " قال مكحول : إذا كان في أُمّة خمسة عشر رجلاً يستغفرون الله كل يوم خمساً وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تلك الأُمة بعذاب العامّة.
ذكره أبو نعيم في كتاب الحِلية له.
وقال نافع : كان ابن عمر يحيي الليل ثم يقول : يا نافع أسحرنا ؟ فأقول لا.
فيعاود الصلاة ثم يسأل ، فإذا قلت نعم قعد يستغفر.
وروى إبراهيم بن حاطِب عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد يقول : يا ربّ ، أمرتني فأطعتك ، وهذا سحرٌ فاغفر لي.
فنظرت فإذا ( هو ) ابن مسعود.
قلت : فهذا كله يدل على أنه استغفار باللسان مع حضور القلب ، لا ما قال ابن زيد أن المراد بالمستغفرين الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة. والله أعلم.
وقال لقمان لابنه : "يا بنيّ لا يكنِ الدِّيك أكيسَ منك ، ينادِي بالأسحار وأنت نائم".
والمختار من لفظ الاستغفار ما رواه البخاري عن شدّاد بن أوس ، وليس له في الجامع غيره ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربّي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدِك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعتُ أَبُوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت قال ومَنْ قالها من النهار مُوقِناً بها فمات من يومه قبل أن يمسِي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو مُوقن بها فمات من ليلة قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة".(11/471)
وروى أبو محمد عبد الغنيّ بن سعيد من حديث ابن لَهِيعَةَ عن أبي صخر عن أبي معاوية عن سعيد بن جُبَيْر عن أبي الصَّهْباء البكريّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال : " ألا أُعَلِّمك كلماتٍ تقولهنّ لو كانت ذنوبك كَمَدبِّ النمل أو كَمَدبّ الذّرّ لغفرها الله لك على أنه مغفور لك : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملتُ سوءاً وظلمتُ نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 38 ـ 40}
قال الطبرى :
وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله : "والمستغفرين بالأسحار" ، قول من قال : هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها.
"بالأسحار" وهى جمع"سَحَر".
وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء. وقد يحتمل أن يكون معناه : تعرّضهم لمغفرته بالعمل والصلاة ، غيرَ أنّ أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 267}
فائدة
قال الفخر :
قوله {والصابرين والصادقين} أكمل من قوله : الذين يصبرون ويصدقون ، لأن قوله {الصابرين} يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم ، وأنهم لا ينفكون عنها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 176}
فائدة
قال أبو حيان :
قال المفسرون في الصابرين : صبروا عن المعاصي.
وقيل : عن المصائب.
وقيل : ثبتوا على العهد الأول.
وقيل : هم الصائمون.
وقالوا في الصادقين : في الأقوال.
وقيل : في القول والفعل والنية.
وقيل : في السر والعلانية.
وقالوا في القانتين : الحافظين للغيب.
وقال الزجاج : القائمين على العبادة.
وقيل : القائمين بالحق.
وقيل : الداعين المتضرعين.
وقيل : الخاشعين.
وقيل : المصلين.
وقالوا في المنفقين : المخرجين المال على وجه مشروع.
وقيل : في الجهاد.
وقيل : في جميع أنواع البر.
وقال ابن قتيبة : في الصدقات.(11/472)
وقالوا في المستغفرين : السائلين المغفرة ، قاله ابن عباس وقال ابن مسعود وابن عمر ، وأنس ، وقتادة السائلين المغفرة وقت فراغ البال وخفة الأشغال ، وقال قتادة أيضاً : المصلين بالأسحار.
وقال زيد بن أسلم : المصلين الصبح في جماعة.
وهذا الذي فسروه كله متقارب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 418 ـ 419}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن لله تعالى على عباده أنواعاً من التكليف ، والصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها ، ثم إن العبد قد يلتزم من عند نفسه أنواعاً أُخر من الطاعات ، وإما بسبب الشروع فيه ، وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه ، وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل ألبتة ، ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى ، لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولاً ثم قال : {الصادقين} ثانياً ، ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة ، فقال : {والقانتين} فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات ، ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة ، وكان أعظم الطاعات قدراً أمران أحدهما : الخدمة بالمال ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : " والشفقة على خلق الله " فذكر هنا بقوله {والمنافقين} والثانية : الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله " التعظيم لأمر الله " فذكره هنا بقوله {والمستغفرين بالأسحار}.
فإن قيل : فلم قدم ههنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين ، وأخر في قوله " التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله "
قلنا : لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف ، فلا جرم وقع الختم بذكر المستغفرين بالأسحار ، وقوله " التعظيم لأمر الله " في شرح نزول العبد من الأشرف إلى الأدنى ، فلا جرم كان الترتيب بالعكس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 176 ـ 177}
فائدة
قال الفخر : (11/473)
هذه الخمسة إشارة إلى تعديد الصفات لموصوف واحد ، فكان الواجب حذف واو العطف عنها كما في قوله {هُوَ الله الخالق البارىء المصور} [ الحشر : 24 ] إلا أنه ذكر ههنا واو العطف وأظن - والعلم عند الله - أن كل من كان معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 177}
لطيفة
قال البيضاوى :
{الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} حصر لمقامات السالك على أحسن ترتيب ، فإن معاملته مع الله تعالى إما توسل وإما طلب ، والتوسل إما بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما ، وإما بالبدن ، وهو إما قولي وهو الصدق وإما فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة ، وإما بالمال وهو الإِنفاق في سبل الخير ، وإما الطلب فبالاستغفار لأن المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها وتوسيط الواو بينهما للدلالة على استقلال كل واحد منها وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها ، وتخصيص الأسحار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإِجابة ، لأن العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع أجمع للمجتهدين. قيل إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 16}(11/474)
وقال ابن عاشور :
وقوله {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} الآية صفات للذين اتقوا ، أو صفات للذين يقولون ، والظاهر الأول. وذكر هنا أصول فضائل صفات المتدينين : وهي الصبر الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي. والصدق الذي هو ملاك الاستقامة وبث الثقة بين أفراد الأمة. والقنوت ، وهو ملازمة العبادات في أوقاتها وإتقانها وهو عبادة نفسية جسدية. والإنفاق وهو أصل إقامة أود الأمة بكفاية حاج المحتاجين ، وهو قربة مالية والمال شقيق النفس. وزاد الاستغفار بالأسحار وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل ، والسحر سدس الليل الأخير ؛ لأن العبادة فيد أشد إخلاصا ، لما في ذلك الوقت من هدوء النفوس ، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته ، فاختار له هؤلاء الصادقون آخر الليل لأنه وقت صفاء السرائر ، والتجرد عن الشواغل.(11/475)
وعطف الصفات في قوله : {الصَّابِرِينَ} ، وما بعده : سواء كان قوله {الصَّابِرِينَ} صفة ثانية ، بعد قوله {الَّذِينَ يَقُولُونَ} ، أم كان ابتداء الصفات بعد البيان طريقة ثانية من طريقتي تعداد الصفات في الذكر في كلامهم ، فيكون ، بالعطف وبدونه ، مثل تعدد الأخبار والأحوال ؛ إذ ليست حروف العطف بمقصورة على تشريك الذوات. وفي الكشاف ؛ أن في عطف الصفات نكتة زائدة على ذكرها بدون العطف وهي الإشارة إلى كمال الموصوف في كل صفة منها ، وأحال تفصيله على ما تقدم له في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة : 4] مع أنه لم يبين هنالك شيئا من هذا ، وسكت الكاتبون عن بيان ذلك هنا وهناك ، وكلامه يقتضي أن الأصل عنده في تعدد الصفات والأخبار ترك العطف فلذلك يكون عطفها مؤذنا بمعنى خصوصي ، يقصده البليغ ، ولعل وجهه أن شأن حرف العطف أن يستغنى به عن تكرير العامل فيناسب المعمولات ، وليس كذلك الصفات ، فإذا عطفت فقد نزلت كل صفة منزلة ذات مستقلة ، وما ذلك إلا لقوة الموصوف في تلك الصفة ، حتى كأن الواحد صار عددا ، كقولهم واحد كألف ، ولا أحسب لهذا الكلام تسليما. وقد تقدم عطف الصفات عند قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في سورة البقرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 43}(11/476)
فصل
قال ابن القيم :
ومن أركان المحاسبة : ما ذكره صاحب المنازل فقال :
"الثالث أن تعرف أن كل طاعة رضيتها منك فهي عليك وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك".
رضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه وجهله بحقوق العبودية وعدم عمله بما يستحقه الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به.
وحاصل ذلك : أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ويتولد من ذلك : من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها.
فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها.
وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده.
وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها فقال {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}(11/477)
قال الحسن : "مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل" وفي الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ثم قال : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" وأمره الله تعالى بالإستغفار بعد أداء الرسالة والقيام بما عليه من أعبائها وقضاء فرض الحج واقتراب أجله فقال في آخر سورة أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.
ومن ههنا فهم عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به فأمره أن يستغفره عقيب أداء ما كان عليه فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك ولم يبق عليك شيء فاجعل خاتمته الإستغفار كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل وخاتمة الوضوء أيضا أن يقول بعد فراغه "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين".
فهذا شأن من عرف ما ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبودية وشرائطها لا جهل أصحاب الدعاوى وشطحاتهم.
وقال بعض العارفين : متى رضيت نفسك وعملك لله فاعلم أنه غير راض به ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر وعمله عرضة لكل آفة ونقص كيف يرضى لله نفسه وعمله ؟ .
ولله در الشيخ أبي مدين حيث يقول : "من تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى وأقواله بعين الإفتراء وكلما عظم المطلوب في قلبك صغرت نفسك عندك وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيله وكلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية وعرفت الله وعرفت النفس وتبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق ولاو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله ويثيبك عليه أيضا بكرمه وجوده وتفضله". أ هـ {مدارج السالكين حـ 1 صـ 175 ـ 176}(11/478)
لطائف ومواعظ
قال حجة الإسلام رحمه الله :
قال قتادة رحمه الله :
القرآن يدلكم عن دائكم ودوائكم
أما داؤكم فالذنوب ، وأما دواؤكم فالاستغفار وقال علي كرم الله وجهه :
العجب ممن يهلك ومعه النجاة قيل : وما هي ؟ قال الاستغفار وكان يقول : ما ألهم الله سبحانه عبدا الاستغفار وهو يريد أن يعذبه
وقال الفضيل قول العبد أستغفر الله تفسيرها أقلني
وقال بعض العلماء : العبد بين ذنب ونعمة لا يصلحهما إلا الحمد والاستغفار
وقال الربيع بن خيثم رحمه الله :
لا يقولن أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبا وكذبا إن لم يفعل ولكن ليقل اللهم اغفر لي وتب علي (1)
قال الفضيل رحمه الله الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين
وقالت رابعة العدوية رحمها الله :
استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير
قال بعض الحكماء من قدم الاستغفار على الندم كان مستهزئا بالله عز وجل وهو لا يعلم
وسمع أعرابي وهو متعلق بأستار الكعبة يقول : اللهم إن استغفاري مع إصراري للؤم وإن تركي استغفارك مع علمي بسعة عفوك لعجز فكم تتحبب إلي بالنعم مع غناك عني وكم أتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك يا من إذا وعد وفى وإذا أوعد عفا أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين
وقال أبو عبد الله الوراق لو كان عليك مثل عدد القطر وزبد البحر ذنوبا لمحيت عنك إذا دعوت ربك بهذا الدعاء مخلصا إن شاء الله تعالى
اللهم إني أستغفرك من كل ذنب تبت إليك منه ثم عدت فيه وأستغفرك من كل ما وعدتك به من نفسي ولم أوف لك به وأستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطه غيرك وأستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فاستعنت بها على معصيتك وأستغفرك يا عالم الغيب والشهادة من كل ذنب أتيته في ضياء النهار وسواد الليل في ملأ أو خلاء وسر وعلانية يا حليم. أ هـ {الإحياء حـ 1 صـ 313}
_______________
(1) هذا الكلام فيه نظر. فقد ثبت مثله عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ذلك ما جاء فى صحيح مسلم
حدثني محمد بن المثنى حدثني عبد الأعلى حدثنا داود عن عامر عن مسروق عن عائشة قالت
: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه
قالت فقلت يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه ؟ فقال خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه فقد رأيتها إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا.
وعند أبى داود
3265 - حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة أخبرني زيد بن حباب أخبرني محمد بن هلال حدثني أبي أنه سمع أبا هريرة يقول
: كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف يقول " لا وأستغفر الله " .
وعند أحمد
22461 - حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا أبو إسحاق الطالقاني ثنا عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي حدثني أبو عمار حدثني أبو أسماء الرحبي حدثني ثوبان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينصرف من صلاته قال أستغفر الله ثلاثا ثم يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام. والله أعلم.(11/479)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
الصبرُ حبسُ النَّفْس ، وذلك على ثلاث مراتب :
صبر على ما أُمرَ به العبد ، وصبر عما نُهي عنه وصبر هو الوقوف تحت جريان حكمه على ما يريد ؛ إمَّا في فوات محبوبك أو هجومَ ما لا تستطيعه.
فإذا ترقيتَ عن هذه الصفة - بألا تصيبك مشقةٌ أو تنال راحةً - فذلك رضاً لا صبر ويقال الصابرين على أمر الله ، والصادقين ، فيما عاهدوا الله.
و {القَانِتِينَ} ، بنفوسهم بالاستقامة في محبة الله.
و {المُسْتَغْفِرِينَ} عن جميع ما فعلوه لرؤية تقصيرهم في الله.
ويقال : {الصّابِرِينَ} بقلوبهم و{وَالصَّادِقِينَ} بأرواحهم و{وَالقَانِتِينَ} بنفوسهم ، و{المُسْتَغْفِرِينَ} بألسنتهم.
ويقال " الصابرين " على صدق القصود " الصادقين " في العهود " القانتين " بحفظ الحدود و" المستغفرين " عن أعمالهم وأحوالهم عند استيلاء سلطان التوحيد.
ويقال " الصابرين " الذين صبروا على الطلب ولم يتعللوا بالهرب ولم يحتشموا من التعب ، وهجروا كل راحة وطلب. وصبروا على البلوى ، ورفضوا الشكوى ، حتى وصلوا إلى المولى ، ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى.
و " الصادقين " الذين صدقوا في الطلب فقصدوا ، ثم صدقوا حتى وردوا ، ثم صدقوا حتى شهدوا ، ثم صدقوا حتى وجدوا ، ثم صدقوا حتى فقدوا.. فترتيبهم قصود ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود.
و " القانتين " الذين لازموا الباب ، وداوموا على تجرّع الاكتئاب ، وتركوا المحاب ، ورفضوا الأصحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب.
و {وَالمُنفِقِينَ} الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال ، ( ثم جادوا بميسورهم من الأموال ) ، ثم جادوا بقلوبهم بصدق الأحوال ، ثم جادوا بترك كل حظٍ لهم في العاجل والآجل ، استهلاكاً عند القرب والوصال بما لقوا من الاصطلام والاستئصال.
و {وَالمُسْتَغْفِرِينَ} عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو عند الأسحار يعني ظهور الإسفار ، وهو فجر القلوب لا فجر يظهر في الأقطار. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 224 ـ 225}.
تم الجزء الحادى عشر من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثانى عشر وأوله قوله تعالى :
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}(11/480)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء الثانى عشر
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(12/3)
الجزء الثانى عشر
من الآية {18} من سورة آل عمران
وحتى الآية {34} من نفس السورة(12/4)
قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر سبحانه وتعالى بوحدانيته في أول السورة واستدل عليها وأخبر عما أعد للكافرين واستدل عليه بما دل على الوحدانية وختم بالإخبار بما أعد للمتقين مما جر إلى ذكره تعالى بما يقتضي الوحدانية أيضاً من الأوصاف المبنية على الإيمان أنتج ذلك ثبوتها ثبوتاً لا مرية فيه ، فكرر تعالى هذه النتيجة على وجه أضخم من الماضي كما اقتضته الأدلة فقال - وقال الحرالي : لما أنهى تعالى الفرقان نهايته ببيان المحكمين والمتشابهين في الوحي والكون انتظمت هذه الشهادة التي هي أعظم شهادة في كتاب الله بآية القيومية التي هي أعظم آية الوجود لينتظم آية الشهود بآية الوجود ، انتهى.
فقال سبحانه وتعالى : {شهد الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له {أنه} قال الحرالي : فأعاد بالإضمار ليكون الشاهد والمشهود له {لا إله إلا هو} فأعاد بالهوية لمعنى الوحدانية في الشهادة ولم يقل : إلا الله ، لما يشعر به تكرار الاسم في محل الإضمار من التنزل العلي - انتهى.(12/5)
والمعنى أنه سبحانه وتعالى فعل فعل الشاهد في إخباره عما يعلم حقيقته بلفظ الشهادة جرياً على عادة الكبراء إذا رأوا تقاعس أتباعهم عما يأمرون به من المهمات في تعاغطيهم له بأنفسهم تنبيهاً على أن الخطب قد فدح والأمر قد تفاقم ، فيتساقط حينئذ إليه الأتباع ولو أن فيه الهلاك تساقط الذباب في أحلى الشراب ، وإلى ذلك ينظر قول وفد ثقيف : ما لمحمد يأمرنا بأن نشهد له بالرسالة ولا يشهد هو لنفسه! فكان صلى الله عليه وسلم بعد لا يخطب خطبة إلا شهد لنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم الشهادة لله فيها بالرسالة ، فكأنه قيل : إن ربكم الذي أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة قد نصب لكم الأدلة بخلق ما خلق على تفرده بحيث انتفى كل ريب فكان ذلك أعظم شهادة منه سبحانه لنفسه ، وإليه أومأ من قال :
ولله في كل تحريكة . . .
وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية . . .
تدل على أنه واحد
ثم شهد بذلك لنفسه بكلامه جمعاً بين آيتي السمع والبصر فلم يبق لكم عذراً.
قال الحرالي : وهذه الشهادة التي هي من الله لله هي الشهادة التي إليها قصد القاصدون وسلك السالكون وإليه انتهت الإشارة ، وعندها وقفت العبارة ، وهي أنهى المقامات وأعظم الشهادات ، فمن شهد بها فقد شهد شهادة ليس وراءها مرمى ، ومن شهد بما دونها كانت شهادته مشهوداً عليها لا شهادة ، يؤثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يوم الجمعة وهو قائم بعرفة منذ كان وقت العصر إلى أن غربت الشمس في حجته التي كمل بها الدين وتمت بها النعمة يقول هذه الآية لا يزيد عليها ، فأي عبد شهد لله بهذه الشهادة التي هي شهادة الله لله سبحانه وتعالى بالوحدانية فقد كملت شهادته ، وأتم الله سبحانه وتعالى النعمة عليه ، وهي سر كل شهادة من دونها ، وهي آية علن التوحيد الذي هو منتهى المقامات وغاية الدرجات في الوصول إلى محل الشهود الذي منه النفوذ إلى الموجود بمقتضى الأعظمية التي في الآية الفاتحة - انتهى.
(12/6)
ولما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه المقدسة أخبر عمن يعتد به من خلقه فقال مقدماً لأن المقام للعلم لمن هم أعلم به سبحانه وتعالى ممن أطلعهم من الملك والملكوت على ما لم يطلع عليه الإنسان ولا شاغل لهم من شهوة ولا حظ ولا فتور : {والملائكة} أي العباد المقربون المصفون من أدناس البشر ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ولما خص أهل السماوات عم فقال : {وأولوا العلم} وهم الذين عرفوه بالأدلة القاطعة ففعلوا ما فعل العظيم من الشهادات ليكون ذلك أدعى لغيرهم إليه وأحث عليه ، ولما كانت الشهادة قد تكون على غير وجه العدل نفى ذلك بقوله : {قائماً} وأفرد ليفهم أنه حال كل من المذكورين لا المجموع بقيد الجمع ، ويجوز - وهو الأقرب - أن يكون حالاً من الاسم الشريف إشارة إلى أنه ما وحد الله سبحانه وتعالى حق توحيده غيره ، لأنه لا يحيط به أحد علماً.
وقال الحرالي : أفرد القيام فاندرج من ذكر من الملائكة وأولي العلم في هذا القيام إفهاماً ، كما اندرجوا في الشهادة إفصاحاً ، فكان في إشعاره أن الملائكة وأولي العلم لا يقاد منهم فيما يجريه الله سبحانه وتعالى على أيديهم ، لأن أمرهم قائم بالقسط من الله ، يذكر أن عظيم عاد لما كشف له عن الملائكة في يوم النقمة قال لهود عليه الصلاة والسلام : يا هود! ما هذا الذي أراهم في السحاب كأنهم البخاتي ؟ فقال : ملائكة ربي ، فقال له : أرأيت إن آمنت بالهك أيقيدني منهم بمن قتلوا من قومي ؟ قال : ويحك! وهل رأيت ملكاً يقيد من جنده - انتهى.
(12/7)
{بالقسط} أي العدل السواء الذي لا حيف فيه أصلاً بوجه من الوجوه ، وقد ثبت بهذه الشهادة على هذا الوجه أن التوحيد في نفس الأمر على ما وقعت به الشهادة ، ويجوز أن يراد مع ذلك أن قيامه بالعدل فعله في خلقه فإنه عدل وإن كان من بعضهم إلى بعض ظلماً ، فإنه تصرف منه سبحانه في ملكه الذي لا شائبة لأحد فيه ، فهو إذا نسب إليه كان عدلاً ، لأنه فعله بالحكمة ، وإذا نسب إلى الظالم كان ظلماً ، لأنه فعله لحظه لا للحكمة فلذلك قال على طريق الاستنتاج والتعليل للقيام بالقسط والتلقين للعباد لأن يقولوها بعد ثبوتها بما تقدم وأن يكرروها دائماً أبداً : {لا إله إلا هو} وقال الحرالي : كرر هذا التهليل لأنه في مرتبة القسط الفعلي ، لأن التهليل الأول في مرتبة الشهادة العلمية فاستوفى التهليلان جميع البادي علماً وفعلاً - انتهى.
وأتبعه سبحانه وتعالى بقوله : {العزيز الحكيم} دليلاً على قسطه ، لأنه لا يصح أبداً لذي العزة الكاملة والحكمة الشاملة أن يتصرف بجور ، وعلى وحدانيته ، لأنه لا يصح التفرد بدون الوصفين وليسا على الإطلاق لأحد غيره أصلاً ، ولما كانت الآيات كلها في الإيقاع بالكافرين قدم الوصف الملائم لذلك.
قال الحرالي : وقسط الله هو إخفاء عدله في دار الدنيا من حيث إنه خفض ورفع ، يعادل خفضه رفعه ورفعه خفضه ، فيؤول إلى عدل ، ويراه بذلك في حال تفاوته كل ذي لب بما أنه عزيز يظهر عزته فيما يرفع ، حكيم يخفي معنى حكمه فيما يخفض ، فكل ما هو باد من الخلق جود فهو من الله سبحانه وتعالى قسط ، طيته عدل ، سره سواء ، فيظهر عزته فيما حكم انتقاماً وحكمته في الموازنة بين الأعمال والجزاء عدلاً - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 41 ـ 44}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(12/8)
استئناف وتمهيد لقوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} ذلك أن أساس الإسلام هو توحيد الله. وإعلان هذا التوحيد ، وتخليصه من شوائب الإشراك ، وفيه تعريض بالمشركين وبالنصارى واليهود ، وإن تفاوتوا في مراتب الإشراك ، وفيه ضرب من رد العجز على الصدر : لأنه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران : 2-3]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 43 ـ 44}
فصل
قال أبو حيان :
قال الزمخشري : شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص ، وآية الكرسي وغيرهما.
بشهادة الشاهد في البيان والكشف ، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك ، واحتجاجهم عليه. انتهى.
وهو حسن.
وقال المروزي : ذكر شهادته سبحانه على سبيل التعظيم لشهادة من ذكر بعده ، كقوله : { قل الأنفال لله والرسول } انتهى.
ومشاركة الملائكة وأولي العلم لله تعالى في الشهادة من حيث عطفا عليه لصحة نسبة الإعلام ، أو صحة نسبة الإظهار والبيان ، وإن اختلفت كيفية الإظهار والبيان من حيث أن إظهاره تعالى بخلق الدلائل ، وإظهار الملائكة بتقريرها للرسل ، والرسل لأولي العلم.
وقال الواحدي : شهادة الله بيانه وإظهاره ، والشاهد هو العالم الذي بيّن ما علمه ، والله تعالى بيّن دلالات التوحيد بجميع ما خلق ، وشهادة الملائكة بمعنى الإقرار كقوله : { قالوا شهدنا على أنفسنا } أي : أقررنا.
فنسق شهادة الملائكة على شهادة الله ، وإن اختلفت معنىً ، لتماثلهما لفظاً.
كقوله : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } لأنها من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار والدعاء وشهادة أولي العلم ويحتمل الإقرار ويحتمل التبيين ، لأنهم أقرّوا وبينوا. انتهى.(12/9)
وقال المؤرج : شهد الله ، بمعنى : قال الله ، بلغة قيس بن غيلان. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 419}
وقال ابن عاشور :
الشهادة حقيقتها خبر يصدق به خبر مخبر وقد يكذب به خبر آخر كما تقدم عند قوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} في سورة البقرة[282]. وإذ قد كان شأنه أن يكون للتصديق والتكذيب في الحقوق ، كان مظنة اهتمام المخبر به والتثبت فيه ، فلذلك أطلق مجازا على الخبر الذي لا ينبغي أن يشك فيه قال تعالى {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون : 1] وذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة التلازم ، فشهادة الله تحقيقه وحدانيته بالدلائل التي نصبها على ذلك ، وشهادة الملائكة تحقيقهم ذلك فيما بينهم ، وتبليغ بعضهم ذلك إلى الرسل ، وشهادة أولي العلم تحقيقهم ذلك بالحجج والأدلة.
فإطلاق الشهادة على هذه الأخبار مجاز بعلاقة اللزوم ، أو تشبيه الإخبار بالإخبار أو المخبر بالمخبر ، ولك أن تجعل شهد بمعنى بين وأقام الأدلة ، شبه إقامة الأدلة على وحدانيته : من إيجاد المخلوقات ونصب الأدلة العقيلة ، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف على طريق الاستعارة التبعية ، وبين ذلك الملائكة بما نزلوا به من الوحي على الرسل ، وما نطقوا به من محامد ، وبين ذلك أولو العلم بما أقاموا من الحجج على الملاحدة ، ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى الدلالة ونصب الأدلة ، وشهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار أو بمعنيين : إقرار الملائكة ، واحتجاج أولي العلم ، ثم تبنيه على استعمال شهد في معان مجازية ، مثل : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} ، أو على استعمال شهد في مجاز أعم ، وهو الإظهار ، حتى يكون نصب الأدلة والإقرار والاحتجاج من أفراد ذلك العام ، بناء على عموم المجاز. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 44}
فصل
قال الفخر : (12/10)
اعلم أن كل ما يتوقف العلم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم على العلم به ، فإنه لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية أما ما يكون كذلك فإنه يجوز إثباته بالدلائل السمعية ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم ، لكن العلم بصحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على العلم بكون الله تعالى واحداً فلا جرم يجوز إثبات كون الله تعالى واحداً بمجرد الدلائل السمعية القرآنية.
إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في قوله {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} قولين : أحدهما : أن الشهادة من الله تعالى ، ومن الملائكة ، ومن أولي العلم بمعنى واحد الثاني : أنه ليس كذلك ، أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين :
الوجه الأول : أن تجعل الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم ، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم ، أما من الله تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحداً لا إله معه ، وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز ، وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضاً أن الله تعالى واحد لا شريك له ، فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق الله ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم.
(12/11)
الوجه الثاني : أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان ، ثم نقول : إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك ، أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك ، وبيّنوه بتقرير الدلائل والبراهين ، أما الملائكة فقد بيّنوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام ، والرسل للعلماء ، والعلماء لعامة الخلق ، فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان ، فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى ، وفي حق أولي العلم ، فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين ، والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى ، وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ، ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم ، لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان ، فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام.
القول الثاني : قول من يقول : شهادة الله تعالى على توحيده ، عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده ، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة ، لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى ياأيها الذين ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [ الأحزاب : 56 ] ومعلوم أن الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة ، ومن الملائكة غير الصلاة من الناس ، مع أنه قد جمعهم في اللفظ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 177 ـ 178}
وقال ابن القيم :
وقد فسرت شهادة أولي العلم بالإقرار وفسرت بالتبيين والإظهار
والصحيح أنها تتضمن الأمرين فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام وهم شهداء الله على الناس يوم القيامة قال الله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}
وقال تعالى {هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس}
فأخبر أنه جعلهم عدولا خيارا ونوه بذكرهم قبل أن يوجدهم لما سبق في علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة فمن لم يقم بهذه الشهادة علما وعملا ومعرفة وإقرارا ودعوة وتعليما وإرشادا فليس من شهداء الله والله المستعان. أ هـ {مدارج السالكين حـ 3 صـ 473 ـ 474}
فصل
قال القرطبى :
قال سعيد بن جبير : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، فلما نزلت هذه الآية خَرَرْنَ سُجّداً.(12/12)
وقال الكلبيّ : " لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حِبران من أحبار أهل الشام ؛ فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان!.
فلما دخلا على النبيّ صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت ، فقالا له : أنت محمد ؟ قال "نعم".
قالا : وأنت أحمد ؟ قال : "نعم".
قالا : نسألك عن شهادة ، فإن أنت أخبرتنا بها آمنّا بك وصدّقناك.
فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سَلاَني".
فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله.
فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } فأسلم الرجلان وصدّقا برسول الله صلى الله عليه وسلم " وقد قيل : إن المراد بأُولي العلم الأنبياء عليهم السلام.
وقال ابن كيسان : المهاجرون والأنصار.
مقاتِل : مؤمِنوا أهل الكتاب.
السدي والكلبيّ : المؤمنون كلهم ؛ وهو الأظهر لأنه عام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 41}
سؤال : فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله ، فكيف يكون المدعي شاهداً ؟ .
الجواب : من وجوه الأول : وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله ، وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة ، ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ، ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد ، وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ، ولهذا قال : {قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله} [ الأنعام : 19 ].(12/13)
الوجه الثاني : في الجواب أنه هو الموجود أزلاً وأبداً ، وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صرفاً ، ونفياً محضاً ، والعدم يشبه الغائب ، والموجود يشبه الحاضر ، فكل ما سواه فقد كان غائباً ، وبشهادة الحق صار شاهداً ، فكان الحق شاهداً عل الكل ، فلهذا قال : {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ }.
الوجه الثالث : أن هذا وإن كان في صورة الشهادة ، إلا أنه في معنى الإقرار ، لأنه لما أخبر أنه لا إله سواه ، كان الكل عبيداً له ، والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد ، فكان هذا الكلام جارياً مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق.
الوجه الرابع : في الجواب قرأ ابن عباس {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} بكسر {إِنَّهُ} ثم قرأ {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} [ آل عمران : 19 ] بفتح {أن} فعلى هذا يكون المعنى : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله {أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} اعتراضاً في الكلام ، واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه ، لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء ، وبتقدير {أن} تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها ، فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 178}
فائدة
قال أبو حيان :
قدم الملائكة على أولي العلم من البشر لأنهم الملأ الأعلى ، وعلمهم كله ضروري ، بخلاف البشر ، فإن علمهم ضروري واكتسابي. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 420}
فائدة
قال الفخر :
المراد من {أُوْلِى العلم} في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة ، إذا كان الإخبار مقروناً بالعلم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إذا علمت مثل الشمس فاشهد " وهذا يدل على أن هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 179}(12/14)
فائدة
قال ابن القيم :
شهد الله لنفسه بهذا التوحيد وشهد له به ملائكته وأنبياؤه ورسله قال {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام}
فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد والرد على جميع هذه الطوائف والشهادة يبطلان أقوالهم ومذاهبهم وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية
فتضمنت هذه الآية أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به وعبارات السلف في شهد تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار قال مجاهد حكم وقضى وقال الزجاج بين وقالت طائفة أعلم وأخبر وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وقوله وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه فلها أربع مراتب فأول مراتبها علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته وثانيها تكلمه بذلك ونطقه به وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم به مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها وثالثها أن يعلم غيره بما شهد به ويخبره به ويبينه له ورابعها أن يلزمه بمضمونها ويأمره به
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربعة علم الله سبحانه بذلك وتكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه به وأمرهم وإلزامهم به
أما مرتبة العلم فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به قال الله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال النبي على مثلها فاشهد وأشار إلى الشمس(12/15)
وأما مرتبة التكلم والخبر فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به وإن لم يتلفظ بالشهادة قال تعالى قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم وقال تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم قال النبي عدلت شهادة الزور الإشراك بالله وشهادة الزور هي قول الزور كما قال تعالى {واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به} وعند نزول هذه الآية قال رسول الله عدلت شهادة الزور الإشراك بالله فسمى قول الزور شهادة وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} فشهادة المرء على نفسه هي إقراره على نفسه وفي الحديث الصحيح في قصة ماعز الأسلمي فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله وقال تعالى {قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}
وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة كما هو مذهب مالك وأهل المدينة وظاهر كلام أحمد ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك وقد قال ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة والعشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة بل قال أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة الحديث(12/16)
وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد دخل في الإسلام وشهد شهادة الحق ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة وأنه قد دخل في قوله حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وفي لفظ آخر حتى يقولوا لا إله إلا الله فدل على أن مجرد قولهم لا إله إلا الله شهادة منهم وهذا أكثر من أن تذكر شواهده من الكتاب والسنة فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه والله أعلم. أ هـ {مدارج السالكين حـ 3 صـ 450 ـ 452}
سؤال : فإن قيل فلم لم يذكر الله سبحانه شهادة رسله مع الملائكة فيقول شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة والرسل وهم أعظم شهادة من أولي العلم ؟
قيل في ذلك عدة فوائد
إحداها أن أولي العلم أعم من الرسل والأنبياء فيدخلون هم وأتباعهم
وثانيها أن في ذكر أولي العلم في هذه الشهادة وتعليقها بهم ما يدل على أنها من موجبات العلم ومقتضايته وأن من كان من أولي العلم فإنه يشهد بهذه الشهادة كما يقال إذا طلع الهلال واتضح فإن كل من كان من أهل النظر يراه وإذا فاحت رائحة ظاهرة فكل من كان من أهل الشم يشم هذه الرائحة قال تعالى وبرزت الجحيم لمن يرى أي كل من له رؤية يراها حينئذ عيانا ففي هذا بيان أن من لم يشهد له الله سبحانه بهذه الشهادة فهو من أعظم الجهال وإن علم من أمور الدنيا مالم يعلمه غيره فهو من أولي الجهل لا من أولي العلم وقد بينا أنه لم يقم بهذه الشهادة ويؤديها على وجهها إلا أتباع الرسل أهل الإثبات فهم أولو العلم وسائر من عداهم أولو الجهل وإن وسعوا القول وأكثروا الجدال. أ هـ {مدارج السالكين حـ 3 صـ 472 ـ 473}(12/17)
فصل
قال القرطبى :
في هذه الآَية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم ؛ فإنه لو كان أحدٌ أشرفَ من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء.
وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً } [ طه : 114 ] فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر يستزيده من العلم.
وقال صلى الله عليه وسلم.
" إنّ العلماء ورثة الأنبياء " وقال : " العلماء أُمَنَاء الله على خلقه " وهذا شرف للعلماء عظيم ، ومحلُّ لهم في الدّين خطير.
وخرّج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث برَكَة بن نَشِيط وهو عَنْكَل بن حكارك وتفسيره بركة بن نشيط وكان حافظا ، حدثنا عمر ابن المؤمل حدثنا محمد بن أبي الخصيب حدّثنا محمد بن إسحاق حدّثنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العلماء ورثة الأَنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة " وفي هذا الباب ( حديث ) عن أبي الدرداء خرّجه أبو داود. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 41}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
العامة على " شَهِدَ " فعلاً ماضياً ، مبنيًّا للفاعل ، ولفظ الجلالة رَفْع به.
وقرأ أبو الشعثاء : " شُهِدَ " مبنيًّا للمفعول ، ولفظ الجلالة قائِم مقام الفاعل ، وعلى هذه القراءة يكون " أنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ " في محل رفع ؛ بدلاً من اسم " اللهُ " - بدل اشتمال ، تقديره : شُهِدَ وحدانيةُ الله - تعالى - وألوهيتهُ.(12/18)
ولما كان المعنى على هذه القراءة كذلك أشكل عطف الملائكة ، وأولي العلم على لفظ الجلالة ، فخُرِّج ذلك على عدم العطف ، بل إما على الابتداء ، والخبر محذوف ؛ لدلالة الكلام عليه ، تقديره : والملائكة ، وأولو العلم يشهدون بذلك ، يدل عليه قوله تعالى : { شَهِدَ الله } ، وإما على الفاعلية بإضمار محذوف ، تقديره : وشَهِدَ الملائكةُ ، وأولو العلم بذلك ، وهو قريب من قوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] ، في قراءة مَنْ بناه للمفعول.
وقوله : [ الطويل ]
1367 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
وقرأ أبو المهلَّب : " شُهَدَاءَ اللهِ " جمعاً على فُعَلاَء - كظُرفاءَ - منصوباً ، ورُوِيَ عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك إلا أنه مرفوع ، وفي كلتا القراءتين مضاف للفظ الجلالة ، فأما النصب فعلى الحال ، وصاحبها هو الضمير المستتر في " الْمُسْتَغْفِرِينَ ".
قال ابنُ جني ، وتبعه الزمخشريُّ ، وأبو البقاء : وأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ ، أي : هم شهداءُ الله.
وشهداء : يُحْتَمل أن يكون جمع شاهد - كشاعر وشُعَراء - وأن يكون جمع شهيد كظريف وظُرفاء. وقرأ أبو المهلب - أيضاً - : " شُهُداً الله " - بضم الشين والهاء والتنوين ونصب لفظ الجلالة وهو منصوب على الحال ؛ جمع شهيد - كنذير ونُذُر - واسم " الله " منصوب على التعظيم أي يشهدون الله ، أي : وحدانيته.
وروى النقاش أنه قرأ كذلك ، إلاّ أنه قال : برَفْع الدال ونصبها ، والإضافة للَفْظ الجلالة ، فالرفع والنصب على ما تقدم في " شُهَدَاءَ " ، وأما الإضافة ، فيحتمل أن تكون محضة ، بمعنى أنك عرفتهم إضافتهم إليه من غير تعرض لحدوث فعل ، كقولك : عباد الله ، وأن يكون من نصب كالقراءة قبلها فتكون غير محضة.(12/19)
ونقل الزمخشريُّ أنه قُرِئ " شُهَدَاء لله " جمعاً على فُعَلاَء ، وزيادة لام جر داخلة على اسم الله ، وفي الهمزة النصب والرفع ، وخرجهما على ما تقدم من الحال والخبر ، وعلى هذه القراءات كلها ففي رفع " الْمَلاَئِكَةِ " وما بعدها ثلاثة أوجه :
أحدها : الابتداء ، والخبر محذوف.
والثاني : أنه فاعل بفعل مقدر.
الثالث : - ذكره الزمخشريُّ - وهو النسق على الضمير المستكن في " شَهِدَ اللهُ " ، قال : " وجاز ذلك لوقوع الفاصلِ بينهما ".
قوله : " أنَّهُ " العامة على فَتح الهمزة ، وإنما فُتِحَت ؛ لأنها على حذف حرف الجر ، أي : شهد الله بأنه لا إله إلا هو ، فلما حذف الحرف جاز أن يكون محلها نصباً ، وأن يكون محلها جَرًّا.
وقرأ ابن عباس " إنَّهُ " - بكسر الهمزة - وفيها تخريجان :
أحدهما : إجراء " شَهِدَ " مُجْرَى القولن لأنه بمعناه ، وكذا وقع في التفسير : شهد الله اي : قال الله ، ويؤيدَه ما نقله المؤرِّجُ من أن " شَهِد " بمعنى " قال " لغة قيس بن عيلان.
الثاني : أنها جملة اعتراض - بين العامل - وهو شَهِد - وبين معموله - وهو قوله : إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ " ، وجاز ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيد ، وتقوية المعنى وهذا إنما يتجه على قراءة فتح " أنَّ " من " أنَّ الدِّينَ " ، وأما على قراءة الكسر فلا يجوز ، فتعيَّنَ الوجهُ الأول.
والضمير في " أنَّهُ " يحتمل العود على الباري ؛ لتقدم ذكره ، ويحتمل أن يكون ضميرَ الأمر ، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ف " أنْ " مخفَّفة في هذه القراءة ، والمخففة لا تعمل إلا في ضمير الشأن - ويُحْذَف حينئذ - ولا تعمل في غيره إلا ضرورة [ وأدغم أبو عمرو بخلاف عنه واو هُوَ في واو النسق بعدها ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة عند قوله : " هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَه " ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 91 ـ 93}(12/20)
فصل نفيس للعلامة ابن القيم
قال رحمه الله :
استشهد سبحانه بأولى العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده فقال {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط}
وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه
أحدها استشهادهم دون غيرهم من البشر
والثاني اقتران شهادتهم بشهادته
والثالث اقترانها بشهادة ملائكته
والرابع أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول ومنه الأثر المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وقال محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة رأيت رجلا قدم رجلا إلى إسماعيل بن إسحاق القاضي فادعى عليه دعوى فسأل المدعى عليه فأنكر فقال للمدعى ألك بينة قال نعم فلان وفلان قال أما فلان فمن شهودي وأما فلان فليس من شهودي قال فيعرفه القاضي قال نعم قال بماذا قال أعرفه بكتب الحديث قال فكيف تعرفه في كتبه الحديث قال ما علمت إلا خيرا قال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله فمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى ممن عدلته أنت فقال قم فهاته فقد قبلت شهادته وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث في موضعه
الخامس أنه وصفهم بكونهم أولى العلم وهذا يدل على اختصاصهم به وانهم اهله واصحابه ليس بمستعار لهم السادس أنه سبحانه استشهد بنفسه وهو أجل شاهد ثم بخيار خلقه وهم ملائكته والعلماء من عباده ويكفيهم بهذا فضلا وشرفا
السابع أنه استشهد بهم على أجل مشهود به وأعظمه وأكبره وهو شهادة أن لا إله إلا الله والعظيم القدر إنما يستشهد على الأمر العظيم أكابر الخلق وساداتهم
الثامن أنه سبحانه جعل شهادتهم حجة على المنكرين فهم بمنزلة آدلته وآياته وبراهنيه الدالة على توحيده(12/21)
التاسع أنه سبحانه أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة لصادرة منه ومن ملائكته ومنهم ولم يعطف شهادتهم بفعل آخر غير شهادته وهذا يدل على شدة ارتباط شهادتهم بشهادته
فكأنه سبحانه شهد لنفسه بالتوحيد على ألسنتهم وأنطقهم بهذه الشهادة فكان هو الشاهد بها لنفسه إقامة وإنطاقا وتعليما وهم الشاهدون بها له إقرارا واعترافا وتصديقا وإيمانا
العاشر أنه سبحانه جعلهم مؤدين لحقه عند عباده بهذه الشهادة فإذا أدوها فقد أدوا الحق المشهود به فثبت الحق المشهود به فوجب على الخلق الإقرار به وكان ذلك غاية سعادتهم في معاشهم ومعادهم وكل من ناله الهدى بشهادتهم وأقر بهذا الحق بسبب شهادتهم فلهم من الأجر مثل أجره وهذا فضل عظيم لا يدرى قدره إلا الله وكذلك كل من شهد بها عن شهادتهم فلهم من الأجر مثل أجره أيضا فهذه عشرة أوجه في هذه الاية
الحادي عشر في تفضيل العلم وأهله أنه سبحانه نفي التسوية بين أهله وبين غيرهم كما نفى التسوية بين أصحاب الجنة وأصحاب النار فقال تعالى {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون} كما قال تعالى {لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة} وهذا يدل على غاية فضلهم وشرفهم الوجه
الثاني عشر أنه سبحانه جعل أهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون فقال {أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} فما ثم إلا عالم أو أعمى وقد وصف سبحانه أهل الجهل بأنهم صم بكم عمي في غير موضع من كتابه
الوجه الثالث عشر أنه سبحانه أخبر عن أولى العلم بأنهم يرون أن ما أنزل إليه من ربه حقا وجعل هذا ثناء عليهم واستشهادا بهم فقال تعالى {ويرى الذين أوتو العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق}
الوجه الرابع عشر أنه سبحانه أمر بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم وجعل ذلك كالشهادة منهم فقال {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}
وأهل الذكر هم أهل العلم بما أنزل على الأنبياء(12/22)
الوجه الخامس عشر أنه سبحانه شهد لأهل العلم شهادة في ضمنها الاستشهاد بهم على صحة ما أنزل الله على رسوله فقال تعالى {أفغير الله أبتغى حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين}
الوجه السادس عشر أنه سبحانه سلى نبيه بإيمان أهل العلم به وأمره أن لا يعبأ بالجاهلين شيئا فقال تعالى {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا}
وهذا شرف عظيم لأهل العلم وتحته أن أهله العالمون قد عرفوه وآمنوا به وصدقوا فسواء آمن به غيرهم أو لا
الوجه السابع عشر أنه سبحانه مدح أهل العلم وأثنى عليهم وشرفهم بأن جعل كتابه آيات بينات في صدورهم وهذه خاصة ومنقبة لهم دون غيرهم فقال تعالى {وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} وسواء كان المعنى أن القرآن مستقر في صدور الذين أوتوا العلم ثابت فيها محفوظ وهو في نفسه آيات بينات فيكون أخبر عنه بخبرين
أحدهما أنه آيات بينات
الثاني أنه محفوظ مستقر ثابت في صدور الذين أوتوا العلم أو كان المعنى أنه آيات بينات في صدورهم أي كونه آيات بينات معلوم لهم ثابت في صدورهم والقولان متلازمان ليسا بمختلفين وعلى التقديرين فهو مدح لهم وثناء عليهم في ضمنه الاستشهاد بهم فتأمله
الوجه الثامن عشر أنه سبحانه أمر نبيه أن يسأله مزيد العلم فقال تعالى {فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما}(12/23)
وكفى بهذا شرفا للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه الوجه التاسع عشر أنه سبحانه أخبر عن رفعة درجات أهل العلم والإيمان خاصة فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بماتعملون خبير} وقد أخبر سبحانه في كتابه برفع الدرجات في أربعة مواضع
أحدها هذا
والثاني قوله {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أؤلئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}
والثالث قوله تعالى {ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأؤلئك لهم الدرجات العلى}
والرابع قوله تعالى {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة}
فهذه أربعة مواضع في ثلاثة منها الرفعة بالدرجات لأهل الإيمان الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والرابع الرفعة بالجهاد فعادت رفعة الدرجات كلها إلى العلم والجهاد اللذين بهما قوام الدين
الوجه العشرون أنه سبحانه استشهد بأهل العلم والإيمان يوم القيامة على بطلان قول الكفار فقال تعالى {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون}
الوجه الحادي والعشرون أنه سبحانه أخبر أنهم أهل خشيته بل خصهم من بين الناس بذلك فقال تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} وهذا حصر لخشيته في أولى العلم وقال تعالى {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه}(12/24)
وقد أخبر أن أهل خشيته هم العلماء فدل على أن هذا الجزاء المذكور للعلماء بمجموع النصين وقال ابن مسعود رضى الله عنه كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا الوجه
الثاني والعشرون أنه سبحانه أخبر عن أمثاله التي يضربها لعباده يدلهم على صحة ما أخبر به أن أهل العلم هم المنتفعون بها المختصون بعلمها فقال تعالى {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}
وفي القرآن بضعة وأربعون مثلا وكان بعض السلف إذا مر بمثل لا يفهمه يبكي ويقول لست من العالمين
الوجه الثالث والعشرون أنه سبحانه ذكر مناظرة إبراهيم لأبيه وقومه وغلبته لهم بالحجة وأخبر عن تفضيله بذلك ورفعه درجته بعلم الحجة فقال تعالى عقيب مناظرته لأبيه وقومه في سورة الأنعام {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}
قال زيد بن أسلم رضى الله عنه نرفع درجات من نشاء بعلم الحجة
الوجه الرابع والعشرون أنه سبحانه أخبر أنه خلق الخلق ووضع بيته الحرام والشهر
الحرام والهدى والقلائد ليعلم عباده أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فقال تعالى {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} فدل على أن علم العباد بربهم وصفاته وعبادته وحده هو الغاية المطلوبة من الخلق والأمر
الوجه الخامس والعشرون أن الله سبحانه أمر أهل العلم بالفرح بما آتاهم وأخبر أنه خير مما يجمع الناس فقال تعالى {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}
وفسر فضل الله بالإيمان ورحمته بالقرآن والإيمان والقرآن هما العلم النافع والعمل الصالح والهدى ودين الحق وهما أفضل علم وأفضل عمل
الوجه السادس والعشرون أنه سبحانه شهد لمن آتاه العلم بانه قد آتاه خيرا كثيرا فقال تعالى {يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا}(12/25)
قال ابن قتيبة والجمهور الحكمة إصابة الحق والعمل به وهي العلم النافع والعمل الصالح
الوجه السابع والعشرون أنه سبحانه عدد نعمه وفضله على رسوله وجعل من أجلها أن آتاه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم فقال تعالى {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} الوجه الثامن والعشرون أنه سبحانه ذكر عباده المؤمنين بهذه النعمة وأمرهم بشكرها وأن يذكروه على إسدائها إليهم فقال تعالى {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}
الوجه التاسع والعشرون أنه سبحانه لما أخبر ملائكته بأنه يريد أن يجعل في الأرض خليفة قالوا له {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} إلى آخر قصة آدم وأمر الملائكة بالسجود لآدم فأبى ابليس فلعنه وأخرجه من السماء وبيان فضل العلم من هذه القصة من وجوه
أحدها أنه سبحانه رد على الملائكة لما سألوه كيف يجعل في الأرض من هم أطوع له منه فقال {إني أعلم ما لا تعلمون} فأجاب سؤالهم بأنه يعلم من بواطن الأمور وحقائقها ما لا يعلمونه وهو العليم الحكيم فظهر من هذا الخليفة من خيار خلقه ورسله وأنبيائه وصالحي عباده والشهداء والصديقين والعلماء وطبقات أهل العلم والإيمان من هو خير من الملائكة وظهر من إبليس من هو شر العالمين فأخرج سبحانه هذا وهذا والملائكة لم يكن لها علم لا بهذا ولا بهذا ولا بما في خلق آدم وإسكانه الأرض من الحكم الباهرة(12/26)
الثاني أنه سبحانه لما أراد إظهار تفضيل آدم وتمييزه وفضله ميزه عليهم بالعلم فعلمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن
كنتم صادقين جاء في التفسير إنهم قالوا لن يخلق ربنا خلقا هو أكرم عليه منا فظنوا أنهم خير وأفضل من الخليفة الذي يجعله الله في الأرض فلما امتحنهم بعلم ما علمه لهذا الخليفة أقروا بالعجز وجهل ما لم يعلموه فقالوا {سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} فحينئذ أظهر لهم فضل آدم بما خصه به من العلم فقال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم أقروا له بالفضل
الثالث أنه سبحانه لما أن عرفهم فضل آدم بالعلم وعجزهم عن معرفة ما علمه قال لهم {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} فعرفهم سبحانه نفسه بالعلم وأنه أحاط علما بظاهرهم وباطنهم وبغيب السموات والأرض فتعرف إليهم بصفة العلم وعرفهم فضل نبيه وكليمه بالعلم وعجزهم عما آتاه آدم من العلم وكفى بهذا شرفا للعلم
الرابع أنه سبحانه جعل في آدم
من صفات الكمال ما كان به أفضل من غيره من المخلوقات وأراد سبحانه أن يظهر لملائكته فضله وشرفه فأظهر لهم أحسن ما فيه وهو علمه فدل على أن العلم أشرف ما في الإنسان وأن فضله وشرفه إنما هو بالعلم ونظير هذا ما فعله بنبيه يوسف عليه السلام لما أراد إظهار فضله وشرفه على أهل زمانه كلهم أظهر للملك وأهل مصر من علمه بتأويل رؤياه ما عجز عنه علماء التعبير فحينئذ قدمه ومكنه وسلم إليه خزائن الأرض وكان قبل ذلك قد حبسه على ما رآه من حسن وجهه وجمال صورته ولما ظهر له حسن صورة علمه وجمال معرفته أطلقه من الحبس ومكنه في الأرض فدل على أن صورة العلم عند بني آدم أبهى وأحسن من الصورة الحسية ولو كانت أجمل صورة وهذا وجه مستقل في تفضيل العلم مضاف إلى ما تقدم فتم به ثلاثون وجها(12/27)
الوجه الحادي والثلاثون أنه سبحانه ذم أهل الجهل في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى {ولكن أكثرهم يجهلون} وقال {ولكن أكثرهم لا يعلمون} وقال تعالى {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} فلم يقتصر سبحانه على تشبيه الجهال بالأنعام حتى جعلهم أضل سبيلا منهم وقال {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} أخبر أن الجهال شر الدواب عنده على اختلاف أصنافها من الحمير والسباع والكلاب والحشرات وسائر الدواب فالجهال شر منهم وليس علي دين الرسل أضر من الجهال بل أعداؤهم على الحقيقة وقال تعالى لنبيه وقد أعاذه {فلا تكونن من الجاهلين} وقال كليمه موسى عليه الصلاة والسلام {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} وقال لأول رسله نوح عليه السلام {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} فهذه حال الجاهلين عنده والأول حال أهل العلم عنده وأخبر سبحانه عن عقوبته لأعدائه أنه منعهم علم كتابه ومعرفته وفقهه فقال تعالى {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} وأمر نبيه بالإعراض عنهم
فقال {وأعرض عن الجاهلين} وأثنى على عباده بالإعراض عنهم ومتاركتهم كما في قوله {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} وقال تعالى {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} وكل هذا يدل على قبح الجهل عنده وبغضه للجهل وأهله وهو كذلك عند الناس فإن كل أحد يتبرأ منه وإن كان فيه(12/28)
الوجه الثاني والثلاثون أن العلم حياة ونور والجهل موت وظلمة والشر كله سببه عدم الحياة والنور والخير كله سببه النور والحياة فإن النور يكشف عن حقائق الأشياء ويبين مراتبها والحياة هي المصححة لصفات الكمال الموجبة لتسديد الأقوال والأعمال فكلما تصرف من الحياة فهو خير كله كالحياء الذي سببه كمال حياة القلب وتصوره حقيقة القبح ونفرته منه وضده الوقاحة
والفحش وسببه موت القلب وعدم نفرته من القبيح وكالحياء الذي هو المطر الذي به حياة كل شيء قال تعالى {أو من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} كان ميتا بالجهل قلبه فأحياه بالعلم وجعل له من الإيمان نورا يمشى به في الناس وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} وقال تعالى {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أؤلئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقال تعالى {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} فأخبر أنه روح تحصل به الحياة ونور يحصل به الإضاءة والإشراق فجمع بين الأصلين الحياة والنور وقال تعالى {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} وقال تعالى {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير} وقال تعالى {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا}(12/29)
وقال تعالى {قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} وقال تعالى {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} فضرب سبحانه مثلا لنوره الذي قذفه في
قلب المؤمن كما قال أبي بن كعب رضى الله عنه مثل نوره في قلب عبده المؤمن وهو نور القرآن والإيمان الذي أعطاه إياه كما قال في آخر الآية {نور على نور} يعنى نور الإيمان على نور القرآن كما قال بعض السلف يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بالأثر فإذا سمع فيها بالأثر كان نورا على نور وقد جمع الله سبحانه بين ذكر هذين النورين وهما الكتاب والإيمان في غير موضع من كتابه كقوله {ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} وقوله تعالى {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} ففضل الله الإيمان ورحمته القرآن وقوله تعالى {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} وقد تقدمت هذه الآيات وقال في آية النور {نور على نور}(12/30)
وهو نور الإيمان على نور القرآن وفي حديث النواس بن سمعان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما وعلى كتفي الصراط داران لهما أبواب مفتحة على الأبواب ستور وداع يدعو على الصراط وداع يدعو فوقه {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} والأبواب التي على كتفي الصراط حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر والذي يدعو من فوقه واعظ ربه رواه الترمذي وهذا لفظه والإمام أحمد ولفظه والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن فذكر الأصلين وهما داعي القرآن وداعي الإيمان وقال حذيفة حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من الإيمان ثم علموا من القرآن وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها. فجعل الناس أربعة اقسام أهل الايمان والقرآن وهم خيار الناس
الثاني أهل الايمان الذين لا يقرءون القرآن وهم دونهم فهؤلاء هم السعداء والأشقياء قسمان
أحدهما من أوتى قرآنا بلا إيمان فهو منافق والثاني من لا أوتى قرآنا ولا إيمانا والمقصود أن القرآن والإيمان هما نور يجعله الله في قلب من يشاء من عباده وأنهما أصل كل خير في الدنيا والآخرة وعلمهما أجل العلوم وأفضلها بل لا علم في الحقيقة ينفع صاحبه إلا علمهما {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}(12/31)
الوجه الثالث والثلاثون أن الله سبحانه جعل صيد الكلب الجاهل ميتة يحرم أكلها وأباح صيد الكلب المعلم وهذا أيضا من شرف العلم أنه لا يباح إلا صيد الكلب العالم
وأما الكلب الجاهل فلا يحل أكل صيده فدل على شرف العلم وفضله قال الله تعالى {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب}
ولولا مزية العلم والتعليم وشرفهما كان صيد الكلب المعلم والجاهل سواء
الوجه الرابع والثلاثون أن الله سبحانه أخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوارة بيده وكلمه منه إليه أنه رحل إلى رجل عالم يتعلم منه ويزداد علما إلى علمه فقال {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا} حرصا منه على لقاء هذا العالم وعلى التعلم منه فلما لقيه سلك معه مسلك المتعلم مع معلمه وقال له {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا} فبدأه بعد السلام بالاستئذان على متابعته وأنه لا يتبعه إلا بإذنه وقال على أن تعلمن مما علمت رشدا فلم يجيء ممتحنا ولا معلما وإنما جاء متعلما مستزيدا علما إلى علمه وكفى بهذا فضلا وشرفا للعلم فإن نبي الله وكليمه سافر ورحل حتى لقى النصب من سفره في تعلم ثلاث مسائل من رجل عالم ولما سمع به لم يقر له قرار حتى لقيه وطلب منه متابعته وتعليمه وفي قصتهما عبر وآيات وحكم ليس هذا موضع ذكرها
الوجه الخامس والثلاثون قوله تعالى {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} ندب تعالى المؤمنين إلى التفقه في الدين وهو تعلمه وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم وهو التعليم. أ هـ {مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 48 ـ 56}(12/32)
قوله تعالى : {قَائِمَاً بالقسط}
قال الفخر :
{قَائِمَاً بالقسط} منتصب ، وفيه وجوه :
الوجه الأول : نصب على الحال ، ثم فيه وجوه
أحدها : التقدير : شهد الله قائماً بالقسط
وثانيها : يجوز أن يكون حالا من هو تقديره : لا إله إلا هو قائماً بالقسط ، ويسمى هذا حالاً مؤكدة كقولك : أتانا عبد الله شجاعاً ، وكقولك : لا رجل إلا عبد الله شجاعاً.
الوجه الثاني : أن يكون صفة المنفي ، كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو ، وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف.
والوجه الثالث : أن يكون نصباً على المدح.
فإن قيل : أليس من حق المدح أن يكون معرفة ، كقولك ، الحمد لله الحميد.
قلنا : وقد جاء نكرة أيضاً ، وأنشد سيبويه :
ويأوي إلى نسوة عطل.. وشعثاً مراضع مثل السعالي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 179}
فائدة
قال الفخر :
قوله {قَائِمَاً بالقسط} فيه وجهان الأول : أنه حال من المؤمنين والتقدير : وأولوا العلم حال كون كل واحد منهم قائماً بالقسط في أداء هذه الشهادة
والثاني : وهو قول جمهور المفسرين أنه حال من {شَهِدَ الله }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 179}
وقال الآلوسى :
وفي انتصاب { قَائِمَاً } وجوه :
الأول : أن يكون حالاً لازمة من فاعل { شَهِدَ } ويجوز إفراد المعطوف عليه بالحال دون المعطوف إذا قامت قرينة تعينه معنوية أو لفظية ، ومنه { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] وأخرت الحال عن المعطوفين للدلالة على علو مرتبتهما وقرب منزلتهما ، والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناءاً بشأنه ولعله السر في تقديمه على المعطوفين مع الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به ،
والثاني : أن يكون منصوباً على المدح وهو وإن كان معروفاً في المعرفة لكنه ثابت في غيرها أيضاً ، (12/33)
والثالث : أن يكون وصفاً لاسم لا المبني ، واستبعد بأنهم إنما يتسعون بالفصل بين الموصوف والصفة بفاصل ليس أجنبياً من كل وجه ، والمعطوف على فاعل { شَهِدَ } أجنبي مما هو في صلة أن لفظاً ومعنى ، وبأنه متلبس بالحال فينبغي على هذا أن يرفع حملاً على محل اسم لا رفعاً للالتباس.
والرابع : أن يكون مفعول العلم أي : أولوا المعرفة قائماً بالقسط ولا يخفى بعده ،
الخامس : ولعله الأوجه أن يكون حالاً من الضمير والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد أو أحقه لأنها حال مؤكدة ولا يضر تخلل المعطوفين هنا بخلافه في الصفة لأن الحال المؤكدة في هذا القسم جارية مجرى جملة مفسرة نوع تفسير فناسب أن يقدم المعطوفان لأن المشهود به واحد فهو نوع من تأكيده تمم بالحال المفسرة وعلى تقدير الحالية من الفاعل والمفعولية للعلم لا يندرج في المشهود به وعلى تقدير النصب على المدح يحتمل الاندراج وعدمه ، وعلى التقديرين الأخيرين يندرج لا محالة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 105 ـ 106}(12/34)
فصل
قال ابن القيم :
وقوله تعالى {قائما بالقسط}
القسط هو العدل فشهد الله سبحانه أنه
قائم بالعدل في توحيده وبالوحدانية في عدله والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب وموافقة الحكمة
فهذا توحيد الرسل وعدلهم إثبات الصفات والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وإثبات القدر والحكم والغايات المطلوبة المحمودة بفعله وأمره لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية الذي هو إنكار الصفات وحقائق الأسماء الحسنى وعدلهم الذي هو التكذيب بالقدر أو نفي الحكم والغايات والعواقب الحميدة التي يفعل الله لأجلها ويأمر وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته يتضمن أمورا
أحدها أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق وإنكارها وجحودها أعظم الظلم على الإطلاق فلا أعدل من التوحيد ولا أظلم من الشرك فهو سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة قولا وفعلا حيث شهد بها وأخبر وأعلم عباده وبين لهم تحقيقها وصحتها وألزمهم بمقتضاها وحكم به وجعل الثواب والعقاب عليها وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها فالدين كله من حقوقها والثواب كله عليها والعقاب كله على تركها(12/35)
وهذا هو العدل الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة فأوامره كلها تكميل لها وأمر بأداء حقوقها ونواهيه كلها صيانة لها عما يهضمها ويضادها وثوابه كله عليها وعقابه كله على تركها وترك حقوقها وخلقه السموات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها وهي الحق الذي خلقت به وضدها هو الباطل والعبث الذي نزه نفسه عنه وأخبر أنه لم يخلق به السموات والأرض قال تعالى ردا على المشركين المنكرين لهذه الشهادة {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} وقال تعالى {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون} وقال {وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق} وقال {أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون}
وقال {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ماخلقناهما إلا بالحق}
وهذا كثير في القرآن والحق الذي خلقت به السموات والأرض ولأجله هو التوحيد وحقوقه من الأمر والنهي والثواب والعقاب فالشرع والقدر والخلق والأمر والثواب والعقاب قائم بالعدل والتوحيد صادر عنهما وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى قال تعالى حكاية عن نبيه هود {إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله فهو يقول الحق ويفعل العدل وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل
لكلماته وهو السميع العليم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل(12/36)
فالصراط المستقيم الذي عليه ربنا تبارك وتعالى هو مقتضى التوحيد والعدل قال تعالى {وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم}
فهذا مثل ضربه الله لنفسه وللصنم فهو سبحانه الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم والصنم مثل العبد الذي هو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير
والمقصود أن قوله تعالى {قائما بالقسط} هو كقوله {إن ربي على صراط مستقيم}
وقوله {قائما بالقسط} نصب على الحال وفيه وجهان أحدهما أنه حال من الفاعل في شهد الله والعامل فيها الفعل والمعنى على هذا شهد الله حال قيامه بالقسط أنه لا إله إلا هو(12/37)
والثاني أنه حال من قوله هو والعامل فيها معنى النفي أي لا إله إلا هو حال كونه قائمة بالقسط وبين التقديرين فرق ظاهر فإن التقدير الأول يتضمن أن المعنى شهد الله متكلما بالعدل مخبرا به آمرا به فاعلا له مجازيا به أنه لا إله إلا هو فإن العدل يكون في القول والفعل والمقسط هو العادل في قوله وفعله فشهد الله قائما بالعدل قولا وفعلا أنه لا إله إلا هو وفي ذلك تحقيق لكون هذه الشهادة شهادة عدل وقسط وهي أعدل شهادة كما أن المشهود به أعدل شيء وأصحه وأحقه وذكر ابن السائب وغيره في سبب نزول الآية ما يشهد بذلك وهو أن حبرين من أحبار الشأم قدما على النبي فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي قالا له أنت محمد قال نعم وأحمد قال نعم قالا نسألك عن شهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك قال سلاني قالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت شهد الله أنه لا إله إلا هو الآية وإذا كان القيام بالقسط يكون في القول والفعل كان المعنى أنه كان سبحانه يشهد وهو قائم بالعدل عالم به لا بالظلم فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا فإنها تضمنت أنه هو الذي يستحق العبادة وحده دون غيره وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء وأن الذين أشركوا به غيره هم الضالون الأشقياء فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة وجزاء المشركين بالنار كان هذا من تمام موجب الشهادة وتحقيقها وكان قوله قائما بالقسط تنبيها على جزاء الشاهد بها والجاحد لها والله أعلم.
فصل وأما التقدير الثاني وهو أن يكون قوله قائما حالا مما بعد إلا
فالمعنى أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل فهو وحده المستحق الإلهية مع كونه قائما بالقسط قال شيخنا وهذا التقدير أرجح فإنه يتضمن أن الملائكة وأولي العلم يشهدون له بأنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط(12/38)
قلت مراده أنه إذا كان قوله قائما بالقسط حالا من المشهود به فهو كالصفة له فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها كان كلاهما مشهودا به فيكون الملائكة وأولوا العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط كما شهدوا بأنه لا إله إلا هو والتقدير الأول لا يتضمن ذلك فإنه إذا كان التقدير شهد الله قائما بالقسط أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو كان القيام بالقسط حالا من اسم الله وحده
وأيضا فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة
فإن قيل فإذا كان حالا من هو فهلا اقترن به ولم فصل بين صاحب الحال وبينها بالمعطوف فجاء متوسطا بين صاحب الحال وبينها
قلت فائدته ظاهرة فإنه لو قال شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة وأولو العلم لأوهم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله قائما بالقسط ولا يحسن العطف لأجل الفصل وليس المعنى على ذلك قطعا وإنما المعنى على خلافه وهو أن قيامه بالقسط مختص به كما أنه مختص بالإلهية فهو وحده الإله المعبود المستحق العبادة وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل
قوله لا إله إلا هو ذكر محمد بن جعفر أنه قال الأولى وصف وتوحيد والثانية رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلا هو ومعنى هذا أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادته هو وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي فيكون شاهدا هو أيضا(12/39)
وأيضا فالأولى خبر عن الشهادة بالتوحيد والثانية خبر عن نفس التوحيد وختم بقوله العزيز الحكيم فتضمنت الآية توحيده وعدله وعزته وحكمته فالتوحيد يتضمن ثبوت صفات كماله ونعوت جلاله وعدم المماثل له فيها وعبادته وحده لا شريك له والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها وتنزيلها منازلها وأنه لم يخص شيئا منها إلا بمخصص اقتضى ذلك وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة ولا يمنع من يستحق العطاء وإن كان هو الذي جعله مستحقا والعزة تتضمن كمال قدرته وقوته وقهره والحكمة تتضمن كمال علمه وخبرته وأنه أمر ونهى وخلق وقدر لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد
فاسمه العزيز يتضمن الملك واسمه الحكيم يتضمن الحمد وأول الآية يتضمن التوحيد وذلك حقيقة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وذلك أفضل ما قاله رسول الله والنبيون من قبله والحكيم الذي إذا أمر بأمر كان حسنا في نفسه وإذا نهى عن شيء كان قبيحا في نفسه وإذا أخبر بخبر كان صدقا وإذا فعل فعلا كان صوابا وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره وهذا الوصف على الكمال لا يكون إلا لله وحده
فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة الدلالة على وحدانيته المنافية للشرك وعدله المنافي للظلم وعزته المنافية للعجز وحكمته المنافية للجهل والعيب ففيها الشهادة له بالتوحيد والعدل والقدرة والعلم والحكمة ولهذا كانت أعظم شهادة. أ هـ {مدارج السالكين حـ 3 صـ 455 ـ 460}(12/40)
فصل
قال الفخر :
معنى كونه {قَائِمَاً بالقسط} قائماً بالعدل ، كما يقال : فلان قائم بالتدبير ، أي يجريه على الاستقامة.
واعلم أن هذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا ، ومنه ما هو متصل بباب الدين ، أما المتصل بالدين ، فانظر أولاً في كيفية خلقة أعضاء الإنسان ، حتى تعرف عدل الله تعالى فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح ، والغنى والفقر والصحة والسقم ، وطول العمر وقصره واللذة والآلام واقطع بأن كل ذلك عدل من الله وحكمة وصواب ثم انظر في كيفية خلقة العناصر وأجرام الأفلاك ، وتقدير كل واحد منها بقدر معين وخاصية معينة ، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب ، أما ما يتصل بأمر الدين ، فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل ، والفطانة والبلادة والهداية والغواية ، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ، ولقد خاض صاحب "الكشاف" ههنا في التعصب للاعتزال وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وكان ذلك المسكين بعيداً عن معرفة هذه الأشياء إلا أنه فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف ، وزعم أن الآية دلّت على أن من أجاز الرؤية ، أو ذهب إلى الجبر لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام ، والعجب أن أكابر المعتزلة وعظماءهم أفنوا أعمارهم في طلب الدليل على أنه لو كان مرئياً لكان جسماً ، وما وجدوا فيه سوى الرجوع إلى الشاهد من غير جامع عقلي قاطع ، فهذا المسكين الذي ما شم رائحة العلم من أين وجد ذلك ، وأما حديث الجبر فالخوض فيه من ذلك المسكين خوض فيما لا يعنيه ، لأنه لما اعترف بأن الله تعالى عالم بجميع الجزئيات ، واعترف بأن العبد لا يمكنه أن يقلب علم الله جهلاً ، فقد اعترف بهذا الجبر ، فمن أين هو والخوض في أمثال هذه المباحث. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 179 ـ 180}
وقال النيسابورى فى غرائب القرآن : (12/41)
إن الإنسان بل كل ما سوى الله تعالى لم يخلق مستعداً لإدراك تفاصيل كلمات الله . فالخوض في ذلك خوض فيما لا يعنيه بل لا يسعه ولا ينفعه إلا العلم الإجمالي بأنه تعالى واحد في ملكه ، وملكه لا منازع له فيه ولا مضاد ولا مانع لقضائه ولا راد ، وأن الكل بقضائه وقدره ، وفي كل واحد من مصنوعاته ولكل شيء من أفعاله حكم ومصالح لا يحيط بذلك علماً إلا موجده وخالقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . هذا هو الدين القويم والاعتقاد المستقيم ، والعدول عنه مراء ، والجدال فيه هراء . فمن نسبه إلى الجور في فعل من الأفعال فهو الجائر لا على غيره بل على نفسه إذ لا يعترف بجهله وقصوره ، ولكن ينسب ذلك إلى علام الخفيات والمطلع على الكليات والجزئيات من أزل الآزال إلى أبد الآباد . ومن زعم أن شيئاً من الأشياء خيراً أو شراً في اعتقاده حسناً أو قبيحاً بحسب نظره خارج عن مشيئته وإرادته فقد كذب ابن أخت خالته ، لأنه يدعي التوحيد ثم يثبت قادراً آخر أو خالقاً غير الله تعالى ، ولا خالق إلا هو. أ هـ {غرائب القرآن حـ 2 صـ 226}
فصل
قال القرطبى :
روى غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش فكنت أختلف إليه.
فلما كان ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام فتهجد من الليل فقرأ بهذه الآَية { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } ، قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهِد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لى ( عند الله ) وديعة ، وأن الدين عند الله الإسلام قالها مرارا فغدوت إليه وودّعته ثم قلت : إني سمعتك تقرأ هذه الآية فما بلغك فيها ؟ أنا عندك منذ سنة لم تحدثني به.
قال : والله لا حدثتك به سنة.
قال : فأقمت وكتبت على بابه ذلك اليوم ، فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة.
قال : حدّثني أبو وائل.(12/42)
عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يُجَاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى عبدي عهِد إلي وأنا أحَقّ من وَفي أدخِلوا عبدي الجنة".
قال أبو الفرج الجوزي : غالب القطّان هو غالب بن خُطّاف القطّان ، يروي عن الأعمش حديث "شهد الله" وهو حديث مُعْضَل.
قال ابن عدىَّ الضعف على حديثه بيِّن.
وقال أحمد بن حنبل : غالب بن خُطّاف القَطّان ثِقةٌ ثقة.
وقال ابن معين : ثِقة.
وقال أبو حاتم : صدوق صالح.
قلت : يكفيك من عدالته وثقته أن خرّج له البخاري ومسلم في كتابيهما ، وحسبك ، وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " منْ قرأ { شَهِد اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إلَهَ إِلاّ هُوَ والْمَلاَئِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالقِسطِ لاَ إلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } عند منامه خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة " ويقال من أقرّ بهذه الشهادة عن عقْد من قلبه فقد قام بالعدل.
وروى عن سعيد بن جبير أنه قال : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً لكل حَيِّ من أحْيَاء العرب صنمٌ أو صنمان.
فلما نزلت هذه الآَية أصبحت الأصنام قد خرت ساجدة لله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 41 ـ 42}
قوله تعالى : {لاَ إله إِلاَّ هُوَ}
فائدة
قال الفخر :
والفائدة في إعادته وجوه
الأول : أن تقدير الآية : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو ، ونظيره قول من يقول : الدليل دلّ على وحدانية الله تعالى ، ومتى كان كذلك صح القول بوحدانية الله تعالى
الثاني : أنه تعالى لما أخبر أن الله شهد أنه لا إله إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا العلم بذلك صار التقدير ، كأنه قال : يا أمة محمد فقولوا أنتم على وفق شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم لا إله إِلا هو فكان الغرض من الإعادة الأمر بذكر هذه الكلمة على وفق تلك الشهادات(12/43)
الثالث : فائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبداً في تكرير هذه الكلمة فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة ، فإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلاً بذكرها وبتكريرها كان مشتغلاً بأعظم أنواع العبادات ، فكان الغرض من التكرير في هذه الآية حث العباد على تكريرها
الرابع : ذكر قوله {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أولاً : ليعلم أنه لا تحق العبادة إلا لله تعالى ، وذكرها ثانيا : ليعلم أنه القائم بالقسط لا يجور ولا يظلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 180}
وقال القرطبى :
{ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } كرّر لأن الأولى حَلّتْ محلّ الدعوى ، والشهادة الثانية حلّت محل الحكُم.
وقال جعفر الصادق : الأولى وصفٌ وتوحيدٌ ، والثانية رَسْمٌ وتعليمٌ ؛ يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 43}
وقال أبو حيان :
{ لا إله إلا هو العزيز الحكيم } كرر التهليل توكيداً وقيل : الأول شهادة الله ، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم ، وهذا بعيد جدّاً لأنه يؤدّي إلى قطع الملائكة عن العطف على الله تعالى ، وعلى إضمار فعل رافع ، أو على جعلهم مبتدأ ، وعلى الفصل بين ما يتعلق بهم وبين التهليل بأجنبي ، وهو قوله : { قائماً بالقسط }.
وقيل : الأول جار مجرى الشهادة ، والثاني جار مجرى الحكم وقيل : هذا الكلام ينطوي على مقدّمتين ، وهذا هو نتيجتهما ، فكأنه قال : شهد الله والملائكة وأولو العلم وما شهدوا به حق فلا إله إلا هو حق ، فحذف إحدى المقدّمتين للدّلالة عليها ، وهذا التقدير كله لا يساعد عليه اللفظ.(12/44)
وقال الراغب : إنما كرر { لا إله إلا هو } لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد لأن أكثرها مشارك في ألفاظها العبيد ، فيصح وصفهم بها ، وكذلك وردت ألفاظ التنزيه في حقه أكثر ، وأبلغ ما وصف به من التنزيه : لا إله إلا الله ، فتكريره هنا لأمرين : أحدهما : لكون الثاني قطعاً للحكم ، كقولك : أشهد أن زيداً خارج ، وهو خارج.
والثاني : لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه ، إذ قد يوصف بهما المخلوق انتهى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 423 ـ 424}
وقال ابن عادل :
قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : لِمَ كرَّر قولَه : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ؟ قلت : ذكره - أولاً - للدلالة على اختصاصه بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة ، ثم ذكره - ثانياً - بعدما قَرَن بإثبات الوحدانية إثبات العدل ؛ للدلالة على اختصاصه بالأمرين ، كأنه قال : لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين ، ولذلك قرن به قوله تعالى : { العزيز الحكيم } ؛ لتضمنها معنى الوحدانيةِ والعدلِ ".
وقال بعضهم : ليس بتكرير ؛ لأن الأول شهادة الله - تعالى - وحده. والثاني : شهادة الملائكة وأولي العلم ، وهذا عند من يرفع " الْمَلاَئِكَةُ " بفعل آخر مضمر - كما ذكرنا - من أنه لا يرى إعمال المشترك ، وأن الشهادتين متغايرتان ، وهو مذهب مرجوح.
وقال الراغبُ : " إنما كرَّر { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ؛ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد ؛ لأن أكثرها مشارك - في ألفاظها - العبيد ، فيصح وصفُهم بها ، ولذلك وردت ألفاظ في حقه أكثر وأبلغ ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 100}
قوله تعالى {العزيز الحكيم}
فصل
قال الفخر : (12/45)
أما قوله {العزيز الحكيم} فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى كمال العلم ، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلا معهما لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات ، وكان قادراً على تحصيل المهمات ، وقدم العزيز على الحكيم في الذكر ، لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الإستدلالية ، فلما كان مقدماً في المعرفة الإستدلالية ، وكان هذا الخطاب مع المستدلين ، لا جرم قدم تعالى ذكر العزيز على الحكيم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 180}
قال البيضاوى :
قدم العزيز لتقديم العلم بقدرته على العلم بحكمته ، ورفعهما على البدل من الضمير أو الصفة لفاعل شهد. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 18}
فصل
قال ابن كثير فى معنى الآية وفضلها :
شهد تعالى -وكفى به شهيدا ، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم ، وأصدق القائلين-{ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : المتفَرد بالإلهية لجميع الخلائق ، وأن الجميع عبيده وخلقه ، والفقراء إليه ، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } الآية [ النساء : 166 ].
ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ } وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام.
{ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } منصوب على الحال ، وهو في جميع الأحوال كذلك.
{ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } تأكيد لما سبق { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } العزيز : الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياء ، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.(12/46)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، حدثني جبير بن عَمْرو القرشي ، حدثنا أبو سَعِيد الأنصاري ، عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام ، عن الزبير بن العوام ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفةَ يقرأ هذه الآية : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } "وأَنَا عَلَى ذلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ يا رَبِّ". { المسند (1/166) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/325) : "في إسناده مجاهيل"}.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر ، فقال : حدثنا علي بن حسين ، حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني ، حدثنا عُمَر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري ، حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جده ، عن الزبير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ } قال : "وأَنَا أشْهَدُ أيْ رَبِّ". { تفسير ابن أبي حاتم (2/146) وفي إسناده مجاهيل"}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 24}(12/47)
من فوائد العلامة أبى السعود فى الآية
قال رحمه الله :
{ شَهِدَ الله أَنَّهُ } بفتح الهمزة أي بأنه أو على أنه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي بيّنَ وحدانيتَه بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وإنزالِ الآيات التشريعية الناطقة بذلك. عبر عنه بالشهادة على طريقة الاستعارة إيذاناً بقوته في إثبات المطلوبِ وإشعاراً بإنكار المنكر ، وقرىء إنه بكسر الهمزة إما بإجراء. { شَهِدَ } مُجرى قال ، وإما بجعل الجملة اعتراضاً وإيقاعِ الفعل على قوله تعالى : { إِنَّ الدّينَ } الخ على قراءة أن بفتح الهمزة كما سيأتي وقرىء شهداءٌ لله بالنصب على أنه حال من المذكورين أو على المدح وبالرفع على أنه خبر مبتدإٍ محذوف ومآله الرفع على المدح أي هم شهداء لله وهو إما جمع شهيد كظرفاء في جمع ظريف أو جمع شاهد كشعراء في جمع شاعر.(12/48)
{ والملئكة } عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنىً مجازيّ شامل للإقرار والإيمان بطريق عموم المجاز أي أقروا بذلك { وَأُوْلُو العلم } أي آمنوا به واحتجوا عليه بما ذكر من الأدلة التكوينية والتشريعية ، قيل : المرادُ بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل : المهاجرون والأنصار وقيل : علماء مؤمني أهلِ الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه وقيل : جميعُ علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة ، وارتفاعُهما على القراءتين الأخيرتين قيل : بالعطف على الضمير في شهداء لوقوع الفصل بينهما وأنت خبير بأن ذلك على قراءة النصبِ على الحالية يؤدي إلى تقييد حالِ المذكورين بشهادة الملائكة وأولي العلم ، وليس فيه كثيرُ فائدةٍ فالوجه حينئذٍ كونُ ارتفاعِهما بالابتداء والخبرُ محذوفٌ لدلالة الكلام عليه أي والملائكة وأولو العلم شهداء ولك أن تحمل القراءتين على المدح نصباً ورفعاً فحينئذ يحسُن العطفُ على المستتر على كل حال وقوله تعالى : { قَائِمَاً بالقسط } أي مقيماً للعدل في جميع أمورِه بيان لكماله تعالى في أفعاله إثرَ بيانِ كماله في ذاته وانتصابُه على الحالية من { الله } كما في قوله تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } وإنما جاز إفرادُه مع عدم جواز جاء زيد وعمرو راكباً لعدم اللَّبس كقوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } ولعل تأخيرَه عن المعطوفين للدَلالة على علو رتبتهما وقُرب منزلتهما والمسارعةِ إلى إقامة شهودِ التوحيد اعتناءً بشأنه ورفعاً لمحله ، والسرُّ في تقديمه على المعطوفين مع ما فيه من الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به كما مر في قوله تعالى : { الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون } أو مِنْ { هُوَ } وهو الأوجه ، والعامل فيها معنى الجملة أي تفرّد ، أو أُحِقّه لأنها حال مؤكدة أو على المدح وقبل على أنه صفة للمنفي أي لا إله قائماً الخ والفصل(12/49)
بينهما من قبيل توسعاتهم وهو مندرج في المشهود به إذا جعل صفة أو حالاً من الضمير أو نصباً على المدح منه وقرىء القائمُ بالقسط على البدلية من { هُوَ } فيلزم الفصلُ بينهما كما في الصفة أو على أنه خبر لمبتدإ محذوف وقرىء قيّماً بالقسط.
{ لا إله إِلاَّ هُوَ } تكريرٌ للتأكيد ومزيدِ الاعتناء بمعرفة أدلةِ التوحيد والحُكم به بعد إقامة الحجةِ وليجرِيَ عليه قوله تعالى : { العزيز الحكيم } فيُعلمَ أنه المنعوتُ بهما ، ووجهُ الترتيب إذن تقدمُ العلمِ بقدرته على العلم بحكمته تعالى ورفعُهما على البدلية من الضمير أو الوصفية لفاعل شهد ، أو الخبرية لمبتدأ مُضمَر. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 16 ـ 17}
وقال ابن عجيبة :
يقول الحقّ جلّ جلاله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } أي : بيَّن وحدانيتَه بنصب الدلالئل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها ، أو بتدبيره العجيب وصنعته المتقنة وأموره المحكمة ، وفي ذلك يقول القائل :
يَا عَجَباً كيف يُعْصَى الإلهُ... أم كيف يَجْحَدُه الجاحدُ ؟!
وللهِ في كل تحريكةٍ... وتسكينةٍ أبداً شاهدُ
وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ... تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ
وقيل لبعض العرب : ما الدليل على أن للعالم صانعاً ؟ فقال : البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ، ومركز سفلي بهذه الكثافة ، أمَا يدلان على الصانع الخبير ؟!
{ و} شهدت { الملائكة } أيضاً بالإقرار بالوحدانية والإخبار بها ، { وأولوا العلم } وهم : الأنبياء والعلماء بالله ، بالإيمان بها والاحتجاج عليها ، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد. وفيه دليل شرف أهل العلم وفضلهم ، حيث قرن شهادتهم بشهادته ؛ لأن العلم صفة الله العليا ونعمته العظمى ، والعلماء أعلام الإسلام ، والسابقون إلى دار السلام ، وسُرج الأمكنة وحجج الأزمنة.(12/50)
وعن جابر قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " سَاعَةٌ مِنْ عَالمِ يتَّكِئ على فِرَاشِهِ ، ينظُرُ في علمهِ ، خَيرٌ مِنْ عِبَادَة العَابِد سَبعينَ عاماً " وعن معاذ قالَ : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشيةٌ ، ومدارستَه تسبيحٌ ، والبحث فيه جهادٌ ، وتعليمه مَنْ لا يعلمه صدقةٌ ، وتذكُّره في أهله قُرْبَة " ثم قال في آخر الحديث في فضل أهل العلم : " وتَرْغَبُ الملائكة في خُلتِهم ، وبأجنحتها تمسحُهم ، وفي صلاتها تستغفر لهم ، وكلُّ رطب ويابس يستغفر لهم. حتى حيتان البحر وهوامه ، وسباع الأرضين وأنعامها ، والسماء ونجومها ، ألا وإن العلم حياةُ القلوب من العمى ، ونورُ الأبصار من الظلم ، وقوة الأبدان من الضعف ، يبلغ بالعبد منزل الأحرار ومجالسة الملوك ، والفكر فيه يُعْدل بالصيام ، ومدارسته بالقيام ، وبه يُعرف الحلال والحرام ، وبه تُوصلَ الأرحام ، العلم إمام والعمل تابعه ، يُلْهَمُه بالسعداء ، ويُحْرَمه الأشقياء ". أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 258}
وقال السعدى : (12/51)
هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له ، وهي شهادته تعالى وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأهل العلم ، أما شهادته تعالى فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده ، وأنه لا إله إلا هو ، فنوع الأدلة في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم ، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه ما قام أحد بتوحيده إلا ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد ، وكذلك إنعامه العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه ، ولا يدفع النقم إلا هو ، والخلق كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لأنفسهم ولغيرهم ، ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلان الشرك ، وأما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها بإخبار الله لنا بذلك وإخبار رسله ، وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم [ ص 125 ] المرجع في جميع الأمور الدينية خصوصا في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد ، فكلهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة إليه ، فوجب على الخلق التزام هذا الأمر المشهود عليه والعمل به ، وفي هذا دليل على أن أشرف الأمور علم التوحيد لأن الله شهد به بنفسه وأشهد عليه خواص خلقه ، والشهادة لا تكون إلا عن علم ويقين ، بمنزلة المشاهدة للبصر ، ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى هذه الحالة فليس من أولي العلم. وفي هذه الآية دليل على شرف العلم من وجوه كثيرة ، منها : أن الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه دون الناس ، ومنها : أن الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته ، وكفى بذلك فضلا ومنها : أنه جعلهم أولي العلم ، فأضافهم إلى العلم ، إذ هم القائمون به المتصفون بصفته ، ومنها : أنه تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس ، وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به ، فيكونون هم السبب في ذلك ، فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، ومنها : أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم وأنهم أمناء على ما استرعاهم(12/52)
عليه ، ولما قرر توحيده قرر عدله ، فقال : { قائمًا بالقسط } أي : لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين عباده ، فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه ، وفيما خلقه وقدره ، ثم أعاد تقرير توحيده فقال { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } واعلم أن هذا الأصل الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبودية قد دلت عليه الأدلة النقلية والأدلة العقلية ، حتى صار لذوي البصائر أجلى من الشمس ، فأما الأدلة النقلية فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله ، من الأمر به وتقريره ، ومحبة أهله وبغض من لم يقم به وعقوباتهم ، وذم الشرك وأهله ، فهو من الأدلة النقلية على ذلك ، حتى كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه ، وأما الأدلة العقلية التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره للأمور فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها ، فمن أعظمها : الاعتراف بربوبية الله ، فإن من عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، ولما كان هذا من أوضح الأشياء وأعظمها أكثر الله تعالى من الاستدلال به في كتابه. ومن الأدلة العقلية على أن الله هو الذي يؤله دون غيره انفراده بالنعم ودفع النقم ، فإن من عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله ، وأنه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق لا يملك لنفسه - فضلا عن غيره- جلب نعمة ولا دفع نقمة ، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل وأن العبودية لا تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار ، فلهذا أكثر الله في كتابه من التنبيه على هذا الدليل جدا ، ومن الأدلة العقلية أيضا على ذلك : ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه ، بأنها لا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا تنصر غيرها ولا تنصر نفسها ، وسلبها الأسماع والأبصار ، وأنها على فرض سماعها لا تغني شيئا ، وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص ، وما أخبر به عن نفسه(12/53)
العظيمة من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة ، والقدرة والقهر ، وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية ، فمن عرف ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا بالرب العظيم الذي له الكمال كله ، والمجد كله ، والحمد كله ، والقدرة كلها ، والكبرياء كلها ، لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون ، ومن الأدلة العقلية على ذلك ما شاهده العباد بأبصارهم من قديم الزمان وحديثه ، من الإكرام لأهل التوحيد ، والإهانة والعقوبة لأهل الشرك ، وما ذاك إلا لأن التوحيد جعله الله موصلا إلى كل خير دافعا لكل شر ديني ودنيوي ، وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية ، ولهذا إذا ذكر تعالى قصص الرسل مع أمم المطيعين والعاصين ، وأخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم ، قال عقب كل قصة : { إن في ذلك لآية } أي : لعبرة يعتبر بها المعتبرون فيعلمون أن توحيده هو الموجب للنجاة ، وتركه هو الموجب للهلاك ، فهذه من الأدلة الكبار العقلية النقلية الدالة على هذا الأصل العظيم ، وقد أكثر الله منها في كتابه وصرفها ونوعها ليحيى من حي عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة فله الحمد والشكر والثناء. أ هـ {تفسير السعدى صـ 124}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { شَهِدَ اللهَ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }.(12/54)
أي عَلِمَ اللهُ وأخبر اللهُ وحَكَمَ اللهُ بأنه لا إله إلا هو ، فهو شهادة الحق للحق بأنه الحق ، وأوَّلُ مَنْ شهد بأنه اللهُ - اللهُ ، فشهد في آزاله بقوله وكلامه وخطابه الأزلي ، وأخبر عن وجوده الأحدي ، وكونه الصمدي ، وعونه القيومي ، وذاته الديمومي ، وجلاله السرمدي ، وجماله الأبدي. فقال : { شَهِدَ اللهُ } ثم في آباده ، " شهد الله " أي بيَّنَ اللهُ بما نَصَبَ من البراهين ، وأثبت من دلائل اليقين ، وأوضح من الآيات ، وأبدى من البينات. فكلُّ جزءٍ من جميع ما خلق وفطر ، ومن كتم العدم أظهر ، وعلى ما شاء من الصفة الذاتية حصل ، من أعيان مستقلة ، وآثار في ( ثاني ) وجودها مضمحلة ، وذوات للملاقاة قابلة ، وصفات في المَحَالِّ متعاقبة - فهو لوجوده مُفْصِح ، ولربوبيته موضَّح ، وعلى قِدَمِه شاهد ، وللعقول مُخْبِر بأنه واحد ، عزيز ماجد ، شهد سبحانه بجلال قَدْره ، وكمال عزه ، حين لا جحد ولا جهود ولا عرفان لمخلوق ولا عقل ، ولا وفاق ، ولا كفر ، ولا حدثان ، ولا غير ، ولا إلحاد ، ولا شِرْك ، ولا فهم ولا فكر ، ولا سماء ولا فضاء ، ولا ظلام ولا ضياء ، ولا وصول للمزدوجات ، ولا فضول باختلاف الآفات.
قوله جلّ ذكره : { وَالمَلاَئِكَةِ }.
لم يؤيِّد شهادته بوحدانيته بشهادة الملائكة بل أسعدهم وأيَّدُهم ، حين وفَّقَهم بشهادة وسدَّدهم ، وإلى معرفة وحدانيته أرشدهم.
قوله جلّ ذكره : { وَأُولُوا العِلْمِ }.
وهم أولياء بني آدم إذ علموا قدرته ، وعرفوا نعت عزته فأكرمهم حيث قرن شهادته بشهادتهم ، فشهدوا عن شهود وتعيين ، لا عن ظن وتخمين ، إن لم يدركوه - اليوم - ضرورة وحِسَّاً ، لم يعتقدوه ظنّاً وحَدْساً ؛ تعرَّف إليهم فعرفوه ، وأشهدهم فلذلك شهدوا ، ولو لم يقُلْ لهم إنه مَنْ هو لَمَا عرفوا مَنْ هو.
ولكنَّ العلماء يشهدون بصحو عقولهم ، والمُوَحِّدُون يشهدون بعد خمودهم ؛ فهم كما قيل : (12/55)
مُسْتَهْلَكُون بقهر الحق قد هَمَدُوا... واستُنْطِقُوا بعد افتنائهمُ بتوحيد
فالمُجْرِي عليهم ما يبدو منهم - سواهم ، والقائمُ عنهم بما هم عليه وبه - غيرُهم ، ولقد كانوا لكنهم بانوا ، قال قائلهم :
كتابي إليكم بعد موتي بليلة... ولم أدرِ أنِّي بعد موتي أكتب
وأولو العلم علىمراتب : فَمِنْ عالِم نَعْتُه وفاق ورهبانية ، ومن عالم وصفه فناء وربانية ، وعالم يعرف أحكام حلاله وحرامه ، وعالم يعلم أخباره وسننه وآثاره ، وعالم يعلم كتابه ويعرف تفسيره وتأويله ، ومحكمه وتنزيله ، وعالم يعلم صفاته ونعوته ويستقوي حججه وتوحيده بحديث يخرجه (.... ) ، وعالم لاطفه حتى أحضره ثم كاشفه فقهره ، فالاسم باقٍ ، والعين محو ، والحكم طارق والعبد محق ، قال قائلهم :
بنو حق غدوا بالحق صِرفاً... فنعت الخلْق فيهمو مستورُ
وليست الإشارة من هذا إلا إلى فنائهم عن إحساسهم ، وعند عِلْمِهم بأنفسهم ، فأما أعمالهم أعيانهم فمخلوقة ، وما يفهم بذواتهم من أحوالهم فمسبوقة ، وذات الحق لا توصف بقبول حدثان ، وصفات ذاته لا تقبل اتصالاً بالغير ولا انفصالاً عن الذات ، تقدَّس الحق عن كل ضدِّ وندِّ ، ووصل وفصل ، وجمع وفرق ، وعين وخلق ، وملك وفلك ، ورسم وأثر ، وعبد وبشر ، وشمس وقمر ، وشخص وغَبَر. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 226 ـ 227}(12/56)
قوله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان ذلك علم أنه يجب أن تخضع له الرقاب ويخلص له التوحيد جميع الألباب وذلك هو الإسلام فقال معللاً للشهادة منهم بالعدل - وقراءة الكسائي بالفتح أظهر في التعليل : {إن الدين} وأصله الجزاء ، أطلق هنا على الشريعة لأنها مسببة {عند الله} أي الملك الذي له الأمر كله {الإسلام} فاللام للعهد في هذه الشهادة فإنها أس لكل طاعة ، فلأجل أن الدين عنده هذا شهدوا له هذه الشهادة المقتضية لنهاية الإذعان.
ولما كان ذلك مصرحاً بأنه لا دين عنده غيره كان كأن قائلاً قال : فكان يجب أن يعلم بذلك الأنيباء الماضون والأمم السالفون ليلزموه ويلزموه أتباعهم! فقيل : قد فعل ذلك ، فقيل : فما لهم لم يلزموه ؟ فقيل : قد لزموه مدة مديدة {وما} ويجوز وهو أحسن أن يكون التقدير : بين الله سبحانه وتعالى بشهادته ما يرضيه بآياته المرئية ثم أوضحة غاية الإيضاح بآياته المسموعة بكتبه وما {اختلف الذين أوتوا الكتاب} هذا الاختلاف الذي ترونه {إلا من بعد ما جاءهم العلم} بذلك كله ، وما كان اختلافهم لجهلهم بذلك بل {بغياً} واقعاً {بينهم} لا بينهم وبين غيرهم ، بل من بعضهم على بعض للحسد والتنافس في الدنيا لشبه أبدوها ودعاو ادعوها ، طال بينهم فيها النزاع وعظم الدفاع ، والله سبحانه وتعالى عالم بكشفها ، قادر على صرفها.
قال الحرالي : والبغي السعي بالقول والفعل في إزالة نعم أنعم الله تعالى بها على خلق بما اشتملت عليه ضمائر الباغي من الحسد له - انتهى.(12/57)
ولما كان التقدير : فمن استمر على الإيمان فإن الله عظيم الثواب ، عطف عليه قوله : {ومن يكفر} أي يستمر على كفره ولم يقل حلماً منه : ومن كفر {بآيات الله} أي المرئيات والمسموعات الدالة على إحاطته بالكمال وقوفاً مع تلك الشبه وعمى عن الدليل فالله مهلكه عاجلاً {فإن الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ولا كفوء له {سريع} قال الحرالي : من السرعة وهي وحاء النجاز فيما شأنه الإبطاء - انتهى.
ويحتمل أن يكون كنى بالسرعة عن القرب فالمعنى : قريب {الحساب} أي عن قريب يجازيهم على كفرهم في هذه الحياة الدنيا بأيدي بعضهم وبأيدي المؤمنين ، ثم ينقلون إلى حسابه سبحانه وتعالى في الدار الآخرة المقتضي لعذاب الكفرة ، ويحتمل أن تكون السرعة على بابها ، والمراد أنه لا يتهيأ في حسابه ما يتهيأ في حساب غيره من المغالطة المقتضية للنجاة أو المطاولة في مدة الحساب المقتضية لتأخر الجزاء في مدة المراوغة والله تعالى أعلم.
ومن الكفر بالآيات الكفر بعيسى عليه الصلاة والسلام حين انتحلوا فيه الإلهية.
قال الحرالي : كان آية من الله سبحانه وتعالى للهداية ، فوقع عندهم بحال من كفروا به ، فكان سبب كفرهم ما كان مستحقاً أن يكون سبب هداية المهتدي ، وكان ذلك فيه لمحل اشتباهه لأنه اشتبه عليهم خلقه بما ظهر على يديه من آيات الله سبحانه وتعالى ، وفي التعريض به إلاحة لما يقع لهذه الأمة في نحوه ممن هو مقام الهداية فوقع في طائفة موقع آية كفروا بها. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 44 ـ 45}(12/58)
وقال الآلوسى :
{ إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } جملة مبتدأة وقعت تأكيداً للأولى ، وتعريف الجزئين للحصر أي لا دين مرضي عند الله تعالى سوى الإسلام وهو على ما أخرج ابن جرير عن قتادة "شهادة أن لا إله إلا الله تعالى والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياؤه لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به". وروى علي بن إبراهيم عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال في خطبة له لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ، الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ثم قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه إن المؤمن من يعرف إيمانه في عمله وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 106}
وقال ابن عاشور :
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ}.
قرأ جمهور القراء {إِنَّ الدِّينَ} بكسر همزة إن فهو استئناف ابتدائي لبيان فضيلة هذا الدين بأجمع عبارة وأوجزها.(12/59)
وهذا شروع في أول غرض أنزلت فيه هذه السورة : غرض محاجة نصارى نجران ، فهذا الاستئناف من مناسبات افتتاح السورة بذكر تنزيل القرآن والتوراة والإنجيل ، ثم بتخصيص القرآن بالذكر وتفضيله بأن هديه يفوق هدي ما قبله من الكتب ، إذ هو الفرقان ، فإن ذلك أس الدين القويم ، ولما كان الكلام المتقدم مشتملا على تعريض باليهود والنصارى الذي كذبوا بالقرآن ، وإبطال لقول وفد نجران لما طلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام "أسلمنا قبلك" فقال لهم كذبتم روى الواحدي ، ومحمد بن إسحاق : أن وفد نجران لما دخلوا المسجد النبوي تكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله أسلما قالا : "قد أسلمنا قبلك" قال : "كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب" ، ناسب أن ينوه بعد ذلك بالإسلام الذي جاء به القرآن ، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} .
واعلم أن جمل الكلام البليغ لا يخلو انتظامها عن المناسبة ، وإن كان بعضها استئنافا ، وإنما لا تطلب المناسبة في المحادثات والاقتضابات. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 45 ـ 46}
فصل
قال الفخر :
في كيفية النظم من قرأ {أَنَّ الدّينَ} بفتح {أن} كان التقدير : شهد الله لأجل أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام ، فإن الإسلام إذا كان هو الدين المشتمل على التوحيد ، والله تعالى شهد بهذه الوحدانية كان اللازم من ذلك أن يكون الدين عند الله الإسلام ، ومن قرأ {إِنَّ الدّينَ} بكسر الهمزة ، فوجه الاتصال هو أنه تعالى بيّن أن التوحيد أمر شهد الله بصحته ، وشهد به الملائكة وأولوا العلم ، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يقال {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 181}
فصل
قال القرطبى : (12/60)
قوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } الدَّين في هذه الآية الطاعة والمِلّة ، والإسلام بمعنى الإيمان والطاعات ؛ قاله أبو العالية ، وعليه جمهور المتكلمين.
والأصل في مسمى الإيمان والإسلام التَّغَايُر ؛ لحديث جبريل.
وقد يكون بمعنى المَرادَفَة.
فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر ؛ كما " في حديث وفد عبد القيس وأنه أمرهم بالإيمان ( بالله ) وحده قال : "هل تدرون ما الإيمان" قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال ؛ "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمساً من المغنم" " الحديث.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله " أخرجه الترمذي.
وزاد مسلم " والحياء شعبة من الإيمان " ويكون أيضاً بمعنى التداخل ، وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمى الآخر ، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال ؛ ومنه قوله عليه السلام : " الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان " أخرجه ابن ماجه ، وقد تقدّم.
والحقيقة هو الأوّل وضعا وشرعا ، وما عداه من باب التوسع. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 43 ـ 44}
فائدة
قال الماوردى :
قوله عز وجل : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المتدين عند الله بالإِسلام من سلم من النواهي.
والثاني : أن الدين هنا الطاعة ، فصار كأنه قال : إن الطاعة لله هي الإِسلام.
وفي أصل الإسلام قولان :
أحدهما : أن أصله مأخوذ من السلام وهو السلامة ، لأنه يعود إلى السلامة.
والثاني : أن أصله التسليم لأمر الله في العمل بطاعته. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 379 ـ 380}
فصل
قال الفخر : (12/61)
اتفق القرّاء على كسر {أن} إلا الكسائي فإنه فتح {أن} وقراءة الجمهور ظاهرة ، لأن الكلام الذي قبله قد تم ، وأما قراءة الكسائي فالنحويون ذكروا فيه ثلاثة أوجه : الأول : أن التقدير : شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام وذلك لأن كونه تعالى واحداً موجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام لأن دين الإسلام هو المشتمل على هذه الوحدانية
والثاني : أن التقدير : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وأن الدين عند الله الإسلام الثالث : وهو قول البصريين أن يجعل الثاني بدلاً من الأول ، ثم إن قلنا بأن دين الإسلام مشتمل على التوحيد نفسه كان هذا من باب قولك : ضربت زيداً نفسه ، وإن قلنا : دين الإسلام مشتمل على التوحيد كان هذا من باب بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيداً رأسه.
فإن قيل : فعلى هذا الوجه وجب أن لا يحسب إعادة اسم الله تعالى كما يقال : ضربت زيداً رأس زيد.
قلنا : قد يظهرون الاسم في موضع الكناية ، قال الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شي.. وأمثاله كثيرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 180 ـ 181}
وقال ابن عادل :
قرأ الكسائي بفتح الهمزة ، والباقون بكسرها ، فأما قراءة الجماعةِ فعلى الاستئناف ، وهي مؤكِّدة للجملة الأولى.
قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : ما فائدة هذا التوكيد ؟ قلت : فائدته أن قوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } توحيد ، وقوله : " قائِماً بِالقِسْط " تعديلٌ ، فإذا أردفه بقوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } فقد آذَن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس في شيء من الدين عنده ".
وأما قراءة الكسائي ففيها أوجه :
أحدها : أنها بدل من { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } - على قراءة الجمهورِ - في أن { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه من بدل الشيء من الشيء ، وذلك أن الدين - الذي هو الإسلام - يتضمن العدلَ ، والتوحيد ، وهو هو في المعنى.(12/62)
والثاني : أنه بدل اشتمال ؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيدِ والعدلِ.
والثاني من الأوْجُهِ السابقةِ : أن يكون " إنَّ الدِّينَ " بدلاً من قوله " بِالْقِسْطِ " ثم لك اعتباران :
أحدهما : أن تجعله بدلاً من لفظه ، فيكون محل " إنَّ الدِّينَ " الجر.
والثاني : أن تجعلَه بدلاً من موضعه ، فيكون محلها نصباً ، وهذا - الثاني - لا حاجة إليه - وإن كان أبو البقاء ذَكَرَه.
وإنما صحَّ البدلُ في المعنى ؛ لأن الدين - الذي هو الإسلامُ - قِسْط وعَدْل ، فيكون - أيضاً - من بدل الشيء من الشيء - وهما لعينٍ واحدة-.
ويجوز أن يكون بدل اشتمال ؛ لأن الدين مشتمل على القسط - وهو العدل - وهذه التخاريج لأبي علي الفارسي ، وتبعه الزمخشريُّ في بعضها.
قال أبو حيّان : " وهو _ أبو علي - معتزليّ ، فلذلك يشتمل كلامُه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل ، وعلى البدل من أنه خرجه هو وغيره ، وليس بجيد ؛ لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي في كلام العرب وهو : عَرَفَ زَيْدٌ أنَّهُ لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ وَبَنُو تَمِيمٍ وَبَنُ دَارِمٍ مُلاَقِياً لِلْحُرُوبِ ، لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ الْبَطَلُ الْحَامِي ، إنَّ الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ ، وتقريب هذا المثال : ضرب زيدٌ عائشة ، والعُمرانِ حَنِقاً أختك ، فحَنقاً ، حال من " زيد " و" أختك " بدل من " عائشة " ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف - وهذا لا يجوز - والحال لغير المبدل منه - وهو لا يجوز - ؛ لأنه فصل بأجنبي بين البدل والمبدل منه ".(12/63)
قوله عرف زيد هو نظير " شَهِدَ اللهُ " ، وقوله : أنه لا شجاع إلا هو نظير { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } وقوله : وبنو دارم نظير قوله : " وَالْمَلاَئِكَةُ " وقوله : ملاقياً للحروب نظير قوله : " قَائِماً بِالْقِسْطِ " وقوله : لا شجاع إلا هو نظير قوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فجاء به مكرَّراً - كما في الآية - وقوله : البطل الحامي نظير قوله " الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " وقوله : إن الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ نظير قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام }.
قال شهابُ الدين : " ولا يظهر لي منعُ ذلك ولا عدمُ صحةِ تركيبهِ ، حتى يقول : ليس بجيِّد ، وبعيد أن يأتي عن العرب مثلُه ، وما ادَّعاه بقوله - في المثال الثاني- : إن فيه الفصل بأجنبيٍّ فيه نظر ؛ إذْ هذه الجمل صارت كلُّها كالجملةِ الواحدةِ ؛ لما اشتملت عليه من تقويةِ كلمات بعضها ببعض ، وأبو علي وأبو القاسم وغيرُهما لم يكونوا في محل مَنْ يَجْهَل صحةَ تركيبِ بعضِ الكلام وفساده ".
ثم قال أبو حيّان : " قال الزمخشريُّ : وقُرِئَتَا مفتوحتَيْن على أن الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والمبدَل هو المبدَل منه في المعنى ، فكان بياناً صريحاً ؛ لأن دينَ الإسلام هو التوحيد والعدل " فقال : فَهَذَا نَقْل كَلاَمِ أبي عَلِيٍّ دُونَ استيفاس.
الثالث - من الأوجه : أن يكون " إنَّ الدِّينَ " معطوفاً على { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } حذف منه حرف العطف ، قاله ابن جرير ، وضعفه ابن عطية ، ولم يُبَيِّن وَجْهَ ضَعْفه.
(12/64)
قال أبو حيان : " ووجه ضَعْفِه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفَين المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل ، نحو أكل زيدٌ خُبْزاً ، وعَمْرو سَمَكاً ، يعني فصلت بين زيد وعمرو بـ " خبزاً وسمكاً ".
الرابع : أن يكون معمولاً لقوله : { شَهِدَ الله } ، أي : شهد الله بأن الدين ، فلما حذف حرف الجر جاز أن يحكم على موضعه بالنصب ، أو الجر.
فإن قلت : إنما يتجه هذا التخريجُ على قراءة ابن عباس ، وهي كسر " أنّ " الأولى ، وتكون الجملة - حينئذ - اعتراضاً بين طشَهِدَ " وبين معموله كما تقدم ، وأما على قراءة فتح " أن " الأولى - وهي قراءة العامة - فلا يتجه ما ذكرتَ من التخريج ؛ لأن الأولى معمولة له ، استغنى بها.
فالجوابُ : أن ذلك مُتَّجِهٌ - أيضاً - مع فتح الأولى ، وهو أن يُجْعَل الأولى على حذف لام العلة تقديره : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ؛ لأنه لا إله إلا هو ، وهذا التخريج ذكره الواحديُّ ، وقال : " هذا معنى قول الفراء حيث يقول - في الاحتجاج للكسائي- : إن شئت جعلت " أنه " على الشرط ، وجعلنا الشهادة واقعة على قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } ، ويكون " إنَّ " الأولى يصلح فيها الخفض ، كثولك : شهد الله لوحدانية أن الدين عند الله الإسلام ".
وهو كلام مُشْكِلٌ في نفسه ، ومعنى قوله على الشرط ، أي : العلة ، سمَّى العلةَ شرطاً ؛ لأن المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقف المعلول على علتع ، فهو علة ، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين.
ثم اعترض الواحدي على هذا التخريج بأنه لو كان كذلك لم يَحْسُن إعادة اسم " الله " ، ولكان التركيب : إن الدين عنده الإسلام ؛ لأن الاسم قد سَبَق ، فالوجه الكناية.
ثم أجاب بأن العربَ رُبَّما أعادت الاسم موضعَ الكناية ، وأنشد : [ الخفيف ]
(12/65)
1372- لاَ أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيءٌ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالفقِيرَا
يعني أنه من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر ، ويزيده - هنا - حُسْناً أنه في موضع تعظيم وتفخيم.
الخامس : أن تكون على حذف حرف الجر معمولة للفظ " الْحَكِيم " ، كأنه قيل : الحكيم بأن ، أي : الحاكم بأن ف " حَكِيم " مثال مبالغة ، مُحَوَّل من فاعل ، فهو كالعليم والخبير والبصير ، أي : المبالغ في هذه الأوصاف ، وإنما عَدَل عن لفظ " حاكم " إلى " حكيم " - مع زيادة المبالغة- ؛ لموافقة " الْعَزِيز " ، ومعنى المبالغة : تكرار حكمهِ - بالنسبة إلى الشرائع - أن الدينَ عند الله الإسلام ؛ إذْ حَكَم في كلّ شريعة بذلك ، قاله أبو حيّان ، ثم قال : فإن قلتَ : لم حَمَلْتَ " الْحَكِيم " على أنه مُحوَّل من " فاعل " إلى فعيل ؛ للمبالغة ، وهَلاَّ جعلته " فَعِيلا " ، بمعنى " مُفْعِل " فيكون معناه " الْمُحكِم " كما قالوا في " أليم " : إنه بمعنى " مُؤْلِم " وفي " سميع " من قول الشاعر : [ الوافر ]
1373- أمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعي السَّمِيع...............................
أي : المُسْمِع ؟
(12/66)
فالجوابُ : أنا لا نسلم أن " فَعِيلا " يأتي بمعنى " مفعل " ، وقد يؤول " أليم " و" سميع " على غير " مفعل " ، ولئن سلمنا ذلك ، فهو من الندور والشذوذ ، بحيث لا يَنْقاس ، [ وأما ] " فعيل " محوَّل من " فاعل " ؛ للمبالغة فهو منقاس ؛ كثير جداً ، خارج عن الحصر ، كعليم ، وسميع ، وقدير ، وخبير ، وحفيظ إلى ألفاظ لا تُحْصَى كَثْرَةً ، وأيضاً فإن العربيَّ الْقُحَّ ، الباقي على سجيته لم يفهم من " حكيم " إلا أنه محوَّل من " فاعل " ؛ للمبالغة ، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } [ المائدة : 38 ] والله غفور رحيم أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، فقيل له : التلاوة : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، فقال : هكذا يكون ، عَزَّ فَحَكَم فقط ، ففَهِم من " حكيم " أنه محوَّل - للمبالغة - من " حاكم " ، وفَهْم هذا العربيِّ حُجَّةٌ قاطعةٌ بما قلناه ، وهذا تخريج سَهْل ، سائغ جداً ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات التي يُنزّه كتابُ الله عنها ، وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل { إِنَّ الدِّينَ } معمولاً لِ " شَهِدَ " - كما فهموا - وأن { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراض - يعني بين الحال وصاحبها ، وبين معموله - بل نقول : معمول " شَهِدَ " هو " إنَّهُ " - بالكسر - على تخريج من خرج أن " شَهِدَ " - لما كان بمعنى القول - كسر ما بعده ؛ إجراءً له مُجْرَى القول.
(12/67)
أو نقول : إنه معموله ، وعلقت ، ولم تدخل اللام في الخبر ؛ لأنه منفي ، بخلاف ما لو كان مثبتاً فإنك تقول : شهدت إنَّ زيداً لَمُنْطَلِقٌ ، فتعلق بـ " إنَّ " مع وجود اللام ؛ لأنه لو لم تكن اللام لفتحت " إنَّ " ، فقلت : شهدت أنَّ زَيْداً منطلقٌ ، فمن قرأ بفتح " أنَّه " ، فإنه لم يَنْو التعليقَ ، ومن كسر فإنه نوى التعليق ، ولم تدخل اللام في الخبر ؛ لأنه منفي كما ذكرنا.
قال شهاب الدينِ : وكان الشيخ - لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية - قال ما نصه : " وأما قراءة ابن عباس فتخرج على أن { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } هو معمول " شَهِدَ " ويكون في الكلام اعتراضان :
أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف وهو { لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وإذا أعربنا { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } خبرَ مبتدأ محذوفٍ كان ذلك ثلاثة اعتراضات ، انظر هذه التوجيهات البعيدة ، التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظيرٍ من كلام العربِ ، وإنما حمل على ذلك العُجْمَةُ ، وعدمُ الإمعان في تراكيب كلام العربِ ، وحِفْظِ أشعارِها ".
قال شهاب الدينِ : " ونسبة كلامِ أعلام الأئمة إلى العجمة ، وعدم معرفتهم بكلام العرب ، وحملهم كلام الله على ما لا يجوز ، وأن هذا - الذي ذكره - هو تخريج سهل واضح ، غير مقبول ولا مُسَلَّم ، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناسُ ، وتلك الاعتراضات بين أثناء تلك الآيةِ الكريمةِ موجودٌ نظيرُها في كلامِ العربِ ، وكيف يجهل الفارسي والزمخشريُّ والفراءُ وأضرابهم ذلك ؟ وكيف يَتَبَجَّجُ باطِّلاعه على ما لم يَطلع عليه مثلُ هؤلاء ؟ وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرفُ مواقعَ النظم ، وهو المسلَّم له في علم المعاني والبيان والبديع ، ولا يَشُك أحد أنه لا بد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرفَ جملةً صالحةً من هذه العلوم ".
قوله : { عِنْدَ الله } ظرف ، العامل فيه لفظ " الدِّين " ؛ ملا تضمنه من معنى الفعل.
(12/68)
قال أبو البقاء : " ولا يكون حالاً ؛ لأن " إنَّ " لا تعمل في الحال ".
قال شهاب الدين : قد جوز في " ليت " وفي " كأن " أن تعمل في الحال ".
قالوا : لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه ، ف " إن " للتأكيد ، فلْتَعْمَل في الحال - أيضاً - فليست تتباعد عن " الهاء " التي للتنبيه.
قيل : هي أولى منها ، وذلك أنها عاملة ، و" هاء " ليست بعاملة ، فهي أقرب لشبه الفعل من هاء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 101 ـ 105}
قال ابن كثير :
قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين ، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته ، فليس بمتقبل. كما قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ]} [آل عمران : 85 ] وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ }
وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } بكسر إنه وفتح { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } أي : شهد هو وملائكته وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام. والجمهور قرأوها بالكسر على الخبر ، وكلا المعنيين صحيح. ولكن هذا على قول الجمهور أظهر والله أعلم. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 25}
فصل
قال الفخر : (12/69)
أصل الدين في اللغة الجزاء ، ثم الطاعة تسمى ديناً لأنها سبب الجزاء ، وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة أوجه الأول : أنه عبارة عن الدخول في الإسلام أي في الانقياد والمتابعة ، قال تعالى : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام} [ النساء : 94 ] أي لمن صار منقاداً لكم ومتابعاً لكم والثاني : من أسلم أي دخل في السلم ، كقولهم : أسنى وأقحط وأصل السلم السلامة الثالث : قال ابن الأنباري : المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم : سلم الشيء لفلان ، أي خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى ، هذا ما يتعلق بتفسير لفظ الإسلام في أصل اللغة ، أما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان ، والدليل عليه وجهان الأول : هذه الآية فإن قوله {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} يقتضي أن يكون الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام ، فلو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله ، ولا شك في أنه باطل الثاني : قوله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [ آل عمران : 85 ] فلو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله تعالى.
فإن قيل : قوله تعالى : {قَالَتِ الأعراب ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} [ الحجرات : 14 ] هذا صريح في أن الإسلام مغاير للإيمان.(12/70)
قلنا : الإسلام عبارة عن الانقياد في أصل اللغة على ما بينا ، والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف ، فلا جرم كان الإسلام حاصلاً في حكم الظاهر ، والإيمان كان أيضاً حاصلاً في حكم الظاهر ، لأنه تعالى قال : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [ البقرة : 221 ] والإيمان الذي يمكن إدارة الحكم عليه هو الإقرار الظاهر ، فعلى هذا الإسلام والإيمان تارة يعتبران في الظاهر ، وتارة في الحقيقة ، والمنافق حصل له الإسلام الظاهر ، ولم يحصل له الإسلام الباطن ، لأن باطنه غير منقاد لدين الله ، فكان تقدير الآية : لم تسلموا في القلب والباطن ، ولكن قولوا : أسلمنا في الظاهر ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 181}
وقال ابن عاشور :
والدين : حقيقته في الأصل الجزاء ، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على : مجموع عقائد وأعمال يلقنها رسول من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب. ثم أطلق على ما يشبه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتلتزمه طائفة من الناس. وسمي الدين دينا لأنه يترقب منه متبعه الجزاء عاجلا أو آجلا ، فما من أهل دين إلا وهم يترقبون جزاء من رب ذلك الدين ، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاههم عنهم ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقال أبو سفيان يوم أحد : أعل هبل. وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس : أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله : لقد علمت أن لو كان معه إله غيره لقد أغنى عني شيئا. وأهل الأديان الإلهية يترقبون الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة ، فأول دين إلهي كان حقا وبه كان اهتداء الإنسان ، ثم طرأت الأديان المكذوبة ، وتشبهت بالأديان الصحيحة ، قال الله تعالى تعليما لرسوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون : 6] وقال {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف : 76].
(12/71)
وقد عرف العلماء الدين الصحيح بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير باطنا وظاهرا.
والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أطلق على ذلك الإيمان أيضا ، ولذلك لقب أتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين ، وهو الإطلاق المراد به هنا ، وهو تسمية بمصدر أسلم إذا أذعن ولم يعاند إذعانان عن اعتراف بحق لا عن عجز ، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان ؛ لأن الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق ، واطراح كل حائل يحول دون ذلك ، بخلاف الإيمان فإنه اعتقاد قلبي ، ولذلك قال الله تعالى {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج : 78] وقال {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران : 20] ولأن الإسلام لا يكون إلا عن اعتقاد لأن الفعل أثر الإدراك ، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة.
وربما أطلق الإسلام على خصوص الأعمال ؛ والإيمان على الاعتقاد ، وهو إطلاق مناسب لحالتي التفكيك بين الأمرين في الواقع ، كما في قوله تعالى ، خطابا لقوم أسلموا مترددين {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات : 14] ، أو التفكيك في تصوير الماهية عند التعليم لحقائق المعاني الشرعية أو اللغوية كما وقع في حديث جبريل : من ذكر معنى الإيمان ، والإسلام ، والإحسان.
والتعريف في الدين تعريف الجنس ، إذ لا يستقيم معنى العهد الخارجي هنا وتعريف الإسلام تعريف العلم بالغلبة : لأن الإسلام صار علما بالغلبة على الدين المحمدي.
فقوله : {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} صيغة حصر ، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه ، وهو الدين ، في المسند ، وهو الإسلام ، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة ، أي لا دين إلا الإسلام ، وقد أكد هذا الانحصار بحرف التوكيد.(12/72)
وقوله : {عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ} وصف للدين ، والعندية عندية الاعتبار والاعتناء وليست عندية علم : فأفاد ، أن الدين الصحيح هو الإسلام ، فيكون قصرا للمسند إليه باعتبار قيد فيه ، لا في جميع اعتباراته : نظير قول الخنساء :
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
فحصرت الحسن في بكائه قاعدة أن المقصور هو الحسن لأنه هو المعرف باللام ، وهذا الحصر باعتبار التقييد بوقت قبح البكاء على القتلى وهو قصر حسن بكائها على ذلك الوقت ، ليكون لبكائها على صخر مزية زائدة على بكاء القتلى المتعارف وإن أبى اعتبار القصر في البيت أصلا صاحب المطول.
وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول : إما باعتبار أن الدين الصحيح عند الله ، حين الإخبار ، وهو الإسلام ، لأن الخبر ينظر إلى وقت الإخبار ؛ إذ الأخبار كلها حقائق في الحال ، ولا شك أن وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام ؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلهية ، من خلط الفاسد بالصحيح ، ما اختل لأجله مجموع الدين ، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور ؛ إذ لا أكمل من هذا الدين ، وما تقدمه من الأديان لم يكن بالغا غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم ، وهذا المعنى أولى محملي الآية ، لأن مفاده أعم ، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام تجاه بقية الأديان الإلهية أتم.(12/73)
ذلك أن مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل ، ليس مجرد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوق لدقائق تراكيبه ، بل مراد الله تعالى مما شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه ، ولما كان المراد من ذلك هو العمل ، فجعل الله الشرائع مناسبة لقابيليات المخاطبين بها ، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم ، ليتمكنوا من العمل بها بدوام وانتظام ، فلذلك كان المقصود من التدين أن يكون ذلك التعليم الديني دأبا وعادة لمنتحليه ، وحيث النفوس لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتفق مع مدركاتها ، لا جرم تعين مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان ، ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة.
وقد كانت أحوال الجماعات البشرية ، في أول عهود الحضارة ، حالات عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة ، ائتلفت رويدا على حسب دواعي الحاجات ، وما تلك الدواعي ، التي تسببت في ائتلاف تلك العوائد ، إلا دواع غير منتشرة ؛ لأنها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته ، ودفع الآلام عنه ، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتصال به ، وتحسين حاله ، فبذلك ائتلف نظام الفرد ، ثم نظام العائلة ، ثم نظام العشيرة ، وهاته النظم المتقابسة هي نظم متساوية الأشكال ؛ إذ كلها لا يعدو حفظ الحياة ، بالغذاء والدفاع عن النفس ، ودفع الآلام بالكساء والمسكن والزواج ، والانتصار للعائلة وللقبيلة ؛ لأن بها الاعتزاز ، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك ، بإعداد المعدات : وهو التعاوض والتعامل ، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة ، وبذلك لم يكن لأحد الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى ، فضلا عن التفكير في اقتباس إحداهما مما يجري لدى غيرها ، وتلك حالة قناعة العيش ، وقصور الهمة وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عد الناس أنفسهم في منتهى السعادة.(12/74)
وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصل ، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب ، حائلا عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض ، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين : عدم الداعي ، وانسداد وسائل الصدفة ، اللهم إلا ما يعرض من وفادة وافد ، أو اختلاط في نجعة أو موسم ، على أن ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان ، فيصبح في خبر كان.
فكيف يرجى من أقوام ، هذه حالهم ، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم ، ومتقارب تصور عقولهم ، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر ، فأحسن من سوء الطاعة حرق الجمر ، لذلك لم تتعلق حكمة الله تعالى ، في قديم العصور ، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر ، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معينين ؛ وفي حديث مسلم ، في صفة عرض الأمم للحساب أن رسول الله قال : "فيجيء النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد" وفي رواية البخاري "فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط" الحديث. وبقي الحق في خلال ذلك مشاعا بين الأمم ، ففي كل أمة تجد سدادا وأفنا ، وبعض الحق لم يزل مخبوءا لم يسفر عنه البيان.
ثم أخذ البشر يتعارفون بسبب الفتوح والهجرة ، وتقاتلت الأمم المتقاربة المنازل ، فحصل للأمم حظ من الحضارة ، وتقاربت العوائد ، وتوسعت معلوماتهم ، وحضارتهم ، فكانت من الشرائع الإلهية : شريعة إبراهيم عليه السلام ، ومن غيرها شريعة حمورابي في العراق ، وشريعة البراهمة ، وشريعة المصريين ، التي ذكرها الله تعالى في قوله {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف : 76].
ثم أعقبتها شريعة إلهية كبرى وهي شريعة موسى عليه السلام التي اختلط أهلها بأمم كثيرة في مسيرهم في التيه وما بعده ، وجاورتها أو أعقبتها شرائع مثل شريعة زرادشت في الفرس ، وشريعة كنفشيوس في الصين ، وشريعة سولون في اليونان.(12/75)
وفي هذه العصور كلها لم تكن إحدى الشرائع عامة الدعوة ، وهذه أكبر الشرائع وهي الموسوية لم تدع غير بني إسرائيل ولم تدع الأمم الأخرى التي مرت عليها ، وامتزجت بها ، وصاهرتها ، وكذلك جاءت المسيحية مقصورة على دعوة بني إسرائيل حتى دعا الناس إليها القديس بولس بعد المسيح بنحو ثلاثين سنة.
إلى أن كان في القرن الرابع بعد المسيح حصول تقابس وتمازج بين أصناف البشر في الأخلاق والعائد ، بسببين : اضطراري ، واختياري. أما الاضطراري فذلك أنه قد ترامت الأمم بعضها على بعض ، واتجه أهل الشرق إلى الغرب ، وأهل الغرب إلى الشرق ، بالفتوح العظيمة الواقعة بين الفرس والروم ، وهما يومئذ قطبا العالم ، بما يتبع كل واحدة من أمم تنتمي إلى سلطانها ، فكانت الحرب سجالا بين الفريقين ، وتوالت أزمانا طويلة.
وأما الاختياري فهو ما أبقاه ذلك التمازج من مشاهدة أخلاق وعوائد ، حسنت في أعين رائيها ، فاقتبسوها ، وأشياء قبحت في أعينهم ، فحذروها ، وفي كلتا الحالتين نشأت يقظة جديدة ، وتأسست مدنيات متفننة ، وتهيأت الأفكار إلى قبول التغييرات القوية ، فتهيأت جميع الأمم إلى قبول التعاليم الغريبة عن عوائدها وأحوالها ، وتساوت الأمم وتقاربت في هذا المقدار ، وإن تفاوتت في الحضارة والعلوم تفاوتا ربما كان منه ما زاد بعضها تهيئوا لقبول التعاليم الصحيحة ، وقهقر بعضا عن ذلك بما داخلها من الإعجاب بمبلغ علمها ، أو العكوف والإلف على حضارتها.
فبلغ الأجل المراد والمعين لمجيء الشريعة الحق الخاتمة العامة.(12/76)
فأظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره ، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبق لها سابقة سلطان ، ولا كانت ذات سيادة يومئذ على شيء من جهات الأرض ، ولكنها أمة سلمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية ، لتكون أقرب إلى قبول الحق ، وأظهر هذا الدين بواسطة رجل منها ، لم يكن من أهل العلم ، ولا من أهل الدولة ، ولا من ذرية ملوك ، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة ، ليكون ظهور هذا الحق الصريح ، والعلم الصحيح ، من مثله آية على أن ذلك وحي من الله نفح به عباده.
ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم ، حتى الأمة التي ظهر بينها ، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها ، وكانت أصوله مبنية على الفطرة بمعنى ألا تكون ناظرة إلا إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم ، غير مأسور للعوائد ولا للمذاهب ، قال تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم : 30] قال الشيخ أبو علي ابن سينا : "الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعه وهو عاقل ، لم يسمع رأيا ، ولم يعتقد مذهبا ، ولم يعاشر أمة ، لكنه شاهد المحسوسات ، ثم يعرض على ذهنه الأشياء شيئا فشيئا فإن أمكنه الشك في شيء فالفطرة لا تشهد به ، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه ، وليس كل ما توجبه الفطرة بصادق ، بل الصادق منه ما تشهد به فطرة القوة التي تسمى عقلا ، قبل أن يعترضه الوهم".
ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر ، وارتاضت نفوسهم بها ، إذا كانت تفيدهم كمالا ، ولا تفضي إلى فساد ، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاص. فبهذا الأصل : أصل الفطرة كان الإسلام دينا صالحا لجميع الأمم في جميع الأعصر.
ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمة له ومهيئة جميع الناس لقبوله.(12/77)
المظهر الأول : إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقاد لا يشوبه تردد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات ، ثم بكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم ، وعلى الاعتراف باتصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختيارا ، ثم لتصير تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلق بها ثم بحمل جميع الناس على تطهير عقائدهم حتى يتحد مبدأ التخلق فيهم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران : 64].
وكان إصلاح الاعتقاد أهم ما ابتدأ به الإسلام ، وأكثر ما تعرض له ؛ وذلك لأن إصلاح الفكرة هو مبدأ كل إصلاح ؛ ولأنه لا يرجى صلاح لقوم تلطخت عقولهم بالعقائد الضالة ، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة ، خوفا من لا شيء ، وطمعا في غير شيء. وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي ؛ لأن المرء إنسان بروحه لا بجسمه.
ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي : عزة النفس ، وأصالة الرأي ، وحرية العقل ، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل.
وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثارا لا يشبهه فيد دين آخر ، بل إنك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة ، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلا قليلا.
المظهر الثاني : جمعه بين إصلاح النفوس ، بالتزكية ، وبين إصلاح نظام الحياة ، بالتشريع ، في حين كان معظم الأديان لا يتطرق إلى نظام الحياة بشيء ، وبعضها وإن تطرق إليه إلا أنه لم يوفه حقه ، بل كان معظم اهتمامها منصرفا إلى المواعظ والعبادات ، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية قال تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل : 97].(12/78)
والمظهر الثالث : اختصاصه بإقامة الحجة ، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات ، وتعليل أحكامه ، بالترغيب وبالترهيب ، وذلك رعي لمراتب نفوس المخاطبين ، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلا بالحجة والدليل ، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلا بالجدل والخطابة ، ومنهم المترهب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله ، ومنهم المكابر المعاند ، الذي لا يقلعه عن شغبه إلا القوارع والزواجر.
المظهر الرابع : أنه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر ، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط ، وقي القرآن {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف : 158] وفي الحديث الصحيح : "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي فذكر وكان الرسول يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" وقد ذكر الله تعالى الرسل كلهم فذكر أنه أرسلهم إلى أقوامهم.
والاختلاف في كون نوح رسولا إلى جميع أهل الأرض ، إنما هو مبني : على أنه بعد الطوفان انحصر أهل الأرض في أتباع نوح ، عند القائلين بعموم الطوفان سائر الأرض ، ألا ترى قوله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف : 59] وأياما كان احتمال كون سكان الأرض في عصر نوح هم من ضمهم وطن نوح ؛ فإن عموم دعوته حاصل غير مقصود.
المظهر الرابع : الدوام ولم يدع رسول من الرسل أن شريعته دائمة ، بل ما من رسول ، ولا كتاب ، إلا تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده.
المظهر الخامس : الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويترك التفريع لاستنباط المجتهدين وقد بين ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام : 38] لتكون الأحكام صالحة لكل زمان.(12/79)
المظهر السادس : أن المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها ، وفي أصول الأخلاق أن التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها خواطر الشرور ؛ لأن الشرور ، إذا تسربت إلى النفوس ، تعذر أو عسر اقتلاعها منها ، وكانت الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة ، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين : طريقة مباشرة ، وطريقة سد الذرائع الموصلة إلى الفساد ، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس".
المظهر السابع : الرأفه بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على موع المصلحة ، مع تطلب إبراز ذلك التشريع في صورة لينة ، وفي القرآن {يُُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة : 185] وفي الحديث الصحيح : "بعثت بالحنفية السمحة ولن يشاد هذا الدين أحدا إلا غلبه" وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدة ، فلذلك لم تكن صالحة للبقاء ؛ لأنها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة ، ولم تكن بالتي يناسبها ما قدر مصير البشر إليه من رقة الطباع وارتقاء الأفهام.
المظهر الثامن : امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام ، وذلك من خصائصه ؛ إذ لا معنى للتشريع إلا تأسيس قانون للأمة ، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة. وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة ، واتحاد الأمة في العمل والنظام.
المظهر التاسع : صراحة أصول الدين ، بحيث يتكرر في القرآن ما تستقرى منه قواطع الشريعة ، حتى تكون الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة ، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 46 ـ 53}
قوله تعالى : {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ}
قال القرطبى : (12/80)
قوله تعالى : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب } الآية.
أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علمٍ منهم بالحقائق ، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا.
قاله ابن عمر وغيره.
وفي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم ، قاله الأخفش.
قال محمد ابن جعفر بن الزبير : المراد بهذه الآية النصارى ، وهو توبيخ لنصارى نَجْرَانَ.
وقال الربيع بن أنس : المراد بها اليهود.
ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعمّ اليهود والنصارى ؛ أي "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب" يعني في نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم "إلاّ مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ" يعني بيان صفته ونبوَّته في كتبهم.
وقيل : أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل في أمر عيسى وفرّقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد ، وأن عيسى عبد الله ورسوله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 44}
قال الماوردى :
وفيما اختلفوا فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : في أديانهم بعد العلم بصحتها.
والثاني : في عيسى وما قالوه فيه من غلو وإسراف.
والثالث : في دين الإِسلام. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 380}
فصل
قال الفخر :
الغرض من الآية بيان أن الله تعالى أوضح الدلائل ، وأزال الشبهات والقوم ما كفروا إلا لأجل التقصير ، فقوله {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} فيه وجوه : (12/81)
الأول : المراد بهم اليهود ، واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قربت وفاته سلم التوراة إلى سبعين حبراً ، وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع ، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين من بعد ما جاءهم العلم في التوراة بغياً بينهم ، وتحاسدوا في طلب الدنيا والثاني : المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم بأنه عبد الله ورسوله والثالث : المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله وأنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : نحن أحق بالنبوّة من قريش ، لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 182}
وقال السمرقندى :
{ وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب } في هذا الدين { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ } يعني بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم اليهود والنصارى ، فلما بعث الله تعالى محمداً ، كفروا حسداً منهم ، هكذا قال مقاتل.
ويقال : إنهم كانوا مسلمين ، وكانا يسمّون بذلك ، وكان عيسى عليه السلام سمى أصحابه مسلمين ، فحسدتهم اليهود لمشاركتهم في الاسم فغيَّروا ذلك الاسم ، وسُمُّوا يهوداً ، وأما النصارى فغيرهم عن ذلك الاسم بولس ، وسماهم نصارى ، فذلك قوله : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ } يعني غَيّروا الاسم حسداً منهم. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 226}
قال الفخر :
قوله {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} المراد منه إلا من بعد ما جاءتهم الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم ، لأنا لو حملناه على العلم لصاروا معاندين والعناد على الجمع العظيم لا يصح ، وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب وهم جمع عظيم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 182}
فصل
قال الفخر : (12/82)
في انتصاب قوله {بَغِيّاً} وجهان الأول : قول الأخفش إنه انتصب على أنه مفعول له أي للبغي كقولك : جئتك طلب الخير ومنع الشر والثاني : قول الزجاج إنه انتصب على المصدر من طريق المعنى ، فإن قوله {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} قائم مقام قوله : وما بغى الذين أوتوا الكتاب فجعل {بَغِيّاً} مصدراً ، والفرق بين المفعول له وبين المصدر أن المفعول له غرض للفعل ، وأما المصدر فهو المفعول المطلق الذي أحدثه الفاعل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 182}
فائدة
قال الفخر :
قال الأخفش قوله {بَغْياً بَيْنَهُمْ} من صلة قوله {اختلف} والمعنى : وما اختلفوا بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ، وقال غيره : المعنى وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم إلا للبغي بينهم ، فيكون هذا إخباراً عن أنهم إنما اختلفوا للبغي ، وقال القفال : وهذا أجود من الأول ، لأن الأول : يوهم أنهم اختلفوا بسبب ما جاءهم من العلم ، والثاني : يفيد أنهم إنما اختلفوا لأجل الحسد والبغي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 182}
قال البيضاوى :
{ بَغْياً بَيْنَهُمْ } حسداً بينهم وطلباً للرئاسة ، لا لشبهة وخفاء في الأمر. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 19}(12/83)
وقال الآلوسى :
{ وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب } قيل : المراد بهم اليهود واختلفوا فيما عهد إليهم موسى عليه الصلاة والسلام ، أخرج ابن جرير عن الربيع قال : "إن موسى عليه الصلاة والسلام لما حضره الموت دعا سبعين حبراً من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا العلم من أبناء السبعين حتى أهراقوا بينهم الدماء ووقع الشر طلباً لسلطان الدنيا وملكها وخزائنها وزخرفها فسلط الله تعالى عليهم جبابرتهم" ، وقيل : النصارى واختلفوا في التوحيد ، وقيل : المراد بالموصول اليهود والنصارى ، وبالكتاب الجنس واختلفوا في التوحيد ، وقيل : في نبوته صلى الله عليه وسلم ، وقيل : في الإيمان بالأنبياء ، والظاهر أن المراد من الموصول ما يعم الفريقين ، والذي اختلفوا فيه الإسلام كما يشعر به السياق والتعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح.(12/84)
وقوله تعالى : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القباحة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات ، والمراد من مجيء العلم التمكن منه لسطوع براهينه ، أو المراد منه حصول العلم بحقيقة الأمر لهم بالفعل ولم يقل علموا مع أنه أخصر إشارة إلى أنه علم بسبب الوحي ، وقوله سبحانه : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } زيادة تشنيع ، والاسم المنصوب مفعول له لما دل عليه { مَا } و{ إِلا } من ثبوت الاختلاف بعد مجيء العلم كما تقول ما ضربت إلا ابني تأديباً ، فلا دلالة للكلام على حصر الباعث ، وادعاه بعضهم أي إن الباعث لهم على الاختلاف هو البغي والحسد لا الشبهة وخفاء الأمر ، ولعل انفهام ذلك من المقام أو من الكلام بناءاً على جواز تعدد الاستثناء المفرغ أي ما اختلفوا في وقت لغرض إلا بعد العلم لغرض البغي كما تقول : ما ضرب إلا زيد عمراً أي ما ضرب أحداً إلا زيد عمراً. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 107}
وقال ابن عاشور :
{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
عطف {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} على قوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقيهم لدين الإسلام ، ومن سوء فهمهم في دينهم.
وجيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال ؛ إذ قد جيء بصيغة الحصر : لبيان سبب اختلافهم ، وكأن اختلافهم أمر معلوم للسامع. وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخبارا يتضمن بيان سببه ، وإبطال ما يتراءى من الأسباب غير ذلك ، مع إظهار المقابلة بين حال الدين الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف ، وبين سلامة الإسلام من ذلك.(12/85)
وذلك أن قوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} قد آذن بأن غيره من الأديان لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم ، والدوام ، قبل التغيير ، بله ما طرأ عليها من التغيير ، وسوء التأويل ، إلى يوم مجيء الإسلام ، ليعلم السامعون أن ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنه وقع فيه التغيير والاختلاف ، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعدما جاءهم العلم ، مع التنبيه على أن سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم ، ومن جملة ما بدلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وفيه تنبيه على أن الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف ، كما تقدم في المظهر التاسع ، ومن ثم ذم علماؤنا التأويلات البعيدة ، والتي لم يدع إليها داع صريح.
وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معان : منها التحذير من الاختلاف في الدين ، أي في أصوله ، ووجوب تطلب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين ، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف.
ومنها للتنبيه على أن اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق ، فهو تعريض بأنهم أساءوا فهم الدين.
ومنها الإشارة إلى أن الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان : أحدهما اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة : 113] ، وثانيهما اختلاف كل أمة منهما فيما بينها وافتراقها فرقا متباينة المنازع. كما جاء في الحديث اختلفت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة يحذر المسلمين مما صنعوا.
ومنها أن اختلافهم ناشئ عن بغي بعضهم على بعض.(12/86)
ومنها أنهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراض عنه بغيا منهم وحسدا ، مع ظهور أحقيته عند علمائهم وأحبارهم كما قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [ البقرة : 146-147] وقال تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة : 109] أي أعرضوا عن الإسلام ، وصمموا على البقاء على دينهم ، وودوا لو يردونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم ، حسدا على ما جاءكم من الهدى بعد أن تبين لهم أنه الحق.
ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني ، حذف متعلق الاختلاف في قوله {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ليشمل كل اختلاف منهم : من مخالفة بعضهم بعضا في الدين الواحد ، ومخالفة أهل كل دين لأهل الدين الآخر ، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحة الدين.
وحذف متعلق العلم في قوله {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} لذلك.
وجعل بغيا عقب قوله من بعد ما جاءهم العلم ليتنازعه كل من فعل اختلف ومن لفظ العلم.
وأخر بينهم عن جميع ما يصلح للتعليق به : ليتنازعه كل من فعل اختلف وفعل جاءهم ولفظ العلم ولفظ بغيا.
وبذلك تعلم أن معنى هذه الآية أوسع معاني من معاني قوله تعالى {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} في سورة البقرة[213] وقوله {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} في سورة البينة [4] كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين.(12/87)
فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم : أي اختلاف أهل كل ملة في أمور دينهم ، وهذا هو الذي تشعر بها صيغة اختلف كاختلاف اليهود بعد موسى غير مرة ، واختلافهم بعد سليمان إلى مملكتين : مملكة إسرائيل ، ومملكة يهوذا ، وكيف صار لكل مملكة من المملكتين تدين يخالف تدين الأخرى ، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح ، وفي رسوم الدين ، ويكون قوله بينهم حالا لبغيا : أي بغيا متفشيا بينهم ، بأن بغى كل فريق على الآخر.
ويشمل أيضا الاختلاف بينهم في أمر الإسلام ؛ إذ قال قائل منهم : هو حق ، وقال فريق : هو مرسل إلى الأميين ، وكفر فريق ، ونافق فريق. وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} ، ويكون قوله {بَيْنَهُمْ} على هذا وصفا لبغيا : أي بغيا واقعا بينهم.
ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤهم ؛ لأن كلمة جاء مؤذنة بعلم متلقى من الله تعالى ، يعني أن العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدهم عن الاختلاف في المراد ، إلا أنهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى.
وانتصب {بَغْياً} على أنه مفعول لأجله ، وعامل المفعول لأجله : هو الفعل الذي تفرغ للعمل فيما بعد حرف الاستثناء فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة والتقدير : ما اختفلوا إلا في زمن بعدما جاءهم العلم وما كان إلا بغيا بينهم. ولك أن تجعل بغيا منصوبا على الحال من الذين أوتوا الكتاب ، وهو إن كان العامل فيه فعلا منفيا في اللفظ إلا إن الاستثناء المفرغ جعله في قوة المثبت ، فجاء الحال منه عقب ذلك ، أي حال كون المختلفين باغين ، فالمصدر مؤول بالمشتق. ويجوز أن تجعله مفعولا لأجله من اختلف باعتبار كونه صار مثبتا كما قررنا.(12/88)
وقد لمحت الآية إلى أن هذا الاختلاف والبغي كفر ؛ لأنه أفضي بهم إلى نقض قواعد أديانهم ، وإلى نكران دين الإسلام ، ولذلك ذيله بقوله : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 53 ـ 56}
قوله تعالى : {وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}
قال الفخر :
هذا تهديد ، وفيه وجهان :
الأول : المعنى فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً فيحاسبه أي يجزيه على كفره
والثاني : أن الله تعالى سيعلمه بأعماله ومعاصيه وأنواع كفره بإحصاء سريع مع كثرة الأعمال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 182}
وقال السمرقندى :
وقوله : { سَرِيعُ الحساب } يعني سريع المجازاة ويقال سريع التعريف للعامل عمله ، لأنه عالم بجميع ما عملوا ، لا يحتاج إلى إثبات شيء ، وتذكر شيء.
ويقال : إذا حاسب ، فحسابه سريع يحاسب جميع الخلق في وقت واحد ، كل واحد منهم يظن أنه يحاسبه خاصة. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 226}
وقال الآلوسى :
{ وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله } قيل : المراد بها حججه ، وقيل : التوراة ، وقيل : هي والإنجيل ، وقيل : القرآن ، وقيل : آياته الناطقة بأن الدين عند الله الإسلام ، والظاهر العموم أي أية آية كانت ، والمراد بمن أيضاً أعم من المختلفين المذكورين وغيرهم ولك أن تخصه بهم { فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } قائم مقام جواب الشرط علة له أي ومن يكفر يعاقبه الله تعالى ويجازه عن قريب فإنه سريع الحساب أي يأتي حسابه عن قريب أو يتم ذلك بسرعة ، وقيل : إن سرعة الحساب تقتضي إحاطة العلم والقدرة فتفيد الجملة الوعيد ، وباعتباره ينتظم الشرط والجزاء من غير حاجة إلى تقدير ، ولعله أولى وأدق نظراً. وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة وإدخال الروعة ، وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفر إثر بيان حال أولئك المذكورين إيذان بشدّة عقابهم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 107}
فائدة
قال ابن عاشور : (12/89)
وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك ، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلا اختلافا علميا فرعيا ، ولم يختلفوا اختلافا ينقض أصول دينهم بل غاية الكل الوصول إلى الحق من الدين ، وخدمة مقاصد الشريعة. فبنوا إسرائيل عبدوا العجل والرسول بين ظهرانيهم ، وعبدوا آلهة الأمم غير مرة ، والنصارى عبدوا مريم والمسيح ، ونقضوا أصول التوحيد ، وادعوا حلول الخالق في المخلوق. فأما المسلمون لما قال أحد أهل التصوف منهم كلاما يوهم الحلول حكم علماؤهم بقتله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 56}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { إنَّ الدّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ }.
الدِّينُ الذي يرتضيه ، والذي حكم لصاحبه بأنه يجازيه ويعليه ، وبالفضل يُلَقِّيه - هو الإِسلام.
والإسلام هو الإخلاص والاستسلام ، وما سواه فمردود ، وطريق النجاة على صاحبه مسدود.
قوله جلّ ذكره : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ }.
جاءهم العلم الذي عليهم حجة ، لا المعرفة التي لها بيان ومحجة ، فأصروا على الجحود ، لأنهم حُجِبُوا عن محل الشهود. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 228}(12/90)
قوله تعالى { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تم ذلك كان كأنه قيل : قد جئناك بالأمر الواضح الذي لا يشكون فيه {فإن حاجّوك} بعده في شيء مما تضمنه وهدى إليه ودل صريحاً أو تلويحاً عليه فاعلم أن جدالهم عن عناد مع العلم بحقيقة الحال {فقل} أي فأعرض عنهم إلى أن آمرك بالقتال ، لأن من الواجبات - كما تقرر في آداب البحث - الإعراض عمن كابر في المحسوس ، وقل أنت عملاً بالآية السالفة : {أسلمت وجهي} أي أخلصت قصدي وتوجهي ، وانقدت غاية الانقياد {لله} الملك الأعظم الذي له الأمر كله ، فلا كفوء له.
قال الحرالي : ولما أدرج تعالى شهادة الملائكة وأولي العلم في شهادته لقن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدرج من اتبعه في إسلامه وجهه لله ليكون إسلامهم بإسلام نبيهم صلى الله عليه وسلم لا بإسلام أنفسهم ، لتلحق التابعة من الأمة بالأئمة ، وذلك حال الفرقة الناجية مؤثرة الفرق الاثنين والسبعين التي قال النبي صلى الله عليه وسلم " وما أنا عليه " فيما أوتي من اليقين " وأصحابي " فيما أوتوه من الانقياد وبراءتهم من الرجوع إلى أنفسهم في أمر ، كما كانوا يقولون عند كل ناشئة علم أو أمر : الله ورسوله أعلم ، فمن دخل برأيه في أمر نقص حظه من الاتباع بحسب استبداده - انتهى.
فقال تعالى عاطفاً على الضمير المرفوع المتصل لأجل الفعل : {ومن} أي وأسلم من {اتبعن} وجوههم له سبحانه وتعالى.(12/91)
ولما كان المكمل لنفسه يجب عليه السعي في إكمال غيره أعلمه بذلك في قوله : {وقل} تهديداً وتعجيزاً وتبكيتاً وتقريعاً {للذين أوتوا الكتاب} أي عامة من هؤلاء النصارى الذين يجادلونك ومن اليهود أيضاً {والأمّيّن} الذين لا كتاب لهم ، مشيراً بالاستفهام إلى عنادهم منكراً عليهم موبخاً لهم : {ءأسلمتم فإن أسلموا} عند ذلك {فقد اهتدوا} فنفعوا أنفسهم في الدنيا والآخرة ، وفي صيغة " افتعلوا " ما يليح إلى أن الأنفس مائلة إلى الضلال زائغة عن طريق الكمال {وإن تولوا} أي عن الإسلام فهم معاندون فلا يهمنك أمرهم {فإنما عليك البلاغ} أي وعليهم وبال توليهم ، وفي بنية التفعل ما يومىء إلى أن طرق الهدى بعد البيان آخذ محاسنها بمجامع القلوب ، وأن الصادف عنها بعد ذلك قاهر لظاهر عقله وقويم فطرته الأولى برجاسة نفسه واعوجاج طبعه.
ولما كان التقدير : فالله يوفق لقبول البلاغ عنك من علم فيه الخير ، وينكب عنه من علم فيه الشر ، عطف عليه قوله : {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {بصير بالعباد} أي فهو يوفق من خلقه للخير منهم ويخذل غيره.
لا يقدر على فعل ذلك غيره ، ولا يقدر أحد غيره أن يفعل غير ذلك. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 46 ـ 47}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ، وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بيّن الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم ، فقال : {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن} وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان : (12/92)
الطريق الأول : أن هذا إعراض عن المحاجة ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مراراً وأطواراً ، فإن هذه السورة مدنيّة ، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن ، ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها ، وأيضاً قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه ، فأولها : أنه تعالى ذكر الحجة بقوله {الحى القيوم} على فساد قول النصارى في إلهية عيسى عليه السلام وبقوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} [ آل عمران : 3 ] على صحة النبوّة ، وذكر شبه القوم ، وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم ، ثم ذكر لهم معجزة أخرى ، وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى : {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا} [ آل عمران : 13 ] ثم بيّن صحة القول بالتوحيد ، ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} [ آل عمران : 18 ] ثم بيّن تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق ، واختلافهم في الدين ، إنما كان لأجل البغي والحسد ، وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين ، فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل ، فبعد هذا قال : {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن} يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل ، وإيضاح البينات ، فإن تركتم الأنف والحسد ، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين ، وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم ، وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام ، فإن المحق إذا ابتلى بالمبطل اللجوج ، وأورد عليه الحجة حالاً بعد حال ، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق ، مستسلمون له ، مقبلون على عبودية الله تعالى ، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم ، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد(12/93)
، فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه.
الطريق الثاني : وهو أن نقول : إن قوله {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ} محاجة ، وإظهار للدليل ، وبيانه من وجوه :
الوجه الأول : أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع ، وكونه مستحقاً للعبادة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم : هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الاثبات ، فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى يدعون إلهية عيسى ، والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طااعة الله تعالى وعبوديته ، وهذا القدر متفق عليه ، ونظيره هذه الآية قوله تعالى : {قل يا أهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [ آل عمران : 64 ].(12/94)
والوجه الثاني : في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، والإقرار بأنه كان محقاً في قوله صادقاً في دينه ، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام ، فأمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال : {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} [ النحل : 123 ] ثم إنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال : {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السموات والأرض} [ الأنعام : 79 ] فقول محمد صلى الله عليه وسلم : {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ} كقول إبراهيم عليه السلام {وَجَّهْتُ وَجْهِىَ} أي اعترضت عن كل معبود سوى الله تعالى ، وقصدته بالعبادة وأخلصت له ، فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم ، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة ، بعيدة عن كل شبهة وتهمة ، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات ، وداخلاً تحت قوله {وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [ النحل : 125 ].
والوجه الثالث : في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتابة هذا الموضع ، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير ، ثم قال : {فَإنْ حَاجُّوكَ} يعني فإن نازعوك في قولك {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} [ آل عمران : 19 ] فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية ، فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته ، ولا أشرك به غيره ، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام ، وهذا الوجه يناسب الآية.
(12/95)
الوجه الرابع : في كيفية الاستدلال ، ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً} [ مريم : 42 ] يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعاً ضاراً ، ويكون أمري في يديه ، وحكمي في قبضة قدرته ، فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادراً على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له ، وأن انقاد له ، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير ، والشر ، والنفع ، والضر ، والتدبير ، والتقدير. الوجه الخامس : يحتمل أيضاً أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين} [ البقرة : 131 ] وهذا مروي عن ابن عباس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 183 ـ 184}
قال الآلوسى :
ولعل القول بالإعراض أولى لما فيه من الإشارة إلى سوء حالهم وحط مقدارهم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 108}
قوله تعالى {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ}
قال الفخر :
أما قوله {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ} ففيه وجوه
الأول : قال الفرّاء أسلمت وجهي لله ، أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له ، ولم يشاركه غيره قال : ويعني بالوجه ههنا العمل كقوله {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [ الكهف : 28 ] أي عبادته ، ويقال : هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول : وجهت وجهي إليك ، ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه : مرّ على وجهه
الثاني : أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله ، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلهيته وحكمه
الثالث : أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته ، عادل عن كل ما سواه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 184}(12/96)
وقال السمرقندى :
{ فَإنْ حَاجُّوكَ } أي خاصموك وجادلوك في الدين { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ } أي أخلصت ديني لله.
وقال الزجاج : إن الله تعالى أمر نبيه أن يحتج على أهل الكتاب والمشركين ، بأنه اتبع أمر الله الذي هم أجمعون مقرون.
أنه خالقهم ورازقهم ، فأراهم الآيات والدلالات بأنه رسوله. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 227}
وقال البغوى :
قوله تعالى : { فَإِنْ حَاجُّوكَ } أي خاصموك يا محمد في الدين ، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا لسنا على ما سميتنا به يا محمد إنما اليهودية والنصرانية نسب ، والدين هو الإسلام ونحن عليه فقال الله تعالى { فَقُلْ أَسْلَمْت وَجْهِيَ لِلَّهِ } أي انقدت لله وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي ، وإنما خص الوجه لأنه أكرم الجوارح من الإنسان وفيه بهاؤه ، فإذا خضع وجهه للشيء خضع له جميع جوارحه ، وقال الفراء : معناه أخلصت عملي لله. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 1 صـ 20}
وقال أبو السعود :
وإنما عبر عنها بالوجه لأنه أشرفُ الأعضاء الظاهرة ومظهرُ القُوى والمشاعر ومجمعُ معظم ما تقع به العبادةُ من السجودِ والقراءة وبه يحصل التوجُّه إلى كل شيء. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 18}
فائدة
قال الماوردى :
فإن قيل : في أمره تعالى عند حِجَاجِهمْ بأن يقول : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ } عدول عن جوابهم وتسليم لحِجَاجِهم ، فعنه جوابان :
أحدهما : ليس يقتضي أمره بهذا القول النهي عن جوابهم والتسليم بحِجَاجِهم ، وإنما أمره أن يخبرهم بما يقتضيه معتقده ، ثم هو في الجواب لهم والاحْتِجَاج على ما يقتضيه السؤال.
والثاني : أنهم ما حاجُّوه طلباً للحق فيلزمه جوابهم ، وإنما حاجُّوه إظهاراً للعناد ، فجاز له الإِعراض عنهم بما أمره أن يقول لهم. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 381}(12/97)
وقال الآلوسى :
{ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجهيَ للَّه } أي أخلصت وخضعت بقلبي وقالبي لله لا أشرك به غيره ، وفيه إشارة إلى أن الجدال معهم ليس في موقعه لأنه إنما يكون في أمر خفي والذي جادلوا به أمر مكشوف ، وحكم حاله معروف وهو الدين القويم فلا تكون المحاجة والمجادلة إلا مكابرة ، وحينئذ يكون هذا القول إعراضاً عن مجادلتهم ، وقيل : إنه محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقاً للعبادة فكأنه قال : هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه ، وداعي الخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك فاليهود يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى يدعون إلهية عيسى عليه السلام والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون فعليهم الإثبات. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 108}
قوله تعالى {وَمَنِ اتبعن}
فصل
فَتَحَ الياءَ من " وَجْهِيَ " - هنا وفي الأنعام - نافع وابن عامر وجعفر وحفص وسكنها الباقون.
قوله : { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } في محل " مَنْ " وجوه :
أحدها : الرفع ؛ عطفاً على التاء في " أسْلَمْتُ " ، وجاز ذلك ؛ لوجود الفصل بالمفعول ؛ قاله الزمخشريُّ وابن عطية.
قال أبو حيان : " ولا يمكن حمله على ظاهره ؛ لأنه إذا عطف الضمير في نحو : " أكلت رغيفاً وزيدٌ " لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ ذلك ؛ لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم. وهو صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه ، بل المعنى على أنه صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه لله ، وأنهم أسلموا وجوههم لله ؛ [ فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول " أسْلَمْتُ " والتقدير : ومن اتبعني وجهه ، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر ؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : ومن اتبعني كذلك ، أي : أسلموا وجوههم لله ] ، كما تقول : قضى زيد نحبه وعمرو ، أي : عمرو كذلك ، أي : قضى نحبه ".(12/98)
قال شهابُ الدينِ : " إنما صحت المشاركة في نحو : أكلتُ رغيفاً وزيدٌ ؛ لإمكان ذلك ، وأما في الآية الكريمة فلا يُتَوَهَّمُ فيه المشاركة ".
الثاني : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف - كما تقدم.
الثالث : أنه منصوب على المعية ، والواو بمعنى " مع " أي : أسلمت وجهي لله مع من اتبعني ؛ قاله الزمخشريُّ.
وقال أبو حيّان : " ومن الجهة التي امتنع عطف " مَنْ " على الضمير - إذا حُمِلَ الكلام على ظاهره دون تأويل - يمتنع كون " مَنْ " منصوباً على أنه مفعول معه ؛ لأنك إذا قلتَ : أكلتُ رغيفاً وعمرو أي مع عمرو - دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز الزمخشريُّ هذا الوجهَ ، - وهو لا يجوز - لما ذكرنا - على كل حال ؛ لأنه لا يجوز حذف المفعول مع كون الواوِ واوَ " مع " ألبتة ".
قال شهابُ الدينِ : " فهم المعنى ، وعدم الإلباس يسَوِّغ ما ذكره الزمخشريُّ ، وأي مانع من أن المعنى : فقل : أسلمت وجهي لله مصاحباً لمن أسلم وَجْهَهُ لله أيضاً ، وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية ".
الرابع : أن محل " مَنْ " الخفض ، نسقاً على اسم " الله " ، وهذا الإعراب - وإن كان ظاهره مُشْكِلاً - قد يؤول على معنى : جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له ، ولمن اتبعني بالحفظ له.
وقد أثبت الياءَ في " مَنِ اتَّبَعَنِي " نافع ، وحذفها أبو عمرو وخلاد - وقفاً - والباقون حذفُوهَا فيهما ؛ موافقةً للرسم ، وحسن ذلك أيضاً كونها فاصلةً ورأس آية ، نحو { أَكْرَمَنِ } [ الفجر : 15 ] و{ أَهَانَنِ } [ الفجر : 16 ] وعليه قول الأعشى : [ المتقارب ]
وَهَلْ يَمْنَعَنِّي أرْتيادِي الْبِلاَ... دَ مِنْ حَذَر الْمَوْتِ أنْ يَأتِيَنْ
وقول الأعشى - أيضاً - : [ المتقارب ]
وَمَنْ شَانِىءٍ كَاسِفٍ بَالُهُ... إذا مَا انْتَسَبْتُ لَهْ أنْكَرَنْ
(12/99)
قال بعضهم : حذف هذه الياء مع نون الوقاية - خاصّة - فإن لم تكن نونٌ فالكثير إثباتُها. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 110 ـ 111}
فائدة
قال ابن الجوزى :
قوله تعالى : { ومن اتبعن } أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة ، وابن شنبوذ عن قنبل ، ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء.
قال الزجاج : والأحب إِلىَّ اتباع المصحف.
وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى : { ومن اتبعن } و{ لئن أخرتن } و{ ربي أكرمن } و{ ربي أهانن }.
فهو على ضربين.
أحدهما : ما كان مع النون ، فإن كان رأس آية ، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء ، ويسمون أواخر الآي الفواصل ، كما أجازوا ذلك في الشعر.
قال الأعشى :
ومن شانىءٍ كاسف باله . . .
إذا ما انتسبت له أنكرن
وهل يمنعني ارتيادي البلا . . .
د من حذر الموت أن يأتين
فأما إذا لم يكن آخر آية أو قافية ، فالأكثر إثبات الياء ، وحذفها جيد أيضاً ، خاصة مع النونات ، لأن أصل "اتبعني" "اتبعي" ولكن "النون" زيدت لتسلم فتحة العين ، فالكسرة مع النون تنوب عن الياء ، فأما إذا لم تكن النون ، نحو غلامي وصاحبي ، فالأجود إثباتها ، وحذفها عند عدم النون جائز على قلته ، تقول : هذا غلام ، قد جاء غلاميَ ، وغلاميْ بفتح الياء وإسكانها ، فجاز الحذف ، لأن الكسرة تدل عليها. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 363 ـ 364}
سؤال : فإن قيل : لم قال أسلمت ومن اتبعن ، ولم يقل : أسلمت أنا ومن اتبعن ؟ .
قلنا : إن الكلام طال بقوله {وَجْهِىَ للَّهِ} فصار عوضاً من تأكيد الضمير المتصل ، ولو قيل أسلمت وزيد لم يحسن حتى يقال : أسلمت أنا وزيد ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر ، ومن جاء معي جاز وحسن. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 185}(12/100)
فصل
قال الطبرى :
يعني بذلك جل ثناؤه : فإن حاجَّك : يا محمد ، النفرُ من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه ، فخاصموك فيه بالباطل ، فقل : انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي. وإنما خَصّ جل ذكره بأمره بأن يقول : "أسلمت وجهي لله" ، لأن الوجه أكرمُ جوارح ابن آدم عليه ، وفيه بهاؤه وتعظيمه ، فإذا خضع وجهه لشيء ، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 280}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } أي جادلوك بالأقاويل المزوّرة والمغالطات ، فأسْنِدْ أمرك إلى ما كُلِّفت من الإيمان والتبليغ وعلى الله نصرك.
وقوله "وَجْهي" بمعنى ذاتْي ؛ ومنه الحديث " سجد وجهي للذي خلقه وصوّره " وقيل : الوجه هنا بمعنى القصد ؛ كما تقول : خرج فلان في وجه كذا.
وقد تقدّم هذا المعنى في البقرة مستوفى ؛ والأوّل أولى.
وعبر بالوجه عن سائر الذات إذ هو أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس.
وقال :
أسلمتُ وجْهي لمن أسلمتْ . . .
له المُزْنُ تحمل عَذْباً زُلاَلاَ
وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى : { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ } [ الرحمن : 27 ] إنها عبارة عن الذات ، وقيل : العمل الذي يقصد به وجهه.
وقوله : { ومَنِ اتبعن } "مَن" في محل رفع عطفا على التاء في قوله "أَسْلَمْتُ" أي ومِن اتبعن أسلم أيضا ، وجاز العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد للفصل بينهما.
وأثبت نافع وأبو عمرو ويعقوب ياء "اتبعن" على الأصل ، وحذف الآخرون اتباعا للمصحف إذ وقعت فيه بغير ياء.
وقال الشاعر :
ليس تُخفى يَسارتي قدَر يوم . . .
ولقد تُخْف شيمتي إعساري. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 45}
قوله تعالى : {وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والاميين أأَسْلَمْتُمْ}
قال الفخر : (12/101)
هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب ، سواء كان محقاً في تلك الدعوى كاليهود والنصارى ، أو كان كاذباً فيه كالمجوس ، ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 185 }
وقال الطبرى :
يعني بذلك جل ثناؤه : "وقل" ، يا محمد ، للذين أوتوا الكتاب" من اليهود والنصارى "والأميين" الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب "أأسلمتم" ، يقول : قل لهم : هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين ، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم ، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه "فإن أسلموا" ، يقول : فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له "فقد اهتدوا" ، يعني : فقد أصابوا سبيل الحق ، وسلكوا مَحَجَّة الرشد. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 281}
فائدة
قال الفخر :
إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين
الأول : أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلهي وصفوا بأنهم أُميون تشبيهاً بمن لا يقرأ ولا يكتب
والثاني : أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 185 }
فائدة
قال الفخر :
دلّت هذه الآية على أن المراد بقوله {فَإن حاجوك} عام في كل الكفار ، لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله {الذين أُوتُواْ الكتاب} ودخل من لا كتاب له تحت قوله {الأميين }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 185 }
قوله تعالى {أأَسْلَمْتُمْ}
قال الطبرى :
فإن قال قائل : وكيف قيل : "فإن أسلموا فقد اهتدوا" عقيب الاستفهام ؟ وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل : "هل تقوم ؟ فإن تقم أكرمك" ؟ (12/102)
قيل : ذلك جائز ، إذا كان الكلام مرادًا به الأمر ، وإن خرج مخرج الاستفهام ، كما قال جل ثناؤه : ( وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) [سورة المائدة : 91] ، يعني : انتهوا ، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى : ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ) [سورة المائدة : 112] ، وإنما هو مسألة ، كما يقول الرجل : "هل أنت كافٌّ عنا" ؟ بمعنى : اكفف عنا ، وكما يقول الرجل للرجل : "أينَ ، أين" ؟ بمعنى : أقم فلا تبرح ، ولذلك جُوزي في الاستفهام كما جوزي في الأمر في قراءة عبد الله : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ آمِنُوا ) [سورة الصف : 10 ، 11] ، ففسرها بالأمر ، وهي في قراءتنا على الخبر. فالمجازاة في قراءتنا على قوله : "هل أدلكم" ، وفي قراءة عبد الله على قوله : "آمنوا" ، على الأمر ، لأنه هو التفسير. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 281 ـ 282}
وقال الفخر :
قوله تعالى {أأَسْلَمْتُمْ}
استفهام في معرض التقرير ، والمقصود منه الأمر قال النحويون : إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام ، لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة ، وهي التعبير بكون المخاطب معانداً بعيداً عن الإنصاف ، لأن المنصف إذا ظهرت له الحجة لم يتوقف بل في الحال يقبل ونظيره قولك لمن لخصت له المسألة في غاية التلخيص والكشف والبيان ؛ هل فهمتها ؟ فإن فيه الإشارة إلى كون المخاطب بليداً قليل الفهم ، وقال الله تعالى في آية الخمر {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [ المائدة : 91 ] وفيه إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 185 }. بتصرف يسير.(12/103)
وقال القرطبى :
"أَأَسْلَمْتُمْ" استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الأمر ، أي أسلموا ؛ كذا قال الطبري وغيره.
وقال الزجاج : "أَأَسلمتم" تهديد.
وهذا حسن ، لأن المعنى أَأَسلمتم أم لا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 45}
وقال البغوى :
{ أَأَسْلَمْتُمْ } لفظه استفهام ومعناه أمر ، أي أسلموا كما قال " فهل أنتم منتهون "( 91 -المائدة ) أي انتهوا ، { فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب : أسلمنا ، فقال لليهود : أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله قالوا : معاذ الله ، وقال النصارى : أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله ؟ قالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبدا فقال الله عز وجل { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ } أي تبليغ الرسالة وليس عليك الهداية. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 1 صـ 20}
قوله تعالى : {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا}
قال أبو السعود :
{ فَإِنْ أَسْلَمُواْ } أي كما أسلمتم وإنما لم يصرّح به كما في قوله تعالى : { فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ } حسماً لباب إطلاق اسم الإسلام على شيء آخر بالكلية. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 19}
وقال ابن عاشور :
والاستفهام مستعمل في الاستبطاء والتحضيض كما في قوله تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . وجيء بصيغة الماضي في قوله {أَأَسْلَمْتُمْ} دون أن يقول أتسلمون على خلاف مقتضى الظاهر ، للتنبيه على أنه يرجو تحقق إسلامهم ، حتى يكون كالحاصل في الماضي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 58 ـ 59}
وقال الفخر :
ثم قال الله تعالى : {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا} وذلك لأن هذا الإسلام تمسك بما هدي إليه ، والمتمسك بهداية الله تعالى يكون مهتدياً ، ويحتمل أن يريد : فقد اهتدوا للفوز والنجاة في الآخرة إن ثبتوا عليه
ثم قال : {وَإِن تَوَلَّوْاْ} عن الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم :
{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} والغرض منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه ، وليس عليه قبولهم ثم قال : {والله بَصِيرٌ بالعباد} وذلك يفيد الوعد والوعيد ، وهو ظاهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 185 }
فائدة
قال القرطبى : (12/104)
وجاءت العبارة في قوله "فَقَدِ اهتدوا" بالماضي مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى لهم وتحصيله.
و "البلاغ" مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل ، أي إنما عليك أن تُبلغَّ.
وقيل : إنه مما نسخ بالجهاد.
وقال ابن عطية : وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها ؛ وأمّا على ظاهر نزول هذه الآيات في وَفْد نجران فإنما المعنى فإنما عليك أن تبلغ ما أُنزِل إليك بما فيه من قتال وغيره. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 45 ـ 46}
وقال السمرقندى :
{ والله بَصِيرٌ بالعباد } يعني بأعمالهم ، ومعناه ليس عليك من عملهم شيء وإنما عليك التبليغ ، وقد فَعلتَ ما أمرتَ به. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 227}
وقال الطبرى :
قوله تعالى : { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
يعني جل ثناؤه بقوله : "وإن تولوا" ، وإن أدبروا مُعرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين ، فإنما أنت رسولٌ مبلِّغ ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي ، وأداء ما كلَّفتك من طاعتي "والله بصيرٌ بالعباد" ، يعني بذلك : والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه فيطيعك بالإسلام ، وبمن يتولَّى منهم عنه معرضًا فيردّ عليك ما أرسلتك به إليه ، فيعصيك بإبائه الإسلامَ. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 283}(12/105)
فائدة
قال صاحب الميزان :
وفي قوله تعالى {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} دلالة أولا على النهي عن المراء والإلحاح في المحاجة فإن المحاجة مع من ينكر الضروري لا تكون إلا مرائا ولجاجا في البحث
وثانيا على أن الحكم في حق الناس والأمر مطلقا إلى الله سبحانه وليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أنه رسول مبلغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى {ليس لك من الأمر شئ} : آل عمران - 128
وقال تعالى {لست عليهم بمسيطر} : الغاشية - 23
وثالثا على تهديد أهل الكتاب والمشركين فإن ختم الكلام بقوله {والله بصير بالعباد} بعد قوله {فإنما عليك البلاغ} لا يخلو من ذلك ويدل على ذلك ما وقع من التهديد في نظير الآية وهو قوله تعالى {قولوا آمنا بالله} إلى أن قال {ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} : البقرة - 137
تذكر الآية أن أهل الكتاب إن تولوا عن الإسلام فهم مصرون على الخلاف ثم يهددهم بما يسلي به النبي ويطيب نفسه فالآية أعني قوله {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} كناية عن الأمر بتخلية ما بينهم وبين ربهم وإرجاع أمرهم إليه وهو بصير بعباده يحكم فيهم بما تقتضيه حالهم ويسأله لسان استعدادهم.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره بعض المفسرين أن في الآية دليلا على حرية الاعتقاد في أمر الدين وأن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإن الآية كما عرفت مسوقه لغير ذلك.
وفي قوله بصير بالعباد حيث أخذ عنوان العبودية ولم يقل بصير بهم أو بصير بالناس ونحو ذلك إشعار بأن حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنهم عباده ومربوبون له أسلموا أو تولوا. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 122 ـ 123}(12/106)
فصل
قال ابن كثير :
وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته ، صَلوات الله وسلامه عليه ، إلى جميع الخلق ، كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث ، فمن ذلك قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] وقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان : 1] وفي الصحيحين وغيرهما ، مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة ، أنه بعث كتبه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ملوك الآفاق ، وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم ، كتابِيِّهم وأمِّيِّهم ، امتثالا لأمر الله له بذلك. وقد روى عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن هَمَّام ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ يَهُوديّ وَلا نَصْرَانِي ، ومَاتَ وَلمَ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسلتُ بِهِ ، إلا كان مِنْ أَهْلِ النَّارِ" رواه مسلم. {صحيح مسلم برقم (153)}.
وقال صلى الله عليه وسلم : "بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ والأسْودِ"(12/107)
وقال : "كَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِه خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً". وقال الإمام أحمد : حدثنا مُؤَمِّل ، حدثنا حَمَّاد ، حدثنا ثابت عن أنس ، رضي الله عنه : أن غلاما يهوديا كان يَضع للنبي صلى الله عليه وسلم وَضُوءه ويناوله نعليه ، فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "يا فُلانُ ، قُلْ : لا إله إلا الله" فَنَظَرَ إلَى أبيه ، فَسَكَتَ أبوه ، فأعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَنَظَرَ إلَى أَبيهِ ، فَقَالَ أبُوهُ : أطِعْ أبا الْقَاسِم ، فَقَالَ الْغُلامُ : أشْهَدُ أن لا إلَهَ إلا الله وأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، فَخَرَجَ النَّبَيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ : "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أخْرَجَهُ بِي مِنِ النَّارِ" أخرجه البخاري في الصحيح. { المسند (3/175) والبخاري برقم (1356)}. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 26 ـ 27}
لطيفة
قال ابن عجيبة :
لا يليق بالفقير ، إذا توجه إليه الإنكار أو المجادلة والاستظهار ، إلا السكوت والإقرار ، والاستسلام بكليته لأحكام الواحد القهار ، إذ لا يرى فاعلاً إلا الله ، فلا يركن إلى شيء سواه. وفي الحكم : " إنما أجرَى الأذى عليهم لئلا تكون ساكناً إليهم ، أراد أن يزعجك عن كل شيء ، حتى لا تكون ساكناً إلى شيء ". وقال بعض العارفين : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل بالله يرده عنك ، وقد غلط في هذا خلق كثير ، اشتغلوا بمن يؤذيهم ، فطال عليهم الأذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم. ه. بالمعنى. وبهذا يأمر الشيخ أتباعه ، فإن انقادوا لأحكام الحق ، فقد اهتدوا إلى طريق الوصول ، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، والهداية بيد السميع البصير. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 261}(12/108)
فصل نفيس
قال العلامة ابن عاشور :
اعلم أن قوله {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبروا مطاويها فيهتدي الضالون ، ويزداد المسلمون يقينا بدينهم ؛ إذ قد علمنا أن مجيء قوله {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} عقب قوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} وقوله {فَإِنْ حَاجُّوكَ} وتعقيبه بقوله {أَأَسْلَمْتُمْ} أن المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة ، وتختصر المقاولة ، ويسهل عرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة ، ليعلموا ما هم عليه من الديانة. بينت هذه الكلمة أن هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه ؛ فإن اسمه الإسلام ، وهو مفيد معنى معروفا في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم ، وقد حذف مفعوله ونزل الفعل منزلة اللازم فعلم أن المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليه ، فكأنه يقول : أسلمتني أي أسلمت نفسي ، فبين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلا يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد ، فعبر عنه بقوله وجهي أي نفسي : لظهور ألا يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد ، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود ، بل المعنى البين هو أن يراد بالوجه كامل الذات ، كقوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص : 88].
وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكا له ، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله ، وتحت هذا معان جمة هي جماع الإسلام : نحصرها في عشرة :
المعنى الأول : تمام العبودية لله تعالى ، وذلك بألا يعبد غير الله ، وهذا إبطال للشرك لأن المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه بل أسلم بعضها.
المعنى الثاني : إخلاص العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى ، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يقدم مرضاة غير الله تعالى على مرضاة الله.(12/109)
الثالث : إخلاص القول لله تعالى فلا يقول مالا يرضى به الله ، ولا يصدر عنه قول إلا فيما أذن الله فيه أن يقال ، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، على حسب المقدرة والعلم ، والتصدي للحجة لتأييد مراد الله تعالى ، وهي صفة امتاز بها الإسلام ، ويندفع بهذا المعنى النفاق ، والملق ، قال تعالى في ذكر رسوله :
{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [يس : 86].
الرابع : أن يكون ساعيا لتعرف مراد الله تعالى من الناس ، ليجري أعماله على وفقه ، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنهم مرسلون من الله ، وتلقيها بالتأمل في وجود صدقها ، والتمييز بينها وبين الدعاوى الباطلة ، بدون تحفز للتكذيب ، ولا مكابرة في تلقي الدعوة ، ولا إعراض عنها بداعي الهوى وهو الإفحام ، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة.
الخامس : امتثال ما أمر الله به ، واجتناب ما نهى عنه ، على لسان الرسل الصادقين ، والمحافظة على اتباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف ، وأن يذود عنه من يريد تغييره.
السادس : ألا يجعل لنفسه حكما مع الله فيما حكم به ، فلا يتصدى للتحكم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذ البعض. كما حكي الله تعالى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور : 48-49] وقد وصف الله المسلمين بقوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : 36] ، فقد أعرض الكفار عن الإيمان بالبعث ؛ لأنهم لم يشاهدوا ميتا بعث.(12/110)
السابع : أن يكون متطلبا لمراد الله مما أشكل عليه فيه ، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله : يتطلبه من إلحاقه بنظائره التامة التنظير بما علم أنه مراد الله ، كما قال الله تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء : 83] ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقه في الدين والاجتهاد ، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن : 16].
الثامن : الإعراض عن الهوى المذموم في الدين ، وعن القول فيه بغير سلطان {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص : 50].
التاسع : أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضا ، وجماعاتها ، ومعاملتها الأمم كذلك ، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات.
العاشر : التصديق بما غيب عنا ، مما أنبأنا الله به : من صفاته ، ومن القضاء والقدر : وأن الله هو المتصرف المطلق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 59 ـ 61}
وقال ابن عاشور فى قوله تعالى : {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} ما نصه :
وقوله {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} إبطال لكونهم حاصلين على هذا المعنى ، فأما المشركون فبعدهم عنه أشد البعد ظاهر ، وأما النصارى فقد ألهوا عيسى ، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله ؛ لأنهم عبدوا مع الله غيره ، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك ، فأسسوا الدين على حسب ما يلذ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم.
وأما اليهود فإنهم وإن لم يشركوا بالله قد نقضوا أصول التقوى ، فسفهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم ، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله ، وغيروا الأحكام اتباعا للهوى ، وكذبوا الرسل ، وقتلوا الأحبار ، فأنى يكون هؤلاء قد أسلموا لله ، وأكبر مبطل لذلك هو تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم دون النظر في دلائل صدقه.(12/111)
ثم إن قوله {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} معناه : فإن التزموا النزول إلى التحقق بمعنى أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا ، ولم يبق إلا أن يتبعوك لتلقي ما تبلغهم عن الله ؛ لأن ذلك أول معاني إسلام الوجه لله ، وإن تولوا وأعرضوا عن قولك لهم : أأسلمتم فليس عليك من إعراضهم تبعة ، فإنما عليك البلاغ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 60 ـ 61}(12/112)
فائدة
قال السعدى فى معنى الآية :
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عند محاجة النصارى وغيرهم ممن يفضل غير دين الإسلام
عليه أن يقول لهم : قد { أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } أي : أنا ومن اتبعني قد أقررنا وشهدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا ، وتركنا ما سوى دين الإسلام ، وجزمنا ببطلانه ، ففي هذا تأييس لمن طمع فيكم ، وتجديد لدينكم عند ورود الشبهات ، وحجة على من اشتبه عليه الأمر ، لأنه قد تقدم أن الله استشهد على توحيده بأهل العلم من عباده ليكونوا حجة على غيرهم ، وسيد أهل العلم وأفضلهم وأعلمهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم من بعده أتباعه على اختلاف مراتبهم وتفاوت درجاتهم ، فلهم من العلم الصحيح والعقل الرجيح ما ليس لأحد من الخلق ما يساويهم أو يقاربهم ، فإذا ثبت وتقرر توحيد الله ودينه بأدلته الظاهرة ، وقام به أكمل الخلق وأعلمهم ، حصل بذلك اليقين وانتفى كل شك وريب وقادح ، وعرف أن ما سواه من الأديان باطلة ، فلهذا قال { وقل للذين أوتوا الكتاب } من النصارى واليهود { والأميين } مشركي العرب وغيرهم { أأسلمتم فإن أسلموا } أي : بمثل ما أمنتم به { فقد اهتدوا } كما اهتديتم وصاروا إخوانكم ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم { وإن تولوا } عن الإسلام ورضوا بالأديان التي تخالفه { فإنما عليك البلاغ } فقد وجب أجرك على ربك ، وقامت عليهم الحجة ، ولم يبق بعد هذا إلا مجازاتهم بالعقاب على جرمهم ، فلهذا قال { والله بصير بالعباد }. أ هـ {تفسير السعدى صـ 124}
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله :
إنه لا سبيل إلى مزيد من الإيضاح بعد ما تقدم . فإما اعتراف بوحدة الألوهية والقوامة ، وإذن فلا بد من الإسلام والاتباع . وإما مماحكة ومداورة . وإذن فلا توحيد ولا إسلام .
ومن ثم يلقن الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - كلمة واحدة تبين عقيدته كما تبين منهج حياته :(12/113)
{ فإن حاجوك } - أي في التوحيد وفي الدين - { فقل : أسلمت وجهي لله } أنا { ومن اتبعن } . . والتعبير بالاتباع ذو مغزى هنا . فليس هو مجرد التصديق . إنما هو الاتباع . كما أن التعبير بالإسلام الوجه ذو مغزى كذلك . فليس هو مجرد النطق باللسان أو الاعتقاد بالجنان . إنما هو كذلك الاستسلام . استسلام الطاعة والاتباع . . وإسلام الوجه كناية عن هذا الاستسلام . والوجه أعلى وأكرم ما في الإنسان . فهي صورة الانقياد الطائع الخاضع المتبع المستجيب .
هذا اعتقاد محمد - صلى الله عليه وسلم - ومنهج حياته . والمسلمون متبعوه ومقلدوه في اعتقاده ومنهج حياته . . فليسأل إذن أهل الكتاب والأميين سؤال التبين والتمييز ووضع الشارة المميزة للمعسكرين على وضوح لا اختلاط فيه ولا اشتباه :
{ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم ؟ } . .
فهم سواء . هؤلاء وهؤلاء . المشركون وأهل الكتاب هم مدعوون إلى الإسلام بمعناه الذي شرحناه . مدعوون للإقرار بتوحيد ذات الله ، ووحدة الألوهية ووحدة القوامة . مدعوون بعد هذا الإقرار إلى الخضوع لمقتضاه . وهو تحكيم كتاب الله ونهجه في الحياة .
{ فإن أسلموا فقد اهتدوا } . .
فالهدى يتمثل في صورة واحدة . هي صورة الإسلام بحقيقته تلك وطبيعته . وليس هنالك صورة أخرى ، ولا تصور آخر ، ولا وضع آخر ، ولا منهج آخر يتمثل فيه الاهتداء . . إنما هو الضلال والجاهلية والحيرة والزيغ والالتواء . . أ هـ { الظلال حـ 1 صـ 380 ـ 381}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
طالِعْهُم بعين التصريف كيلا يفترق بك الحال في شهود اختلافهم وتباين أطوارهم ؛ فإنَّ مَنْ طالَعَ الكائناتِ بعين القدرة علم أن المُثْبِتَ للكلِّ - على ما اختص به كل واحد من الكل - واحدٌ.
فادْعُهم جهراً بجهر ، واشهد تصريفنا إياهم سِرَّاً بسر ، واشغل لسانك بنصحهم ، وفرِّغ قلبك عن حديثهم ، وأفرد سِرَّك عن شهودهم ، فليس الذي كلفناك من أمورهم إلا البلاغ ، والمُجرِي للأمور والمبدي - نحن. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 228}(12/114)
قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أشرك اليهود في هذا الخطاب وأفهم شرط التولي بأداة الشك وقوعه ، فتشوفت النفس إلى معرفة جزائهم أشار إليه واصفاً لهم ببعض ما اشتد فحشه من أفعالهم فقال : قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ}
وقال الحرالي : ولما كانت هذه السورة منزلة لتبيين ما اشتبه على أهل الإنجيل جرى ذكر أهل التوراة فيها مجملاً بجوامع من ذكرهم ، لأن تفاصيل أمرهم قد استقرأته سورة البقرة ، فكان أمر أهل التوراة في سورة البقرة بياناً وأهل الإنجيل إجمالاً ، وكان أمر أهل الإنجيل في سورة آل عمران بياناً وذكر أهل التوراة إجمالاً ، لما كان لبس أهل التوراة في الكتاب فوقع تفصيل ذكرهم في سورة {الم ذلك الكتاب} [ البقرة : 1 ، 2 ] ، ولما كان اشتباه أمر أهل الإنجيل في شأن الإلهية كان بيان ما تشابه عليهم في سورة {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [ آل عمران : 1 ، 2 ] فجاء هذا الذكر لأهل التوراة معادلة بينهم وبين أهل الإنجيل بما كفروا بالآيات من المعنى الذي اشتركوا فيه في أمر الإلهية في عزير واختصوا بقتل الأنبياء وقتل أهل الخير الآمرين بالقسط ؛ انتهى.
فقال تعالى : {إن الذين يكفرون} وهم الذين خذلهم الله {بآيات الله} في إبراز الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم كفرهم بكونه مما أضيف إليه سبحانه وتعالى.(12/115)
قال الحرالي : وفي ذكره بصيغة الدوام ما يقع منهم من الكفر بآيات الله في ختم اليوم المحمدي مع الدجال فإنهم أتباعه {ويقتلون النبيين} في إشعاره ما تمادوا عليه من البغي على الأنيباء حتى كان لهم مدخل في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم التي رزقه الله فيما كان يدعو به حيث كان يقول صلى الله عليه وسلم : " اللهم ارزقني شهادة في يسر منك وعافية ".
ولما كان قتلهم إياهم بدون شبهة أصلاً بل لمحض والكفر والعناد ، لأن الأنبياء مبرؤون من أن يكون لأحد قبلهم حق دنيوي أو أخروي قال : {بغير حق} أي لا صغير ولا كبير في نفس الأمر ولا في اعتقادهم ، فهو أبلغ مما في البقرة على عادة أفعال الحكماء في الابتداء بالأخف فالأخف.
ولما خص ذكر أكمل الخلق عبر بما يعم أتباعهم فقال معيداً للفعل زيادة في لومهم وتقريعهم : {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط} أي العدل ، ولما كان ذلك شاملاً لمن لا قدرة لهم على قتله من الملائكة قال : {من الناس} أي كلهم ، سواء كانوا أنبياء أو لا ، ويجوز أن يكون المراد بهذا القيد زيادة توبيخهم بأنهم يقتلون جنسهم الذي من حقهم أن يألفوه ويسعوا في بقائه ، وهذا تحقيق لأن قتلهم لمجرد العدوان قال الحرالي : فيه إعلام بتمادي تسلطهم على أهل الخير من الملوك والرؤساء ، فكان في طيه إلاحة لما استعملوا فيه من علم التطبب ومخالطتهم رؤساء الناس بالطب الذي توسل كثير منهم إلى قتلهم به عمداً وخطأ ، ليجري ذلك على أيديهم خفية في هذه الأمة نظير ما جرى على أيدي أسلافهم في قتل الأنبياء جهرة - انتهى.
ويجوز أن يكون الخبر عنهم محذوفاً والتقدير : أنهم مطبوع على قلوبهم ، أو : لا يؤمنون ، أو : لا يزالون يجادلونك وينازعونك ويبغون لك الغوائل {فبشرهم بعذاب أليم} أي اجعل إخبارهم بأنه لهم موضع البشارة ، فهو من وادي : تحيتهم بينهم ضرب وجيع. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 47 ـ 48}
وقال ابن عاشور :
(12/116)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}.
استئناف لبيان بعض أحوال اليهود ، المنافية إسلام الوجه لله ، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود ، وهم قد عرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن. والمناسبة : جريان الجدال مع النصارى وأن جعلوا جميعا في قرن قوله : {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران : 20].
وجيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة الفظيعة ، وليس المراد إفادة التجدد ؛ لأن ذلك وإن تأتى في قوله {يَكْفُرُونَ} لا يتأتى في قوله {وَيَقْتُلُونَ} لأنهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمن مضى. والمراد من أصحاب هذه الصلات يهود العصر النبوي : لأنهم الذين توعدهم بعذاب أليم ، وإنما حمل هؤلاء تبعة أسلافهم لأنهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم ، الذين قتلوا زكريا لأنه حاول تخليص ابنه يحيى من القتل ، وقتلوا يحيى لإيمانه بعيسى ، وقتلوا النبي إرمياء بمصر ، وقتلوا حزقيال النبي لأجل توبيخه لهم على سوء أفعالهم ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام ، فهو معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه ، وقتل منشا ابن حزقيال ، ملك إسرائيل ، النبي أشعياء : نشره بالمنشار لأنه نهاه عن المنكر ، بمرأى ومسمع من بني إسرائيل ، ولم يحموه ، فكان هذا القتل معدودا عليهم ، وكم قتلوا ممن يأمرون بالقسط ، وكل تلك الجرائم معدودة عليهم ؛ لأنهم رضوا بها ، وألحوا في وقوعها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 61 ـ 62}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يعرض ويتولى بقوله {وإن تُوَلُّواْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أردفه بصفة هذا المتولي فذكر ثلاثة أنواع من الصفات :
الصفة الأولى : قوله {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله }.(12/117)
فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات الله واليهود والنصارى ما كانوا كذلك لأنهم كانوا مقرين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد.
قلنا : الجواب من وجهين الأول : أن نصرف آيات الله إلى المعهود السابق وهو القرآن ، ومحمد صلى الله عليه وسلم الثاني : أن نحمله على العموم ، ونقول إن من كذب بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يكذب بجميع آيات الله تعالى لأن من تناقض لا يكون مؤمناً بشيء من الآيات إذ لو كان مؤمناً بشيء منها لآمن بالجميع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 186}
فائدة
قال ابن عطية :
قال محمد بن جعفر بن الزبير وغيره : إن هذه الآية في اليهود والنصارى. أ هـ
ثم قال رحمه الله :
وتعم كل من كان بهذه لحال ، والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمساوىء أسلافهم وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوىء لأنهم كانوا حرصى على قتل محمد عليه السلام. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 414 ـ 415}. بتصرف يسير.
قوله تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ}
فصل
قال القرطبى :
قال أبو العباس المبرد : كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون يدعونهم إلى الله عز وجل فقتلوهم ، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم ؛ ففيهم نزلت هذه الآية.
وكذلك قال معقل بن أبي مسكين : كانت الأنبياء صلوات الله عليهم تجيء إلى بني إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم ، فيقوم قوم ممن اتبعهم فيأمرون بالقِسط ، أي بالعدل ، فيُقتَلون.(12/118)
وقد روي عن ابن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقِسط من الناس ، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتّقِيّة " وروى أبو عبيدة بن الجرّاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أوّل النهار في ساعةٍ واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عُبّاد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية " ذكره المهدوي وغيره.
وروى شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبياً ثم تقوم سُوقُ بَقْلِهم من آخر النهار. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 46}
وقال الفخر :
روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال : " رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقرأ هذه الآية ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّاً من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله تعالى ، وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن زكريا ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم فعلى قولهم ثبت أنهم كانوا يقتلون الأنبياء.
" وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : إذا كان قوله {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله} في حكم المستقبل ، لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك ؟ .
والجواب من وجهين
(12/119)
الأول : أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم ، إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين ، فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضياً به وجارياً على طريقته
الثاني : إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل والمؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم ، فلما كانوا في غاية الرغبة في ذلك صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز ، كما يقال : النار محرقة ، والسم قاتل ، أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل ، فكذا ههنا لا يصح أن يكون إلا كذلك.
السؤال الثاني : ما الفائدة في قوله {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} وقتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك.
والجواب : ذكرنا وجوه ذلك في سورة البقرة ، والمراد منه شرح عظم ذنبهم ، وأيضاً يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل.
السؤال الثالث : قوله {وَيَقْتُلُونَ النبيين} ظاهره مشعر بأنهم قتلوا الكل ، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ولا الأكثر ولا النصف.
والجواب : الألف واللام محمولان على المعهود لا على الاستغراق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 186 ـ 187}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ } قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه : التكثير ، وجاء - هنا - { بِغَيْرِ حَقٍّ } منكَّراً ، وفي البقرة [ بِغَيْرِ الحَقِّ } معرَّفاً قيل : لأن الجملة - هنا - أخرجت مخرَجَ الشرط - وهو عام لا يتخصَّص - فلذلك ناسبَ أن تذكر في سياق النفي ؛ لتعمَّ.
وأما في البقرة فجاءت الآية في ناسٍ معهودين ، مختصين بأعيانهم ، وكان الحق الذي يُقْتَل به الإنسان معروفاً عندهم ، فلم يقصد هذا العموم الذي هنان فجِيء في كل مكان بما يناسبه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 113}
فائدة
قال ابن عاشور : (12/120)
وقوله {بِغَيْرِ حَقٍّ} ظرف مستقر في موضع الحال المؤكدة لمضمون جملة {يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} إذ لا يكون قتل النبيين إلا بغير حق ، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحتراز ؛ فإنه لا يقتل نبي بحق ، فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه ، وإنما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حيز النفي ، إذا لم يكن المقصود تسلط النفي عليه مثل قوله تعالى {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة : 273] وقوله {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} وقد تقدم في سورة البقرة[41].
والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 62}
قوله تعالى {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس}
قال الآلوسى :
{ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } أي بالعدل ، ولعل تكرير الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في الوقت. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 109}
فائدة
قال ابن عادل :
قوله : { وَيَقْتُلُونَ الذين } قرأ حمزة " وَيُقَاتِلُونَ " - من المقاتلة - والباقون " وَيَقْتُلُونَ " - كالأول.
فأما قراءةُ حمزةَ فإنه غاير فيها بين الفعلين ، وهي موافقة لقراءة عبد الله " وَقَاتَلُوا " - من المقاتلة - إلا أنه أتى بصيغة الماضي ، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع - في قراءته - لحكاية الحال ، ومعناه : المُضِيّ.
وأما الباقون فقيل - في قراءتهم- : إنما كرر الفعل ؛ لاختلاف متعلَّقه ، أو كُرِّرَ ؛ تأكيداً ، وقيل : المراد بأحد القتلَيْن إزهاق الروح ، وبالآخر الإهانة ، وإماتة الذكر ، فلذلك ذكر كل واحد على حدته ، ولولا ذلك لكان التركيبُ : ويقتلون النَّبِيِّينَ والذين يأمرون ، وبهذا التركيب قرأ أبَيّ.
قوله : { مِنَ النَّاسِ } إما بيان ، وإما للتبعيض ، وكلاهما معلوم أنهم من الناس ، فهو جَارٍ مَجْرَى التأكيد. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 114 ـ 115}(12/121)
فائدة
قال الفخر :
قال الحسن : هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف ، تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء ، وروي أن رجلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أي الجهاد أفضل ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 187}
قوله تعالى {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
قال الفخر :
هذا محمول على الاستعارة ، وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم ، والكلام في حقيقة البشارة تقدم في قوله تعالى : {وَبَشّرِ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [ البقرة : 25 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 187}
وقال الماوردى :
{ فَبَشِّرْهُم } أي فأخبرهم ، والأغلب في البشارة إطلاقها على الإِخبار بالخير ، وقد تستعمل في الإِخبار بالشّر كما استعملت في هذا الموضع وفي تسميتها بذلك وجهان :
أحدهما : لأنها تغير بَشْرَةَ الوجه بالسرور في الخير ، وبالغم في الشر.
والثاني : لأنها خبر يستقبل به البشرة. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 382}
وقال ابن عاشور :
واستعمل بشرهم في معنى أنذرهم تهكما.
وحقيقة التبشير : الإخبار بما يظهر سرور المخبر بفتح الباء وهو هنا مستعمل في ضد حقيقته ، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب ، وهو موجب لحزن المخبرين ، فهذا الاستعمال في الضد معدود عند علماء البيان من الاستعارة ، ويسمونها تهكمية لأن تشبيه الضد بضده لا يروج في عقل أحد إلا على معنى التهكم ، أو التمليح ، كما أطلق عمرو ابن كلثوم. اسم الأضياف على الأعداء ، وأطلق القرى على قتل الأعداء ، في قوله :
نزلتم منزل الأضياف منا ... فعجلنا القرى أن تشتمونا
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
قال السكاكي : وذلك بواسطة انتزاع شبه التضاد وإلحافه بشبه التناسب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 62 ـ 63}(12/122)
سؤال : فإن قلت : لم دخلت الفاء في خبر إن ؟
قلت : لتضمن اسمها معنى الجزاء ، كأنه قيل : الذين يكفرون فبشرهم بمعنى من يكفر فبشرهم ، و"إنّ" لا تغير معنى الابتداء فكأنّ دخولها كلا دخول ، ولو كان مكانها "ليت" أو "لعل" لامتنع إدخال الفاء لتغير معنى الابتداء. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 376}
وقال البيضاوى :
وقد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر إن كليت ولعل ولذلك قيل : الخبر { أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والآخرة } كقولك زيد فافهم رجل صالح ، والفرق أنه لا يغير معنى الابتداء بخلافهما. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 20}
فصل
قال ابن كثير فى معنى الآية :
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب فيما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديما وحديثا ، التي بلغتهم إياها الرسل ، استكبارًا عليهم وعنادًا لهم ، وتعاظما على الحق واستنكافا عن اتباعه ، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه ، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم ، إلا لكونهم دعوهم إلى الحقّ { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } وهذا هو غاية الكبر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الْكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْط النَّاسِ". أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 27}
من فوائد العلامة القرطبى فى الآية
قال عليه الرحمة :
دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدّمة ، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة.(12/123)
قال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه " وعن درّة بنت أبي لهبٍ قالت : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال : مَن خيرُ الناس يا رسول الله ؟ قال : "آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه" " وفي التنزيل : { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف } [ التوبة : 67 ] ثم قال : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } [ التوبة : 71 ] فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين ؛ فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه.
ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد ، وإنما يقوم به السلطان إذْ كانت إقامة الحدود إليه ، والتعْزيز إلى رأيه ، والحبس والإطلاق له ، والنفي والتغريب ؛ فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك ، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة.
قال الله تعالى : { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر } [ الحج : 41 ]. أ هـ
فصل آخر
وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة ، خلافا للمبتدعة حيث تقول : لا يغيره إلا عَدْل.
وهذا ساقط ؛ فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس.(12/124)
فإن تشبثوا بقوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] وقوله : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] ونحوه ، قيل لهم : إنما وقع الذمّ ها هنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر.
ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه ، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرَّحى ، كما بيناه في البقرة عند قوله تعالى { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر } [ البقرة : 44 ]. أ هـ
فصل ثالث
أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أَنّ المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه ، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره ؛ فإن لم يقدر فبلسانه ، فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك.
وإذا أنكر بقلبه فقد أدّى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك.
قال : والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة.
قال الحسن : إنما يُكلَّمُ مؤمن يُرجى أو جاهل يُعلَّم ؛ فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال : اتقنى آتقِنى فما لك وله.
وقال ابن مسعود : بحسب المرء إذا رأى منكراً لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره.
وروى ابن لَهِيعَة عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " "لا يحل لمؤمن أن يُذِلّ نفسه".
قالوا : يا رسول الله وما إذلاله نفسه ؟ قال : "يتعرّض من البلاء لِما لا يقوم له" ".
قلت : وخرّجه ابن ماجه عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن بن جندب عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلاهما قد تُكُلِّمَ فيه.(12/125)
وروي عن بعض الصحابة أنه قال : " إن الرجل إذا رأى منكراً لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات "اللهم إنّ هذا منكر" فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه " ، وزعم ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضربَ أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحامُ عند هذا الغرر ، وإن لم يرجُ زواله فأي فائدة عنده.
قال : والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي
قلت : هذا خلاف ما ذكره أبو عمر من الإجماع.
وهذه الآية تدل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل.
وقال تعالى : { وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر واصبر على مَآ أَصَابَكَ } [ لقمان : 17 ].
وهذا إشارة إلى الإذاية. أ هـ
روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال ؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " قال العلماء : الأمر بالمعروف باليد على الأمراء ، وباللسان على العلماء ، وبالقلب على الضعفاء ، يعني عوامّ الناس.
فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله ، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل ، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل ؛ وهذا تُلُقي من قول الله تعالى : { فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } [ الحجرات : 9 ].
وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفسِ غيره فله ذلك ولا شيء عليه.
ولو رأى زيد عمرًا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به ؛ حتى لقد قال العلماء : لو فرضنا ( قودا ).(12/126)
وقيل : كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء : إمامٌ عادلٌ لا يظلِم ، وعالِم على سبيل الهُدى ، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُحرّضون على طلب العلم والقرآن ، ونساؤهم مستورات لا يتبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى. أ هـ
روى أنس بن مالك قال " قيل : يا رسول الله ، متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال : "إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأُمم قبلكم".
قلنا : يا رسول الله ، وما ظهر في الأُمم قبلنا ؟
قال : "الملك في صِغاركم والفاحشة في كِباركم والعلم في رُذَالتكم" " قال زيد : تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "والعلم في رذالتكم" إذا كان العلم في الفساق. خرّجه ابن ماجه.
وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في "المائدة" وغيرها إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 47 ـ 49}. بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إن الذين ربطناهم بالخذلان ووسمناهم بوصف الحرمان - أخْبِرْهم بأن إعراضنا عنهم مؤبد ، وأن حكمنا سبق بنقلهم عن دار الجنان إلى دار الهوان ، من الخذلان والحرمان إلى العقوبة والنيران. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 229}
لطيفة بلاغية
قال أبو حيان :
قيل وجمعت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبلاغة.
أحدهما : التقديم والتأخير في : { إن الدين عند الله الإسلام } قال ابن عباس التقدير : شهد الله أن الدين عند الله الاسلام ، أنه لا إله إلا هو ، ولذلك قرأ إنه ، بالكسر : وأن الدين ، بالفتح.
وأطلق اسم السبب على المسبب في قوله { من بعد ما جاءهم العلم } عبر بالعلم عن التوراة والإنجيل أو النبي صلى الله عليه وسلم ، على الخلاف الذي سبق.
وإسناد الفعل إلى غير فاعله في : { حبطت أعمالهم } وأصحاب النار.
والإيماء في قوله : { بغياً بينهم } فيه إيماء إلى أن النفي دائر شائع فيهم ، وكل فرقة منهم تجاذب طرفاً منه.
والتعبير ببعض عن كل في : { أسلمت وجهي }.(12/127)
والاستفهام الذي يراد به التقرير أو التوبيخ والتقريع في قوله { أأسلمتم }.
والطباق المقدر في قوله : { فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } ووجهه : أن الإسلام الانقياد إلى الإسلام ، والإقبال عليه ، والتولي ضد الإقبال.
والتقدير : وإن تولوا فقد ضلوا ، والضلالة ضد الهداية.
والحشو الحسن في قوله { بغير حق } فإنه لم يقتل قط نبي بحق ، وإنما أتى بهذه الحشوة ليتأكد قبح قتل الأنبياء ، ويعظم أمره في قلب العازم عليه.
والتكرار في { ويقتلون الذين } تأكيداً لقبح ذلك الفعل.
والزيادة في { فبشرهم } زاد الفاء إيذاناً بأن الموصول ضمن معنى الشرط. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 431 ـ 432}(12/128)
من فوائد العلامة الجصاص فى الآية
قال رحمه الله :
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ مَعَ خَوْفِ الْقَتْلِ ، وَأَنَّهُ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا حِينَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ.
وَرَوَى أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : يُقْتَلُ عَلَيْهِ }.
وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقُتِلَ }.
قَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ : لَا نَعْلَمُ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَفْضَلَ مِنْ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ يُقْتَلُ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَإِنْ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ كَانُوا رَاضِينَ بِأَفْعَالِهِمْ ، فَأُجْمِلُوا مَعَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِالْوَعِيدِ لَهُمْ.(12/129)
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ } وقَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ عَهِدَ إلَيْنَا أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِاَلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَنَسَبَ الْقَتْلَ إلَى الْمُخَاطَبِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ رَضَوْا بِأَفْعَالِ أَسْلَافِهِمْ وَتَوَلَّوْهُمْ عَلَيْهَا ، فَكَانُوا مُشَارِكِينَ لَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ كَمَا شَارَكُوهُمْ فِي الرِّضَا بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 286 ـ 287}
وقال ابن العربى :
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِ الْآمِرِ بِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " الْمُشْكِلَيْنِ " الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآيَاتُهُ وَأَخْبَارُهُ وَشُرُوطُهُ وَفَائِدَتِهِ.
وَسَنُشِيرُ إلَى بَعْضِهِ هَاهُنَا فَنَقُولُ : الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ الْقَادِرُ يَلْزَمُهُ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ ؛ وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، وَالْأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ ، وَهِيَ فَائِدَةُ الرِّسَالَةِ وَخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ ، وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِلَهِيَّةِ لِمَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ.
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَقَالَتْ الْمُبْتَدِعَةُ : لَا يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ إلَّا عَدْلٌ ، وَهَذَا سَاقِطٌ ؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْخَلْقِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ.(12/130)
فَإِنْ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } وقَوْله تَعَالَى { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَنَحْوِهِ.
قُلْنَا : إنَّمَا وَقَعَ الذَّمُّ هَاهُنَا عَلَى ارْتِكَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ ، لَا عَنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ، فَقِيلَ لَهُ : هُمْ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ ، إنَّمَا عُوقِبُوا عَلَى إتْيَانِهِمْ }.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ مِمَّنْ يَأْتِيه أَقْبَحُ مِمَّنْ لَا يَأْتِيه عِنْدَ فَاعِلِهِ فَيَبْعُدُ قَبُولُهُ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ فَهِيَ أَصْلٌ ، وَتَكُونُ مِنْهُ فِي النَّفْسِ وَتَكُونُ فِي الْبَدَنِ إنْ احْتَاجَ إلَى النَّهْيِ عَنْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَغْيِيرِهِ الضَّرْبَ أَوْ الْقَتْلَ ، فَإِنْ رَجَا زَوَالَهُ جَازَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الِاقْتِحَامُ عِنْدَ هَذَا الْغَرَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْجُ زَوَالَهُ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ ؟ وَاَلَّذِي عِنْدَهُ : أَنَّ النِّيَّةَ إذَا خَلَصَتْ فَلْيَقْتَحِمْ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا يُبَالِي.
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا إلْقَاءٌ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ.
قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا ، وَتَمَامُهَا فِي شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُنْكَرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّه تَعَالَى مَعَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ ؟ قُلْنَا : لَمْ نَرَ لِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نَصًّا.
وَعِنْدِي أَنَّ تَخْلِيصَ الْآدَمِيِّ أَوْجَبُ مِنْ تَخْلِيصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَذَلِكَ مُمَهَّدٌ فِي مَوْضِعِهِ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 349 ـ 350}(12/131)
قوله تعالى { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الحال ربما اقتضى أن يقال من بعض أهل الضلال : إن لهؤلاء أعمالاً حساناً واجتهادات في الطاعة عظيمة ، بيّن تعالى أن تلك الأفعال مجرد صور لا معاني لها لتضييع القواعد ، كما أنهم هم أيضاً ذوات بغير قلوب ، لتقع المناسبة بين الأعمال والعاملين فقال : {أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين حبطت} أي فسدت فسقطت ، وأشار بتأنيث الفعل إلى ضعفها من أصلها {أعمالهم} أي كلها الدنياوية والدينية ، وأنبأ تعالى بقوله : {في الدنيا} كما قال الحرالي - أنهم يتعقبون أعمال خيرهم ببغي يمحوها فلا يطمعون بجزائها في عاجل ولا آجل ، وبذلك تمادى عليهم الذل وقل منهم المهتدي - انتهى {والآخرة} فلا يقيم لهم الله في يوم الدين وزناً ، وأسقط ذكر الحياة إشارة إلى أنه لا حياة لهم في واحدة من الدارين.
ولما كان التقدير : فلا ينتصرون بأنفسهم أصلاً ، فإنهم لا يدبرون تدبيراً إلا كان فيه تدميرهم ، عطف عليه قوله : {وما لهم من ناصرين} قال الحرالي : فيه إعلام بوقوع الغلبة عليهم غلبة لا نصرة لهم فيها في يوم النصر الموعود في سورة الروم التي هي تفصيل من معنى هذه السورة في قوله تعالى : {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء} [ الروم : 4 ، 5 ] فهم غير داخلين فيمن ينصر بما قد ورد أنهم " يقتلون في آخر الزمان حتى يقول الحجر : يا مسلم! خلفي يهودي فاقتله ، حتى لا يبقى منهم إلا من يستره شجر الفرقد " كما قال صلى الله عليه وسلم : " إنه من شجرهم " وفي إفهامه أن طائفة من أهل الإنجيل يقومون بحقه ، فيكونون ممن تشملهم نصرة الله سبحانه وتعالى مع المسلمين ، فتنتسق الملة واحدة مما يقع من الاجتماع حين تضع الحرب أوزارها - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 48 ـ 49}
فصل
قال الفخر : (12/132)
اعلم أنه تعالى بيّن بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة ، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن ، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي ، وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم ، وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب.
النوع الثالث من وعيدهم : قوله تعالى : {وَمَا لَهُم مّن ناصرين }.
اعلم أنه تعالى بيّن بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبيّن بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وبيّن بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه لا يكون لهم ناصر ولا دافع والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 187}
وقال الطبرى فى معنى الآية :
وأما قوله : "أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة" ، فإنه يعني بقوله : "أولئك" ، الذين يكفرون بآيات الله. ومعنى ذلك : أنّ الذين ذكرناهم ، هم "الذين حبطت أعمالهم" ، يعني : بطلت أعمالهم "في الدنيا والآخرة". فأما في الدنيا ، فلم ينالوا بها محمدةً ولا ثناء من الناس ، لأنهم كانوا على ضلال وباطل ، ولم يرفع الله لهم بها ذكرًا ، بل لعنهم وهتك أستارهم ، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم ، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمَّةً ، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما في الآخرة ، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه ، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بُورًا لا ثوابَ لها ، لأنها كانت كفرًا بالله ، فجزاءُ أهلها الخلودُ في الجحيم.
وأما قوله : "وما لهم من ناصرين" ، فإنه يعني : وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله ، إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه ، فيستنقذُهم منه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 287}
من فوائد ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله : (12/133)
وجيء باسم الإشارة في قوله : { أولئك الذين حبطت أعمالهم } لأنّهم تميّزوا بهذه الأفعال التي دلت عليها صِلاتُ الموصول أكملَ تمييز ، وللتنبيه على أنّهم أحِقَّاءِ بما سيخبر به عنهم بعدَ اسم الإشارة.
واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره { الذين حَبِطتْ أعمالهم } ، وقيل هو خبر ( إنّ ) وجملة { فبشرهم بعذاب أليم } وهو الجاري على مذهب سيبويه لأنّه يمنع دخول الفاء في الخبر مطلقاً.
وحَبَط الأعمالِ إزالةِ آثارها النافعة من ثوابٍ ونعيم في الآخرة ، وحياةٍ طيّبة في الدنيا ، وإطلاق الحَبَط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحَبَط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل ، يكون سبب موتها ، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به.
وتقدم عند قوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيَمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } في سورة البقرة ( 217.
( والمعنى هنا أنّ اليهود لما كانوا متديّنين يَرجون من أعمالهم الصالحة النفعَ بها في الآخرة بالنجَاة من العقاب ، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين ، فلمّا كفروا بآيات الله ، وجحدوا نبوءة محمد ، وصوّبوا الذين قَتَلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط ، فقد ارتدُّوا عن دينهم فاستحقّوا العذاب الأليم ، ولذلك ابتُدىء به بقوله : فبشرهم بعذاب أليم }.
فلا جرم تَحْبَطُ أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة ، ولا بآثارها الطيّبة في الدنيا ، ومعنى { وما لهم من ناصرين } ما لهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به.
وجيء بمن الدالة على تنصيص العموم لئلاّ يترك لهم مدخل إلى التأويل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 63 ـ 64}
وقال أبو حيان : (12/134)
{ وما لهم من ناصرين } مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء الإفراد ، لأنه رأس آية ، ولأنه بإزاء من للمؤمنين من الشفعاء الذين هم الملائكة والأنبياء وصالحو المؤمنين ، أي : ليس لهم كأمثال هؤلاء ، والمعنى : بانتفاء الناصرين انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد ، وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أَولى ، وإذا كان جمع لا ينصر فأحرى أن لا ينصر واحد ، ولما تقدم ذكر معصيتهم بثلاثة أوصاف ناسب أن يكون جزاؤهم بثلاثة ، ليقابل كل وصف بمناسبه ، ولما كان الكفر بآيات الله أعظم ، كان التبشير بالعذاب الأليم أعظم ، وقابل قتل الأنبياء بحبوط العمل في الدنيا والأخرة ، ففي الدنيا بالقتل والسبي وأخذ المال والاسترقاق ، وفي الآخرة بالعقاب الدائم ، وقابل قتل الآمرين بالقسط ، بانتفاء الناصرين عنهم إذا حل بهم العذاب ، كما لم يكن للآمرين بالقسط من ينصرهم حين حل بهم قتل المعتدين ، كذلك المعتدون لا ناصر لهم إذا حل بهم العذاب.
وفي قوله : أولئك ، إشارة إلى من تقدم موصوفاً بتلك الأوصاف الذميمة ، وأخبر عنه : بالذين ، إذ هو أبلغ من الخبر بالفعل ، ولأن فيه نوع انحصار ، ولأن جعل الفعل صلة يدل على كونها معلومة للسامع ، معهودة عنده ، فإذا أخبرت بالموصول عن اسم استفاد المخاطب أن ذلك الفعل المعهود المعلوم عنده المعهود هو منسوب للمخبر عنه بالموصول ، بخلاف الإخبار بالفعل ، فإنك تخبر المخاطب بصدوده عن من أخبرت به عنه ، ولا يكون ذلك الفعل معلوماً عنده ، فإن كان معلوماً عنده جعلته صلة ، وأخبرت بالموصول عن الاسم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 431}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
أولئك الذين ليس لهم - اليومَ - توفيق بأعمالهم ، ولا غداً تحقيق لآمالهم ، وما ذلك إلا لأنهم فقدوا في الدارين نصرتنا ، ولم يشهدوا عِزَّنا وقدرتنا. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 229}(12/135)
قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان من المعلوم أن ثبات الأعمال وزكاءها إنما هو باتباع أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر الذين ورثوا العلم عنه دل على ما أخبر به من الحبوط وعدم النصر بما يشاهد من أحوالهم في منابذة الدين فقال : {ألم تر} وكان الموضع لأن يقال : إليهم ، ولكنه قال : {إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب} ليدل على أن ضلالهم على علم ، وأن الذي أوتوه منه قراءتهم له بألسنتهم وادعاء الإيمان به.
وقال الحرالي : كتابهم الخاص بهم نصيب من الكتاب الجامع ، وما أخذوا من كتابهم نصيب من اختصاصه ، فإنهم لو استوفوا حظهم منه لما عدلوا في الحكم عنه ولرضوا به ، وكان في هذا التعجيب أن يكون غيرهم يرضى بحكم كتابهم ثم لا يرضون هم به - انتهى.
{يدعون إلى كتاب الله} أظهر الاسم الشريف ولم يقل : إلى كتابهم ، احترازاً عما غيروا وبدلوا ولأنهم إنما دعوا إلى كتاب الله الذي أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام ، لا إلى ما عساه أن يكون بأيديهم مما غيروا - نبه عليه الحرالي.
وفيه أيضاً إشارة إلى عظيم اجترائهم بتوليهم عمن له الإحاطة الكاملة {ليحكم بينهم} قال الحرالي : في إشعاره أن طائفة منهم على حق منه ، أي وهم المذعنون لذلك الحكم الذي دعي إليه - انتهى.(12/136)
ولما كان اتباعه واجباً واضحاً نفعه لمن جرد نفسه عن الهوى عبر عن مخالفته بأداة البعد فقال : {ثم} وقال الحرالي : في إمهاله ما يدل على تلددهم وتبلدهم في ذلك بما يوقعه الله من المقت والتحير على من دعي إلى حق فأباه ، وفي صيغة يتفعل في قوله : {يتولى} ما يناسب معنى ذلك في تكلف التولي على انجذاب من بواطنهم لما عرفوه وكتموه ، وصرح قوله : {فريق منهم} بما أفهمه ما تقدم من قوله : {ليحكم بينهم} فأفهم أن طائفة منهم ثابتون قائلون لحكم كتاب الله تعالى ، وأنبأ قوله المشير إلى كثرة أفراد هذا الفريق {وهم معرضون} بما سلبوه من ذلك التردد والتكلف ، فصار وصفاً لهم بعد أن كان تعملاً ، ما أنكر منكر حقاً وهو يعلمه إلا سلبه الله تعالى علمه حتى يصير إنكاره له بصورة وبوصف من لم يكن قط علمه - انتهى.
وفي هذا تحذير لهذه الأمة من الوقوع في مثل ذلك ولو بأن يدعى أحدهم من حسن إلى أحسن منه - نبه عليه الحرالي وقال : إذ ليس المقصود حكاية ما مضى فقط ولا ما هو كائن فحسب ، بل خطاب القرآن قائم دائم ماض كلية خطابه في غابر اليوم المحمدي مع من يناسب أحوال من تقدم منهم ، وفي حق المرء مع نفسه في أوقات مختلفة - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 49 ـ 52}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما نبّه على عناد القوم بقوله {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ} [ آل عمران : 20 ] بيّن في هذه الآية غاية عنادهم ، وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به ، وهو التوراة ثم إنهم يتمردون ، ويتولون ، وذلك يدل على غاية عنادهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 188}
فائدة
قال ابن عاشور : (12/137)
والرؤية بصرية بدليل تعديتها بحرف إلى : الذي يتعدى به فعل النظر ، وجوز صاحب الكشاف في قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} في سورة النساء [44] : أن تكون الرؤية قلبية ، وتكون إلى داخلة على المفعول الأول لتأكيد اتصال العلم بالمعلوم وانتهائه المجازي إليه ، فتكون مثل قوله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم} [البقرة : 258]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 64}
فائدة
قال الفخر :
ظاهر قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} يتناول كلهم ، ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم ، إلا أنه قد دلّ دليل آخر ، على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [ آل عمران : 113 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 188}
قوله تعالى : {أوتوا نصيباً من الكتاب}
قال الفخر :
المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار ، وهم اليهود والنصارى ، وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق ، ومن عند الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 188}
فصل في سبب النزول
قال الفخر :
ذكروا في سبب النزول وجوهاً(12/138)
أحدها : روي عن ابن عباس أن رجلاً وامرأة من اليهود زنيا ، وكانا ذوي شرف ، وكان في كتابهم الرجم ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : " بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم ؟ " قالوا : عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة ، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها ، فقال ابن سلام : قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرجما ، فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثانية : أنه صلى الله عليه وسلم دخل مدرسة اليهود ، وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا : على أي دين أنت ؟ فقال : على ملة إبراهيم ، فقالوا : إن إبراهيم كان يهودياً فقال صلى الله عليه وسلم : " هلموا إلى التوراة ، " فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثالثة : أن علامات بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة في التوراة ، والدلائل الدالة على صحة نبوّته موجودة فيها ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة ، وإلى تلك الآيات الدالة على نبوّته فأبوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم ، فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال الله تعالى : {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [ آل عمران : 93 ] وهذه الآية على هذه الرواية دلّت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوّته ، إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوّته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك.
(12/139)
والرواية الرابعة : أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى ، وذلك لأن دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل ، وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 188 ـ 189}
وقال السمرقندى :
قال مقاتل : نزلت في كعب بن الأشرف ، وجماعة منهم حين قالوا ؛ نحن أَهْدَى سبيلاً ، وما بعث الله رسولاً بعد موسى عليه السلام فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي أَقْولُ لَكُمْ حَقٌّ فأَخْرِجُوا التَّورَاةَ " ، فأَبَوا.
فأنزل الله تعالى هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب }. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 228}
وقال ابن الجوزى :
إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإسلام ، فقال : نعمان بن أبي أوفى : هلم نحاكمك إلى الأحبار.
فقال : بل إلى كتاب الله ، فقال : بل إلى الأحبار ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 366 ـ 367}
قال الطبرى :
ولا دلالة في الآية على أيّ ذلك كان من أيٍّ ، فيجوز أن يقال : هو هذا دون هذا. ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك ، لأن المعنى الذي دُعوا إلى حكمه ، هو مما كان فرضًا عليهم الإجابة إليه في دينهم ، فامتنعوا منه ، فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردّتهم ، وتكذيبهم بما في كتابهم ، وجحودهم ما قد أخذ عليهم عهودَهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به. فلن يعدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا وما جاء به من الحق ، مثلهم في تكذيبهم موسى وما جاء به وهم يتولونه ويقرّون به. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 291}
قوله تعالى {نَصِيباً مّنَ الكتاب}
قال الفخر :
المراد منه نصيباً من علم الكتاب ، لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب ، لأن من لا علم له بذلك لا يدعي إليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 189}(12/140)
فائدة
قال ابن عطية :
وخص الله تعالى بالتولي فريقاً دون الكل لأن منهم من لم يتول كابن سلام وغيره. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 416}
قوله تعالى : {يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} ففيه قولان :
القول الأول : وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن أنه القرآن.
فإن قيل : كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به ؟ .
قلنا : إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند الله.
والقول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين : إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه
الأول : أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون
والثاني : أنه تعالى عجب رسوله صلى الله عليه وسلم من تمردهم وإعراضهم ، والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته ، ويقرون بحقيته
الثالث : أن هذا هو المناسب لما قبل الآية ، وذلك لأنه تعالى لما بيّن أنه ليس عليه إلا البلاغ ، وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بيّن أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا ما فيه من الدلائل الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب والبعد عن قبول الحق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 189}
وقال ابن عطية :
{ الكتاب } في قوله : { إلى كتاب الله } هو التوراة ، وقال قتادة وابن جريج : { الكتاب } في قوله { إلى كتاب الله } هو القرآن ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه فكانوا يعرضون ، ورجح الطبري القول الأول ، وقال مكي : الكتاب الأول اللوح المحفوظ والثاني التوراة. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 416}(12/141)
وقال ابن عاشور :
و {كِتَابِ اللَّهِ} : القرآن كما في قوله {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة : 101] فهو غير الكتاب المراد في قوله {مِنَ الْكِتَابِ} كما ينبئ به تغيير الأسلوب. والمعنى : يدعون إلى اتباع القرآن والنظر في معانيه ليحكم بينهم فيأبون. ويجوز أن يكون كتاب الله عين المراد من الكتاب ، وإنما غير اللفظ تفننا وتنويها بالمدعو إليه ، أي يدعون إلى كتابهم ليتأملوا منه ، فيعلموا تبشيره برسول يأتي من بعد ، وتلميحه إلى صفاته. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 65}
ورجح الطبرى بأن المراد من الكتاب التوراة وقال :
وإنما قلنا إن ذلك"الكتاب" هو التوراة ، لأنهم كانوا بالقرآن مكذبين ، وبالتوراة بزعمهم مصدّقين ، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرُّون ، أبلغَ ، وللعذر أقطعَ. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 292}
قوله تعالى {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}
قال الفخر :
المعنى : ليحكم الكتاب بينهم ، وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور ، وقرىء {لِيَحْكُمَ} على البناء للمفعول ،
قال صاحب "الكشاف" : وقوله {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم ، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بيّن الله أنهم عند الدعاء يتولى فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 189}
قوله تعالى {وَهُم مُّعْرِضُونَ}
قال الفخر :
فيه وجهان :
الأول : المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم ، كأنه قيل : ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تولي علمائهم.(12/142)
والثاني : أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق ، والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب ، كأنه قيل : لا تظن أنه تولى عن هذه المسألة بل هو معرض عن الكل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 189}
وقال الآلوسى :
{ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَريقٌ مِّنْهُمْ } عطف على ( يدعون ) ، و{ ثم } للتراخي الرتبي ، وفيه استبعاد توليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه ، و{ منهم } صفة لفريق ، ولعل المراد بهذا الفريق أكثرهم علماً ليعلم تولي سائرهم من باب الأولى قيل : وهذا سبب العدول عن -ثم يتولون- وقيل : الذين لم يسلموا ، ووجه العدول عليه ظاهر فتدبر.
{ وَهُمْ مُّعْرضُونَ } جوز أن يكون صفة معطوفة على الصفة قبلها فالواو للعطف ، وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في { منهم } أو من { فريق } لتخصيصه بالصفة فالواو حينئذ للحال وهي إما مؤكدة لأن التولي والإعراض بمعنى ، وإما مبينة لاختلاف متعلقيهما بناءاً على ما قبل : إن التولي عن الداعي والإعراض عن المدعو إليه أو التولي بالبدن والإعراض بالقلب ، أو الأول كان من العلماء. والثاني من أتباعهم ، وجوز أن لا يكون لها محل من الإعراب بأن تكون تذييلاً أو معترضة ، والمراد وهم قوم ديدنهم الإعراض ، وبعضهم فسر الجملة بهذا مع اعتبار الحالية ولعله رأى أنه لا يمنع عنها. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 111}
سؤال : فإن قيل : التولِّي عن الشيء هو الإعراض عنه ،
قيل : معناه يتولَّى عن الداعي ويعرض عما دُعِيَ إليه. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 383}
وقال ابن الجوزى :
فإن قيل : التولي هو الإعراض ، فما فائدة تكريره ؟
فالجواب من أربعة أوجه.
أحدها : التأكيد.
والثاني : أن يكون المعنى : يتولون عن الداعي ، ويعرضون عما دعا إليه.
والثالث : يتولون بأبدانهم ، ويعرضون عن الحق بقلوبهم.(12/143)
والرابع : أن يكون الذين تولوا علماءهم ، والذين أعرضوا أتباعهم ، قاله ابن الأنباري. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 367}
فصل
قال القرطبى :
في هذه الآية دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم لأنه دعي إلى كتاب الله ؛ فإن لم يفعل كان مخالفا يتعين عليه الزجر بالأدب على قدر المخالِف والمخالَف.
وهذا الحكم جار عندنا بالأندلس وبلاد المغرب وليس بالديار المصرية.
وهذا الحكم الذي ذكرناه مبيِّن في التنزيل في سورة "النور" في قوله تعالى { وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } إلى قوله { بَلْ أولئك هُمُ الظالمون } [ النور : 48 ، 49 ، 50 ] وأسند الزهرّي عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له " قال ابن العربي : وهذا حديث باطل.
أمّا قوله "فهو ظالم" فكلام صحيح.
وأمّا قوله "فلا حق له" فلا يصح ، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق.
قال ابن خُوَيْزِ مَندَاد المالكي : واجب على كل من دُعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يُعلم أنّ الحاكم فاسق ، أو يُعلم عداؤه من المدعي والمدعى عليه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 50}
فصل
قال القرطبى :
في هذه الآية دليل على أن شرائع من قبلنا شريعة لنا إلا ما علِمنا نسخه ، وأنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا ، على ما يأتي بيانه.
وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل بما فيها لأن من هي في يده غير أمين عليها وقد غيرها وبدّلها ، ولو علمنا أن شيئاً منها لم يتغير ولم يتبدل جاز لنا قراءته.
ونحو ذلك روي عن عمر حيث قال لكعب : إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها.
وكان عليه السلام عالما بما لم يغيِّر منها فلذلك دعاهم إليها وإلى الحكم بها.
وسيأتي بيان هذا في "المائدة" والأخبار الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في ذلك. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 50 ـ 51}. بصرف يسير.(12/144)
من فوائد العلامة أبى السعود فى الآية :
{ أَلَمْ تَرَ } تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤيةُ من حال أهل الكتاب وسوءِ صنيعِهم ، وتقرير لما سبق من أن اختلافهم في الإسلام إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقّيته أي ألم تنظرُ { إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } أي التوراةِ على أن اللامَ للعَهدْ وحملُه على جنس الكتبِ الإلهية تطويلٌ للمسافة إذ تمامُ التقريب حينئذ بكون التوراة من جملتها لأن مدار التشنيع والتعجيب إنما هو إعراضُهم عن المحاكمة إلى ما دُعوا إليه وهم لم يُدْعَوا إلا إلى التوراة ، والمرادُ بما أوتوه منها ما بُيِّن لهم فيها من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علِموه من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وحقّية الإسلام ، والتعبيرُ عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصِه بهم وكونِه حقاً من حقوقهم التي يجبُ مراعاتُها والعملُ بموجبها وما فيه من التنكير للتفخيم ، وحملُه على التحقير لا يساعده مقامُ المبالغة في تقبيح حالِهم { يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله } الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة ، والإظهارُ في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة ، وإضافتُه إلى الاسم الجليلِ لتشريفه وتأكيدِ وجوب المراجعةِ إليه ، والجملةُ استئنافٌ مبيِّنٌ لمحل التعجيب مبنيّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل : ماذا يصنعون حتى ينظُرَ إليهم ؟ فقيل : يُدعون إلى كتاب الله تعالى ، وقيل : حال من الموصول { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مِدراسَهم فدعاهم إلى الإيمان فقال له نعيمُ بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أيّ دين أنت ؟ قال عليه الصلاة والسلام : " على ملة إبراهيم " قالا : إن إبراهيمَ كان يهودياً فقال صلى الله عليه وسلم لهما : " إن بيننا وبينكم التوراةَ فهلُمّوا إليها " فأبيا. وقيل : نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه وقيل : { كتاب الله } القرآنُ فإنهم قد علموا أنه كتابُ الله ولم يشكوا فيه ، وقرىء ليُحكَم(12/145)
على بناء المجهول فيكون الاختلافُ بينهم بأن أسلم بعضُهم كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه وعاداهم الآخرون { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ } استبعاد لتولّيهم بعد علمِهم بوجوب الرجوع إليه { وَهُم مُّعْرِضُونَ } إما حال من { فَرِيقٌ } لتخصصه بالصفة أي يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم ، أو اعتراضٌ أي وهم قوم ديدنُهم الإعراضُ عن الحق والإصرارُ على الباطل. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 2 صـ 20}
فائدة
قال السعدى فى معنى الآية :
يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه ، فكان يجب أن يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقيادا لأحكامه ، فأخبر الله عنهم أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم يعرضون ، تولوا بأبدانهم ، وأعرضوا بقلوبهم ، وهذا غاية الذم ، وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل كفعلهم ، فيصيبنا من الذم والعقاب ما أصابهم ، بل الواجب على كل أحد إذا دعي إلى كتاب الله أن يسمع ويطيع وينقاد ، كما قال تعالى { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا }. أ هـ {تفسير السعدى صـ 126}
من فوائد العلامة الجصاص فى الآية :
قال رحمه الله :
قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ } الْآيَةَ.(12/146)
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَرَادَ الْيَهُودَ حِينَ دُعُوا إلَى التَّوْرَاةِ وَهِيَ كِتَابُ اللَّهِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمْ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى : { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ.
وَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَمَا أَعْرَضُوا عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَى مَا فِي كُتُبِهِمْ ، وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ آمَنُوا " وَصَدَّقُوا لِعِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَلِمَا عَرَفُوهُ مِنْ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ اللَّهِ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا ادَّعَاهُ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ لَمَا أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ بَلْ كَانُوا يُسَارِعُونَ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا فِي كُتُبِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنُوا بُطْلَانَ دَعْوَاهُ ، فَلَمَّا أَعْرَضُوا ، وَلَمْ يُجِيبُوا إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ.(12/147)
وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَحَدَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْعَرَبَ مِنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَدَلُوا إلَى الْقِتَالِ وَالْمُحَارَبَةِ ، لِعِلْمِهِمْ بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا ؛ وَكَمَا دَعَاهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ حَضَرُوا وَبَاهَلُوا لَأَضْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْوَادِيَ نَارًا ، وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَى أَهْلٍ ، وَلَا وَلَدٍ }.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يُدْعَوْنَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ } إلَى الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ يُوَافِقُ مَا فِي التَّوْرَاةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالشَّرْعِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَتْ بِهَا الْبِشَارَةُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ.(12/148)
وَالدُّعَاءُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ دِينَهُ الْإِسْلَامُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ حَدٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى بَعْضِ مَدَارِسِهِمْ ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَدِّ الزَّانِي ، فَذَكَرُوا الْجَلْدَ وَالتَّحْمِيمَ وَكَتَمُوا الرَّجْمَ ، حَتَّى وَقَّفَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ بِحَضْرَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ } وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ مُحْتَمَلَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ قَدْ وَقَعَ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ ؛ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا خَصْمَهُ إلَى الْحُكْمِ لَزِمَتْهُ إجَابَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ دَعَاهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى : { إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ }. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 287 ـ 288}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
امتحناك بدعوة من سبق علمنا بأنهم لا يستجيبون ، فاصبر على ما أُمِرْتَ فيهم ، واعلم سوء أحوالهم ، فإنهم أهل التولِّي عن الإجابة ، لأنهم فقدوا منا حسن التجلي بسابق الإرادة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 229}(12/149)
قوله تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ثم علل اجتراءهم على الله تعالى فقال : {ذلك} أي الإعراض البعيد عن أفعال أهل الكرم المبعد من الله {بأنهم قالوا} كذباً على الله - كما تقدم بيانه في سورة البقرة {لن تمسنا النار إلا أياماً} ولما كان المقام هنا لتناهي اجترائهم على العظائم لاستهانتهم بالعذاب لاستقصارهم لمدته والتصريح بقتل الآمرين بالقسط عامة وبحبوط الأعمال ، وكان جمع القلة قد يستعار للكثرة أكدت إرادتهم حقيقة القلة بجمع آخر للقلة ، فقيل على ما هو الأولى من وصف جمع القلة لما لا يعقل بجمع جبراً له : {معدودات} وتطاول الزمان وهم على هذا الباطل حتى آنسوا به واطمأنوا إليه لأنه ما كذب أحد بحق إلا عوقب بتصديقه بباطل ، وما ترك قوم سنة إلا أحيوا بدعة ، على أن كذبهم أيضاً جرهم إلى الاستهانة بعذاب الله الذي لا يستهان بشيء منه ولو قل.
ولما نسبوا ذلك إلى الكتاب فجعلوه ديناً قال : {وغرَّهم} قال الحرالي : من الغرور وهو إخفاء الخدعة في صورة النصيحة - انتهى {في دينهم ما كانوا} أي بما هيؤوا له وجبلوا عليه {يفترون} أي يتعمدون كذبة ، قال الحرالي : فتقابل التعجيبات في ردهم حق الله سبحانه وتعالى وسكونهم إلى باطلهم - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 50}
وقال الفخر : (12/150)
وجه النظم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} قال في هذه الآية : ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ، قال الجبائي : وفيها دلالة على بطلان قول من يقول : إن أهل النار يخرجون من النار ، قال : لأنه لو صحّ ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم ، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذباً ، ولما استحق الذم ، فلما ذكر الله تعالى ذلك في معرض الذم علمنا أن القول بخروج أهل النار قول باطل.
وأقول : كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام ، وذلك لأن مذهبه أن العفو حسن جائز من الله تعالى ، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم.
سلمنا أنه يلزم ذلك ، لكن لم قلتم : إن القوم إنما استحقوا الذم على مجرد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار بل ههنا وجوه أُخر
الأول : لعلمهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة ، فإنه روي أنهم كانوا يقولون : مدة عذابنا سبعة أيام ، ومنهم من قال : بل أربعون ليلة على قدر مدة عبادة العجل
والثاني : أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ويقولون بتقدير وقوع الخطأ منا فإن عذابنا قليل وهذا خطأ ، لأن عندنا المخطىء في التوحيد والنبوّة والمعاد عذابه دائم ، لأنه كافر ، والكافر عذابه دائم
والثالث : أنهم لما قالوا {لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} فقد استحقروا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ العقاب فكان ذلك تصريحاً بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وذلك كفر والكافر المصر على كفره لا شك أن عذابه مخلد ، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف وتمام الكلام على سبيل الاستقصاء مذكور في سورة البقرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 190}
فوائد لغوية
قال ابن عادل : (12/151)
قوله : " ذَلِكَ " فيها وجهان :
أصحهما : أنها مبتدأ ، والجار بعده خبره ، أي : ذلك التوَلِّي بسبب هذه الأقوال الباطلةِ ، التي لا حقيقةَ لها.
والثاني : أن " ذَلِكَ " خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أى : الأمر ذلك ، وهو قول الزَّجَّاج وعلى هذا قوله : " بأنَّهُمْ " متعلق بذلك المقدَّر - وهو الأمر ونحوه -.
وقال أبو البقاء : فعلى هذا يكون قوله " بأنَّهُمْ " في موضع نَصْب على الحال بما في " ذَا " من معنى الإشارة ، أي : ذلك الأمر مستحقاً بقولهم ، ثم قال : " وهذا ضعيفٌ ".
قلت : بل لا يجوز ألبتة.
وجاء - هنا - " مَعْدُودَاتٍ " ، بصيغة الجمع - وفي البقرة " مَعْدُودَةً " ، تفنُّناً في البلاغة ، وذلك أن جمع التكسير - غير العاقل - يجوز أن يعامَل معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً ، ومعاملةَ جمع الإناث أخْرَى ، فيقال : هذه جبال راسيةٌ - وإن شئت : راسياتٌ- ، وجمال ماشية ، وإن شئت : ماشيات.
وخص الجمع بهذا الموضع ؛ لأنه مكان تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا : فأتى بلفظ الجمع مبالغةٌ في زجرهم ، وزجر من يعمل بعملهم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 118 ـ 119}
قوله تعالى : {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}
قال ابن عادل :
قوله : { وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ } الغُرور : الخِدَاع ، يقال منه : غَرًَّهُ ، يَغُرُّهُ ، غُرُوراً ، فهو غَارٌّ ، ومغرور.
والغَرُور : - بالفتح - مثال مبالغة كالضَّرُوب.
والغِرُّ : الصغير ، والغِرِّيرَة : الصغيرة ؛ لأنهما يُخ
عان ، والغِرَّة : مأخوذة من هذا ، قال : أخذه على غِرَّة ، أي : تغفُّل وخداعِ ، والغُرَّة : بياض في الوجه ، يقال منه : وَجْهٌ أغَرُّ ، ورجل أغَرّ وامرأة غَرَّاء.
والجمع القياسي : غُرٌّ ، وغير القياسي غُرَّانُ.
قال : [ الطويل ]
1377- ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ... وَأوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ(12/152)
والغرة من كل شيء أنفسه ، وفي الحديث : " وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً ، عَبْداً أوُ أمَةً ".
قيل : الغُرًَّة : الخِيار ، وقال أبو عمرو بن العلاء - في تفسير هذا الحديث - إنه لا يكون إلا الأبيض من الرقيق ، كأنه أخَذَه من الغُرَّة ، وهو البياض في الوَجْه.
قوله : { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } " ما " يجوز أن تكون مصدريةً ، أو بمعنى " الذي " ، والعائد محذوف أي : الذي كانوا يفترونه.
قيل هو قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ].
وقيل : هو قولهم : نحن على الحق وأنت على الباطل. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 120}
قال الفخر :
اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} فقيل : هو قولهم {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [ المائدة : 18 ] وقيل : هو قولهم {لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} وقيل : غرهم قولهم : نحن على الحق وأنت على الباطل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 190}
فائدة
قال الطبرى فى معنى الآية :
يعني جل ثناؤه بقوله : "بأنهم قالوا" ، بأنّ هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق فيما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما أبوا الإجابة إلى حكم التوراة وما فيها من الحق : من أجل قولهم : "لن تمسنا النارُ إلا أيامًا معدودات" وهي أربعون يومًا ، وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل ثم يخرجنا منها ربنا ، اغترارًا منهم "بما كانوا يفترون" ، يعني : بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل ، في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحِبّاؤه ، وأن الله قد وعد أباهم يعقوبَ أن لا يُدْخل أحَدًا من ولده النار إلا تَحِلَّةَ القسم.
فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم ، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل النار هم فيها خالدون ، دون المؤمنين بالله ورُسله وما جاءوا به من عنده. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 292}(12/153)
سؤالان
الأول : أيمكن للإنسان أن يختلق كذباً أو إفتراءاً وينسبه إلى الله ، ثمّ يتأثّر به هو ويعتوره الغرور إلى تلك الدرجة التي أشار إليها القرآن في الآيات السابقة بالنسبة لليهود ؟
ليس من العسير الردّ على هذا السؤال ، وذلك لأنّ قضية خداع النفس من القضايا التي يعترف بها علم النفس المعاصر. إنّ العقل الإنساني يسعى أحياناً إلى استغفال الضمير بأن يغيّر وجه الحقيقة في عين ضميره. كثيراً ما نشاهد أُناساً ملوّثين بالذنوب الكبيرة ، كالقتل والسرقة وأمثالها ، على الرغم من إدراكهم تماماً قبح تلك الأعمال يسعون لإظهار ضحاياهم بأنّهم كانوا يستحقّون ما أصابهم لكي يسبغوا هدوءاً كاذباً على ضمائرهم ، وكثيراً ما نرى المدمنين على المخدّرات يبرّرون فعالهم بأنّهم يستهدفون الفرار من مصائب الدنيا ومشاكلها.
ثمّ إنّ هذه الأكاذيب والإفتراءات عن تفوّقهم العنصري التي حاكتها الأجيال
السابقة من أهل الكتاب وصلت بالتدريج إلى الأجيال التالية التي لم تكن تعرف الكثير عن هذا الموضوع ـ ولم تعن بالبحث عن الحقيقة ـ بصورة عقائد مسلّم بها.
السؤال الثانى : يمكن أن يقال إنّ الاعتقاد "بالعذاب لأيام معدودات" منتشر بيننا نحن المسلمين أيضاً ، لأنّنا نعتقد أنّ المسلمين لا يخلّدون في العذاب الإلهي ، إذ أنّ إيمانهم سوف ينجيهم أخيراً من العذاب.
ولكن ينبغي التوكيد هنا أنّنا لا يمكن أن نعتقد بأنّ المسلم المذنب والملوّث بأنواع الآثام يعذّب بضعة أيّام فقط ، بل أنّنا نعتقد أنّ عذاب هؤلاء يطول لسنوات وسنوات لا يعرف مداها إلاَّ الله ، إلاَّ أنّ عذابهم لا يكون أبدياً خالداً. وإذا وجد حقّاً بين المسلمين من يحسبون أنّهم بالاحتماء بالإسلام والإيمان والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
يجوز لهم أن يرتكبوا ما يشاؤون من الذنوب ، ثمّ لا يصيبهم من العقاب سوى بضعة أيّام من العذاب ، فإنّهم على خطأ كبير ويجهلون تعاليم الإسلام وروح تشريعاته.(12/154)
ثمّ إنّنا لا نعترف بأيّ امتياز خاصّ للمسلمين ، بل نعتقد أنّ كلّ أُمّة اتّبعت نبيّها في زمانها ثمّ أذنبت مشمولة بهذا القانون أيضاً ، بغضّ النظر عن عنصرها. أمّا اليهود فيخصّون أنفسهم بهذا الامتياز دون غيرهم بزعم تفوّقهم العنصري. وقد ردّ عليهم القرآن زعمهم الكاذب هذا في الآية 18 من سورة المائدة : (بل أنتم بشرممّن خلق). أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 443 ـ 444}. بتصرف يسير.(12/155)
من فوائد العلامة الآلوسى فى الآية
قال رحمه الله :
{ ذلك } أي المذكور من التولي والإعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات } أي حاصل لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له وهونوا به الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب ، والمراد بالأيام المعدودات أيام عبادتهم العجل ، وجاء هنا { معدودات } بصيغة الجمع دون ما في البقرة ( 80 ) فإنه { مَّعْدُودَةً } بصيغة المفرد تفنناً في التعبير ، وذلك لأن جمع التكسير لغير العاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع الإناث أخرى فيقال : هذه جبال راسية ، وإن شئت قلت راسيات ، وجمال ماشية وإن شئت ماشيات ، وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفه وذلك أليق بمقام التعجيب والتشنيع { وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم } أي أطمعهم في غير مطمع وخدعهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي افتراؤهم وكذبهم أو الذي كانوا يفترونه من قولهم : { لَن تَمَسَّنَا النار } الخ قاله مجاهد أو من قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] قاله قتادة أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم : "إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه إلا تحلة القسم" والظرف متعلق بما عنده أو بيفترون واعترضه الخطيب بأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله ؛ وأجيب بالتوسع. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 111}(12/156)
وقال ابن عاشور :
وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} الإشارة إلى توليهم وإعراضهم ، والباء للسببية : أي إنهم فعلوا ما فعلوا بسبب زعمهم أنهم في أمان من العذاب إلا أياما قليلة ، فانعدم اكتراثهم باتباع الحق ؛ لأن اعتقادهم النجاة من عذاب الله على كل حال جرأهم على ارتكاب مثل هذا الإعراض. وهذا الاعتقاد مع بطلانه مؤذن أيضا بسفالة همتهم الدينية ، فكانوا لا ينافسون في تزكية الأنفس. وعبر عن الاعتقاد بالقول دلالة على أن هذا الاعتقاد لا دليل عليه وأنه مفترى مدلس ، وهذه العقيدة عقيدة اليهود ، كما تقدم في البقرة.
وقوله {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي ما تقولوه على الدين وأدخلوه فيه ، فلذلك أتي بفي الدالة على الظرفية المجازية ، ومن جملة ما كانوا يفترونه قولهم {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة : 80] ، وكانوا أيضا يزعمون أن الله وعد يعقوب ألا يعذب أبناءه.
وقد أخبر الله تعالى عن مفاسد هذا الغرور والافتراء بإيقاعها في الضلال الدائم ، لأن المخالفة إذا لم تكن عن غرور فالإقلاع عنها مرجو ، أما المغرور فلا يترقب منه إقلاع. وقد ابتلى المسلمون بغرور كثير في تفاريع دينهم وافتراءات من الموضوعات عادت على مقاصد الدين وقواعد الشريعة بالإبطال ، وتفصيل ذلك في غير هذا المجال. أهـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 66}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ }.
عاقبناهم في الدنيا بالاستدراج حتى حكموا لأنفسهم بالنجاة وتخفيف العقاب ، وسوف يعلمون تضاعف البلاء عليهم ، ويحسبون أنهم على شيء ألا أنهم هم الكاذبون. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 229}(12/157)
قوله تعالى { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تسبب عن اجترائهم بالكذب على الله أن يسأل عن حالهم معه قال صارفاً القول إلى مظهر العظمة المقتضي للمجازاة والمناقشة : {فكيف} أي يكون حالهم {إذا جمعناهم} أي وقد رفعنا حجاب العظمة وشهرنا سيف العزة والسطوة.
ولما كان المقصود بالجمع الجزاء قال : {ليوم} ووصفُه بقوله : {لا ريب فيه} مشعر- كما قال الحرالي - بأنهم ليسوا على طمأنينة في باطلهم بمنزلة الذي لم يكن له أصل كتاب ، فهم في ريبهم يترددون إلى أن يأتي ذلك اليوم.
ولما كان الجزاء أمراً متحققاً لا بد منه أشار إليه بصيغة الماضي في قوله : {ووفيت} والبناء للمفعول للإفهام بسهولة ذلك عليه وإن كان يفوت الحصر وتأنيث الفعل للإشارة إلى دناءة النفوس وضعفها وقوله : {كل نفس} قال الحرالي : الفصل الموقع للجزاء مخصوص بوجود النفس التي دأبها أن تنفس فتريد وتختار وتحب وتكره ، فهي التي توفي ، فمن سلب الاختيار والإرادة والكراهة بتحقق الإسلام الذي تقدم ارتفع عنه التوفية ، إذ لا وجود نفس له بما أسلم وجهه لله ، فلذلك اختص وعيد القرآن كله بالنفس في نفاستها بإرادتها وما تنشأ لها عليه من أحوالها وأفعالها ودعواها في ملكها ومُلكها ، فمتى نفست فتملكت ملكاً أو تشرفت مُلكاً خرجت عن إسلامها حتى ينالها سلب القهر منه وإلزام الذل عنه ، وبلمح من هذا المعنى اتصلت الآية التي بعدها بختم هذه الآية وناظرت رأس آية ذكر الإسلام ، فإنما هو مسلم لله وذو نفس متملك على الله حتى يسلبه الله في العقبى أو يذله في الدنيا ، فشمل هذا الوفاء لكل نفس أهل الكتاب وغيرهم ، وعم الوفاء لكل من يعمه الجمع ، كذلك خطاب القرآن يبدأ بخصوص فيختم بعموم ، ويبدأ بعموم فيثنيه تفصيل - انتهى.(12/158)
ولما كان هذا الجزاء شاملاً للخير والشر قال : {ما} أي جزاء ما {كسبت} فأتى به مخففاً ليشمل المباشرة بكسب أو اكتساب ، وأنث الفعل مع جواز التذكير مراعاة للفظ كل إشارة إلى الإحاطة بالأفعال ولو كانت في غاية الحقارة ، وراعى معنى " كل " للوفاء بالمعنى مع موافقة الفواصل {وهم لا يظلمون} أي لا يقع عليهم ظلم بزيادة ولا نقص ، ولا يتوقعونه. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 50 ـ 51}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ}
فالمعنى أنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بيّن أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل ، ويكشف فيه ذلك الغرور فقال {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} وفي الكلام حذف ، والتقدير : فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيراً مع كيف لدلالته عليها تقول : كنت أكرمه وهو لم يزرني ، فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني ، واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل : لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية.
أما قوله تعالى : {إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ} ولم يقل في يوم ، لأن المراد : لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلّت اللام عليه ، قال الفرّاء : اللام لفعل مضمر إذا قلت : جمعوا ليوم الخميس ، كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت : جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلاً وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب ، وقوله {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك فيه.
ثم قال : {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فإن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف ، والتقدير : ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب ، وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار.(12/159)
ثم قال : {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فلا ينقص من ثواب الطاعات ، ولا يزاد على عقاب السيئات.
واعلم أن قوله {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} يستدل به القائلون بالوعيد ، ويستدل به أصحابنا القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار ، أما الأولون قالوا : لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة ، والآية دلّت على أن كل نفس توفى عملها وما كسبت ، وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة.
وجوابنا : أن هذا من العمومات ، وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة بالعمومات.
وأما أصحابنا فإنهم يقولون : إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلا بد وأن يوفي عليه ذلك الثواب لقوله {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع ، وإما أن يقال : يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبداً مخلداً وهو المطلوب.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم ؟ .
قلنا : هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة ، وأيضاً فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر ، والمنازع فيه مكابر ، فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر ، وكان يحيى بن معاذ رحمة الله عليه يقول : ثواب إيمان لحظة ، يسقط كفر سبعين سنة ، فثواب إيمان سبعين سنة كيف يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة ، ولا شك أنه كلام ظاهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 190}
وقال القرطبى :
خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأُمّتِه على جهة التوقيف والتعجُّب ، أي فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا ، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم.
واللام في قوله "ليوم" بمعنى "في" ؛ قاله الكسائي.
وقال البصريون : المعنى لحساب يوم.
(12/160)
الطبريّ : لما يحدث في يوم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 51}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } تفريع عن قوله : { وغرهم في دينهم } أي إذا كان ذلك غروراً فكيف حالهم أو جزاؤهم إذا جمعناهم ووفيناهم جزاءهم والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والتفظيع مجازاً.
"وكيف" هنا خبر لمحذوف دل على نوعه السياق ، و{ إذا } ظرف منتصب بالذي عمِلَ في مظروفه : وهو ما في كيف من معنى الاستفهام التفظيعي كقولك : كيف أنت إذا لقيت العدوّ ، وسيجيء زيادة بيان لمثل هذا التركيب عند قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } في سورة [ النساء : 41 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 66}
وقال الطبرى :
يعني بقوله جل ثناؤه : "فكيف إذا جمعناهم" ، فأيُّ حال يكون حالُ هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول ، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله ، واغترارهم بربهم ، وافترائهم الكذب ؟ وذلك من الله عز وجل وعيدٌ لهم شديد ، وتهديدٌ غليظٌ.
وإنما يعني بقوله : "فكيف إذا جمعناهم" الآية : فما أعظم ما يلقوْن من عقوبة الله وتنكيله بهم ، إذا جمعهم ليوم يُوفَّى كلّ عامل جزاءَ عمله على قدر استحقاقه ، غير مظلوم فيه ، لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم ، ولا يؤاخذُ إلا بما عمل ، يُجزَي المحسنُ بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، لا يخاف أحدٌ من خلقه منه يومئذ ظلمًا ولا هضمًا.
فإن قال قائل : وكيف قيل : "فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه" ، ولم يقل : في يوم لا رَيب فيه ؟ (12/161)
قيل : لمخالفة معنى"اللام" في هذا الموضع معنى "في". وذلك أنه لو كان مكان"اللام""في" ، لكان معنى الكلام : فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة ، ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب ؟ وليس ذلك المعنى في دخول"اللام" ، ولكن معناه مع"اللام" : فكيف إذا جمعناهم لما يحدُث في يوم لا ريب فيه ، ولما يكون في ذلك اليوم من فَصْل الله القضاءَ بين خلقه ، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب ؟ فمع"اللام" في"ليوم لا ريب فيه" نيَّة فِعْل ، وخبرٌ مطلوب قد ترك ذكره ، أجزأت دلالةُ دخول"اللام" في"اليوم" عليه ، منه ، وليس ذلك مع"في" ، فلذلك اختيرت"اللام" فأدخلت في"اليوم" ، دون"في".
وأما تأويل قوله : "لا ريب فيه" ، فإنه : لا شك في مجيئه. وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية ، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته.
وعنى بقوله : "ووُفِّيت" ، ووَفَّى الله "كلُّ نفس ما كسبت" ، يعني : ما عملت من خير وشر "وهم لا يظلمون" ، يعني أنه لا يبخس المحسن جزاءَ إحسانه ، ولا يعاقب مسيئًا بغير جرمه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 294 ـ 295}(12/162)
وقال الآلوسى :
{ فَكَيْفَ } استعظام وتهويل وهدم لما استندوا إليه ، وكلمة الاستفهام في موضع نصب على الحال والعامل فيه محذوف أي كيف تكون حالهم أو كيف يصنعون أو كيف يكونون ، وجوز أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف أي كيف حالهم ، وقولهم تعالى : { إِذَا جمعناهم } ظرف محض من غير تضمين شرط والعامل فيه العامل في ( كيف ) إن قدر أنها منصوبة بفعل مقدر ، وإن قلنا : إنها خبر لمبتدأ مضمر كان العامل في ( إذا ) ذلك المقدر أي كيف حالهم في وقت جمعهم { لِيَوْمِ } أي في يوم أو لجزاء يوم. { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في وقوعه ووقوع ما فيه ، روي أنه أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار { وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي ما عملت من خير أو شر ، والمراد جزاء ذلك إلا أنه أقيم المكسوب مقام جزائه إيذاناً بكمال الاتصال والتلازم بينهما حتى كأنهما شيء واحد { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } شيئاً فلا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون في عذابهم بل يعطي كل منهم مقدار ما كسبه ، والضمير راجع إلى كل إنسان المشعر به كل نفس ، وكل يجوز مراعاة معناه فيجمع ضميره ووجه التذكير ظاهر. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 111 ـ 112}
وقال ابن عطية :
قال تعالى خطاباً لمحمد وأمته على جهة التوقيف والتعجيب فكيف حال هؤلاء المغترين بالأباطيل إذا حشروا يوما القيامة واضمحلت تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم وأعمالهم القبيحة ؟ قال النقاش : واليوم الوقت ، وكذلك قوله : { في ستة أيام } [ الأعراف : 54 ] [ السجدة : 4 ] إنما هي عبارة عن أوقات فإنها الأيام والليالي والصحيح في يوم القيامة أنه يوم لأن قبله ليلة وفيه شمس ، واللام في قوله تعالى : { ليوم } طالبة لمحذوف ، قال الطبري تقديره لما يحدث في يوم . أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 416}(12/163)
وقال العلامة أبو حيان :
{ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } هذا تعجيب من حالهم ، واستعظام لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم ، وظهر كذب دعواهم ، إذ صاروا إلى عذاب ما لهم حيلة في دفعه ، كما قال تعالى : { تلك أمانيهم } هذا الكلام يقال عند التعظيم لحال الشيء ، فكيف إذا توفتهم الملائكة ؟ وقال الشاعر :
فكيف بنفس ، كلما قلت : أشرفت . . .
على البرء من دهماء ، هيض اندمالها
وقال :
فكيف ؟ وكلٌّ ليس يعدو حمامه . . .
وما لامرىء عما قضى الله مرحلُ
وانتصاب : فكيف ، قيل على الحال ، والتقدير : كيف يصنعون ؟ وقدره الحوفي : كيف يكون حالهم ؟ فإن أراد كان التامة كانت في موضع نصب على الحال ، وإن كانت الناقصة كانت في موضع نصب على خبر كان ، والأجود أن تكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى : التقدير : كيف حالهم ؟ والعامل في : إذا ، ذلك الفعل الذي قدره ، والعامل في : كيف ، إذا كانت خبراً عن المبتدأ إن قلنا إن انتصابها انتصاب الظروف ، وإن قلنا إنها اسم غير ظرف ، فيكون العامل في : إذا ، المبتدأ الذي قدرناه ، أي : فكيف حالهم في ذلك الوقت ؟ وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب ، وكذا أكثر استفهامات القرآن ، لأنها من عالم الشهادة ، وإنما استفهامه تعالى تقريع.
واللام ، تتعلق : بجمعناهم ، والمعنى : لقضاء يوم وجزائه كقوله :
{ إنك جامع الناس ليوم } قال النقاش : اليوم ، هنا الوقت ، وكذلك : { أياماً معدودات } و{ في يومين } و{ في أربعة أيام } إنما هي عبارة عن أوقات ، فإنما الأيام والليالي عندنا في الدنيا.
وقال ابن عطية : الصحيح في يوم القيامة أنه يوم ، لأنه قبله ليلة وفيه شمس.
ومعنى : { لا ريب فيه } أي في نفس الأمر ، أو عند المؤمن ، أو عند المخبر عنه ، أو حين يجمعهم فيه ، أو معناه : الأمر خمسة أقوال. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 435}(12/164)
فائدة
قال البيضاوى :
{ وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } جزاء ما كسبت. وفيه دليل على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار ، لأن توفية إيمانه وعمله لا تكون في النار ولا قبل دخولها ، فإذن هي بعد الخلاص منها. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 22}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
هذه كلمة تعجب لما أخبر به عن تعظيم الأمر ، وتفخيم الشأن عند بهتة عقولهم ودهشة أسرارهم ، وانقطاع دواعيهم ، وانخلاع قلوبهم من مكامنها ، وتراقيها إلى تراقيهم ، ثم ما يلقونه من الحساب والعتاب ، والعذاب والعقاب ، وعدم الإكرام والإيجاب ، وما في هذا الباب.
وقيامةُ الكفار يومَ الحشر ، وقيامة الأحباب في الوقت ، ولِشَرْحِ هذا تفسير طويل. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 230}
موعظة
قال فى روح البيان :
الواجب على من كان مؤمنا وليس من أهل البدع إن يحمد الله على ما هداه وجعله مسلما من الأمة الشريفة.
ولذا قيل من علامات سوء العاقبة أن لا يشكر العبد على ما هدى به من الإيمان والتوحيد.
وأهل الغرور فى الدنيا مخدوع بهم فى الآخرة فليس لهم عناية رحمانية وإنما يقبل رجاء العبد إذا قارنه العمل والكاملون بعد أن بالغوا فى تزكية النفس ما زالوا يخافون من سوء العاقبة ويرجون رحمة الله فكيف بنا ونحن متورطون فى آبار الأوزار لا توبة لنا ولا استغفار غير العناد والإصرار
قال الإمام الهمام محمد الغزالى رحمه الله فى منهاج العابدين مقدمات التوبة ثلاث.
أحدها ذكر غاية قبح الذنوب.
والثانية ذكر غاية عقوبة الله تعالى وأليم سخطه وغضبه الذى لا طاقة لك به.
والثالثة ذكر ضعفك وقلة حيلتك فإن من لا يحتمل حر الشمس ولطمة شرطى وقرص نملة كيف يحتمل حر نار جهنم وضرب مقامع الزبانية ولسع حيات كأعناق البخت وعقارب كالبغال خلقت من النار فى دار الغضب والبوار نعوذ بالله نم سخطه وعذابه. أ هـ {روح البيان حـ 2 صـ 22 ـ 23}(12/165)
قوله تعالى { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر تعالى أن الكفار سيغلبون وأنه ليس لهم من ناصرين كان حالهم مقتضياً لأن يقولوا : كيف ونحن أكثر من الحصى وأشد شكائم من ليوث الشرى ، فكيف نغلب ؟ أم كيف لا ينصر بعضنا بعضاً وفينا الملوك والأمراء والأكابر والرؤساء ومناوونا القليل الضعفاء ، أهل الأرض الغبراء ، وأولو البأساء والضراء ، فقال تعالى لينتبه الراقدون من فرش الغفلات المتقلبون في فلوات البلادات من تلهيهم بما رأوا وسمعوا من نزع الملك من أقوى الناس وإعطائه لأضعفهم فيعلموا أن الذي من شأنه أن يفعل ذلك مع بعض أعدائه جدير بأن يفعل أضعافه لأوليائه : {قل اللهم} قال الحرالي : ولما كان هذا الأمر نبوة ثم خلافة ثم ملكاً فانتظم بما تقدم من أول السورة أمر النبوة في التنزيل والإنزال ، وأمر الخلافة في ذكر الراسخين في العلم الذين يقولون :
{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [ آل عمران : 8 ] ، وكانت من هجيري أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، يقنت بها في وتر صلاة النهار في آخر ركعة من المغرب - انتظم برؤوس تلك المعاني ذكر الملك الذي آتى الله هذه الأمة ، وخص به من لاق به الملك ، كما خص بالخلافة من صلحت له الخلافة ، كما تعين للنبوة الخاتمة من لا يحملها سواه - انتهى ؛ فقال : {قل} أي يا محمد أو يا من آمن بنا مخاطباً لإلهك مسمعاً لهم ومعرضاً عنهم ومنبهاً لهم من سكرات غفلاتهم في إقبالهم على ملوك لا شيء في أيديهم ، وإعراضهم عن هذا الملك الأعظم الذي بيده كل شيء.(12/166)
قال الحرالي : لعلو منزل هذه السورة كثر الإقبال فيها بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وجعل القائل لما كانت المجاورة معه ، لأن منزل القرآن ما كان منه لإصلاح ما بين الخلق وربهم يجيء الخطاب فيه من الله سبحانه وتعالى إليهم مواجهة حتى ينتهي إلى الإعراض عند إباء من يأبى منهم ، وما كان لإصلاح ما بين الأمة ونبيها يجري الله الخطاب فيه على لسانه من حيث توجههم بالمجاورة إليه ، فإذا قالوا قولاً يقصدونه به قال الله عز وجل : قل لهم ، ولكون القرآن متلواً ثبتت فيه كلمة قل - انتهى.
{اللهم مالك الملك} أي لا يملك شيئاً منه غيرك.(12/167)
قال الحرالي : فأقنعه صلى الله عليه وسلم ملك ربه ، فمن كان منه ومن آله وخلفائه وصحابته يكون من إسلامه وجهه لربه إسلام الملك كله الذي منه شرف الدنيا لله ، فلذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يتظاهر بالملك ولا يأخذه مآخذه ، لأنه كان نبياً عبداً ، لا نبياً ملكاً ، فأسلم الملك لله ، كذلك خلفاؤه أسلموا الملك لله فلبسوا الخلقان والمرقعات واقتصروا على شظف العيش ، ولانوا في الحق ، وحملوا جفاء الغريب ، واتبعوا اثره في العبودية ، فأسلموا الملك لله سبحانه وتعالى ، ولم ينازعوه شيئاً منه ، حمل عمر رضي الله تعالى عنه قربة على ظهره في زمن خلافته حتى سكبها في دار امرآة من الأنصار في أقصى المدينة ، فلما جاء الله بزمن الملك واستوفيت أيام الخلافة عقب وفاء زمان النبوة أظهر الله سبحانه وتعالى الملك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما خصص بالنبوة والإمامة بيت محمد وآل محمد صلى الله عليه وسلم وخصص بالخلافة فقراء المهاجرين خصص بالملك الطلقاء الذين كانوا عتقاء الله ورسوله ، لينال كل من رحمة الله وفضله ، التي ولى جميعها نبيه صلى الله عليه وسلم كلَّ طائفة على قدر قربهم منه ، حتى اختص بالتقدم قريشاً ما كانت ، ثم العرب ما كانت إلى ما صار له الأمر بعد الملك من سلطنة وتجبر إلى ما يصير إليه من دجل كل ذلك مخول لمن يخوله بحسب القرب والبعد منه {تؤتي الملك من تشآء} في الإيتاء إشعار بأنه تنوبل من الله من غير قوة وغلبة ولا مطاولة فيه وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله وأخص الناس بالبعد منه العرب ، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب كما وقع منه ما وقع ، وينتهي منه ما بقي إلى من نال الملك بسببها وعن الاستناد إليها من سائر الأمم الذين دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم وصنوف أهل الأقطار حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض ، فيعيده إلى إمام العرب الخاتم(12/168)
للهداية من ذريته ختمه صلى الله عليه وسلم للنبوة من ذرية آدم ، ويؤتيهم من المكنة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " لو شاء أحدهم أن يسير من المشرق إلى المغرب في خطوة لفعل " ومع ذلك فليسوا من الدنيا وليست الدنيا منهم ، فيؤتيهم الله ملكاً من ملكه - ظاهر هداية من هداه ، شأفة عن سره الذي يستعلن به في خاتمة يوم الدنيا ليتصل بظهوره ملك يوم الدين ، والملك التلبس بشرف الدنيا والاستئثار بخيرها ؛ قال أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما في وصيته : إذا جنيت فلتهجر يدك فاك حتى يشبع من جنيت له ، فإن نازعتك نفسك في مشاركتهم فشاركهم غير مستأثر عليهم ، وإياك والذخيرة! فإن الذخيرة تهلك دين الإمام وتسفك دمه ، فالملك التباس بشرف الدنيا واستئثار بخيرها واتخاذ ذخيرة منها.
لما أرادوا أن يغيروا على عمر رضي الله تعالى عنه زيه عند إقباله على بيت المقدس نبذ زيهم وقال : إنا قوم أعزنا الله بالإسلام! فلن نلتمس العزة بغيره.(12/169)
فمن التمس الشرف بجاه الدنيا فهو ملك بقدر ما يلتمس من شرفها قل ذلك الحظ أو جل ، وهو به من أتباع ملوك الدنيا ، وكذلك من التمس الاستئثار بخيرها واتخذ الذخيرة منها ، كل ينال من الملك ويكون من شيعة الملوك بحسب ما ينال ويحب من ذلك حتى ينتهي إلى حشره مع الصنف الذي يميل إليه ، فمن تذلل وتقلل وتوكل بعث مع الأنبياء والمرسلين والخلفاء ، كما أن من تشرف بالدنيا واستأثر وادخر منها حشر مع الملوك والسلاطين ؛ جلس عمر رضي الله تعالى عنه يوماً وسلمان وكعب وجماعة رضي الله تعالى عنهم فقال : أخبروني أخليفة أنا أم ملك ؟ فقال له سلمان رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين! إن جبيت درهماً من هذا المال فوضعته في غيره حقه فأنت ملك ، وإن لم تضعه إلا في حقه فأنت خليفة ، فقال كعب : رحم الله تعالى! ما ظننت أن أحداً يعرف الفرق بين الخليفة والملك غيري ، فالتزام مرارة العدل وإيثار الغير خلافة وتشيع في سبيلها ، ومنال حلاوة الاستئثار بالعاجلة شرفها ومالها ملك وتحيز لتباعه - انتهى.
وفي تقديم الإيتاء على النزع إشارة إلى أن الداعي ينبغي أن يبدأ بالترغيب {وتنزع} قال الحرالي : من النزع ، وهو الأخذ بشدة وبطش - انتهى.(12/170)
{الملك ممن تشآء} وفيه إشارة إلى إن الدعاء باللين إن لم يجدِ ثني بالترهيب ، وعلى هذا المنوال أبرز قوله : {وتعز من تشآء} أي إعزازه {وتذل من تشآء} أي إذلاله ، وهو كما قال : " إن رحمتي سبقت غضبي " قال الحرالي : وفي كلمة النزع بما ينبىء عنه من البطش والقوة ما يناسب معنى الإيتاء ، فهو إيتاء للعرب ونزع من العجم ، كما ورد أن كسرى رأى في منامه أنه يقال له : سلم ما بيدك لصاحب الهراوة ، فنزع مُلكَ المولك من الأكاسرة والقياصرة وخوّله قريشاً ومن قام بأمرها وانتحل الملك باسمها من صنوف الأمم غرباً وشرقاً وجنوباً وشمالاً ، إلى ما يتم به الأمر في الختم ، والعز - والله سبحانه وتعالى أعلم - عزة الله سبحانه وتعالى : {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [ المنافقون : 8 ] ليكون في الخطاب إنباء بشرى لهم أنه أتاهم من العز بالدين ما هو خير من الشرف بملك الدنيا {من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً} [ فاطر : 10 ] فالملوك وإن تشرفوا بملك الدنيا فليس لهم من عزة الدين شيء ، أعزهم الله سبحانه وتعالى بالدين ، تخدمهم الأحرار وتتوطد لهم الأمصار ، لا يجدون وحشة ، ولا يحصرون في محل ، ولا تسقط لهم حرمة حيث ما حلوا وحيث ما كانوا استتروا أو اشتهروا ، والمتلبسون بالملك لا يخدمهم إلا من استرقوه قهراً ، يملكون تصنع الخلق ولا يملكون محاب قلوبهم ، محصورون في أقطار ممالكهم ، لا يخرجون عنها ولا ينتقلون منها حتى يمنعهم من كمال الدين ، فلا ينصرفون في الأرض ولا يضربون فيها ، حتى يمتنع ملوك من الحج مخافة نيل الذل في غير موطن الملك ، والله عز وجل يقول : " إن عبداً أصححت له جسمه ، وأوسعت عليه في رزقه ، يقيم خمسة أعوام لا يفد على المحروم " فالملوك مملوكون بما ملكوا ، وأعزاء الله ممكنون فيما إليه وجهوا ، لا يصدهم عن تكملة أمر الدين وإصلاح أمر الآخرة صادّ ، ولا يردهم عنه راد لخروجهم من سجن الملك إلى سعة العز بعزة الله سبحان وتعالى(12/171)
، فقارض الله أهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ، ولم يرضه للملك بعز الإمامة ورفعة الولاية والاستيلاء على محاب القلوب فاسترعاهم الله قلوب العالمين بما استرعى الملوك بعض حواس المستخدمين والمستتبعين ، والذل مقابل ذلك العزة ، فإذا كان ذلك العز عزاً دينياً ربانياً عوضاً عن سلب الملك كان هذا الذل - والله تعالى أعلم - ذل أهل الدنيا في دنياهم الذي ألزمهم سبحانه وتعالى إياه بما أذلتهم أنفسهم ، فاستعملتهم في شواتها وأذلهم أتباعهم فتوسلوا بهم إلى قضاء أغراضهم في أهوائهم ، ويستذلهم من يظلمونه بما ينتصفون منهم ، وينالهم من ذل تضييع الدين ، ويبدو على وجوههم من ظلمة الظلم ما يشهد ذلهم فيه أبصار العارفين - انتهى.
ولعل نصارى نجران أشد قصداً بهذا الخطاب ، فإنهم خافوا أن ينزع منه ملوك الروم ما خولوهم فيه من الدنيا إن أخبروا بما يعلمون من أمر هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم.
ولما تقرر أنه مالك لما تقدم أنتج أن له التصرف المطلق فعبر عنه بقوله : {بيدك} أي وحدك {الخير} ولم يذكر الشر تعليماً لعباده الأدب في خطابه ، وترغيباً لهم في الإقبال عليه والإعراض عما سواه ، لأن العادة جارية بأن الناس أسرع شيء إلى معطي النوال وباذل الأموال ، وتنبيهاً على أن الشر أهل للإعراض عن كل شيء من أمره حتى عن مجرد ذكره وإخطاره بالبال ، مع أن الاقتصار على الخير يملك الخير كله مستلزم لمثل ذلك في الشر ، لأنهما ضدان ، كل منهما مساوٍ لنقيض الآخر ، فإثبات أحدهما نفي للآخر ونفيه إثبات للآخر ، فلا يعطى الخير إلا وقد نفي الشر ، ولا ينزع الخير إلا وقد وضع الشر - والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما أفهم أن الشر بيده كما أعلم أن الخير بيده وخاص به قرر ذلك على وجه أعم بقوله معللاً : {إنك على كل شيء قدير }. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 51 ـ 55}
وقال الفخر : (12/172)
اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوّة ، وصحة دين الإسلام ، ثم قال لرسوله {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن} [ آل عمران : 20 ] ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله ، وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق ، وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} [ آل عمران : 23 ] ثم ذكر شدة غرورهم بقوله {لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} [ آل عمران : 24 ] ثم ذكر وعيدهم بقوله {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} [ آل عمران : 25 ] أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه ، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين ، فقال معلماً نبيّه كيف يمجّد ويعظم ويدعو ويطلب {قُلِ اللهم مالك الملك}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 3}
وقال ابن عاشور :
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}
استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأن أعراضهم إنما هو حسد على زوال النبوة منهم ، وانقراض الملك منهم ، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنه لا عجب أنت تنتقل النبوة من بني إسرائيل إلى العرب ، مع الإيماء إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والملك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 67}
وقال الآلوسى :
{ قُلِ اللهم مالك الملك } تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته ؛ وفيه أيضاً إفحام لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه لاسيما المنافقين الذين هم أسوأ حالاً من اليهود والنصارى ، وبشارة له صلى الله عليه وسلم بالغلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله ، وبهذا تنتظم هذه الآية الكريمة بما قبلها. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 112}
فصل
قال الفخر : (12/173)
اختلف النحويون في قوله {اللهم} فقال الخليل وسيبويه {اللهم} معناه : يا الله ، والميم المشددة عوض من يا ، وقال الفرّاء : كان أصلها ، يا الله أم بخير : فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء ، وحذفوا الهمزة من : أم ، فصار {اللهم} ونظيره قول العرب : هلم ، والأصل : هل ، فضم : أم إليها ، حجة الأولين على فساد قول الفرّاء وجوه
الأول : لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صحّ أن يقال : اللّهم افعل كذا إلا بحرف العطف ، لأن التقدير : يا الله أمنا واغفر لنا ، ولم نجد أحداً يذكر هذا الحرف العاطف
والثاني : وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال ، لجاز أن يتكلم به على أصله ، فيقال ( الله أم ) كما يقال ( ويلم ) ثم يتكلم به على الأصل فيقال ( وَيْلٌ أُمُّهُ )
الثالث : لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفاً ، فكان يجوز أن يقال : يا اللّهم ، فلما لم يكن هذا جائزاً علمنا فساد قول الفراء بل نقول : كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً ، كما يقال : يا الله اغفر لي ،
وأجاب الفراء عن هذه الوجوه ، فقال : أما الأول فضعيف ، لأن قوله ( يا الله أم ) معناه : يا الله اقصد ، فلو قال : واغفر لكان المعطوف مغايراً للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين أحدهما : قوله {أمنا}
والثاني : قوله {واغفر لَنَا} [ البقرة : 286 ] أما إذا حذفنا العطف صار قوله : اغفر لنا تفسيراً لقوله : أمنا.
فكان المطلوب في الحالين شيئاً واحداً فكان ذلك آكد ، ونظائره كثيرة في القرآن ،
وأما الثاني فضعيف أيضاً ، لأن أصله عندنا أن يقال : يا الله أمنا.(12/174)
ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك ، وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل ، ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله : ما أكرمه ، معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا ههنا ، وأما الثالث : فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقالّ : يا اللّهم وأنشد الفرّاء :
وأما عليك أن تقولي كلما.. سبحت أو صليت يا اللّهما
وقول البصريين : إن هذا الشعر غير معروف ، فحاصله تكذيب النقل ، ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليماً عن الطعن ، وأما قوله : كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازماً فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا} [ يوسف : 46 ] فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف ، ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه
الأول : أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى ، وهذا غير جائز ألبتة ، فإنه لا يقال ألبتة ( الله يا ) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك
الثاني : لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء ، حتى يقال : زيدم وبكرم ، كما يجوز أن يقال : يا زيد ويا بكر
والثالث : لو كان الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا ، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه
الرابع : لم نجد العرب يزيدون هذه المييم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها ، فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكماً على خلاف الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز ، فهذا جملة الكلام في هذا الموضع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 3 ـ 4}
وقال ابن عادل :
قوله : " اللَّهُمَّ " اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظةِ.(12/175)
قال البصريون : الأصل : يا الله ، فحُذِفَ حَرْفُ النداءِ ، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة ، وهذا خاصٌّ بهذا الاسم الشريف ، فلا يجوز تعويضُ الميم من حرف النداء في غيره ، واستدلوا على أنها عِوَضٌ من " يا " بأنهم لم يجمعوا بينهما إلا في ضرورة الشعر ، كقوله : [ الرجز ]
وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولِي كُلَّمَا... سَبَّحْتِ أوْ هَلَّلْتِ يَا اللَّهُمَّ مَا
أُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا... فَإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نُعْدَمَا
وقَوْلِ الآخر : [ الرجز ]
إنِّي إذَا مَا حَدَث ألَمَّا... أقُولُ : يَا اللَّهُمَّ ، يَا اللَّهُمَّا
وقال الكوفيون : الميم المشددة بَقِيَّةُ فِعْل محذوفٍ ، تقديره : أمَّنَا بخير ، أي : اقْصِدنا به ، من قولك : أمَمْتُ زيداً ، أي : قصدته ، ومنه : { ولاا آمِّينَ البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] أي : قاصديه ، وعلى هذا فالجمع بين " يا " والميم ليس بضرورةٍ عندهم ، وليست عوضاً منها.
وقد رَدَّ عليهمُ البصريون هذا بأنه قد سُمِعَ : اللهمَّ أمَّنا بخير ، وقال تعالى : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } [ الأنفالِ : 32 ] فقد صرَّح بالمدعُوِّ به ، فلو كانت الميمُ بقيةَ " أمَّنَا " لفسد المعنى ، فبان بُطْلانهُ.
وهذا من الأسماء التي لزمت النداءَ ، فلا يجوز أن يقع في غيره ، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلاً ، أنشد الفرّاء : [ مخلّع البسيط ]
كَحَلْقَةٍ مِنْ أبِي دِثَارٍ... يَسْمضعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ
استعمله - هاهنا - فاعلاً بقوله : يسمعها.
ولا يجوز تخفيفُ الميم ، وجوَّزه الفراء ، وأنشد البيت : بتخفيف الميم ؛ إذ لا يمكن استقامةُ الوزن إلا بذلك.
قال بعضهم : هذا خطأ فاحشٌ ، وذلك لأن الميم بقية " أمَّنَا " - على رأي الفراء - فكيف يجوزه الفراء ؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك ، بل الرواية : [ مخلّع البسيط ](12/176)
..................................... يَسْمَعُهَا لاَهُهُ الْكُبَارُ
قال شهابُ الدينِ : " وهذا لا يعارِض الرواية الأخرى ؛ فإنه كما صحّت هذه صحت تلك ".
ورد الزّجّاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل : يا الله آمَّنا للفْظِ به مُنَبِّهاً على الأصل ، كما قالوا - في وَيلمِّهِ - : وَيْلٌ لأمِّهِ.
وردوا مذهب الفراءِ - أيضاً - بأنه يلزم منه جواز أن تقول : يا اللهم ، ولما لم يَجُزْ ذلك علمنا فساد قولِ الفراءِ ، بل نقول : كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً ، كما يقال : يا الله اغفر لي ، وأجاب الفراء عن قول الزَّجَّاجِ بأن أصله - عندنا - أن يقال : يا الله أمَّنا - ومن يُنْكِر جوازَ التكلم بذلك- ؟ وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامةُ الفرع مُقامَ الأصل ، ألا ترى أنَّ مذهب الخليل وسيبويه أن " ما أكرمه " معناه : شيء أكرمه ، ثم إنه - قط - لا يُسْتَعْمَل هذا الكلام - الذي زعموا أنه هو الأصل - في معرض التعجُّب ، فكذا هنا.
وأجاب عن الرد الثاني بقوله : مَن الذي يُسَلِّم لكم أنه لا يجوز أن يقال : يا اللهمَّ ، وأنشد قول الراجز المتقدم يا اللّهمّ ، وقول البصريين : هذا الشعر غير معروف ، فحاصله تكذيب النقل ، ولو فتحنا هذا البابَ لم يَبْقَ من اللغة والنحو شيءٌ سَلِيماً من الطعن.
وقولهم : كان يلزم ذكر حرف النداء ، فقد يُحْذَف حرف النداءِ ، كقوله : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } [ يوسف : 46 ] فلا يبعد أن يُخَصَّ هذا الاسم بالتزام الحذف.
واحتج الفراء على فساد قول البصريين بوجوه :
أحدها : أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء ، لكنا قد أجزنا تأخير حرف النداء عن ذكر المنادى فيقال : الله يا ، وهذا لا يجوز ألبتة.
ثانيها : لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثلُه في سائر الأسماءِ ، فيقال : زيدُمَّ ، وبكرُمَّ كما يجوز يا زيد ، يا بَكر.(12/177)
ثالثها : لو كانت الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا ، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه.
ومن أحكام هذه اللفظة أنها كثر دورها ، حتى حذفت منها الألف واللام - في قولهم : لا هُمَّ - أي : اللهم.
قال الشاعرُ : [ الراجز ]
لاهُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ... أحْرَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ
وقال آخرُ : [ الرجز ]
لاهُمَّ إنَّ جُرْهُماً عِبَادُكَا... النَّاسُ طُرْقٌ وَهُمْ بِلادُكَا. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 122 ـ 124}
فصل
قال الفخر :
{مالك الملك} في نصبه وجهان
الأول : وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء ، وكذلك قوله {قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والأرض} [ الزمر : 46 ] ولا يجوز أن يكون نعتاً لقوله {اللهم} لأن قولنا {اللهم} مجموع الاسم والحرف ، وهذا المجموع لا يمكن وصفه
والثاني : وهو قول المبرد والزجاج أن {مالك} وصف للمنادى المفرد ، لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه ( يا ) ولا يمتنع الصفة مع الميم ، كما لا يمتنع مع الياء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 4}
وقال ابن عادل :
قوله : { مَالِكَ الملك } فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من " اللَّهُمَّ ".
الثاني : أنه عطف بيان.
الثالث : أنه منادًى ثانٍ ، حُذِف منه حرف النداء ، أي : يا مالكَ الملك ، وهذا هو البدل في الحقيقة ؛ إذ البدل على نية تكرار العامل ؛ إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابعٍ.
الرابع : أنه نعت لـ " اللَّهُمَّ " على الموضع ، فلذلك نُصِبَ ، وهذا ليس مذهبَ سيبويه ؛ لأنه لا يُجيز نعتَ هذه اللفظة ؛ لوجود الميم في آخرها ؛ لأنها أخرجتها عن نظائِرها من الأسماء ، وأجاز المبرّدُ ذلك ، واختارَه الزّجّاج ، قالا : لأن الميم بدل من " يا " والمنادى مع " يا " لا يمتنع وصفه ، فكذا مع ما هو عوضٌ منها ، وأيضاً فإن الاسمَ لم يتغير عن حكمه ؛ ألا ترى إلى بقائه مبنيًّا على الضم كما كان مبنيًّا مع " يا ".(12/178)
وانتصر الفارسيّ لسيبويه ، بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد " اللَّهُمَّ " ، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة ، ودخل في حيِّز ما لا يوصَف من الأصوات ، وجب أن لا يُوصف. والأسماء المناداة ، المفردة ، المعرفة ، القياس أن لا تُوصَف - كما ذهب إليه بعضُ الناسِ ؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف وكما أنه لما وقع موقع ما لا ذهب إليه بعضُ الناسِ ؛ لأنها واقعة موضع ما لا يوصف وكما أنه لما موقع ما لا يعرب لم يعرب ، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف ، فأما قوله : [ الرجز ]
يا حَكَمث الْوَارِثُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكْ... [ وقوله ] : [ الرجز ]
يَا حَكَمُ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودْ... سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ
وقوله : [ الوافر ]
فَمَا كَعْبُ بْنُ مَامَةَ وَابْنُ سُعْدَى... بِأجْوَدَ مِنْكَ يَا عُمَرَ الجَوادَا
فإن الأول على أنت.
والثاني على نداء ثانٍ
والثالث : على إضمار أعني.
فلما كان هذا الاسم الأصل فيه أن لا يوصَف ؛ لما ذكرنا ، كان " اللهم " أولى أن لا يوصَف ، لأنه قبل ضَمِّ الميم إليه واقعٌ موقع ما لا يوصف ، فلما ضُمَّت إليه الميم صِيغ معها صياغةً مخصوصةً فصال حكمه حكم الأصواب ، وحكم الأصوات أن لا توصف نحو غاقٍ ، وهذا - مع ما ضُمَّ إليه من الميم - بمنزلة صوت مضمومٍ إلى صوتٍ نحو حَيَّهَلْ ، فحقه أن لا يوصَف ، كما لا يوصَف حيَّهَلْ.
قال شهابُ الدينِ : " هذا ما انتصر به أبو علي لسيبويه ، وإن كان لا ينتهض مانعاً ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 124 ـ 126}
فصل فى سبب نزول الآية
قال الآلوسى : (12/179)
روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال : حدثني أبي عن أبيه قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعاً قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان الفارسي وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني ، وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا : يا سلمان إرق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال : فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال : يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح فكبر المسلمون ثم ضربها صلى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم وكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقي فقال : سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما(12/180)
رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال : رأيتم ما يقول سلمان ؟ قالوا نعم يا رسول الله قال : ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروح كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلام وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر فقال المنافقون : ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال فأنزل الله تعالى القرآن : { وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [ الأحزاب : 12 ] وأنزل هذه الآية { قُلِ اللهم }. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 113}(12/181)
وقال الفخر :
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم ، فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم ، وهم أعز وأمنع من ذلك ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خط الخندق عام الأحزاب ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً ، وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخبره ، فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضرب صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم ، فكبّر وكبر المسلمون ، وقال عليه الصلاة والسلام : " أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب " ثم ضرب الثانية ، فقال : " أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم "
ثم ضرب الثالثة فقال : " أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا " فقال المنافقون : ألا تعجبون من نبيّكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية والله أعلم ، وقال الحسن إن الله تعالى أمر نبيّه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما ، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء ، وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 4 ـ 5}
وقال السمرقندى :
{ قُلِ اللهم مالك الملك } قال ابن عباس في رواية أبي صالح : نزلت في شأن المنافقين ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال عبد الله بن أبي رأس المنافقين : إن محمداً يتمنى أن ينال ملك فارس والروم وأنَّى له ذلك ؟ فنزلت هذه الآية.(12/182)
وقال بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ، أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته ، فعلمه الله بأن يدعو بهذا الدعاء ، وهو قول مقاتل وقال بعضهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بحفر الخندق ، فظهر في الخندق صخرة عجزوا عن حفرها ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول ، وضرب ضربة ، فظهر من تلك الصخرة نور فقال له سلمان : رأيت شيئاً عجيباً.
فقال له النبي : " هَلْ رَأَيْتَ ذلك " ؟ قال : نعم.
فقال : رأيت في ذلك النور قصور أهل الشام ، ثم ضرب ضربة أخرى ، فظهر أيضاً كذلك.
فقال : رأيت قصور أهل فارس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سَيَظْهَرُ لأُمَّتِي مُلْكُ الشَّامِ ، وَمُلْكُ فَارِسَ " فقال المنافقون : إن محمداً لا يأمن على نفسه ، واضطر إلى حفر الخندق ، فكيف يتمنى ملك الشام وفارس ، فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم إن مشركي مكة قالوا : إن فارس والروم يبيتان في الحرير والديباج ، فلو كان هو نبياً ، كيف ينام على الحصير ؟ فنزلت هذه الآية. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 229}
فصل
قال الفخر :
{الملك} هو القدرة ، والمالك هو القادر ، فقوله {مالك الملك} معناه القادر على القدرة ، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ، ويملك كل مالك مملوكه ، قال صاحب "الكشاف" {مالك الملك} أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، واعلم أنه تعالى لما بيّن كونه {مالك الملك} على الإطلاق ، فصل بعد ذلك وذكر أنواعاً خمسة : (12/183)
النوع الأول : قوله تعالى : {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} وذكروا فيه وجوهاً الأول : المراد منه : ملك النبوّة والرسالة ، كما قال تعالى : {فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم مُّلْكاً عَظِيماً} [ النساء : 54 ] والنبوّة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر ، فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم ، وأن يعتقد أنه هو الحق ، وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل ، ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشراً رسولاً فحكى الله عنهم قولهم {أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً} [ الإسراء : 94 ] وقال الله تعالى : {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} [ الأنعام : 9 ] وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولاً من البشر ، إلا أنهم كانوا يقولون : إن محمداً فقير يتيم ، فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [ الزخرف : 31 ] وأما اليهود فكانوا يقولون النبوّة كانت في آبائنا وأسلافنا ، وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوّة والكتاب فكيف يليق النبوّة بمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوّة ، على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله {أم يحْسُدونَ الناس على مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} [ النساء : 37 ].(12/184)
وأيضاً فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} [ آل عمران : 12 ] أن اليهود تكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم ، ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بيّن أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء ، فقال {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ }.
فإن قيل : فإذا حملتم قوله {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ} على إيتاء ملك النبوّة ، وجب أن تحملوا قوله {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} على أنه قد يعزل عن النبوّة من جعله نبياً ، ومعلوم أن ذلك لا يجوز.
قلنا : الجواب من وجهين
الأول : أن الله تعالى إذا جعل النبوّة في نسل رجل ، فإذا أخرجها الله من نسله ، وشرَّف بها إنساناً آخر من غير ذلك النسل ، صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم ، واليهود كانوا معتقدين أن النبوّة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل ، فلما شرف الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بها ، صح أن يقال : إنه ينزع ملك النبوّة من بني إسرائيل إلى العرب.
والجواب الثاني : أن يكون المراد من قوله {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه ، ونظيره قوله تعالى : {الله وَلِيُّ الذين ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور} [ البقرة : 257 ] مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط ، وقال الله تعالى مخبراً عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} [ الأعراف : 88 ] وأولئك الأنبياء قالوا {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاءَ الله} [ الأعراف : 89 ] مع أنهم ما كانوا فيها قط ، فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسّر قوله تعالى : {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ} بملك النبوة.(12/185)
القول الثاني : أن يكون المراد من الملك ، ما يسمى ملكاً في العرف ، وهو عبارة عن مجموع أشياء أحدها : تكثير المال والجاه ، أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع ، والحرث ، والنسل ، وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيباً عند الناس ، مقبول القول ، مطاعاً في الخلق والثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته ، وتحت أمره ونهيه
والثالث : أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد ، قدر على قهر ذلك المنازع ، وعلى غلبته ، ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى ، أما تكثير المال فقد نرى جمعاً في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد ، والعناء العظيم قليل من المال ، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته ، وأما الجاه فالأمر أظهر ، فإنا رأينا كثيراً من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه ، وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية ، وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظماً في العقائد مهيباً في القلوب ، ينقاد له الصغير والكبير ، ويتواضع له القاصي والداني ،
وأما القسم الثاني وهو كونه واجب الطاعة ، فمعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده ، وأما القسم الثالث ، وهو حصول النصرة والظفر فمعلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى ، فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 5 ـ 6}(12/186)
وقال الآلوسى :
وأل في الملك للجنس أو الاستغراق ، و( الملك ) بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق نسبة بين من قام به ومن تعلق ، وإن شئت قلت : صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقاً في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار فمالك الملك هو الملك الحقيقي المتصرف بما شاء كيف شاء إيجاداً وإعداماً إحياءاً وإماتة وتعذيباً وإثابة من غير مشارك ولا ممانع ، ولهذا لا يقال : ملك الملك إلا على ضرب من التجوز ، وحمل ( الملك ) على هذا المعنى أوفق بمقام المدح. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 113}
وقال القرطبى :
و { الملك } هنا النبوّة ؛ عن مجاهد.
وقيل ، الغلَبة.
وقيل : المال والعبيد.
الزجاج : المعنى مالك العباد وما ملكوا.
وقيل : المعنى مالك الدنيا والآخرة.
ومعنى { تُؤْتِي الملك } أي الإيمان والإسلام.
{ مَن تَشَآءُ } أي من تشاء أن تؤتيه إياه ، وكذلك ما بعده ، ولا بدّ فيه من تقدير الحذف ، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه ، ثم حذف هذا ، وأنشد سيبويه :
ألا هل لهذا الدّهر من مُتَعَلّل . . .
على الناس مهما شاء بالناسِ يَفْعَلِ
قال الزجاج : مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 55}
وقال أبو حيان :
{ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة ، كما أن ظاهر الملك الأوّل كذلك ، فيكون الأوّل عاماً ، وهذان خاصين.
والمعنى : إنك تعطي من شئت قسماً من الملك ، وتنزع ممن شئت قسماً من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوّة أيضاً ، ولا يتأتى هذا التفسير في : تنزع الملك ، لأن الله لم يؤت النبوّة لأحد ثم نزعها منه إلاَّ أن يكون تنزع مجازاً بمعنى : تمنع النبوّة ممن تشاء ، فيمكن.(12/187)
وقال أبو بكر الوراق : هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى.
وقيل : العافية ، وقيل : القناعة.
وقيل : الغلبة بالدين والطاعة.
وقيل : قيام الليل.
وقال الشبلي : هو الاستغناء بالمكون عن الكونين.
وقال عبد العزيز بن يحيى : هو قهر إبليس كما كان يفرّ من ظل عمر ، وعكسه من كان يجري الشيطان منه مجرى الدم.
وقيل : ملك المعرفة بلا علة ، كما أتى سحرة فرعون ، ونزع من بلعام.
وقال أبو عثمان : هو توفيق الإيمان.
وإذا حملناه على الأظهر : وهو السلطنة والغلبة ، وكون المؤتَى هو الآمر المتبع ، فالذي آتاه الملك هو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، والمنزوع منهم فارس والروم.
وقيل : المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش.
وقيل : العرب وخلفاء الإسلام وملوكه ، والمنزوع فارس والروم.
وقال السدي : الأنبياء أمر الناس بطاعتهم ، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم.
وقيل : آدم وولده ، والمنزوع منه إبليس وجنوده.
وقيل : داود عليه السلام ، والمنزوع منه طالوت.
وقيل : صخر ، والمنزوع منه سليمان أيام محنته.
وقيل : المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء.
وقيل : الملك العزلة والانقطاع ، وسموه الملك المجهول.
وهذه أقوال مضطربة ، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها ، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد.
{ وتعز من تشاء وتذل من تشاء } قيل : محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفاً ظاهرين عليها ، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب.
وقيل : بالتوفيق والعرفان ، وتذل بالخذلان.
وقال عطاء : المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم.
وقيل : بالطاعة وتذل بالمعصية.
وقيل : بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية.
وقيل : بالإخلاص وتذل بالرياء.
وقيل بالغنى وتذل بالفقر.
وقيل : بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار ، قاله الحسن بن الفضل.(12/188)
وقيل : بقهر النفس وتذل باتباع الخزي ، قاله الوراق.
وقيل : بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان اياه ، قاله الكتاني.
وقيل : بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع.
وينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 437}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
قوله : تُؤتِي " هذه الجملة ، وما عُطِفَ عليها يجوز أن تكون مستأنفةً ، مبينة لقوله : { مَالِكَ الملك } ويجوز أن تكون حالاً من المنادى.
وفي انتصاب الحال من المنادى خلاف ، الصحيح جوازه ؛ لأنه مفعول به ، والحال - كما يكون لبيان هيئة الفاعل - يكون لبيان هيئةِ المفعول ، ولذلك أعرَبَ الْحُذَّاقُ قولَ النابغة : [ البسيط ]
يَا دَار مَيَّة بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ... أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأبدِ
" بالعلياء " حالاً من " دار مية " ، وكذلك " أقوت ".
والثالث من وجوه " تُؤتِي " : أن تكون خبرَ مُبتدأ مضمر ، أي : أنت تؤتي ، لتكون الجملة اسمية وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفةً ، وأن تكون حالية. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 126}
فصل
قال الفخر : (12/189)
واعلم أن للمعتزلة ههنا بحثا قال الكعبي قوله {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} ليس على سبيل المختارية ، ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به ، ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ويدل عليه قوله {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [ البقرة : 124 ] وقال في حق العبد الصالح {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} [ البقرة : 247 ] فجعله سبباً للملك ، وقال الجبائي : هذا الحكم مختص بملوك العدل ، فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله ، وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء الله ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ، ومنعهم من ذلك فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن الله تعالى آتاهم ذلك الملك ، فأما الظالمون فلا ، قالوا : ونظير هذا ما قلناه في الرزق أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره الله عن الانتفاع به ، وأمره بأن يرده على مالكه فكذا ههنا ، قالوا : وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ونزع الملك يكون بوجوه : منها بالموت ، وإزالة العقل ، وإزالة القوى ، والقدر والحواس ، ومنها بورود الهلاك والتلف عن الأموال ، ومنها أن يأمر الله تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ويؤتيه القوة والنصرة ، فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى ، لأنه وقع عن أمره ، وعلى هذا الوجه نزع الله تعالى ملك فارس على يد الرسول ، هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب.(12/190)
واعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم وذلك لأن حصول الملك للظالم ، إما أن يقال : إنه وقع لا عن فاعل وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب ، أو إنما حصل بالأسباب الرباانية ، والأول : نفي للصانع والثاني : باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ، ولا يتيسر له ألبتة فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى ، وهذا الكلام ظاهر ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس ، وتميل إليه القلوب ، ويكون النصر قريناً له والظفر جليساً معه فأينما توجه حصل مقصوده ، وقد يكون على الضد من ذلك ، ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله تعالى ، ولذلك قال حكيم الشعراء :
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني.. بأجل أسباب السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى.. ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه.. بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
والقول الثاني : أن قوله {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء} محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوّة ، وملك العلم ، وملك العقل ، والصحة والأخلاق الحسنة ، وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة ، وملك الأموال ، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 6 ـ 7}
فصل
قال الفخر : (12/191)
وأما قوله تعالى : {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} فاعلم أن العزة قد تكون في الدين ، وقد تكون في الدنيا ، أما في الدين فأشرف أنواع العزة الإيمان قال الله تعالى : {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [ المنافقون : 8 ] إذا ثبت هذا فنقول : لما كان أعز الأشياء الموجبة للعزة هو الإيمان ، وأذل الأشياء الموجبة للمذلة هو الكفر ، فلو كان حصول الإيمان والكفر بمجرد مشيئة العبد ، لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله عبده بكل ما أعزه به ، ومن إذلال الله عبده بكل ما أذله به ولو كان الأمر كذلك لكان حظ العبد من هذا الوصف أتم وأكمل من حظ الله تعالى منه ، ومعلوم أن ذلك باطل قطعاً ، فعلمنا أن الإعزاز بالإيمان والحق ليس إلا من الله ، والإذلال بالكفر والباطل ليس إلا من الله ، وهذا وجه قوي في المسألة ، قال القاضي : الإعزاز المضاف إليه تعالى قد يكون في الدين ، وقد يكون في الدنيا أما الذي في الدين فهو أن الثواب لا بد وأن يكون مشتملاً على التعظيم والمدح والكرامة في الدنيا والآخرة ، وأيضاً فإنه تعالى يمدهم بمزيد الألطاف ويعليهم على الأعداء بحسب المصلحة ، وأما ما يتعلق بالدنيا فبإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب ، وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق.
واعلم أن كلامنا يأبى ذلك لأن كل ما يفعله الله تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على الله تعالى ولو لم يفعله لانعزل عن الإلهية ولخرج عن كونه إلها للخلق فهو تعالى بإعطاء هذه التعظيمات يحفظ إلهية نفسه عن الزوال فأما العبد ، فلما خص نفسه بالإيمان الذي يوجب هذه التعظيمات فهو الذي أعز نفسه فكان إعزازه لنفسه أعظم من إعزاز الله تعالى إياه ، فعلمنا أن هذا الكلام المذكور لازم على القوم.(12/192)
أما قوله {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} فقال الجبائي في "تفسيره" : إنه تعالى إنما يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ولا يذل أحداً من أوليائه وإن أفقرهم وأمرضهم وأحوجهم إلى غيرهم ، لأنه تعالى إنما يفعل هذه الأشياء ليعزهم في الآخرة ، إما بالثواب ، وإما بالعوض فصار ذلك كالفصد والحجامة فإنهما وإن كانا يؤلمان في الحال إلا أنهما لما كانا يستعقبان نفعاً عظيماً لا جرم لا يقال فيهما : إنهما تعذيب ، قال وإذا وصف الفقر بأنه ذل فعلى وجه المجاز كما سمى الله تعالى لين المؤمنين ذلا بقوله {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} [ المائدة : 54 ].
إذا عرفت هذا فنقول : إذلال الله تعالى عبده المبطل إنما يكون بوجوه منها بالذم واللعن ومنها بأن يخذلهم بالحجة والنصرة ، ومنها بأن يجعلهم خولاً لأهل دينه ، ويجعل مالهم غنيمة لهم ومنها بالعقوبة لهم في الآخرة هذا جملة كلام المعتزلة ، ومذهبنا أنه تعالى يعز البعض بالإيمان والمعرفة ، ويذل البعض بالكفر والضلالة ، وأعظم أنواع الإعزاز والإذلال هو هذا والذي يدل عليه وجوه
الأول : وهو أن عز الإسلام وذل الكفر لا بد فيه من فاعل وذلك الفاعل إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى والأول باطل ، لأن أحداً لا يختار الكفر لنفسه ، بل إنما يريد الإيمان والمعرفة والهداية فلما أراد العبد الإيمان ولم يحصل له بل حصل له الجهل ، علمنا أن حصوله من الله تعالى لا من العبد
الثاني : وهو أن الجهل الذي يحصل للعبد إما أن يكون بواسطة شبهة وإما أن يقال : يفعله العبد ابتداء ، والأول باطل إذ لو كان كل جهل إنما يحصل بجهل آخر يسبقه ويتقدمه لزم التسلسل وهو محال ، فبقي أن يقال : تلك الجهات تنتهي إلى جهل يفعله العبد ابتداء من غير سبق موجب ألبتة لكنا نجد من أنفسنا أن العاقل لا يرضى لنفسه أن يصير على الجهل ابتداء من غير موجب فعلمنا أن ذلك بإذلال الله عبده وبخذلانه إياه
الثالث : ما بينا أن الفعل لا بد فيه من الداعي والمرجح ، وذلك المرجح يكون من الله تعالى فإن كان في طرف الخير كان إعزازاً ، وإن كان في طرف الجهل والشر والضلالة كان إذلالاً ، فثبت أن المعز والمذل هو الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 7 ـ 8}(12/193)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : { قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ } قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَالِكَ الْمُلْكِ } إنَّهُ صِفَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ مَالِكُ كُلِّ مُلْكٍ ، وَقِيلَ مَالِكُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَقِيلَ مَالِكُ الْعِبَادِ وَمَا مَلَكُوا ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَرَادَ بِالْمُلْكِ هَهُنَا النُّبُوَّةَ.
وَقَوْلُهُ : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ } يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُلْكُ الْأَمْوَالِ وَالْعَبِيدِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
وَالْآخَرُ أَمْرُ التَّدْبِيرِ وَسِيَاسَةُ الْأُمَّةِ ، فَهَذَا مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُسْلِمُ الْعَدْلُ دُونَ الْكَافِرِ وَدُونَ الْفَاسِقِ ، وَسِيَاسَةُ الْأُمَّةِ وَتَدْبِيرُهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ ، وَذَلِكَ لَا يُؤْتَمَنُ الْكَافِرُ عَلَيْهِ ، وَلَا الْفَاسِقُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ إلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ سِيَاسَةُ الْمُؤْمِنِينَ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }.
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ آتَى الْكَافِرَ الْمُلْكَ.
قِيلَ لَهُ : يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَالَ إنْ كَانَ الْمُرَادُ إيتَاءَ الْكَافِرِ الْمُلْكَ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ أَرَادَ بِهِ : آتَى إبْرَاهِيمَ الْمُلْكَ ، يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَجَوَازَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي طَرِيقِ الْحِكْمَةِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 288}(12/194)
قوله تعالى : {بِيَدِكَ الخير }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {بِيَدِكَ الخير }.
فاعلم أن المراد من اليد هو القدرة ، والمعنى بقدرتك الخير والألف واللام في الخير يوجبان العموم ، فالمعنى بقدرتك تحصل كل البركات والخيرات ، وأيضاً فقوله {بِيَدِكَ الخير} يفيد الحصر كأنه قال بيدك الخير لا بيد غيرك ، كما أن قوله تعالى : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} [ الكافرين : 6 ] أي لكم دينكم أي لا لغيركم وذلك الحصر ينافي حصول الخير بيد غيره ، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على أن جميع الخيرات منه ، وبتكوينه وتخليقه وإيجاده وإبداعه ، إذا عرفت هذا فنقول : أفضل الخيرات هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته ، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله تعالى لا من تخليق العبد ، وهذا استدلال ظاهر ومن الأصحاب من زاد في هذا التقدير فقال : كل فاعلين فعل أحدهما أشرف وأفضل من فعل الآخر كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر ، ولا شك أن الإيمان أفضل من الخير ، ومن كل ما سوى الإيمان فلو كان الإيمان بخلق العبد لا بخلق الله لوجب كون العبد زائداً في الخيرية على الله تعالى ، وفي الفضيلة والكمال ، وذلك كفر قبيح فدلت هذه الآية من هذين الوجهين على أن الإيمان بخلق الله تعالى.
فإن قيل : فهذه الآية حجة عليكم من وجه آخر لأنه تعالى لما قال : {بِيَدِكَ الخير} كان معناه أنه ليس بيدك إلا الخير ، وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية واقعين بتخليق الله.(12/195)
والجواب : أن قوله {بِيَدِكَ الخير} يفيد أن بيده الخير لا بيد غيره ، وهذا ينافي أن يكون بيد غيره ولكن لا ينافي أن يكون بيده الخير وبيده ما سوى الخير إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه الأمر المنتفع به فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى قال القاضي : كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه تعالى أقدرهم عليه وهداهم إليه لما تمكنوا منه ، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى إلا أن هذا ضعيف لأن على هذا التقدير يصير بعض الخير مضافاً إلى الله تعالى ، ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد ، وذلك على خلاف هذا النص. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 8 ـ 9}
وقال القرطبى :
{ بِيَدِكَ الخير } أي بيدك الخير والشر فحذف ؛ كما قال : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ].
وقيل : خص الخير لأنه موضع دعاء ورغبة في فضله.
قال النقاش : بيدك الخير ، أي النصر والغنيمة.
وقال أهْل الإشارات.
كان أبو جهل يملك المال الكثير ، ووقع في الرس يوم بدر ، والفقراء صُهَيْب وبِلال وخَبّاب لم يكن لهم مال ، وكان ملكهم الإيمان { قُلِ اللَّهُمّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ } تقيم الرسولَ يتيمَ أبي طالب على رأس الرسِّ حتى ينادِي أبدانا قد انقلبت إلى القلِيب : يا عُتْبَة ، يا شَيْبَة تعِز من تشاء وتُذِلّ من تشاء.
أي صُهَيْب ، أي بِلال ، لا تعتقدوا أنا منعناكم من الدنيا ببغضكم.
بيدك الخير ما مَنْعُكم مِن عَجْز. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 55 ـ 56}
فائدة
قال ابن القيم
وأخطأ من قال المعنى بيدك الخير والشر لثلاثة أوجه :
أحدها أنه ليس في اللفظ ما يدل على إرادة هذا المحذوف بل ترك ذكره قصدا أو بيانا أنه ليس بمراد ،
الثاني أن الذي بيد الله تعالى نوعان فضل وعدل كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع" فالفضل لإحدى اليدين والعدل للأخرى وكلاهما خير لا شر فيه بوجه ،
الثالث أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك كالتفسير للآية ففرق بين الخير والشر وجعل أحدهما في يدي الرب سبحانه وقطع إضافة الآخر إليه مع إثبات عموم خلقه لكل شيء.أ هـ {شفاء العليل صـ 271}
وقال الماوردى :
وإنما خَصَّ الخير بالذكر وإن كان قادراً على الخير والشر ، لأنه المرغوب في فعله. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 384}
وقال البيضاوى :
ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات ، والشر مقضي بالعرض ، إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيرًا كلياً ، أو لمراعاة الأدب في الخطاب ، أو لأن الكلام وقع فيه. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 2 صـ 24}
وقال أبو حيان :
قال الزمخشري.(12/196)
فإن قلت : كيف قال { بيدك الخير } فذكر الخير دون الشر ؟
قلت لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال : { بيدك الخير } تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك ، ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله.
انتهى كلامه ، وهو يدافع آخرهُ أولَه ، لأنه ذكر في السؤال ؛ لم اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؟
وأجاب بالجواب الأول ، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر ، وإنما كان اقتصاره على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين ، فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط.
وأجاب بالجواب الثاني : وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر ، وهذا الجواب يناقض الأول.
وقال ابن عطية : خص الخير بالذكر ، وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة ، فكان المعنى : { بيدك الخير } فأجزل حظي منه.
وقال الراغب : لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم ، ذكر الخير إذ هو المشكور عليه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 138}(12/197)
فائدة
قال فى الميزان :
هناك خير وشر تكوينيان كالملك والعزة ونزع الملك والذلة
والخير التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى والشر التكويني إنما هو عدم إيتاء الخير ولا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه غيره فإذا أعطى غيره شيئا من الخير فله الأمر وله الحمد وإن لم يعط أو منع فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الإعطاء ظلما على أن إعطائه ومنعه كليهما مقارنان للمصالح العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.
وهناك خير وشر تشريعيان وهما أقسام الطاعات والمعاصي وهما الأفعال الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره ولا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعا وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها ولولا فرض اختيار في صدورها لم تتصف بحسن ولا قبح وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا من حيث توفيقه تعالى وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.
فقد تبين أن الخير كله بيد الله وبذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل وجدان وحرمان وخير وشر. أ هـ {الميزان حـ 3 صـ 134 ـ 135}(12/198)
وقال الآلوسى :
{ بِيَدِكَ الخير } جملة مستأنفة ، وأجراها بعضهم على طرز ما قبلها ، وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص أي : بيدك التي لا يكتنه كنهما ، وبقدرتك التي لا يقدر قدرها الخير كله تتصرف به أنت وحدك حسب مشيئتك لا يتصرف به أحد غيرك ولا يملكه أحد سواك ، وإنما خص الخير بالذكر تعليماً لمراعاة الأدب وإلا فذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده سبحانه ، وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق وتحقيقه { إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } فلا يبعد أن تكون الآية من باب الاكتفاء ، وقيل : إنما اقتصر عليه لما أن سبب نزول الآية ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات ، وقيل : لما أن الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام.
الأول : ما لا شر فيه أصلاً.
والثاني : ما يغلب خيره على شره.
والثالث : ما يكون شراً محضاً.
والرابع : ما يكون شره غالباً على خيره.
والخامس : ما يتساوى الخير والشر فيه ، والموجود من هذه الأقسام في العالم القسم الأول والثاني والشر الذي فيه غير مقصود بالذات بل إنما قضاه الله تعالى لحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعاً ؛ والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه مصلحة تقتضيها الحكمة ولا يأباها الكرم المطلق ، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة بحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيراً لا شراً وصحة لا مرضاً وكل قضاء الله تعالى بما نراه شراً من هذا القبيل ، ولهذا ورد في الحديث " لا تتهم الله تعالى على نفسك " وورد " لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين " وجاء " لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب " ومن هنا قيل : يا من إفساده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه(12/199)
وسيلة إليها وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا : جارية على سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح وذبّ المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله سبحانه : { بِيَدِكَ الخير } فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما قصد أصلاً ولما وقع استلزاماً ، وهذا من باب ليس في الإمكان أبدع مما كان وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ بمن وجه سهام الطعن إليه ، وفي "شرح الهياكل" أن الشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شراً كثيراً فصدر عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء مع أنه لا يجري في ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب الأصلح ، ولا ينافيه { لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] إذ لا يفعل ما يسئل عنه كرماً وحكمة وجوداً ومنة "لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 115}
قوله تعالى {إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ}
قال الفخر :
أما قوله {إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} فهذا كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 9}
فائدة
قال ابن كثير فى معنى الآية :
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد ، معظما لربك ومتوكلا عليه ، وشاكرًا له ومفوضًا إليه : { اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : لك الملك كله { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } أي : أنت المعطي ، وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن.(12/200)
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة ؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل ، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية ، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان ، والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، ما تعاقب الليل والنهار. ولهذا قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ[ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]} أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعال لما تريد ، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم عليه في أمره ، حيث قال : { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ].(12/201)
قال الله تعالى ردًا عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ]} الآية[ الزخرف : 32 ] أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وقال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا]} [ الإسراء : 21 ] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "إسحاق بن أحمد" من تاريخه عن المأمون الخليفة : أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية ، فعرب له ، فإذا هو : باسم الله ما اختلف الليل والنهار ، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك. ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك. { تاريخ دمشق لابن عساكر (2/706 المخطوط) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (4/264)}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 2 صـ 29}
وقال السعدى : (12/202)
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل اللهم مالك الملك } أي : أنت الملك المالك لجميع الممالك ، فصفة الملك المطلق لك ، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك ، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها ، فقال : { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد ، وقد فعل ولله الحمد ، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى ، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله ، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء ، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر ، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح ، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم ، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع ، قال الله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور ، وقال تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } الآية وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } فأخبر أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء ، وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم ، ثم قال تعالى : { وتعز من تشاء } بطاعتك { وتذل من تشاء } بمعصيتك { إنك على كل شيء قدير } لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك. أ هـ {تفسير السعدى صـ 127}(12/203)
وقال الشهيد سيد قطب فى الآية ما نصه :
نداء خاشع . . في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء . وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال . وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس . وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة : حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس ؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفاً من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله ؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس ؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف!
{ قل : اللهم مالك الملك . تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء } . .
إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة . . إله واحد فهو المالك الواحد . . هو { مالك الملك } بلا شريك . . ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه.
يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء . فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه . إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته ؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلاً . وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا . أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل . .
وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه ، وبلا مجير عليه ، وبلا راد لقضائه ، فهو صاحب الأمر كله بما أنه - سبحانه - هو الله . . وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله .
وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير . فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل . يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل . ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل . فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات ؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال : { بيدك الخير } . . { إنك على كل شيء قدير }. أ هـ {الظلال حـ 1 صـ 384}(12/204)
لطيفة
قال ابن عجيبة :
من ملك نفسه وهواه فقد ملكه الله ملك الدارين ، ومن ملكته نفسه وهواه فقد أذلّه الله في الدراين ومن ملك نفسه لله فقد مكنه الله من التصرف في الكون بأسره ، وكان حرّاً حقيقة ، وفي ذلك يقول الشاعر :
دَعَوْنِي لمُلْكِهم ، فلمَّا أجبتُهم... قالُوا : دَعَوْنَاك للمُلْك لا للمِلْكِ
ومن أذلَّ نفسه لله فقد أعزّه الله ، قال الشاعر :
تَذَلَّلّ لِمَنْ تَهوَى لِتَكْسِبَ عِزَّةً... فَكَمْ عزَّةٍ قَدْ نَالَهَا المَرْء بالذُّلِّ
إذَا كانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً وَلَم تَكُنْ... ذَلِيلاً لَهُ ، فَاقْرِ السَّلامَ عَلَى الْوصْلِ
قال ابن المبارك : ( قلت لسفيان الثوري : من الناس ؟ قال : الفقهاء ، قلت : فمن الملوك ؟ قال : الزهاد قلت : فمن الأشراف ؟ قال : الأتقياء ، قلت : فمن الغوغاء ؟ قال : الذين يكتبون الحديث ليستأكلوا به أموال الناس ، قلت : أخبرني ما السفلة ؟ قال : الظلمة ).
وقال الشبلي : ( المُلك هو الاستغناء بالمكون عن الكونين ). وقال الوراق : ( تُعز من تشاء بقهر النفس ومخالفة الهوى ، وتذل من تشاء باتباع الهوى ). قلت : وفي ذلك يقول البرعي رضي الله عنه :
لا تَتْبَع النَّفْسَ في هَوَاهَا... إنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى هَوَانُ.
وقال وهب : " خرج الغِنَى والعز يجولان ، فلقيا القناعة فاستقرا ".
قال الشافعي رضي الله عنه :
أَلاَ يا نفسُ إن ترضَيْ بِقُوتٍ... فأنت عزيزةٌ أبداً غنيهْ
دَعِي عنكِ المطامِعَ والأمانِي... فكمْ أُمْنِيَّةٍ جَلبَتْ مَنِيهْ
وقال آخر :
أَفَادتني القناعةُ كلَّ عزٍّ... وهَلْ عِزٍّ أعزُّ مِنْ القَنَاعَهْ
فَصَيِّرْها لنفسِكَ رأسَ مالٍ... وصَيِّرْ بعدها التَّقْوى بِضَاعَهْ
تَنَل عِزّاً وتَغْنَى عَنْ لَئِيمٍ... وتَرْحَلْ للجِنَان بصبْرِ ساعَهْ. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 265 ـ 266}. بتصرف يسير.(12/205)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ }.
" اللهم " معناها يا الله والميم في آخرها بدل عن حرف النداء وهو يا. فهذا تعليم الحق كيفية الثناء على الحق ، أي صِفْني بما أسْتَحِقُّه من جلال القَدْر فَقُلْ : يا مالكَ المُلْكِ لا شريكَ لكَ ولا مُعينَ ، ولا ظهير ولا قرين ، ولا مُقاسِمَ لكَ في الذات ، ولا مُسَاهِمَ في المُلْك ، ولا مُعَارِضَ في الإبداع.
{ تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ }.
حتى نعلم أن الملك لك ، والمَلِكُ من المخلوقين مَنْ تَذَلَّلَ له ، ومنزوعٌ المُلْكُ ممن تكبَّر عليه ؛ فَتَجمُّلُ الخَلْقِ في تذللهم للحق ، وعِزُّهم في محوهم فيه ، وبقاؤهم في فنائهم به.
{ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ }.
بعز ذاتك.
{ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ }.
بخذلانك.
وتعز من تشاء بأن تهديه ليشهدك ويوحدك ، وتذل من تشاء بأن يجحدك ويفقدك وتعزُّ من تشاء بيُمْنِ إقبالك ، وتذل من تشاء بوحشة إعراضك. وتعزُّ من تشاء بأن تؤنسه بك ، وتذل من تشاء بأن توحشه عنك. وتعز من تشاء بأن تشغله بك ، وتذل من تشاء بأن تشغله عنك. وتعز من تشاء بسقوط أحكام نفسه ، وتذل من تشاء بغلبة غاغة نفسه. وتعز من تشاء بطوالع أُنسه وتذل من تشاء بطوارق نفسه. وتعز من تشاء ببسطه بك ، وتذل من تشاء بقبضه عنك.
و { تُؤتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ } يشد نطاق خدمتك ، { وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ } بنفيه عن بساط عبادتك. تؤتي الملك من تشاء بإفراد سِرِّه لك وتنزع الملك ممن تشاء بأن تربط قلبه بمخلوق ، { وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ } بإقامته بالإرادة ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ } يردُّه إلى ما عليه أهل العادة.
{ بِيَدِكَ الخَيْرُ }.
ولم يذكر الشر حفظاً لآداب الخطاب ، وتفاؤلاً بذكر الجميل ، وتطيراً من ذكر السوء.
{ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ }.
من الحجب والجذب ، ( والنصرة ) والخذلان ، والأخذ والرد ، والفرق والجمع ، والقبض والبسط. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 230 ـ 231}(12/206)
بحث نفيس في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر للعلامة ابن القيم
قال عليه الرحمة :
قال الله تعالى : {قل اللهم قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فصدر الآية سبحانه بتفرده بالملك كله وأنه هو سبحانه هو الذي يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء لا غيره فالأول تفرده بالملك والثاني تفرده بالتصرف فيه وأنه سبحانه هو الذي يعز من يشاء بما يشاء من أنواع العز ويذل من يشاء بسلب ذلك العز عنه وأن الخير كله بيديه ليس لأحد معه منه شيء ثم ختمها بقوله : {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فتناولت الآية ملكه وحده وتصرفه وعموم قدرته وتضمنت أن هذه التصرفات كلها بيده وأنها كلها خير فسلبه الملك عمن يشاء وإذلاله من يشاء خير وإن كان شرا بالنسبة إلى المسلوب الذليل فإن هذا التصرف دائر بين العدل والفضل والحكمة والمصلحة لا تخرج عن ذلك وهذا كله خير يحمد عليه الرب ويثنى عليه به كما يحمد ويثنى عليه بتنزيهه عن الشر وأنه ليس إليه كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يثني على ربه بذلك في دعاء الاستفتاح في قوله : "لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك أنابك وإليك تباركت وتعاليت" فتبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بل كل ما نسب إليه فهو خير والشر إنما صار شرا لانقطاع نسبته وإضافته إليه فلو أضيف إليه لم يكن شرا كما سيأتي بيانه وهو سبحانه خالق الخير والشر فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره خير كله ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه كما تقدم فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وذلك خير كله والشر وضع الشيء في غير محله فإذا وضع في محله لم يكن شرا فعلم أن الشر ليس إليه وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك فإن منها القدوس السلام العزيز الجبار المتكبر فالقدوس المنزه من كل(12/207)
شر ونقص وعيب كما قال أهل التفسير هو الطاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به وهذا قول أهل اللغة وأصل الكلمة من الطهارة والنزاهة ومنه بيت المقدس لأنه مكان يتطهر فيه من الذنوب ومن أمه لا يريد إلا الصلاة فيه رجع من خطيئته كيوم ولدته أمه ومنه سميت الجنة حظيرة القدس لطهارتها من آفات الدنيا ومنه سمي جبريل روح القدس لأنه طاهر من كل عيب ومنه قول الملائكة ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فقيل المعنى ونقدس أنفسنا لك فعدى باللام وهذا ليس شيء والصواب أن المعنى نقدسك وننزهك عما لا يليق بك هذا قول جمهور أهل التفسير ، (12/208)
وقال ابن جرير : "ونقدس لك ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس ومما أضاف إليك أهل الكفر بك" قال وقال بعضهم : "نعظمك ونمجدك" قاله أبو صالح ، وقال مجاهد : "نعظمك ونكبرك" انتهى وقال بعضهم ننزهك عن السوء فلا ننسبه إليك واللام فيه على حدها في قوله : {رَدِفَ لَكُمْ} لأن المعنى تنزيه الله لا تنزيه نفوسهم لأجله قلت ولهذا قرن هذا اللفظ بقولهم نسبح بحمدك فإن التسبيح تنزيه الله سبحانه عن كل سوء ، قال ميمون بن مهران : "سبحان الله كلمة يعظم بها الرب ويحاشى بها من السوء" وقال ابن عباس : "هي تنزيه لله من كل سوء" وأصل اللفظة من المباعدة من قولهم سبحت في الأرض إذا تباعدت فيها ومنه كل في فلك يسبحون فمن أثنى على الله ونزهه عن السوء فقد سبحه ويقال سبح الله وسبح له وقدسه وقدس له وكذلك اسمه السلام فإنه الذي سلم من العيوب والنقائص ووصفه بالسلام أبلغ في ذلك من وصفه بالسالم ومن موجبات وصفه بذلك سلامة خلقه من ظلمه لهم فسلم سبحانه من إرادة الظلم والشر ومن التسمية به ومن فعله ومن نسبته إليه فهو السلام من صفات النقص وأفعال النقص وأسماء النقص المسلم لخلقه من الظلم ولهذا وصف سبحانه ليلة القدر بأنها سلام والجنة بأنها دار السلام وتحية أهلها السلام وأثنى على أوليائه بالقول السلام كل ذلك السالم من العيوب وكذلك الكبير من أسمائه والمتكبر ، قال قتادة : "وغيره هو الذي تكبر عن السوء" وقال أيضا : "الذي تكبر عن السيئات" وقال مقاتل : "المتعظم عن كل سوء" ، وقال أبو إسحاق : "الذي يكبر عن ظلم عباده" وكذلك اسمه العزيز الذي له العزة التامة ومن تمام عزته براءته عن كل سوء وشر وعيب فإن ذلك ينافي العزة التامة وكذلك اسمه العلي الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص ومن كمال علوه أن لا يكون فوقه شيء بل يكون فوق كل شيء وكذلك اسمه الحميد وهو الذي له الحمد كله فكمال حمده يوجب أن لا ينسب إليه شر ولا سوء ولا نقص لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا(12/209)
في صفاته فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه مع أنه سبحانه الخالق لكل شيء فهو الخالق للعباد وأفعالهم وحركاتهم وأقوالهم والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشر والسوء والرب سبحانه هو الذي جعله فاعلا لذلك وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب فجعله فاعلا خير والمفعول شر قبيح فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها فهو خير وحكمة ومصلحة وإن كان وقوعه من العبد عيبا ونقصا وشرا وهذا أمر معقول في الشاهد فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر المكسور واللبنة الناقصة فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه كان ذلك منه عدلا وصوابا يمدح به وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يذم به المحل ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها كان ذلك حكمة وعدلا وصوابا وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها فمن وضع العمامة على الرأس والنعل في الرجل والكحل في العين والزبالة في الكناسة فقد وضع الشيء موضعه ولم يظلم النعل والزبالة إذ هذا محلهما ومن أسمائه سبحانه العدل والحكيم الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه فهو المحسن الجواد الحكيم العدل في كل ما خلقه وفي كل ما وضعه في محله وهيأه له وهو سبحانه له الخلق والأمر فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا تعارض أمران رجح أحسنهما وأصلحهما وليس في الشريعة أمر يفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده فإن قلت فإذا كان وجوده خيرا من عدمه فكيف لا يشاء وجوده فإذا كان عدمه خيرا من وجوده فكيف يشاء وجوده فالمشيئة العامة تنقض عليك هذه القاعدة الكلية قلت لا تنقضها لأن وجوده وإن كان خيرا من عدمه فقد يستلزم وجوده فوات محبوب له هو أحب إليه من وقوع هذا المأمور من هذا المعنى وعدم المنهي وإن كان خيرا من وجوده فقد يكون(12/210)
وجوده وسيلة وسببا إلى ما هو أحب إليه من عدمه وسيأتي تمام تقرير ذلك في باب اجتماع القدر والشرع وافتراقهما إن شاء الله والرب سبحانه إذا أمر بشيء فقد أحبه ورضيه وأراده وبينه وهو لا يحب شيئا إلا ووجوده خير من عدمه وما نهى عنه فقد أبغضه وكرهه وهو لا يبغض شيئا إلا وعدمه خير من وجوده هذا بالنظر إلى ذات هذا وهذا وأما باعتبار إفضائه إلى ما يحب ويكره فله حكم آخر ولهذا أمر سبحانه عباده أن يأخذوا بأحسن ما أنزل إليهم فالأحسن هو المأمور به وهو خير من المنهي عنه وإذا كانت هذه سنته في أمره وشرعه فهكذا سنته في خلقه وقضائه وقدره فما أراد أن يخلقه أو يفعله كان أن يخلقه ويفعله خيرا من أن لا يخلقه ولا يفعله وبالعكس وما كان عدمه خيرا من وجوده فوجوده شر وهو لا يفعله بل هو منزه عنه والشر ليس إليه ، فإن قلت فلم خلقه وهو شر ، قلت خلقه له وفعله خير لا شر فإن الخلق والفعل قائم به سبحانه والشر يستحيل قيامه به واتصافه به وما كان في المخلوق من شر فلعدم إضافته ونسبته إليه والفعل والخلق يضاف إليه فكان خيرا والذي شاءه كله خير والذي لم يشأ وجوده بقي على العدم الأصلي وهو الشر فإن الشر كله عدم وأن سببه جهل وهو عدم العلم أو ظلم وهو عدم العدل وما يترتب على ذلك من الآلام فهو من عدم استعداد المحل وقبوله لأسباب الخيرات واللذات ، فإن قلت كثير من الناس يطلق القول بأن الخير كله من الوجود ولوازمه والشر كله من العدم ولوازمه والوجود خير والشر المحض لا يكون إلا عدما ، قلت هذا اللفظ فيه إجمال فإن أريد به أن كل ما خلقه الله وأوجده ففيه الخير ووجوده خير من عدمه وما لم يخلقه ولم يشأه فهو المعدوم الباقي على عدمه ولا خير فيه إذ لو كان فيه خير لفعله فإنه بيده الخير فهذا صحيح فالشر العدمي هو عدم الخير وإن أريد أن كل ما يلزم الوجود فهو خير وكل ما يلزم العدم فهو شر فليس بصحيح فإن الوجود قد يلزمه شر مرجوح والعدم قد يلزمه خير راجح مثال(12/211)
الأول النار والمطر والحر والبرد والثلج ووجود الحيوانات فإن هذا موجود ويلزمه شر جزئي مغمور بالنسبة إلى ما في وجود ذلك من الخير وكذلك المأمور به قد يلزمه من الألم والمشقة ما هو شر جزئي مغمور بالنسبة إلى ما فيه من الخير.
فصل : وتحقيق الأمر أن الشر نوعان
شر محض حقيقي من كل وجه وشر نسبي إضافي من وجه دون وجه
فالأول لا يدخل في الوجود إذ لو دخل في الوجود لم يكن شرا محضا والثاني هو الذي يدخل في الوجود فالأمور التي يقال هي شرور إما أن تكون أمورا عدمية أو أمورا وجودية فإن كانت عدمية فإنها إما أن تكون عدما لأمور ضرورية للشيء في وجوده أو ضرورية له في دوام وجوده وبقائه أو ضرورية له في كماله وإما أن تكون غير ضرورية له في وجوده ولا بقائه ولا كماله وإن كان وجودها خيرا من عدمها فهذه أربعة أقسام فالأول كالإحساس والحركة والنفس للحيوان
والثاني كقوة الاغتذاء والنمو للحيوان المغتذي النامي
والثالث كصحته وسمعه وبصره وقوته(12/212)
والرابع كالعلم بدقائق المعلومات التي العلم بها خير من الجهل وليست ضرورية له وأما الأمور الوجودية فوجود كل ما يضاد الحياة والبقاء والكمال كالأمراض وأسبابها والآلام وأسبابها والموانع الوجودية التي تمنع حصول الخير ووصوله إلى المحل القابل له المستعد لحصوله كالمواد الردية المانعة من وصول الغذاء إلى أعضاء البدن وانتفاعها به وكالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة المانعة لحصول أضدادها للقلب إذا عرف هذا فالشر بالذات هو عدم ما هو ضروري للشيء في وجوده أو بقائه أو كماله ولهذا العدم لوازم من شر أيضا فإن عدم العلم والعدل يلزمهما من الجهل والظلم ما هو شرور وجودية وعدم الصحة والاعتدال يلزمهما من الألم والضرر ما هو شر وجودي وأما عدم الأمور المستغنى عنها كعدم الغنى المفرط والعلوم التي لا يضر الجهل بها فليس بشر في الحقيقة ولا وجودها سببا للشر فإن العلم منه حيث هو علم والغنى منه حيث هو غنى لم يوضع سببا للشر وإنما يترتب الشر من عدم صفة تقتضي الخير كعدم العفة والصبر والعدل في حق الغنى فيحصل الشر له في غناه بعدم هذه الصفات وكذلك عدم الحكمة ووضع الشيء موضعه وعدم إرادة الحكمة في حق صاحب العلم يوجب ترتب الشر له على ذلك فظهر أن الشر لم يترتب إلا على عدم وإلا فالموجود من حيث وجوده لا يكون شرا ولا سببا للشر فالأمور الوجودية ليست شرورا بالذات بل بالعرض من حيث أنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة فإنك لا تجد شيئا من الأفعال التي هي شر إلا وهي كمال بالنسبة إلى أمور وجهة الشر فيه بالنسبة إلى أمور أخر مثال ذلك أن الظلم يصدر عن قوة تطلب الغلبة والقهر وهي القوة الغضبية التي كمالها بالغلبة ولهذا خلقت فليس في ترتب أثرها عليها شر من حيث وجوده بل الشر عدم ترتب أثرها عليها البتة فتكون ضعيفة عاجزة مقهورة وإنما الشر الوجودي الحاصل شر إضافي بالنسبة إلى المظلوم بفوات نفسه أو ماله أو تصرفه وبالنسبة إلى الظالم لا من حيث(12/213)
الغلبة والاستيلاء ولكن من حيث وضع الغلبة والقهر والاستيلاء في غير موضعه فعدل به من محله إلى غير محله ولو استعمل قوة الغضب في قهر المؤذي الباغي من الحيوانات الناطقة والبهيمة لكان خيرا ولكن عدل به إلى غير محله فوضع القهر والغلبة موضع العدل والنصفة ووضع الغلظة موضع الرحمة فلم يكن الشر في وجود هذه القوة ولا في ترتب أثرها عليها من حيث هما كذلك بل في إجرائها في غير مجراها ومثال ذلك ماء جار في نهر إلى أرض يسقيها وينفعها فكماله في جريانه حتى يصل إليها فإذا عدل به عن مجراه وطريقه إلى أرض يضرها ويخرب دورها كان الشر في العدول به عما أعدله وعدم وصوله إليه فهكذا الإرادة والغضب أعين بهما العبد ليتوصل بهما إلى حصول ما ينفعه وقهر ما يؤذيه ويهلكه فإذا استعملا في ذلك فهو كمالها وهو خير وإذا صرفا عن ذلك إلى استعمال هذه القوة في غير محلها وهذه في غير محلها صار ذلك شرا إضافيا نسبيا وكذلك النار كمالها في إحراقها فإذا أحرقت ما ينبغي إحراقه فهو خير وإن صادفت ما لا ينبغي إحراقه فأفسدته فهو شر إضافي بالنسبة إلى المحل المعين وكذلك القتل مثلا هو استعمال الآلة القطاعة في تفريق اتصال البدن فقوة الإنسان على استعمال الآلة خير وكون الآلة قابلة للتأثير خير وكون المحل قابلا لذلك خير وإنما الشر نسبي إضافي وهو وضع هذا التأثير في غير موضعه والعدول به عن المحل المؤدي إلى غيره وهذا بالنسبة إلى الفاعل وأما بالنسبة إلى المفعول فهو شر إضافي أيضا وهو ما حصل له من التألم وفاته من الحياة وقد يكون ذلك خيرا له من جهة أخرى وخير لغيرة وكذلك الوطء فإن قوة الفاعل وقبول المحل كمال ولكن الشر في العدول به عن المحل الذي يليق به إلى محل لا يحسن ولا يليق وهكذا حركة اللسان وحركات الجوارح كلها جارية على هذا المجرى فظهر أن دخول الشر في الأمور الوجودية إنما هو بالنسبة والإضافة لا أنها من حيث وجودها وذواتها شر وكذلك السجود ليس هو شرا(12/214)
من حيث ذاته ووجوده فإذا أضيف إلى غير الله كان شرا بهذه النسبة والإضافة وكذلك كل ما وجوده كفر وشرك إنما كان شرا بإضافته إلى ما جعله كذلك كتعظيم الأصنام فالتعظيم من حيث هو تعظيم لا يمدح ولا يذم إلا باعتبار متعلقه فإذا كان تعظيما لله وكتابه ودينه ورسوله كان خيرا محضا وإن كان تعظيما للصنم وللشيطان فإضافته إلى هذا المحل جعلته شرا كما أن إضافة السجود إلى غير الله جعلته كذلك.
فصل : ومما ينبغي أن يعلم أن الأشياء المكونة من موادها شيئا فشيئا كالنبات والحيوان أما إن يعرض لها النقص الذي هو شر في ابتدائها أو بعد تكونها فالأول هو بأن يعرض لمادتها من الأسباب ما يجعلها ردية المزاج ناقصة الاستعداد فيقع الشر فيها والنقص في خلقها بذلك السبب وليس ذلك بأن الفاعل حرمه وأذهب عنه أمرا وجوديا به كماله بل لأن المنفعل لم يقبل الكمال والتمام وعدم قبوله أمر عدمي ليس بالفاعل وأما الذي بالفاعل فهو الخير الوجودي الذي يتقبل به كماله وتمامه ونقصه والشر الذي حصل فيه هو من عدم إمداده بسبب الكمال فبقي على العدم الأصلي وبهذا يفهم سر قوله تعالى : {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} فإن ما خلقه فهو أمر وجودي به كمال المخلوق وتمامه وأما عيبه ونقصه فمن عدم قبوله وعدم القبول ليس أمرا مخلوقا يتعلق بفعل الفاعل فالخلق الوجودي ليس فيه تفاوت والتفاوت إنما حصل بسبب هذا الخلق فإن الخالق سبحانه لم يخلق له استعدادا فحصل التفاوت فيه من عدم الخلق لا من نفس الخلق فتأمله والذي إلى الرب سبحانه هو الخلق وأما العدم فليس هو بفاعل له فإذا لم يكمل في مادة الجنين في الرحم ما يقتضي كماله وسلامة أعضائه واعتدالها حصل فيه التفاوت وكذلك النبات.
فصل : وأما الثاني وهو أن الشر الحاصل بعد تكونه وإيجاده فهو نوعان أيضا(12/215)
أحدهما أن يقطع عنه الإمداد الذي به كماله بعد وجوده كما يقطع عن النبات إمداده بالسقي وعن الحيوان إمداده بالغذاء فهو شر مضاف إلى العدم أيضا وهو عدم ما يكمل به
الثاني : حصول مضاد مناف وهو نوعان
أحدهما قيام مانع في المحل يمنع تأثير الأسباب الصالحة فيه كما تقوم بالبدن أخلاط ردية تمنع تأثير الغذاء فيه وانتفاعه به وكما تقوم بالقلب إرادات واعتقادات فاسدة تمنع انتفاعه بالهدى والعلم فهذا الشر وإن كان وجوديا وأسبابه وجودية فهو أيضا من عدم القوة والإرادة التي يدفع بها ذلك المانع فلو وجدت قوة وإرادة تدفعه لم يتأثر المحل به مثاله أن غلبة الأخلاط واستيلائها من عدم القوة المنضجة لها أو القوة الدافعة لما يحتاج إلى خروج وكذلك استيلاء الإرادات الفاسدة لضعف قوة العفة والصبر واستيلاء الاعتقادات الباطلة لعدم العلم المطابق لمعلومه فكل شر ونقص فإنما حصل لعدم سبب ضده وعدم سبب ضده ليس فاعلا له بل يكفي فيه بقاؤه على العدم الأصلي(12/216)
الثاني : مانع من خارج كالبرد الشديد والحرق والغرق ونحو ذلك مما يصيب الحيوان والنبات فيحدث فيه الفساد فهذا لا ريب أنه شر وجودي مستند إلى سبب وجودي ولكنه شر نسبي إضافي وهو خير من وجه آخر فإن وجود ذلك الحر والبرد والماء يترتب عليه مصالح وخيرات كلية هذا الشر بالنسبة إليها جزئي فتعطيل تلك الأسباب لتفويت هذا الشر الجزئي يتضمن شرا أكثر منه وهو فوات تلك الخيرات الحاصلة بها فإن ما يحصل بالشمس والريح والمطر والثلج والحر والبرد من مصالح الخلق أضعاف أضعاف ما يحصل بذلك من مفاسد جزئية هي في جنب تلك المصالح كقطرة في بحر هذا لو كان شرها حقيقيا فكيف وهي خير من وجه وشر من وجه وإن لم يعلم جهة الخير فيها كثير من الناس فما قدرها الرب سبحانه سدى ولا خلقها باطلا وعند هذا فيقال الوجود إما أن يكون خيرا من كل وجه أو شرا من كل وجه أو خيرا من وجه شرا من وجه وهذا على ثلاثة أقسام قسم خيره راجح على شره وعكسه وقسم مستو خيره وشره وأما أن لا يكون فيه خير ولا شر فهذه ستة أقسام ولا مزيد عليها فبعضها واقع وبعضها غير واقع فأما القسم الأول وهو الخير المحض من كل وجه الذي لا شر فيه بوجه ما فهو أشرف الموجودات على الإطلاق وأكملها وأجلها وكل كمال وخير فيها فهو مستفاد من خيره وكماله في نفسه وهي تستمد منه وهو لا يستمد منها وهي فقيرة إليه وهو غني عنها كل منها يسأله كماله فالملائكة تسأله ما لا حياة لها إلا به وإعانته على ذكره وشكره وحسن عبادته وتنفيذ أوامره والقيام بما جعل إليهم من مصالح العالم العلوي والسفلي وتسأله أن يغفر لبني آدم والرسل تسأله أن يعينهم على أداء رسالاته وتبليغها وأن ينصرهم على أعدائهم وغير ذلك من مصالحهم في معاشهم ومعادهم وبنو آدم كلهم يسألونه مصالحهم على تنوعها واختلافها والحيوان كله يسأله رزقه وغذاءه وقوته وما يقيمه ويسأله الدفع عنه والشجر والنبات يسأله غذاءه وما يكمل به والكون كله يسأله إمداده(12/217)
بقاله وحاله : {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فأكف جميع العالم ممتدة إليه بالطلب والسؤال ويده مبسوطة لهم بالعطاء والنوال يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سجاء الليل والنهار وعطاؤه وخيره مبذول للأبرار والفجار له كل كمال ومنه كل خير له الحمد كله وله الثناء كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله تبارك اسمه وتباركت أوصافه وتباركت أفعاله وتباركت ذاته فالبركة كلها له ومنه لا يتعاظمه خير سئله ولا تنقص خزائنه على كثرة عطائه وبذله فلو صور كل كمال في العالم صورة واحدة ثم كان العالم كله على تلك الصورة لكان نسبة ذلك إلى كماله وجلاله وجماله دون نسبة سراج ضعيف إلى عين الشمس.
فصل : وأما الأقسام الخمسة الباقية فلا يدخل منها في الوجود إلا ما كانت المصلحة والحكمة والخير في إيجاده أكثر من المفسدة والأقسام الأربعة لا تدخل في الوجود
أما الشر المحض الذي لا خير فيه فذاك ليس له حقيقة بل هو العدم المحض ، فإن قيل فإبليس شر محض والكفر والشرك كذلك وقد دخلوا في الوجود فأي خير في إبليس وفي وجود الكفر ، قيل في خلق إبليس من الحكم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله كما سننبه على بعضه فالله سبحانه لم يخلقه عبثا ولا قصد بخلقه إضرار عباده وهلاكهم فكم لله في خلقه من حكمة باهرة وحجة قاهرة وآية ظاهرة ونعمة سابغة وهو وإن كان للأديان والإيمان كالسموم للأبدان ففي إيجاد السموم من المصالح والحكم ما هو خير من تفويتها.(12/218)
وأما الذي لا خير فيه ولا شر فلا يدخل أيضا في الوجود فإنه عبث فتعالى الله عنه وإذا امتنع وجود هذا القسم في الوجود فدخول ما الشر في إيجاده أغلب من الخير أولى بالامتناع ومن تأمل هذا الوجود علم أن الخير فيه غالب وأن الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها واللذات أكثر من الآلام والعافية أعظم من البلاء والغرق والحرق والهدم ونحوها وإن كثرت فالسلامة أكثر ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيره غالب لأجل ما يعرض فيه من الشر لفات الخير الغالب وفوات الخير الغالب شر غالب ومثال ذلك النار فإن في وجودها منافع كثيرة وفيها مفاسد لكن إذا قابلنا بين مصالحها ومفاسدها لم تكن لمفاسدها نسبة إلى مصالحها وكذلك المطر والرياح والحر والبرد وبالجملة فعناصر هذا العالم السفلي خيرها ممتزج بشرها ولكن خيرها غالب وأما العالم العلوي فبريء من ذلك ،
فإن قيل فهلا خلق الخلاق الحكيم هذه خالية من الشر بحيث تكون خيرات محضة فإن قلتم اقتضت الحكمة خلق هذا العالم ممتزجا فيه اللذة بالألم والخير بالشر فقد كان يمكن خلقه على حالة لا يكون فيه شر كالعالم العلوي سلمنا أن وجود ما الخير فيه أغلب من الشر أولى من عدمه فأي خير ومصلحة في وجود رأس الشر كله ومنبعه وقدوة أهله فيه إبليس وأي خير في إبقائه إلى آخر الدهر وأي خير يغلب في نشأة يكون فيها تسعة وتسعون إلى النار وواحد في الجنة وأي خير غالب حصل بإخراج الأبوين من الجنة حتى جرى على الأولاد ما جرى ولو داما في الجنة لارتفع(12/219)
الشر بالكلية وإذا كان قد خلقهم لعبادته فكيف اقتضت حكمته أن صرف إليهم عنا ووفق لها الأقل من الناس وأي خير يغلب في خلق الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي وأي خير في إيلام غير المكلفين كالأطفال والمجانين فإن قلتم فائدته التعويض أنقض عليكم بإيلام البهائم ثم وأي خير في خلق الدجال وتمكينه من الظهور والافتتان به وإذ قد اقتضت الحكمة ذلك فأي خير حصل في تمكينه من إظهار تلك الخوارق والعجائب وأي خير في السحر وما يترتب عليه من المفاسد والمضار وأي خير في إلباس الخلق شيعا وإذاقة بعضهم بأس بعض وأي خير في خلق السموم وذات السموم والحيوانات العادية المؤذية بطبعها وأي خير في خراب هذه البنية بعد خلقها في أحسن تقويم وردها إلى أرذل العمر بعد استقامتها وصلاحها وكذلك خراب هذا الدار ومحو أثرها فإن كان وجود ذلك خيرا غالبا فإبطاله إبطال للخير الغالب دع هذا كله فأي خير راجح أو مرجوح في النار وهي دار الشر الأعظم والبلاء الأكبر ولا خلاص لكم عن هذه الأسئلة إلا بسد باب الحكم والتعليل وإسناد الكون إلى محض المشيئة أو القول بالإيجاب الذاتي وأن الرب لا يفعل باختياره ومشيئته وهذه الأسئلة إنما ترد على من يقول بالفاعل المختار فلهذا لجأ القائلون إلى إنكار التعليل جملة فاختاروا أحد المذهبين وتحيزوا إلى إحدى الفئتين وإلا فكيف تجمعون بين القول بالحكمة والتعليل وبين هذه الأمور ؟ (12/220)
فالجواب بعد أن نقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر بل في تحقيق هذه الكلمات الجواب الشافي : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ} : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} : {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} : {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} : {وأحسن كل الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} : {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} بل هو في غاية التناسب واقع على أكمل الوجوه وأقربها إلى حصول الغايات المحمودة والحكم المطلوبة فلم يكن تحصل تلك الحكم والغايات التي انفرد الله سبحانه بعلمها على التفصيل وأطلع من شاء من عباده على أيسر اليسير منها إلا بهذه الأسباب والبدايات وقد سأله الملائكة المقربون عن جنس هذه الأسئلة وأصلها فقال : {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وأقروا له بكمال العلم والحكمة وأنه في جميع أفعاله على
صراط مستقيم وقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ولما ظهر لهم ببعض حكمته فيما سألوا عنه وأنهم لم يكونوا يعلمون قال : {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.(12/221)
فصل : ونحن نذكر أصولا مهمة نبين بها جواب هذه الأسئلة وقد اعترف كثير من المتكلمين ممن له نظر في الفلسفة والكلام أنه لا يمكن الجواب عنها إلا بالتزام القول بالموجب بالذات أو القول بإبطال الحكمة والتعليل وأنه سبحانه لا يفعل شيئا لشيء ولا يأمر بشيء لحكمة ولا جعل شيئا من الأشياء سببا لغيره وما ثم إلا مشيئة محضة وقدرة ترجح مثلا على مثل بلا سبب ولا على وأنه لا يقال في فعله لم ولا كيف ولا لأي سبب وحكمة ولا هو معلل بالمصالح(12/222)
قال الرازي في مباحثه : "فإن قيل فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور فنقول لأنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول وذلك مما خرج عنه" يعني كان ذلك هو القسم الذي هو خير محض لا شر فيه قال : "وبقي في الفعل قسم آخر وهو الذي يكون خيره غالبا على شره" وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجودا قال وهذا الجواب لا يعجبني لأن لقائل أن يقول أن جميع هذه الخيرات والشرور إنما توجد باختيار الله سبحانه وإرادته فالاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجبا عن النار بل الله اختار خلقه عقيب مماسة النار وإذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإرادته فكان يمكنه أن يختار خلق الإحراق عندما يكون خيرا ولا يختار خلقه عندما يكون شرا ولا خلاص عن هذه المطالبة إلا ببيان كونه فاعلا بالذات لا بالقصد والاختيار ويرجع حاصل الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القدم والحدوث فانظر كيف اعترف بأنه لا خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه مريد مختار ما شاء كان بمشيئته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته وأنه ليس في الكون شيء حاصل بدون مشيئته ألبتة فأقر على نفسه أنه لا خلاص له في تلك الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل القائلين بأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ولا أوجد العالم بعد عدمه ولا يفنيه بعد إيجاده وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته فلم يكن مختارا مريدا للعالم وليس عنده إلا هذا القول أو قول الجبرية منكري الأسباب والحكم والتعليل أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل وأوجبوا رعاية مصالح شبهوا فيها الخالق بالمخلوق وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا عليه فيها وحرموا وحجروا عليه فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح (1)
________________
(1) هذا الاتهام فيه نظر وفيه تجن واضح ، وكلام الفخر ـ رحمه الله ـ لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى شىء من ذلك بل هو على نقيضه. وكان الأليق بابن القيم ـ رحمه الله ـ أن ينصفه. والله أعلم.(12/223)
الشديدة والعاقل لا يرضى لنفسه بواحد من هذه الأقوال لمنافاتها العقل والنقل والفطرة والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة وهداهم إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة : "أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" ونحن هكذا نقول بحمد الله ومنه القول الوسط الصواب لنا وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسول وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن به قائلون وإليه منقادون وله ذاهبون.(12/224)
فصل : الأصل الأول : إثبات عموم علمه سبحانه وإحاطته بكل معلوم وأنه لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض بل قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا والخلاف في هذا الأصل مع فرقتين إحداهما أعداء الرسل كلهم وهم الذين ينفون علمه بالجزئيات وحاصل قولهم أنه لا يعلم موجودا البتة فإن كل موجود جزئي معين فإذا لم يعلم الجزئيات لم يكن عالما بشيء من العالم العلوي والسفلي والفرقة الثانية غلاة القدرية الذين اتفق السلف على كفرهم وحكموا بقتلهم الذين يقولون لا يعلم أعمال العباد حتى يعلموها ولم يعلمها قبل ذلك ولا كتبها ولا قدرها فضلا عن أن يكون شاءها وكونها وقول هؤلاء معلوم البطلان بالضرورة من أديان جميع المرسلين وكتب الله المنزلة وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم مملوءة بتكذيبهم وإبطال قولهم وإثبات عموم علمه الذي لا يشاركه فيه خلقه ولا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء أن يطلعهم عليه ويعلمهم به وما أخفاه عنهم ولم يطلعهم عليه لا نسبة لما عرفوه إليه إلا دون نسبة قطرة واحدة إلى البحار كلها كما قال الخضر لموسى وهما أعلم أهل الأرض حينئذ ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر ويكفي أن ما يتكلم به من علمه لو قدر أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض كلها من أول الدهر إلى آخره أقلام يكتب به ما يتكلم به مما يعلمه لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم تنفذ كلماته فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته وغناهم إلى غناه وحكمتهم إلى حكمته وإذا كان أعلم الخلق به على الإطلاق يقول : "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ويقول في دعاء الاستخارة : "فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب" ويقول سبحانه للملائكة : {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ويقول سبحانه لأعلم الأمم وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ(12/225)
وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ويقول لأهل الكتاب : {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} وتقول رسله يوم القيامة حين يسألهم : {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} وهذا هو الأدب المطابق للحق في نفس الأمر فإن علومهم وعلوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه كما يضمحل ضوء السراج الضعيف في عين الشمس فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح وأعظم القحة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين عليه ويقدح في حكمته ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه وسبق به علمه وأن يكون الأمر بخلاف ذلك فسبحان الله رب العالمين تنزيها لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون فسبحان الله كلمة يحاشى الله بها عن كل ما يخالف كماله من سوء ونقص وعيب فهو المنزه التنزيه التام من كل وجه وبكل اعتبار عن كل نقص متوهم وإثبات عموم حمده وكماله وتمامه ينفي ذلك واتصافه بصفات الإلهية التي لا تكون لغيره وكونه أكبر من كل شيء في ذاته وأوصافه وأفعاله ينفي ذلك لمن رسخت معرفته في معنى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وسافر قلبه في منازلها وتلقى معانيها من مشكاة النبوة لا من مشكاة الفلسفة والكلام الباطل وآراء المتكلمين فهذا أصل يجب التمسك به في هذا المقام وأن يعلم أن عقول العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب سبحانه في أصغر مخلوقاته ، (12/226)
الأصل الثاني : أنه سبحانه حي حقيقة وحياته أكمل الحياة وأتمها وهي حياة تستلزم جميع صفات الكمال ونفي أضدادها من جميع الوجوه ومن لوازم الحياة الفعل الاختياري فإن كل حي فعال وصدور الفعل عن الحي بحسب كمال حياته ونقصها وكل من كانت حياته أكمل من غيره كان فعله أقوى وأكمل وكذلك قدرته ولذلك كان الرب سبحانه على كل شيء قدير وهو فعال لما يريد وقد ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال عن نعيم بن حماد أنه قال : "الحي هو الفعال" وكل حي فعال فلا فرق بين الحي والميت إلا بالفعل والشعور وإذا كانت الحياة مستلزمة للفعل وهو الأصل الثالث فالفعل الذي لا يعقل الناس سواه هو الفعل الاختياري الإرادي الحاصل بقدرة الفاعل وإرادته ومشيئته وما يصدر عن الذات من غير سفير قدرة منها ولا إرادة لا يسميه أحد من العقلاء فعلا وإن كان أثرا من آثارها ومتولدا عنها كتأثير النار في الإحراق والماء في الإغراق والشمس في الحرارة فهذه آثار صادرة عن هذه الأجسام وليست أفعالا لها وإن كانت بقوى وطبائع جعلها الله فيها فالفعل والعمل من الحي العالم لا يقع إلا بمشيئته وقدرته وكون الرب سبحانه حيا فاعلا مختارا مريدا مما اتفقت عليه الرسل والكتب ودل عليه العقل والفطرة وشهدت به الموجودات ناطقها وصامتها جمادها وحيوانها علويها وسفليها فمن أنكر فعل الرب الواقع بمشيئته واختياره وفعله فقد جحد ربه وفاطره وأنكر أن يكون للعامل رب ، الأصل الرابع : أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني والشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء فقد جعل سبحانه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه(12/227)
بل الموجودات كلها أسباب ومسببات والشرع كله أسباب ومسببات والمقادير أسباب ومسببات والقدر جار عليها متصرف فيها فالأسباب محل الشرع والقدر والقرآن مملوء من إثبات الأسباب كقوله : {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} : {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} : {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} : {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} : {جَزَاءً وِفَاقاً} : {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} : {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} إلى قوله : {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وقوله : {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وقوله : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} وقوله : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وقوله : {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} وقوله : {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} وقوله : {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} : {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} : {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ(12/228)
فَسَوَّاهَا} وقوله : {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} وقوله : {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وقوله : {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقوله : {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} وقوله : {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} الآية وقوله : {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} وكل موضع رتب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببا له كقوله : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} وقوله : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقوله : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وقوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} وهذا أكثر من أن يستوعب وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط والجزاء وهو أكثر من أن يستوعب كقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} وقوله : {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وكل موضع رتب فيه الحكم على ما قبله بحرف أفاد التسبب وقد تقدم وكل موضع تقدم ذكرت فيه الباء تعليلا لما قبلها بما بعدها أفاد التسبب وكل موضع صرح فيه بأن كذا جزاء لكذا أفاد
التسبيب فإن العلة الغائية عله للعلة الفاعلية ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ويكفي شهادة الحس والعقل والفطر. أ هـ {شفاء العليل صـ 178 ـ 189}(12/229)
قوله تعالى { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
لما ثبتت خصوصيته سبحانه وتعالى بصفة القدرة على الوجه الأعم ذكر بعض ما تحت ذلك مما لم يدخل شيء منه تحت قدرة غيره فقال : { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}
وقال الحرالي : ولما كانت هذه الآية متضمنة تقلبات نفسانية في العالم القائم الآدمي اتصل بها ذكر تقلبات في العالم الدائر ليؤخذ لكل منها اعتبار من الآخر.(12/230)
ولما ظهر في هذه الآية افتراق النزع والإيتاء والإعزاز والإذلال أبدى في الآية التالية توالج بعضها في بعض ليؤذن بولوج العز في الذل والذل في العز ، والإيتاء في النزع والنزع في الإيتاء ، وتوالج المفترقات والمتقابلات بعضها في بعض ، ولما كانت هذه السورة متضمنة لبيان الإحكام والتشابه في منزل الكتاب بحكم الفرقان أظهر تعالى في آياتها ما أحكم وبين في خلقه وأمره وما التبس وأولج في خلقه وأمره ، فكان من محكم آية في الكائن القائم الآدمي ما تضمنه إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال ، وكان من الاشتباه إيلاج العز في الذل وإيلاج الذل في العز ، فلما صرح بالإحكام ببيان الطرفين في الكائن القائم الآدمي ، وضمن الخطاب اشتباهه في ذكر العز والذل صرح به في آية الكون الدائر ، فذكر آية الآفاق وهو الليل والنهار بما يعاين فيها من التوالج حيث ظهر ذلك فيها وخفي في توالج أحوال الكائن القائم ، لأن الإحكام والاشتباه متراد بين الآيتين : آية الكائن القائم الآدمي وآية الكون الدائر العرشي ، فما وقع اشتباهه في أحدهما ظهر إحكامه في الآخر فقال سبحانه وتعالى : {تولج} من الولوج ، وهو الدخول في الشيء الساتر لجملة الداخل {الليل في النهار} فيه تفصيل من مضاء قدرته ، فهو سبحانه وتعالى يجعل كل واحد من المتقابلين بطانة للآخر والجاً فيه على وجه لا يصل إليه منال العقول لما في المعقول من افتراق المتقابلات ، فكان في القدرة إيلاج المتقابلات بعضها في بعض وإيداع بعضها في بعض على وجه لا يتكيف بمعقول ولا ينال بفكر - انتهى.
{وتولج النهار في الليل} أي تدخل كلاً منهما في الآخر بعد ظهوره حتى يذهب فيه فيخفى ولا يبقى له أثر.
قال الحرالي : ولما جعل المتعاقبين من الليل والنهار متوالجين جعل المتباطنين من الحي والميت مخرجين ، فما ظهر فيه الموت بطنت فيه الحياة ، وما ظهرت فيه الحياة بطن فيه الموت ؛ انتهى.(12/231)
فقال سبحانه وتعالى : {وتخرج الحي} أي من النبات والحيوان {من الميت} منهما {وتخرج الميت} منهما {من الحي} منهما كذلك.
قال الحرالي : فهذه سنة الله وتعالى وحكمته في الكائن القائم وفي الكون الدائر ، فأما في الكون الدائر فبإخراج حي الشجر والنجم من موات البذر والعجم ، وبظهوره في العيان كان أحكم في البيان مما يقع في الكائن القائم ، كذلك الكائن القائم يخرج الحي المؤمن الموقن من الميت الكافر الجاهل {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} [ التوبة : 14 ] ويخرج الكافر الآبي من المؤمن الراحم {يا نوح إنه ليس من أهلك} [ هود : 46 ] أظهر سبحانه وتعالى بذلك وجوه الإحكام والاشتباه في آيتي خلقه ليكون ذلك آية على ما في أمره ، وليشف ذلك عما يظهر من أمر علمه وقدرته على من شاء من عباده كما أظهر في ملائكته وأنيبائه ، وكما خصص بما شاء من إظهار عظيم أمره في المثلين الأعظمين : مثل آدم وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، فأنزلت هذه السورة لبيان الأمر فيما اشتبه على من التبس عليه أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فهو تعالى أظهر من موات الإنسانية ما شاء من الإحياء بإذنه ، وأظهر في آدم عليه الصلاة والسلام ما شاء من علمه حين علم آدم الأسماء كلها كذلك أظهر في عيسى عليه الصلاة والسلام ما شاء من قدرته كما أظهر في الخلق ما شاء من ملكه ، فملك من شاء ونزع الملك ممن شاء ، وأعز من شاء وأذل من شاء ، وأظهر بالنهار ما شاء وطمس بالليل ما شاء ، وأولج المتقابلين بعضهما في بعض وأخرج المتباطنين بعضهما من بعض - انتهى.(12/232)
ولما بدأ الآية سبحانه وتعالى مما يقتضي الترغيب بما هو محط أحوال الأنفس من الملك وأنواع الخير ختمها بمثل ذلك مما لا يقوم الملك ولا يطيب العيش إلا به فقال : {وترزق من تشاء} قوياً كان أو ضعيفاً {بغير حساب} أي تعطيه عطاء واسعاً جداً متصلاً من غير تضييق ولا عسر ، كما فعل بأول هذه الأمة على ما كانوا فيه من القلة والضعف حيث أباد بهم الأكاسرة والقياصرة وآتاهم كنوزهم وأخدمهم أبناءهم وأحلهم ديارهم.
وقال الحرالي : ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا الإحكام والاشتباه في أمر العلية من الخلق وفيه من الإحكام والاشتباه نحو ما في الإيتاء والنزع ولما فيه من الوزن والإيتاء بقدر ختم بأعزيه وهو الإرزاق الذي لا يقع على وزن ولا يكون بحساب ، وفيه إشعار بالإرزاق الختمي الذي يكون في آخر اليوم المحمدي للذين يؤتيهم الله سبحانه وتعالى ما شاء من ملكه وعزه وسعة رزقه بغير حساب ، فكما ختم الملك لبني إسرائيل بملك سليمان عليه الصلاة والسلام في قوله سبحانه وتعالى {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} [ ص : 39 ] كذلك يختم لهذه الأمة بأن يرزقهم بغير حساب حين تلقي الأرض بركاتها وتتطهر من فتنتها ، فتقع المكنة في ختم اليوم المحمدي بالهداية والهدنة كما انقضت لبني إسرائيل بالملك والقوة - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 2 صـ 55 ـ 57}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {تُولِجُ الليل فِى النهار وَتُولِجُ النهار فِى الليل} فيه وجهان
الأول : أن يجعل الليل قصيراً ويجعل ذلك القدر الزائد داخلاً في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك(12/233)
والثاني : أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار ، فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار ، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر ، والأول أقرب إلى اللفظ ، لأنه إذا كان النهار طويلاً فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلاً في الليل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 9}
فائدة
قال ابن عاشور :
وحقيقة تولج تدخل وهو هنا استعارة لتعاقب ضوء النهار وظلمة الليل ، فكأن أحدهما يدخل في الآخر ، ولازدياد مدة النهار على مدة الليل وعكسه في الأيام والفصول عدا أيام الاعتدال وهي في الحقيقة لحظات قليلة ثم يزيد أحدهما لكن الزيادة لا تدرك في أولها فلا يعرفها إلا العلماء ، وفي الظاهر هي يومان في كل نصف سنة شمسية قال ابن عرفة : كان بعضهم يقول : القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص وما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية ؛ فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يفهمها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام.
وفي هذا رمز إلى ما حدث في العالم من ظلمات الجهالة والإشراك ، بعد أن كان الناس على دين صحيح كدين موسى ، وإلى ما حدث بظهور الإسلام من إبطال الضلالات ، ولذلك ابتدئ بقوله {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} ، ليكون الانتهاء بقوله {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ، فهو نظير التعريض الذي بينته في قوله {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية. والذي دل على هذا الرمز افتتاح الكلام بقوله {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 69}(12/234)
فصل
قال الآلوسى :
{ تُولِجُ الليل فِى النهار وَتُولِجُ النهار فِى الليل } الولوج في الأصل الدخول والإيلاج الإدخال واستعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب في أكثر البلدان وروي ذلك عن ابن عباس والحسن ومجاهد ولا يضر تساوي الليل والنهار دائماً عند خط الاستواء لأنه يكفي الزيادة والنقصان فيهما في الأغلب ، وقال الجبائي : المراد بإيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ ، وعلى التقديرين الظاهر من الليل والنهار ليل التكوير ونهاره وهما المشهوران أن عند العامة الذين يفهمون ظاهر القول ، ووراء ذلك أيام السلخ التي يعرفها العارفون وأيام الإيلاج الشانية التي يعقلها العلماء الحكماء. وبيان ذلك على وجه الاختصار أن اليوم على ما ذكره القوم الإلهيون عبارة عن دورة واحدة من دورات فلك الكواكب وهو من النطح إلى النطح ومن الشرطين إلى الشرطين ومن البطين إلى البطين وهكذا إلى آخر المنازل ، ومن درجة المنزلة ودقيقتها إلى درجة المنزلة ودقيقتها ، وأخفى من ذلك إلى أقصى ما يمكن الوقوف عنده وما من يوم من الأيام المعروفة عند العامة وهي من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس أو من غروبها إلى غروبها أو من استوائها إلى استوائها أو ما بين ذلك إلى ما بين ذلك إلا وفيه نهاية ثلثمائة وستين يوماً فاليوم طوله ثلاثمائة وستون درجة لأنه يظهر فيه الفلك كله وتعمه الحركة وهذا هو اليوم الجسماني ، وفيه اليوم الروحاني فيه تأخذ العقول معارفها والبصائر مشاهدها والأرواح أسرارها كما تأخذ الأجسام في هذا اليوم الجسماني أغذيتها وزيادتها ونموها وصحتها وسقمها وحياتها وموتها فالأيام من جهة أحكامها الظاهرة في العالم المنبعثة من القوة الفعالة للنفس الكلية سبعة من يوم الأحد إلى آخره ولهذه الأيام أيام روحانية لها أحكام في الأرواح والعقول تنبعث من القوة العلامة للحق الذي قامت به السموات والأرض وهو الكلمة الإلهية ، (12/235)
وعلى هذه السبعة الدوارة يدور فلك البحث فنقول : قال الله تعالى في المشهود من الأيام المحسوسة : { يُكَوّرُ الليل عَلَى النهار وَيَكُور النهار عَلَى الليل } [ الزمر : 5 ] وأبان عن حقيقتين من طريق الحكم بعد هذا فقال في آية : { وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ ياس : 37 ] فهذه أنبأت أن الليل أصل والنهار كان غيباً فيه ثم سلخ ، وليس معنى السلخ معنى التكوير فلا بد أن يعرف ليل كل نهار من غيره حتى ينسب كل ثوب إلى لابسه ويرد كل فرع إلى أصله ، ويلحق كل ابن بأبيه ، وقال في الآية الكريمة كاشفاً عن حقيقة أخرى : { يُولِجُ الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى الليل } فجعل بين الليل والنهار نكاحاً معنوياً لما كانت الأشياء تتولد منهما معاً وأكد هذا المعنى بقوله عز قائلاً : (12/236)
{ يغشى الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] ولهذا كان كل منهما مولجاً ومولجاً فيه فكل واحد منهما لصاحبه أصل وبعل فكلما تولد في النهار فأمه النهار وأبوه الليل وكلما تولد في الليل فأمه الليل وأبوه النهار فليس إذاً حكم الايلاج حكم السلخ فإن السلخ إنما هو في وقت أن يرجع النهار من كونه مولجاً ومولجاً فيه والليل كذلك إلا أنه ذكر السلخ الواحد ولم يذكر السلخ الآخر من أجل الظاهر والباطن والغيب والشهادة. والروح والجسم والحرف والمعنى وشبه ذلك فالإيلاج روح كله والتكوير جسم هذا الروح الإيلاجي ولهذا كرر الليل والنهار في الإيلاج كما كررهما في التكوير هذا في عالم الجسم وهذا في عالم الروح ، فتكوير النهار لإيلاج الليل وتكوير الليل لإيلاج النهار ، وجاء السلخ واحداً للظاهر لأربابه ، وقد اختلف العجم والعرب في أصالة أي المكورين على الآخر ، فالعجم يقدمون النهار على الليل وزمانهم شمسي فليلة السبت عندهم مثلا الليلة التي تكون صبيحتها يوم الأحد وهكذا ، والعرب يقدمون الليل على النهار وزمانهم قمري { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] فليلة الجمعة عندهم مثلا هي الليلة التي يكون صبيحتها يوم الجمعة وهم أقرب من العجم إلى العلم فإنه يعضدهم السلخ في هذا النظر غير أنهم لم يعرفوا الحكم فنسبوا الليلة إلى غير يومها كما فعل أصحاب الشمس وذلك لأن عوامهم لا يعرفون إلا أيام التكوير والعارفون من أهل هذه الدولة ، وورثة الأنبياء يعلمون ما وراء ذلك من أيام السلخ وأيام الإيلاج الشاني ، ولما كانت الأيام شيئاً وكل شيء عندهم ظاهر وباطن وغيب وشهادة وروح وجسم وملك. وملكوت ولطيف وكثيف قالوا : إن اليوم نهار وليل في مقابلة باطن وظاهر ، والأيام سبعة ولكل يوم نهار وليل من جنسه ، والنهار ظل ذلك الليل وعلى صورته لأنه أصله المدرج هو فيه المنسلخ هو منه بالنفخة الآلهية ، وقد أطلق سبحانه في آية السلخ ولم يبين أي نهار سلخ من أية(12/237)
ليلة ولم يقل ليلة كذا سلخ منها نهار كذا ليعقلها من ألهمه الله تعالى رشده فينال فصل الخطاب ، فعلى المفهوم من اللسان العربي بالحساب القمري أي ليلة الأحد سلخ الله تعالى منها نهار الأربعاء وسلخ من ليلة الاثنين نهار الخميس ، ومن ليلة الثلاثاء نهار الجمعة ، ومن ليلة الأربعاء نهار السبت ، ومن ليلة الخميس نهار الأحد ، ومن ليلة الجمعة نهار الاثنين ومن ليلة السبت نهار الثلاثاء فجعل سبحانه بين كل ليلة ونهارها المسلوخ منها ثلاث ليال وثلاثة نهارات فكانت ستة وهي نشأتك ذاك الجهات ، فالليالي منها للتحت والشمال والخلف ، والنهارات منها للفوق واليمين والأمام فلا يكون الإنسان نهاراً ونوراً تشرق شمسه وتشرق به أرضه حتى ينسلخ من ليل شهوته ولا يقبل على من لا يقبل الجهات حتى يبعد عن جهات هيكله ، وإنما نسبوا هذه النسبة من جهة الاشتراك في الشأن الظاهر لستر الحكمة الإلهية على يد الموكلين بالساعات ، وفي اليوم الإيلاجي الشاني يعتبرون ليلاً ونهاراً أيضاً وهو عندهم أربع وعشرون ساعة قد اتحد فيها الشأن فلم ينبعث فيها إلا معنى واحد ويتنوع في الموجودات بحسب استعداداتها ولهذا قال سبحانه : (12/238)
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] ولم يقل في شؤون وتنوينه للتعظيم الظاهر باختلاف القوابل وتكثر الأشخاص فإذا ساعات ذلك اليوم تحت حكم واحد ونظر وال واحد قد ولاه من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء وتولاه وخصه بتلك الحركة وجعله أميراً في ذلك ، والمتصرف الحقيقي هو الله تعالى لا هو من حيث هو ، فاليوم الشاني ما كانت ساعاته كلها سواء ومتى اختلفت فليس بيوم واحد ولا يوجد هذا في أيام التكوير وكذا في أيام السلخ إلا قليلاً فطلبنا ذلك في الأيام الإيلاجية فوجدناه مستوفى فيه ، وقد أرسل سبحانه آية الإيلاج ولم يقل : { يُولِجُ الليل } الذي صبيحته الأحد في الأحد ولا النهار الذي مساؤه ليلة الاثنين في الاثنين فإذا لا يلتزم أن ليلة الأحد هي ليلة الكور ولا ليلة السلخ وإنما يطلب وحدانية اليوم من أجل أحدية الشأن فلا ينظر إلا إلى اتحاد الساعات ، والحكم المولى من قبل المولى فليلة الأحد الإيلاجي مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس ، والثانية منها ، والثالثة من يوم الخميس ، والعاشرة منها ، والخامسة من ليلة الجمعة ، والثانية عشرة منها ، والسابعة من يوم الجمعة ، والثامنة من ليلة السبت ، والتاسعة منها ، والرابعة من يوم السبت ، والحادية عشرة منه ، والسادسة من ليلة الأحد فهذه ساعات ليله.(12/239)
وأما ساعات نهاره من أيام التكوير فالأولى من يوم الأحد ، والثامنة والثالثة من يوم الإثنين والعاشرة منه ، والخامسة من يوم الاثنين والثانية عشرة منه والسابعة من ليلة الثلاثة والثانية من يوم الثلاثاء والتاسعة منه ، والرابعة من ليلة الأربعاء والحادية عشرة منها والسادسة من يوم الأربعاء فهذه أربعة وعشرون ساعة ظاهرة كالشمس ليوم الأحد الإيلاجي الشاني كلها كنفس واحدة لأنها من معدن واحد ، وهكذا تقول في سائر الأيام حتى تكمل سبعة أيام متميزة بعضها من بعض مولجة بعضها في بعض نهارها في ليلها وليلها في نهارها لحكمة التوالد والتناسل وذلك كسريان الحكم الواحد في الأيام ، ويظهر ذلك من أيام التكوير. وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره الشأن في كل يوم في رسالته "المسماة بالشأن الإلهي" ، ولعلِّي إن شاء الله تعالى أذكر ذلك عند قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] وهذه الأيام أيضاً غير يوم المثل وهو عمر الدنيا ويوم الرب ويوم المعارج ويوم القمر ويوم الشمس ويوم زحل ويوم الحمل ولكل كوكب من السيارات والبروج يوم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 115 ـ 117}(12/240)
بحث علمى
قال فى الأمثل :
"الولوج" بمعنى الدخول. والقصد من الآية هو هذا التغيير التدريجي الذي نراه بين الليل والنهار طوال السنة. هذا التغيير ناشىء عن انحراف محور الأرض عن مدارها بنحو 23 درجة واختلاف زاوية سقوط أشعّة الشمس عليها. لذلك نرى الشتاء في النصف الشمالي من خطّ الاستواء تطول أيّامه تدريجياً ، وتقصر لياليه تدريجياً ، حتّى أوائل الصيف ، حيث ينعكس التغيير فتقصر أيّامه وتطول لياليه حتّى أوائل الشتاء.
أمّا في جنوب خطّ الاستواء فالتناظر يكون معكوساً.
وبناءاً على ذلك فإنّ الله يدخل الليل في النهار ، ويدخل النهار في الليل ، دائماً ، أي أنّه ينقص هذا ليزيد ذاك وبالعكس.
قد يقول قائل إنّ الليل والنهار في خطّ الاستواء الحقيقي وفي نقطتي القطبين في الشمال والجنوب متساويان وليس ثمّة أيّ تغيير فيهما ، فالليل والنهار في خطّ الاستواء متساويان ويمتدّ كلّ منهما اثنتي عشرة ساعة على امتداد السنة ، وفي القطبين يمتدّ الليل ستة أشهر ومثله النهار ، لذلك فإنّ الآية ليست عامّة.
في الجواب على هذا التساؤل نقول : إنّ خطّ الاستواء الحقيقي خطّ وهمي ، والناس عادةً يعيشون على طرفي الخط. كذلك الحال في القطبين فهما نقطتان وهميّتان ، وسكّان القطبين ـ إن كان فيهما سكّان ـ يعيشون في مناطق أوسع طبعاً من نقطة القطب الحقيقية ، وعليه فالاختلاف موجود في كلّ الحالات.
وقد يكون للآية معنى آخر بالإضافة إلى ما ذكر ، وهو أنّ الليل والنهار لا يحدثان فجأةً في الكرة الأرضية بسبب وجود طبقات "الجو" حولها.
فالنهار يبدأ بالتدريج من الفجر وينتشر ، ويبدأ الليل من حمرة الأُفق الغربي والغسق ، ثمّ ينتشر الظلام حتّى يعمّ جميع الأرجاء.(12/241)
إنّ للتدرّج في تغيير الليل والنهار ـ بأيّ معنى كان ـ آثاراً مفيدة في حياة الإنسان والكائنات الأُخرى على الأرض. لأنّ نموّ النباتات وكثير من الحيوانات يتمّ في إطار نور الشمس وحرارتها التدريجيّة. فمن بداية الربيع حيث يزداد بالتدريج نور الشمس وحرارتها ، تطوي النباتات وكثير من الحيوانات كلّ يوم مرحلة جديدة من تكاملها. ولمّا كانت هذه الموجودات تحتاج بمرور الأيّام إلى مزيد من النور والحرارة ، فإنّ حاجتها هذه تلّبى عن طريق التغييرات التدريجيّة للّيل والنهار ، لتصل إلى نقطة تكاملها النهائيّة.
فلو كان الليل والنهار كما هو دائماً ، لاختلّ نموّ كثير من النباتات والحيوانات ، ولاختفت الفصول الأربعة التي تنشأ من اختلاف الليل والنهار ومن مقدار زاوية سقوط نور الشمس ، ولخسر إلإنسان فوائد ذلك.
كذلك هي الحال إذا أخذنا بنظر الاعتبار المعنى الثاني في تفسير الآية أي أنّ حلول الليل والنهار تدريجي ، لا فجائي ، وأنّ هناك فترة بين الطلوعين تفصل بينهما ، فمن ذلك يتّضح أنّ هذا التدرّج في حلول الليل والنهار نعمة كبرى لسكنة الأرض ، لأنّهم يتعرّفون بالتدرج على الظلام أو الضياء ، وبذلك تتطابق قِواهم الجسمية وحياتهم الاجتماعية مع هذا التغيير ، وإلاَّ حدثت حتماً مشاكل لهم. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 450 ـ 451}(12/242)
قوله تعالى {وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى}
فصل
قال الفخر :
ذكر المفسرون فيه وجوهاً
أحدها : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر ، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام
والثاني : يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس
والثالث : يخرج الحيوان من النطفة ، والطير من البيضة وبالعكس
والرابع : يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس ، والنخلة من النواة وبالعكس ، قال القفّال رحمه الله : والكلمة محتملة للكل
أما الكفر والإيمان فقال تعالى :
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} [ الأنعام : 122 ] يريد كان كافراً فهديناه فجعل الموت كفراً والحياة إيماناً ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء ، وجعل قبل ذلك ميتة فقال {يحيي الأرض بعد موتها} [ الروم : 19 ] وقال : {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [ فاطر : 9 ] وقال : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [ البقرة : 28 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 9}
وقال القرطبى :
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } فقال الحسن : معناه تُخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، ورُوي نحوه عن سَلْمَان الفارسي.
وروى مَعْمر عن الزهري " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه فإذا بامرأة حسنة الهيئة قال : "من هذه" ؟ قلن إحدى خالاتك.
قال : "ومن هي" ؟ قلن : هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : "سبحان الذي يخرج الحيّ من الميت" " وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافراً.
فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن ؛ فالموت والحياة مستعاران.
وذهب كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية حقيقتان ؛ فقال عِكرمة : هي إخراج الدَّجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة ، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية.
وقال ابن مسعود : هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي ، ويخرج الرجل منها حياً وهي ميتة.
وقال عِكرمة والسّدي : هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة ، والنواة من النخلة والنخلة تخرج من النواة ؛ والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 56 ـ 57}(12/243)
قال ابن عطية :
ولفظ الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلاً إنما هو عبارة عن تغير الحال كما تقول في صبي جيد البنية : يخرج من هذا رجل قوي ، وهذا المعنى يسميه ابن جني : التجريد أي تجرد الشيء من حال إلى حال هو خروج ، وقد يحتمل قوله تعالى : { ويخرج الميت من الحي } أن يراد به أن الحيوان كله يميته فهذا هو معنى التجريد بعينه وأنشد ابن جني على ذلك :
أَفَاءَتْ بَنُوا مَرْوانَ ظُلْماً دِمَاءَناَ ... وفي اللَّهِ -إنْ لَمْ يُنْصِفُوا- حَكَمٌ عَدْلُ. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 418}
فائدة
قال الآلوسى :
ولا يلزم من الآية أن يكون إخراج كل حي من ميت وكل ميت من حي ليلزم التسلسل في جانب المبدىء إذ غاية ما تفهمه الآية أن لله تعالى هذه الصفة وأما أنه لا يخلق شيئاً إلا من شيء فلا كما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 118}
لطيفة
قال الماوردى :
قال قتادة : وإنما سَمَّى الله يحيى بن زكريا بيحيى لأن الله عز وجل أحياه بالإيمان. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 385}
فائدة
قال أبو حيان :
والأظهر في قوله { الحي من الميت } تصور اثنين وقيل : عنى بذلك شيئاً واحداً يتغير به الحال ، فيكون ميتاً ثم يحيا ، وحياً ثم يموت. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 439}
فائدة
قال ابن عادل : (12/244)
قوله : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } اختلف القراء في لفظة " الْمَيِّتِ " فقرأ ابنُ كثير وأبو عَمْرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم لفظ " الْمَيْتِ " من غير تاء تأنيث - مُخَفَّفاً ، في جميع القرآن ، سواء وصف به الحيوان نحو : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } [ آل عمران : 27 ] أو الجماد نحو : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ } [ فاطر : 9 ] - مُنَكَّراً أو معرفاً كما تقدم ذكره - إلا قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، وقوله : { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] - في إبراهيم - مما لم يمت بعد ، فإن الكل ثقلوه ، وكذلك لفظ " الميتة " في قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة } [ يس : 33 ] دون الميتة المذكورة مع الدم - فإن تلك لم يشدِّدْها إلا بعضُ قُرَّاء الشواذ - وكذلك قوله : { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } [ الأنعام : 139 ] ، وقوله : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الزخرف : 11 ] ، وقوله : { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة } [ الأنعام : 145 ] فإنها مخَفَّفاتٌ عند الجميع ، وثَقّل نافعٌ جميعَ ذلك ، والأخوان وحفص - عن نافع - وافقوا ابن كثير ومن معه في الأنعام في قوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه } [ الأنعام : 122 ] ، وفي الحجرات : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا } [ الحجرات : 12 ] ، وفي يس : { الأرض الميتة } [ يس : 33 ] ، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك ، فجمعوا بين اللغتين ؛ إيذاناً بأن كلاًّ من القراءتين صحيح ، وهما بمعنًى ؛ لأن " فَيْعِل " يجوز تخفيفه في المعتل بحَذْف إحْدى ياءَيْه ، فيقال : هَيْن وهيِّن ، لَيْن وليِّن ، ميْت وميِّت ، وقد جمع الشاعر بين اللغتين في قوله : [ الخفيف ]
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ... إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ(12/245)
إنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيباً... كَاسِفاً بِالُهُ قَليلَ الرَّجَاءِ
وزعم بعضهم أن " ميتاً " بالتخفيف - لمن وقع به الموت ، وأن المشدّد يُستعمَل فيمن مات ومن لم يَمُتْ ، كقولهً - تعالى - : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ].
وقسم لا خلاف في تخفيفه - وهو ما تقدم في قوله : { الميتة والدم } { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } [ الأنعام : 139 ] { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة } ، وقوله : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الزخرف : 11 ].
وقسم فيه الخلاف - وهو ما عدا ذلك - وتقدم تفصيله. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 133 ـ 134}
قوله تعالى {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}
قال الفخر :
فيه وجوه
الأول : أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد ، إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب
والثاني : ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود ، بل تبسطه له وتوسعه عليه كما يقال : فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة ، ونظيره قولهم في تكثير مال الإنسان : عنده مال لا يحصى
والثالث : ترزق من تشاء بغير حساب ، يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب ، وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى : إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 9}
وقال القرطبى :
{ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير تضييق ولا تقتير ؛ كما تقول : فلان يعطِي بغير حساب ؛ كأنه لا يحسب ما يعطي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 4 صـ 57}
فائدة
قال ابن عاشور : (12/246)
الرزق ما ينتفع به الإنسان فيطلق على الطعام والثمار كقوله : {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران : 37] وقوله : {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف : 19] ، ويطلق على أعم من ذلك مما ينتفع به كما في قوله تعالى : {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} ثم قال : {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص : 51-54] وقوله : {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ومن ثم سميت الدراهم والدنانير رزقا : لأن بها يعوض ما هو رزق ، وفي هذا إيماء إلى بشارة للمسلمين بما أخبئ لهم من كنوز الممالك الفارسية والقيصرية وغيرها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 70}
لطيفة
قال الزمخشري :
ذكر قدرته الباهرة ، فذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف عليه رزقه بغير حساب دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ، ويؤتيه العرب ويعزهم. انتهى. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 379}
سؤال
قال فى الأمثل :
إننا نعلم أنّ الإنسان حرّ في كسب رزقه بغير إجبار ، وذلك بموجب قانون الخلق وحكم العقل ودعوة الأنبياء ، فكيف تقول هذه الآية إنّ كلّ هذه الأُمور بيد الله ؟
في الجواب نقول : إن المصدر الأوّل لعالم الخلق وجميع العطايا والإمكانات الموجودة عند الناس هو الله ، فهو الذي وضع جميع الوسائل في متناول الناس لبلوغ العزّة والسعادة. وهو الذي وضع في الكون تلك القوانين التي إذا لم يلتزمها الناس انحدروا إلى الذلّ والتعاسة. وعلى هذا الأساس يمكن إرجاع كلّ تلك الأُمور إليه ، وليس في ذلك أيّ تعارض مع حرّية إرادة البشر ، لأنّ الإنسان هوالذي يتصرّف بهذه القوانين والمواهب والقوى والطاقات تصرّفاً صحيحاً أو خاطئاً. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 453 ـ 454}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من : الفصاحة ، والبلاغة ، والبديع.
الاستفهام الذي معناه التعجب في { ألم تر إلى الذين }.
والإشارة في { نصيباً من الكتاب } فإدخال : من ، يدل على أنهم لم يحيطوا بالتوراة علماً ولا حفظاً ، وذلك إشارة إلى الإزراء بهم ، وتنقيص قدرهم وذمهم ، اذ يزعمون أنهم أخيار وهم بخلاف ذلك ، وفي قوله { ذلك بأنهم } إشارة إلى توليهم وإعراضهم اللذين سببهما افتراؤهم ، وفي { ووفيت كل نفس } إشارة إلى أن جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء.
والتكرار في { نصيباً من الكتاب } { يدعون إلى كتاب الله } إما في اللفظ والمعنى إن كان المدلول واحداً ، وإما في اللفظ إن كان مختلفاً.(12/247)
وفي التولي والإعراض إن كانا بمعنى واحد.
وفي : { مالك الملك } { تؤتي الملك } { وتنزع الملك } وتكراره في جمل للتفخيم والتعظيم إن كان المراد واحداً ، وإن اختلف كان من تكرار اللفظ فقط ، وتكرار { من تشاء } وفي { تولج } وفي { تخرج } وفي متعلقيهما.
والاتساع في جعل : في ، بمعنى : على ، على قول من زعم ذلك في قوله { تولج الليل في النهار } أي على النهار ، { وتولج النهار في الليل } أي على الليل.
وعبر بالإيلاج عن العلو والتغشية.
والنفي المتضمن الأمر في { لا ريب فيه } على قول الزجاج ، أي لا ترتابوا فيه ، والتجنيس المماثل في { مالك الملك } والطباق : في : تؤتي وتنزع ، وتعز وتذل ، وفي الليل والنهار ، وفي الحي والميت.
ورد العجز على الصدر في : تولج ، وما بعده ، والحذف وهو في مواضع مما يتوقف فهم الكلام على تقديرها.
كقوله { تؤتي الملك من تشاء } أي من تشاء أن تؤتيه.
والإسناد المجازي في { ليحكم بينهم } أسند الحكم إلى الكتاب لأنه يبين الأحكام فهو سبب الحكم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 439 ـ 440}
وقال ابن عادل :
اشتملت هذه الآيةُ على أنواع من البديع :
منها : التجنيس المماثل في قوله تعالى : { مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك }.
ومنها : الطباق ، وهو الجمع بين متضادين أو شبههما - في قوله : " تُؤتي " وتَنْزعُ " وتعزُّ وتُذِلُّ وفي قوله : { بِيَدِكَ الخير } أي : والشَّرُّ - عند بعضهم - ، وفي قوله : " اللَّيْل " و" النَّهَار " و" الحيّ " و" الميّت ".
ومنها رَدُّ الأعجازِ على الصدورِ ، والصدورِ على الأعجاز في قوله : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } ، وفي قوله : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } ونحوه عادات الشاذات شاذات العاداتِ.
وتضمنت من المعاني التوكيد بإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر في قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } وفي تجوُّزه بإيقاع الحرف مكان ما هو بمعناه ، والحذف لفهم المعنى. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 135 ـ 136}
لطيفة
قال ابن عادل :
قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : بمعنى التعبِ ، قال تعالى : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
الثاني : بمعنى العدد ، كقوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] أي : بغير عَددٍ.
الثالث : بمعنى المطالبة ، قال تعالى : { فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] [ أي : بغير مطالبة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 5 صـ 136}(12/248)
فائدة
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى :"تولج الليل فى النهار وتولج النهار فى الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى"، وكذلك فى سورة يونس:"أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى"، وكذا فى سورة الروم وحيث وقع ورود فى سورة الأنعام:"إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى" فوقع هنا اسم الفاعل موقع الفعل وعاقبه فقال"ومخرج"فيسأل عن هذا؟
ووجه ذلك والله أعلم: أن بناء آية الأنعام على آية بنيت على اسم الفاعل وان كان خبرا وهو قوله تعالى:"إن الله فالق الحب والنوى" ثم أعقب ذلك بقوله"فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا"، فلما اكتنفت الآية أسماء فاعلين جئ فيها باسم الفاعل فى قوله"ومخرج الميت من الحى" ليناسب ذلك فعطف"ومخرج" على"فالق" إذ هو معطوف على ما عطف عليه فهو معطوف عليه ثم جئ بعد باسم فاعل وهو قوله تعالى:"فالق الإصباح" فتناسب هذا ولم يقع فى الأخر المتضمنة إخراج الحى من الميت والميت من الحى مثل هذا فلذلك لم يعدل إلى اسم الفعل والله سبحانه أعلم.
فإن قلت فما بال قوله يخرج الحى من الميت فى هذا الموضع ورد بالفعل وقد اكتنفه قوله:"فالق الحب والنوى ومخرج الميت من الحى". وهما اسما فاعلين؟
فالجواب عن ذلك ما قاله الزمخشرى قال:"موقع قوله"يخرج الحى من الميت" موقع الجملة المبينة لقوله"فالق الحب والنوى" لأن فلق الحب والنوى بالنبات والثمر اليابس من جنس إخراج الحى من الميت لأن اليابس فى حكم الحيوان ألا ترى قوله"يحيى الأرض بعد موتها"، انتهى قوله، ذكر هذا عقب قوله"ومخرج الميت من الحى" أنه معطوف على فالق الحب والنوى كما تقدم وهذا من حسناته. أ هـ {ملاك التأويل صـ 108}(12/249)
وقال العلامة الفيروزابادى :
وقد ورد الحساب فى التنزيل على عشرة أَوجهٍ :
الأَوّل : بمعنى الكثرة {عَطَآءً حِسَاباً} أَى كثِيراً.
الثانى : بمعنى الأَجر والثواب {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي} أَى أَجرهم.
الثالث : بمعنى العقوبة والعذاب {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} أَى لا يخافون عذاباً.
الرّابع : الحَسِيب بمعنى الحفيظ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} أَى حفيظاً.
الخامس : الحسِيب بمعنى الشاهد الحاضر {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} أَى شهيداً.
السّادس : الحساب بمعنى العَرْض على الملِك الأَكبر {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أَى الْعَرْض على الرّحمن.
السّابع : بمعنى العدد {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أَى عدد الأَيام.
الثامن : بمعنى المنَّة {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَى بغير مِنَّة عليهم ولا تقتير.
التَّاسع : الحُسْبان بمعنى دوران الكواكب فى الفَلَك {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أَى يدوران حول القُطْب كدوران الرّحى.
العاشر : الحِسْبان بالكسر بمعنى الظن {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً} وله نظائر.
وأَمّا قوله تعالى {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَآءِ} فقيل معناه ناراً وعذاباً ، وإِنما هو فى الحقيقة ما يحاسب عليه فيجازى بحَسَبه. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 63}(12/250)
فصل نفيس
قال فى الميزان :
قوله تعالى {وترزق من تشاء بغير حساب} المقابلة المذكورة آنفا تعطي أن يكون قوله {وترزق} الخ بيانا لما سبقه من إيتاء الملك والعز والإيلاج وغيره فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله {بيدك الخير} بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل والمعنى إنك متصرف في خلقك بهذه التصرفات لأنك ترزق من تشاء بغير حساب.
معنى الرزق في القرآن
الرزق معروف والذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوبا من معنى العطاء كرزق الملك الجندي ويقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة رزقة وكان يختص بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف : البقرة - 233 }فلم يعد الكسوة رزقا.
ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الإنسان من الغذاء رزقا كأنه عطية بحسب الحظ والجد وإن لم يعلم معطيه ثم عمم فسمى كل ما يصل إلى الشئ مما ينتفع به رزقا وإن لم يكن غذائا كسائر مزايا الحياة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم وغير ذلك قال تعالى {أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين " المؤمنون - 72 }وقال فيما يحكى عن شعيب {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا : هود - 88 } والمراد به النبوة والعلم إلى غير ذلك من الآيات.
والمتحصل من قوله تعالى {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " الذاريات - 58 } والمقام مقام الحصر
أولا أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى {والله خير الرازقين : الجمعة - 11 } حيث أثبت رازقين وعده تعالى خيرهم وقوله {وارزقوهم فيها واكسوهم : النساء - 5 } كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك والعزة لله تعالى لذاته ولغيره بإعطائه وإذنه فهو الرزاق لا غير.(12/251)
وثانيا أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم والله رازقه ويدل على ذلك مضافا إلى آيات الرزق على كثرتها آيات كثيرة أخر كالآيات الدالة على أن الخلق والأمر والحكم والملك بكسر الميم والمشيئة والتدبير والخير لله محضا عز سلطانه.
وثالثا أن ما ينتفع به الإنسان انتفاعا محرما لكونه سببا للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنه تعالى نفي نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع قال تعالى {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون : الاعراف - 28 } وقال تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى أن قال {وينهي عن الفحشاء والمنكر : النحل - 90} وحاشاه سبحانه أن ينهي عن شئ ثم يأمر به أو ينهي عنه ثم يحصر رزقه فيه.
ولا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقا بحسب التشريع وكونه رزقا بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحا وما بينه القرآن من عموم الرزق إنما هو بحسب حال التكوين وليس البيان الالهي بموقوف على الافهام الساذجة العامية حتى يضرب صفحا عن التعرض للمعارف الحقيقية وفي القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون قال تعالى {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " الإسراء - 82}.
على أن الآيات تنسب الملك الذي لامثال نمرود وفرعون والأموال والزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم ذلك امتحانا وإتماما للحجة وخذلانا واستدراجا ونحو ذلك وهذا كله نسب تشريعية وإذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن والقبح العقلائيين فيها أوضح.(12/252)
ثم إنه تعالى ذكر أن كل شئ فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته كما قال {وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر - 21 } وذكر أيضا أن ما عنده فهو خير قال تعالى {وما عند الله خير : القصص - 60} وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شئ في العالم ويتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعم بسببه كما يفيده أيضا قوله تعالى {الذي أحسن كل شئ خلقه " الم السجدة - 7 } مع قوله تعالى {ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو : المؤمن - 64}.
وأما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شرا يستضر به فإنما شريته وإضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيرا نافعا بالنسبة إلى آخرين وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى {وما أصابك من سيئة فمن نفسك " النساء - 79 } وقد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر.
وبالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير وكله خير ينتفع به يكون رزقا بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشئ المرزوق وربما أشار إليه قوله تعالى {ورزق ربك خير : طه - 131}.
ومن هنا يظهر أن الرزق والخير والخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن أمور متساوية فكل رزق خير ومخلوق وكل خلق رزق وخير ، وإنما الفرق أن الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه والغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها والواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به وكذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عاريا عن هذه النعمة الإلهية قال تعالى {الذي أعطى كل شئ خلقه : طه - 50}.(12/253)