وقتادة كذلك ، إلا أنه خفَّف الميم ، والمعنى : إلاَّ أن تحملوا على التغافل عنه ، والمسامحة فيه. وقال أبو البقاء - رحمه الله - في قراءة قتادة : " ويجوزُ أن يكون مِنْ أغْمَضَ ، أي : صودف على تلك الحال؛ كقولك : أَحْمَدْتُ الرجُلَ ، أي : وجدته مَحْمُوداً " وبه قال أبو الفتح.
وقيل فيها أيضاً : إنَّ معناها إلاَّ أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه.
والإغماض : في اللغة غضُّ البصر ، وإطباق الجفن ، وأصله من الغموض ، وهو الخفاء ، يقال : هذا كلامٌ غامضٌ أي خفي الإدراك. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 407 ـ 413}. بتصرف.(9/109)
بحث نفيس للعلامة ابن القيم فى الآية
قال عليه الرحمة :
قوله تعالى {يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}
أضاف سبحانه الكسب إليهم وإن كان هو الخالق لأفعالهم لأنه فعلهم القائم بهم وأسند الإخراج إليه لأنه ليس فعلا لهم ولا هو مقدور لهم فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف مفعوله الذي لا قدرة لهم عليه إليه ففي ضمنه الرد على من سوى بين النوعين وسلب قدرة العبد وفعله وتأثيره عنها بالكلية وخص سبحانه هذين النوعين وهما الخارج من الأرض والحاصل بكسب التجارة دون غيرهما من المواشي إما بحسب الواقع فإنهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما
وإما لأنهما أصول الأموال وما عداهما فعنهما يكون ومنهما ينشأ فإن الكسب تدخل فيه التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة والخارج من الأرض يتناول حبها وثمارها وركازها ومعدنها وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض فكان ذكرهما أهم
ثم قال {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء للفقير ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم بل عن اتفاق إذا كان هو الحاضر إذ ذاك أو كان ماله من جنسه فإن هذا لم يتيمم الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما من الله عليه
وموقع قوله {منه تنفقون} موقع الحال أي لا تقصدوه منفقين منه(9/110)
ثم قال {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} أي لو كنتم أنتم المستحقين له وبذل لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولهم أغمض فلان عن بعض حقه ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر وحقيقته من إغماض الجفن فكأن الرائي لكراهته له لا يملأ عينه منه بل يغمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضا ومنه قول الشاعر
لم يفتنا بالوتر قوم واللضي ... م رجال يرضون بالإغماض
وفيه معنيان
أحدهما كيف تبذلون لله وتهدون له مالا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له والله أحق من يخير له خيار الأشياء وأنفسها
والثاني كيف تجعلون له ما تكرهونه لأنفسكم وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما فقال {واعلموا أن الله غني حميد} فغناه وحمده يأبى قبول الرديء فإن قبل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه
وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها وأما الغني عنه الشريف القدر الكامل الأوصاف فإنه لا يقبله. أ هـ {طريق الهجرتين صـ 552 ـ 553}(9/111)
فهكذا العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده من ذكر مجرد الطبقات لم نذكرها ولكنها من أهم المهم والله المستعان الموفق لمرضاته فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية ولهذا استحق اسم الجهل فكل من عصى الله فهو جاهل. أ هـ {طريق الهجرتين صـ 548 ـ 551}(9/112)
قوله تعالى : {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما رغب سبحانه وتعالى في الإنفاق وختم آياته بما يقتضي الوعد من أصدق القائلين بالغنى والإثابة في الدارين أتبعه بما للعدو الكاذب من ضد ذلك فقال محذراً من البخل - في جواب من كأنه قال : هذا ما لا يشك فيه فما للنفوس لا توجد غالباً إلا شحيحة بالإنفاق- : {الشيطان} أي الذي اسمه أسوأ الأسماء ،
فإنه يقتضي الهلاك والبعد ،
وأحد الوصفين كاف في مجانبته فكيف إذا اجتمعا! {يعدكم الفقر} المانع من الإنفاق.
قال الحرالي : الذي لخوفه تقاطع أهل الدنيا وتدابروا وحرصوا وادخروا.
وكل ذلك لا يزيل الفقر ،
كل حريص فقير ولو ملك الدنيا ،
وكل مقتنع غني ،
ومن حق من كان عبداً لغني أن يتحقق أنه غني يغني سيده ،
ففي خوف الفقر إباق العبد عن ربه ؛ والفقر فقد ما إليه الحاجة في وقت من قيام المرء في ظاهره وباطنه - انتهى.
{ويأمركم بالفحشاء} المبطلة له من المن والأذى وغيرهما من مستلذات الأنفس وربما كان فيها إتلاف الأموال وإذهاب الأرواح.
وقال الحرالي : وكل ما اجتمعت عليه استقباحات العقل والشرع والطبع فهو فحشاء ،
وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء ،
لمناسبة ذكر الفقر ،
وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله انتهى وفيه تصرف.
ولما ذكر ما للعدو من الشر أتبعه سبحانه وتعالى بما له من الخير فقال مصرحاً بما تقدم التلويح به : {والله} أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى الرحيم الودود {يعدكم مغفرة منه} لما وقع منكم من تقصير ،
وفيه إشعار بأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره لما له من الإحاطة بصفات الكمال ولما جبل عليه الإنسان من النقص {وفضلاً} بالزيادة في الدارين ،(9/113)
وكل نعمة من فضل ؛ ثم أكد ذلك بقوله : {والله} أي المحيط بكل كمال {واسع} لتضمنه معنى حليم غني ،
وأتبعه بقوله : {عليم} إشارة إلى أنه لا يضيع شيئاً وإن دق.
قال الحرالي : وفي إشعاره توهين لكيد الشيطان ووعد كريم للمفتون بخوف الفقر وعمل الفحشاء لما علمه من ضعف الأنفس وسرعة قبولها من الوسواس - انتهى.
فختم آخر آيات الأمثال بما ختم به أولها ترغيباً وترهيباً. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 522}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما رغب الإنسان في إنفاق أجود ما يملكه حذره بعد ذلك من وسوسة الشيطان فقال : {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} أي يقال إن أنفقت الأجود صرت فقيراً فلا تبال بقوله فإن الرحمن {يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 56 ـ 57}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقدّم اسم الشيطان مسنداً إليه لأنّ تقديمه مؤذن بذمّ الحكم الذي سيق له الكلام وشؤمِه لتحذير المسلمين من هذا الحكم ، كما يقال في مثال علم المعاني "السَّفَّاح في دَار صديقك" ، ولأنّ في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي تَقَوِّيَ الحُكم وتحقيقه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 59}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في الشيطان فقيل إبليس وقيل سائر الشياطين وقيل شياطين الجن والإنس وقيل النفس الأمارة بالسوء. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 57}
فصل
قال الفخر :
الوعد يستعمل في الخير والشر ، قال الله تعالى : {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} [ الحج : 72 ] ويمكن أن يكون هذا محمولاً على التهكم ، كما في قوله {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 57}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} الوَعْد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير ، وإذا قُيّد بالموعود ما هو فقد يقدّر بالخير وبالشر كالبشارة.
فهذه الآية مما يقيد فيها الوعد بالمعنيين جميعاً.
__________
(1) كل هذه المعانى تحتملها الآية لكن الأولى حملها على المعنى الأول بدليل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}(سورة النور ـ 21). والله أعلم بمراده.(9/114)
قال ابن عباس : في هذه الآية اثنتان من الله تعالى واثنتان من الشيطان.
وروى الترمذِيّ عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للشيطان لَمّةً بابن آدم وللمَلك لَمَّةً فأما لمّة الشيطان فإيعادٌ بالشّر وتكذيبٌ بالحق وأما لَمّة المَلَك فإيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ومَن وجد الأُخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان ثم قرأ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ " قال : هذا حديث حسن صحيح.
ويجوز في غير القرآن "ويأمركم الفحشاء" بحذف الباء ؛ وأنشد سيبويه :
أمرتُك الخيرَ فافعل ما أمرتَ به . . .
فقد تركتك ذا مالٍ وذا نَشَبِ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 328 ـ 329}
وقال ابن عاشور :
ومعنى {يعدكم} يسوّل لكم وقوعه في المستقبل إذا أنفقتم خيار أموالكم ، وذلك بما يلقيه في قلوب الذين تخلّقوا بالأخلاق الشيطانية.
وسمّي الإخبار بحصول أمر في المستقبل وعداً مجازاً لأنّ الوعد إخبار بحصول شيء في المستقبل من جهة المخبِر ، ولذلك يقال : أنجز فلان وعده أو أخلف وعده ، ولا يقولون أنجز خَبَره ، ويقولون صدق خَبَرِه وصدَق وعده ، فالوعد أخصّ من الخبر ، وبذلك يؤذن كلام أئِمة اللغة.
فشُبِّه إلقاء الشيطان في نفوسهم توقّع الفقر بوعد منه بحصوله لا محالة ، ووجه الشبه ما في الوعد من معنى التحقق ، وحسَّن هذا المجاز هنا مشاكلته لقوله : {والله يعدكم مغفرة} فإنّه وعد حقيقي.
ثم إن كان الوعد يطلق على التعهد بالخير والشر كما هو كلام "القاموس" تبعاً لفصيح ثعلب ففي قوله يعدكم الفقر مجاز واحد ، وإن كان خاصاً بالخير كما هو قول الزمخشري في الأساس ، ففي قوله : {يعدكم الفقر} مجازان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 59}
فائدة
قال أبو السعود : (9/115)
وإنما عبر عن ذلك بالوعد مع أن الشيطان لم يُضِف مجيءَ الفقرِ إلى جهته للإيذان بمبالغته في الإخبار بتحقق مجيئه كأنه نزّله في تقرّر الوقوعِ منزلةَ أفعالِه الواقعةِ بحسب إرادته ، أو لوقوعه في مقابلة وعدِه تعالى على طريقة المشاكلة. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 262}
قوله تعالى : {وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء}
فصل
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء} ففيه وجوه الأول : أن الفحشاء هي البخل {وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء} أي ويغريكم على البخل إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل ، قال طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي.. عقيلة مال الفاحش المتشدد
ويعتام منقول من عام فلان إلى اللبن إذا اشتهاه وأراد بالفاحش البخيل ، قال تعالى : {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} [ العاديات : 8 ] وقد نبّه الله تعالى في هذه الآية على لطيفة وهي أن الشيطان يخوفه أولاً بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ويغريه بالبخل ، وذلك لأن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلا بتقديم تلك المقدمة ، وهي التخويف من الفقر.(9/116)
الوجه الثاني : في تفسير الفحشاء ، وهو أنه يقول : لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله لئلا تصير فقيراً ، فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك زاد الشيطان ، فيمنعه من الإنفاق في الكلية حتى لا يعطي لا الجيد ولا الرديء وحتى يمنع الحقوق الواجبة ، فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة ، فإذا صار هكذا سقط وقع الذنوب عن قلبه ويصير غير مبال بارتكابها ، وهناك يتسع الخرق ويصير مقداماً على كل الذنوب ، وذلك هو الفحشاء وتحقيقه أن لكل خلق طرفين ووسطاً فالطرف الكامل هو أن يكون بحيث يبذل كل ما يملكه في سبيل الله الجيد والرديء والطرف الفاحش الناقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله لا الجيد ولا الرديء والأمر المتوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء ، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش ، لا يمكنه إلا بأن يجره إلى الوسط ، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام انقطع طمعه عنه ، وإن أطاعه فيه طمع في أن يجره من الوسط إلى الطرف الفاحش ، فالوسط هو قوله تعالى : {يَعِدُكُمُ الفقر} والطرف الفاحش قوله {وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء} ثم لما ذكر سبحانه وتعالى درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال : {والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً} فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة ، والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 57 ـ 58}
فوائد لغوية
قال ابن عاشور :
الفقر شدّة الحاجة إلى لوازم الحياة لقلة أو فقد ما يعاوض به ، وهو مشتق من فقار الظهر ، فأصله مصدر فَقَره إذا كسر ظهره ، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة لأنّ الظَّهر هو مجمع الحركات ، ومن هذا تسميتهم المصيبة فاقرة ، وقاصمة الظهر ، ويقال فَقْر وفُقْر وفَقَر وفُقُر بفتح فسكون ، وبفتحتين ، وبضم فسكون ، وبضمتين ، ويقال رجل فقير ، ويقال رجل فَقْر وصفاً بالمصدر.(9/117)
والفحشاء اسم لفعل أو قول شديد السوء واستحقاقِ الذم عرفاً أو شرعاً.
مشتق من الفحش بضم الفاء وسكون الحاء تجاوز الحد.
وخصّه الاستعمال بالتجاوز في القبيح ، أي يأمركم بفعل قبيح.
وهذا ارتقاء في التحذير من الخواطر الشيطانية التي تدعو إلى الأفعال الذميمة ، وليس المراد بالفحشاء البخل لأنّ لفظ الفحشاء لا يطلق على البخل وإن كان البخيل يسمّى فاحشاً.
وإطلاق الأمر على وسوسة الشيطان وتأثير قوته في النفوس مجاز لأنّ الأمر في الحقيقة من أقسام الكلام.
والتعريف في الفحشاء تعريف الجنس. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 59 ـ 60}
لطائف ونفائس للعلامة الفخر
قال رحمه الله :
وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يعدك الفقر في غد دنياك ، والرحمن يعدك المغفرة في غد عقباك ، ووعد الرحمن في غد العقبى أولى بالقبول من وجوه أحدها : أن وجدان غد الدنيا مشكوك فيه ، ووجدان غد العقبى متيقن مقطوع به وثانيها : أن بتقدير وجدان غد الدنيا ، فقد يبقى المال المبخول به ، وقد لا يبقى وعند وجدان غد العقبى لا بد من وجدان المغفرة الموعود بها من عند الله تعالى ، لأنه الصادق الذي يمتنع وجود الكذب في كلامه وثالثها : أن بتقدير بقاء المال المبخول به في غد الدنيا ، فقد يتمكن الإنسان من الانتفاع به وقد لا يتمكن إما بسبب خوف أو مرض أو اشتغال بمهم آخر وعند وجدان غد العقبى الانتفاع حاصل بمغفرة الله وفضله وإحسانه ورابعها : أن بتقدير حصول الانتفاع بالمال المبخول به في غد الدنيا لا شك أن ذلك الانتفاع ينقطع ولا يبقى ، وأما الانتفاع بمغفرة الله وفضله وإحسانه فهو الباقي الذي لا ينقطع ولا يزول ، وخامسها : أن الانتفاع بلذات الدنيا مشوب بالمضار ، فلا ترى شيئاً من اللذات إلا ويكون سبباً للمحنة من ألف وجه بخلاف منافع الآخرة فإنها خالصة عن الشوائب ، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن الانقياد لوعد الرحمن بالفضل والمغفرة أولى من الانقياد لوعد الشيطان.(9/118)
إذا عرفت هذا فنقول : المراد بالمغفرة تكفير الذنوب كما قال : {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} [ التوبة : 103 ] وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة أحدها : التنكير في لفظة المغفرة ، والمعنى مغفرة أي مغفرة والثاني : قوله {مَّغْفِرَةً مّنْهُ} فقوله {مِنْهُ} يدل على كمال حال هذه المغفرة لأن كمال كرمه ونهاية جوده معلوم لجميع العقلاء وكون المغفرة منه معلوم أيضاً لكل أحد فلما خص هذه المغفرة بأنها منه علم أن المقصود تعظيم حال هذه المغفرة ، لأن عظم المعطي يدل على عظم العطية ، وكمال هذه المغفرة يحتمل أن يكون المراد منه ما قاله في آية أخرى(9/119)
{فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [ الفرقان : 70 ] ويحتمل أن يكون المراد منه أن يجعله شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين ، ويحتمل أن يكون كمال تلك المغفرة أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا ما دمنا في الدنيا ، وأما معنى الفضل فهو الخلف المعجل في الدنيا ، وهذا الفضل يحتمل عندي وجوهاً أحدها : أن المراد من هذا الفضل الفضيلة الحاصلة للنفس وهي فضيلة الجود والسخاء ، وذلك لأن مراتب السعادة ثلاث : نفسانية ، وبدنية ، وخارجية ، وملك المال من الفضائل الخارجية وحصول خلق الجود والسخاوة من الفضائل النفسانية وأجمعوا على أن أشرف هذه المراتب الثلاث : السعادات النفسانية ، وأخسها السعادات الخارجية فمتى لم يحصل إنفاق المال كانت السعادة الخارجية حاصلة والنقيضة النفسانية معها حاصلها ومتى حصل الإنفاق حصل الكمال النفساني والنقصان الخارجي ولا شك أن هذه الحالة أكمل ، فثبت أن مجرد الإنفاق يقتضي حصول ما وعد الله به من حصول الفضل والثاني : وهو أنه متى حصل ملكة الإنفاق زالت عن الروح هيئة الاشتغال بلذات الدنيا والتهالك في مطالبها ، ولا مانع للروح من تجلي نور جلال الله لها إلا حب الدنيا ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " لولا أن الشياطين يوحون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات " وإذا زال عن وجه القلب غبار حب الدنيا استنار بأنوار عالم القدس وصار كالكوكب الدري والتحق بأرواح الملائكة ، وهذا هو الفضل لا غير والثالث : وهو أحسن الوجوه : أنه مهما عرف من الإنسان كونه منفقاً لأمواله في وجوه الخيرات مالت القلوب إليه فلا يضايقونه في مطالبه ، فحينئذ تنفتح عليه أبواب الدنيا ، ولأن أولئك الذين أنفق ماله عليهم يعينونه بالدعاء والهمة فيفتح الله عليه أبواب الخير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 58 ـ 59}
لطيفة
قال الآلوسى : (9/120)
وقدم منافع الآخرة لأنها أهم عند المصدق بها ، وقيل : المغفرة والفضل كلاهما في الآخرة وتقديم الأوّل حينئذٍ لتقدم التخلية على التحلية ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح ، وفي الآية {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [ آل عمران : 185 ] وحذف صفة الثاني لدلالة المذكور عليها. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 40}
فائدة
قال القرطبى :
ذكر النّقاش أن بعض الناس تأنّس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى ، لأن الشيطان إنما يُبعد العبد من الخير ، وهو بتخويفه الفقر يُبعد منه.
قال ابن عطية : وليس في الآية حجة قاطعة بل المعارضة بها قويّة.
ورُوي أن في التوراة "عبدي أنفِق من رزقي أَبْسُطْ عليك فضلي فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة".
وفي القرآن مِصداقه وهو قوله : {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [ سبأ : 39 ].
ذكره ابن عباس. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 329}
قوله تعالى {والله واسع عَلِيمٌ}
قال الفخر :
ختم الآية بقوله {والله واسع عَلِيمٌ} أي أنه واسع المغفرة ، قادر على إغنائكم ، وإخلاف ما تنفقونه وهو عليم لا يخفى عليه ما تنفقون ، فهو يخلفه عليكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 59}
وقال ابن عاشور :
معنى "واسع" أنّه واسع الفضل ، والوصف بالواسع مشتق من وَسِع المتعدي إذا عمّ بالعطاء ونحوه قال الله تعالى : {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} [ غافر : 7 ] ، وتقول العرب : "لا يسعني أن أفعل كذا" ، أي لا أجدُ فيه سعة ، وفي حديث علي في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد وسع الناسَ بِشْرُه وخُلقُه ".
فالمعنى هنا أنّه وَسِعَ الناس والعالمين بعطائِه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 60}
فائدة(9/121)
روى الطَّبرانيُّ سليمانُ بْنُ أحْمَدَ ، بسنده عَنْ عبد اللَّه بنِ عمرٍو ، قال : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ حتى يُشْبِعَهُ ، وسَقَاهُ مِنَ المَاءِ ، حتى يَرْوِيَهُ ، بَعَّدَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ سَبْعَ خَنَادِقَ مَا بَيْنَ كُلِّ خَنْدَقَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ " انتهى.
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي اللَّه عنه - عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً على عُرْيٍ ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِماً على جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ ، وأَيُّمَا مُسْلِمٍ سقى مُسْلِماً على ظَمَإٍ ، سَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ " أخرجه أبو داود ، مِنْ حديثِ أبي خالدٍ ، هو الدَّالانِي ، عن نُبَيْح ، وقد وثَّق أبو حاتم أبا خالدٍ ، وسُئِل أبو زُرْعَة عن نُبَيْح ، فقال : هو كوفيٌّ ثقة. انتهى من "الإِلمام في أحاديثِ الأحْكَامِ" ؛ لابن دقيقِ العِيدِ. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 225}
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من يوم يصبح فيه العباد إلاّ وملكان ينزلان يقول : أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً "(9/122)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى أنفق ينفق عليك " وفي رواية " يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، وقال : أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يده " وفي رواية " فإنه لم يغض ما في يمينه ، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع " {رواه البخاري : في تفسير سورة هود - باب : وكان عرشه على الماء - 8 / 352 وفي التوحيد. ومسلم : في الزكاة - باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف برقم (993) 2 / 690. والبغوى : في شرح السنة : 6 / 154-155}.
وفي رواية وبيده الأخرى الفيض القبض يرفع ويخفض.
عن أسماء بنت أبو بكر الصديق قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنفقي ولا تحصي فيحصى عليك ولا توعي فيوعى عليك ". {رواه البخاري : في الهبة - باب : هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج 5 / 217. ومسلم : في الزكاة : باب : الحث في الإنفاق وكراهية الإحصاء برقم (1029) 2 / 713. والبغوى : في شرح السنة : 6 / 154}
قوله : ولا توعي أي لا تشحي فيشح الله عليك فيجازيك بالتقتير في رزقك ولا يخلف عليك ولا يبارك لك ، والمعنى لا تجمعي وتمنعي بل أنفقي ولا تعدي ولا تشحي. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 193}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
يَعِدُ الشيطانُ الفقرَ لفقره ، والله يَعِدُ المغفرةَ لكرمه.
الشيطانُ يعدكم الفقر فيشير عليكم بإحراز المعلوم ، ويقال يشير عليكم - بطاعته- بالحرص ؛ ولا فقرَ فوقه.
يعدكم الفقر بالإحالة على تدبيركم واختياركم.
يعدكم الفقر بنسيان ما تَعَوَّدْتُموه من فضله - سبحانه.
ويقال يعدكم الفقر بأنه لا يزيد شكايتك.
ويقال يعدكم الفقر بتعليق قلبك بما لا تحتاج إليه.
ويقال بالتلبيس عليك رؤية كفايته.(9/123)
{وَيَأْمُرُكُم بِالفَحْشَاءِ} أي الرغبة في الدنيا ، ويقال بالأسباب التي تقوي الحرص ، ويقال بكثرة الأمل ونسيان القناعة ، ويقال بمتابعة الشهوات ، ويقال بإيثار الحظوظ ، ويقال بالنظر إلى غيره ، ويقال بإخطار شيء سواه ببالك.
ويقال بالانحطاط إلى أوطان الرُّخص والتأويلات بعد وضوح الحق.
ويقال بالرجوع إلى ما تركته لله.
{وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} : الفضل الموعود - في العاجل - القناعة ، وفي الآجل الثواب والجنان والرؤية والرضوان و(.... ) والغفران.
ويقال في العاجل الظفر بالنفس ، ويقال فتح باب العرفان ، ونشر بساط القرب ، والتلقي لمكاشفات الأنْس. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 206 ـ 207}(9/124)
من لطائف العلامة ابن القيم فى الآية
قال عليه الرحمة :
قوله تعالى {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم}
هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل والداعي إلى البذل والإنفاق وبيان ما يدعوه إليه داعي البخل وما يدعو إليه داعي الإنفاق وبيان ما يدعو به داعي الأمرين فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم وهذا هو الداعي الغالب على الخلق فإنه يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه داعيا يقول له متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه وإمساكه خير لك حتى لا تبقى مثل الفقير فغناك خير لك من غناه فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا البخل فهذا وعده وهذا أمره وهو الكاذب في وعده الغار الفاجر في أمره فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون فإنه يدلي من يدعوه بغروره ثم يورده شر الموارد كما قال
دلاهم بغرور ثم أوردهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار(9/125)
هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه ولا محبة في بقائه غنيا بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه فيستوجب منه الحرمان وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرةفهذا وعد الله وذاك وعد الشيطان فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء وهو الواسع العليم وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الاسمين فإنه واسع العطاء عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله فيعطي هذا بفضله ويمنع هذا بعدله وهو بكل شيء عليم فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده وتلك الأمثال نضربها للناس وما
يعقلها إلا العالمون. أ هـ {طريق الهجرتين صـ 553 ـ 555}(9/126)
بحث نفيس لحجة الإسلام الغزالى
فى بيان تسلط الشيطان على القلب بالوساوس ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها
قال عليه الرحمة :
اعلم أن القلب كما ذكرناه مثل قبة مضروبة لها أبواب تنصب إليه الأحوال من كل باب ومثاله أيضا مثال هدف تنصب إليه السهام من الجوانب أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة ولا تخلو عنها أو مثال حوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال أما من الظاهر فالحواس الخمس وأما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان فإنه إذا أدرك بالحواس شيئا حصل منه أثر في القلب وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلا بسبب كثرة الأكل وبسبب قوة في المزاج حصل منها في القلب أثر وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائما من هذه الأسباب وأخص الآثار الحاصلة في القلب هو الخواطر وأعني بالخواطر ما يحصل فيه من الآفكار والأذكار وأعني به إدراكاته علوما إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر فإنها تسمى خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلا عنها والخواطر هي المحركات للإرادات فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوى بالبال لا محالة فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة والرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة وإلى ما يدعو إلى الخير أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين فالخاطر المحمود يسمى إلهاما والخاطر المذموم أعني الداعي إلى الشر يسمى وسواسا ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب(9/127)
فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الأستنارة
وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقا والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانا فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة والملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف وقد خلقه وسخره لذلك والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر فالوسوسة في مقابلة الإلهام والشيطان في مقابلة الملك والتوفيق في مقابلة الخذلان وإليه الإشارة بقوله تعالى ومن كل شيء خلقنا زوجين فإن الموجودات كلها متقابلة مزدوجة إلا الله تعالى فإنه فرد لا مقابل له بل هو الواحد الحق الخالق للأزواج كلها فالقلب متجاذب بين الشيطان والملك وقد قال صلى الله عليه وسلم في القلب لمتان لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثم تلا قوله تعالى الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء // حديث في القلب لمتان لمة من الملك إيعاد بالخير الحديث أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي في الكبرى من حديث ابن مسعود // أخرجه الترمذي والنسائي // الآية وقال الحسن إنما هما همان يجولان في القلب هم من الله تعالى وهم من العدو فرحم الله عبدا وقف عند همه فما كان من الله تعالى أمضاه وما كان من عدوه جاهده(9/128)
ولتجاذب القلب بين هذين المسلطين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن // حديث قلب المؤمن بين أصبعين الحديث تقدم فالله يتعالى عن أن يكون له أصبع مركبة من لحم ودم وعصب منقسمة بالأنامل ولكن روح الأصبع سرعة التقليب والقدرة على التحريك والتغيير فإنك لا تريد أصبعك لشخصه بل لفعله في التقليب والترديد كما أنك تتعاطى الأفعال بأصابعك والله تعالى يفعل ما يفعل باستسخار الملك والشيطان وهما مسخران بقدرته في تقليب القلوب كما أن أصابعك مسخرة لك في تقليب الأجسام مثلا والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك ولقبول آثار الشيطان صلاحا متساويا ليس يترجح أحدهما على الآخر وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى وصار القلب عش الشيطان ومعدنه لأن الهوى هو مرعى الشيطان ومرتعه وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكة عليهم السلام صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة عن الهوى لا جرم لم يخل قلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ما منكم
من أحد إلا وله شيطان قالوا وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمر إلا بخير // حديث ما منكم من أحد إلا وله شيطان الحديث أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود // أخرجه مسلم //(9/129)
وإنما كان هذا لأن الشيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشهوة فمن أعانه الله على شهوته حتى صارت لا تنبسط إلا حيث ينبغي وإلى الحد الذي ينبغي فشهوته لا تدعو إلى الشر فالشيطان المتدرع بها لا يأمر إلا بالخير ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وجد الشيطان مجالا فوسوس ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجاله وأقبل الملك وألهم والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة القلب دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن ويكون اجتياز الثاني اختلاسا وأكثر القلوب قد فتحتها جنود الشياطين وتملكتها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطراح الآخرة ومبدأ استيلائها اتباع الشهوات والهوى ولا يمكن فتحها بعد ذلك إلا بتخلية القلب عن قوت الشيطان وهو الهوى والشهوات وعمارته بذكر الله تعالى الذي هو مطرح أثر الملائكة وقال جابر بن عبيدة العدوي شكوت إلى العلاء بن زياد ما أجد في صدري من الوسوسة فقال إنما مثل ذلك مثل البيت الذي يمر به اللصوص فإن كان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه يعني أن القلب الخالي عن الهوى لا يدخله الشيطان ولذلك قال الله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان فكل من اتبع الهوى فهو عبد الهوى لا عبد الله ولذلك سلط الله عليه الشيطان وقال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وهو إشارة إلى أن من الهوى إلهه ومعبوده فهو عبد الهوى لا عبد الله
ولذلك قال عمرو ابن العاص للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال ذلك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني // حديث ابن أبي العاص إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي الحديث أخرجه مسلم من حديث ابن أبي العاص // أخرجه مسلم //(9/130)
وفي الخبر إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاستعيذوا بالله منه // حديث إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان الحديث أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث أبي بن كعب وقال غريب وليس إسناده بالقوي عند أهل الحديث // أخرجه ابن ماجه والترمذي غريب وليس اسناده بالقوي // ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان فيه من قبل ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضا أن يكون مجالا للشيطان وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال ولا يعالج الشيء إلا بضده وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبري عن الحول والقوة وهو معنى قولك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة قال الله تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}. أ هـ {الإحياء حـ 3 صـ 26 ـ 28}(9/131)
قوله تعالى : {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما انقضى الكلام في الإنفاق والمال المنفق على هذا الأسلوب الحكيم تصريحاً وتلويحاً وختم ذلك بهاتين الصفتين وتضمن ذلك مع التصريح بأنه عليم أنه حكيم أتبع ذلك الوصف بأن من سعته وعلمه وحكمته أنه يهب من صفاته ما يشاء لمن يشاء بأن يؤتيه الحكمة فيوقفه على علم ما خفي من هذه الأمثال المتقنة والأقوال الحسنة تصريحاً وتلويحاً ويوفقه للعمل بذلك إنشاء وتصحيحاً فقال تعالى منبهاً على ترجيح العمل بأمر الرحمن وقبول وعده بأنه على مقتضى العقل والحكمة وأن أمر الشيطان ووعده على وفق الهوى والشهوة : - وقال الحرالي : ولما أبدى سبحانه وتعالى أمر الآخرة وأظهر ما فيها وبين أمر الدنيا من الترتيب والتسبيب ورجع بعضها على بعض عوداً على بدء أنبأ تعالى أن ذلك من حكمته وأنهى الحكمة لما فيها من استيفاء حكمة الدارين فليس الحكيم من علم أمر الدنيا بل من علم أمر ما بين الدنيا والآخرة فداوى أدواء الدنيا بدواء الآخرة وداوى النفس بدواء الدارين وضم جوامعها في تيسير الكلم كما ضمّها لمن اصطفاه {ذلك مما أوحى إليك ربّك من الحكمة} [ النحل : 39 ] فقال سبحانه وتعالى : {يؤتي الحكمة} انتهى.
وفي ترتيبها على واسع عليم بعد غني حميد بعد عزيز حكيم التحذير من التعريض لإنفاق ما يرده لعزته وغناه وسعته ويذم عليه لعلمه لرداءته أو فساد في نيته وإن خفي فإن ذلك خارج عن منهاج الحكمة منا ومقتضى الحكمة منه سبحانه وتعالى كما وقع لقابيل إذ قرب رديئاً كما هو مشهور في قصته ، (9/132)
ولعله لوح إليه بالتذكر في ختام هذه الآية ثم بقوله : {وما للظالمين من أنصار} فصار كأنه قال سبحانه وتعالى : واعلم أن الله عزيز حكيم يؤتي الحكمة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم {من يشاء} من عباده ،
ثم مدح من حلاه بها فقال مشيراً ببناء الفعل للمفعول إلى أنها مقصودة في نفسها : {ومن يؤت الحكمة} أي التي هي صفة من صفاته ،
وأشار بالتعريف إلى كمالها بحسب ما تحتمله قوى العبيد ،
والحكمة قوة تجمع أمرين : العلم المطابق وفعل العدل وهو العمل على وفق العلم.
قال الأصبهاني : والقرآن مملوء من الآيات الدالة على أن كمال الإنسان ليس إلا هاتين القوتين {فقد أوتي خيراً كثيراً} قال الحرالي ما معناه : إنه نكرة لما في الحكمة من التسبب الذي فيه كلفة ولو يسرت فكان الخير الكثير المعرف في الكلمة لما فيها من اليسر والحياطة والإنالة الذي لا ينال منه منال بسبب وإنما هو فضله يؤتيه من يشاء فيصير سبحانه وتعالى سمعه وبصره - إلى آخره.
ولما كان التقدير : فإن ذلك الذي أوتي الحكمة يصير ذا لبّ فيتأهل لأن يتذكر بما يلقيه الله سبحانه وتعالى من كلمته ما بثّ في الأنفس والآفاق من حكمته وصل به قوله : {وما يذكر} أي بكلام الله سبحانه وتعالى حكمه {إلا أولوا الألباب} أي أصحاب العقول الصافية عن دواعي الهوى المنبعثة من التوهمات الحاصلة عن الوسوسة فهم يترقون بالتذكر بأنهم لا حول لهم عن المسببات إلى أسبابها إلى أن يصلوا إلى مسببها فيعرفوه حق معرفته.
وقال الحرالي : الذين لهم لب العقل الذي ينال لب الحس كأن الدنيا قشر تنال بظاهر العقل ،
والآخرة لب تنال بلب العقل ظاهراً لظاهر وباطناً لباطن ،
من تذكر ابتداء من الابتداءات السابقة ورد عليه فضل الله منه ،
من رجع من حسه إلى نفسه تنشأت له أوصاف الفضائل النفسانية وترقى عما في محسوسه من المهاوي الشهوانية ، (9/133)
ومن تخلص من نفسه إلى روحه تحسس بالوصلة الرحمانية والمحبة الربانية ،
كذلك من ترقى من روحه إلى أمره تحقق بالإحاطة الوحدانية ،
ومن استبطن من أمره إلى سره اجتمع إلى الأولية الفردانية ؛ فهذا الترتيب من كمالات هذه الحكمة المؤتاة المنزلة بالوحي في هذا الكتاب الجامع لنبأ ما سبق وخبر ما لحق وباطن ما ظهر أنهى تعالى إلى ذكرها أعمال الخلق وخصوصاً في الجود بالموجود كما أنهى إقامة مبنى الدين بظهور وجوده ،
فأنهى تنزيل أمره بظهور وجوده وأنهى استخلاف عباده بالانتهاء إلى مدد جوده ،
فكان أعلى الحكمة الجود بالموجود فبذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - اتصل ذكر آية الحكمة بالإنفاق نظماً وبآية الكرسي مناظرة - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 523 ـ 524}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}
هذه الجملة اعتراض وتذييل لما تضمنته آيات الإنفاق من المواعظ والآدَاب وتلقين الأخلاق الكريمة ، مِما يكسب العاملين به رجاحة العقل واستقامة العمل.
فالمقصود التنبيه إلى نفاسة ما وعظهم الله به ، وتنبيههم إلى أنّهم قد أصبحوا به حكماء بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء.
فالمعنى : هذا من الحكمة التي آتاكم الله ، فهو يؤتى الحكمة من يشاء ، وهذا كقوله : {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [ البقرة : 231 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 60 ـ 61}
قال الفخر : (9/134)
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبّه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ، ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم ، ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل ، وحكم الحس والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة ، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول ، فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 59}
فصل
قال أبو حيان :
الحكمة : القرآن ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والضحاك ، ومقاتل في آخرين.
وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن طلحة : معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدّمه ومؤخره.
وقال ، فيما رواه عنه أبو صالح : النبوّة ، وقاله السدي.
وقال إبراهيم ، وأبو العالية ، وقتادة : الفهم في القرآن.
وقال مجاهد فيما رواه عنه ليث : العلم والفقه ؛ وقال فيما رواه عنه ابن نجيح : الإصابة في القول والفعل ، وقاله مجاهد.
وقال الحسن : الورع في دين الله ، وقال الربيع بن أنس : الخشية ، وقال ابن زيد ، وأبوه زيد بن أسلم : العقل في أمر الله.
وقال شريك : الفهم.
وقال ابن قتيبة : العلم والعمل ، لا يسمى حكيماً حتى يجمعهما.
وقال مجاهد أيضاً : الكتابة.
وقال ابن المقفع : ما يشهد العقل بصحته ، وقال القشيري ، وقال فيما روى عنه ابن القاسم : التفكر في أمر الله والاتباع له ، وقال أيضاً : طاعة الله والفقه والدين والعمل به.
وقال عطاء : المغفرة.
وقال أبو عثمان : نور يفرق به بين الوسواس والمقام.
ووجدت في نسخة : والإلهام بدل المقام.
وقال القاسم بن محمد : أن يحكم عليك خاطر الحق دون شهوتك.
وقال بندار بن الحسين : سرعة الجواب مع إصابة الصواب.(9/135)
وقال المفضل : الردّ إلى الصواب.
وقال الكتاني : ما تسكن إليه الأرواح.
وقيل إشارة بلا علة ، وقيل : إشهاد الحق على جميع الأحوال.
وقيل : صلاح الدين وإصلاح الدنيا.
وقيل : العلم اللدني.
وقيل : تجريد السر لورود الإلهام.
وقيل : التفكر في الله تعالى ، والاتباع له.
وقيل : مجموع ما تقدّم ذكره : فهذه تسع وعشرون مقالة لأهل العلم في تفسير الحكمة.
قال ابن عطية ، وقد ذكر جملة من الأقوال في تفسير الحكمة ما نصه : وهذه الأقوال كلها ، ما عدا قول السدي ، قريب بعضها من بعض ، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول ، وكتاب الله حكمة ، وسنة نبيه حكمة ، وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس. انتهى كلامه.
وقد تقدّم تفسير الحكمة في قوله : {ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} فكان يغني عن إعادة تفسيرها هنا ، إلاَّ أنه ذكرت هنا أقاويل لم يذكرها المفسرون هناك ، فلذلك فسرت هنا. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 334}
وقال الخازن فى المراد بالحكمة ما نصه :
وقال الضحاك : القرآن والفهم فيه وإنما قال : ذلك لتضمن القرآن الحكمة وقال في القرآن : مائة وتسع آيات ناسخه ومنسوخه وألف آية حلال وحرام لا يسع المؤمنين تركهن حتى يعلمونهن ولا يكونوا كأهل النهروان يعني الخوارج تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنما نزلت في أهل الكتاب فجهلوا علمها فسفكوا بها الدماء ، وانتهبوا الأموال وشهدوا على أهل السنة بالضلالة فعليكم بعلم القرآن فإنه من علم فيما نزل لم يختلف في شيء منه ، وقيل : هي القرآن والعلم والفقه وقيل هي الإصابة في القول والفعل ، وحاصل هذه الأقوال إلى شيئين : العلم والإصابة فيه ، ومعرفة الأشياء بذواتها وأصل الحكمة المنع ومنه حكمه الدابة لأنها تمنعها قال الشاعر :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم . . .
أي امنعوا سفهاءكم ، وقال السدي : الحكمة النبوة لأن النبي يحكم بين الناس فهو حاكم. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 193}(9/136)
وقال ابن كثير :
والصحيح أن الحكمة -كما قاله الجمهور -لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع ، كما جاء في بعض الأحاديث : "من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه". {في إسناده إسماعيل بن رافع المدني ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وقال ابن عدي : أحاديثه كلها مما فيه نظر}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 701}
وقال القرطبى :
أصل الحكمة ما يمتنع به من السّفَه ؛ فقيل للعلم حكمة ؛ لأنه يُمتنع به ، وبه يعلم الإمتناع من السّفه وهو كل فعل قبيح ، وكذا القرآن والعقل والفهم.
وفي البخاريّ : " من يُرِد الله به خيراً يفقّهه في الدين " وقال هنا : "ومَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" وكرر ذِكر الحِكمة ولم يضمرها اعتناءً بها ، وتنبيهاً على شرفها وفضلها حسب ما تقدّم بيانه عند قوله تعالى : {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً} [ البقرة : 59 ].
وذكر الدّارميّ أبو محمد في مسنده : حدّثنا مروان بن محمد حدّثنا رِفْدة الغسّانيّ قال أخبرنا ثابت بن عجلان الأنصاريّ قال : كان يقال : إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلّم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم.
قال مروان : يعني بالحكمة القرآن. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 330}
وقال الفخر : (9/137)
المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب يروى عن مقاتل أنه قال : تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها : مواعظ القرآن ، قال في البقرة {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُم بِهِ} [ البقرة : 231 ] يعني مواعظ القرآن وفي النساء {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة} يعني المواعظ ، ومثلها في آل عمران وثانيها : الحكمة بمعنى الفهم والعلم ، ومنه قوله تعالى : {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} [ مريم : 12 ] وفي لقمان {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} [ لقمان : 12 ] يعني الفهم والعلم وفي الأنعام {أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم} [ الأنعام : 89 ] وثالثها : الحكمة بمعنى النبوّة في النساء {فَقَدْ ءاتَيْنَا ءَالَ إبراهيم الكتاب والحكمة} [ النساء : 54 ] يعني النبوّة ، وفي ص {وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ ص : 20 ] يعني النبوّة ، وفي البقرة {وآتاه الله الملك والحكمة} [ البقرة : 251 ] ورابعها : القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة} [ النحل : 125 ] وفي هذه الآية {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ، ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم ، قال تعالى : {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [ الإسراء : 85 ] وسمى الدنيا بأسرها قليلا ، فقال : {قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ} [ النساء : 77 ] وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير ، والبرهان العقلي أيضاً يطابقه لأن الدنيا متناهية المقدار ، متناهية المدة ، والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها ، والسعادة الحاصلة منها ، وذلك ينبئك على فضيلة العلم والاستقصاء في هذا الباب قد مرّ في تفسير قوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا} [ البقرة : 31 ] وأما الحكمة بمعنى فعل(9/138)
الصواب فقيل في حدها : إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية ، ومداد هذا المعنى على قوله صلى الله عليه وسلم : " تخلقوا بأخلاق الله تعالى " واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين ، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين : أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، فالمرجع بالأول : إلى العلم والإدراك المطابق ، وبالثاني : إلى فعل العدل والصواب ، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله(9/139)
{رَبّ هَبْ لِى حُكْماً} [ الشعراء : 83 ] وهو الحكمة النظرية {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} [ الشعراء : 83 ] الحكمة العملية ، ونادى موسى عليه السلام فقال : {إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ} وهو الحكمة النظرية ، ثم قال : {فاعبدنى} وهو الحكمة العملية ، وقال عن عيسى عليه السلام إنه قال : {إِنّى عَبْدُ الله} [ مريم : 30 ] الآية ، وكل ذلك للحكمة النظرية ، ثم قال : {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّا} [ مريم : 31 ] وهو الحكمة العملية ، وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم : {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله} [ محمد : 19 ] وهو الحكمة النظرية ، ثم قال : {واستغفر لِذَنبِكَ} [ غافر : 55 ] [ محمد : 19 ] وهو الحكمة العملية ، وقال في جميع الأنبياء {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ} [ النحل : 2 ] وهو الحكمة النظرية : ثم قال : {فاتقون} وهو الحكمة العملية ، والقرآن هو من الآية الدالة على أن كمال حال الإنسان ليس إلا في هاتين القوتين ، قال أبو مسلم : الحكمة فعلة من الحكم ، وهي كالنحلة من النحل ، ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي ، وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ويقال : أمر حكيم ، أي محكم ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، قال الله تعالى : {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [ الدخان : 4 ] وهذا الذي قاله أبو مسلم من اشتقاق اللغة يطابق ما ذكرناه من المعنى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 59 ـ 60}
فصل
قال ابن عاشور :
والحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم ، فلذلك قيل : نزلت الحكمة على ألسنة العرب ، وعقول اليونان ، وأيدي الصينيين.(9/140)
وهي مشتقة من الحُكْم وهو المنع لأنّها تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال ، قال تعالى : {كتاب أحكمت آياته} [ هود : 1 ] ، ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس ، حَكَمَة.
ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعداً إلى ذلك ، من سلامة عقله واعتدال قواه ، حتى يكون قابلاً لفهم الحقائق منقاداً إلى الحق إذا لاح له ، لا يصدّه عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة ، ثم ييسّر له أسباب ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العُتاة ، فإذا انضمّ إلى ذلك توجّهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيراً ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير.
وفسرت الحكمة بأنّها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة ، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب.
والحكمة قسمت أقساماً مختلفةَ الموضوع اختلافاً باختلاف العصور والأقاليم.
ومبدأ ظهور علم الحكمة في الشرق عند الهنود البراهمة والبوذيين ، وعند أهل الصين البوذيين ، وفي بلاد فارس في حكمة زرادشت ، وعند القبط في حكمة الكهنة.
ثم انتقلت حكمة هؤلاء الأمم الشرقية إلى اليونان وهُذّبت وصحّحت وفرّعت وقسّمت عندهم إلى قسمين : حكمة عملية ، وحكمة نظرية.
فأما الحكمة العملية فهي المتعلّقة بما يصدر من أعمال الناس ، وهي تنحصر في تهذيب النفس ، وتهذيب العائلة ، وتهذيب الأمة.
والأول علم الأخلاق ، وهو التخلّق بصفات العلوّ الإلهيّ بحسب الطاقة البشرية ، فيما يصدر عنه كمال في الإنسان.
والثاني علم تدبير المنزل.
والثالث علم السياسة المدنية والشرعية.
وأما الحكمَة النظرية في الباحثة عن الأمور التي تعلّم وليست من الأعمال ، وإنّما تعلم لتمام استقامة الأفهام والأعمال ، وهي ثلاثة علوم :
علم يلقّب بالأسفل وهو الطبيعيّ ، وعلم يلقّب بالأوسط وهو الرياضيّ ، وعلم يلقّب بالأعلى وهو الإلهيّ.(9/141)
فالطبيعيّ يبحث عن الأمور العامة للتكوين والخواصّ والكون والفساد ، ويندرج تحته حوادث الجوّ وطبقات الأرض والنَبات والحيوان والإنسان ، ويندرج فيه الطبّ والكيمياء والنجوم.
والرياضيّ الحساب والهندسة والهيأة والموسيقى ، ويندرج تحته الجبر والمساحة والحيل المتحركة ( الماكينية ) وجرّ الأثقال.
وأما الإلهيّ فهو خمسة أقسام : معاني الموجودات ، وأصول ومبادىء وهي المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة ، وإثبات واجب الوجود وصفاتِه ، وإثبات الأرواح والمجرّدات ، وإثبات الوحي والرسالة ، وقد بَيّن ذلك أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا.
فأمّا المتأخّرون من حكماء الغرب فقد قصروا الحكمة في الفلسفة على ما وراء الطبيعة وهو ما يسمّى عند اليونان بالإلهيّات.
والمهمّ من الحكمة في نظر الدين أربعة فصول :
أحدها معرفة الله حق معرفته وهو علم الاعتقاد الحق ، ويسمّى عند اليونان العلم الإلهيّ أو ما وراء الطبيعة.
الثاني ما يصدر عن العلم به كمال نفسية الإنسان ، وهو علم الأخلاق.
الثالث تهذيب العائلة ، وهو المسمّى عند اليونان علم تدبير المنزل.
الرابع تقويم الأمة وإصلاح شؤونها وهو المسمّى علم السياسة المدنية ، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية.
ودعوةُ الإسلام في أصوله وفروعه لا تخلو عن شعبة من شعب هذه الحكمة.
وقد ذكر الله الحكمة في مواضع كثيرة من كتابه مراداً بها ما فيه صلاح النفوس ، من النبوءة والهدى والإرشاد.
وقد كانت الحكمة تطلق عند العرب على الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير ، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة ، وكليات جامعة لجماع الآداب.
.
وذكر الله تعالى في كتابه حكمة لقمان ووصاياه في قوله تعالى : {ولقد آتينا لقمان الحكمة} [ لقمان : 12 ] الآيات.(9/142)
وقد كانت لشعراء العرب عناية بإبداع الحكمة في شعرهم وهي إرسال الأمثال ، كما فعل زُهير في الأبيات التي أولها "رأيت المنايا خبط عشواء" والتي افتتحها بمَنْ ومَنْ في معلقته.
وقد كانت بيد بعض الأحبار صحائف فيها آداب ومواعظ مثل شيء من جامعة سليمان عليه السلام وأمْثاله ، فكان العرب ينقلون منها أقوالاً.
وفي "صحيح البخاري" في باب الحياء من كتاب الأدب أنّ عمران بن حُصين قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخياء لا يأتي إلاّ بخير ، فقال بُشير بن كعب العدوي : مَكتوب في الحكمة إنّ من الحياء وقاراً وإنّ من الحياء سكينة ، فقال له عمران : أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدّثني عن صحيفتك ".
والحكيم هو النابغ في هاته العلوم أو بعضها فبحكمته يعتصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار مبلغ حكمته ، وفي الغرض الذي تتعلّق به حكمته.
وعلوم الحكمة هي مجموع ما أرشد إليه هدي الهداة من أهل الوحي الإلهي الذي هو أصل إصلاح عقول البشر ، فكان مبدأ ظهور الحكمة في الأديان ، ثم ألحق بها ما أنتجه ذكاء العقول من أنظارهم المتفرّعة على أصول الهدى الأول.
وقد مهّد قدماء الحكماء طرائق من الحكمة فنبعت ينابيع الحكمة في عصور متقاربة كانت فيها مخلوطة بالأوهام والتخيّلات والضلالات.
بين الكلدانيين والمصريين والهنود والصين ، ثم درسها حكماء اليونان فهذّبوا وأبدعوا ، وميّزوا علم الحكمة عن غيره ، وتوخّوا الحق ما استطاعوا فأزالوا أوهاماً عظيمة وأبقوا كثيراً.
وانحصرت هذه العلوم في طريقتي سقراط وهي نفسية ، وفيثاغورس وهي رياضية عقلية.
والأولى يونانية والثانية لإيطاليا اليونانية.
وعنهما أخذ أفلاطون ، واشتهر أصحابه بالإشراقيين ، ثم أخذ عنه أفضل تلامذته وهو أرسططاليس وهذّب طريقته ووسّع العلوم ، وسُمّيت أتباعه بالمشَّائين ، ولم تزل الحكمة من وقت ظهوره معوّلة على أصوله إلى يومنا هذا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 61 ـ 64}(9/143)
قوله تعالى : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}
قال القرطبى :
يقال : إن من أُعطيَ الحكمة والقرآن فقد أُعطي أفضل ما أُعطي من جمع علم كتب الأوّلين من الصحف وغيرها ؛ لأنه قال لأُولئك : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [ الإسراء : 85 ].
وسمّى هذا خيراً كثيراً ؛ لأن هذا هو جوامع الكلم.
وقال بعض الحكماء : من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه ، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم ؛ فإنما أُعطي أفضلَ ما أُعطي أصحاب الدنيا ؛ لأن الله تعالى سَمَّى الدنيا متاعاً قليلاً فقال : {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} [ النساء : 77 ] وسَمّى العلم والقرآن "خيراً كثيراً". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 330 ـ 331}
وقال ابن عاشور :
{ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} وهو الذي شاء الله إيتاءه الحكمة.
والخيرُ الكثير منجّر إليه من سداد الرأي والهدي الإلهي ، ومن تفاريع قواعد الحكمة التي تعصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار التوغّل في فهمها واستحضار مهمها ؛ لأنّنا إذا تتبّعنا ما يحلّ بالناس من المصائب نجد معظمها من جرّاء الجهالة والضلالة وأفن الرأي.
وبعكس ذلك نجد ما يجتنيه الناس من المنافع والملائمات منجّرا من المعارف والعلم بالحقائق ، ولو أنّنا علمنا الحقائق كلّها لاجتنبنا كل ما نراه موقعاً في البؤس والشقاء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 64}
فصل
قال أبو حيان :
{ومن يؤت الحكمة} قرأ الجمهور مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو ضمير : من ، وهو المفعول الأول : ليؤت.
وقرأ يعقوب : ومن يؤت ، بكسر التاء مبنياً للفاعل.
قال الزمخشري : بمعنى ومن يؤته الله. انتهى.
فإن أراد تفسير المعنى فهو صحيح ، وإن أراد تفسير الإعراب فليس كذلك ، ليس في يؤت ضمير نصب حذف ، بل مفعوله مقدّم بفعل الشرط ، كما تقول : أياً تعط درهماً أعطه درهماً.(9/144)
وقرأ الأعمش : ومن يؤته الحكمة ، بإثبات الضمير الذي هو المفعول الأول : ليؤت ، والفاعل في هذه القراءة ضمير مستكن في : يؤت ، عائد على الله تعالى.
وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها لكونها في جملة أخرى ، وللاعتناء بها ، والتنبيه على شرفها وفضلها وخصالها.
{فقد أوتي خيراً كثيراً} هذا جواب الشرط ، والفعل الماضي المصحوب : بقد ، الواقع جواباً للشرط في الظاهر قد يكون ماضي اللفظ ، مستقبل المعنى.
كهذا.
فهو الجواب حقيقة ، وقد يكون ماضي اللفظ والمعنى ، كقوله تعالى {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} فتكذيب الرسل واقع فيما مضى من الزمان ، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يكون جواب الشرط ، لأن الشرط مستقبل ، وما ترتب على المستقبل مستقبل ، فالجواب في الحقيقة إنما هو محذوف ، ودل هذا عليه ، التقدير : وإن يكذبوك فتسلّ ، فقد كذبت رسل من قبلك ، فحالك مع قومك كحالهم مع قومهم.
قال الزمخشري : وخيراً كثيراً ، تنكير تعظيم ، كأنه قال : فقد أوتي أيّ خير كثير. انتهى.
وهذا الذي ذكره يستدعي أن في لسان العرب تنكير تعظيم ، ويحتاج إلى الدليل على ثبوته وتقديره ، أي خير كثير ، إنما هو على أن يجعل خير صفة لخير محذوف ، أي : فقد أوتي خيراً ، أي خير كثير.
ويحتاج إلى إثبات مثل هذا التركيب من لسان العرب ، وذلك أن المحفوظ أنه إذا وصف بأي ، فإنما تضاف للفظ مثل الموصوف ، تقول : مررت برجل أي رجل كما قال الشاعر :
دعوت امرأً ، أيّ امرىء ، فأجابني . . .
وكنت وإياه ملاذاً وموئلا
وإذا تقرر هذا ، فهل يجوز وصف ما يضاف إليه ؟ أي : إذا كانت صفة ، فتقول : مررت برجل أيّ رجل كريم ، أو لا يجوز ؟ يحتاج جواب ذلك إلى دليل سمعي ، وأيضاً ففي تقديره : أي خير كثير ، حذف الموصوف وإقامة أي الصفة مقامه ، ولا يجوز ذلك إلاَّ في ندور ، لا تقول : رأيت أي رجل ، تريد رجلاً ، أي رجل إلاّ في ندور.
نحو قول الشاعر :
إذا حارب الحجاج أيَّ منافق . . .(9/145)
علاه بسيف كلما هُزَّ يقطع
يريد : منافقاً ، أي منافق ، وأيضاً : ففي تقديره : خيراً كثيراً أيّ كثير ، حذف أي الصفة ، وإقامة المضاف إليه مقامها ، وقد حذف الموصوف به ، أي : فاجتمع حذف الموصوف به وحذف الصفة ، وهذا كله يحتاج في إثباته إلى دليل. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 334 ـ 335}
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وذلك لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية ، لأنها حاصلة للبهائم والمجانين والأطفال ، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكم ، فهي مفسرة بالعلوم النظرية ، وإن فسرناها بالأفعال الحسيّة فالأمر ظاهر ، وعلى التقديرين فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية والأفعال الحسيّة ثابتاً من غيرهم ، وبتقدير مقدر غيرهم ، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق ، فدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوّة والقرآن ، أو قوة الفهم والحسيّة على ما هو قول الربيع بن أنس.
قلنا : الدليل الذي ذكرناه يدفع هذه الاحتمالات ، وذلك لأنه بالنقل المتواتر ثبت أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء ، فتكون الحكمة مغايرة للنبوّة والقرآن ، بل هي مفسرة إما بمعرفة حقائق الأشياء ، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، فإن حاولت المعتزلة حمل الإيتاء على التوفيق والإعانة والألطاف ، قلنا : كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين فقد فعل مثله في حق الكفار ، مع أن هذا المدح العظيم المذكور في هذه الآية لا يتناولهم ، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيء آخر سوى فعل الالطاف ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 60 ـ 61}
فصل
قال الآلوسى : (9/146)
أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لقمان قال لابنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر " وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حسد إلا فى اثنتين رجل آتاه الله تعالى مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " وأخرج الطبراني عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يا معشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم " وفي رواية عن ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه يقول : "إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي" وهذا بالنسبة إلى حملة العلم الشرعي الذي جاء به حكيم الأنبياء ونبي الحكماء حضرة خاتم الرسالة ومحدد جهات العدالة والبسالة صلى الله عليه وسلم لا ما ذهب إليه جالينوس وديمقراطيس. وأفلاطون وأرسطاليس ومن مشى على آثارهم واعتكف في رواق أفكارهم فإن الجهل أولى بكثير مما ذهبوا إليه وأسلم بمراتب مما عولوا عليه حتى إن كثيراً من العلماء نهوا عن النظر في كتبهم واستدلوا على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى من حديث جابر أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علماً إلى علمه فغضب ولم يأذن له وقال : " لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي " وفي رواية " يكفيكم كتاب الله تعالى " ووجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم لم يبح استعمال الكتاب الذي جاء به موسى هدى ونوراً في وقت كانت فيه أنوار النبوة ساطعة وسحائب الشبه والشكوك بالرجوع إليه منقشعة فكيف يباح الاشتغال بما وضعه المتخبطون من(9/147)
فلاسفة اليونان إفكاً وزوراً في وقت كثرت فيه الظنون وعظمت فيه الأوهام وعاد الإسلام فيه غريباً ، وفي كتاب الله تعالى غنى عما سواه كما لا يخفى على من ميز القشر من اللباب والخطأ من الصواب. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 42}
لطيفة
قال الإِمامُ الفَخْر في شرحه لأسماء اللَّه الحسنى :
قال المحقِّقون : العلماءُ ثلاثةٌ : علماءُ بأحكامِ اللَّهِ فقط ؛ وهم العلماءُ أصحابُ الفتوى ، وعلماءُ باللَّهِ فقَطْ ؛ وهم الحكماءُ ، وعلماءُ بالقِسْمَيْن ؛ وهُمُ الكبراءُ ، فالقسْم الأول كالسِّراجِ يحرقُ نَفْسَه ، ويضيءُ لغَيْره ، والقسم الثَّاني حالُهم أكْمَلُ من الأوَّل ؛ لأنه أَشْرَقَ قَلْبُهُ بمَعْرفة اللَّه ، وسره بنُور جلالِ اللَّه ، إِلاَّ أنه كالكَنْز تَحْت التُّرَابِ ، لا يصلُ أَثَرُه إلى غيره ، وأما القسمُ الثالثُ ، فهم أشرفُ الأقسامِ ، فهو كالشَّمْسِ تضيءُ العَالَمَ ؛ لأنه تامٌّ ، وفوْقَ التامِّ. انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 218}
قوله تعالى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}
قال الفخر :
المراد به عندي والله أعلم أن الإنسان إذا رأى الحكم والمعارف حاصلة في قلبه ، ثم تأمل وتدبر وعرف أنها لم تحصل إلا بإيتاء الله تعالى وتيسيره ، كان من أولي الألباب ، لأنه لم يقف عند المسببات ، بل ترقى منها إلى أسبابها ، فهذا الانتقال من المسبب إلى السبب هو التذكر الذي لا يحصل إلا لأولي الألباب ، وأما من أضاف هذه الأحوال إلى نفسه ، واعتقد أنه هو السبب في حصولها وتحصيلها ، كان من الظاهريين الذين عجزوا عن الانتقال من المسببات إلى الأسباب ، وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل ، قالوا : هذه الحكمة لا تقوم بنفسها ، وإنما ينتفع بها المرء بأن يتدبر ويتفكر ، فيعرف ماله وما عليه ، وعند ذلك يقدم أو يحجم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 61}
وقال الآلوسى :
{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أي ما يتعظ أو ما يتفكر في الآيات إلا ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم وظلم اتباع الهوى وهؤلاء هم الذين أوتوا الحكمة ولاظهار الاعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم الظاهر مقام المضمر ، والجملة إما حال أو اعتراض تذييلي. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 42}(9/148)
قوله تعالى : {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان السياق سابقاً ولاحقاً للإنفاق علم أن التقدير : فما جمعتم من شيء فإن الله مطالبكم في وضعه وجمعه بوجه الحكمة ومحاسبكم على ذلك ،
فعطف عليه حثّاً على الإسرار بالنفقة في الخير والوفاء بالنذر وتحذيراً من الإنفاق في المعصية ولو على أدق الوجوه بأنه يعلم ذلك كله ويجازي عليه قوله : {وما أنفقتم من نفقة} أي في وجه من الوجوه ،
فدخل فيه جميع التوسعات المشروعات عند النكاح والختان والولادة واتخاذ المسكن وفي الدعوات للإخوان وغير ذلك.
ولما كان الإنسان كثيراً ما يخشى فوات أمر فينذر إن حصل بنفقة في وجه خير ونحو ذلك ولكن ربما ظن أن الترغيب في الإنفاق خاص بما ندب الله إليه ابتداء لا بما ألزمه الإنسان نفسه قال {أو نذرتم من نذر} وإدخال من لتأكيد الاستغراق.
قال الحرالي : والنذر إبرام العدة بخير يستقبل فعله أو يرتقب له ما يلتزم به وهو أدنى الإنفاق لا سيما إذا كان على وجه الاشتراط ،
قال صلى الله عليه وسلم : " إنما يستخرج به من البخيل " انتهى.
{فإن الله} عظم الأمر بهذا الاسم الأعظم {يعلمه} ذكر الضمير لأنه مع وضوح عوده إلى المتقدم أشد تعظيماً للنذر لما قد يتوهم فيه من النقص عن مندوب الشرع فتحروا في طيب ذلك والوفاء به وجميع ما يدخل فيه من الأوامر والنواهي تحري من يطلب إرضاء ملك عظيم بما يهدي إليه ويعرضه عليه ،
فما تصرفتم فيه بالحكمة من إنفاق أو غيره فالله سبحانه وتعالى يجازيكم عليه على حسب ما ذكر لكم من التضعيف ،
ومن فعل منكم شيئاً منه على غير وجه الحكمة فهو ظالم واضع للشيء في غير موضعه فهو مردود عليه ومعاقب به وما له من ناصر ، (9/149)
هكذا كان الأصل ولكنه سبحانه وتعالى عم وعلق الحكم بالوصف فقال : {وما للظالمين} أي الواضعين للشيء في غير موضعه {من أنصار} قال الحرالي : ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخي وبيد الكريم كلما عثر فيجد له نصيراً ولا يجد الظالم بوضع القهر موضع البر ناصراً ،
وفيه استغراق نفي بما تعرب عنه كلمة من - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 524 ـ 525}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال ، ثم حث أولاً : بقوله {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [ البقرة : 267 ] وثانياً : بقوله {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} [ البقرة : 268 ] حث عليه ثالثاً : بقوله {وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 61}
فائدة
قال أبو حيان :
{وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه} ظاهره العموم في كل صدقة في سبيل الله ، أو سبيل الشيطان ، وكذلك النذر عام في طاعة الله أو معصيته ، وأتى بالمميز في قوله : من نفقة ، و: من نذر ، وإن كان مفهوماً من قوله : وما أنفقتم ، ومن قوله : أو نذرتم ، من نذر ، لتأكيد اندراج القليل والكثير في ذلك ، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، وقيل : تختص النفقة بالزكاة لعطف الواجب عليه وهو النذر. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 335}
فصل
قال الفخر :
في قوله {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} على اختصاره ، يفيد الوعد العظيم للمطيعين ، والوعيد الشديد للمتمردين ، وبيانه من وجوه أحدها : أنه تعالى عالم بما في قلب المتصدق من نية الإخلاص والعبودية أو من نيّة الرياء والسمعة
وثانيها : أن علمه بكيفية نية المتصدق يوجب قبول تلك الطاعات ، كما قال : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [ المائدة : 27 ] وقوله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [ الزلزلة : 7 ، 8 ](9/150)
وثالثها : أنه تعالى يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئاً منها ، ولا يشتبه عليه شيء منها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 61}
وقال ابن الجوزى :
{فان الله يعلمه} قال مجاهد : يُحصيه ، وقال الزجاج : يجازى عليه. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 324}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {فإن الله يعلمه} كناية عن الجزاء عليه لأنّ علم الله بالكائنات لا يَشُك فيه السامعون ، فأريد لازم معناه ، وإنّما كان لازماً له لأنّ القادر لا يصدّه عن الجزاء إلاّ عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 66}
فائدة
قال الفخر :
إنما قال : {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} ولم يقل : يعلمها ، لوجهين الأول : أن الضمير عائد إلى الأخير ، كقوله {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} وهذا قول الأخفش ،
والثاني : أن الكتابة عادت إلى ما في قوله {وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ} لأنها اسم كقوله {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُم بِهِ} [ البقرة : 231 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 61}
وقال القرطبى :
ووحّد الضمير وقد ذكر شيئين ، فقال النحاس : التقدير {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ} فإن الله يعلمها ، {أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} ثم حذف.
ويجوز أن يكون التقدير : وما أنفقتم فإن الله يعلمه وتعود الهاء على "ما" كما أنشد سيبويه ( لامرىء القيس ) :
فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها . . .
لِما نَسَجَتْها من جَنُوبٍ وشَمأَلِ
ويكون {أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ} معطوفاً عليه.
قال ابن عطيّة : ووحّد الضمير في "يعلمه" وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذُكر أو نُصّ.
قلت : وهذا حسن : فإن الضمير قد يراد به جميع المذكور وإن كَثُر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 331}
فصل
قال الفخر : (9/151)
النذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه يقال : نذر ينذر ، وأصله من الخوف لأن الإنسان إنما يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده ، وأنذرت القوم إنذاراً بالتخويف ، وفي الشريعة على ضربين : مفسر وغير مفسر ، فالمفسر أن يقول : لله عليّ عتق رقبة ، ولله علي حج ، فههنا يلزم الوفاء به ، ولا يجزيه غيره وغير المفسر أن يقول : نذرت لله أن لا أفعل كذا ثم يفعله ، أو يقول : لله علي نذر من غير تسمية فيلزم فيه كفارة يمين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من نذر نذراً وسمى فعليه ما سمى ، ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 62}
فصل
قال ابن عاشور :
النذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله عليّ صدقة وعليّ تجهيز غاز أو نحو ذلك ، ويكون مطلَقاً ومعلَّقاً على شيء.
وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية ، فقد نذر عبدُ المطلب أنّه إن رُزق عشرة أولاد ليذبحنّ عاشرهم قرباناً للكعبة ، وكان ابنُه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين ، وأكرِم بها مزيةً ، ونذرت نُتَيلةُ زوج عبد المطلب لما افتقدت ابنها العباسَ وهو صغير أنّها إن وجدته لتَكْسُوَنّ الكعبة الديباج ففعلت.
وهي أول من كسا الكعبة الديباج.
وفي حديث البخاري أنّ عمر بن الخطاب قال : " يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال أوْفِ بنذرك ".
وفي الأمم السالفة كان النذر ، وقد حكى الله عن امرأة عمران {إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا} [ آل عمران : 35 ].
والآية دلّت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه ، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء كان النذر مطلقاً أم معلّقاً ، لأنّ الآية أطلقت ، ولأنّ قوله : {فإن الله يعلمه} مراد به الوعد بالثواب.(9/152)
وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إنّ النذر لا يُقدِّم شيئاً ولا يؤخّر ، ولا يردّ شيئاً ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قُدر له ، ولكنّه يُستخرج به من البَخيل ".
ومَساقه الترغيب في النذر غير المعلّق لا إبطال فائدة النذر.
وقد مدح الله عباده فقال : {يوفون بالنذر} [ الإنسان : 7 ].
وفي "الموطأ" عن النبي صلى الله عليه وسلم " من نَذر أن يطيعَ الله فليُطِعْه ومن نذر أن يعصِيَ الله فلا يْعْصِه ". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 65}
قوله تعالى : {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}
قال الفخر :
إنه وعيد شديد للظالمين ، وهو قسمان ، أما ظلمه نفسه فذاك حاصل في كل المعاصي ، وأما ظلمه غيره فبأن لا ينفق أو يصرف الإنفاق عن المستحق إلى غيره ، أو يكون نيته في الإنفاق على المستحق الرياء والسمعة ، أو يفسدها بالمعاصي ،
وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظلم على الغير ، بل من باب الظلم على النفس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 62}
وقال ابن عاشور :
{وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}.
هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كنّي عنه بقوله : {فإن الله يعلمه} ، والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون ، لأنّهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقّهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع ، وإن منعوا صدقة التطوُّع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة.
والأنصار جمع نصير ، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر ، وفي الدنيا لأنّهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإنّ الله يعدمهم النصير في المضائق ، ويقسي عليهم قلوب عباده ، ويلقي عليهم الكراهية من الناس. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 65}
قال أبو حيان : (9/153)
{وما للظالمين من أنصار} ظاهره العموم ، فكل ظالم لا يجد له من ينصره ويمنعه من الله ، وقال مقاتل : هم المشركون.
وقال أبو سليمان الدمشقي : هم المنفقون بالمن والأذى والرياء ، والمبذورن في المعصية.
وقيل : المنفقو الحرام. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 336}
فصل
قال الفخر :
المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في نفي الشفاعة عن أهل الكبائر ، قالوا : لأن ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه فلو اندفعت العقوبة عنهم بشفاعة الشفعاء لكان أولئك أنصاراً لهم وذلك يبطل قوله تعالى : {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}.
واعلم أن العرف لا يسمي الشفيع ناصراً ، بدليل قوله تعالى : {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [ البقرة : 48 ] ففرق تعالى بين الشفيع والناصر فلا يلزم من نفي الأنصار نفي الشفعاء.
والجواب الثاني : ليس لمجموع الظالمين أنصار ، فلم قلتم ليس لبعض الظالمين أنصار.
فإن قيل : لفظ الظالمين ولفظ الأنصار جمع ، والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد ، فكان المعنى : ليس لأحد من الظالمين أحد من الأنصار.
قلنا : لا نسلم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد.
والجواب الثالث : أن هذا الدليل النافي للشفاعة عام في حق الكل ، وفي كل الأوقات ، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات ، والخاص مقدم على العام والله أعلم.
والجواب الرابع : ما بينا أن اللفظ العام لا يكون قاطعاً في الاستغراق ، بل ظاهراً على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنياً ، والمسألة ليست ظنية ، فكان التمسك بها ساقطاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 62}
لطيفة
قال فى البحر المديد :
طالبُ الدنيا أسير ، وطالب الآخرة أجير ، وطالب الحق أمير.(9/154)
ثُم الناس في معاملة الحق على أقسام ثلاثة : قِسْمٍ يليق بهم الإخفاء والإسرار ، وهم طالبوا الإخلاص من المريدين السائرين. وقسْمٍ يليق بهم الإظهار وهم أهل الاقتداء من العلماء المخلصين. وقسْم لا يقفون مع ظهور ولا خفاء ، بل مع ما يبرز في الوقت ، وهم العارفون الكاملون. ولذلك قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : ( من أحبَّ الظهور فهو عبد الظهور ، ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء ، ومن كان عبد الله فسواء عليه أظهره أم أخفاه ).
والهداية كلها بيد الله ، ليس لغيره منها شيء. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 230}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوم تَوَعَّدَهم بعقوبته ، وآخرون توعدهم بمثوبته.. وآخرون توعدهم بعلمه ؛ فهؤلاء العوام وهؤلاء الخواص. قال تعالى : {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [ الطور : 48 ] فلا شيء يوجب سقوط العبد من عين الله كمخالفته لعهوده معه بقلبه ، فليحذر المريد من إزلال نفسه في ذلك غايةَ الحذر. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 208}(9/155)
قوله تعالى : {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان حال الإنفاق المحثوث عليه يختلف بالسر والجهر فكان مما يسأل عنه قال سبحانه وتعالى حاثاً على الصدقة في كلتا الحالتين مع ترجيح الإسرار لما فيه من البعد عن الرياء : {إن تبدوا الصدقات} أي المتطوع بها ،
قال الحرالي : وهي من أدنى النفقة ولذلك لا تحل لمحمد ولا لآل محمد لأنها طهرة وغسول يعافها أهل الرتبة العلية والاصطفاء ،
وقال : والهدية أجل حق المال لأنها لمن فوق رتبة المهدي والهبة لأنها للمثل {فنعماً هي} فجمع لها الأمداح المبهمة لأن نعم كلمة مبالغة تجمع المدح كله وما كلمة مبهمة تجمع الممدوح فتطابقتا في الإبهام ؛ وقال أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح : إن نِعْم ، وبِئْس للمبالغة فالمراد بهما التناهي في المدح والذم ولاختصاصهما بهذا المعنى منعتا التصرف ،
واقتصر بهما على المعنى لأن المدح والذم إنما يكونان متعلقين بما ثبت واستقر ،
لا يمدح الإنسان بما لم يقع منه - انتهى.
{وإن تخفوها} حتى لا يعلم بها إلا من فعلتموها له.
ولما كان المقصود بها سد الخلة قال : {وتؤتوها الفقراء فهو} أي فذلك الإخفاء والقصد للمحتاج {خير لكم} لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات ،
وفي تعريفها وجمعها ما ربما أشعر بعموم الفرض والنفل لما في إظهار المال الخفي من التعرض للظلم والحسد وفي إفهام السياق أن الصدقة تجوز على الغني.
ولما كان التقدير : فإنا نرفع بها درجاتكم ،
عطف عليه قوله : {ويكفر عنكم من سيئاتكم} أي التي بيننا وبينكم.
ولما كان التقدير : فلا تخافوا من إخفائها أن يضيع عليكم شيء منها فإن الله بكل ما فعلتموه منها عليم ،(9/156)
عطف عليه تعميماً وترغيباً وترهيباً : {والله} أي الذي له كل كمال {بما تعملون} أي من ذلك وغيره {خبير} فلم يدع حاجة أصلاً إلى الإعلان فعليكم بالإخفاء فإنه أقرب إلى صلاح الدين والدنيا فأخلصوا فيه وقروا عيناً بالجزاء عليه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 526}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
استئناف بياني ناشىء عن قوله : {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه} [ البقرة : 270 ] ، إذ أشعر تعميمُ "مِن نفقة" بحال الصدقات الخفيّة فيتساءل السامع في نفسه هل إبداء الصدقات يُعد رِياءً وقد سمع قبل ذلك قوله : {كالذي ينفق ماله رئاء الناس} [ البقرة : 264 ] ، ولأنّ قوله : {فإن الله يعلمه} [ البقرة : 270 ] قد كان قولاً فصلاً في اعتبار نيَّات المتصدّقين وأحوال ما يظهرونه منها وما يخفونه من صدقاتهم.
فهذا الاستئناف يدفع توهّماً من شأنه تعطيل الصدقات والنفقات ، وهو أن يمسك المرء عنها إذا لم يجد بُدّاً من ظهورها فيخشى أن يصيبه الرياء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 66 ـ 67}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى بيّن أولاً : أن الإنفاق منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يكون كذلك ، وذكر حكم كل واحد من القسمين ، ثم ذكر ثانياً : أن الإنفاق قد يكون من جيد ومن رديء ، وذكر حكم كل واحد من القسمين ، وذكر في هذه الآية أن الإنفاق قد يكون ظاهراً وقد يكون خفياً ، وذكر كل واحد من القسمين ، فقال : {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 63}
فائدة
قال ابن عاشور :
والتعريف في قوله : {الصدقات} تعريف الجنس ، ومحمله على العموم فيشمل كل الصدقات فرضِها ونفلها ، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقب ذكر أنواع النفقاتِ.(9/157)
وجاء الشرط بإنْ في الصدقتين لأنّها أصل أدوات الشرط ، ولا مقتضى للعدول عن الأصل ، إذ كلتا الصدقتين مُرض لله تعالى ، وتفضيل صدقة السرّ قد وفى به صريح قوله : {فهو خير لكم}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 67}
فصل
قال الفخر :
الصدقة تطلق على الفرض والنفل قال تعالى : {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ} [ التوبة : 103 ] وقال : {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء} وقال صلى الله عليه وسلم : " نفقة المرء على عياله صدقة " والزكاة لا تطلق إلا على الفرض ، قال أهل اللغة أصل الصدقة "ص د ق" على هذا الترتيب موضوع للصحة والكمال ، ومنه قولهم : رجل صدق النظر ، وصدق اللقاء ، وصدقوهم القتال ، وفلان صادق المودة ، وهذا خل صادق الحموضة ، وشيء صادق الحلاوة ، وصدق فلان في خبره إذا أخبر به على الوجه الذي هو عليه صحيحاً كاملاً ، والصديق يسمى صديقاً لصدقه في المودة ، والصداق سمي صداقاً لأن عقد النكاح به يتم ويكمل ، وسمى الله تعالى الزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويكمل ، فهي سبب إما لكمال المال وبقائه ، وإما لأنه يستدل بها على صدق العبد في إيمانه وكماله فيه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 63}
قوله تعالى : {فَنِعِمَّا هِيَ}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {فَنِعِمَّا هِيَ} ثناء على إبداء الصدقة ، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك.
ولذلك قال بعض الحكماء : إذا اصطنعت المعروف فاستره ، وإذا اصطُنع إليك فانشره.
قال دِعْبِل الخُزَاعِيّ :
إذا انتقموا أعْلَنُوا أمرَهم . . .
وإن أَنعموا أَنْعَمُوا باكْتِتامِ
وقال سهل بن هارون :
خِلٌّ إذا جِئتَه يوماً لتسألَه . . .
أعطاك ما ملكتْ كفّاه واعتذرَا
يُخفِي صنائعَه واللَّهُ يُظْهِرها . . .
إن الجميل إذا أخفيتَه ظهَرَا(9/158)
وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه : لا يتمّ المعروف إلا بثلاث خصال : تعجيلُه وتصغيرُه وسترهُ ؛ فإذا أعجلته هنيّته ، وإذا صغّرته عظّمته ، وإذا سترته أتْمَمْته.
وقال بعض الشعراء فأحسن :
زاد معروفُك عندي عِظَماً . . .
أنه عندك مستورٌ حقِيرْ
تَتَناساه كأَنْ لَمْ تأتِه . . .
وهو عند الناس مشهور خطِيرْ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 334}
فصل
قال الفخر :
الأصل في قوله {فَنِعِمَّا} نعم ما ، إلا أنه أدغم أحد الميمين في الآخر ، ثم فيه ثلاثة أوجه من القراءة : قرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر عن عاصم {فَنِعِمَّا} بكسر النون وإسكان العين وهو اختيار أبي عبيد ، قال : لأنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لعمرو بن العاص : " نعما بالمال الصالح للرجل الصالح " هكذا روي في الحديث بسكون العين ، والنحويون قالوا : هذا يقتضي الجمع بين الساكنين ، وهو غير جائز إلا فيما يكون الحرف الأول منهما حرف المد واللين ، نحو : دابة وشابة ، لأن ما في الحرف من المد يصير عوضاً عن الحركة ، وأما الحديث فلأنه لما دل الحس على أنه لا يمكن الجمع بين هذين الساكنين علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم به أوقع في العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس والقراءة الثانية قرأ ابن كثير ونافع برواية ورش وعاصم في رواية حفص {فَنِعِمَّا هِىَ} بكسر النون والعين وفي تقريره وجهان أحدهما : أنهم لما احتاجوا إلى تحريك العين حركوها مثل حركة ما قبلها
والثاني : أن هذا على لغة من يقول {نِعْمَ} بكسر النون والعين ، قال سيبويه : وهي لغة هذيل ، القراء الثالثة وهي قراءة سائر القرّاء {فَنِعِمَّا هِىَ} بفتح النون وكسر العين ، ومن قرأ بهذه القراءة ، فقد أتى بهذه الكلمة على أصلها وهي {نِعْمَ} قال طرفة :
نعم الساعون في الأمر المير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 63 ـ 64}(9/159)
وقال القرطبى :
واختلف القرّاء في قوله {فَنِعِمَّا هِيَ} فقرأ أبو عمرو ونافع في رواية وَرْش وعاصم في رواية حفص وابن كَثير "فَنِعِمَّا هَي" بكسر النون والعين.
وقرأ أبو عمرو أيضاً ونافع في غير رواية ورش وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل "فنِعْمَا" بكسر النون وسكون العين.
وقرأ الأعمش وابن عامر وحمزة والكسائيّ "فَنَعِمَّا" بفتح النون وكسر العين ، وكلهم سكَّن الميم.
ويجوز في غير القرآن فَنِعْمَ مَا هِي.
قال النحاس : ولكنه في السّواد متصل فلزم الإدغام.
وحكى النحويون في "نِعْمَ" أربع لغات : نَعِمَ الرجلُ زيدٌ ، هذا الأصل.
ونِعِمَ الرجل ، بكسر النون لكسر العين.
ونَعْمَ الرجل ، بفتح النون وسكون العين ، والأصل نَعِمَ حذفت الكسرة لأنها ثقيلة.
ونِعْمَ الرجل ، وهذا أفصح اللغات ، والأصل فيها نَعِم.
وهي تقع في كل مدح ، فخففت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين ، فمن قرأ "فَنِعِمّا هِيَ" فله تقديران : أحدهما أن يكون جاء به على لغة من يقول نِعِم.
والتقدير الآخر أن يكون على اللغة الجيّدة ، فيكون الأصل نِعْمَ ، ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين.
قال النحاس : فأمّا الذي حُكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين فمحال.
حُكي عن محمد بن يزيد أنه قال : أمّا إسكان العين والميم مشدّدة فلا يقدر أحد أن ينطق به ، وإنما يَرُوم الجمع بين ساكنين ويحرّك ولا يأبَهُ.
وقال أبو عليّ : من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله ؛ لأنه جمع بين ساكنين الأوّل منهما ليس بحرف مدّ ولِين وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأوّل حرف مَدّ ، إذ المدّ يصير عِوضاً من الحركة ، وهذا نحو دابّة وضَوَالّ ونحوه.
ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في "بَارِئِكُم ويَأْمُرُكُمْ" فظنّ السامع الإخفاء إسكاناً للطف ذلك في السمع وخفائه.
قال أبو عليّ : وأمّا من قرأ "نَعِمَا" بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها ومنه قول الشاعر :(9/160)
ما أقلّتْ قدمايَ إنّهُم . . .
نَعِمَ السّاعون في الأمر المُبِرْ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 334 ـ 335}
فائدة مهمة
قال أبو حيان :
وإنكار هؤلاء فيه نظر ، لأن أئمة القراءة لم يقرأوا إلاَّ بنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومتى تطرق إليهم الغلط فيما نقلوه من مثل هذا ، تطرق إليهم فيما سواه ، والذي نختاره ونقوله : إن نقل القراءات السبع متواتر لا يمكن وقوع الغلط فيه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 338}
فائدة لغوية
قال الفخر :
قال الزجاج : {ما} في تأويل الشيء ، أي نعم الشيء هو ، قال أبو علي الجيد : في تمثيل هذا أن يقال : ما في تأويل شيء ، لأن ما هاهنا نكرة ، فتمثيله بالنكرة أبين ، والدليل على أن ما نكرة هاهنا أنها لو كانت معرفة فلا بد لها من الصلة ، وليس هاهنا ما يوصل به ، لأن الموجود بعد ما هو هي ، وكلمة هي مفردة والمفرد لا يكون صلة لما وإذا بطل هذا القول فنقول : ما نصب على التمييز ، والتقدير : نعم شيئاً هي إبداء الصدقات ، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 64}
وقال القرطبى :
قال أبو عليّ : و"ما" من قوله تعالى : "نِعِمَّا" في موضع نصب ، وقوله "هي" تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر ، والتقدير نعم شيئاً إبداؤها ، والإبداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف وأُقيم المضاف إليه مقامه.
ويدلّك على هذا قوله "فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" أي الإخفاء خير.
فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات فكذلك ، أوّلاً الفاعل هو الإبداء وهو الذي اتصل به الضمير ، فحذف الإبداء وأُقيم ضمير الصدقات مثله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 335}
فائدة
قال القرطبى
ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوّع ؛ لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار ، وكذلك سائر العبادات الإخفاءُ أفضل في تطوّعها لانتفاء الرياء عنها ، وليس كذلك الواجبات.(9/161)
قال الحسن : إظهار الزكاة أحسن ، وإخفاء التطوّع أفضل ؛ لأنه أدلّ على أنه يراد الله عز وجل به وحده.
قال ابن عباس : جعل الله صدقة السر في التطوّع تفضُل علانيتها يقال بسبعين ضِعفاً ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سِرِّها يقال بخمسة وعشرين ضِعفاً.
قال : وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
قلت : مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف ؛ وفي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضل صلاة المرء في بيته إِلا المكتوبة " وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عُرضة لذلك وروى النَّسائيّ عن عُقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة والذي يُسِرّ بالقرآن كالذي يُسِرّ بالصدقة " وفي الحديث : " صدقة السرّ تُطْفِىء غضب الربّ ".
قال ابن العربيّ : "وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر ، ولا تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح ولكنه الإجماع الثابت ؛ فأمّا صدقة النفل فالقرآن ورد مصرّحاً بأنها في السر أفضل منها في الجهر ؛ بَيْدَ أن علماءنا قالوا : إن هذا على الغالب مخرجه ، والتحقيق فيه أن الحال ( في الصدقة ) تختلف بحال المُعْطِي ( لها ) والمعطَى إياها والناس الشاهدين ( لها ).
أما المعطي فله فيها فائدة إظهار السُّنَّة وثواب القدوة.
قلت : "هذا لمن قَوِيت حاله وحسنت نيّته وأمِن على نفسه الرياء ، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسرّ له أفضل.
وأما المُعْطَى إياها فإن السرّ له أسلم من احتقار الناس له ، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنَى عنها وتَرَك التعفّف ، وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم ، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطِي لها بالرياء وعلى الآخذ لها بالاستغناء ، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة ؛ لكن هذا اليوم قليل".(9/162)
وقال يزيد بن أبي حبيب : إنما نزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى ، فكان يأمر بقَسْم الزكاة في السرّ.
قال ابن عطيّة : وهذا مردود ، لا سِيّما عند السلف الصالح ؛ فقد قال الطبريّ : أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل.
قلت : ذكر الكِيَا الطبريّ أن في هذه الآية دلالة على قول إخفاء الصدقات مطلقاً أوْلى ، وأنها حق الفقير وأنه يجوز لرب المال تفريقها بنفسه ، على ما هو أحدُ قولي الشافعيّ.
وعلى القول الآخر ذكروا أن المراد بالصدقات هاهنا التطوع دون الفرض الذي إظهاره أوْلى لئلا يلحقَه تُهمة ؛ ولأجل ذلك قيل : صلاة النفل فُرَادَى أفضل ، والجماعة في الفرض أبعد عن التُّهمَة.
وقال المَهْدَوِيّ : المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوّع به ، فكان الإخفاء أفضل في مدّة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك ، فاستحسن العلماء إظهار الفرائض لئلا يُظَنَّ بأحد المنع.
قال ابن عطيّة : وهذا القول مخالف للآثار ، ويشبه في زماننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض ، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عُرضة للرياء.
وقال ابن خُوَيزْ مَنْدَاد : وقد يجوز أن يراد بالآية الواجبات من الزكاة والتطوّع ؛ لأنه ذَكر الإخفاء ومدَحه والإظهار ومَدحه ، فيجوز أن يتوجّه إليهما جميعاً.
وقال النقّاش : إن هذه الآية نسخها قوله تعالى : {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} [ البقرة : 274 ] الآية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 332 ـ 334}
بحث نفيس للعلامة الفخر
قال رحمه الله :
اختلفوا في أن المراد بالصدقة المذكورة في هذه الآية : التطوع ، أو الواجب ، أو مجموعهما.
فالقول الأول : وهو قول الأكثرين : أن المراد منه صدقة التطوع ، قالوا : لأن الإخفاء في صدقة التطوع أفضل ، والإظهار في الزكاة أفضل ، وفيه بحثان :(9/163)
البحث الأول : في أن الأفضل في إعطاء صدقة التطوع إخفاؤه ، أو إظهاره ، فلنذكر أولاً الوجوه الدالة على إخفاءه أفضل
فالأول : أنها تكون أبعد عن الرياء والسمعة ، قال صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله مسمع ولا مراء ولا منان " والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة والمعطى في ملأ من الناس يطلب الرياء ، والإخفاء والسكوت هو المخلص منهما ، وقد بالغ قوم في قصد الإخفاء ، واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ ، فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى ، وبعضهم يلقيه في طريق الفقير ، وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي ، وبعضهم كان يشده في أثواب الفقير وهو نائم ، وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره ، والمقصود عن الكل الاحتراز عن الرياء والسمعة والمنة ، لأن الفقير إذا عرف المعطي فقد حصل الرياء والمنة معاً وليس في معرفة المتوسط الرياء وثانيها : أنه إذا أخفى صدقته لم يحصل له بين الناس شهرة ومدح وتعظيم ، فكان ذلك يشق على النفس ، فوجب أن يكون ذلك أكثر ثواباً وثالثها : قوله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة جهد المقل إلى الفقير في سر " وقال أيضاً " إن العبد ليعمل عملاً في السر يكتبه الله له سراً فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء " وفي الحديث المشهور " سبعة يظلهم الله تعالى يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله : أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطاه يمينه " وقال صلى الله عليه وسلم :
" صدقة السر تطفيء غضب الرب "
ورابعها : أن الإظهار يوجب إلحاق الضرر بالآخذ من وجوه ، والإخفاء لا يتضمن ذلك ، فوجب أن يكون الإخفاء أولى ، وبيان تلك المضار من وجوه
الأول : أن في الإظهار هتك عرض الفقير وإظهار فقره ، وربما لا يرضى الفقير بذلك(9/164)
والثاني : أن في الإظهار إخراج الفقير من هيئة التعفف وعدم السؤال ، والله تعالى مدح ذلك في الآية التي تأتي بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف تَعْرِفُهُم بسيماهم لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافًا} [ البقرة : 273 ]
والثالث : أن الناس ربما أنكروا على الفقير أخذ تلك الصدقة ، ويظنون أنه أخذها مع الاستغناء عنها ، فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة والرابع : أن في إظهار الإعطاء إذلالاً للآخذ وإهانة له وإذلال المؤمن غير جائز والخامس : أن الصدقة جارية مجرى الهدية ، وقال عليه الصلاة والسلام : " من أهدى إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها " وربما لا يدفع الفقير من تلك الصدقة شيئاً إلى شركائه الحاضرين فيقع الفقير بسبب إظهار تلك الصدقة في فعل ما لا ينبغي فهذه جملة الوجوه الدالة على أن إخفاء صدقة التطوع أولى.(9/165)
وأما الوجه في جواز إظهار الصدقة ، فهو أن الإنسان إذا علم أنه إذا أظهرها ، صار ذلك سبباً لاقتداء الخلق به في إعطاء الصدقات ، فينتفع الفقراء بها فلا يمتنع ، والحال هذه أن يكون الإظهار أفضل ، وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " السر أفضل من العلانية ، والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به " قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي : الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يورد عليه ذكر رؤية الخلق ، والقلب ينكر ذلك ويدفعه ، فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فضوعف العمل سبعين ضعفاً على العلانية ، ثم إن لله عباداً راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنواع هدايته فتراكمت على قلوبهم أنوار المعرفة ، وذهبت عنهم وساوس النفس ، لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله تعالى ؛ فإذا عمل عملاً علانية لم يحتج أن يجاهد ، لأن شهوة النفس قد بطلت ، ومنازعة النفس قد اضمحلت ، فإذا أعلن به فإنما يريد به أن يقتدي به غيره فهذا عبد كملت ذاته فسعى في تكميل غيره ليكون تاماً وفوق التمام ، ألا ترى أن الله تعالى أثنى على قوم في تنزيله وسماهم عباد الرحمن ، وأوجب لهم أعلى الدرجات في الجنة ، فقال : {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} [ الفرقان : 75 ] ثم ذكر من الخصال التي طلبوها بالدعاء أن قالوا {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [ الفرقان : 74 ] ومدح أمة موسى عليه السلام فقال : {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [ الأعراف : 159 ] ومدح أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال :(9/166)
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [ آل عمران : 110 ] ثم أبهم المنكر فقال : {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [ الأعراف : 181 ] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يهتدون في الذهاب إلى الله.
فإن قيل : إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم رجح الإخفاء على الإظهار في قوله {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
والجواب : من وجهين
الأول : لا نسلم قوله {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} يفيد الترجيح فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن إعطاء الصدقة حال الاخفاء خير من الخيرات ، وطاعة من جملة الطاعات ، فيكون المراد منه بيان كونه في نفسه خيراً وطاعة ، لا أن المقصود منه بيان الترجيح.
والوجه الثاني : سلمنا أن المراد منه الترجيح ، لكن المراد من الآية أنه إذا كانت الحال واحدة في الإبداء والإخفاء ، فالأفضل هو الإخفاء ، فأما إذا حصل في الإبداء أمر آخر لم يبعد ترجيح الإبداء على الإخفاء.
البحث الثاني : أن الإظهار في إعطاء الزكاة الواجبة أفضل ، ويدل عليه وجوه الأول : أن الله تعالى أمر الأئمة بتوجيه السعاة لطلب الزكاة ، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها وثانيها : أن في إظهارها نفي التهمة ، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة فإذا اختلف حكم فرض الصلاة ونفلها في الإظهار والإخفاء لنفي التهمة ، فكذا في الزكاة وثالثها : أن إظهارها يتضمن المسارعة إلى أمر الله تعالى وتكليفه ، وإخفاءها يوهم ترك الالتفات إلى أداء الواجب فكان الإظهار أولى ، هذا كله في بيان قول من قال المراد بالصدقات المذكورة في هذه الآية صدقة التطوع فقط.
القول الثاني : وهو قول الحسن البصري أن اللفظ متناول للواجب والمندوب ، وأجاب عن قول من قال : الإظهار في الواجب أولى من وجوه(9/167)
الأول : أن إظهار زكاة الأموال توجب إظهار قدر المال ، وربما كان ذلك سبباً للضرر ، بأن يطمع الظلمة في ماله ، أو بكثرة حساده ، وإذا كان الأفضل له إخفاء ماله لزم منه لا محالة أن يكون إخفاء الزكاة أولى والثاني : أن هذه الآية إنما نزلت في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ما كانوا متهمين في ترك الزكاة فلا جرم كان إخفاء الزكاة أولى لهم لأنه أبعد عن الرياء والسمعة أما الآن فلما حصلت التهمة كان الإظهار أولى بسبب حصول التهمة الثالث : أن لا نسلم دلالة قوله {فَهُوَ خَيْرٌ} على الترجيح وقد سبق بيانه.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 64 ـ 66}
قوله تعالى : {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}
فصل
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فالإخفاء نقيض الإظهار وقوله {فَهُوَ} كناية عن الإخفاء ، لأن الفعل يدل على المصدر ، أي الإخفاء خير لكم ، وقد ذكرنا أن قوله {خَيْرٌ لَّكُمْ} يحتمل أن يكون المراد منه أنه في نفسه خير من الخيرات ، كما يقال : الثريد خير وأن يكون المراد منه الترجيح ، وإنما شرط تعالى في كون الإخفاء أفضل أن تؤتوها الفقراء لأن عند الإخفاء الأقرب أن يعدل بالزكاة عن الفقراء ، إلى الأحباب والأصدقاء الذين لا يكونون مستحقين للزكاة ، ولذلك شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء ، والمقصود بعث المتصدق على أن يتحرى موضع الصدقة ، فيصير عالماً بالفقراء ، فيميزهم عن غيرهم ، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 66}
فائدة
قال ابن كثير :(9/168)
وقوله : {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها ؛ لأنه أبعد عن الرياء ، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة ، من اقتداء الناس به ، فيكون أفضل من هذه الحيثية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة" {رواه أحمد في المسند (4/151) وأبو داود في السنن برقم (1333) والترمذي في السنن برقم (2919) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب"}.
والأصل أن الإسرار أفضل ، لهذه الآية ، ولما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" {صحيح البخاري برقم (660 ، 1423) وصحيح مسلم برقم (1031)}.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن سليمان بن أبي سليمان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : "لما خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت ، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال ، فقالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال : نعم ، الحديد. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال : نعم ، النار. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال : نعم ، الماء. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال : نعم ، الريح. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال : نعم ، ابنُ آدم يتصدق بيمينه فيخفيها من شماله" {المسند (3/124)}.(9/169)
وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي ، عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل ؟ قال : "سر إلى فقير ، أو جهد من مقِل". رواه أحمد. {المسند (5/178)}.
ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن أبي ذر فذكره. وزاد : ثم نزع بهذه الآية : {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} الآية. {ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/269) من طريق خالد بن أبي يزيد ، عن علي بن يزيد به}.
وفي الحديث المروي : "صدقة السر تطفئ غضب الرب ، عز وجل". {رواه الترمذي في السنن برقم (2386) من حديث أنس ، رضي الله عنه ، وروي عن جماعة من الصحابة وهو حديث متواتر}.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب ، أخبرنا موسى بن عمير ، عن عامر الشعبي في قوله : {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} قال : أنزلت في أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، فأما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر ؟ ". قال : خلفت لهم نصف مالي ، وأما أبو بكر فجاء بماله كلّه يكاد أن يخفيه من نفسه ، حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر ؟ ". فقال : عدة الله وعدةُ رسوله. فبكى عمر ، رضي الله عنه ، وقال : بأبي أنت يا أبا بكر ، والله ما اسْتَبَقْنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا. {ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (1643) من طريق محمد بن الصباح بن موسى بن عيسى عن الشعبي به.} أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 701 ـ 702}.
فائدة(9/170)
وقوله : {وتؤتوها الفقراء} ، توقّف المفسّرون في حكمة ذكره ، مع العلم بأنّ الصدقة لا تكون إلاّ للفقراء ، وأنّ الصدقة المُبْدَاة أيضاً تعطي للفقراء.
فقال العصام : "كأنّ نكتة ذكره هنا أنّ الإبداء لا ينفكّ عن إيتاء الفقراء ؛ لأنّ الفقير يظهر فيه ويمتاز عن غيره إذ يعلمه الناس بحاله ، بخلاف الإخفاء ، فاشترط معه إيتاؤها للفقير حثّاً على الفحص عن حال من يعطيه الصدقة" ( أي لأنّ الحرِيصينَ من غير الفقراء يستحيون أن يتعرّضوا للصدقات الظاهرة ولا يصدّهم شيء عن التعرّض للصدقات الخفيّة ).
وقال الخفاجي : "لم يذكر الفقراء مع المُبْدَاةِ لأنّه أريد بها الزكاة ومصارفها الفقراءُ وغيرهم ، وأما الصدقة المخفَاةُ فهي صدقة التطوّع ومصارفها الفقراء فقط".
وهو ضعيف لوجهين :
أحدهما أنّه لا وجه لقصر الصدقة المبدَاةِ على الفريضة ولا قائل به بل الخلاف في أنّ تفضيل الإخفاء هل يعمّ الفريضة أولاً ، الثاني أنّ الصدقة المتطوّع بها لا يمتنع صرفها لغير الفقراء كتجهيز الجيوش.
وقال الشيخ ابن عاشور جدّي في تعليق له على حديث فضل إخفاء الصدقة من "صحيح مسلم" : " عطف إيتاء الفقراء على الإخفاء المجعول شرطاً للخيرية في الآية مع العلم بأنّ الصدقة للفقراء يؤذن بأنّ الخيرية لإخْفَاءِ حال الفقير وعدم إظهار اليد العليا عليه " أي فهو إيماء إلى العلة وأنّها الإبقاء على ماء وجه الفقير ، وهو القول الفصل لانتفاء شائبة الرياء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 68 ـ 69}
فائدة
قال أبو حيان :
وفي الإبداء والإخفاء طباق لفظي ، وفي قوله : وتؤتوها الفقراء طباق معنوى ، لأنه لا يؤتي الصدقات إلاَّ الأغنياء ، فكأنه قيل : إن يبد الصدقاتِ الأغنياءُ.
وفي هذه الآية دلالة على أن الصدقة حق للفقير ، وفيها دلالة على أنه يجوز لرب المال أن يفرق الصدق بنفسه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 338}
وقال ابن عادل :
وفي قوله : " إِن تُبْدُواْ ، وَإِن تُخْفُوهَا " نوعٌ من البديع ، وهو الطِّباق اللَّفظيّ. وفي قوله : { وَتُؤْتُوهَا الفقرآء } طباق معنوي؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء ، فكأنه قيل : إن يبد الأغنياء الصدقات ، وإن يخف الأغنياء الصدقات ، ويؤتوها الفقراء ، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظاً ، والأغنياء بالفقراء معنًى. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 424 ـ 425}(9/171)
قوله تعالى : {وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر {نَّكْفُر} بالنون ورفع الراء وفيه وجوه
أحدها : أن يكون عطفاً على محل ما بعد الفاء
والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر والثالث : أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأ بمستأنفة منقطعة عما قبلها ، والقراءة الثانية قراءة حمزة ونافع والكسائي بالنون والجزم ، ووجهه أن يحمل الكلام على موضع قوله {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فإن موضعه جزم ، ألا ترى أنه لو قال : وإن تخفوها تكن أعظم لثوابكم ، لجزم فيظهر أن قوله {خَيْرٌ لَّكُمْ} في موضع جزم ، ومثله في الحمل على موضع الجزم قراءة من قرأ {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [ الأعراف : 186 ] بالجزم ،
والقراءة الثالثة قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم {يَكْفُرْ} بالياء وكسر الفاء ورفع الراء ، والمعنى : يكفر الله أو يكفر الاخفاء ، وحجتهم أن ما بعده على لفظ الافراد ، وهو قوله {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فقوله {يَكْفُرْ} يكون أشبه بما بعده ، والأولون أجابوا وقالوا لا بأس بأن يذكر لفظ الجمع أولاً ثم لفظ الأفراد ثانياً كما أتى بلفظ الأفراد أولاً والجمع ثانياً في قوله {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [ الإسراء : 1 ] ثم قال : {وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب} [ الإسراء : 2 ] ونقل صاحب "الكشاف" قراءة رابعة {وتكفر} بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والفاعل الصدقات ، وقراءة خامسة وهي قراءة الحسن بالتاء والنصب بإضمار {إن} ومعناها إن تخفوها يكن خير لكم ، وإن نكفر عنكم سيئاتكم فهو خير لكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 66}
وقال القرطبى :
{وَيُكَفِّرُ} اختلف القراء في قراءته ؛ فقرأ أبو عمرو وابن كَثير وعاصم في رواية أبي بكر وقتَادة وابن أبي إسحاق "ونُكَفِّرُ" بالنون ورفع الراء.
وقرأ ( نافع ) وحمزة والكسائي بالنون والجزم في الراء ؛ ورُوي مثل ذلك أيضاً عن عاصم.(9/172)
وروى الحسين بن عليّ الجَعْفِيّ عن الأعمش "يُكَفِّرَ" بنصب الراء.
وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء ؛ ورواه حفص عن عاصم ، وكذلك روى عن الحسن ، ورُوي عنه بالياء والجزم.
وقرأ ابن عباس "وتُكَفِّرْ" بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء.
وقرأ عكرمة "وتُكَفَّرْ" بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء.
وحكى المَهْدَوِيّ عن ابن هُرْمُز أنه قرأ "وتُكَفِّرُ" بالتاء ورفع الراء.
وحُكي عن عكرمة وشَهْر بن حَوشب أنهما قرءا بتاء ونصب الراء.
فهذه تسع قراءات أَبْيَنُهَا "ونُكَفِّرُ" بالنون والرفع.
هذا قول الخليل وسيبويه.
قال النحاس قال سيبويه : والرفع هاهنا الوجه وهو الجيِّد ، لأن الكلام الذي بعد الفاء يجري مجراه في غير الجزاء.
وأجاز الجزم بحمله على المعنى ؛ لأن المعنى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن خيراً لكم ونكفر عنكم.
وقال أبو حاتم : قرأ الأعمش "يُكَفِّرُ" بالياء دون واو قبلها.
قال النحاس : والذي حكاه أبو حاتم عن الأعمش بغير واو جزماً يكون على البدل كأنه في موضع الفاء.
والذي روي عن عاصم "ويُكَفِّرُ" بالياء والرفع يكون معناه ويُكَفِّرُ الله ؛ هذا قول أبي عُبَيد.
وقال أبو حاتم : معناه يكفِّر الإعطاء.
وقرأ ابن عباس "وتُكَفِّرْ" يكون معناه وتكفِّر الصدقات.
وبالجملة فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة ، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلمه ؛ إلا ما رُوي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات ، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفِّر ، والإعطاء في خفاء مكفِّر أيضاً كما ذكرنا ، وحكاه مَكِّيّ.
وأما رفع الراء فهو على وجهين :
أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء تقديره ونحن نكفِّر أو وهي تكفِّر ، أعني الصدقة ، أو والله يكفِّر.
والثاني القطع والاستئناف لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن تعطف جملة كلام على جملة.
وقد ذكرنا معنى قراءة الجزم.
(9/173)
فأما نصب "ونُكَفِّرَ" فضعيف وهو على إضمار أن وجاز على بُعْد.
قال المَهْدَوِيّ : وهو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام.
والجزم في الراء أفصح هذه القراءات ، لأنها تُؤْذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء.
وأما الرّفع فليس فيه هذا المعنى.
قلت : هذا خلاف ما اختاره الخليل وسيبويه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 335 ـ 336}
قال الطبرى :
وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ : ( ونكفر عنكم ) بالنون وجزم الحرف ، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوع ابتغاء وجهه من صدقته ، بتكفير سيئاته. (1)
وإذا قرئ كذلك ، فهو مجزوم على موضع"الفاء" في قوله : "فهو خير لكم". لأن"الفاء" هنالك حلت محل جواب الجزاء.
فإن قال لنا قائل : وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع" الفاء" ، وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء ، وقد علمت أن الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع ، وإنما الجزم تجويزه ؟ .
قيل : اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير- أعني تكفير الله من سيئات المصدق لا محالة داخل فيما وعد الله المصدق أن يجازيه به على صدقته. لأن ذلك إذا جزم ، مؤذن بما قلنا لا محالة ، ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلا فيما وعده الله أن يجازيه به ، وأن يكون خبرا مستأنفا أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين ، على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم ، لأن ما بعد"الفاء" في جواب الجزاء استئناف ، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه ، في أنه غير داخل في الجزاء ، ولذلك من العلة ، اخترنا جزم"نكفر" عطفا به على موضع الفاء من قوله : "فهو خير لكم" وقراءته بالنون. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 585 ـ 586}
فائدة
قال الفخر :
في دخول {مِنْ} في قوله {مّن سَيّئَاتِكُمْ} وجوه
________________
(1) لا يصح الطعن فى قراءة متواترة. والله أعلم.(9/174)
أحدها : المراد : ونكفر عنكم بعض سيئاتكم لأن السيئات كلها لا تكفر بذلك ، وإنما يكفر بعضها ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغواء بارتكابها إذا علم أنها مكفرة ، بل الواجب أن يكون العبد في كل أحواله بين الخوف والرجاء وذلك إنما يكون مع الإبهام والثاني : أن يكون {مِنْ} بمعنى من أجل ، والمعنى : ونكفر عنكم من أجل ذنوبكم ، كما تقول : ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك والثالث : أنها صلة زائدة كقوله {فِيهَا مِن كُلّ الثمرات} [ محمد : 15 ] والتقدير : ونكفر عنكم جميع سيئاتكم والأول أولى وهو الأصح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 67}
وقال القرطبى :
و "مِنْ" في قوله {مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} للتبعيض المحض.
وحكى الطبريّ عن فرقة أنها زائدة.
قال ابن عطيّة : وذلك منهم خطأ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 336}
وقال الماوردى :
إنها ليست زائدة وإنما دخلت للتبعيض ، لأنه إنما يكفر بالطاعة من غير التوبة الصغائر ، وفي تكفيرها وجهان :
أحدهما : يسترها عليهم.
والثاني : يغفرها لهم. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 345}
وقال ابن الجوزى :
قال أبو سليمان الدمشقي : ووجه الحكمة في ذلك {التعبير بتكفير بعض الذنوب دون الكل}
أن يكون العباد على خوف ووجل. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 326}
قوله تعالى {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
قال الفخر :
إشارة إلى تفضيل صدقة السر على العلانية ، والمعنى أن الله عالم بالسر والعلانية وأنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاته ، فقد حصل مقصودكم في السر ، فما معنى الإبداء ، فكأنهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء ليكون أبعد من الرياء.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 67}
وقال الطبرى :
قوله : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(9/175)
يعني بذلك جل ثناؤه : "والله بما تعملون" في صدقاتكم ، من إخفائها ، وإعلان وإسرار بها وجهار ، وفي غير ذلك من أعمالكم"خبير" يعني بذلك ذو خبرة وعلم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، فهو بجميعه محيط ، ولكله محص على أهله ، حتى يوفيهم ثواب جميعه ، وجزاء قليله وكثيره. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 586}
وقال أبو حيان :
{والله بما تعملون خبير} ختم الله بهذه الصفة لأنها تدل على العلم بما لطف من الأشياء وخفي ، فناسب الرفع ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي ، والله أعلم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 339}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ . . .}.
ابن عطية : هي تفسير الفاعل المضمر قبل الذكر.
والتقدير : نعم شيء إبدَاؤهَا.
قال ابن عرفة : وكان بعضهم يقول : غير هذا.
وهو أنّ المازري ذكر في قوله صلى الله عليه وسلم " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به ".
الخلاف هل هو إشارة للفعل فقط أو للفعل بصفته ( فكذلك ) يجيء هنا إن عاد الضمير على الصدقات بصفتها لم يحتج إلى هذا الإضمار والقرينة هنا تعيّن أن المراد الصفة ، وهي قرينة التقسيم بين الإخفاء والإظهار
قيل لابن عرفة : لعل القرينة هي المفسرة للمضمر ؟
فقال : ثبت أن المراد هنا ( الصّدقة ) بصفتها وإنّما ثبت استعمال اللفظ في معنى ودار ( الأمر ) بين صرفه ذلك المعنى إلى القرينة أو إلى نفس اللّفظ فصرفه إلى نفس اللّفظ أولى.
قوله تعالى : {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء . . .}.
قال ابن عرفة : لم يقل أو تبدوها وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ.(9/176)
وعادتهم يجيبون : بأن إظهارها مظنة الكشف عن حال آخذها ، وكثرة السؤال عنه وإخفاؤها مظنة لعدم الكشف عن ذلك فإعطاؤها في العلانية متوقف على علم المعطي وغيره بفقر آخذها فلا تقع إلا في يد فقير لأنه إما أن يسأل عن حاله أو يراه من يعلم أنّه غني فينهاه عن الصدقة عليه وإعطاؤها ( سّرا ) يتوقف على مجرد علم المعطي فقط بذلك ، فقد تقع في يد غني يظنه المعطي فقيرا لأنه لا يسأل عن حاله ولا يطلع عليه من يعرف حاله فيخبره بحاله فلذلك قال في الثاني : {وَتُؤْتُوهَا الفقرآء}. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 348}
فصل
قال السعدى فى معنى الآية :
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
أي : {إن تبدوا الصدقات} فتظهروها وتكون علانية حيث كان القصد بها وجه الله {فنعما هي} أي : فنعم الشيء {هي} لحصول المقصود بها {وإن تخفوها} أي : تسروها {وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} ففي هذا أن صدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلانية ، وأما إذا لم تؤت الصدقات الفقراء فمفهوم الآية أن السر ليس خيرا من العلانية ، فيرجع في ذلك إلى المصلحة ، فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين وحصول الاقتداء ونحوه ، فهو أفضل من الإسرار ، ودل قوله : {وتؤتوها الفقراء} على أنه ينبغي للمتصدق أن يتحرى بصدقته المحتاجين ، ولا يعطي محتاجا وغيره أحوج منه ، ولما ذكر تعالى أن الصدقة خير للمتصدق ويتضمن ذلك حصول الثواب قال : {ويكفر عنكم من سيئاتكم} ففيه دفع العقاب {والله بما تعملون خبير} من خير وشر ، قليل وكثير والمقصود من ذلك المجازاة. أ هـ {تفسير السعدى صـ 116}(9/177)
من فوائد ابن القيم فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} أي فنعم شيء هي وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر بها الإخفاء فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها فلا يؤخر صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر وهذه كانت حال الصحابة
ثم قال {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة ولم يقل : وإن تخفوها فهو خير لكم فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش وبناء قنطرة وإجراء نهر أو غير ذلك وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد الستر عليه وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءاة وطلبهم المحمدة من الناس وكان إخفاؤها للفقير خيرا من إظهارها بين الناس ، ومن هذا مدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صدقة السر وأثنى على فاعلها وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم فإنه بما تعملون خبير. أ هـ {طريق الهجرتين صـ 556}(9/178)
قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما حث سبحانه وتعالى على وجوه الخير ورغب في لزوم الهدى وكان أكثرهم معرضين ،
لأن ما دعا إليه هادم لما جبلوا عليه من الحب لتوفير المال والحفيظة على النفس ،
وكان صلى الله عليه وسلم شديد الأسف عليهم دائم القلق من أجلهم لعظيم رحمته لهم وشفقته عليهم ،
فكان يجد من تقاعدهم عما يدعوهم إليه من هذه الحالة العلية التي هي حكمة الله التي رأسها الإيمان بالله واشتراء الآخرة بكلية الدنيا وجداً شديداً ،
خفض سبحانه وتعالى عليه الأمر وخفف عليه الحال فقال : {ليس عليك} أي عندك {هداهم} حتى تكون قادراً عليه ،
فما عليك إلا البلاغ ،
وأما خلق الهداية لهم فليس عليك ولا تقدر عليه {ولكن الله} الذي لا كفوء له هو القادر على ذلك وحده فهو {يهدي من يشاء} فظهر من هذا أنه يتعين أن يكون عليك بمعنى عندك ومعك ونحو ذلك ،
لأن لكن للاستدراك وهو أن يكون حكم ما بعدها مخالفاً لما قبلها وكلام أهل اللغة يساعد على ذلك ،
قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي : في حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما : كنت أضحي بالجذع وعلينا ألف شاة ،
معناه : وعندنا ألف شاة ،
تقول العرب : علينا كذا وكذا ،
أي مننا - فسره قاسم ؛ انتهى.
وهو يرجع إلى القدرة كما تقول : عليّ رضى فلان ،
أي أنا مطيق لذلك قادر على حمله ،
فالمعنى : لست تقدر على إيجاد الاهتداء فيهم أصلاً وإنما ذلك إلى الله سبحانه وتعالى فهو يهدي من يشاء فيفعل ما يقدره سبحانه له من وجوه الهدى من نفقة وغيرها.(9/179)
قال الحرالي ما معناه : إن الأنصار رضي الله تعالى عنهم من أول مراد بهذه الجملة لأنه سبحانه وتعالى جعل فيهم نصرة دينه.
ولما كان المقصود الأعظم في هذه الحكمة وهذا الهدى إنما هو الهدى للتوسل إلى الجواد بالجود بالنفس والمال النائل عموماً القريب والبعيد والمؤمن والكافر بمنزلة المطر الجود الذي يأخذ السهل والجبل حتى كان هذا الخطاب صارفاً لقوم تحرجوا من الصدقة على فقراء الكفار وصلة قراباتهم منهم فحملوا على عموم الإنفاق - انتهى.
فقال سبحانه وتعالى : {وما تنفقوا من خير} أي مال ومعروف على مؤمن أو كافر يحل فعل ذلك معه ولو قل " لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة " {فلأنفسكم} كما قيل له صلى الله عليه وسلم عن شاة ذبحت : ذهبت أي بالهدية والصدقة إلا رقبتها! فقال : بقيت إلا رقبتها! فهو يفهم أنكم إن بخلتم أو مننتم فإنما تفعلون ذلك بأنفسكم.
ولما كان الكلام في النفقة مع المؤمنين المنفقين وفي سبيل الله وعبر عنها بالخير وكل ذلك إشارة إلى الإخلاص الحري بحال المؤمن فقال : {وما} أي والحال أنكم ما {تنفقون إلا ابتغاء} أي إرادة.
ولما كان تذكر الوجه لما له من الشرف أدعى إلى الاجتهاد في تشريف العمل بإحسانه وإخلاصه قال : {وجه الله} أي الملك الأعظم من سد خلة فقير أو صلة رحم مسلم أو كافر تجوز الصدقة عليه لا لأنفسكم ولا غيرها بل تخلصاً من إمساك المال بأداء الأمانة فيه إلى عباد الله لأنهم عباده ،
هذا هو الذي يدعو إليه الإيمان فلا يظن لمؤمن أن يفعل غيره وذلك يقتضي البعد جداً عن الأذى والرياء وكل نقيصة والملابسة لكل ما يوجب القبول من الكمال الحسي والمعنوي.(9/180)
ولما كان الإيقان بالوفا مرغباً في الإحسان ومبعداً من الإساءة والامتنان خوفاً من جزاء الملك الديان قال {وما تنفقوا من خير} أي على أي وجه كان وبأي وصف كان التصدق والمتصدق عليه {يوف} أي يبالغ في وفائه بالتضعيف واصلاً {إليكم وأنتم لا تظلمون} أي لا يقع عليكم ظلم في ترك شيء مما أنفقتموه ولا في نقص مما وعدتموه من التضعيف إن أحسنتم والمماثلة إن أسأتم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 526 ـ 528}
وقال أبو حيان :
ومناسبة تعلق هذه الجملة بما قبلها أنه لما ذكر تعالى قوله : {يؤتي الحكمة من يشاء} الآية اقتضى أنه ليس كل أحد آتاه الله الحكمة ، فانقسم الناس من مفهوم هذا إلى قسمين : من آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ، ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال.
فنبه بهذه الآية أن هذا القسم ليس عليك هداهم ، بل الهداية وإيتاء الحكمة إنما ذلك إلى الله تعالى ، ليتسلى بذلك في كون هذا القسم لم يحصل له السعادة الأبدية ، ولينبه على أنهم وإن لم يكونوا مهتدين ، تجوز الصدقة عليهم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 340}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
استئناف معترض به بين قوله {إن تبدوا الصدقات} [ البقرة : 271 ] وبين قوله : {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} ، ومناسبته هنا أنّ الآيات المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس : منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ومنهم الذين يبطلون صدقاتهم بالمَنّ والأذى ، ومنهم الذين يتيمّمون الخبيث منه ينفقون ، ومنهم من يعَدهم الشيطان الفقرَ ويأمرهم بالفحشاء.
وكان وجود هذه الفرق مما يَثقل على النبي صلى الله عليه وسلم فعقّب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هُداهم ولكن عليه البلاغ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 69}
فصل فى سبب نزول الآية
قال القرطبى :(9/181)
روى سعيد بنُ جبير مُرْسَلاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدّقون على فقراء أهل الذمّة ، فلما كثُر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تتصدّقوا إلاَّ على أهل دينكم " فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دِين الإسلام.
وذكر النقّاش : " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بصدقات فجاءه يهوديّ فقال : أعطني.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ "ليس لك من صدقة المسلمين شيء".
فذهب اليهوديّ غير بعيد فنزلت : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه " ، ثم نسخ الله ذلك بآية الصدقات. (1)
وروى ابن عباس أنه قال : كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قُرَيظة والنَضَّير ، وكانوا لا يتصدّقون عليهم رغبة منهم في أن يُسلموا إذا احتاجوا ، فنزلت الآية بسبب أُولئك.
وحكى بعض المفسّرين أن أسماء ابنة أبي بكر الصدّيق أرادت أن تصل جَدَّها أبا قُحافة ثم امتنعت من ذلك لكونه كافراً فنزلت الآية في ذلك.
وحكى الطبريّ أن مقصد النبيّ صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليُسلموا ويدخلوا في الدين ، فقال الله تعالى : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}.
وقيل : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ( ليس متصلاً ) بما قبلُ ، فيكون ظاهراً في الصدقات وصرفها إلى الكفار ، بل يحتمل أن يكون معناه ابتداء كلام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 337}
_________________
(1) لا يخفى ما فى هذه الرواية من البعد البعيد ومجانبة الصواب لكونها مخالفة لما هو معلوم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى قال الله فى حقه {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فقد كان صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة حتى بالحيوان الأعجم فكيف بالنفس البشرية ؟؟!!!
وما ثبت أنه رد سائلا قط حتى ولو كان كافرا
والذى يدرس آيات العتاب فى حقه صلى الله عليه وسلم يجد أن الله تعالى عاتبه على فرط رحمته وشفقته بالمشركين فى قوله تعالى فى سورة الأنفال {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)}. والله أعلم.(9/182)
قال ابن العربى فى سبب نزول الآية :
وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {لَا تَصَدَّقُوا إلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ} ، فَنَزَلَتْ : {لَيْسَ عَلَيْك هُدَاهُمْ}
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانُوا لَا يَرْضَخُونَ لِقَرَابَاتِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَوَّلَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ . الثَّانِي : {أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أُمَّيْ قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : صِلِي أُمَّك} ; فَإِنَّمَا شَكُّوا فِي جَوَازِ الْمُوَالَاةِ لَهُمْ وَالصَّدَقَةِ ( ذَوِي الْقُرْبَى الْمُشْرِكِينَ ) عَلَيْهِمْ فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهُمْ . أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 316}(9/183)
قال الفخر :
والمعنى على جميع الروايات : ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدق عليهم لوجه الله ، ولا توقف ذلك على إسلامهم ، ونظيره قوله تعالى : {لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ} [ الممتحنة : 8 ] فرخص في صلة هذا الضرب من المشركين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 67}
فصل
قال الفخر :
إنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم كما قال تعالى : {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [ الكهف : 6 ] {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [ الشعراء : 3 ] وقال : {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [ يونس : 99 ] وقال : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [ التوبة : 128 ] فأعلمه الله تعالى أنه بعثه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ومبيناً للدلائل ، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك ، فالهدى هاهنا بمعنى الاهتداء ، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم ،
وفيه وجه آخر : ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة أن توقف صدقتك عنهم على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل الإيمان المطلوب منهم الإيمان على سبيل التطوع والاختيار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 68}
فائدة
قال الفخر : (9/184)
ظاهر قوله {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به هو وأمته ، ألا تراه قال : {إِن تُبْدُواْ الصدقات} [ البقرة : 271 ] وهذا خطاب عام ، ثم قال : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} وهو في الظاهر خاص ، ثم قال بعده {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ} وهذا عام فيفهم من عموم ما قبل الآية وعموم ما بعدها عمومها أيضاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 68}
وقال أبو السعود :
{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} أي لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى فعلِ ما أُمروا به من المحاسن والانتهاءِ عما نُهوا عنه من القبائح المعدودة وإنما الواجبُ عليك الإرشادُ إلى الخير والحثُ عليه والنهيُ عن الشر والردعُ عنه بما أوحي إليك من الآياتِ والذكرِ الحكيم. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 264}
فائدة
قال ابن عاشور :
و ( على ) في قوله {عليك} للاستعلاء المجازي ، أي طلب فعل على وجه الوجوب.
والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول ، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء.
وتقديم الظرف وهو {عليك} على المسند إليه وهو {هُداهم} إذا أجرى على ما تقرّر في علم المعاني من أنّ تقديم المسند الذي حقّه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند ، وكان ذلك في الإثبات بيّناً لا غبار عليه نحو {لكم دينكم ولي ديني} [ الكافرون : 6 ] وقولِه : {لها ما كسبت عليها ما اكتسبت} [ البقرة : 286 ] ، فهو إذا وقع في سياق النفي غير بيّن لأنّه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيداً للحصر اقتضى أنّه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار ؛ لأنّ الجملة المكيّفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيَّدة نسبتُها بقيد الانحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها.(9/185)
فإذا دخل عليها النفي كان مقتضياً نفي النسبة المقيّدة ، أي نفي ذلك الانحصارِ ، لأنّ شأن النفي إذا توجّه إلى كلام مقيَّد أن ينْصَبّ على ذلك القيد.
لكنّ أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سَوّوا فيها بين الإثبات كما ذكرنا وبين النفي نحْو {لا فيها غَوْل} [ الصافات : 47 ] ، فقد مثل به في "الكشاف" عند قوله تعالى : {لا ريب فيه} [ البقرة : 2 ] فقال : "قصد تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا" ، وقال السيد في شرحه هنالك "عُدّ قصراً للموصوف على الصفة ، أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعدّاه إلى عدم الحصول فيما يقابلها ، أو عَدمُ الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور".
وقد أحلتُ عند قوله تعالى : {لا ريب فيه} [ البقرة : 2 ] على هذه الآية هنا ، فبِنَا أن نبيِّن طريقة القصر بالتقديم في النفي ، وهي أنّ القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيداً لفظياً بحيث يتوجّه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي ، فنحو {لا فيها غول} يفيد قصر الغَول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد نفي قصر الغول على الكون في خمور الجنة.
وإلى هذا أشار السيّد في شرح "الكشاف" عند قوله {لا ريب فيه} إذ قال "وبالجملة يجعل حرف النفي جزءاً أو حرفاً من حروف المسند أو المسند إليه".
وعلى هذا بنى صاحب "الكشاف" فجعل وجه أن لم يقدّمْ الظرفُ في قوله : {لا ريب فيه} كما قدم الظرف في قوله : {لا فيها غول} لأنّهُ لو أوّل لقُصد أنّ كتاباً آخر فيه الريب ، لا في القرآن ، وليس ذلك بمراد.
فإذا تقرر هذا فقوله : {ليس عليك هداهم} إذا أجرى على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك ، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب ، أي إبطال انتفاء كونه على الله ، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يُعتقد الأول ولا الثاني.(9/186)
فالوجه : إما أن يكون التقديم هنا لِمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري :
ما فيه من عيب سوى أنّه
يوم النَّدى قِسمته ضيزى...
بنفي كون هداهم حقاً على الرسول تهوينا للأمر عليه ، فأما الدلالة على كون ذلك مفوّضاً إلى الله فمن قوله : {ولكن الله يهدي من يشاء}.
وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أنّ إيجاد الإيمان في الكفّار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق ، فقُصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنّه على الله ، فيلزم من ذلك أنّه على الله ، أي مفوّض إليه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 70 ـ 71}
قوله تعالى : {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء}
قال أبو السعود :
{ولكن الله يَهْدِى} هدايةً خاصةً موصلةً إلى المطلوب حتماً {مَن يَشَآء} هدايتَه إلى ذلك ممن يتذكر بما ذُكّر ويتبعُ الحق ويختار الخيرَ ، والجملةُ معترضة جيء بها على طريق تلوينِ الخطاب ، وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغَيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين مبالغةً في حملهم على الامتثال ، فإن الإخبارَ بعدم وجوب تدارُك أمرِهم على النبي صلى الله عليه وسلم مُؤْذنٌ بوجوبه عليهم حسبما ينطِق به ما بعده من الشرطية. وقيل : لما كثُر فقراءُ المسلمين نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن التصدق على المشركين كي تحمِلَهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزلت. أي ليس عليك هُدى مَنْ خالفك حتى تمنعَهم الصدقةَ لأجل دخولهم في الإسلام فلا التفاتَ حينئذٍ في الكلام ، وضميرُ الغيبة للمعهودين من فقراءِ المشركين بل فيه تلوينٌ فقط. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 264}
وقال ابن عاشور : (9/187)
وقوله : {ولكن الله يهدي من يشاء} جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهمّ إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء ، فمصَبُّ الاستدراك هو الصلة ، أعْني {من يشاء} ؛ أي فلا فائدة في إلجاء من لم يشأ الله هديه.
والتقدير : ولكن هداهم بيد الله ، وهو يهدي من يشاء ، فإذا شاء أن يهديهم هداهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 72}
فائدة
قال أبو حيان :
وقال الزمخشري قوله : {ولكن الله يهدي من يشاء} تلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه ، فينتهي عما نهى عنه. انتهى.
فلم يحمل الهدى في الموضعين على الإيمان المقابل للضلال ، وإنما حمله على هدى خاص ، وهو خلاف الظاهر ، كما قلنا.
وقيل : الهداية هنا الغنى أي : ليس عليك أن تغنيهم ، وإنما عليك أن تواسيهم ، فإن الله يغني من يشاء.
وتسمية الغنى : هداية ، على طريقة العرب من نحو قولهم : رشدت واهتديت ، لمن ظفر ، وغويت لمن خاب وخسر وعلى هذا قول الشاعر :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره . . .
ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
وتفسير الهدى بالغنى أبعد من تفسير الزمخشري ، وفي قوله : هداهم ، طباق معنوي ، إذ المعنى : ليس عليك هدى الضالين ، وظاهر الخطاب في : ليس عليك ، أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 340}
فصل
قال الفخر : (9/188)
أما قوله تعالى : {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} فقد احتج به الأصحاب على أن هداية الله تعالى غير عامة ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين قالوا : لأن قوله {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} إثبات للهداية التي نفاها بقوله {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} لكن المنفي بقوله {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار ، فكان قوله {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب.
قالت المعتزلة {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} يحتمل وجوهاً أحدها : أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك
وثانيها : يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاء
وثالثها : ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله
ورابعها : أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء ، فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك.
أجاب الأصحاب عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} هو المنفي أولاً بقوله {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولاً : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} هو الاهتداء على سبيل الاختيار ، فالمثبت بقوله {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار ، وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 68}
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله} شرط وجوابه.(9/189)
والخير في هذه الآية المال ؛ لأنه قد اقترن بذكر الإنفاق ؛ فهذه القرينة تدل على أنه المال ، ومتى لم تقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال ؛ نحو قوله تعالى : {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [ الفرقان : 24 ] وقوله : {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [ الزلزلة : 7 ].
إلى غير ذلك.
وهذا تحرُّز من قول عكرمة : كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال.
وحُكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيراً من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيراً ، فقيل له في ذلك فيقول : إنما فعلت مع نفسي ؛ ويتلو {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ}. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 339}
وقال أبو السعود :
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} على الأول التفاتٌ من الغَيبة إلى خطاب المكلفين لزيادة هزّهم نحو الامتثال ، وعلى الثاني تلوينٌ للخطاب بتوجيهه إليهم وصرفهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم و{مَا} شرطية جازمة و{تُنفِقُواْ} منتصبة به على المفعولية ومن تبعيضية متعلقة بمحذوفٍ وقعَ صفةً لاسم الشرط مبيّنةٌ ومخصصةٌ له أي أيِّ شيءٍ تنفقوا كائنٌ من مال {فَلاِنفُسِكُمْ} أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيرُكم فلا تمنوا على من أعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث ، أو فنفعُه الدينيَّ لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدينُ من فقراء المشركين. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 264}
قوله تعالى : {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله}
فصل
قال الفخر :
في هذه الآية وجوه
الأول أن يكون المعنى : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله ، فقد علم الله هذا من قلوبكم ، فانفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر ؛ وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم(9/190)
الثاني : أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهي ، أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ، وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيراً قال تعالى : {الوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} [ البقرة : 233 ] {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [ البقرة : 228 ]
الثالث : أن قوله {وَمَا تُنفِقُونَ} أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 68 ـ 69}
وقال ابن الجوزى :
قوله تعالى : {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} قال الزجاج : هذا خاص للمؤمنين ، أعلمهم الله أنه قد علم أن مُرادَهم ما عنده ، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم ، فقد أعلمهم بالجزاء عليه. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 327}
وقال القرطبى :
بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه.
و "ابتغاءَ" هو على المفعول له.
وقيل : إنه شهادة من الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما ينفقون ابتغاءَ وجهه ؛ فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم.
وعلى التأويل الأوّل هو اشتراط عليهم ، ويتناول الاشتراط غيرهم من الأُمة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقّاص : " إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله تعالى إلاَّ أُجِرْتَ بها حتى ما تجعل في فيِ امرأتك ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 339}
فائدة
قال الفخر :
ذكر في الوجه في قوله {إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله} قولان
أحدهما : أنك إذا قلت : فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك : فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ
والثاني : أنك إذا قلت : فعلت هذا الفعل له فههنا يحتمل أن يقال : فعلته له ولغيره أيضاً ، أما إذا قلت فعلت هذا الفعل لوجهه ، فهذا يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 69}
فصل
قال القرطبى : (9/191)
قال علماؤنا : هذه الصدقة التي أُبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوّع ، وأما المفروضة فلا يُجزىء دفعها لكافر ، لقوله عليه السَّلام : " أُمرتُ أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم " قال ابن المُنْذِر : أجمع ( كل ) من أحفظُ عنه من أهل العلم أن الذّميّ لا يُعْطَى من زكاة الأموال شيئاً ؛ ثم ذكر جماعةً ممن نصّ على ذلك ولم يذكر خلافاً.
وقال المَهْدَوِيّ : رُخّص للمسلمين أن يُعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة لهذه الآية.
قال ابن عطيّة ؛ وهذا مردود بالإجماع.
والله أعلم.
وقال أبو حنيفة : تصرف إليهم زكاة الفطر.
ابن العربيّ : وهذا ضعيف لا أصل له.
ودليلنا أنها صدقة طهرة واجبة فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعيْن ؛ وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أغنوهم عن سؤال هذا اليوم " يعني يوم الفطر.
قلت : وذلك لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد وهذا لا يتحقق في المشركين.
وقد يجوز صرفها إلى غير المسلم في قول من جعلها سُنّة ، وهو أحد القولين عندنا ، وهو قول أبي حنيفة على ما ذكرنا ، نظراً إلى عموم الآية في البِرّ وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات.
قال ابن عطيّة : وهذا الحكم متصوّر للمسلمين مع أهل ذِمتهم ومع المسترقِّين من الحربيّين.
قلت : وفي التنزيل {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [ الإنسان : 8 ] والأسير في دار الإسلام لا يكون إلاَّ مشركاً.
وقال تعالى : {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ} [ الممتحنة : 8 ].
فظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة ، إلاَّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خصّ منها الزكاة المفروضة ؛ لقوله عليه السَّلام لِمُعاذ : " خُذِ الصدقة من أغنيائهم وردّها على فقرائهم " واتفق العلماء على ذلك على ما تقدّم.(9/192)
فيدفع إليهم من صدقة التطوّع إذا احتاجوا ، والله أعلم.
قال ابن العربيّ : فأما المسلم العاصي فلا خلاف أن صدقة الفطر تصرف إليه إلاَّ إذا كان يترك أركان الإسلام من الصَّلاة والصيام فلا تدفع إليه الصدقة حتى يتوب.
وسائر أهل المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها لدخولهم في اسم المسلمين.
وفي صحيح مسلم : أن رجلاً تصدّق على غَنِيّ وسارقٍ وزانيةٍ وتُقبّلت صدقته ، على ما يأتي بيانه في آية الصدقات. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 337 ـ 338}
وقال ابن كثير :
وقوله : {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} قال الحسن البصري : نفقة المؤمن لنفسه ، ولا ينفق المؤمن - إذا أنفق - إلا ابتغاء وجه الله.(9/193)
وقال عطاء الخراساني : يعني إذا أعطيت لوجه الله ، فلا عليك ما كان عملُه وهذا معنى حسن ، وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجرُه على الله ، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب : الِبَرّ أو فاجر أو مستحق أو غيره ، هو مثاب على قصده ، ومستَنَدُ هذا تمام الآية : {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} والحديث المخرج في الصحيحين ، من طريق أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال رجل : لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية ، فأصبح الناس يتحدثون : تُصُدقَ على زانية! فقال : اللهم لك الحمد على زانية ، لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني ، فأصبحوا يتحدثون : تُصُدق الليلة على غَني! فقال : اللهم لك الحمد على غني ، لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق ، فأصبحوا يتحدثون : تُصدق الليلة على سارق! فقال : اللهم لك الحمد على زانية ، وعلى غني ، وعلى سارق ، فأتي فقيل له : أما صدقتك فقد قبلت ؛ وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها ، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته". {صحيح البخاري برقم (1421) وصحيح مسلم برقم (1022)} أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 704}
قوله تعالى : {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}
قال الفخر :
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي يوف إليكم جزاؤه في الآخرة ، وإنما حسن قوله {إِلَيْكُمْ} مع التوفيه لأنها تضمنت معنى التأدية.
ثم قال : {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً لقوله تعالى : {اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم وَمِنْهُ شَيْئاً} [ الكهف : 33 ] يريد لم تنقص. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 69}
وقال الآلوسى : (9/194)
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي تعطون جزاءه وافراً وافياً كما تشعر به صيغة التفعيل في الآخرة حسبما تضمنته الآيات من قبل وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمراد نفي أن يكون لهم عذر في مخالفة الأمر المشار إليه في الإنفاق ، فالجملة تأكيد للشرطية السابقة وليس بتأكيد صرف وإلا لفصلت ولكنها تضمنت ذلك من كون سياقها للاستدلال على قبح ترك ذلك الأمر فكأنه قيل : كيف يمنّ أو يقصر فيما يرجع إليه نفعه أو كيف يفعل ذلك فيما له عوض وزيادة ، وهي بهذا الاعتبار أمر مستقل ، وقيل : إن المعنى يوفر عليكم خلفه في الدنيا ولا ينقص به من مالكم شيء استجابة لقوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعل لمنفق خلفاً ولممسك تلفاً " والتوفية إكمال الشيء وإنما حسن معها إليكم لتضمنها معنى التأدية وإسنادها إلى {مَا} مجازي وحقيقته ما سمعت ، والآية بناءاً على سبب النزول دليل على جواز دفع الصدقة للكافر وهو في غير الواجبة أمر مقرر ، وأما الواجبة التي للإمام أخذها كالزكاة فلا يجوز ، وأما غيرها كصدقة الفطر والنذر والكفارة ففيه اختلاف ، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يجوزه ، وظاهر قوله تعالى : {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [ الإنسان : 8 ] يؤيده إذ الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركاً. {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} أي لا تنقصون شيئاً مما وعدتم ، والجملة حال من ضمير {إِلَيْكُمْ} والعامل ( يوفَّ ). أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 46}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} عطف على التي قبلها لبيان أنّ جزاء النفقات بمقدارها وأنّ مَن نُقِص له من الأجر فهو الساعي في نقصه.(9/195)
وكُرّر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب ، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء ، أي النهي عن أن ينفقوا إلاّ لابتغاء وجه الله.
وتقديم {وأنتم} على الخَبَر الفعلي لمجرد التقوّي وزيادة التنبيه على أنّهم لا يُظلَمون ، وإنّما يَظْلمون أنفسهم.
وإنما جعلت هاته الأحكام جملاً مستقلاً بعضُها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيَّدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريراً للاهتمام بشأنه ، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني ، فتجري مجرى الأمثال ، وتتناقلها الأجيال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 72 ـ 73}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
لكَ المقام المحمود ، واللواء المعقود ، والرتب الشريفة ، والمنازل العلية ، والسنن المرضية. وأنت سيد الأولين والآخرين ، ولا يدانيك أحدُ - فضلاً عن أن يساميك ، ولكن ليس عليك هداهم فالهداية من خصائص حقنا ، وليس للأغيار منه شطية. يا محمد : أنت تدعوهم ولكن نحن نهديهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 209}
فائدة
قال فى البحر المديد :
ما قيل في الرسول - عليه الصلاة والسلام - يقال في ورثته من أهل التذكير ، فليس بيدهم الهداية والتوفيق ، وإنما شأنهم الإرشاد وبيان الطريق ، فليس من شأن الدعاة إلى الله الحرص على هداية الخلق. وإنما من شأنهم بيان الحقّ. {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} [ النّحل : 37 ]. والله تعالى أعلم.
ثم رجع الحقّ تعالى إلى الترغيب في الصدقة والإخلاص فيها ، فقال : {... وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}(9/196)
قلت : هذه ثلاث جمل كلها تدل على الترغيب في إنفاق الطيب وإخلاص النية.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وما تنفقوا من خير} قليل أو كثير ، فهو {لأنفسكم} لا ينتفع به غيركم ، فإن كان طيباً فلأنفسكم ، وإن كان خبيثاً فأجره لكم ، وإن مننتم به أو آذيتم فقد ظلمتم أنفسكم ، وإن أخلصتم فيه فلأنفسكم ، وأيضاً إنكم تَدَّعُونَ أنكم {ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} ، فكيف تقصدون الخبيث ، وتجعلونه لوجه الله ؟ وكيف تَمُنُّونَ أو تؤذون بها وهي وجه الله ؟ هذا تكذيب للدعوى ، وكل ما تنفقون من خير قليل أو كثير {يُوف إليكم} جزاؤه يوم القيامة بسبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، ويخلفه لكم في الدنيا ، {وأنتم لا تظلمون} شيئاً من أعمالكم إن أخلصتم أو أحسنتم. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 231}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ . . .}.
قال ابن عرفة : الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أو عام له ولسائر المؤمنين كقوله تعالى : {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} وهو راجع إلى الخلاف الّذي ( حكاه ) ابن عطية لأن ما نقله عن سعيد بن جبير وعن النّقاش يقتضي الخصوص وما نقله عن ابن عباس يقتضي العموم.
قال ابن عرفة : وعلى تقدير الخصوص يستلزم العموم فهو خصوص لأنه إذا رفع التكليف عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو رسول مأمور بالتبليغ والدعاء إلى الإيمان فأحرى أن يرفع عن من سواه.
قال ابن عطية : ذكر النّقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم أتِىَ بصدقة فجاءه يهودي فقال : أعطني.(9/197)
فقال له عليه الصلاة والسلام : " ليس لك من صدقة المسلمين شيء " فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعطاه ، ثم نسخ الله ذلك بقوله : {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} قال ابن عرفة : هذا ليس بنسخ ولكن المتقدمين يطلقون عليه نسخا والمتأخرين يقولون : العام إن عمل به ثم ورد بعد ذلك خاص فهو نسخ له وإن ورد الخاص بعده وقبل العمل به فهو تخصيص لا نسخ.
قال ابن عطية : والهدى المنفي هو خلق الإيمان في قلوبهم ، وأما الهدى الذي هو الدعاء إلى الإيمان فهو عليه.
قال ابن عرفة : أما خلق الهدى ( فمنفي ) معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى نفيه ، وأما الدعاء إلى الإيمان فغير منفي ، ويبقى قسم ثالث وهو الدعاء المحصل للإيمان الكسبي لا الجبري فيقال هديت فلانا إلى الإيمان ، أي دعوته إليه فاهتدى بخلاف ما إذا دعوته إليه فلم يهتد فإنك لا تقول : هديته إلى الإيمان ، فهذا هو المنفي في الآية ، أي ليس مطلوبا بتحصيل الهداية الكسبية لهم إنّما عليك أن تدعوهم فقط ، والإضافة على ما قلناه للمفعول.
أي ليس عليك أن تهديهم.
قيل لابن عرفة : لعل المراد لا يجب عليك أن تهديهم إلى الإيمان ؟ فرده بقول الله تعالى : {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} فَإِنَّه ليس المراد به الجبر على الإيمان بل خلق الهداية.
قال ابن عرفة : وهذا تسكين لروعته لأنه مضى قبل الآية مقدار ربع حزب في الحض على الصدقة ، وعلى ( خلوص ) النّية ، وكرر ذلك وأكد فخشي أن يتهالك عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأجل عدم امتثالهم فأتت هذه الآية تسكينا لروعته وتطمينا لجنانه.
قوله تعالى : {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ . . .}.
فالتشديد كما في قوله تعالى : {ولكن الله رمى} وفي بعضها ولكن بالتخفيف.
وسبب ذلك أنه إذا كان المخاطب منكرا وظهرت عليه مخائل الإنكار فيؤتي بها مشددة.(9/198)
ابن عرفة : وهذا أعمّ من قول الله تعالى : {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} ( فإن عليك أن تهدي من أحببت ) أخص من قولك أنت تهدي من أحببت ، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم.
فإن قلت : الأصل في نسبة المتكلم إلى نفسه فعلا أن يأتي باسمه مضمرا فيقول : ليس عليك إكرام محمد ولكنه علي ، ولا تقول : ولكنه على زيد ، يعني نفسه.
قال : وتقدم لنا الجواب بأنّه لما كان المعنى خاصا بالله تعالى أتى فيه باسم الجلالة الخاص به ولو قال : ولكنّا نهدي من نشاء لكان عاما لأن الضمائر كلية.
قلت : ولأن النون والألف تكون للمتكلم وحده إذا عظّم نفسه وللمتكلم ومعه غيره بخلاف اسم الجلالة فإنه خاص بلا شك.
قوله تعالى : {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله . . .}.
يحتمل أن تكون الواو واو الحال ( أى ) وما تنفقوا من ( خير ) فلأنفسكم حالة كونهم يقصدون به وجه الله وهذا خبر في معنى الطلب ( أو ) الأمر أو النهي.
انتهى.
قوله تعالى : {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}.
تأسيس ، والمراد بالتوفية في المقدار وعدم الظلم في الصفة لأن من لك عليه طعام موصوف تارة يعطيك مثل الصفة وأقل في المقدار ، وتارة يعطيك مثل القدر ( وأدوَن ) في الصفة. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 349 ـ 350}(9/199)
قوله تعالى : {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان غالب هذه الأحكام التي ذكرت في الإنفاق من أجل المحاويج وكان ما مضى شاملاً للمؤمن وغيره بيّن أن محط القصد في الحثّ عليها المؤمن قال سبحانه وتعالى : {للفقراء} أي هذه الأحكام لهم {الذين أحصروا} أي منعوا عن التكسب ،
وأشار بقوله : {في سبيل الله} أي الذي له الجلال والإكرام إلى أن المقعد لهم عن ذلك الاشتغال بإقامة الدين بالجهاد وغيره {لا يستطيعون ضرباً في الأرض} بالتجارة لأجل ذلك وأشار إلى شدة رضاهم عن الله سبحانه وتعالى بعدم شكايتهم فقال : {يحسبهم الجاهل} أي الذي ليس عنده فطنة الخلص {أغنياء من} أجل {التعفف} عن المسألة والتلويح بها قناعة بما أعطاهم الله سبحانه وتعالى مولاهم ورضي عنه وشرف نفس ،
والتعفف تكلف العفة وهي كف ما ينبسط للشهوة من الآدمي إلا بحقه ووجهه - قاله الحرالي.
ولما ذكر خفاءهم على الغبي ذكر جلاءهم عند المتوسم فقال : {تعرفهم} أي يا أبصر الموقنين وأفطنهم أنت ومن رسخت قدمه في متابعتك {بسيماهم} قال الحرالي : وهي صيغة مبالغة من السمة والوسم وهي العلامة الخفية التي تتراءى للمستبصر - انتهى.
وتلك العلامة والله سبحانه وتعالى أعلم هي السكينة والوقار وضعف الصوت ورثاثة الحال مع علو الهمة والبراءة من الشماخة والكبر والبطر والخيلاء ونحو ذلك {لا يسئلون} لطموح أبصار بصائرهم عن الخلق إلى الخالق {الناس} من ملك ولا غيره {إلحافاً} سؤال إلزام ،
أخذاً من اللحاف الذي يتغطى به للزومه لما يغطيه ،
ومنه لاحفه أي لازمه.(9/200)
وقال الحرالي : هو لزوم ومداومة في الشيء من حروف الحلف الذي هو إنهاء الخبر إلى الغاية كذلك اللحف إنهاء السؤال إلى الغاية - انتهى.
وإنما يسألون إن سألوا على وجه العرض والتلويح الخفي ،
كما كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يستقرىء غيره الآية ليضيفه وهو أعرف بها ممن يستقرئه فلا يفهم مراده إلا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فالتعبير بالتعفف يفيد الاجتهاد في العفة والمبالغة فيها ،
والتقيد بالإلحاف يدل على وقوع السؤال قليلاً جداً أو على وجه التلويح لا التصريح كما يؤيده ويؤكده المعرفة بالسيما.
لصفات الكمال {به عليم} وإن اجتهدتم في إخفائه بإعطائه لمن لا يسأل بأن لا يعرف أو بغير ذلك ،
وذكر العلم في موضع الجزاء أعظ مرغب وأخوف مرهب كما يتحقق ذلك بإمعان التأمل لذلك. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 528 ـ 529}
فصل
قال الفخر :
اللام في قوله {لِلْفُقَرَاء} متعلق بماذا فيه وجوه الأول : لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق ، قال بعدها {لِلْفُقَرَاء} أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء ، وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل فتقول : عاقل لبيب ، والمعنى أن ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس الذي يجعلون فيه الذهب والدراهم : ألفان ومائتان أي ذلك الذي في الكيس ألفان ومائتان هذا أحسن الوجوه
الثاني : أن تقدير الآية اعمدوا للفقراء واجعلوا ما تنفقون للقراء الثالث : يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير وصدقاتكم للفقراء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 69 ـ 70}
فصل
قال الفخر : (9/201)
نزلت في فقراء المهاجرين ، وكانوا نحو أربعمائة ، وهم أصحاب الصفة لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة ، وكانوا ملازمين المسجد ، ويتعلمون القرآن ، ويصومون ويخرجون في كل غزوة ، عن ابن عباس : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجدهم فطيب قلوبهم ، فقال : " أبشروا يا أصحاب الصفة فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفاقي ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 70}
وقال ابن عطية :
المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم ،
قال الفقيه أبو محمد : ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر ، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم ، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 368}
وقال القرطبى :
وإنما خصّ فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصُّفّة وكانوا نحواً من أربعمائة رجل ، وذلك أنهم كانوا يَقْدَمون فقراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما لهم أهل ولا مال فبُنيت لهم صُفَّة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل لهم : أهل الصُّفَّة.
قال أبو ذَرّ : " كنت من أهل الصّفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كلَّ رجل فينصرف برجل ويبقى مَن بقي من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤتَي النبيّ صلى الله عليه وسلم بعشائه ونتعشَّى معه.(9/202)
فإذا فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ناموا في المسجد" " وخرّج الترمذيّ عن البَرَاء بن عازِب : "وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ" قال : نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل ، قال : فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقِلّته ، وكان الرجل يأتي بِالقُنْو والقنوين فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفّة ليس لهم طعام ؛ فكان أحدهم إذا جاع أتى القُنْوَ فيضربه بعصاه فيسقط من البُسر والتمر فيأكل ، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي بالقنو فيه الشيص والحَشَف ، وبالقنو قد انكسر فيعلقه في المسجد ، فأنزل الله تعالى : {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ}.
قال : ولو أن أحدكم أُهْدِيَ إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلاَّ على إغماض وحَيَاء.
قال : فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده.
قال : هذا حديث حسن غريب صحيح.
قال علماؤنا.
وكانوا رضي الله عنهم في المسجد ضرورة ، وأكلوا من الصدقة ضرورة ؛ فلما فتح الله على المسلمين استغنَوْا عن تلك الحال وخرجوا ثم ملكوا وتأمّروا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 339 ـ 340}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء الفقراء بصفات خمس : (9/203)
الصفة الأولى : قوله {الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله} [ البقرة : 273 ] فنقول : الإحصار في اللغة أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره ، من مرض أو كبر أو عدو أو ذهاب نفقة ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء ، يقال : أحصر الرجل فهو محصر ، ومضى الكلام في معنى الإحصار عند قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} بما يعني عن الإعادة ، أما التفسير فقد فسرت هذه الآية بجميع الأعداد الممكنة في معنى الإحصار فالأول : أن المعنى : إنهم حصروا أنفسهم ووقفوها على الجهاد ، وأن قوله {فِى سَبِيلِ الله} مختص بالجهاد في عرف القرآن ، ولأن الجهاد كان واجباً في ذلك الزمان ، وكان تشتد الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيكون مستعداً لذلك ، متى مست الحاجة ، فبيّن تعالى في هؤلاء الفقراء أنهم بهذه الصفة ، ومن هذا حاله يكون وضع الصدقة فيهم يفيد وجوهاً من الخير
أحدها : إزالة عيلتهم
والثاني : تقوية قلبهم لما انتصبوا إليه
وثالثها : تقوية الإسلام بتقوية المجاهدين
ورابعها : أنهم كانوا محتاجين جداً مع أنهم كانوا لا يظهرون حاجتهم ، على ما قال تعالى : {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرض يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف}.
والقول الثاني : وهو قول قتادة وابن زيد : منعوا أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة ، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم.
والقول الثالث : وهو قول سعيد بن المسيب واختيار الكسائي : أن هؤلاء القوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصاروا زمنى ، فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض.
والقول الرابع : قال ابن عباس هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله فعذرهم الله.(9/204)
والقول الخامس : هؤلاء قوم كانوا مشتغلين بذكر الله وطاعته وعبوديته ، وكانت شدة استغراقهم في تلك الطاعة أحصرتهم عن الاشتغال بسائر المهمات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 70}
قوله تعالى : {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرض}
فصل
قال الفخر :
الصفة الثانية لهؤلاء الفقراء : قوله تعالى : {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرض} يقال ضربت في الأرض ضرباً إذا سرت فيها ، ثم عدم الاستطاعة إما أن يكون لأن اشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد ، يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة ، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر ، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه ، وعلى جميع الوجوه فلا شك في شدة احتياجهم إلى من يكون معيناً لهم على مهماتهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 70 ـ 71}
قوله تعالى : {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف}
فصل
قال الفخر :
الحسبان هو الظن ، وقوله {الجاهل} لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل ، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار ، يقول : يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء من التعفف ، وهو تفعل من العفة ومعنى العفة في اللغة ترك الشيء والكف عنه وأراد من التعفف عن السؤال فتركه للعلم ، وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 71}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء.
وفيه دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه.
وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم ، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مَرْضَى ولا عُمْيَان. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 341}
قوله تعالى : {تَعْرِفُهُم بسيماهم}
فصل
قال الفخر : (9/205)
الصفة الرابعة لهؤلاء الفقراء : قوله تعالى : {تَعْرِفُهُم بسيماهم} السيما والسيميا العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأصلها من السمة التي هي العلامة ، قلبت الواو إلى موضع العين قال الواحدي : وزنه يكون فعلاً ، كما قالوا : له جاه عند الناس أي وجه ، وقال قوم : السيما الارتفاع لأنها علامة وضعت للظهور ، قال مجاهد {سيماهم} التخشع والتواضع ، قال الربيع والسدي : أثر الجهد من الفقر والحاجة وقال الضحاك صفرة ألوانهم من الجوع وقال ابن زيد رثاثة ثيابهم والجوع خفي وعندي أن كل ذلك فيه نظر لأن كل ما ذكروه علامات دالة على حصول الفقر وذلك يناقضه قوله {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف} بل المراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق ، كل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم وذلك إدراكات روحانية ، لا علات جسمانية ، ألا ترى أن الأسد إذا مرّ هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة ، لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت ، والبازي إذا طار تهرب منه الطيور الضعيفة ، وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية ، فكذا هاهنا ، ومن هذا الباب آثار الخشوع في الصلاة ، كما قال تعالى :
{سيماهم فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} [ الفتح : 29 ] وأيضاً ظهور آثار الفكر ، روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 71}
وقال القرطبى :
وقد اختلف العلماء في تعيينها هنا ؛ فقال مجاهد : هي الخشوع والتواضع.
السُّدِّي : أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلّة النَّعمة.
ابن زيد : رَثَاثة ثيابهم.
وقال قوم وحكاه مَكِّيّ : أثر السجود.
ابن عطيّة : وهذا حسن ، وذلك لأنهم كانوا متفرّغين متوَكلِّين لا شغل لهم في الأغلب إلاَّ الصَّلاة ، فكان أثر السجود عليهم.(9/206)
قلت : وهذه السِّيما التي هي أثر السجود اشترك فيها جميع الصحابة رضوان الله عليهم بإخبار الله تعالى في آخر "الفتح" بقوله : {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [ الفتح : 29 ] فلا فرق بينهم وبين غيرهم ؛ فلم يبق إلاَّ أن تكون السيماء أثر الخصاصة والحاجة ، أو يكون أثر السجود أكثر ، فكانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار.
والله أعلم.
وأما الخشوع فذلك محله القلب ويشترك فيه الغنيّ والفقير ، فلم يبق إلاَّ ما اخترناه ، والموفق الإله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 341 ـ 342}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} فيه دليل على أن للسِّيما أثراً في اعتبار من يظهر عليه ذلك ، حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام وعَلَيْهِ زُنَّار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين ؛ ويقدّم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء ؛ ومنه قوله تعالى : {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [ محمد : 30 ].
فدلّت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزيّ في التجمّل.
واتفق العلماء على ذلك ، وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج.
فأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة ، والشافعيّ اعتبر قوت سنة ، ومالك اعتبر أربعين درهماً ؛ والشافعيّ لا يصرف الزكاة إلى المكتسب. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 340}
قوله تعالى : {لاَ يسألون الناس إلحافاً}
فائدة
قال القرطبى :
اشتقاق الإلحاف من اللّحاف ، سُمِّيَ بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف من التغطية ، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله فيُلِحفهم ذلك ؛ ومنه قول ابن أحمر :
فَظَلّ يَحُفُّهن بَقَفْقَفَيْه . . .
وَيَلْحَفُهُنّ هَفْهافَا ثَخِينَا
يصف ذكر النعام يحضُن بيضاً بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف وهو رقيق مع ثخنه.(9/207)
وروى النَّسائيّ ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفِّف اقرءوا إن شئتم {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافاً} ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ342}
فائدة
قال ابن الجوزى :
قال ابن قتيبة : لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل ، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخُبْر ، فكأنه قال : يحسبهم من لا يخبرُ أمرهم.أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 328}
فائدة
قال الآلوسى :
أخرج أبو نعيم عن فضالة بن عبيد قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى بالناس تخر رجال من قيامهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة وهم أهل الصفة حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين". وأخرج هو أيضاً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : "كان من أهل الصفة سبعون رجلاً ليس لواحد منهم رداء" والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من له حظ من الخطاب مبالغة في بيان وضوح فقرهم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 47}
فصل
قال الفخر :
الصفة الخامسة لهؤلاء الفقراء : قوله تعالى : {لاَ يسألون الناس إلحافاً} عن ابن مسعود رضي الله عنه : إن الله يحب العفيف المتعفف ، ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الذي إن أعطى كثيراً أفرط في المدح ، وإن أعطى قليلاً أفرط في الذم ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يفتح أحد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يستعفف يعفه الله تعالى ، لأن يأخذ أحدكم حبلاً يحتطب فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس ".(9/208)
واعلم أن هذه الآية مشكلة ، وذكروا في تأويلها وجوهاً الأول : أن الإلحاف هو الإلحاح والمعنى أنهم سألوا بتلطف ولم يلحوا ، وهو اختيار صاحب "الكشاف" وهو ضعيف ، لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن السؤال قبل ذلك فقال : {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف} وذلك ينافي صدور السؤال عنهم والثاني : وهو الذي خطر ببالي عند كتابة هذا الموضوع : أنه ليس المقصود من قوله {لاَ يسألون الناس إلحافاً} وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً ، وذلك لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بأنهم يتعففون عن السؤال ، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة فقد علم أيضاً أنهم لا يسألون إلحافاً ، بل المراد التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ، ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور ثابت ، والآخر طياش مهذار سفيه ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ، لا يخوض في الترهات ، ولا يشرع في السفاهات ، ولم يكن غرضك من قولك ، لا يخوض في الترهات والسفاهات وصفه بذلك ، لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك ، بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني وكذا هاهنا قوله {لاَ يسألون الناس إلحافاً} بعد قوله {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف} الغرض منه التنبيه على من يسأل الناس إلحافاً وبيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم.
الوجه الثالث : أن السائل الملحف الملح هو الذي يستخرج المال بكثرة تلطفه ، فقوله {لاَ يسألون الناس} بالرفق والتلطف ، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى فإذا امتنع القسمان فقد امتنع حصول السؤال ، فعلى هذا يكون قوله {لاَ يسألون الناس إلحافاً} كالموجب لعدم صدور السؤال منهم أصلاً.(9/209)
والوجه الرابع : هو الذي خطر ببالي أيضاً في هذا الوقت ، وهو أنه تعالى بيّن فيما تقدم شدة حاجة هؤلاء الفقراء ، ومن اشتدت حاجته فإنه لا يمكنه ترك السؤال إلا بإلحاح شديد منه على نفسه ، فكانوا لا يسألون الناس وإنما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحوا على النفس ومنعوها بالتكليف الشديد عن ذلك السؤال ، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه :
ولي نفس أقول لها إذا ما.. تنازعني لعلي أو عساني
الوجه الخامس : أن كل من سأل فلا بد وأن يلح في بعض الأوقات ، لأنه إذا سأل فقد أراق ماء وجهه ، ويحمل الذلة في إظهار ذلك السؤال ، فيقول : لما تحملت هذه المشاق فلا أرجع بغير مقصود ، فهذا الخاطر يحمله على الإلحاف والإلحاح ، فثبت أن كل من سأل فلا بد وأن يقدم على الإلحاح في بعض الأوقات ، فكان نفي الإلحاح عنهم مطلقاً موجباً لنفي السؤال عنهم مطلقاً.
الوجه السادس : وهو أيضاً خطر ببالي في هذا الوقت ، وهو أن من أظهر من نفسه آثار الفقر والذلة والمسكنة ، ثم سكت عن السؤال ، فكأنه أتى بالسؤال الملح الملحف ، لأن ظهور إمارات الحاجة تدل على الحاجة وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع به تلك الحاجة ومتى تصور الإنسان من غير ذلك رق قلبه جداً ، وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً ، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف ، فقوله {لاَ يسألون الناس إلحافاً} معناه أنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق ، فهذا الوجه أيضاً مناسب معقول وهذه الآية من المشكلات وللناس فيها كلمات كثيرة ، وقد لاحت هذه الوجوه الثلاثة بتوفيق الله تعالى وقت كتب تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 71 ـ 73}
وقال القرطبى : (9/210)
وقال قوم : إن المراد نفى الإلحاف ، أي إنهم يسألون غير إلحاف ، وهذا هو السابق للفهم ، أي يسألون غير ملحفين.
وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافاً.
روى الأئمَّة واللفظ لمسلم عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاَ تُلْحِفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فَتُخرِج له مسألُته منِّي شيئاً وأنا له كاره فيُبارَك له فيما أعطيتُه " وفي الموطأ " "عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يَسار عن رجل من بني أسد أنه قال : نزلت أنا وأهلي ببقِيع الغَرقَد فقال لي أهلي : اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله لنا شيئاً نأكله ؛ وجعلوا يذكرون من حاجتهم ؛ فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلاً يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ؛ "لا أجد ما أُعْطِيك" فتولّى الرجل عنه وهو مُغْضَب وهو يقول : لَعَمْرِي إنك لتْعْطِي من شئت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه يغضب عليّ ألاّ أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أُوقِيّة أو عِدْلُها فقد سأل إلْحافاً" " قال الأسدي : فقلت لِلَقْحَةٌ لنا خير من أوقيّة قال مالك : والأوقيّة أربعون درهماً قال : فرجعت ولم أسأله ، فقُدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا الله".
فقال ابن عبد البر : هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره ، وهو حديث صحيح ، وليس حكم الصحابيّ إذا لم يُسَمّ كحكم مَن دونه إذا لم يُسَمّ عند العلماء ؛ لارتفاع الجُرْحة عن جميعهم وثبوت العدالة لهم.
وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة ؛ فمن سأل وله هذا الحدّ والعدد والقدر من الفضة أو ما يقوم مقامها ويكون عِدْلاً منها فهو مُلْحِف ، وما علمت أحداً من أهل العلم إلاَّ وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث.(9/211)
وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله إن كان من غير الزكاة ، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً ، فإن كان من الزكاة ففيه خلاف يأتي بيانه في آية الصدقات إن شاء الله تعالى.أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 343 ـ 344}
وقال ابن عطية :
والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط ، أما الأولى فعلى أن يكون {التعفف} صفة ثابتة لهم ، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال ، وتكون {من} لابتداء الغاية ويكون قوله : {لا يسألون الناس إلحافاً} لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافاً من الناس ، كما تقول : هذا رجل خير لا يقتل المسلمين . فقولك : " خير " قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك ، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل ، وكثيراً ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجوداً في القضية مشاراً إليه في نفس المتكلم والسامع . وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة ، وهو مما يكره ، فلذلك نبه عليه .
وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون {التعفف} داخلاً في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالاً ، بل هو قليل .
وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة ، ف {من} لبيان الجنس على هذا التأويل ، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقرراً لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب ، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي ، وقال الزجّاج رحمه الله : المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف .
وهذا كما قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
عَلَى لاَحِبٍ يُهتَدَى بِمَنَارِهِ ... أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء .(9/212)
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال ألبتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا ، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه ، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية ، وأما تشبيهه الآية ببيت امرىء القيس فغير صحيح ، وذلك أن قوله : على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله الآخر : [ البسيط ] .
قِفْ بِالطُّلُولِ التي لَمْ يَعْفُهَا القدَمُ ... وقوله الشاعر : [ المتقارب ]
وَمَنْ خفْتُ جَوْرِهِ فِي القَضَا ... ء فَمَا خِفْتُ جَوْرَك يَا عَافِيهْ
وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار ، وإن كان المنار موجوداً فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط ، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم ، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور ، وهذا لا يترتب في الآية ، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني ، أي ليس ثم منار ، فإذاً لا يكون اهتداء بمنار ، وليس ثم قدم فإذاً لا يكون عفا ، وليس ثم جور فإذاً لا يكون خوف ، وقوله تعالى : {لا يسألون الناس إلحافاً} ، لا يترتب فيه شيء من هذا ، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره ، ثم خصص بقوله : {إلحافاً} جزءاً من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال ، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم ، والسؤال ليس هكذا مع الألحاف ، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه ، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالاً لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة ، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال ، كأنك قلت تكسباً أو نحوه لصح الشبه ، والله المستعان. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 370}
فائدة لغوية
قال أبو حيان :
{يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}.(9/213)
قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، بفتح السين حيث وقع ، وهو القياس ، لأن ماضيه على فَعِلَ بكسر العين.
وقرأ باقي السبعة بكسرها ، وهو مسموع في ألفاظ ، منها : عمد يعمد ويعمد ، وقد ذكرها النحويون ، والفتح في السين لغة تميم ، والكسر لغة الحجاز ، والمعنى : أنهم لفرط انقباضهم ، وترك المسألة ، واعتماد التوكل على الله تعالى ، يحسبهم من جَهِلَ أحوالهم أغنياء ، و: من ، سببية ، أي الحامل على حسبانهم أغنياء هو تعففهم ، لأن عادة من كان غني مال أن يتعفف ، ولا يسأل ، ويتعلق ، بيحسبهم وجر المفعول له هناك بحرف السبب ، لانخرام شرط من شروط المفعول له من أجله وهو اتحاد الفاعل ، لأن فاعل يحسب هو : الجاهل ، وفاعل التعفف هو : الفقراء.
وهذا الشرط هو على الأصح ، ولو لم يكن هذا الشرط منخرماً لكان الجر بحرف السبب أحسن في هذا المفعول له ، لأنه معرف بالألف واللام ، وإذا كان كذلك فالأكثر في لسان العرب أن يدخل عليه حرف السبب ، وإن كان يجوز نصبه ، لكنه قليل كما أنشدوا.
لا أقعد الجبن عن الهيجاء . . .
أي : للجبن ، وإنما عرف المفعول له ، هنا لأنه سبق منهم التعفف مراراً ، فصار معهوداً منهم.
وقيل : من ، لابتداء الغاية ، أي من تعففهم ابتدأت محسبته ، لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غنى تعفف ، وإنما يحسبهم أغنياء مال ، فمحسبته من التعفف ناشئة ، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة من المسألة ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، وكونها للسبب أظهر ، ولا يجوز أن تتعلق : من ، بأغنياء ، لأن المعنى يصير إلى ضد المقصود ، وذلك أن المعنى : حالهم يخفى على الجاهل به ، فيظن أنهم أغنياء ، وعلى تعليق : من ، بأغنياء يصير المعنى : أن الجاهل يظن أنهم أغنياء ، ولكن بالتعفف ، والغني بالتعفف فقير من المال ، وأجاز ابن عطية أن تكون : من ، لبيان الجنس ، قال : يكون التعفف داخلاً في المحسبة ، أي : أنهم لا يظهر لهم سؤال ، بل هو قليل.(9/214)
وبإجمال فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة.
فمن ، لبيان الجنس على هذا التأويل. انتهى.
وليس ما قاله من أن : من ، هذه في هذا المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه في بيان الجنس ، لأن لها اعتباراً عند من قال بهذا المعنى لمن يتقدّر بموصول ، وما دخلت عليه يحصل خبر مبتدأ محذوف ، نحو : {فاجتنبوا الرجز من الأوثان} التقدير : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.
ولو قلت هنا : يحسبهم الجاهل أغنياء الذي هو التعفف ، لم يصح هذا التقدير ، وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس ، أي : بينت بأي جنس وقع غناهم بالتعفف ، لا غنى بالمال.
فتسمى : من ، الداخلة على ما يبين جهة الغنى لبيان الجنس ، وليس المصطلح عليه كما قدمناه ، وهذا المعنى يؤول إلى أن من سببية ، لكنها تتعلق : بأغنياء ، لا : بـ {يحسبهم} ، ويحتمل أن يكون : يحسبهم ، جملة حالية ، ويحتمل أن يكون مستأنفة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 342}
سؤال : فإن قيل : فهل كانوا يسألون غير إلحاف ؟
قيل : لا ؛ لأنهم كانوا أغنياء من التعفف ، وإنما تقدير الكلام لا يسألون فيكون سؤالهم إلحافاً. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 346 ـ 347}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : {لا يسألون الناس إلحافاً} بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بياناً ثانياً ، لكيفية حُسبانهم أغنياء في أنّهم لا يسألون الناس.
وكان مُقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلاّ أنّه أخّر للاهتمام بما سبقه من الحقّ على توسّم احتياجهم بأنّهم محصرون لا يستطيعون ضرباً في الأرض لأنّه المقصود من سياق الكلام.
فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئاً من الحثّ على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلاّ وقد جاء به ، وأظهر به مزيد الاعتناء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 76}(9/215)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : إلْحَاحًا وَإِدَامَةً لِلْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا وَإِدَامَتُهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُمْ الْمَسْأَلَةَ رَأْسًا ؟ قِيلَ لَهُ : فِي فَحَوَى الْآيَةِ وَمَضْمُونِ الْمُخَاطَبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَسْأَلَةِ رَأْسًا ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} فَلَوْ كَانُوا أَظْهَرُوا الْمَسْأَلَةَ ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ إلْحَافًا لَمَا حَسِبَهُمْ أَحَدٌ أَغْنِيَاءَ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {مِنْ التَّعَفُّفِ} لِأَنَّ التَّعَفُّفَ هُوَ الْقَنَاعَةُ وَتَرْكُ الْمَسْأَلَةِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعَفُّفَ هُوَ تَرْكُ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ}.
وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيِ أَنَّ ثِيَابَ الْكِسْوَةِ لَا تَمْنَعُ أَخْذَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَتْ سِرِّيَّةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمَسْكَنِ وَالْأَثَاثِ وَالْفَرَسِ وَالْخَادِمِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَاجَةً مَاسَّةً فَهُوَ غَيْرُ غَنِيٍّ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْغِنَى هُوَ مَا فَضَلَ عَنْ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 181 ـ 182}(9/216)
وقال ابن العربى :
{إلْحَافًا} مَعْنَاهُ الشُّمُولُ بِالْمَسْأَلَةِ إمَّا لِلنَّاسِ ، وَإِمَّا فِي الْأَمْوَالِ ؛ فَيَسْأَلُ مِنْ النَّاسِ جَمَاعَةً ، وَيَسْأَلُ مِنْ الْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَبِنَاءُ " لُحِفَ " لِلشُّمُولِ ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ ؛ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَشْتَمِلُ بِهِ ، وَنَحْوُهُ الْإِلْحَاحُ ؛ يُقَالُ : أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إذَا شَمِلَ رِجَالًا أَوْ مَالًا ، وَأَلَحَّ فِيهَا إذَا كَرَّرَهَا.
وَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْحَيِيَّ الْغَنِيَّ النَّفْسِ الْمُتَعَفِّفَ ، وَيُبْغِضُ الْغَنِيَّ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ}.
وَلَمْ يَصِحَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ ، وَلَا عُرِفَ لَهُ سَنَدٌ ، لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ ، فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا كَارِهٌ فَيُبَارِكُ اللَّهُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ}.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ : {نَزَلْت أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ ، فَقَالَ لِي أَهْلِي : اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ فَذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْت عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيك.(9/217)
فَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ ، وَهُوَ يَقُولُ : لَعَمْرُك إنَّك لَتُعْطِي مَنْ شِئْت ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَلَّا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا.
فَقَالَ الْأَسَدِيُّ : لَلَقْحَةٌ لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ}.
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَهُوَ مُلْحِفٌ}.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُلْحِفَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ الرَّجُلَ بَعْدَمَا رَدَّهُ عَنْ نَفْسِهِ ، أَوْ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ عَنْ السُّؤَالِ ، إلَّا أَنْ يَسْأَلَ زَائِدًا عَلَى مَا عِنْدَهُ ، وَيُغْنِيهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ.
وَسَمِعْت بِجَامِعِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ رَجُلًا يَقُولُ : هَذَا أَخُوكُمْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ مَعَكُمْ ، وَلَيْسَ لَهُ ثِيَابٌ يُقِيمُ بِهَا سُنَّةَ الْجُمُعَةِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى رَأَيْت عَلَيْهِ ثِيَابًا جُدُدًا ، فَقِيلَ لِي : كَسَاهُ إيَّاهَا فُلَانٌ لِأَخْذِ الثَّنَاءِ بِهَا.
وَيُكَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ إذَا رَدَّهُ الْمَسْئُولُ وَالسَّائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا سَأَلَهُ إيَّاهُ أَوْ جَاهِلٌ بِحَالِهِ ، فَيُعِيدُ عَلَيْهِ السُّؤَالَ إعْذَارًا أَوْ إنْذَارًا ثَلَاثًا لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 318 ـ 319}(9/218)
فوائد ونفائس جليلة
قال القرطبى :
قال ابن عبد البر : مِن أحسن ما رُوي من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الوَرَع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحِل قال : إذا لم يكن عنده ما يُغذِّيه ويُعَشِّيه على حديث سهل بن الحَنْظَلِيّة.
قيل لأبي عبد الله : فإن اضطر إلى المسألة ؟ قال : هي مباحة له إذا اضطر.
قيل له : فإن تعفّف ؟ قال : ذلك خير له.
ثم قال : ما أظن أحداً يموت من الجوع! الله يأتيه برزقه.
ثم ذكر حديث أبي سعيد الخُدْرِي : " مَنِ استعف أعفّه الله " وحديث أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : "تعفف" ، قال أبو بكر : سمعته يسأل عن الرجل لا يجد شيئاً أيسأل الناس أم يأكل الميتة ؟ فقال : أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله ، هذا شنيع.
قال : وسمعته يسأله هل يسأل الرجل لغيره ؟ قال لا ، ولكن يُعَرِّض. كما. " قال النبيّ صلى الله عليه وسلم حين جاءه قوم حُفَاة عُراة مُجْتَابِي النِّمار فقال : "تصدّقوا" " ولم يقل أعطوهم.
قال أبو عمر : قد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " اشفعوا تُؤجَرُوا " وفيه إطلاق السؤال لغيره.
والله أعلم.
وقال : "ألاَ رجلٌ يتصدّق على هذا" ؟ قال أبو بكر : قيل له يعني أحمد بن حنبل فالرجل يذكر الرجل فيقول : إنه محتاج ؟ فقال : هذا تعريض وليس به بأس ، وإنما المسألة أن يقول أعطه.
ثم قال : لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره ؟ والتعريض هنا أحبّ إليّ.
قلت : قد روى أبو داود والنَّسائي وغيرهما : " أن الفراسيّ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أسأل يا رسول الله ؟ قال : "لا وإن كنتَ سائلاً لا بُدّ فأسأل الصالحين" " فأباح صلى الله عليه وسلم سؤال أهل الفضل والصلاح عند الحاجة إلى ذلك ، وإن أوقع حاجته بالله فهو أعلى.(9/219)
قال إبراهيم بن أَدْهم : سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى ، فأنزْل حاجتك بمن يملك الضُّرَّ والنّفْع ، وليكن مَفْزَعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسروراً. أ هـ .
وقال القرطبى أيضا :
فإن جاءه شيء من غير سؤال فله أن يقبله ولا يردّه ، إذ هو رزق رزقه الله.
روى مالك عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار :
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فردّه ، فقال له رسول الله : "لِم رَددته" ؟ فقال : يا رسول الله ، أليس أخبرتنا أن أحدنا خير له ألاَّ يأخذ شيئاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما ذاك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله" " فقال عمر بن الخطاب : والذي نفسي بيده لا أسأل أحداً شيئاً ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلاَّ أخذتُه. وهذا نصٌّ.
وخرج مسلم في صحيحه والنسائيّ في سننه وغيرهما " عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعطيني العطاءَ فأقول : أَعْطِه أفقرَ إليه مِنِّي ، حتى أعطاني مرّة مالاً فقلت : أعْطِهِ أفقَر إليه منّي ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خُذْه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مُشْرِفٍ ولا سائِلٍ فخذه وَمَالا فَلا تُتبِعه نفْسَك" " زاد النسائي بعد قوله "خذه" " فتموّلْه أو تصدّق به " وروى مسلم من حديث عبد الله بن السَّعْدِيّ المالكيّ : عن عمر فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أعطِيت شيئاً من غير أن تسأل فكُلْ وتصدّق " وهذا يصحح لك حديث مالك المُرْسَل.
قال الأَثْرَم : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف " أيّ الإشراف أراد ؟ فقال : أن تستشرفه وتقول : لعلّهُ يُبعث إليّ بقلبك.
قيل له : وإن لم يتعرّض ، قال نعم إنما هو بالقلب.
قيل له : هذا شديد! قال : وإن كان شديداً فهو هكذا.(9/220)
قيل له : فإن كان الرجل لم يعوّدني أن يرسل إليّ شيئاً إلاَّ أنه قد عرض بقلبي فقلت : عسى أن يبَعث إليّ.
قال : هذا إشراف ، فأما إذا جاءك من غير أن تحتسبه ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف.
قال أبو عمر : الإشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع عنده والمطموع فيه ، وأن يَهَشّ الإنسان ويتعرّض.
وما قاله أحمد في تأويل الإشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد ؛ لأن الله عزّ وجلّ تجاوز لهذه الأُمّة عما حدّثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة.
وأما ما اعتقده القلب من المعاصي لا خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل به ؛ وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع. أ هـ
وقال رحمه الله :
الإلحاح في المسألة والإلحاف فيها مع الغنى عنها حرام لا يحلّ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل الناس أموالَهم تكثُّراً فإنما يسأل جَمْراً فليَسْتَقِلّ أوْ لِيَسْتَكْثِرْ " رواه أبو هريرة خرّجه مسلم.
وعن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
" لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقَى الله وليس في وجهه مُزْعَةُ لحم " رواه مسلم أيضاً. أ هـ
وقال عليه الرحمه :
السائل إذا كان محتاجاً فلا بأس أن يكرر المسألة ثلاثاً إعذاراً وإنذاراً والأفضل تركه.
فإن كان المسؤول يعلم بذلك وهو قادر على ما سأله وجب عليه الإعطاء ، وإن كان جاهلاً به فيعطيه مخافة أن يكون صادقاً في سؤاله فلا يفلح في ردّه. أ هـ
وقال أيضا :
فإن كان محتاجاً إلى ما يُقيم به سُنّةً كالتجمّل بثوب يلبسه في العيد والجمعة فذكر ابن العربيّ ؛ "سمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلاً يقول : هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس عنده ثياب يُقيم بها سُنّة الجمعة.
فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثياباً أُخر ، فقيل لي : كساه إياها أبو الطاهر البرسني أَخْذَ الثناء". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 344 ـ 346}(9/221)
فائدة
قال ابن العربى :
الْوَاجِبُ عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ كَانَ إمَامًا أَوْ مَالِكًا أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَالَ النَّاسِ ، فَمَنْ عَلِمَ فِيهِ صَبْرًا عَلَى الْخَصَاصَةِ وَتَحَلِّيًا بِالْقَنَاعَةِ آثَرَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ ، فَرُبَّمَا وَقَعَ فِي التَّسَخُّطِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : {إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ}. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 318}(9/222)
قوله تعالى {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}
قال الفخر :
واعلم أنه تعالى ذكر صفات هؤلاء الفقراء ، ثم قال بعده {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} [ البقرة : 273 ] وهو نظير ما ذكر قبل هذه الآية من قوله {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [ البقرة : 272 ] وليس هذا من باب التكرار وفيه وجهان أحدهما : أنه تعالى لما قال : {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} وكان من المعلوم أن توفية الأجر من غير بخس ونقصان لا يمكن إلا عند العلم بمقدار العمل وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب لا جرم قرر في هذه الآية كونه تعالى عالماً بمقادير الأعمال وكيفياتها.
والوجه الثاني : وهو أنه تعالى لما رغب في التصدق على المسلم والذمي ، قال : {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} بين أن أجره واصل لا محالة ، ثم لما رغب في هذه الآية في التصدق على الفقراء الموصوفين بهذه الأوصاف الكاملة ، وكان هذا الإنفاق أعظم وجوه الإنفاقات ، لا جرم أردفه بما يدل على عظمة ثوابه فقال : {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} وهو يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته : ما يكفيك بأن يكون علي شاهداً بكيفية طاعتك وحسن خدمتك ، فإن هذا أعظم وقعاً مما إذا قال له : إن أجرك واصل إليك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 73}
وقال ابن عاشور :
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}.
أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعَة ، وقوله : {فإن الله به عليم} كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنّى به عن أثره كثيراً ، فلما كان الإنفاق مرغّباً فيه من الله ، وكان عِلم الله بذلك معروفاً للمسلمين ، تعيَّن أن يكون الإخبارُ بأنّه عليم به أنّه عليم بامتثال المنفق ، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليماً به ، لأنّه قدير عليه.(9/223)
وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنّه نفع للمنفِق ، وصلة بينه وبين ربّه ، ونوال الجزاء من الله ، وأنّه ثابت له في علم الله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 76 ـ 77}
لطيفة
قال الثعالبى :
ينبغى للفقيرِ أنْ يتعفّف في فَقْره ، ويكتفي بعلْمِ ربِّه ، قال الشيخُ ابن أبي جَمْرة : وقد قال أهْلُ التوفيق : مَنْ لَمْ يَرْضَ باليسيرِ ، فهو أسير. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 222}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله . . .}.
قال الزمخشري : أي اعمدوا للفقراء أو جعلوا ما تنفقون للفقراء.
ويجوز أن يكون خبر متبدإ ( محذوف ) أي صدقاتكم للفقراء.
قال ابن عرفة : المقدرات باعتبار المعنى متفقة وباعتبار كيفية الدليل مختلفة " وَسَبِيلِ اللهِ " قال مالك في كتاب الحبس : هو وجوه الخير. بالإطلاق كيف ما كانت.
وقال ابن عبد البر : المشهور عن مالك أنه الجهاد.
قوله تعالى : {أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف . . .}.
ولم يقل : من تعفّفهم إشارة إلى اتصافهم بأبلغ وجوه التعفف لأن تعفف المحتاج ( المضطر ) إلى المسألة ليس كتعفف من لم تبلغ به الحاجة إلى السؤال فأفاد أن هؤلاء لم يتّصفوا بتعفّفهم اللائق بهم بل اتصفوا بالتعفف الإجمالي.
قوله تعالى : {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ}.
الخطاب له ولغيره.
قوله تعالى : {لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافاً . . .}.
ونقل هنا ابن عرفة كلام المفسرين ثم قال : ويحتمل أن يكون مثل {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي لو قدر صدور السؤال منهم لما قدر وقوعه إلا بالإلحاف لأجل ما نالهم من الجهد والحاجة ، ويحتمل أن يكون مثل قول الله تعالى {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} فيكون من باب ( نفي ) استلزام الأخص أمرا وإذا لم يستلزم الأخص أمرا لم يستلزمه الأعم.(9/224)
والمعنى : لا يسألون الناس لأجل الإلحاف ( في السؤال ) أي لأجل سبب الإلحاف وهو شدة الحاجة وإذا لم يسألوهم لأجل شدة الحاجة فأحرى أن لا يسألوهم لأجل سبب عدم الإلحاف وهو مطلق الحاجة فقط.
قال الفخر بن الخطيب يحتمل أن يراد بالإلحاف ( تأكيد ) صبرهم.
قال ابن عرفة : ينبغي أن يوقف على قوله : {لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافاً} مصدر ، أي يلحفون إلحافا ، أي يبلغون في شدة صبرهم وتجلدهم على الفقر. انتهى.
قوله تعالى : {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}.
قال ابن عرفة : قالوا : إن العبد يفرق بين حالة طاعته لسيده وهو حاضر ينظر إليه وبين حالة طاعته له في غيبته فمع الحضور يجتهد أكثر.
قيل لابن عرفة : إذا بنينا على مذهب أهل السنّة في التفريق بين ( عليم وبصير ) فيرد السؤال على ما قلت ، فيقال : هلا قيل : فَإنّ اللهَ بِه بصير فهو أخص من ( عليم ) خلافا للمعتزلة ؟ فقال : الآية خطاب للعوام لا للخواص وصفة العلم عندهم ( أجلى ) إذ لا خلاف فيها ، بخلاف بصير فإنّ منهم من ردّه لعليم ومنهم من أبقاه على ظاهره. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 151}
لطيفة
كان عبد الله بن المبارك يصرف مصروفه لأهل العلم ، ويقول : إني لا أعرف بعد النبوة أفضل من العلماء ، فإذا اشتغل قلب أحدهم بالحاجة والعيلة لم يتفرغ للعلم ، ولا يقبل على تعليم الناس ، فرأيت أن أكفيهم أمر الدنيا ؛ لأفرغهم للعلم ، فهو أفضل. أ هـ . والله تعالى أعلم. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 233}(9/225)
من فوائد ابن القيم فى الآية
قال رحمه الله :
ذكر المصرف الذي توضع فيه الصدقة فقال تعالى {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} فوصفهم بست صفات إحداها الفقر
الثانية حبسهم أنفسهم في سبيله تعالى وجهاد أعدائه ونصر دينه
وأصل الحصر المنع فمنعوا أنفسهم من تصرفها في أشغال الدنيا وقصروها على بذلها لله في سبيله
الثالثة عجزهم عن الأسفار للتكسب والضرب في الأرض هو السفر قال تعالى {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} وقال تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}
الرابعة شدة تعففهم وهو حسن صبرهم وإظهارهم الغنى حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من تعففهم وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم
الخامسة أنهم يعرفون بسيماهم وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم الله بها وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنهم أغنياء لأن الجاهل له ظاهر الأمر والعارف هو المتوسم المتفرس الذي يعرف الناس بسيماهم فالمتوسمون خواص المؤمنين كما قال تعالى {إن في ذلك لآيات للمتوسمين}
السادسة تركهم مسألة الناس فلا يسألونهم والإلحاف هو الإلحاح والنفي متسلط عليهما معا أي لا يسألون ولا يلحفون فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف وهذا كقوله :
على لاحب لا يهتدي لمناره أي ليس فيه منار فيهتدي به وفيه كالتنبيه على أن المذموم من السؤال هو سؤال الإلحاف فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم
فهذه ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غير حقيقته وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها ومن يعرفهم أعززه والله يختص بتوفيقه من يشاء فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم. أ هـ {طريق الهجرتين صـ 557 ـ 558}(9/226)
فروق لغوية دقيقة
الفرق بين الفقر والمسكنة
أن الفقر في ما قال الأزهري في تأويل قوله تعالى ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل ومثله عن ابن عباس والحسن وجابر بن زيد ومجاهد وهو قول أبي حنيفة وهذا يدل على أنه رأى المسكين أضعف حالا وأبلغ في جهة الفقر ويدل عليه قوله تعالى ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) إلى قوله تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) فوصفهم بالفقر وأخبر مع ذلك عنهم بالتعفف حتى يحسبهم الحاهل بحالهم أغنياء من التعفف ولا يحسبهم أغنياء إلا ولهم ظاهر جميل وعليهم برة حسنة وقيل لأعرابي أفقير أنت فقال بل مسكين وأنشد من البسيط
( أما الفقير الذي كانت حلوبته
وفق فلم يترك له سبد )
فجعل للفقير حلوبة المسكين الذي لا شيء له فأما قوله تعالى ( فكانت لمساكين يعملون في البحر ) فأثبت لهم ملك سفينة وسماهم مساكين فإنه روي أنهم كانوا أجراء فيها ونسبها إليهم لتصرفهم فيها
والكون فيها كما قال تعال ( لا تدخلوا بيوت النبي ) ثم قال ( وقرن في بيوتكن ) وعن أبي حنيفة في من قال مالي للفقراء والمساكين أنهما صنفان وعن أبي يوسف أن نصف المال لفلن ونصفه للفقراء والمساكين وهذا يدل على أنه جعلهما صنفا واحدا والقول قول أبي حنيفة ويجوز أن يقال المسكين هو الذي يرق له الإنسان إذا تأمل حاله وكل من يرق له الإنسان يسميه مسكينا
الفرق بين الفقر والإعدام
أن الإعدام أبلغ في الفقر وقال أهل اللغة المعدم الذي لا يجد شيئا وأصله من العدم خلاف الوجود وقد أعدم كانه صار ذا عدم وقيل في خلاف الوجود عدم للفرق بين المعنيين ولم يقل عدمه الله وإنما قيل أعدمه الله وقيل في خلافه قد وجد ولم يقل وجده الله وإنما قيل أوجده الله وقال بعضهم الإعدام فقر بعد غنى
الفرق بين الفقير والمصرم(9/227)
أن المصرم هو الذي له صرمة والصرمة الجماعة القليلة من الإبل ثم كثر ذلك حتى سمي كل قليل الحال مصرما وإن لم تكن له صرمة
الفرق بين الفقير والمملق
أن المملق مشتق من الملق وهو الخضوع والتضرع ومنه قيل للأجمة المفترشة ملقه والجمع ملقات فلما كان الفقير في أكثر الحال خاضعا متضرعا سمي مملقا ولا يكون غإلا بعد غنى كانه صار ذا ملق كم تقول أطفلت المرأة إذا صار لها طفل ويجوز أن يقال إن الإملاق نقل إلى عدم التمكن من النفقة على العيال ولهذا قال
الله تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) أي خشية العجز عن النفقة عليهم
الفرق بين الخلة والفقر
أن الخلة الحاجة والمختل المحتاج وسمت الحالجة خلة لاختلال الحال بها كأنما بها خلل يحتاج إلى سدة والخلة أيضا الخصلة التي يختل إليها أي يحتاج والخلة المودة التي تتخل الإسرار معها بين الخليلين وسمي الطريق في الرمل خلا لأنه يتخلل لانعراجه والخل الذي يصطبغ به لأنه يتخل ما عين فيه بلطفه وحدته وخللت الثوب خلا وخللا وجمع الخلل خلال وفي القرآن ( فترى الودق يخرج من خلاله ) والخلا ما يخل به الثوب وما يخرج به الشيء من خلل الأسنان فالفقر أبلغ من الخلة لأن الفقر ذهاب المال والخلة الخلل في المال
الفرق بين الفقر والحاجة
أن الحاجة هي النقصان ولهذا يقال الثوب يحتاج إلى خزمة وفلان يحتاج إلى عقل وذلك إذا كان ناقصا ولهذا قال المتكلمون الظلم لا يكون إلا من جهل أو حاجة أي من جهل بقبحه أو نقصان زاد جبره بظلم الغير والفقر خلاف الغنى فأما قولهم فلان مفتقر إلى عقل فهو استعارة ومحتاج إلى عقل حقيقة
وما يخالف الحظ الحرمان والحرمان
الفرق بينهما
أن الحرمان عدم الظفر بالمطلوب عند السؤال يقال سأله فحرمه والحرف عدم الوصول إلى المنافع من جهة الصنائع يقال للرجل إذا لم يصل إلى إحراز المنافع في صناعته إنه محارف وقد يجعل المحروم خلاف المرزوق في الجملة فيقال هذا محروم وهذا مرزوق(9/228)
القرق بين الفقير والبائس
قال مجاهد وغيره البائس الذي يسأله بيده قلنا وإنما سمي من هذه بائسا لظهور أثر البؤس عليه بمد يده للمسألة وهو على جهة المبالغة في الوصف له بالفقر وقال بعضهم هو بمعنى المسكين لأن المسكين هو الذي يكون في نهاية الفقر قد ظهر عليه السكون للحاجة وسوء الحال هو الذي يجد شيئا. أ هـ {الفروق فى اللغة صـ 150 ـ 151}(9/229)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ } الآية : في تعلُّق هذا الجارِّ خمسة أوجهٍ :
أحدها : - وهو الظاهر - أنه متعلِّق بفعل مقدرٍ ، يدلُّ عليه سياق الكلام ، واختلفت عبارات المعربين فيه ، فقال مكي - ولم يذكر غيره - : " أَعْطُوا لِلْفقراءِ " ، وفي هذا نظرٌ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى ، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل : إمَّا بتقدُّم معموله كقوله تعالى : { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] ، وإمَّا لكونه فرعاً؛ نحو قوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ويبعد أن يقال : لمَّا أُضمر العاملن ضعف؛ فقوي باللام ، على أنَّ بعضهم يجيز ذلك ، وإن لم يضعف العامل ، وجعل منه { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقدَّره أبو البقاء : " اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ " وفيه نظرٌ ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب. وقدَّره الزمخشريُّ : " اعْمدُوا ، أو اجعلوا ما تُنْفقون للفقراء " والأحسن من ذلك ما قدَّره مكي ، لكن فيه ما تقدَّم.
الثاني : أنَّ هذا الجارَّ خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء ، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأنهم لما حثُّوا على الصدقات ، قالوا : فلمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء ، وفيها بيان مصرف الصَّدقات. وهذا اختيار ابن الأنباري.
الثالث : أنَّ اللام تتعلَّق بقوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ الصدقات } [ البقرة : 271 ] وهو مذهب القفَّال ، واستبعده الناس؛ لكثرة الفواصل.
(9/230)
الرابع : أنه متعلِّقٌ بقوله تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } وفي هذا نظرٌ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب ، فيصير نظير قولك : مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صرَّح الواحديُّ بالمنع من ذلك ، معلِّلاً بما ذكرناه ، فقال : وَلاَ يجوزُ أن يكون العاملُ في هذه اللام " تنفقوا " الأخير في الآية المتقدمة الكريمة؛ لأنه لا يفصل بين العامل ، والمعمول بما ليس منه ، كما لا يجوز : " كانَتْ زَيْداً الحُمَّى تأخُذُ ".
الخامس : أنَّ " للفقراء " بدلٌ من قوله : " فلأَنْفُسِكُمْ " ، وهذا مردودٌ؛ قال الواحدي ، وغيره : " لأنَّ الإنفاق من حيث هو واصلٌ إليهم ، وليس من باب { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] ؛ لأنَّ الأمر لازمٌ للمستطيع خاصةً " قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : يعني أنَّ الفقراء ليست هي الأنفس ، ولا جزاءً منها ، ولا مشتملةً عليها ، وكأن القائل بذلك توهَّم أنه من باب قوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] في أحد التأويلين.
قوله : { فِي سَبِيلِ } في هذا الجار وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بالفعل قبله؛ فيكون ظرفاً له.
والثاني : أن يكون متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من مرفوع " أُحصروا " ، أي : مستقرين في سبيل الله. وقدَّره أبو البقاء بمجاهدين في سبيل الله ، فهو تفسير معنًى لا إعراب؛ لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّق إلا بالكون المطلق.
قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض } في هذه الجملة احتمالان :
أظهرهما : أنها حالٌ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه " الفقراء " ، وثانيهما : أنه مرفوع " أُحْصِرُوا ".
(9/231)
والاحتمال الثاني : أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب؛ و" ضَرْباً " مفعولٌ به ، وهو هنا السفر للتجارة؛ قال : [ الوافر ]
لَحِفْظُ المَالِ أَيْسَرُ مِنْ بَقَاهُ... وَضَرْبٌ في البِلاَدِ بِغَيْرِ زَادِ
ويقال : ضَرَبْتُ في الأَرْضِ ضَرْباً ، ومَضْرِباً ، أي : سرتُ.
فصل في بيان عدم الاستطاعة في الآية
عدم استطاعتهم : إمَّا أن يكون لاشتغالهم بصلاح الدِّين ، بأمر الجهاد؛ فيمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة ، وإمَّا لخوفهم من الأعداء ، وإمَّا لمرضهم ، وعجزهم؛ وعلى جميع الوجوه فلا شكَّ في احتياجهم إلى من يعينهم.
الصفة الثالثة : قوله : { يَحْسَبُهُمُ } يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف ، وكذلك ما بعدها.
قوله : { مِنَ التعفف } في " مِنْ " هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها سببيةٌ ، أي : سَبَبُ حُسْبَانِهم أغنياء تعفُّفهم ، فهو مفعولٌ من أجله ، وجرُّه بحرف السبب هنا واجبٌ ، لفقد شرطٍ من شروط النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، وذلك أنَّ فاعل الحسبان الجاهل ، وفاعل التعفُّف هم الفقراء ، ولو كان هذا المفعول له مستكملاً لشروط النصب ، لكان الأحسن جرَّه بالحرف؛ لأنه معرَّفٌ بأل ، وقد تقدَّم أنَّ جرَّ هذا النوع أحسن من نصبه؛ نحو : جئت للإكرام ، وقد جاء نصبه؛ قال القائل : [ الرجز ]
لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ... وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرَ الأَعْدَاءِ
والثاني : أنها لابتداء الغاية ، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم ، نشأت من تعفُّفهم؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ ، إنما يحسبه غنى مالٍ ، فقد نشأت محسبته من تفُّفهم ، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام.
(9/232)
والثالث : أنها لبيان الجنس ، وإليه نحا ابن عطية ، قال : يكون التعففُ داخلاً في المحسبة ، أي : إنه لا يظهر لهم سؤالٌ ، بل هو قليلٌ ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه ، ف " مِنْ " لبيان الجنس على هذا التأويل.
قال أبو حيَّان : " وليس ما قالَه مِنْ أنَّ " مِنْ " هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر " مِنْ بموصولٍ ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف؛ كقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] يصح أن يقال : الذي هو الأوثان ، ولو قلت هنا : " يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف " لم يصحَّ هذا التقدير؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس ، أي : بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم ، أي : غناهم بالتعفف لا غنى بالمال ، فسمَّى " مِنْ " الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس ، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه ، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ " مِنْ " سببية ، لكنها تتعلق بأغنياء ، لا بيحسبهم ". انتهى.
وتتعلَّق " مِنْ " على الوجهين الأولين بيحسبهم. قال أبو البقاء رحمه الله : " ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى " أغْنِياء " ؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود ، وذلك أنَّ معنى الآية : أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم؛ فيظنُّهم أغنياء ، ولو علِّقت بأغنياء ، صار المعنى ، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء ، ولكن بالتعفف ، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال ". انتهى ، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثاً.
وأما على الوجه الثالث - وهو كونه لبيان الجنس - فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء؛ لأن المعنى يعود إليه ، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان ، وعلى الجملة : فكونها لبيان [ الجنس ، قلق المعنى ].
(9/233)
قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } في نصبه " إلحافاً " ثلاثة أوجه :
أحدها : نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر ، أي : يلحفون إلحافاً ، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل " يَسْألون ".
والثاني : أن يكون مفعولاً من أجله ، أي : لا يسألون؛ [ لأجل الإلحاف.
والثالث : أن يكون مصدراً في موضع الحال ، تقديره : لا يسألون ] ملحفين. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 431 ـ 438}. بتصرف.(9/234)
من لطائف العلامة الفيروزابادى
قال رحمه الله :
الفقر : ضدّ الغِنى.
ووقع فى القرآن لفظ الفقر فى أَربعة مواضع :
أَحدها - قوله تعالى : {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} ، أَى الصَّدقاتُ لهؤلاءِ ، وكان فقراءُ المهاجرين نحو أَربعمائة لم يكن لهم مساكن فى المدينة ولا عشائر ، وكانوا قد حبسوا أَنفسَهم على الجهاد ، وكانوا وَقْفاً على كلِّ سريَّه يبعثها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهم أَهل الصُّفَّة. هذا أَحد الأَقوال [فى] إِحصارهم فى سبيل الله. وقيل : هو حبْسهم أَنفسهم فى طاعة الله. وقيل : حَبَسهم الفقر والعُدْم عن الجهاد. وقيل : لَمَّا عادَوا أَعداء الله وجاهدوهم أُحصِروا عن الضرب فى الأَرض لطلب المعاش ، فلا يستطيعون ضرباً فى الأَرض. والصَّحيح أَنه لفقرهم وعجزهم وضعفهم لا يستطيعون ضرباَ فى الأَرض ، ولِكمَال عفَّتهم وصيانتهم يحسبهم من لم يعرف حالهم أَغنياء.
والموضع الثانى - قوله تعالى : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية.
والموضع الثالث - قوله تعالى : {ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ}.
والموضع الرابع - قال الله تعالى : {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.
والصّنف الأَول خواصّ الفقراءِ ، والثَّانى فقراءُ المسلمين خاصّهم وعامّهم ، والثالث الفقر العامّ لأَهل الأَرض كلِّهم غنيّهم وفقيرهم ، مؤمِنهم وكافرهم. والرابع الفقر إِلى الله المشار إِليه بقوله : "اللَّهم أَغْنِنى بالافتقار إِليك". وبهذا أَلَمَّ الشاعر :
*ويعجبنى فقرى إِليك ولم يكن * ليعجبنى لولا محبَّتُك الفقرُ*(9/235)
والفقراءُ الموصوفون فى الآية الأُولى يقابلهم أَصحاب الجِدَة ، ومن ليس محصَرًا فى سبيل الله ، ومن لم يكتم فقرًا وضعفاً. فمقابلهم أَكثر من مقابل الصّنف الثانى. والصّنف الثانى يقابل أَصحاب الجِدَة ، ويدخل فيهم المتعفِّف وغيره ، والمحصَر وغيره. والصَّنف الثالث لا مقابل لهم ، بل الله وحده الغنىّ وكلُّ ما سواه فقير إِليه.
ومراد المشايخ بالفقر شىء أَخصُّ من هذه كلّها وهو الافتقار إِلى الله فى كلِّ حالة. وهذا المعنى أَجلّ من أَن يسمَّى فقرًا ، بل هو حقيقة العبوديَّة ولُبّها ، وعَزْل النفس عن مزاحمة الرُّبوبيَّة.(9/236)
وسئل عنه يحيى بن مُعَاذ الرازىّ فقال : حقيقته أَلاَّ يستغنى إِلاَّ بالله ، ورَسْمه عدم الأَسباب كلّها. وقال بعض المشايخ : الفقر سرّ لا يضعه الله إِلاَّ عند من يحبّه ، ويسوقه إِلى مَن يريد. وقال : رُوَيم : إِرسال النَّفس فى أَحكام الله. وسئل أَبو حفص بم يقدَم الفقير على ربِّه ؟ فقال : ما للفقير أَن يقدَم به على ربّه سوى فقره. وسئل بعضهم : متى يستحق الفقير اسم الفقر ؟ قال إِذا لمّ [يبق] عليه منه بقيّة. فقيل له : وكيف ذاك ؟ فقال : إِذا كان له فليس له ، وإِذا لم يكن له فهو له. وهذه من أَحسن العبارات عن معنى الفقر الذى يشير إِليه القوم ، وهو أَن يصير كلُّه لله لا يبقى عليه بقيَّة من نفسه وحظِّه وهواه ، فمن بقى عليه شىء من أَحكام نفسه ففقره مدخول. ثم فسّر ذلك أَى قوله : إِذا كان له فليس له ، أَى إِذا كان لنفسه فليس لله ، وإِذا لم يكن لنفسه فهو لله. فحقيقة الفقر إِذًا أَلاَّ تكون لنفسك ولا يكون لها منك شىء بحيث تكون كلُّك لله. وهذا الفقر الذى يشيرون إِليه لا ينافيه الجدَة ولا الأَملاك ، فقد كان رُسُل الله وأَنبياؤه - صَلوات الله وسلامه علَيهم - فى ذروة الفقر مع جدتهم ومِلكهم ، كإِبراهيم الخليل عليه السَّلام كان أَبا الضِّيفان ، وكانت له الأَموال والمواشى ، وكذلك كان سليمان وداود ، وكذلك كان نبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم كما قال تعالى : {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى} ، وكانوا أَغنياءَ فى فقرهم ، فقراءَ فى
غناهم.
فالفقر الحقيقىُّ : دوام الافتقار إِلى الله تعالى فى كلِّ حال ، وأَن يشهد العبد فى كلِّ ذرّة من ذرَّاته الظَّاهرة والباطنة فاقة نامية إِلى الله تعالى من كلِّ وجه. فالفقر ذاتىّ للعبد ، وإِنما يتجدَّد له بشهوده حالاً ، وإِلاَّ فهو حقيقته ؛ كما قال بعض المشايخ :
*الفقر لى وصفُ ذاتٍ لازمٌ أَبدا * كما الغِنَى أَبدا وصفٌ له ذاتى*(9/237)
وله آثار وعلامات وموجِبات ، أَكثر إِشارات القوم إليها ، كقول بعضهم الفقير لا يسبق همَّته ، أَى ابن وقته ، فهمَّته مقصورة على وقته لا يتعدَّاه. وقيل : أَركان الفقر أَربعة : عِلْم يسوسه ، وورع يحجزه ، ويقين يحمله ، وذِكْر يؤنسه. وقال الشِّبلِىّ : حقيقة الفقر أَلاَّ يستغنى بشىء دون الله. وسئل سهل : متى يستريح الفقير ؟ فقال : إِذا لم ير لنفسه غير الوقت الَّذى هو فيه. وقال أَبو حفص : أَحسن ما يتوسَّل به العبد إِلى الله دوام الافتقار إِليه على جميع الأَحوال ، وملازمة السُنَّة فى جميع الأَفعال ، وطلب القُوت من وجه حلال. وقيل : مِن حكم الفقير أَلاَّ يكون له رغبة ، فإِن كان ولا بدّ فلا يجوز رغبتُه كفايتَه. وقيل : الفقِير من لا يَملك ولا يُمْلَك. وأَتمّ من هذا : لا يَملك ولا يملكه مالك. وقيل : من أَراد الفقر لشرفه مات فقيراً ، ومن أَراده لئلا يشتغل عن الله بغيره مات غنيّا.
والفقر له بداية ونهاية ، فبدايته الذلُّ ونهايته العزّ ، وظاهره العُدْم وباطنه الغِنى ، كما قال رجل لآخر ، [الفقر] فقر وذلّ ، فقال ، لا : بل فقر وعِزّ. فقال : فقر وثرًى. فقال : لا ، بل فقر وعَرْش. وكلاهما مصيب.
واتَّفقت كلمةُ القوم على أَن دوام الافتقار إِلى الله مع تخليط خير من دوام الصَّفاء مع رؤية النَّفس والعُجْب ، مع أَنه لا صفاءَ معهما.
وإِذا عرفت معنى الفقر عرفت عين الغنى بالله تعالى فلا معنى لسؤال من سأَل : أَىّ الحالين أَكمل ؟ الافتقار إِلى الله أَم الاستغناء به ؟ هذه مسأَلة غير صحيحة ، فإِنَّ الاستغناء به هو عين الافتقار إِليه.(9/238)
وأَمَّا مسأَلة الفقير الصَّابر ، والغنىّ الشاكر ، وترجيحُ أَحدهما ، فعند المحقِّقين أَن التفضيل لا يرجع إِلى ذات الفقْر والغِنَى ، وإِنما يرجع إِلى الأَعمال والأَحوال والحقائِق. فالمسْأَلة فاسدة فى نفسها ، وإِنَّ التفضيل عند الله بالتَّقوى وحقائِق الإِيمان ، لا بفقر ولا غِنى ، قال : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولم يقل : أَفقركم أَو أَغناكم.
ثمّ اعلم أَنَّ الفَقْر والغِنَى ابتلاء لعبده كما قال تعالى : {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ} أَى ليس كلّ من أَعطيتهُ ووسَّعت عليه فقد أَكرمته ، ,لا كلُّ من ضيَّقت عليه وقَتَرت عليه الرزق فقد أَهنته والإِكرام أَن يكرم العبد بطاعته ومحبَّته ومعرفته ، والإِهانة أَن يسلبه ذلك. ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر بل بالتقوى. وقال بعضهم : هذه المسأَلة محال أَيضاً من وجه آخر ، وهو أَنَّ كًّلا من الغنىّ والفقير لا بدّ له من صبر وشكر ، فإِنَّ الإِيمان نصفان : نصفٌ صبر ، ونصفٌ شكر. بل قد يكون قسط الغنِىّ من الصَّبر أَوفى ، لأَنه يصبر عن قدرة ، فصبره أَتمّ من صبر من يصبر عن عجز ، ويكون شكر الفقير أَتمّ ، لأَن الشكر هو استفراغ الوسع فى طاعة الله ، والفقير أَعظم فراغا بالشكر من الغنِىّ. وكلاهما لا يقوم قائمة إِيمانه إِلا على ساق الصَّبر والشكر.
نعم الَّذى رجع الناس إِليه فى المسأَلة أَنَّهم ذكروا نوعا من الشكر ، ونوعا من الصَّبر ، وأَخذوا فى التَّرجيح ، فجردوا غنيًّا مُنفقاً متصدِّقاً باذلا ماله فى وجوه القُرَب ، شاكرًا الله عليه ؛ وفقيرا متفرِّغاً لطاعة الله ولأوراد العبادات ، صابرًا على فقره ، هل هو أَكمل من ذلك الغنى أَم بالعكس. فالصَّواب فى مثل هذا أَنّ أَكملهما أَطوعهما ، فإِن(9/239)
تساوت طاعتهما درجتهما والله أَعلم.
والعرب نقول : سَدً الله مَفاقِره ، أَى وجوه فقره. ويقال : افتقر فهو مفتقِر وفقير ، ولا يكاد يقال : فَقُر. وإِن كان القياس يقتضيه.
وأَصل الفقير هو المكسور الفَقَار. عَمِل به الفاقرةَ أَى الدَّاهية الَّتى كسرت فَقَاره. وأَفقرك الصَّيدُ : أَمكنك عن فقاره. أَفْقَرته ناقتى : أَعرته فَقَارها للركوب ، وما أَحسن قول الزَّمخشرى :
*أَلاَ أَفقر الله عبداً أَبَتْ * عليه الدّناءة أَن يُفْقِرَا*
*ومن لا يُعبر قَرا مَرْكَبٍ * فقل كيف يَعقِره للقِرَى*
وما أَحسن فِقَر كلامه ، أَى نُكته ، وهى فى الأَصل حُلِىّ تصاغ على شكل فِقَر الظهر. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 5 صـ 214 ـ 218}(9/240)
قوله تعالى : {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما حض على النفقة فأكثر وضرب فيها الأمثال وأطنب في المقال ولم يعين لها وقتاً كان كأن سائلاً قال : في أي وقت تفعل ؟ فبين في آية جامعة لأصناف الأموال والأزمان والأحوال أنها حسنة في كل وقت وعلى كل حال فقال : {الذين ينفقون أموالهم} أي في الوجوه الصالحة التي تقدم التنبيه عليها وقدم من المتقابلين ما كان أقرب إلى الإخلاص اهتماماً به دلالة على فضله فقال : {بالليل} إن اقتضى ذلك الحال {والنهار} إن دعتهم إلى ذلك خطة رشد {سراً وعلانية} كذلك.
ولما كان الانتهاء عن المن والأذى في بعض الأحوال أشد ما يكون على النفس لما يرى من المنفق عليه من الغض ونحو ذلك فلا يكاد يسلم منه أحد.
ابتدأ الجزاء في آيته من غير ربط بالفاء إشارة إلى العفو عما يغلب النفس منه تنزيلاً له منزلة العدم ،
وإيماء إلى تعظيمه بكونه ابتداء عطية من الملك ،
ترغيباً في الكف عنه ،
لأنه منظور إليه في الجملة ،
وربط الجزاء في هذه إعلاماً بأنه مسبب عن هذه الأحوال ،
لأن الأفعال أيسر من التروك فحصوله متوقف على حصولها ،
حثاً على الإتيان بها كلها للسهولة في ذلك ،
لأن من سمح بالإنفاق لله سبحانه وتعالى استوت عنده فيه الأوقات فقال : {فلهم أجرهم} وسببيته كونه علامة لحصول الأجر ، لا أنه سبب حقيقي ، إنما السبب الحقيقي رحمة الله بالتوفيق للعمل والاعتداد به ،
واعلم بأنه محفوظ مضاعف مربي لا يضيع أصلاً بقوله : {عند ربهم} أي فهو يربي نفقاتهم ويزكيها كما رباهم ،(9/241)
ثم ختم آي النفقات بما بدأها به من الأمن والسرور فقال : {ولا خوف عليهم} كما فرحوا بها عن غيرهم {ولا هم يحزنون} لأنه لا ثواب أعظم من ذلك ، إذ لا عيشة لحزين ولا خائف ؛ ولشدة مشاق الإنفاق على الأنفس لا سيما في أول الإسلام لما كانوا فيه من الضيق أكد تعالى فيه هذا التأكيد بجملته وبينه هذا البيان الواضح حتى لم يبق فيه خفية وجه إلا أظهرها وحذر منها وقررها - أشار إلى ذلك الأستاذ أبو الحسن الحرالي فقال : فأفضلهم المنفق ليلاً سراً. وأنزلهم المنفق نهاراً علانية ؛ فهم بذلك أربعة أصناف - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 529 ـ 530}
قال الفخر :
في كيفية النظم أقوال
الأول : لما بيّن في هذه الآية المتقدمة أن أكمل من تصرف إليه النفقة من هو بيّن في هذه الآية أن أكمل وجوه الإنفاق كيف هو ، فقال : {الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ}
والثاني : أنه تعالى ذكر هذه الآية لتأكيد ما تقدم من قوله {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ} [ البقرة : 271 ]
والثالث : أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في أحكام الإنفاق ، فلا جرم أرشد الخلق إلى أكمل وجوه الإنفاقات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 73}
فصل
قال الفخر :
في سبب النزول وجوه
الأول : لما نزل قوله تعالى : {لِلْفُقَرَاء الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله} بعث عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير ، وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلاً ، فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقته ، فنزلت هذه الآية فصدقة الليل كانت أكمل
والثاني : قال ابن عباس : إن علياً عليه السلام ما كان يملك غير أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما حملك على هذا ؟ فقال : أن استوجب ما وعدني ربي ، فقال : لك ذلك " فأنزل الله تعالى هذه الآية(9/242)
والثالث : قال صاحب "الكشاف" : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار : عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية والرابع : نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله ، فكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس سمين قرأ هذه الآية الخامس : أن الآية عامة في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقت ولا حال ، وهذا هو أحسن الوجوه ، لأن هذا آخر الآيات المذكورة في بيان حكم الإنفاقات فلا جرم ذكر فيها أكمل وجوه الإنفاقات ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 73 ـ 74}
وقال القرطبى :
رُوي عن ابن عباس وأبي ذَرّ وأبي أُمَامة وأبي الدرداء وعبد الله بن بشر الغافقيّ والأوزاعيّ أنها نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله.
وذكر ابن سعد في الطبقات قال : أخبرت عن محمد بن شعيب بن شابور قال أنبأنا سعيد بن سِنان عن يزيد بن عبد الله بن عريب عن أبيه عن جدّه عَريب : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى : {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} قال : "هم أصحاب الخيل" " وبهذا الإسناد قال قال رسول صلى الله عليه وسلم : " المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها وأبوالُها وأرواثُها ( عند الله ) يوم القيامة كَذَكِيّ المسك " ورُوي عن ابن عباس أنه قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، كانت معه أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سرّاً وبدرهم جهراً ؛ ذكره عبد الرزاق قال : أخبرنا عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس.
ابُن جُريج : نزلت في رجل فعل ذلك ، ولم يُسَمّ عليّاً ولا غيرَه.
قال قتادة.(9/243)
هذه الآية نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 347}
قال ابن عطية :
والآية وإن كانت نزلت في علي رضي الله عنه ، فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة وأما علف الخيل والنفقة عليها فإن ألفاظ الآية تتناولها تناولاً محكماً ، وكذلك المنفق في الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية . وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان المؤمنون يعملون بهذه الآية من قوله : {إن تبدوا الصدقات} [ البقرة : 271 ] إلى قوله : {ولا هم يحزنون} [ البقرة : 274 ] فلما نزلت براءة بتفصيل الزكاة قصروا عليها. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 371}
وقال الآلوسى :
{الذين يُنفِقُونَ أموالهم بالليل} أي يعممون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة ، فالمراد بالليل والنهار جميع الأوقات كما أن المراد بما بعده جميع الأحوال ، وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 47}
وقال ابن كثير :
} هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله ، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل أو نهار ، والأحوال من سر وجهار ، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضًا ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص -حين عاده مريضًا عام الفتح ، وفي رواية عام حجة الوداع- : "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة ، حتى ما تجعل في في امرأتك". {صحيح البخاري برقم (4409 ، 6373) وصحيح مسلم برقم (1628)}.(9/244)
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وبَهْز قالا حدثنا شعبة ، عن عدي بن ثابت قال : سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري ، يحدث عن أبي مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة" أخرجاه من حديث شعبة ، به. {المسند (4/122) وصحيح البخاري برقم (55) وصحيح مسلم برقم (1002)}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 707}
لطيفة
قال الفخر :
في الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية ، وذلك لأنه قدم الليل على النهار ، والسر على العلانية في الذكر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 74}
قوله تعالى {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
قال الفخر :
إنها تدل على أن أهل الثواب لا خوف عليهم يوم القيامة ، ويتأكد ذلك بقوله تعالى : {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [ الأنبياء : 103 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 74}
فائدة
قال ابن عاشور :
أَدخل الفاء في خبر الموصول للتنبيه على تسبّب استحقاق الأجر على الإنفاق لأنّ المبتدأ لما كان مشتملاً على صلة مقصود منها التعميم ، والتعليل ، والإيماء إلى علّة بناء الخبر على المبتدأ وهي ينفقون صَحّ إدخال الفاء في خبره كما تدخل في جواب الشرط ؛ لأنّ أصل الفاء الدلالة على التسبّب وما أدخلت في جواب الشرط إلاّ لذلك.
والسرّ : الخفاء.
والعلانية : الجهر والظهور.
وذكر عند ربّهم لتعظيم شأن الأجر.
وقوله : {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} مقابل قوله : {وما للظالمين من أنصار} [ البقرة : 270 ] إذ هو تهديد لمانعِي الصدقات بإسلام الناس إياهم عند حلول المصائب بهم ، وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأنّ الله أكسبهم محبة الناس إياهم ، ولا تحلّ بهم المصائب المحزنة إلاّ ما لا يسلم منه أحد ممّا هو معتاد في إبانه.(9/245)
أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله : {فلهم أجرهم عند ربهم}.
ورُفع خوف في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي الفرد لأنّ الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدّم في قوله تعالى : {لا بيع فيه ولا خلة} [ البقرة : 254 ] ، ومنه ما في حديث أم زرع : " لا حَرٌ ولا قرٌ ولا مَخَافَةٌ ولا سَآمَةٌ ". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 77 ـ 78}
لطيفة
روى أن حسن ستة أشياء فى ستة
العلم والعدل والسخاوة والتوبة والصبر والحياء.
العلم فى العمل.
والعدل فى السلطان.
والسخاوة فى الأغنياء.
والتوبة فى الشباب.
والصبر فى الفقر.
والحياء فى النساء.
العلم بلا عمل كبيت بلا سقف والسلطان بلا عدل كبئر بلا ماء.
والغنى بلا سخاوة كسحاب بلا مطر.
والشباب بلا توبة كشجر بلا ثمر.
والفقر بلا صبر كقنديل بلا ضياء.
والنساء بلا حياء كطعام بلا ملح
فعلى الغنى أن يمطر من سحاب غنى بركات الدين والدنيا ويتسبب لإحياء قلوب ماتت بالفقر والاحتياج فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 532}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار . . .}.
قال ابن عطية : عن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه كانت له أربعة دراهم تصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية.
قيل لابن عرفة : التصدق بالليل والنهار لايخرج عن كونه سرا ( أو ) علانية ؟
( فقال : لا يصح الاعتراض على السبب وإنما النظر في ذلك عند تطبيق السبب على لفظ الآية ، ويفهم هذا بأنه قسمة رباعية فتصدق ( بدرهم ) بالليل سرا وبدرهم علانية وفي النهار بدرهم سرا وبدرهم علانية ).
قال : هو في الآية عندي تفسير " سرا " راجع لليل ، " وعلانية " للنهار ، بدليل إتيان السرّ غير معطوف.
قال : وعادتهم يقولون لأي شيء قدم السر على العلانية مع أنّ نفقة السرّ أفضل من نفقة العلانية.(9/246)
فهلا بدأ بالعلانية ليكون العطف ترقيا لا تدليا لأن عطف الترقي فيه تأسيس وعطف التدلي فيه ضرب من التأكيد ؟
قال : فكانوا يجيبون بقاعدة استصحاب الحال ، وذلك لأن نفقة السر أفضل من نفقة العلانية لخلوص النية فيها فإذا أنفق أوّلا سرا بنية خالصة واستصحب تلك النية بعينها في نفقة الجهر ( فإنفاق ) الجهر بتلك النية الخالصة الغير المشوبة بشيء من الرياء كان في أعلى درجات الطاعة فروعي فيه هذا المعنى فكان ترقيا.
قوله تعالى : {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ . . .}.
ولم يقل : فلهم أجر ، لأن المراد أجرهم اللاّئق بهم ولو قيل : فلهم أجر لكان مفهومه أن من فعل دون ذلك لا أجر له مع أنه يؤجر.
قال ابن عطية : ودخلت الفاء لأن الموصول وصل بالفعل ولم يدخل عليه يغير معناه.
قال أبو حيان : وكذلك أيضا إذا كانت الصلة ظرفا أو مجرورا.
وكذا ذكر ابن عصفور في المقرب وشرح الإيضاح.
فإن قلت : إن الظرف المجرور محل والتعليل عند الأصوليين ( إنما يكون ) بالصفة لا بالمحل.
فالجواب : إنّ المحل هنا ناب مناب متعلقة وهو كائن أو مستقر الذي هو صفة وتقوى هنا حتى صار كأنه هو ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.
قال أبو حيان : ومن شروط دخول الفاء أن يكون الخبر مستحقا بالصلة كهذه الآية.
ورده ابن عرفة : بأنه ما علم كونه سببا إلا بعد دخول الفاء لا قبلها فكونه مستحقا بالصلة فرع عن دخول الفاء فلا يصح أن يكون شرطا فيها وموجبا لها.
وأجيب بأن هذا بالنسبة إلى السامع وكلامنا في دخول الفاء بالنسبة إلى قصد المتكلم ونيته.(9/247)
وعادتهم يردّون على كلام أبي حيان بقوله {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} فإن نفس الخلق غير موجب للهداية وإلا لزم منه مذهب المعتزلة القائلين بمراعاة ( الأصلح ) ، وعادتهم يجيبون بأن المراد : الذي خلقني هذا الخلق الخاص على هذه الصّفة وهي النبوءة فهو يهدين ، وتقدم نظيره في قول الله تعالى {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} وفي سورة قد أفلح {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} قال ابن عرفة : فإن قلت : ما الحكمة في دخول الفاء مع أنه ( يجوز ) الَّذي يأتيني له درهم.
والمعنى فيه وغير ما فيه الفاء واحد ، وكذلك ( إن قلت ) النفقة هنا ( مستلزمة ) لثبوت الأجر لهم ( مع الفاء ومع عدمها ).
قلت : وعادتهم يجيبون بأن الخبر إذا كان ثابتا وعطف عليه ما يتوهم نفيه وعدم ثبوته فلا بد من الفاء ولا شك أن حزنهم مما يتوهم نفيه فأتي بالفاء الدالة على كمال الارتباط وأنّ ذلك سبب في نفي الحزن والخوف عنهم.
قال : ولفظ الرب هنا دال على أن هذا الثواب محض ، تفضّل من الله تعالى كما يقول أهل السّنة خلافا للمعتزلة.
وعادتهم يوردون سؤالا وهو : لأى شيء نفى الحزن عنهم بالفعل والخوف بالاسم مع أن المناسب العكس لأن متعلق الحزن ماض والخوف مستقبل ؟
قال : وعادتهم يجيبون بأن النكرة في سياق النّفي تفيد العموم بإجماع ، والفعل في سياق النفي مختلف فيه ، هل يفيد العموم أم لا ؟ والماضي محصور لأنه مشاهد مرئي فمتعلقه غير متعدد ، والمستقبل متعلقاته متعددة لأنه غير محصور ، فالخوف منه يعظم لكثرة الخواطر التي تخطر ( ببال الإنسان ) ، ( فقد ) يخاف من كذا ويخاف من كذا ويخاف من شيء هو في نفس الأمر آمن فيه.
فلذلك نفي الخوف بلفظ الاسم الدال على العموم بإجماع ونفي الحزن بالفعل المحتمل للعموم وعدمه.
قلت : ورد هذا بمعنى الإجماع لأن النكرة عند النحويين لا تعمّ إلا اذا كانت مبنية مع ( لا ) مثل : لا رجل في الدار ، بالفتح بلا تنوين.
ويجاب بأنها أعمّ من الفعل بلا شك. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 352 ـ 353}(9/248)
لطيفة
قال ابن القيم فى زاد المعاد
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع
كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما ملكت يده وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى ولا يستقله وكان لا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه قليلا كان أو كثيرا وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه وكان أجود الناس بالخير يمينه كالريح المرسلة
وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه وتارة بلباسه وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا كما فعل ببعير جابر وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه ويقبل الهدية ويكافىء عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله فيخرح ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها بحاله وقوله فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى
وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والصروف ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبا في شرح الصدر وانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره بالنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها وشرح صدره حسا وإخراج حظ الشيطان منه. أ هـ {زاد المعاد حـ 2 صـ 21}(9/249)
قوله تعالى : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان سبحانه وتعالى قد ذكر النفقة مما أفاض عليهم من الرزق من أول السورة إلى هنا في غير آية ،
ورغب فيها بأنواع من الترغيب في فنون من الأساليب ،
وكان الرزق يشمل الحلال والحرام ،
وكان مما يسترزقون به قبل الإسلام الربا ،
وهو أخذ مجاناً ،
وهو في الصورة زيادة وفي الحقيقة نقص وعيب ،
ضد ما تقدم الحث عليه من الإعطاء مجاناً ،
وهو في الظاهر نقص وفي الباطن زيادة وخير ؛ نهاهم عن تعاطيه ونفرهم منه ،
وبين لهم حكمه وأنه خبيث لا يصلح لأكل ولا صدقة ،
وجعل ذلك في أسلوب الجواب لمن قال هل يكون النفقة المحبوبة المحثوث عليها من كل مال ؟ فأجاب بقوله : - وقال الحرالي : ولما كان حال المنفق لا سيما المبتغي وجه الله سبحانه وتعالى أفضل الأحوال ،
وهو الحال الذي دعوا إليه ؛ نظم به أدنى الأحوال ،
وهو الذي يتوسل به إلى الأموال بالربا ،
فأفضل الناس المنفق ،
وشر الناس المربي ؛ فنظم به خطاب الربا فقال : - {الذين} ولما كان من الصحابة من أكل الربا عبر بالمضارع إشارة إلى أن هذا الجزاء يخص المصر فقال : {يأكلون الربا} وهو الزيادة من جنس المزيد عليه المحدود بوجه ما - انتهى.
فجرى على عادة هذا الذكر الحكيم في ذكر أحد الضدين بعد الآخر ، (9/250)
وعبر بالأكل عن التناول ، لأنه أكبر المقاصد وأضرها ويجري من الإنسان مجرى الدم كالشيطان {لا يقومون} أي عند البعث يظهر ثقله في بطونهم فيمنعهم النشاط ويكون ذلك سيماهم يعرفون به بين أهل الموقف هتكاً لهم وفضيحة.
وقال الحرالي : في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة ،
ففي إعلامه إيذان بأن آكله يسلب عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخرق لا بعقل ، يقبل في محل الإدبار ويدبر في محل الإقبال انتهى.
وهو مؤيد بالمشاهدة فإنا لم نر ولم نسمع قط بآكل ربا ينطق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة بل هم أدنى الناس وأدنسهم {إلا كما يقوم} المصروع {الذي يتخبطه} أي يتكلف خبطه ويكلفه إياه ويشق به عليه {الشيطان} ولما كان ذلك قد يظن أنه يخبط الفكر بالوسوسة مثلاً قال : {من} أي تخبطاً مبتدئاً من {المس} أي الجنون ،
فأشار سبحانه وتعالى بذلك إلى المنع من أن تكون النفقة من حرام ولا سيما الربا ،
وإلى أن الخبيث المنهي عن تيمم إنفاقه قسمان : حسي ومعنوي ، والنهي في المعنوي أشد. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 530 ـ 531}
قال الفخر :
اعلم أن بين الربا وبين الصدقة مناسبة من جهة التضاد ، وذلك لأن الصدقة عبارة عن تنقيص المال بسبب أمر الله بذلك ، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه ، فكانا متضادين ، ولهذا قال الله تعالى : {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات} فلما حصل بين هذين الحكمين هذا النوع من المناسبة ، لا جرم ذكر عقيب حكم الصدقات حكم الربا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 74 ـ 75}
قال ابن عاشور :
نَظَم القرآنُ أهمّ أصول حفظِ مال الأمَّة في سِلك هاته الآيات.(9/251)
فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها ، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدْلاً مما كان فضلاً عن الغنى فقرضه على الناس ، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم ، سواء في ذلك ما كان مفروضاً وهو الزكاة أو تطوّعاً وهو الصدقة ، فأطنب في الحثّ عليه ، والترغيب في ثوابه ، والتحذير من إمساكه ، ما كان فيه موعظة لمن اتّعظ ، عَطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم ، وهي المعاملة بالربا الذي لقّبه النبي صلى الله عليه وسلم ربَا الجاهليةِ ، وهو أن يعطي المدين مالاً لدائنه زائداً على قدر الدين لأجل الانتظار ، فإذا حلّ الأجل ولم يدفع زَاد في الدين ، يقولون : إمّا أن تَقْضيَ وإمّا أن تُربِي.
وقد كان ذلك شائعاً في الجاهلية كذا قال الفقهاء.
والظاهر أنّهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلّما طلبَ النظرة أعطى ربا آخر ، وربّما تسامح بعضهم في ذلك.
وكان العباس بنُ عبد المطلب مشتهراً بالمراباة في الجاهلية ، وجاء في خطبة حجّة الوداع " ألا وإنّ ربا الجاهلية موضوع وإنّ أول ربا أبْدَأ به ربا عمّي عباس بن عبد المطلب ".
وجملة {الذين يأكلون الربوا} استئناف ، وجيء بالموصول للدلالة على علّة بناء الخبر وهو قوله : {لا يقومون} إلى آخره. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 78 ـ 79}
فصل
قال القرطبى :
الربا في اللغة الزيادة مطلقاً ؛ يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ، ومنه الحديث : " فلا والله ما أخذنا من لقمة إلاّ رَبَا من تحتها " يعني الطعام الذي دعا فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبركة ؛ خرّج الحديث مسلم رحمه الله.
وقياس كتابته بالياء للكسرة في أوّله ، وقد كتبوه في القرآن بالواو.(9/252)
ثم إن الشرع قد تصرّف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده ؛ فمرّة أطلقه على كسب الحرام ؛ كما قال الله تعالى في اليهود : {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} [ النساء : 161 ].
ولم يرد به الرّبا الشرعيّ الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام ؛ كما قال تعالى : {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [ المائدة : 42 ] يعني به المال الحرام من الرّشا ، وما استحلوه من أموال الأُمِّيِّين حيث قالوا : {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} [ آل عمران : 75 ].
وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأيّ وجه اكتُسب.
والربا الذي عليه عُرف الشرع شيئان : تحريم النَّسَاء ، والتفاضل في العقود وفي المطعومات على ما نبيّنه.
وغالبه ما كانت العرب تفعله ، من قولها للغريم : أتقضي أُم تُرْبِي ؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه.
وهذا كله محرّم باتفاق الأُمة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 348}
وقال ابن عاشور :
الأكل في الحقيقة ابتلاعُ الطعام ، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص ، وأصله تمثيل ، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا : أكل مال الناس {إن الذين يأكلون أموال اليتامى} [ النساء : 10 ] {ألا تأكلوا أموالكم} [ الصافات : 91 ، 92 ] ، ولا يختصّ بأخذ الباطل ففي القرآن {فإن طبْن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [ النساء : 4 ].
والربا : اسم على وزن فِعَل بكسر الفاء وفتح العين لعلّهم خفّفوه من الرباء بالمد فصيّروه اسم مصدر ، لفعل رَبَا الشيء يربو رَبْواً بسكون الباء على القياس كما في "الصحاح" وبضم الراء والباء كعُلُو وربّاء بكسر الراء وبالمد مثل الرِّماء إذا زاد قال تعالى : {فلا يربو عند الله} [ الروم : 39 ] ، وقال : {اهتَزّتْ ورَبَتْ} [ الحج : 5 ] ، ولكونه من ذوات الواو ثني على رِبَواننِ.(9/253)
وكتب بالألف ، وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظراً لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء ثم ثنّوه بالياء لأجل الكسرة أيضاً قال الزجاج : ما رأيت خطأ أشنع من هذا ، ألا يكفيَهم الخَطأ في الخطّ حتى أخطؤوا في التثنية كيف وهم يقرؤون {وما آتيتم من رِبا لتُربُوَ} [ الروم : 39 ] بفتحة على الواو {في أموال الناس} [ الروم : 39 ] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش ، وهما كوفيان ، وبقراءتهما يقرأ أهل الكوفة.
وكُتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف ، والشأن أن يكتب ألفاً ، فقال صاحب "الكشاف" : كتبت كذلك على لغة من يفخّم أي ينحو بالألف منحى الواو ، والتفخيم عكس الإمالة ، وهذا بعيد ؛ إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف.
وقال المبرّد : كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا ، وهو أبعد لأنّ سياق الكلام لا يترك اشتبَاهاً بينهما من جهة المعنى إلاَّ في قوله تعالى : {ولا تقربوا الزنا} [ الإسراء : 32 ].
وقال الفراء : إنّ العرب تعلّموا الخطّ من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا : رِبَوْ بواو ساكنة فكتبت كذلك ، وهذا أبعد من الجميع.
والذي عندي أنّ الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات ، وكأنَّهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيراً إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطّرد في رسمهم ، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو ، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيهاً على أنّ أصلها هو الركوع من تحريك الصَّلْوَيْن لا من الاصطلاء.
وقال صاحب "الكشاف" : وكتبوا بعدها ألفاً تشبيهاً بواو الجمع.
وعندي أنّ هذا لا معنى للتعليل به ، بل إنّما كتبوا الألف بعدها عوضاً عن أن يضعوا الألف فوق الواو ، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفاً فوق الياء لئلاّ يقرأها الناس الربُو.(9/254)
وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية ؛ لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلاّ التوجّه إليهم لأنّ ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم.
أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى : {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} في سورة آل عمران ( 130 ) ، وهم لا يقولون إنّما البيع مثل الربا ، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصاً للكافرين لأجل ما تفرّع عن كفرهم من وضع الربا.
وتقدم ذلك كلّه إنكارُ القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا ، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة ، فقد جاء في سورة الروم ( 39 ) : وما آتيتم من ربا لتُربوا في أموال الناس فلا يَربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المُضعفون وهو خطاب للمشركين لأنّ السورة مكية ولأنّ بعد الآية قوْلُه : الله خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء}.
ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفّار إغلاظاً عليهم ، وتعريضاً بتخويف المسلمين ، ليكرّه إياهم لأحوال أهل الكفر.
وقد قال ابن عباس : كلّ ما جاء في القرآن من ذمّ أحوال الكفار فمراد منه أيضاً تحذير المسلمين من مثله في الإسلام ، ولذلك قال الله تعالى : {ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [ البقرة : 275 ] وقال تعالى : {والله لا يحب كلّ كفّار أثيم} [ البقرة : 276 ].
ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال : {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله} [ البقرة : 278 ] الآيات ، ولعلّ بعض المسلمين لم ينكفّ عن تعاطي الربا أو لعلّ بعضهم فتن بقول الكفار : إنّما البيع مثل الربا.
فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم ، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبياناً لكيفية تدارك ما سلف منه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 79 ـ 81}
وقال القرطبى : (9/255)
اختلف النّحاة في لفظ "الرِّبا" فقال البصريون : هو من ذوات الواو ؛ لأنك تقول في تثنيته : رِبَوان ؛ قاله سيبويه.
وقال الكوفيون : يكتب بالياء ، وتثنيته بالياء ؛ لأجل الكسرة التي في أوّله.
قال الزجاج : ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع! لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يُخطئوا في التثنية وهم يقرءون {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس} [ الروم : 39 ] قال محمد بن يزيد : كُتب "الربا" في المصحف بالواو فرقاً بينه وبين الزنا ، وكان الربا أولى منه بالواو ؛ لأنه من ربا يربو. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 353}
فصل فى المراد من أكل الربا
قال الفخر :
أما قوله {الذين يَأْكُلُونَ الربا} فالمراد الذين يعاملون به ، وخص الأكل لأنه معظم الأمر ، كما قال : {الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [ النساء : 10 ] وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه ، ولكنه نبّه بالأكل على ما سواه وكذلك قوله {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} [ البقرة : 188 ] وأيضاً فلأن نفس الربا الذي هو الزيادة في المال على ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يؤكل ، إنما يصرف في المأكول فيؤكل ، والمراد التصرف فيه ، فمنع الله من التصرف في الربا بما ذكرنا من الوعيد ، وأيضاً فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم : " لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له " فعلمنا أن الحرمة غير مختصة بالآكل ، وأيضاً فقد ثبت بشهادة الطرد والعكس ، أن ما يحرم لا يوقف تحريمه على الأكل دون غيره من التصرفات فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن المراد من أكل الربا في هذه الآية التصرف في الربا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 75}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الربا قسمان : ربا النسيئة ، وربا الفضل.(9/256)
أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، ويكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال ، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل ، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به.
وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك.
إذا عرفت هذا فنقول : المروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول فكان يقول : لا ربا إلا في النسيئة ، وكان يجوز بالنقد ، فقال له أبو سعيد الخدري : شهدت ما لم تشهد ، أو سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تسمع ثم روي أنه رجع عنه قال محمد بن سيرين : كنا في بيت ومعنا عكرمة ، فقال رجل : يا عكرمة ما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس ، فقال : إنما كنت استحللت التصرف برأيي ، ثم بلغني أنه صلى الله عليه وسلم حرمه ، فاشهدوا أني حرمته وبرئت منه إلى الله ، وحجة ابن عباس أن قوله {وَأَحَلَّ الله البيع} يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً ، وقوله {وَحَرَّمَ الربا} لا يتناوله لأن الربا عبارة عن الزيادة ، وليست كل زيادة محرمة ، بل قوله {وَحَرَّمَ الربا} إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى فيما بينهم بأنه ربا.
وذلك هو ربا النسيئة ، فكان قوله {وَحَرَّمَ الربا} مخصوصاً بالنسيئة ، فثبت أن قوله {وَأَحَلَّ الله البيع} يتناول ربا النقد ، وقوله {وَحَرَّمَ الربا} لا يتناوله ، فوجب أن يبقى على الحل ، ولا يمكن أن يقال : إنما يحرمه بالحديث ، لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد وأنه غير جائز ، وهذا هو عرف ابن عباس وحقيقته راجعة إلى أن تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا ؟ (9/257)
وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين ، أما القسم الأول فبالقرآن ، وأما ربا النقد فبالخبر ، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة ، ثم اختلفوا فقال عامة الفقهاء : حرمة التفاضل غير مقصورة على هذه الستة ، بل ثابتة في غيرها ، وقال نفاة القياس : بل الحرمة مقصورة عليها وحجة هؤلاء من وجوه :
الحجة الأولى : أن الشارع خص من المكيلات والمطعومات والأقوات أشياء أربعة ، فلو كان الحكم ثابتاً في كل المكيلات أو في كل المطعومات لقال : لا تبيعوا المكيل بالمكيل متفاضلاً ، أو قال : لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم متفاضلاً ، فإن هذا الكلام يكون أشد اختصاراً ، وأكثرر فائدة ، فلما لم يقل ذلك بل عد الأربعة ، علمنا أن حكم الحرمة مقصور عليها فقط.
الحجة الثانية : أنا بينا في قوله تعالى : {وَأَحَلَّ الله البيع} يقتضي حل ربا النقد فأنتم أخرجتم ربا النقد من تحت هذا العموم بخبر الواحد في الأشياء الستة ، ثم أثبتم الحرمة في غيرها بالقياس عليها ، فكان هذا تخصيصاً لعموم نص القرآن في الأشياء الستة بخبر الواحد ، وفي غيرها بالقياس على الأشياء الستة ، ثبت الحكم فيها بخبر الواحد ، ومثل هذا القياس يكون أضعف بكثير من خبر الواحد ، وخبر الواحد أضعف من ظاهر القرآن ، فكان هذا ترجيحاً للأضعف على الأقوى ، وأنه غير جائز.(9/258)
الحجة الثالثة : أن التعدية من محل النص إلى غير محل النص ، لا تمكن إلا بواسطة تعليل الحكم في مورد النص ، وذلك غير جائز ، أما أولاً : فلأنه يقتضي تعليل حكم الله ، وذلك محال على ما ثبت في الأصول ، وأما ثانياً : فلأن الحكم في مورد النص معلوم ، واللغة مظنونة وربط المعلوم بالمظنون غير جائز ، وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد غير مقصورة على هذه الأشياء الستة ، بل هي ثابتة في غيرها ، ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص فلهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب.
فالقول الأول : وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه : أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس ، وفي الذهب والفضة النقدية.
والقول الثاني : قول أبي حنيفة رضي الله عنه : أن كل ما كان مقدراً ففيه الربا ، والعلة في الدراهم والدنانير الوزن ، وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس.
والقول الثالث : قول مالك رضي الله عنه أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت ، وهو الملح.
والقول الرابع : وهو قول عبد الملك بن الماجشون : أن كل ما ينتفع به ففيه الربا ، فهذا ضبط مذاهب الناس في حكم الربا ، والكلام في تفاريع هذه المسائل لا يليق بالتفسير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 75 ـ 76}
فائدة
قال القرطبى :
أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادةٍ إمّا في عين مال ، وإمّا في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه.
ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة ؛ كبيع الثمرة قبل بُدُوّ صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة ؛ فإن قيل لفاعلها ؛ آكل الربا فتجوُّز وتشبيه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 348}
فصل في سبب تحريم الربا
قال الفخر :
ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهاً(9/259)
أحدها : الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض ، لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض ، ومال الإنسان متعلق حاجته وله حرمة عظيمة ، قال صلى الله عليه وسلم : " حرمة مال الإنسان كحرمة دمه " فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرماً.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضاً عن الدرهم الزائد ، وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحاً فلما تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى رب المال ذلك الدرهم الزائد عوضاً عن انتفاعه بماله.
(9/260)
قلنا : إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد أمر متيقن ، فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع ضرر وثانيها : قال بعضهم : الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب ، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة ، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة ، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق ، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات وثالثها : قيل : السبب في تحريم عقد الربا ، أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ، لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله ، ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين ، فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان ورابعها : هو أن الغالب أن المقرض يكون غنياً ، والمستقرض يكون فقيراً ، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغنى من أن يأخذ من الفقير الضعيف مالاً زائداً ، وذلك غير جائز برحمة الرحيم وخامسها : أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق ، فوجب القطع بحرمة عقد الربا ، وإن كنا لا نعلم الوجه فيه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 76 ـ 77}
فصل فى مسائل مهمة
قال القرطبى : (9/261)
روى الأئمة واللفظ لمُسْلم عن أبي سعيد الخُدْريّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرّ بالبُرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مِثْلا بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربَى الآخذ والمعطي فيه سواء " وفي حديث عُبادة بن الصّامت " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبِيعُوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " وروى أبو داود عن عُبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الذهب بالذهب تِبْرُها وعَيْنها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبُرُّ بالبرّ مُدْيٌ بمُدْيٍ والشعير بالشعير مدْي بمُدْي والتمر بالتمر مُدْيٌ بمُدْيٍ والملحُ بالملح مُدْيٌ بمُدْيٍ فمن زاد أو ازداد فقد أرْبَى ولا بأس يبيع الذهب بالفضة والفضةُ أكثرهما يداً بيد وأما نَسِيئة فلا ولا بأس ببيع البرِّ بالشعير والشعيرُ أكثرهما يداً بيد وأما نسِيئة فلا "
وأجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السُّنّة وعليها جماعة فقهاء المسلمين إلا في البُرّ والشعير فإن مالكاً جعلهما صنفاً واحداً ، فلا يجوز منهما اثنان بواحد ، وهو قول الليث والأُوزاعيّ ومعظم علماء المدينة والشام ، وأضاف مالك إليهما السُّلْت.
وقال الليث : السلت والدُّخن والذرة صنف واحد ؛ وقاله ابن وهب.
قلت : وإذا ثبتت السُّنّة فلا قول معها.
وقال عليه السلام : " "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد".
وقوله : "البُرُّ بالبُرِّ والشعير بالشعير" " دليل على أنهما نوعان مختلفان كمخالفة البُرّ للتمر ؛ ولأن صفاتهما مختلفة وأسماؤهما مختلفة ، ولا اعتبار بالمنبِت والمحصد إذا لم يعتبره الشرع ، بل فصل وبيّن ؛ وهذا مذهب الشافعيّ وأبي حنيفة والثّوريّ وأصحاب الحديث. أ هـ
وقال القرطبى أيضا : (9/262)
كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدِّينار المضروب والدرهم المضروب لا في التِّبر من الذهب والفضة بالمضروب ، ولا في المَصُوغ بالمضروب.
وقد قيل إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة ، حتى وقع له مع عُبَادة ما خرّجه مسلم وغيره ، قال : غَزَوْنا وعلى الناس معاويةُ فغِنمنا غنائمَ كثيرةً ، فكان مما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلاً ببيعها في أَعْطِيّات الناس فتنازع الناس في ذلك فبلغ عبادةَ بن الصامت ذلك فقام فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرّ بالبُرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواءً بسواء عَيْناً بعَيْن من زاد أو ازداد فقد أرْبَى ؛ فردّ الناس ما أخذوا ، فبلغ ذلك معاويةَ فقام خطيباً فقال : ألاَ ما بالُ رجالٍ يتحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديثَ قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه! فقام عُبَادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال : لنحدّثنّ بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاويةُ أو قال وإن رَغِم ما أُبالي ألاّ أصحبَه في جُنْدِه في ليلةٍ سَوْداء.
قال حمّادٌ هذا أو نحوَه.
قال ابن عبد البرّ : وقد رُوي أن هذه القِصة إنما كانت لأبي الدّرداء مع معاوية.
ويحتمل أن يكون وقع ذلك لهما معه ، ولكن الحديث في العُرْف محفوظ لعُبَادة ، وهو الأصل الذي عوّل عليه العلماء في باب "الربا".
ولم يختلفوا أنّ فعل معاوية في ذلك غير جائز ، وغير نَكِير أن يكون معاوية خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعُبادة فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم ، وقد خفِي على أبي بكر وعمر ما وُجد عند غيرهم ممن هو دونهم ، فمعاويةُ أحرى.
ويحتمل أن يكون مذهبه كمذهب ابن عباس ، فقد كان وهو بحرٌ في العلم لا يرى الدرهم بالدرهمين بأساً حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد.
(9/263)
وقصة معاوية هذه مع عبادة كانت في ولاية عمر.
قال قَبيصة بن ذُؤيب : إن عُبادة أنكر شيئاً على معاوية فقال : لا أُساكنك بأرض أنت بها ودخل المدينة.
فقال له عمر : ما أقدمك ؟ فأخبره.
فقال : ارجع إلى مكانك ، فقبّح الله أرضاً لست فيها ولا أمثالك! وكتب إلى معاوية "لا إمارة لك عليه". أ هـ
وقال رحمه الله :
روى الأئمة واللفظ للدّارَقُطْنِيّ عن عليّ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فَضْلَ بينهما من كانت له حاجة بورقِ فلْيَصرِفْها بذهب وإن كانت له حاجةٌ بذهب فليصرفها بوَرِق هَاءَ وهَاء " قال العلماء فقوله عليه السلام : " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما " إشارةٌ إلى جنس الأصل المضروب ؛ بدليل قوله : " الفضة بالفضة والذهب بالذهب " الحديث.
والفضة البيضاء والسوداء والذهب الأحمر والأصفر كل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مِثْلا بِمثل سواء بسواء على كل حال ؛ على هذا جماعة أهل العلم على ما بيّنا.
واختلفت الرواية عن مالك في الفلوس فألحقها بالدراهم من حيث كانت ثمناً للأشياء ، ومنع من إلحاقها مرّة من حيث إنها ليست ثمناً في كل بلد وإنما يختص بها بلد دون بلد.
السادسة لا اعتبار بما قد رُوي عن كثير من أصحاب مالك وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفِزه الخروج وبه حاجة إلى دراهمَ مضروبةٍ أو دنانيرَ مضروبةٍ ، فيأتي دار الضرب بفضته أو ذهبه فيقول للضرّاب ؛ خذ فضّتي هذه أو ذهبي وخذ قدر عمل يدك وادفع إليّ دنانير مضروبةً في ذهبي أو دراهمَ مضروبةً في فضّتِي هذه لأني محفوز للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه ، أن ذلك جائز للضرورة ، وأنه قد عمل به بعض الناس.
وحكاه ابن العربيّ في قبسه عن مالك في غير التاجر ، وأن مالكاً خفّف في ذلك ؛ فيكون في الصورة قد باع فضته التي زنتها مائة وخمسة دراهم أجره بمائة وهذا محض الربا.
(9/264)
والذي أوجب جواز ذلك أنه لو قال له : اضرب لي هذه وقاطعه على ذلك بأُجرة ، فلما ضربها قبضها منه وأعطاه أُجرتها ؛ فالذي فعل مالك أوّلاً هو الذي يكون آخراً ، ومالك إنما نظر إلى المال فركّب عليه حكم الحال ، وأباه سائر الفقهاء.
قال ابن العربيّ : والحجة فيه لمالك بيِّنة.
قال أبو عمر رحمه الله : وهذا هو عين الرِّبا الذي حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " من زاد أو ازداد فقد أرْبَى " وقد ردّ ابن وهب هذه المسألة على مالك وأنكرها.
وزعم الأَبْهَرِيّ أن ذلك من باب الرفق لطلب التجارة ولئلا يفوت السوق ، وليس الربا إلا على من أراد أن يُرْبِي ممن يقصد إلى ذلك ويبتغيه.
ونسي الأبهرِيّ أصله في قطع الذرائع ، وقوله فيمن باع ثوباً بنسِيئة وهو لا نيّة له في شرائه ثم يجده في السوق يباع : إنه لا يجوز له ابتياعه منه بدون ما باعه به وإن لم يقصد إلى ذلك ولم يبتغه ؛ ومثله كثير ، ولو لم يكن الربا إلا على مَن قصده ما حُرّم إلا على الفقهاء.
وقد قال عمر : لا يتّجر في سوقنا إلا من فَقُه وإلاّ أكل الربا.
وهذا بيّن لمن رُزق الإنصاف وألْهِم رشده.
قلت : وقد بالغ مالك رحمه الله في منع الزيادة حتى جعل المتوهَّم كالمتحقق ، فمنع ديناراً ودرهماً بدينار ودرهم سَدّاً للذَّريعة وحَسْماً للتَوهُّمات ؛ إذ لولا توهَّم الزيادة لما تبادلا.
وقد عُلّل منع ذلك بتعذر المماثلة عند التوزيع ؛ فإنه يلزم منه ذهب وفضة بذهب.
وأوضح من هذا منعه التفاضل المعنويّ ، وذلك أنه منع ديناراً من الذهب العالي وديناراً من الذهب الدّون في مقابلة العالي وألغى الدون ، وهذا من دقيق نظره رحمه الله ؛ فدل أن تلك الرواية عنه مُنْكَرة ولا تصح.
والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 348 ـ 351}
فصل نفيس
قال القرطبى : (9/265)
اعلم ـ رحمك الله ـ أن مسائل هذا الباب كثيرة وفروعه منتشرة ، والذي يربط لك ذلك أن تنظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في عِلّة الربا ؛ فقال أبو حنيفة : علة ذلك كونه مكيلاً أو موزوناً جنساً ، فكل ما يدخله الكيل أو الوزن عنده من جنس واحد ، فإن بيع بعضه ببعض متفاضلاً أو نَسِيئاً لا يجوز ؛ فمنع بَيْع التراب بعضه ببعض متفاضلاً ؛ لأنه يدخله الكيل ، وأجاز الخبزَ قُرْصاً بقرصين ؛ لأنه لم يدخل عنده في الكيل الذي هو أصله ، فخرج من الجنس الذي يدخله الربا إلى ما عداه.
وقال الشافعيّ : العِلّة كونه مطعوماً جنْساً.
هذا قوله في الجديد ؛ فلا يجوز عنده بيع الدقيق بالخبز ولا بيع الخبز بالخبز متفاضلاً ولا نسيئا ، وسواء أكان الخبز خميراً أو فَطيراً.
ولا يجوز عنده بيضة ببيضتين ، ولا رُمّانة برمانتين ، ولا بطيخة ببطيختين لا يداً بِيَد ولا نسيئة ؛ لأن ذلك كله طعام مأكول.
وقال في القديم : كونه مكيلاً أو موزوناً.
واختلفت عبارات أصحابنا المالكية في ذلك ؛ وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتاً مدّخراً للعيش غالباً جنساً ؛ كالحنطة والشعير والتّمْر والملح المنصوص عليها ، وما في معناها كالأرز والذرة والدّخْن والسِّمْسِم ، والقَطَانِيّ كالفول والعَدَس واللُّوبْياء والحِمّص ، وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت ، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون ، واختُلف في التين ، ويلحق بها العسل والسكر.
فهذا كله يدخله الربا من جهة النَّسَاء.
وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام : " إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفّاح والبطّيخ والرُّمان والكُمِّثْرى والقِثّاء والخيار والباذَنْجان وغير ذلك من الخضروات.
قال مالك : لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلاً ؛ لأنه مما يدّخر ، ويجوز عنده مِثْلاً بمثْل.
(9/266)
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : جائزٌ بيضة ببيضتين وأكثر ؛ لأنه مما لا يدّخر ، وهو قول الأُوزاعيّ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 352 ـ 353}
قوله تعالى : {لا يقومون إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس}
قال ابن عاشور :
قوله : {لا يقومون} حقيقة القيام النهوض والاستقلال ، ويطلق مجازاً على تحسّن الحال ، وعلى القوة ، من ذلك قامت السوق ، وقامت الحرب.
فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى : لا يقومون يوم يقوم الناس لرب العالمين إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان ، أي إلاّ قياماً كقيام الذي يتخبّطه الشيطان ، وإن كان القيامَ المجازي فالمعنى إما على أنّ حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعاً لجشعهم ، قاله ابن عطية ، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم ، ووفرة مالهم ، وقوة تجارتهم ، بما يظهر من حال الذي يتخبّطه الشيطان حتى تخاله قوياً سريع الحركة ، مع أنّه لا يملك لنفسه شيئاً.
فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار ، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله : {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا} ، وهي على المعنى المجازي تشنيع ، أو توعّد بسوء الحال في الدنيا ولُقِّيَ المتَاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 81 ـ 82}
فصل
قال الفخر : (9/267)
التخبط معناه الضرب على غير استواء ، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه : إنه يخبط خبط عشواء ، وخبط البعير للأرض بأخفافه ، وتخبطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون لأنه كالضرب على غير الاستواء في الإدهاش ، وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل خبطة ، ويقال : به خبطة من جنون ، والمس الجنون ، يقال : مس الرجل فهو ممسوس وبه مس ، وأصله من المس باليد ، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ، ثم سمي الجنون مساً ، كما أن الشيطان يتخبطه ويطؤه برجله فيخبله ، فسمي الجنون خبطة ، فالتخبط بالرجل والمس باليد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 77}
وقال ابن عاشور :
التخبّط مطاوع خَبَطه إذا ضربه ضرباً شديداً فاضطرب له ، أي تحرّك تحرّكاً شديداً ، ولما كان من لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق ، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق.
ثم إنّهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعدّياً إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار ، فعِوضاً عن أنّ يقولوا خبطه فتخبّط يقولون تخبّطه كما قالوا : اضطَرّه إلى كذا.
فتخبُّط الشيطان المرءَ جَعْله إياه متخبّطاً ، أي متحرّكاً على غير اتّساق.
والذي يتخبّطه الشيطان هو المجنون الذيب أصابه الصرع.
فيضطرب به اضطرابات ، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام ، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلاّ لَما فهمت الهيأة المشبّه بها ، وقد عُرِف ذلك عندهم.
قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير ، بعد أن سارت ليلاً كاملاً :
وتُصبح عن غِب السري وكأنّها
ألمّ بها من طائف الجنِّ أوْلَقُ...
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 82}
سؤالان
السؤال الأول : التخبط تفعل ، فكيف يكون متعدياً ؟ .
الجواب : تفعل بمعنى فعل كثير ، نحو تقسمه بمعنى قسمه ، وتقطعه بمعنى قطعه.
السؤال الثاني : بم تعلق قوله {مِنَ المس}.
قلنا : فيه وجهان(9/268)
أحدهما : بقوله {لاَ يَقُومُونَ} والتقدير : لا يقومون من المس الذي لهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان والثاني : أنه متعلق بقوله {يقوم} والتقدير لا يقومون إلا كما يقوم المتخبط بسبب المس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 77 ـ 78}
فصل
قال الفخر :
قال الجبائي : الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة لأن الشيطان يمسه ويصرعه وهذا باطل ، لأن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم ويدل عليه وجوه :
أحدها : قوله تعالى حكاية عن الشيطان {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [ إبراهيم : 22 ] وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء والثاني : الشيطان إما أن يقال : إنه كثيف الجسم ، أو يقال : إنه من الأجسام اللطيفة ، فإن كان الأول وجب أن يرى ويشاهد ، إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفاً ويحضر ثم لا يرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها ، وذلك جهالة عظيمة ، ولأنه لو كان جسماً كثيفاً فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان ، وأما إن كان جسماً لطيفاً كالهواء ، فمثل هذا يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة ، فيمتنع أن يكون قادراً على أن يصرع الإنسان ويقتله الثالث : لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوّة الرابع : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان ، ولم لا يغصب أموالهم ، ويفسد أحوالهم ، ويفشي أسرارهم ، ويزيل عقولهم ؟ وكل ذلك ظاهر الفساد ، واحتج القائلون بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء بوجهين الأول : ما روي أن الشياطين في زمان سليمان بن داود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات.(9/269)
والجواب عنه : أنه تعالى كلفهم في زمن سليمان فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال وكان ذلك من المعجزات لسليمان عليه السلام والثاني : أن هذه الآية وهي قوله {يَتَخَبَّطُهُ الشيطان} صريح في أن يتخبطه الشيطان بسبب مسّه.
والجواب عنه : أن الشيطان يمسّه بوسوسته المؤذية التي يحدث عندها الصرع ، وهو كقول أيوب عليه السلام {أَنّى مَسَّنِىَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ ص : 41 ] وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة لأن الله تعالى خلقه من ضعف الطباع ، وغلبة السوداء عليه بحيث يخاف عند الوسوسة فلا يجترىء فيصرع عند تلك الوسوسة ، كما يصرع الجبان من الموضع الخالي ، ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين ، وأهل الحزم والعقل وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل في الدماغ فهذا جملة كلام الجبائي في هذا الباب ، وذكر القفال فيه وجه آخر ، وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن ، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا ، وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان ، كما في قوله تعالى : {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤوسُ الشياطين} [ الصافات : 65 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 78}
بحث نفيس للبقاعى
قال عليه الرحمة :
قال البيضاوي تبعاً للزمخشري : التخبط والمس وارد على ما يزعمون أي العرب أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله - انتهى.
وظاهره إنكار ذلك وليس بمنكر بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، قال المهدوي في تفسيره : وهذا دليل على من أنكر أن الصرع من جهة الجن وزعم أنه فعل الطبائع.
وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد : وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشياطين مما انعقد عليه إجماع الآراء ونطق به كلام الله سبحانه وتعالى وكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،
وحكي مشاهدة الجن عن كثير من العقلاء وأرباب المكاشفات من الأولياء ، (9/270)
فلا وجه لنفيها ؛ وقال : الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة ،
والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية ؛ ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الناس ولا يرون بحس البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات - انتهى.
وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن " الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " وورد " أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب " ونحو ذلك ؛ وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك ،
فأما مشاهدة المصروع يخبر بالمغيبات وهو مصروع غائب الحس ، وربما كان يلقى في النار وهو لا يحترق ،
وربما ارتفع في الهواء من غير رافع ،
فكثير جداً لا يحصى مشاهدوه - إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين ؛ وها أنا أذكر لك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم من كتب الله القديمة ما فيه مقنع لمن تدبره - والله سبحانه وتعالى الموفق : روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله! إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند أغدائنا وعشائنا فيخبث علينا ،
فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا فثعّ ثعة وخرج من صدره مثل الجرو الأسود " فثعّ ثعة بمثلثة ومهملة أي قاء وللدارمي أيضاً وعبد بن حميد بسند صحيح حسن أيضاً عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : " خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلنا ،
فعرضت له امرأة معها صبي لها فقالت : يا رسول الله! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار ، (9/271)
فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال : اخسأ عدو الله أنا رسول الله ثلاثاً! ثم دفعه إليها " وأخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع وأن ذلك في حرة واقم ،
قال جابر : " فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما فقالت : يا رسول الله! اقبل مني هديتي ،
فوالذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعد ذلك! فقال : خذوا منها واحداً وردوا عليها الآخر "
وروى البغوي في شرح السنة عن يعلى بن مرة رضي الله تعالى عنه.
وفي الإنجيل من ذلك كثير جداً ،
قال في إنجيل متى ولوقا ومُرقُس يزيد أحدهم على الآخر وقد جمعت بين ألفاظهم : وجاء يعني عيسى عليه الصلاة والسلام إلى عبر البحر إلى كورة الجرجسيين ،
وقال في إنجيل لوقا : التي هي مقابل عبر الجليل ،
فلما خرج من السفينة استقبله مجنون ،
قال لوقا : من المدينة معه شياطين ،
وقال متى مجنونان جائيان من المقابر رديئان جداً حتى أنه لم يقدر أحد أن يجتاز من تلك الطريق فصاحا قائلين : ما لنا ولك يا يسوع! جئت لتعذبنا قبل الزمان ؛ قال لوقا : وكان يربط بالسلاسل والقيود ويحبس ،
وكان يقطع الرباط ويقوده الشيطان إلى البراري ،
فسأله يسوع : ما اسمك ؟ فقال : لاجاون ،
لأنه دخل فيه شياطين كثيرة ؛ وقال مرقس : فقال له : اخرج أيها الروح النجس! اخرج من الإنسان ،
ثم قال له : ما اسمك ؟ فقال : لاجاون اسمي لأنا كثير ،
وطلب إليه أن يرسلهم خارجاً من الكورة ؛ وكان هناك نحو الجبل قطيع خنازير كثيرة يرعى بعيداً منهم ،
فطلب إليه الشياطين قائلين : إن كنت تخرجنا فأرسلنا إلى قطيع الخنازير فقال لهم : اذهبوا ،
وقال مرقس : فأذن لهم يسوع ،
فللوقت خرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير وقال : متى : فلما خرجوا ومضوا في الخنازير وإذا بقطيع خنازير قد وثب على جرف وتواقع في البحر ومات جميعه في المياه ،
(9/272)
وأن الرعاة هربوا ومضوا إلى المدينة وأخبروهم بكل شيء وبالمجنونين ،
فخرج كل من في المدينة للقاء يسوع ؛ قال مرقس : وأبصروا ذلك المجنون جالساً لابساً عفيفاً فخافوا ،
فلما أبصروه - يعني عيسى عليه الصلاة والسلام - طلبوا إليه أن يتحول عن تخومهم ؛ قال لوقا : لأنهم خافوا عظيماً ،
وقال مرقس : فلما صعد السفينة طلب إليه المجنون أن يكون معه فلم يدعه يسوع لكن قال له امض إلى بيتك وعرفهم صنع الرب بك ورحمته إياك ،
فذهب وكرز في العشرة مدن ،
وقال كل ما صنع به يسوع فتعجب جميعهم ؛ وفي إنجيل لوقا معناه ،
وفي آخره : فذهب وكان ينادي في المدينة كلها بكل ما صنعه معه يسوع ؛ وفي إنجيل متى : فلما خرج يسوع من هناك قدموا إليه أخرس به شيطان ،
فلما خرج الشيطان تكلم الأخرس ،
فتعجب الجميع قائلين : لم يظهر قط هكذا في بني إسرائيل ،
فقال الفريسيون : إنه باركون الشياطين يخرج الشياطين.
ثم قال : حينئذ أتى إليه بأعمى به شيطان أخرس ،
فأبرأه حتى أن الأخرس تكلم وأبصر ،
فبهت الجمع كلهم وقالوا : لعل هذا هو ابن داود ،
فتسمع الفريسيون فقالوا : هذا لا يخرج الشياطين إلا بباعل زبول رئيس الشياطين.
وفيه بعد ذلك : فلما جاء إلى الجمع جاء إليه إنسان ساجداً له قائلاً : يا رب! وفي إنجيل لوقا : يا معلم! ارحم ابني ،
فإنه يعذب في رؤوس الأهلة ،
ومراراً كثيرة يريد أن ينطلق في النار ،
ومراراً كثيرة في الماء ؛ وفي إنجيل مرقس : قد أتيتك يا بني! وبه روح نجس وحيث ما أدركه صرعه وأزبده وضرر أسنانه فتركه يابساً ،
وفي إنجيل لوقا : أضرع إليك أن تنظر إلى ابني ،
لأنه وحيدي ،
وروح يأخذه فيصرخ بغتة ويلبطه بجهل ،
ويزيد عند انفصاله عنه ويرضضه ،
وضرعت لتلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا ؛ وفي إنجيل متى : وقدمته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يبرئوه ،
(9/273)
أجاب يسوع : أيها الجيل الأعوج الغير مؤمن! إلى متى أكون معكم! وحتى متى أحتملكم! قدمه إلى هنا ؛ وفي إنجيل لوقا : وفيما هو جاء به طرحه الشيطان ولبطه ؛ وفي إنجيل مرقس : فلما رأته الروح النجسة من ساعته صرعته وسقط على الأرض مضطرباً مزبداً ؛ ثم قال لأبيه : من كم أصابه هذا ؟ فقال : منذ صباه ،
ثم قال ما معناه : افعل معه ما استطعت وتحنن علينا ،
فقال له يسوع : كل شيء مستطاع للمؤمن ،
فصاح أبو الصبي وقال : أنا أومن فأعن ضعف إيماني ،
فلما رأى يسوع تكاثر الجمع انتهر الروح النجس وقال : يا أيها الروح الأصم الغير ناطق! أنا آمرك أن تخرج منه ولا تدخل فيه ،
فصرخ ولبطه كثيراً وخرج منه وصار كالميت ،
وقال كثير : إنه مات ،
فأمسك يسوع بيده وأقامه فوقف ؛ وفي إنجيل متى : فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان وبرىء الفتى في تلك الساعة ،
حينئذ أتى التلامذة إلى يسوع منفردين وقالوا له : لماذا لم نقدر نحن نخرجه ؟ فقال لهم يسوع : من أجل قلة إيمانكم ،
الحق أقول لكم أن لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لقلتم لهذا الجبل : انتقل من هاهنا إلى هناك ،
فينتقل ولا يعسر عليكم شيء ،
وهذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة ؛ وقال مرقس : لا يستطاع أن يخرج بشيء إلا بصلاة وصوم ؛ وقال في إنجيل مرقس : إنه كان يعلم في كفرناحوم مدينة في الجليل ،
قال : وكان في مجمعهم رجل فيه روح شيطان نجس فصاح بصوت عظيم قائلاً : ما لنا ولك يا يسوع الناصري! أتيت لتهلكنا! قد عرفنا من أنت يا قدوس الله! فنهره يسوع قائلاً : اسدد فاك واخرج منه! فأقلقته الروح النجسة وصاح بصوت عظيم وخرج منه ؛ وفي إنجيل لوقا : فطرحه الشيطان في وسطهم وخرج منه ولم يؤلمه وخاف الجمع مخاطبين بعضهم بعضاً قائلين : ما هو هذا العلم الجديد الذي سلطانه يأمر الأرواح النجسة فتطيعه! وخرج خبره في كل كورة الجليل ؛ وفيه : ثم قام من هناك وذهب إلى تخوم صور وصَيْدا ودخل إلى بيت فأراد أن لا يعلم أحد به ،
(9/274)
فلم يقدر أن يختفي ،
فلما سمعت امرأة كانت بابنة لها روح نجس جاءت إليه وسجدت قدام قدميه ،
وكانت يونانية صورية ،
وسألته أن يخرج الشيطان من ابنتها ،
فقال لها : دعي البنين حتى يشبعوا أولاً ،
لا تحسبنّ أن يؤخذ خبز البنين يدفع للكلاب ،
وأجابت بنعم يا رب! والكلاب أيضاً تأخذ مما يسقط من المائدة من فتات الأطفال ،
فقال لها من أجل هذه الكلمة : اذهبي قد خرج الشيطان من ابنتك ،
فذهبت إلى بنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها ؛ وفي آخر إنجيل مرقس : إنه أخرج من مريم المجدلانية سبعة شياطين ؛ وفي إنجيل لوقا : وكان بعد ذلك يسير إلى كل مدينة وقرية ويكرز ويكبر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر ونسوة كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة : مريم التي تدعى المجدلانية التي أخرج منها سبعة شياطين ومرثا امراة خوزي خازن هين ودس وسوسنة وأخوات كثيرات ؛ وفي إنجيل لوقا : وفيما هو يعلم في أحد المجامع في السبت فإذا امرأة معها روح مزمن منذ ثمان عشرة سنة وكانت منحنية لا تقدر أن تستوي ألبتة ،
فنظر إليها يسوع وقال : يا امرأة! أنت محلولة من مرضك ووضع يده عليها ،
فاستقامت للوقت ومجدت الله ،
فأجاب رئيس الجماعة وهو مغضب وقال للجميع : لكم ستة أيام ينبغي العمل فيها وفيها تأتون وتستشفعون إلا في السبت! فقال : يا مراؤون! واحد منكم يحل ثوره أو حماره من المدود في السبت ويذهب فيسقيه وهذه ابنة إبراهيم كان الشيطان قد ربطها منذ ثمان عشرة سنة! أما كان يحل أن تطلق من هذا الرباط في يوم السبت ؟ فلما قال هذا الكلام أخزى كل من كان يقاومه.
وكل الشعب كانوا يفرحون بالأعمال الحسنة التي كانت منه - انتهى.
وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافياً لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان مع أن فيه دلائل رادة على النصارى في ادعائهم التثليث والاتحاد وأحسن ما ردّ على الإنسان من كلامه وبما يعتقده ،
(9/275)
وسيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى في المائدة عند قوله سبحانه وتعالى : {وما من إله إلا الله} ما يلتفت إلى بعض هذا ويشرحه شرحاً جيداً نافعاً وكذا في جميع ما أنقله من الإنجيل كما ستراه إن شاء الله تعالى في مواضعه ،
وكل ما فيه من متشابه لم تألفه مما يوهم اتحاداً أو تثليثاً فلا تزدد نفرتك منه وراجع ما سيقرر في آل عمران وغيرها يرجع معك إلى المحكم رجوعاً جلياً ،
على أن أكثره إذا تؤملت أطرافه وجدته لا شبهة فيه أصلاً ، وإن لم تكن أهلاً للجري في مضمار ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه : كن ممن يعرف الرجال بالحق ولا تكن ممن يعرف الحق بالرجال ،
فانظر كتاب الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى تجده أوّل كثيراً مما ذكرته بمثل تأويلي أو قريب منه ،
ولم أر كتابه إلا بعد كتابتي لذلك - والله سبحانه وتعالى الموفق. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 531 ـ 535}
وقال القرطبى :
في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصَّرْع من جهة الجِنّ ، وزعم أنه من فِعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مَسٌّ ، وقد مضى الردّ عليهم فيما تقدّم من هذا الكتاب.
وقد روى النسائيّ عن أبي اليَسَر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : " اللّهم إني أعوذ بك من التّرَدِّي والهدم والغرق والحريق وأعوذ بك أن يتخَبّطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مُدْبِراً وأعوذ بك أن أموت لَدِيغا " ورُوي من حديث محمد بن المُثَنَّى حدّثنا أبو داود حدّثنا همّام عن قَتادة عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " اللَّهم إني أعوذ بك من الجنون والجُذام والبَرَص وسَيِّء الأسقام " والمس : الجنون ؛ يقال : مُسَّ الرّجلُ وأَلِسَ ؛ فهو ممسوس ومألُوس إذا كان مجنوناً ؛ وذلك علامة الربا في الآخرة.(9/276)
" وروي في حديث الإسراء : "فانطلق بي جبريل فمررت برجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضَّخْم متصدين على سابلة آلِ فرعون وَآلُ فرعون يُعرضون على النار بُكْرَةً وَعَشِيّاً فيُقْبِلون مثل الإبل المَهْيُومة يتخبّطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحسّ بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون بَرَاحاً حتى يغشاهم آل فرعون فيطئونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البَرْزَخ بين الدنيا والآخرة وآل فرعون يقولون اللهم لا تُقِمِ الساعة أبداً ؛ فإن الله تعالى يقول : {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [ غافر : 46 ] قلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : "هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ" " والمسّ الجنون وكذلك الأَوْلَق والأُلْس والرّود. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 355}
فصل
قال الفخر :
للمفسرين في الآية أقوال
الأول : أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا ، فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا ، فعلى هذا معنى الآية : أنهم يقومون مجانين ، كمن أصابه الشيطان بجنون.(9/277)
والقول الثاني : قال ابن منبه : يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً} [ المعارج : 43 ] إلا آكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون ، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا ، فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ، ويسقطون ، ويريدون الإسراع ، ولا يقدرون ، وهذا القول غير الأول لأنه يريد أن آكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن ، وهذا ليس من الجنون في شيء ، ويتأكد هذا القول بما روي في قصة الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق به جبريل إلى رجال كل واحد منهم كالبيت الضخم ، يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس}.
والقول الثالث : أنه مأخوذ من قوله تعالى : {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [ الأعراف : 201 ] وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، فهذا هو المراد من مس الشيطان ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً ، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى ، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى ، فحدثت هناك حركات مضطربة ، وأفعال مختلفة ، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً فيها ، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجاباً بينه وبين الله تعالى ، فالخبط الذي كان حاصلاً في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة ، وأوقعه في ذل الحجاب ، وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 78 ـ 79}
وقال القرطبى : (9/278)
قوله تعالى : {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} الجملة خبر الابتداء وهو "الَّذِينَ".
والمعنى من قبورهم ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وابن جُبير وقَتادة والربيع والضّحاك والسُّدِّي وابن زيد.
وقال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنقه.
وقالوا كلهم : يُبعث كالمجنون عقوبةً له وتمقِيتاً عند جميع أهل المَحْشَر.
ويُقوِّي هذا التأويل المُجْمَع عليه أن في قراءة ابن مسعود "لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم".
قال ابن عطية : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بِحرْص وجَشَع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة تستفِزّه حتى تضطرب أعضاؤه ؛ وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما مِن فزع أو غيره : قد جُنّ هذا! وقد شبّه الأَعْشَى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله :
وتُصبِح عن غِبّ السُّرَى وكأنّما . . .
أَلَمَّ بها من طائِف الجِنّ أوْلَقُ
وقال آخر :
لَعَمْرُك بي من حُبِّ أسماءَ أَوْلَقُ . . .
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعّف هذا التأويل.
و "يَتَخَبَّطُهُ" يتفعّله من خَبَط يخبِط ؛ كما تقول : تملّكه وتعبّده.
فجعل الله هذه العلامة لأكَلَة الربا ؛ وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم ، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون.
ويقال : إنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحُبَالَى ، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم.
وقال بعض العلماء : إنما ذلك شِعارٌ لهم يُعرفون به يوم القيامة ثم العذاب من وراء ذلك ؛ كما أن الغَالَّ يجيء بما غَلَّ يوم القيامة بشهرة يشهّر بها ثم العذاب من وراء ذلك.
وقال تعالى : "يَأْكُلُونَ" والمراد يكسبون الربا ويفعلونه.
وإنما خَصّ الأكل بالذِّكر لأنه أقوى مقاصد الإنسان في المال ؛ ولأنه دالّ عى الجشع وهو أشدّ الحرص ؛ يقال : رجل جَشِع بيّن الجَشَع وقوم جَشِعون ؛ قاله في المُجْمَل.
فأُقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كلّه ؛ فاللباس والسكنى والادّخار والإنفاق على العيال داخل في قوله : {الذين يَأْكُلُونَ}. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 354 ـ}(9/279)
فائدة
قال العلامة ابن القيم رحمه الله
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع
أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح قال : قال ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى قال : هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي فقال : [ إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك فقالت : أصبر قالت : فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها ]
قلت : الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية وصرع من الأخلاط الرديئة والثاني : هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه
وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدافع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه فذكر بعض علاج الصرع وقال : هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها
وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع : المرض الإلهي وقالوا : إنه من الأرواح وأما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا : إنما سموه بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فنضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ
وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده
ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم(9/280)
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان فإن هذا نوع محاربة والمحارب لا يتم له الإنتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا وأن يكون الساعد قويا فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل فكيف إذا عدم الأمران جميعا : يكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ولا سلاح له
والثاني : من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله : اخرج منه أو بقول : بسم الله أو بقول لا حول ولا قوة إلا بالله والنبى صلى الله عليه وسلم كان يقول : [ اخرج عدو الله أنا رسول الله ]
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول : قال لك الشيخ : اخرجي فإن هذا لا يحل لك فيفيق المصروع وربما خاطبها بنفسه وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع ولا يحس بألم وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا
وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع : {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [ المؤمنون : 115 ]
وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع فقالت الروح : نعم ومد بها صوته قال : فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب ولم يشك الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب ففي أثناء الضرب قالت : أنا أحبه فقلت لها : هو لا يحبك قالت : أنا أريد أن أحج به فقلت لها : هو لا يريد أن يحج معك فقالت : أنا أدعه كرامة لك قال : قلت : لا ولكن طاعة لله ولرسوله قالت : فأنا أخرج منه قال : فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا وقال : ما جاء بي إلى حضرة الشيخ قالوا له : وهذا الضرب كله ؟ فقال : وعلى أي شئ يضربني الشيخ ولم أذنب ولم يشعر بأنه وقع به ضرب البتة(9/281)
وكان يعالج بآية الكرسي وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن يعالجه بها وبقراءة المعوذتين
وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والايمانية فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا
ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ولا يمكنها الإمتناع عنها ولا مخالفتها وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة وبالله المستعان
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل وأن تكون الجنة والنار نصب عينيه وقبلة قلبه ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات والآفات بهم ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر وهم صرعى لا يفيقون وما أشد داء هذا الصرع ولكن لما عمت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعا لم يصر مستغربا ولا مستنكرا بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه
فإذا أراد الله بعبد خيرا أفاق من هذه الصرعة ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا على اختلاف طبقاتهم فمنهم من أطبق به الجنون ومنهم من يفيق أحيانا قليلة ويعود إلى جنونه ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط
فصل(9/282)
وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية من الأفعال والحركة والإنتصاب منعا غير تام وسببه خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدة غير تامة فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذا تاما من غير انقطاع بالكلية وقد تكون لأسباب أخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالبا
وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها لا سيما إن تجاوز في السن خمسا وعشرين سنة وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره فإن صرع هؤلاء يكون لازما قال أبقراط : إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا
إذا عرف هذا فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتتكشف يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها النبى صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها على هذا المرض ودعا لها أن لا تتكشف وخيرها بين الصبر والجنة وبين الدعاء لها
بالشفاء من غير ضمان فاختارت الصبر والجنة
وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي وأن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء وأن تأثيره وفعله وثأثر الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها وقد جربنا هذا مرارا نحن وغيرنا وعقلاء الأطباء معترفون بأن لفعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم والظاهر : أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع ويجوز أن يكون من جهة الأرواح ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيرها بين الصبر على ذلك مع الجنة وبين الدعاء لها بالشفاء فاختارت الصبر والستر والله أعلم. أ هـ {زاد المعاد حـ 4 صـ 60 ـ 64}(9/283)
بحث نفيس
قال صاحب الميزان :
الإنسان الممسوس وهو الذي اختلت قوته المميزة فهو لا يفرق بين الحسن والقبيح والنافع والضار والخير والشر ، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد ، لكن لا لأنه ناس لمعنى الحسن والقبح وغيرهما فإنه بالآخرة إنسان ذو إرادة ، ومن المحال أن يصدر عن الإنسان غير الأفعال الإنسانية بل لأنه يرى القبيح حسنا والحسن قبيحا والخير والنافع شرا وضارا وبالعكس فهو خابط في تطبيق الأحكام وتعيين الموارد.
وهو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عاديا دون العكس فإن لازم ذلك أن يكون عنده آراء وأفكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس ، بل قد اختل عنده حكم العادة وغيره وصار ما يتخيله ويريده هو المتبع عنده ، فالعادي وغير العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط وتضرب على غير استواء ، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة إلا مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه ، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة فافهم ذلك.
وهذا حال المرابي في أخذه الربا (إعطاء الشئ وأخذ ما يماثله وزيادة بالأجل) فإن الذي تدعو إليه الفطرة ويقوم عليه أساس حياة الإنسان الاجتماعية أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغنى عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه ، وأما إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شئ ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة ، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمعه وتراكمه عند المرابي ، فإن هذا المال لا يزال ينمو ويزيد ، ولا ينمو إلا من مال الغير ، فهو بالانتقاص والانفصال من جانب ، والزيادة والانضمام إلى جانب آخر.
وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايدا لا يتداركه شئ مع تزايد الحاجة وكلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه ، وفي ذلك انهدام حياة المدين.(9/284)
فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.
وهذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس ، فإن المراباة تضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرق بين البيع والربا ، فإذا دعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع أجاب أن البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية ، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع ، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم : {إنما البيع مثل الربا}.
ومن هذا البيان يظهر : أولا : أن المراد بالقيام في قوله تعالى : {لا يقومون إلا كما يقوم} ، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة فإنه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم ، قال تعالى : " ليقوم الناس بالقسط " الحديد - 25 ، وقال تعالى : " أن تقوم السماء والأرض بأمره " الروم - 25 ، وقال تعالى : " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " النساء - 127 ، وأما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا يناسب المورد ، ولا يستقيم عليه معنى الآية.
وثانيا : أن المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي تظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين ، فإن ذلك لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام ، وهو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع والربا ، وبناء عمله عليه ، ومحصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط ، وكم من فرق بينهما وبين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع ، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة.
وثالثا : النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى : {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} ، ولم يقل : إنما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن وسيجئ توضيحه.(9/285)
ورابعا : أن التشبيه أعني قوله : {الذي يتخبطه الشيطان من المس} لا يخلو عن إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة ، فإن الآية وإن لم تدل على أن كل جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس الشيطان ، وكذلك الآية وإن لم تدل على أن هذا المس من فعل إبليس نفسه فإن الشيطان بمعنى الشرير ، يطلق على إبليس وعلى شرار الجن وشرار الإنس ، وإبليس من الجن ، فالمتيقن من إشعار الآية أن للجن شأنا في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلهم.
وما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين ، ولا ضير في ذلك لأنه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع ، فحقيقة معنى الآية ، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وأما كون الجنون مستندا إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لأن الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن.
ففيه : أنه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلا مع بيان بطلانه ورده على قائله ، وقد قال تعالى : في وصف كلامه {كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} فصلت - 42 ، وقال تعالى : " إنه لقول فصل وما هو بالهزل " الطارق - 14.
وأما أن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى ، ففيه أن الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعية ، فإنها أيضا مستنده بالآخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.
على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إياه إشكال.
لأن التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع ، وإنما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقلي عن مجرى الحق وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله ، كان يشاهد الإنسان العاقل(9/286)
الحسن قبيحا وبالعكس ، أو يرى الحق باطلا وبالعكس جزافا بتصرف من الشيطان ، فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى ، وأما ذهاب القوة المميزة وفساد حكمها تبعا لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.
على أن استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة ورائها الشيطان ، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين ، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب (عليه السلام) إذ قال : " أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " ص - 41 ، وإذ قال : " أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " الأنبياء - 83 ، والضر هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن ، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان.
وهذا وما يشبهه ، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث إن أصحاب المادة لما سمعوا الإلهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه ، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية وإقامة لما وراء الطبيعة مقامها ، ولم يفقهوا أن المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل ، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مرارا.
وخامسا : فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين : أن المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة وأنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه الجنون.
ووجه الفساد أن ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى ، والرواية لا تجعل للآية ظهورا فيما ليست بظاهرة فيه ، وإنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة.(9/287)
قال في تفسير المنار : وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره : المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة : قد جن.
أقول : وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا : إن المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث ، وأن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين ، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود بل روى الطبراني
من حديث عوف بن مالك مرفوعا " إياك والذنوب التي لا تغفر : الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة ، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط.
ثم قال : والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال ، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث ، وهذه الروايات لا يسلم منها شئ من قول في سنده ، وهي لم تنزل مع القرآن ، ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية ، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية إلا من لم يظهر له صحته في الواقع.
ثم قال : وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها ، وقلما يصح في التفسير شئ ، انتهى ما ذكره.
ولقد أصاب فيما ذكره من خطئهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال : أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإن أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه ، وجعلوه مقصودا لذاته ، وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار ، يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم ، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة.(9/288)
وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء ، انتهى.
فإن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال والانتظام وإن كان في نفسه صحيحا لكن لا هو معلول أكل الربا محضا ، ولا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية : أما الأول فإنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية وإخلادهم إلى لذائذ المادة ، ذلك مبلغهم من العلم ، فسلبوا بذلك العفة الدينية والوقار النفساني ، وتأثرت نفوسهم عن كل لذة يسيرة مترائية من المادة ، وتعقب ذلك اضطراب حركاتهم ، وهذا مشاهد محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا وإن لم يمس الربا طول حياته.
وأما الثاني فلأن الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه ، فإن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله : {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} ، ولو كان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم وفساد النظم في أعمالهم.
فالمصير إلى ما قدمناه. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 411 ـ 415}(9/289)
قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا}
فصل
قال الفخر :
القوم كانوا في تحليل الربا على هذه الشبهة ، وهي أن من اشترى ثوباً بعشرة ثم باعه بأحد عشر فهذا حلال ، فكذا إذا باع العشرة بأحد عشرة يجب أن يكون حلال ، لأنه لا فرق في العقل بين الأمرين ، فهذا في ربا النقد ، وأما في ربا النسيئة فكذلك أيضاً ، لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر ، وجب أن يجوز لأنه لا فرق في العقل بين الصورتين ، وذلك لأنه إنما جاز هناك ، لأنه حصل التراضي من الجانبين ، فكذا ههنا لما حصل التراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضاً ، فالبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات ، ولعلل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة ، ويكون له في المستقبل من الزمان أموال كثيرة ، فإذا لم يجز الربا لم يعطه رب المال شيئاً فيبقى الإنسان في الشدة والحاجة ، إما بتقدير جواز الربا فيعطيه رب المال طمعاً في الزيادة ، والمديون يرده عند وجدان المال ، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال ، فهذا يقتضي حل الربا كما حكمنا بحل سائر البياعات لأجل دفع الحاجة ، فهذا هو شبهة القوم ، والله تعالى أجاب عنه بحرف واحد ، وهو قوله {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} ووجه الجواب أن ما ذكرتم معارضة للنص بالقياس ، وهو من عمل إبليس ، فإنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم عارض النص بالقياس ، فقال :
{أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ الأعراف : 12 ] [ ص : 76 ](9/290)
واعلم أن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف ، فقالوا : لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة ، فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس ، وذكر القفال رحمة الله عليه الفرق بين البابين ، فقال : من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلاً بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما ، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض ، أما إذا باع العشرة بالعشرة فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض ، ولا يمكن أن يقال : إن غرضه هو الامهال في مدة الأجل ، لأن الامهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة ، فظهر الفرق بين الصورتين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 79 ـ 80}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} معناه عند جميع المتأوّلين في الكفار ، ولهم قيل : "فَلَهُ مَا سَلَفَ" ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه ويرد فعله وإن كان جاهلاً ؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : " مَن عمل عَملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ " لكن قد يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 355 ـ 356}
فائدة
قال الفخر :
ظاهر قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} يدل على أن الوعيد إنما يحصل باستحلالهم الربا دون الإقدام عليه ، وأكله مع التحريم ، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون الربا من الكبائر.
فإن قيل : مقدمة الآية تدل على أن قيامهم يوم القيامة متخبطين كان بسبب أنهم أكلوا الربا.(9/291)
قلنا : إن قوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} صريح في أن العلة لذلك التخبط هو هذا القول والاعتقاد فقط ، وعند هذا يجب تأويل مقدمة الآية ، وقد بينا أنه ليس المراد من الأكل نفس الأكل ، وذكرنا عليه وجوهاً من الدلائل ، فأنتم حملتموه على التصرف في الربا ، ونحن نحمله على استحلال الربا واستطابته ، وذلك لأن الأكل قد يعبر به عن الاستحلال ، يقال : فلان يأكل مال الله قضماً خصماً ، أي يستحل التصرف فيه ، وإذا حملنا الأكل على الاستحلال ، صارت مقدمة الآية مطابقة لمؤخرتها ، فهذا ما يدل عليه لفظ الآية ، إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا ، لا على وعيد من يستحل هذا العقد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 80}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقولهم : {إنما البيع مثل الربا} قصر إضافي للردّ على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع ، ولمّا صُرح فيه بلفظ مِثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع ، ولا يقال : إنّ الظاهر أن يقولوا إنّما الربا مثل البيع لأنّه هو الذي قصد إلحاقه به ، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة ؛ لأنّا نقول : ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع ، فهما في الخطور بأذهانهم سواء ، غير أنّهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيعُ حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا ، أو أنّهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضاً بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسمّاة في الأصول بقياس العكس ؛ لأنّ قياس العكس إنّما يُلتجأ إليه عند كفاح المناظرة ؛ لا في وقت استنباط المجتهد في خاصّة نفسه.
وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 83 ـ 84}
وقال ابن كثير : (9/292)
وقوله : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} أي : إنما جُوزُوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه ، وليس هذا قياسًا منهم للربا على البيع ؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع ، وإنما قالوا : {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي : هو نظيره ، فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع ، أي : هذا مثل هذا ، وقد أحل هذا وحرم هذا !. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 709}
سؤال : لم لم يقل : إنما الربا مثل البيع ، وذلك
لأن حل البيع متفق عليه ، فهم أرادوا أن يقيسوا عليه الربا ، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ، فكان نظم الآية أن يقال : إنما الربا مثل البيع ، فما الحكمة في أن قلب هذه القضية ، فقال : {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا}.
والجواب : أنه لم يكن مقصود القوم أن يتمسكوا بنظم القياس ، بل كان غرضهم أن الربا والبيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والثاني بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 80}
قوله تعالى : {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا}
فصل
قال الفخر : (9/293)
يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار ، والمعنى أنهم قالوا : البيع مثل الربا ، ثم إنكم تقولون {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} فكيف يعقل هذا ؟ يعني أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعاً للتفرقة بين المثلين ، وذلك غير لائق بحكمة الحكيم فقوله {أَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد ، وأما أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} وأما قوله {أَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالاً لقول الكفار إنما البيع مثل الربا ، والحجة على صحة هذا القول وجوه :
الحجة الأولى : أن قول من قال : هذا كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار ، أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين ، ومعلوم أن الإضمار خلاف الأصل ، وأما إذا جعلناه كلام الله ابتداء لم يحتج فيه إلى هذا الإضمار ، فكان ذلك أولى.
الحجة الثانية : أن المسلمين أبداً كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار ، وإلا لما جاز لهم أن يستدلوا به ، وفي هذه الحجة كلام سيأتي في المسألة الثانية.(9/294)
الحجة الثالثة : أنه تعالى ذكر عقيب هذه الكلمة قوله {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله وَمَنْ عَادَ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا} فظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم لما تمسكوا بتلك الشبهة وهي قوله {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشبهة وعن ضعفها ، ولو لم يكن قوله {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكوراً فلم يكن قوله {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ} لائقاً بهذا الموضع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 80 ـ 81}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخراً كمثل أصل الثمن في أوّل العقد ، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك ؛ فكانت إذا حلّ ديْنها قالت للغريم : إما أن تَقْضِي وإما أن تُرْبِي ، أي تزيد في الدَّين.
فحرم الله سبحانه ذلك وردّ عليهم قولهم بقوله الحق : {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} وأوضح أن الأجل إذا حلّ ولم يكن عنده ما يؤدّي أُنْظِر إلى المَيْسرة.
وهذا الربا هو الذي نسخه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لمّا قال : " ألا إن كل رباً موضوع وإن أوّل رِبا أضعه رِبانا رِبَا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله " فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمِّه وأخص الناس به.
وهذا من سنن العدل للإمام أن يُفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 356}
فائدة
قال البقاعى :
وفي الآية إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى قضى بنزع نور العقل من المربي ودل على ذلك بقوله : {ذلك} أي الأمر البعيد من الصواب {بأنهم} أي المربون {قالوا} جدالاً لأهل الله {إنما البيع} أي الذي تحصرون الحل فيه يا أهل الإسلام {مثل الربا} في أن كلاًّ منهما معاوضة ،
فنحن نتعاطى الربا كما تتعاطون أنتم البيع ، (9/295)
فما لكم تنكرونه علينا ؟ فَجعْلهُم الربا أصلاً انسلاخ مما أودعه الله في نور العقل وحكم الشرع وسلامة الطبع من الحكمة ؛ والبيع كما عرفه الفقهاء نقل ملك بثمن.
وقال الحرالي : هو رغبة المالك عما في يده إلى ما في يد غيره ،
والشراء رغبة المستملك فيما في يد غيره بمعاوضة بما في يده مما رغب عنه ،
فلذلك كل شار بائع {وأحل} أي والحال أنه أحل {الله} الذي له تمام العظمة المقتضية للعدل {البيع} أي لما فيه من عدل الانتفاع ،
لأنه معاوضة على سبيل النصفة للتراضي من الجانبين ،
لأن الغبن فيه غير محقق على واحد منهما ،
لأن من اشترى ما يساوي درهماً بدرهمين يمكن أن يبيعه بعد ذلك لرواجه أو وجود راغب فيه لأمر دعاه إليه بثلاثة {وحرم الربا} لما فيه من اختصاص أحد المتعاملين بالضرر والغبن والآخر بالاستئثار على وجه التحقيق ،
فإن من أخذ درهماً بدرهمين لا يرجى خير ما فاته من ذلك الوجه أصلاً ،
وكذلك ربا المضاعفة وهو ما إذا طلب دينه فكان الغريم معسراً فألزمه بالدفع أو الزيادة في الدين فإنه ليس في مقابلة هذا الزائد شيء ينتفع به المدين.
قال الحرالي : فيقع الإيثار قهراً وذلك الجور الذي يقابله العدل الذي غايته الفضل ، فأجور الجور في الأموال الربا ،
وأجور الجور في الربا الربا كالذي يقتل بقتيل قتيلين ،
وكل من طفف في ميزان فتطفيفه ربا بوجه ما ؛ ولذلك تعددت أبواب الربا وتكثرت ؛ قال قال صلى الله عليه وسلم : " الربا بضع وسبعون باباً ،
والشرك مثل ذلك وهذا رأسه " وهو ما كانت تتعامل به أهل الجاهلية ،
من قولهم : إما أن تربي وإما أن تقضي ،
ثم لحق به سائر أبوابه ،
فهو انتفاع للمربي وتضرر للذي يعطي الربا ، (9/296)
وهذا أشد الجور بين العبيد الذين حظهم التساوي في أمر بلغة الدنيا ؛ فكما أعلمهم سبحانه وتعالى أثر حكمة الخير في الإنفاق أعلمهم أثر حكمة الشر في الربا في دار الآخرة وفي غيب أمر الدنيا وكما أنه يعجل للمنفق خلفاً في الدنيا كذلك يعجل للمربي محقاً في الدنيا حسب ما صرح به الخطاب بعد هذا الإشعار - انتهى.
ومادة بيع بجميع تقاليبها التسعة يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة : بيع وعيب وعبي وبوع وبعو ووبع ووعب وعبو وعبا - تدور على الاتساع ،
فالبيع يدور على التصرف التام بالقوة تارة وبالفعل أخرى ، والذي بالفعل يكون بالملك تارة وبغيره أخرى ،
والذي بالملك يكون بالتحصيل تارة وبالإزالة أخرى ،
ولا يخفى أن كل ذلك من الاتساع فمن الذي بالقوة : باعه من السلطان سعى به إليه ،
وامرأة بائع إذا كانت نافقة لجمالها ،
والبياعة السلعة ،
والبيّع كسيد : المساوم ،
وأبعته بمعنى عرضته للبيع ؛ ومن الذي بالفعل من غير ملك : باع على بيعه أي قام مقامه في المنزلة والرفعة وظفر به ،
وكذا أبعت الرجل فرساً أي أعرته إياه ليغزو عليه ؛ ومن الذي بالملك إزالة : بعته وأبعته أي أزلت ملكي عنه بثمن ،
واستباعه سأله أن يبيعه منه ،
وانباع نفق ،
وانباع لي في سلعته سامح في بيعها وامتد إلى الإجابة إليه ؛ ومن الذي بالملك تحصيلاً : باع الشيء بمعنى اشتراه.
قال الفارابي في ديوان الأدب : قال أبو ثروان : بع لي تمراً بدرهم - يريد اشتر ،
وهذا الحرف من الأضداد ،
وابتاعه : اشتراه.
والعيب بمعنى الوصمة توسع الكلام في العرض وسببه توسع الإنسان في قول أو فعل على غير منهاج العقل ،
والعيبة وعاء من أدم يوضع فيه المتاع وهي أيضاً الصدر والقلب وموضع السر ،
والعائب من اللبن الخادر أي الآخذ طعم حموضة إما من العيب وإما لأنه انتشر عن طعمه الأول ؛ والعباية ضرب من الأكسية لاتساعه عن الأزر ونحوها طولاً وعرضاً والرجل الجافي الثقيل تشبيهاً بها في الخشونة والثقالة ، (9/297)
وتعبئة الجيش تهيئته من موضعه كأن مراكزه عياب له وضعت كل فرقة منه في عيبتها ،
وعيبك من الجزور نصيبك ،
والتعابي أن يميل رجل مع قوم وآخر مع آخرين لأن ذلك اتساع بالفريقين وانتشار من الرجلين ؛ ومن المهموز العبء - بالكسر وهو الحمل الثقيل من أي شيء كان لأنه بقدر وسع الحامل أو فوق وسعه وهو أوسع مما دونه من الأحمال ، وهو أيضاً العدل لأنه يسع ما يوضع فيه والمثل ،
ويفتح لأن الاثنين أوسع من الواحد ،
والعبء بالفتح ضياء الشمس وهو واضح في السعة ،
وعبأ المتاع والأمر كمنع هيأ كعبأه تعبئة لأنه أعطاه ما يسعه ووضعه في مواضع تسعه ،
والطيب صنعه وخلطه فاتسع بالخلط وانتشرت رائحته بالصنعة ؛ والعباء كساء معروف وهو يسع ما يلف به كالعباية ،
والأحمق الثقيل الوخم وتقدم تخريجه ويمكن جعله من العبء بمعنى الحمل وبمعنى الثقيل والمعبأة كمكنسة خرقة الحائض لأنها بقدر ما يسعه الفرج ،
والمعبأ كمقعد المذهب لاتساعه للذاهب فيه ،
وما أعبأ به ما أصنع ،
وبفلان : ما أبالي أي ما أوسع الفكر فيه - انتهى المهموز ؛ والباع قدر مد اليدين والشرف والكرم ،
والبوع أبعاد خطو الفرس في جريه ،
وبسط اليد بالمال ،
والمكان المنهضم أي المطمئن في لصب الجبل - واللصب بالكسر الشعب الصغير من الجبل أضيق من اللهب وأوسع من الشقب ،
واللهب مهواة ما بين كل جبلين أو الصدع في الجبل أو الشعب الصغير ،
والشعب بالعين الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض أو ما انفرج بين الجبلين ،
والشقب بالقاف صدع يكون في لهوب الجبال ولصوب الأودية دون الكهف توكر فيه الطير - وباعة الدار ساحتها ، والبائع ولد الظبي إذا باع في مشيه ،
وانباع العرق سال ،
والحية بسطت نفسها بعد تحوّيها لتساور ؛ والوبّاعة الاست لاتساعها بخروج الخارج منها ،
وكذبت وبّاعته أي حبق يعني ضرط ،
والوباعة من الصبي ما يتحرك من يافوخه لامتداده إلى الحركة ،
ووعبه كوعده أخذه أجمع ،
كأوعبه واستوعبه ،
وأوعب جمع ، (9/298)
والشيء في الشيء أدخله كله أي وسعه حتى دخل فيه ،
والوعب من الطرق : الواسعة ،
وبيت وعيب واسع ؛ والبعو الجناية والجرم لأن ذلك يوسع الكلام في العرض ، وهو أيضاً العارية ، وبعاه قمره وأصاب منه ، وبعاه بالعين أصابه بها كأنه وسع لعينه فيه حظاً. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 535 ـ 538}
فصل
قال الفخر :
مذهب الشافعي رضي الله عنه أن قوله {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} من المجملات التي لا يجوز التمسك بها ، وهذا هو المختار عندي ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أنا بينا في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلي بلام التعريف لا يفيد العموم ألبتة ، بل ليس فيه إلا تعريف الماهية ، ومتى كان كذلك كفى العمل به في ثبوت حكمه في صورة واحدة.
والوجه الثاني : وهو أنا إذا سلمنا أنه يفيد العموم ، ولكنا لا نشك أن إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم ، مثلاً قوله {وَأَحَلَّ الله البيع} وإن أفاد الاستغراق إلا أن قوله وأحل الله البيعات أقوى في إفادة الاستغراق ، فثبت أن قوله {وَأَحَلَّ الله البيع} لا يفيد الاستغراق إلا إفادة ضعيفة ، ثم تقدير العموم لا بد وأن يطرق إليها تخصيصات كثيرة خارجة عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كذب والكذب على الله تعالى محال ، فأما العام الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جداً فذلك جائز لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرف مشهور في كلام العرب ، فثبت أن حمل هذا على العموم غير جائز.
الوجه الثالث : ما روي عن عمر رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا ، ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم لما قال ذلك فعلمنا أن هذه الآية من المجملات.(9/299)
الوجه الرابع : أن قوله {وَأَحَلَّ الله البيع} يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً ، وقوله {وَحَرَّمَ الربا} يقتضي أن يكون كل ربا حراماً ، لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع ، وآخرها حرم الجميع ، فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية ، فكانت مجملة ، فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 81}
وقال الماوردى :
وللشافعي في قوله : {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من العامِّ الذي يجري على عمومه في إباحة كل بيع وتحريم كل ربا إلا ما خصهما دليل من تحريم بعض البيع وإحلال بعض الربا ، فعلى هذا اختلف في قوله ، هل هو من العموم الذي أريد به العموم ، أو من العموم الذي أريد به الخصوص على قولين :
أحدهما : أنه عموم أريد به العموم وإن دخله دليل التخصيص.
والثاني : أنه عموم أريد به الخصوص.
وفي الفرق بينهما وجهان : أحدهما : أن العموم الذي أريد به العموم : أن يكون الباقي من العموم من بعد التخصيص أكثر من المخصوص ، والعموم الذي أريد به الخصوص أن يكون الباقي منه بعد التخصيص أقل من المخصوص.
والفرق الثاني : أن البيان فيما أريد به الخصوص متقدِّم على اللفظ ، وأن ما أريد به العموم متأخِر عن اللفظ ومقترن به ، [ هذا ] أحد أقاويله :
والقول الثاني : أنه المجمل الذي لا يمكن [ أن ] يستعمل في إحلال بيع أو تحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنّة الرسول ، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل.
وهذا فرق ما بين العموم والمجمل ، أن العموم يدل على إباحة البيوع في الجملة ولا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان.
فعلى هذا القول أنها مجملة اختلف في إجمالها ، هل هو لتعارض فيها أو لمعارضة غيرها لها على وجهين : (9/300)
أحدهما : أنه لمَّا تعارض ما في الآية من إحلال البيع وتحريم الربا وهو بيع صارت بهذا التعارض مجملة وكان إجمالها منها.
والثاني : أن إجمالها بغيرها لأن السنّة منعت من بيوع وأجازت بيوعاً فصارت بالسنة مجملة.
وإذا صح إجمالها فقد اختلف فيه :
هل هو إجمال في المعنى دون اللفظ ، لأن لفظ البيع معلوم في اللغة وإنما الشرع أجمل المعنى والحكم حين أحل بيعاً وحرّم بيعاً.
والوجه الثاني : أن الإجمال في لفظها ومعناها ، لأنه لما عدل بالبيع عن إطلاقه على ما استقر عليه في الشرع فاللفظ والمعنى محتملان معاً ، فهذا شرح القول الثاني.
والقول الثالث : أنها داخلة في العموم والمجمل ، فيكون عموماً دخله التخصيص ، ومجملاً لحقه التفسير ، لاحتمال عمومها في اللفظ وإجمالها في المعنى ، فيكون اللفظ عموماً دخله التخصيص ، والمعنى مجملاً لحقه التفسير.
والوجه الثاني : أن عمومها في أول الآية من قوله : {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، وإجمالها في آخرها من قوله : {وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، فيكون أولها عاماً دخله التخصيص ، وآخرها مجملاً لحقه التفسير.
والوجه الثالث : أن اللفظ كان مجملاً ، فلما بَيَّنَهُ الرسول صار عاماً ، فيكون داخلاً في المجمل قبل البيان ، في العموم بعد البيان. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 348 ـ 350}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} هذا من عموم القرآن ، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدّم بيع مذكور يُرجع إليه ؛ كما قال تعالى : {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} ثم استثنى {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [ العصر : 2 ].
وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصّص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نُهي عنه ومنع العقد عليه ؛ كالخمر والميتة وحبلَ الحَبَلة وغير ذلك مما هو ثابت في السُّنُّة وإجماع الأُمة النَّهيُ عنه.(9/301)
ونظيره "اقتلوا الْمُشْرِكِينَ" وسائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص ، وهذا مذهب أكثر الفقهاء.
وقال بعضهم : هو من مجمل القرآن الذي فسّر بالمحلّل من البيع وبالمحرّم فلا يمكن أن يُستعمَل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيانٌ من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن دلّ على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل.
هذا فرق ما بين العموم والمُجْمَل.
فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخصّ بدليل.
والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان.
والأوّل أصح. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 356 ـ 357}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَحَرَّمَ الربا} الألف واللام هنا للعهد ، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيّناه ، ثم تتناول ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من البيوع المنهيّ عنها. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 358}
فائدة
قال ابن عاشور :
الظاهر أنّ الآية لم يُقصد منها إلاّ ربا الجاهلية ، وأنّ ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مُندرجة في أدلة أخرى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 90}
فصل في القرض
قال الخازن :
من أقرض شيئاً وشرط أن يرد عليه أفضل منه فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا يدل عليه ما روي عن مالك قال : بلغني أن رجلاً أتى ابن عمر فقال إني أسلفت رجلاً سلفاً واشترطت عليه أفضل مما أسلفته ، فقال عبدالله بن عمر : فذلك الربا أخرجه مالك في الموطأ.
قال فإن لم يشترط فضلاً في وقت القرض فرد المستقرض أفضل مما أخذ جاز.
ويدل على ذلك ما روي عن مجاهد أن ابن عمر استلف دراهم فقضى صاحبها خيراً منها فأبى أن يأخذها وقال هذه خير من دراهمي.
فقال ابن عمر : قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة أخرجه مالك في الموطأ. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 198}
فائدة
قال القرطبى : (9/302)
عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال ؛ لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال : " جاء بلال بتمر بَرْنِيّ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أين هذا" ؟ فقال بلال : من تمرٍ كان عندنا رديء ، فبعت منه صاعين بصاع لمَطْعَم النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : "أَوْهِ عَيْنُ الرِّبَا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتريَ التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به" " وفي رواية " هذا الرِّبا فردّوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا " قال علماؤنا : فقوله ؛ "أوهِ عين الربا" أي هو الربا المحرّم نفسه لا ما يشبهه.
وقوله : "فردّوه" يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه ؛ وهو قول الجمهور ؛ خلافاً لأبي حنيفة حيث يقول : إنّ بيع الربا جائز بأصله من حيث هو بيع ، ممنوع بوصفه من حيث هو رِباً ، فيسقط الربا ويصح البيع.
ولو كان على ما ذُكر لما فسخ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة ، ولأمره بردّ الزيادة على الصاع ولصحّح الصفقة في مقابلة الصاع. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 358}
فائدة ثانية
قال القرطبى :
كل ما كان من حرام بيّن ففُسخ فعلى المبتاع ردّ السلعة بعينها.
فإن تلفت بيده ردّ القيمة فيما له القيمة ، وذلك كالعقار والعُروض والحيوان ، والمِثْل فيما له مِثل من موزون أو مكيل من طعام أو عَرَض.
قال مالك : يُردّ الحرام البيّن فات أو لم يفت ، وما كان مما كره الناس رُدّ إلاّ أن يفوت فيترك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 359}
لطيفة
قال القاسمى ما نصه :
قال القاشانى عليه الرحمة :
آكل الربا أسوأ حالاً من جميع مرتكبي الكبائر, فإنّ كل مكتسب له توكل ما في كسبه قليلاً كان أو كثيراً, كالتاجر والزارع والمحترف, إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولم تتعين لهم قبل الاكتساب فهم على غير معلوم في الحقيقة, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم ".{أخرجه القضاعى فى "مسند الشهاب" (584) ، وأبو نعيم فى "دلائل النبوة" (62) من حديث جابر.
وفيه أحمد بن طاهر السمرقندى ، قيل : إنه أكذب البرية.
وأخرجه القضاعى (585) عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جده. وفى "كشف الخفاء" رقم (58)
قال فى "التمييز" تبعا للأصل : أخرجه الديلمى من حديث أبى هريرة ، من رواية عمر بن راشد وهو ضعيف جدا}.
وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه سواء ربح الآخذ أو خسر, فهو محجوب عن ربه بنفسه وعن رزقه بتعيينه, لا توكل له أصلاً, فوكلّه الله تعالى إلى نفسه وعقله, وأخرجه من حفظه وكلاءته, فاختطفه الجنّ وخبلته, فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل, فيكون كالمصروع الذي مسّه الشيطان فتخبطه لا يهتدي إلى مقصد {ذلك بأنَهُم قالوا} أي : ذلك بسبب احتجابهم بقياسهم وأول من قاس إبليس فيكونون من أصحابه مطرودين مثله. أ هـ {محاسن التأويل حـ 1 صـ 272}
قوله تعالى : {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان الوعظ كما قال الحرالي دعوة الأشياء بما فيها من العبرة للانقياد للإله الحق بما يخوفها ويقبضها في مقابلة التذكير بما يرجيها ويبسطها ، (9/303)
وكان فيما أخبر به سبحانه وتعالى عن حال المربي أتم زاجر لأن أجلّ ما للإنسان بعد روحه عقله سبب عن ذلك قوله : {فمن جاءه} قال الحرالي : أطلق الكلمة من علامة التأنيث النازل الرتبة ترفيعاً لقدر هذه الموعظة الخفية المدرك العظيمة الموقع {موعظة} بناء مبالغة وإعلاء لما أشعرت المفعلة الزائدة الحروف على أصل لفظ الوعظ بما يشعر به الميم من التمام والهاء من الانتهاء ،
فوضع الأحكام حكمة ،
والإعلام بثمراتها في الآخرة موعظة تشوق النفس إلى رغبتها ورهبتها - انتهى.
ولما كان التخويف من المحسن أردع لأن النفس منه أقبل قال : {من ربه} أي المربي له المحسن إليه بكل ما هو فيه من الخير.
قال الحرالي : في إشعاره أن من أصل التربية الحمية من هذا الربا - انتهى.
{فانتهى} أي عما كان سبباً للوعظ.
قال الحرالي : أتى بالفاء المعقبة فلم يجعل فيه فسحة ولا قراراً عليه لما فيه من خبل العقل الذي هو أصل مزية الإنسانية وإن لم يشعر به حكماء الدنيا ولا أطباؤها - انتهى.
ولما كان السياق بما أرشد إليه التعليل بقوله : {ذلك بأنهم قالوا} دالاً على أن الآية في الكفرة وأن المراد بالأكل الاستحلال أكد ذلك بقوله : {فله ما سلف} أي من قبيح ما ارتكبه بعد أن كان عليه ولا يتبعه شيء من جريرته لأن الإسلام يجب ما قبله وتوبة المؤمن لا تجب المظالم.
قال الحرالي : والسلف هو الأمر الماضي بكليته الباقي بخلفه ، وقال : في إعلامه إيذان بتحليل ما استقر في أيديهم من ربا الجاهلية ببركة توبتهم من استئناف العمل به في الإسلام لما كان الإسلام يجب ما قبله ،
وفي طيّ إشعاره تعريض برده لمن يأخذ لنفسه بالأفضل ويقوي إشعاره قوله {وأمره إلى الله} انتهى ،
أي فهو يعامله بما له من الجلال والإكرام بما يعلمه من نيته من خلوص وغيره.(9/304)
ولما كان المربون بعد هذه الزواجر بعيدين من رحمة الله عبر عنهم سبحانه وتعالى بأداة البعد في قوله : {ومن عاد} أي إلى تحليل الربا بعد انتهائه عنه نكوباً عن حكمة ربه {فأولئك} أي البعداء من الله {أصحاب النار} ولما كانت نتيجة الصحبة الملازمة قال : {هم فيها خالدون}. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 538}
لطيفة
قال أبو حيان :
وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة.
إذ الرب فيه إشعار بإصلاح عبده ، فانتهى تبع النهي ، ورجع عن المعاملة بالربا ، أو عن كل محرم من الاكتساب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 349}
فصل
قال الفخر :
في التأويل وجهان
الأول : قال الزجاج : أي صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول هذه الآية ، وهو كقوله {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [ الأنفال : 38 ] وهذا التأويل ضعيف لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراماً ولا ذنباً ، فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنب ، والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك ، وهو قوله {فَلَهُ مَا سَلَفَ} فكيف يكون ذلك ذنباً الثاني : قال السدي : له ما سلف أي له ما أكل من الربا ، وليس عليه رد ما سلف ، فأما من لم يقض بعد فلا يجوز له أخذه ، وإنما له رأس ماله فقط كما بينه بعد ذلك بقوله {وإِن تبتم فلكم رؤوؤس أموالكم} [ البقرة : 279 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 82}
قال ابن عاشور "
ومعنى "فله ما سلف" ، أي ما سلف قبْضُه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يُقبض ، بقرينة قوله الآتي {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} [ البقرة : 279 ].(9/305)
وقوله : {وأمره إلى الله} فرَضَوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى "من جاءه" وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف ، والأظهر أنّه راجع إلى من جاءه لأنّه المقصود ، وأنّ معنى {وأمره إلى الله} أنّ أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى ، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 90}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَأَمْرُهُ إِلَى الله} فيه أربع تأويلات : أحدها أن الضمير عائد إلى الربا ، بمعنى وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك.
والآخر أن يكون الضمير عائداً على "ما سلف" أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التَّبِعة فيه.
والثالث أن يكون الضمير عائداً على ذي الربا ، بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا.
واختار هذا القول النحاس ، قال : وهذا قول حسن بيِّن ، أي وأمرُه إلى الله في المستقبل إن شاء ثبّته على التحريم وإن شاء أباحه.
والرابع أن يعود الضمير على المنتهى ؛ ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير ؛ كما تقول : وأمره إلى طاعة وخير ، وكما تقول : وأمره في نموّ وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 361}
وقال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَأَمْرُهُ إِلَى الله} ففيه وجوه للمفسرين ، إلا أن الذي أقوله : إن هذه الآية مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكل الربا ، أو لم يترك ، والدليل عليه مقدمة الآية ومؤخرتها.
أما مقدمة الآية فلأن قوله {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فانتهى} ليسس فيه بيان أنه انتهى عماذا فلا بد وأن يصرف ذلك المذكور إلى السابق ، وأقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى الله أنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا ، فكان قوله {فانتهى} عائداً إليه ، فكان المعنى : فانتهى عن هذا القول.(9/306)
وأما مؤخرة الآية فقوله {وَمَنْ عَادَ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} ومعناه : عاد إلى الكلام المتقدم ، وهو استحلال الربا {فأمره إِلَى الله} ثم هذا الإنسان إما أن يقال : إنه كما انتهى عن استحلال الربا انتهى أيضاً عن أكل الربا ، أو ليس كذلك ، فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله ، فحينئذ يستحق المدح والتعظيم والإكرام ، لكن قوله {فأمره إِلَى الله} ليس كذلك لأنه يفيد أنه تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ولا بالمؤمن المطيع ، فلم يبق إلا أن يكون مختصاً بمن أقر بحرمة الربا ثم أكل الربا فههنا أمره لله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهو كقوله {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} فيكون ذلك دليلاً ظاهراً على صحة قولنا أن العفو من الله مرجو. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 82}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ} الآية.
معنى هذه الآية الكريمة أن من جاءه موعظة من ربه يزجره بها عن أكل الربا فانتهى أي : ترك المعاملة بالربا. خوفاً من الله تعالى وامتثالاً لأمره {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [ البقرة : 275 ] أي : ما مضى قبل نزول التحريم من أموال الربا ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله لا يؤاخذ الإنسان بفعل أمر إلا بعد أن يحرمه عليه ، وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة فقد قال في الذين كانوا يشربون الخمر ، ويأكلون مال الميسر قبل نزول التحريم : {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} [ المائدة : 93 ] الآية.(9/307)
وقال في الذين كانوا يتزوجون أزواج آبائهم قبل التحريم : {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [ النساء : 22 ] أي : لكن ما سلف قبل التحريم فلا جناح عليكم فيه ونظيره قوله تعالى : {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [ النساء : 23 ].
وقال في الصيد قبل التحريم : {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} [ المائدة : 95 ] الآية
وقال في الصلاة إلى بيت المقدس قبل نسخ استقباله : {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [ البقرة : 143 ] أي : صلاتكم إلى بيت المقدس قبل النسخ.
ومن أصرح الأدلة في هذا المعنى أن النَّبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما استغفروا لقربائهم الموتى من المشركين وأنزل الله تعالى : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم} [ التوبة : 113 ] وندموا على استغفارهم للمشركين أنزل الله في ذلك : {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [ التوبة : 115 ] فصرح بأنه لا يضلهم بفعل أمر إلا بعد بيان اتقائه. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 188}
قوله تعالى {وَمَنْ عَادَ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَمَنْ عَادَ} يعني إلى فعل الربا حتى يموت ؛ قاله سفيان.
وقال غيره : مَنْ عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر.
قال ابن عطية : إن قدّرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي ، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة ، كما تقول العرب : مُلْكٌ خالد ، عبارةً عن دوام ما لا يبقى على التأبيد الحقيقي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 362}
وقال الفخر : (9/308)
أما قوله {وَمَنْ عَادَ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} فالمعنى : ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافراً.
واعلم أن قوله {فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} دليل قاطع في أن الخلود لا يكون إلا للكافر لأن قوله {أُوْلَئِكَ أصحاب النار} يفيد الحصر فيمن عاد إلى قول الكافر وكذلك قوله {هُمْ فِيهَا خالدون} يفيد الحصر ، وهذا يدل على أن كونه صاحب النار ، وكونه خالداً في النار لا يحصل إلا في الكفار أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه ، لكنه يبقى على ظاهره في صاحب الكبيرة فتأمل في هذه المواضع ، وذلك أن مذهبنا أن صاحب الكبيرة إذا كان مؤمناً بالله ورسوله يجوز في حقه أن يعفو الله عنه ، ويجوز أن يعاقبه الله وأمره في البابين موكل إلى الله ، ثم بتقدير أن يعاقبه الله فإنه لا يخلد في النار بل يخرجه منها ، والله تعالى بيّن صحة هذا المذهب في هذه الآيات بقوله {فأمره إِلَى الله} على جواز العفو في حق صاحب الكبيرة على ما بيناه.
ثم قوله {فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} يدل على أن بتقدير أن يدخله الله النار لكنه لا يخلده فيها لأن الخلود مختص بالكفار لا بأهل الإيمان ، وهذا بيان شريف وتفسير حسن. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 82 ـ 83}
فائدة
قال ابن عاشور :
وجُعل العائد خالداً في النار إما لأنّ المراد العود إلى قوله : {إنما البيع مثل الربوا} ، أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نِفاق ؛ فإنّ كثيراً منهم قد شقّ عليهم ترك التعامل بالربا ، فعلم الله منهم ذلك وجعَل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم ، فالخلود على حقيقته.
وإما لأنّ المراد العود إلى المعاملة بالربا ، وهو الظاهر من مقابلته بقوله : {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى} والخلود طول المكث كقول لبيد :
فوقفْتُ أسألُها وكيفَ سؤالُنا
صُمّاً خَوَالِدَ ما يَبِين كلامُها...
ومنه : خلَّد الله مُلك فلان.(9/309)
وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما تمسكوا بنظائرها.
وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن ؛ إذ الناس يومئذ قريبٌ عهدهم بكفر.
ولا بد من الجمع بين أدلّة الكتاب والسنة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 90 ـ 91}
وقال أبو حيان :
{فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} تقدّم تفسير هذه الجملة الواقعة خبراً : لمن ، وحمل فيها على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، فإن كانت في الكفار فالخلود خلود تأبيد ، أو في مسلم عاص فخلوده دوام مكثه لا التأييد.
وقال الزمخشري : وهذا دليل بيِّن على تخليد الفساق. انتهى.
وهو جارٍ على مذهبه الإعتزالي في : أن الفاسق يخلد في النار أبداً ولا يخرج منها ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصح أن أكل الربا من السبع الموبقات ، وروي عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه : أن رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله ، وسأل مالكاً رحمه الله رجلٌ رأى سكران يتقافز ، يريد أن يأخذ القمر ، فقال : امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم شر من الخمر ، أتطلق امرأته ؟ فقال له مالك ، بعد أن ردّه مرتين : امرأتك طالق ، تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشر من الربا ، لأن الله تعالى قد آذن فيه بالحرب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 349}
فائدة
قال السعدى :
اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله ، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك ، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه ، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار ، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره. أ هـ {تفسير السعدى صـ 116}
كلام نفيس للعلامة ابن كثير :
قال رحمه الله : (9/310)
وإنما حرمت المخابرة وهي : المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض ، والمزابنة وهي : اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض ، والمحاقلة وهي : اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض -إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها ، حسمًا لمادة الربا ؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف. ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا ، والوسائل الموصلة إليه ، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم ، وقد قال تعالى : {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف : 76].
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم ، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا. {رواه البخاري في صحيحه برقم (5588) ومسلم في صحيحه برقم (3032)} ، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله ؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ثبت في الصحيحين ، عن النعمان بن بشير ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبين ذلك أمور مشتبهات ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ". {صحيح البخاري برقم (52) وصحيح مسلم برقم (1599)}.
وفي السنن عن الحسن بن علي ، رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". {سنن الترمذي برقم (2518) وسنن النسائي (8/327) وقد أطنب في الكلام عليه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/278) ط. الرسالة}.(9/311)
وفي الحديث الآخر : "الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس ، وكرهت أن يطلع عليه الناس". وفي رواية : "استفت قلبك ، وإن أفتاك الناس وأفتوك". {رواه أحمد في المسند (4/228) من طريق الزبير بن عبد السلام ، عن أيوب ، عن وابصة ، رضي الله عنه}.
وقال الثوري : عن عاصم ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا. رواه [البخاري] عن قبيصة ، عنه. {صحيح البخاري برقم (4544)}.
وقال أحمد ، عن يحيى ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أن عمر قال : من آخر ما نزل آية الربا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة.
رواه ابن ماجه وابن مردويه. {المسند (1/36) وسنن ابن ماجة برقم (2276) وقال البوصيري في الزوائد (2/198) : "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات"}.
وروى ابن مَرْدويه من طريق هياج بن بسطام ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم ، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنه قد مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
وقد قال ابن ماجة : حدثنا عمرو بن علي الصيرفي ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن زبيد ، عن إبراهيم ، عن مسروق ، عن عبد الله -هو ابن مسعود -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الربا ثلاثة وسبعون بابا". {سنن ابن ماجة برقم (2275) وقال البوصيري في الزوائد (2/198) : "هذا إسناد صحيح"}.
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث عمرو بن علي الفلاس ، بإسناد مثله ، وزاد : "أيسرها أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم". وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. {المستدرك (2/37).}.(9/312)
وقال ابن ماجة : حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن أبي معشر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الربا سبعون حوبا ، أيسرها أن ينكح الرجل أمه". {سنن ابن ماجة برقم (2274) وقال البوصيري في الزوائد (2/197) : "هذا إسناد ضعيف"}.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، عن عباد بن راشد ، عن سعيد بن أبي خَيرة حدثنا الحسن -منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة -عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا" قال : قيل له : الناس كلهم ؟ قال : "من لم يأكله منهم ناله من غباره" وكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة من غير وجه ، عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن ، به. {المسند (2/494) وسنن أبي داود برقم (1331) وسنن النسائي (7/243) وسنن ابن ماجة برقم (2278)}.
ومن هذا القبيل ، وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فقرأهُن ، فحرم التجارة في الخمر.
وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي ، من طرق ، عن الأعمش به. {المسند (6/46) وصحيح البخاري برقم (4540 ، 4541) وصحيح مسلم برقم (1580) وسنن أبي داود برقم (3490) وسنن النسائي الكبرى برقم (11055) وسنن ابن ماجة برقم (3382)}.(9/313)
وهكذا لفظ رواية البخاري ، عند تفسير الآية : فحرم التجارة ، وفي لفظ له ، عن عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ، ثم حرم التجارة في الخمر. قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة : لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك ، كما قال ، عليه السلام في الحديث المتفق عليه : "لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها". {رواه البخاري في صحيحه برقم (2223) ومسلم في صحيحه برقم (1582) من حديث عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه.} أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 710 ـ 712}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس . . .}.
قال ابن عرفة : يحتمل أن يكون التشبيه بمن يتخبطه " الشيطان من المس ( حال ) تخبطه.
ويحتمل أن يكون التّشبيه بالمتخبط إثر تخبطه ) ) والظاهر العموم ، لأن الآكلين من الربا متفاوتون في الأكل ، فالمكثر منهم شبيه به حال التخبط والمقلل شبيه به أثر التخبط.
قال ابن عرفة : وجه مناسبتها لما قبلها أنها تقدمها إنفاق الصدقة ، والصدقة ( من ) غير عوض ( والرّبا في ظاهر الأمر زيادة من غير عوض ) لأنه يدفع قليلا في كثير.
وقدّر الفخر المناسبة بأن الصدقة ( نقص من المال ) والرّبا زيادة فيه ، فالنفوس تحبه وتكره الصدقة فجاءت الآية ردّا عليهم وإشعارا بأن ذلك النقص زيادة وتلك الزيادة نقص.
قال الزمخشري : " مِنَ المَسّ " متعلّق بـ " يقومون " ( أو يقوم ، فرد عليه أبو حيان تعلقه بـ " يقومون " ) لأن قيامهم في الآخرة وليس فيه جنون ولا مس.
قال ابن عرفة : وفيه عندي نظر من وجه آخر وهو ( أنّك تقول ) :
ما أكل زيد إلا كالشيطان يأكل بشماله.
أو تقول : ما أكل زيد بشماله إلاّ كالشيطان ( يأكل بشماله ).(9/314)
فهذه الحالة أخف لأنه في الأولى ذمّ لآكله مطلقا ، وفي الثانية ذم له إذا اتّصف بالأكل بالشّمال وقد لا يتصف به ، وكذلك هذا يلزم أن يكون التشبيه خاصا بقيامهم من المس فيقال : لعل لهم ( حالة ) أخرى يقومون ( بها ) من المس.
قال ابن عرفة : اعلم أن القدماء من المعتزلة ينكرون الجنّ بالأصالة ، وهو كفر لا شك فيه فإنه تكذيب للقرآن والحديث ، والمتأخرون منهم يثبتونهم وينكرون الصرع.
قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا . . .}.
قال الزمخشري : الإشارة للعقاب.
قال ابن عرفة : أو لأكلهم الربا لأنه سبب في عقوبتهم وسبب السبب مسبب ، وهذا قياس تمثيلي ذكروا منه قياس ( الشبه ) والتسوية وهو قياس أخروي بمعنى أن الحكم في المقيس عليه ثابت في الفرع المقيس من باب أحرى فينعكس فيه التشبيه.
ومثله ابن مالك في المصباح بهذه الآية وبقول الشاعر :
كأن انتظار البدر من تحت غيمه . . .
نجاة من البأساء بعد الوقوع
وبقول الآخر :
وكأن النجوم بين الدّجى . . .
سنن لاح بينهن ابتداع
فجعل أهل السنة بين المبتدعة بمنزلة النجوم في الظلام.
وقال غيره : الاهتداء بالنجوم يحتاج فيه إلى معرفة استدلال واتباع أهل السنة لا يحتاج فيه إلى تكليف دليل فكان أحرى.
قوله تعالى : {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا . . .}.
قال الزمخشري : هذا رد على قياسهم.
قال ابن عرفة : بل هو عندي تجهيل لهم ، ويكون النّص متقدما فهو قياس في معرض النّص فهو فاسد الوضع وعلى ما قال الزمخشري يكون النص غير متقدم. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 354}(9/315)
قوله تعالى : {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان المرغب في الربا ما فيه من الربح الناجز المشاهد ،
والمفتر عن الصدقة كونها نقصاً محققاً بالحس بيّن أن الربا وإن كان بصورة الزيادة فهو نقص وأن الصدقة وإن كانت بصورة النقص فهي زيادة لأن ذلك إنما هو بيده سبحانه وتعالى فما شاء محقه وإن كان كثيراً أو ما أراد نماه وإن كان يسيراً فقال كالتعليل للأمر بالصدقة والنهي عن الربا ولكون فاعله من أهل النار : {يمحق الله} أي بما له من الجلال والقدرة {الربا} بما يفتح له من أبواب المصارف.
قال الحرالي : والمحق الإذهاب بالكلية بقوة وسطوة {ويربي الصدقات} أي يزيد الصدقات بما يسد عنها مثل ذلك ويربح في تقلباتها ؛ ويجوز كونه استئنافاً وذلك أنه لما تقرر أن فاعليه من أصحاب النار ساقه مساق الجواب لمن كأنه قال : وإن تصدقوا من أموال الربا وأنفقوا في سبيل الخير! إعلاماً بأن الربا مناف للخير فهو مما يكون هباء منثوراً.
ولما آذن جعلهم من أصحاب النار أن من لم ينته عن الربا أصلاً أو انتهى وعاد إلى فعله مرتبك في شرك الشرك قاطع نحوه عقبات : ثنتان منها في انتهاك حرمة الله : ستر آياته في عدم الانتهاء ،
والاستهانة بها في العود إليه ،
الثالثة انتهاك حرمة عباد الله فكان إثمه متكرراً مبالغاً فيه لا يقع إلا كذلك عبر سبحانه وتعالى بصيغة المبالغة في قوله عطفاً على ما تقديره تعليلاً لما قبله : فالمتصدق مؤمن كريم والمربي كفار أثيم : {والله} المتصف بجميع صفات الكمال {لا يحب كل كفار} أي في واجب الحق بجحد ما شرع من آياته وسترها والاستهانة بها ،
أو كفار لنعمته سبحانه وتعالى بالاستطالة بما أعطاه على سلب ما أعطى عباده {أثيم} في واجب الخلق ،
أي منهمك في تعاطي ما حرم من اختصاصاتهم بالربا وغيره ، (9/316)
فلذا لا يفعل معهم سبحانه وتعالى فعل المحب لا بالبركة في أموالهم ولا باليمن في أحوالهم ،
وهذا النفي من عموم السلب ،
وطريقه أنك تعتبر النفي أولاً ثم تنسبه إلى الكل ،
فيكون المعنى : انتفى عن كل كفار أثيم حبه ،
وكذا كل ما ورد عليك من أشباهه إن اعتبرت النسبة إلى الكل أولاً ثم نفيت فهو لسلب العموم ،
وإن اعتبرت النفي أولاً ثم نسبته إلى الكل فلعموم السلب ،
وكذلك جميع القيود ؛ فالكلام المشتمل على نفي وقيد قد يكون لنفي التقييد وقد يكون لتقييد النفي ،
فمثل : ما ضربته تأديباً ،
أي بل إهانة ،
سلب للتعليل والعمل للفعل ،
وما ضربته إكراماً له ،
أي تركت ضربه للإكرام ،
تعليل للسلب والعمل للنفي ،
وما جاءني راكباً ،
أي بل ماشياً ،
نفي للكيفية ،
وما حج مستطيعاً ،
أي ترك الحج مع الاستطاعة ،
تكييف للنفي ؛ وقد أشبع الشيخ سعد الدين التفتازاني رحمه الله تعالى الكلام في ذلك في شرحه للمقاصد في بحث الرؤية عند استدلال المعتزلة بقوله تعالى : {لا تدركه الأبصار} [ الأنعام : 104 ]. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 539}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا ، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ، ذكر هاهنا ما يجري مجرى الدعاء إلى ترك الصدقات وفعل الربا ، وكشف عن فساده ، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في الحال ، إلا أنه نقصان في الحقيقة ، وأن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة ، إلا أنها زيادة في المعنى ، ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف ، بل يعول على ما ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف فهذا وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 83}
فصل
قال الفخر : (9/317)
المحق نقصان الشيء حالا بعد حال ، ومنه المحاق في الهلال يقال : محقه الله فانمحق وامتحق ، ويقال : هجير ماحق إذا نقص في كل شيء بحرارته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 83}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة ، أما في الدنيا فنقول : محق الربا في الدنيا من وجوه
أحدها : أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أنه تؤول عاقبته إلى الفقر ، وتزول البركة عن ماله ، قال صلى الله عليه وسلم : " الربا وإن كثر فإلى قُلّ "
وثانيها : إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم ، والنقص ، وسقوط العدالة ، وزوال الأمانة ، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة
وثالثها : أن الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويبغضونه ويدعون عليه ، وذلك يكون سبباً لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله
ورابعها : أنه متى اشتهر بين الخلق أنه إنما جمع ماله من الربا توجهت إليه الأطماع ، وقصده كل ظالم ومارق وطماع ، ويقولون : إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده ، وأما إن الربا سبب للمحق في الآخرة فلوجوه
الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : معنى هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ، ولا حجاً ، ولا صلة رحم
وثانيها : إن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ، ويبقى التبعة والعقوبة ، وذلك هو الخسار الأكبر
وثالثها : أنه ثبت في الحديث أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام ، فإذا كان الغني من الوجه الحلال كذلك ، فما ظنك بالغني من الوجه الحرام المقطوع بحرمته كيف يكون ، فذلك هو المحق والنقصان.
وأما إرباء الصدقات فيحتمل أن يكون المراد في الدنيا ، وأن يكون المراد في الآخرة.
أما في الدنيا فمن وجوه(9/318)
أحدها : أن من كان لله كان الله له ، فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن إلى عبيد الله ، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً في الدنيا ، وفي الحديث الذي رويناه فيما تقدم أن الملك ينادي كل يوم " اللّهم يسر لكل منفق خلفاً ولممسك تلفاً "
وثانيها : أنه يزداد كل يوم في جاهه وذكره الجميل ، وميل القلوب إليه وسكون الناس إليه وذلك أفضل من المال مع أضداد هذه الأحوال
وثالثها : أن الفقراء يعينونه بالدعوات الصالحة
ورابعها : الأطماع تنقطع عنه فإنه متى اشتهر أنه متشمر لإصلاح مهمات الفقراء والضعفاء ، فكل أحد يحترز عن منازعته ، وكل ظالم ، وكل طماع لا يجوز أخذ شيء من ماله ، اللّهم إلا نادراً ، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا.
وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى أبو هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة تصير مثل أحد " وتصديق ذلك بين في كتاب الله {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} [ التوبة : 104 ] {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات} [ البقرة : 276 ]
قال القفال رحمه الله تعالى : ونظير قوله {يَمْحَقُ الله الربا} المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً ، ونظير قوله {وَيُرْبِى الصدقات} المثل الذي ضربه الله بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 83 ـ 84}
وقال القرطبى :
{وَيُرْبِي الصدقات} أي يُنَمِّيها في الدنيا بالبركة ويُكثر ثوابَها بالتضعيف في الآخرة.
وفي صحيح مسلم : " إن صدقة أحدِكم لتقع في يد الله فَيَربِّيها له كما يُرَبِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فصيلَه حتى يجيء يوم القيامة وإن اللّقمة لعلى قدر أحُد ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 362}
فائدة(9/319)
قال ابن عطية :
وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم ، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق ، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة.
أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 373}
وقال ابن عاشور :
ولما جعل المحق بالربا وجُعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين ، والمعنى : يمحق الله الربا ويعاقب عليه ، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها ، على طريقة الاحتباك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 91}
فائدة
بلاغية
قال أبو حيان :
في ذكر المحق والإرباء بديع الطباق ، وفي ذكر الربا ويربى بديع التجنيس المغاير. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 350}
فائدة
قال القاسمى ما نصه :
قال القاشانى عليه الرحمة :
{يمْحَق الله الربا} وإن كان زيادة في الظاهر {ويربي الصدقات} وإن كان نقصاناً في الشاهد, لأنّ الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين. والمال الحاصل من الربا لا بركة له, لأنه حصل من مخالفة الحق فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي إذ كلّ طعام يولد في أكله دواعي وأفعالاً من جنسه, فإن كان حراماً يدعوه إلى أفعال محرمة, وإن كان مكروهاً فإلى أفعال مكروهة, وإن كان مباحاً فإلى مباحة, وإن كان من طعام الفضل فإلى مندوبات, وكان في أفعاله متبرّعاً متفضلاً, وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية, وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك, فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرّمة المتولدة من أكله على ما ورد في الحديث : " الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول " , فتزداد عقوباته وآثامه أبداً, ويتلف الله ماله في الدنيا فلا ينتفع به أعقابه وأولاده فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة, وذلك هو المحق الكليّ. وأما المتصدّق, فلكون ماله مزكّى, يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل وآكله لا يكون إلا مطيعاً في أفعاله, ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعاً به وذلك هو الزيادة في الحقيقة, ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة, وأيّ زيادة أفضل مما تبقّى عند الله, ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصاً, وأيّ نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله. أ هـ {محاسن التأويل حـ 1 صـ 271 ـ 272}
قوله تعالى {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}
قال الفخر :
أما قوله {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} فاعلم أن الكفار فعال من الكفر ، ومعناه من كان ذلك منه عادة ، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا ، فتقول : فلان فعال للخير أمار به ، والأثيم فعيل بمعنى فاعل ، وهو الآثم ، وهو أيضاً مبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام والتمادي فيه ، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحداً ، وفيه وجه آخر وهو أن يكون الكفار راجعاً إلى المستحيل ، والأثيم يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم ، فتكون الآية جامعة للفريقين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 84}
وقال ابن عطية :
وقوله تعالى : {والله لا يحب كل كفار أثيم} يقتضي أن الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين على جهة التكذيب للشرع {إنما البيع مثل الربا} ووصف الكفار بـ {أثيم} ، إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان ، وإما ليذهب الاشتراك الذي في كفار ، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض ، قاله ابن فورك قال ومعنى قوله : {والله لا يحب} أي لا يحب الكفار الأثيم .(9/320)
قال القاضي أبو محمد : محسناً صالحاً بل يريده مسيئاً فاجراً ، ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم .
وهذه تأويلات مستكرهة ، أما الأول فأفرط في تعدية الفعل وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه ، وأما الثاني فغير صحيح المعنى ، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه ، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ولطف به ، وحرص على حفظه ، وتظهر دلائل ذلك ، والله تعالى يريد وجود الكافر على ما هو عليه ، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه نحو ما ذكرناه في الشاهد ، وتلك المزية موجودة للمؤمن. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 373}
وقال أبو حيان :
وقال ابن فورك : ذكر الأثيم ليزول الاشتراك الذي في : كفار ، إذ يقع على الزارع الذي يستر الأرض. انتهى.
وهذا فيه بعد ، إذ إطلاق القرآن : الكافر ، والكافرون ، والكفار ، إنما هو على من كفر بالله ، وأما إطلاقه على الزارع فبقرينة لفظية ، كقوله : {كمثل غيث أعجب الكفار نباته}. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 350}
وقال الآلوسى : (9/321)
{والله لاَ يُحِبُّ} لا يرتضي {كُلَّ كَفَّارٍ} متمسك بالكفر مقيم عليه معتاد له {أَثِيمٍ} منهمك في ارتكابه والآية لعموم السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد ، واختيار صيغة المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله ، وقد ورد في شأن الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الاستحلال ؟! أعاذنا الله تعالى من ذلك. فقد أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " درهم ربا أشد على الله تعالى من ست وثلاثين زنية " وقال : " من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به " وأخرج ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الربا سبعون باباً أدناها مثل أن يقع الرجل على أمه وإن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه " وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبي عبد الله الحسين رضي الله تعالى عنه قال : "درهم ربا أعظم عند الله تعالى من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام". وأخرج عبد الرزاق وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه". أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 52}
وقال ابن كثير :
وقوله : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أي : لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة ، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح ، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل ، بأنواع المكاسب الخبيثة ، فهو جحود لما عليه من النعمة ، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 715 ـ 716}
وقال ابن عاشور :
وجملة : {والله لا يحب كل كفار أثيم} معترضة بين أحكام الربا.(9/322)
ولما كان شأن الاعتراض ألاّ يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام ، كان الإخبار بأنّ الله لا يحبّ جميع الكافرين مؤذناً بأنّ الربا من شعار أهل الكفر ، وأنّهم الذين استباحوه فقالوا إنّما البيع مثل الربا ، فكان هذا تعريضاً بأنّ المرابي متَّسم بخلال أهل الشرك.
ومفاد التركيب أنّ الله لا يحبّ أحداً من الكافرين الآثمين لأنّ ( كل ) من صيغ العموم ، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صُبرة مجموعة ، ولذلك يقولون هي موضوعة للكل الجميعي ، وأما الكل المَجموعي فلا تستعمل فيه كل إلاّ مجازاً.
فإذا أضيفت ( كل ) إلى اسم استغرقتْ جميع أفراده ، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي ، فإذا دخل النفي على ( كل ) كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد ؛ لأنّ النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبْقَى مدلول الجملة كما هو ، إلاّ أنه يتكيّف بالسلْب عوضاً عن تكيّفه بالإيجاب ، فإذا قلت كلُّ الديار مَا دخلتُه ، أو لم أدخل كلّ دار ، أو كلّ دار لم أدخل ، أفاد ذلك نفي دخولك أيةَ دار من الديار ، كما أنّ مفاده في حالة الإثبات ثبوت دخولك كلّ دار ، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النَّجم :
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي
عَلَيّ ذنباً كُلُّه لم أصنع...
كما قال سيبويه : إنّه لو نصب لكان أولى ؛ لأنّ النصب لا يفسد معنى ولا يخلّ بميزان.
ولا تخرج ( كل ) عن إفادة العموم إلاّ إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه ( كل ) صريحاً أو تقديراً ، كأنْ يقول أحد : كل الفقهاء يحرّم أكل لحوم السباع ، فتقول له : ما كل العلماء يحرّم لحوم السباع ، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض ، وكذلك في ردّ الاعتقادات المخطئة كقول المثَل : "ما كل بيضاء شَحْمة" ، فإنّه لردّ اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي :
وكُنَّا حَسِبْنا كُلّ بَيْضَاء شحمةً
(9/323)
وقد نَظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال ( كل ) إذا وقعت في حَيّز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز ، وزعم أنّ رجز أبي النجم يتغيّر معناه باختلاف رفع ( كل ) ونصبه في قوله "كلّه لم أصنع".
وقد تعقّبه العلامة التفتازاني تعقّباً مجملاً بأنّ ما قاله أغلبي ، وأنّه قد تخلّف في مواضع.
وقفّيت أنا على أثر التفتازاني فبيّنت في تعليقي "الإيجاز على دلائل الإعجاز" أنّ الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 91 ـ 92
فائدة
قال السمرقندى :
يقال : إن مال آكل الربا لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة ، إما أن يذهب عنه أو عن ولده ، أو ينفقه فيما لا يصلح. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 207}
فائدة
قال ابن كثير فى معنى الآية :
يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا ، أي : يذهبه ، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه ، أو يَحْرمَه بركة ماله فلا ينتفع به ، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة. كما قال تعالى : {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة : 100] ، وقال تعالى : {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّم} [الأنفال : 37] ، وقال : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه} [الآية] [الروم : 39].
وقال ابن جرير : في قوله : {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "الربا وإن كثر فإلى قُلّ".(9/324)
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده ، فقال : حدثنا حجاج [قال] حدثنا شريك عن الركين بن الربيع [بن عميلة الفزاري] عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل" {المسند (1/395)}.
وقد رواه ابن ماجة ، عن العباس بن جعفر ، عن عمرو بن عون ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة". {سنن ابن ماجة برقم (2289) وقال البوصيري في الزوائد (2/199) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"}.
وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري ، حدثني أبو يحيى -رجل من أهل مكة -عن فروخ مولى عثمان : أن عمر -وهو يومئذ أمير المؤمنين -خرج إلى المسجد ، فرأى طعاما منثورًا. فقال : ما هذا الطعام ؟ فقالوا : طعام جلب إلينا. قال : بارك الله فيه وفيمن جلبه. قيل : يا أمير المؤمنين ، إنه قد احتكر. قال : ومن احتكره ؟ قالوا : فروخ مولى عثمان ، وفلان مولى عمر. فأرسل إليهما فدعاهما فقال : ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قالا يا أمير المؤمنين ، نشتري بأموالنا ونبيع!! فقال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام ".
فقال فروخ عند ذلك : أعاهد الله وأعاهدك ألا أعود في طعام أبدًا. وأما مولى عمر فقال : إنما نشتري بأموالنا ونبيع. قال أبو يحيى : فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا.
ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع ، به. ولفظه : "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس". {المسند (1/21) وسنن ابن ماجة برقم (2155)}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 713}
لطيفة
قال القشيرى : (9/325)
ما كان بإذن منه - سبحانه - من التصرُّفات فمقرون بالخيرات ، ومصحوب بالبركات. وما كان بمتابعة الهوى يُسَلِّط عليه المَحْقَ ، وكانت عاقبة أمره الخسران. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 211}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {يَمْحَقُ الله الربا . . .}.
قال ابن عرفة : الأحكام الشرعية منطوية بمصالح الدنيا والآخرة ، فلمّا تضمن الكلام السّابق حصول المصلحة الأخروية بالصدقة لقول الله تعالى {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} والعقوبة في الآخرة لفاعل الرّبا تضمّن هذا أنّه محصل للمصلحة الدنيوية ، والربا متضمن للمسفدة الدنيوية لأنّ الربا ( ممحقة ) للمال والصدقة زيادة فيه.
وحمله ابن عطية على أنه في الدار الآخرة.
والظاهر الأول.
وبدأ هنا بالرّبا ، وفيما تقدم بالصدقة وطريق المقابلة واللّف والنشر العكس.
لكن الجواب لما كان ذكر الصدقة قد يطول الكلام فيه قدّم الكلام ( على ) الربا ثم عاد إلى الصدقة.
فإن قلت : هلا قيل يمحق الله المال الذي فيه الرّبا فهو أبلغ في التخويف لأن محق المال الذي فيه الرّبا أشد لاستلزامه محق الربا وزيادة ؟
فالجواب : أن هذا ( أجلى ) من محق الربا والمخاطبون عوام.
قوله تعالى : {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}.
قال ابن عطية : يحتمل أن يريد : والله لا يحب توفيق الكفّار الأثيم. قاله ابن فورك.
ابن عطية : وهذا غير صحيح لأن الله تعالى يحب التوفيق على العموم ( ويحببه ).
قلت : وسمعت القاضي أبا العباس بن حيدرة والمفتي أبا القاسم الغبريني يقولان : هذه نَزْغَةٌ اعتزالية غفل فيها واعتزل من حيث لا يشعر ، بل الله يحب الخير والشر تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد والرجل سني لا شك في فضله ودينه.(9/326)
قال ابن عرفة : إن قلنا : إن نقيض المستحب مكروه فالمعنى ظاهر وإن قلنا : إن نقيضه غير مكروه فهلا قيل : والله يكره كل كفار أثيم ، لأن نفي المحبة أعم من الكراهة وعدمها.
قال : وعادتهم يجيبون بقول العرب في المدح ( التام ) حبذا زيد.
( وفي الذم التام لا حبذا زيد ) فنفي المحبة عندهم يستلزم الكراهة.
فإن قلت : هلا قيل : والله لا يحب كل ( كافر ) أثيم فهو أبلغ ؟
قلت : إنه لما كان النفي أخص كان ( المنفي ) أعم. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 355}(9/327)
أسئلة وأجوبة
قوله تعالى : "يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم" ، وفى سورة النساء : "إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" ، وفى موضع ثان بعد : "إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما" وفى سورة الحديد : "والله لا يحب كل محتال فخور الذين يبخلون".
للسائل أن يسأل فى هذه الآى عن شيئين أحدهما : ما وجه اختصاص كل آية من هذه الأربع بالوصف المذكور فيها الموجب لكونه تعالى لا يحب المتصف به ؟
الثانى : أن تلك الأوصاف إذا كانت موجبة لما حكم به تعالى عليهم من أنه لا يحبهم وقد استوت فى إيجاب هذا الحكم فما وجه اختصاص آيتى النساء منها بتأكيد ذلك الحكم بأن ورود آية البقرة وآية الحديد معطوف فيهما ما ورد فى آيتى النساء مؤكدا بـ"إن" وهل ذلك لموجب يقتضيه ؟ .
والجواب عن الأول : أن وجه اختصاص كل آية منها بما ورد فيها من الوصف الموجب لكونه تعالى لا يحب المتصف به مناسبة كل آية منها لما تقدمها.
أما آية البقرة فإن قبلها قوله تعالى : "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا"
فوصفهم بأكل الربا حتى أعقبهم ذلك تخبطهم فى قيامهم كفعل المجانين وأنهم سووا بين البيع المشروع والربا الممنوع وذلك كفر وتكذيب فوصفوا بما يقتضى المبالغة فى مرتكبهم من منع حب الله تعالى إياهم فقال تعالى : "والله لا يحب كل كفار أثيم" ، وفعال وفعيل أبنية للمبالغة وهو وصف مناسب لحالهم.
وورد قبل آية النساء قوله تعالى : "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم"(9/328)
فأمرهم سبحانه بعبادته وتوحيده وبالإحسان إلى المذكورين فى الآية ومن الإحسان إليهم خفض الجناح ولين المقال والإنصاف بما وصف الله به من يحبهم فى قوله : "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين" ، والاختلال والفخر مضاده لهذه الأوصاف الحميده مانعة منها ولا يمكن معها الإحسان المطلوب فى الآية فلهذا أعقبت بقوله تعالى : "إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا"
فان المنصف بهذا متصف بنقيض الإحسان فمناسبة هذا بينة.
وأما الآية الثانية من سورة النساء فقد تقدمها قوله تعالى : "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما" ، ثم قال : "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" ، قدم الخائنين وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم من معاونتهم والجدال عنهم وأعقب بأنه لا يحب من اتصف بصفاتهم فقال تعالى : "إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما" ، وتناسب هذا أوضح شئ.
وأما آية الحديد فإن قبلها قوله تعالى : "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم...الآية " فناسب هذا قوله تعالى : "والله لا يحب كل مختال فخور"
فقد وضحت مناسبة كل آية من هذه لما اتصلت به وإن كان كل آية من هذه المعقبات لا يلائمها غير ما اتصلت به والله أعلم.
وقد وضع فى هذا الجواب جواب السؤال الثانى وهو أن آية البقرة إنما ترتبت على آكلى الربا والمسوين بينه وبين البيع المشروع وهؤلاء صنف واحد ومرتكبهم واحد وأن آية الحديد ترتبت على حكم الخيلاء والفخر وذلك إذا تحقق أيضا راجع إلى الكبر فالمادة واحدة.(9/329)
أما آية النساء فإن الأولى منها تقتضى بحسب من ذكر فيها واختلاف أحوالهم تفصيل المرتكب وتعداد المطلوب فيها وقد اشتملت على أمر ونهى فناسب اتباع المطلب تأكيد الخبر المترتب عليه من الجزاء فأكد بأن المقتضية تأكيد الخبر وكذلك الآية الثانية لأن خيانة النفس تنتشر مواقعها فتارك الطاعة قد خان نفسه وفاعل المعصية كذلك وأفعال الطاعة كثيرة لا تنحصر وكذلك المخالفات فناسب الكثرة التأكيد وهذا كله بخلاف آية البقرة وآية الحديد فى المرتكب فيهما كما تقدم فجاء كل على ما يناسب والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل صـ 96 ـ 98}(9/330)
بحث نفيس فى الآية الكريمة للشيخ الشنقيطى
ذكرته مع طوله لكثرة الحاجة إليه ولما تضمنه من فرائد ونفائس
قال عليه الرحمة :
قوله تعالى : {يَمْحَقُ الله الربا}.
صرح في هذه الآية الكريمة بأنه يمحق الربا أي : يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به كما قاله ابن كثير وغيره ، وما ذكر هنا من محق الربا أشار إليه في مواضع أخر كقوله : {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله} [ الروم : 39 ] وقوله : {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} [ المائدة : 100 ] الآية. وقوله : {وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [ الأنفال : 37 ] كما أشار إلى ذلك ابن كثير في تفسير هذه الآية.
واعلم أن الله صرح بتحريم الربا بقوله : {وَحَرَّمَ الربا} [ البقرة : 275 ] وصرح بأن المتعامل بالربا محارب الله بقوله : {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [ البقرة : 278-279 ].
وصرح بأن آكل الربا لا يقوم أي : من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس بقوله : {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} [ البقرة : 275 ] والأحاديث في ذلك كثيرة جداً.(9/331)
واعلم أن الربا منه ما أجمع المسلمون على منعه ولم يخالف فيه أحد وذلك كربا الجاهلية ، وهو أن يزيده في الأجل على أن يزيده الآخر في قدر الدين وربا النساء بين الذهب والذهب ، والفضة والفضة ، وبين الذهب والفضة ، وبين البر والبر ، وبين الشعير والشعير ، وبين التمر والتمر ، وبين الملح والملح وكذلك بين هذه الأربعة بعضها مع بعض.
وكذلك حكى غير واحد الإجماع على تحريم ربا الفضل ، بين كل واحد من الستة المذكورة فلا يجوز الفضل بين الذهب والذهب ، ولا بين الفضة والفضة ، ولا بين البر والبر ، ولا بين الشعير والشعير ، ولا بين التمر والتمرن ولا بين الملح والملح ، ولو يداً بيد.
والحق - الذي لا شك فيه - منع ربا الفضل في النوع الواحد من الأصناف الستة المذكورة ، فإن قيل : ثبت في الصحيح عن ابن عباس ، عن أسامة بن زيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ربا إلا في النسيئة " وثبت في الصحيح عن أبي المنهال أنه قال : سألت البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم عن الصَّرف فقالا : كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواز الفضل ومنع النسيئة فيما رواه عنه أسامة ، والبراء ، وزيد ، إنما هو في جنسين مختلفين ، بدليل الروايات الصحيحة المصرحة بأن ذلك هو محل جواز التفاضل ، وأنه في الجنس الواحد ممنوع.
(9/332)
واختار هذا الوجه البيهقي في السنن الكبرى ، فإنه قال بعد أن ساق الحديث الذي ذكرنا ىنفاً عن البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، ما نصه : رواه البخاري في الصحيح عن أبي عاصم ، دون ذكر عامر بن مصعب ، وأخرجه من حديث حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، مع ذكر عامر بن مصعب ، وأخرجه مسلم بن الحجاج ، عن محمد بن حاتم بن ميمون عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي المنهال ، قال : باع شريك لى ورقاً بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج ، فذكره وبمعناه رواه البخاري عن علي بن المديني عن سفيان ، وكذلك رواه أحمد بن روح ، عن سفيان وروى عن الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار ، عن أبي المنهال ، قال : باع شريك لي بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل.
عندي أن هذا خطأ ، والصحيح ما رواه علي بن المديني ، ومحمد بن حاتم ، وهو المراد بما أطلق في رواية ابن جريج ، فيكون الخبر وارداً في بيع الجنسين ، أحدهما بالآخر ، فقال : ما كان منه يداً بيد فلا بأس ، وما كان منه نسيئة فلا ، وهو المراد بحديث أسامة والله أعلم.
(9/333)
والذي يدل على ذلك أيضاً ما أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد : أنا أبو سهل بن زياد القطان ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا شعبة ، أخبرني حبيب هو ابن أبي ثابت ، قال سمعت أبا المنهال قال : سألت البراء وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب ديناً ، رواه البخاري في الصحيح عن أبي عمر حفص بن عمر وأخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة اه من البيهقي بلفظه ، وهو واضح جداً فيما ذكرنا. من أن المراد بجواز الفضل المذكور كونه في جنسين لا جنس واحد ، وفي تكملة المجموع بعد أن ساق الكلام الذي ذكرنا عن البيهقي ما نصه : ولا حجة لمتعلق فيهما. لأنه يمكن حمل ذلك على أحد أمرين ، إما أن يكون المراد بيع دراهم بشيء ليس ربوياً ، ويكون الفساد لأجل التأجيل بالموسم أو الحج ، فإنه غير محرر ولا سيما على ما كانت العرب تفعل.
والثاني : أن يحمل ذلك على اختلاف الجنس ويدل له رواية أخرى عن أبي المنهال. قال : سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق ديناً ، رواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظ البخاري ومسلم بمعناه. وفي لفظ مسلم عن بيع الورق بالذهب ديناً ، فهو يبين أن المراد صرف الجنس بجنس آخر.
وهذه الرواية ثابتة من حديث شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي المنهال ، والروايات الثلاث الأول رواية الحميدي ، واللتان في الصحيح وكلها أسانيدها في غاية الجودة.
(9/334)
ولكن حصل الاختلاف في سفيان فخالف الحميدي علي بن المديني ، ومحمد بن حاتم ، ومحمد بن منصور ، وكل من الحميدي وعلي بن المديني في غاية الثبت. ويترجح ابن المديني هنا بمتابعة محمد بن حاتم ، ومحمد بن منصور له ، وشهادة ابن جريج لروايته ، وشهادة رواية حبيب بن أبي ثابت لرواية شيخه ، ولأجل ذلك قال البيهقي رحمه الله : إن رواية من قال إنه باع دراهم بدراهم خطأ عنده اه منه بلفظه.
وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : وقال الطبري معنى حديث أسامة " لا ربا إلا في النسيئة " إذا اختلفت أنواع البيع اه محل الغرض منه بلفظه ، وهو موافق لما ذكر. وقال في فتح الباري أيضاً ما نصه.
تنبيه : وقع في نسخة الصغاني هنا قال أبو عبد الله : يعني البخاري ، سمعت سليمان بن حرب يقول : لا ربا إلا في النسيئة ، هذا عندنا في الذهب بالورق ، والحنطة بالشعير ، متفاضلاً ولا بأس به يداً بيد ، ولا خير فيه نسيئة. قلت : وهذا موافق اه منه بلفظه.
وعلى هامش النسخة أن بعد قوله وهذا موافق بياضاً بالأصل ، وبهذا الجواب الذي ذكرنا تعلم : أن حديث البراء وزيد لا يحتاج بعد هذا الجواب إلى شيء. لأنه قد ثبت في الصحيح عنهما تصريحهما باختلاف الجنس فارتفع الإشكال ، والروايات يفسر بعضها بعضاً ، فإن قيل : هذا لا يكفي في الحكم على الرواية الثابتة في الصحيح بجواز التفاضل بين الدراهم والدراهم أنها خطأ. إذ لقائل أن يقول لا منافاة بين الروايات المذكورة ، فإن منها ما أطلق فيه الصلاف ومنها ما بين أنها دراهم بدراهم ، فيحمل المطلق على المقيد ، جميعاً بين الروايتين. فإن إحداهما بينت ما أبهمته الأخرى ، ويكون حديث حبيب بن أبي ثابت حديثاً آخر وارداً في الجنسين ، وتحريم النساء فيهما ، ولا تنافي في ذلك ولا تعارض.
(9/335)
فالجواب على تسليم هذا بأمرين : أحدهما أن إباحة ربا الفضل منسوخة. والثاني : أن أحاديث تحريم ربا الفضل أرجح وأولى بالاعتبار على تقدير عدم النسخ من أحاديث إباحته. ومما يدل على النسخ ما ثبت في الصحيح عن أبي المنهال قال : باع شريك لي ورقاً بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج ، فجاء إليَّ فأَخبرني فقلت هذا أَمر لا يصح ، قال قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك عليَّ أحد ، فأتيت الراء بن عازب فسألته فقال قدم النَّبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع ، فقال " ما كان يداً بيدٍ فلا بأس به ، وما كان نسيئة فهو رباً " ، وأتيت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني ، فأتيته فسألته فقال مثل ذلك. هذا لفظ مسلم في صحيحه. وفيه التصريح بأن إباحة ربا الفضل المذكورة في حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانت مقارنة لقدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً.
(9/336)
وفي بعض الروايات الصحيحة في تحريم ربا الفضل أنه صلى الله عليه وسلم صرح بتحريمه في يوم خيبر ، وفي بعض الروايات الصحيحة تحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر أيضاً ، فقد ثبت في الصحيح من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قال : أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب ، وهي من المغانم تباع ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذَّهب الذي في القلادة فنزع وحده ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب وزناً بوزن " هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وفي لفظ له في صحيحه أيضاً عن فضالة بن عبيد قال : اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لا تباع حتى تفصل " وفي لفظ له في صحيحه أيضاً عن فضالة رضي الله عنه قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلا وزناً بوزن " وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر ، فقدم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفعلوا ، ولكن مثلاً بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان " هذا لفظ مسلم في صحيحه. وفي لفظ لهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاء بتمر جنيب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكل تمر خيبر هكذا " ؟ قال : لا والله يا رسول الله. إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً " والأحاديث بمثله كثيرة ، وهي نص صريح في تصريحه(9/337)
صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل بعد فتح خير. فقد اتضح لك من هذه الروايات الثابتة في الصحيح : أن إباحة ربا الفضل كانت زمن قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً ، وأن الروايات المصرحة بالمنع صرحت به في يوم خيبر وبعده ، فتصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل بعد قدومه المدينة بنحو ست سنين وأكثر منها ، يدل دلالة لا لبس فيها على النسخ ، وعلى كل حال فالعبرة بالمتأخر ، وقد كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث ، وأيضاً فالبراء وزيد رضي الله عنهما كانا غير بالغين في وقت تحملهما الحديث المذكور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف الجماعة من الصحابة الذين رووا عنه تحريم ربا الفضل ، فإنهم بالغون وقت التحمل.
(9/338)
ورواية البالغ وقت التحمل أرجح من رواية من تحمل وهو صبي : للخلاف فيها دون رواية المتحمل بالغاً وسن البراء وزيد وقت قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة ، نحو عشر سنينز لما ذكره ابن عبد البر عن منصور بن سلمة الخزاعي : أنه روى بغسناده إلى زيد بن جارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استصغره يوم أحد ، والبراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وأبا سعيد الخدري ، وسعد بن حبته ، وعبد الله بن عمر. وعن الواقدي أو أول غزوة شهداها الخندق ، وممن قال : بأن حديث البراء وزيد منسوخ ، راويه الحميدي. وناهيك به علماً واطلاعاً. وقول راوي الحديث : إنه منسوخ ، في كونه يكفي في النسخ. خلاف معروف عند أهل الأصول ، وأكثر المالكية والشافعية لا يكفي عندهم. فإن قيل : ما قدمتم من كون تحريم ربا الفضل واقعاً بعد إباحته ، يدل على النسخ في حديث البراء وزيد ، لعلم التاريخ فيهما ، وأن حديث التحريم هو المتأخر ، ولكن أين لكم معرفة ذلك في حديث أسامة ؟ ومولد أسامة مقارب لمولد البراء وزيد. لأن سن أسامة وقت وفاته صلى الله عليه وسلم عشرون سنة ، وقيل : ثمان عشرة ، وسن البراء وزيد وقت وفاته صلى الله عليه وسلم نحو العشرين ، كما قدمنا ما يدل عليه.
فالجواب : أنه يكفي في النسخ معرفة أن إباحة ربا الفضل وقعت قبل تحريمه ، والمتأخر يقضي على المتقدم.
(9/339)
الجواب الثاني : عن حديث أسامة أنه رواية صحابي واحد ، وروايات منع ربا الفضل عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رووها صريحة عنه صلى الله عليه وسلم ، ناطقة بمنع ربا الفضل منهم أبو سعيد ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وأبو هريرة وهشام بن عامر ، وفضالة بن عبيد ، وأبو بكرة ، وابن عمر ، وأبو الدرداء ، وبلال ، وعبادة بن الصامت ، ومعمر بن عبد الله وغيرهم وروايات جل من ذكرنا ثابتة في الصحيح ، كرواية أبي هريرة ، وأبي سعيد ، وفضالة بن عبيد ، وعمر بن الخطاب ، وأبي بكرة ، وعبادة بن الصامت ، ومعمر بن عبد الله ، وغيرهم. وإذا عرفت ذلك فرواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد من الخطأ ، من رواية الواحد.
وقد تقرر في الأصول أن كثرة الرواة من المرجحات ، وكذلك كثرة الأدلة كما عقده في مراقي السعود ، في مبحث الترجيح ، باعتبار حال المروي بقوله :
وكثرة الدليل والرواية... مرجح لدى ذوي الدرايه
والقول بعدم الترجيح بالكثرة ضعيف ، وقد ذكر سليم الداري أن : الشافعي أومأ إليه ، وقد ذهب إليه بعض الشافعية والحنفية.
الجواب الثالث : عن حديث أسامة أنه دل على إباحة ربا الفضل ، وأحاديث الجماعة المذكورة دلت على منعه في الجنس الواحد من المذكورات ، وقد تقرر في الأصول أن النص الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة.
لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام ، وقد قدمناه عن صاحب المراقي ، وهو الحق خلافاً للغزالي ، وعيسى بن ابان وأبي هاشم وجماعة من المتكلمين حيث قالوا : هما سواء.
(9/340)
الجواب الرابع : عن حديث أسامة أنه عام بظاهره في الجنس والجنسين ، وأحاديث الجماعة أخص منه. لأنها مصرحة بالمنع مع اتحاد الجنس ، وبالجواز مع اختلاف الجنس ، والأخص مقدم على الأعم. لأنه بيان له ولا يتعارض عام وخاص ، كما تقرر في الأصول. ومن مرجحات أحاديث منع ربا الفضل على حديث أسامة الحفظ. فإن في رواته أبا هريرة ، وأبا سعيد ، وغيرهما ، ممن هو مشهور بالحفظ. ومنها غير ذلك. وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : واتفق العلماء على صحة حديث أسامة ، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد ، فقيل : منسوخ لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، وقيل : المعنى في قوله لا ربا الربا الأغلظ الشديد التحريم ، المتوعد عليه بالعقاب الشديد ، كما تقول العرب : لا عالم في البلد إلا زيد ، مع أن فيها علماء غيره وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل ، وأيضاً فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم. فيقدم عليه حديث أبي سعيد. لأن دلالته بالمنطوق. ويحمل حديث اسامة على الربا الأكبر كما تقدم ، والله أعلم اه منه.
(9/341)
وقوله النسخ لا يثبت بالاحتمال مردود بما قدمنا من الروايات المصرحة بأن التحريم بعد الإباحة ومعرفة المتأخر كافية في الدلالة على النسخ ، وقد روى عن ابن عباس وابن عمر أنهما رجعا عن القول بإباحة ربا الفضل ، قال البيهقي في السنن الكبرى ما نصه : " باب ما يستدل به على رجوع من قال من الصدر الأول لا ربا إلا في النسيئة عن قوله ونزوعه عنه " أخبرنا ابو عبد الله الحافظ : أنا أبو الفضل بن إبراهيم حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الأعلى حدثنا داود بن أبي هند عن أبي نضرة قال : سالت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به باساً ، وإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري فسألته عن الصرف ، فقال ما زاد فهو رباً ، فأنكرت ذلك لقولهما ، فقال : لا احدثكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر طيب ، وكان تمر النَّبي صلى الله عليه وسلم هو الدون ، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم " إنى لك هذا " قال انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع. فإن سعر هذا بالسوق كذا ، وسعر هذا بالسوق كذا.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربيت ؟ إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة ، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت " فقال أبو سعيد ، فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا ، أم الفضة بالفضة ؟ قال فأتيت ابن عمر بعد فنهاني ، ولم آت ابن عباس قال : فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس فكرهه ، رواه مسلم في الصحيح عن إسحاق بن إبراهيم. وقال : وكان تمر النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون.
(9/342)
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين أبو علي الماسرجسي ، حدثنا جدي أبو العباس أحمد بن محمد ، وهو ابن بنت الحسن بن عيسى ، حدثنا جدي الحسن بن عيسى ، أنا ابن المبارك ، أنا يعقوب بن أبي القعقاع ، عن معروف بن سعد ، أنه سمع أبا الجوزاء يقول : كنت أخدم ابن عباس تسع سنين إذ جاء رجل فسأله عن درهم بدرهمين ، فصاح ابن عباس وقال : إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا ، فقال ناس حوله إن كنا لنعمل هذا بفتياك ، فقال ابن عباس قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيد وابن عمر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فأنا أنهاكم عنه. وفي نسختنا من سنن البيهقي في هذا الإسناد ابن المبارك ، والظاهر : أن الأصل أبو المبارك كما يأتي. أخبرنا أبو الحسين ابن الفضل القطان ببغداد أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن سعد بن إياس ، عن عبد الله بن مسعود ، أن رجلاً من بني شمخ بن فزارة ، سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته ، فطلق امرأته. ليتزوج أمها ، قال لا باس فتزوجها الرجل وكان عبد الله على بيت المال ، وكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ، ويأخذ القليل ، حتى قم المدينة. فسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا يحل لهذا الرجل هذه المرأة ، ولا تصح الفضة إلا وزناً بوزن. فلما قدم عبد الله انطلق إلى الرجل فلم يجده ، ووجد قومه فقال إن الذي أفتيت به صاحبكم لا يحل فقالوا : إنها قد نثرت له بطنها ، قال وإن كان. وأتى الصيارفة فقال يا معشر الصيارفة : إن الذي كنت أبايعكم ، لا يحل ، لا تحل الفضة بالفضة ، إلا وزناً بوزن اه من البيهقي بلفظه ، وفيه التصريح برجوع ابن عمر وابن عباس وابن مسعود عن القول بإباحة ربا الفضل ، وقال ابن حجر في الكلام على حديث أسامة المذكور ما نصه ، وخالف فيه. يعني : منع ربا الفضل ابن(9/343)
عمر ثم رجع ، وابن عباس ، واختلف في رجوعه ، وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية ، سألت أبا مجلز عن الصرف فقال : كان ابن عباس لا يرى به بأساً زماناً من عمره ، ما كان منه عيناً بعين ، يداً بيد ، وكان يقول : إنما الربا في النسيئة ، فلقيه أبو سعيد فذكر القصة والحديث ، وفيه التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يداً بيد ، مثلاً بمثل ، فما زاد فهو ربا ، فقال ابن عباس.
أستغفر الله وأتوب إليه ، فكان ينهى عنه أشد النهي. اه من فتح الباري بلفظه. وفي تملة المجموع لتقي الدين السبكي بعد أن ساق حديث حيان هذا ما نصه : رواه الحاكم في المستدرك ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وفي حكمه عليه بالصحة نظر. فإن حيان بن عبيد الله المذكور ، قال ابن عدي : عامة ما يرويه إفرادات يتفرد بها ، وذكر ابن عدي في ترجمته حديثه في الصرف هذا بسياقه ، ثم قال وهذا الحديث من حديث أبي مجلز عن ابن عباس ، تفرد به حيان. قال البيهقي وحيان : تكلموا فيه. واعلم : أن هذا الحديث ينبغي الاعتناء بأمره ، وتبيين صحته من سقمه. لأمر غير ما نحن فيه : وهو قوله : وكذلك ما يكال ويوزن ، وقد تكلم فيه بنوعين من الكلام أحدهما تضعيف الحديث جملة ، وإليه أشار البيهقي ، وممن ذهب غلى ذلك ابن حزم ، أعله بشيء أنبه عليه ، لئلا يغتر به : وهو أنه أعله بثلاثة أشياء :
أحدها : أنه منقطع. لأن ابا مجلز لم يسمع من أبي سعيد ، ولا من ابن عباس.
والثاني : لذكره أن ابن عباس رجع ، واعتقاد ابن حزم : أن ذلك باطل. لمخالفة سعيد بن جبير.
(9/344)
والثالث : أن حيان بن عبيد الله مجهول ، فأما قوله : إنه منقطع فغير مقبول. لأن أبا مجلز أدرك ابن عباس وسمع منه ، وأدرك أبا سعيد. ومتى ثبت ذلك لا تسمع دعوى عدم السماع إلا بثبت ، وأما مخلفة سعيد بن جبير فسنتكلم عليها في هذا الفصل إن شاء الله تعالى ، وأما قوله إن حيان بن عبيد الله مجهول ، فإن أراد مجهول العين فليس بصحيح بل هو رجل مشهور ، روى عنه حديث الصرف هذا محمد بن عبادة ، ومن جهته أخرجه الحاكم ، وذكره ابن حزم ، وإبراهيم بن الحجاج الشامي ، ومن جهته رواه ابن عدي ، ويونس بن محمد ، ومن جهته رواه البيهقي ، وهو حيان بن عبيد الله بن حيان بن بشر بن عدي ، بصري سمع أبا مجلز لاحق بن حميدو ، والضحاك وعن أبيه ، وروى عن عطاء ، وابن بريدة ، روى عنه موسى بن إسماعيل ، ومسلم بن إبراهيم ، وأبو داود ، وعبيد الله بن موسى ، عقد له البخاري وابن أبي حاتم ترجمة ، فذكر كل منهما بعض ما ذكرته ، وله ترجمة في كتاب ابن عدي أيضاً. كما أشرت إليه. فزال عنه جهالة العين ، وإن أراد جهالة الحال فهو قد رواه من طريق إسحاق بن راهويه ، فقال في إسناده : أخبرنا روح ، قال حدثنا حيان بن عبيد الله ، وكان رجل صدق فإن كانت هذه الشهادة له بالصدق من روح بن عبادة ، فروح محدث ، نشأ ف يالحديث عارف به ، مصنف متفق على الاحتجاج به ، بصري بلدي المشهود له فتقبل شهادته له ، وإن كان هذا القول من إسحاق بن راهويه فناهيك به ، ومن يثني عليه إسحاق.
(9/345)
وقد ذكر ابن أبي حاتم حيان بن عبيد الله هذا. وذكر جماعة من المشاهير ممن رووا عنه وممن روى عنهم ، وقال : إنه سأل أباه عنه فقال صدوق ، ثم قال وعن سليمان بن علي الربعي ، عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي ، قال سمعته بأمر بالصرف يعني ابن عباس ، وتحدث ذلك عنه ، ثم بلغني أنه رجع عن ذلك فلقيته بمكة ، فقلت إنه بلغني أنك رجعت قال : نعم ، إنما كان ذلك رأياً مني ، وهذا أبو سعيد حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصرف ، رويناه في سنن ابن ماجه ، ومسند الإمام أحمد ، بإسناد رجاله على شرط الصحيحين ، إلى سليمان بن علي ، وسليمان بن علي روى له مسلم. وقال ابن حزم : إنه مجهول لا يدري من هو ؟ وهو غير مقبول منه. لما تبين. ثم قال : وعن أبي الجوزاء قال : كنت أخدم ابن عباس رضي الله عنهما تسع سنين ثم ساق حديث أبي الجوزاء عن ابن عباس ، الذي قدمنا عن البيهقي ، ثم قال رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناد فيه أبو المبارك ، وهو مجهول. ثم قال : وروينا عن عبد الرحمن بن أبي نعم بضم النون وإسكان العين ، أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، مثلاً بمثل. فمن زاد فقد أربى " فقال ابن عباس : أتوب إلى الله مما كنت أفتي به ، ثم رجع. رواه الطبراني بإسناد صحيح ، وعبد الرحمن بن أبي نعم تابعي ، ثقة متفق عليه ، معروف بالرواية عن أبي سعيد ، وابن عمر ، وغيرهما من الصحابة ، وعن أبي الجوزاء قال : سألت ابن عباس عن الصرف عن الدرهم بالدرهمين ، يداً بيد ، فقال لا أرى فيما كان يداً بيد بأساً ، ثم قدمت مكة من العام المقبل وقد نهى عنه ، رواه الطبراني بإسناد حسن. وعن أبي الشعثاء قال : سمعت ابن عباس يقول : اللهم إني أتوب إليك من الصرف. إنما هذا من رأيي ، وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني ورجاله ثقاة ، مشهورون(9/346)
مصرحون بالتحديث فيه من أولهم إلى آخرهم. وعن عطية العوفي بإسكان الواو وبالفاء قال : قال أبو سعيد لابن عباس تب إلى الله تعالى ، فقال : أستغفر الله وأتوب إليه ، قال : ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، وقال
(9/347)
" إني أخاف عليكم الربا " ، قال فضيل بن مرزوق : قلت لعطية ما الربا ؟ قال الزيادة والفضل بينهما ، رواه الطبراني بسند صحيح ، إلى عطية. وعطية من رجال السنن. قال يحيى بن معين صالح وضعفه غيره ، فالإسناد بسببه ليس بالقوي ، وعن بكر بن عبد الله المزني أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنه لا بأس بالصرف ، ما كان منه يداً بيد إنما الربا في النسيئة ، فطارت كلمته في أهل المشرق والمغرب حتى إذا انقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري وقال له : يا ابن عباس أكلت الربا وأطعمته ؟ قال أو فعلت ؟ قال : نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب ، وزناً بوزن ، مثلاً بمثل : تبره وعينه. فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي ، وإني أستغفر الله تعالى منه ، وأتوب إليه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الذهب بالذهب ، وزناً بوزن ، مثلاً بمثل ، تبره وعينه ، فمن زاد واستزاد فقد أربى " وأعاد عليهم هذه الأنواع الستة رواه الطبراني بسند فيه مجهول ، وإنما ذكرناه متابعة لما تقدم. وهكذا وقع في روايتنا. فمن زاد واستزاد بالواو لا بأو والله أعلم. وروى أبو جابر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي في كتاب معاني الآثار بإسناد حسن إلى أبي سعيد قال : قلت لابن عبّاس أرأيت الذي يقول الدينار بالدينار ؟ وذكر الحديث ثم قال : قال أبو سعيد ونزع عنها ابن عباس وروى الطحاوي أيضاً عن نصر بن مرزوق بإسناد لا بأس به عن أبي الصهباء أن ابن عباس. نزل عن الصرف وهذا أصرح من رواية مسلم ، وروى الطحاوي عن أبي أمية بإسناد حسن إلى عبد الله بن حسين أن رجلاً من أهل العراق قال(9/348)
لعبد الله بن عمر : إن ابن عباس قال وهو علينا أمير : من أعطى بالدرهم مائة درهم فليأخذها وذكر حديثاً إلى أن قال فقيل لابن عباس ما قال ابن عمر قال فاستغفر ربه وقال إنما هو رأي مني وعن أبي هاشم الواسطي وسمه يحيى بن دينار عن زياد قال : كنت مع ابن عباس بالطائف فرجع عن الصرف قبل أن يموت بسبعين يوماً ذكره ابن عبد البر في الاستذكار وذكر أيضاً عن أبي حرة قال : سال رجل ابن سيرين عن شيء فقال : لا علم لي به.
فقال الرجل : أن يكون فيه برأيك. فقال : إني أكره أن أقول فيه برأيي ثم يبدو لي غيره فأطلبك فلا أجدك إن ابن عباس قد رأى في الصرف رأياً ثم رجع ، وذكر أيضاً عن ابن سيرين عن الهذيل بالذال المعجمة ابن أخت محمد بن سيرين قال : سألت ابن عباس عن الصرف فرجع عنه فقلت : إن الناس يقولون. فقال : الناس يقولون ما شاءوا اه من تكملة المجموع ، ثم قال : بعد هذا فهذه عدة روايات صحيحة وحسنة من جهة خلق من أصحاب ابن عباس تدل على رجوعه ، وقد روي في رجوعه أيضاً غير ذلك ، وفيما ذكرته غنية إن شاء الله تعالى ، وفي تكملة المجموع أيضاً قبل هذا ما نصه وروى عن أبي الزبير المكي وسمه محمد بن تدرس بفتح التاء ودال ساكنة وراء مضمومة وسين مهملة. قال : سمعت أبا أسيد الساعدي وابن عباس يفتي الدينار بالدينارين فقال له أبو أسيد الساعدي وأغلظ له قال فقال ابن عباس ما كنت أظن أن أحداً يعرف قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل هذا يا ابا أسيد فقال أبو أسيد أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الدينار بالدينار ، وصاع حنطة بصاع حنطة ، وصاع شعير بصاع شعير ، وصاع ملح بصاع ملح لا فضل بينهما في شيء من ذلك ".
(9/349)
فقال ابن عباس إنما هذا شيء كنت أقوله برأيي ولم اسمع فيه بشيء رواه الحاكم في المستدرك ، وقال إنه صحيح على شرط مسلم رحمه الله وفي سنده عتيق بن يعقوب الزبيري قال الحاكم : إنه شيخ قرشي من أهل المدينة وأبو أسيد بضم الهمزة.
(9/350)
وروينا في معجم الطبراني من حديث أبي صالح ذكوان أنه سأل ابن عباس عن بيع الذهب والفضة فقال : هو حلال بزيادة أو نقصان إذا كان يداً بيد قال ابو صالح فسألت أبا سعيد بما قال ابن عباس وأخبرت ابن عباس بما قال ابو سعيد والتقيا وأنا معهما فابتدأه أبو سعيد الخدري فقال : يا ابن عباس ما هذه الفتيا التي تفتي بها الناس في بيع الذهب والفضة تأمرهم أن يشتروه بنقصان أو بزيادة يداً بيد ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما ما أنا بأقدمكم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا زيد بن أرقم والبراء بن عازب يقولان : سمعنا النَّبي صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني بإسناد حسن وقد قدمنا رجوع ابن عمر وابن مسعود عن ذلك وقد قدمنا الجواب عما روي عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد رضي الله عنهم وثبت عن سعيد بن جبير أن ابن عباس لم يرجع وهي شهادة على نفي مطلق ، والمثبت مقدم على النافي : لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه النافي ، وقال ابن عبد البر : رجع ابن عباس أو لم يرجع ، في السنة كفاية عن قول كل واحد ، ومن خالفها رد إليها ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ردوا الجهالات إلى السنة اه وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار ، ما نصه وأما ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه لا ربا فيما كان يداً بيد كما تقدم ، فليس ذلك مروياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون دلالته على نفي ربا الفضل منطوقة ، ولو كان مرفوعاً ، لما رجع ابن عباس واستغفر ، لما حدثه أبو سعيد بذلك كما تقدم ، وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند أن سمع عمر بن الخطاب وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على تحريم ربا الفضل ، وقال حفظتما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أحفظ ، وروى عنه الحازمي أيضاً أنه قال كان ذلك برأيي.
(9/351)
وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتركت رأيي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى تسليم أن ذلك الذي قاله ابن عباس مرفوع فهو عام مخصص بأحاديث الباب. لأنها أخص منه مطلقاً اه منه بلفظه ، وقد ذكر غير واحد أن الإجماع انقعد بعد هذا الخلاف على منع ربا الفضل.
قال : في تكملة المجموع ما نصه : الفصل الثالث في بيان انقراض الخلاف في ذلك ودعوى الإجماع فيه ، قال ابن المنذر : أجمع علماء الأمصار مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة ، وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق ، والأوزاعي ومن قال بقوله من أهل الشام ، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر : والشافعي وأصحابه ، وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد بن علي ، أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ، ولا فضة بفضة ، ولا بر ببر ، ولا شعير بشعير ، ولا تمر بتمر ، ولا ملح بملح ، متفاضلاً يداً بيد ، ولا نسيئة ، وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ اه محل الغرض منه بلفظه.
ونقل النووي في شرح مسلم إجماع المسلمين على ترك العمل بظاهر حديث أسامة قال : وهذا يدل على نسخه ، وقد استدل ابن عبد البر على صحة تأويله لحديث أسامة بإجماع الناس ، ما عدا ابن عباس عليه اه ، وعلى فرض أن ابن عباس لم يرجع عن ذلك ، فهل ينعقد الإجماع مع مخالفته ؟ فيه خلاف معروف في الأصول ، هل يلغى الواحد والاثنان أو لا بد من اتفاق كل وهو المشهور ، وهل إذا مات وهو مخالف ثم انعقد الإجماع بعده يكون إجماعاً وهو الظاهر ، أو لا يكون إجماعاً. لأن المخالف الميت لا يسقط قوله بموته ، خلاف معروف في الأصول أيضاً.
(9/352)
وإذا عرفت أن من قال بإباحة ربا الفضل رجع عنها ، وعلمت أن الأحاديث الصحيحة ، المتفق عليها مصرحة بكثرة بمنعه ، علمت أن الحق الذي لا شك فيه تحريم ربا الفضل ، بين كل جنس واحد من الستة مع نفسه ، وجواز الفضل بين الجنسين المختلفين يداً بيد ، ومنع النساء بين الذهب والفضة مطلقاً ، وبين التمر والبر ، والشعير والملح مطلقاً ، ولا يمنع طعام بنقد نسيئة كالعكس ، وحكى بعض العلماء على ذلك الإجماع ، ويبقى غير هذه الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث. فجماهير العلماء على أن الربا لا يختص بالستة المذكورة.
والتحقيق أن علة الربا في النقدين كونهما جوهرين نفيسين. هما ثمن الأشياء غالباً في جميع أقطار الدنيا ، وهو قول مالك والشافعي ، والعلة فيهما قاصرة عليهما عندهما ، وأشهر الروايات عن أحمد أن العلة فيهما كون كل منهما موزون جنس ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأما البر والشعير والتمر والملح فعلة الربا فيها عند مالك الاقتيات والادخار ، وقيل وغلبة العيش فلا يمنع ربا الفضل عند مالك وعامة أصحابه إلا في الذهب بالذهب والفضة بالفضة والطعام المقتات المدخر بالطعام المقتات المدخر ، وقيل يشترط مع الاقتيات والادخار غلبة العيش ، وإنما جعل مالك العلة ما ذكر. لأنه أخص أوصاف الأربعة المذكورة ونظم بعض المالكية ما فيه ربا النساء وربا الفضل عند مالك في بيتين وهما :
رباء نسا في النقد حرم ومثله... جعام ، وإن جنساهما قد تعددا
وخص ربا فضل بنقد ومثله... طعام الربا ، إن جنس كل توحدا
وقد كنت حررت على مذهب مالك في ذلك في الكلام على الربا في الأطعمة في نظم لي طويل في فروع مالك بقولي :
وكل ما يذاق من طعام... ربا النسا فيه من الحرام
مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف... ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
وإن يكن يطعم للدواء... مجرداً فامنع ذو انتفاء
ولربا الفضل شروط يحرم... بها ، وبانعدامها ينعدم
هي اتحاد الجنس فيما ذكرا... مع اقتياته وأن يدخرا
(9/353)
وما لحد الادخار مده... والتادلى بستة قد حده
والخلف في اشتراط كونه اتخذ... للعيش عرفاً ، وبالإسقاط اخذ
تظهر فائدته في أربع... غلبة العيش بها لم تقع
والأربع التي حوى ذا البيت... بيض وتين وجراد زيت
في البيض والزيت والربا قد انحظر... رعياً لكون شرطها لم يعتبر
وقد رعى اشتراطها في المختصر... في التين وحده ففيه ما حظر
ورعى خلف في الجراد باد... لذكره الخلاف في الجراد
وحبة بحبتين تحرم... إذا الربا قليله محرم
ثم ذكرت بعد ذلك الخلاف في ربوية البيض بقولي :
وقول إن البيض ما فيه الربا... إلى ابن شعبان الإمام نسبا
وأصح الروايات عن الشافعي أن علة الربا في الأربعة الطعم فكل مطعوم يحرم فيه عنده الربا كالأقوات ، والإدام ، والحلاوات ، والفواكه والدوية. واستدل على أن العلة الطعم بما رواه مسلم من حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " الطعام بالطعام مثلاً بمثل " الحديث. والطعام اسم لكل ما يؤكل قال تعالى : {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} [ آل عمران : 93 ] الآية وقال تعالى : {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} [ عبس : 24-28 ] الآية وقال تعالى : {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [ المائدة : 5 ] والمراد ذبائحهم.
وقالت عائشة رضي الله عنها مكثنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ما لنا طعام إلا الأسودان التمر والماء. وعن أبي ذر رضي الله عنه في حديثه الطويل ، في قصة إسلامه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فمن كان يطعمك ؟ " قلت : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى كسرت عكن بطني ، قال : " إنها مباركة إنها طعام طعم " رواه مسلم وقال لبيد :
لمعفر قهد تنازع شلوه... غبس كواسب ما يمن طعامها(9/354)
يعني بطعامها الفريسة ، قالوا : والنَّبي صلى الله عليه وسلم علق في هذا الحديث الربا على اسم الطعام ، والحكم إذا علق على اسم مشتق دل على أنه علته ، كالقطع في السرقة في قوله : {والسارق والسارقة} [ المائدة : 38 ] الآية قالوا : ولأن الحب ما دام مطعوماً يحرم فيه الربا. فإذا زرع وخرج عن أن يكون مطعوماً لم يحرم فيه الربا ، فإذا انعقد الحب وصار مطعوماً حرم فيه الربا ، فدل على أن العلة فيه كونه مطعوماً ، ولذا كان الماء يحرم فيه الربا على أحد الوجهين عند الشافعية. لأن الله تعالى قال : {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [ البقرة : 249 ] ولقول عائشة المتقدم ما لنا طعام إلا الأسودان الماء والتمر ، ولقول الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
والنقاخ الماء البارد ، هذا هو حجة الشافعية في أن علة الربا في الأربعة الطعم فألحقوا بها كل مطعوم للعلة الجامعة بينهما.
قال : مقيده - عفا الله عنه - الاستدلال بحديث معمر المذكور على أن علة الربا الطعم لا يخلو عندي من نظر ، والله تعالى أعلم. لأن معمراً المذكور لما قال : قد كنت أسمع النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الطعام بالطعام مثلاً بمثل " قال عقبة : وكان طعامنا يومئذ الشعير كما رواه عنه أحمد ومسلم ، وهذا صريح في أن الطعام في عرفهم يومئذ الشعير ، وقد تقرر في الأصول أن العرف المقارن للخطاب من مخصصات النص العام ، وعقده في مراقي السعود بقوله : في مبحث المخصص المنفصل عاطفاً على ما يخصص العموم :
والعرف حيث قارن الخطابا... ودع ضمير البعض والأسبابا(9/355)
وأشهر الروايات عن أحمد أن علة الربا في الأربعة كونها مكيلة جنس ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وعليه يحرم الربا في كل مكيل ، ولو غير طعام كالجص والنورة والأشنان. واستدلوا بما رواه الدارقطني عن عبادة وأنس بن مالك أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعاً واحداً وما كيل فمثل ذلك ، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به " قال العلامة الشوكاني : في نيل الأوطار حديث أنس وعبادة أشار إليه في التلخيص ولم يتكلم عليه ، وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقة أبو زرعة وغيره ، وضعفه جماعة ، وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضاً ، ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولاً وغيره من الأحاديث اه منه بلفظه.(9/356)
واستدلوا أيضاً بما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر ، فجاءهم بتمر جنيب ، فقال : " أكل تمر خيبر هكذا " قال : إنا لنأخذ الصّاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً ، وقال : في الميزان مثل ذلك ، ووجه الدلالة منه ، أن قوله في الميزان ، يعني في الموزون. لأن نفس الميزان ليست من أموال الربا ، واستدلوا أيضاً بحديث أبي سعيد المتقدم الذي أخرجه الحاكم من طريق حيان بن عبيد الله ، فإن فيه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يداً بيد ، عيناً بعين ، مثلاً بمثل ، فمن زاد فهو رباً " ثم قال : " وكذلك ما يكال أو يوزن أيضاً " وأجيب من جهة المانعين ، بأن حديث الدارقطني لم يثبت ، وكذلك حديث الحاكم ، وقد بينا سابقاً ما يدل على ثبوت حديث حيان المذكور ، وقد ذكرنا آنفاً كلام الشوكاني في أن حديث الدارقطني أخرجه البزار أيضاً وأنه يشهد لصحته حديث عبادة بن الصامت وغيره من الأحاديث ، وأن الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره ، وضعفه جماعة ، وقال : فيه ابن حجر في التقريب صدوق سيء الحفظ ، وكان عابداً مجاهداً ، ومراد الشوكاني بحديث عبادة المذكور ، هو ما أخرجه عنه مسلم والإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وأبو داود. أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم " اه فإن قوله صلى الله عليه وسلم : " سواء بسواء ، مثلاً بمثل " يدل على الضبط بالكيل والوزن ، وهذا القول أظهرها دليلاً.(9/357)
وأجابوا عن حديث أبي سعيد المتفق عليه بثلاثة أجوبة الأول : جواب البيهقي قال : وقد قيل : إن قوله وكذلك الميزان من كلام أبي سعيد الخدري موقوف عليه.
الثاني : جواب القاضي أبي الطيب وآخرين ، أن ظاهر الحديث غير مراد : لأن الميزان نفسه لا ربا فيه وأضمرتم فيه الموزون ، ودعوى العموم في المضمرات لا تصح ، الثالث : حمل الموزون على الذهب والفضة جمعاً بين الأدلة والظاهر أن هذه الإجابات لا تنهض. لأن وقفه على أبي سعيد خلاف الظاهر ، وقصد ما يوزن بقوله وكذلك الميزان لا لبس فيه ، وحمل الموزون على الذهب والفضة فقط خلاف الظاهر والله تعالى أعلم.(9/358)
وفي علة الربا في الأربعة مذاهب أخر غير ما ذكرنا عن الأئمة الأربعة ومن وافقهم الأول : مذهب أهل الظاهر ومن وافقهم أنه لا ربا أصلاً في غير الستة ، ويروى هذا القول عن طاوس ومسروق والشعبي وقتادة وعثمان البني. الثاني : مذهب أبي بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم أن العلة فيها كونها منتفعاً بها ، حكاه عنه القاضي حسين. الثالث : مذهب ابن سيرين. وأبي بكر الآودني من الشافعية أن العلة الجنسية. فيحرم الربا في كل شيء بيع بجنسه كالتراب متفاضلاً والثوب بالثوبين والشاة بالشاتين. الرابع : مذهب الحسن البصري أن العلة المنفعة في الجنس ، فيجوز عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار ، ويحرم بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته ديناران. الخامس : مذهب سعيد بن جبير أن العلة تقارب المنفعة في الجنس فحرم التفاضل في الحنطة بالشعير والباقلي بالحمص ، والدخن بالذرة مثلاً. السادس : مذهب ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن العلة كونه جنساً تجب فيه الزكاة. فحرم الربا في كل جنس تجب فيه الزكاة كالمواشي ، والزرع وغيرها. السابع : مذهب سعيد بن المسيب وقول الشافعي في القديم : إن العلة كونه مطعوماً يكال أو يوزن ونفاه عما سواه ، وهو كل ما لا يؤكل ولا يشرب ، أو يؤكل ولا يكال ولا يوزن ، كالسفرجل والبطيخ وقد تركنا الاستدلال لهذه المذاهب والمناقشة فيها خوف الإطالة المملة.
فروع
الفرع الأول : الشك في المماثلة كتحقق المفاضلة ، فهو حرام في كل ما يحرم فيه ربا الفضل. ودليل ذلك : ما أخرجه مسلم والنسائي عن جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر - لا يعلم كيلها - بالكيل المسمى من التمر.(9/359)
الفرع الثاني : لا يجوز التراخي في قبض ما يحرم فيه ربا النساء ، ودليل ذلك : ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث مالك بن أوس رضي الله عنه. قال : أقبلت أقول من يصطرف الدراهم ، فقال طلحة : أرنا الذهب حتى يأتي الخازن ثم تعال فخذ ورقك ، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كلا والذي نفسي بيده لتردن إليه ذهبه ، أو لتنقدنه ورقه ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الذهب بالورق رباً إلا ها وها ، والبر بالبر رباً إلا ها وها ، والشعير بالشعير رباً إلا ها وها ، والتمر بالتمر رباً إلا ها وها ".
الفرع الثالث : لا يجوز أن يباع ربوي بربوي كذهب بذهب ، ومع أحدهما شيء آخر. ودليل ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الطاهر عن ابن وهب من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب ، وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزناً بوزن ".
وروى مسلم نحوه أيضاً عن أبي بكر بن شيبة وقتيبة بن سعيد من حديث فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - ونحوه. أخرجه النسائي ، وأبو داود والترمذي وصححه.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في نيل الأوطار عند ذكر صاحب المنتقى لحديث فضالة بن عبيد المذكور ما نصه الحديث.
قال في التلخيص : له عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جداً في بعضها قلادة فيها خرز وذهب ، وفي بعضها ذهب وجوهر ، وفي بعضها خرز معلقة بذهب ، وفي بعضها باثني عشر ديناراً ، وفي بعضها بتسعة دنانير ، وفي أخرى بسبعة دنانير. وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعاً شهدها فضالة.(9/360)
قال الحافظ : والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفاً بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع ما لم يفصل ، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحال ما يوجب الحكم بالاضطراب.
وحينئذ ينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقاة فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة ، وبعض هذه الروايات التي ذكرها الطبراني في صحيح مسلم وسنن أبي داود اه منه بلفظه. وقد قدمنا بعض روايات مسلم.
الفرع الرابع : لا يجوز بيع المصوغ من الذهب أو الفضة بجنسه بأكثر من وزنه ، ودليل ذلك : ما صح عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم صرح بتحريم بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ، وأن من زاد أو استزاد فقد أربى.
وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن مجاهد أنه قال : كنت أطوف مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه ، فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي فيه ، فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك ، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله بن عمر ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابته يريد أن يركبها.
ثم قال عبد الله بن عمر : الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا وعهدنا إليكم.
ثم قال البيهقي : وقد مضى حديث معاوية حيث باع سقاية ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ، فنهاه أبو الدرداء وما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في النهي عن ذلك.
روى البيهقي أيضاً عن أبي رافع أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب إني أصوغ الذهب فأبيعه بوزنه وآخذ لعمالة يدي أجراً قال : لا تبع الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن ولا الفضة بالفضة إلا وزناً بوزن ولا تأخذ فضلاً اه منه.(9/361)
وما ذكره البيهقي - رحمه الله - أنه ما قدمه من نهي أبي الدرداء وعمر لمعاوية هو قوله أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن وغيرهما قالوا حدثنا أبو العباس الأصم أنا الربيع ، أنبأنا الشافعي أنا مالك. وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا عبد الله يعني القعني عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل. فقال معاوية ما أرى بهذا بأساً. فقال له أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها ، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر له ذلك. فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلاً بمثل ووزناً بوزن ، ولم يذكر الربيع عن الشافعي في هذا قدوم أبي الدرداء على عمر وقد ذكره الشافعي في رواية المزني اه منه بلفظه.(9/362)
ونحو هذا أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه من رواية أبي الأشعث قال : غزونا غزاة وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطيات الناس فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عيناً بعين ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا ، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيباً فقال : ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه ، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية ، أو قال وإن رغم ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء.
قال حماد هذا أو نحوه اه.
هذا لفظ مسلم في صحيحه وهذه النصوص الصحيحة تدل على أن الصناعة الواقعة في الذهب أو الفضة لا أثر لها ، ولا تبيح المفاضلة بقدر قيمة الصناعة كما ذكرنا. وهذا هو مذهب الحق الذي لا شك فيه. وأجاز مالك بن أنس رحمه الله تعالى للمسافر أن يعطي دار الضرب نقداً وأجرة صياغته ويأخذ عنهما حلياً قدر وزن النقد بدون الأجرة. لضرورة السفر كما أشار إليه خليل بن غسحاق في مختصره بقوله : بخلاف تبر يعطيه المسافر وأجرته دار الضرب ليأخذ زنته.
قال مقيده - عفا الله عنه - الظاهر من نصوص السنة الصحيحة أن هذا لا يجوز. لضرورة السفر كما استظهر عدم جوازه ابن رشد ، وإليه الإشارة بقول صاحب المختصر : والأظهر خلافه يعني : ولو اشتدت الحاجة إليه إلا لضرر يبيح الميتة ، كما قرره شراح المختصر.(9/363)
الفرع الخامس : اختلف الناس في الأوراق المتعامل بها هل يمنع الربا بينها وبين النقدين نظراً إلى أنها سند ، وأن المبيع الفضة التي هي سند بها فيمنع بيعها بالفضة ولو يداً بيد مثلاً بمثل ، ويمنع بيعها بالذهب أيضاً المناجزة. بسبب عدم حضور أحد النقدين أو لا يمنع فيها شيء من ذلك. نظراً إلى أنها بمثابة عروض التجارة فذهب كثير من المتاخرين إلى أنها كعروض التجارة ، فيجوز الفضل والنساء بينها وبين الفضة والذهب وممن أفتى بأنها كعروض التجارة العالم المشهور عليش المصري صاحب النوازل ، وشرح مختصر خليل ، وتبعه في فتواه بذلك كثير من متأخري علماء المالكية.
قال مقيده - عفا الله عنه - الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أنها ليست كعروض التجارة ، وأنها سند بفضة وأن المبيع الفضة التي هي سند بها. ومن قرأ المكتوب عليها فهم صحة ذلك ، وعليه فلا يجوز بيعها بذهب ولا فضة ولو يداً بيد. لعدم المناجزة بسبب غيبة الفضة المدفوع سندها. لأنها ليست متمولة ولا منفعة في ذاتها أصلاً. فإن قيل لا فرق بين الأوراق وبين فلوس الحديد. لأن كلاًّ منهما ليس متمولاً في ذاته مع أنه رائج بحسب ما جعله له السلطان من المعاملة فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أنا إذا حققنا أن الفلوس الحديدية الحالية لا منفعة فيها أصلاً ، وأن حقيقتها سند بفضة ، فما المانع من أن نمنع فيها الربا مع النقد ، والنصوص صريحة في منعه بين النقدين ، وليس هناك إجماع يمنع إجراء النصوص على ظواهرها بل مذهب مالك أن فلوس الحديد لا تجوز بأحد النقدين نسيئة فسلم الدراهم في الفلوس كالعكس ممنوع عندهم.
وما ورد عن بعض العلماء مما يدل على أنه لا ربا بين النقدين وبين فلوس الحديد ، فإنه محمول على أن ذلك الحديد الذي منه تلك الفلوس فيه منافع الحديد المعروفة المشار إليها بقوله تعالى : (9/364)
{وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [ الحديد : 25 ] فلو جمعت تلك الفلوس وجعلت في النار لعمل منها ما يعمل من الحديد من الأشياء المنتفع بها ، ولو كانت كفلوسنا الحالية على تسليم أنها لا منفعة فيها أصلاً ، لما قالوا بالجواز : لأن ما هو سند لا شك أن المبيع فيه ما هو سند به لا نفس السند. ولذا لم يختلف الصدر الأول في أن المبيع في بيع الصكاك الذي ذكره مسلم في الصحيح وغيره أنه الرزق المكتوب فيها لا نفس الصكاك التي هي الأوراق التي هي سند بالأرزاق.
الثاني : أن هناك فرقاً بينهما في الجملة وهو أن الفلوس الحديدية لا يتعامل بها بالعرف الجاري قديماً وحديثاً إلا في المحقرات فلا يشترى بها شيء له بال بخلاف الأوراق ، فدل على أنها أقرب للفضة من الفلوس.
الثالث : أنا لو فرضنا أن كلاً من الأمرين محتمل فالنَّبي يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ويقول : " فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " ويقول : " والإثم ما حاك في النفس " الحديث وقال الناظم :
وذو احتياط في أمور الدين... من فرض شك إلى يقين(9/365)
وقد قدمنا مراراً أن ما دل على التحريم مقدم على ما دل على الإباحة. لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام ، ولا سيما تحريم الربا الذي صرح الله تعالى بأن مرتكبه محارب الله. وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه. ومن أنواع الربا ما اختلف العلماء في منعه كما إذا كان البيع ظاهره الحلية ، ولكنه يمكن أن يكون مقصوداً به التوصل إلى الربا الحرام ، عن طريق الصورة المباحة في الظاهر كما لو باع سلعة بثمن إلى أجل ثم اشترى تلك السلعة بعينها بثمن أقل من الأول نقداً ، أو لأقرب من الأجل الأول ، أو بأكثر لأبعد فظاهر العقدين الإباحة. لأنه بيع سلعة بدراهم إلى أجل في كل منهما وهذا لا مانع منه ، ولكنه يجوز أن يكون مقصود المتعاقدين دفع دراهم وأخذ دراهم أكثر منها لأجل أن السلعة الخارجة من اليد العاشدة إليها ملغاة فيؤول الأمر إلى أنه دفع دراهم وأخذ أكثر منها لأجل ، وهو عين الربا الحرام ومثل هذا ممنوع عند مالك ، وأحمد ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة والحسن بن صالح ، وروي عن الشعبي والحكم وحماد كما في الاستذكار وأجازه الشافعي.
واستدل المانعون بما رواه البيهقي والدارقطني عن عائشة أنها أنكرت ذلك على زيد بن أرقم ، وقالت : أبلغي زيداً أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب.
وقال الشافعي : إن زيد بن أرقم مخالف لعائشة ، وإذا اختلف صحابيان في شيء رجحنا منهما من يوافقه القياس والقياس هنا موافق لزيد. لأنهما عقدان كل منهما صحيح في نفسه.(9/366)
وقال الشافعي أيضاً : لو كان هذا ثابتاً عن عائشة فإنها إنما عابت التأجيل بالعطاء. لأنه أجل غير معلوم والبيع إليه لا يجوز. واعترضه بعض العلماء بأن الحديث ثابت عن عائشة ، وبأن ابن أبي شيبة ذكر في مصنفه أن أمهات المؤمنين كن يشترين إلى العطاء والله تعالى أعلم. وبأن عائشة لا تدعي بطلان الجهاد بمخالفة رأيها ، وإنما تدعيه بأمر علمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا البيع الذي ذكرنا تحريمه هو المراد عند العلماء ببيع العينة ويسميه المالكية بيوع الآجال ، وقد نظمت ضابطه في نظمي الطويل في فروع مالك بقولي :
بيوع الآجال إذا كان الأجل... أو ثمن كأخويهما تحل
وإن يك الثمن غير الأول... وخالف الأجل وقت الأجل
فانظر إلى السابق بالإعطاء هل... عاد له أكثر أو عاد أقل
فإن يكن أكثر مما دفعه... فإن ذاك سلف بمنفعة
وإن يكن كشيئه أو قلا... عن شيئه المدفوع قبل حلا
قوله تعالى : {وَيُرْبِي الصدقات} الآية.
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى يربي الصدقات وبين في موضع آخر أن هذا الإرباء مضاعفة الأجر ، وأنه يشترط في ذلك إخلاص النية لوجه الله تعالى وهو قوله تعالى : {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [ الروم : 39 ]. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 189 ـ 209}(9/367)
بحث نفيس للشهيد سيد قطب فى الآية الكريمة
قال رحمه الله :
الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي . . الوجه الكالح الطالح هو الربا!
الصدقة عطاء وسماحة ، وطهارة وزكاة ، وتعاون وتكافل . . والربا شح ، وقذارة ودنس ، وأثرة وفردية . .
والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد . والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه . من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده . ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر ، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئاً . .
ومن ثم فهو - الربا - الوجه الآخر المقابل للصدقة . . الوجه الكالح الطالح!
لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود! عرضه عرضاً منفراً ، يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة . ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع ، وفساد في الأرض وهلاك للعباد .(9/368)
ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا . ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا - في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى - ولله الحكمة البالغة . فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره . ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر ، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث . فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت ، تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية ، أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى . ويدرك - من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام - يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة . وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدّق كل كلمة تصديقاً حياً مباشراً واقعاً . والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي . في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها . وتتلقى - حقاً - حرباً من الله تصب عليها النقمة والعذاب . . أفراداً وجماعات ، وأمماً وشعوباً ، وهي لا تعتبر ولا تفيق!
وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه ، ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة . . في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم .
أنهما نظامان متقابلان : النظام الإسلامي .
(9/369)
والنظام الربوي! وهما لا يلتقيان في تصور ، ولا يتفقان في أساس ؛ ولا يتوافقان في نتيجة . . إن كلاً منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة . وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف . . ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة ، وكان هذا التهديد الرعيب!
إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي - ونظام الحياة كلها - على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود . يقيمه على أساس أن الله - سبحانه - هو خالق هذا الكون . فهو خالق هذه الأرض ، وهو خالق هذا الإنسان . . هو الذي وهب كل موجود وجوده . .
وإن الله - سبحانه - وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض ؛ ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات ، على عهد منه وشرط . ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى ، يصنع فيه ما يشاء كيف شاء . وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة . استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله ، وحسب شريعته . فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ . وما وقع منه مخالفاً لشروط التعاقد فهو باطل موقوف . فإذا انفذه قوة وقسراً فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله . فالحاكمية في الأرض - كما هي في الكون كله - لله وحده . والناس - حاكمهم ومحكومهم - إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه ، وليس لهم - في جملتهم - أن يخرجوا عنها ، لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد وليسوا ملاكاً خالقين لما في أيديهم من أرزاق .
(9/370)
من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله ، فيكون بعضهم أولياء بعض ، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل - لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تقول الماركسية . ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة - فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه . مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله له - فلا يكون أحدهم كلاًّ على أخيه أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل . وجعل الزكاة فريضة في المال محددة . والصدقة تطوعاً غير محدد .
وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال ، ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم ؛ وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم . ومن ثم تظل حاجتهم الاستهلاكية للمال والطيبات محدودة بحدود الاعتدال . وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة . وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره .
وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين ، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد ، ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق :
{كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل ، والنظافة في الوسيلة والغاية ، وفرض عليهم قيوداً في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلاً تؤذي ضمير الفرد وخلقه ، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها .
وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود ؛ وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض . .
ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا ؛ ونظام يقوم على تصور آخر . تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى . ومن ثم لا رعاية فيه للمباديء والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها .
(9/371)
إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر . فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء ؛ وهو غير مقيد بعهد من الله ؛ وغير ملزم باتباع أوامر الله!
ثم إن الفرد حر في وسائل حصوله على المال ، وفي طرق تنميته ، كما هو حر في التمتع به . غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط ؛ وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين . ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته . وقد تتدخل القوانين الوضعية أحياناً في الحد من حريته هذه - جزئياً - في تحديد سعر الفائدة مثلاً ؛ وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب ، والغش والضرر . ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم ، وما تقودهم إليه أهواؤهم ؛ لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية!
كذلك يقوم على أساس تصور خاطىء فاسد . هو أن غاية الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال - بأية وسيلة - واستمتاعه به على النحو الذي يهوى! ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به ؛ ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين!
ثم ينشىء في النهاية نظاماً يسحق البشرية سحقاً ، ويشقيها في حياتها أفراداً وجماعات ودولاً وشعوباً ، لمصلحة حفنة من المرابين ؛ ويحطها أخلاقيا ونفسياً وعصبياً ؛ ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نمواً سوياً وينتهي - كما انتهى في العصر الحديث - إلى تركيز السلطة الحقيقية والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله وأشدهم شراً ؛ وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلاًّ ولا ذمة ، ولا يراقبون فيها عهداً ولا حرمة . . وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفراداً ، كما يداينون الحكومات والشعوب - في داخل بلادهم وفي خارجها - وترجع إليهم الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها ، وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم ، في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهداً!
وهم لا يملكون المال وحده .
(9/372)
. إنما يملكون النفوذ . . ولما لم تكن لهم مبادىء ولا أخلاق ولا تصور ديني أو أخلاقي على الإطلاق ؛ بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان والأخلاق والمثل والمبادئ ؛ فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال ، ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم . . وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات ، التي يدفع فيها الكثيرون آخر فلس يملكونه ، حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة! وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة ، مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد ؛ وإلى انحراف الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة الممولين المرابين ، الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية!
(9/373)
والكارثة التي تمت في العصر الحديث - ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية - هي أن هؤلاء المرابين - الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية - قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها ، وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها . . سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها . . أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم ، ويشربون عرقهم ودماءهم في ظل النظام الربوي . . هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول ، والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي ؛ وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب . وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين - غير العمليين - وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع ؛ وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه! حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا بائسة لهذا النظام ذاته! ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه . الذي تضطره عصابات المرابين العالمية لأن يجري جرياناً غير طبيعي ولا سوي . ويتعرض للهزات الدورية المنظمة! وينحرف عن أن يكون نافعاً للبشرية كلها ، إلى أن يكون وقفاً على حفنة من الذئاب قليلة!
إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة - وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم ؛ وهم قد نشأوا في ظله ، وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق .
(9/374)
وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة " دكتور شاخت " الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقاً . وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه بعملية رياضية ( غير متناهية ) يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين . ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية ؛ بينما المدين معرض للربح والخسارة . ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد - بالحساب الرياضي - أن يصير إلى الذي يربح دائماً! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل . فإن معظم مال الأرض الآن يملكه - ملكاً حقيقياً - بضعة ألوف! أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك ، والعمال ، وغيرهم ، فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال ، ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف! .
وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة . فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة . فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة . ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة ؛ ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال ، لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء . . عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين ؛ وتضيق المصانع دائرة انتاجها ، ويتعطل العمال ، فتقل القدرة على الشراء . وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد ، ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف ، يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطراراً . فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد ، وتعود دورة الحياة إلى الرخاء . . وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية . ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة!(9/375)
ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين . فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين ، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية . أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية كذلك . إذ أن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها . وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف . . وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد ، ولا يكون الاستعمار هو نهاية الديون . . ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار!
ونحن هنا - في ظلال القرآن - لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي فهذا مجاله بحث مستقل - فنكتفي بهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أن يكونوا مسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت :
الحقيقة الأولى : - التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوسهم - أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي في مكان .
وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوى من رجال الدين أو غيرهم سوى هذا دجل وخداع . فأساس التصور الإسلامي - كما بينا - يصطدم اصطداماً مباشراً بالنظام الربوي ، ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم .
والحقيقة الثانية : أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية - لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب - بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية ، وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقاً ، ويعطل نموها الإنساني المتوازن ، على الرغم من الطلاء الظاهري الخدّاع ، الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام!(9/376)
والحقيقة الثالثة : أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماماً ، وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه ، وأنه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم به في حياته ، ومحاسب عليه في آخرته . فليس هناك نظام أخلاقي وحده ، ونظام عملي وحده ، وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان ، وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن ، وإثم يؤاخذ عليه إن أساء . وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق ، وأن الأخلاق ليست نافلة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية .
والحقيقة الرابعة : أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه ، وشعوره تجاه أخيه في الجماعة ؛ وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة . أما في العصر الحديث فإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار . كي يستطيع رأس المال المستدان بالربا أن يربح ربحاً مضموناً ، فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منه شيء للمستدين . ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرة والصحافة القذرة والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التي تحطم أخلاق البشرية تحطيماً . . والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشىء أنفع المشروعات للبشرية ؛ بل همه أن ينشىء أكثرها ربحاً . ولو كان الربح إتما يجيء من استثارة أحط الغرائز وأقذر الميول . . وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض . وسببه الأول هو التعامل الربوي!
والحقيقة الخامسة : أن الإسلام نظام متكامل . فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه ؛ وينظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل ، بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المطرد .
(9/377)
والحقيقة السادسة : أن الإسلام - حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص - لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي ، إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة اللازمة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم .
ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه . ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة . وفي أول هذه المؤسسات والأجهزة : المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث .
والحقيقة السابعة : - وهي الأهم - ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلماً ، بأن هناك استحالة اعتقادية في أن يحرم الله أمراً لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه! كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها . . فالله سبحانه هو خالق هذه الحياة ، وهو مستخلف الإنسان فيها ؛ وهو الآمر بتنميتها وترقيتها ؛ وهو المريد لهذا كله الموفق إليه . فهناك استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شيء لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه . وأن يكون هناك شيء خبيث هو حتمي لقيام الحياة ورقيها . وإنما هو سوء التصور . وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالاً على بث فكرة : أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني ، وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي . وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافة العامة ، ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها . ثم قيام الحياة الحديثة على هذا الأساس فعلاً بسعي بيوت المال والمرابين . وصعوبة تصور قيامها على أساس آخر . وهي صعوبة تنشأ أولاً من عدم الإيمان . كما تنشأ ثانياً من ضعف التفكير وعجزه عن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه لما لهم من قدرة على التوجيه . وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية ، وملكية لأدوات الإعلام العامة والخاصة .
(9/378)
والحقيقة الثامنة : أن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغداً على أساس غير الأساس الربوي . . ليست سوى خرافة . أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التي يستخدمها أصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلاً! وأنه حين تصح النية ، وتعزم البشرية - أو تعزم الأمة المسلمة - أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربوية العالمية ، وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع ، فإن المجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد ، الذي أراده الله للبشرية ، والذي طبق فعلاً ، ونمت الحياة في ظله فعلاً ؛ وما تزال قابلة للنمو تحت إشرافه وفي ظلاله ، لو عقل الناس ورشدوا!
وليس هناك مجال تفصيل القول في كيفيات التطبيق ووسائله . . فحسبنا هذه الإشارات المجملة . وقد تبين أن شناعة العملية الربوية ليست ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية ؛ وأن الإنسانية التي انحرفت عن النهج قديماً حتى ردها الإسلام إليه ؛ هي الإنسانية التي تنحرف اليوم الانحراف ذاته ، ولا تفيء إلى النهج القويم الرحيم السليم .
فلننظر كيف كانت ثورة الإسلام على تلك الشناعة التي ذاقت منها البشرية ما لم تذق قط من بلاء :
{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس .
ذلك بأنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا . وأحل الله البيع وحرم الربا . فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله . ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . يمحق الله الربا ويربي الصدقات . والله لا يحب كل كفار أثيم} . .
إنها الحملة المفزعة ، والتصوير المرعب :
{لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} . .
(9/379)
وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة . . صورة الممسوس المصروع . . وهي صورة معروفة معهودة للناس . فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس ، لاستجاشة مشاعر المرابين ، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي ؛ ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة . . وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها . بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة . . ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة ، هو القيام يوم البعث . ولكن هذه الصورة - فيما نرى - واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضاً . ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله . ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي. أ هـ {فى ظلال القرآن حـ 1 صـ 199 ـ 205}(9/380)
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بين تعالى ما سلبه عن الكافرين من محبته أتبعه ما أثبته للمؤمنين المصدقين من رحمة الملوح إليهم فيما قبل بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر كما تقدم آنفاً على وجه لم يخله من ذكر النفقة فقال تعالى مشيراً إلى قسيم {ومن عاد} {إن الذين آمنوا} أي صدقوا بجميع ما أتتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم عن الله سبحانه وتعالى {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} ائتماراً وانتهاء لا سيما ترك الربا.
ولما كانت الصلاة زبدة الدين فيما بين الحق والخلق خصها بالذكر فقال : {وأقاموا الصلاة} بجميع حدودها {إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر} [ العنكبوت : 45 ].
ولما كان الإيثار أجل ما بين الحق والخلق وزبدته إخراج الواجب من المال عن طيب نفس قال : {وآتوا الزكاة} فضلاً عن أن يبخلوا فضلاً عن أن يربوا ودل على أن جزاءهم بحسب النيات لثباتهم في فتنة الردة بقوله : {لهم أجرهم} وأعلم بحفظه وتنميمته بقوله : {عند ربهم} وآذن بتمام الانتفاع بقوله : {ولا خوف عليهم} أي من طارق يطرقهم بغير ما يلائمهم لأنهم في كنف العزيز العليم {ولا هم يحزنون} على شيء فاتهم فهم في غاية الرضى بما هم فيه ، ولعظيم الجدوى في ذلك كرره في هذه الآيات غير مرة ونوه به كرة في أثر كرة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 540 ـ 541}
فصل
قال الفخر : (9/381)
احتج من قال بأن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان بهذه الآية فإنه قال : {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فعطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ومن الناس من أجاب عنه أليس أنه قال في هذه الآية {وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة} مع أنه لا نزاع في أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت {وَعَمِلُواْ الصالحات} فكذا فيما ذكرتم ، وأيضاً قال تعالى : {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [ محمد : 34 ] وقال : {الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا} [ البقرة : 239 ].
وللمستدل الأول أن يجيب عنه بأن الأصل حمل كل لفظة على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر ، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 84 ـ 85}
فائدة
قال الفخر :
{لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} أقوى من قوله : على ربهم أجرهم لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد ، فذاك النقد هناك حاضر ، متى شاء البائع أخذه ، وقوله : أجرهم على ربهم.
يجري مجرى ما إذا باع بالنسيئة في الذمة ، ولا شك أن الأول أفضل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 85}
فصل
قال الفخر : (9/382)
اختلفوا في قوله {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فقال ابن عباس : لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة ، ولا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدنيا ، فإن المنتقل من حالة إلى حالة أخرى فوقها ربما يحزن على بعض ما فاته من الأحوال السالفة ، وإن كان مغتبطاً بالثانية لأجل إلفه وعادته ، فبيّن تعالى أن هذا القدر من الغصة لا يلحق أهل الثواب والكرامة ، وقال الأصم : لا خوف عليهم من عذاب يومئذ ، ولا هم يحزنون بسبب أنه فاتهم النعيم الزائد الذي قد حصل لغيرهم من السعداء ، لأنه لا منافسة في الآخرة ، ولا هم يحزنون أيضاً بسبب أنه لم يصدر منا في الدنيا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا مستحقين لثواب أزيد مما وجدناه وذلك لأن هذه الخواطر لا توجد في الآخرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 85}
فصل
قال الفخر :
في قوله تعالى : {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكواة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} إشكال هو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله وكما بلغت حاضت ، ثم عند انقطاع حيضها ماتت ، أو الرجل بلغ عارفاً بالله ، وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات ، فهما بالاتفاق من أهل الثواب ، فدل ذلك على أن استحقاق الأجر والثواب لا يتوقف على حصول الأعمال ، وأيضاً من مذهبنا أن الله تعالى قد يثيب المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال ، وإذا كان كذلك ، فكيف وقف الله هاهنا حصول الأجر على حصول الأعمال ؟ .(9/383)
الجواب : أنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا ، بل لأجل أن لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب ، كما قال في ضد هذا {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ} [ الفرقان : 68 ] ثم قال : {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [ الفرقان : 68 ] ومعلوم أن من ادعى مع الله إلها آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر ، ولكن الله جمع الزنا وقتل النفس على سبيل الاستحلال مع دعاء غير الله إلها لبيان أن كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 85}
فائدة
قال الآلوسى فى معنى الآية :
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ} بما وجب الإيمان به {وَعَمِلُواْ} الأعمال {الصالحات} على الوجه الذي أمروا به {وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة} تخصيصهما بالذكر مع اندراجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما ، فإن الأولى : أعظم الأعمال البدنية والثانية : أفضل الأعمال المالية {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} الموعود لهم حال كونه {عِندَ رَبّهِمْ} وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لوفور حظهم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 52}
موعظة
قال فى روح البيان :
اعلم إن آكل الربا لحرصه على الدنيا مثله كمثل من به جوع الكلب فيأكل ولا يشبع حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فكلما يقوم يصرعه ثقل بطنه فكذا حال أهل الربا يوم القيامة
فالعاقل لا يأكل ما لا يتحمله فى الدنيا والآخرة فطوبى لمن يقتصد فى أخذ الدنيا ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها فهو ينجو من وبالها وهو مثل التاجر الذى يكسب المال بطريق البيع والشراء ويؤدى حقه وإن كان له حرص فى الطلب والجمع ولكن لما كان بأمر الشرع وطريق الحل ولا يمنع ذا الحق حقه ما أضر به كما اضرّ بآكل الربا روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : (9/384)
" الربا بضع وسبعون بابا أدناها كأتيان الرجل أمه " يعنى كالزنى بأمه والعياذ بالله فمن سمع هذا القول العظيم فليبادر بالتوبة إلى باب المولى الكريم ذلك لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد.
ومن أقرض شيئا بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا وكان لأبى حنيفة رحمه الله على رجل ألف درهم سود فرد عليه ألف درهم بيض فقال أبو حنيفة لا أريد هذا الأبيض بدل دراهمى فأخاف أن يكون هذا البياض ربا فرده وأخذ مثل دراهمه
قال أبو بكر لقيت أبا حنيفة على باب رجل وكان يقرع الباب ثم يتنحى ويقوم فى الشمس فسألته عنه فقال إن لى على صاحبه دينا وقد نهى عن قرض جر منفعة فلا انتفع بظل حائطه. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 534}. بتصرف يسير.
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ . . .}.
قال هنا : " لهُمْ أجْرُهُمْ " وقال فيما سبق : {فَلَهُمْ أجْرُهُمْ} لوجهين :
الأول : أن السّابق ( أكمل ) وأبلغ لقوله : {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} ، فأكّده بالسرّ والعلانية وهنا لم يؤكده كذلك.
قيل لابن عرفة : الأعمال الصالحة تشتمل على النفقة وغيرها ؟
فقال : تستلزم مطلق النفقة وتلك نفقة خاصة.
الثاني : إن هذا مؤكد " بإن " فأغنى عن تأكيده بالفاء ؟
قلت : لأن الأول موصول مضمن معنى الشّرط فصحّ دخول الفاء في خبره وأن لا تدخل على الشّرط الصريح ، فلا يدخل على ما هو مضمّن معناه فدخولها يمنع من تضمين الموصول معناه ، وإذا لم يضمن معنى الشّرط فلا يدخل الفاء في خبره. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 356}.
تم الجزء التاسع من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء العاشر وأوله قوله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}.(9/385)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء العاشر
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا }(10/3)
الجزء العاشر
من الآية {278} من سورة البقرة
وحتى الآية {286} آخر سورة البقرة(10/4)
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت نتيجة الآية الماضية في الاعتماد على ما عند الله سبحانه وتعالى من الأجر وعدم الحزن على ما فات من ربا وغيره والخوف من شيء آت من فقر أو غيره ترك كل شيء ينسب إلى الربا وكان بين أهل الإسلام وأهل الجاهلية وبين بعضهم وبعض معاملات في الجاهلية ربوية لم تتم بعد بين أمرها نفياً لما قد يتوهم من قوله سابقاً {فله ما سلف} من تحليل بقايا الربا وأن النهي خاص بما تجدد منه فقال مخاطباً لأقرب من ذكره ممن تلبس بالإيمان ولم يلتفت إلى غيرهم تشريفاً لهم : {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالتصديق بألسنتهم.
ولما كان الربا قد يكون مؤجلاً فيكون صاحبه قد مضت عليه مدد وهو موطن نفسه على أخذه فيصير الكف عنه يعدل الموت عنده أبلغ سبحانه وتعالى في التشديد في هذه المواعظ فقال : {اتقوا الله} أي الذي له جميع العظمة تصديقا لإقراركم {وذروا} أي اتركوا أي ترك كان {ما بقي من الربا} أي الذي كنتم تتعاملون به فلا تستحلوه ولا تأكلوه.
ولما لوح في أول الآية إلى أن من أصر فهو غير صادق في دعوى الإيمان صرح بذلك في آخرها فقال : {إن كنتم مؤمنين} أي متصفين بما ذكرتموه بألسنتكم.
قال الحرالي : فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان وأكثر بلايا هذه الأمة حتى أصابها ما أصاب بني إسرائيل من البأس الشنيع والانتقام بالسنين إنما هو من عمل من عمل بالربا ،
وهذه الآية أصل عظيم في أحكام الكفار إذا أسلموا فما مضى منها لم ينقص وما لم يمض لم يفعل - نبه عليه الأصبهاني. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 541}
قال الفخر : (10/5)
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم ، فقال تعالى في هذه الآية {وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا} وبين به أن ذلك إذا كان عليهم ولم يقبض ، فالزيادة تحرم ، وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم ، وإنما شدد تعالى في ذلك ، لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل ، ثم حضر الوقت وظن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له ، فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم ، فقال : {اتقوا الله} واتقاؤه ما نهى عنه {وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا} يعني إن كنتم قد قبضتم شيئاً فيعفو عنه ، وإن لم تقبضوه ، أو لم تقبضوا بعضه ، فذلك الذي لم تقبضوه كلا كان ، أو بعضاً ، فإنه محرم قبضه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 86}
وقال ابن عاشور :
قوله : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا} إفضاء إلى التشريع بعد أن قُدم أمامَه من الموعظة ما هيّأ النفوس إليه.
فإن كان قوله : {وأحل الله البيع وحرم الربا} [ البقرة : 275 ] من كلام الذين قالوا : {إنما البيع مثل الربا} [ البقرة : 275 ] فظاهر ، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد ، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود ، وما تقدم كلّه وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم.
وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأنّ تقْوَى الله هي أصل الامتثال والاجتناب ؛ ولأن ترك الربا من جملتها.
فهو كالأمرِ بطريق برهاني.
ومعنى {وذروا ما بقي من الربوا} الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا ، فهذا مقابل قوله : "فله ما سلف" ، فكان الذي سلفَ قبضُه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأموراً بتركه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 93}
فائدة
قال الفخر : (10/6)
واعلم أن هذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار إذا أسلموا ، وذلك لأن ما مضى في وقت الكفر فإنه يبقى ولا ينقص ، ولا يفسخ ، وما لا يوجد منه شيء في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام ، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب ، وإن كان النكاح وقع على محرم فقبضته المرأة فقد مضى ، وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المهر المسمى ، هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 86}
فائدة
قال الماوردى :
قوله عز وجل : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ} يحتمل وجهين :
أحدهما : يأ أيها الذين أمنوا بألسنتهم اتقوا الله بقلوبكم.
والثاني : يأيها الذين أمنوا بقلوبهم اتقوا الله في أفعالكم. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 351}
سؤال : فإن قيل : كيف قال : {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا} ثم قال في آخره {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ؟
الجواب : من وجوه الأول : أن هذا مثل ما يقال : إن كنت أخاً فأكرمني ، معناه : إن من كان أخا أكرم أخاه والثاني : قيل : معناه إن كنتم مؤمنين قبله
الثالث : إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان الرابع : يا أيها الذين آمنوا بلسانهم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 86}
وقال أبو حيان :
{إن كنتم مؤمنين} تقدّم أنهم مؤمنون بخطاب الله تعالى لهم : {يا أيها الذين آمنوا} وجمع بينهما بأنه شرط مجازي على جهة المبالغة ، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه : إن كنت رجلاً فافعل كذا قاله ابن عطية ، أو بأن المعنى :
إن صح إيمانكم ، يعني أن دليل صحة الإيمان وثباثه امتثال ما أمرتم به من ذلك ، قاله الزمخشري ، وفيه دسيسه اعتزال ، لأنه إذا توقفت صحة الإيمان على ترك هذه المعصية فلا يجامعها الصحة مع فعلها ، وإذا لم يصح إيمانه لم يكن مؤمناً ، مدعى المعتزلة.(10/7)
وقيل : إن بمعنى إذ أي إذ كنتم مؤمنين قاله مقاتل بن سليمان ، وهو قول لبعض النحويين ، أن : إن ، تكون بمعنى : إذ ، وهو ضعيف مردود ولا يثبت في اللغة ، وقيل : هو شرط يراد به الاستدامة ، وقيل : يراد به الكمال ، وكأن الإيمان لا يتكامل إذا أصرّ الإنسان على كبيرة ، وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب الكبائر ، هذا وإن كانت الدلائل قد قامت على أن حقيقة الإيمان لا يدخل العمل في مسماها ، وقيل : الإيمان متغاير بحسب متعلقه ، فمعنى الأول : {يا أيها الذين آمنوا} بألسنتهم.
ومعنى الثاني : {إن كنتم مؤمنين} بقلوبكم.
وقيل : يحتمل أن يريد : يا أيها الذي آمنوا بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء ، ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بمحمد ، إذ لا ينفع الأول إلاَّ بهذا ، قاله ابن فورك.
قال ابن عطية : وهو مردود بما روي في سبب الآية. انتهى.
يعني أنها نزلت في عباس ، وعثمان ، أو في عباس ، وخالد ، أو فيمن أسلم من ثقيف ولم يكونوا هؤلاء قبل الإيمان آمنوا بأنبياء ، وقيل : هو شرط محض في ثقيف على بابه ، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام. انتهى.
وعلى هذا ليس بشرط صحيح إلاَّ على تأويل استدامة الإيمان. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 351}
فصل في سبب نزول الآية
قال الفخر :
في سبب نزول الآية روايات :
الرواية الأولى : أنها خطاب لأهل مكة كانوا يرابون فلما أسلموا عند فتح مكة أمرهم الله تعالى أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة.
والرواية الثانية : قال مقاتل : إن الآية نزلت في أربعة إخوة من ثقيف : مسعود ، وعبد يا ليل ، وحبيب ، وربيعة ، بنو عمرو بن عمير الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة ، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم الإخوة ، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.(10/8)
والرواية الثالثة : نزلت في العباس ، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا أسلفا في التمر ، فلما حضر الجداد قبضا بعضاً ، وزاد في الباقي فنزلت الآية ، وهذا قول عطاء وعكرمة.
الرواية الرابعة : نزلت في العباس وخالد بن الوليد ، وكانا يسلفان في الربا ، وهو قول السدي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 86 ـ 87}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} ظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضاً وإن كان معقوداً قبل نزول آية التحريم ، ولا يتعقب بالفسخ ما كان مقبوضاً.
وقد قيل : إن الآية نزلت بسبب ثقِيف ، وكانوا عاهدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من الربا على الناس فهو لهم ، وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم ، فلما أن جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء ، وكانت الديون لبني عبدة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف ، وكانت على بني المغيرة المخزوميّين.
فقال بنو المغيرة : لا نعطي شيئاً فإن الربا قد رُفِع.
ورفعوا أمرهم إلى عَتَّاب بن أَسِيد ، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتَّاب ؛ فعلمت بها ثقيف فكفَّتْ.
هذا سبب الآية على اختصار مجموع ما رَوى ابن إسحاق وابن جريج والسُّدِّي وغيرهم.
والمعنى اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقايةً بترككم ما بقي لكم من الربا وصفحكم عنه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 363}
قوله تعالى : {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}
قال الماوردى : (10/9)
قوله عز وجل : {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} محمول على أن مَنْ أربى قبل إسلامه ، وقبض بعضه في كُفْرِه وأسلم وقد بقي بعضه ، فما قبضه قبل إسلامه معفو عنه لا يجب عليه رد ، وما بقي منه بعد إسلامه ، حرام عليه لا يجوز له أخذه ، فأما المراباة بعد الإسلام فيجب رَدُّه فيما قبض وبقي ، فيرد ما قبض ويسقط ما بقي ، بخلاف المقبوض في الكفر ، لأن الإسلام يجبُّ ما قبله. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 352}
فصل
قال الفخر :
قال القاضي : قوله {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} كالدلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب كل الكبائر.
والجواب : لما دلّت الدلائل الكثيرة المذكورة في تفسير قوله {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [ البقرة : 3 ] على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان كانت هذه الآية محمولة على كمال الإيمان وشرائعه ، فكان التقدير : إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان ، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه لتلك الدلائل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 87}(10/10)
قوله تعالى : {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان من حق من عاند السيد الأخذ سبب عن ذلك قوله : {فإن لم تفعلوا} أي ترك الربا.
قال الحرالي : في إشعاره أن طائقة منهم لا يذرونه بعد تحريمه بما أنهم ليسوا من الذين كانوا مؤمنين - انتهى.
{فأذنوا بحرب} أي عظيمة.
قال الحرالي : والحرب مدافعة بشدة عن اتساع ،
المدافع بما يطلب منه الخروج عنه فلا يسمح به ويدافع عنه بأشد مستطاع ؛ ثم عظم أمرها بإيراد الاسم الأعظم فقال : {من الله} العظيم الجليل {ورسوله} صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم الخلائق بتشريفه بالإضافة إليه.
وقال الحرالي : الذي هيأه للرحمة ،
فكان نبي الرحمة محارباً له ،
فانقطعت وصلته من الرحيم والشفيع - انتهى.
{وإن تبتم} أي فعلتم بعد الإذن بالقتال أو قبله ما أمركم الله به من ترك ما بقي منه {فلكم رؤوس أموالكم} أي كما هو حال البيع.
ولما كان ذلك هو العدل لأنه الحق قال : {لا تظلمون} أي بأخذ شيء مما بقي من الربا {ولا تظلمون} بنقص من رأس المال أو دفع بمطال لأنه الحق. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 541 ـ 542}
فصل
قال الفخر : (10/11)
قرأ عاصم وحمزة {فَآذَنُواْ} مفتوحة الألف ممدودة مكسورة الذال على مثال {فَآمِنُواْ} والباقون {فأذَنُواْ} بسكون الهمزة مفتوحة الذال مقصورة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن علي رضي الله عنه أنهما قرآ كذلك {فَآذَنُواْ} ممدودة ، أي فاعلموا من قوله تعالى : {فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ على سَوَاء} [ الأنبياء : 109 ] ومفعول الإيذان محذوف في هذه الآية ، والتقدير : فاعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله ، وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضاً قد علموا ذلك لكن ليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم ، فهذه القراءة في البلاغة آكد ، وقال أحمد بن يحيى : قراءة العامة من الإذن ، أي كونوا على علم وإذن ، وقرأ الحسن {فأيقنوا} وهو دليل لقراءة العامة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 87}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن الخطاب بقوله {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله} خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا ، أو هو خطاب مع الكفار المستحلين للربا ، الذين قالوا إنما البيع مثل الربا ، قال القاضي : والاحتمال الأول أولى ، لأن قوله {فَأْذَنُواْ} خطاب مع قوم تقدم ذكرهم ، وهم المخاطبون بقوله {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا} وذلك يدل على أن الخطاب مع المؤمنين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 87}
سؤال : فإن قلت : هلا قيل بحرب الله ورسوله ؟
قلت : كان هذا أبلغ لأن المعنى : فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 349}
قال أبو حيان :
وإنما كان أبلغ لأن فيها نصاً بأن الحرب من الله لهم ، فالله تعالى هو الذي يحاربهم ، ولو قيل : بحرب الله ، لاحتمل أن تكون الحرب مضافة للفاعل ، فيكون الله هو المحارب لهم ، وأن تكون مضافة للمفعول ، فيكونوا هم المحاربين الله.(10/12)
فكون الله محاربهم أبلغ وأزجر في الموعظة من كونهم محاربين الله. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 353}
فائدة
قال أبو حيان :
{فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} ظاهره : فإن لم تتركوا ما بقي من الربا ، وسمي الترك فعلاً ، وإذا أمروا بترك ما بقي من الربا من ذلك الأمر بترك إنشاء الربا على طريق الأولى والأحرى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 352}
فائدة
قال ابن عاشور :
وتَنكير حرب لقصد تعظيم أمرها ؛ ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضاً عنها بمن ونسبت إلى الله ؛ لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد ، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر ، وهذا هو الظاهر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 94}
سؤال : فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين ؟
قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل ، كما جاء في الخبر " من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة " وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله " وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله تعالى : {إِنَّمَا جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [ المائدة : 33 ] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين ، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وفي سنّة رسوله.(10/13)
إذا عرفت هذا فنقول : في الجواب عن السؤال المذكور وجهان الأول : المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب والثاني : المراد نفس الحرب وفيه تفصيل ، فنقول : الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة ، حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه ما نعي الزكاة ، وكذا القوم لو اجتمعوا على ترك الأذان ، وترك دفن الموتى ، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من عامل بالربا يستتاب فإن تاب وإلا ضُرِبت عنقه.
والقول الثاني : في هذه الآية أن قوله {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ} [ البقرة : 279 ] خطاب للكفار ، وأن معنى الآية {وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [ البقرة : 278 ] معترفين بتحريم الربا {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} ومن ذهب إلى هذا القول قال : إن فيه دليلاً على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام كان كافراً ، كما لو كفر بجميع شرائعه.
ثم قال تعالى : {وَإِن تُبتُمْ} والمعنى على القول الأول تبتم من معاملة الربا ، وعلى القول الثاني من استحلال الربا {فَلَكُمْ رُءُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أي بنقصان رأس المال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 87 ـ 88}
فائدة
قال أبو حيان :
{وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} أي : إن تبتم من الربا ورؤوس الأموال : أصولها ، وأما الأرباح فزوائد وطوارئ عليها.(10/14)
قال بعضهم : إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله واستحلال ما حرم الله ، فيصير مالهم فيأ للمسلمين ، وفي الاقتصار على رؤوس الأموال مع ما قبله دليل واضح على أنه ليس لهم إلاَّ ذلك ، ومفهوم الشرط أنه : إن لم يتوبوا فليس لهم رؤوس أموالهم ، وتسمية أصل المال رأساً مجاز.
{لا تظلمون ولا تظلمون} قرأ الجمهر الأول مبنياً للفاعل ، والثاني مبنياً للمفعول ، أي : لا تظلمون الغريم بطلب زيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال ، وقيل : بالمطل.
وقرأ أبان ، والمفضل ، عن عاصم الأول مبنياً للمفعول ، والثاني مبيناً للفاعل ورجح أبو علي قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله : وإن تبتم ، في إسناد الفعلين إلى الفاعل ، فتظلمون بفتح التاء أشكل بما قبله.
والجملة يظهر أنها مستأنفة وإخبار منه تعالى أنهم إذا اقتصروا على رؤوس الأموال كان ذلك نصفة ، وقيل : الجملة حال من المجرور في : لكم ، والعامل في الحال ما في حرف الجر من شوب الفعل ، قاله الأخفش. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 353}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ . . .}.
قال ابن عرفة : عادتهم يقولون : فيها حجة لمن يقول : إن الترك فعل لأن قبلها {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} ثُمّ قال : {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ}.
قال : وعادتهم يجيبون بأنّ هذا كف لا ترك ، ونظيره : إذا كان طيب طعام بين يدي رجلين : أحدهما جائع والآخر شابع ولم يأكلا منه منه شيئا.
يقال في الجائع : إنه كف ( عن الأكل ) وفي الشبعان : إنه ترك الأكل.
قيل لابن عرفة : أو يجاب بأن قبلها اتّق الله وهو فعل ؟
فقال : الأمر بالتقوى ليس هو لذاته والآية إنّما سبقت لتحريم الرّبا بدليل استدلالهم بها في كتاب بيوع الآجال في ربا الجاهلية.
قوله تعالى : {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ . . .}.(10/15)
قال الزمخشري : في التنكير للتعظيم.
وتقدم استشكاله بأنّ التنكير إنما هو للتقليل والشيوع في آحاد ذلك الشيء.
وتقدم الجواب : بأن التعظيم الصفة والكيفية لا في الكمية والقدر وانظر سورة الفجر.
قوله تعالى : {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}.
قال ابن عرفة : مذهبنا أنه يجب ردّ الرّبا وهو الزيادة.
قيل لابن عرفة : فكيف يتم مفهوم الآية على مذهبنا فإنّ مفهومها إن لم تتوبوا فليس ( لكم رؤوس أموالكم ) مع أن مذهبنا بطلان الربا وللمعطي رأس ماله ؟
فقال : الجواب إن لم يتوبوا سقط الخطاب لأنه لا يخاطب إلا المؤمن برد الرّبا وأما الكافر فلا ( يخاطب برده ) حيث كان. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 358}(10/16)
سؤال عن فوائد البنوك
يقول السائل :
كنت موظفًا أتقاضى راتبًا متوسطًا ، وكنت أوفر منه مبلغًا أودعه البنك وأتقاضى عليه فائدة ، فهل يصح لي ذلك أم لا ، علمًا بأن المرحوم الشيخ شلتوت أفتى بجواز هذه الفوائد وسألت بعض العلماء ، فمنهم من أجازها ومنهم من منعها . ومما أذكره أني كنت أدفع زكاة مالي ، ولكن فائدة البنك كانت تزيد علن المبلغ الذي أخرجه .
وإن كانت الفائدة غير جائزة فماذا أفعل بها ؟
الجواب : أن الفوائد التي يأخذها المودع من البنك ، هي ربا محرم ، فالربا : هي كل زيادة مشروطة على رأس المال . أي ما أخذ بغير تجارة ولا تعب ، زيادة على رأس المال فهو ربا . ولهذا يقول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون ) البقرة : 279
فالتوبة معناها هنا أن يبقى للإنسان رأس ماله ، وما زاد على ذلك فهو ربا . والفوائد الزائدة على رأس المال ، جاءت بغير مشاركة ولا مخاطرة ولا مضاربة ولا شئ من المتاجرة .. فهذا هو الربا المحرم. وشيخنا الشيخ شلتوت لم يبح الفوائد الربوية فيما أعلم ، وإنما قال : إذا وجدت ضرورة - سواء كانت ضرورة فردية أم ضرورة اجتماعية - يمكن عندها أن تباح الفوائد ، وتوسع في معنى الضرورة أكثر مما ينبغي. وهذا التوسع لا نوافقه عليه رحمه الله .
وإنما الذي أفتى به الشيخ شلتوت هو صندوق التوفير ، وهو شيء آخر غير فوائد البنوك . وهذا أيضًا لم نوافقه عليه .
فالإسلام ، لا يبيح للإنسان أن يضع رأس ماله ويأخذ ربحًا محددًا عليه ، فإنه إن كان شريكًا حقًا ، فيجب أن ينال نصيبه في الربح وفي الخسارة معًا ، أيًا كان الربح ، وأيًا كانت الخسارة .(10/17)
فإذا كان الربح قليلاً شارك في القليل ، وإذا كان كثيرًا شارك في الكثير ، وإذا لم يكن ربح حرم منه ، وإذا كانت خسارة تحمل نصيبه منها ، وهذا معنى المشاركة في تحمل المسئولية .
أما ضمان الربح المحدد ، سواء كان هناك ربح أو لم يكن ، بل قد يكون الربح أحيانًا مبالغ طائلة تصل إلى 80% أو 90% وهو لا ينال إلا نسبة مئوية بسيطة لا تتجاوز 5% أو 6% أو قد تكون هناك خسارة فادحة ، وهو لا يشارك في تلك الخسارة … وهذا غير طريق الإسلام … وإن أفتى بذلك الشيخ شلتوت رحمه الله وغفر له .
فالأخ الذي يسأل عن فوائد البنوك : هل يأخذها أم لا ؟ أجيبه : بأن فوائد البنوك لا تحل له ، ولا يجوز أخذها . ولا يجزيه أن يزكي عن ماله الذي وضعه في البنك ، فإن هذه الفائدة حرام ، وليست ملكًا له ، ولا للبنك نفسه ، في هذه الحالة … ماذا يصنع بها ؟
أقول : إن الحرام لا يملك ، ولهذا يجب التصدق به ، كما قال المحققون من العلماء ، بعض الورعين قالوا بعدم جواز أخذه ولو للتصدق .. عليه أن يتركه أو يرميه في البحر ، ولا يجوز أن يتصدق بخبيث.
ولكن هذا يخالف القواعدة الشرعية في النهي عن إضاعة المال وعدم انتفاع أحد به . لابد أن ينتفع به أحد .. إذن ما دام هو ليس ملكًا له ، جاز له أخذه والتصدق به على الفقراء والمساكين ، أو يتبرع به لمشروع خيري ، أو غير ذلك مما يرى المودع أنه في صالح الإسلام والمسلمين .. ذلك أن المال الحرام كما قدمت ليس ملكًا لأحد ، فالفائدة ليست ملكًا للبنك ولا للمودع ، وإنما تكون ملكًا للمصلحة العامة ، وهذا هو الشأن في كل مال حرام ، لا ينفعه أن تزكى عنه ، فإن الزكاة لا تطهر المال الحرام ، وإنما الذي يطهره هو الخروج منه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله لا يقبل صدقة من غلول )(رواه مسلم) . والغلول هو المال الذي يغله الإنسان ويخونه من المال العام. لا يقبل الله الصدقة من هذا المال لأنه ليس ملكًا لمن هو في يده .(10/18)
وهل يترك تلك الفوائد للبنك ، لأنها محرمة عليه ؟
لا يتركها ، لأن هذا يقوي البنك الذي يتعامل بالربا ، ولا يأخذها لنفسه ، وإنما يأخذها ويتصدق بها في أي سبيل من سبل الخير .
قد يقول البعض : إن المودع معرض للخسارة إذا خسر البنك وأعلن إفلاسه مثلا ، لظرف من الظروف ، أو لسبب من الأسباب .
وأقول لمثل هذا بأن تلك الخسارة أو ذلك الإفلاس لا يبطل القاعدة ، ولو خسر المودع نتيجة ذلك الإفلاس ، لأن هذا بمثابة الشذوذ الذي يثبت القاعدة ، لأن لكل قاعدة شواذ ، والحكم في الشرائع الإلهية - والقوانين الوضعية أيضًا - لا يعتمد على الأمور الشاذة والنادرة .. فإن الجميع متفق على أن النادر لا حكم له ، وللأكثر حكم الكل . فواقعة معينة لا ينبغي أن تبطل القواعد الكلية .
القاعدة الكلية هي أن الذي يدفع ماله بالربا يستفيد ولا يخسر ، فإذا خسر مرة من المرات فهذا شذوذ ، والشذوذ لا يقام على أساسه حكم.
وقد يعترض سائل فيقول : ولكن البنك يتاجر بتلك الأموال المودعة فيه ، فلماذا لا آخذ من أرباحه ؟ وأقول : نعم إن البنك يتاجر بتلك الأموال المودعة فيه . ولكن هل دخل المودع معه في عملية تجارية ؟ طبعًا لا .
لو دخل معه شريكًا من أول الأمر ، وكان العقد بينهما على هذا الأساس ، وخسر البنك فتحمل المودع معه الخسارة ، عندئذ يكون الاعتراض في محله ، ولكن الواقع أنه حينما أفلس البنك وخسر ، أصبح المودعون يطالبون بأموالهم ، والبنك لا ينكر عليهم ذلك ، بل قد يدفع لهم أموالهم على أقساط إن كانت كثيرة ، أو دفعة واحدة إن كانت قليلة .. على أي حال ، فإن المودعين لا يعتبرون أنفسهم مسئولين ولا مشاركين في خسارة البنك ، بل يطالبون بأموالهم كاملة غير منقوصة. أ هـ {فتاوى معاصرة / للدكتور يوسف القرضاوى حـ 2 صـ 412 ـ 413}(10/19)
بحوث مهمة عن فوائد البنوك
فوائد البنوك.. سجالات التحريم والإباحة
فتوى إباحة فوائد المصارف من د. طنطاوي إلى مجمع البحوث
أ. محمد البنا - أ. وسام فؤاد
20/12/2002
في شهر أكتوبر من العام 2002 تجددت قضية الحكم الشرعي الخاص بفوائد المصارف ، بعد أن كانت قد خمدت نارها إثر تتالي ردود العلماء الشرعيين وعلماء الاقتصاد الإسلامي على الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي ، ترده إلى الحكم الشرعي في هذه القضية. وقد بدا آنذاك ، ومع تتالي ردود العلماء على أطروحة أ.د. محمد سيد طنطاوي ، ومع تزايد كثافة وثقل وحدة هذه الردود -أن الدكتور محمد سيد طنطاوي قد تراجع عن هذه الفتوى ، بعد أن كان قد أصدر كتابًا يحوي نظرة أكثر عمقًا في تناوله لها ، وهو الكتاب الشهير : "معاملات البنوك وأحكامها الشرعية" ، وكانت مظنة رجوعه عن رأيه في تصريحه : من اجتهد فأصاب فله أجران ، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر.
لكن تجددت القضية في إطار ظرفي مختلف ، حيث أرسل الأستاذ الدكتور حسن عباس زكي عضو مجمع البحوث الإسلامية وزير الاقتصاد الأسبق رئيس مجلس إدارة بنك الشركة المصرفية العربية الدولية كتابا بتاريخ 22/10/2002 إلى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر ، يعيد فيه السؤال عن حكم استثمار الأموال في المصارف التي تقوم على تحديد الربح مقدمًا.(10/20)
وقد أحال فضيلة الإمام الأكبر الكتاب ومرفقه للعرض على مجلس مجمع البحوث الإسلامية. وقد انعقدت جلسة مجلس المجمع في يوم الخميس 25 من شعبان سنة 1423هـ الموافق 31 من أكتوبر سنة 2002م ، وعرض عليه الموضوع المذكور. وبعد مناقشات الأعضاء ودراستهم قرر مجلس المجمع في جلسة الخميس 23 من رمضان 1423هـ الموافق 28 من نوفمبر 2002م : الموافقة على أن استثمار الأموال في البنوك التي تحدد الربح مقدما حلال شرعا ولا بأس به. وقد صدرت الفتوى ممهورة بتوقيع الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي
من فتوى مجمع البحوث إلى تأصيل شيخ الأزهر
بالرغم من أن الفتوى محل التناول هي الفتوى التي أصدرتها الجلسة المذكورة لمجمع البحوث الإسلامية ، وبالرغم من أن الدكتور محمد سيد طنطاوي أحد أعضاء هذا المجمع ، فإن الفتوى لم تكن من الاتساع والتفصيل بحيث أحاطت بكل الأدلة الأساسية التي توفرت لدى المنافحين عن حكم إباحة فوائد المصارف.
ومن هنا كان الكتاب الذي أصدره أ.د. محمد سيد طنطاوي يمثل مرجعية للفتوى محل التناول ، بما يمثله من تناول أعمق ، وجمع أكثر شمولاً للأدلة التي تناصر هذا الرأي. ولهذا رأينا أنه من الأفضل الاستناد لتحليل الأدلة التي أوردها أ.د. محمد سيد طنطاوي في كتابه الشهير : معاملات البنوك وأحكامها الشرعية ، في إطار مناقشة هذه الرؤية ، وعرض استجابات العلماء لها.(10/21)
ويرى الشيخ محمد سيد طنطاوي أنه لا مانع من التعامل مع البنوك أو المصارف التي تحدد الربح مقدماً فيقول : "إننا لا نرى نصا شرعيا ولا قياساً نطمئن إليه يمنع من تحديد الربح مقدماً ، ما دام هذا التحديد قد تم باختيار الطرفين ورضاهما المشروع ، ومع هذا من أراد أن يتعامل مع البنوك التي تحدد الأرباح مقدماً فله ذلك ، ولا حرج عليه شرعا ، إذ المقياس في الحرمة والحل ليس التحديد أو عدم التحديد للربح ، وإنما المقياس هو خلو المعاملات من الغش والخداع والربا والظلم والاستغلال وما يشبه ذلك من الرذائل التي حرمتها شريعة الإسلام".(1)
أدلته على ما ذهب إليه :
واستدل على ما ذهب إليه بعدد من الأدلة ، نجملها فيما يأتي :
1- إن مسألة التحديد للربح مقدماً أو عدم التحديد ليست من العقائد ، أو العبادات التي لا يجوز التغيير أو التبديل فيها ، وإنما هي من المعاملات الاقتصادية التي تتوقف على تراضي الطرفين.
2- إن الشريعة الإسلامية تقوم على رعاية مصالح الناس في كل زمان ومكان ، وقد تبدو هذه الرعاية في ظاهرها مخالفة لبعض النصوص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- واستشهد في ذلك بحديث التسعير الذي رواه أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعّر لنا فقال -صلى الله عليه وسلم- : إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم أو مال".(2)
ثم قال بعد الحديث : فبالرغم من أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يجبهم إلى ما طلبوه منه من تسعير السلع -إذ الأصل عدم التسعير- نجد كثيراً من الفقهاء أجازوا لولي الأمر تسعير السلع إذا غالى التجار في الأسعار ، أو احتكروا ما لا غنى للناس عنه.
________________
(1) معاملات البنوك وأحكامها الشرعية تأليف الدكتور محمد سيد طنطاوي ـ مفتي جمهورية مصر العربية سابقا ، ص142 ، 143 مطبعة السعادة ، ط الثامنة سنة 1411هـ/1991م ، وتولى الأستاذ الدكتور نصر فريد واصل منصب الإفتاء بتاريخ 29جمادى الآخرة سنة 1417هـ/11نوفمبر سنة 1996م.
(2) رواه أبو داود كتاب البيوع باب في التسعير جـ3 ، ص270 برقم 3451 ، وانظر : فقه السنة للشيخ سيد سابق جـ3 ، ص160.(10/22)
وخرج فضيلته بقياس غريب على ما تقدم فقال : وقياساً على ما تقدم فإن لولي الأمر إذا رأى -بعد استشارة أهل العلم والخبرة- أن مصلحة الناس تقتضي أن تحدد البنوك الأرباح مقدمًا لمن يتعاملون معها ، فله أن يكلفها بذلك ؛ رعاية لمصالح الناس ، وحفظًا لأموالهم وحقوقهم من الضياع ، ومنعًا للنزاع والخصام بين البنوك والمتعاملين معها ، وهي مقاصد شرعية معتبرة.
3- لا مانع في الشرع من أن يقوم البنك المستثمِر للمال بتحديد ربح معين مقدما في عقد المضاربة الذي يكون بينه وبين صاحب المال الذي يضعه في البنك بنيةٍ ويقصد الاستثمار.
4- إن البنك لم يحدد الربح مقدما إلا بعد دراسة مستفيضة ودقيقة لأحوال السوق العالمية وبتعليمات وتوجيهات من البنك المركزي ، الذي يعد بمنزلة الحَكَم بين البنوك والمتعاملين معها.
5- تحديد الربح مقدما فيه منفعة لصاحب المال ، ولصاحب العمل : لصاحب المال ؛ لأنه يعرفه حقه معرفة خالية من الجهالة.. ولصاحب العمل ؛ لأنه يحمله على أن يجدّ ويجتهد في عمله.
6- إن هذا التحديد للربح مقدما لا يتعارض مع احتمال الخسارة من جانب المستثمر ، وهو البنك أو غيره ، لأنه من المعروف أن الأعمال التجارية المتنوعة إن خسر صاحبها في جانب ربح من جوانب أخرى.
7- خراب الذمم مما يجعل صاحب المال تحت رحمة صاحب العمل المستثمر للمال ، وهو البنك أو غيره ، والذي قد يكون غير أمين فيقول مثلا : ما ربحت شيئا ، وقد ربح الكثير ؛ مما يوقع في الظلم الذي نهت عنه الشريعة.(10/23)
8- كما تدخل الحكام والفقهاء في تضمين الصناع لِما يهلك تحت أيديهم بسبب إهمالهم ، فلولي الأمر أن يتدخل في عقود المضاربة بتحديد نسبة الربح مقدما وأن يكون رأس المال مضمونا ، وهذا اللون يندرج تحت باب المصالح المرسلة.
9- لم يقل أحد من الأئمة : إن تحديد الربح مقدما في عقود المضاربة يجعله معاملة ربوية يحرم فيها الربح الناشئ عن العمل في المال المستثمر.(3)
هذه هي الأدلة التي استند فضيلة الدكتور طنطاوي إليها في فتواه بإباحة فوائد البنوك والتي أسماها "أرباحا".
مناقشة أدلة الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي
محمد البنا
20/12/2002
سبق أن ذكرنا الظروف التي دعتنا إلى الوقوف على ورقة شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي.. حيث إنها وفرت الأساس الذي استندت إليه جلسة المجمع في الخروج بفتواها المنصوص عليها سالفًا.
ولما كانت معالجة الدكتور محمد سيد طنطاوي أشمل وأوفر دليلاً ، كان من الأفضل التعاطي معها هي ؛ إذ في تناولها تناول لفتوى الجلسة المذكورة لمجمع البحوث الإسلامية. ولنبدأ بفحص الأدلة التي وفرها الدكتور محمد سيد طنطاوي.
الدليل الأول :
المقولة الأولى لفضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي هي : إن مسألة تحديد الربح مقدمًا أو عدم التحديد ليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز التغيير أو التبديل فيها ، وإنما هي من المعاملات الاقتصادية التي تتوقف على تراضي الطرفين.
إذا كانت مسألة تحديد الربح مقدمًا من المعاملات التي يجوز فيها التغيير والتبديل ؛ فلا بد من تحديد بعض النقاط أولا من خلال هذا الدليل :
* المقصود بتحديد الربح مقدمًا.
* المعاملات التي يجوز فيها التغيير والتبديل.
* تراضي الطرفين.
(أ) المقصود بتحديد الربح مقدمًا :
_____________________
(3) انظر : معاملات البنوك وأحكامها الشرعية د. محمد سيد طنطاوي ص136 : 143 ـ مطبعة السعادة ط الثامنة سنة 1411هـ/1991م.(10/24)
إذا كان فضيلته يقصد به التحديد الذي يتم في عقد المضاربة أو القراض ؛ بمعنى أن يحدد له من الربح مثلا النصف أو الثلث أو على ما يتراضون به فنعم.
وإن كان يقصد به تحديد نسبة قدرها مثلا (10%) أو (15%) أو أكثر أو أقل ، يأخذها من إنسان أو مصرف أو دولة أو أي أحد مع ضمان رأس المال ، فهذه الزيادة على رأس المال جاءت دون مقابل ودون ضمان.(1) فهذا المبلغ قرض جر نفعا بشرط مسبق ، فهو ربا ، ويؤكد هذا أن المقرض لا يعنيه فيم يستثمر المصرف ماله ؟ ولكن الذي يعنيه أنه سيأخذ في السنة ، أو في مدة معينة زيادة قدرها كذا ، خسر ماله أم ربح ، وتحديد الربح بهذه الكيفية ربا.
وهذه الزيادة -الناتجة عن تحديد الربح مقدمًا- شرط بين المقرض والمستقرض ، وهو ربا ، والأدلة على ذلك كثيرة ؛ فالله تعالى يقول في كتابه : {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}.(2) أي لكم رءوس أموالكم دون زيادة مشروطة أو غير مشروطة.
وهذا ما قاله الجصاص في أحكام القرآن : "معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة ؛ فكانت الزيادة بدلا من الأجل ، فأبطله الله تعالى".(3) وقال أيضًا : "ربا الجاهلية هو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة المال على المستقرض".(4)
_________________
(1) يقول الأستاذ سعيد حوى : "إن رأس المال ليس من حقه الربح لأنه رأس مال مجرد ، بل للآخرين فيه حق لمجرد أنه رأس مال ، ولا يستحق رأس المال الربح بعد هذا في مقابل استعداده لتحمل الخسارة ، فرأس المال المجرد يستحق النقصان بالزكاة ، ولا يستحق الربح بدون مقابل ، انظر : الإسلام أ/ سعيد حوى جـ1 ، ص96 ـ مكتبة وهبة ط شوال سنة 1407هـ/يونيه سنة 1987م ، وانظر : حقائق وشبهات حول ودائع البنوك وشهادات الاستثمار وصناديق التوفير بقلم الشيخ محمد عبد الله الخطيب وآخرين ، ص53.
(2) سورة البقرة : آية 279.
(3) أحكام القرآن تأليف الإمام أبى بكر أحمد الرازي الجصاص ت سنة 370هـ ، جـ1 ، ص637 ، 638 ـ دار الفكر سنة 1414هـ/1993م.
(4) السابق نفسه : ص641.(10/25)
وحكى ابن قدامة في "المغني" الإجماع على تحريم الزيادة المشروطة ، فقال : "وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف".
وقال ابن المنذر : "أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك ، إن أخذ الزيادة على ذلك ربا".(5)
وهذا يدل على أن تحديد الربح مقدمًا يعني اشتراط المسلف "المقرض" على المستسلف "المقترض" زيادة على رأس المال في مدة معينة قدرها كذا من الأيام أو السنوات بنسبة كذا ، وهذا هو عين الربا المحرم شرعا.
(ب) المعاملات التي يجوز فيها التغيير والتبديل :
وهي كل معاملة لم يرد فيها نص شرعي بإلغائها أو تحريمها ، ونحن مع فضيلة الدكتور طنطاوي تماما في هذا طالما أنها لم تخرج عن روح الشريعة ؛ بمعنى ألا يشوبها غش ولا ظلم ولا سرقة ولا ربا ، ولا غير ذلك مما حرمه الله تعالى.
(ج) تراضي الطرفين :
وهو القيد الذي وضعه فضيلته لكي تصح المعاملات الاقتصادية بين الناس ، ولنا أن نتساءل : هل كل معاملة يتراضى بها الطرفان يبيحها الشرع ؟ هل كل عقد من العقود يرضى به الطرفان يعتبر جائزا ، طالما أن الأمر ليس عقيدة أو عبادة ؟ الإجابة بالطبع لا.
________________________
(5) المغنى والشرح الكبير متن المقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل للإمامين موفق الدين وشمس الدين ابني قدامة جـ4 ، ص390 ـ درا الفكر العربي بيروت سنة 1414هـ/1994م.(10/26)
إن الشريعة تهتم بالصيغة أو الصورة التي يتم بها العقد وتحكم عليه ، وللدكتور يوسف القرضاوي مثل يوضح ذلك جيدا ، وهو : أن صورة الاتفاق مهمة جدا في حكم الشرع فيقول : "لو قال رجل لآخر أمام ملأ من الناس : خذ هذا المبلغ ، واسمح لي أن آخذ ابنتك لأزني بها -والعياذ بالله- فقبل ، وقبلت البنت لكان كل منهما مرتكبا منكرا من أشنع المنكرات ، ولو قال له : زوجنيها وخذ هذا المبلغ مهرا فقبل ، وقبلت البنت لكان كل من الثلاثة محسنا".(6)
والذي يتدبر تعريفات الفقهاء والعلماء للربا يوقن أن التراضي بالزيادة على رأس المال لا يغير في حقيقة أنه ربا ، فيقول الجصاص : "والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به".(7) فهل التراضي مع مصرف من البنوك بوضع مبلغ معين لديه مقابل فائدة أو عائد معين في الشهر أو العام زيادة على رأس المال يخرج عن هذا ؟
وإذا كان فضيلته يخصص هذا التراضي "بحدود شريعة الله تعالى التي شرعها سبحانه لرعاية مصالح الناس"(8) فهل الشريعة تبيح هذا النوع من التعامل حتى مع التراضي ؟ ويجدر بنا أن نذكر هنا أن فضيلته ذكر نص الإمام الجصاص في كتابه معاملات البنوك.(9) كنص من النصوص التي نقلها من كتاب "الربا والمعاملات في الإسلام" للشيخ محمد رشيد رضا كدليل على أن هذا هو ربا الجاهلية.
أليس معنى هذا النص هو القرض أو الاقتراض إلى أجل معين بزيادة معينة على رأس المال المقترض بتراضي الطرفين ؟ وهذا هو ما تفعله البنوك الربوية.
الدليل الثاني :
قياسه بجواز تحديد الربح مقدمًا بأمر من ولي الأمر على ما قاله الفقهاء في التسعير ، وذلك إذا اقتضت مصلحة الناس هذا ؛ وذلك رعاية لمصالح الناس ، وحفظا لأموالهم وحقوقهم ، ومنعا للنزاع والخصام بين البنوك والمتعاملين معها.(10)
__________________
(6) بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية في ضوء النصوص والقواعد الشرعية د. يوسف القرضاوي ص29 ، 111 ـ مكتبة وهبة ط الثانية سنة 1407هـ/1987م.
(7) أحكام القرآن للجصاص جـ1 ، ص635 ـ ط دار الفكر سنة 1414هـ /1993م.
(8) معاملات البنوك وأحكامها الشرعية ص126.
(9) السابق نفسه : ص98.
(10) انظر : معاملات البنوك وأحكامها الشرعية ص137 ، 138.(10/27)
لقد بدأ فضيلته هذا الدليل بمقولة لا يجادل فيها أحد ، وهي أن الشريعة الإسلامية تقوم على رعاية مصالح الناس في كل زمان ومكان.(11) وقد تبدو هذه الرعاية في ظاهرها مخالفة لبعض النصوص الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، واستشهد في ذلك بحديث التسعير ، حيث لم يسعر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكن بعض الفقهاء رعاية لمصالح الناس ودرءًا لمفسدة (جشع) التجار أباحوا التسعير ، وهذا كلام جيد ، ولكن أن يصل إلى فرض نسبة معينة من الربح كعائد على الأموال عن طريق الحاكم قياسا على كلام الفقهاء هذا درءا للظلم والمفسدة ، فالقياس هذا لا ينقاس ، لأن المقيس عليه ليس نصا من القرآن والسنة ، فالقياس الذي يتوسعون فيه أحيانا مقيد بأن يكون المقيس عليه نصا من الشارع ، أي من الوحي كتابا أو سنة ، أما أن يقاس على مقيس ؛ يعني أن تأتي على أمر أجزناه قياسا على شبيهه بجامع العلة بينهما ، فتأتي على أمر آخر لا يجتمع مع الأصل المقيس عليه في علته.(12) ولكن له شبه من بعض الوجوه بالمقيس فنجعل هذا المقيس أصلا ، ونقيس عليه مقيسًا آخر لوجه شبه بينهما ، ولا يكفي ولا يرقى إلى مستوى العلة الجامعة بين المقيس الثاني وبين المقيس عليه الأول.(13)
ولو أجرينا أركان القياس على موضوعنا لوجدنا أن الأصل الذي اعتمد عليه فضيلته هو كلام كثير من الفقهاء في إباحة تحديد السعر رفعا للظلم ، والفرع هو إباحة أن يحدد الحاكم أرباح البنوك ، والعلة -كما يقول- هي رفع الظلم ، والحكم هو الإباحة.
____________
(11) انظر : أعلام الموقعين لابن القيم جـ1 ، ص14.
(12) العلة في التسعير الظلم والاستغلال وفي الربا مطلق الزيادة ولكن ربما كان الظلم والاستغلال من الحكم التي حرم من أجلها.
(13) المجموع شرح المهذب للشيرازي تكملة الشيخ محمد نجيب المطيعي جـ13 ، ص359 ، ـ مكتبة الإرشاد جدة ـ السعودية بدون تاريخ.(10/28)
وإذا نظرنا إلى الركن الثالث ، وهو العلة ، لوجدناها مختلفة ، يقول أستاذنا الدكتور/ محمد بلتاجي حسن : "إننا مهما تأملنا آيات القرآن الكريم الواردة في الربا ، وما يتصل بها من أحاديث السنة ، وأسباب النزول ؛ فلن نجد فيها ما يشير من قرب أو بعد إلى ما قام في أذهانهم من أن الله حرم ربا الجاهلية لمحض ما كان يتضمنه من استغلال الفقير وظلمه. وقد يرى العقل البشري أن هذا كان من جملة الحكم التي روعيت في التحريم ، ولكن لا يستطيع أحد الجزم بأن مناط علة التحريم في منع استغلال حاجة الفقير وظلمه. ومن يراجع كتب التفسير سيجد أن الظلم الوارد في الآيات إنما هو مطلق الزيادة على الحق بصرف النظر عن حال الدائن والمدين ، ورغبة كل منهما ومصلحته في الصفقة الربوية ، (ويحدد ما سبق مؤكدا) أن الظلم يكمن في مطلق الزيادة على الحق مقابل تأجيل الزمن.(14)
ويقول الدكتور فتحي لاشين (المستشار بمحاكم مصر سابقا) : "إذن فعلة الربا أنه زيادة متولدة من دين ، ويتميز الدين أنه ثابت في الذمة مضمون الرد بمثله".(15)
_______________________
(14) عقود التأمين أ.د. محمد بلتاجي حسن ص36.
(15) حقائق وشبهات حول ودائع البنوك ، الشيخ الخطيب وآخرين ص52 ـ دار المنار ط الثانية سنة 1410هـ/1990م ، وانظر : كذلك مجلة الاقتصاد الإسلامي العدد (101) ص63 ، ربيع الثاني سنة 1410هـ/نوفمبر سنة 1989م.(10/29)
يثبت بهذا اختلاف العلة التي قاس عليها الدكتور طنطاوي تحديد الفوائد بفعل ولي الأمر ، بإجازة التسعير بفعل الفقهاء ، وذلك بعلة الاستغلال والظلم ، وإذا ثبت أنه لا بد من اتحاد العلة في الأصل والفرع حتى يصح القياس وإلا فلا -وهذا ثابت- ، فمن شروط العلة المقبولة : "ألا تكون علة الحكم في الأصل المقيس عليه غير العلة التي علق عليها الحكم في الفرع ؛ فلا بد من أن تكون العلة في الأصل الذي ثبت حكمه بنص أو إجماع هي العلة التي علق عليها الحكم في الفرع حتى يتحقق الوصف الجامع بين الأصل والفرع ، فإذا كانت علة حكم الفرع لم يعلل بها الحكم في الأصل ، ولم يتعلق بها فلا يجوز القياس ، وهذا هو رأي الجمهور ، وحتى أصحاب الرأي يشترطون تحقق المماثلة في العلة(16).
وإذا ثبت هذا -وهو ثابت- استطعنا أن نحكم أن قياس الدكتور طنطاوي هنا لا يجوز ، أو كما يقول الأصوليون قياس لا ينقاس.
ولأن الضرورة في مسألة التسعير تبدو واضحة وملحة ؛ حيث إن الاحتكار وغلاء السلع أمر يتعلق بأقوات الناس ومعاشهم ، أباح الفقهاء التسعير رفعا للضرر الذي يقع على الناس ، ولكن أين الضرورة في أن يضع الإنسان ماله في مصرف من البنوك ليزداد دون تعرضه لضمان النقصان أو لمخاطر الخسارة ؟
رعاية مصالح الناس :
___________________
(16) انظر : الأنوار الساطعة في طرق إثبات العلة الجامعة تأليف أ.د. رمضان عبد الودود عبد التواب مبروك الأستاذ المساعد بقسم أصول الفقه كلية الشريعة والقانون ـ جامعة الأزهر ص51 ـ دار الهدى سنة 1406هـ/1986م.(10/30)
في قوله : "فإن لولي الأمر إذا رأى -بعد استشارة أهل الخبرة- أن مصلحة الناس تقتضي أن تحدد البنوك الأرباح مقدمًا لمن يتعاملون معها ، فله أن يكلفها بذلك رعاية لمصالح الناس... ".(17)
فنرى هنا نظرة تتجه نحو المعتزلة وفكرها الذي يقدم العقل على الشرع ، فلا يصح مطلقا أن تحكم خبرات الناس والعلماء في الشريعة أو الأحكام ، بل هي التي تتحكم فيما يصلون إليه ، وتحكم بصحته وفساده "فلا يجوز الاعتماد على ما قد يراه علماء الاقتصاد وخبراء التجارة من أن الربا لا بد منه لتنشيط الحركة التجارية والنهوض بها ، إذ لو صح ذلك لكانت الشريعة محكومة بخبرات الناس وأفكارهم وتجاربهم الشخصية ، ولما صح أن المصلحة فرع عن الدين فهي محكومة به ضبطا بل متوقفة عليه وجودا".(18)
فمهما ظن إنسان أن مصلحته في أمر من الأمور ، فلا بد أن يقيس هذا الأمر على نصوص الشريعة ومقاصدها ، فإن وافقها فيقدم وإلا فلا.
وليس معنى هذا أن الشريعة تقف حائلا دون خبرات الناس وتجاربهم فيما يظنون فيه مصلحة البشرية ، بل كثير من نصوص الشريعة تدعو الناس للعلم والتفكر ، ولكن الشارع سبحانه يعلم ما لا نعلم ؛ فقد يظن العلماء أن مصلحة الناس سوف تتحقق في أمر من الأمور ، يختلفون في إثباته ويتفقون ، ويعلم الله تعالى غير ذلك فجعل -سبحانه- من قواعد الشريعة ما ينهى عنه رعاية للمصالح وإصلاحا للنفوس ، فنحن لا نتهم نصوص الشريعة بل نتهم إفهام الناس التي كثيرا ما تتعرض للهوى أو النظرات الجانبية ، وليست الكلية.
الدليل الثالث :
___________
(17) معاملات البنوك د. طنطاوي ص137.
(18) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية د. محمد سعيد رمضان البوطي ص62 ، 63 مؤسسة الرسالة ط السادسة سنة 1412هـ/1992م.(10/31)
يقول الدكتور طنطاوي لا يوجد نص شرعي يمنع من أن يقوم أحد المتعاقدين في المضاربة بتحديد ربح مقدمًا ، وبناء على ذلك لا مانع من أن يقوم المصرف المستثمر للمال بتحديد ربح معين في عقد المضاربة ، الذي يكون بينه وبين صاحب المال الذي يضعه في المصرف بنية وبقصد الاستثمار فيما أحله الله تعالى.(19)
نوضح أولا أن ما يحدث بين المصرف وصاحب المال ليس عقد مضاربة ؛ لأن حقيقة المضاربة تختلف عن القرض الذي يحدث بين المصرف كجهة وغيره من جهة أخرى ؛ فالمصرف يتعامل بالربا على القرض الذي يأخذه أو يمنحه ، والمضاربة تختلف عن ذلك ، ولكي تتضح المسألة جيدا ينبغي أن أوضح طبيعة الفرق بين القرض والمضاربة.
فمن حيث الطبيعة :
نجد أن القرض يُحدد له فائدة ربوية تبعا للمبلغ المقترض والزمن الذي يستغرق القرض ، كأن يكون (10%) أو أكثر أو أقل من رأس المال سنويا ، بغض النظر عما ينتج عن هذا القرض من كسب كثير أو قليل أو خسارة ، وهو ما يفعله المصرف.
أما في المضاربة ، فالربح الفعلي يقسم بين صاحب رأس المال والمضارِب بنسبة متفق عليها ، والخسارة من رأس المال وحده ، ولا يأخذ العامل شيئا في حالة الخسارة ولا في حالة عدم وجود ربح ، هذا من ناحية طبيعة العقد.
ومن حيث العلاقة بين طرفي العملية الاقتصادية :
في القرض نجد العلاقة بين صاحب القرض وآخذه ليست من باب الشركة ؛ فصاحب القرض له مبلغ معين محدد ، ولا شأن له بعمل من أخذ القرض ، ومن أخذ القرض يستثمره لنفسه فقط ؛ حيث يملك المال ، ويضمن رد مثله مع الزيادة الربوية ، فإن كسب كثيرا فلنفسه ، وإن خسر فيتحمل وحده الخسارة.
_________________________
(19) معاملات البنوك د. طنطاوي ص138.(10/32)
أما المضاربة فهي شركة فيها الغُنْم والغرم للاثنين معا ؛ فالمضارب لا يملك المال الذي بيده ، وإنما يتصرف فيه كوكيل عن صاحب رأس المال والكسب مهما قل أو كثُر ، يقسم بينهما بالنسبة المتفق عليها ، وعند الخسارة يتحمل صاحب المال الخسارة المالية ، ويتحمل العامل ضياع جهده وعمله ، ولا ضمان على المضارب(20) إلا إذا ثبت إهماله وتسببه في هلاك ما بيده.
ويمكن مناقشة هذا الدليل من خلال نقطتين :
الأولى : أن الشرع لا يمنع من تحديد الربح مقدمًا في عقد المضاربة.
الثانية : أن يضع الإنسان ماله في المصرف ، ويقصد بذلك الاستثمار.
مناقشة النقطة الأولى :
الشرع لا يمنع من تحديد الربح مقدمًا في عقد المضاربة : نص كثير من الفقهاء على عدم جواز المضاربة إذا تم تحديد أو اشتراط جزء معين من الربح ، بل وحكى ابن المنذر الإجماع على بطلان المضاربة إذا اشترط كل واحد منهما لنفسه أو أحدهما شيئا دون الآخر ، فقال : "أجمع كل من نحفظ عنه على إبطال القراض إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة".(21) وهذا الإجماع نجده في كلام الفقهاء كما يقول الإمامان مالك(22) والشافعي(23).
النقطة الثانية :
أن يضع الإنسان ماله ويقصد الاستثمار : إن ما يحدث بين المصرف وصاحب المال تحت أي مسمى طالما أنه بفائدة محددة سلفا مقابل أجل محدد فهو ربا ؛ وذلك لأن : "علة التحريم منصبة على كونها زيادة محددة سلفا مقابل أجل محدد سواء كان أصل المعاملة قرضا أو دينا أو بيعا ؛ فمتى وجدت الزيادة المحددة مقابل الأجل المحدد ، فذلك هو الربا بصرف النظر عن أصل هذه المعاملة ولا تأثير لأمرين :
___________
(20) انظر : حقائق وشبهات حول ودائع البنوك وشهادات الاستثمار وصناديق التوفير بقلم الشيخ محمد عبد الله الخطيب وآخرين ص84 ، وانظر : في مجلة الاقتصاد الإسلامي مقال للشيخ محمد مصطفى شلبي عضو مجمع البحوث الإسلامية وأستاذ الشريعة المتفرغ بجامعة القاهرة العدد (101) ص38 ـ ربيع ثاني سنة 1410هـ/نوفمبر سنة 1989م.
(21) فقه السنة للشيخ سيد سابق جـ3 ، ص213.
(22) المدونة الكبرى للإمام مالك جـ12 ، ص86 ط البابي الحلبي قديمة بدون تاريخ براوية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك بن أنس رضى الله عنهم جميعا.
(23) المجموع شرح المهذب للشيرازي الإمام تقي الدين على بن عبد الكافي السبكي تكملة الشيخ محمد نجيب المطيعي جـ5 ، ص160 ، 161 مكتبة الإرشاد بجدة ، وانظر : كذلك فتح القدير جـ7 ، ص417 ففيه أن عقد المضاربة يفسد باشتراط دراهم مسماة لأحد المتعاقدين.(10/33)
الأول : كون أصل هذه المعاملة قرضا أو دينا أو استثمارا.
الثاني : كون الزيادة مقابل الأجل شيئا متفقا عليه من أول المعاملة ، أو هو شيء يستحدث بين الطرفين عند عدم الدفع حين يأتي أجله.(24)
فلا ينفع هنا تغير النية طالما أن العلة وهي الزيادة مقابل الأجل موجودة.
الدليل الرابع :
يرى الدكتور محمد سيد طنطاوي ضمن أدلته أن المصرف -وهو الطرف الذي يدفع الفائدة ، ويقع عبئها على عاتقه- لم يحدد الربح مقدمًا إلا بعد دراسة مستفيضة ودقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع ، ولظروف كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها... إلخ.
وهذا التحديد فضلا عن كل ذلك ، يتم بتعليمات وتوجيهات من المصرف المركزي الذي يعد بمنزلة الحكم بين البنوك وبين المتعاملين معها.(25)
_______________________
(24) انظر : عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي أ.د. محمد بلتاجي ص38 ، 39 ، 40.
(25) معاملات البنوك وأحكامها الشرعية د. طنطاوي ص138.(10/34)
إن هذه الدراسة المستفيضة التي تحدد الربح مقدمًا ، حيث يأخذ صاحب المال المكسب ولا يخسر شيئا قول لا تسنده الحقائق ؛ فالبنوك المركزية نفسها ، وهي التي تعطي تعليمات وتوجيهات بنسبة الفائدة لا تستطيع دفع ودائع مصرف بأكمله إذا ما تعرض للإفلاس. فمعلوم أن قوانين البنوك المركزية تمنعها من الاستثمار المباشر إلا بنسب ضئيلة جدًّا في بعض البلدان. وهي تأخذ من البنوك الأخرى نسبة احتياطي للودائع لا تزيد في غالب الأحوال عن (25%). فمن أين تدفع البنوك المركزية ودائع مصرف بأكمله إذا ما تعرض للإفلاس ، وإن الواقع يؤكد ذلك حتى في أمريكا ذاتها معقل النظام الرأسمالي القائم على الربا. فالمصرف المركزي يضع الخطط ويحدد الفوائد ، ولا يستطيع جبر خسارة مصرف واحد من البنوك الأخرى ؛ لأنه -قانونًا- ممنوع من الاستثمار المباشر ، كما أنه يعتمد على الوساطة المالية وعلى نسبة (25%) من احتياطي الودائع في البنوك الأخرى ، فإن كان لا يستطيع جبر خسارة مصرف واحد فكيف نثق في قدراته وتعليماته ؟
ثم هل هذه التعليمات والتوجيهات والدراسات الدقيقة ، التي تتعهد بوجود الربح لا الخسارة.. هل هذه التعليمات وهذا الربح يغير من حقيقة المعاملة وحقيقتها في كونها من الربا ؟
ثم إن هذه الدراسة المستفيضة الدقيقة التي يتحدد في إطارها الربح ليست دائمًا دقيقة ؛ فكثير من البنوك الربوية لم تستطع ضمان الودائع مع أرباحها ، ونضرب مثلا على عدد من البنوك الربوية التي أغلقت وأشهرت إفلاسها في أمريكا وحدها.
عدد البنوك التي أغلقت وأشهرت إفلاسها
العام
أربعة آلاف مصرف
سبعة وسبعون مصرفا
تسعة عشر مصرفا
مائة وعشرون مصرفا
مائة وواحد وثلاثون مصرفا
مائة وواحد وأربعون مصرفا
1933م
1983م
1984م
1985م
1986م
1987م(10/35)
وعن الخسائر في بعض البنوك الأمريكية وحدها في 1987م وحده ما يلي :
اسم المصرف أو المؤسسة
احتياطي الديون المعدومة
ستيركوربوريشن
مصرف أمريكا
تشيس مانهاتن
مانوفكتشرهانوفر
ستيكورب (أكبر مؤسسة مصرفية أمريكية)
3 مليارات دولار
1.1 مليار دولار
1.6 مليار دولار
1.7 مليارات دولار
3 مليارات دولار ، 3 مليارات دولار ، وذلك في النصف الأول من عام 1987.(26)
وفي مصر الكثير والكثير من الخسائر المصرفية ، وأشهرها ما حدث في مصرف التنمية والتجارة عام 1995م ، ومن هنا يتبين أن هذا الدليل الذي أقام عليه فضيلته وجهة نظره من ناحية أن البنوك أرباحها مضمونة ، وأنها لا تفلس لأنها تقوم على دراسات مستفيضة ، دعوى يسقطها الواقع بل ويثبت نقيضها.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإننا نرى في أدلة الدكتور طنطاوي ما يثير العجب ؛ إذ يبدو التناقض واضحا بين هذا الدليل والدليل السادس ؛ فهنا يقول : إن الدراسات المستفيضة والدقيقة تحقق الربح الأكبر ؛ حيث تنتفي الخسارة ، وهذا ما يفهم من كلامه ، وفي الدليل السادس يقول : إن هذا التحديد للربح لا يتعارض مع احتمال الخسارة.
الدليل الخامس :
يرى الدكتور محمد سيد طنطاوي أن تحديد الربح مقدمًا في زمننا هذا فيه منفعة لصاحب المال ، وفيه منفعة -أيضًا- لصاحب العمل المستثمر لهذا المال.
ففيه منفعة لصاحب المال ؛ لأنه يعرفه حقه معرفة خالية من الجهالة ، وبمقتضى هذه المعرفة ينظم أمور حياته.
وفيه منفعة لصاحب العمل ؛ لأنه يحمله على أن يجد ويجتهد في عمله وفي نشاطه حتى يحقق ما يزيد على الربح الذي قرره لصاحب المال ، وحتى يكون الفائض على نصيب صاحب المال حقا خالصا لصاحب العمل في مقابل جده ونشاطه واجتهاده مهما بلغ هذا الفائض.(27)
_________________________
(26) انظر : مجلة الاقتصاد الإسلامي مقال / سعيد بن أحمد آل لوتاه رئيس مجلس إدارة بنك دبي الإسلامي العدد (97) ص15 عدد ذو الحجة سنة 1409هـ/يوليو سنة 1989م.
(27) معاملات البنوك وأحكامها الشرعية د. طنطاوي ص138 ، 139.(10/36)
فإذا كان فضيلة د. طنطاوي يقصد بالتحديد ما هو وارد في عقد المضاربة من تحديد نسبة الربح من صافي الربح فنعم ، ولكن الواضح أن فضيلته يقصد به ما يحدث بين البنوك والأفراد من تحديد نسبة معينة يأخذها صاحب المال بعد مدة معينة زيادة على رأس ماله ، وهذا هو عين الربا.
ثم يقول هذا التحديد فيه منفعة لصاحب المال ولصاحب العمل ؛ فهل كل مصلحة يرى فيها الناس منفعة لهم يبيحها الشرع ؟
الواقع أن هناك كثيرا من الأشياء التي نص الشارع على أن فيها منافع للناس ، ومع ذلك نص على تحريمها مثل الخمر والميسر ، قال تعالى : "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" (البقرة : 219). فقوله تعالى : "ومنافع للناس" يدل على تحقق المنفعة لهم ، ومع هذا لا يستطيع أحد أن يقول : إنها حلال.
ثم يقول : هذا التحديد يعرف صاحب المال حقه ؛ فهل يصير الربا حقًا يبني عليه الإنسان حياته ويرتب عليه معايشه ؟ فما إن يأخذ المال يجعل نصب عينه الدين الذي عليه ، بالإضافة للزيادة التي اشترطت عليه ؛ فهي كلها من الدين ، وعليه سدادها في مدة معينة ، ثم يجتهد ويعمل مرة أخرى في المال ليحقق مكسبًا له أيضًا ، وهو وحده يضمن المال إن خسر ؛ لأنه لا شأن لصاحب المال به ؛ لأنه يأخذ الربح ولا يتحمل الخسارة ، وذلك هو الربا.
الدليل السادس :
يرى الدكتور محمد سيد طنطاوي أن هذا التحديد للربح مقدمًا ، لا يتعارض مع احتمال الخسارة من جانب المستثمر وهو المصرف أو غيره ؛ لأنه من المعروف أن الأعمال التجارية المتنوعة إن خسر صاحبها في جانبٍ رَبِح في جوانب أخرى ، وبذلك تغطي الأرباح الخسائر. واستشهد بقول ابن قدامة في المغني : إن العامل في المضاربة إذا اشترى سلعتين فربح في أحدهما وخسر في الأخرى ، (10/37)
جُبرت الوضيعة (أي الخسارة) من الربح.(28)
هذا الدليل -كما وضحنا- يتناقض مع الدليل الرابع ، ونحن الآن بصدد مناقشته في قوله : إن خسر صاحبها في جانب ربح في جوانب أخرى ، وبذلك تغطي الأرباح الخسائر. فمعنى هذا أن النقود في المصرف مختلطة ؛ فمن دفع كثيرًا يتساوى مع من دفع قليلاً في مقدار النسبة على رأس المال ؛ فما ذنب من ربحت أمواله حتى يؤخذ من ربحه لتغطية خسارة غيره ؟
ثم إن المقطوع به في الدراسات الاقتصادية : "أنه لا صلة بين سعر الفائدة وربح المدين أو خسارته ، ولا بين سعر الفائدة والتضخم ، بل إن الفائدة من أهم عوامل التضخم".(29) وهذه الفائدة لا تتحدد بنسبة الربح والخسارة بل يتأثر تحديدها بعدة عوامل ، منها : "القوانين التي تضعها الدولة ، والمصالح الشخصية لأصحاب المصارف ، والمؤسسات المالية ، والمضاربون في سوق الأوراق المالية الذين يخلقون تغييرات مفتعلة في السوق ، وحالات الرواج والكساد ، وكمية العرض والطلب".(30)
فالفائدة التي تُحدد لا شأن للمقرض خسر ماله أم ربح فيها ، إذن هي لا تخضع لمعيار الربح والخسارة ، وإنما تخضع للقوانين والمصالح الشخصية وغيرها ، فربما تكون نسبة شخص مرتفعة ونسبة الآخر منخفضة ، وهذا تحدده العوامل السابقة.
وإذا قلنا : إن الأموال كلها تصب في مصرف واحد مثلا ، يضع فلان مبلغا يختلف عن مبلغ الآخر ؛ فهل يميز المصرف مبلغ كل منهما أم أنه لا شأن له بهذا التمييز ؟ الحقيقة أن المصرف توضع لديه المبالغ فيخلطها في مشروع أو في إقراض آخر دون تمييز.
________________________
(28) انظر : معاملات البنوك وأحكامها الشرعية د. طنطاوي ص139.
(29) حقائق وشبهات للشيخ الخطيب وآخرين ص56 ، وانظر : مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (101) ص66 ـ ربيع الثاني سنة 1410هـ/نوفمبر سنة 1980م.
(30) حقائق وشبهات للشيخ الخطيب وآخرين ص56 ، وانظر : مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (101) ص66 ـ ربيع الثاني سنة 1410هـ/نوفمبر سنة 1980م.(10/38)
وهنا يأتي السؤال : هل يجوز عدم التمييز في المال الذي يقارض فيه اثنان واحدًا بنسبة من الربح متفاوتة ؟ يرى الفقهاء أن هذه المعاملة غير جائزة إلا بتعيين الأموال المحددة لأشخاص محددين وبتعيين ومعلومية النشاط الذي اشتغلت به الأموال(31).
فقوله "وإن عينا" : يعني أن يعلم أن هذا المال الذي تاجر به في كذا هو مال فلان ، وأن ربحه كذا وله فيه ما يتفقان عليه ، وأن المال الآخر الذي تاجر به في كذا هو مال فلان ، وله من ربحه ما يتفقان عليه.
وينبغي التميز في الشركتين ، كما أنه إن خلط مال المضاربة بماله فإن فعل ولم يتميز ضمنه لأنه أمانة.(32)
واستشهاد د. طنطاوي بابن قدامة الواضح أنه في حالة المضاربة من فرد واحد إلى العامل ، أما في حالتنا هذه فيقول "ابن قدامة" تحت عنوان "والوضيعة على قدر المال" : "يعني الخسران على كل واحد منهما بقدر ماله ، فإن كان مالهما متساويا في القدر ، فالخسران بينهما نصفين ، وإن كان أثلاثا فالوضيعة أثلاث لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم".(33) وهذا النص أولى بالصواب في حالة البنوك ؛ فإذا ما ثبت أن المال فيها مبهم فهي تجمع الأموال كلها ، ولا ندري في أي تجارة أو استثمار.(34) وضع مال هذا أو ذاك ؛ لأنها لا تقسم الربح بين الأفراد بل تحدد نسبا معينة لهم يأخذونها في حال الربح أو الخسارة ، فإذا ما ثبت هذا ثبت فساد هذا النوع من المضاربة ؛ لعدم تعيين مال كل واحد من المضاربين.
الدليل السابع :
يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي : خراب الذمم مما يجعل صاحب المال تحت رحمة صاحب العمل المستثمر للمال ، وهو المصرف أو غيره ، والذي قد يكون غير أمين ، فيقول مثلا : "ما ربحت شيئا" ، وقد ربح الكثير مما يوقع في الظلم الذي تنهي عنه الشريعة.(35) ولدينا هنا تعليقان :
وتقرر القواعد الفقهية أن الأصل براءة الذمة.(36) فلماذا نفترض عدم الأصل ؟
__________________
(31) المجموع شرح المهذب للشيرازي جـ15 ، ص156 تكملة الشيخ المطيعي.
(32) انظر : المغنى والشرح الكبير لابن قدامة جـ5 ، ص162 ، 163.
(33) السابق : جـ5 ، ص147.
(34) إن كانت تستخدمه في هذا دون الإقراض بربا.
(35) انظر : معاملات البنوك وأحكامها الشرعية ص139 ، 140.
(36) انظر : شرح القواعد الفقهية تأليف الشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقا ص105 ـ دار القلم ط الثانية سنة 1409هـ/1989م.(10/39)
وإذا افترضنا جدلا أن المصرف غير أمين ، فأيهما أولى الامتناع عن الذهاب إليه والمخاطرة بالمال أم الذهاب إليه ؟
الدليل الثامن :
يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي : كما تدخل الحكام والفقهاء في تضمين الصناع لما يهلك تحت أيديهم بسبب إهمالهم ؛ فلولي الأمر أن يتدخل في عقود المضاربة بتحديد نسبة الربح مقدمًا ، وأن يكون رأس المال مضمونًا ، وهذا اللون يندرج تحت باب المصالح المرسلة.(37)
نقول : لقد تدخل الفقهاء فعلاً في تضمين الصناع لما تحت أيديهم ، وجعلوا علة ذلك الإهمال ، فأوجبوا عليه بسبب إهماله ضمان المال. وهذا ضمان لصاحب المال من عبث العابثين من ناحية ، ومن ناحية أخرى يجعل الصانع يعمل بجد ، ويحافظ على ما في يده دون ظلم. فإن كان الهلاك بسبب خارج عن إرادته دون إهمال منه فلا شيء عليه.(38)
ومسألة وضع المال في المصرف وغيره بعيدا عن هذا الوضع ؛ فهو يحدد الربح مقدمًا ، ويضمن رأس ماله كاملاً ، لا يعرضه للهلاك ؛ فهو يضعه في مصرف ، ويعلم علم اليقين أنه سوف يأخذ أصل ماله مع زيادة متفق عليه.
________________________
(37) انظر : معاملات البنوك وأحكامها الشرعية د. طنطاوي ص140 ، 141.
(38) انظر : ضمان العدوان في الفقه الإسلامي د. محمد أحمد سراج ص319 ـ دار الثقافة ط الأولى سنة 1409هـ/1989م.(10/40)
فهذا الكلام وإن ظن أن فيه مصلحة لبعض الناس إلا أنه يتعارض بنص قطعي الثبوت والدلالة من كتاب الله تعالى وهو قوله تعالى : "وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون".(39) فالله سبحانه وتعالى يقول : "فلكم رءوس أموالكم لا تَظلمون" أي بأخذ الزيادة ، "ولا تُظلمون" أي بوضع رءوس الأموال أيضًا ، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه.(40) د. طنطاوي يقول بتحديد نسبة من الربح مقدمًا تكون زيادة على رأس المال مع ضمان رأس المال ؛ فبأي القولين نأخذ ؟ بأمر الله وكلامه أم بأمر الدكتور محمد سيد طنطاوي ؟
والأصل الذي قيست عليه هو تضمين الصناع لما يهلك تحت أيديهم بسبب الإهمال ، ثم يقيس "خراب الذمم" في هذا الزمان على الإهمال ؛ فهل هذه العلة (خراب الذمم) تتفق مع علة الإهمال من كل الوجوه ؟ بالطبع لا. ونضيف إلى ذلك أن الأصل في الذمة البراءة لا غيرها.
وإذا جئنا لشروط العلة نجد أنها تختلف هنا عما أورده العلماء من شروط للعلة الصحيحة ؛ فمثلا من الشروط : سلامة العلة عن الرد والمعارض الراجح "والذي يبطل الوصف الذي هو علة ويرده هو النص أو الإجماع".(42) وليس هناك نص أوضح مما ذكرناه من كتاب ربنا ، حيث يقول : "وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون" (43) ، بالإضافة إلى إجماع من المجامع والبحوث الفقهية.
___________________
(39) سورة البقرة : آية 279.
(40) انظر : تفسير ابن كثير جـ1 ، ص355.
ثم يقول هذا من باب المصلحة المرسلة ، ومعلوم أنه "إذا اتضحت قطعية دلالة النص من كتاب أو سنة ؛ اتضح سقوط احتمال المصلحة المظنونة في مقابله ، حتى ولو كان لها شاهد من أصل تقاس عليه".(41) فهذه المصلحة مصطدمة بنص قطعي الثبوت والدلالة فاحتمالها أصلاً غير قائم.
(41) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للبوطي ص120 ، الرسالة ط6 سنة 1412هـ/1992م.
(42) انظر : الأنوار الساطعة في طرق إثبات العلة الجامعة د. رمضان عبد الودود عبد التواب ص43 ، 66 ط دار الهدى سنة 1406هـ/1986م.
(43) سورة البقرة : آية 279.(10/41)
ومن شروط العلة أيضًا التي ينتفي معها هذا القياس ألا تكون علة الحكم في الأصل المقيس عليه غير العلة التي علق عليها الحكم في الفرع.(44)
وكذلك من الشروط التي ينتفي معها القياس هنا "ألا توجب العلة في الفرع حكمًا آخر غير حكم الأصل".(45) فخراب ذمة المصرف يوجب الابتعاد عنه والانتظار حتى تبرأ ذمته وينصلح حاله بما يوافق الشرع ، أما تضمين الصناع بسبب الإهمال لا يوجب الابتعاد عنهم بل القرب منهم لأخذ الضمان على الأقل بوجه حسن ، أما في المصرف فأخذ المال بدون وجه حق بل وزيادة عليه.
وكذلك لا بد من وضوح العلة ، وهو ما يتنافى هنا ؛ لأن خراب الذمم شيء عام ليس محددا ولا معينا ، والأصل في العلة أن يكون الوصف المعلل به معينا (46).
الدليل التاسع :
قال الشيخ محمد سيد طنطاوي : لم يقل أحد من الأئمة : إن تحديد الربح مقدمًا في عقد المضاربة يجعله معاملة ربوية يحرم فيها الربح الناشئ عن العمل في المال المستثمر ؛ فالفقهاء أجمعوا على فساد عقد المضاربة بسبب تحديد الربح.(47)
ونقول : إذا كان الفقهاء قد أجمعوا على فساد عقد المضاربة.. فهل المقصود أن يستمر ذلك العقد مع فساده ؟ ففساد العقد دليل على انتهائه ، ومن ثم لا يكون هناك ربا أو غيره ؛ لأن العقد قد انتهى ، ولذلك حكموا بفساد كل عقد للمضاربة اشترط فيه أحد المتعاقدين زيادة معينة.
ولم يتعرض أحد من الفقهاء -فيما نعلم- لاستمرار العقد على هذا النحو ؛ لأنه من المعروف أن آراءهم أحكام يعمل بها ، فليس من المعقول أن يخالفها أحد ؛ لأنها مستمدة من الشريعة.
فإذا كان العقد فاسدًا فهل نبيحه ، ثم نجعل منه أصلا نقيس عليه فرعا -وهو أرباح البنوك مع ضمان سلامة رأس المال- ونحكم بصحته أيضًا ؟! كان من الأولى على أقل تقدير أن نحكم بفساده وإلغائه وتحريمه بدلاً من الحكم باستمراره والقياس عليه.
______________
(44) الأنوار الساطعة ص51.
(45) السابق : ص52.
(46) السابق : ص55.
(47) انظر : معاملات البنوك ص142.(10/42)
بحث آخر
إباحة الربا.. السؤال الملغوم والفتوى المغلوطة
د. حسين حامد
25/12/2002
في الثاني والعشرين من شهر أكتوبر من عام 2002 أرسل الأستاذ الدكتور حسن عباس زكي عضو مجمع البحوث الإسلامية ، وزير الاقتصاد الأسبق ، رئيس مجلس إدارة بنك الشركة المصرفية العربية الدولية كتابًا إلى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر ، يعيد فيه السؤال عن حكم استثمار الأموال في المصارف التي تقوم على تحديد الربح مقدمًا. وقد أحال فضيلة الإمام الأكبر الكتاب للعرض على مجلس مجمع البحوث الإسلامية. وانعقدت جلسة مجلس المجمع في يوم الخميس 25 من شعبان سنة 1423 هـ الموافق 31 من أكتوبر سنة 2002م ، وعرض عليه الموضوع المذكور. وبعد مناقشات الأعضاء ودراستهم قرر مجلس المجمع في جلسة الخميس 23 من رمضان 1423هـ الموافق 28 من نوفمبر 2002م.. الموافقة على أن استثمار الأموال في البنوك التي تحدد الربح مقدمًا حلال شرعًا ولا بأس به. وقد صدرت الفتوى ممهورة بتوقيع.
فضيلة الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي
غير أن هناك عدة محاذير تطال كلا من السؤال والفتوى الرادَّة عليه ؛ بحيث يمكن القول بوجود تجاوز في السؤال ، جعله يخالف حقيقة الوضع ؛ مما هيأ الفرصة لحدوث لبس أو سوء فهم حيال السؤال المقدم.. وبالتالي في الفتوى المجيبة على هذا الاستفتاء. وهذا ما جعل هذه الورقة تتطلع لفحص كل من السؤال والإجابة.(10/43)
سؤال مخالف للإطار القانوني للمعاملات المصرفية
حين بدأنا بمطالعة السؤال محل التناول ، وهو طلب الفتيا المقدم من الأستاذ الدكتور حسن عباس زكي ، وهو عضو مجمع البحوث الإسلامية قبل أن يكون مقدم الاستفتاء محل التناول ، وجدنا أن هذا السؤال لا ينطبق على ما يجري عليه العمل في البنوك التجارية والبنوك المتخصصة. ولنلق نظرة على ما يدعونا للتنادي للنظر إلى السؤال قبل الفتوى. والاعتبارات التي لدينا يمكن تناولها وفق الطرح التالي :
1- هذه المعاملة بهذه الصورة لا يجري عليها العمل في البنوك التجارية ولا المتخصصة ، لا في مصر ، ولا في البلاد العربية ، بل تناقض ما نصت عليه القوانين المدنية وقوانين التجارة وقوانين الجهاز المصرفي في هذه البلاد. فإن هذه الفتوى لا تطبق على ودائع البنوك.
2- قد يكون البنك مقدم السؤال يطبق هذه الصيغة ، ويتلقى الودائع بصفته وكيلاً عن المودعين في استثمار هذه الودائع في معاملاته المشروعة ، وهذه مسألة ادعاء على واقع ، وتحتاج إلى إثبات. ومع ذلك فإن هذه الوكالة باطلة بالإجماع ؛ لأن جميع عوائد وأرباح المال المستثمر بعقد الوكالة تكون للموكل ؛ لأنه المالك للمال المستثمر ، كما أنه يتحمل جميع خسائره التي تحدث بسبب لا يد للوكيل فيه ولا قدرة له على دفعه ولا تلافي آثاره ، وللوكيل أجر معلوم يجب النص عليه في عقد الوكالة ، وهو يحدد بمبلغ مقطوع أو نسبة من المال المستثمر ، وهو ما لم يتحقق في الصورة المسئول عنها ، بل إن الوكيل هو الذي يستحق أرباح استثمار الوديعة ، ويتحمل خسائرها ، ويحدد للموكل مالك الوديعة قدرًا أو نسبة من رأس المال ، ويسميها ربحًا.(10/44)
والبنوك الإسلامية تمارس هذه الصورة بمقتضى قوانين ونظم إنشائها ؛ فهي تتلقى الودائع وتستثمرها لحساب أصحابها وعلى مسئوليتهم ؛ فلهم أرباح ويتحملون خسائرها التي تحدث بسبب لا يد للبنك فيه ، وهو ما يسمى في القانون بالقوة القاهرة والسبب الأجنبي. ويستحق البنك أجرًا محددًا في عقد الوكالة في الاستثمار ، بمبلغ مقطوع أو نسبة من الوديعة المستثمرة. وبالقطع فإن هذه الودائع مملوكة لأصحابها وليست قرضًا للبنك ولا دينًا في ذمته.
3- والدليل على أن المعاملة موضوع السؤال والفتوى لا يجري عليها العمل ، ولا تسمح بها القوانين المطبقة في البنوك ، وأن المطبق إنما معاملة أخرى مختلفة عنها جملة وتفصيلا ، يأتي وفق عدة اعتبارات ، هي :
الاعتبار الأول : الفتوى تفترض وجود بنك يتلقى الودائع والمدخرات من المتعاملين معه ؛ "ليكون وكيلاً عنهم في استثمارها ؛ وهو ما يعني وجود عقد وكالة مستوفٍ لشروطه ، وتترتب عليه أحكام الشريعة ، ينظم العلاقة بين البنك والمودع. وهذا القول مناقض لحكم القوانين المطبقة ، ولا وجود له في واقع البنوك.
إن الذي ينظم علاقة البنك بمودعيه هو عقد وديعة النقود ، أو الوديعة الناقصة بلغة القانون. وحكم هذا العقد أنه ينقل ملكية الوديعة إلى البنك ، ويخوله استخدامها لحسابه وعلى مسئوليته ؛ فله وحده ربحها وعليه خسارتها ، وهو يدفع للمودع فائدة وهي نسبة من رأس المال مرتبطة بالمدة ويسميها "ربحًا". والبنك يلتزم برد الوديعة ؛ لأنه مدين بها ، وهذه المعاملة قرض بالقطع ، وفقًا لنصوص القانون وحكم الشريعة ؛ وهو ما يجعل الزيادة المشروطة عليها ربا بالإجماع ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : "كل قرض جر نفعًا فهو ربا" ، وكان الواجب أن تصدر الفتوى على المعاملة حسبما يقررها القانون ويجري عليها العمل دون افتراض صورة خيالية غير واقعة ، حتى لا يقع اللبس لدى العامة بأن حكم هذه الصورة المتخيلة ينطبق على ما يجري عليه العمل في البنوك.(10/45)
فالمادة رقم 726 من القانون المدني الجديد تنص على أنه "إذا كانت الوديعة مبلغًا من النقود ، أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال ، وكان المودع عنده مأذونًا له في استعماله ؛ اعتبر العقد قرضًا". وهذا هو الحكم في بقية القوانين العربية[1].
ويقول الدكتور السنهوري : "وأكثر ما ترد الوديعة الناقصة على ودائع النقود في المصارف ؛ حيث تنتقل ملكية النقود إلى المصرف ، ويرد مثلها بعد الطلب أو بعد أجل ، بل ويدفع المصرف في بعض الأحيان فائدة عنها ؛ فيكون العقد في هذه الحالة قرضًا ، وقد أحسن المشرع المصري في اعتبار الوديعة الناقصة قرضًا"[2] ، ثم يقول : "لا محل للتمييز بين الوديعة الناقصة (وديعة النقود) والقرض ؛ حيث إن المودع في الوديعة الناقصة ينقل ملكية الشيء المودع إلى المودع عنده ، ويصبح هذا مدينًا برد مثله"[3].
وتنص المادة 301 من القانون رقم 17 لسنة 1999 بإصدار قانون التجارة المصري على أن "وديعة النقود عقد يخول البنك ملكية النقود المودعة ، والتصرف فيها بما يتفق ونشاطه ، مع التزام برد مثلها للمودع ، طبقًا لشروط العقد".
وتنص المادة 300 من نفس القانون على أن أحكام الباب الثالث منه ، الخاص بعمليات البنوك ، ومنه المادة 301 "تسري على العمليات التي تعقدها البنوك مع عملائها ، تجارًا كانوا أم غير تجار ، وأيًا كانت طبيعة هذه العمليات".
فهذه النصوص القانونية تقطع بأن وديعة النقود في البنوك قرض. وقد أكد فقهاء القانون هذا بما لا يدع مجالاً للشك. وحيث إن هناك إجماعًا على أن "كل قرض جر نفعًا فهو ربا" كما جاء في الحديث الشريف ، فإن ما يصرف للمودع يعد ربا وإن سُميَ ربحًا أو عائدًا.
يقول ابن قدامة المقدسي[4] : "وكل قرض شُرط فيه أن يزيد فهو حرام بغير خلاف ، قال ابن المنذر : أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة ، أو هدية فأسلف على ذلك ؛ فإن أخذ الزيادة على ذلك فهو ربا".
______________
[1] راجع المادة : 692 من القانون المدني السوري ، والمادة : 726 من القانون المدني الليبي ، والمادة : 971 من القانون المدني العراقي ، والمادة : 691 من قانون الموجبات والعقود اللبناني ، والمادة : 889 من القانون المدني الأردني. وهذا ما استقرت عليه القوانين والأعراف المصرفية في العالم.
[2] عبد الرزاق السنهوري ، الوسيط ، المجلد : 7 ، ص : 754.
[3] المرجع السابق ، ص : 757.
[4] ابن قدامة ، المغني مع الشرح الكبير ، مج : 4 ، ص : 36.(10/46)
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة بن أبي موسى ، قال : "قدمت المدينة ، فلقيت عبد الله بن سلام ، فقال لي : إنك بأرض فيها الربا فاشٍ ، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا". وروى البخاري في تاريخه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أقرض فلا يأخذ هدية".
وإني لأعجب كيف غاب عن العلماء الأفاضل أعضاء المجمع هذه الحقائق مع سعة علمهم وغزارة اطلاعهم ؟ غير أن عذرهم هو أنهم يجيبون على سؤال يعرض صورة محددة ، هي "تلقي البنك للودائع لاستثمارها بطريق الوكالة في صيغ استثمار مشروعة" ، وكان الجواب على قدر السؤال وإن بصورة افتراضية غير متحققة في الواقع.
وإن كنا سنرى أن تحديد مبلغ مقدمًا للمودع بصفته موكلاً لا يجوز شرعًا ، ولو سمي ربحًا ؛ لأنه يناقض أحكام الوكالة في الاستثمار التي أجمع عليها الفقهاء ، وهي : أن ربح الوديعة المستثمرة كله للمودع ، وأن خسارتها التي لا يد للوكيل فيها عليه. وأن أجر الوكيل يجب تحديده عند توقيع عقد الوكالة بمبلغ مقطوع أو نسبة من الوديعة المستثمرة. وهذا كله يقتضي أن يمسك الوكيل (البنك) حسابًا مستقلاً للوديعة أو مجموع الودائع ، يقيد فيه الإيرادات والمصروفات حتى يتحدد الربح الذي يستحقه المودع أو مجموعة المودعين ، وذلك على النحو الذي تمارسه البنوك الإسلامية في عمليات الاستثمار بطريق الوكالة.(10/47)
الاعتبار الثاني : أنه على فرض أن العقد الذي ينظم علاقة البنك والمودعين فيه هو عقد وكالة في الاستثمار ، وهو فرض يناقض حكم القوانين وينافي الواقع العملي ؛ فإن البنوك التجارية والمتخصصة لا تملك استثمار الودائع بنفسها استثمارًا مباشرًا ؛ بمعنى الاتجار فيه ، بل تملك إقراضه للغير بفائدة. فالقانون المصري رقم 163 لسنة 1957 والقوانين المعدلة له تنص على ما يأتي :
المادة رقم 26 مكررًا[5] تنص على أنه "تخضع جميع البنوك التي تمارس عملياتها داخل جمهورية مصر العربية لأحكام هذا القانون".
والمادة رقم 38 من نفس القانون تنص على أنه "يُعتبر بنكًا تجاريًا كل منشأة تقوم بصفة معتادة بقبول ودائع تدفع عند الطلب أو بعد أجل لا يجاوز سنة" (عدلت مدة الوديعة بالزيادة).
والمادة رقم 39 من نفس القانون تنص على أنه "يحظر على البنك التجاري أن يباشر العمليات الآتية :
( أ) التعامل في المنقول أو العقار بالشراء أو البيع أو المقايضة فيما عدا :
1- العقار المخصص لإدارة أعمال البنك أو للترقية عن موظفيه.
2- المنقول أو العقار الذي تئول ملكيته إلى البنك وفاء لدين له قبل الغير قبل أن يقوم البنك بتصفيته خلال سنة من تاريخ أيلولة الملكية بالنسبة للمنقول وحتى سنوات بالنسبة للعقار ، ويجوز لمجلس إدارة البنك المركزي مد هذه المدة عند الاقتضاء.
(ب) امتلاك أسهم الشركات المساهمة ، ويشترط "ألا تجاوز القيمة الاسمية للأسهم التي يملكها البنك في الشركة مقدار رأسماله المصدر واحتياطياته".
والمادة رقم 45[6] تنص على أنه "يحظر على البنوك العقارية والبنوك الصناعية وبنوك الاستثمار نفس الأعمال المحظورة على البنوك التجارية".
____________________
[5] هي مادة مضافة بالقانون رقم : 50 لسنة 1984.
[6] وهي مادة مستبدلة بالقانون رقم : 97 لسنة 1996.(10/48)
فهذه النصوص تقطع بأنه يحظر على البنوك التجارية وغير التجارية العاملة في مصر الاستثمار عن طريق الاتجار بالشراء والبيع بصفة مطلقة ، إلا إذا كان التملك وفاء لدين ، وبشرط التصرف في العقار أو المنقول خلال مدة محددة ، أو كان العقار مستخدمًا لإدارة البنك أو لأماكن ترقية موظفيه. وحتى في حالة المشاركة في تأسيس الشركات وشراء أسهم ، يحظر على البنك أن يمس الودائع مطلقًا ، بل إن له أن يتصرف في حدود حقوق المساهمين.
فافتراض الفتوى محل النظر أن البنوك تقوم باستثمار الودائع بالاتجار فيها بالبيع والشراء بصفة مباشرة ، أو حتى شراء أسهم الشركات افتراض غير صحيح ، وبناء الفتوى عليه باطل. وإذا كنا نتكلم عن أمر واقع.. فأين هو ؟ وأي بنك يقوم باستثمار الودائع بنفسه استثمارًا مباشرًا ؟ وأين يعمل ؟ أيعمل في مصر أم في الخارج ؟؟
ولا أدري كيف غاب عن أعضاء المجمع -مع سعة علمهم ، وكثرة اطلاعهم ، ومعرفتهم بواقع الجهاز المصرفي المصري والعربي والعالمي وطريقة عمله ، وفقًا للقوانين المنظمة له- أن البنوك في مصر ليست حرة في القيام باستثمار الودائع بنفسها استثمارًا مباشرًا في الاتجار بالبيع والشراء للعقارات والمنقولات ، أو المساهمة في الشركات ، وإنما الأصل أنها تُقرض الودائع بسعر فائدة أعلى من سعر الفائدة الذي تدفعه على الودائع ، ويكون الفرق بين الفوائد الدائنة والمدينة هو ربح المساهمين ، بعد خصم المصروفات العمومية والإدارية ، وذلك بالإضافة إلى مقابل الخدمات المصرفية.(10/49)
وعلى كل حال فإن الفتوى لا يتحقق مناط تطبيقها في البنوك التجارية أو المتخصصة ؛ لأن الفتوى تفترض قيام البنوك التي تتلقى الودائع بصفتها وكيل استثمار ، باستثمار هذه الودائع بنفسها استثمارًا مباشرًا بالاتجار فيها بالبيع والشراء وغيرهما ، وهذا محظور على هذه البنوك.
والذي يقوم باستثمار الودائع بصيغ وعقود استثمار شرعية ، وبطريقة مباشرة على أساس عقد الوكالة أو المضاربة أو المشاركة ، أو المرابحة أو السلم أو الاستصناع.. هي البنوك الإسلامية. فإذا استثمرت بطريق الوكالة فإن الربح كله لمالك الوديعة والخسارة التي لا يد للبنك فيها عليه ؛ لأنه المالك للوديعة ، ويستحق البنك أجرًا محددًا بمبلغ مقطوع أو نسبة من الوديعة المستثمرة.
وإذا كان الاستثمار بطريق المضاربة ؛ فإن البنك يستحق النسبة المتفق عليها من ربح استثمار الودائع ، والباقي يوزع على أصحاب الودائع ؛ وذلك وفق نسبة ودائعهم ومدد استثمار هذه الودائع ، وذلك بحكم أن المودعين يملكون هذه الودائع ، ولا يقرضونها للبنك.
وإذا كان البنك يستثمر الودائع بطريق المشاركة ؛ فإن البنك يستحق حصة في الربح بنسبة مشاركته ، والباقي للمودعين مقابل استثمار ودائعهم. والشريك المودع يملك حصة في المشاركة وهي الوديعة.
الاعتبار الثالث : وعلى فرض أن البنوك تتلقى الودائع بصفتها وكيل استثمار ، وعلى فرض أنها تملك استثمار الودائع بنفسها استثمارًا مباشرًا بالاتجار فيها بالبيع والشراء وشراء الأسهم ، وهو فرض غير جائز قانونًا وغير واقع عملاً وممارسة ، على فرض ذلك كله.. فإن الفتوى تنص على أن استثمار الودائع يكون في "عمليات البنوك المشروعة". وهذا الفرض غير واقع ؛ ذلك أن البنوك تملك استخدام الودائع في عمليات الإقراض بفائدة ، وهي ربا محرم باتفاق. والفتوى نفسها لم تتعرض لحكم استخدام البنك لودائعه في إقراضها بفائدة برغم كونه ربا محرَّما باتفاق.(10/50)
وتنص المادة الرابعة من القانون رقم 37 لسنة 1992 على أن تُستبدَل بكلمة "الفائدة" أينما وردت في القانون رقم 163 لسنة 1957 أو القانون رقم 120 لسنة 1975 كلمة "العائد" ، وهو لا يغير من الحكم الشرعي ، وهو حرمة كل زيادة عن مبلغ القرض ؛ ذلك أن الحكم الشرعي مرتبط بكلمة "النفع" بكل صوره وجميع أشكاله ، بصرف النظر عن التسمية التي تُطلق عليه ، ربحًا كانت أو عائدًا أو هدية أو منحة أو مكافأة أو جائزة ؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول : "كل قرض جر نفعًا فهو ربا". فالعبرة هنا بكون المدفوع نفعًا ، بصرف النظر عن تسميته.
وإذا ثبت أن الودائع تستخدم بطريق الإقراض بفائدة أو عائد -كما يسميه القانون- ، كان افتراض الفتوى أن البنك "يستثمر الودائع في معاملاته المشروعة" افتراضا غير واقع وغير صحيح ، وبناء الفتوى عليه باطل ، ولو فرض أن هناك بنكًا يتلقى الودائع بصفته وكيل استثمار ، ويستثمرها في معاملاته المشروعة استثمارًا مباشرًا بصيغ وعقود استثمار مشروعة ولا يقرضها للغير بفائدة ؛ لكانت الفتوى منطبقة على هذا البنك (أي يتحقق فيه مناط الفتوى).
فالفتوى التي بين أيدينا أُنيطت وارتبطت وتعلقت ببنك يتلقى الودائع وفق عقد وكالة في الاستثمار ، وليس وفق عقد وديعة تأخذ حكم القرض ، ويقوم باستثمار هذه الودائع ، والاتجار فيها بنفسه (وهذا محظور على البنوك القائمة) ، ويتم التعامل فيها بصيغ وعقود استثمار شرعية ، وليس بإقراضها بفائدة كما هو الوضع في البنوك العادية. فإذا ما اختل أو انعدم أحد هذه العناصر التي تشكل مناط الفتوى فإن الفتوى لا تطبق.(10/51)
ولقد ذكرنا أن الفتوى تنطبق على البنوك الإسلامية ، مع ملاحظة أن البنوك الإسلامية تلتزم بشروط وأحكام الوكالة الشرعية ، وأهمها حرمة اشتراط ربح محدد للمودع بصفته موكلاً ؛ لأن هذا باطل بالإجماع ، وصرف الربح كله للمودع بعد خصم أجرة البنك المحددة في عقد الوكالة ، وتحميل المودع بصفته موكلاً جميع مخاطر استثمار الوديعة ، وخسائرها التي لا يد للبنك فيها ، ولا قدرة له على توقعها أو تلافي آثارها (أي : إذا كانت بسبب قوة قاهرة ، أو بسبب أجنبي بلغة القانون).
ولو وُجد بنك يتلقى الودائع بعقد وكالة مستوفية لشروطها ، وتترتب عليها أحكامها الشرعية ؛ لكانت معاملاته صحيحة. ولكن الوكالة المذكورة في الفتوى ، على الرغم من أنها مجرد اختراع وخيال يناقض أحكام القوانين وواقع العمل ؛ فإنها وكالة باطلة بالإجماع ؛ لأن الوكيل (البنك) يأخذ أرباح الوديعة ، وليس أجرًا محددًا في عقد الوكالة ، ويتحمل خسائرها ، ويشترط للمودع (الموكل) مبلغًا محددًا مقدمًا أسماه ربحًا ، وهذه وكالة باطلة بإجماع الفقهاء طوال 14 قرنًا من الزمان ، ولا أظن أن هذا يغيب عن علم أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع ، وهم من المشهود لهم بالعلم والفضل والورع.
وخلاصة الرد على هذا الجزء من الفتوى أنها فتوى في معاملة افتراضية ؛ حيث هذه المعاملة المستفتى فيها غير جائزة قانونًا ، وغير واقعة عملاً ، بالنسبة للبنوك العاملة في مصر ، بل وفي غيرها من البلاد العربية وغيرها. وهي صورة بنك يتلقى الودائع بصفة وكيل استثمار ، ويستثمر هذه الودائع بنفسه في معاملات وبصيغ وعقود استثمار مباشرة ، وهذه المعاملات وتلك الصيغ تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية.(10/52)
وإذا فرضنا جدلاً أن البنوك تقبل الودائع بصفتها وكيلاً عن المودعين لاستثمارها بنفسها والاتجار فيها استثمارًا مباشرًا ؛ فإن هذا الاستثمار يجب أن يكون بصيغ استثمار شرعية كالبيع والشراء والاستصناع والمرابحة والسلم والمشاركة وغيرها من الصيغ والعقود الشرعية ، وليس بصيغة الإقراض بفائدة ، كما أنه يجب أن تكون الوكالة في الاستثمار مستوفية لشروطها الشرعية ، وتترتب عليها الأحكام والآثار التي ترتبها الشريعة الإسلامية ؛ من كون الربح كله للمودعين ، وللبنك الأجر المحدد المتفق عليه في عقد الوكالة ، على أن تكون خسارة الودائع التي لا يد للبنك فيها على أصحابها ؛ لأنهم المالكون لها.
وهذا يقتضي أن يُفِرد البنك للودائع التي يستثمرها بطريق الوكالة حسابًا مستقلاً منتظمًا مُدقَّقًا ، تقيد فيه إيرادات ومصروفات جميع المعاملات الشرعية التي يقوم بها البنك ، حتى يتحدد الربح المستحق للمودعين ، بعد أن يخصم البنك الأجرة المتفق عليها عند الإيداع.
والبنوك الإسلامية تقوم بهذا العمل على الوجه السابق ، وذلك بجانب قيامها باستثمار الودائع بصيغة المضاربة التي يستحق فيها البنك نسبة محددة من الربح بدلاً من الأجرة المحددة بمبلغ مقطوع أو نسبة من الودائع المستثمرة ، وقد تستثمر البنوك الإسلامية الودائع بصيغة المشاركة ؛ فيستحق البنك حصة من الربح تناسب مساهمته في المشاركة ، ويأخذ المودعون نسبة من الربح تناسب مساهماتهم.(10/53)
وأما استخدام الودائع فالبنوك الإسلامية تستثمرها استثمارًا مباشرًا بعقود وصيغ شرعية كالمرابحة والبيع المؤجل وبيع السلم والاستصناع والمشاركات ، ولا تدفع البنوك الإسلامية هذه الودائع بصيغة القرض لمن يقوم باستثمارها ؛ فالبنوك الإسلامية لا تقوم بالإقراض والتمويل النقدي ومنح التسهيلات الائتمانية ، بل إنها بنوك استثمار منتج للسلع والخدمات ، وبنوك تنمية حقيقية ، وتلك رسالتها ، حسب قواعد الشريعة ، وقوانين ونظم إنشائها ، والتراخيص التي منحتها الدول التي توجد فيها هذه البنوك لها ؛ فإن قصرت أو أخطأت كانت مسئولة أمام الله ، ثم الدولة التي منحتها هذه التراخيص ، والمجتمع الذي منحها ثقته.
وقد يحدث هذا التقصير بسبب عدم كفاية العناصر المؤهلة ، أو عدم العناية بتدريبها ، ولكنها في جميع الأحوال يجب أن تجمع المدخرات ، وتوجهها للاستثمار المنتج بصيغ شرعية مساهمة في خطط التنمية. ويجب على الدولة والمجتمع أن يعيناها على ذلك ، ويحكما الرقابة عليها ؛ إذ إن الذين يتعاملون مع هذه البنوك يعتمدون على أنها تلتزم بأحكام الشريعة في ترك الربا الذي يؤذن بحرب الله ورسوله ويمحق البركة في المجتمع ، وأن هذه البنوك تسهم في نفس الوقت في تمويل خطط التنمية. ذلك أن البنك الإسلامي لا يتقاضى فائدة على قرض ؛ لأنه لا يُقرض الودائع ، وإنما يستحق حصة من ربح العملية أو المشروع ، ولا يتحقق الربح إلا إذا كان ثمة مشروع منتج ومحقق للربح وفق دراسة الجدوى ، وبذلك يواكب كل تمويل لعملية إنتاج ينتج عنها ربح ، وهذا يساعد على تخفيف حدة التضخم ، ويوجه استخدامات الموارد في المجتمع توجيهًا صحيحًا.(10/54)
إن دعم ومساندة البنوك الإسلامية تلبي أشواق ورغبات شريحة كبيرة من المجتمع التي آمنت بحرمة الربا ، وبكونه يمحق البركة من الرزق ، ويعرض المرابي لحرب من الله ورسوله لا قبل له بها ، ولهم حق ممارسة أحكام دينهم ، ويفيد الجهاز المصرفي من ودائع يمتنع أصحابها عن إيداعها في البنوك الربوية ، بدلاً من أن تتسرب هذه الودائع ، ويُحرم منها المجتمع.
ولا يضير البنوك التقليدية وجود بنوك إسلامية ؛ لأن الملتزمين بأحكام دينهم إذا لم توجد بنوك إسلامية لا يودعون في البنوك التقليدية. لذا فإن إثارة هذا الموضوع لا يفيد المجتمع بحال.
إشكاليات تتعلق بفتوى مجمع البحوث الإسلامية
إن كان التناول النقدي السابق يتعلق بالإشكال الذي انطوى عليه السؤال من توصيف غير حقيقي لطبيعة النشاط الاقتصادي الذي تمارسه المصارف ، ومن ثم سوء الفهم المترتب على هذا التوصيف الخاطئ ؛ فإن الجزء الذي بين أيدينا يتناول تجاوزات في فتوى مجمع البحوث نفسها
لقد ذكرت الفتوى بعض الأدلة على ما توصلت إليه من حكم بأن تحديد الأرباح مقدمًا لأصحاب الودائع في البنوك حلال لا شبهة فيه. واستكمالاً للبحث فإني أذكر هذه الأدلة ، أو بالأحرى التعليلات والمناسبات التي ذكرت لتأكيد هذه الفتوى :
أولاً : جاء في الفتوى أنه "من المعروف أن البنوك عندما تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح أو العوائد مقدمًا ، إنما تحددها بعد دراسة دقيقة للأسواق المالية أو المحلية وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع ، ولظروف كل معاملة أو نوعها ومتوسط أرباحها".(10/55)
وهذا التعليل أو التدليل ليس في محل النزاع ؛ لأن الخلاف ليس في طريقة تحديد ما يُعطى للمودع ، بل في الحكم الشرعي لما يُعطى ، بصرف النظر عن مقداره وطريقة تحديده. وقد تقدم أن الوديعة تُعد قرضًا بنص القوانين وبإجماع الفقهاء ، و"كل قرض جر نفعًا فهو ربا" بنص الحديث الشريف ؛ ذلك أن واقع البنوك أنها تتلقى الودائع وتملكها ، وتستقل باستخدامها في إقراض الغير بفائدة ، مع التزامها بردها مع الفائدة ، وهذا هو حكم القرض بنص القانون ، ولا دخل بعد ذلك في كيفية أو طريقة تحديد هذا النفع أو مقداره أو مسماه ؛ فقد تُسمى هذه النتيجة نفعًا أو ربحًا أو عائدًا أو فائدة أو مكافأة أو هدية ؛ لأن العبرة بما يرتبه العقد من آثار بين عاقديه. والأحكام تُبنى على الواقع لا على الخيال. ودعوى أن البنك وكيل استثمار ، وأنه يستثمر الودائع بنفسه في معاملات مشروعة ، تقدم تفنيده وإبطاله ، وتوضيح مخالفته للقانون والشرع والواقع.
ثانيًا : جاء في الفتوى أنه "من المعروف أن هذا التحديد (للربح الذي يعطى للمودع) قابل للزيادة أو النقص ؛ بدليل أن شهادات الاستثمار بدأت بتحديد العائد ، ثم ارتفع إلى أكثر من 15% ، ثم انخفض الآن إلى ما يقارب 10%.
وهذا التعليل أو التعديل في غير الموضوع الذي نتحدث عنه ؛ إذ الحديث عن الصفة الشرعية لما يعطيه البنك للمودِع ؛ وقد تقدم أنه ربا ؛ لأنه منفعة يمنحها المقترض للمقرِض (زيادة عن الدين ؛ لأنها نسبة من رأس المال مقابل الأجل). ولا يجادل أحد في أن هذا هو حقيقة الربا ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : "كل قرض جر نفعًا فهو ربا" ، ولإجماع الأمة على أن الزيادة على الدين في مقابل الأجل هي الربا ، سواء تحددت وشُرطت مقدمًا كما جاء في السؤال والفتوى ، أو كانت العادة جارية في البنوك بذلك.(10/56)
وإذا ثبت أن الوديعة النقدية قرض يفيد ملك البنك للوديعة ، وحقه في استخدامها مع رد مثلها ، وأن ذلك قرض بحكم القانون والشرع ؛ فإن كل زيادة على القرض تُعطى للمودع تكون ربا مهما كان قدرها ، أو طريقة تحديدها ، أو التسمية التي تُطلق عليها ، أو تغييرها بالزيادة والنقصان. ودعوى أن البنك يتلقى الودائع بصفته وكيل استثمار ، وأنه يستثمرها بنفسه في معاملاته المشروعة بالاتجار والبيع والشراء وغير ذلك من عقود وصيغ الاستثمار الشرعية ، دعوى يكذبها الواقع ، ويحظرها القانون ، كما سبق شرحه وإثباته..
ثالثًا : جاء في الفتوى أن "الخلاصة أن تحديد الربح مقدمًا للذين يستثمرون أموالهم عن طريق الوكالة الاستثمارية في البنوك أو غيرها حلال ، ولا شبهة في هذه المعاملة ؛ فهي من قبيل المصالح المرسلة ، وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز فيها التغيير أو التبديل".
والرد على ذلك يكون بتناول عدة جزئيات على النحو التالي :
أولاً : الحكم الشرعي إذا ثبت بالدليل ، وعُرف مناطه ؛ فلا يجوز تغييره ولا تبديله بحال ، يستوي في ذلك العقائد والعبادات وغيرها من المعاملات. غير أن تفسير النصوص الشرعية ، وتحديد مجال إعمالها ، يُرجع فيه إلى المصلحة التي شُرع الحكم لتحقيقها ، وذلك في المعاملات بخلاف العبادات التي يقف فيها المجتهد عند النص ولا يتوسع في تفسيره. وهذا أصل أكده الإمام الشاطبي وغيره ، غير أنه في جميع الحالات إذا توصل المجتهد بهذا المنهج إلى حكم شرعي فإنه لا يحل تغييره أو تبديله.(10/57)
وثمة فرق بين العبارتين ؛ إذ إن عبارة التغيير والتبديل لأحكام الشريعة تُوهم أنها غير ملزمة للمكلف ، وهذا رأي نسب إلى الطوفي الحنبلي ، وهو منه بريء (راجع نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي - ص : 533 ، وما بعدها لكاتب التعليق) ، إذ لم يقل بذلك أحد في تاريخ الاجتهاد الإسلامي. فقد نسب بعض المحدثين إلى الطوفي أنه يقدم المصلحة على النص والإجماع في المعاملات ، ورموه بأنه أول من فتح باب الشر ، وأن ما قاله "باطل" صادر عن "مضل" "فاجر" "ساقط" ، ولا يقول بقوله إلا من هو "أسقط منه" ، وأن رأيه في المصلحة "إلحاد مكشوف" ، من أعار له سمعًا لم يكن له نصيب من العلم ولا من الدين ، وأن مذهبه ليس غلطًا فقط من عالم حسن النية يحتمل التأويل ، بل فتنة فتح بابها قاصد شر ومثير فتن. ويقول الغمام أبو زهرة عن الطوفي : "إن مهاجمته للنصوص وفكرة نسخها بالمصالح أسلوب شيعي"[7] ، ويدافع الدكتور مصطفى زيد عن العلامة الطوفي ، ويقول : "إن خطأه في الاجتهاد لا يعني أنه كان متلاعبًا بالمذاهب والعقائد"[8].
ثانيًا : هذه المعاملة ليست من باب المصالح المرسلة ؛ لأنها وكالة في الاستثمار كما جاء في الفتوى. وقد بينت الشريعة الإسلامية شروط الوكالة وأحكامها. فليست مما سكتت عنه النصوص الشرعية ، وهذه الأحكام باتفاق الفقهاء ، هي :
1- وجوب النص على أجر الوكيل في عقد الوكالة ، سواء كان مبلغًا مقطوعًا أو نسبة من المال المستثمر.
2- أن أرباح المال المستثمر كلها للموكل ، وخسارته عليه بحكم أنه المالك للمال.
3- وجوب إمساك الوكيل حسابًا مستقلاً عن عمليات الوكالة تقيد فيه إيرادات العمليات ومصروفاتها ؛ حتى تتحدد الأرباح التي يستحقها الموكل بعد خصم أجرة الوكيل.
_____________________
[7] محمد أبو زهرة ، ابن حنبل ، ص : 311- 312.
[8] الدكتور مصطفى زيد ، المصلحة في التشريع الإسلامي ، ص : 172.(10/58)
والوكالة المُدَّعاة في الفتوى ، رغم أنها مجرد خيال غير واقع ، فهي وكالة باطلة ؛ لأنها لم تستوفِ شروطها الشرعية ، ولم يترتب عليها الأحكام التي رتبها الشارع عليها.
وخلاصة ردنا على الفتوى أنها لا تطبق على البنوك التي تعمل في مصر ، ولا في غيرها من البلاد العربية ؛ لأن مناط الفتوى غير متحقق في هذه البنوك ؛ فهي ليست وكيلة في الاستثمار ، ولا تملك الاستثمار والاتجار في الودائع بطريقة مباشرة بحكم القوانين المنشئة لها ، كما أن توظيفها للمال غير مشروع ؛ لأنها تقرضها بفائدة محرمة.
وإذا فُرض وجود نظام مصرفي يقوم على أساس الوكالة في الاستثمار ؛ فإن هذه الوكالة يجب أن تتوافر شروطها الشرعية ، وأن تترتب عليها أحكامها التي لا تُنافي مقتضاها.
إن البنوك الإسلامية تقوم بتلقي الودائع ، واستثمارها بطريق مباشر ، وبصيغ وعقود شرعية في عقد الوكالة في الاستثمار بجانب صيغ أخرى. أ هـ(10/59)
كلام نفيس للعلامة الجصاص فى الآيتين الكريمتين
قال عليه الرحمة والرضوان من الملك الرحيم الرحمن :
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ ، أَحَدَهُمَا : إنْ لَمْ تَقْبَلُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ تَنْقَادُوا لَهُ ، وَالثَّانِيَ : إنْ لَمْ تَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا بَعْدَ نُزُولِ الْأَمْرِ بِتَرْكِهِ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ اعْتَقِدُوا تَحْرِيمَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِيمَنْ أَرْبَى ( أَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَتِيبُهُ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلَهُ ) وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ إذَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ.
وقَوْله تَعَالَى : {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لَا يُوجِبُ إكْفَارَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنْ الْمَعَاصِي ؛ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ : {إنَّ عُمَرَ رَأَى مُعَاذًا يَبْكِي ، فَقَالَ : مَا يُبْكِيَك ؟ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْيَسِيرُ مِنْ الرِّيَاءِ شِرْكٌ وَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ}.
فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ.(10/60)
وَرَوَى أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ، أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ}.
وَقَالَ تَعَالَى : {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ جَارٍ فِي أَهْلِ الْمِلَّةِ وَأَنَّ هَذِهِ السِّمَةَ تَلْحَقُهُمْ بِإِظْهَارِهِمْ قَطْعَ الطَّرِيقِ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ عَلَى مَنْ عَظُمَتْ مَعْصِيَتُهُ وَفَعَلَهَا مُجَاهِرًا بِهَا وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْكُفْرِ.
وقَوْله تَعَالَى : {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إخْبَارٌ مِنْهُ بِعِظَمِ مَعْصِيَتِهِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْمُحَارَبَةَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَكَانَ مُمْتَنِعًا عَلَى الْإِمَامِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا عَاقَبَهُ الْإِمَامُ بِمِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ وَالرَّدْعِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعِقَابَ إذَا أَصَرَّ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا وَجَاهَرَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا حُورِبَ عَلَيْهَا هُوَ وَمُتَّبِعُوهُ وَقُوتِلُوا حَتَّى يَنْتَهُوا ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ عَاقَبَهُمْ الْإِمَامُ بِمِقْدَارِ مَا يَرَى مِنْ الْعُقُوبَةِ.(10/61)
وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ يَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ مِنْ الْمُتَسَلِّطِينَ الظَّلَمَةِ وَآخِذِي الضَّرَائِبِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ إذَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ ، وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ آكِلِي الرِّبَا لِانْتِهَاكِهِمْ حُرْمَةَ النَّهْيِ وَحُرْمَةَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا.
وَآكِلُ الرِّبَا إنَّمَا انْتَهَكَ حُرْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَخْذِ الرِّبَا وَلَمْ يَنْتَهِكْ لِمَنْ يُعْطِيهِ ذَلِكَ حُرْمَةً ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ.
وَآخِذُو الضَّرَائِبِ فِي مَعْنَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْمُنْتَهِكِينَ لِحُرْمَةِ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إذْ كَانُوا يَأْخُذُونَهُ جَبْرًا وَقَهْرًا لَا عَلَى تَأْوِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ ، فَجَائِزٌ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إصْرَارَ هَؤُلَاءِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الضَّرِيبَةِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ كَيْفَ أَمْكَنَهُ قَتْلُهُمْ ، وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُهُمْ وَأَعْوَانُهُمْ الَّذِينَ بِهِمْ يَقُومُونَ عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ لِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إيَّاهُ عَلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْكُفْرُ ، وَالْآخَرُ : مَنْعُ الزَّكَاةِ(10/62)
وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ فَرْضِ الزَّكَاةِ وَمِنْ أَدَائِهَا ، فَانْتَظَمُوا بِهِ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الِامْتِنَاعُ مِنْ قَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ كُفْرٌ ، وَالْآخَرُ : الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ إلَى الْإِمَامِ فَكَانَ قِتَالُهُ إيَّاهُمْ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَلِذَلِكَ قَالَ : ( لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا ) وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ : ( عِنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلَتْهُمْ عَلَيْهِ ).
فَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا مُمْتَنِعِينَ مِنْ قَبُولِ فَرْضِ الزَّكَاةِ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ سَمَّوْهُمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ ، وَهَذِهِ السِّمَةُ لَازِمَةٌ لَهُمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَكَانُوا سَبَوْا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيِّهِمْ ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ لَمَا سَارَ فِيهِمْ هَذِهِ السِّيرَةَ وَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ.
الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، أَعْنِي فِي أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَانُوا أَهْلَ رِدَّةٍ.
فَالْمُقِيمُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بِجَمَاعَةٍ تُعَضِّدُهُ سَارَ فِيهِمْ الْإِمَامُ بِسِيرَتِهِ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ إنْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ ، وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِتَحْرِيمِهِ وَفَعَلُوهُ غَيْرَ مُسْتَحِلِّينَ لَهُ قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ إنْ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ حَتَّى يَتُوبُوا ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُمْتَنِعِينَ رَدَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يَنْتَهُوا.(10/63)
وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ وَكَانُوا ذِمَّةً نَصَارَى : إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا وَإِمَّا أَنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَيُّوبُ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ : حَدَّثَنِي سَعْدَانُ بْنُ يَحْيَى ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ ، عَنْ أَبِي مَلِيحٍ الْهُذَلِيِّ : {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ كِتَابًا فِي آخِرِهِ : عَلَى أَنْ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا ، فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا فَذِمَّتِي مِنْهُ بَرِيئَةٌ}.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى : {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} عَقِيبَ قَوْلِهِ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} هُوَ عَائِدٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، مِنْ رَدِّ الْأَمْرِ عَلَى حَالِهِ وَمِنْ الْإِقَامَةِ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا مَعَ قَبُولِ الْأَمْرِ.
فَمَنْ رَدَّ الْأَمْرَ قُوتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ ، وَمَنْ قَبِلَ الْأَمْرَ وَفَعَلَهُ مُحَرِّمًا لَهُ قُوتِلَ عَلَى تَرْكِهِ إنْ كَانَ مُمْتَنِعًا وَلَا يَكُونُ مُرْتَدًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا عُزِّرَ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ عَلَى مَا يَرَى الْإِمَامُ.(10/64)
وقَوْله تَعَالَى : {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إعْلَامٌ بِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَفِي ذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِمِقْدَارِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ هَذِهِ السِّمَةَ ، وَهِيَ أَنْ يُسَمُّوا مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَهَذِهِ السِّمَةُ يَعْتَوِرُهَا مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : الْكُفْرُ إذَا كَانَ مُسْتَحِلًّا ، وَالْآخَرُ : الْإِقَامَةُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا مَعَ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ إعْلَامٌ مِنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمُحَارَبَتِهِمْ ، وَيَكُونُ إيذَانًا لَهُمْ بِالْحَرْبِ حَتَّى لَا يُؤْتُوا عَلَى غِرَّةٍ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} فَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الْخِطَابُ بِذَلِكَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِمْ إذَا كَانُوا ذَوِي مَنْعَةٍ ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ دَخَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ فَاعِلِي ذَلِكَ فِي الْخِطَابِ وَتَنَاوَلَهُ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِيهِ ، فَهُوَ أَوْلَى. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 192 ـ 194}(10/65)
فائدة
قال السهيلى :
وقد قدمنا في حديث بنيان الكعبة من قولهم لا تنفقوا فيها ربا ولا مهر بغي وأن في ذلك دليلا على قدم تحريمه عليهم في شرح إبراهيم عليه السلام أو في غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وذلك أنه من أقبح الأعمال لما فيه من هدم جانب المروءة وإيثار الحرص مع بعد الأمل ونسيان بغتة الأجل وترك التوسعة وحسن المعاملة ومن تأمل أبواب الربا لاح له شر التحريم من جهة الجشع المانع من حسن المعاشرة والذريعة إلى ترك القرض وما فيه وفي التوسعة من مكارم الأخلاق ولذلك قال سبحانه فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله [البقرة 279] غضبا منه على أهله ولهذه النكتة قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم أبلغي زيدا تعني زيد بن أرقم أن قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذكرت لها عنه مسألة من البيوع تشبه الربا ، فقالت أبطل جهاده ولم تقل صلاته ولا صيامه لأن السيئات لا تحبط الحسنات ولكن خصت الجهاد بالإبطال لأنه حرب لأعداء الله وآكل الربا قد أذن بحرب من الله فهو ضده ولا يجتمع الضدان وهذا معنى ذكره أبو الحسن بن بطال في شرح الجامع وتلك المسألة مذكورة في المدونة لكن إسنادها إلى عائشة ضعيف. أ هـ {الروض الأنف حـ 4 صـ 13}(10/66)
كلام نفيس لحجة الإسلام
قال رحمه الله :
من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة فى أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة فى مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغنى عنه كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغنى عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد فى مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطى منه مثله فى الوزن أو الصورة وكذا من يشترى دارا ثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تتناسب فيها فلا يدرى أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم بينهما بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوى من غير المساوى فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال هذا الجمل يسوى مائة دينار وهذا القدر من الزعفران يسوى مائة فهما من حيث إنهما مساويان بشىء واحد إذن متساويان وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض فى أعيانهما ولو كان فى أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض فى حق صاحب الغرض ترجيحا ولم يقتض ذلك فى حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدى ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى وهى التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان فى أنفسهما ولا غرض فى أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأحوال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك كل شىء لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام فى الثوب لأن غرضه فى دابة مثلا فاحتيج إلى شىء وهو فى صورته كأنه ليس بشىء وهو فى معناه كأنه كل(10/67)
الأشياء والشىء إنما تستوى نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكى كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحرف لا معنى له نفسه وتظهر به المعانى فى غيره فهذه هى الحكمة الثانية وفيهما أيضا حكم يطول ذكرها فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما فإذن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين فى سجن يمتنع عليه الحكم بسببه لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد فى أعيانهما فإنهما حجران وإنما خلقا لتتداولها الأيدى فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة المقادير مقومة للراتب فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة فى صفحات الموجودات بخط إلهى لا حرف فيه ولا صوت الذى لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة أخبر هؤلاء العاجزين بكلام سمعوه من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى وصل إليهم بواسطة الحرف والصوت المعنى الذى عجزوا عن إدراكه فقال تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة وكان أسوأ حالا ممن كنز لأن مثال هذا مثال من استسخر حاكم البلد فى الحياكة والمكس والأعمال التى يقوم بها أخساء الناس والحبس أهوك منه وذلك أن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة فى حفظ المائعات عن أن تتبدد وإنما الأوانى لحفظ المائعات ولا يكفى الخزف والحديد فى المقصود الذى أريد به النقود فمن لم ينكشف له هذا انكشف له بالترجمة الإلهية وقيل له من شرب فى آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر فى بطنه نار جهنم وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم(10/68)
لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض فى عينهما فإذا اتجر فى عينهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشترى به طعاما ودابة إذ ربما لا يباع الطعام والدابة بالثوب فهو معذور فى بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى مقصوده فانهما وسيلتان إلى الغير لا غرض فى أعيانهما وموقهما فى الأموال كموقع الحرف من الكلام كما قال النحويون إن الحرف هو الذى جاء لمعنى فى غيره وكموقع المرآة من الألوان فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيدا عنده وينزل منزلا المكنوز وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم كما أن حبسه ظلم فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصودا للادخار وهو ظلم(10/69)
فإن قلت فلم جاز بيع أحد النقدين بالآخر ولما جاز بيع الدرهم بمثله فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر فى مقصود التوصل إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق فى الحاجات قليلا قليلا ففى المنع منه ما يشوش المقصود الخاص به وهو تيسر التوصل به إلى غيره وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث يجرى مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه ونحن لا نخاف على العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه إلا أن يكون أحدهما أجود من الآخر وذلك أيضا لا يتصور جريانه إذ صاحب الجيد لا يرضى بمثله من الردىء فلا ينتظم العقد وإن طلب زيادة فى الردىء فذلك مما قد يقصده فلا جرم نمنعه منه ونحكم بأن جيدها ورديئها سواء لأن الجودة والرداءة ينبغى أن ينظر إليهما فيما يقصد فى عينه وما لا غرض فى عينه فلا ينبغى أن ينظر إلا مضافات دقيقة فى صفاته وإنما الذى ظلم هو الذى ضرب النقود مختلفة فى الجودة والرداءة حتى صارت مقصودة فى أعيانها وحقها أن لا تقصد وأما إذا باع درهما بدرهم مثله نسيئة فإنما لم يجز ذلك لأنه لا يقدم على هذا إلا مسامح قاصد الإحسان فى القرض وهو مكرمة مندوحة عنه لتبقى صورة المسامحة فيكون له حمد وأجر والمعاوضة لا حمد فيها ولا أجر فهو أيضا ظلم لأنه إضاعة خصوص المسامحة وإخراجها فى معرض المعارضة وكذلك الأطعمة خلقت ليتغذى بها أو يتداوى بها فلا ينبغى أن تصرف على جهتها فإن فتح باب المعاملة فيها يوجب تقييدها فى الأيدى ويؤخر عنها الأكل الذى أريدت له فما خلق الله الطعام إلا ليؤكل والحاجة إلى الأطعمة شديدة فينبغى أن تخرج عن يد المستغنى عنها إلى المحتاج ولا يعامل على الأطعمة إلا مستغن عنها إذ من معه طعام فلم(10/70)
لا يأكله إن كان محتاجا ولم يجعله بضاعة تجارة وإن جعله بضاعة تجارة فليبعه ممن يطلبه بعوض غير الطعام يكون محتاجا إليه فأما من يطلبه بعين ذلك الطعام فهو أيضا مستغن عنه ولهذا ورد فى الشرع لعن المحتكر وورد فيه من التشديدات ما ذكرناه فى كتاب آداب الكسب نعم بائع البر بالتمر معذور إذ أحدهما لا يسد مسد الآخر فى الغرض وبائع صاع من البر بصاع منه غير معذور ولكنه عابث فلا يحتاج إلى منع لأن النفوس لا تسمح به إلا عند التفاوت فى الجودة ومقابلة الجيد بمثله من الردىء لا يرضى بها صاحب الجيد وأما جيد برديئين فقد يقصد ولكن لما كانت الأطعمة من الضروريات والجيد يساوى الردىء فى أصل الفائدة ويخالفه فى وجوه التنعم أسقط الشرع غرض التنعم فيما هو القوام فهذه حكمه الشرع فى تحريم الربا وقد انكشف لنا هذا بعد الإعراض عن فن الفقه فلنلحق هذا بفن الفقهيات فإنه أقوى من جميع ما أوردناه فى الخلافيات وبهذا يتضح رجحان مذهب الشافعى رحمه الله فى التخصص بالأطعمة دون المكيلات إذ لو دخل الجص فيه لكانت الثياب والدواب أولى بالدخول ولولا الملح لكان مذهب مالك رحمه الله أقوم المذاهب فيه إذ خصصه بالأوقات ولكن كل معنى يرعاه الشرع فلا بد أن يضبط بحد وتحديد هذا كان ممكنا بالقوت وكان ممكنا بالمطعوم فرأى الشرع التحديد بجنس المطعوم أخرى لكل ما هو ضرورة البقاء وتحديدات الشرع قد تحيط بأطراف لا يقوى فيها أصل المعنى الباعث على الحكم ولكن التحديد يقع كذلك بالضرورة ولو لم يحد لتحير الخلق فى أتباع جوهر المعنى مع اختلافه بالأحوال والأشخاص فعين المعنى بكمال قوته يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فيكون الحد ضروريا فلذلك قال الله تعالى {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} ولأن أصول هذه المعانى لا تختلف فيها الشرائع وإنما تختلف فى وجوه التحديد كما يحد شرع عيسى ابن مريم عليه السلام تحريم الخمر بالسكر وقد حده شرعنا بكونه من جنس المسكر لأن قليله يدعو(10/71)
إلى كثير والداخل فى الحدود داخل فى التحريم بحكم الجنس كما دخل أصل المعنى بالجملة الأصلية فهذا مثال واحد لحكمه خفية من حكم النقدين فينبغى أن يعتبر شكر النعمة وكفرانها بهذا المثال فكل ما خلق لحكمة فينبغى أن يصرف عنها ولا يعرف هذا إلا من قد عرف الحكمة {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} ولكن لا تصادف جواهر الحكم فى قلوب هى مزابل الشهوات وملاعب الشياطين بل لا يتذكر إلا أولوا الألباب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم {لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بنى آدم لنظروا إلى ملكوت السماء}
وإذ عرفت هذا المثال فقس عليه حركتك وسكونك ونطقك وسكوتك وكل فعل صادر منك فإنه إما شكر وإما كفر إذ لا يتصور أن ينفك عنهما وبعض ذلك نصفه فى لسان الفقه الذى تناطق به عوام الناس بالكراهة وبعضه بالخطر وكل ذلك عند أرباب القلوب موصوف بالخطر. أ هـ {الإحياء حـ 4 صـ 91 ـ 93}(10/72)
قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الناس منقسمين إلى موسر ومعسر أي غني وفقير كان كأنه قيل : هذا حكم الموسر {وإن كان} أي وجد من المدينين {ذو عسرة} لا يقدر على الأداء في هذا الوقت {فنظرة} أي فعليكم نظرة له.
قال الحرالي : وهو التأخير المرتقب نجازه {إلى ميسرة} إن لم ترضوا إلا بأخذ أموالكم ؛ وقرأ نافع وحمزة بضم السين ؛ قال الحرالي : إنباء عن استيلاء اليسر وهي أوسع النظرتين ،
والباقون بالفتح إنباء عن توسطها ليكون اليسر في مرتبتين ،
فمن انتظر إلى أوسع اليسرين كان أفضل توبة - انتهى.
{وأن تصدقوا} أي وصدقتكم على المعسر بتركه له ،
ذلكم {خير} في الدنيا بما يبارك الله سبحانه وتعالى {لكم} ويعوضكم وفي الآخرة بما يجزل لكم من الأجر.
ولما كان كل أحد يدعي العلم ويأنف أشد أنفة من النسبة إلى الجهل قال : {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم من ذوي العلم فأنتم تعرفون صحة ما دعوتكم إليه مما يقتضي الإدبار عنه أو الإقبال عليه ،
فإذا تحققتم ذلك فامتثلوه فإنه يقبح على العلم بقبح الشيء الإصرار عليه وإلا فبينوا أنه ليس بخير وإلا فأنتم من أهل الاعوجاج بالجهل تقومون بالحرب والضرب والطعن كالسباع الضارية والذئاب العاوية.
وقال الحرالي : فأعلم سبحانه وتعالى أن من وضع كيانه للعلم فكان ممن يدوم علمه ؟ تنبه لأن خير الترك خير من خير الأخذ فأحسن بترك جميعه - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 542}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} مع قوله : {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الديْن على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه.(10/73)
ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الديْن مع الإمكان كان ظالماً ؛ فإن الله تعالى يقول : {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [ البقرة : 279 ] فجعل له المطالبة برأس ماله.
فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 371}
فصل
قال الفخر :
قال النحويون {كَانَ} كلمة تستعمل على وجوه أحدها : أن تكون بمنزلة حدث ووقع ، وذلك في قوله : قد كان الأمر ، أي وجد ، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر والثاني : أن يخلع منه معنى الحدث ، فتبقى الكلمة مجردة للزمان ، وحينئذ يحتاج إلى الخبر ، وذلك كقوله : كان زيد ذاهباً.(10/74)
واعلم أني حين كنت مقيماً بخوارزم ، وكان هناك جمع من أكابر الأدباء ، أوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب فقلت : إنكم تقولون إن {كَانَ} إذا كانت ناقصة إنها تكون فعلاً وهذا محال ، لأن الفعل ما دلّ على اقتران حدث بزمان ، فقولك {كَانَ} يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي ، وإذا أفاد هذا المعنى كانت تامة لا ناقصة ، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً كانت تامة لا ناقصة ، وإن لم تكن تامة لم تكن فعلاً ألبتة بل كانت حرفاً ، وأنتم تنكرون ذلك ، فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً ، وصنفوا في الجواب عنه كتباً ، وما أفلحوا فيه ثم انكشف لي فيه سر أذكره هاهنا وهو أن كان لا معنى له إلا حدث ووقع ووجد ، إلا أن قولك وجد وحدث على قسمين أحدها : أن يكون المعنى : وجد وحدث الشيء كقولك : وجد الجوهر وحدث العرض والثاني : أن يكون المعنى : وجد وحدث موصوفية الشيء بالشيء ، فإذا قلت : كان زيد عالماً فمعناه حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم ، والقسم الأول هو المسمى بكان التامة والقسم الثاني هو المسمى بالناقصة ، وفي الحقيقة فالمفهوم من {كَانَ} في الموضعين هو الحدوث والوقوع ، إلا أن في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه ، فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً ، والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر ، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً ، بل لا بد فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر ، وهذا من لطائف الأبحاث ، فأما إن قلنا إنه فعل كان دالاً على وقوع المصدر في الزمان الماضي ، فحينئذ تكون تامة لا ناقصة ، وإن قلنا : إنه ليس بفعل بل حرف فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل والأمر ، وجميع خواص الأفعال ، وإذا حمل الأمر على ما قلناه تبين أنه فعل وزال الإشكال بالكلية.
المفهوم الثالث : لكان يكون بمعنى صار ، وأنشدوا :
بتيهاء قفر والمطي كأنها.. قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها(10/75)
وعندي أن هذا اللفظ هاهنا محمول على ما ذكرناه ، فإن معنى صار أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك ، فيكون هنا بمعنى حدث ووقع ، إلا أنه حدوث مخصوص ، وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى.
المفهوم الرابع : أن تكون زائدة وأنشدوا :
سراة بني أبي بكر تسامى.. على كان المسومة الجياد
إذا عرفت هذه القاعدة فلنرجع إلى التفسير فنقول : في {كَانَ} في هذه الآية وجهان الأول : أنها بمعنى وقع وحدث ، والمعنى : وإن وجد ذو عسرة ، ونظيره قوله {إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً} بالرفع على معنى : وإن وقعت تجارة حاضرة ، ومقصود الآية إنما يصح على هذا اللفظ وذلك لأنه لو قيل : وإن كان ذا عسرة لكان المعنى : وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة ، فتكون النظرة مقصورة عليه ، وليس الأمر كذلك ، لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة الثاني : أنها ناقصة على حذف الخبر ، تقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم ، وقرأ عثمان {ذَا عُسْرَةٍ} والتقدير : إن كان الغريم ذا عسرة ، وقريء ( وَمَن كَانَ ذَا عُسْرَةٍ ). أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 88 ـ 89}
قوله تعالى : {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}
قال الفخر :
في الآية حذف ، والتقدير : فالحكم أو فالأمر نظرة ، أو فالذي تعاملونه نظرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 89}
فصل
قال الفخر :
نظرة أي تأخير ، والنظرة الاسم من الإنظار ، وهو الإمهال ، تقول : بعته الشيء بنظرة وبإنظار ، قال تعالى : {قَالَ رَبّ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [ الحجر : 36 ، 37 ، 38 ].(10/76)
وقرىء {فَنَظِرَةٌ} بسكون الظاء ، وقرأ عطاء ( فناظره ) أي فصاحب الحق أي منتظره ، أو صاحب نظرته ، على طريق النسب ، كقولهم : مكان عاشب وباقل ، أي ذو عشب وذو بقل ، وعنه فناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة إلى الميسرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 89}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن حكم الإنظار مختص بالربا أو عام في الكل ، فقال ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم : الآية في الربا ، وذكر عن شريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل : إنه معسر ، فقال شريح : إنما ذلك في الربا ، والله تعالى قال في كتابه {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا} [ النساء : 58 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 90}
وقال القرطبى :
قال المهدوِيّ وقال بعض العلماء : هذه الآية ناسخةٌ لما كان في الجاهلية من بيع مَنْ أعْسَر.
وحكى مكيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام.
قال ابن عطية : فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نَسْخٌ وإلاَّ فليس بنسخ.
قال الطحاويّ : كان الحر يُباع في الديْن أوّل الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال جلّ وعزّ : {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}.
واحتجوا بحديث رواه الدّارقطنيّ من حديث مسلم بن خالد الزنجيّ أخبرنا زيد بن أسلم عن ابن البَيْلَمَانِيّ عن سُرَّق قال : كان لرجل عليّ مالٌ أو قال ديْنٌ فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يِصب لي مالاً فباعني منه ، أو باعني له.
أخرجه البَزّار بهذا الإسناد أطول منه.
ومسلم بن خالد الزنجي وعبد الرحمن بن البيلماني لا يحتج بهما.
وقال جماعة من أهل العلم : قوله تعالى : {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} عامّةٌ في جميع الناس ، فكل من أعسر أنْظِر ؛ وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء.
قال النحاس : وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم.(10/77)
قال : هي لِكل مُعْسِرٍ يُنْظَر في الرّبا والديْن كله.
فهذا قول يجمع الأقوال ؛ لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه ، ولأنّ القراءة بالرفع بمعنًى وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين.
ولو كان في الربا خاصة لكان النصب الوجه ، بمعنى وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة.
وقال ابن عباس وشريح : ذلك في الربا خاصةً ؛ فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نَظِرَةٌ بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يُوفِّيَه ؛ وهو قول إبراهيم.
واحتجوا بقول الله تعالى : {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [ النساء : 58 ] الآية.
قال ابن عطية : فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقرٌ مُدْقِع ، وأما مع العُدْم والفقر الصرِيح فالحكم هو النظِرة ضرورة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 371 ـ 342}
فصل في سبب نزول الآية
قال الفخر :
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى : {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} قالت الإخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا : بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ، فرضوا برأس المال وطلبوا بني المغيرة بذلك ، فشكا بنو المغيرة العسرة ، وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروهم ، فأنزل الله تعالى : {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}.(10/78)
القول الثاني : وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين : إنها عامة في كل دين ، واحتجوا بما ذكرنا من أنه تعالى قال : {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} ولم يقل : وإن كان ذا عسرة ، ليكون الحكم عاماً في كل المفسرين ، قال القاضي : والقول الأول أرجح ، لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} من غير بخس ولا نقص ، ثم قال في هذه الآية : وإن كان من عليه المال معسراً وجب إنظاره إلى وقت القدرة ، لأن النظرة يراد بها التأخر ، فلا بد من حق تقدم ذكره حتى يلزم التأخر ، بل لما ثبت وجوب الإنظار في هذه بحكم النص ، ثبت وجوبه في سائر الصور ضرورة الاشتراك في المعنى ، وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به ، وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 90}
فصل
قال الفخر :
إذا علم الإنسان أن غريمه معسر حرم عليه حبسه ، وأن يطالبه بما له عليه ، فوجب الإنظار إلى وقت اليسار ، فأما إن كانت له ريبة في إعساره فيجوز له أن يحبسه إلى وقت ظهور الإعسار ، واعلم أنه إذا ادعى الإعسار وكذبه الغريم ، فهذا الدين الذي لزمه إما أن يكون عن عوض حصل له كالبيع والقرض ، أو لا يكون كذلك ، وفي القسم الأول لا بد من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك ، وفي القسم الثاني وهو أن يثبت الدين عليه لا بعوض ، مثل إتلاف أو صداق أو ضمان ، كان القول قوله وعلى الغرماء البينة لأن الأصل هو الفقر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 90}
قوله تعالى : {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}
فصل
قال الفخر :
في التصدق قولان الأول : معناه : وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين إذ لا يصح التصدق به على غيره ، وإنما جاز هذا الحذف للعلم به ، لأنه قد جرى ذكر المعسر وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما ، وهو كقوله {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} [ البقرة : 237 ](10/79)
والثاني : أن المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام " لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة " وهذا القول ضعيف ، لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى ، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة جديدة ، ولأن قوله {خَيْرٌ لَّكُمْ} لا يليق بالواجب بل بالمندوب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 91}
قال القرطبى :
ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعُسِر وجعل ذلك خيراً من إنْظاره ؛ قاله السدي وابن زيد والضحاك.
وقال الطبريّ : وقال آخرون : معنى الآية وأن تصدّقوا على الغنِيّ والفقير خير لكم.
والصحيح الأوّل ، وليس في الآية مَدْخل للغنِيّ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 374}
سؤال : ما المراد بالخير فى الآية ؟
الجواب : المراد بالخير حصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 91}
سؤال : فإن قيل : إنظار المعسر فرض بالنص والتصدق عليه تطوع ، فكيف قال : {وأن تصدقوا خير لكم} ؟
قلنا : كل تطوع كان محصلا للمقصود من الفرض بوصف الزيادة كان أفضل من الفرض ؛ كما أن الزهد فى الحرام فرض وفى الحلال تطوع ، والزهد فى الحلال أفضل لما بينا كذلك هنا. أ هـ {تفسير الرازى لمحمد بن أبى بكر الرازى صـ 48 ـ 49}
قوله تعالى : {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
قال الفخر :
فيه وجوه الأول : معناه إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم إن عملتموه ، فجعل العمل من لوازم العلم ، وفيه تهديد شديد على العصاة
والثاني : إن كنتم تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض
والثالث : إن كنتم تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 91}
فصل
قال القرطبى : (10/80)
روى أبو جعفر الطحاوي عن بُريْدة بن الحُصَيْب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " "من أنظر معسراً كان له بكل يوم صدقة" ثم قلت : بكل يوم مثله صدقة ؛ قال فقال "بكل يوم صدقة مالم يحِل الدّيْن فإذا أنْظَره بعد الحِل فله بكل يوم مثله صدقة" " وروى مسلم عن أبي مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حوسِب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلاَّ أنه كان يخالط الناس وكان موسِراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسِر قال قال الله عزّ وجلّ نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه " وروي عن أبي قتادة أنه طلب غِريماً له فتوارى عنه ثم وجده فقال : إني معسِر.
فقال : آلله ؟ قال : أللَّهِ.
قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سره أن ينجِيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسِرٍ أو يضع عنه " ، وفي حديث أبي اليَسَر الطويلِ واسمه كعب بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أنظر معسِراً أو وضع عنه أظلَّه الله في ظِلِّه " ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها.
وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علِم عسرة ( غريمه ) أو ظنها حرمتّ عليه مطالبتُه ، وإن لم تثبت عُسْرته عند الحاكم.
وإنْظار المعسِر تأخيره إلى أن يُوسِر.
والوضع عند إسقاط الدين عن ذمته.
وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له : إن وجدت قضاء فاقضِ وإلاَّ فأنت في حِل. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 374 ـ 375}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إذا تقرر عند القاضي إفلاس المحبوس فلا تحل له استدامة حَبْسه ، وإن ظهرت لذي الحق حجة المفلس فذلك مرتهن بحق خصمه ، ولكنه في إمهال وإنظار. والرب لا يحكم بهذا علينا ؛ فمع علمه بإعسارنا وعجزنا ، وصدق افتقارنا إليه وانقطاعنا له - يرحمنا.(10/81)
قوله : {إِلَى مَيْسَرَةٍ}. ليس للفقير المفلس وجه يحصل له منه شيء إلا من حيث ما جعل الله سبحانه من سهم الغارمين ، فأمَّا من جهة الغلات فالغلة تدخل من رقاب الأموال والعقد.. وأنَّى للمفلس به ؟!
وأمَّا الربح في التجارة من تقليب رأس المال والتصرُّف فيه.. فأنَّى للمفلس به ؟!
أما المفلس عن قوته - كما هو مفلس عن ماله - ما بقي له وجه إلا ما يسبب له مولاه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 212}. بتصرف يسير.
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ . . .}.
قال ابن عرفة : تقرر من كلام الإمام عياض في كتاب الوصايا من الإكمال في حديث سعد بن أبي وقاص أن قولك : زيد ذو مال أبلغ من قولك : زيد له مال ، ونحوه للزمخشري في أول سورة آل عمران في قوله : {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} وفي سورة غافر : {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} ونحوه لابن الخطيب في سورة الروم في قوله {فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} وخالفهم الشيخ ( ابن عطية ) فقال في سورة الرعد في قوله {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} ( إنها ) دالة على تغليب جانب الخوف على جانب الرجاء لأن قولك ذو مغفرة مقتض لتقليل المغفرة.(10/82)
قال ابن عرفة : وقال بعضهم قولك : زيد صاحب مال ، أبلغ من : ذو مال ، لأن ذو مال إنما يقتضي مطلق النسبة سواء اتّصف به أم لا ، بخلاف قولك : صاحب ، فإذا بنينا على كلام الجماعة الصحيح فإنما قال " ذُو عُسْرَة " ولم يقل : وإن كان معسرا ، إشارة لما ( تقرر ) في الفقه من أنّ من له دار وخادم وفرس لا فضل في ثمنهن على ما سواهن يجوز له أخذ الزكاة ويسمى فقيرا ، مع أنه إذا كان عليه دين يباع عليه داره وخادمه في دينه فليس مجرد الإعسار موجبا لإنظاره ( بالدين ، فإنّ ) الموجب لذلك الإعسار ( البين الكثير ) فناسب إدخال ( ذو ).
قال ابن عطية : و( كان ) هنا عند سيبويه تامة بمعنى وجد وحدث.
ومن هنا يظهر أنّ الأصل الغنى لأن إدخال " إن " يدل على أنّ الإعسار لم يكن موجودا.
ورده ابن عرفة بأن ذلك ( في ) الدّين الذي كان ( عن ) عوض يقول فيه : الأصل المَلاَء ، واستصحاب الحال ببقاء ذلك العوض وذهابه على خلاف الأصل ، وأما الدين الذي لا عن عوض كنفقة الزوجات والبنين والأبوين فليس الأصل فيه المَلاَءُ.
ابن عطية : حكى المهدوي عن بعضهم أن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين.
وحكى مكي : أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام.
ابن عطية : فإن ( قلنا ) : فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ وإلاّ فليس نسخا.
قال ابن عرفة : يريد أنه على الأول يكون نسخا لغويا وعلى الثاني يكون نسخا في اصطلاح الأصوليين.
قال : وهنا أورد القرافي ( في قواعده ) سؤالا قال : ثواب الواجب أعظم من ثواب المندوب مع أن تأخير الغريم بالدّين واجب والتصدق عليه مندوب والآية نص في أنّ التصدق عليه أفضل ، ثم أجاب التصدق به يستلزم التأخير وزيادة. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 359}.(10/83)
فصل
قال ابن كثير :
قوله : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء ، فقال : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة } [أي] : لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي.
ثم يندب إلى الوضع عنه ، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل ، فقال : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين. وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بذلك :
فالحديث الأول : عن أبي أمامة أسعد بن زرارة [النقيب] ، قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني حدثنا يحيى بن حكيم المقوم ، حدثنا محمد بن بكر البرساني ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثني عاصم بن عبيد الله ، عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله ، فَلْيُيَسِّر على معسر أو ليضع عنه". { المعجم الكبير (1/304) وقال الهيثمي في المجمع (4/134) : "عاصم ضعيف ولم يدرك أسعد بن زرارة"}.
حديث آخر : عن بريدة ، قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا محمد بن جحادة ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة ". قال : ثم سمعته يقول : "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثلاه صدقة". قلت : سمعتك -يا رسول الله -تقول : "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة". ثم سمعتك تقول : "من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة" ؟! قال : "له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين ، فإذا حل الدين فأنظره ، فله بكل يوم مثلاه صدقة". { المسند (5/360)}.(10/84)
حديث آخر : عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري ، قال [الإمام] أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا أبو جعفر الخطمي ، عن محمد بن كعب القرظي : أن أبا قتادة كان له دين على رجل ، وكان يأتيه يتقاضاه ، فيختبئ منه ، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه ، فقال : نعم ، هو في البيت يأكل خزيرة فناداه : يا فلان ، اخرج ، فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه ، فقال : ما يغيبك عني ؟ فقال : إني معسر ، وليس عندي. قال : آلله إنك معسر ؟ قال : نعم. فبكى أبو قتادة ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من نفس عن غريمه -أو محا عنه -كان في ظل العرش يوم القيامة". ورواه مسلم في صحيحه. { (5) المسند (5/308) ولم أقع عليه في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة ، والله أعلم}.
حديث آخر : عن حذيفة بن اليمان ، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا الأخنس أحمد بن عمران حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا أبو مالك الأشجعي ، عن رِبْعي بن حراش ، عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة ، قال : ماذا عملت لي في الدنيا ؟ فقال : ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ، قالها ثلاث مرات ، قال العبد عند آخرها : يا رب ، إنك أعطيتني فضل مال ، وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز ، فكنت أيسر على الموسر ، وأنظر المعسر. قال : فيقول الله ، عز وجل : أنا أحق من ييسر ، ادخل الجنة".
وقد أخرجه البخاري ، ومسلم ، وابن ماجه -من طرق -عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة. زاد مسلم : وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. { (8) صحيح البخاري برقم (2391 ، 2707 ، 3451) وصحيح مسلم برقم (1560)}.
بنحوه. ولفظ البخاري.(10/85)
حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا الزهري ، عن عبد الله بن عبد الله أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كان تاجر يداين الناس ، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه ، لعل الله يتجاوز عنا ، فتجاوز الله عنه".
حديث آخر : عن سهل بن حنيف ، قال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ، حدثنا عمرو بن ثابت ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن عبد الله بن سهل بن حنيف ، أن سهلا حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أعان مجاهدًا في سبيل الله أو غازيا ، أو غارما في عسرته ، أو مكاتبًا في رقبته ، أظله الله يوم لا ظل إلا ظله" ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. { المستدرك (2/217) ، وتعقبه الذهبي في التلخيص. قلت : "بل فيه عمرو بن ثابت وهو رافضي متروك"}.
حديث آخر : عن عبد الله بن عمر ، قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، عن يوسف بن صهيب ، عن زيد العمي ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أراد أن تستجاب دعوته ، وأن تكشف كربته ، فليفرج عن معسر" ، انفرد به أحمد. { المسند (2/23)}.
حديث آخر : عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ، قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا أبو مالك ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة ، أن رجلا أتى به الله عز وجل ، فقال : ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال له الرجل : ما عملت مثقال ذرة من خير أرجوك بها ، فقالها له ثلاثا ، وقال في الثالثة : أي رب كنت أعطيتني فضلا من المال في الدنيا ، فكنت أبايع الناس ، فكنت أتيسر على الموسر ، وأنظر المعسر. فقال تبارك وتعالى نحن أولى بذلك منك ، تجاوزوا عن عبدي. فغفر له. قال أبو مسعود : هكذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به. { المسند (4/118) وصحيح مسلم برقم (1560)}.(10/86)
حديث آخر : عن عمران بن حصين ، قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا أبو بكر ، عن الأعمش ، عن أبي داود ، عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة". { المسند (4/442)}.
غريب من هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه.
حديث آخر : عن أبي اليسر كعب بن عمرو ، قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي ، قال : حدثني أبو اليسر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله ، عز وجل ، في ظله يوم لا ظل إلا ظله". { المسند (3/427)}.(10/87)
وقد أخرجه مسلم في صحيحه من وجه آخر ، من حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا ، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه غلام له معه ضمامة من صحف ، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري ، وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي : يا عم ، إني أرى في وجهك سفعة من غضب ؟ قال أجل ، كان لي على فلان بن فلان الحرامي مال ، فأتيت أهله فسلمت ، فقلت : أثم هو ؟ قالوا : لا فخرج علي ابن له جفر فقلت : أين أبوك ؟ فقال : سمع صوتك فدخل أريكة أمي. فقلت : اخرج إلي فقد علمت أين أنت ؟ فخرج ، فقلت : ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال : أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك ؛ خشيت - والله - أن أحدثك فأكذبك ، وأن أعدك فأخلفك ، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت -الله -معسرًا قال : قلت : آلله ؟ قال : قلتُ : آلله ، قال : اللهِ. قلتُ : آلله ؟ قال : الله. قال : فأتى بصحيفته فمحاها بيده ، ثم قال : فإن وجدت قضاء فاقضني ، وإلا فأنت في حل ، فأشهد بصر عيني -ووضع أصبعيه على عينيه -وسمع أذني هاتين ، ووعاه قلبي -وأشار إلى مناط قلبه -رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : "من أنظر معسرًا ، أو وضع عنه أظله الله في ظله". وذكر تمام الحديث.{ صحيح مسلم برقم (306)}.
حديث آخر : عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، قال عبد الله بن الإمام أحمد [في مسند أبيه] حدثني أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا الحسن بن بشر بن سلم الكوفي ، حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري ، عن هشام بن زياد القرشي ، عن أبيه ، عن محجن مولى عثمان ، عن عثمان ، قال : سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : "أظل الله عينا في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله من أنظر معسرًا ، أو ترك لغارم". { زوائد المسند (1/73)}.(10/88)
حديث آخر : عن ابن عباس ، قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني ، عن مقاتل بن حيان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، وهو يقول بيده هكذا - وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض - : "من أنظر معسرًا أو وضع له ، وقاه الله من فيح جهنم ، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة -ثلاثًا -ألا إن عمل النار سهل بسهوة ، والسعيد من وقي الفتن ، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا" تفرد به أحمد. { المسند (1/327)}.
طريق أخرى : قال الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد البُورَاني قاضي الحَدِيَثة من ديار ربيعة ، حدثنا الحُسَين بن علي الصُّدَائي ، حدثنا الحكم بن الجارود ، حدثنا ابن أبي المتئد - خال ابن عيينة -عن أبيه ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أنظر معسرًا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته". { المعجم الكبير (11/151) ، وقال الهيثمي في المجمع (4/135) : "وفيه الحكم بن جارود ضعفه الأزدي ، وشيخ الحكم وشيخ شيخه لم أعرفهما"}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 717 ـ 720}(10/89)
بحث نفيس فى مراحل تحريم الربا
لقد تناول القرآن الحديث عن الربا في أربعة مواضع وكان أول موضع منها وحيَاً مكياً والثلاثة الباقية مدنياً وها هي حسب ترتيب النزول :
الأول : بقول الله تعالى في سورة الروم المكية : ((وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ (39))) سورة الروم.
وفيها مقارنة بين الربا والزكاة وإيماء إلى أن الربا غير مقبول عند الله.
الثاني : في سورة النساء المدنية : ((فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (161))) سورة النساء وفي هذه الآية بيان تحريم الربا عند اليهود وهذا من شأنه أن يجعل المسلمين في موقف ترقْبٍ وانتظارٍ لنهيٍ يوجه إليهم قصداً في هذا الشأن.
الثالث : في سورة آل عمران المدنية : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131))). وهنا جاء النهي صريحاً بعد التمهيدين في الموضوعين السابقين ، ولكنه لم يكن إلا نهياً جزئياً عن الربا المتفشي بين الناس ، وبهذا النهي عن الربا الفظيع تهيئت النفوس وأصبحت مستعدة لتقبل النهي العام الشامل لكل ربا قلّ أو كثر ، وهذا ما ورد في الآيات التي ختم بها التشريع بالربا وهو الموضوع الرابع.(10/90)
الرابع : في سورة البقرة المدنية وهي قوله تعالى في الآيات 275-281 (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281))) سورة البقرة.
وقد ثبت أن هذه الآية ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) آخر ما نزل من القرآن كما في صحيح البخاري عن ابن عباس ، وكما روى ابن جرير وغيره عن سيدنا عمر وسيأتي نصه.(10/91)
وقد مال الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة إلى أن الآيات السابقة في النساء وآل عمران يحتمل نزولها مع هذه الآيات في البقرة لأنها نفّرت من الربا وصورت المرابين بأبشع صورة وأبطلت شبهاتهم التي كانوا يتعلقون بها وبذلك لم يبق لهم معذرة يتعللون بها ولا شبهة يتمسكون بها .
وأيّاً كان من احتمال نزول الآيات مقترنات أو سابقات ولاحقات فإن تحريم الربا لم يكن دفعة واحدة ، وأن الآية في تحريم الربا أضعافاً مضاعفة كانت نازلة في سياق تحريم الربا بالتدريج وللصورة الشائعة منها لا للصورة الوحيدة المتعامل بها ، وتأكيداً لذلك فإن المفسرين أشاروا إلى أن غالب ما كان يُتعامل به من الربا أن الرجل في الجاهلية كان إذا داين إنساناً وحلّ أجل دينه قال له إما أن تقضي وإما أن تزيدني في المال وأزيدك في الأجل ، يقول الشوكاني في تفسيره عند قوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) سورة البقرة 275.
"وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلّ أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه أتقضي أو تربي ؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه فأخّر له الأجل إلى حين وهذا حرام بالاتفاق" .(10/92)
فلاحظ قوله (وغالب ما كان تفعله الجاهلية) يدل على وجود صور أخرى للربا ولكن لم تكن شائعة ، إذن فالقول بأن العرب قبل الإسلام لم يكونوا يعرفون إلا الربا الفاحش الذي يساوي رأس المال أو يزيد عليه لا يصح إلا إذا أغضضنا نظرنا عما لا يُحصى من الشواهد التي نقلها أقدم المفسرين وأجدرهم بالثقة وقد كان الشعب العبراني الذي يعيش مع الشعب العربي في صلة دائمة منذ القدم يفهم من كلمة الربا كل زيادة على رأس المال قلّت أو كثرت وهذا هو المعنى الحقيقي والاشتقاقي للكلمة ، أما تخصيصها بالربا الفاحش هو اصطلاح حادث يعرف ذلك كل مطلع على تاريخ التشريع. {انظر حلول لمشاكل الربا صـ 31} أ هـ {وذروا ما بقى من الربا / لـ مرهف عبد الجبار سقا}(10/93)
تعليق
تأمل المنهج التربوى للقرآن فى قضية الربا التى عاش عليها العرب أزمنة عديدة كيف عالجها القرآن واستخدم مراحل متعددة لتحريمها ؟؟!!!
وفى هذا حكمة بالغة بل عين الحكمة ، فكثير من الأمراض تحتاج فى علاجها إلى عنصر الزمن وبعض الأدوية لو تعاطها المريض دفعة واحدة ربما أودت بحياته وهكذا يعلمنا القرآن الكريم الطريق الأقوم لعلاج الأمراض التى تفشت فى المجتمع وتأصلت فيه كيف نتعالجها
فالقرآن يقول {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة}وفيه توطئة لتحريم الربا بكل صوره لتتأهب النفوس المؤمنة لتركه بالكلية فينزل بعد ذلك {اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا}
مع التحريض بقوله تعالى {إن كنتم مؤمنين}
ثم بعد ذلك ينقلنا القرآن من الطمع والجشع وأكل أموال الناس بالباطل وإرهاق الضعفاء منهم بديون الربا إلى أمر جليل لم تعهده البشرية إلا فى الإسلام فينزل بعد ذلك قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} أمر يفرض إنظار المعسر وعدم تحميله ما لا يطيق ثم يرتقى القرآن بالنفس البشرية التى تعودت الأخذ دون العطاء يسمو بها القرآن لتعطى وتتصدق وتتنازل عن حقها فيقول تعالى {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
انظر وتأمل كيف انتقل القرآن بالنفس البشرية ـ الشحيحة ـ من أخذ الربا أضعافا مضاعفة إلى ترك الكثير المرهق منه للفقراء وضعاف الناس ثم ينتقل بها مرة أخرى إلى ترك جميع الربا ما قل منه أو كثر ثم يعلو بها إلى أسمى معانى الإنسانية والنبل فينقلها من أخذ إلى عطاء ومن طمع إلى قناعة ومن ظلم وجور إلى عدل وفضل ومن قسوة إلى رحمة ومن موت إلى حياة ومن الملك إلى الملكوت
وفى هذا درس بل دروس وعبر لتعليم الأمة خصوصا ـ أهل العلم والدعاة إلى الله تعالى ـ أهمية استخدام التدرج فى العوة إلى الله فهذا ما صنعه القرآن فى علاجه للأمراض المستعصية والمزمنة كالربا والخمر
والتأمل فى القرآن يجد أنه نزل منجما ـ مفرقا ـ فى ثلاثة وعشرين عاما ليربى أمة تقود العالم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بخلافالأمم السابقة كاليهود والنصارى فقد نزلت التوراة وكذلك الإنجيل جملة واحدة فما استطاع اليهود ولا النصارى العمل بما فى كتابهم فعمدوا إلى الكتم تارة وإلى التحريف فى المبانى والمعانى تارة أخرى
فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة
{إن فى ذلك لآية فهل من مدكر}والله أعلم.(10/94)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } : في " كان " هذه وجهان :
أحدهما : - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حدث ، ووجد ، أي : وإن حدث ذو عسرةٍ ، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال ، قيل : وأكثر ما تكون كذلك إذا كان مرفوعها نكرةٌ ، نحو : " قد كان مِنْ مَطَرٍ ".
والثاني : أنها الناقصة والخبر محذوفٌ. قال أبو البقاء : " تقديره : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حقٌّ ، أو نحو ذلك " وهذا مذهب بعض الكوفيين في الآية ، وقدَّر الخبر : وإن كان من غرمائكم ذو عسرةٍ. وقدَّره بعضهم : وإن كان ذو عسرةٍ غريماً.
قال أبو حيَّان : " وَحَذْفُ خبرِ كَانَ لا يجيزه أصحابنا؛ لا اختصاراً؛ ولا اقتصاراً ، لعلَّةٍ ذكروها في كتبهم. وهي أنَّ الخبر تأكّد طلبه من وجهين :
أحدهما : كونه خبراً عن مخبر عنه.
والثاني : كونه معمولاً للفعل قبله ، فلما تأكدت مطلوبيته ، امتنع حذفه.
فإن قيل : أليس أن البصريين لمَّا استدلَّ عليهم الكوفيون في أنَّ " ليس " تكون عاطفةً بقوله : [ الرمل ]
.......................... إِنَّمَا يَجْزِي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ
تأوَّلُوهَا على حَذْفِ الخَبَرِ؛ وأَنْشدوا شَاهِداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه : [ الكامل ]
........................... يَبْغِي جِوَارَكِ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ
وإذا ثبت هذا ، ثبت في سائر الباب.
فالجواب أن هذا مختصٌّ بليس؛ لأنها تشبه لا النافية ، و" لا " يجوز حذف خبرها ، فكذا ما أشبهها ".
وتقوَّى الكوفيُّون بقراءة عبد الله ، وأُبيّ؛ وعثمان : " وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ " أي : وإن كان الغريم ذا عُسْرَةٍ. قال أبو عليّ : في " كان " اسمها ضميراً تقديره : هو ، أي : الغريم ، يدلُّ على إضماره ما تقدَّم من الكلام؛ لأنَّ المرابي لا بدَّ له ممَّن يرابيه.
(10/95)
وقرأ الأعمش : " وإِنْ كان مُعْسِراً " قال الدَّاني ، عن أحمد بن موسى : " إنها في مُصْحَفِ عبد الله كذلك ".
ولكنَّ الجمهور على ترجيح قراءة العامة وتخريجهم القراءة المشهورة. قال مكي : وَإِنْ وقع ذُو عُسْرَةٍ ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس ، ولو نصبت " ذا " على خبر " كان " ، لصار مخصوصاً في ناس بأعيانهم؛ فلهذه العلة أجمع القرَّاء المشهورون على رفع " ذو ".
وقد أوضح الواحديُّ هذا ، فقال : " أي : وإنْ وقع ذو عسرةٍ ، والمعنى على هذا يصحُّ ، وذلك أنه لو نصب ، فقيل : وإن كان ذا عسرة ، لكان المعنى : وإن كان المشتري ذا عُسْرةٍ ، فنظرةٌ؛ فتكون النظرة مقصورةً عليه ، وليس الأمر كذلك؛ لأن المشتري ، وغيره إذا كان ذا عسرةٍ ، فله النظرة إلى الميسرة ".
وقال أبو حيَّان : مَنْ نصب " ذَا عُسْرَةٍ " ، أو قرأ " مُعْسِراً " فقيل : يختصُّ بأهل الرِّبا ، ومن رفع ، فهو عامٌّ في جميع من عليه دينٌ ، قال : " وليس بلازمٍ ، لأنَّ الآية إنما سِيقَتْ في أهل الربا ، وفيهم نزلت " قال شهاب الدين : وهذا الجواب لا يجدي؛ لأنه وإن كان السياق كذا ، فالحكم ليس خاصاً بهم.
وقرئ " وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ " ، وقرأ أبو جعفرٍ " عُسْرَةٍ " بضم السين.
(10/96)
قوله : { وَأَن تَصَدَّقُواْ } مبتدأ وخبره " خير " وقرأ عاصم : بتخفيف الصاد ، والباقون : بتثقيلها. وأصل القراءتين واحدٌ؛ إذ الأصل : تتصدَّقوا ، فحذف عاصمٌ إحدى التاءين : إمَّا الأولى ، وإمَّا الثانية ، وتقدَّم تحقيق الخلاف فيه ، وغيره أدغم التاء في الصاد ، وبهذا الأصل قرأ عبد الله : " تَتَصَدَّقوا ". وحذف مفعول التصدُّق للعلم به ، أي : بالإنظار؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لاَ يَحِلُّ دَيْنُ رَجلٍ مُسْلم ، فيؤخره؛ إلاَّ كان له بِكُلِّ يَوْمٍ صدقةٌ " وهذا ضعيفٌ؛ لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية ، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدةٍ جديدةٍ ، ولأن قوله " خَيْرٌ لكُمْ " إنما يليق بالمندوب ، لا بالواجب. وقيل : برأس المال على الغريم ، إذ لا يصحُّ التصدق به على غيره؛ كقوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ].
قوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جوابه محذوفٌ ، و" اَنْ تَصَدَّقُوا " بتأويل مصدرٍ مبتدأ ، و" خيرٌ لكم " خبره.
فصل في تقدير مفعول " تعلمون " ونصب " يوماً "
وتقدير مفعول " تَعْلَمُونَ " فيه وجوه :
أحدها : إن كنتم تعلمون أنَّ هذا التصدُّق خير لكم إن عملتموه.
الثاني : إن كنتم تعلمون فضل التصدُّق على الإنظار والقبض.
الثالث : إن كنتم تعلمون أنَّ ما يأمركم به ربُّكم أصلح لكم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 465 ـ 472}. بتصرف.(10/97)
بحث نفيس يقتضيه المقام لحجة الإسلام الغزالى
فى بيان دقائق الآداب الباطنة في الزكاة
قال عليه الرحمة :
اعلم أن على مريد طريق الآخرة بزكاته وظائف
الوظيفة الأولى فهم وجوب الزكاة ومعناها ووجه الامتحان فيها وأنها لم جعلت من مباني الإسلام مع أنها تصرف مالي وليست من عبادة الأبدان وفيه ثلاث معان
الأول أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد وشهادة بإفراد المعبود وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد فإن المحبة لا تقبل الشركة والتوحيد باللسان قليل الجدوى وإنما يمتحن به درجة المحب بمفارقة المحبوب والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت مع أن فيه لقاء المحبوب فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم ولذلك قال الله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} وذلك بالجهاد وهو مسامحة بالمهجة شوقا إلى لقاء الله عز وجل والمسامحة بالمال أهون
ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام
قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم فلم يدخروا دينارا ولا درهما فأبوا أن يتعرضوا لوجوب الزكاة عليهم حتى قيل لبعضهم كم يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال أما على العوام بحكم الشرع فخمسة دراهم وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع ولهذا تصدق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله وعمر رضي الله عنه بشطر ماله فقال صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك فقال مثله وقال لأبي بكر رضي الله عنه ما أبقيت لأهلك قال الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم بينكما ما بين كلمتيكما // حديث جاء أبو بكر بجميع ماله وعمر بشطر ماله الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه من حديث ابن عمر وليس فيه قوله بينكما ما بين كلمتيكما // فالصديق وفى بتمام الصدق فلم يمسك سوى المحبوب عنده وهو الله ورسوله(10/98)
القسم الثاني درجتهم دون درجة هذا وهم الممسكون أموالهم المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة
وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقا سوى الزكاة كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد قال الشعبي بعد أن قيل له هل في المال حق سوى الزكاة قال نعم أما سمعت قوله عز وجل {وآتى المال على حبه ذوي القربى} الآية
واستدلوا بقوله عز وجل {ومما رزقناهم ينفقون} وبقوله تعالى {وأنفقوا مما رزقناكم}وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة بل هو داخل في حق المسلم على المسلم ومعناه أنه يجب على الموسر مهما وجد محتاجا أن يزيل حاجته فضلا عن مال الزكاة والذي يصح في الفقه من هذا الباب أنه مهما أرهقته حاجته كانت إزالتها فرض كفاية إذ لا يجوز تضييع مسلم ولكن يحتمل أن يقال ليس على الموسر إلا تسليم ما يزيل الحاجة فرضا ولا يلزمه بذله بعد أن أسقط الزكاة عن نفسه ويحتمل أن يقال يلزمه بذله في الحال ولا يجوز له الاقتراض أي لا يجوز له تكليف الفقير قبول القرض وهذا مختلف فيه والاقتراض نزول إلى الدرجة الأخيرة من درجات العوام وهي درجة القسم الثالث الذين يقتصرون على أداء الواجب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون عنه وهي أقل الرتب وقد اقتصر جميع العوام عليه لبخلهم بالمال وميلهم إليه وضعف حبهم للآخرة قال الله تعالى {إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا} يحفكم أي يستقص عليكم فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة وبين عبد لا يستقصى عليه لبخله فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عبادة ببذل الأموال
المعنى الثاني التطهير من صفة البخل فإنه من المهلكات قال صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه // حديث ثلاث مهلكات الحديث تقدم //(10/99)
وقال تعالى {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وسيأتي في ربع المهلكات وجه كونه مهلكا وكيفية التقصي منه وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير ذلك اعتيادا فالزكاة بهذا المعنى طهرة أي تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك وإنما طهارته بقدر بذله وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى
المعنى الثالث شكر النعمة فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن والمالية شكر لنعمة المال وما أخس من ينظر إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق وأحوج إليه ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله. أ هـ {الإحياء حـ 1 صـ 213 ـ 214}(10/100)
قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان من المعلوم أنه لا يدفعه حجة كان التقدير : فامتثلوا ما أمرتم به واجتنبوا ما نهيتم عنه ،
فعطف عليه تخويفاً من يوم العرض عليه والمجازاة بين يديه فقال - وقال الحرالي : لما أنهي الخطاب بأمر الدين وعلنه وأمر الآخرة على وجوهها وإظهار حكمتها المرتبطة بأمر الدنيا وبين أمر الإنفاق والربا الذي هو غاية أمر الدين والدنيا في صلاحهما وأنهى ذلك إلى الموعظة بموعود جزائه في الدنيا والآخرة أجمل الموعظة بتقوى يوم الرجعة إلى إحاطة أمره ليقع الختم بأجمل موعظة وأشملها ليكون انتهاء الخطاب على ترهيب الأنفس لتجتمع عزائمها على ما هو ملاك أمرها من قبول صلاح دينها ودنياها ومعادها من خطاب الله سبحانه وتعالى لها فختم ذلك بكمال معناه بهذه الآية كما أنها هي الآية التي ختم بها التنزيل أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هو في الشكاية وهي آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مقابلة {اقرأ باسم ربك} [ العلق : 1 ] الذي هو أول منزل النبوة و{يا أيها المدثر} [ المدثر : 1 ] الذي هو أول منزل الرسالة فكان أول الأمر نذارة وآخره موعظة تبعث النفس على الخوف وتبعث القلب على الشوق من معنى ما انختم به أمر خطاب الله سبحانه وتعالى في آية {مالك يوم الدين} [ الفاتحة : 4 ] انتهى - فقال تعالى : {واتقوا يوماً} أي في غاية العظم {ترجعون فيه} حساً بذواتكم كما أنتم في الدنيا ومعنى بجميع أموركم رجوعاً ظاهراً لا يحجبه شيء من الأسباب ولا يحول دونه عارض ارتياب {إلى الله} الذي لا يحصر عظمته وصف ولا يحيط بها حد ،
فيكون حالكم بعد النقلة من الدنيا كحالكم قبل البروز إليها من البطن لا تصرف لكم أصلاً ولا متصرف فيكم إلا الله ويكون حالكم في ذلك اليوم الإعسار ،(10/101)
لأنه لا يمكن أحد أن يكافىء ما لله سبحانه وتعالى عليه من نعمه ، فمن نوقش الحساب عذب ؛ فإن كنتم تحبون المجاوزة عنكم هنالك فتجاوزوا أنتم عن إخوانكم اليوم ،
وتصدقوا ما دمتم قادرين على الصدقة ،
واتقوا النار في ذلك اليوم ولو بشق تمرة ؛ وأشار سبحانه وتعالى إلى طول وقوفهم ذلك الموقف في مقام الهيبة وتمادي حبسهم في مشهد الجلال والعظمة بأداة التراخي في قوله {ثم} قال الحرالي وقيل : " يا رسول الله! أين يكون الناس {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} [ إبراهيم : 48 ] ؟ قال : في الظلمة دون الجسر " وقال صلى الله عليه وسلم : " يقيمون في الظلمة ألف سنة " وورد عن علي رضي الله تعالى عنه في تفصيل مواقف يوم الجزاء أن الخلق يوقفون على قبورهم ألف سنة ويساقون إلى المحشر ألف سنة ،
ويوقفون في الظلمة ألف سنة ؛ ثم يكون انشقاق السماوات السبع وتبديل الأرض وما شاء الله سبحانه وتعالى من أمره انتظاراً لمجيئه ؛ ففي عبرة مقاله والله سبحانه وتعالى أعلم أن ذلك يكون ستة آلاف سنة وأنها كما بنيت في ستة أيام تهدم في ستة أيام {كما بدأنا أول خلق نعيده} [ الأنبياء : 104 ] ،
فيكون ذلك تسعة أيام ؛ ويكون مجيئه في اليوم العاشر الذي هو يوم عاشوراء ذلك اليوم الذي تكرر مجيء أمره فيه في يوم الدنيا - ثم وصف صلى الله عليه وسلم المواقف إلى منتهاها - انتهى.
ولما كان إيقاف الإنسان على كل ما عمل من سر وعلن في غاية الكراهة إليه فضلاً عن جزائه على كل شيء منه لا بالنسبة إلى موقف معين بني للمفعول قوله : {توفى} أي تعطى على سبيل الوفاء {كل نفس ما كسبت} من خير وشر.
قال الحرالي : جاء بصيغة فعل المشعر بجري العمل على غير تكلف وتحمل ، (10/102)
ففي إشعاره أنها توفى ما كسبت من الخير وما كونت له من الشر وأن ما تكلفته من الشر وفي دخلتها كراهية ربما غفر لها حيث لم تكن توفى ما كسبت وما اكتسبت كما قال في الآية التي بعدها {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [ البقرة : 286 ] فكان مكتسبها عليها وربما غفر لها فإنها وفيت ما كسبته من الشر واشتمل عليه ظاهرها وباطنها حتى يسرت له - انتهى.
ولما كانت عادة الناس أنه إذا بقي شيء يسير وقع في محل المسامحة وكان اليسير يختلف باختلاف الأصل فالألف مثلاً يتسامح فيه بمائة مثلاً بيّن أن الأمر عنده على غير ذلك فقال : {وهم لا يظلمون} شيئاً من الأشياء ولو قلّ ،
وهذا إشارة إلى العدل بين عباده قال الحرالي : وهذه الآية ختم للتنزيل وختم لتمام المعنى في هذه السورة التي هي سنام القرآن وفسطاطه وختم لكل موعظة وكل ختم ،
فهو من خواص المحمدية الجامعة المفصلة من سورة الحمد المشيرة إلى تفاصيل عظيم أمر الله في حقه وفي خلقه وفيما بينه وبين خلقه - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 543 ـ 545}
قال الفخر :
اعلم أن هذه الآية في العظماء الذين كانوا يعاملون بالربا وكانوا أصحاب ثروة وجلال وأنصار وأعوان وكان قد يجري منهم التغلب على الناس بسبب ثروتهم ، فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد وتهديد ، حتى يمتنعوا عن الرباا ، وعن أخذ أموال الناس بالباطل ، فلا جرم توعدهم الله بهذه الآية ، وخوفهم على أعظم الوجوه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 91}
فصل في آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن
قال الفخر : (10/103)
قال ابن عباس : هذه الآية آخر أية نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام ، وذلك لأنه عليه السلام لما حج نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ} [ النساء : 127 ] وهي آية الكلالة ، ثم نزل وهو واقف بعرفة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} [ المائدة : 3 ] ثم نزل {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [ البقرة : 281 ] فقال جبريل عليه السلام : يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة ، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وثمانين يوماً ، وقيل : أحداً وعشرين وقيل : سبعة أيام ، وقيل : ثلاث ساعات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 91}
وقال القرطبى :
قيل : إن هذه الآية نزلت قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء ؛ قاله ابن جُريج.
وقال ابن جبير ومقاتل : بسبع ليال.
وروي بثلاث ليال.
وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات ، وأنه عليه السَّلام قال : " اجعلوها بين آية الربا وآية الديْن " وحكى مكّي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية ".
قلت : وحكي عن أبي بن كعب وابن عباس وقتادة أن آخر ما نزل : "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ" إلى آخر الآية.
والقول الأوّل أعرف وأكثر وأصح وأشهر.
ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال : آخر ما نزل من القرآن { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } فقال جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : "يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة".
(10/104)
ذكره أبو بكر الأنباريّ في "كتاب الردّ" له ؛ وهو قول ابن عمر رضي الله عنه أنها آخر ما نزل ، وأنه عليه السَّلام عاش بعدها أحداً وعشرين يوماً ، على ما يأتي بيانه في آخر سورة { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 375}
فائدة
قال الفخر :
انتصب {يَوْماً} على المفعول به ، لا على الظرف ، لأنه ليس المعنى : واتقوا في هذا اليوم ، لكن المعنى تأهبوا للقائه بما تقدمون من العمل الصالح ، ومثله قوله {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [ المزمل : 17 ] أي كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 91}
قال القرطبى :
الآية وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان.
و "يَوْماً" منصوب على المفعول لا على الظرف.
"تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ" من نعته.
وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم ؛ مثل { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } [ الغاشية : 26 ] واعتباراً بقراءة أبيّ "يوماً تصِيرون فيه إلى الله".
والباقون بضم التاء وفتح الجيم ؛ مثل { ثُمَّ ردوا إلى الله } [ الأنعام : 28 ].
{ وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي } [ الكهف : 36 ] واعتباراً بقراءة عبد الله "يوماً تردون فِيهِ إلى اللَّهِ" وقرأ الحسن "يرجعون" بالياء ، على معنى يرجع جميع الناس.
قال ابن جِني : كأنّ الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة ، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم : "وَاتَّقُوا يَوْماً" ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رِفْقاً بهم.
وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذّر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية.
وقال قوم : هو يوم الموت.
قال ابن عطية : والأوّل أصح بحكم الألفاظ في الآية.
وفي قوله "إلَى اللَّهِ" مضاف محذوف ، تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 375}
وقال أبو حيان : (10/105)
قال الجمهور والمراد بهذا اليوم يوم القيامة ، وقال قوم : هو يوم الموت ، والأول أظهر لقوله : { ثم توفى كل نفس ما كسبت } والمعنى إلى حكم الله وفصل قضائه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 356}
فصل في المراد باليوم
قال الفخر :
قال القاضي : اليوم عبارة عن زمان مخصوص ، وذلك لا يتقي ، وإنما يتقي ما يحدث فيه من الشدة والأهوال واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلا في دار الدنيا بمجانبة المعاصي وفعل الواجبات ، فصار قوله {واتقوا يَوْمًا} يتضمن الأمر بجميع أقسام التكاليف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 91}
فصل
قال الفخر :
الرجوع إلى الله تعالى ليس ، المراد منه ما يتعلق بالمكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى ، وليس المراد منه الرجوع إلى علمه وحفظه ، فإنه معهم أينما كانوا لكن كل ما في القرآن من قوله {تُرْجَعُونَ إِلَى الله} له معنيان الأول : أن الإنسان له أحوال ثلاثة على الترتيب.
فالحالة الأولى : كونهم في بطون أمهاتهم ، ثم لا يملكون نفعهم ولا ضرهم ، بل المتصرف فيهم ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
والحالة الثانية : كونهم بعد البروز عن بطون أمهاتهم ، وهناك يكون المتكفل بإصلاح أحوالهم في أول الأمر الأبوين ، ثم بعد ذلك يتصرف بعضهم في البعض في حكم الظاهر.
والحالة الثالثة : بعد الموت وهناك لا يكون المتصرف فيهم ظاهراً في الحقيقة إلا الله سبحانه ، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا ، فهذا هو معنى الرجوع إلى الله والثاني : أن يكون المراد يرجعون إلى ما أعد الله لهم من ثواب أو عقاب ، وكلا التأويلين حسن مطابق للفظ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 92}
لطيفة
قال ابن عاشور : (10/106)
جيء بقوله : { واتقوا يوماً } تذييلاً لهاته الأحكام لأنّه صالح للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به أو ندب إليه ، لأن في ترك المنهيات سلامة من آثامها ، وفي فعل المطلوبات استكثاراً من ثوابها ، والكل يرجع إلى اتّقاء ذلك اليوم الذي تُطلب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 97}
قوله تعالى : {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ}
فصل
قال الفخر :
المراد أن كل مكلف فهو عند الرجوع إلى الله لا بد وأن يصل إليه جزاء عمله بالتمام ، كما قال : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [ الزلزلة : 7 ، 8 ] وقال : {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السموات أَوْ فِى الأرض يَأْتِ بِهَا الله} [ لقمان : 16 ] وقال : {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حاسبين} [ الأنبياء : 47 ] وفي تأويل قوله {مَّا كَسَبَتْ} وجهان الأول : أن فيه حذفاً والتقدير جزاء ما كسبت والثاني : أن المكتسب هو ذلك الجزاء ، لأن ما يحصله الرجل بتجارته من المال فإنه يوصف في اللغة بأنه مكتسبه ، فقوله {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي توفى كل نفس مكتسبها ، وهذا التأويل أولى ، لأنه مهما أمكن تفسير الكلام بحيث لا يحتاج فيه إلى الإضمار كان أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 92}
فصل
قال الفخر :
الوعيدية يتمسكون بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق ، وأصحابنا يتمسكون بها في القطع بعدم الخلود ، لأنه لما آمن فلا بد وأن يصل ثواب الإيمان إليه ، ولا يمكن ذلك إلا بأن يخرج من النار ويدخل الجنة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 92}
قوله تعالى : {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}
قال الفخر : (10/107)
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} وفيه سؤال وهو أن قوله {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} لا معنى له إلا أنهم لا يظلمون ، فكان ذلك تكريراً.
وجوابه : أنه تعالى لما قال : {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} كان ذلك دليلاً على إيصال العذاب إلى الفساق والكفار ، فكان لقائل أن يقول : كيف يليق بكرم أكرم الأكرمين أن يعذب عبيده فأجاب عنه بقوله {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} والمعنى أن العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره ، وسهل عليه طريق الاستدلال ، وأمهله فمن قصر فهو الذي أساء إلى نفسه ، وهذا الجواب إنما يستقيم على أصول المعتزلة ، وأما على أصول أصحابنا فهو أنه سبحانه مالك الخلق ، والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلماً ، فكان قوله {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بعد ذكر الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 92}
فائدة
قال ابن عرفة :
قوله تعالى : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ . . . }.
قال ابن عرفة : عام مخصوص لأن المجانين والأطفال لا يدخلون فيها.
فإن قلت : لا كسب لهم ؟ قلنا : تقرر مذهبنا أن الطفل الصغير إذا استهلك شيئا فإنه يغرم مثله أو قيمته من ماله ، ( فنرى ) كسبه معتبرا في الدنيا وهو في الآخرة معفو عنه.
قوله تعالى : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 360}
فائدة لغوية
قال أبو حيان :
أعاد الضمير أولاً في : كسبت ، على لفظ : النفس ، وفي قوله : وهم لا يظلمون ، على المعنى لأجل فاصلة الآي ، إذ لو أتى وهي لا تظلم لم تكن فاصلة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 356}(10/108)
من فوائد الآلوسى فى الآية
{ واتقوا يَوْمًا } وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيباً { تُرْجَعُونَ فِيهِ } على البناء للمفعول من الرجع ، وقرىء على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل : في التهويل ، وقرىء يرجعون على طريق الالتفات ، وقرأ أبيّ تصيرون وعبد الله تردون { إِلَى الله } أي حكمه وفصله { ثُمَّ توفى } أي تعطى كملاً { كُلُّ نَفْسٍ } كسبت خيراً أو شراً { مَّا كَسَبَتْ } أي جزاء ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار ، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى الأشاعرة { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } جملة حالية من كل نفس وجمع باعتبار المعنى ، وأعاد الضمير أولاً مفرداً اعتباراً باللفظ ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن ، ولك أن تقول : إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله. أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آية { واتقوا يَوْمًا } الخ آخر ما نزل من القرآن ، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل : تسع ليال ، وقيل : سبعة أيام ، وقيل : ثلاث ساعات ، وقيل : أحداً وعشرين يوماً ، وقيل : أحداً وثمانين يوماً ثم مات بنفسي هو حياً وميتاً صلى الله عليه وسلم. روي أنه قال : اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ، وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال : " جاءني جبرائيل فقال : اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة " ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري ، وأبو عبيد ، وابن جرير ، والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم آية الربا ، ومثله ما أخرجه(10/109)
البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا ، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 54 ـ 55}
فصل
قال العلامة الطبرى فى معنى الآية :
يعني بذلك جل ثناؤه : واحذروا أيها الناس يوما ترجعون فيه إلى الله" فتلقونه فيه ، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم ، أو بمخزيات تخزيكم ، أو بفاضحات تفضحكم ، فتهتك أستاركم ، أو بموبقات توبقكم ، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به ، وإنه يوم مجازاة بالأعمال ، لا يوم استعتاب ، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة ، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة ، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح ، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت ، فوفيت جزاءها بالعدل من ربها ، وهم لا يظلمون.
وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها ، وبالحسنة عشر أمثالها ؟!
كلا بل عدل عليك أيها المسيء ، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن ، فاتقى امرؤ ربه ، وأخذ منه حذره ، وراقبه أن يهجم عليه يومه ، وهو من الأوزار ظهره ثقيل ، ومن صالحات الأعمال خفيف ، فإنه عز وجل حذر فأعذر ، ووعظ فأبلغ. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 41 ـ 42}
لطيفة
قال فى روح البيان :
اعلم أن الله تعالى جمع فى هذه الآية خلاصة ما أنزله فى القرآن وجعلها خاتم الوحى والإنزال كما أنه جمع خلاصة ما أنزل من الكتب على الأنبياء فى القرآن وجعله خاتم الكتب كما أن النبى ـ عليه السلام ـ خاتم الأنبياء عليهم السلام وقد جمع فيه أخلاق الأنبياء
فاعلم أن خلاصة جميع الكتب المنزلة وفائدتها بالنسبة إلى الإنسان عائدة إلى معنيين.
أحدهما نجاته من الدركات السفلى.(10/110)
وثانيهما فوزه بالدرجات العليا فنجاته فى خروجه عن الدركات السفلى وهى سبعة الكفر والشرك والجهل والمعاصى والأخلاق المذمومة وحجب الأوصاف وحجاب النفس وفوزه فى ترقيه على الدرجات العليا وهى ثمانية المعرفة لله والتوحيد لله والعلم والطاعات والأخلاق الحميدة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته فهذه الآية تشير إلى مجموعها إجمالا قوله تعالى { واتقوا } هى لفظة شاملة لما يتعلق بالسعى الإنسانى من هذه المعانى لأن حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله ومباشرة ما يقربك إليه دليله قول النبى عليه السلام
"جماع التقوى قول الله تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية" .
فيندرج تحت التقوى على هذا المعنى الخروج عن الدركات السفلى والترقى على الدرجات العليا. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 537}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
الرجوع على ضربين : بالأبشار والنفوس غداً عند التوفي ، وبالأسرار والقلوب في كل نَفَسٍ محاسبة ؛ نقدٌ ووعد ، فنَقْدُ مطالبته أحقُّ مما سيكون في القيامة من وعده.
وقال للعوام : { وَاتَّقُوا يَوْمًا } وقال للخواص : { وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ }. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 213}(10/111)
فصل فى معرفة آخر ما نزل
قال الإمام السيوطى رحمه الله :
فيه اختلاف ، فروى الشيخان عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلاة) وآخر سورة نزلت براءة. وأخرج البخاري عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت آية الربا. وروى البيهقي عن عمر مثله ، والمراد بها قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) وعند أحمد وابن ماجة عن عمر : من آخر ما نزل آية الربا. وعند ابن مردويه عن ابن سعيد الخدري قال : خطبنا عمر فقال : إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا. وأخرج النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن (واتقوا يوماً ترجعون فيه) الآية. وأخرج ابن مردويه نحوه من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس بلفظ : آخر آية نزلت. وأخرجه ابن جرير من طريق العوفي والضحاك عن ابن عباس. وقال : الفرياني في تفسيره : حدثنا سفيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) الآية ، وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم أحد وثمانون يوماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : آخر ما نزل من القرآن كله (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) الآية ، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليالي ثم مات ليلة الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. وأخرج ابن جرير مثله عن ابن جريج. وأخرج من طريق عطية عن أبي سعيد قال : آخر آية نزلت (واتقوا يوماً ترجعون) الآية. وأخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال : آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين. وأخرج ابن جرير من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدين. مرسل صحيح الإسناد. قلت : ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا (واتقوا يوماً) وآية الدين ، لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ولأنها في قصة واحدة ، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر ذلك وذلك صحيح. وقول البراء : آخر ما(10/112)
نزل (يستفتونك) أي في شأن الفرائض. وقال ابن حجر في شرح البخاري ؛ طريق لا جمع بين القولين في آية الربا (واتقوا يوماً) أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هي معطوفة عليهن ، ويجمع بين ذلك وبين قول البراء بأن الآيتين نزلتا جميعاً فيصدق أن كلاً منهما آخر بالنسبة لما عداهما ، ويحتمل أن تكون الآخرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث بخلاف آية البقرة ، ويحتمل عكسه. الأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول. وفي المستدرك عن أبيّ بن كعب قال : آخر آية نزلت (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر السورة. وروى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن مردويه عن أبيّ أنهم جمعوا القرآن في خلافة أبي بكر وكان رجال يكتبون ، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) ظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن ، فقال لهم أبيّ بن كعب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى قوله (وهو رب العرش العظيم) وقال : هذا آخر ما نزل من القرآن قال : فختم بما فتح به بالله الذي لا إله إلا هو ، وهو قوله (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وأخرج ابن مردويه عن أبيّ أيضاً قال : آخر القرآن عهداً بالله هاتان الآيتان (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) وأخرجه ابن الأنباري بلفظ : أقرب القرآن بالسماء عهداً. وأخرج أبو الشيخ في تفسيره من طريق عليّ بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم). وأخرج مسلم عن ابن عباس قال : آخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح. وأخرج الترمذي والحاكم عن عائشة قالت : آخر سورة نزلت بالمائدة فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه الحديث.
(10/113)
وأخرجا أيضاً عن عبد الله بن عمروقال : آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. قلت : يعني إذا جاء نصر الله. وفي حديث عثمان المشهور : براءة من آخر القرآن نزولاً. قال البيهقي : يجمع بين هذه الاختلافات إن صحت بأن كل واحد أجاب بما عنده. وقال القاضي أبو بكر في الانتصار : هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكل قاله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن. ويحتمل أن كلاً منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه أوقبل مرضه بقليل ، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو ، ويحتمل أيضاً أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب اه.
(10/114)
ومن غريب ما ورد في ذلك : ما أخرجه ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذا الآية ( فمن كان يرجو لقاء ربه) الآية وقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن. قال ابن كثير : هذا أثر مشكل ، ولعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها ، بل هي مثبتة محكمة. قلت : ومثله ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال : نزلت هذا الآية ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم ) هي آخر ما ا نزل وما نسخها شيء. وعند أحمد والنسائي عنه : لقد نزلت في آخر ما نزل ما نسخها شيء. وأخرج ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت هذه الآية ( فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل ) إلى آخرها. قلت : وذلك أنها قالت : يا رسول الله أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء ، فنزلت ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) ونزلت ( إن المسلمين والمسلمات ) ونزلت هذه الآية ، فهي آخر الثلاثة نزولاً أوآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة. وأخرج ابن جرير عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض قال أنس : وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) الآية. قلت : يعني في آخر سورة نزلت. وفي البرهان لإمام الحرمين : إن قوله تعالى ( قل لا أجد فيما أوحى إلي محرماً) الآية من آخر ما نزل ، وتعقبه ابن الحصار بأن السورة مكية باتفاق ، ولم يرد بتأخير هذه الآية عن نزول السورة بل هي في محاجة المشركين ومخاصمتهم وهم بمكة اه.(10/115)
تنبيه من المشكل على ما تقدم قوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم ) فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع ، وظاهرها إكمال الفرائض والأحكام قبلها ، وقد صرح بذلك جماعة منهم السدى فقال : لم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، مع أنه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعد ذلك. وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال : الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون لا يخالطهم المشركون ، ثم أيده بما أخرجه من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً ، فلما نزلت براءة لفى المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين ، فكان ذلك من تمام النعمة وأتممت عليكم نعمتي. أ هـ {الإتقان فى علوم القرآن حـ 1 صـ 82 ـ 87}(10/116)
قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نهى سبحانه وتعالى عن الربا وكان أحد مدايناتهم وكان غيره من الدين مأذوناً فيه وهو من أنواع الإنفاق مع دخوله في المطالبة برؤوس الأموال عقب ذلك بآية الدين.(10/117)
وأيضاً فإنه سبحانه وتعالى لما ذكر في المال أمرين ينقصانه ظاهراً ويزكيانه باطناً : الصدقة وترك الربا ، وأذن في رؤوس الأموال وأمر بالإنظار في الإعسار وختم بالتهديد فكان ذلك ربما أطمع المدين في شيء من الدين ولو بدعوى الإعسار اقتضى حال الإنسان لما له من النقصان الإرشاد إلى حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والتنبيه على كيفية التوثق فقال : {يا أيها الذين آمنوا} كالذي تقدمه {إذا تداينتم} من التداين تفاعل بين اثنين من الدين ،
والدين في الأمر الظاهر معاملة على تأخير كما أن الدين بالكسر فيما بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى معاملة على تأخير - قاله الحرالي.
أي أوقعتم بينكم ذلك.
والدين مال مرسل في الذمة سواء كان مؤجلاً أو لا ،
وهو خلاف الحاضر والعين ،
وقال : {بدين} مع دلالة الفعل عليه ليخرج بيع الدين بالدين ،
لأنه مداينة بدينين.
قال الحرالي : فكان في إعلامه أي بالإتيان بصيغة إذا أنهم لا بد أن يتداينوا لأنها حين منتظر في أغلب معناها - انتهى.
وأرشد إلى ضبطه بالوقت إشارة إلى أنه يجوز كونه حالاً وإلى أن الأجل وهو الوقت المحدود وأصله التأخير إن كان مجهولاً كان باطلاً بقوله : {إلى أجل مسمى} قال الحرالي : من التسمية وهي إبداء الشيء باسمه للسمع في معنى المصور - وهو إبداء الشيء بصورته في العين.
(10/118)
ولما كان الله سبحانه وتعالى وهو العليم الخبير قد أجرى سنته في دينه بالكتابة فأمر ملائكته وهم الأمناء العدول بإثبات أعمال الخلق لحكم ومصالح لا تخفى وأنزل كتابه الشريف شهادة لهم وعليهم بما يوفونه في يوم الدين من ثواب وعقاب قطعاً لحججهم أمرهم أن يكون عملهم في الدين كما كان فعله في الدين فأرشدهم إلى إثبات ما يكون دينهم من المعاملات لئلا يجر ذلك إلى المخاصمات فقال سبحانه وتعالى أمراً للإرشاد لا للإيجاب {فاكتبوه} وفي ذكر الأجل إشارة إلى البعث الذي وقع الوعد بالوفاء فيه {أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون} [ المؤمنون : 115 ] {ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده} [ الأنعام : 2 ] ولما أمر بالكتابة وكان المراد تحصيلها في الجملة لا من أحد بعينه لأن أغلب الناس لا يحسنها أتبعها الإرشاد إلى تخير الكاتب بقوله : {وليكتب بينكم} أي الدين المذكور {كاتب} وإن كان صبياً أو عبداً كتابة مصحوبة {بالعدل} استناناً به سبحانه وتعالى في ملائكته {وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين} [ الانفطار : 10 ] {بأيدي سفرة كرام بررة} [ عبس : 15 ]. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 545 ـ 546}
فصل
قال الفخر :
في كيفية النظم وجهان(10/119)
الأول : أن الله سبحانه لما ذكر قبل هذا الحكم نوعين من الحكم أحدهما : الإنفاق في سبيل الله وهو يوجب تنقيص المال والثاني : ترك الربا ، وهو أيضاً سبب لتنقيص المال ، ثم إنه تعالى ختم ذينك الحكمين بالتهديد العظيم ، فقال : {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} والتقوى تسد على الإنسان أكثر أبواب المكاسب والمنافع أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والبوار فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله ، وعلى ترك الربا ، وعلى ملازمة التقوى لا يتم ولا يكمل إلا عند حصول المال ، ثم إنه تعال لأجل هذه الدقيقة بالغ في الوصية بحفظ المال الحلال عن وجوه التوي والتلف ، وقد ورد نظيره في سورة النساء {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} [ النساء : 5 ] فحث على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد ، قال القفال رحمه الله تعالى : والذي يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار ، وفي هذه الآية بسط شديد ، ألا ترى أنه قال : {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} ثم قال ثانياً : {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل} ثم قال ثالثاً : {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله} فكان هذا كالتكرار لقوله {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل} لأن العدل هو ما علمه الله ، ثم قال رابعاً : {فَلْيَكْتُبْ} وهذا إعادة الأمر الأول ، ثم قال خامساً : {وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق} وفي قوله {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل} كفاية عن قوله {وَلْيُمْلِلْ الذى عَلَيْهِ الحق} لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه ، ثم قال سادساً : {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} وهذا تأكيد ، ثم قال سابعاً : {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} فهذا كالمستفاد من قوله {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} ثم قال ثامناً : {ولا(10/120)
تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله} وهو أيضاً تأكيد لما مضى ، ثم قال تاسعاً : {ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ للشهادة وَأَدْنَى أَلاّ تَرْتَابُواْ} فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة ، وكل ذلك يدل على أنه لما حث على ما يجري مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال ، وصونه عن الهلاك والبوار ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره ، والمواظبة على تقوى الله فهذا هو الوجه الأول من وجوه النظم ، وهو حسن لطيف.
والوجه الثاني : أن قوماً من المفسرين قالوا : المراد بالمداينة السلم ، فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ، ولهذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضعه الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل ذلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً فهذا ما يتعلق بوجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 93 ـ 94}
وقال ابن عاشور :
لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامّتهم من مواساة الفقير وإغاثة الملهوف ، ووضّح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر ، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد ، ثلّث ببيان التوثّقات المالية من الإشهاد ، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان.
وإنّ تحديد التوثّق في المعاملات من أعظم وسائل بثّ الثقة بين المتعاملين ، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التموّل.
والجملة استئناف ابتدائي ، والمناسبة في الانتقال ظاهرة عقب الكلام على غرمَاء أهل الربا.
(10/121)
والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأنّ المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطرّ إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة ، ولأنّ المترفّه قد ينضب المال من بين يديه وله قِبل به بعد حين ، فإذا لم يتداين اختلّ نظام ماله ، فشرّع الله تعالى للناس بَقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنّوا أنّ تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كلّه.
وأفاد ذلك التشريعَ بوضعه في تشريع آخر مكمّل له وهو التوثّق له بالكتابة والإشهاد.
والخطاب موجّه للمؤمنين أي لمجموعهم ، والمقصود منه خصوص المتداينين ، والأخصّ بالخطاب هو المدين لأنّ من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله.
فعلى المستقرِض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن ، ويؤخذ هذا مما حكاه الله في سورة القَصص عن موسى وشعيب ، إذ استأجرَ شعيبٌ موسى.
فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها قال موسى : "واللَّهُ على ما نَقول وكيل" ، فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسألَه شعيب ذلك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 97 ـ 98}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } الآية.
قال سعيد بن المسيّب : بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدَّيْن.
وقال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السّلَم خاصة.
معناه أن سَلَم أهل المدينة كان سبب الآية ، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعاً.
وقال ابن خويزِمنداد : إنها تضمنت ثلاثين حكما.
وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض ؛ على ما قال مالك ؛ إذْ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات.
وخالف في ذلك الشافعية وقالوا : الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون ، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دَيْناً مؤجَّلاً ؛ ثم يعلم بدلالة أُخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 377}
فصل
قال الفخر : (10/122)
التداين تفاعل من الدين ، ومعناه داين بعضكم بعضاً ، وتداينتم تبايعتم بدين ،
قال أهل اللغة : القرض غير الدين ، لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم ، أو دنانير ، أو حباً ، أو تمراً ، أو ما أشبه ذلك ، ولا يجوز فيه الأجل والدين يجوز فيه الأجل ، ويقال من الدين أدان إذا باع سلعته بثمن إلى أجل ، ودان يدين إذا أقرض ، ودان إذا استقرض وأنشد الأحمر :
ندين ويقضي الله عنا وقد نرى.. مصارع قوم لا يدينون ضيقا
إذا عرفت هذا فنقول : في المراد بهذه المداينة أقوال : قال ابن عباس : أنها نزلت في السلف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ثم أن الله تعالى عرف المكلفين وجه الاحتياط في الكيل والوزن والأجل ، فقال : {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه }.
والقول الثاني : أنه القرض وهو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل والدين المذكور في الآية قد اشترط فيه الأجل.
والقول الثالث : وهو قول أكثر المفسرين : أن البياعات على أربعة أوجه
أحدها : بيع العين بالعين ، وذلك ليس بمداينة ألبتة
والثاني : بيع الدين بالدين وهو باطل ، فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية ، بقي هنا قسمان : بيع العين بالدين ، وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم ، وكلاهما داخلان تحت هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 94 ـ 95}
فائدة لغوية
قال ابن عاشور :
التداين تفاعل ، وأطلق هنا مع أنّ الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المُسَلِّف لأنّك تقول ادّان منه فَدانَه ، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين هم مجموع الأمة ؛ لأنّ في المجموع دائناً ومديناً ، فصار المجموع مشتملاً على جانبين.(10/123)
ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تَداينت من زيد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 98}
أسئلة وأجوبة للإمام فخر الدين الرزى
السؤال الأول : المداينة مفاعلة ، وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين ، وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالاتفاق.
والجواب : أن المراد من تداينتم تعاملتم ، والتقدير : إذا تعاملتم بما فيه دين.
السؤال الثاني : قوله {تَدَايَنتُم} يدل على الدين فما الفائدة بقوله {بِدَيْنٍ }.
الجواب من وجوه
الأول : قال ابن الأنباري : التداين يكون لمعنيين
أحدهما : التداين بالمال ، والآخر التداين بمعنى المجازاة ، من قولهم : كما تدين تدان ، والدين الجزاء ، فذكر الله تعالى الدين لتخصيص أحد المعنيين
الثاني : قال صاحب "الكشاف" : إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله {فاكتبوه} إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن
الثالث : أنه تعالى ذكره للتأكيد ، كقوله تعالى : {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ الحجر : 30 ] [ ص : 73 ] {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ]
الرابع : فإذا تداينتم أي دين كان صغيراً أو كبيراً ، على أي وجه كان ، من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل الخامس : ما خطر ببالي أنا ذكرنا أن المداينة مفاعلة ، وذلك إنما يتناول بيع الدين بالدين وهو باطل ، فلو قال : إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل ، أما لما قال : {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} كان المعنى : إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد ، وحينئذ يخرج عن النص بيع الدين بالدين ، ويبقى بيع العين بالدين ، أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير.
السؤال الثالث : المراد من الآية : كلما تداينتم بدين فاكتبوه ، وكلمة {إِذَا} لا تفيد العموم فلم قال : {تَدَايَنتُم} ولم يقل كلما تداينتم.(10/124)
الجواب : أن كلمة {إِذَا} وإن كانت لا تقتضي العموم ، إلا أنها لا تمنع من العموم وهاهنا قام الدليل على أن المراد هو العموم ، لأنه تعالى بيّن العلة في الأمر بالكتبة في آخر الآية ، وهو قوله {ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ للشهادة وَأَدْنَى ألاّ تَرْتَابُواْ} والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدين ولم يكتب ، فالظاهر أنه تنسى الكيفية ، فربما توهم الزيادة ، فطلب الزيادة وهو ظلم ، وربما توهم النقصان فترك حقه من غير حمد ولا أجر ، فأما إذا كتب كيفية الواقعة أمن من هذه المحذورات فلما دلّ النص على أن هذا هو العلة ، ثم إن هذه العلة قائمة في الكل ، كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 95}
قوله تعالى : {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } قال ابن المنذر : دل قول الله "إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى" على أن السَّلَم إلى الأجل المجهول غير جائز ، ودَلَّت سنة رسول الله على مثل معنى كتاب الله تعالى.
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة وهم يستلِفون في الثمار السنتين والثلاث ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أسلف في تمرٍ فليسلِف في كيلِ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم " رواه ابن عباس.
أخرجه البخاريّ ومسلم وغيرهما.
وقال ابن عمر : كان أهل الجاهلية يتبايعون لَحم الجَزُور إلى حَبَل الحَبَلَة.
وحبل الحبلة : أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نُتِجت.
فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السّلَم الجائز أن يُسلِم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف ، من طعام أرض عامّة لا يخطىء مثلها ، بكيل معلوم ، إلى أجلٍ معلوم بدنانير أو دراهم معلومةٍ ، يدفع عن ما أسْلَم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه ، وسَميَّا المكان الذي يُقْبَض فيه الطعام.(10/125)
فإذا فعلا ذلك وكان جائز الأمر سَلَما صحيحاً لا أعلم أحداً من أهل العلم يبطله.
قلت : وقال علماؤنا : إن السَّلَم إلى الحَصاد والجَذَاذ والنَّيْروز والمِهْرَجَان جائز ؛ إذْ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 378}
سؤالان
السؤال الأول : ما الأجل ؟ .
الجواب : الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره ، وأجل الدين لوقت معين في المستقبل ، وأصله من التأخير ، يقال : أجل الشيء يأجل أجولا إذا تأخر ، والآجل نقيض العاجل.
السؤال الثاني : المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة ؟ .
الجواب : إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله {مُّسَمًّى} والفائدة في قوله {مُّسَمًّى} ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً ، كالتوقيت بالسنة والشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد ، أو إلى الدِّياس ، أو إلى قدوم الحاج ، لم يجز لعدم التسمية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 95 ـ 96}
قوله تعالى : {فاكتبوه}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى أمر في المداينة بأمرين
أحدهما : الكتبة وهي قوله هاهنا {فاكتبوه}
الثاني : الإشهاد وهو قوله {فاستشهدوا شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 96}
فائدة
قال القرطبى :
وفي قوله { فاكتبوه } إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبيِّنة له المُعْرِبة عنه ؛ للاختلاف المتوهَّم بين المتعاملين ، المعرِّفةِ للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه.
والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 382 ـ 383}
وقال السمرقندى :
{ فاكتبوه } يعني الدين والأجل.
ويقال : أمر بالكتابة ، ولكن المراد به الكتابة والإشهاد ، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة.
ويقال : أمر بالكتابة لكي لا ينسى.(10/126)
ويقال : من أدان ديناً ، ولم يكتب ، فإذا نسي ودعى الله تعالى بأن يظهره يقول الله تعالى : أمرتك بالكتابة فعصيت أمري ، وإذا دعى بالنجاة من الزوجة يقول الله تعالى جعلت الطلاق بيدك إن شئت طلقها ، وإن شئت فأمسكها. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 210}
فصل
قال الفخر :
فائدة الكتبة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل ، تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان ، ويدخل فيه الجحد ، فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة ، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود ، ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال ، ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين ، فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 96}
فصل
قال الفخر : (10/127)
القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه ، وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه ، فقال قوم بالوجوب وهو مذهب عطاء ، وابن جريج والنخعي واختيار محمد بن جرير الطبري ، وقال النخعي يشهد ولو على دستجة بقل ، وقال آخرون : هذا الأمر محمول على الندب ، وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين ، والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد ، وذلك إجماع على عدم وجوبهما ، ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " وقال قوم : بل كانت واجبة ، إلا أن ذلك صار منسوخاً بقوله {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته} [ البقرة : 283 ] وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم وابن عيينة ، وقال التيمي : سألت الحسن عنها فقال : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ، ألا تسمع قوله تعالى : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} واعلم أنه تعالى لما أمر بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شرطين :
الشرط الأول : أن يكون الكاتب عدلاً وهو قوله {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل} واعلم أن قوله تعالى : {فاكتبوه} ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب ، لكن ذلك غير ممكن ، فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتباً ، فصار معنى قوله {فاكتبوه} أي لا بد من حصول هذه الكتبة ، وهو كقوله تعالى : {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء} [ المائدة : 38 ] فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل ، إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لا بد من حصول قطع اليد من إنسان واحد ، إما الإمام أو نائبه أو المولى ، فكذا هاهنا ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى : {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل} فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتبة من أي شخص كان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 96}(10/128)
قوله تعالى {بالعدل}
قال الفخر :
أما قوله {بالعدل} ففيه وجوه
الأول : أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه ، ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه
الثاني : إذا كان فقيهاً وجب أن يكتب بحيث لا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر ، بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه
الثالث : قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين
الرابع : أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها ، وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين ، وأن يكون أديباً مميزاً بين الألفاظ المتشابهة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 96 ـ 97}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { بالعدل } أي بالحق والمعدلة ، أي لا يُكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقلّ.
وإنما قال "بَيْنَكُمْ" ولم يقل أحدكم ؛ لأنه لما كان الذي له الديْن يَتَّهِم في الكتابة الذي عليه الديْن وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتباً غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمهُ موَادَّةٌ لأحدهما على الآخر.
وقيل : إن الناس لما كانوا يتعاملون حتى لا يشذّ أحدهم عن المعاملة ، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب ، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتبٌ بالعدل. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 383 ـ 384}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { بالعدل } أي بالحق ، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال رجل عدل لأنّ وجود الباء يصرف عن ذلك ، ونظيره قوله الآتي : { فليملل وليه بالعدل }.(10/129)
ولذلك قصر المفسرون قوله : { فاكتبوه } على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنّه الغالب ، ولتعقيبه بقوله : وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، فإنّه كالبيان لكيفية فاكتبوه ، على أنّ كتابة المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه.
ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط ، فإنّ استكتاب الكاتب إنّما ينفع بقراءة خطه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 101}
فائدة لغوية
قال القرطبى :
الباء في قوله تعالى { بالعدل } متعلقة بقوله : "وَلْيَكْتُبْ" وليست متعلقة بـ "كَاتِبٌ" لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبيّ والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها.
أما المنتصبون لكتْبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين.
قال مالك رحمه الله تعالى : لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارفٌ بها عدل في نفسه مأمون ؛ لقوله تعالى : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل }.
قلت : فالباء على هذا متعلقة بـ "كاتب" أي ليكتب بينكم كاتب عدل ؛ ف "بالعدل" في موضع الصفة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 384}
وقال الثعلبى :
{وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُ بِالْعَدْلِ} وقرأ الحسن وليكتب بكسر اللام ،
وهذه اللام ،
لام الأمر ولا يؤمر بها غير الغائب ،
وهي إذا كانت مفردة فليس فيها إلاّ الحركة ،
فإذا كانت قبلها واو أو فاء أو ثم ،
فأكثر العرب على تسكينها طلباً للخفّة ومنهم مَنْ يكسرها على الأصل. أ هـ {الكشف والبيان حـ 2 صـ 291}
قوله تعالى : { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}
المناسبة
قال البقاعى :(10/130)
ولما أرشد إلى تخير الكاتب تقدم إليه بالنهي تقديماً لدرء المفاسد ثم الأمر فقال : {ولا يأب كاتب أن يكتب} أي ما ندب إليه من ذلك {كما علمه الله} أي لأجل الذي هو غني عنه وعن غيره من خلقه شكراً له على تلك النعمة وكتابة مثل الكتابة التي علمها الله سبحانه وتعالى لا ينقص عنها شيئاً {فليكتب} وفي ذلك تنبيه على ما في بذل الجهد في النصيحة من المشقة.
ولما كان ذلك وكان لا بد فيه من ممل بين من يصح إملاؤه للمكتوب فقال : {وليملل} من الإملال وهو إلقاء ما تشتمل عليه الضمائر على اللسان قولاً وعلى الكتاب رسماً - قاله الحرالي {الذي عليه الحق} ليشهد عليه المستملي ومن يحضره.
ولما كانت الأنفس مجبولة على محبة الاستئثار على الغير حذرها مما لا يحل من ذلك فقال : {وليتق الله} فعبر بالاسم الأعظم ليكون أزجر للمأمور ثم قال : {ربه} تذكيراً بأنه لإحسانه لا يأمر إلا بخير ،
وترجية للعوض في ذلك إذا أدى فيه الأمانة في الكم والكيف من الأجل وغيره ؛ وأكد ذلك بقوله : {ولا يبخس} من البخس وهو أسوأ النقص الذي لا تسمح به الأنفس لبعده عن محل السماح إلى وقوعه في حد الضيم {منه شيئاً }.
ولما كان هذا المملي قد يكون لاغي العبارة وكان الإملاء لا يقدر عليه كل أحد قال سبحانه وتعالى : {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً} فلا يعتبر إقراره لضعف رأيه ونظره ونقص حظه من حكمة الدنيا {أو ضعيفاً} عن الإملاء في ذلك الوقت لمرض أو غيره من صبا أو جنون أو هرم من الضعف وهو وهن القوى حساً أو معنى {أو لا يستطيع أن يمل هو} كعيّ أو حياء أو عجمة ونحوه {فليملل وليه} القائم لمصالحه من أب أو وصي أو حاكم أو ترجمان أو وكيل {بالعدل} فلا يحيف عليه ولا على ذي الحق.
قال الحرالي : فجعل لسان الولي لسان المولى عليه ،
(10/131)
فكان فيه مثل لما نزل به الكتاب من إجراء كلام الله سبحانه وتعالى على ألسنة خلقه في نحو ما تقدم من قوله : {إياك نعبد وإياك نستعين} [ الفاتحة : 5 ] وما تفصل منها {الله ولي الذين آمنوا} [ البقرة : 257 ] أمل ما عليهم من الحقوق له فجعل كلاماً من كلامه يتلونه ، فكان الإملال منه لهم لتقاصرهم عن واجب حقه تقاصر السفيه ومن معه عن إملال وليه عنه لرشده وقوته وتمكن استطاعته - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 546}
فصل
قال الفخر :
ظاهر هذا الكلام نهى لكل من كان كاتباً عن الامتناع عن الكتبة ، وإيجاب الكتبة على كل من كان كاتباً ، وفيه وجوه
الأول : أن هذا على سبيل الإرشاد إلى الأولى لا على سبيل الإيجاب ، والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة ، وشرّفه بمعرفة الأحكام الشرعية ، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهم أخيه المسلم شكراً لتلك النعمة ، وهو كقوله تعالى : {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [ القصص : 77 ] فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.
والقول الثاني : وهو قول الشعبي : أنه فرض كفاية ، فإن لم يجد أحداً يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عليه ، فإن وجد أقواماً كان الواجب على واحد منهم أن يكتب.
والقول الثالث : أن هذا كان واجباً على الكاتب ، ثم نسخ بقوله تعالى : {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ }.
والقول الرابع : أن متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله ، يعني أن بتقدير أن يكتب فالواجب أن يكتب على ما علمه الله ، وأن لا يخل بشرط من الشرائط ، ولا يدرج فيه قيداً يخل بمقصود الإنسان ، وذلك لأنه لو كتبه من غير مراعاة هذه الشروط اختل مقصود الإنسان ، وضاع ماله ، فكأنه قيل له : إن كنت تكتب فاكتبه عن العدل ، واعتبار كل الشرائط التي اعتبرها الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 97}
قوله تعالى {كَمَا عَلَّمَهُ الله}
قال الفخر
قوله {كَمَا عَلَّمَهُ الله} فيه احتمالان(10/132)
الأول : أن يكون متعلقاً بما قبله ، ولا يأب كاتب عن الكتابة التي علمه الله إياها ، ولا ينبغي أن يكتب غير الكتابة التي علمه الله إياها ثم قال بعد ذلك : فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها.
والاحتمال الثاني : أن يكون متعلقاً بما بعده ، والتقدير : ولا يأب كاتب أن يكتب ، وهاهنا تم الكلام ، ثم قال بعده {كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ} فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إياها ، والوجهان ذكرهما الزجاج. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 97}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { كما علمه الله } أي كتابة تشابه الذي علّمه الله أن يكتبها ، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة ، فهي مثل قوله : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } [ البقرة : 137 ] ، فالكاف في موضع المفعول المطلق لأنّها صفة لمصدر محذوف.
و ( ما ) موصولة.
ومعنى ما علّمه الله أنّه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب ، لأنّ الله ما علم إلاّ الحق وهو المستقرّ في فطرة الإنسان ، وإنّما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدّلون ويغيّرون وليس ذلك التبديل بالذي علّمهم الله تعالى ، وهذا يشير إليه قوله النبي صلى الله عليه وسلم " واستفتتِ نفسَك وإن أفْتَاكَ الناس ".
ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوضِ بمعوضه ، أي أن يكتب كتابة تكافىء تعليم الله إياه الكتابة ، بأن ينفع الناس بها شكراً على تيسير الله له أسباب علمها ، وإنّما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلّس ، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى : { وأحسن كما أحسن الله إليك } [ القصص : 77 ] وقوله : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ].(10/133)
والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فِعل أنْ يَكْتُب بالمكتوب ، و( ما ) على هذا الوجه مصدرية ، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله : { أن يكتب } ، وجوّز صاحب "الكشاف" تعليقه بقوله فليكتب فهو وجه في تفسير الآية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 102 ـ 103}
قوله تعالى : {وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق}
فوائد لغوية
قال ابن عاشور :
وقوله : { وليُملل الذي عليه الحق } أمَلّ وأمْلَى لغتان : فالأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد ، والثانية لغة تميم ، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى : { وليملل الذي عليه الحق } وقال : { فهي تملي عليه بكرة وأصيلا } [ الفرقان : 5 ] ، قالوا والأصل هو أمللّ ثم أبدلت اللاّم ياء لأنّها أخف ؛ أي عكسَ ما فعلوا في قولهم تقضّي البازي إذْ أصله تَقَضض.
ومعنى اللفظين أن يلقي كلاماً على سامعه ليكتبه عنه ، هكذا فسره في "اللِّسَان" و"القاموس".
وهو مقصور في التفسير أحسب أنّه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة ، وإلاّ فإن قوله تعالى في سورة الفرقان ( 5 ) : { فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } تشهد بأنّ الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان ، ولغرض الحفظ كما يقال مَلّ المؤدب على الصبي للحفظ ، وهي طريقة تحفيظ العميان.
فتحرير العبارة أن يفسر هذان اللفظان بإلقاء كلامٍ ليُكتب عنه أو ليُروى أو ليُحفظ ، والحق هنا ما حقَّ أي ثبت للدائن.
وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإنّ منهم من يكتبون في شروط الحُبُس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلاّ إذا كان قد فوّض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقّه أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة.(10/134)
والضميران في قوله : وليتق } ، وقوله : { ولا يبخس منه } يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنّه أقرب مذكور من الضميرين ، أي لا يُنقصْ ربّ الدين شيئاً حينَ الإملاء ، قاله سعيد بن جبير ، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقرّ بجميع الدين ولا يغبن الدائن.
وعندي أنّ هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية ؛ فلو أخفى المدين شيئاً أو غبن لأنكر عليه ربُّ الديْن لأنّ الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى : { وليكتب بينكم }.
ويحتمل أن يعود الضميران إلى { كاتب } بقرينة أنّ هذا النهي أشدّ تعلّقاً بالكاتب ؛ فإنّه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه.
والضمير في قوله : { منه } عائد إلى الحق وهو حق لكِلاَ المتداينين ، فإذا بخس منه شيئاً أضرّ بأحدهما لا محالة ، وهذا إيجاز بديع.
والبخْس فسره أهل اللغة بالنقص ويظهر أنّه أخصّ من النقص ، فهو نقص بإخفاء.
وأقربُ الألفاظ إلى معناه الغبن ، قال ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف : "البخس في لسان العرب هو النقص بالتعْييب والتزهِيدِ ، أو المخادعة عن القيمة ، أو الاحتيال في التزيّد في الكيل أو النقصان منه" أي عن غفلة من صاحب الحق ، وهذا هو المناسب في معنى الآية لأنّ المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه ، ولذلك نُهي الشاهد أو المدين أو الدائن ، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } [ الأعراف : 85 ].
وقوله : { فإن كان عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً } السفيه هو مختلّ العقل ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس } [ البقرة : 142 ].
والضعيف الصغير ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { وله ذرية ضعفاء } [ البقرة : 266 ].
والذي لا يستطيع أن يملّ هو العاجز كمن به بَكَم وعمًى وصمَمٌ جميعاً.(10/135)
ووجه تأكيد الضمير المسْتتر في فعل يُملّ بالضمير البارز هو التمهيد لقوله : { فليملل } لئلا يتوهّم الناس أنّ عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه ، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة.
والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يملّ كالأب والوصيّ وعرفاء القبيلة ، وفي حديث وفد هوازن : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " لِيَرْفَعْ إلَيّ عُرفَاؤُكم أمْرُكم " وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القَبَلِيَّةِ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 103 ـ 105}
لطيفة
قال فى روح البيان :
{وليتق الله ربه} جمع بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة فى التحذير أى وليتق المملى دون الكاتب كما قيل لقوله تعالى { ولا يبخس منه } أى من الحق الذى يمليه على الكاتب. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 539}
فائدة
قال الفخر :
الكتابة وإن وجب أن يُختارَ لها العالمُ بكيفية كَتْب الشروط والسجلات لكن ذلك لا يتم إلا بإملاء من عليه الحق فليدخل في جملة إملائه اعترافه بما عليه من الحق في قدره وجنسه وصفته وأجله إلى غير ذلك ، فلأجل ذلك قال تعالى : {وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 97}
قوله تعالى : {فإِن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل}
فصل
قال الفخر : (10/136)
إدخال حرف {أَوْ} بين هذه الألفاظ الثلاثة ، أعني السفيه ، والضعيف ، ومن لا يستطيع أن يمل يقتضي كونها أموراً متغايرة ، لأن معناه أن الذي عليه الحق إذا كان موصوفاً بإحدى هذه الصفات الثلاث فليملل وليه بالعدل ، فيجب في الثلاثة أن تكون متغايرة ، وإذا ثبت هذا وجب حمل السفيه على الضعيف الرأي ناقص العقل من البالغين ، والضعيف على الصغير والمجنون والشيخ الخرف ، وهم الذين فقدوا العقل بالكلية ، والذي لا يستطيع لأن يمل من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس ، أو جهله بماله وما عليه ، فكل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار ، فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم ، فقال تعالى : {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} والمراد ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة ، لأن ولي المحجور السفيه ، وولي الصبي : هو الذي يقر عليه بالدين ، كما يقرب بسائر أموره ، وهذا هو القول الصحيح ، وقال ابن عباس ومقاتل والربيع : المراد بوليه ولي الدين يعني أن الذي له الدين يملي وهذا بعيد ، لأنه كيف يقبل قول المدعي ، وإن كان قوله معتبراً ، فأي حاجة بنا إلى الكتابة والإشهاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 98}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً } قال بعض الناس : أي صغيراً.
وهو خطأ فإنّ السفيه قد يكون كبيراً على ما يأتي بيانه.
{ أَوْ ضَعِيفاً } أي كبيراً لا عقل له.
{ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ } جعل الله الذي عليه الحق أربعة أصناف : مستقل بنفسه يُمِلّ ، وثلاثة أصناف لا يُمِلُّون وتقع نوازلهم في كل زَمَن ، وكون الحقّ يترتب لهم في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قُسِمَت وغير ذلك ، وهم السَّفِيهُ والضّعيفُ والذي لا يستطيع أن يُمِلّ.
فالسفيه المُهَلْهَلُ الرأي في المال الذي لا يُحسن الأخذَ لنفسه ولا الإعطاء منها ، مشَبّه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج.(10/137)
والبَذِيء اللسانِ يسمّى سفيهاً ؛ لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلاّ في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة.
والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أُخرى ؛ قال الشاعر :
نَخافُ أن تَسْفَهَ أحلامُنا . . .
ويجهل الدهرُ مع الحالِم
وقال ذو الرُّمّة :
مَشَيْنَ كما اهتزَّتْ رِماحٌ تَسَفَّهَتْ . . .
أعالِيهَا مَرُّ الرياحِ النّواسِمِ
أي استضعفها واستلانها فحرّكها.
وقد قالوا : الضُّعف بضم الضاد في البدن وبفتحها في الرأي ، وقيل : هما لغتان.
والأوّل أصح ، لما روى أبو داود عن أنس بن مالك " أنّ رجلاً على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عقله ضَعْفٌ فأتى أهله نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبيّ الله ، أُحْجُرْ على فلان فإنه يبتاع وفي عقله ضعف.
فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع ؛ فقال : يا رسول الله ، إني لا أصبر عن البيع ساعة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن كنت غير تاركٍ البيع فقل هَاوهَا ولا خِلاَبَة" " (1) . أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 385 ـ 386}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } ذهب الطبري إلى أن الضمير في { وَلِيُّهُ } عائد على "الْحَقُّ" وأسند في ذلك عن الربيع ، وعن ابن عباس.
وقيل : هو عائد على { الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً } وهو الصحيح.
وما روي عن ابن عباس لا يصح.
وكيف تشهد البيِّنة على شيء وتُدخل مالا في ذمّة السفيه بإملاء الذي له الدَّيْن! هذا شيء ليس في الشريعة.
إلا أن يريد قائله : إن الذي لا يستطيع أن يُمِلّ لمرض أو كبر سنّ لثقل لسانه عن الإملاء أو لخرس ، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه عن الإملاء لخرَس ولىّ عند أحد العلماء ، مثل ما ثبت على الصبيّ والسفيه عند من يحجر عليه.
فإذا كان كذلك فليُمِلّ صاحب الحق بالعدل ويُسمع الذي عجز ، فإذا كمل الإمْلاءُ أقرّبه.
وهذا معنىّ لم تَعْن الآَية إليه : ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يُمِلّ لمرض ومن ذكر معه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 388}
_____________
(1) الخِلابة : الخديعة ؛ ومنه قولهم : "إذا لم تَغلِبْ فاخْلُبْ".(10/138)
فائدة
قال الجصاص :
بَابُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } قَدْ احْتَجَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ مُوجِبِي الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ وَمِنْ مُبْطِلِيهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَاحْتَجَّ مُثْبِتُو الْحَجْرِ لِلسَّفِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } فَأَجَازَ لِوَلِيِّ السَّفِيهِ الْإِمْلَاءَ عَنْهُ.
وَاحْتَجَّ مُبْطِلُو الْحَجْرِ بِمَا فِي مَضْمُونِ الْآيَةِ مِنْ جَوَازِ مُدَايَنَةِ السَّفِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا } فَأَجَازَ مُدَايَنَةَ السَّفِيهِ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ فِي مُدَايَنَتِهِ ؛ وَإِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي إمْلَاءِ الْكِتَابِ لِقُصُورِ فَهْمِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ شَرْطُ الْوَثِيقَةِ.(10/139)
وَقَالُوا : إنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ وَلِيُّ الدَّيْنِ ؛ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ ، قَالُوا : وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلِيَّ السَّفِيهِ عَلَى مَعْنَى الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ لِأَنَّ إقْرَارَ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ وَلِيُّ الدَّيْنِ ، فَأَمَرَ بِإِمْلَاءِ الْكِتَابِ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي السَّفِيهِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ ، فَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ : ( هُوَ الصَّبِيُّ ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } قَالَ : ( الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ ) وَقَالَ مُجَاهِدٌ : ( النِّسَاءُ ).
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : ( لَا تُعْطَى الْجَارِيَةُ مَالَهَا وَإِنْ قَرَأَتْ الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ ).
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الَّتِي لَا تَقُومُ بِحِفْظِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ ضَابِطَةً لَأَمْرِهَا حَافِظَةً لِمَالِهَا دُفِعَ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ بَالِغًا قَدْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا تَجُوزُ لِامْرَأَةِ مُمَلَّكَةٍ عَطِيَّةٌ حَتَّى تَحْبَلَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَوْلًا أَوْ تَلِدَ بَطْنًا ) وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ.
وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ : ( لَا تَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ حَتَّى تَلِدَ أَوْ يُؤْنَسَ رُشْدُهَا ) وَعَنْ إبْرَاهِيمَ مِثْلُهُ.(10/140)
وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهَا ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَدٍّ فِي اسْتِحْقَاقِ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهَا لِأَنَّهَا لَوْ أَحَالَتْ حَوْلًا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدَتْ بُطُونًا وَهِيَ غَيْرُ مُؤْنِسَةٍ لِلرُّشْدِ وَلَا ضَابِطَةٍ لِأَمْرِهَا لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهَا مَالُهَا ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ إنَّمَا أَرَادُوا ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى السَّفَهَ فِي مَوَاضِعَ : مِنْهَا مَا أَرَادَ بِهِ السَّفَهَ فِي الدِّينِ ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِهِ ، فِي قَوْله تَعَالَى : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ } وقَوْله تَعَالَى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ } فَهَذَا هُوَ السَّفَهُ فِي الدِّينِ ، وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْخِفَّةُ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } فَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } يَعْنِي : لَا يَقْتُل بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وَقَالَ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَالْمَعْنَى : لِيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ عُدُولٌ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَظَاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } يَشْتَمِلُ عَلَى فَرِيقَيْنِ مِنْ النَّاسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمَيَّزٌ فِي اللَّفْظِ مِنْ الْآخَرِ ، وَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ(10/141)
تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ السُّفَهَاءُ الْمَذْكُورُونَ مَعَهُمْ ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : { أَمْوَالَكُمْ } وَجَبَ أَنْ يَنْصَرِفَ ذَلِكَ إلَى أَمْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ دُونَ السُّفَهَاءِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السُّفَهَاءَ لِأَنَّ السُّفَهَاءَ لَمْ يَتَوَجَّهْ الْخِطَابُ إلَيْهِمْ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى الْعُقَلَاءِ الْمُخَاطَبِينَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ وَالْمَقْتُولِينَ قَدْ انْتَظَمَهُمْ خِطَابٌ وَاحِدٌ لَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْآخَرِ فِي حُكْمِ الْمُخَاطَبَةِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : فَلْيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وَقَدْ قِيلَ أَنَّ أَصْلَ السَّفَهِ الْخِفَّةُ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ : مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ يَعْنِي : اسْتَخَفَّتْهَا الرِّيَاحُ.
وَقَالَ آخَرُ : نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلَامَنَا فَنَحْمِلَ الدَّهْرَ مَعَ الْحَامِلِ أَيْ : تُخَفَّ أَحْلَامُنَا.
وَيُسَمَّى الْجَاهِلُ سَفِيهًا لِأَنَّهُ خَفِيفُ الْعَقْلِ نَاقِصُهُ ؛ فَمَعْنَى الْجَهْلِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفِيهِ.(10/142)
وَالسَّفِيهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ هُوَ الْجَاهِلُ فِيهِ ، وَالسَّفِيهُ فِي الْمَالِ هُوَ الْجَاهِلُ لَحِفْظِهِ وَتَدْبِيرِهِ ، وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ اسْمُ السُّفَهَاءِ لِجَهْلِهِمْ وَنُقْصَانِ تَمْيِيزِهِمْ ، وَالسَّفِيهُ فِي رَأْيِهِ الْجَاهِلُ فِيهِ وَالْبَذِيُّ اللِّسَانِ يُسَمَّى سَفِيهًا لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُنْفِقُ إلَّا فِي جُهَّالِ النَّاسِ وَمَنْ كَانَ خَفِيفَ الْعَقْلِ مِنْهُمْ.
وَإِذَا كَانَ اسْمُ السَّفِيهِ يَنْتَظِمُ هَذِهِ الْوُجُوهَ رَجَعْنَا إلَى مُقْتَضَى لَفْظِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا } فَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجَهْلَ بِإِمْلَاءِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا غَيْرَ مُبَذِّرٍ وَلَا مُفْسِدٍ ، وَأَجَازَ
لِوَلِيِّ الْحَقِّ أَنْ يُمْلِيَهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ السَّفِيهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بِالْمُدَايَنَةِ ، وَلَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَمَا جَازَتْ مُدَايَنَتُهُ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ وَلِيَّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِبَيْعٍ أَوْ شِرًى ، فَأَمَّا وَلِيُّهُ فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يُجِيزُ تَصَرُّفَ أَوْلِيَائِهِ عَلَيْهِ وَلَا إقْرَارَهُمْ ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ وَلِيَّ السَّفِيهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ وَلِيَّ الدَّيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ أَيْضًا.(10/143)
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أَوْ ضَعِيفًا } فَقَدْ قِيلَ فِيهِ الضَّعِيفُ فِي عَقْلِهِ أَوْ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ لَهُ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْآيَةِ قَدْ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ جَائِزَ الْمُدَايَنَةِ وَالتَّصَرُّفِ فَأَجَازَ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى حَالِ إمْلَاءِ الْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ ذَكَرَ مَنْ لَا يَكْمُلْ لِذَلِكَ إمَّا لِجَهْلٍ بِالشُّرُوطِ أَوْ لِضَعْفِ عَقْلٍ لَا يُحْسِنُ مَعَهُ الْإِمْلَاءَ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ نُقْصَانُ عَقْلِهِ حَجْرًا عَلَيْهِ ، وَإِمَّا لِصِغَرٍ أَوْ لِحَرْفٍ وَكِبَرِ سِنٍّ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ ضَعِيفًا } مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ وَيَنْتَظِمُهُمَا.
وَذَكَرَ مَعَهُمَا مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ إمَّا لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ انْفَلَتَ لِسَانُهُ عَنْ الْإِمْلَاءِ أَوْ لِخَرَسٍ ؛ ذَلِكَ كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ.
وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوُجُوهُ مُرَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ بَعْضُ مَنْ يَلْحَقُهُ اسْمُ السَّفِيهِ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إثْبَاتِ الْحَجْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ
أَنَّ السَّفَهَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَوِي تَحْتَهُ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ ، مِنْهَا : مَا ذَكَرْنَا مِنْ السَّفَهِ فِي الدِّينِ ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَجْرَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ سُفَهَاءُ وَهُمْ غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ لِلْحَجْرِ فِي أَمْوَالِهِمْ.(10/144)
وَمِنْهَا : السَّفَهُ الَّذِي هُوَ الْبِذَاءُ وَالتَّسَرُّعُ إلَى سُوءِ اللَّفْظِ ، وَقَدْ يَكُونُ السَّفِيهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ السَّفَهِ مُصْلِحًا لِمَالِهِ غَيْرَ مُفْسِدِهِ وَلَا مُبَذِّرِهِ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : يُرِيدُ أَهْلَكَهَا وَأَوْبَقَهَا.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ رَأْسِي دَهِينًا وَقَمِيصِي غَسِيلًا وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيدًا ، أَفَمِنْ الْكِبْرِ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا إنَّمَا الْكِبْرُ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ } وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يُرِيدَ : مَنْ جَهِلَ الْحَقَّ لِأَنَّ الْجَهْلَ يُسَمَّى سَفَهًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 212 ـ 215}(10/145)
قوله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما لم يكن بين الكتابة والشهادة ملازمة نص عليها وبين أهلها فقال : {واستشهدوا} أي اطلبوا الشهادة وأوجدوها مع الكتابة ودونها {شهيدين} قال الحرالي فجعل شهادة الدين باثنين كما جعل الشاهد في الدين اثنين : شاهد التفكر في الآيات المرئية وشاهد التدبر للآيات المسموعة ،
وفي صيغة فعيل مبالغة في المعنى في تحقق الوصف بالاستبصار والخبرة - انتهى.
ولما بيّن عدد الشاهد بيّن نوعه فقال : {من رجالكم} وأعلم بالإضافة اشتراط كونه مسلماً وإطلاق هذا الذي ينصرف إلى الكامل مع ما يؤيده في الآية يفهم الحريّة كقوله {ولا يأب الشهداء} والإتيان بصيغة المبالغة في الشاهد وتقييده مع ذلك بالرضى وتعريف الشهداء ونحوه.
قال الحرالي : ولكثرة المداينة وعمومها وسع فيها الشهادة فقال : {فإن لم يكونا} أي الشاهدان {رجلين} أي على صفة الرجولية كلاهما {فرجل وامرأتان} وفي عموم معنى الكون إشعار بتطرق شهادة المرأتين مع إمكان طلب الرجل بوجه ما من حيث لم يكن ،
فإن لم تجدوا ففيه تهدف للخلاف بوجه ما من حيث إن شمول الكتاب توسعة في العلم سواء كان على تساو أو على ترتب ؛ ولما كنّ ناقصات عقل ودين جعل ثنتان منهن مكان رجل - انتهى.
ولما بيّن العدد بيّن الوصف فقال : {ممن ترضون} أي في العدالة {من الشهداء} هذا في الديون ونحوها.(10/146)
قال الحرالي : وفي مفهوم الشهادة استبصار نظر الشاهد لما في الشهود من إدراك معنى خفي في صورة ظاهر يهدي إليها النظر النافذ - انتهى.
ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال العدد من النساء علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن فقال : {أن تضل إحداهما} أي تغيب عنها الشهادة فتنساها أو شيئاً منها {فتذكر إحداهما الأخرى} فتهتدي إلى ما ضلت عنه بواسطة الذاكرة.
قال الحرالي : بما هي أعرف بمداخل الضلال عليها ،
لأن المتقاربين أقرب في التعاون ،
وفي قراءتي التخفيف والتثقيل إشعار بتصنيف النساء صنفين في رتبة هذه الشهادة من يلحقها الضلال عن بعض ما شهدت فيه حتى تذكر بالتخفيف ولا يتكرر عليها ذلك ومن شأنها أن يتكرر عليها ذلك ،
وفي إبهامه بلفظ إحدى أي من غير اقتصار على الضمير الذي يعين ما يرجع إليه إشعار أن ذلك يقع بينهما متناوباً حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر فأذكرت كل واحدة منهما صاحبتها فلذلك يقوم بهما معاً شاهد واحد حافظ - انتهى.
وفي ذكر الإذكار منع من الشهادة بدون الذكر ،
والآية من الاحتباك.
ولما أفهم ذلك الحث على الشهادة صرح به في قوله : {ولا يأب الشهداء} أي تحمل الشهادة وأدائها بعد التحمل {إذا ما دعوا} دعاء جازماً بما أفهمته زيادة ما. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 547}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن المقصود من الكتابة هو الاستشهاد لكي يتمكن بالشهود عند الجحود من التوصل إلى تحصيل الحق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 98}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { شَهِيدَيْنِ } رتّب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل في كل فَنٍّ شهيدين إلا في الزِّنَا ، على ما يأتي بيانه في سورة "النساء".
وشهيدٌ بناءُ مبالغة ؛ وفي ذلك دلالةٌ على من شهد وتكرر ذلك منه ، فكأنه إشارة إلى العدالة.
والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 389}
وقال ابن العربى :
جَعَلَهَا فِي كُلِّ فَنٍّ شَهِيدَيْنِ ، إلَّا فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ قَرَنَ ثُبُوتَهَا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، تَأْكِيدًا فِي السَّتْرِ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 332}
لطيفة
قال ابن عاشور : (10/147)
إنّما جعَل القرآن كاتباً وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 105}
فائدة
قال الفخر :
الإضافة في قوله {مّن رّجَالِكُمْ} فيه وجوه
الأول : يعني من أهل ملتكم وهم المسلمون
والثاني : قال بعضهم : يعني الأحرار
والثالث : {مّن رّجَالِكُمْ} الذين تعتدونهم للشهادة بسبب العدالة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 98}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { مِّن رِّجَالِكُمْ } نَصُّ في رَفضْ الكفار والصبيان والنساء ، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم.
وقال مجاهد : المراد الأحرار ، واختاره القاضي أبو إسحاق وأطْنَب فيه.
وقد اختلف العلماء في شهادة العبيد ، فقال شُريح وعثمان البَتِّى وأحمد وإسحاق وأبو ثور : شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً ؛ وغلَّبوا لفظ الآَية.
وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد ؛ وغلَّبوا نقص الرق ، وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 389 ـ 390}
كلام نفيس لابن عاشور فى هذا الموضع
قال عليه الرحمة :
وقوله : { من رجالكم } أي من رجال المسلمين ، فحصل به شرطان : أنّهم رجال ، وأنّهم ممّن يشملهم الضمير.
وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام يأيها الذين آمنوا.
وأما الصبيّ فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل التهم.
والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث ، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان ، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام.(10/148)
فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا ، وأما الكافر فلأنّ اختلاف الدِّين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين ، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة ، ولأنّه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفه ، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي.
فإنّ الأديان السالفة لم تتعرّض لاحترام حقوق المخالفين ، فتوَهَم أَتْباعهم دحضها.
وقد حكى الله عنهم أنّهم قالوا : "ليس علينا في الأمّيين سبيل".
وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهى عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصّها ببني إسرائيل ، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب ، ولم نر في دين من الأديان التصريحَ بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام ، فكيف نعتدّ بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم ، ويرمون بذلك نبيئهم فمن دونه ، فماذا يرجَى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم والنصْرانية تابعة لأحكام التوراة.
على أنّ تجافي أهل الأديان أمر كان كالجبليّ فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع أهل الذمة لا نرى منهم امتثالاً فيما يأمرهم به في شأنهم.
وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة "ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل".
وفي "البخاري" ، في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز.
وما روي عن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري : أنّ نفراً من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرّقوا بها ، فوجدوا أحدهم قتيلاً ، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل أنتم قتلتم صاحبنا ، قالوا ما قتلنا ، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكَوْا إليه ، فقال لهم : " تأتون بالبيّنة على من قتله " قالوا : "ما لنا بيّنة" ، قال : " فتحلف لكم يهودُ خمسين يميناً " قالوا : "ما يُبالُون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون" ، فكرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبطل دمَه ووَدَاه من مال الصدقة.(10/149)
فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الأنصار في اليهود : إنّهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون.
فإن قلت : كيف اعتدتّ الشريعة بيمين المدّعى عليه من الكفار ، قلت : اعتدّت بها لأنّها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى ، فرأتْها الشريعة خيراً من إهمال الدعوى من أصلها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 106 ـ 107}
فائدة
قال القرطبى :
قوله { مِّن رِّجَالِكُمْ } دليل على أن الأعمى من أهل الشهادة ، لكن إذا علم يقيناً ؛ مثل ما روي عن ابن عباس قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال : "ترى هذه الشمس فاشهد على مِثلها أو دع" "
وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به ، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطىء.
نعم يجوز له وَطْءُ امرأته إذا عرف صوتها ؛ لأن الإقدام على الوطءِ جائز بغلبة الظن ؛ فلو زُفّت إليه امرأة وقيل : هذه امرأتك وهو لا يعرفها جاز له وطؤها ، ويحل له قبول هدية جاءته بقول الرسول.
ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذْف أو غصب لما جاز له إقامة الشهادة على المخْبَر عنه ؛ لأن سبيل الشهادة اليقين ، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن ؛ ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف : إذا علمه قبل العمى جازت الشهادة بعد العمى ؛ ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه كالغيبة والموت في المشهود عليه.
فهذا مذهب هؤلاء.
والذي يمنع أداء الأعمى فيما تحمّل بصيراً لا وجه له ، وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض ، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن العلماء من قبِل شهادة الأعمى فيما طريقه الصوت ؛ لأنه رأى الاستدلال بذلك يترقى إلى حدّ اليقين ، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصّوَر والألوان.
وهذا ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير.
قلت : مذهب مالك في شهادة الأعمى على الصوت جائزة في الطلاق وغيره إذا عرف الصوت.
قال ابن قاسم : قلت لمالك : فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه ، يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت ؟ قال قال مالك : شهادته جائزة.
وقال ذلك علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد وشُرَيح الكندي والشَّعْبي وعطاء بن أبي رَبَاح ويحي بن سعيد وربيعة وإبراهيم النخعي ومالك والليث. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 390 ـ 391}
من فوائد العلامة السبكى :
قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ : (مَسْأَلَةٌ) جَرَى الْبَحْثُ فِي الْغَزَالِيَّةِ فِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الآخَرَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فَقُلْتُ قَوْلُهُ " مِنْ " إشَارَةٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ الأَحْرَارِ ، لأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَتَدَايَنُونَ غَالِبًا وَالرَّقِيقُ لا يَتَدَايَنُ غَالِبًا. فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ وَهُوَ الْوَلَدُ عَبْدُ الْوَهَّابِ هَذَا يَثْبُتُ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ يَخُصُّ بِالْعَادَةِ وَالصَّحِيحُ خِلافُهُ فَلا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُدَايِنَةِ بَيْنَ الأَحْرَارِ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَخْتَصَّ الْخِطَابُ بِهِمْ لأَنَّهُ عَامٌ. قُلْت لا نُسَلِّمُ وَطَالَتْ هَذِهِ الْمُمَانَعَةُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِلْجَمَاعَةِ سَنَدُ الْمَنْعِ فَبَيَّنْته لَهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ أَيْ وَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ لا عُمُومَ لَهُ لَكِنَّهُ نَعْتٌ بِاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلا يَلْزَمُ مِنْ نَعْتِهِ بِالْعَامِ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى إطْلاقِهِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ " عَلَى الأَحْرَارِ " تَقْيِيدًا لا تَخْصِيصًا بَلْ أَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ تَقْيِيدًا أَيْضًا بَلْ لِبَيَانِ الْمُخَاطَبِ مَنْ هُوَ وَكَذَلِكَ يُصْرَفُ بِأَيِّ قَرِينَةٍ اتَّفَقَ وَلا يُسَمَّى تَخْصِيصًا كَمَا تَقُولُ " هَذَا " مُشِيرًا إلَى شَخْصٍ فَيُعْرَفُ بِالإِشَارَةِ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِك " هَذَا " وَلا يُسَمَّى تَخْصِيصًا وَلا تَقْيِيدًا. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَى بَابِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ حَتَّى يُدْعَى تَعْمِيمُ النَّكِرَةِ بِعُمُومِ صِفَتِهَا ؛ كَمَا يَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ ، لأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ شَرْطًا بِمُقْتَضَاهُ ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَنُوطٌ بِالْمَقْصُودِ بِالنِّدَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ لا دَلالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ بَلْ لِمَا تَدُلُّ الْقَرَائِنُ عَلَيْهِ ، فَلا جَرَمَ امْتَنَعَ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. أ هـ {فتاوى السبكى حـ 1 صـ 36 ـ 37}(10/150)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ } ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَةِ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ ؛ وَلَمَّا قَالَ فِي نَسَقِ الْخِطَابِ : { مِنْ رِجَالِكُمْ } كَانَ كَقَوْلِهِ مِنْ رِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَ الْإِيمَانِ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَالْمَعْنَى الْآخَرِ : الْحُرِّيَّةِ وَذَلِكَ لِمَا فِي فَحْوَى الْخِطَابِ مِنْ الدَّلَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا قَوْله تَعَالَى : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } وَذَلِكَ فِي الْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ عُقُودَ الْمُدَايَنَاتِ وَإِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ، وَالْخِطَابُ إنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْغَيْرِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْحُرِّيَّةَ.(10/151)
وَالْمَعْنَى الْآخَرِ مِنْ دَلَالَةِ الْخِطَابِ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ رِجَالِكُمْ } فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْإِحْرَازَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } يَعْنِي الْأَحْرَارَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } فَلَمْ يَدْخُلْ الْعَبِيدُ فِي قَوْله تَعَالَى مِنْكُمْ ؟ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْإِسْلَامَ وَالْحُرِّيَّةَ جَمِيعًا ، وَأَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ غَيْرُ جَائِزَةٍ ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُجُوبِ وَقَدْ أَمَرَ بِاسْتِشْهَادِ الْأَحْرَارِ فَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } قَالَ : ( الْأَحْرَارُ ).
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ مَا ذَكَرْت إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ.
قِيلَ لَهُ : لَمَّا ثَبَتَ بِفَحْوَى خِطَابِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَحْرَارُ.
وَكَانَ قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } أَمْرًا مُقْتَضِيًا لِلْإِيجَابِ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى ( وَاسْتَشْهِدُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَحْرَارِ ) فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إسْقَاطُ شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ إسْقَاطُ الْعَدَدِ ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَضَمَّنَتْ بُطْلَانَ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 221 ـ 222}(10/152)
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين ؛ هذا قول الجمهور.
"فَرَجُلٌ" رفع بالابتداء ، { وامرأتان } عطف عليه والخبر محذوف.
أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما.
ويجوز النصب في غير القرآن ، أي فاستشهدوا رجلاً وامرأتين.
وحكى سيبويه : إنْ خنجراً فخنجراً.
وقال قوم : بل المعنى فإن لم يكن رجلان ، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، فلفظ الآية لا يعطيه ، بل الظاهر منه قول الجمهور ، أي إن لم يكن المستشهد رجلين ، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذرٍ مّا فليستشهد رجلاً وامرأتين.
فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية ، ولم يذكرها في غيرها ، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور ، بشرط أن يكون معهما رجل.
وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها ؛ لأن الأموال كثر الله أسباب تَوْثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلْوَى بها وتكررها ؛ فجعل فيها التَوثُّق تارة بالكتْبَة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان ، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال.
ولا يتوهّم عاقل أن قوله تعالى { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } يشتمل على دَيْن المهر مع البُضْع ، وعلى الصلح على دم العمد ، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدَّيْن ، بل هي شهادة على النكاح.
وأجاز العلماء شهادتهنّ منفردات فيما لا يطّلع عليه غيرهنّ للضرورة.
وعلى مثل ذلك أُجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة.
وقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 391}
لطيفة
قال ابن عاشور :
وجيء في الآية بكان الناقصة مع التمكّن من أن يقال فإن لم يكنْ رجلان لئلاّ يتوهم منه أنّ شهادة المرأتين لا تقبل إلاّ عند تعذّر الرجلين كما توهّمه قوم ، وهو خلاف قول الجمهور لأنّ مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين.
وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشؤون ، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلّل ذلك بقوله : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ، وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسيانِ لأنّ المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلّة بحسب الغالب ، والضلال هنا بمعنى النسيان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 109}(10/153)
فائدة
قال ابن العربى :
قَوْله تَعَالَى : { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } فَكَرَّرَ قَوْلَهُ : " إحْدَاهُمَا " وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ الْأُخْرَى ، لَكَانَتْ شَهَادَةً وَاحِدَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى لَكَانَ الْبَيَانُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لِتَذْكِرَةِ الذَّاكِرَةِ النَّاسِيَةِ ، فَلَمَّا كَرَّرَ إحْدَاهُمَا أَفَادَ تَذْكِرَةَ الذَّاكِرَةِ لِلْغَافِلَةِ وَتَذْكِرَةَ الْغَافِلَةِ لِلذَّاكِرَةِ أَيْضًا لَوْ انْقَلَبَتْ الْحَالُ فِيهِمَا بِأَنْ تَذْكُرَ الْغَافِلَةُ وَتَغْفُلَ الذَّاكِرَةُ ؛ وَذَلِكَ غَايَةٌ فِي الْبَيَانِ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 338}(10/154)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَوْجَبَ بَدِيًّا اسْتِشْهَادَ شَهِيدَيْنِ ، وَهُمَا الشَّاهِدَانِ ؛ لِأَنَّ الشَّهِيدَ وَالشَّاهِدَ وَاحِدٌ كَمَا أَنَّ عَلِيمًا وَعَالِمًا وَاحِدٌ وَقَادِرًا وَقَدِيرًا وَاحِدٌ ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ : { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ } يَعْنِي إنْ لَمْ يَكُنْ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ : { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ } مِنْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ ( فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) كَقَوْلِهِ : { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا } وَكَقَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } ثُمَّ قَالَ : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } إلَى قَوْلِهِ : { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فِي الْأَبْدَالِ الَّتِي أُقِيمَتْ مَقَامَ أَصْلِ الْفَرْضِ عِنْدَ عَدَمِهِ.(10/155)
أَوْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ : ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَالشَّهِيدَانِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) فَأَفَادَنَا إثْبَاتَ هَذَا الِاسْمِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ حَتَّى يُعْتَبَرَ عُمُومُهُ فِي جَوَازِ شَهَادَتِهِمَا مَعَ الرَّجُلِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ ؛ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ عِنْدَ عَدَمِ الرَّجُلَيْنِ فَثَبَتَ الْوَجْهُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ تَسْمِيَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ شَهِيدَيْنِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْمًا شَرْعِيًّا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيمَا أُمِرْنَا فِيهِ بِاسْتِشْهَادِ شَهِيدَيْنِ ، إلَّا مَوْضِعًا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ } وَإِثْبَاتُ النِّكَاحِ وَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ؛ إذْ قَدْ لَحِقَ اسْمُ شَهِيدَيْنِ ، وَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّكَاحَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 230 ـ 231}(10/156)
لطيفة
قال ابن العربى :
فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ جُعِلَ أَصْلَهَا وَجُعِلَتْ فَرْعَهُ ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْهُ ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ.
الثَّانِي : أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْعَوْجَاءِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ ، فَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا ، وَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت بِهَا عَلَى عِوَجٍ ، وَقَالَ : وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا }.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ نَقْصُ دِينِهَا.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ نَقْصُ عَقْلِهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ : { مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ.
قُلْنَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا ؟ قَالَ : أَلَيْسَ تَمْكُثُ إحْدَاكُنَّ اللَّيَالِيَ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي ، وَشَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ عَلَى نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ ؟ }.
الْخَامِسُ : أَنَّهُ نَقْصُ حَظِّهَا فِي الْمِيرَاثِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } السَّادِسُ : أَنَّهَا نَقَصَتْ قُوَّتُهَا ؛ فَلَا تُقَاتِلُ وَلَا يُسْهَمُ لَهَا ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَانٍ حُكْمِيَّةٌ.(10/157)
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ نُسِبَ النَّقْصُ إلَيْهِنَّ وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِنَّ ؟ قُلْنَا : هَذَا مِنْ عَدْلِ اللَّهِ يَحُطُّ مَا شَاءَ وَيَرْفَعُ مَا شَاءَ ، وَيَقْضِي مَا أَرَادَ ، وَيَمْدَحُ وَيَلُومُ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ مَنَازِلَ ، وَرَتَّبَهَا مَرَاتِبَ ؛ فَبَيَّنَ ذَلِكَ لَنَا فَعَلِمْنَا وَآمَنَّا بِهِ وَسَلَّمْنَاهُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 335 ـ 336}
فائدة
قال ابن العربى :
قَوْله تَعَالَى : { فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } فِيهِ تَأْوِيلَانِ وَقِرَاءَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنْ تَجْعَلَهَا ذِكْرًا ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ.
الثَّانِي : أَنْ تُنَبِّهَهَا إذَا غَفَلَتْ وَهِيَ قِرَاءَةُ التَّثْقِيلِ ؛ وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّهُ يَعْضُدُهُ قَوْله تَعَالَى : { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا } وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْقُبَ الضَّلَالَ وَالْغَفْلَةَ الذِّكْرُ ، وَيَدْخُلُ التَّأْوِيلُ الثَّانِي فِي مَعْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَتْ امْرَأَةً وَاحِدَةً مَعَ رَجُلٍ فَيُذَكِّرَهَا الرَّجُلُ الَّذِي مَعَهَا إذَا نَسِيَتْ ؛ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ ؟ فَالْجَوَابُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ مَا أَرَادَ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ وَأَوْفَى بِالْمَصْلَحَةِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَعْلَمَ الْخَلْقُ وُجُوهَ الْحِكْمَةِ وَأَنْوَاعَ الْمَصَالِحِ فِي الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ أَشَارَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهُ لَوْ ذَكَّرَهَا إذَا نَسِيَتْ لَكَانَتْ شَهَادَةً وَاحِدَةً ، فَإِذَا كَانَتْ امْرَأَتَيْنِ وَذَكَّرَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، كَالرَّجُلِ يَسْتَذْكِرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتَذَكَّرُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 337}(10/158)
قوله تعالى {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء}
قال القرطبى :
لما قال الله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } دل على أن في الشهود من لا يُرْضى ، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم ، وذلك معنىً زائدٌ على الإسلام ؛ وهذا قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة : كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فِسْق ظاهر فهو عَدْلٌ وإن كان مجهول الحال.
وقال شُرَيح وعثمان الَبتِّى وأبو ثور : هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيداً.
قلت : فعمَّمُوا الحكم ؛ ويلزم منه قبول شهادة البَدَوي على الَقَروي إذا كان عدلاً مرضياً وبه قال الشافعي ومن وافقه ، وهو من رجالنا وأهل ديننا.
وكونهُ بدَوِياً ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوِّي بين الَبَدوِي والقَرَوِي ؛ قال الله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } وقال تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] ف "منكم " خطاب للمسلمين.(10/159)
وهذا يقتضي قطعاً أن يكون معنى العدالة زائداً على الإسلام ضرورةً ؛ لأن الصفة زائدة على الموصوف ، وكذلك { مِمَّن تَرْضَوْنَ } مثلهُ ، خلاف ما قال أبو حنيفة ، ثم لا يعلم كونه مرضياً حتى يُخْتَبر حاله ، فيلزمه ألا يكتفى بظاهر الإسلام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 395 ـ 396}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذه الآية تدل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة والفقهاء قالوا : شرائط قبول الشهادة عشرة أن يكون حراً بالغاً مسلماً عدلاً عالماً بما شهد به ولم يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع بها مضرة عن نفسه ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ، ولا بترك المروأة ، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 99}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين.
قال ابن بُكيَر وغيره : هذه مخاطبة للحكّام.
ابن عطية : وهذا غير نبيل ، وإنما الخطاب لجميع الناس ، لكن المُتَلَبِّسِ بهذه القضية إنما هم الحكام ، وهذا كثير في كتاب الله يعمّ الخطاب فيما يتلبس به البعض. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 395}(10/160)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَةُ دِيَانَاتِ النَّاسِ وَأَمَانَاتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ إنَّمَا هِيَ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ ؛ إذْ لَا يَعْلَمُ ضَمَائِرَهُمْ وَلَا خَبَايَا أُمُورِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَنَا بِاعْتِبَارِهِ مِنْ أَمْرِ الشُّهُودِ : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَمْرَ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ رَأْيِنَا وَمَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِنَا مِنْ عَدَالَتِهِمْ وَصَلَاحِ طَرَائِقِهِمْ.
وَجَائِزٌ أَنْ يَغْلِبَ فِي ظَنِّ بَعْضِ النَّاسِ عَدَالَةُ شَاهِدٍ وَأَمَانَتُهُ فَيَكُونُ عِنْدَهُ رِضًى ، وَيَغْلِبُ فِي ظَنِّ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرِضًى ؛ فَقَوْلُهُ : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } مَبْنِيٌّ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ.
وَاَلَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّهَادَةِ أَشْيَاءُ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا الْعَدَالَةُ ، وَالْآخَرُ نَفْيُ التُّهْمَةِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا ، وَالثَّالِثُ : التَّيَقُّظُ وَالْحِفْظُ وَقِلَّةُ الْغَفْلَةِ.
أَمَّا الْعَدَالَةُ فَأَصْلُهَا الْإِيمَانُ وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ وَصِدْقِ اللَّهْجَةِ وَالْأَمَانَةِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ.
وَأَمَّا نَفْيُ التُّهْمَةِ فَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا أَوْ زَوْجًا وَزَوْجَةً ، وَأَنْ لَا يَكُونَ قَدْ شَهِدَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فَرُدَّتْ لِتُهْمَةٍ.
فَشَهَادَةُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِمَنْ ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا مَرَضِيَّيْنِ.(10/161)
وَأَمَّا التَّيَقُّظُ وَالْحِفْظُ وَقِلَّةُ الْغَفْلَةِ فَأَنْ لَا يَكُونَ غُفُولًا غَيْرَ مُجَرِّبٍ لِلْأُمُورِ ، فَإِنَّ مِثْلَهُ رُبَّمَا لُقِّنَ الشَّيْءَ فَتَلَقَّنَهُ ، وَرُبَّمَا جُوِّزَ عَلَيْهِ التَّزْوِيرُ فَشَهِدَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ صَوَّامٍ قَوَّامٍ مُغَفَّلٍ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُلَقَّنَ فَيَأْخُذَ بِهِ ، قَالَ : هَذَا شَرٌّ مِنْ الْفَاسِقِ فِي شَهَادَتِهِ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيمَا الْمُحَبِّرُ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ هِلَالٍ عَنْ أَشْعَثَ الْحُدَّانِيِّ قَالَ : { قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ : يَا أَبَا سَعِيدٍ إنَّ إيَاسًا رَدَّ شَهَادَتِي فَقَامَ مَعَهُ إلَيْهِ فَقَالَ : يَا مَلْكَعَانُ لِمَ رَدَدْت شَهَادَتَهُ ؟ أَوَ مَا بَلَغَك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ مِنْ ذَبِيحَتِنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ } ؟ فَقَالَ : أَيُّهَا الشَّيْخُ أَمَا سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } ؟ وَإِنَّ صَاحِبَك هَذَا لَيْسَ نَرْضَاهُ.(10/162)
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ : حَدَّثَنَا السِّرِّيُّ بْنُ عَاصِمٍ بِإِسْنَادٍ ذَكَرَهُ : أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ ، فَرَدَّ شَهَادَتَهُ ، فَبَلَغَ الْحَسَنُ وَقَالَ : قُومُوا بِنَا إلَيْهِ قَالَ : فَجَاءَ إلَى إيَاسٍ فَقَالَ : يَا لُكَعُ تَرُدُّ شَهَادَةَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ أَرْضَى.
قَالَ : فَسَكَتَ الْحَسَنُ ، فَقَالَ خَصْمُ الشَّيْخِ : فَمِنْ شَرْطِ الرِّضَا لِلشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُتَيَقِّظًا حَافِظًا لِمَا يَسْمَعُهُ مُتْقِنًا لِمَا يُؤَدِّيهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي صِفَةِ الْعَدْلِ أَشْيَاءَ ، مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ سَلِمَ مِنْ الْفَوَاحِشِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الْحُدُودُ وَمَا يُشْبِهُ مَا تَجِبُ فِيهِ مِنْ الْعَظَائِمِ وَكَانَ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَأَخْلَاقُ الْبِرِّ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَعَاصِي الصِّغَارِ ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ.
وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَخْلَاقِ الْبِرِّ رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ.(10/163)
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ يُقَامِرُ عَلَيْهَا وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ وَيُطَيِّرُهَا ، وَكَذَلِكَ مَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ بِالْكَذِبِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ ) قَالَ : ( وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْجَمَاعَةِ اسْتِخْفَافًا بِذَلِكَ أَوْ مَجَانَةً أَوْ فِسْقًا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ ، وَإِنَّ تَرَكَهَا عَلَى تَأْوِيلٍ وَكَانَ عَدْلًا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ) قَالَ : ( وَإِنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ الْفَاحِشِ لَمْ أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ وَرُبَّمَا اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَالْخَيْرُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الشَّرِّ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، لَيْسَ يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الذُّنُوبِ ). أ هـ
ثم قال رحمه الله :
وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ؛ إذْ كَانَتْ الشَّهَادَاتُ مِنْ مَعَالِمِ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَقَدْ عُقِدَ بِهَا مَصَالِحُ الْخَلْقِ فِي وَثَائِقِهِمْ وَإِثْبَاتِ حُقُوقِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ وَإِثْبَاتِ الْأَنْسَابِ وَالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ إمْضَاءُ حُكْمٍ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ مِنْ طَرِيقِ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ(10/164)
وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِإِمَامٍ مَعْصُومٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ ؛ وَاحْتِجَاجُ مَنْ يَحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّ أُمُورَ الدِّينِ كُلَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ دُونَ غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ ، وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ إمَامٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُؤْمَنْ الْخَطَأُ فِيهَا لِأَنَّ الرَّأْيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَوَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ إلَّا أَنْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مَأْمُونًا عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ إذَا كَانُوا مَرْضِيِّينَ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ دُونَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مُغَيَّبِ أُمُورِهِمْ مَعَ جَوَازِ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ عَلَيْهِمْ ، ثَبَتَ بُطْلَانُ الْأَصْلِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ أَمْرَ النَّصِّ.
فَإِنْ قَالُوا : الْإِمَامُ يَعْلَمُ صِدْقَ الشُّهُودِ مِنْ كَذِبِهِمْ.
قِيلَ لَهُمْ : فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَسْمَعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ غَيْرُ الْإِمَامِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِلْإِمَامِ قَاضٍ وَلَا أَمِينٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْعِصْمَةِ وَفِي الْعِلْمِ بِمُغَيَّبِ أَمْرِ الشُّهُودِ ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ أَعْوَانِ الْإِمَامِ إلَّا مَعْصُومًا مَأْمُونَ الزَّلَلِ وَالْخَطَإِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ ؛ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِمَامِ حُكَّامٌ وَشُهُودٌ وَأَعْوَانٌ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ ثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَغَالِبِ الظَّنِّ.(10/165)
وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ اعْتِبَارِ أَحْوَالٍ الشُّهُودِ بِمَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ عَدَالَتِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ ، دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ ؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ وَالْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَنْسَابَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ عُقِدَ بِهَا مَصَالِحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ لَا نَعْلَمُ مُغَيَّبَ أُمُورِهِمْ وَإِنَّمَا نَحْكُمُ بِشَهَادَاتِهِمْ بِغَالِبِ الظَّنِّ وَظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ مَعَ تَجْوِيزِ الْكَذِبِ وَالْخَطَإِ وَالزَّلَلِ وَالسَّهْوِ عَلَيْهِمْ ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ تَجْوِيزُ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالُ غَلَبَةِ الرَّأْيِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَلَا اتِّفَاقَ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ الْأَخْبَارِ الْمُقَصِّرَةِ عَنْ إيجَابِ الْعِلْمِ بِمُخْبِرَاتِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْحُكْمِ بِهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي الْمُغَيَّبِ بِخِلَافِهِ ، فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ خَبَرِ مَنْ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ.(10/166)
وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى رَدِّ أَخْبَارِ الْآحَادِ بِأَنَّا لَوْ قَبِلْنَاهَا لَكِنَّا قَدْ جَعَلْنَا مَنْزِلَةَ الْمُخْبِرِ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ إذْ لَمْ يَجِبْ فِي الْأَصْلِ قَبُولُ خَبَرِ النَّبِيِّ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا عِلْمُ مُعْجِزَةٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمْ. أ هـ
ثم ختم كلامه رحمه الله بقوله :
هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا : مِنْ الْعَدَالَةِ ، وَنَفْيِ التُّهْمَةِ ، وَقِلَّةِ الْغَفْلَةِ ؛ هِيَ مِنْ شَرَائِطِ الشَّهَادَاتِ ، وَقَدْ انْتَظَمَهَا قَوْله تَعَالَى : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } فَانْظُرْ إلَى كَثْرَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي ضِمْنِ قَوْله تَعَالَى : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهِ وَبَلَاغَةِ لَفْظِهِ وَوَجَازَتِهِ وَاخْتِصَارِهِ وَظُهُورِ فَوَائِدِهِ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ ذِكْرِنَا لِمَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَاسْتِنْبَاطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِي مَضْمُونِهِ وَتَحَرِّيهِمْ مُوَافَقَتَهُ مَعَ احْتِمَالِهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ ؛ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمَخْلُوقِينَ إيرَادُ لَفْظٍ يَتَضَمَّنُ مِنْ الْمَعَانِي وَالدَّلَالَاتِ وَالْفَوَائِدِ وَالْأَحْكَامِ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ اخْتِصَارِهِ وَقِلَّةِ عَدَدِ حُرُوفِهِ.
وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُنَا مِنْ مَعَانِيهِ مِمَّا لَوْ كُتِبَ لَطَالَ وَكَثُرَ ، وَاَللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ لِنَعْلَمَ أَحْكَامَهُ وَدَلَائِلَ كِتَابِهِ ، وَأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 233 ـ 244} بتصرف يسير.(10/167)
قوله تعالى {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}
قال الفخر :
المعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 99}
سؤال : فإن قيل : كيف يصح هذا الكلام والإشهاد للإذكار لا الإضلال ؟
قلنا : هاهنا غرضان
أحدهما : حصول الإشهاد ، وذلك لا يأتي إلا بتذكير إحدى المرأتين الثانية
والثاني : بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية ، وذلك لا يأتي إلا في ضلال إحدى المرأتين ، فإذا كان كل واحد من هذين الأمرين أعني الإشهاد ، وبيان فضل الرجل على المرأة مقصوداً ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بضلال إحداهما وتذكر الأخرى ، لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين ، هذا ما خطر ببالي من الجواب عن هذا السؤال وقت كتبه هذا الموضع وللنحويين أجوبة أخرى ما استحسنتها والكتب مشتملة عليها ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 99}
فصل
قال الفخر :
الضلال في قوله {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} فيه وجهان
أحدهما : أنه بمعنى النسيان ، قال تعالى : {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ذهب عنهم
الثاني : أن يكون ذلك من ضل في الطريق إذا لم يهتد له ، والوجهان متقاربان ، وقال أبو عمرو : أصل الضلال في اللغة الغيبوبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 100}
فصل
قال الفخر : (10/168)
قرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي {فَتُذَكّرَ} بالتشديد والنصب ، وقرأ حمزة بالتشديد والرفع ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب ، وهما لغتان ذكر وأذكر نحو نزل وأنزل ، والتشديد أكثر استعمالاً ، قال تعالى : {فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ} [ الغاشية : 21 ] ومن قرأ بالتخفيف فقد جعل الفعل متعدياً بهمزة الأفعال ، وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله {فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} أن تجعلها ذكراً يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد ، وهذا الوجه منقول عن أبي عمرو بن العلاء ، قال : إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها ، لأنهما يقومان مقام رجل واحد وهذا الوجه باطل باتفاق عامة المفسرين ، ويدل على ضعفه وجهان الأول : أن النساء لو بلغن ما بلغن ، ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن ، فإذا كان كذلك فالمرأة الثانية ما ذكرت الأولى.
الوجه الثاني : أن قوله {فَتُذَكّرَ} مقابل لما قبله من قوله {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} فلما كان الضلال مفسر بالنسيان كان الإذكار مفسراً بما يقابل النسيان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 100}
لطيفة
قال ابن عاشور :
وقوله : { أن تضل } قرأه الجمهور بفتح همزة أنْ على أنّه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع أنْ ، والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يُعلّل لقصد إقناع المكلّفين ، إذ لا نجد في هذه الجملة حكماً قد لا تطمئنّ إليه النفوس إلاّ جعْلَ عوضضِ الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصُرح بتعليله.(10/169)
واللام المقدرة قبل أنْ متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط إذ التقدير فرجل وامرأتان يشهدان أو فليشهد رجل وامرأتان ، وقرأوه بنصب { فتذكّر } عطفاً على { أن تضلّ } ، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار إنْ شرطية وتضلّ فعل الشرط ، وبرفع تذكرُ على أنّه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء لأنّ الفاء تؤذن بأنّ ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكّرها الأخرى على نحو قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } [ المائدة : 95 ].
ولما كان "أن تضلّ" في معنى لضلال إحداهما صارت العلّة في الظاهر هي الضلال ، وليس كذلك بل العلّة هي ما يترتّب على الضلال من إضاعة المشهود به ، فتفرّع عليه قوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } لأنّ فتذكّر معطوف على تضلّ بفاء التعقيب فهو من تكملته ، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى : { أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } [ البقرة : 266 ] ، ونظيره كما في "الكشاف" أن تقول : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعِّمَه ، وأعددت السلاح أن يجيءَ عدوّ فأدْفَعَه.
وفي هذا الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال : أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها.
ووجَّهه صاحب "الكشاف" بأنّ فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلّل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله.
وادّعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة : أنّ من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة وكان للعلة علة قَدّموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالتان معاً بعبارة واحدة.
ومثَّله بالمثال الذي مثَّل به "الكشاف" ، وظاهر كلامه أنّ ذلك مُلتزم ولم أره لِغيره.
والذي أراه أنّ سبب العدول في مثله أنّ العلة تارة تكون بسيطة كقولك : فعلت كذا إكراماً لك ، وتارة تكون مركّبة من دفع ضُر وجلب نَفْع بدفعِه.(10/170)
فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازاً في الكلام كما في الآية والمثالين.
لأنّ المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة ، فلذا أخِذ بقولها حَقُّ المشهود عليه وقُصد تذكير المرأة الثانية إياها ، وهذا أحسن مما ذكره صاحب "الكشاف".
وفي قوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول فتذكّرها الأخرى ، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعيّن شخص المقصود بهما ، فكيفما وضعتَهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحداً ، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحاً سواء كان قوله إحداهما المظهر فاعلاً أو مفعولاً به ، فلا يظنّ أن كَون لفظ إحداهما المظهر في الآية فاعلاً ينافي كونه إظهاراً في مقام الإضمار لأنّه لو أضمر لكان الضمير مفعولاً ، والمفعول غير الفاعل كما قد ظنّه التفتازاني لأنّ المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتّحاد المعنى.
وهو موجود في الآية كما لا يخفى.
ثم نكتة الإظهار هنا قد تحيّرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرّض لها المتقدمون ، قال التفتازاني في "شرح الكشاف" : "ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرير لفظ إحداهما ، ولا خفاء في أنّه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكِّرة هي الناسية إلاّ أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول ، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس ، ويصح أن يقال : فتذكرها الأخرى ، فلا بد للعدول من نكتة".(10/171)
وقال العصام في "حاشية البيضاوي" "نكتة التكرير أنّه كان فصل التركيب أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت ، فلما قدّم إن ضلّت وأبرز في معرض العلّة لم يصح الإضمار ( أي لعدم تقدم إمعاد ) ولم يصح أن تضلّ الأخرى لأنّه لا يحسن قبل ذكر إحداهما ( أي لأنّ الأخرى لا يكون وصفاً إلاّ في مقابلة وصف مقابل مذكور ) فأبدل بإحداهما ( أي أبدل موقع لفظ لأخرى بلفظ إحداهما ) ولم يغيّر ما هو أصل العلّة عن هيأته لأنّه كأن لم يقدم عليه ، { أن تضلّ إحداهما } يعني فهذا وجه الإظهار.
وقال الخفاجي في "حاشية التفسير" "قالوا : إنّ النكتة الإبهام لأنّ كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير ، فدخل الكلام في معنى العموم" يعني أنّه أظهر لئلاّ يتوهم أنّ إحدى المرأتين لا تكون إلاّ مذكِّرة الأخرى ، فلا تكون شاهدة بالأصالة.
وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجّهه إليه الخفاجي ، وهذا السؤال :
يا رأس أهل العلوم السادةِ البرره...
ومَن نداه على كل الورى نَشَره
ما سِرُّ تَكْرَار إحدَى دون تُذْكِرُها...
في آية لذوي الأشهاد في البقره
وظاهر الحال إيجاز الضمير على...
تكرار إحداهما لو أنّه ذكره
وحَمل الإحدى على نفس الشهادة في...
أولاهما ليس مرضياً لدى المهره
فغُص بفكرك لاستخراج جوهره...
من بحر علمك ثم ابعث لنا درره
فأجاب الغزنوي :
يا من فوائده بالعلم منتشره...
ومَن فضائله في الكون مشتهره
تَضلَّ إحداهما فالقولُ محتمل...
كِلَيهما فهي للإظهار مفتقره
ولو أتى بضمير كان مقتضيا...
تعيين واحدة للحكم معتبره
ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ فهو كما...
أشرتُم ليس مرضيا لمن سبَره
هذا الذي سمح الذهن الكليل به...
واللَّهُ أعلم في الفحوى بما ذكره(10/172)
وقد أشار السؤال والجواب إلى ردّ على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره ؛ إذ جعل إحداهما الأولَ مراداً به إحدى الشهادتين ، وجعل تضلّ بمعنى تتلف بالنسيان ، وجعل إحداهما الثاني مراداً به إحدى المرأتين.
ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في مقام الإضمار ، وهو تكلّف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه ، فينزّه تخريج كلام الله عليه ، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله : "ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ إلخ".
والذي أراه أنّ هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه مَعاد الضمير لَو أضمر ، وذلك يرشّح الجملة لأن تَجري مَجرى المثل.
وكأنّ المراد هنا الإيماء إلى أنّ كلتا الجملتين علّة لمشروعية تعدّد المرأة في الشهادة ، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه ، والتعدد مظنّة لاختلاف مواد النقص والخلل ، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى.
فقوله أن تضلّ تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة ، وقوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 109 ـ 112}
قوله تعالى : {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } قال الحسن : جمعت هذه الآية أمرين ، وهما ألاّ تأبَى إذا دُعِيتَ إلى تحصيل الشهادة ، ولا إذا دُعِيت إلى أدائها ؛ وقاله ابن عباس.
وقال قتادة والربيع وابن عباس : أي لِتَحَمُّلها وإثباتها في الكتاب.
وقال مجاهد : معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك.
وأسند النقاش إلى النبي النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسّر الآية بهذا ؛ قال مجاهد : فأما إذا دُعِيت لتشهد أوّلاً فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا ؛ وقاله أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم.(10/173)
وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين ، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود ؛ فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تُراد بقوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضروهما عند الحاكم ، على ما يأتي.
وقال ابن عطية : والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب ؛ فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعوّ مَنْدُوب ، وله أن يتَخَلَّف لأدنى عُذْر ، وإن تخلق لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له.
وإذا كانت الضرورة وخِيفَ تعطل الحق أدنى خوف قوِي النَّدب وقرب من الوجوب ، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها ، لا سيّما إن كانت مُحَصَّلة وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الظرف آكد ؛ لأنها قِلادة في العُنق وأمانة تقتضي الأداء.
قلت : وقد يستلوح من هذه الآية دليلٌ على أن جائزاً للإمام أن يُقيم للناس شهوداً ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم ، فلا يكون لهم شغل إلاَّ تحمل حقوق الناس حفظاً لها ، وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبَطَلت.
فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا. والله أعلم.
فإن قيل : هذه شهادة بالأُجرة ؛ قلنا : إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال ، وذلك كأرزاق القضاة والوُلاة وجميع المصالح التي تَعِنَّ للمسلمين وهذا من جملتها. والله أعلم.
وقد قال تعالى : { والعاملين عَلَيْهَا } [ التوبة : 60 ] ففرض لهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 398 ـ 399}
وقال السمرقندى :
إباء الشهادة على ثلاثة أوجه :
أحدهما : أن يمتنع عن أدائه.
والثاني : أن يشهد ويقصر في أدائه ، لكيلا تقبل شهادته.
(10/174)
والثالث : بأن لا يصون نفسه عن المعاصي ، فيصير منهما لا تقبل شهادته ، فكأنه وهو الذي أبطل حق المدعي ، وخانه حيث عصى الله تعالى حتى ردت شهادته بمعصيته. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 211}
فصل
قال الفخر :
في هذه الآية وجوه
الأول : وهو الأصح : أنه نهى الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها
والثاني : أن المراد تحمل الشهادة على الإطلاق ، وهو قول قتادة واختيار القفال ، قال : كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة ، كذلك أمر الشاهد أن لا يأبى عن تحمل الشهادة ، لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر ، وفي عدمهما ضياع الحقوق
الثالث : أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره
الرابع : وهو قول الزجاج : أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولاً ، والأداء ثانياً ،
واحتج القائلون بالقول الأول من وجوه
الأول : أن قوله {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} يقتضي تقديم كونهم شهداء ، وذلك لا يصح إلا عند أداء الشهادة ، فأما وقت التحمل فإنه لم يتقدم ذلك الوقت كونهم شهداء.
فإن قيل : يشكل هذا بقوله {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} وكذلك سماه كاتباً قبل أن يكتب.
قلنا : الدليل الذي ذكرناه صار متروكاً بالضرورة في هذه الآية فلا يجوز أن نتركه لعلة ضرورة في تلك الآية
والثاني : أن ظاهر قوله {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} النهي عن الامتناع ، والأمر بالفعل ، وذلك للوجوب في حق الكل ، ومعلوم أن التحمل غير واجب على الكل ، فلم يجز حمله عليه ، وأما الأداء بعد التحمل فإنه واجب على الكل ، ومتأكد بقوله تعالى : {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} فكان هذا أولى(10/175)
الثالث : أن الأمر بالإشهاد يفيد أمر الشاهد بالتحمل من بعض الوجوه ، فصار الأمر بتحمل الشهادة داخلاً في قوله {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} فكان صرف قوله {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} إلى الأمر بالأداء حملاً له على فائدة جديدة ، فكان ذلك أولى ، فقد ظهر بما ذكرنا دلالة الآية على أنه يجب على الشاهد أن لا يمتنع من إقامة الشهادة إذا دعي إليها.
واعلم أن الشاهد إما أن يكون متعيناً ، وإما أن يكون فيهم كثرة ، فإن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة ، وإن كان فيهم كثرة صار ذلك فرضاً على الكفاية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 101}
وقال القرطبى :
قال علماؤنا : هذا في حال الدعاء إلى الشهادة.
فأمّا من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقُّها الذي ينتفع بها ، فقال قوم : أداؤها ندب لقوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } ففرض الله الأداء عند الدعاء ؛ فإذا لم يُدْع كان ندباً ؛ لقوله عليه السَّلام : " خير الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " رواه الأئمة.
والصحيح أن أداءها فرض وإن لم يُسْألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته ، أو بطلاق أو عتق على من أقام على تصرفه على الاستمتاع بالزوجة واستخدام العبد إلى غير ذلك ؛ فيجب على من تحمل شيئاً من ذلك أداءُ تلك الشهادة ، ولا يَقِف أداؤها على أن تسأل منه فيضيع الحق ؛ وقد قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } [ الطلاق : 2 ] وقال : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 86 ].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " فقد تعيّن عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياءً لحقه الذي أماته الإنكار. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 399}
لطيفة
قال ابن عاشور :
{ وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ }.(10/176)
عُطف { ولا يأب } على { واستشهدوا شهيدين } لأنّه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نَهى من يُطلب إشهاده عن أن يأبَى ، ليتم المطلوب وهو الإشهاد.
وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهتماماً بما فيه التفريط.
فإنّ المتعَاقدين يظنّ بهما إهمال الإشهاد فأمرا به ، والشهود يظنّ بهم الامتناع فنهوا عنه ، وكل يستلزم ضدّه.
وتسمية المدعوِّينَ شهداء باعتبار الأوّل القريبِ ، وهو المشارفة ، وكأنَّ في ذلك نكتة عظيمة : وهي الإيماء إلى أنّهم بمجرّد دعوتهم إلى الإشهاد ، قد تعيّنت عليهم الإجابة ، فصاروا شهداء.
وحذف معمول دُعوا إمّا لظهوره من قوله قبله { واستشهدوا شهيدين } أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمّل ، وهذا قول قتادة ، والربيع بن سليمان ، ونقل عن ابن عباس ، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأوْلى ، ويجوز أن يكون حذف المعمول لقصد العموم ، أي إذا ما دعوا للتحمّل والأداء معاً ؛ قاله الحسن ، وابن عباس ، وقال مجاهد : إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة ، ولعلّ الذي حمله على ذلك هو قوله : { الشهداء } لأنّهم لا يكونون شهداء حقيقة إلاّ بعد التحمّل ، ويبعده أنّ الله تعالى قال بعد هذا { ولا تكتموا الشهادة } [ البقرة : 283 ] وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء.
والذي يظهر أنّ حذف المتعلِّق بفعل { دعوا } لإفادة شمول ما يُدعَون لأجله في التعاقد : من تحمّل ، عند قصد الإشهاد ، ومن أداء ، عند الاحتياج إلى البيّنة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 112 ـ 113}(10/177)
فائدة
قال الخازن :
اتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة ولا مقبولة في العقوبات والحدود ، وقوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } يعني من كان مرضياً عندكم في دينه وأمانته والشرائط المعتبرة في العدالة.
وقبول الشهادة عشرة وهي : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة ، وأن لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع عنه بها مضرة ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلظ والسهو ، وأن لا يكون بينه وبين من شهد من عليه عداوة فشهادة الكافر مردودة لأن الكذاب لا تقبل شهادته.
فالذي يكذب على الله أولى بأن ترد شهادته وجوز بعض أهل الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ولا تقبل شهادة العبيد وأجازها ابن شريح وابن سيرين وهو قول أنس ولا قول للمجنون معتبر على تصح شهادته.
ولا تجوز شهادة الصبيان وسئل ابن عباس عن ذلك فقال : لا يجوز لأن الله تعالى قال : { ممن ترضون من الشهداء } والعدالة شرط وهو أن لا يكون الشاهد مقيماً على الكبائر مصراً على الصغائر والمروءة شرط وهي ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء وهي حسن الهباة والسيرة والعشرة والصناعة ، فإن كان الرجل يظهر في نفسه شيئاً مما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب علم بذلك قلة مروءته وترد شهادته وانتفاء التهمة شرط فلا تقبل شهادة العدو على عدوه وإن كان مقبول الشهادة على غيره ، لأنه متهم في حق عدوه لا في حق غيره ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وتقبل شهادته عليهما ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعاً عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حداً ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب شهادة ولا القانع أهل البيت لهم ولا ظنين في ولاء ولا قرابة " قال الفزاري : القانع التابع ، أخرجه الترمذي.
قوله : لا تجوز شهادة خائن أراد بالخيانة الخيانة في الدين والمال والأمانة فإن من ضيع شيئاً من أوامر الله أو ارتكب شيئاً مما نهى الله عنه لا يكون عدلاً.
والغمر بكسر الغين الحقد والقانع هو السائل المستطعم وقيل : المنقطع إلى قوم يخدمهم فترد شهادته للتهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم والظنين بكسر الظاء المتهم. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 202 ـ 203}(10/178)
فائدة
قال القرطبى :
لا تَعارُض بين قوله عليه السَّلام : " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها " وبين قوله عليه السَّلام في حديث عِمران بن حصين : " إنّ خيركم قرنِي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم قال عمران : فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يَشَهدون ولا يُستشْهَدون ويخونون ولا يُؤتَمنون ويَنْذرون ولا يُوفون ويظهر فيهم السَّمَن " أخرجهما الصحيحان.
وهذا الحديث محمول على ثلاثة أوجه :
أحدها أن يُراد به شاهد الزور ، فإنه يشهد بما لم يستشهد ، أي بما لم يَتحمَّله ولا حُمِّلَهُ.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بباب الجابية فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كمقامي فيكم ثم قال : " يا أيها الناس اتقوا الله في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب وشهادة الزور "
الوجه الثاني أن يُراد به الذي يحمله الشّرَه على تنفيذ ما يشهد به ، فيبادر بالشهادة قبل أن يُسألها ؛ فهذه شهادة مردودةٌ ؛ فإن ذلك يدل على هَوًى غالب على الشاهد.
الثالث ما قاله إبراهيم النخعِي راوى طرق بعض هذا الحديث : كَانوا يَنْهَوْنَنا ونحن غلمان عن العهد والشهادات. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 400}
سؤال : لم سماهم شهداء ؟
الجواب : سماهم شهداء لأنهم يكونون شهداء. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 203}
وقال البيضاوى :
سموا شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 580}
قوله تعالى : { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما تمّ ذلك وكان صغير الحق وكبيره ربما تُركت تهاوناً بالصغير ومللاً للكبير حذر من ذلك ولم يجعله في صلب الأمر قبل الإشهاد بل أفرده بالذكر تعظيماً لشأنه فقال : {ولا تسئموا} من السآمة.(10/179)
قال الحرالي : بناء مبالغة وهو أشد الملالة {أن تكتبوه} أي لا تفعلوا فعل السئيم فتتركوا كتابته {صغيراً} كان الدين {أو كبيراً} طالت الكتابة أو قصرت.
قال الحرالي : ولم يكن قليلاً أو كثيراً ،
لأن الكثرة والقلة واقعة بالنسبة إلى الشيء المعدود في ذاته ، والصغير والكبير يقع بالنسبة إلى المداين ،
فربما كان الكثير في العدد صغير القدر عند الرجل الجليل المقدار ، وربما كان القليل العدد كثيراً بالنسبة إلى الرجل المشاحح فيه ، فكان الصغر والكبر أشمل وأرجع إلى حال المداين الذي هو المخاطب بأن يكتب انتهى.
{إلى أجله} أي الذي توافقتم وتواثقتم عليه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 547 ـ 548}
قال ابن عاشور :
{ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ }.
تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها ، فالصغير والكبير هنا مَجازان في الحقير والجليل.
والمعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة ، فلذلك نُهوا عن السآمة هنا.
والسآمة : الملل من تكرير فعللٍ مَّا.
والخطاب للمتداينين أصالة ، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب : لأنّ المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب.
والنهي عنها نهي عن أثرها ، وهو ترك الكتابة ، لأنّ السآمة تحصل للنفس من غير اختيار ، فلا ينهى عنها في ذاتها ، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون.
وانتصب صغيراً أو كبيراً على الحال من الضمير المنصوب بتكتبوه ، أو على حذف كانَ مع اسمها.
وتقديم الصغير على الكبير هنا ، مع أنّ مقتضى الظاهر العكس ، كتقديم السِنة على النوم في قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] لأنّه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهّمات في قلة الاعتناء بالصغير ، وهو أكثر ، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير ، لو اقتصر في اللفظ على الصغير.(10/180)
وجملة { إلى أجله } حال من الضمير المنصوب بتكتبوه ، أي مُغيَّى الدّينُ إلى أجله الذي تعاقدا عليه ، والمراد التغيية في الكتابة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 114}
قوله تعالى : {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان كأنه قيل : ما فائدة ذلك ؟ فقيل : {ذلكم} إشارة بأداة البعد وميم الجمع إلى عظم جدواه.
قال الحرالي : ولبيانه ووضوحه عندهم لم يكن إقبالاً على النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقبل عليه في الأمور الخفية - انتهى.
{أقسط} أي أعدل فقد نقل عن ابن السيد أنه قال في كتابه الاقتضاب : إن قسط بمعنى جار وبمعنى عدل.
وقال الحرالي : {أقسط} من الإقساط وهو وضع القسط وهو حفظ الموازنة حتى لا تخرج إلى تطفيف.
ثم زاد تعظيمه بقوله : {عند الله} أي الذي هو محيط بصفات الكمال بالنسبة إلى كل صفة من صفاته ،
لأنه يحمل على العدل بمنع المغالطة والتلون في شيء من أحوال ذلك الدين {وأقوم للشهادة} أي وأعدل في قيام الشهادة إذا طلب من الشاهد أن يقيمها بما هو مضبوط له وعليه {وأدنى} أي أقرب في {ألاّ ترتابوا} أي تشكوا في شيء من الأمر الذي وقع.
قال الحرالي : ففي إشعاره أنه ربما داخل الرجل والرجلين نحو ما داخل المرأتين فيكون الكتاب مقيماً لشهادتهما ،
فنفى عن الرجال الريبة بالكتاب كما نفى عن النساء الضلال بالذكر - انتهى.(10/181)
ولما كان الدين المؤجل أعم من أن يكون قرضاً أو تجارة ينمي بها المال المأمور بالإنفاق منه في وجوه الخير النافعة يوم الدين وكان قد أكد في أمر الكتابة تأكيداً ربما ظن معه الحث عليها ولو لم يكن أجل نبه على أن العلة فيها الأجل الذي هو مظنة النسيان المستولي على الإنسان بقوله : {إلا أن تكون} أي المداينة {تجارة حاضرة} هذا على قراءة عاصم ، وكان في قراءة غيره تامة {تديرونها بينكم} أي يداً بيد ، من الإدارة.
قال الحرالي : من أصل الدور وهو رجوع الشيء عوداً على بدئه {فليس عليكم} حينئذ {جناح} أي اعتراض في {ألاّ تكتبوها} أي لأنها مناجزة وهي عرض زائل لا يكاد يستقر في يد أحد لأن القصد به المتجر لا الاستبقاء فبعد ما يخشى من التجاحد. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 548 }
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الله تعالى بيّن أن الكتابة مشتملة على هذه الفوائد الثلاث :
الفائدة الأولى : قوله {ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله} وفي قوله {ذلكم} وجهان الأول : أنه إشارة إلى قوله {أَن تَكْتُبُوهُ} لأنه في معنى المصدر ، أي ذلك الكتب أقسط والثاني : قال القفال رحمه الله : ذلاكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد لأهل الرضا ومعنى {أَقْسَطُ عِندَ الله} أعدل عند الله ، والقسط اسم ، والإقساط مصدر ، يقال : أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط ، قال تعالى : {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [ الممتحنة : 8 ] [ الحجرات : 9 ] ويقال : هو قاسط إذا جار ، قال تعالى : {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [ الجن : 15 ] وإنما كان هذا أعدل عند الله ، لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين والصدق أقرب ، وعن الجهل والكذب أبعد ، فكان أعدل عند الله وهو كقوله تعالى : {ادعوهم لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} [ الأحزاب : 5 ] أي أعدل عند الله ، وأقرب إلى الحقيقة من أن تنسبوهم إلى غير آبائهم.(10/182)
والفائدة الثانية : قوله {أَقْوَمُ للشهادة} معنى {أَقْوَمُ} أبلغ في الاستقامة ، التي هي ضد الاعوجاج ، وذلك لأن المنتصب القائم ، ضد المنحني المعوج.
فإن قيل : مم بنى أفعل التفضيل ؟ أعني : أقسط وأقوم.
قلنا : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام ، ويجوز أن يكون أقسط من قاسط ، وأقوم من قويم.
واعلم أن الكتابة إنما كانت أقوم للشهادة ، لأنها سبب للحفظ والذكر ، فكانت أقرب إلى الاستقامة ، والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى : تتعلق بتحصيل مرضاة الله تعالى ، والثانية : بتحصيل مصلحة الدنيا ، وإنما قدمت الأولى على الثانية إشعاراً بأن الدين يجب تقديمه على الدنيا.
والفائدة الثالثة : هي قوله {وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ} يعني أقرب إلى زوال الشك والارتياب عن قلوب المتداينين ، والفرق بين الوجهين الأولين ، وهذا الثالث الوجهين الأولين يشيران إلى تحصيل المصلحة ، فالأول : إشارة إلى تحصيل مصلحة الدين ، والثاني : إشارة إلى تحصيل مصلحة الدنيا وهذا الثالث : إشارة إلى دفع الضرر عن النفس وعن الغير ، أما عن النفس فإنه لا يبقى في الفكر أن هذا الأمر كيف كان ، وهذا الذي قلت هل كان صدقاً أو كذباً ، وأما دفع الضرر عن الغير فلأن ذلك الغير ربما نسبه إلى الكذب والتقصير فيقع في عقاب الغيبة والبهتان ، فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في القسط ، وما أحسن ما فيها من الترتيب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 101 ـ 102}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } دليل على أن الشاهد إذا رأى الكتاب ولم يذكر الشهادة لا يؤدّيها لما دخل عليه من الريبة فيها ، ولا يؤدّي إلاَّ ما يعلم ، لكنه يقول : هذا خطِّي ولا أذكر الآن ما كتبتُ فيه.
قال ابن المنذر : أكثر مَن يُحْفَظ عنه من أهل العلم يمنع أن يشهد الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة.(10/183)
واحتجّ مالك على جواز ذلك بقوله تعالى : { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } [ يوسف : 81 ].
وقال بعض العلماء : لمّا نسب الله تعالى الكتابة إلى العدالة وَسِعه أن يشهد على خطه وإن لم يتذكّر.
ذكر ابن المبارك عن مَعْمَر عن ابن طاوُس عن أبيه في الرجل يشهد على شهادةٍ فينساها قال : لا بأس أن يشهد إن وجد علامتَه في الصَّكّ أو خطّ يده.
قال ابن المبارك : استحسنتُ هذا جدّاً.
وفيما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد ، وعن الرسل من قبله ما يدلّ على صحة هذا المذهب. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 401}
قوله تعالى : {إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}
فصل
قال الفخر :
{إِلا} فيه وجهان أحدهما : أنه استثناء متصل
والثاني : أنه منقطع ،
أما الأول ففيه وجهان الأول : أنه راجع إلى قوله تعالى : {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} وذلك لأن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب ، وقد يكون إلى أجل بعيد ، فلما أمر بالكتبة عند المداينة ، استثنى عنها ما إذا كان الأجل قريباً ، والتقدير : إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريباً ، وهو المراد من التجارة الحاضرة
والثاني : أن هذا استثناء من قوله {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً}(10/184)
وأما الاحتمال الثاني ، وهو أن يكون هذا استثناءً منقطعاً فالتقدير : لكنه إذا كانت التجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها ، فهذا يكون كلاماً مستأنفاً ، وإنما رخص تعالى في ترك الكتبة والإشهاد في هذا النوع من التجارة ، لكثرة ما يجري بين الناس ، فلو تكلف فيها الكتبة والإشهاد لشق الأمر على الخلق ، ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتعاملين حقه من صاحبه في ذلك المجلس ، لم يكن هناك خوف التجاحد ، فلم يكن هناك حاجة إلى الكتبة والإشهاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 102}
فائدة
قال الفخر :
التجارة عبارة عن التصرف في المال سواء كان حاضراً أو في الذمة لطلب الربح ، يقال : تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر ، واعلم أنه سواء كانت المبايعة بدين أو بعين ، فالتجارة تجارة حاضرة ، فقوله {إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً} لا يمكن حمله على ظاهره ، بل المراد من التجارة ما يتجر فيه من الإبدال ، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيد ، ثم قال : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا} [ البقرة : 282 ] معناه : لا مضرة عليكم في ترك الكتابة ، ولم يرد الإثم عليكم لأنه لو أراد الإثم لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم ، ويأثم صاحب الحق بتركها ، وقد ثبت خلاف ذلك وبيان أنه لا مضرة عليهم في تركها ما قدمناه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 103}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض.
ولمّا كانت الرِّباع والأرض وكثير من الحيوان لا يقبل البينونة ولا يغاب عليه ، حَسُن الكَتْبُ فيها ولحقت في ذلك مبايعة الدَّين ؛ فكان الكتاب توثُّقاً لِما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغيُّر القلوب.
فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا وبان كل واحد منهما بما ابتاع من صاحبه ، فيقلّ في العادة خوف التنازع إلاَّ بأسباب غامضة.(10/185)
ونبّه الشرع على هذ المصالح في حالتي النسيئة والنقد وما يغاب عليه وما لا يغاب ، بالكتاب والشهادة والرهن.
قال الشافعي : البيوع ثلاثة : بيع بكتاب وشهود ، وبيع برِهان ، وبيع بأمانة ؛ وقرأ هذه الآية.
وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد ، وإذا باع بنسيئة كتب. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 402}
قوله تعالى : {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان البيع أعم من أن يقصد به المتجر أو غير ذلك من وجوه الانتفاع قال : {وأشهدوا} سواء كانت كتابة أو لا {إذا تبايعتم} أي على وجه المتجر عاجلاً أو آجلاً أو لا للمتجر ، لأن الإشهاد أبعد من الخلاف وأقرب إلى التصادق بما فيه من الإنصاف ، والأمر للإرشاد فلا يجب.
ولما ألزم في صدر الخطاب الكاتب أن يكتب والشهيد أن يجيب ولا يأبى وأكد ذلك بصيغة تشمل المستكتب والمستشهد فقال ناهياً : {ولا يضار} يصح أن يكون للفاعل والمفعول وهو صحيح المعنى على كل منهما {كاتب ولا شهيد} أي لا يحصل ضرر منهم ولا عليهم.
قال الحرالي : ففي إلاحته تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده ويعينه على الائتمار لأمر ربه بما يدفع عنه من ضرر عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه ، ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعي لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه - انتهى.
{وإن تفعلوا} أي ما نهيتم عنه من الضرار وغيره {فإنه فسوق} أي خروج {بكم} عن الشرع الذي نهجه الله لكم.
قال الحرالي : وفي صيغة فعول تأكيد فيه وتشديد في النذارة - انتهى.(10/186)
وختم آيات هذه المعاملات بصفة العلم بعد الأمر بالتقوى في غاية المناسبة لما يفعله المتعاملون من الحيل التي يجتلب كل منهم بها الحظ لنفسه ، والترغيب في امتثال ما أمرهم به في هذه الجمل بأنه من علمه وتعليمه فقال تعالى - عاطفاً على ما تقدم من أمر ونهي ، أو على ما تقديره : فافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه- : {واتقوا الله} أي خافوا الذي له العظمة كلها فيما أمركم به ونهاكم من هذا وغيره.
ولما كان التقدير استئنافاً لبيان فخامة هذه التنبيهات يرشدكم الله إلى مثل هذه المراشد لإصلاح ذات بينكم ،
عطف عليه قوله : {ويعلمكم الله} أي يدريكم الذي له الكمال كله بذلك على العلم.
وقال الحرالي : وفي قوله : {يعلم} بصيغة الدوام إيذان بما يستمر به التعليم من دون هذا المنال انتهى.
وأظهر الاسم الشريف هنا وفي الذي بعده تعظيماً للمقام وتعميماً للتعليم فقال : {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {بكل شيء عليم} وهذا الختم جامع لبشرى التعليم ونذارة التهديد. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 549 }
قال الفخر :
{وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وأكثر المفسرين قالوا : المراد أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة إلا أن الإشهاد ما رفع عنهم ، لأن الإشهاد بلا كتابة أخف مؤنة ، ولأن الحاجة إذا وقعت إليها لا يخاف فيها النسيان.
واعلم أنه لا شك أن المقصود من هذا الأمر الإرشاد إلى طريق الاحتياط. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 103}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { وأشهدوا } قال الطبريّ : معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره.(10/187)
واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو الندب ؛ فقال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحّاك وسعيد بن المسيِّب وجابر ابن زيد ومجاهد وداود بن عليّ وابنه أبو بكر : هو على الوجوب ؛ ومِن أشدِّهم في ذلك عطاء قال : أشْهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث درهم أو أقلّ من ذلك ؛ فإن الله عزّ وجلّ يقول : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ }.
وعن إبراهيم قال : أشْهدْ إذا بعتَ وإذا اشتريت ولو دَسْتَجَة بَقَلْ.
وممن كان يذهب إلى هذا ويرجّحه الطبريّ ، وقال : لا يحلّ لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلاَّ أن يُشْهد ، وإلاَّ كان مخالفاً كتاب الله عزّ وجلّ ، وكذا إن كان إلى أجل فعليه أن يكتُب ويُشْهد إن وجد كاتباً.
وذهب الشّعبي والحسن إلى أن ذلك على النّدْب والإرشاد لا على الحَتْم.
ويُحكى أن هذا قول مالك والشافعيّ وأصحاب الرأي.
وزعم ابن العربيّ أن هذا قول الكافّة ، قال : وهو الصحيح.
ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلاَّ الضحاك.
قال وقد باع النبيّ صلى الله عليه وسلم وكتَب.
قال : ونسخة كتابه : "بسم الله الرحمن الرّحيم.
هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمد صلى الله عليه وسلم ، اشترى منه عبداً أو أمة لا داءَ ولا غائِلَةَ ولا خِبّثَة بيعَ المسلم المسلم".
وقد باع ولم يُشهد ، واشترى ورَهَن دِرعَه عند يهوديّ ولم يُشهد.
ولو كان الإشهاد أمراً واجباً لوجب مع الرهن لخوف المنازعة.
قلت : قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك.
وحديث العدّاء هذا أخرجه الدّارقطنيّ وأبو داود.
وكان إسلامه بعد الفتح وحُنَين ، وهو القائل : قاتلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنَيْن فلم يُظهِرنا الله ولم ينصرنا ، ثم أسلم فحسن إسلامه.
ذكره أبو عمر ، وذكر حديثه هذا ، وقال في آخره : "قال الأصمعيّ : سألت سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة فقال : الإباق والسرقة والزنا ، وسألته عن الْخَبثة فقال : بيع أهل عهد المسلمين".(10/188)
وقال الإمام أبو محمد بن عطية : والوجوب في ذلك قَلِقٌ ، أمّا في الدّقَائِق فصعب شاقّ ، وأما ما كثُر فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الإشهاد ، وقد يكون عادة في بعض البلاد ، وقد يَسْتَحْي من العالم والرجل الكبير الموقّر فلا يُشهد عليه ؛ فيدخل ذلك كله في الائتمان ويبقى الأمر بالإشهاد ندباً ؛ لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا.
وحكي المهدوِيّ والنحاس ومكي عن قوم أنهم قالوا : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] منسوخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } [ البقرة : 283 ].
وأسنده النحاس عن أبي سعيد الخدرِيّ ، وأنه تلا { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } إلى قوله { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } [ البقرة : 283 ] ، قال : نسخت هذه الآية ما قبلها.
قال النحاس : وهذا قول الحسن والحكَم وعبد الرحمن بن زيد.
قال الطبريّ : وهذا لا معنى له ؛ لأن هذا حكم غير الأوّل ، وإنما هذا حُكْم من لم يجد كاتباً قال الله عزّ وجلّ : { وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً أي فلم يطالبه برهن فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ }.(10/189)
قال : ولو جاز أن يكون هذا ناسخاً للأوّل لجاز أن يكون قوله عزّ وجلّ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط } [ النساء : 43 والمائدة : 6 ] الآية ناسخاً لقوله عزّ وجلّ : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 6 ] الآية ولجاز أن يكون قوله عزّ وجلّ : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } [ النساء : 92 ، والمجادلة : 4 ] ناسخاً لقوله عزّ وجلّ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] وقال بعض العلماء : إن قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } لم يتبيّن تأخّر نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد ، بل وردا معاً.
ولا يجوز أن يُرد الناسخ والمنسوخ معاً جميعاً في حالة واحدة.
قال : وقد روي عن ابن عباس أنه قال لما قيل له : إن آية الديّن منسوخة قال : لا والله إن آية الديْن محكمة ليس فيها نسخ قال : الإشهاد إنما جعل للطمأنينة ، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الديْن طُرقاً ، منها الكتاب ، ومنها الرهن ، ومنها الإشهاد.
ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب.
فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد.
وما زال الناس يتبايعون حضراً وسفراً وبراً وبحراً وسهلاً وجبلاً من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير ؛ ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه.
قلت : هذا كله استدلال حسن ؛ وأحسن منه ما جاء من صريح السنة في ترك الإشهاد ، وهو ما خرّجه الدارقطنيّ عن طارق بن عبد الله المحاربيّ قال : "أقبلنا في ركب من الرَّبَذَةِ وجنوب الربَذة حتى نزلنا قريباً من المدينة ومعنا ظعينة لنا.
فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسَلّم فرددنا عليه ، فقال : مِن أيْن ( أقبل ) القوم ؟ فقلنا : من الربذة وجنوب الربذة.(10/190)
قال : ومعنا جمل أحمر ؛ فقال : تبيعوني جملكم هذا ؟ فقلنا نعم.
قال بكم ؟ قلنا : بكذا وكذا صاعاً من تَمْر.
قال : فما استوضَعَنا شيئاً وقال : قد أخذته ، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا ، فتلاومنا بيننا وقلنا : أعطيتم جملكم من لا تعرفونه! فقالت الظعِينة : لا تَلاوَموا رأيتُ وجه رجل ما كان لِيخْفِركم ، ما رأيت وجه رجل أشبهَ بالقمر ليلة البدر من وجهه.
فلما كان العشاء أتانا رجل فقال : السَّلام عليكم ، أنا رسول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم ، وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا ، وتكتالوا حتى تستوفوا.
قال : فأكلنا حتى شبِعنا ، واكتلنا حتى استوفينا".
وذكر الحديث الزهِريّ " عن عمارة بن خُزَيْمة أنّ عمّه حدّثه وهو من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ابتاع فرساً من أعرابي ؛ الحديث.
وفيه : فطَفِقَ الأعرابيّ يقول : هَلُمَّ شاهداً يشهد أني بعتُك قال خُزَيْمَةُ بن ثابت : أنا أشهد أنك قد بِعته.
فأقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم على خُزَيْمَةَ فقال : "بم تشهد" ؟ فقال : بتصديقك يا رسول الله.
قال : فجعل رسول لله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين " أخرجه النسائي وغيره. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 402 ـ 405}
قوله تعالى : {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}
قال الفخر :
قوله تعالى : {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}
اعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهياً للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق ، أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط ، وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع ، ويحتمل أن يكون نهياً لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد ، بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما والأول : قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة ، والثاني : قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد.(10/191)
واعلم أن كلا الوجهين جائز في اللغة ، وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في {لا يُضَارَّ} أحدهما : أن يكون أصله لا يضارر ، بكسر الراء الأولى ، فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار
والثاني : أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى ، فيكون هما المفعول بهما الضرار ونظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة ، وهو قوله {لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا} وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك ، والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر رضي الله عنه {وَلاَ يضارر} بالإظهار والكسر ، وقراءة ابن عباس {وَلاَ يضارر} بالإظهار والفتح ، واختار الزجاج القول الأول ، واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} قال : وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة ، وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أضر الكاتب والشهيد ، ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشهادة {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ} [ البقرة : 283 ] والإثم والفاسق متقاربان ، واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان خطاباً للكاتب والشهيد لقيل : وإن تفعلا فإنه فسوق بكم ، وإذا كان هذا خطاباً للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 103 ـ 104}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } فيه ثلاثة أقوال :
الأوّل لا يكتب الكاتب ما لم يُمْلَ عليه ، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها.
قاله الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنّ المعنى لا يمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد.
"وَلاَ يُضَارَّ" على هذين القولين أصله يُضَارِرَ بكسر الراء ، ثم وقع الإدْغام ، وفتحت الراء في الجزم لخفّة الفتحة.(10/192)
قال النحاس : ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ، قال : لأن بعده "وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُيسُوقٌ بِكُمْ" فالأولى أن تكون ، من شهد بغير الحق أو حرف في الكتابة أن يُقال له : فاسق ، فهو أولى بهذا ممن سأل شاهداً أن يشهد وهو مشغول.
وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق يُضارِرَ بكسر الراء والأولى.
وقال مجاهد والضّحاك وطاوس والسدّيّ وروي عن ابن عباس : معنى الآية { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } بأن يُدعَى الشاهدُ إلى الشهادة والكاتبُ إلى الكتْب وهما مشغولان ، فإذا اعتذرا بعذرهما أخرجهما وآذاهما ، وقال : خالفتما أمر الله ، ونحو هذا من القول فيضرّ بهما.
وأصل "يُضارّ" على هذا يضاررَ بفتح الراء ، وكذا قرأ ابن مسعود "يضارَر" بفتح الراء الأولى ؛ فنهى الله سبحانه عن هذا ؛ لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل لهما عن أمر دينهما ومعاشهما.
ولفظ المضارة ؛ إذْ هو من اثنين ، يقتضي هذه المعاني.
والكاتب والشهيد على القولين الأوّلين رفع بفعلهما ، وعلى القول الثالث رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 405 ـ 406}
قوله تعالى : {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}
قال الفخر :
فيه وجهان أحدهما : يحتمل أنه يحمل على هذا الموضع خاصة والمعنى : فإن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار
والثاني : أنه عام في جميع التكليف ، والمعنى : وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتكم عنه أو تتركوا شيئاً مما أمرتكم به فإنه فسوق بكم ، أي خروج عن أمر الله تعالى وطاعته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 104}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { وَإِن تَفْعَلُواْ } يعني المضارّة ، { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي معصية ؛ عن سفيان الثوريّ.
فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان ، وذلك من الكذب المؤْذِي في الأموال والأبدان ، وفيه إبطال الحق.(10/193)
وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله.
وقوله { بِكُمْ } تقديره فسوقٌ حالٌّ بكم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 406}
قوله تعالى : {واتقوا الله وَيُعَلّمُكُمُ الله والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ}
قال الفخر :
قوله تعالى : {واتقوا الله} يعني فيما حذر منه هاهنا ، وهو المضارة ، أو يكون عاماً ، والمعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه.
ثم قال : {وَيُعَلّمُكُمُ الله} والمعنى : أنه يعلمكم ما يكون إرشاداً واحتياطاً في أمر الدنيا ، كما يعلمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدين {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع مصالح الدنيا والآخرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 104}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وعدٌ من الله تعالى بأن من اتقاه علّمه ، أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يلقى إليه ؛ وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقاناً ، أي فيْصَلا يفصل به بين الحق والباطل ؛ ومنه قوله تعالى : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ]. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 406}
وقال العلامة ابن عاشور :
{ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
أمر بالتّقوى لأنّها مِلاك الخير ، وبها يكون ترك الفسوق.
وقوله : { ويعلمكم الله } تذكير بنعمة الإسلام ، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة ، ونظام العالم ، وهو أكبر العلوم وأنفعها ، ووعدٌ بدوام ذلك لأنّه جيء فيه بالمضارع ، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم ، حتى قيل : إنّ الواو فيه للتعليل أي ليعلّمكم.
وجعله بعضهم من معاني الواو ، وليس بصحيح.(10/194)
وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث : لقصد التنويه بكلّ جملة منها حتى تكون مستقلّة الدلالةِ ، غيرَ محتاجة إلى غيرها المشتمل على معادِ ضميرها ، حتى إذا سمع السامع كلّ واحدة منها حصل له علم مستقلّ ، وقد لا يسمع إحداها فلا يضرّه ذلك في فهم أخراها ، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي :
اللُّؤْمُ أكْرَمُ من وَبْرٍ ووالدِهِ...
واللؤمُ أكرَمُ من وَبْرٍ ومَا وَلَدا
واللؤم داءٌ لوَبْرٍ يُقْتَلُونَ به...
لا يُقْتَلُونَ بدَاءٍ غيرِه أبدا
فإنّه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومَنْ وَلَدَها ، ومَا ولدته ، أظهر اللّؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها.
هذا ، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى وهي التهويل.
وللتكرير مواقع يحسن فيها ، ومواقع لا يحسن فيها ، قال الشيخ في "دلائل الإعجاز" ، في الخاتمة التي ذكر فيها أنّ الذوق قد يدرك أشياء لا يُهتدى لأسبابها ، وأنّ ببعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل : "ومن ذلك ما حكي عن الصاحب أنّه قال : كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره ، قال الصاحب فدفع إليّ القصيدة التي أولها :
أتَحْتَ ضلوعي جمرةٌ تتوقّد...
على ما مضى أم حسْرة تتجدّد
وقال لي : تأمّلها ، فتأمَّلتها فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقِّط عليه وهو قوله :
بجَهْلٍ كجهل السيففِ والسيفُ منتضًى...
وحِلْمٍ كحلم السيف والسيفُ مُغْمَدُ
(10/195)
فقلت : لِمَ تركَ الأستاذُ هذا البيت ؟ فقال : لعلّ القلم تجاوزه ، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرّاً من تركه ؛ فقال : إنّما تركته لأنّه أعادَ السيف أربع مرات ، قال الصاحب : لو لم يعده لفسد البيت ، قال الشيخ عبد القاهر : والأمر كما قال الصاحب ثم قال قاله أبو يعقوب : إنّ الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى : { وبالحق أنزلته وبالحق نزل } [ الإسراء : 105 ] وقوله : { قل هو الله أحد ، الله الصمد } [ الصمد : 1 ، 2 ] عَمَل لولاه لم يكن.
وقال الراغب : قد استكرهوا التكرير في قوله :
فما للنَّوى جُذّ النَّوى قُطِع النَّوَى
حتى قيل : لو سلّط بعير على هذا البيت لرَعى ما فيه من النَّوى ، ثم قال : إنّ التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم ، أو التحقير ، في جمل متواليات كلّ جملة منها مستقلة بنفسها ، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى ، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير ، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد ، وعبدُ القاهر موافقٌ للصاحب بن عباد ، قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد :
لَمَّا رَأيتُ الشيبَ لاح بياضُه
بمَفرِقِ رأسي قُلتُ للشيب مرحبا...
"كان الواجب أن يقول : قلت له مرحباً ، لكنّهم يكرّرون الأعلام وأسماءَ الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم".
واعلم أنّه ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كلّ مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرّر ، كما تقدّم في بيتي الحماسة : "اللؤم أكرم من وبر" إلخ.
وقد وقع التكرير متعاقباً في قوله تعالى في سورة آل عمران ( 78 ) : { وإن منهم لفريقاً يلون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 118 ـ 120}
فائدة(10/196)
قال الخطيب الشربينى رحمه الله :
كرّر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها ، فإنّ الأولى حث على التقوى ، والثانية وعد بإنعامه ، والثالثة تعظيم الله لشأنه عز وجل ، ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 297 ـ 298}
فائدة
قال أبو حيان :
كثيراً ما يتمثل بهذه بعض المتطوعة من الصوفية الذين يتجافون عن الاشتغال بعلوم الشريعة ، من الفقه وغيره ، إذا ذكر له العلم ، والاشتغال به ، قالوا : قال الله : واتقوا الله ويعلمكم الله ، ومن أين تعرف التقوى ؟ وهل تعرف إلاَّ بالعلم ؟ . أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 371}
لطيفة
قال فى البحر المديد :
أدخل الواو في جوابه الأمر ليقتضي أن تعليمه سبحانه لأهل التقوى ليس هو مسبباً عن التقوى ، بل هو بمحض الفضل والكرم ، والتقوى إنما هي طريق موصل لذلك الكرم ، لا سبب فيه " جَلَّ حُكْمُ الأزل أن يُضَافَ إلى العلل ". والله تعالى أعلم. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 240}
فائدة
قال فى روح البيان :
هذه الآية أطول آية فى القرآن وأبسطها شرحا وأبينها وأبلغها وجوها يعلم بذلك أن مراعاة حقوق الخلق واجبة والاحتياط على الأموال التى بها أمور الدين والدنيا لازم فمن سعى بالحق فقد نجا ولا فقد غوى
والله تعالى من كمال رحمته على عباده علمهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم لئلا يجرى من بعضهم على بعض حيف ولئلا يتخاصموا ويتنازعوا فيحقد بعضهم على بعض فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة وأمر الكاتب أن يكتب كما علمه الله بالعدل وراعى فى ذلك دقائق كثيرة كما ذكرها
فيشير بهذه المعانى إلى ثلاثة أحوال.(10/197)
أولها حال الله تعالى مع عباده فيظهر من آثار ألطافه معهم أنه تعالى كيف يرفق بهم ويعلمهم كيفية معاملاتهم الدنيوية حتى لا يكونوا فى خسران من أمر دنياهم ولا يكون فيما بينهم عداوة وخصومة تؤدى إلى تنغيص عيشهم فى الدنيا وعقوبة فى الآخرة فيستدلوا بها على أن تكاليف الشرع التى أمروا بها أيضا من كمال مرحمته استعملهم بها ليفيض بها عليهم سجال نعمه كقوله تعالى { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } الآية.
وثانيها حال العباد مع الله ليعلموا برعاية هذه الدقائق للأمور الدنيوية الفانية أن للأمور الأخروية الباقية فيما بينهم وبين الله أيضا دقائق كثيرة والعباد بها محاسبون وعلى مثقال ذرة من خيرها مثابون وعلى مثقال ذرة من شرها معاقبون وأنها بالرعاية أولى وأحرى من أمور الدنيا وأن الله تعالى كما أمر العباد أن يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستهشدوا عليهم العدول وقد كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عبادة فى الميثاق فإن الله تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وعلى هذا عاهدهم وأشهد الملائكة الكرام عليه ثم رقم فى الكتاب أن ياقوتة من الجنة وديعة وهى الحجر الأسود.(10/198)
وثالثها حال العباد فيما بينهم فليعتبر كل واحد منهم من ملاطفات الحق معهم وليتخلق بأخلاق الحق فى مخالفتهم وليتوسل إلى الله بحسن مرافقتهم وليحفظ حدود الله فى مخالفتهم وموافقتهم وليتمسك بعروة محبتهم فى الله وجذبتهم لله ونصحهم بالله ليحرز فى رفقتهم صراطا مستقيما ويفوز من زمرتهم فوزا عظيما ففى جميع الأحوال كونوا مع الله كما قال { واتقوا الله ويعلمكم الله } أى اتقوا فى الاحوال الثلاثة كما يعلمكم الله بالعبارات والإشارات { والله بكل شىء } تعملونه فى جميع الأحوال من الأقوال والأفعال { عليم } يعلم مضمون ضمائركم ومكنون سرائركم فيجازيكم على حسن معاملتكم بقدر خلوصكم وصفاء نياتكم وصدق طوياتكم فطوبى لمن صفى قلبه عن سفاسف الأخلاق وعزم إلى عالم السر والإطلاق وأحسن المعاملة مع الله فى جميع الحالات ووصل إلى الدرجات العاليات. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 540 ـ 541}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
أمَرَ الله سبحانه الخلْقَ بالقيام بالصدق ، وعلَّمَهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم ، والأخذ بالاحتياط والاستشهاد لئلا يُجْرِيَ - بعضُهم على بعض - حيفاً ، وذلك من مقتضى رحمته سبحانه عليهم ، وموجب رِفقِه بهم كيلا يتخاصموا. فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد ، وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة.
ومن شرع اليومَ ما يقطع الخصومة بينهم فبالحري أن يجري ما يرفع في الآخرة آثار الخصومة بينهم ، وفي الخبر المنقول : " تواهبوا فيما بينكم فقد وهبت منكم مالي عليكم ، فإن الكريم إذا قدر غفر ".
وفيما شرع من الدَيْن رِفْق بأرباب الحاجات ، لأن الحاجة تمس فيحمله الحال على الاحتيال ، ويضيق به الصدر عن الاحتمال ، ويمنعه حفظ التجمل عن الكدية والسؤال ، فأذِنَ له في الاستدانة ليَجْبُرَ أمرهَ في الحال ، وينتظرَ فضل الله في المآل ، وقد وعد على الإدانة الثوابَ الكثير ، وذلك من لطفه تعالى. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 214}
لطيفة(10/199)
قال الخطيب الشربينى رحمه الله :
قد حث سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد قال تعالى : {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} (النساء ، ) الآية.
قال القفال رحمه الله تعالى : ويدلّ على ذلك أنّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار.
وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال : {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} ثم قال ثانياً : {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} ، ثم قال ثالثا : {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} فكان هذا كالتكرار لقوله : {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} لأنّ العدل هو ما علمه الله ، ثم قال رابعاً : {فليكتب} وهذا إعادة للأمر الأوّل ثم قال خامساً : {وليملل الذي عليه الحق} وفي قوله تعالى : {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} كناية عن قوله : {وليملل الذي عليه الحق} لأنّ الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه ، ثم قال سادساً : {وليتق الله ربه} وهذا تأكيد ثم قال سابعاً : {ولا يبخس منه شيئاً} وهذا كالمستفاد من قوله : {وليتق الله ربه} ثم قال ثامناً : {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله} وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً : {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا} فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على المبالغة ، في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله تعالى من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 298}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ . . . }.
قال الفخر : تداين مفاعلة فلا ( تكون ) إلا من الجانبين ، فلا يتناول إلا الدّين بالدّين.
أو ( فسخ ) الدّين ( بالدّين ) فلا يصح حلمه على ظاهره بل المراد به إذا تعاملتم.(10/200)
وأجاب ابن عرفة : بأنّه يتناول الدّين ( بالدّين ) عن معاوضة فإن من اشترى سلعة بنقد أو نسيئة فإذا دفع الثّمن حصل له في ذمّة المشتري فله عليه الرجوع بعهدة العيب أو الاستحقاق.
قال الزّمخشري : وإنما قال بـ {دين} ليعيد عليه الضمير.
قال ابن عطية : ليرفع الوهم ، إن المراد بـ {تداينتم} جزاء بعضكم بعضا.
قال ابن عرفة : بلى أتى به ليكون نكرة في سياق الشرط فيفيد العموم.
قوله تعالى : { فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله . . . }.
الأمر بالكتب مصلحة دنيوية وهي حفظ المال ، ومصلحة دينية وهي السلامة من الخصومة بين المتعاملين.
قيل لابن عرفة : يخرج ( الدين ) الذي على الحلول ؟
فقال : لا يحتاج إلى كتب وثيقة غالبا فإن له طلبه في الحال.
ابن عطية : قوله " بالعدل " متعلق بقوله تعالى " وَلْيَكْتُب " لا بـ " كاتب " لئلا يلزم عليه ألاّ يكتب الوثيقة إلاّ العدل في نفسه وقد يكتبها الصبّي والعبد والمسخوط إذا ( أقاموا فقها ) إلاّ أنّ المنتصبين لكتبها لا يجوز للولاة أن ( يولّوهم ) إلا عدولا مرضيين.
قال ابن عرفة : هذا تخليط لأن الأمر بالكتب ابتداء إنّما هو للعدل في نفسه وإمضاء كتب الصبّي والعبد والمسخوط إنّما هو بعد الوقوع ، والآية إنّما جاءت فيمن يؤمر بكتبها وفرّق بين الأمر في كتبها عند العدل في نفسه وبين إمضائها إذا كتبها غير العدل.
قوله تعالى : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً . . . }.
قال ابن عطية : السّفيه الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء ( منها ).
ابن عرفة : هذا هو السفيه عند الفقهاء.
قال : ومن كان بهذه الصّفة لا يخلو من حجر أب أو وصي أو قاض.
قوله تعالى : { فَلْيُمْلِلْ . . . }.
قوله تعالى : { بالعدل . . . }.(10/201)
كان بعضهم يقول : الذي يظهر أن يكون بالعدل متعلقا بوليه ( لا بـ يملل ) لأن إملاء الوصي إذا كان بغير العدل فالمشهور ( يجرحونه ) ولا يشهدون له فينبغي أن الوصي إذا أتى ليرهن على المحجور ويعمر ذمته ألاّ يشهدوا له إلا إذا تبين لهم في ذلك وجه المصلحة ، وأما تعلقه بدين ( وكان ) أكثر الأوصياء لا يعدلون فلا يقبل إلا إملاء الوصي الدين ولذلك كان ابن الغماز يقول : جميع من رأيت من الأوصياء يتصرفون بغير الصواب إلا فلانا ( أو فلانا ) ويعيُّنهما.
قوله تعالى : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ . . . }.
قال ابن عرفة : مذهبنا أن العبد لايستشهد ( ابتداء ) فإن شهد قبلت شهادته.
والآية دالة على أنّه لا يشهد الرّجل والمرأة إلاّ عند عدم الرّجلين مع أنه إذا تعارضت بينتان إحداهما رجل وامرأتان والأخرى رجلان فإنّهما متكافئتان لكن هنا شيء وهو أنّ الأصوليين ذكروا الخلاف فيما إذا تعارض أمران في صورة أو تساويا فيها وثبت لأحدهما الرّجحان على الآخر في غيرها من الصور فهل يرجح الأرجح أم لا ؟ فقولان فإن قلنا بالتّساوي فلا سؤال ، وإن قلنا بتقديم الأرجح فيرد السؤال ، لم جعلهما مالك متكافِئَتين ولم يقدم الأرجح
قال ابن العربي : واحتجّ بهذا أبو حنيفة على أنّه لا يقضي بالشاهد واليمين.
ورده ابن عرفة بوجهين :
الأول : أن الآية سيقت لبيان ما يستقل به الحكم في الشهادة لا لبيان كل ما يوجب الحكم.
الثاني : أن هذه حالة التحمل وهو في حالة مأمور بأن يشهد رجلين أو رجلاً وامرأتين وإنما اليمين حالة الأداء والحكم بالحق.
قوله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء . . . }.
متعلق بـ " اسْتَشْهِدُوا ".
وأبطل أبو حيان تعلقه بـ " امرأتين " أو بـ " رجلين " لئلا يلزم عليه المفهوم وهو إطلاق الحكم في الفريق الآخر وهما الرّجلان مرضيان كانا أو غير ( مرضيين ).(10/202)
( وأجاب ابن عرفة : بأن قوله : " مِن رِّجَالِكُمْ " " وشَهِيدَينِ " بالإضافة ، والمبالغة تفيد كونهما مرضيين ).
قوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى . . . }.
قال ابن عرفة : كان بعضهم يقول : إنه تعليل للمجموع ( وإرادة ) أن تذكر إحداهما الآخرى إذا ضلت.
قال ابن عطية : قال بعض المكيين " فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ " بهمز الألف ساكنة.
قال ابن جني : لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة وإنّما خففوا الهمزة فقرب من الساكن ثم بالغوا في التخفيف فصارت الهمزة ألفا ساكنة ثم أدخلوا ( الهمزة على الألف ) ساكنة ( ومنه ) قراءة ابن كثير " وكشفت عن سَأْقَيْهَا ".
قال ابن عرفة : وقع تسكين ( الهمزة ) المتحركة ( في القرآن ) في ثلاثة مواضع : أحدها " وَجِئْتُكَ مِن سَبَأَ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ".
قرأها أبو عمرو والبزي بفتح الهمزة.
وروي عن قنبل إسكان الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف ، قوله تعالى : " مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاّ دابَةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ".
وقرأها نافع وأبو عمروا بالألف من غير همزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة.
والثالث قوله عز وجلّ في سورة فاطر : " وَمَكْر السَّيّءِ " قرأ حمزة بسكون الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف والباقون بتحريكها.
قلت : وموضع رابع وهو " فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ".
روى فيه عن أبي عمرو الاختلاس وروي عنه الإسكان.
قال ابن عطية : وقرأ حمزة " إِن تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ " جعل ( إن ) شرطا والشرط وجوابه رفع لأنه صفة للمرأتين ، وارتفع " تذكرُ " كما ارتفع قوله تعالى " وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ".
هذا قول سيبويه وفي هذا نظر.
قوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ . . . }.(10/203)
قال ابن عرفة : قالوا : إن النهي تارة يكون للحاضر ، وتارة يكون للغائب ، فأمّا بالنسبة إلى القديم فلا فرق بينهما ، وأما في المحدثات فقد يكون النهي في الغيبة أقوى وأشد منه في الحضرة ، لأنك قد تنهي الشخص الحاضر عن فعل شيء بين يديك وتكون بحيث لو سمعت عنه أنه يفعله في غيبتك لا تزجره ولا تنهاه.
فهذا الأمر فيه أخف من شيء تزجره على فعله في الغيبة والحضرة فإن النهي في هذا أشد.
ولا يؤخذ من الآية أنّ الأمر بالشيء ليس هو نهيا عن ضده لأن " اسْتَشْهِدُوا " أمرٌ للمتعاقدين " وَلاَ يَأْبَ " نهي للشاهدين.
قوله تعالى : { وَلاَ تسئموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ . . . }.
السآمة ( بمعنى ) الكسل ، وقدم الصغير خشية التهاون به والتفريط فيه كقول الزّمخشري في { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } وقوله { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } وقوله { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } مع أن العداوة تنفي أخذ الدية ويوجب ( التعارف ) بها فلذلك قدمت الدّية.
والضمير في قوله " تَكْتُبُوهُ " ( إما عائد على الحق أو على الدّين ، أو على الكتب.
( قال بعضهم : وإن عاد الضمير على الكتاب ف " أَوْ " للتخيير ، وإن عاد على الحق أو الدين ف " أَوْ " ( للتفصيل ).
قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ . . . }.
ابن عرفة : هذا دليل على أنّ الأمر المقدم للندب لا للوجوب.
والصواب أنّ المراد الإشهاد أقسط عند الله ( والكتاب ) أقوم للشهادة فيكون لفّا ونشرا ، أي أعدل وأقرب لقيام الشهادة.
و " أَقْسَطُ " قيل من الرباعي وهو شذوذ.(10/204)
قال الزمخشري : من قاسط على النسب أي ذو قسط ، أو جار مذهب سيبويه في بنائها من أفعل.
ورده أبو حيان : بأن سيبويه لم ينص بناء أفعل التفضيل من أفعل بل قال : فعل التعجب ينبني من فعل وأفعل.
قالوا : وأفعل التفضيل ينبني مما بني به فعل التعجب.
قال ابن عرفة : فظاهره أنه لم يحك بناء وهي من أفعل.
وقال ابن خروف : رأيت في النسخ المشرقية أنّه يبنى من فَعَلَ وفَعُلَ وأفْعَلَ زاد في النسخ الرياحية إلا أنّ بناءه من أفعل قليل.
وقد نص على صحة بناء التعجب من أفعل مبني منهما.
وقول ابن عطية : انظر هل يكون من قَسُط بالضم غير صحيح لأنه لم يحك فيه ( أحد ) قسُط.
وقول الزمخشري : إنه يجوز على مذهب سيبويه صحيح على ما قاله ابن خروف ، ولا يحتاج إلى جعله على طريق النّسب إلاّ لو لم يثبت فيه الرّباعي.
قوله تعالى : { وأدنى أَلاَّ ترتابوا . . . }.
ابن عرفة : إن أريد بالرّيبة مطلق الاحتمال فيكون فيه منح الشّهادة بالمفهوم لأنه ظنّي فلا ( ينتفي ) فيه الاحتمال.
وقد قدمنا فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يشهد بها على القطع.
الثاني : أنّه لا يشهد.
الثالث : أنّه يشهد بها بالفهم على نحو ما تحملها.
قال ابن عرفة : وإن أريد بالريبة الشك فلا يكون فيه دليل على ما قلنا.
قوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً . . . }.
قال ابن عرفة : إن أراد بالأول الدّين وبهذا الحاضر فيكون حينئذ استثناء منقطعا وإن ( أراد ) بالأول مطلق المعاملة فهو متصل.
فإن قلت : هل في الآية دليل لمن يقول : : إنّ الاستثناء من الإثبات ليس بنفي كالاستدلال بقول الله تعالى { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى } لقول الله تعالى { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } وإلا لما كان له فائدة.
( فالجواب ) أنّ الأول تناول الكتب والإشهاد ، فلو لم تذكر هذه الزيادة لأدّى إلى إهمال الإشهاد والكتب.(10/205)
فأفادت هذه الزيادة رفع الجناح عن الكتب في الحاضر وبقاء الأمر في الإشهاد فيها من غير كتب.
أبو حيان : وقيل الاستثناء متصل راجع ( لقوله ) " وَلا تَسْئَمُوا ".
وقَدّر أبو البقاء معنى الاتصال في الاستثناء لأنه أمر بالاستشهاد في كل معاملة ، واستثنى منه التجارة الحاضرة.
والتقدير : إلاّ في حال الحضور للتجارة.
قال الصفاقسي : وفي هذا التقدير نظر. انتهى.
قوله تعالى : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ . . . }.
هذه تضمنت الإشهاد من غير كتب فلا تناقض ( ( في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } لأن تلك إنّما اقتضت رفع الجناح عن عدم الكتب و( بقي ) الإشهاد مطلوبا ).
قوله تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ . . . }.
يحتمل أن يكون أصله يضارِرُ مبينا للفاعل أو يضارَرُ مبينا للمفعول.
قال ابن عرفة : ويصح حمله على الأمرين معا على القول بجواز تعميم اللفظ المشترك في مفهوميه معا ، كما قالوا في الجور والقرء ونحوه.
قيل لابن عرفة : هذان لفظان وذلك إنما هو ( في ) اللّفظ الواحد كذا قال الفخر ؟
فقال ابن عرفة : قد قال سيبويه في المشترك إنهما لفظان دالاّن على معنيين.
ذكره في باب المستقيم والإحالة في ( وجدت ).
وقال ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في المسألة الخامسة من الباب الثالث في قوله { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } إنّه يحتمل أن يكون مضافا للفاعل والمفعول معا ، ثم رده بأنه إذا ( عمّمنا ) في الأمرين يلزم أن يكون مرفوعا ومنصوبا في حالة واحدة وذلك جمع بين النقيضين.
فإن قلت : لم عبر في " شهيد " بلفظ المبالغة دون " كاتب ".
قلت : إنّ ذلك فيمن برّز وبلغ إلى درجة العدالة.
واختلف ( الناس ) في جواز أخذ الأجرة على الشهادة والمعروف المنع.
وبعضهم أجازها إذا كان منقطعا عن أسبابه إليها.(10/206)
وقيل : إن كان له من المعرفة ( ما ) يفتقر بها إليه في النظر في الوثيقة ليصححها فقها وكتابة باعتبار سلامتها من اللّحن المخل فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا.
وقال الحافظ أبو عمرو عثمان بن الصلاح في علوم الحديث ما نصه : من أخذ على التحديث أجرا فقال ( إسحاق ) بن ابراهيم وأحمد ابن حنبل وأبو حاتم الرازي في ذلك مانع من قبول روايته فلا يؤخذ منه.
وترخص أبو نعيم الفضل بن ( دكين ) وعلي بن عبدالعزيز ( المكي ) وآخرون فأجازوا أخذ العوض عن التحديث وشبهوها بأخذ الأجرة على إقرائهم القرآن على أنّ في هذا من حيث العرف خرما للمروءة والظّن ( السّوء ) بفاعله إلاّ أنْ يقترن ذلك بما ينفيه كما كان أبو الحسن السّعودي ( وأفتى به ) الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أنّ أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله.
انتهى.
ذكره في النوع الثالث والعشرين ( في إكمال عياض في كتاب الطب في أحاديث الرقى.
أجاز الإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو ثور وأبو إسحاق أخذ الأجرة على الرّقية والطب وعلى تعليم القرآن.
ومنع الإمام أبو حنيفة وأصحابه الأجرة على تعليم القرآن وأجازوا الأجرة على الرقية ).
قال ابن عرفة : ( فحاصله ) أنه إن كان انقطاعه لذلك يشغله عن معاشه وكان فقيرا محتاجا لما يتعيش به ولم يكن عنده من المال ما يستغني به عن طلب المعاش فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا.
وحكى أبو العباس أحمد بن حلولو عن والده أنّ القاضي أبا محمد عبد الله اللّخمي بعث له صهره سيدى أَبَو علي بن قداح بزير لبن فشربه ثم سمع أنه من عند شاهد يأخّذ الأجرة على الشهادة ، فتقيأه ، ثم لما صار هو شاهدا كان يأخذ في الشهادة قدر الدينار كل يوم ، وما ذلك إلا لأنّه كان يأخذ ذلك من وجهه ، والشاهد الأول لم يكن يأخذ ذلك من وجهه.
قوله تعالى : { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ . . . }.
الفسق في اللّغة مطلق الخروج عن الحدّ وفي الشّرع هو تعدّي الحدود الشرعية.(10/207)
قوله تعالى : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله . . . }.
قال ابن عرفة : هذا دليل على ثبوت اشتراط العلم في الكاتب والشاهد.
قوله تعالى : { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
اختلفوا في لفظ ( شيء ) هل يصدق على المعدوم أو لا ؟
وقال الشيخ القرافي في تأليفه على الأربعين لابن الخطيب : إن ذلك الخلاف إنما هو في كونه محكوما به لا في كونه متعلق الحكم كقولك : المعدوم شيء.
وأما مثل { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فهو متعلق الحكم.
قال ابن عرفة : إنما الخلاف مطلقا ، وما ذكروا هذا إلا في اسم الفاعل المشتق وأما في هذا فقد ذكره الآمدي في أبكار الأفكار مطلقا.
ابن عرفة : والآية حجة بأنّ المعدوم ليس بشيء وهو مذهب أهل السنة. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 361 ـ 365}(10/208)
فائدة
قال الجصاص :
وَآيَةُ الدَّيْنِ بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الِاحْتِيَاطِ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ الْمَرْضِيِّينَ وَالرَّهْنُ تَنْبِيهٌ عَلَى مَوْضِعِ صَلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعَهُ ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَنَفْيُ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ ، وَفِي التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَذَهَابُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } وَذَلِكَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا وَشُهُودًا أَوْ كِتَابًا أَوْ رَهْنًا بِمَا عَلَيْهِ وَثِيقَةٌ فِي يَدِ الطَّالِبِ ، قَلَّ الْخِلَافُ ، عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ خِلَافَهُ وَبَخْسَهُ لِحَقِّ الْمَطْلُوبِ لَا يَنْفَعُهُ بَلْ يَظْهَرُ كَذِبُهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَفِيهِ وَثِيقَةٌ وَاحْتِيَاطٌ لِلطَّالِبِ ، وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لَهُمَا جَمِيعًا فِي دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ بَخْسَ حَقِّ الطَّالِبِ صَلَاحَ دِينِهِ وَفِي جُحُودِهِ وَبَخْسِهِ ذَهَابَ دِينِهِ إذَا عَلِمَ وُجُوبَهُ ؛ وَكَذَلِكَ الطَّالِبُ إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَشُهُودٌ أَثْبَتُوا مَا لَهُ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَجَحَدَ الطَّالِبُ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مُقَابَلَتِهِ بِمِثْلِهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي كَيْدِهِ حَتَّى رُبَّمَا لَمْ يَرْضَ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ دُونَ الْإِضْرَارِ بِهِ فِي أَضْعَافِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ وَذَلِكَ مُتَعَالَمٌ مِنْ أَحْوَالِ عَامَّةِ النَّاسِ.(10/209)
وَهَذَا نَظِيرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْمَجْهُولَةِ الْقَدْرِ وَالْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ وَالْأُمُورِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّاسُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَافِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، وَنَحْوِهِ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا يُسْكِرُ فَيُؤَدِّي إلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالِاخْتِلَافِ وَالشَّحْنَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لِنَفْيِ الِاخْتِلَافِ وَالْعَدَاوَةِ وَلِمَا فِي ارْتِكَابِهَا مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ، فَمَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ وَانْتَهَى إلَى أَوَامِرِهِ وَانْزَجَرَ بِزَوَاجِرِهِ حَازَ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا }.(10/210)
وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى الدَّيْنِ وَالْعُقُودِ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهَا تَارَةً بِالشَّهَادَةِ وَتَارَةً بِالرَّهْنِ ، دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَضْيِيعِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } وَقَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } الْآيَةَ.
فَهَذِهِ الْآيُ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَبْذِيرِهِ وَتَضْيِيعِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ حَدَّثَنَا بَعْضُ مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي الرِّوَايَةِ قَالَ : أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُحِبُّ اللَّهُ إضَاعَةَ الْمَالِ وَلَا قِيلَ وَلَا قَالَ }.(10/211)
وَحَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ وَرَادٍّ قَالَ : كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ : اُكْتُبْ إلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَحَدٌ قَالَ : فَأَمْلَى عَلَيَّ وَكَتَبْت : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ثَلَاثًا وَنَهَى عَنْ ثَلَاثٍ.
فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي حَرَّمَ فَعُقُوقُ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدُ الْبَنَاتِ وَلَا وَهَاتِ ، وَالثَّلَاثُ الَّتِي نَهَى عَنْهُنَّ فَقِيلَ وَقَالَ وَإِلْحَافُ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةُ الْمَالِ }. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 274 ـ 275}(10/212)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { إلى أَجَلٍ } : متعلِّق بتداينتم ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة لدين ، و{ مُّسَمًّى } صفة لدين ، فيكون قد قدَّم الصفة المؤولة على الصَّريحة ، وهو ضعيفٌ ، فكان الوجه الأول أوجه.
قوله : { بالعدل } فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون الجارُّ متعلّقاً بالفعل قبله. قال أبو البقاء : " بالعَدْلِ متعلِّق بقوله : فليكتب ، أي : ليكتب بالحقِّ ، فيجوز أن يكون حالاً ، أي : ليكتب عادلاً ، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي : بسبب العدل ".
قوله أولاً : " بالعدلِ مُتَعَلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب " يريد التعلق المعنوي؛ لأنَّه قد جوَّز فيه بعد ذلك أن يكون حالاً ، وإذا كان حالاً تعلَّق بمحذوف لا بنفس الفعل.
وقوله : " ويجوزُ أن يكون مفعولاً " يعني فتتعلق الباء حينئذٍ بنفس الفعل.
والثاني : أن يتعلَّق بـ " كَاتِب ". قال الزَّمخشريُّ : " مُتَعَلِّقٌ بكاتب صفةً له ، أي : كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتُب " ، وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابن عطيَّة : " والبَاءُ متعلِّقةٌ بقوله : " ولْيَكْتُبْ " ، وليست متعلِّقة بقوله " كَاتِبٌ " ؛ لأنه كان يلزم ألاَّ يكتب وثيقةً إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصّبيُّ والعبد ".
الثالث : أن تكون الباء زائدةٌ ، تقديره : فليكتب بينكم كاتب بالعدل.
قوله : { أَنْ يَكْتُبَ } مفعولٌ به ، أي : لا يأب الكتابة.
قوله : { كَمَا عَلَّمَهُ الله } يجوز أن يتعلَّق بقوله : { أَنْ يَكْتُبَ } على أنه نعتٌ لمصدر محذوف ، أو حالٌ من ضمير المصدر على رأي سيبويه ، والتقدير : أن يكتب كتابةً مثل ما علَّمه الله ، أو أن يكتبه أي : الكتب مثل ما علَّمه الله.
ويجوز أن يتعلَّق بقوله : " فَلْيَكْتُبْ ".
(10/213)
قال أبو حيَّان : " والظّاهر تعلُّق الكاف بقوله : فَلْيَكْتُبْ " قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : وهو قلق لأجل الفاء ، ولأجل أنه لو كان متعلِّقاً بقوله : " فَلْيَكْتُبْ " ، لكان النَّظم : فليكتب كما علمه الله ، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخرٌ في المعنى.
وقال الزَّمخشريُّ - بعد أن ذكر تعلُّقه بأن يكتب ، وب " فَلْيَكْتُبْ " - " فإِنْ قلت : أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت : إن علَّقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيَّدة ، ثم قيل [ له ] : فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها ، وإن علَّقته بقوله : " فَلْيَكْتُبْ " فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ، ثم أمر بها مقيّدةً ". فيكون التقدير : فلا يأب كاتبٌ أن يكتب ، وها هنا تمَّ الكلام ، ثم قال بعده : { كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ } ، فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ، ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إيَّاها.
ويجوز أن تكون متعلقةً بقوله : لا يأب ، وتكون الكاف حينئذٍ للتعليل. قال ابن عطيّة - رحمه الله - : " ويحتمل أن يكون " كما " متعلّقاً بما في قوله " ولا يأْبَ " من المعنى ، أي : كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة ، فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل عليه ". قال أبو حيَّان : " وهو خلاف الظاهر ، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل " قال شهاب الدين رحمه الله : وعلى القول بكونها متعلقةً بقوله : " فليكتب " يجوز أن تكون للتعليل أيضاً ، أي : فلأجل ما علَّمه الله فليكتب.
و " الحَقُّ " يجوز أن يكون مبتدأٌ ، و" عَلَيْهِ " خبر مقدمٌ ، ويجوز أن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على الموصول ، والموصول هو فاعل " يُمْلِل " ومفعوله محذوف ، أي : وليملل الديَّان الكاتب ما عليه من الحقِّ ، فحذف المفعولين للعلم بهما.
(10/214)
ويتعدَّى بـ " عَلَى " إلى أحدهما فيقال : أمللت عليه كذا ، ومنه الآية الكريمة.
قوله : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } يجوز في " منه " وجهان :
أحدهما : أن يكون متعلقاً بيبخس ، و" مِنْ " لابتداء الغاية ، والضمير في " منه " للحقِّ.
والثاني : أنَّها متعلقة بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفةٌ للنكرة ، فلمَّا قُدِّمت على النكرة نصبت حالاً.
و " شَيئاً " : إمَّا مفعول به ، وإمَّا مصدرٌ.
قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ } ، جوَّزوا في " كَانَ " هذه أَنْ تكون النَّاقصة ، وأَنْ تكون التامة ، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى : فإنْ كانت ناقصةً فالألفُ اسمها ، وهي عائدةٌ على الشَّهيدين أي : فإن لم يكنِ الشّاهدان رجُلَين ، والمعنى على هذا : إن أغفَل ذلك صاحبُ الحقّ ، أو قصد أَنْ لا يُشهد رجلين لغرض له ، وإن كانت تامّةً فيكون " رجلين " نصباً على الحالِ المؤكِّدة كقوله : { فَإِن كَانَتَا اثنتين } [ النساء : 176 ] ، ويكون المعنى على هذا أنه لا يعدل إلى ما ذكر إلا عند عدمِ الرِّجال. والألفُ في " يَكُونَا " عائدةٌ على " شَهِيدَيْنِ " ، تفيدُ الرجولية.
قوله : { فَرَجُلٌ وامرأتان } يجوزُ أن يرتفع ما بعد الفاءِ على الابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : فرجلٌ ، وامرأتان ، يكفُون في الشَّهادة ، أو مُجزِئون ، ونحوه. وقيل : هو خبرٌ والمبتدأُ محذوفٌ تقديره : فالشَّاهدُ رجلٌ ، وامرأتان وقيل : مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديره : فيكفي رجُلٌ ، أي : شهادةُ رجلٍ ، فحُذِف المضافُ للعلم به ، وأُقيم المضافُ إليه مقامه. وقيل : تقدير الفعلِ فَلْيَشْهَدْ رجلٌ ، وهو أحسنُ ، إذ لا يُحوج إلى حذفِ مُضافٍ ، وهو تقديرُ الزَّمخشريُّ.
(10/215)
وقيل : هو مرفوعٌ بكان النَّاقصة ، والتَّقدير : فليكن مِمَّن يشهدون رجلٌ وامرأتان ، وقيل : بل بالتَّامَّةِ وهو أَولى؛ لأنَّ فيه حذف فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ ، وفي تقدير النَّاقصة حذفُها مع خبرها ، وقد عُرِفَ ما فيه ، وقيل : هو مرفوعٌ على ما لم يسمَّ فاعلُهُ ، تقديرُهُ : فليُسْتَشْهَد رجلٌ. قال أبو البقاء : " وَلَوْ كَانَ قَدْ قُرئ بالنَّصب لكان التَّقديرُ : فَاسْتَشْهِدُوا " وهو كلامٌ حسنٌ.
قوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجُلٍ وامرأتين.
والثاني : أنه في محلِّ نصب؛ لأنه نعتٌ لشهيدين. واستضعف أبو حيّان هذين الوجهين قال : " لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن شَهِيدَيْنِ " ، واستضعفَ الثَّاني أبو البقاء رحمه الله تعالى قال : للوصف الواقعِ بينهما.
الوجه الثالث : أنه بدلٌ من قوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } بتكريرِ العاملِ ، والتقدير : " وَاستَشْهِدوا شَهِيدَيْن مِمَّن تَرْضَوْن " ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفه. وكان ينبغي أن يُضعِّفَه بما ضَعَّف وجهَ الصّفة ، وهو للفصلِ بينهما ، وضعَّفه أبو حيّان بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشَّهيدين الرَّجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا من بَدَلِ البَعْض إن أخذنا " رِجَالكُمْ " على العموم ، أو الكلِّ من الكلِّ إن أخذناهم على الخصوصِ ، وعلى كلا التّقديرين ، فلا ينفي ذلك عمَّا عداه ، وأمّا في الوصف فمسلَّمٌ؛ لأنَّ مفهوماً على المختارِ.
الرابع : أن يتعلَّقَ باستشهِدوا ، أي : استشهدوا مِمَّنْ ترضَوْن. قال أبو حيان : " ويكون قيداً في الجميعِ ، ولذلك جاء مُتَأخّراً بعد الجميعِ ".
(10/216)
قوله : { مِنَ الشهدآء } يجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ من العائدِ المحذوفِ ، والتَّقديرُ : مِمَّن تَرْضَونَه حال كونه بعض الشُّهداءِ.
ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ " مِنْ " بإعادةِ العامل ، كما تقدَّم في نفسِ { مِمَّن تَرْضَوْنَ } ، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القَوْلينِ في كلِّ منهما.
وقوله : إحداهما " فاعل ، " والأخرى " مفعولٌ ، وهذا مِمَّا يجبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعراب ، والمعنى نحو : ضَرَب مُوسَى عِيسَى.
قال أبو البقاء : ف " إحداهما " فاعلٌ ، و" الأخرى " مفعول ، ويصحُّ العكسُ ، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النَّحويّين في الإِعراب ، لأَنَّهُ إذا لم يظهر الإعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ ، وجَبَ تقديمُ الفاعل فيما يُخاف فيه اللَّبسُ ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جاز تقديم المفعولِ كقولك : " كَسَرَ العَصَا مُوسَى " ، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ ، لأنَّ النِّسيان ، والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما ، بل ذلك على الإِبهامِ ، وقد عُلِم بقوله : " فَتُذَكِّرَ " أنَّ الَّتي تُذَكِّر هي الذَّاكرةُ ، والتي تُذَكَّر هي النَّاسية ، كما علم من لفظ " كَسَر " مَنْ يصحُّ منه الكَسْرُ ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل " إِحْدَاهُما " فاعلاً ، و" الأُخْرَى " مفعولاً وبالعكس انتهى.
ولمَّا أبهم الفاعل في قوله : " أَنْ تَضِلَّ إحداهما " أَبْهَمَ أيضاً في قوله : " فَتُذَكِّرَ إحداهما " ؛ لأنَّ كلاًّ من المَرْأَتين يجوزُ [ عليها ما يجوزُ ] على صاحبتها من الإِضلالِ ، والإِذكارِ ، والمعنى : إن ضلَّت هذه أَذْكَرَتْها هذه ، فَدَخَلَ الكلامَ معنى العموم.
(10/217)
قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء } مفعوله محذوفٌ لفهم المعنى ، أي : لا يأبون إقامة الشهادة ، وقيل : المحذوف مجرور لأن " أبى " بمعنى امتنع ، فيتعدَّى تعديته أي من إقامة الشهادة.
قوله : { إِذَا مَا دُعُواْ } ظرفٌ لـ " يَأْبَ " أي : لا يمتنعون في وقت [ دَعْوَتهم ] لأدائها ، أو لإقامتها ، ويجوز أن تكون [ متمحضةً للظرف ، ويجوز أن تكون ] شرطيةً والجواب محذوفٌ أي : إذا دُعُوا فلا يأبوا.
قوله : { أَن تَكْتُبُوهُ } مفعولٌ به إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً تقديره : " ولا تَسْأَمُوا كِتَابَتَه " ، وإن شئت بنزع الخافض والنَّاصب له " تَسْأَموا " ؛ لأنه يتعدَّى بنفسه قال : [ الطويل ]
سَئِمْتُ تَكَالِيف الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ... ثَمَانِينَ حَوْلاً لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ
وقيل : بل يتعدَّى بحرف الجرّ ، والأصل : من أن تكتبوه ، فحذف حرف الجرِّ للعلم به ، فيجري الخلاف المشهور في " أَنْ " بعد حذفه ، ويدلُّ على تعدِّيه بـ " مِنْ " قوله : [ الكامل ]
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا... وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ
والهاء : في " تَكْتبوه " يجوز أن تكون للدَّين في أوَّل الآية ، وأن تكون للحقّ في قوله : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } ، وهو أقرب مذكورٍ ، والمراد به " الدَّيْن " وقيل : يعود على الكتاب المفهوم من " تَكْتبوه " قاله الزَّمخشريُّ.
و { صَغِيراً أَو كَبِيرا } حالٌ ، أي : على أيّ حالٍ كان الدَّين قليلاً أو كثيراً ، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتاب مختصراً ، أو مشبعاً ، وجوَّز السَّجاونديُّ انتصابه على خبر " كان " مضمرةٌ ، وهذا لا حاجة تدعو إليه ، وليس من مواضع إضمارها.
قوله : { إلى أَجَلِهِ } فيه ثلاثة أوجهٍ :(10/218)
أظهرها : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، أي : أن تكتبوه مستقرّاً في الذّمَّة إلى أجل حلوله.
والثاني : أنه متعلِّقٌ بتكتبوه ، قاله أبو البقاء. وردَّه أبو حيان فقال : " متعلقٌ بمحذوفٍ لا بـ " تَكْتُبُوهُ " لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدَّين ، إذ ينقضي في زمن يسير ، فليس نظير : سِرْتُ إلى الكُوفَةِ ".
والثالث : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاء ، قاله أبو البقاء.
قوله : " ذَلِكم " مشارٌ به لأقرب مذكورٍ وهو الكتب.
وقال القفَّال : إليه وإلى الإشهاد.
قوله : { عِندَ الله } ظرفٌ منصوبٌ بـ " أَقْسَط " ، أي في حكمه. وقوله : " وَأَقْوَمُ " إنَّما صحَّت الواو فيه؛ لأنه أفعل تفضيل ، وأفعل التَّفضيل يصحُّ حملاً على فعل التَّعجُّب ، وصحَّ فعل التَّعجُّب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرُّفه.
و { وَأَقْومُ } يجوز أن يكون من " أَقَامَ " الرُّباعي المتعدِّي؛ لكنَّه حذف الهمزة الزَّائدة ، ثمَّ أتى بهمزة [ أفعل ] كقوله تعالى : { أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى } [ الكهف : 12 ] فيكون المعنى : أثبت لإقامتكم الشهادة ، ويجوز أن يكون من " قام " اللازم ويكون المعنى : ذلك أثبت لقيام الشَّهادة ، وقامت الشهادة : ثبتت ، قاله أبو البقاء.
قوله : { لِلشَّهَادَةِ } متعلِّقٌ بـ " أَقْوَم " ، وهو مفعولٌ في المعنى ، واللاَّم زائدةٌ ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التَّفضيل إلاَّ لضرورة
قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } في هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه متَّصل قال أبو البقاء : " والجُمْلَةُ المستثناة في موضع نصبٍ؛ لأنَّه استثناءٌ [ من الجنس ] لأنه أمرٌ بالاستشهاد في كلِّ معاملةٍ ، فالمستثنى منها التجارة الحاضرة ، والتَّقدير : إلاَّ في حال حضور التِّجارة ".
(10/219)
والثاني : أنَّه منقطع ، قال مكي بن أبي طالبٍ : و" أَنْ " في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع " وهذا هو الظَّاهر ، كأنه قيل : لكنّ التّجارة الحاضرة ، فإنَّه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها.
قوله : { وَيُعَلِّمُكُمُ الله } يجوز في هذه الجملة الاستئناف - وهو الظَّاهر - ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل في " اتَّقوا " قال أبو البقاء : " تقديره : واتقوا الله مضموناً لكم التَّعليم ، أو الهداية ، ويجوز أن تكون حالاً مقدَّرة ". قال شهاب الدين : وفي هذين الوجهين نظرٌ ، لأنَّ المضارع المثبت لا تباشره واو الحال ، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤوَّل ، لكن لا ضرورة تدعو إليه ههنا. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 479 ـ 506}. بتصرف.(10/220)
قوله تعالى { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان التقدير : هذا إذا كنتم حضوراً يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد ، عطف عليه قوله : {وإن كنتم} ولما كان الإنسان في السفر يكون مستجمع القوى كامل الآلات تام الأهبة عبر بأداة الاستعلاء فقال : {على سفر} يعوز مثله إحضار كاتب {ولم تجدوا كاتباً فرهان} أي فيغنيكم عن الكتب رهن يكون بدلاً عنه ، وقرىء : فرهان ، وكلاهما جمع رهن - بالفتح والإسكان ،
وهو التوثقة بالشيء مما يعادله بوجه ما.
وأشار بأن بدليتها لا تفيد إلا بما وصفها من قوله : {مقبوضة} أي بيد رب الدين وثيقة لدينه.
ولما كان التقدير : هذا إن تخوفتم من المداين ،
عطف عليه قوله : {فإن أمن} ولما كان الائتمان تارة يكون من الدائن وتارة يكون من الراهن قال : {بعضكم بعضاً} أي فلم تفعلوا شيئاً من ذلك {فليؤد} أي يعط ،
من الأداء وهو الإتيان بالشيء لميقاته.
ولما كان المراد التذكير بالإحسان بالائتمان ليشكر ولم يتعلق غرض بكونه من محسن معين بني للمفعول قوله : {الذي اؤتمن} من الائتمان وهو طلب الأمانة وهو إيداع الشيء لحفيظته حتى يعاد إلى المؤتمن - قاله الحرالي : {أمانته} وهو الدين الذي ترك المؤتمن التوثق به من المدين إحساناً إليه وحسن ظن به ،
وكذا إن كان الائتمان من جهة الراهن {وليتق الله} المستجمع لصفات العظمة {ربه} أي الذي رباه في نعمه وصانه من بأسه ونقمه وعطّف عليه قلب من أعطاه وائتمنه ليؤدي الحق على الصفة التي أخذه بها فلا يخن في شيء مما اؤتمن عليه.(10/221)
ولما كانت الكتابة لأجل إقامة الشهادة وكانت الأنفس مجبولة على الشح مؤسسة على حب الاستئثار فيحصل بسبب ذلك مخاصمات ويشتد عنها المشاحنات وربما كان بعض المخاصمين ممن يخشى أمره ويرجى بره فيحمل ذلك الشهود على السكوت قال سبحانه وتعالى : {ولا تكتموا الشهادة} أي سواء كان صاحب الحق يعلمها أو لا.
ولما نهى أتبع النهي التهديد فقال : {ومن يكتمها فإنه آثم} ولما كان محلها القلب الذي هو عمدة البدن قال : {قلبه} ومن أثم قلبه فسد ،
ومن فسد قلبه فسد كله ،
لأن القلب قوام البدن ،
إذا فسد فسد سائر الجسد.
ولما كان التقدير : فإن الله سبحانه وتعالى عالم بأنه كتم وكان للشهداء جهات تنصرف بها الشهادة عن وجه الإقامة عطف عليه قوله - ليشمل التهديد تلك الأعمال بإحاطة العلم : {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال.
ولما كان الإنسان هو المقصود الأعظم من سائر الأكوان فكانت أحواله مضبوطة بأنواع من الضبط كأن العلم البليغ مقصور عليه فلذلك قدم قوله : {بما تعملون} أي كله وإن دق سواء كان فعل القلب وحده أو لا {عليم} قال الحرالي : فأنهى أمر ما بين الحق والخلق ممثولاً وأمر ما بين الخلق والخلق مثلاً - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 550 ـ 551}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام : بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهان مقبوضة ، وبيع الأمانة ، ولما أمر في آخر الآية المتقدمة بالكتبة والإشهاد ، وأعلم أنه ربما تعذر ذلك في السفر إما بأن لا يوجد الكاتب ، أو إن وجد لكنه لا توجد آلات الكتابة ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرهن فهذا وجه النظم وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتبة والإشهاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 104}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}(10/222)
هذا معطوف على قوله : { إذا تداينتم بدَين وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ } [ البقرة : 282 ] الآية ، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمُكنة ، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شُرع لهم حكم آخر وهو الرهن ، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة ، وهي حالة السفر غالباً ، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 120}
وقال القرطبى :
لمّا ذكر الله تعالى النَّدْب إلى الإشهاد والكتْب لمصلحة حفظ الأموال والأدّيَان ، عقّب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتْب ، وجعل لها الرهن ، ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار ، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو ، ويدخل في ذلك بالمعنى كلُّ عذر.
فرُبّ وقت يتعذّر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل ، وأيضاً فالخوف على خراب ذمّة الغريم عذرٌ يوجب طلب الرهن.
وقد " رهن النبيّ صلى الله عليه وسلم دِرْعَه عند يهودي طلب منه سلَف الشعير فقال : إنما يريد محمد أن يذهب بمالي.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : "كذب إنِّي لأمينٌ في الأرض أمينٌ في السماء ولو ائتمنني لأدّيت اذهبوا إليه بدرعي" فمات ودِرعه مرهونة صلى الله عليه وسلم ، " على ما يأتي بيانه آنِفاً. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 407}
فائدة
قال ابن الجوزى :
إنما خص السفر ، لأن الأغلب عدم الكاتب ، والشاهد فيه
ومقصود الكلام : إذا عدمتم التوثق بالكتاب ، والإشهاد ، فخذوا الرهن. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 341}
فائدة بلاغية
قال الآلوسى :
{ وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ } أي مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 62}
فصل
قال الفخر :
أصل الرهن من الدوام ، يقال : رهن الشيء إذا دام وثبت ، ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة.(10/223)
إذا عرفت أصل المعنى فنقول : أصل الرهن مصدر.
يقال : رهنت عند الرجل أرهنه رهناً إذا وضعت عنده ، قال الشاعر :
يراهنني فيرهنني بنيه.. وأرهنه بني بما أقول
إذا عرفت هذا فنقول : إن المصادر قد تنقل فتجعل أسماء ويزول عنها عمل الفعل ، فإذا قال : رهنت عند زيد رهناً لم يكن انتصابه انتصاب المصدر ، لكن انتصاب المفعول به كما تقول : رهنت عند زيد ثوباً ، ولما جعل اسماً بهذا الطريق جمع كما تجعل الأسماء وله جمعان : رهن ورهان ، ومما جاء على رهن قول الأعشى :
آليت لا أعطيه من أبنائنا.. رهناً فيفسدهم كمن قد أفسدا
وقال بعيث :
بانت سعاد وأمسى دونها عدن.. وغلقت عندها من قبلك الرهن
ونظيره قولنا : رهن ورهن ، سقف وسقف ، ونشر ونشر ، وخلق وخلق ، قال الزجاج : فعل وفعلى قليل ، وزعم الفرّاء أن الرهن جمعه رهان ، ثم الرهان جمعه رهن فيكون رهن جمع الجمع وهو كقولهم ثمار وثمر ، ومن الناس من عكس هذا فقال : الرهن جمعه رهن ، والرهن جمعه رهان ، واعلم أنهما لما تعارضا تساقطا لا سيما وسيبويه لا يرى جمع الجمع مطرداً ، فوجب أن لا يقال به إلا عند الاتفاق ، وأما أن الرهان جمع رهن فهو قياس ظاهر ، مثل نعل ونعال ، وكبش وكباش وكعب وكعاب ، وكلب وكلاب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 105}
وقال ابن عاشور :
الرهان جمع رهن ويجمع أيضاً على رُهُن بضم الراء وضم الهاء وقد قرأه جمهور العشرة : بكسر الراء وفتح الهاء ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عَمْرو : بضم الراء وضم الهاء ، وجمْعُه باعتبار تعدّد المخاطبين بهذا الحكم.
والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسميةً للمفعول بالمصدر كالخلْق.
ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه.
وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحَبس قال تعالى : { كل نفس ما كسبت رهينة } [ المدثر : 38 ] فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه قال زهير :
وفارقْتَك برهن لا فَكَاكَ لَه(10/224)
يومَ الوَدَاعِ فأمسَى الرهن قد غَلِقَا...
والرهن شائع عند العرب : فقد كانوا يرهنون في الحمالات والدَيات إلى أن يقع دفعها ، فربّما رهنوا أبناءهم ، وربّما رهنوا واحداً من صناديدهم ، قال الأعشى يَذْكر أنّ كِسْرى رام أخذ رهائن من أبنائهم :
آلَيْتُ لا أُعْطِيه من أبنائنا
رُهُنا فنفسدَهم كمَن قد أفْسَدا...
وقال عبد الله بن هَمَّام السلولي :
فلمّا خَشِيتُ أظَافِيرَهم
نَجَوْت وأرْهَنْتُهُم مَالِكَا...
ومن حديث كعب بن الأشْرَفِ أنّه قال لعبد الرحمن بن عَوْف : ارْهَنُوني أبْنَاءَكم.
ومعنى فرِهانٌ : أي فرهان تعَوّض بها الكتابة.
ووصفُها بمقبوضة إمّا لمجرّد الكشف ، لأنّ الرهان لا تكون إلاّ مقبوضة ، وإمّا للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخَذ مِن الإذن في الرهن أنّه مباح فلذلك إذا سأله ربّ الدين أجيبَ إليه فدلّت الآية على أنّ الرهن توثقة في الدين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 120 ـ 121}
فائدة
قال الفخر :
في الآية حذف فإن شئنا جعلناه مبتدأ وأضمرنا الخبر ، والتقدير : فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين ، أو ما يقوم مقامهما ، أو فعليه رهن مقبوضة ، وإن شئنا جعلناه خبراً وأضمرنا المبتدأ ، والتقدير : فالوثيقة رهن مقبوضة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 105}
سؤال : فإن قلت : لم شرط الارتهان في السفر مع عدم الكاتب ولا يختص به سفر دون حضر وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه إلى أجل ، ولم يكن ذلك في سفر ولا عند عدم كاتب.
قلت ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة دون الحضر ، ولكن لما كان السفر مظنة لإعواز الكاتب.
والإشهاد أمر الله تعالى به على سبيل الإرشاد إلى حفظ الأموال لمن كان على سفر بأن يقيم التوثيق بالارتهان مقام الكتابة والإشهاد. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 204}
فصل
قال الفخر :(10/225)
اتفقت الفقهاء اليوم على أن الرهن في السفر والحضر سواء في حال وجود الكاتب وعدمه ، وكان مجاهد يذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر أخذاً بظاهر الآية ، ولا يعمل بقوله اليوم وإنما تقيدت الآية بذكر السفر على سبيل الغالب ، كقوله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} [ النساء : 101 ] وليس الخوف من شرط جواز القصر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 105 ـ 106}
وقال القرطبى :
قال جمهور من العلماء : الرّهْنُ في السفر بنص التنزيل ، وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا صحيح.
وقد بيّنا جوازه في الحضر من الآية بالمعنى ، إذْ قد تترتّب الأعذار في الحضر ، ولم يُروَ عن أحدٍ منعُه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود ، متمسِّكين بالآية.
ولا حجة فيها ؛ لأن هذا الكلام وإن كان خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال.
وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجلٍ ورهنه دِرعاً له من حديد.
وأخرجه النسائي من حديث ابن عباس قال : توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودِرْعُه مرهونةٌ عند يهوديّ بِثلاثين صاعاً من شعير لأهله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 407}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً } قرأ الجمهور "كاتباً" بمعنى رجل يكتب.
وقرأ ابن عباس وأُبيّ ومجاهد والضحاك وعِكرِمة وأبو العالية "ولم تَجِدوا كتاباً".
قال أبو بكر الأنباري : فسّره مجاهد فقال : معناه فإن لم تجدوا مِداداً يعني في الأسفار.
وروي عن ابن عباس "كُتَّاباً".
قال النحاس : هذه القراءة شاذّة والعامّة على خلافها ، وقلّما يخرج شيء عن قراءة العامة إلا وفيه مَطْعَن ؛ ونسَق الكلام على كاتب ؛ قال الله عز وجل قبل هذا : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } وكُتَّابٌ يقتضي جماعةً.(10/226)
قال ابن عطية : كُتَّاباً يحسُن من حيث لكل نازلة كاتب ، فقيل للجماعة : ولم تجدوا كتاباً.
وحكى المهدوِيّ عن أبي العالية أنه قرأ "كُتُباً" وهذا جمع كِتاب من حيث النوازل مختلفة.
وأمّا قراءة أُبيّ وابنِ عباس "كُتَّاباً" فقال النحاس ومكيّ : هو جمع كاتب كقائم وقِيام.
مكي : المعنى وإن عدِمتِ الدواة والقلم والصحيفة.
ونفْيُ وجود الكاتب يكون بعدم أي آلة اتفق ، ونَفْي الكاتب أيضاً يقتضي نفي الكتاب ؛ فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 407 ـ 408}
فائدة
قال القرطبى :
لو وُضع الرهنُ على يديّ عَدْل فضاع لم يضمن المرتهن ولا الموضوع على يده ؛ لأن المرتهن لم يكن في يده شيء يضمنه.
والموضوع على يده أمينٌ والأمين غير ضامن. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 410}
فصل
قال القرطبى :
روى البخاريّ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الظَّهْرُ يُركب بنفقته إذا كان مرهوناً ولبن الدرّ يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً وعلى الذي يركب ويشرب النفقة " وأخرجه أبو داود وقال بدل "يشرب" في الموضعين : "يحلب".
قال الخطّابيّ : هذا كلام مُبْهم ليس في نفس اللفظ بيانُ مَن يركب ويحلب ، هل الراهن أو المرتهِن أو العدل الموضوع على يده الرهن ؟ .
قلت : قد جاء ذلك مبيَّنا مفسَّراً في حديثين ، وبسببهما اختلف العلماء في ذلك ؛ فروى الدارقطنيّ من حديث أبي هريرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدَّرّ يشرب وعلى الذي يشرب نفقته " أخرجه عن أحمد بن عليّ بن العلاء حدّثنا زياد بن أيوب حدّثنا هشيم حدّثنا زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة.
وهو قول أحمد وإسحاق : أن المرتهن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة.
وقال أبو ثور : إذا كان الرّاهِن ينفق عليه لم ينتفع به المرتَهِن.(10/227)
وإن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه فله ركوبه واستخدامُ العبد.
وقاله الأوزاعيّ والليث.
الحديث الثاني خرّجه الدارقطنيّ أيضاً ، وفي إسناده مقال ويأتي بيانه من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذِئب عن الزهريّ عن المَقْبُريّ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَغْلَق الرهنُ ولصاحبه غُنْمه وعليه غُرْمه " وهو قول الشافعي والشعبيّ وابن سِيرين ، وهو قول مالك وأصحابه.
قال الشافعي : منفعة الرهن للراهن ، ونفقته عليه ، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خَلاَ الإحفاظ للوثيقة.
قال الخطابي : وهو أولى الأقوال وأصحها ، بدليل قوله عليه السلام : " لا يغلق الرهن مِن صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه " ( قال الخطابي : وقوله : "من صاحبه أي لصاحبه" ).
والعرب تضع "مِن" موضع اللاّم ؛ كقولهم :
أمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لمْ تُكَلَّمِ . . .
قلت : قد جاء صريحاً "لصاحبه" فلا حاجة للتأويل.
وقال الطحاوي : كان ذلك وقتَ كون الرِّبا مباحاً ، ولم يُنْه عن قرض جَرَّ منفعة ، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين ، ثم حرّم الربا بعد ذلك.
وقد أجمعت الأُمَّة على أن الأمَة المرهونة لا يجوز للراهن أن يطأها ؛ فكذلك لا يجوز له خدمتها.
وقد قال الشعبيّ : لا ينتفع من الرهن بشيء.
فهذا الشعبي روى الحديث وأفتى بخلافه ، ولا يجوز عنده ذلك إلا وهو مَنْسُوخ.
وقال ابن عبد البر وقد أجمعوا أن لبن الرهن وظهره للراهن.
ولا يخلو من أن يكون احتلابُ المرتَهِن له بإذن الراهن أو بغير إذنه ؛ فإن كان بغير إذنه ففي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحتلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه " ما يردّه ويقضي بنسخه.
وإن كان بإذنه ففي الأُصول المجتمع عليها في تحريم المجهول والغَرَر وبيع ما ليس عندك وبيع ما لم يُخْلق ، ما يردّه أيضاً ؛ فإنّ ذلك كان قبل نزول تحريم الرِّبا.
والله أعلم.(10/228)
وقال ابن خويز منداد : ولو شرط المرتهن الانتفاع بالرهن فلذلك حالتان : إن كان من قرض لم يجز ، وإن كان من بيع أو إجَارَة جاز ؛ لأنه يصير بائعاً للسلعة بالثمن المذكور ومنافع الرهن مدّة معلومة فكأنه بيع وإجارة ، وأما في القرض فلأنه يصير قرضاً جرّ منفعةً ؛ ولأن موضوع القرض أن يكون قُرْبَةً ، فإذا دخله نفع صار زيادة في الجنس وذلك رِبا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 411 ـ 413}
فائدة
قال الطبرى فى معنى الآية :
وإن كنتم ، أيها المتداينون ، في سفر بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب لكم ، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيلٌ ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونًا تقبضونها ممن تداينونه كذلك ، ليكون ثقةً لكم بأموالكم. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 94}
فصل
قال القرطبى :
نَماء الرهن داخل معه إن كان لا يتميز كالسِّمَن ، أو كان نَسْلاً كالولادة والنتاج ؛ وفي معناه فَسِيل النخل ، وما عدا ذلك من غلّة وثمرة ولبن وصوف فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه.
والفرق بينهما أن الأولاد تبع في الزكاة للأُمهات ، وليس كذلك الأصواف والألبان وثمر الأشجار ؛ لأنها ليست تبعاً للأُمهات في الزكاة ولا هي في صُوَرها ولا في معناها ولا تقوم معها ، فلها حكم نفسها لا حكم الأصل خلاف الولد والنتاج. والله أعلم بصواب ذلك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 414}
فائدة
قال الآلوسى :
وفي التعبير بمقبوضة دون تقبضونها إيماءاً إلى الاكتفاء بقبض الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 62}
قوله تعالى : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن أمانته}
قال الفخر :
اعلم أن هذا هو القسم الثالث من البياعات المذكورة في الآية ، وهو بيع الأمانة ، أعني ما لا يكون فيه كتابة ولا شهود ولا يكون فيه رهن. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 106}
فصل(10/229)
قال الفخر :
أمن فلان غيره إذا لم يكن خائفاً منه ، قال تعالى : {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ} [ يوسف : 64 ] فقوله {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} أي لم يخف خيانته وجحوده {فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن أمانته} أي فليؤد المديون الذي كان أميناً ومؤتمناً في ظن الدائن ، فلا يخلف ظنه في أداء أمانته وحقه إليه ، يقال : أمنته وائتمنته فهو مأمون ومؤتمن.
ثم قال : {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} أي هذا المديون يجب أن يتقي الله ولا يجحد ، لأن الدائن لما عامله المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والإشهاد والرهن فينبغي لهذا المديون أن يتقي الله ويعامله بالمعاملة الحسنة في أن لا ينكر ذلك الحق ، وفي أن يؤديه إليه عند حلول الأجل ، وفي الآية قول آخر ، وهو أنه خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنه أمانة في يده ، والوجه هو الأول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 106}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدَّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابَة في النفوس ، فذلك تحذير من عدم الوفاء به ؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خِيانة ؛ لأنّها ضدّها ، وفي الحديث : أدِّ الأمَانَة إلى من ائتَمنك ولا تَخن من خانك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 122}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { أَمَانَتَهُ } الأمانة مصدر سمى به الشيء الَّذي في الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة ؛ كما قال تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } [ النساء : 5 ]. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 415}
فصل
قال الفخر :(10/230)
من الناس من قال : هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن ، واعلم أن التزام وقوع النسخ من غير دليل يلجىء إليه خطأ ، بل تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ورعاية الاحتياط ، وهذه الآية محمولة على الرخصة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ليس في آية المداينة نسخ ، ثم قال : {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} وفي التأويل وجوه :
الوجه الأول : قال القفال رحمه الله : إنه تعالى لما أباح ترك الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أميناً ، ثم كان من الجائز في هذا المديون أن يخلف هذا الظن ، وأن يخرج خائناً جاحداً للحق ، إلا أنه من الجائز أن يكون بعض الناس مطلعاً على أحوالهم ، فههنا ندب الله تعالى ذلك الإنسان إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق ، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ، ومنعه من كتمان تلك الشهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة ، أو لم يعرف وشدد فيه بأن جعله آثم القلب لو تركها ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يدل على صحة هذا التأويل ، وهو قوله " خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد ".
الوجه الثاني : في تأويل أن يكون المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة ، ونظيره قوله تعالى : {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله وَمَنْ أَظْلَمُ ممنْ كتمَ شِهَادةً عندَه من الله} [ البقرة : 140 ] والمراد الجحود وإنكار العلم.
الوجه الثالث : في كتمان الشهادة والامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، وقد تقدم ذلك في قوله {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} [ البقرة : 282 ] وذلك لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة فقد بطل حقه ، وكان هو بالامتناع من الشهادة كالمبطل لحقه ، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه ، فهذا بالغ في الوعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ ـ 106 ـ 107}(10/231)
وقال ابن عاشور :
وقد علمتَ ممّا تقدم عند قوله تعالى : { فاكتبوه } أنّ آية { فإن أمن بعضكم بعضاً فليود الذي أؤتمن أمانته } تعتبر تكميلاً لطلب الكتابة والإشهادِ طلَبَ ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى : { فاكتبوه } على معنى الندب والاستحباب ، وهم الجمهور.
ومعنى كونها تكميلاً لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين ، مقصود بهما حسن التعامل بينهما ، فإن بدَا لهما أن يأخذا بهما فنعمَّا ، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمانٍ بينهما فلهما تركهما.
وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله.
وتقدم أيضاً أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجباً ثم نسخ وجوبه ، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية ، وهو قول الشعبي ، وابن جريج ، وجابر بن زيد ، والربيع بن سليمان ، ونسب إلى أبي سعيد الخدري.
ومحمل قولهم وقولِ أبي سعيد إن صحّ ذلك عنه أنّهم عنّوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة.
وتسميةُ مثل ذلك نسخاً تسمية قديمة.
أمّا الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكمَا مُحْكَما ، ومنهم الطبري ، فقصروا آية { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية على كونها تكملةً لصورة الرهن في السفر خاصة ، كما صرّح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنّه جمجم الكلام وطَوَاه.
ولَوْ أنّهم قالوا : إنّ هذه الآية تعني حالةَ تعذّر وجود الرهن في حالة السفر ، أي فلم يبق إلاّ أن يأمن بعضكم فالتقدير : فإن لم تجدوا رهناً وأمن بعضكم بعضاً إلى آخره لكان له وجه ، ويُفهم منه أنّه إن لم يأمنه لا يداينه ، ولكن طُوى هذا ترغيباً للناس في المواساة والاتِّسام بالأمانة.
وهؤلاء الفرق الثلاثة كلّهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثّق في الديون.(10/232)
وأظهر ممّا قالوه عندي : أنّ هذه الآية تشريع مستقلّ يعم جميع الأحوال المتعلّقة بالديون : من إشهاد ، ورهنٍ ، ووفاءٍ بالدّين ، والمتعلّقةِ بالتبايع ، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة { بعض } ليشمَل الائتمان من كلا الجانبين : الذي من قبل ربّ الدين ، والذي من قبل المدين.
فربّ الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه ، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر.
والمدين يأتمن الدائنَ إذا سَلَّم له رهناً أغلى ثمناً بكثير من قيمة الدين المرتهَن فيه ، والغالب أنّ الرهان تكون أوْفَرَ قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها ، فأمر كلّ جانب مؤتمننٍ أن يؤدّي أمانته ، فأداءُ المدين أمانته بدفع الدين ، دون مطل ، ولا جحود ، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهناً متجاوزَ القيمةِ على الدّين أن يردّ الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدّين ؛ لأنّ الرهن أوفر منه ، ولا ينقص شيئاً من الرهن.
ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين : معنى الصفة التي يتَّصف بها الأمين ، ومعنى الشيء المؤمَّن.
فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلَق الرهن : وهو أن يصير الشيء المرهون ملكاً لربّ الدّين ، إذا لم يدفع الدينَ عند الأجل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يَغْلق الرهنُ " وقد كان غَلق الرهن من أعمال أهل الجاهلية ، قال زهير :
وفارقَتْكَ برَهْنٍ لا فَكَاكَ له
عند الوَداع فأمسى الرهن قد غَلِقا...
ومعنى { أمن بعضكم بعضاً } أن يقول كلا المتعاملين للآخر : لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضاً ، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنّة اتّهام أحد المتداينين الآخر.
وزيد في التحذير بقوله : { وليتق الله ربه } ، وذِكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله : "وليتّق ربّه" لإدخال الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 123 ـ 125}
فائدة
قال الآلوسى :(10/233)
{ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } في الخيانة وإنكار الحق ، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى ، وقد أمر سبحانه بالتقوى عند الوفاء حسبما أمر بها عند الإقرار تعظيماً لحقوق العباد وتحذيراً عما يوجب وقوع الفساد. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 62}
فصل
قال القرطبى :
وقوله : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة } تفسير لقوله : "وَلاَ يُضَارر" بكسر العين.
نهى الشاهد عن أن يضر بكتمان الشهادة ، وهو نهي على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد.
وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق.
وقال ابن عباس : على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ، ويخبر حيثما استخبر ، قال : ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبر بها لعله يرجع ويرعَوِي.
وقرأ أبو عبد الرحمن "ولا يكتموا" بالياء ، جعله نهياً للغائب. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 415}
وقال ابن عاشور :
اعلم أنّ قوله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة } نهي ، وأنّ مقتضى النهي إفادة التكرار عند جمهور علماء الأصول : أي تكرارِ الانكفاف عن فعل المنهيّ في أوقات عُروضِ فعله ، ولولا إفادته التكرار لَما تحقّقت معصية ، وأنّ التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داعٍ لِفعل المنهيّ عنه ، فلذلك كان حقّاً على من تحمّل شهادة بحقّ ألاّ يكتمه عند عروض إعلانه : بأن يبلغه إلى من ينتفع به ، أو يقضِي به ، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به ، أو قبلَ ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه : بغيبة أو طُرُوِّ نسيان ، أو عروض موت ، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظٌ للحقّ الذي في علمه ، على مقدار طاقته واجتهاده.(10/234)
وإذ قد علمتَ آنفاً أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله : { وأقوم للشهادة } [ البقرة : 282 ] ، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طُلب بقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } [ البقرة : 282 ] فعُلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهاراً للحق.
ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بياناً : قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألاَ أخْبِرُكُم بخَيْر الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألَها " رواه مالك في "الموطّأ" ، ورواه عنه مسلم والأربعة.
فهذا وجه تفسير الآية تظاهرَ فيه الأثر والنظرُ.
ولكن روى في "الصحيح" عن أبي هريرة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خيرُ أمَّتِي القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم ثم الذين يلونهم قالها ثانية وشكّ أبو هريرة في الثالثة ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا " الحديثَ.
وهو مسوق مساق ذَمِّ مَن وصفهم بأنّهم يشهدون قبل أن يُستشهدوا ، وأنّ ذمّهم من أجل تلك الصفة.
وقد اختلف العلماء في محمله ؛ قال عياض : حمله قوم على ظاهره من ذمّ من يَشهد قبل أن تطلب منه الشهادة ، والجمهور على خلافه وأنّ ذلك غير قادح ، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهِد كاذباً ، وإلاّ فقد جاء في "الصحيح" : " خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسْألَها ".
وأقول : روى مسلم عن عِمران بن حُصَين : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم قالها مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون " الحديث.(10/235)
والظاهرّ أنّ ما رواه أبو هريرة وما رواه عِمران بن حصين حديث واحد ، سمعه كِلاَهما ، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيّناً لفظ أبي هريرة أنّ معنى قوله : قبل أن يستشهدوا دُونَ أن يستشهدوا ، أي دون أن يستشهدهم مُشهد ، أي أن يحمِلوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون ، وهو الذي عناه المازري بقوله : وحملوا ما في الحديث أي حديث أبي هريرة على ما إذا شهد كاذباً.
فهذا طريق للجمع بين الروايتين ، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبيّن.
وقال النووي : تأوّلَه بعض العلماء بأنّ ذم الشهادة قبل أن يُسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق اللَّه قال النووي : "وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا" وهذه طريقة ترجع إلى إعمال كل من الحديثين في باب ، بتأويل كلّ من الحديثين على غير ظاهره ؛ لئلا يلغَى أحدهما.
قلت : وبنى عليه الشافعية فرعا بردّ الشهادة التي يؤدّيها الشاهد قبل أن يُسألها ، ذكره الغزالي في "الوجيز" ، والذي نقل ابن مرزوق في "شرح مُختصر خليل عن الوجيز" "الحرص على الشهادة بالمبادرة قبلَ الدعوى لا تقبل ، وبعد الدعوى وقبل الاستشهاد وجهان فإن لم تقبل فهل يصير مجروحاً وجهان".
فأما المالكية فقد اختلفَ كلامهم.(10/236)
فالذي ذهب إليه عياض وابن مرزوق أنّ أداء الشاهد شهادته قبل أن يسألها مقبول لحديث "الموطأ" "خَيْر الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها" ونقل الباجي عن مالك : "أنّ معنى الحديث أن يكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها ، فيخبره بها ، ويؤدّيها له عند الحاكم" فإنّ مالكاً ذكره في "الموطأ" ولم يذيّله بما يقتضي أنّه لا عمل عليه وتبعَ الباجي ابنُ مرزوق في "شرحه لمختصر خليل" ، وادّعى أنَّه لا يعرف في المذهب ما يخالفه والذي ذهب إليه ابن الحاجب ، وخليلٌ ، وشارحو مختصرَيْهما : أنّ أداء الشهادة قبل أن يطلب من الشاهد أداؤُها مانع من قبولها : قال ابن الحاجب "وفي الأداء يُبدأ به دونَ طلب فيما تمحّض من حق الآدمي قادِحة" وقال خليل عاطفاً على موانع قبول الشهادة : "أوْ رَفَع قبل الطلب في مَحْض حقّ الآدمي".
وكذلك ابن راشد القفصي في كتابه "الفائِق في الأحكام والوثائق" ونسبه النووي في "شرحه على صحيح مسلم لمالك" ، وحمله على أنّ المستند متّحد وهو إعمال حديث أبي هريرة ولعلّه أخذ نسْبة ذلك لمالك من كلام ابن الحاجب المتقدّم.
وادّعى ابن مرزوق أنّ ابن الحاجب تبع ابن شاس إذ قال : "فإن بادر بها من غير طلب لم يقبل" وأنّ ابن شاس أخذه من كلام الغزالي قال : "والذي تقتضيه نصوص المذهب أنّه إنْ رفعها قبل الطلب لم يقدح ذلك فيها بل إن لم يكن فعله مندوباً فلا أقلّ من أن لا تُردّ" واعتضد بكلام الباجي في شرح حديث : خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها.
وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين : مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين ، وهو مسلك الشافعية ، ومسلك إعمال قاعدة رَدّ الشهادةِ بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنّه ريبة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 126 ـ 128}
فائدة
قال القرطبى :(10/237)
إذا كان على الحق شهود تعيّن عليهم أداؤها على الكفاية ، فإن أدّاها اثنان واجتزأ الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين ، وإن لم يجتزأ بها تعيّن المشي إليه حتى يقع الإثبات.
وهذا يعلم بدعاء صاحبها ، فإذا قال له : أحيي حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة تعين ذلك عليه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 415}
قوله تعالى : {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ}
قال الفخر :
الآثم الفاجر ، روي أن عمر كان يعلم أعرابياً {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} [ الدخان : 43 ، 44 ] فكان يقول : طعام اليتيم ، فقال له عمر : طعام الفاجر.
فهذا يدل على أن الآثم بمعنى الفجور. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 107}
قال ابن عاشور :
وأسند الإثم إلى القلب وإنّما الآثم الكاتم لأنّ القلب أي حركات العقل يسبّب ارتكاب الإثم : فإنّ كتمان الشهادة إصْرار قلبي على معصية ، ومثله قوله تعالى : { [ الأعراف : 116 ] وإنّما سحَروا الناس بواسطة مرئيات وتخيّلات وقول الأعشى :
كذلكَ فافعل ما حييتَ إذا شَتَوْا
وأقْدِمْ إذَا ما أعْيُنُ الناسِ تَفْرق...
لأنْ الفرَق ينشأ عن رؤية الأهوال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 128}
وقال الخازن :
إنما أضيف الإثم إلى القلب لأن الأفعال من الدواعي والصوارف إنما تحدث في القلب فلما كان الأمر كذلك أضيف الإثم إلى القلب قيل : ما أوعد الله على شيء كإيعاده عن كتمان الشهادة فإنه تعالى قال { فإنه آثم قلبه } وأراد به مسخ القلب نعوذ بالله من ذلك. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 204}
وقال البيضاوى :
وإسناد الإِثم إلى القلب لأن الكتمان مقترفه ونظيره : العين زانية والأذن زانية. أو للمبالغة فإنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال ، وكأنه قيل : تمكن الإِثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه ، وفاق سائر ذنوبه. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 583}
وقال ابن الجوزى :(10/238)
قال القاضي أبو يعلى : إنما أضاف الإثم إلى القلب ، لأن المآثم تتعلق بعقد القلب ، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النية لترك أَدائِها. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 342}
وقال الآلوسى :
وأضاف الآثم إلى القلب مع أنه لو قيل : ( فإنه آثم ) لتم المعنى مع الاختصار ، لأن الآثم بالكتمان وهو مما يقع بالقلب وإسناد الفعل بالجارحة التي يعمل بها أبلغ ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي ؟ ولأن الإثم وإن كان منسوباً إلى جملة الشخص لكنه اعتبر الإسناد إلى هذا الجزء المخصوص متجوزاً به عن الكل لأنه أشرف الأجزاء ورئيسها ، وفعله أعظم من أفعال سائر الجوارح ، فيكون في الكلام تنبيه على أن الكتمان من أعظم الذنوب ، وقيل : أسند الإثم إلى القلب لئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه ، وقيل : للإشارة إلى أن أثر الكتمان يظهر في قلبه كما جاء في الخبر "إذا أذنب العبد يحدث في قلبه نكتة سوداء وكلما أذنب زاد ذلك حتى يسود ذلك بتمامه" ، أو للإشارة إلى أنه يفسد قلبه فيفسد بدنه كله ، فقد ورد "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" والكل ليس بشيء كما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 63}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن كثيراً من المتكلمين قالوا.
إن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب ، وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله تعالى : {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [ الشعراء : 193 ، 194 ] وذكرنا طرفاً منه في تفسير قوله
{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} [ البقرة : 97 ] وهؤلاء يتمسكون بهذه الآية ويقولون : إنه تعالى أضاف الآثم إلى القلب فلولا أن القلب هو الفاعل وإلا لما كان آثماً.(10/239)
وأجاب من خالف في هذا القول بأن إضافة الفعل إلى جزء من أجزاء البدن إنما يكون لأجل أن أعظم أسباب الإعانة على ذلك الفعل إنما يحصل من ذلك العضو ، فيقال : هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ، ويقال : فلان خبيث الفرج ومن المعلوم أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلوب من الدواعي والصوارف ، فلما كان الأمر كذلك فلهذا السبب أضيف الآثم ههنا إلى القلب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 107}
فصل
قال القرطبى :
وتعرّضت هنا ثلاث مسائل تَتِمّة أربع وعشرين.
الأُولى اعلم أن الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البَيْن ونفى التنازع المؤدّي إلى فساد ذات البَيْن ؛ لئلا يسوّل له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حدّ له الشرع ، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق ؛ ولأجله حرّم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدّي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغُن والتباين.
فمن ذلك ما حرمه الله من الميْسِر والقِمار وشرب الخمر بقوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر } الآية.
فمن تأدّب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدِّين ؛ قال الله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } [ النساء : 66 ] الآية.(10/240)
الثانية : روى البخاريّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " وروى النسائيّ : عن ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها استدانت ، فقيل : يا أُم المؤمنين ، تستدينين وليس عندك وفاء ؟ قالت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أخذ دينا وهو يريد أن يؤدّيه أعانه الله عليه " وروى الطحاويّ وأبو جعفر الطبريّ والحارث بن أبي أُسامة في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " "لا تُخيفوا الأنفس بعد أَمْنِها" قالوا : يا رسول الله ، وما ذاك ؟ قال : "الدّينْ" " وروى البخاريّ عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في دعاء ذكره : " اللهم أني أعوذ بك من الهَمّ والحَزَن والعَجْز والكَسَل والجُبْن والبُخْل وضَلَع الدَّيْن وغَلَبة الرّجال " قال العلماء : ضَلَع الدّيْن هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤدّيه.
وهو مأخوذ من قول العرب : حِمْل مُضْلِع أي ثقيل ، ودابة مُضْلِع لا تقوى على الحَمْل ؛ قاله صاحب العَيْن.
وقال صلى الله عليه وسلم : " الدَّيْن شيْن الدِّين " وروي عنه أنه قال : " الديْن هَمٌّ بالليل ومَذَلَّةً بالنهار " قال علماؤنا : وإنما كان شَيْنا ومذَلّة لما فيه من شغل القلب والبال والهَمِّ اللازم في قضائه ، والتذلّل للغريم عند لقائه ، وتحمّل مِنَّته بالتأخير إلى حين أوانه.
وربّما يَعد من نفسه القضاء فيُخلف ، أو يحدِّث الغريم بسببه فيكذب ، أو يحلف له فيحنث ؛ إلى غير ذلك.
ولهذا كان عليه السَّلام يتعوّذ من المأثم والمَغْرَم ، وهو الديْن.
فقيل له : يا رسول الله ، ما أكثر ما تتعوّذ من المغرم ؟ فقال : " إن الرجل إذا غَرِم حدّث فكذِب ووعد فأخلف " وأيضاً فربما قد مات ولم يقضِ الدين فيرتهن به ؛ كما قال عليه السَّلام : " نَسْمَة المؤمن مرتهنة في قبره بدَيْنه حتى يُقضى عنه "(10/241)
وكل هذه الأسباب مَشائن في الدِّين تذهب جماله وتنقص كماله. والله أعلم.
الثالثة : لما أمر الله تعالى بالكتْب والإشهاد وأخذ الرّهان كان ذلك نَصّاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها ، ورداً على الجَهَلة المتصوّفة ورِعَاعها الذين لا يرون ذلك ، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم ؛ ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرّض لِمَنن الإخوان أو لصدقاتهم ، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلَمَتهم ، وهذا الفعل مذموم مَنْهِي عنه.
قال أبو الفرج الجَوْزِيّ : ولست أعجب من المتزهِّدين الذين فعلوا هذا مع قِلَّة علمهم ، إنما أتعجّب من أقوام لهم عِلم وعقل كيف حَثّوا على هذا ، وأمروا به مع مضادته للشرع والعقل.
فذكر المُحَاسِبيّ في هذا كلاماً كثيراً ، وشيّده أبو حامد الطُّوسِيّ ونصره.
والحارث عندي أعذر من أبي حامد ؛ لأن أبا حامد كان أفقه ، غير أن دخوله في التصوّف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه.
قال المحاسِبي في كلام طويل له : ولقد بلغني أنه : لما توفي عبد الرحمن بن عَوْف قال ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما نخاف على عبد الرحمن فيما ترك.
فقال كَعْب : سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن ؟ كَسَب طَيِّباً وأنفق طيباً وترك طيباً.
فبلغ ذلك أبا ذَرٍّ فخرج مُغضَباً يريد كعباً ، فمرّ بلَحْي بعير فأخذه بيده ، ثم انطلق يطلب كعباً ؛ فقيل لكعب : إن أبا ذَرٍّ يطلبك.
فخرج هارباً حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر.(10/242)
فأقْبَلَ أبو ذرّ يقصّ الأثر في طلب كَعْب حتى انتهى إلى دار عثمان ، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذرّ ، فقال له أبو ذرّ : يابن اليهودية ، تزعم ألاّ بأس بما تركه عبد الرّحمن! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال : " الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلاَّ من قال هكذا وهكذا " قال المحاسبي : فهذا عبد الرّحمن مع فضله يوقف في عَرْصَة ( يوم ) القيامة بسبب ما كسبه من حلال ؛ للتّعفف وصنائع المعروف فيمنع السعي إلى الجنة مع الفقراء وصار يَحبُو في آثارهم حَبْواً ، إلى غير ذلك من كلامه.
ذكره أبو حامد وشيّده وقوّاه : بحديث ثعلبة ، وأنه أعطِي المال فمنع الزكاة.
قال أبو حامد : فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده ، وإن صرف إلى الخيرات ؛ إذْ أقل ما فيه اشتغال الهِمّة بإصلاحه عن ذكر الله.
فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله حتى لا يبقى له إلاَّ قدر ضرورته ، فما بقي له درهمٌ يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله تعالى.
قال ابن الجوزِيّ : وهذا كله خلاف الشرع والعقل ، وسوءُ فهم المراد بالمال ، وقد شرفه الله وعظّم قدره وأمر بحفظه ، إذّ جعله قُواماً للآدميّ وما جعل قِوَاماً للآدميّ الشريف فهو شريف ؛ فقال تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } [ النساء : 5 ].
ونهى جلّ وعزّ أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ].
" ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ، قال لسعد : "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون الناس" " وقال : " ما نفعني مال كمال أبي بكر " وقال لعمرو بن العاص : " نِعم المال الصالح للرجل الصالح " ودعا لأنس ، وكان في آخر دعائه : " اللَّهُمَّ أكثر ماله وولده وبارك له فيه ".(10/243)
" وقال كعب : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله.
فقال : "أمسِك عليك بعض مالك فهو خير لك" " قال الجوزِيّ : هذه الأحاديث مُخرّجة في الصحاح ، وهي على خلاف ما تعتقده المتصوّفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة ، وأن حبسه ينافي التوَكّل ، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته ، وأن خلقاً كثيراً اجتنبوه لخوف ذلك ، وأن جمعه من وجهه ليعزّ ، وأن سلامة القلب من الإفتتان به تَقل ، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخرة يندر ؛ فلهذا خيف فتنته.
فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البُلْغَة من حلها فذلك أمر لا بدّ منه ، وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نُظِر في مقصوده ؛ فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود ، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته ، وادّخر لحوادث زمانه وزمانهم ، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أُثِيب على قصده ، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات.
وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمةً لحسن مقاصدهم بجمعه ؛ فحرصوا عليه وسألوا زيادته.
" ولما أقطع النبيّ صلى الله عليه وسلم الزّبِير حُضْر فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمي سوطه ، فقال : "أعطوه حيث بلغ سوطه" " وكان سعد بن عبادة يقول في دعائه : اللَّهُمَّ وسع عليّ.
وقال إخوة يوسف : { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } [ يوسف : 65 ].
وقال شعيب لموسى : { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } [ القصص : 27 ].
وإن أيّوبَ لما عوفِي نُثِرَ عليه رِجْلٌ من جَراد مِن ذهب ؛ فأخذ يَحْثِي في ثوبه ويستكثر منه ، فقيل له : أما شَبِعْتَ ؟ فقال : يا رب فقير يشبع من فضلك ؟ وهذا أمر مَرْكُوز في الطباع.
وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم (1) ، وما ذكره من حديث كَعْب وأبي ذَرّ فمحال ، من وضع الجهّال وخفيت عدم صحته عنه للُحُوقه بالقوم.
_______________
(1) هذا الكلام يبدو فيه التحامل جليا والاتهمام بالجهل لرجل كالمحاسبى ـ عليه رحمة الله ـ محل نظر
وكان الأولى والأوفق بالقرطبى عليه رحمة الله أن يقول فى مثل هذا الموضع : اجتهد فأخطأ ، والله تعالى أثاب المجتهد فى كلا الحالين فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر. والله أعلم.(10/244)
وقد روى بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت ؛ لأنّ في سنده ابن لَهِيعَة وهو مطعون فيه.
قال يحيى : لا يحتج بحديثه.
والصحيح في التاريخ أن أبا ذرّ توفي سنة خمس وعشرين ، وعبد الرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين ، فقد عاش بعد أبي ذرّ سبعَ سنين.
ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع ، ثم كيف تقول الصحابة : إنا نخاف على عبد الرحمن! أو ليس الإجماع منعقداً على إباحة ( جمع ) المال من حِلِّه ، فما وجه الخوف مع الإباحة ؟ أوَ يأذن الشرع في شيء ثم يعاقب عليه ؟ هذا قلة فهم وفقه.
ثم أينكر أبو ذرّ على عبد الرحمن ، وعبد الرحمن خير من أبي ذرّ بما لا يتقارب ؟ ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده دليل على أنه لم ( يَسْبرُ ) سيرَ الصحابة ؛ فإنه قد خلّف طلحة ثلاثمائة بُهار في كل بُهار ثلاثة قناطير.
والبُهار الحِمل.
وكان مال الزبير خمسين ألفاً ومائتي ألف.
وخلف ابن مسعود تسعين ألفاً.
وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلّفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد.
وأما قوله : "إن عبد الرحمن يَحْبُوا حَبْواً يوم القيامة" فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث ، وأعوذ بالله أن يحبو عبد الرحمن في القيامة ؛ أفترى من سبَق وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بَدْر والشُّورَى يحبو ؟ ثم الحديث يرويه عُمارة بن زَاذَان ؛ وقال البخاريّ : ربما اضطرب حديثه.
وقال أحمد : يروى عن أنس أحاديث مناكير ، وقال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به ، وقال الدارقطني : ضعيف.
وقوله : "تركُ المال الحلال أفضلُ من جمعه" ليس كذلك ، ومتى صَحّ القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء.(10/245)
وكان سعيد بن المسيب يقول : لا خير فيمن لا يطلب المال ؛ يقضي به دَيْنَه ويصون به عِرضه ؛ فإن مات تركه ميراثاً لمن بعده.
وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار ، وخلف سفيان الثوري مائتين ، وكان يقول المال في هذا الزمان سلاح.
وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء ؛ وإنما تحاماه قوم منهم إيثاراً للتشاغل بالعبادات ، وجمع الهمّ فقنعوا باليسير.
فلو قال هذا القائل : إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم.
قلت : ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " من قتل دون ماله فهو شهيد " وسيأتي بيانه في "المائدة" إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 416 ـ 420}
قوله تعالى : {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
قال الطبرى :
وأما قوله : "والله بما تعملون عليمٌ" ، فإنه يعني : "بما تعملون" في شهادتكم من إقامتها والقيام بها ، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها ، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها "عليمٌ" ، يحصيه عليكم ، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم ، إما خيرًا وإما شرًّا على قدر استحقاقكم. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 6 صـ 100}
وقال الفخر :
تحذير من الإقدام على هذا الكتمان ، لأن المكلف إذا علم أنه لا يعزب عن علم الله ضمير قلبه كان خائفاً حذراً من مخالفة أمر الله تعالى ، فإنه يعلم أنه تعالى يحاسبه على كل تلك الأفعال ، ويجازيه عليها إن خيراً فخيراً ، وإن شراً فشراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 107}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {والله بما تعملون عليم } تهديد ، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع ؛ لأنّ القادر لا يحُول بينه وبين المؤاخذة إلاّ الجهل فإذا كان عليماً أقام قسطاس الجزاء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 128}
لطيفة
قال السعدى :
وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم ، لاشتمالها على العدل والمصلحة ، وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات ، وانتظام أمر المعاش ، فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناء عليه. أ هـ {تفسير السعدى صـ 119}(10/246)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً } في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها عطفٌ على فعل الشَّرط ، أي : " وَإِنْ كُنْتُم " ، { وَلَمْ تَجِدُواْ } فتكون في محلِّ جزمٍ لعطفها على المجزوم تقديراً.
والثاني : أن تكون معطوفةً على خبر " كان " ، أي : وإن كنتم لم تجدوا كاتباً.
والثالث : أن تكون الواو للحال ، والجملة بعدها نصب على الحال ، فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلّ نصبٍ.
والعامة على " كاتباً " اسم فاعل. وقرأ أُبي ومجاهدٌ ، وأبو العالية : " كِتاباً " ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مصدرٌ أي ذا كتابة.
والثاني : أنه جمع كاتبٍ ، كصاحبٍ وصحاب. ونقل الزمخشريُّ هذه القراءة عن أُبيّ وابن عبَّاسٍ فقط.
قوله : { فَرِهَانٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فيكفي عن ذلك رهنٌ مقبوضةٌ.
الثاني : أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ ، أي : فرهن مقبوضة تكفي.
الثالث : أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالوثيقة ، أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضةٌ.
قوله : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } في هذا الضمير وجهان :
أحدهما : أنه ضميرُ الشأنِ ، والجملةُ بعدَه مفسِّرٌ له.
والثاني : أنه ضميرُ " مَنْ " في قوله : " ومَنْ يَكْتُمْهَا " وهذا هو الظاهرُ.
وأمَّا " آثِمٌ قَلْبُهُ " ففيه أوجهٌ :
أظهرها : أنَّ الضميرَ في " إِنَّهُ " ضميرُ " مَنْ " و" آثِمٌ " خبرُ " إِنَّ " ، و" قَلْبُهُ " فاعلٌ بـ " آثِمٌ " ، نحو قولك : " زَيْدٌ إِنَّهُ قَائِمٌ أَبُوهُ " ، وعَمَلُ اسم الفاعل هنا واضحٌ؛ لوجودِ شروطِ الإِعمال ، ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأنِ؛ لأنَّ ضميرَ الشأن لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ ، واسمُ الفاعلِ مع فاعله عند البصريِّين مفردٌ ، والكوفيُّون يُجيزون ذلك.(10/247)
الثاني : أن يكون " آثِمٌ " خبراً مقدَّماً ، و" قَلْبُهُ " مبتدأٌ مؤخراً ، والجملةُ خبرَ " إِنَّ " ، ذكره الزمخشريُّ وأبو البقاء وغيرهما وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيِّين؛ لأنه لا يعودُ عندهم الضَّميرُ المرفوعُ على متأخِّرٍ لفظاً ، و" آثِمٌ " قد تحمَّل ضميراً ، لأنه وقع خبراً؛ وعلى هذا الوجه : فيجوزُ أن تكونَ الهاءَ ضميرَ الشأ ، وأَنْ تكونَ ضميرَ " مَنْ ".
والثالث : أن يكونَ " آثِمٌ " خبرَ " إِنَّ " ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في " إِنَّهُ " ، و" قَلْبُهُ " بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كُلٍّ.
الرابع : [ أن يكونَ ] " آثمٌ " مبتدأً ، و" قَلْبُهُ " فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر ، والجملةُ خبرُ " إِنَّ " ، قاله ابن عطية ، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين؛ لأنَّه لا يعملُ عندهم اسمُ الفاعل ، إلا إذا اعتمد على نفي ، أو استفهام؛ نحو : ما قائِمٌ أَبَوَاكَ ، وهَلْ قائِمٌ أَخَوَاكَ؟ وَمَا قَائِمٌ قَوْمُكَ ، وَهَلْ ضَارِبٌ إِخْوَتُكَ؟ وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين ، والأخفشِ من البصريِّين؛ إذ يجيزانِ : قائمٌ الزَّيدانِ ، وقائِمٌ الزَّيدُونَ ، فكذلك في الآية الكريمة.
وقرأ ابن عبلة : " قَلْبَهُ " بالنصب ، نسبها إليه ابن عطيَّة.
وفي نصبه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنه بدلٌ من اسم " إِنَّ " بدلُ بعض من كلٍّ ، ولا محذورَ في الفصلِ [ بالخبر - وهو آثِمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه ، كما لا محذورَ في الفصل ] به بين النعتِ والمنعوتِ ، نحو : زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ العَاقِلُ مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ؛ بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه؛ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبدلِ منه.(10/248)
الثاني : أنه منصوبٌ على التشبيه بالمفعولِ به؛ كقولك : " مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهَهُ " ، وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ :
فمذهب الكوفيين : الجواز مُطْلَقاً ، أعني نظماً ونَثْراً. ومذهبُ المبرد المنع مطلقاً ، ومذهب سيبويه : منع في النثر ، وجوازه في الشعرِ ، وأنشد الكسائي على ذلك : [ الرجز ]
أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَّاتِهَا... مُدَارَةَ الأَخْفَافِ مُجْمَرَّاتِهَا
غُلْبَ الرِّقَابِ وَعَفْرْنِيَّاتِهَا... كُومَ الذُّرَى وَادِقَةَ سُرَّاتِهَا
ووجه ضعفه عند سيبويه في النثر تكرار الضمير.
الثالث : أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكيٌّ وغيره؛ وضعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً ، وهذا عند البصريِّين ، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه ، ومنه عندهم : { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] و{ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص : 58 ] ؛ وأنشدوا قوله : [ الوافر ]
إِلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلاَءٍ... لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ
وقرأ ابن أبي عبلة - فيما نقل عنه الزمخشريُّ - " أَثَّمَ قَلْبَهُ " جعل " أَثَمَّ " فعلاً ماضياً مشدَّد العين ، وفاعله مستترٌ فيه ، و" قَلْبَهُ " مفعول به ، أي : جعل قلبه آثِماً ، أي : أَثِمَ هو؛ لأنه عَبَّر بالقلبِ عن ذاتِه كلِّها؛ لأنه أشرفُ عضوٍ فيها. وهو ، وإِنْ كان بلفظِ الإِفراد ، فالمرادُ به الجمعُ ، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن ، فجمع في قوله : " وَلاَ يَكْتُمُوا ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 506 ـ 514}. بتصرف.(10/249)
لطيفة
قال أبو حيان :
وقد تضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة.
التجنيس المغاير في قوله : إذا تداينتم بدين ، وفي قوله : وليكتب بينكم كاتب.
وفي قوله : ولا يأب كاتب أن يكتب.
وفي قوله : ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم.
وفي قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم.
وفي قوله : أؤتمن أمانته.
والتجنيس المماثل في قوله : ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها.
والتأكيد في قوله : تداينتم بدين ، وفي قوله : وليكتب بينكم كاتب ، إذ يفهم من قوله : تداينتم ، قوله : بدين ، ومن قوله : فليكتب ، قوله : كاتب.
والطباق في قوله : أن تضل إحداهما فتذكر ، لأن الضلال هنا بمعنى النسيان.
وفي قوله : صغيراً أو كبيراً.
والتشبيه في قوله : أن يكتب كما علمه الله.
والاختصاص في قوله : كاتب بالعدل.
وفي قوله : فليملل وليه بالعدل ، وفي قوله : أقسط عند الله وأقوم للشهادة.
وفي قوله : تجارة حاضرة تديرونها بينكم.
والتكرار في قوله : فاكتبوه وليكتب ، وأن يكتب كما علمه الله ، فليكتب ، ولا يأب كاتب ، وفي قوله : فليملل الذي عليه الحق ، فإن كان الذي عليه الحق.
كرر الحق للدّعاء إلى اتباعه ، وأتى بلفظة على للإعلام أن لصاحب الحق مقالاً واستعلاء ، وفي قوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
وفي قوله : واتقوا الله ، ويعلمكم الله ، والله.
والحذف في قوله : يا أيها الذين آمنوا ، حذف متعلق الإيمان.(10/250)
وفي قوله : مسمى ، أي بينكم فليكتب الكاتب ، أن يكتب الكتاب كما علمه الله الكتابة والخط ، فليكتب كتاب الذي عليه الحق ما عليه من الدين ، وليتق الله ربه في إملائه سفيهاً في الرأي أو ضعيفاً في البينة ، أو لا يستطيع أن يمل هو لخرس أو بكم فليملل الدين وليه على الكاتب ، واستشهدوا إذا تعاملتم من رجالكم المعينين للشهادة المرضيين ، فرجل مرضي وامرأتان مرضيتان من الشهداء المرضيين فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة ، ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة أو من أدائها عند الحاكم إذا ما دعوا أي دعائهم صاحب الحق للتحمل ، أو للأداء إلى أجله المضروب بينكم ، ذلكم الكتاب أقسط وأقوم للشهادة المرضية أن لا ترتابوا في الشهادة تديرونها بينكم ، ولا تحتاجون إلى الكتب والإشهاد فيها ، وأشهدوا إذا تبايعتم شاهدين ، أو رجلاً وامرأتين ، ولا يضارّ كاتب ولا شهيد أي صاحب الحق ، أو : لا يضار صاحب الحق كاتباً ولا شهيداً ، ثم حذف وبنى للمفعول ، وأن تفعلوا الضرر ، واتقوا عذاب الله ، ويعلمكم الله الصواب ، وإن كنتم على سبيل سفر ولم تجدوا كاتباً يتوثق بكتابته ، فالوثيقة رهن أمن بعضكم بعضاً ، فأعطاه مالاً بلا إشهاد ولا رهن أمانته من غير حيف ولا مطل ، وليتق عذاب الله ، ولا تكتموا الشهادة عن طالبها.
وتلوين الخطاب ، وهو الانتقال من الحضور إلى الغيبة ، في قوله : فاكتبوه ، وليكتب ، ومن الغيبة إلى الحضور في قوله : ولا يأب كاتب ، وأشهدوا.
ثم انتقل إلى الغيبة بقوله : ولا يضار ، ثم إلى الحضور بقوله : ولا تكمتوا الشهادة ، ثم إلى الغيبة بقوله : ومن يكتمها ، ثم إلى الحضور بقوله : بما تعملون.
والعدول من فاعل إلى فعيل ، في قوله : شهيدين ، ولا يضار كاتب ولا شهيد.(10/251)
والتقديم والتأخير في قوله : فليكتب ، وليملل ، أو الإملال ، بتقديم الكتابة قبل ، ومن ذلك : ممن ترضون من الشهداء ، التقدير واستشهدوا ممن ترضون ، ومنه وأشهدوا إذا تبايعتم. انتهى ما لخصناه مما ذكر في هذه الآية من أنواع الفصاحة.
وفيها من التأكيد في حفظ الأموال في المعاملات ما لا يخفي : من الأمر بالكتابة للمتداينين ، ومن الأمر للكاتب بالكتابة بالعدل ، ومن النهي عن الامتناع من الكتابة ، ومن أمره ثانياً بالكتابة ، ومن الأمر لمن عليه الحق بالإملال إن أمكن ، أو لوليه إن لم يمكنه ، ومن الأمر بالاستشهاد ، ومن الاحتياط في من يشهد وفي وصفه ، ومن النهي للشهود عن الامتناع من الشهادة إذا ما دعوا إليها ، ومن النهي عن الملل في كتابة الدين وإن كان حقيراً ، ومن الثناء على الضبط بالكتابة ، ومن الأمر بالإشهاد عند التبايع ، ومن النهي للكاتب والشاهد عن ضرار من يشهد له ويكتب ، ومن التنبيه على أن الضرار في مثل هذا هو فسوق ، ومن الأمر بالتقوى ، ومن الإذكار بنعمة التعلم ، ومن التهديد بعد ذلك ، ومن الاستيثاق في السفر وعدم الكاتب بالرهن المقبوض ، ومن الأمر بأداء أمانة من لم يستوثق بكاتب وشاهد ورهن ، ومن الأمر لمن استوثق بتقوى الله المانعة من الإخلال بالأمانة ، ومن النهي عن كتم الشهادة ، ومن التنبيه على أن كاتمها مرتكب الإثم ، ومن التهديد آخرها بقوله : { والله بما تعملون عليم } فانظر إلى هذه المبالغة والتأكيد في حفظ الأموال وصيانتها عن الضياع ، وقد قرنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفوس والدماء ، فقال : " من قتل دون ماله فهو شهيد " وقال : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم " ولصيانتها والمنع من إضاعتها ، ومن التبذير فيها كان حجر الإفلاس ، وحجر الجنون ، وحجر الصغر ، وحجر الرق ، وحجر المرض ، وحجر الارتداد. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 374 ـ 375}(10/252)
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ . . . }.
ابن عرفة : مفهوم الآية ملغى بنصّ السّنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر.
وأيضا فهو مفهوم خرج مخرج الغالب لأن السفر مظنة لعدم وجدان الكاتب أو هو شيء من الأدلة غالبا بخلاف الحضر.
قال ابن عطية : أجمع الناس على صحة قبض المرتهن وعلى قبض وكيله.
واختلفوا في قبض عدل فجعله الإمام مالك قبضا.
قال ابن عرفة : إذا لم يكن من جهة الراهن.
وقال الحكم بن عيينة وقتادة : ليس بقبض.
قال ابن عرفة : إذا قبض المرتهن الرهن ولم يزل حائزا له كان أحق به لا خلاف.
وإن كان قبضه بالشهادة ثم أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه فتصرف فيه الراهن بطل الحوز بلا خلاف ، وإن أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه فلم يتصرف فيه ولم يزل بيد المرتهن فظاهر كتاب الرهن في المدونة أنه مبطل للحوز.
وظاهر كتاب حريم البير منها أنه غير مبطل ( بناء ) على أن الحوز شرط في لزوم الرهن أو في استحقاق الرهن.
قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ . . . }.
ظاهره جواز إعطاء الدين وجواز أخذه من غير رهن فتكون ناسخة لما قبلها لأن عمومها يقتضي اشتراط أخذ الرهن فيه.
قوله تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة . . . }.
راجع لحالة ( الأداء ).
قوله تعالى : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ . . . }.(10/253)
قال الزمخشري : لم قال { آثِمٌ قَلْبُهُ } فخصص الإثم بالقلب وهلا علقه بجميع الجسد ؟ وأجاب بأربعة أوجه :
الأول : أنه تحقيق لوقوع الإثم ثم لأن كتمان الشهادة من فعل القلب وإثمها مقترن بالقلب فلذلك أسند إليه.
للثاني : أنّ القلب الأصلُ لحديث " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ".
الثالث : أنّ القلب أصل واللّسان ترجمان له.
الرابع : أن أفعال القلب أعظم من أفعال الجوارح وإثمه أعظم من إثمها.
قال ابن عرفة : ومنهم من كان يجيب بأن القلب يستوي فيه الفعل والترك وليس بينهما تفاوت إذ لا أثر ( للترك ) فيه بالنّسبة إلى الفعل بخلاف الجوارح فإنّ الفعل يمتاز عن التّرك ( بالبديهة ) وكتمان الشهادة ترك فلو أسند للجوارح لما حسن ( ترتب ) الإثم عليه فلذلك أسند للقلب الذي هما فيه مستويان. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 366}(10/254)
قوله تعالى { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبر عن سعة علمه دل عليه بسعة ملكه المستلزم لسعة قدرته ليدل ذلك على جميع الكمال لأنه قد ثبت كما قال الأصبهاني إن الصفات التي هي كمالات حقيقة ليست إلا القدرة والعلم المحيط فقال واعداً للمطيع متوعداً للعاصي مصرحاً بأن أفعال العباد وغيرها مخلوق له : - وقال الحرالي : ولما كان أول السورة إظهار كتاب التقدير في الذكر الأول كان ختمها إبداء أثر ذلك الكتاب الأول في الأعمال والجزاء التي هي الغاية في ابتداء أمر التقدير فوقع الختم بأنه سلب الخلق ما في أيديهم مما أبدوه وما أخفوه من أهل السماوات والأرض ؛ انتهى - فقال : {لله} أي الملك الأعظم.
ولما كانت ما ترد لمن يغفل وكان أغلب الموجودات والجمادات عبر بها فقال : {ما في السماوات} أي كله على علوها واتساعها من ملك وغيره {وما في الأرض} مما تنفقونه وغيره من عاقل وغيره ،
يأمر فيهما ومنهما بما يشاء وينهى عما يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ويضاعف لمن يشاء.
ولما كان التقدير : فهو يعلم جميع ما فيهما من كتمانكم وغيره ويتصرف فيه بما يريد ،
عطف عليه محذراً من يكتم الشهادة أو يضمر سوءاً غيرها أو يظهره قوله تعالى : {وإن تبدوا} أي تظهروا {ما في أنفسكم} من شهادة أو غيرها {أو تخفوه} مما وطنتموه في النفس وعزمتم عليه وليس هو من الخواطر التي كرهتموها ولم تعزموا عليها.(10/255)
قال الحرالي : من الإخفاء وهو تغييب الشيء وأن لا يجعل عليه علم يهتدي إليه من جهته {يحاسبكم} من المحاسبة مفاعلة من الحساب والحسب ، وهو استيفاء الأعداد فيما للمرء وعليه من الأعمال الظاهرة والباطنة يعني ليجازي بها {به الله} أي بذكره لكم وأنتم تعلمون ما له من صفات الكمال.
قال الحرالي : وفي ضمن هذا الخطاب لأولي الفهم إنباء بأن الله سبحانه وتعالى إذا عاجل العبد بالحساب بحكم ما يفهمه ترتيب الحساب على وقوع العمل حيث لم يكن فيحاسبكم مثلاً فقد أعظم اللطف به ،
لأن من حوسب بعمله عاجلاً في الدنيا خف جزاؤه عليه حيث يكفر عنه بالشوكة يشاكها حتى بالقلم يسقط من يد الكاتب ،
فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من ذنوبه وفراغ من حسابه كالذي يتعاهد بدنه وثوبه بالتنظيف فلا يتسخ ولا يدرن ولا يزال نظيفاً - انتهى وفيه تصرف.
ولما كان حقيقة المحاسبة ذكر الشيء والجزاء عليه وكان المراد بها هنا العرض وهو الذكر فقط بدلالة التضمن دل عليه بقوله مقدماً الترجئة معادلة لما أفهمه صدر الآية من التخويف : {فيغفر لمن يشاء} أي فلا يجازيه على ذلك كبيرة كان أو لا {ويعذب من يشاء} بتكفير أو جزاء.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بهذا أنه مطلق التصرف ختم الكلام دلالة على ذلك بقوله مصرحاً بما لزم تمام علمه من كمال قدرته : {والله} أي الذي لا أمر لأحد معه {على كل شيء قدير} أي ليس هو كملوك الدنيا يحال بينهم وبين بعض ما يريدون بالشفاعة وغيرها.
قال الحرالي : فسلب بهذه الآية القدرة عن جميع الخلق - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 551 ـ 552}
وقال أبو حيان :(10/256)
ومناسبتها ظاهرة ، لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم ، ذكر ما انطوى عليه الضمير ، فكتمه أو أبداه ، فإن الله يحاسبه به ، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة ، ولما علق الإثم بالقلب ذكر هنا الأنفس ، فقال : { وأن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } وناسب ذكر هذه الآية خاتمة لهذه السورة لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع من : دلائل التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، والصلاة ، والزكاة ، والقصاص ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والحيض ، والطلاق ، والعدّة ، والخلع ، والإيلاء ، والرضاعة ، والربا ، والبيع ، وكيفية المداينة.
فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السموات وما في الأرض ، فهو يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته.
ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس ، وما تنطوي عليه من النيات ، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة ، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة ، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير ، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين ، وغاية الوعيد للعاصين. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 375}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}(10/257)
تعليل واستدلال على مضمون جملة والله بما تعملون عليم لِّلَّهِ } وعلى ما تقدم آنفاً من نحو : { الله بكل شيء عليم } [ آل عمران : 176 ] { واللَّه بما تعملون عليم} {واللَّه بما تعملون بصير } [ الممتحنة : 30 ] { واللَّه بما تعملون خبير } [ البقرة : 234 ] فإذا كان ذلك تعريضاً بالوعد والوعيد ، فقد جاء هذا الكلام تصريحاً واستدلالاً عليه ، فجملة { وإن تبدوا ما في أنفسكم } إلى آخرها هي محطُّ التصريح ، وهي المقصود بالكلام ، وهي معطوفة على جملة { ولا تكتموا الشهادة إلى والله بما تعملون عليم } [ البقرة : 283 ] وجملةُ { لله ما في السموات وما في الأرض } هي موقع الاستدلال ، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين ، أو علة لجملة { والله بما تعملون عليم } باعتبار إرادة الوعيد والوعد ، فالمعنى : إنّكم عبيده فلا يفوته عملَكُم والجزاء عليه.
وعلى هذا الوجه تكون جملة "وإن تبدوا ما في أنفسكم" معطوفة على جملة { لله ما في السموات وما في الأرض } عطف جملة على جملة ، والمعنى : إنكم عبيدُه ، وهو محاسبكم ، ونظيرُها في المعنى قوله تعالى : { وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق } [ الملك : 13 ، 14 ] ولا يخالف بينهما إلاّ أسلوب نظم الكلام.
ومعنى الاستدلال هنا : أنّ الناس قد علموا أنّ الله ربّ السموات والأرض ، وخالق الخلق ، فإذا كان في السموات والأرض لِلَّه ، مخلوقاً له ، لزم أن يكون جميع ذلك معلوماً له لأنَّه مكوِّن ضمائرِهم وخواطرهم ، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية ؛ لأنّه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلاً عن خالقه.
ومالكيةُ الله تعالى أتَمّ أنواع الملك على الحَقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى ، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوبُ الوجود من صفات الكمال.(10/258)
فقوله : { لله ما في السموات وما في الأرض } تمهيد لقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } الآية.
وعُطف قوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم } بالواو دون الفاء للدلالة على أنّ الحكم الذي تضمَّنه مقصود بالذات ، وأنّ ما قبله كالتمهيد له.
ويجوز أن يكون قوله : { وإن تبدوا } عطفاً على قوله : { والله بما تعملون عليم } [ البقرة : 283 ] ويكون قوله : { لله ما في السموات وما في الأرض } اعتراضاً بينهما. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 129}
فصل
قال الفخر :
في كيفية النظم وجوه الأول : قال الأصم : إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول ، وهو دليل التوحيد والنبوّة ، وأشياء كثيرة من علم الأصول ببيان الشرائع والتكاليف ، وهي في الصلاة ، والزكاة ، والقصاص ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والحيض ، والطلاق ، والعدة ، والصداق ، والخلع ، والإيلاء ، والرضاع ، والبيع ، والربا ، وكيفية المداينة ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآية على سبيل التهديد.
وأقول إنه قد ثبت أن الصفات التي هي كمالات حقيقية ليست إلا القدرة والعلم ، فعبّر سبحانه عن كمال القدرة بقوله {للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} ملكا وملكاً ، وعبر عن كمال العلم المحيط بالكليات والجزئيات بقوله {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} وإذا حصل كمال القدرة والعلم ، فكان كل من في السموات والأرض عبيداً مربوبين وجدوا بتخليقه وتكوينه كان ذلك غاية الوعد للمطيعين ، ونهاية الوعيد للمذنبين ، فلهذا السبب ختم الله هذه السورة بهذه الآية.(10/259)
والوجه الثاني : في كيفية النظم ، قال أبو مسلم : إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [ البقرة : 283 ] ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال : {للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} ومعنى هذا الملك أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه ومن كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد وأن يكون عالماً بها إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به ، فكان الله تعالى احتج بخلقه السموات والأرض مع ما فيهما من وجوه الإحكام والإتقان على كونه تعالى عالماً بها محيطاً بأجزائها وجزئياتها.
الوجه الثالث : في كيفية النظم ، قال القاضي : إنه تعالى لما أمر بهذه الوثائق أعني الكتبة والإشهاد والرهن ، فكان المقصود من الأمر بها صيانة الأموال ، والاحتياط في حفظها بيّن الله تعالى أنه إنما المقصود لمنفعة ترجع إلى الخلق لا لمنفعة تعود إليه سبحانه منها فإنه له ملك السموات والأرض.
الوجه الرابع : قال الشعبي وعكرمة ومجاهد : إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه بيّن أنه له ملك السموات والأرض فيجازي على الكتمان والإظهار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 108}
قال السمرقندى :
{ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } من الخلق كلهم عبيده وإماؤه ، وهو خالقهم ورازقهم ، وحكمه نافذ فيهم ، معناه لا تعبدوا أحداً سواه ، لأنه هو الذي خلق المسيح والملائكة والأصنام ، ويقال : لله ما في السموات وما في الأرض ، يعني في كل شيء دلالة ربوبيته ووحدانيته. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 212}
فائدة
قال الماوردى :
قوله عز وجل : { للهِ مَا فِي السَّمَواتِ وما في الأرض } في إضافة ذلك إلى الله تعالى قولان :
أحدهما : أنه إضافة تمليك تقديره : الله يملك ما في السماوات وما في الأرض.(10/260)
والثاني : معناه تدبير ما في السماوات وما في الأرض. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 360}
فائدة ثالثة
قال أبو حيان :
الظاهر في : اللام ، أنها للملك ، وكان ملكاً له لأنه تعالى هو المنشىء له ، الخالق.
وقيل : المعنى لله تدبير ما في السموات وما في الأرض ، وخص السموات والأرض لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات ، وقدم السموات لعظمها ، وجاء بلفظ : ما ، تغليباً لما لا يعقل على من يعقل ، لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان ، لا يعقل ، وأجناس ذلك كثيرة.
وأما العاقل فأجناسه قليلة إذ هي ثلاثة : إنس وجنّ وملائكة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 375}
فصل
قال الفخر :
احتج الأصحاب بقوله {للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} على أن فعل العبد خلق الله تعالى ، لأنه من جملة ما في السموات والأرض بدليل صحة الاستثناء ، واللام في قوله {لِلَّهِ} ليس لام الغرض ، فإنه ليس غرض الفاسق من فسقه طاعة الله ، فلا بد وأن يكون المراد منه لام الملك والتخليق. أ هـ
وقال أيضا رحمه الله :
احتج الأصحاب بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء لأن من جملة ما في السموات والأرض حقائق الأشياء وماهياتها فهي لا بد وأن تكون تحت قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما تكون الحقائق والماهيات تحت قدرته لو كان قادراً على تحقيق تلك الحقائق ، وتكوين تلك الماهيات ، فإذا كان كذلك كانت قدرة الله تعالى مكونة للذوات ، ومحققة للحقاق ، فكان القول بأن المعدوم شيءً باطلاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 108}
قوله تعالى : {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله}
قال ابن عاشور : (10/261)
وإبداء ما في النفس : إظهاره ، وهو إعلانه بالقول ، فيما سبيله القول ، وبالعمل فيما يترتّب عليه عمل ؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك ، وعطف { أو تخفوه } للترقّي في الحساب عليه ، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف ، وفي الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات.
وما في النفي يعمّ الخير والشر.
والمحاسبة مشتقّة من الحُسبان وهو العدّ ، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة : يعُدُّه عليكم ، إلاّ أنّه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى : { [ الشعراء "إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ" : 113 ] وشاع هذا في اصطلاح الشرع ، ويوضّحه هنا قوله : { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }.
وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة : ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء ، فلا يقصّروا في اتّباع الخيرات النفيسة والعملية ، إلاّ أنّه أثبت غفراناً وتعذيباً بوجه الإجمال على كلَ ممَّا نُبديه وما نخفيه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 129 ـ 130}
وقال أبو حيان :
{ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } ظاهر : ما ، العموم ، والمعنى : أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء ، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى ، لأن علمه ليس ناشئاً عن وجود الأشياء ، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد ، وبعد الإيجاد ، وبعد الإعدام.
بخلاف علم المخلوق ، فإنه لا يعلم الشيء إلاَّ بعد إيجاده ، فعلمه محدث. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 375}
فصل
قال الفخر : (10/262)
يروى عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ وناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ، وإن له الدنيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل سمعنا وعصينا قولوا : سمعنا وأطعنا " ، فقالوا سمعنا وأطعنا ، واشتد ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولاً فأنزل الله تعالى : {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [ البقرة : 286 ] فنسخت هذه الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم مالم يعملوا أو يتكلموا به ".
واعلم أن محل البحث في هذه الآية أن قوله {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} يتناول حديث النفس ، والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب ، ولا يتمكن من دفعها ، فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق ، والعلماء أجابوا عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين ، فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود ، ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أموراً خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس ، فالقسم الأول : يكون مؤاخذاً به ، والثاني : لا يكون مؤاخذاً به ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [ البقرة : 225 ] وقال في آخر هذه السورة {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [ البقرة : 286 ] وقال : {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِى الذين ءَامَنُواْ} [ النور : 19 ] هذا هو الجواب المعتمد.(10/263)
والوجه الثاني : أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل ، فهو في محل العفو وقوله {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} فالمراد منه أنه يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهراً وإما على سبيل الخفية وأما ما وجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو وهذا الجواب ضعيف ، لأن أكثر المؤاخذات إنما تكون بأفعال القلوب ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب : وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه ، وأيضاً فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي فثبت ضعف هذا الجواب.
والوجه الثالث في الجواب : أن الله تعالى يؤاخذه بها لكن مؤاخذتها هي الغموم والهموم في الدنيا ، روى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه بغم يبتليه به في الدنيا أو حزن أو أذى ، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه ، وروت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه.
فإن قيل : المؤاخذة كيف تحصل في الدنيا مع قوله تعالى : {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [ غافر : 17 ].
قلنا : هذا خاص فيكون مقدماً على ذلك العام.
الوجه الرابع في الجواب : أنه تعالى قال : {يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} ولم يقل : يؤاخذكم به الله وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومحاسباً وجوهاً كثيرة ، وذكرنا أن من جملة تفاسيره كونه تعالى عالماً بها ، فرجع معنى هذه الآية إلى كونه تعالى عالماً بكل ما في الضمائر والسرائر ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم ، فالمؤمن يخبره ثم يعفو عنه ، وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب.(10/264)
الوجه الخامس في الجواب : أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} فيكون الغفران نصيباً لمن كان كارهاً لورود تلك الخواطر ، والعذاب يكون نصيباً لمن يكون مصراً على تلك الخواطر مستحسناً لها.
الوجه السادس : قال بعضهم : المراد بهذه الآية كتمان الشهادة ، وهو ضعيف ، لأن اللفظ عام ، وإن كان واراه عقيب تلك القضية لا يلزم قصره عليه.
الوجه السابع في الجواب : ما روينا عن بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله {لا يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [ البقرة : 286 ] وهذا أيضاً ضعيف لوجوه
أحدها : أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا : أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها ، وذلك باطل ، لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة ، ولذلك قال عليه السلام : " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " والثاني : أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر ، وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك والثالث : أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي.
واعلم أن للناس اختلافاً في أن الخبر هل ينسخ أم لا ؟ وقد ذكرناه في أصول الفقه ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 108 ـ 110}
وقال القرطبى :
اختلف الناس في معنى قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } على أقوال خمسة :
الأوّل أنها منسوخةٌ ؛ قاله ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سِيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عُبَيْدَة وجماعة من الصحابة والتابعين ، وأنه بقي هذا التكليف حَوْلاً حتى أنزل الله الفرج بقوله : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }.(10/265)
( وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم ) وفي صحيح مسلم " عن ابن عباس قال : لما نزلت { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } قال : دخل قلوبَهم منها شيءٌ لم يدخل قلوبَهم مِن شيء ؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : "قولوا سمعنا وأطعنا وسلّمنا" " قال : فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى : "لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" [ قال : "قد فعلت" ] رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ على الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [ قال : قد فعلت" ] رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَطَاقَةَ لَنَا بِهِ واعْفُ عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنا أَنْتَ مَوْلاَنَا ( فَانْصُرْنَا على الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [ قال : "قد فعلت" ] : في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } وسيأتي.
الثاني قال ابن عباس وعِكرمة والشعبي ومجاهد : إنها مُحكْمَةٌ مخصوصة ، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كَتْمها ، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب.
الثالث أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين ؛ وقاله مجاهد أيضاً.
الرابع أنها محكمة عامّة غير منسوخة ، والله مُحاسِب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه ؛ فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ؛ ذكره الطبريّ عن قوم ، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا.(10/266)
روي عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : لم تنسخ ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول : "إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم" فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب ؛ فذلك قوله : { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } وهو قوله عزّ وجلّ : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] من الشك والنفاق.
وقال الضّحاك : يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه.
وفي الخبر : "إن الله تعالى يقول يوم القيامة هذا يومٌ تبلى فيه السرائر وتخرج الضمائر وأن كُتَّابي لم يكتبوا إلاَّ ما ظهر من أعمالكم وأنا المطّلع على ما لم يطلعوا عليه ولم يُخْبُروه ولا كتبوه فأنا أخبركم بذلك وأُحاسبكم عليه فأغفر لمن أشاء وأعذب من أشاء" فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين ، وهذا أصح ما في الباب ، يدل عليه حديث النجوى على ما يأتي بيانه ، ( لا يُقال ) : فقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لأمّتِي عما حدّثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به " فإنا نقول : ذلك محمول على أحكام الدنيا ؛ مثل الطلاق والعتاق والبيع التي لا يلزمه حكمها ما لم يتكلم به ، والذي ذكر في الآية فيما يؤاخذ العبد به بينه وبين الله تعالى في الآخرة.
وقال الحسن : الآية محكمة ليست بمنسوخة.
قال الطبريّ : وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس ؛ إلاَّ أنهم قالوا : إن العذاب الذي يكون جزاء لما خَطَر في النفوس وصحِبه الفكر إنما هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها.
(10/267)
ثم أسند عن عائشة نحو هذا المعنى ؛ وهو ( القول الخامس ) : ورجح الطبريّ أن الآية محكمة غير منسوخة : قال ابن عطية : وهذا هو الصواب ، وذلك أن قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } معناه مما هو في وُسعكم وتحت كسبكم ، وذلك استصحاب المعتقَد والفكر ؛ فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشْفَق الصحابة والنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فبيّن الله لهم ما أراد بالآية الأخرى ، وخصصها ونص على حكمه أنه لا يكلّف نفساً إلاَّ وسعها ، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع ، بل هي أمر غالب وليست مما يكتسب ؛ فكان في هذا البيان فرَجُهم وكشف كُرَبهم ، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها : ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ ؛ فإن ذهب ذاهب إلى تقدير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية ، وذلك أن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم : "قولوا سمعنا وأطعنا" يجيء منه الأمر بأن يثبتوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران.
فإذا قُرّر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه ، وتشبه الآية حينئذ قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] فهذا لفظه الخبر ولكن معناه التَزِموا هذا واثْبتُوا عليه واصْبِروا بحَسَبِه ، ثم نسخ بعد ذلك.
وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين.
قال ابن عطية : وهذه الآية في"البقرة" أشبه شيء بها.
وقيل : في الكلام إضمار وتقييد ، تقديره يحاسبكم به الله إن شاء ؛ وعلى هذا فلا نسخ.(10/268)
وقال النحاس : ومن أحسن ما قيل في الآية وأشبه بالظاهر قول ابن عباس : إنها عامّة ، ثم أدخل حديث ابن عمر في النّجْوى ، أخرجه البخاريّ ومسلم وغيرهما ، واللفظ لمسلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يُدْنَى المؤمن ( يوم القيامة ) من ربِّه جلّ وعزّ حتى يضع عليه كنَفَه فيُقَرِّرُه بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول ( أيّ ) ربِّ أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيُعْطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله " وقد قيل : إنها نزلت في الذين يتوَلّون الكافرين من المؤمنين ، أي وإن تعلنوا ما في أنفسكم أيها المؤمنون من ولاية الكفار أو تسروها يحاسبكم به الله ؛ قاله الواقديّ ومقاتل.
واستدلوا بقوله تعالى في ( آل عمران ) { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } من ولاية الكفار { يَعْلَمْهُ الله } [ آل عمران : 29 ] يدلّ عليه ما قبله من قوله : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } [ آل عمران : 28].
قلت : وهذا فيه بعدٌ ؛ لأن سياق الآية لا يقتضيه ، وإنما ذلك بيّن في "آل عمران" والله أعلم.
وقد قال سفيان بن عيينة : بلغني أن الأنبياء عليهم السَّلام كانوا يأتون قومهم بهذه الآية { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله }. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 421 ـ 423}
وقال الثعالبى :
ورجَّح الطبريُّ أنَّ الآية محكَمَةٌ غير منْسُوخة.
(10/269)
وهذا هو الصوابُ ، وإِنَّما هي مخصَّصة ، وذلك أنَّ قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } : معناه : بما هو في وُسْعكم ، وتحْتَ كَسْبِكُم ، وذلك استصحابُ المعتقد ، والفِكْر فيه ، فلما كان اللفظ ممَّا يمكنُ أنْ تدخل فيه الخواطرُ ، أشفَقَ الصحابةُ ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم فبيَّن اللَّه تعالى لهم ما أراد بالآيةِ الأولى ، وخصَّصَها ، ونصَّ على حُكْمِهِ ؛ أنه لا يكلِّف نفْساً إِلا وسْعَهَا ، والخواطرُ ليْسَتْ هي ، ولا دفعُهَا في الوُسْع ، بل هي أمر غالبٌ ، وليست مما يُكْسَبُ ، ولا يُكْتَسَبُ ، وكان في هذا البيان فَرَحُهُمْ ، وكَشْفُ كربهم ، وتأتي الآية محكمةً لا نَسْخَ فيها ، وممَّا يدفع أمر النَّسْخ ؛ أن الآية خَبَرٌ ، والأخبار يدخُلُها النَّسْخُ ، فإن ذهب ذاهبٌ إِلى تقرير النَّسْخِ ، فإِنما يترتَّب له في الحُكْم الذي لَحِقَ الصحابة ، حِينَ فزعوا من الآية ، وذلك أن قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم : "قولُوا سَمِعْنَا وأطعنا" ، يجيء منْه : الأمر بأن يبنُوا على هذا ، ويلتزموه ، وينتظروا لُطْفَ اللَّه في الغُفْران ، فإِذا قرّر هذا الحكم ، فصحيحٌ وقوعُ النَّسْخ فيه ، وتشبه الآية حينئذٍ قوله تعالَى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] ، فهذا لفظه الخَبَرُ ، ولكنَّ معناه : التزموا هذا ، وابنوا عليه ، واصبروا بحَسَبِهِ ، ثم نسخ ذلك بَعْد ذلك ، فهذه الآية في البقرة أشبهُ شَيْء بها. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 235 ـ 236}
وقال ابن عاشور :
وللعلماء في معنى هذه الآية ، والجمع بينها وبين قوله صلى الله عليه وسلم " مَنْ هَمّ بسيئة فلم يعملها كتُبت له حسنة ".
وقوله : {إن الله تجاوز لأمَّتِي عمّا حدثتْها به أنفُسها} "أقوال" (1)
______________
(1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق وهى غير موجودة فى الأصل. والله أعلم.(10/270)
وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض ، في شرحيهما "لصحيح مسلم" : وهو مع زيادة بيان أنّ ما يخطر في النفس إن كان مجرّد خاطرِ وتردّد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به ، إذ لا طاقة للمكلّف بصرفه عنه ، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها ، وإن كان قد جاش في النفس عَزم ، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أوْ لا ، فإن كان من الخواطر التي لا تترتَّب عليها أفعال : مثل الإيمان ، والكفر ، والحسد ، فلا خلاف في المؤاخذة به ؛ لأنَّ مما يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه ، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج ، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق ، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختياراً لغير مانع منعه ، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث " من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنةً " وإن رجع لمانعٍ قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان.
أي إنّ قوله تعالى : { يحاسبكم به الله } محمول على معنى يجازيكم وأنّه مُجمل تُبَيّنه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة ، وإنّ من سمَّى ذلك نسخاً من السلف فإنّما جرى على تسميةٍ سبقتْ ضَبطَ المصطلحات الأصولية فأطلق النّسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدّمين وهذه الأحاديث ، وما دلّت عليه دلائل قواعد الشريعة ، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى : { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }.
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس "أنّ هذه الآية نُسِخت بالتي بعدها" أي بقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] كما سيأتي هنالك.
وقد تبيّن بهذا أنّ المشيئة هنا مترتّبة على أحوال المُبْدَى والمُحْفَى ، كما هو بيّن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 130 ـ 131}(10/271)
وقال محمد بن أبى بكر الرازى
إنه تعالى أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة ، فهو يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا وأخفوا ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك ، ثم يغفر لمن يشاء فضلا ويعذب من يشاء عدلا كما أخبر فى الآية. أ هـ {تفسير الرازى لمحمد بن أبى بكر الرازى صـ 50}
وقال الآلوسى :
{ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } أي يجازيكم به يوم القيامة ، وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان ، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها ، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافاً لمن توهم ذلك ووقع في حيص بيص لدفعه. ولا يشكل على هذا أنهم قالوا : إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] لأنا نقول : المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو أيضاً من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله :
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا... فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا(10/272)
فالآية على ما قررنا محكمة ، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجاً بما أخرجه أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال : "لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قلبكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها { آمنالرسول } [ البقرة : 285 ] الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] الخ ، وصح مثل ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود وعائشة رضي الله تعالى عنهم ، وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال : نسختها الآية التي بعدها ، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه ، ويكون الحديث إخباراً عما كان بعد النسخ ، واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني.(10/273)
ومن هنا قال الطبرسي : وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة ، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها" فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفاً ، والحكم الشرعي المفهوم من الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره ؛ وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازاً كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى : { فاعفوا واصفحوا } [ البقرة : 109 ] كأنه قيل : كيف يحمل { مَا فِي أَنفُسِكُمْ } على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى ، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام وقال : "أخطأت أم أصبت يا رسول الله ؟ فقال له صلى الله عليه وسلم : أصبت بعضها وأخطأت بعضها" ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما ، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى ، وقيل : معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء ، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه ، ويؤول إلى قولنا أن تدخلوا الأعمال السيئة في(10/274)
الوجود ظاهراً أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام ، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك يحاسبكم به الله وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية الكريمة قال : نزلت في الشهادة ، وقيل : الآية على ظاهرها ، و{ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى { يُحَاسِبْكُم } يخبركم به الله تعالى يوم القيامة ، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم ، وجميع هذه الأقوال لا تخلوا عن نظر فتدبر.
وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 64 ـ 65}
فائدة
قال البيضاوى :
{ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } يوم القيامة. وهو حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 583}
فائدة أخرى
قال أبو السعود :
وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفاعل للاعتناء به ، وأما تقديمُ الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله عز وجل : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } فلِما أن المعلَّق بما في أنفسهم هاهنا هو المحاسبة ، والأصلُ فيها الأعمالُ البادية ، وأما العلمُ فتعلُّقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ، كيف لا وعلمُه سبحانه بمعلوماته متعالٍ عن أن يكون بطريق حصول الصور ، بل وجودُ كل شيءٍ في نفسه في أيّ طور كان علمٌ بالنسبة إليه تعالى وفي هذا لا يختلف الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنة خلا أن مرتبة الإخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة الإبداء إذ ما من شيء يبدى إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمَرٌ في النفس فتعلقُ علمِه تعالى بحالته الأولى متقدمٌ على تعلّقه بحالته الثانية. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 273}(10/275)
قوله تعالى : {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء}
فصل
قال الفخر :
الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على جواز غفران ذنوب أصحاب الكبائر وذلك لأن المؤمن المطيع مقطوع بأنه يثاب ولا يعاقب ، والكافر مقطوع بأنه يعاقب ولا يثاب ، وقوله {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} رفع للقطع واحد من الأمرين ، فلم يبق إلا أن يكون ذلك نصيباً للمؤمن يرثه المذنب بأعماله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 110}
فصل
قال الفخر :
قرأ عاصم وابن عامر {فَيَغْفِرُ ، يُعَذّبُ} برفع الراء والباء ، وأما الباقون فبالجزم أما الرفع فعلى الاستئناف ، والتقدير : فهو يغفر ، وأما الجزم فبالعطف على يحاسبكم ونقل عن أبي عمرو أنه أدغم الراء في اللام في قوله {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} قال صاحب "الكشاف" : إنه لحن ونسبته إلى أبي عمرو كذب ، وكيف يليق مثل هذا اللحن بأعلم الناس بالعربية.(1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 110}
وقال القرطبى :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي "فَيَغْفِرْ وَيُعَذِّبْ" بالجزم عطف على الجواب.
وقرأ ابن عامر وعاصم بالرفع فيهما على القطع ، أي فهو يغفُر ويعذبُ.
وروي عن ابن عباس والأعرج وأبي العالية وعاصم الجحدرِيّ بالنصب فيهما على إضمار "أن".
وحقيقته أنه عطف على المعنى ؛ كما في قوله تعالى : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } وقد تقدم.
والعطف على اللفظ أجود للمشاكلة ؛ كما قال الشاعر :
ومتى مايَعِ منك كلاماً . . .
يَتَكَلّم فيُجِبْك بعقْلِ
___________
(1) مثل هذه الطعن كما تقدم غير مرة لا وزن له ولا قيمة لأن رواية أبى عمرو متواترة ولا يجوز الطعن فى رواية ثابتة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد اتبع الزمخشرى فى هذا الطعن بعض المفسرين كالبيضاوى والنسفى وأبو السعود
وسيأتى الرد عليه مفصلا من خلال كلام ابن عادل وابن عرفة والآلوسى رحمهم الله. والله أعلم.(10/276)
قال النحاس : وروي عن طلحة بن مُصَرِّف "يحاسبكم به الله يغفر" بغير فاء على البدل.
ابن عطية : وبها قرأ الجُعْفِيّ وخلاّد.
ورُوي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود.
قال ابن جنِّي : هي على البدل من "يحاسبكم" وهي تفسير المحاسبة ؛ وهذا كقول الشاعر :
رُوَيْداً بَنِي شَيْبَانَ بَعْضَ وعِيدِكم . . .
تُلاقُوا غَداً خِيلي على سَفَوانِ
تُلاقُوا جياداً لا تَحِيد عن الوغى . . .
إذا ما غَدَتْ فِي المأزَق المْتَدَاني
فهذا على البدل.
وكرر الشاعر الفعل ؛ لأن الفائدة فيما يليه من القول.
قال النحاس : وأجود من الجزم لو كان بلا فاءٍ الرفعُ ، يكون في موضع الحال ؛ كما قال الشاعر :
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُوا إلى ضَوْء نارِهِ . . .
تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِندَهَا خَيْرُ مُوقِدِ.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 423 ـ 424}
وقال الآلوسى :
وقد يجاب بأن القراآت السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمي ، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجح بكونه إثباتاً ، ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له وممن روى ذلك عنه أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراآت إمام في اللغات ، ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازماً على أن منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين ، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعاً ، منهم الكسائي ، والفراء ، وأبو جعفر الرواسي ، ولسان العرب ليس محصوراً فيما نقله البصريون فقط ، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 66}(10/277)
وقال ابن عادل :
قوله تعالى : { فَيَغْفِرُ } : قرأ ابن عامر وعاصمٌ برفع " يَغْفِرُ " و" يُعَذِّبُ " ، والباقون من السبعةِ بالجزم ، وقرأ ابن عباس والأعرجُ وأبو حيوة : " فَيَغْفِرَ " بالنصب.
فأمَّا الرفعُ : فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكونَ خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : فهو يَغْفِرُ.
والثاني : أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ ، عُطِفت على ما قبلها.
وأمَّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم.
وأمَّا النصبُ : فبإضمار " أَنْ " ، وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهِّم من الفعلِ قبل ذلك ، تقديره : تكنْ محاسبةُ ، فغفرانٌ ، وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجه الثلاثة ، وهو : [ الوافر ]
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ... رَبيعُ النَّاسِ وَالبَلَدُ الحَرَامُ
ونَأْخُذْ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ... أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
بجزم : " نَأْخُذْ " عطفاً على " يَهْلِكْ رَبِيعُ " ونصبه ورفعِه ، على ما ذُكِرَ في " فَيَغْفِرْ " وهذه [ قاعدة مطَّرِدة ، وهي أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جاز فيه هذه ] الأوجُهُ الثلاثةُ ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ ، جاز جزمه ونصبه وامتنع رفعه ، نحو : إِنْ تَأْتِنِي فَتَزُرْنِي أَوُ فَتَزُورَنِي ، أَوْ وَتَزُرْني أَوْ تَزُورَنِي.(10/278)
وقرأ الجعفي وطلحة بن مصرِّف وخلاَّد : " يَغْفِرْ " بإسقاط الفاء ، وهي كذلك في مصحف عبد الله ، وهي بدلٌ من الجواب ؛ كقوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب } [ الفرقان : 68-69 ]. وقال أبو الفتح : " وهي على البدلِ من " يُحاسِبْكُمْ " ، فهي تفسيرٌ للمحَاسَبَة " قال أبو حيان : " وليس بتفسيرٍ ، بل هما مترتِّبان على المُحَاسَبَةِ ". وقال الزمخشريُّ : " ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة ، الحساب ؛ لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّل ، فهو جارٍ مجرى بدل البعض من الكلِّ أو بدل الاشتمال ؛ كقولك : " ضَرَبْتُ زَيْداً رَأْسَهُ " و" أَحْيَيْتُ زَيْداً عَقْلَهُ " ، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ ؛ لحاجةِ القبلتينِ إلى البيان ".
قال أبو حيان : وفيه بعضُ مناقشةٍ : أمَّا الأولُ ؛ فقوله : " معنَى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ " ، وليس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ ؛ لأنَّ الحِسَابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئاتِه وحصرُها ، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها ، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المُحاسَبَة ، فليست المحاسبةُ مفصَّلةٌ بالغفرانِ والعذابِ.
وأمَّا ثانياً ؛ فلقوله بعد أَنْ ذكر بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال : " وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ لحاجةِ القبيلَين إلى البيان " ، أمَّا بدلُ الاشتمال ، فهو يمكن ، وقد جاءَ ؛ لأنَّ الفعلَ يدُلُّ على الجنسِ ، وتحته أنواعٌ يشتملُ عليها ، ولذلك إذا وقع عليه النفيُ ، انتفَتْ جميعُ أنواعه ، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ ، فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤَ ؛ فلا يقال في الفعلِ له كلٌّ وبعضٌ ، إلا بمجازٍ بعيدٍ ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يستحِيلُ وجودُ [ بدل ] البعضِ من الكلِّ في حق الله تعالى ؛ إذ الباري لا يتقسَّم ولا يتبعَّض.(10/279)
قال شهاب الدين : ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرة والعذابِ تفسيراً ، أو تفصيلاً للحساب ، والحسابُ نتيجتُه ذلك ، وعبارةُ الزمخشريِّ هي بمعنى عبارة ابن جنِّي ، وأمَّا قوله : " إِنَّ بدلَ البعضِ من الكلِّ في الفعْلِ متعذِّرٌ ، إذ لا يتحقَّق فيه تجزُّؤٌ " ، فليس بظاهرٍ ؛ لأنََّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعه ، فإنَّ الجنسَ كلٌّ ، والنوعَ بعضٌ ، وأمَّا قياسُه على الباري تعالى ، فلا أدري ما الجامع بينهما ؟ وكان في كلام الزمخشريُّ ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال : وقرأ الأعمش : " يَغْفِر " بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من " يُحَاسِبْكُمْ " ؛ كقوله : [ الطويل ]
1303- مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
وهذا فيه نظرٌ ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعد ذلك ؛ كما تقدَّم حكايتُه عنه ؛ لأن البيت قد أُبدِلَ فيه من فعلِ الشرط ، لا من جوابِه ، والآية الكريمة قد أُبْدِلَ فيها من نفسِ الجواب ، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له.
وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام ، والباقون بإظهارها ، وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ [ عنه ] ، وورشٌ عن نافع ، والباقون بالإِدغام ، وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرٍو ؛ لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ.(10/280)
قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : " كيف يَقْرأ الجَازِمُ " ؟ قلت : يُظْهِر الراءَ ، ويُدْغِم الباء ، ومُدْغِمُ الراءِ في اللام لاحِنٌ مخطىءٌ خطأً فاحِشاً ، وراويه عن أبي عمرٍو مخطىءٌ مرتين ؛ لأنه يَلْحَنُ وينسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يُؤذِنُ بجهلٍ عظيم ، والسببُ في هذه الروايات قِلَّةُ ضبطِ الرواة ، وسبب قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية ، ولا يَضْبطُ نحو هذا إلا أهلُ النَّحو " قال شهاب الدين. وهذا من أبي القاسم غيرُ مرضيٍّ ؛ إذ القُرَّاء معتنُونَ بهذا الشأن ؛ لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ [ بعد الحَرْفِ ] ، فكيف يقلُّ ضبطُهُم ؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعيِّ ، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللام والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتُها ، والأقوى لا يدغم في الأضعَف ، وهذا مَذهبُ البصريِّين : الخليل وسيبويه ومَنْ تبعهما ، وأجاز ذلك الفراءُ والكسائيُّ والرُّؤاسيُّ ويعقوبُ الحضرميُّ ورأسُ البصريِّين أبو عمرو ، وليس قوله : " إن هذه الرواية غلطٌ علَيْه " بمُسَلَّم ، ثم ذكر أبو حيان نقولاً عن القراء كثيرةٌ ، وهي منصوصة في كتبهم ، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً ؛ فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته ، [ وكيف ] يقال : إنَّ الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطىءٌ مرتين ، ومن جملة رُواتِهِ اليزيديُّ إمامُ النَّحو واللغةِ ، وكان يُنازعُ الكسائيُّ رئاسته ، ومحلُّهُ مشهُور بين أهلِ هذا الشَّأْن. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 519 ـ 521}
فائدة أخرى
قال أبو السعود :
وتقديمُ المغفرةِ على التعذيب لتقدّم رحمته على غضبه. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 273}
لطيفة
قال الثعالبى :
قال الشيخ الوليُّ العارفُ باللَّه ابن أبي جَمْرَةَ : والخواطرُ عندهم ستَّةٌ يعني عند العلماءِ العارفينَ باللَّه : أولُها الهَمَّة ، ثم اللَّمَّة ، ثم الخَطْرة ؛ وهذه الثلاثُ عندهم غَيرْ مُؤاخذٍ بها ، ثم نِيَّة ، ثمَّ إرادَةٌ ، ثم عَزِيمَةٌ ، وهذه الثلاثُ مؤَاخذ بها. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 236}
فائدة
قال ابن جزى :
فإن قيل : إن الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ فالجواب أن النسخ إنما وقع في المؤاخذة والمحاسبة وذلك حكم يصح دخول النسخ فيه فلفظ الآية خبر ومعناها حكم. أ هـ {التسهيل حـ 1 صـ 98}(10/281)
لطيفة
قوله تعالى : "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" وفى سورة آل عمران : "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" وفى المائدة قوله تعالى : "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" وفى سورة الفتح : "ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" فورد فى هذه الآى الأربع تقديم الغفران وتأخير التعذيب وورد فى سورة المائدة : "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء" بتقديم التعذيب وتأخير المغفرة على خلاف ما ورد فى الآى الأربع المذكورة.
فللسائل أنه يسأل عن ذلك.
والجواب عنه والله أعلم أن هذه الآية لما تقدمها قوله تعالى : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الحياة الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" ثم بعد ذلك قوله تعالى : "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم" ، فقدم فى هاتين القصتين من خبر المحاربين والسارقين أمر تعذيبهم جزاء على فعلهم ثم ذكر المغفرة لهم إن تابوا وأتبع ذلك بقوله تعالى : "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض...الآية" وبناؤها على ما تقدمها قبلها ويليها كما تبن فقدم ذكر العذاب على المغفرة لمناسبته لما اتصلت به وبقيت عليه.(10/282)
وأما الآى الأربع فلم يقع قبل شئ منها ذكر الواقع فى سورة المائدة وإنما تقدمها ما يفهم قوة الرجاء لمن أحسن وأناب كقوله تعالى فى آية البقرة : "وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه" والخطاب للمؤمنين وورد قبل الآية الثانية من الأربع قوله تعالى : "ليس لك من الأمر شئ" ، وقبل الثالثة : "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه"الى قوله تعالى : "بل أنتم بشر ممن خلق" ، وفى هذا وإن كان خطابا لأهل الكتابين تنبيه لهم وأنهم إن أسلموا وأنابوا لربهم رجوا عفوه ومغفرته وقبل الآية قوله تعالى : "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله" ، ولم يخرج الكلام إلى غير هذا من تعريف نبيه صلى الله عليه وسلم بعلي حاله وما منحه والإعلام بحال المخلفين من الأعراب وما جرى فى ظنهم وكل ذلك تثبيت للمؤمنين ومنبئ بما تعقبهم الاستجابة لله ولرسوله ثم أتبع ذلك بالإعلام بأنه سبحانه المالك للكل والمتصرف فيهم بما يشاء فقال تعالى : "ولله ملك السماوات والأرض" وأفهم ذلك أن فعل المخلفين من الأعراب غير خارج عما أراده وقدره وأن مخالفتهم لا تضره تعالى وأنها صادرة عن قضائه فناسب هذه الأربع بجملتها تقديم ذكر المغفرة وجاء كل على ما يناسب والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل صـ 101 ـ 102}(10/283)
قوله تعالى : {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ}
قال الفخر :
وقد بيّن بقوله {للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} أنه كامل الملك والملكوت ، وبين بقوله {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} أنه كامل العلم والإحاطة ، ثم بيّن بقوله {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} أنه كامل القدرة مستولي على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبداً منقاداً له ، خاضعاً لأوامره ونواهيه محترزاً عن سخطه ونواهيه ، وبالله التوفيق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 110}
وقال الخازن :
{ والله على كل شيء قدير } يعني أنه تعالى قادر على كل شيء كامل القدرة فيغفر للمؤمنين فضلاً ويعذب الكافرين عدلاً. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 206}
وقال الآلوسى :
{ والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب ، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 66}
لطيفة
قال ابن عجيبة رحمه الله : (10/284)
اعلم أن الخواطر أربعة : ملكي ورباني ونفساني وشيطاني ، فالملكي والرباني لا يأمران إلا بالخير ، والنفساني والشيطاني لا يأمران إلا بالشر ، وقد يأمران بالخير إذا كان فيه دسيسة إلى الشر ، والفرق بين النفساني والشيطاني : أن الخاطر النفساني ثابت لا يزول بتعوذ ولا غيره ، إلا بسابق العناية ، بخلاف الشيطاني : فإنه يزول بذكر الله ، ويرجع مع الغفلة عن الله. والله تعالى أعلم. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 242}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { لِّلَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . . }.
احتجوا بها على أنّ أعمال العباد مخلوقة لله لأنّها ( مما ) في السماوات وما في الأرض.
واحتجّوا بها على أن السّماء بسيطة إذ لو كانت كروية لكانت الأرض ( مما ) فيها ولم يكن لقوله : { وَمَا فِي الأرض } فَائِدَة ؟
وأجيب : بأن ذكرها بالمطابقة أولى من ذكرها بالتضمّن والالتزام ، لأنها مشاهدة مرئية ، ومذهب ( المتقدمين أنها بسيطة ومذهب ) المتأخرين أنها كروية.
قال الغزالي في النّهاية ولا ينبني على ذلك كفر ولا إيمان.
قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله . . . }.
من إقامة المسبب مقام سببه لأن المحاسبة ( عليه ) متسبّبة عن العلم به أي يعلمه الله فيحاسبكم عليه ، وما في النّفس إن كان وسوسة وترددا من غير جزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به ( وإن كان على سبيل الجزم والمواطأة عليه فإما أن يكون له أثر في الخارج أو لا.(10/285)
فإن كان قاصرا على نفس الإنسان ولا أثر له في الخارج كالإيمان والكفر خلاف في المؤاخذة ، وإن كان له أثر في الخارج فإن تمّ بإثره فلا خلاف في المؤاخذة ) ، كمن يعزم على السرقة ويسرق أو على القتل ويقتل ، وإن عزم عليه في نفسه ورجع عن فعله في الخارج فإن كان اختيارا لغير مانع فلا خلاف في عدم المؤاخذة به ، بل ذكروا أنه يؤجر على ذلك كما في بعض طرق الحديث ( إن ) تركها ( مأجور ) ، وإن رجع عنه لمانع منه ففي المؤاخذة به قولان.
هذا محصول ما ذكره القاضي أبو الفضل عياض في الإكمال : " إذا هم العبد بسيئة فلم يعملها " الحديث ذكره مسلم في كتاب الإيمان.
قال ابن عرفة : والكفر خارج من هذا لقول الله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } وحكى ابن عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة أنها لما نزلت قال الصحابة : " هلكنا إن حوسبنا بخواطرنا ".
فأنزل الله { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } فمنهم من جعلها ناسخة.
وضعفه ابن عطية لأنه خبر فلا ينسخ.
قال لكن ورد أنهم لما قالوا : هلكنا ، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا : " سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " فقالُوا فنزلت { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً } فصح النسخ وتشبه الآية حيئنذ قول الله تعالى في الأنفال : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } ثم نسخت بصبر المائة للمائتين.
قال ابن عرفة : آية الأنفال ليس فيها إلا النسخ لأنّه رفع كلّ الحكم ( وآيَتُنَا ) هذه تحتمل النسخ والتخصيص كما قال بعضهم.(10/286)
قال ابن عرفة : ونظير الآية ما خرج مسلم في كتاب الإيمان عن علقمة عن عبد الله قال : لما نزلت { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن } شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وقالوا أيّنا لم يظلم نفسه ) فقال لهم عليه الصلاة والسلام : " ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه : { يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ".
قال ابن عرفة : وذكر الفقهاء الخلاف إذا شهد شاهدان لرجل بشيء مظروف في شيء وماتا أو غابا هل يكون له الظرف ( أم لا ) ؟ قالوا : إن كان الظرف من ضرورياته لا يمكن أن يجعل إلا فيه كالزيت والخل فهو له بما / فيه باتفاق.
وإن لم يكن من ضرورياته كجبّة في صندوق أو في ( صرّ ) ففي كون الظرف له خلاف.
وذكره ابن الحاجب في كتاب الإقرار قال فيه ما نصه : وثوب في صندوق أو منديل ففي لزوم ظرفه قولان بخلاف زيت في جرة ، وجبة وبطانتها ، وخاتم وفصه ، أي يقبل قوله.
قال ابن عرفة : والآية حجة لمن يقول شهادتهما بالمظروف يستلزم الظرف لأن كون { لِّلَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } يستلزم أن السماوات نفسها له.
قَال ابن عرفة : الآية حجة أيضا لمن يقول : إن الطلاق بالنية ( لا ) يلزم عندنا وفيه خلاف والمشهور أنه غير لازم.
قوله تعالى : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ . . . }.
قال الزمخشري : وقرىء فَيَغْفِرْ ( بالجزم ) في جواب الشرط.
ورده أبو حيان بأن النحويين نصّوا على أن الفاء إنما تنصب في الأجوبة الثمانية ولم يعدوا منها الشرطية.
فجعله معطوفا على مصدر مقدر فيكون من عطف الفعل على الاسم الملفوظ به.
ونص الشلوبين على أنّ قول ( النحويين ) الأجوبة الثمانية ليس على ظاهره بل مرادهم كل ما ليس واجبا أعني ما ليس بخبر فيدخل فيه الشرط.(10/287)
وتحامل الزمخشري هنا ( وأساء الأدب ) على السوسى من طريق أبي عمرو وخّطأه كما خطّأ ( الصيمري ) في تبصرته ( والزّجاج ) وكذا خطأ ابن عامر في قراءته { وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } ولكن تخطئته هنا لأبي عمرو من طريق السوسي أشنع.
قال ابن عطية : هنا عن النقاش : فيغفر لمن يشاء ( أي ) لمن ( ينزع ) عنه ، ويعذب من يشاء أي من أقام عليه.
قال ابن عرفة : وهذا نحو ما قال الزمخشري ، وفيه إيهام الاعتزال.
قلت : لأنه يوهم أنّ المعاصي لا تغفر إلا بالتوبة ومذهب أهل السنّة أنه يجوز أن يغفر له وإن لم يتب ( منها ) إلاّ الكفر.
قوله تعالى : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
قال ابن عرفة : لفظ ( شيء ) يطلق على المعدوم والموجود فأفاد أنّه على كل شيء مما في السموات والأرض ومما هو خارج ( عنهما ) قدير.
قال ( والفضاء الذي بين السماء والأرض تقول إنّه عامر وإنه خارج عنها وهي مسألة الخَلاء والملاء ) ونقول : تناولت الآية الأمر الحالي والماضي ونفي المستقبل غير داخل فيها فلذلك قال : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ليدخل المستقبل. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 367 ـ 368}(10/288)
قوله تعالى {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
وأما مناسبتها لأول السورة رداً للمقطع على المطلع فهو أنه لما ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذي لا ريب فيه على الوجه الذي تقدم ختمها بذلك بعد تفصيل الإنفاق الذي وصفهم به أولها على وجه يتصل بما قبله من الأوامر والنواهي والاتصاف بأوصاف الكمال أشد اتصال ،
وجعل رأسهم الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام تعظيماً للمدح وترغيباً في ذلك الوصف فأخبر بإيمانهم بما أنزل إليه بخصوصه وبجميع الكتب وجميع الرسل وبقولهم الدال على كمال الرغبة وغاية الضراعة والخضوع فقال استئنافاً لجواب من كأنه قال : ما فعل من أنزلت عليه هذه الأوامر والنواهي وغيرها ؟ {آمن الرسول} أي بما ظهر له من المعجزة القائمة على أن الآتي إليه بهذا الوحي ملك من عند الله سبحانه وتعالى كما آمن الملك به بما ظهر له من المعجزة الدالة على أن الذي أتى به كلام الله أمره الله سبحانه وتعالى بإنزاله فعرفه إشارة إلى أنه أكمل الرسل في هذا الوصف باعتبار إرساله إلى جميع الخلائق الذين هم لله سبحانه وتعالى ،
وأنه الجامع لما تفرق فيهم من الكمال ،
وأنه المخصوص بما لم يعطه أحد منهم من المزايا والأفضال {بما أنزل إليه} أي من أن الله سبحانه وتعالى يحاسب بما ذكر وغير ذلك مما أمر بتبليغه ومما اختص هو به ورغب في الإيمان بما آمن به بقوله : {من ربه} أي المحسن إليه بجليل التربية المزكي له بجميل التزكية فهو لا ينزل إليه إلا ما هو غاية في الخير ومنه ما حصل له في دنياه من المشقة.(10/289)
قال الحرالي : فقبل الرسول هذا الحساب الأول العاجل الميسر ليستوفي أمره منه وحظه في دنياه ،
قال صلى الله عليه وسلم لما قالت له فاطمة رضي الله تعالى عنها عند موته : واكرباه! : " لا كرب على أبيك بعد اليوم " وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله تعالى عنه " ما أوذي أحد في الله ما أوذيت " فنال حظه من حكمة ربه في دنياه حتى كان يوعك كما يوعك عشرة رجال ،
وما شبع من خبز بر ثلاثاً تباعاً عاجلاً حتى لقي الله ؛ وكذلك المؤمن لا راحة له دون لقاء ربه ولا سجن عليه بعد خروجه من دنياه ،
" الحمى حظ كل مؤمن من النار " انتهى.
ولما أخبر عن الرأس أخبر عمن يليه فقال : {والمؤمنون} معبراً بالوصف الدال على الرسوخ أي آمنوا بما ظهر لهم من المعجزة التي أثبتت أنه كلام الله سبحانه وتعالى بما دلت على أن الآتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما أجمل فصل فقال مبتدئاً : {كل} أي منهم.
قال الحرالي : فجمعهم في كلية كأن قلوبهم قلب واحد لم يختلفوا ،
لأن القبول واحد والرد يقع مختلفاً - انتهى.
ثم أخبر عن ذلك المبتدأ بقوله : {آمن بالله} أي لما يستحقه من ذلك لذاته لما له من الإحاطة بالكمال {وملائكته} الذين منهم النازلون بالكتب ،
لأن الإيمان بالمنزل يستلزم ذلك {وكتبه} أي كلها {ورسله} كلهم ،
من البشر كانوا أو من الملائكة ،
فإن فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم الإخبار بذلك.
قال الحرالي : انقياداً لامتثال من البشر.
ولما كان في الناس من يؤمن ببعض الأنبياء ويكفر ببعض قال مؤكداً لما أفهمته صيغة الجمع المضاف من الاستغراق أي قالوا : {لا نفرق} كما فعل أهل الكتاب وعبر بما يشمل الاثنين فما فوقهما فقال : {بين أحد} أي واحد وغيره {من رسله} أي لا نجعل أحداً منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه في ذلك بل نؤمن بكل واحد منهم ، (10/290)
والذي دل على تقدير " قالوا " دون غيره أنه لما أكمل قولهم في القوة النظرية الكفيلة باعتقاد المبدأ أتبعه قولهم في القوة العملية الكائنة في الوسط عطفاً عليها : {وقالوا سمعنا} أي بآذان عقولنا كل ما يمكن أن يسمع عنك وعلمناه وأذعنا له {وأطعنا} أي لكل ما فيه من أمرك.
قال الحرالي : فشاركوا أهل الكتاب في طليعة الإباء وخالفوهم في معاجلة التوبة والإقرار بالسمع والطاعة فكان لهؤلاء ما للتائب وعلى أولئك ما على المصر - انتهى.
ولما كان الإنسان محل الزلل والنقصان أشاروا إلى ذلك تواضعاً منهم كما هو الأولى بهم لمقام الألوهية فقالوا مع طاعتهم معترفين بالمعاد : {غفرانك} أي اغفر لنا أو نسألك غفرانك الذي يليق إضافته إليك لما له من الكمال والشرف والجلال ما قصرنا فيه ولا تؤاخذنا به فإنك إن فعلت ذلك هلكنا ، والحاصل أنهم طلبوا أن يعاملهم بما هو أهله لا بما هم أهله فجرى بما جراهم عليه في قوله : {فيغفر لمن يشاء }.
قال الحرالي : فهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم كشف عيان ، ومن المؤمنين نشء إيمان ،
ومن القائلين للسمع والطاعة قول إذعان ،
فهو شامل للجميع كل على رتبته - انتهى.
وزادوا تملقاً بقولهم : {ربنا} ذاكرين وصف الإحسان في مقام طلب الغفران.
قال الحرالي : وهو خطاب قرب من حيث لم يظهر فيه أداة نداء ، ولم يجر الله سبحانه وتعالى على ألسنة المؤمنين في كتابه العزيز نداء بُعد قط ؛ والغفران فعلان صيغة مبالغة تعطي الملء ليكون غفراً للظاهر والباطن وهو مصدر محيط المعنى نازل منزلة الاستغفار الجامع لما أحاط به الظاهر والباطن مما أودعته الأنفس التي هي مظهر حكمة الله سبحانه وتعالى التي وقع فيها مجموع الغفران والعذاب {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ففي ضمنه بشرى بتعيين القائلين المذعنين ومن تبعهم بالقول لحال المغفرة ،
لأن هذه الخواتيم مقبولة من العبد بمنزلة الفاتحة لاجتماعهما في كونهما من الكنز الذي تحت العرش ، (10/291)
وعلى ما ورد من قوله : " حمدني عبدي - إلى أن قال : ولعبدي ما سأل " وعلى ما ورد في دعاء هذا الختم في قوله : " قد فعلت قد فعلت " وبما ابتدأ تعالى به آية هذا الحساب وختمها به من سلب الأمر أولاً وسلب القدرة عما سواه آخراً ، وكان في الابتداء والختم إقامة عذر القائلين ،
فوجب لهم تحقق الغفران كما كان لأبيهم آدم حيث تلقى الكلمات من ربه - انتهى.
ولما كان التقدير بما أرشد إليه {ربنا} : فإنه منك مبدأنا ،
عطف عليه قوله حثاً على الاجتهاد في كل ما أمر به ونهى عنه على وجه الإخلاص : {وإليك} أي لا إلى غيرك {المصير} أي مطلقاً لنا ولغيرنا.
وقال ابن الزبير : ولما بين سبحانه وتعالى أن الكتاب هو الصراط المستقيم ذكر افتراق الأمم كما يشاء وأحوال الزائغين والمتنكبين تحذيراً من حالهم ونهياً عن مرتكبهم وحصل قبيل النزول بجملته وانحصار التاركين وأعقب بذكر ملتزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود وأعقب ذلك بأن المرء يجب أن ينطوي على ذلك ويسلم الأمر لمالكه فقال سبحانه وتعالى : {آمن الرسول بما أنزل} فأعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه وأنهم قالوا : {سمعنا وأطعنا} لا كقول بني إسرائيل.
{سمعنا وعصينا} [ البقرة : 93 ] وأنه أثابهم على إيمانهم رفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطأ والنسيان فقال : {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ،
فحصل من هذه السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال أخذاً وتركاً وبيان شرف من أخذ به وسوء حال من تنكب عنه.
وكان العباد لما علموا {اهدنا الصراط المستقيم} [ الفاتحة : 6 ] - إلى آخر السورة قيل لهم : عليكم بالكتاب - إجابة لسؤالهم ؛ ثم بين لهم حال من سلك ما طلبوا فكان قيل لهم : أهل الصراط المستقيم وسالكوه هم الذين بيّن شأنهم وأمرهم ،
والمغضوب عليهم من المتنكبين هم اليهود الذين بين أمرهم وشأنهم ،(10/292)
والضالون هم النصارى الذين بيّن أمرهم وشأنهم ؛ فيجب على من رغب في سلوك الصراط المستقيم أن يحذر ما أصاب هؤلاء مما نبه عليه وأن يأخذ نفسه بكذا وكذا وأن ينسحب إيمانه على كل ذلك ،
وأن يسلم الأمر لله الذي تطلب منه الهداية ،
ويتضرع إليه بأن لا يؤاخذه بما يثمره الخطأ والنسيان ،
وأن لا يحمله ما ليس في وسعه ، وأن يعفو عنه - إلى آخر السورة ؛ انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 553 ـ 556}
وقال ابن عاشور :
قال الزجاج : "لما ذكر الله في هذه السورة أحكاماً كثيرةً ، وقصصاً ، ختمها بقوله : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } تعظيماً لنبيّه صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، وتأكيداً وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل".
يعني : أنّ هذا انتقال من المواعظ ، والإرشاد ، والتشريع ، وما تخلّل ذلك : ممّا هو عون على تلك المقاصد ، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيماناً خالصاً يتفرّع عليه العمل ؛ لأنّ الإيمان بالرسول والكتاب ، يقتضي الامتثالَ لما جاء به من عمل.
فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم ، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنّه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر : هو كالحاصل والفذلكة ، فقد أشعر بأنّه استوفى تلك الأغراض. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 131 ـ 132}
فصل
قال الفخر :
في كيفية النظم وجوه الأول : وهو أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة كمال الملك ، وكمال العلم ، وكمال القدرة لله تعالى ، وذلك يوجب كمال صفات الربوبية أتبع ذلك بأن بين كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطاعة والخضوع لله تعالى ، وذلك هو كمال العبودية وإذا ظهر لنا كمال الربوبية ، وقد ظهر منا كمال العبودية ، فالمرجو من عميم فضله وإحسانه أن يظهر يوم القيامة في حقنا كمال العناية والرحمة والإحسان اللّهم حقق هذا الأمل.(10/293)
الوجه الثاني في النظم : أنه تعالى لما قال : {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [ البقرة : 284 ] بين أنه لا يخفى عليه من سرنا وجهرنا وباطننا وظاهرنا شيء ألبتة ، ثم إنه تعالى ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا والثناء علينا ، فقال : {آمن الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون} كأنه بفضله يقول عبدي أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك ، فلا أظهر من أحوالك ، ولا أذكر منها إلا ما يكون مدحاً لك وثناء عليك ، حتى تعلم أني كما أنا الكامل في الملك والعلم والقدرة ، فأنا الكامل في الجود والرحمة ، وفي إظهار الحسنات ، وفي الستر على السيئات.
الوجه الثالث : أنه بدأ في السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، وبيّن في آخر السورة أن الذين مدحهم في أول السورة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : {والمؤمنون كُلٌّ ءَامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} وهذا هو المراد بقوله في أول السورة {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [ البقرة : 3 ].
ثم قال ههنا {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وهو المراد بقوله في أول السورة {وَيُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ }.
ثم قال ههنا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} وهو المراد بقوله في أول السورة {وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [ البقرة : 4 ] ثم حكى عنهم ههنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [ البقرة : 286 ] إلى آخر السورة وهو المراد بقوله في أول السورة {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} [ البقرة : 5 ] فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.(10/294)
والوجه الرابع : وهو أن الرسول إذا جاءه الملك من عند الله ، وقال له : إن الله بعثك رسولاً إلى الخلق ، فههنا الرسول لا يمكنه أن يعرف صدق ذلك الملك إلا بمعجزة يظهرها الله تعالى على صدق ذلك الملك في دعواه ولولا ذلك المعجز لجوز الرسول أن يكون ذلك المخبر شيطاناً ضالاً مضلاً ، وذلك الملك أيضاً إذا سمع كلام الله تعالى افتقر إلى معجز يدل على أن المسموع هو كلام الله تعالى لا غير ، وهذه المراتب معتبرة أولها : قيام المعجز على أن المسموع كلام الله لا غيره ، فيعرف الملك بواسطة ذلك المعجز أنه سمع كلام الله تعالى وثانيها : قيام المعجزة عند النبي صلى الله عليه وسلم على أن ذلك الملك صادق في دعواه ، وأنه ملك بعثه الله تعالى وليس بشيطان وثالثها : أن تقوم المعجزة على يد الرسول عند الأمة حتى تستدل الأمة بها على أن الرسول صادق في دعواه فإذن لما لم يعرف الرسول كونه رسولاً من عند الله لا تتمكن الأمة من أن يعرفوا ذلك ، فلما ذكر الله تعالى في هذه السورة أنواع الشرائع وأقسام الأحكام ، قال : {آمن الرسول} فبيّن أن الرسول عرف أن ذلك وحي من الله تعالى وصف إليه ، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله تعالى معصوم من التحريف ، وليس بشيطان مضل ، ثم ذكر إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهو المرتبة المتقدمة ، وذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك وهو المرتبة المتأخرة ، فقال : {والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله} ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه ، فهو أيضاً معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ولعلّ الذين قالوا : إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور ، وليس الأمر في هذا الباب كما قيل :
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته.. والذنب للطرف لا للنجم في الصغر(10/295)
ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا ، ويعلمنا ما ينفعنا به بفضله ورحمته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 111 ـ 112}
فصل
قال القرطبى :
قوله تعالى : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ }.
( روي عن الحسن ومجاهد والضحاك : أن هذه الآية كانت في قصة المعراج ، وهكذا روي في بعض الروايات عن ابن عباس ، وقال بعضهم : جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الآية فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم : هو الذي سمع ليلة المعراج ، وقال بعضهم : لم يكن ذلك في قصة المعراج ؛ لأن ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية ، فأما من قال : إنها كانت ليلة المعراج قال : لما صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم وبلغ في السموات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل : إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر بالمجاوزة أحد هذا الموضع غيرك فجاوز النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله ، فأشار إليه جبريل بأن سلم على ربك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : التّحيّاتُ لله والصلواتُ والطيِّبات.
قال الله تعالى : السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته ، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكون لأُمته حَظٌّ في السلام فقال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فقال جبريل وأهل السموات كلهم : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.(10/296)
قال الله تعالى : { آمَنَ الرسول } على معنى الشكر أي صدق الرسول { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشارك أُمته في الكرامة والفضيلة فقال : { والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } يعني يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منهم ولا نفرّق بينهم كما فرّقت اليهود والنصارى ، فقال له ربه كيف قبولهم بآي الذي أنزلتها ؟ وهو قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } يعني المرجع.
فقال الله تعالى عند ذلك { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } يعني طاقتها ويقال : إلاَّ دُون طاقتها.
{ لَهَا مَا كَسَبَتْ } من الخير { وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } من الشر ، فقال جبريل عند ذلك : سل تُعْطَه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ } يعني إن جهلنا { أَوْ أَخْطَأْنَا } يعني إن تعمدنا ، ويقال : إن عملنا بالنسيان والخَطَأ.
فقال له جبريل : قد أعطيت ذلك قد رفع عن أُمتك الخطأ والنسيان.
فسل شيئاً آخر فقال : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً } يعني ثقلاً { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } وهو أنه حرّم عليهم الطيِّبات بظلمهم ، وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا ذلك مكتوباً على بابهم ، وكانت الصلوات عليهم خمسين ، فخفّف الله عن هذه الأُمة وحَطّ عنهم بعد ما فرض خمسين صلاة.(10/297)
ثم قال : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } يقول : لا تثقلنا من العمل ما لا نطيق فتعذبنا ، ويقال : ما تشق علينا ؛ لأنهم لو أمروا بخمسين صلاة لكانوا يطيقون ذلك ولكنه يشق عليهم ولا يطيقون الإدامة عليه { واعف عَنَّا } من ذلك كله { واغفر لَنَا } وتجاوز عنا ، ويقال : { واعف عَنَّا } من المسخ { واغفر لَنَا } من الخسف { وارحمنآ } من القذف ؛ لأن الأُمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ وبعضهم أصابهم الخسف وبعضهم القذف ثم قال : { أَنتَ مَوْلاَنَا } يعني ولينا وحافظنا { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } فاستجيبت دعوته.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " ويقال إن الغُزَاة : إذا خرجوا من ديارهم بالنية الخالصة وضربوا بالطبل وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر في شهر ، علموا بخروجهم أو لم يعلموا ، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رجع أوحى الله هذه الآيات ؛ ليعلم أُمّته بذلك.
ولهذه الآية تفسير آخر ؛ قال الزجاج : لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة وبيّن أحكام الحج وحكم الحيض والطلاق والإيلاء وأقاصيص الأنبياء وبين حكم الربا ، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله سبحانه وتعالى : { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } أي صدّق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون كلهم صدّقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله.(10/298)
" وقيل سبب نزولها الآية التي قبلها وهي { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فإنه لما أنزل هذا على النبيّ صلى الله عليه وسلم اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بَرَكُوا على الرُّكَب فقالوا : أي رسول الله ، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطيق : الصلاة والصيام والجهاد ( والصدقة ) ، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نُطيقها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فقالوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فلما اقترأها القوم ذَلّت بها ألسنتُهم فأنزل الله في إثرها : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير }.
فلما فعلوا ذلك نسخها الله ، فأنزل الله عز وجل : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } قال : "نعم" { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } قال : "نعم" { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : "نعم" { واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } قال : "نعم" " أخرجه مسلم عن أبي هريرة.(10/299)
قال علماؤنا : قوله في الرواية الأُولى "قد فعلت" وهنا قال : "نعم" دليل على نقل الحديث بالمعنى ، وقد تقدّم.
ولما تقرّر الأمر على أن قالوا : سمعنا وأطعنا ، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية ، ورفع المشقَّةَ في أمر الخواطر عنهم ؛ وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى ؛ كما جرى لبني إسرائيل ضدُّ ذلك من ذمّهم وتحميلهم المشقّات من الذّلّة والمسكنة والانْجِلاء إذ قالوا : سمعنا وعصينا ؛ وهذه ثمرة العصيان والتمرّد على الله تعالى ، أعاذنا الله من نِقَمِه بمنّه وكرمه.
وفي الحديث " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قيل له : إن بيت ثابت بن قيس بن شماس يزهَر كل ليلة بمصابيح.
قال : "فلعله يقرأ سورة البقرة" فسُئِل ثابت قال : قرأت من سورة البقرة { آمَنَ الرسول } نزلت حين شقّ على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ما توعدهم الله تعالى به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم ، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : "فلعلكم تقولون سمعنا وعصينا كما قالت بنو إسرائيل" قالوا : بل سمعنا وأطعنا ؛ فأنزل الله تعالى ثناء عليهم { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } فقال صلى الله عليه وسلم : "وحق لهم أن يؤمنوا" ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 425 ـ 428}
فصل
قال الفخر :
قوله تعالى : {آمن الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ} فالمعنى أنه عرف بالدلائل القاهرة والمعجزات الباهرة أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام نزل من عند الله تعالى ، وليس ذلك من باب إلقاء الشياطين ، ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة ، وإنما عرف الرسول لأنه صلى الله عليه وسلم ذلك بما ظهر من المعجزات القاهرة على يد جبريل عليه السلام.(10/300)
فأما قوله {والمؤمنون} ففيه احتمالان أحدهما : أن يتم الكلام عند قوله {والمؤمنون} فيكون المعنى : آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ، ثم ابتدأ بعد ذلك بقوله {كُلٌّ ءامَنَ بالله} والمعنى : كل واحد من المذكورين فيما تقدم ، وهم الرسول والمؤمنون آمن بالله.
الاحتمال الثاني : أن يتم الكلام عند قوله {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ} ثم يبتدىء من قوله {والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله} ويكون المعنى أن الرسول آمن بكل ما أنزل إليه من ربه ، وأما المؤمنون فإنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، فالوجه الأول يشعر بأنه عليه الصلاة والسلام ما كان مؤمناً بربه ، ثم صار مؤمناً به ، ويحتمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال ، وعلى الوجه الثاني يشعر اللفظ بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي أنزلت عليه ، كما قال :
{مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [ الشورى : 52 ] وأما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال ، فقد كان حاصلاً منذ خلقه الله من أول الأمر ، وكيف يستبعد ذلك مع أن عيسى عليه السلام حين انفصل عن أمه قال : إني عبد الله آتاني الكتاب ، فإذا لم يبعد أن عيسى عليه السلام رسولاً من عند الله حين كان طفلاً ، فكيف يستبعد أن يقال : إن محمداً صلى الله عليه وسلم كان عارفاً بربه من أول ما خلق كامل العقل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 112 }
لطيفة
قال الآلوسى :
وذكره صلى الله عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه ههنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكى عنهم من الدعوات الآتية إيذاناً بأنه أمر محقق غني عن التصريح لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده.(10/301)
أخرج الحاكم والبيهقي عن أنس قال : "لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم { الرسول بِمَا } قال عليه الصلاة والسلام : "وحق له أن يؤمن" وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة وهي شاهد لحديث أنس "فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن
{ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ } من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيماناً تفصيلياً ، وأجمله إجلالاً لمحله صلى الله عليه وسلم وإشعاراً بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه ، وفي تقديم الانتهاء على الإبتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 66 ـ 67}
فائدة
قال الفخر :
دلّت الآية على أن الرسول آمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وإنما خص الرسول بذلك ، لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون كلاماً متلواً يسمه الغير ويعرفه ويمكنه أن يؤمن به ، وقد يكون وحياً لا يعلمه سواه ، فيكون هو صلى الله عليه وسلم مختصاً بالإيمان به ، ولا يتمكن غيره من الإيمان به ، فلهذا السبب كان الرسول مختصاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 113}
قوله تعالى : {والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}
قال العلامة الآلوسى : (10/302)
{ والمؤمنون } يجوز أن يكون معطوفاً على الرسول مرفوعاً بالفاعلية فيوقف عليه ، ويدل عليه ما أخرجه أبو داود في "المصاحف" عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ وآمن المؤمنون وعليه يكون قوله تعالى : { كُلٌّ ءامَنَ } جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر ؛ وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ ، و{ كُلٌّ } مبتدأ ثان ، و{ مِن } خبره ، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون { كُلٌّ } تأكيداً لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيداً للمعرفة إلا إذا أضيف لفظاً إلى ضميرها ورجح الوجه الأول بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينئذ يكون أصلاً في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك ، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لكون جملتهم إسمية ومؤكدة ، وعورض بأن في الثاني إيذاناً بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيداً للإشعار بما بين إيمانه صلى الله عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشيء عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب ؛ ويلزم على الأول : أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير ، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطاً لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتاً وتعلقاً بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله عليه وسلم واللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافاً بيناً ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الإتيان بالجملة(10/303)
الاسمية مع تكرار الإسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك ، وتوحيد الضمير في { مِن } مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } [ النمل : 87 ] وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله آمن { بالله } أي صدق به وبصفاته ونفى التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك { وَمَلَئِكَتُهُ } من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى : { وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلاً من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالاً وإنما لم يذكر ههنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى : { ولكن البر مَنْ ءامَنَ } [ البقرة : 771 ] الخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيراً ما يختصر فيها. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 67 ـ 68}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذه الآية دلّت على أن معرفة هذه المراتب الأربعة من ضرورات الإيمان.
فالمرتبة الأولى : هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى ، وذلك لأنه ما لم يثبت أن للعالم صانعاً قادراً على جميع المقدورات ، عالماً بجميع المعلومات ، غنياً عن كل الحاجات ، لا يمكن معرفة صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فكانت معرفة الله تعالى هي الأصل ، فلذلك قدم الله تعالى هذه المرتبة في الذكر.(10/304)
والمرتبة الثانية : أنه سبحانه وتعالى إنما يوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بواسطة الملائكة ، فقال : {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [ النحل : 2 ] وقال : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [ الشورى : 51 ] وقال : {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} [ البقرة : 97 ] وقال : {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [ الشعراء : 193 ، 194 ] وقال : {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [ النجم : 5 ] فإذا ثبت أن وحي الله تعالى إنما يصل إلى البشر بواسطة الملائكة فالملائكة يكونون كالواسطة بين الله تعالى وبين البشر ، فلهذا السبب جعل ذكر الملائكة في المرتبة الثانية ، ولهذا السر قال أيضاً : {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط} [ آل عمران : 18 ].
والمرتبة الثالثة : الكتب ، وهو الوحي الذي يتلقفه الملك من الله تعالى ويوصله إلى البشر وذلك في ضرب المثال يجري مجرى استنارة سطح القمر من نور الشمس فذات الملك كالقمر وذات الوحي كاستنارة القمر فكما أن ذات القمر مقدمة في الرتبة على استنارته فكذلك ذات الملك متقدم على حصول ذلك الوحي المعبر عنه بهذه الكتب ، فلهذا السبب كانت الكتب متأخرة في الرتبة عن الملائكة ، فلا جرم أخر الله تعالى ذكر الكتب عن ذكر الملائكة.
والمرتبة الرابعة : الرسل ، وهم الذين يقتبسون أنوار الوحي من الملائكة ، فيكونون متأخرين في الدرجة عن الكتب فلهذا السبب جعل الله تعالى ذكر الرسل في المرتبة الرابعة ، واعلم أن ترتيب هذه المراتب الأربعة على هذا الوجه أسرار غامضة ، وحكماً عظيمة لا يحسن إيداعها في الكتب والقدر الذي ذكرناه كاف في التشريف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 113}
فائدة
قال ابن عاشور : (10/305)
والمؤمنون هنا لَقَب للذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك كان في جعله فاعلاً لقوله : { آمن } فائدةٌ ، مع أنّه لا فائدةَ في قولك : قامَ القائمون. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 132}
فصل نفيس
قال الفخر :
المراد بالإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده ، وبصفاته ، وبأفعاله ، وبأحكامه ، وبأسمائه.
أما الإيمان بوجوده ، فهو أن يعلم أن وراء المتحيزات موجوداً خالقاً لها ، وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقراً بوجود الإله تعالى لأنه لا يثبت ما وراء المتحيزات شيئاً آخر فيكون اختلافه معنا في إثبات ذات الله تعالى أما الفلاسفة والمعتزلة فإنهم مقرون بإثبات موجود سوى المتحيزات موجد لها ، فيكون الخلاف معهم لا في الذات بل في الصفات.
وأما الإيمان بصفاته ، فالصفات إما سلبية ، وإما ثبوتية.
فأما السلبية : فهي أن يعلم أنه فرد منزّه عن جميع جهات التركيب ، فإن كل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه غيره ، فهو مركب ، فهو مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ، فإذن كل مركب فهو ممكن لذاته ، وكل ما ليس ممكناً لذاته ، بل كان واجباً لذاته امتنع أن يكون مركباً بوجه من الوجوه ، بل كان فرداً مطلقاً ، وإذا كان فرداً في ذاته لزم أن لا يكون متحيزاً ، ولا جسماً ، ولا جوهراً ، ولا في مكان ، ولا حالاً ، ولا في محل ، ولا متغيراً ، ولا محتاجاً بوجه من الوجوه ألبتة.(10/306)
وأما الصفات الثبوتية : فبأن يعلم أن الموجب لذاته نسبته إلى بعض الممكنات كنسبته إلى البواقي ، فلما رأينا أن هذه المخلوقات وقعت على وجه يمكن وقوعها على خلاف تلك الأحوال ، علمنا أن المؤثر فيها قادر مختار لا موجب بالذات ، ثم يستدل بما في أفعاله من الإحكام والإتقان على كمال علمه ، فحينئذ يعرفه قادراً عالماً حياً سميعاً بصيراً موصوفاً منعوتاً بالجلال وصفات الكمال ، وقد استقصينا ذلك في تفسير قوله {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم} [ البقرة : 255 ].
وأما الإيمان بأفعاله ، فبأن تعلم أن كل ما سواه فهو ممكن محدث ، وتعلم ببديهة عقلك أن الممكن المحدث لا يوجد بذاته ، بل لا بد له من موجد يوجده وهو القديم ، وهذا الدليل يحملك على أن تجزم بأن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وإيجاده وتكوينه إلا أنه وقع في البين عقدة وهي الحوادث التي هي الأفعال الاختيارية للحيوانات ، فالحكم الأول وهو أنها ممكنة محدثة فلا بد من إسنادها إلى واجب الوجود مطرد فيها.
فإن قلت : إني أجد من نفسي أني إن شئت أن أتحرك تحركت ، وإن شئت أن لا أتحرك لم أتحرك فكانت حركاتي وسكناتي بي لا بغيري.
فنقول : قد علقت حركتك بمشيئتك لحركتك ، وسكونك بمشيئتك لسكونك ، فقبل حصول مشيئة الحركة لا تتحرك وقبل حصول مشيئة السكون لا تسكن ، وعند حصول مشيئة الحركة لا بد وأن تتحرك.
إذا ثبت هذا فنقول : هذه المشيئة كيف حدثت فإن حدوثها إما أن يكون لا بمحدث أصلاً أو يكون بمحدث ، ثم ذلك المحدث إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى ، فإن حدثت لا بمحدث فقد لزم نفي الصانع ، وإن كان محدثها هو العبد افتقر في إحداثها إلى مشيئة أخرى ولزم التسلسل ، فثبت أن محدثها هو الله سبحانه وتعالى.(10/307)
إذا ثبت هذا فنقول : لا اختيار للإنسان في حدوث تلك المشيئة ، وبعد حدوثها فلا اختيار له في ترتب الفعل عليها إلا بالمشيئة به ، ولا حصول الفعل بعد المشيئة ، فالإنسان مضطر في صورة مختار ، فهذا كلام قاهر قوي ، وفي معارضته إشكالان أحدهما : كيف يليق بكمال حكمة الله تعالى إيجاد هذه القبائح والفواحش من الكفر والفسق والثاني : أنه لو كان الكل بتخليقه فكيف توجه الأمر والنهي ، والمدح والذم ، والثواب والعقاب على العبد ، فهذا هو الحرف المعول عليه من جانب الخصم ، إلا أنه وارد عليه أيضاً في العلم على ما قررناه في مواضع عدة.
وأما المرتبة الرابعة في الإيمان بالله : فهي معرفة أحكامه ، ويجب أن يعلم في أحكامه أموراً أربعة أحدها : أنها غير معللة بعلة أصلاً ، لأن كل ما كان معللاً بعلة كان صاحبه ناقصاً بذاته ، كاملاً بغيره ، وذلك على الحق سبحانه محال وثانيها : أن يعلم أن المقصود من شرعها منفعة عائدة إلى العبد لا إلى الحق ، فإنه منزّه عن جلب المنافع ، ودفع المضار وثالثها : أن يعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد ورابعها : أنه يعلم أنه لا يجب لأحد على الحق بسبب أعماله وأفعاله شيء ، وأنه سبحانه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله ، وأنه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء ، لأن الكل ملكه وملكه ، والمملوك المجازى لا حق له على المالك المجازي ، فكيف المملوك الحقيقي مع المالك الحقيقي.(10/308)
وأما الرتبة الخامسة في الإيمان بالله : فمعرفة أسمائه قال في الأعراف {وَللَّهِ الأسماء الحسنى} [ الأعراف : 180 ] وقال في بني إسرائيل {أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى} [ الإسراء : 110 ] وقال في طه {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسماء الحسنى} [ طه : 8 ] وقال في آخر الحشر {لَهُ الاسماء الحسنى يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السموات والأرض} [ الحشر : 24 ] والأسماء الحسنى هي الأسماء الواردة في كتب الله المنزّلة على ألسنة أنبيائه المعصومين ، وهذه الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله.
وأما الإيمان بالملائكة ، فهو من أربعة أوجه أولها : الإيمان بوجودها ، والبحث عن أنها روحانية محضة ، أو جسمانية ، أو مركبة من القسمين ، وبتقدير كونها جسمانية فهي أجسام لطيفة أو كثيفة ، فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانية ، أو هوائية ، وإن كانت كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوة إلى الغاية القصوى ، فذاك مقام العلماء الراسخين في علوم الحكمة القرآنية والبرهانية.
والمرتبة الثانية في الإيمان بالملائكة : العلم بأنهم معصومون مطهرون {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [ النحل : 50 ] {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} [ الأنبياء : 19 ] فإن لذتهم بذكر الله ، وأنسهم بعبادة الله ، وكما أن حياة كل واحد منا بنفسه الذي هو عبارة عن استنشاق الهواء ، فكذلك حياتهم بذكر الله تعالى ومعرفته وطاعته.(10/309)
والمرتبة الثالثة : أنهم وسائط بين الله وبين البشر ، فكل قسم منهم متوكل على قسم من أقسام هذا العالم ، كما قال سبحانه : {والصافات صَفَّا فالزجرات زَجْراً} [ الصافات : 1 ، 2 ] وقال : {والذاريات ذَرْواً فالحاملات وِقْراً} [ الذاريات : 1 ، 2 ] وقال : {والمرسلات عُرْفاً * فالعاصفات عَصْفاً} [ المرسلات : 1 ، 2 ] وقال : {والنازعات غَرْقاً * والناشطات نَشْطاً} [ النازعات : 1 ، 2 ] ولقد ذكرنا في تفسير هذه الآيات أسراراً مخفية ، إذا طالعها الراسخون في العلم وقفوا عليها.
والمرتبة الرابعة : أن كتب الله المنزلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة ، قال الله تعالى : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ مطاع ثَمَّ أَمِينٍ} [ التكوير : 19 ، 20 ، 21 ] فهذه المراتب لا بد منها في حصول الإيمان بالملائكة ، فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشد كان إيمانه بالملائكة أتم.
وأما الإيمان بالكتب : فلا بد فيه من أمور أربعة أولها : أن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسوله ، وأنها ليست من باب الكهانة ، ولا من باب السحر ، ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة وثانيها : أن يعلم أن الوحي بهذه الكتب وإن كان من قبل الملائكة المطهرين ، فالله تعالى لم يمكن أحداً من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الطاهر ، وعند هذا يعلم أن من قال : إن الشيطان ألقى قوله : تلك الغرانيق العلا في أثناء الوحي ، فقد قال قولاً عظيماً ، وطرق الطعن والتهمة إلى القرآن.
والمرتبة الثالثة : أن هذا القرآن لم يغير ولم يحرف ، ودخل فيه فساد قول من قال : إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي الله عنه ، فإن من قال ذلك أخرج القرآن عن كونه حجة.
والمرتبة الرابعة : أن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، وأن محكمه يكشف عن متشابهه.(10/310)
وأما الإيمان بالرسل : فلا بد فيه من أمور أربعة :
المرتبة الأولى : أن يعلم كونهم معصومين من الذنوب ، وقد أحكمنا هذه المسألة في تفسير قوله {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [ البقرة : 36 ] وجميع الآيات التي يتمسك بها المخالفون قد ذكرنا وجه تأويلاتها في هذا التفسير بعون الله سبحانه وتعالى.
والمرتبة الثانية : من مراتب الإيمان بهم : أن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ، ومن الصوفية من ينازع في هذا الباب.
المرتبة الثالثة : قال بعضهم : أنهم أفضل من الملائكة ، وقال كثير من العلماء : إن الملائكة السماوية أفضل منهم ، وهم أفضل من الملائكة الأرضية ، وقد ذكرنا هذه المسألة في تفسير قوله {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} [ البقرة : 34 ] ولأرباب المكاشفات في هذه المسألة مباحثات غامضة.
المرتبة الرابعة : أن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض ، وقد بينا ذلك في تفسير قوله تعالى : {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [ البقرة : 253 ] ومنهم من أنكر ذلك وتمسك بقوله تعالى له في هذه الآية {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} [ البقرة : 285 ].(10/311)
وأجاب العلماء عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر ، وهو أن الطريق إلى إثبات نبوّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا كانوا حاضرين هو ظهور المعجزة على وفق دعاويهم ، فإذا كان هذا هو الطريق ، وجب في حق كل من ظهرت المعجزة على وفق دعواه أن يكون صادقاً ، وإن لم يصح هذا الطريق وجب أن لا يدل في حق أحد منهم على صحة رسالته ، فأما أن يدل على رسالة البعض دون البعض فقول فاسد متناقض ، والغرض منه تزييف طريقة اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوّة موسى وعيسى ، ويكذبون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذا هو المقصود من قوله تعالى : {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} لا ما ذكرتم من أنه لا يجوز أن يكون بعضهم أفضل من البعض فهذا هو الإشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 113 ـ 116}
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة {وكتابه} على الواحد ، والباقون {كتبه} على الجمع ، أما الأول ففيه وجهان
أحدهما : أن المراد هو القرآن ثم الإيمان به ويتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل والثاني : على معنى الجنس فيوافق معنى الجمع ، ونظيره قوله تعالى : {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق} [ البقرة : 213 ].
فإن قيل : اسم الجنس إنما يفيد العموم إذا كان مقروناً بالألف واللام ، وهذه مضافة.(10/312)
قلنا : قد جاء المضاف من الأسماء ونعني به الكثرة ، قال الله تعالى : {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [ إبراهيم : 34 ] وقال الله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ} [ البقرة : 187 ] وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام قال العلماء : والقراءة بالجمع أفضل لمشاكلة ما قبله وما بعده من لفظ الجمع ولأن أكثر القراءة عليه ، واعلم أن القراء أجمعوا في قوله {وَرُسُلِهِ} على ضم السين ، وعن أبي عمرو سكونها ، وعن نافع {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} مخففين ، وحجة الجمهور أن أصل الكلمة على فعل بضم العين ، وحجة أبي عمرو هي أن لا تتوالى أربع متحركات ، لأنهم كرهوا ذلك ، ولهذا لم تتوال هذه الحركات في شعر إلا أن يكون مزاحفاً ، وأجاب الأولون أن ذلك مكروه في الكلمة الواحدة أما في الكلمتين فلا بدليل أن الإدغام غير لازم في وجعل ذلك مع أنه قد توالى فيه خمس متحركات ، والكلمة إذا اتصل بها ضمير فهي كلمتان لا كلمة واحدة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 116 ـ 117}
وقال ابن عاشور :
وقرأ الجمهور { وكتبه } بصيغة جمع كتاب ، وقرأه حمزة ، والكسائي : وكِتَابِه ، بصيغة المفرد على أنّ المراد القرآن أو جنس الكتاب.(10/313)
فيكون مساوياً لقوله : { وكتبه } ، إذ المراد الجنس ، والحقُّ أنّ المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس ، ألا تراهم يقولون : إنّ الجمع في مدخول أل الجنسية صوري ، ولذلك يقال : إذا دَخلت ألْ الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية ، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين ، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام ، وعن ابن عباس أنّه قال ، لما سئل عن هذه القراءة : "كتابِه أكثر من كُتبِه أو الكتاب أكثر من الكتب" فقيل أراد أنّ تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس ، لاحتمال إرادة جنس الجموع ، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس ، ولهذا قال صاحب "المفتاح" "استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع".
والحقُّ أنّ هذا لا يقصده العرب في نفي الجنس ولا في استغراقه في الإثبات.
وأنّ كلام ابن عباس إن صح نقله عنه فتأويله أنّه أكْثَر لمساواته له معنى ، مع كونه أخصر لفظاً ، فلعلّه أراد بالأكثر معنى الأرجح والأقوى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 132 ـ 133}
قوله تعالى {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ}
قال الفخر :
قوله {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} فيه محذوف ، والتقدير : يقولون لا نفرق بين أحد من رسله كقوله {والملائكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ} [ الأنعام : 93 ] معناه يقولون : أخرجوا وقال : {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله} [ الزمر : 3 ] أي قالوا هذا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 117}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : { لا نفرق بين أحد من رسله } قرأه الجمهور بنون المتكلم المشارَك ، وهو يحتمل الالتفات : بأن يكون من مقول قول محذوفٍ دل عليه السياق وعطف { وقالوا } عليه.
أو النون فيه للجلالة أي آمَنُوا في حَال أنّنا أمرناهم بذلك ، لأنّنا لا نفرّق فالجملة معترضة.(10/314)
وقيل : هو مقول لقول محذوف دل عليه آمَن ؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وقول.
وقرأه يعقوب بالياء : على أنّ الضمير عائد على { كلُّ آمن بالله }.
والتفريق هنا أريد به التفريق في الإيمان به والتصديق : بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 133}
فائدة
قال الفخر :
أحد في معنى الجمع ، كقوله {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} [ الحاقة : 47 ] والتقدير : لا نفرق بين جميع رسله ، هذا هو الذي قالوه ، وعندي أنه لا يجوز أن يكون أحد ههنا في معنى الجمع ، لأنه يصير التقدير : لا نفرق بين جميع رسله ، وهذا لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل والمقصود بالنفي هو هذا ، لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل ، بل بين البعض وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فثبت أن التأويل الذي ذكروه باطل ، بل معنى الآية : لا نفرق بين أحد من الرسل ، وبين غيره في النبوّة ، فإذا فسرنا بهذا حصل المقصود من الكلام ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 117}
قوله تعالى : {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير }
فصل
قال الفخر :
الكلام في نظم هذه الآية من وجوه الأول : وهو أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، واستكمال القوة النظرية بالعلم ، واستكمال القوة العملية بفعل الخيرات ، والقوة النظرية أشرف من القوة العملية ، والقرآن مملوء من ذكرهما بشرط أن تكون القوة النظرية مقدمة على العملية قال عن إبراهيم {رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} [ الشعراء : 83 ] فالحكم كمال القوة النظرية {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} كمال القوة العملية ، وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب.(10/315)
إذا عرفت هذا فنقول : الأمر في هذه الآية أيضاً كذلك ، فقوله {كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة وقوله {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة ، ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون.(10/316)
والوجه الثاني : من النظم في هذه الآية أن للإنسان أياماً ثلاثة : الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ واليوم الحاضر ، والبحث عنه يسمى بعلم الوسط ، والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة هود {وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ } [ هود : 123 ] وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة ، لا جرم ذكرها في هذه الآية ، وقوله {وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض} إشارة إلى كمال العلم ، وقوله {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} إشارة إلى كمال القدرة ، فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ ، وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن يشتغل به ، فله أيضاً مرتبتان : البداية والنهاية أما البداية فالاشتغال بالعبودية ، وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب ، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب ، وذلك هو المسمى بالتوكل ، فذكر هذين المقامين ، فقال : {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [ هود : 123 ] وأما علم المعاد فهو قوله {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} [ الأنعام : 132 ] أي فيومك غداً سيصل فيه نتائج أعمالك إليك ، فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة ، ونظيرها أيضاً قوله سبحانه وتعالى : {سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [ الصافات : 180 ] وهو إشارة إلى علم المبدأ ، ثم قال : {وسلام على المرسلين} [ الصافات : 181 ] وهو إشارة إلى علم الوسط ، ثم قال : {والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [ الصافات : 182 ] وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة {وآخر دعواهم أن الحمدلله رب العالمين} [ يونس : 100 ].(10/317)
إذا عرفت هذا فنقول : تعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة ، فقوله {آمنَ الرسول} إلى قوله {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} إشارة إلى معرفة المبدأ ، وقوله {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إشارة إلى علم الوسط ، وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالماً مشتغلاً بها ، ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا ، وقوله {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} إشارة إلى علم المعاد ، والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم الأفلاك ، وأنوار بهجة السموات.
الوجه الثالث في النظم : أن المطالب قسمان أحدهما : البحث عن حقائق الموجودات والثاني : البحث عن أحكام الأفعال في الوجوب والجواز والحظر ، أما القسم الأول فمستفاد من العقل والثاني مستفاد من السمع والقسم الأول هو المراد بقوله {والمؤمنون كُلٌّ ءَامَنَ بالله} والقسم الثاني هو المراد بقوله {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 117 ـ 118}
فائدة
قال ابن عاشور :
وإنّما جيء بلفظ الماضي ، دون المضارع ، ليدلوا على رسوخ ذلك ؛ لأنّهم أرادوا إنشاء القبول والرضا ، وصيغ العقود ونحوها تقع بلفظ الماضي نحو بعْت. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 134}
فصل
قال الفخر :
قال الواحدي رحمه الله قوله {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي سمعنا قوله وأطعنا أمره ، إلا أنه حذف المفعول ، لأن في الكلام دليلاً عليه من حيث مدحوا به.(10/318)
وأقول : هذا من الباب الذي ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله أن حذف المفعول فيه ظاهراً وتقديراً أولى لأنك إذا جعلت التقدير : سمعنا قوله ، وأطعنا أمره ، فإذن ههنا قول آخر غير قوله ، وأمر آخر يطاع سوى أمره ، فإذا لم يقدر فيه ذلك المفعول أفاد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته : أطعنا إلا أمره فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 118 ـ 119}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما وصف إيمان هؤلاء المؤمنين وصفهم بعد ذلك بأنهم يقولون : سمعنا وأطعنا ، فقوله {سَمِعْنَا} ليس المراد منه السماع الظاهر ، لأن ذلك لا يفيد المدح ، بل المراد أنا سمعناه بآذان عقولنا ، أي عقلناه وعلمنا صحته ، وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلينا فهو حق صحيح واجب القبول والسمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن ، قال الله تعالى : {إِنَّ فِى ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ ق : 37 ] والمعنى : لمن سمع الذكرى بفهم حاضر ، وعكسه قوله تعالى : {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً} [ لقمان : 7 ] ثم قال بعد ذلك {وَأَطَعْنَا} فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكليف علماً وعملاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 119}
فائدة
قال أبو السعود :
وتقديمُ ذكرِ السمعِ والطاعةِ على طلب الغفران لما أن تقديمَ الوسيلةِ على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول ، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إليهم للمبالغة في التضرُّع والجُؤار. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 276}
قوله تعالى {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير}
فصل
قال الفخر : (10/319)
في هذه الآية سؤال ، وهو أن القوم لما قبلوا التكاليف وعملوا بها ، فأي حاجة بهم إلى طلبهم المغفرة.
والجواب من وجوه الأول : أنهم وإن بذلوا مجهودهم في أداء هذه التكاليف إلا أنهم كانوا خائفين من تقصير يصدر عنهم ، فلما جوزوا ذلك قالوا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} ومعناه أنهم يلتمسون من قبله الغفران فيما يخافون من تقصيرهم فيما يأتون ويذرون والثاني : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " فذكروا لهذا الحديث تأويلات من جملتها أنه عليه الصلاة والسلام كان في الترقي في درجات العبودية فكان كلما ترقى من مقام إلى مقام أعلى من الأول رأى الأول حقيراً ، فكان يستغفر الله منه ، فحمل طلب الغفران في القرآن في هذه الآية على هذا الوجه أيضاً غير مستبعد والثالث : أن جميع الطاعات في مقابلة حقوق إلهيته جنايات ، وكل أنواع المعارف الحاصلة عند الخلق في مقابلة أنوار كبريائه تقصير وقصور وجهل ، ولذلك قال : {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [ الأنعام : 91 ] وإذا كان كذلك فالعبد في أي مقام كان من مقام العبودية ، وإن كان عالماً جداً إذا قوبل ذلك بجلال كبرياء الله تعالى صار عين التقصير الذي يجب الاستغفار منه ، وهذا هو السر في قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله واستغفر لِذَنبِكَ} [ محمد : 19 ] فإن مقامات عبوديته وإن كانت عالية إلا أنه كان ينكشف له في درجات مكاشفاته أنها بالنسبة إلى ما يليق بالحضرة الصمدية عن التقصير ، فكان يستغفر منها ، وكذلك حكي عن أهل الجنة كلامهم فقال {وآخر دعواهم أن الحمدلله رب العالمين } [ يونس : 10 ] فسبحانك اللّهم إشارة إلى التنزيه.(10/320)
ثم إنه قال : {دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [ يونس : 10 ] يعني أن كل الحمد لله وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 119}
فصل
قال الفخر :
قوله {غُفْرَانَكَ} تقديره : اغفر غفرانك ، ويستغني بالمصدر عن الفعل في الدعاء نحو سقياً ورعياً ، قال الفرّاء : هو مصدر وقع موقع الأمر فنصب ، ومثله الصلاة الصلاة ، والأسد الأسد ، وهذا أولى من قول من قال : نسألك غفرانك لأن هذه الصيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ابتداء كانت أدل عليه ، ونظيره قولك : حمداً حمداً ، وشكراً شكراً ، أي أحمد حمداً ، وأشكر شكراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 119 ـ 120}
فصل
قال الفخر :
إن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين(10/321)
أحدهما : بالإضافة إليه ، وهو قوله {غُفْرَانَكَ} والثاني : أردفه بقوله {رَبَّنَا} وهذان القيدان يتضمنان فوائد إحداها : أنت الكامل في هذه الصفة ، فأنت غافر الذنب ، وأنت غفور {وَرَبُّكَ الغفور} [ الكهف : 58 ] {وَهُوَ الغفور الودود} [ البروج : 14 ] وأنت الغفار {استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [ نوح : 10 ] يعني أنه ليست غفاريته من هذا الوقت ، بل كانت قبل هذا الوقت غفار الذنوب ، فهذه الغفارية كالحرفة له ، فقوله ههنا {غُفْرَانَكَ} يعني أطلب الغفران منك وأنت الكامل في هذه الصفة ، والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة ، فقوله {غُفْرَانَكَ} طلب لغفران كامل ، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب بفضله ورحمته ، ويبدلها بالحسنات ، كما قال : {فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [ الفرقان : 70 ] وثانيها : روي في الحديث الصحيح " إن لله مائة جزء من الرحمة قسم جزءاً واحداً منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات ، فيها يتراحمون ، وادخر تسعة وتسعين جزءاً ليوم القيامة " فأظن أن المراد من قوله {غُفْرَانَكَ} هو ذلك الغفران الكبير ، كان العبد يقول : هب أن جرمي كبير لكن غفرانك أعظم من جرمي وثالثها : كأن العبد يقول : كل صفة من صفات جلالك وإلهيتك ، فإنما يظهر أثرها في محل معين ، فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك ، ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك ، فكذا لولا جرم العبد وجنايته ، وعجزه وحاجته ، لما ظهرت آثار غفرانك ، فقوله {غُفْرَانَكَ} معناه طلب الغفران الذي لا يمكن ظهور أثره إلا في حقي ، وفي حق أمثالي من المجرمين.(10/322)
وأما القيد الثاني : وهو قوله {رَبَّنَا} ففيه فوائد أولها : ربيتني حين ما لم أذكرك بالتوحيد ، فكيف يليق بكرمك أن لا تريني عندما أفنيت عمري في توحيدك وثانيها : ربيتني حين كنت معدوماً ، ولو لم تربني في ذلك الوقت لما تضررت به ، لأني كنت أبقى حينئذ في العدم ، وأما الآن فلو لم تربني وقعت في الضرر الشديد ، فأسألك أن لا تهملي وثالثها : ربيتني في الماضي فاجعل لي في الماضي شفيعي إليك في أن تربيني في المستقبل ورابعها : ربيتني في الماضي فإتمام المعروف خير من ابتدائه ، فتمم هذه التربية بفضلك ورحمتك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 120}
قوله الله تعالى : {وَإِلَيْكَ المصير}
قال الفخر :
وفيه فائدتان
إحداهما : بيان أنهم كما أقروا بالمبدأ فكذلك أقروا بالمعاد ، لأن الإيمان بالمبدأ أصل الإيمان بالمعاد ، فإن من أقر أن الله عالم بالجزئيات ، وقادر على كل الممكنات ، لا بد وأن يقر بالمعاد والثانية : بيان أن العبد متى علم أنه لا بد من المصير إليه ، والذهاب إلى حيث لا حكم إلا حكم الله ، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذن الله ، كان إخلاصه في الطاعات أتم ، واحترازه عن السيئات أكمل ، وهاهنا آخر ما شرح الله تعالى من إيمان المؤمنين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 120}
وقال ابن عاشور :
والمصير يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافاً بالبعث ، وجعل منتهياً إلى الله لأنّه منتهٍ إلى يوم ، أو عالَم ، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة.
ويحتمل أنّه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان.
كأنّهم كانوا قبل الإسلام آبقين ، ثم صاروا إلى الله ، وهذا كقوله تعالى : { ففروا إلى اللَّه } [ الذاريات : 50 ].(10/323)
وجعل المصير إلى الله تمثيلاً للمصير إلى أمره ونهيه : كقوله : { ووجد اللَّه عنده فوفاه حسابه } [ النور : 39 ] وتقديم المجرور لإفادة الحصر : أي المصير إليك لا إلى غيرك ، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته ، وهو أنّهم عالِمون بأنّهم صائرون إليه ، ولا يصيرون إلى غيره ممّن يعبدهم أهل الضّلال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 134}
فائدة
قال القرطبى :
روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل : "إن الله قد أحل الثناء عليك وعلى أُمتك فسل تُعْطَه" فسأل إلى آخر السورة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 429}
فصل فى ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا الله بهما.
قال ابن كثير
الحديث الأول : قال البخاري : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن ، عن أبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ بالآيتين" ، وحدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبي مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كَفَتَاه". {صحيح البخاري برقم (5008)}.
وقد أخرجه بقية الجماعة من طريق سليمان بن مِهْران الأعمش ، بإسناده ، مثله. { صحيح مسلم برقم (808) وسنن أبي داود برقم (1397) وسنن الترمذي برقم (2881) وسنن النسائي الكبرى برقم (8019) وسنن ابن ماجة برقم (1368).}.
وهو في الصحيحين من طريق الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن ، عنه ، به. { صحيح البخاري برقم (5009) وصحيح مسلم برقم (807) ؛ ولكنه فيه عن زهير ، عن منصور به.}.
وهو في الصحيحين أيضا عن عبد الرحمن ، عن علقمة عن أبي مسعود -قال عبد الرحمن : ثم لقيت أبا مسعود ، فحدثني به. { صحيح البخاري برقم (4008) وصحيح مسلم برقم (808)}.(10/324)
وهكذا رواه أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك ، عن عاصم ، عن المسيب بن رافع ، عن علقمة ، عن أبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه".{ المسند (4/118)}.
الحديث الثاني : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا شيبان ، عن منصور ، عن رِبعي ، عن خَرشة بن الحُر ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم يعطهن نبي قبلي". { المسند (5/151)}.
وقد رواه ابن مردويه ، من حديث الأشجعي ، عن الثوري ، عن منصور ، عن رِبْعِي ، عن زيد بن ظِبْيان ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش". { ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (2404) من طريق الأشجعي به}.
الحديث الثالث : قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا مالك بن مغْول(ح) وحدثنا ابن نُمَير ، وزهير بن حرب جميعًا ، عن عبد الله بن نُمير -وألفاظهم متقاربة -قال ابن نمير : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن مِغْوَل ، عن الزبير بن عدي عن طلحة ، عن مُرَة ، عن عبد الله ، قال : لما أسْريَ برسول الله صلى الله عليه وسلم انْتُهِيَ به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يُعْرَج به من الأرض فَيُقْبَض منها ، وإليها ينتهي ما يُهْبَطُ به من فوقها فيُقْبَض منها ، قال : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [النجم : 16] ، قال : فرَاش من ذهب. قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا : أعْطِيَ الصلوات الخمس ، وأعْطِي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المُقْحَماتُ. { صحيح مسلم برقم (173)}.(10/325)
الحديث الرابع : قال أحمد : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل ، حدثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مَرْثَد بن عبد الله اليزني ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من تحت العرش". هذا إسناد حسن ، ولم يخرجوه في كتبهم. { المسند (4/147)}.
الحديث الخامس : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، أخبرنا مُسَدَّد أخبرنا أبو عوانة ، عن أبي مالك ، عن ربْعِي ، عن حذيفة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فضلنا على الناس بثلاث ، أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش ، لم يعطها أحد قبلي ، ولا يعطاها أحد بعدي". { ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (8022) من طريق آدم بن أبي إياس ، عن أبي عوانة به}.
ثم رواه من حديث نُعَيم بن أبي هندي ، عن ربعي ، عن حذيفة ، بنحوه.
الحديث السادس : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن نافع ، أنبأنا إسماعيل بن الفضل ، أخبرنا محمد بن حاتم بن بزَيع ، أخبرنا جعفر بن عون ، عن مالك بن مِغْول ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : لا أرى أحدًا عَقِل الإسلام ينام حتى يقرأ خواتيم سورة البقرة ، فإنها كنز أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم من تحت العرش.
ورواه وَكِيع عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمير بن عمرو الخارفي ، عن علي قال : ما أرى أحدًا يعقل ، بلغه الإسلام ، ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ، فإنها من كنز تحت العرش. { ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (169) من طريق أبي إسحاق ، عن عمير بن سعيد به ، قال النووي : "صحيح على شرط البخاري ومسلم"}.(10/326)
الحديث السابع : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا بُنْدَار ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أشعث بن عبد الرحمن الجَرْمي عن أبي قِلابَة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ، ولا يقرأن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان". ثم قال : هذا حديث غريب. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حماد بن سلمة به ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه. { سنن الترمذي برقم (2882) والمستدرك (1/562)}.
الحديث الثامن : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن مدين ، أخبرنا الحسن بن الجهم ، أخبرنا إسماعيل بن عمرو ، أخبرنا ابن أبي مريم ، حدثني يوسف بن أبي الحجاج ، عن سعيد ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي ضحك ، وقال : "إنهما من كنز الرحمن تحت العرش". وإذا قرأ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه } [النساء : 123] ، { وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى } [النجم : 39-41] ، استرجع واستكان. { ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/7) وعزاه لابن مردويه ، وفي إسناده مجاهيل}.
الحديث التاسع : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن كوفي ، حدثنا أحمد بن يحيى بن حمزة ، حدثنا محمد بن بكر حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن أبي حميد ، عن أبي مَلِيح ، عن معقل بن يسار ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش ، والمُفَصل نافلة". { ورواه الحاكم في المستدرك وصححه (1/559) من طريق عبيد الله بن أبي حميد به نحوه ، وتعقبه الذهبي بقوله : "فيه عبيد الله بن أبي حميد تركوه"}.(10/327)
الحديث العاشر : قد تقدم في فضائل الفاتحة ، من رواية عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل ؛ إذ سمع نقيضا فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فُتِح قَط. قال : فنزل منه مَلَك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته ، رواه مسلم والنسائي ، وهذا لفظه. { صحيح مسلم برقم (806) وسنن النسائي (2/138)}.
[الحديث الحادي عشر : قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في مسنده : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثنا أيفع بن عبد الله الكلاعي قال : قال رجل : يا رسول الله ، أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال : "آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قال : فأي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك ؟ قال : "آخر سورة البقرة ، ولم يترك خيرًا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه" ]. { سنن الدارمي برقم (3380) وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/139) : "هو مرسل أو معضل"}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 733 ـ 736}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
هذه شهادة الحق - سبحانه - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم وعلى آله - بالإيمان ، وذلك أتمُّ له من إخباره عن نفسه بشهادته.
ويقال آمن الخَلْق كلُّهم من حيث البرهان وآمن الرسول - عليه السلام - من حيث العيان.
ويقال آمن الخَلْق بالوسائط وآمن محمد - صلى الله عليه وسلم - بغير واسطة.
ويقال هذا خطاب الحق معه ليلة المعراج على جهة تعظيم القَدْر فقال : { آمَنَ الرَّسُولُ } ، ولم يقل آمَنتَ ، كما تقول لعظيم الشأن من الناس : قال الشيخ ، وأنت تريد قلتَ.
ويقال : { آمَنَ الرَّسُولً كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } ، ولكن شتان بين إيمان وإيمان ، الكلُّ آمنوا استدلالاً ، وأنت يا محمد آمنتَ وصالاً. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 215 ـ 216}(10/328)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { والمؤمنون } : يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مرفوعٌ بالفاعلية عطفاً على " الرَّسُول " - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيكونُ الوقفُ هنا ، ويدُلُّ على صحَّةِ هذه قراءةُ عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : " وَآمَنَ المُؤْمِنُونَ " ، فأَظْهَرَ الفعلَ ، ويكون قوله : " كُلٌّ آمَنَ " جملةً من مبتدأ وخبر يدُلُّ على أنَّ جميع مَنْ تقدَّم ذكره آمَنَ بما ذكر.
والثاني : أن يكون " المُؤْمِنُونَ " مبتدأٌ ، و" كلٌّ " مبتدأ ثانٍ ، و" آمَنَ " خبرٌ عن " كُلّ " وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأوَّل؛ وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه ، وهو محذوفٌ ، تقديرُه : " كُلٌّ مِنْهُمْ " وهو كقولهم : " السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَم " ، تقديرُه : مَنَوَانِ مِنْهُ ، قال الزمخشريُّ : " والمؤمنُونَ إن عُطِفَ على الرسول ، كان الضّميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في " كُلّ " راجعاً إلى " الرَّسُول " - صلى الله عليه وسلم - و" المُؤْمِنُونَ " أي : كلُّهم آمَنَ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ من المذكورين. ووُقِفَ عليه ، وإن كان مبتدأً كان الضميرُ للمؤمنين ".
قوله : { لاَ نُفَرِّقُ } هذه الجملة منصوبةٌ بقولٍ محذوف ، تقديره : " يقولون : لا نُفَرِّقُ " ، ويجوز أن يكون التقدير : " يَقُولُ " يعني يجوز أن يراعى لفظ " كُلّ " تارةً ، ومعناها أخرى في ذلك القول المقدَّر ، فمن قدَّر " يَقُولُونَ " ، راعى معناها ومن قدَّر " يَقُولُ " ، راعى لفظها ، وهذا القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحال ، ويجوز أن يكون في محلِّ رفعٍ؛ لأنه خبر بعد خبر ، قاله الحوفيُّ.
والعامَّة على " لاَ نُفَرِّقُ " بنون الجمع.
و " مِنْ رُسُلِهِ " في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ لـ " أَحَد " ، و" قَالُوا " عطفٌ على " آمَنَ " ، وقد تقدَّم أنه حمل على معنى " كُلّ ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 524 ـ 528}. بتصرف.(10/329)
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ . . . }.
ذكر ابن عطية سبب نزول الآية أنها لما نزلت { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }.
.
الآية شق ذلك على المؤمنين ثم قالوا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }.
فَمَدحهم الله وأثنى عليهم ورفع عنهم المشقة بقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } قال ابن عرفة : وضم الإخبار عنهم بالإيمان في هذه الآية إلى هذا السبب يقتضي استلزام الإيمان للعمل الصالح ، قال : وفيها سؤال وهو أن الفاعل مخبر عنه بفعله وتقرر أنه لا يجوز ( قام ) القائم ، ولا ضرب الضارب ، إذ لا فائدة فيه ، فلو قيل : " آمن الرسول والصحابة لأفاد ، فكيف قال ( آمَنَ ) المؤمنون ؟
والجواب : أنّه يفيد إذا ( قيد بشيء ) كقولك قام : في الدّار القائم ، وهنا أفاد تقيده وهو قوله { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ }.
انتهى.
فإن قلت : لم ذكر الرسول ومعلوم أنه آمن ؟
قلت : إنه ذكر مع المؤمنين تشريفا لهم وتعظيما إذ لا ينظم الجوهر النفيس إلا ( مع ) نفيس مثله.
قال ابن عرفة : قال ابن عطية : و" كل " لفظة تصلح للاحاطة والقرينة تبين ذلك.
انتهى.
قال ابن عرفة : وظاهر أنّها ليست نصّا في العموم خلافا للأصوليين فإنهم ذكروها في ألفاظ العموم وتقدم للنحويين التفريق بين رفعها ونصبها في قوله :
قد أصبحت أم الخيار تدعي . . .
عليّ ذنبا كله لم أصنع
فقالوا : رفعها أعم.
قلت : إنما أراد ابن عطية قولهم : كل الصيد في جوف الفراء.
ورأيت رجلا كل ( الرجل ) وقولهم : أكلت شاة كل شاة.
قوله تعالى : { وملائكته . . . }.(10/330)
قال ابن عرفة : لا بد في الإيمان بالملائكة من استحضار أنّهم أجسام متحيزة ( منتقلة ) كبني آدم.
ولذلك قال أبو عمران الفارسي في المسألة المنقولة عنه في الكفار : إنّهم ما عرفوا ( الله ) قط ولا آمنوا به خلافا للغزالي من أهل السنة ( فإنه ) قال في الملائكة إنهم أجسام لطيفة لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ونحا في هذا منحى الفلاسفة.
قيل لابن عرفة : إنّ ( المقترح ) توقف فيهم ؟
فقال : إنما توقف في إثبات الجوهر ( الفرد ) وهو شيء لا متحيز ولا قائم بالمتحيز ولم يتوقف في الملائكة.
قوله تعالى : { وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ . . . }.
قال الزمخشري : قرأ ابن عباس : " وَكِتَابِهِ " يريد القرآن وعنه الكتاب أكثر من الكتب.
فإن قلت : كيف يكون الكتاب أكثر من الكتب ؟
قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان ( الجنس ) كلها لم يخرج منها شيء ، وأما الجمع فلا يدخل تحته ( الاّ ما فيه الجنسية من المجموع.
وقدره الطيبي بأن المفرد إذا أريد به الجنس يدخل تحته ) المجموع والأشخاص بخلاف الجمع فإنه لا يتناول إلا المفردات فقط.
قيل لابن عرفة : قد اختلفوا في المفرد المحلى بالألف واللاّم ( هل يفيد العموم ، واتفقوا على أنّ الجمع يفيد العموم لا سيما المحلى بالألف واللاّم ) ؟
فقال : ( ما كلامنا ) إلا فيما ثبت فيه العموم من مفرد أو جمع ، فالمفرد الذي يثبت فيه العموم ( أعم من الجمع الذي يثبت فيه العموم ).
وكلام أبي حيان في هذا الموضع غير صحيح وكذلك كلام الطيبي.
قال : وقد ذكر القرافي في الخلاف في دَلاَلة العام على أفراده هل هي تضمن أو التزام ونص على أن المفرد الذي أريد به العموم دال على أفراده ومسمياته وذلك كان أعم من الجمع.
قيل لابن عرفة : لعل دلالته على العموم بقرينة حالية ؟
فقال : إذا تعارض صرف الدلالة للفظ أو لقرينة فصرفها للفظ أولى. انتهى.(10/331)
قلت : لأن دلالة الجمع على أفراده من باب دلالة اللفظ على جزء مسماه ودلالة المفرد من باب دلالة اللفظ على تمام مسماه لأنه يدل على هذا المسمى وحده وعلى هذا بدلا عنه.
قال ابن عرفة : ودلالة المطابقة حقيقة ودلالة التضمن والالتزام مجاز.
فإن قلت : ليس الكتب في الآية معرفا بالألف واللاّم ( بل مضافا ) ؟
قلت : الإضافة عاقبة الألف واللاّم.
ولذلك قال ابن التلمساني شارح المعالم في المسألة الثانية من الباب الثالث : إن من ألفاظ العموم صيغ الجموع المعرفة بلام الجنس أو بالإضافة.
ابن عرفة : وفائدة هذا الترتيب في الآية ما يقولونه : وهو التركيب والتحليل لأنّك إن بدأت من أول قلت : الله الأول ، والملائكة يتلقون الوحي منه ، والوحي في ثالث رتبة ، لأنّه ملقى ومتلقى كقولك : أعطيت زيدا درهما ، فالدرهم معطى ومأخوذ ، فهو مفعول بكل اعتبار ، وزيد فاعل ومفعول فالرسل في الرتبة الرابعة.
وإن بدأت من أسفل قلت : الرسل المباشرون لنا والقرآن هو الذي يقع به المباشرة وهو منزل عليهم ثم من أنزله من عنده.
قوله تعالى : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ . . . }.
فإن قلت : كيف هذا مع قوله { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } قلت : إذا أسند الحكم إلى الشيء فإنما يسند إليه باعتبار ( وصفه ) المناسب له وقد قال : " من رسله " فما التفريق بينهم إلا في وصف الرسالة أي لا نؤمن ببعضهم ونترك بعضهم بل نؤمن بالجميع.
قال الله تعالى { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 369 ـ 370}(10/332)
قوله تعالى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما مُنّوا بالإيمان في سؤال الغفران عللوا السؤال بقولهم : {لا يكلف الله} أي الملك الأعظم الرحيم الأكرم الذي له جميع صفات الكمال {نفساً إلا وسعها} أي ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه ،
وذلك هو الممكن لذاته الذي يتعلق اختيار العبد بفعله ،
ولم يخبر الله تعالى بأنه لا يقع لا المحال لذاته ولا الممكن لذاته سواء كان مما لا مدخل للإنسان في اختياره كالنوم أو كان له مدخل فيه وقد تعلق العلم الأزلي بعدم وقوعه وأخبر سبحانه وتعالى بعدم وقوعه معيناً لصاحبه ،
فهذا لا يقع التكليف به ويجوز التكليف به ؛ وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلباً للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه وتعالى خوفاً من أن يكلفوا بما لله سبحانه وتعالى كما دلت عليه الآية وقول المؤمنين عند نزولها وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس التي لا يقع العزم عليها لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه فهو من باب :
إذا أثنى عليك المرء يوماً . . .
كفاه من تعرضه الثناء
ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم ومن صفات الحلم والرحمة والرأفة ما يرفه عنهم ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله سبحانه وتعالى جزاء لهم على قولهم {سمعنا وأطعنا} - الآية ،(10/333)
فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس الذي لا عزم فيه ؛ فانتفى ما شق عليهم من قوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم} - الآية ،
بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم {سمعنا وعصينا} [ البقرة : 93 ] من الآصار في الدنيا والآخرة ،
فيكون حينئذ استئنافاً جواباً لمن كأنه قال : هل أجاب دعاءهم ؟ ويكون شرح قوله أول السورة : {أولئك على هدى من ربهم} [ البقرة : 5 ] ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستفتاح بقوله : {لها} أي خاصاً بها {ما كسبت} وذكر الفعل مجرداً في الخير إيماء إلى أنه يكفي في الاعتداد به مجرد وقوعه ولو مع الكسل بل ومجرد نيته.
قال الحرالي : وصيغة فعل مجردة تعرب عن أدنى الكسب فلذلك من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة - انتهى.
{وعليها} أي بخصوصها {ما اكتسبت} فشرط في الشر صيغة الافتعال الدالة على الاعتمال إشارة إلى أن من طبع النفس الميل إلى الهوى بكليتها وإلى أن الإثم لا يكتب إلاّ مع التصميم والعزم القوي الذي إن كان عنه عمل ظاهر كان بجد ونشاط ورغبة وانبساط ،
فلذلك من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ،
وربما جاءت العبارة بخلاف ذلك لمعنى في ذلك السياق اقتضاه المقام. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 556 ـ 557}
فصل
قال الفخر :(10/334)
في كيفية النظم : إن قلنا إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم لما قالوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فكأنهم قالوا : كيف لا نسمع ولا نطيع ، وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا ، فإذا كان هو تعالى بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين ، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين ، وإن قلنا : إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ثم قالوا بعده {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} دل ذلك على أن قولهم {غُفْرَانَكَ} طلباً للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد فلما كان قولهم : {غُفْرَانَكَ} طلباً للمغفرة في ذلك التقصير ، لا جرم خفف الله تعالى عنهم ذلك وقال : {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم ، وما تعمدتم التقصير ، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 121}
قال القرطبى :
نصّ الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وُسع المكلَّف وفي مقتضى إدراكه وبِنْيَته ؛ وبهذا انكشفت الكُرْبَةَ عن المسلمين في تأوّلهم أمر الخواطر.
وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال : ما ودِدت أن أحداً ولدتني أُمّه إلا جعفر بن أبي طالب ، فإني تبعته يوماً وأنا جائع فلما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نِحْى سَمْن قد بقي فيه أَثَارة فشقّه بين أيدينا ، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرُّبِّ وهو يقول :
ما كلّف اللَّه نفساً فَوْقَ طاقتها . . .
ولا تَجُود يَدٌ إلاّ بما تَجِدُ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 430}
فائدة
قال الفخر :(10/335)
قوله {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين على نسق الكلام في قوله {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} [ البقرة : 285 ] وقالوا {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا} فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 121}(10/336)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يُطِيقُهُ ، وَلَوْ كَلَّفَ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَطِيعُهُ لَكَانَ مُكَلِّفًا لَهُ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ، أَلَا تَرَى قَوْلَ الْقَائِلِ ( لَيْسَ فِي وُسْعِي كَيْتُ وَكَيْتُ ) بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ ( لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا أُطِيقُهُ ) ؟ بَلْ الْوُسْعُ دُونَ الطَّاقَةِ.
وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَ الزَّمِنَ الْمَشْيَ وَالْأَعْمَى الْبَصَرَ وَالْأَقْطَعَ الْيَدَيْنِ الْبَطْشَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهُ ؛ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ.
وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّلَاةَ قَائِمًا فَغَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلْقِيَامِ فِيهَا ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْهَا قَاعِدًا فَغَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلْقُعُودِ بَلْ يُصَلِّيهَا عَلَى جَنْبٍ يُومِئُ إيمَاءً لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهَا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؛ وَنَصُّ التَّنْزِيلِ قَدْ أَسْقَطَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ وَلَا يُطِيقُهُ.
وَزَعَمَ قَوْمٌ جُهَّالٌ نَسَبْت إلَى اللَّهِ فِعْلَ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ ، فَزَعَمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى فِعْلِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَرْكِهِ.أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 277}(10/337)
وَقَدْ أَكْذَبَ اللَّهُ قِيلَهُمْ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا ، مَعَ مَا قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُقُولُ مِنْ قُبْحِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَأَنَّ الْعَالِمَ بِالْقَبِيحِ الْمُسْتَغْنِي عَنْ فِعْلِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ فِعْلُ الْقَبِيحِ.
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ سُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا لَا تَتَّسِعُ لَهُ قُوَاهُمْ لِأَنَّ الْوُسْعَ هُوَ دُونَ الطَّاقَةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ اسْتِفْرَاغُ الْمَجْهُودِ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ نَحْوَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَيُؤَدِّيهِ إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي جِسْمِهِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَخْشَ الْمَوْتَ بِفِعْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ إلَّا مَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهِ وَلَا يَبْلُغُ بِهِ حَالَ الْمَوْتِ.
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي يَخْشَى ضَرَرَ الصَّوْمِ وَضَرَرَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا إلَّا مَا اتَّسَعَتْ لَهُ قُدْرَتُهُ وَإِمْكَانُهُ دُونَ مَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ وَيُعَنِّتُهُ ؛ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } وَقَالَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } فَهَذَا حُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ فِي سَائِرِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَزَوَاجِرِهِ وَلُزُومُ التَّكْلِيفِ فِيهَا عَلَى مَا يَتَّسِعُ لَهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 277}
فائدة أخرى
قال ابن العربى :
قَوْله تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّفَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأُمَمِ بِهَا ، فَلَمْ يُحَمِّلْنَا إصْرًا وَلَا كَلَّفَنَا فِي مَشَقَّةٍ أَمْرًا ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ الْبَوْلُ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ ، فَخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إلَى وَظَائِفِ عَلَى الْأُمَمِ حَمَلُوهَا ، وَرَفَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ }. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 347}(10/338)
فصل
قال الفخر :
المعتزلة عولوا على هذه الآية في أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه ولا يقدر عليه ، ونظيره قوله تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ} [ الحج : 78 ] وقوله {يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} [ النساء : 28 ] وقوله {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} [ البقرة : 185 ] وقالوا : هذه الآية صريحة في نفي تكليف ما لا يطاق ، قالوا : وإذا ثبت هذا فههنا أصلان الأول : أن العبد موجد لأفعال نفسه ، فإنه لو كان موجدها هو الله تعالى ، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق ، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ولا قدرة ألبتة للعبد على ذلك الفعل ولا على تركه ، أما إنه لا قدرة له على الفعل فلأن ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى ، والموجود لا يوجد ثانياً ، وأما إنه لا قدر له على الدفع فلأن قدرته أضعف من قدرة الله تعالى ، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى وإذا لم يخلق الله الفعل استحال أن يكون للعبد قدرة على التحصيل ، فثبت أنه لو كان الموجد لفعل العبد هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق والثاني : أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان ، فكان ذلك التكليف بما لا يطاق هذا تمام استدلال المعتزلة في هذا الموضع.
أما الأصحاب فقالوا : دلّت الدلائل العقلية على وقوع التكليف على هذا الوجه ، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية.
الحجة الأولى : أن من مات على الكفر ينبىء موته على الكفر أن الله تعالى كان عالماً في الأزل بأنه يموت على الكفر ولا يؤمن قط ، فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً ، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان على ما قررناه في مواضع ، وهو أيضاً مقدم بينة بنفسها ، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النقيضين ، وهذه الحجة كما أنها جارية في العلم ، فهي أيضاً جارية في الجبر.(10/339)
الحجة الثانية : أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي ، وتلك الداعية مخلوقة لله تعالى ومتى كان الأمر كذلك كان تكليف ما لا يطاق لازماً ، إنما قلنا : إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي ، لأن قدرة العبد لما كانت صالحة للفعل والترك ، فلو ترجح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجح لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ، وإنما قلنا : إن تلك الداعية من الله تعالى لأنها لو كانت من العبد لافتقر إيجادها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل ، وإنما قلنا : إنه متى كان الأمر كذلك لزم الجبر ، لأن عند حصول الداعية المرجحة لأحد الطرفين صار الطرف الآخر مرجوحاً ، والمرجوح ممتنع الوقوع ، وإذا كان المرجوح ممتنعاً كان الراجح واجباً ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين ، فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلف به ، فكان التكليف تكليف ما لا يطاق.
الحجة الثالثة : أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعيين ، أو حال رجحان أحدهما ، فإن كان الأول فهو تكليف ما لا يطاق ، لأن الاستواء يناقض الرجحان ، فإذا كلف حال حصول الاستواء بالرجحان ، فقد كلف بالجمع بين النقيضين ، وإن كان الثاني فالراجح واجب ، والمرجوح ممتنع ، وإن وقع التكليف بالراجح فقد وقع بالواجب ، وإن وقع بالمرجوح فقد وقع بالممتنع.
الحجة الرابعة : أنه تعالى كلف أبا لهب الإيمان ، والإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه ، وهو مما أخبر أنه لا يؤمن ، فقد صار أبو لهب مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، وذلك تكليف ما لا يطاق.(10/340)
الحجة الخامسة : العبد غير عالم بتفاصيل فعله ، لأن من حرك أصبعه لم يعرف عدد الأحيان التي حرك أصبعه فيها ، لأن الحركة البطيئة عبارة عند المتكلمين عن حركات مختلطة بسكنات ، والعبد لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحيان ، ويسكن في بعضها ، وأنه أين تحرك وأين سكن ، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله لم يكن موجداً لها ، لأنه لم يقصد إيجاد ذلك العدد المخصوص من الأفعال ، فلو فعل ذلك العدد دون الأزيد ودون الأنقص فقد ترجح الممكن لا لمرجح وهو محال ، فثبت أن العبد غير موجد ، فإذا لم يكن موجداً كان تكليف ما لا يطاق لازماً على ما ذكرتم ، فهذه وجوه عقلية قطعية يقينية في هذا الباب ، فعلمنا أنه لا بد للآية من التأويل وفيه وجوه
الأول : وهو الأصوب : أنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع العقلي ، والظاهر السمعي ، فإما أن يصدقهما وهو محال ، لأنه جمع بين النقيضين ، وإما أن يكذبهما وهو محال ، لأنه إبطال النقيضين ، وإما أن يكذب القاطع العقلي ، ويرجح الظاهر السمعي ، وذلك يوجب تطرق الطعن في الدلائل العقلية ، ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوّة والقرآن ، وترجيح الدليل السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معاً ، فلم يبق إلا أن يقطع بصحة الدلائل العقلية ، ويحمل الظاهر السمعي على التأويل ، وهذا الكلام هو الذي تعول المعتزلة عليه أبداً في دفع الظواهر التي تمسك بها أهل التشبيه ، فبهذا الطريق علمنا أن لهذه الآية تأويلاً في الجملة ، سواء عرفناه أو لم نعرفه ، وحينئذ لا يحتاج إلى الخوض فيه على سبيل التفصيل.(10/341)
الوجه الثاني في الجواب : هو أنه لا معنى للتكليف في الأمر والنهي إلا الإعلام بأنه متى فعل كذا فإنه يثاب ، ومتى لم يفعل فإنه يعاقب ، فإذا وجد ظاهر الأمر فإن كان المأمور به ممكناً كان ذلك أمراً وتكليفاً في الحقيقة ، وإلا لم يكن في الحقيقة تكليفاً ، بل كان إعلاماً بنزول العقاب به في الدار الآخرة ، وإشعاراً بأنه إنما خلق للنار.
والجواب
الثالث : وهو أن الإنسان ما دام لم يمت ، وأنا لا ندري أن الله تعالى علم منه أنه يموت على الكفر أو ليس كذلك ، فنحن شاكون في قيام المانع ، فلا جرم نأمره بالإيمان ونحثه عليه ، فإذا مات على الكفر علمنا بعد موته أن المانع كان قائماً في حقه.
فتبين أن شرط التكليف كان زائلاً عنه حال حياته ، وهذا قول طائفة من قدماء أهل الجبر.
الجواب
الرابع : أنا بينا أن قوله {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ليس قول الله تعالى ، بل هو قول المؤمنين ، فلا يكون حجة ، إلا أن هذا ضعيف ، وذلك لأن الله تعالى لما حكاه عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم ، فبسبب هذا الكلام وجب أن يكونوا صادقين في هذا الكلام ، إذ لو كانوا كاذبين فيه لما جاز تعظيمهم بسببه ، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ونسأل الله العظيم أن يرحم عجزنا وقصور فهمنا ، وأن يعفو عن خطايانا ، فإنا لا نطلب إلا الحق ، ولا نروم إلا الصدق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 121 ـ 123}
وقال ابن عاشور :
الوسع في القراءة بضم الواو ، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة ، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع ، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول.
والمستطاع هو ما اعتادَ الناسُ قدرتَهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع.(10/342)
وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم ( نفساً ) في سياق النفي ، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلاّ للعمل واستقامة أحوال الخلق ، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله ، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات ، هذا حكم عام في الشرائع كلّها.
وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق ، بشهادة قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] وقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة "المشقّةُ تجلب التيسير".
وكانت المشقة مظنّة الرخصة ، وضبط المشاقّ المسقطة للعبادة مذكور في الأصول ، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمّى "مقاصد الشريعة" وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر ، في أوقات الضرورة ، كتكليف الواحد من المسلمين بالثباتِ للعشرة من المشركين ، في أول الإسلام ، وقلّة المسلمين.
وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصوليين بمسألة التكليف بالمحَال ، والتكليف بما لا يطاق ، وهي مسألة أرنَّت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة ، واختلفوا فيها اختلافاً شهيراً ، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم فقالت الأشاعرة : يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله ، وأنّ ما يصدر منه تعالى كلّه عدل لأنّه مالك العباد ، وقاعدتهم في أنّه تعالى يخلق ما يشاء ، وعلى قاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة ، وانتفائه علامة على الشقاوة ، وترتّب الإثم لأنّ لله تعالى إثابَة العاصي ، وتعذيبَ المطيع ، فبالأوْلى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل ، أو متعذّر ، واستدلّوا على ذلك بحديث تكليف المصوّر بنفخ الروحِ في الصورة وما هو بنافخ ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل.(10/343)
ولا دليل فيه لأنّ هذا في أمور الآخرة ، ولأنّهما خبرَا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين.
وقالت المعتزلة : يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنّه يجب الله فعل الصلاح ونفي الظلم عنه ، وقاعدتهم في أنّه تعالى لا يخلق المنكرات من الأفعال ، وقاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف هو الامتثال وإلاّ لصار عبثاً وهو مستحيل على الله ، وأنّ الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي.
واستدلّوا بهذه الآية ، وبالآيات الدالة على أصولِها : مثل { ولا يظلم ربك أحداً } [ الكهف : 49 ] { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] { قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ] إلخ.
والتحقيق أنّ الذي جرّ إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد ، ؛ فإنّ الأشعري لما نفى قدرة العبد ، وقال بالكسب ، وفسّره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدورِ دون أن تكون قدرته مؤثرّة فيه ، ألزمهم المعتزلة القول بأنّ الله كلّف العباد بما ليس في مقدورهم ، وذلك تكليف بما لا يطاق ، فالتزم الأشعري ذلك ، وخالف إمام الحرمين والغزالي الأشعريّ في جواز تكليف ما لا يطاق والآية لا تنهض حجة على كلا الفريقين في حكم إمكان ذلك.(10/344)
ثم اختلف المجوّزون : هل هو واقع ، وقد حكى القرطبي الإجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية ، وقال إمام الحرمين في "البرهان" : "والتكاليف كلّها عند الأشعري من التكليف بما لا يطاق ، لأنّ المأمورات كلّها متعلّقة بأفعال هي عند الأشعري غير مقدورة للمكلّف ، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها ، وإنّما يُقْدِره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات" وما ألزمُه إمام الحرمين الأشعريّ إلزام باطل ؛ لأنّ المراد بما لا يطاق ما لا تتعلّق به قدرة العبد الظاهرة ، المعبّر عنها بالكسب ، للفرق البيِّن بين الأحوال الظاهرة ، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر ، وكذلك لا معنى لإدخال ما عَلِمَ الله عدمَ وقوعه ، كأمر أبي جهل بالإيمان مع عِلم الله بأنّه لا يؤمن ، في مسألة التكليف بما لا يطاق ، أو بالمحال ؛ لأنّ علم الله ذلك لم يطّلع عليه أحد.
وأورد عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنّه لا يسلم لقوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله سيصلى ناراً ذات لهب } [ المسد : 1 ، 3 ] فقد يقال : إنّه بعد نزول هذه الآية لم يخاطَب بطلب الإيمان وإنّما خوطب قبل ذلك ، وبذلك نسلم من أن نقول : إنّه خارج عن الدعوة ، ومن أن نقول : إنّه مخاطب بعد نزول الآية.
وهذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة ، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقُدَرِهم ، دون ما هو بحسب سرّ القَدَر ، والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة ، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 135 ـ 137}
قوله تعالى : {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أنه هل في اللغة فرق بين الكسب والاكتساب ، قال الواحدي رحمه الله : الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما ، قال ذو الرمة :(10/345)
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب.. والقرآن أيضاً ناطق بذلك ، قال الله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [ المدثر : 38 ] وقال : {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [ الأنعام : 164 ] وقال : {بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطت بِهِ خطيئته} [ البقرة : 81 ] وقال : {والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} [ الأحزاب : 58 ] فدل هذا على إقامة كل واحد من هذين اللفظين مقام الآخر ، ومن الناس من سلم الفرق ، ثم فيه قولان
أحدهما : أن الاكتساب أخص من الكسب ، لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره ، والاكتساب لا يكون إلا ما يكتسب الإنسان لنفسه خاصة يقال فلان كاسب لأهله ، ولا يقال مكتسب لأهله والثاني : قال صاحب "الكشاف" : إنما خص الخير بالكسب ، والشر بالاكتساب ، لأن الاكتساب اعتمال ، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس ، وهي منجذبة إليه ، وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد ، فجعلت لهذا المعنى مكتسبة فيه ولما لم يكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 123 ـ 124}
وقال أبو حيان :
{ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت }.
أي : ما كسبت من الحسنات واكتسبت من السيئات ، قاله السدي ، وجماعة المفسرين ، لا خلاف في ذلك.
والخواطر ليست من كسب الإنسان ، والصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد ، والقرآن ناطق بذلك.
قال الله تعالى { كل نفس بما كسبت رهينة } وقال : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } وقال : { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة } وقال : { بغير ما اكتسبوا }
ومنهم من فرق فقال : الاكتساب أخص من الكسب ، لأن الكسب ينقسم إلى كسب لنفسه ولغيره ، والاكتساب لا يكون إلاَّ لنفسه.
يقال : كاسب أهله ، ولا يقال : مكتسب أهله قال الشاعر :
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة . . .(10/346)
وقال الزمخشري : ينفعها ما كسبت من خير ، ويضرها ما اكتسبت من شر ، لا يؤاخذ غيرها بذنبها ولا يثاب غيرها بطاعتها.
فإن قلت : لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب.
قلت : في الاكتساب اعتمال ، فاما كان الشر مما تشتهيه النفس ، وهي منجذبة إليه ، وأمّارة به ، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه.
ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. انتهى كلامه.
وقال ابن عطية : وكرر فعل الكسب ، فخالف بين التصريف حسناً لنمط الكلام ، كما قال : { فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } هذا وجه ، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف ، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى الله تعالى ، ويتخطاه إليها ، فيحسن في الآية مجيء التصريفين احترازاً لهذا المعنى. انتهى كلامه.
وحصل من كلام الزمخشري ، وابن عطية : أن الشر والسيئات فيها اعتمال ، لكن الزمخشري قال : إن سبب الاعتمال هو اشتهاء النفس وانجذابها إلى ما تريده ، وابن عطية قال : إن سبب ذلك هو أنه متكلف ، خرق حجاب نهي الله تعالى ، فهو لا يأتي المعصية إلاَّ بتكلف ، ونحا السجاوندي قريباً من منحى ابن عطية ، وقال : الافتعال الالتزام ، وشره يلزمه ، والخير يشرك فيه غيره بالهداية والشفاعة.
والافتعال. الإنكماش ، والنفس تنكمش في الشر انتهى.
وجاء : في الخير ، باللام لأنه مما يفرح به ويسرّ ، فأضيف إلى ملكه.
وجاء : في الشر ، بعلى من حيث هو أوزار وأثقال ، فجعلت قد علته وصار تحتها ، يحملها.
وهذا كما تقول : لي مال وعلى دين. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 381 ـ 382}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } حال من "نَفَسا" لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس : وهو أنّه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشرّ كان ضُرّه عليها.(10/347)
وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة "اللاّم" مرة وبواسطة ( علَى ) أخرى.
وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب ؛ لأنّ المطاوعة في اكتسب ليست على بابها ، وإنّما عبّر هنا مرة بكَسَبت وأخرى باكتسبت تفنّناً وكراهيةَ إعادة الكلمة بعينها ، كما فعل ذو الرمة في قوله :
ومُطعَممِ الصيد هَبَّال لبُغيته
ألفَى أباه بذاك الكَسْب مُكتسِبا...
وقول النابغة :
فحملت بَرّةَ واحتَمَلْتَ فجارِ
وابتدُىء أولاً بالمشهور الكثير ، ثم أعيد بمطاوعه ، وقد تَكون ، في اختيار الفعل الذي أصله دَالٌ على المطاوعة ، إشارةٌ إلى أنّ الشرور يأمر بها الشيطان ، فتأتمر النفس وتطاوعه وذلك تبْغيض من الله للناس في الذنوب.
واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات ، إشارة إلى أنّ الله يسوق إليها الناس بالفطرة ، ووقع في "الكشاف" أنْ فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال ، وكان الشرّ مشتهًى للنفس ، فهي تَجِدُّ تحصيله ، فعبّر عن فعلها ذلك بالاكتساب.
والمراد بما اكتسبت الشرور ، فمن أجل ذلك ظنّ بعض المفسرين أنّ الكسب هو اجتناء الخير ، والاكتساب هو اجتناء الشر ، وهو خلاف التحقيق ؛ ففي القرآن { ولا تكسب كلّ نفس إلاّ عليها } [ الأنعام : 164 ] ثم قيل للذين ظلموا { ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلاّ بما كنتم تكسبون } [ يونس : 52 ] وقد قيل : إنّ اكتسب إذا اجتمع مع كسب خُصّ بالعمل الذي فيه تكلّف.
لكن لم يرد التعبير باكتسبت في جانب فعل الخير.
وفي هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسبا واكتساباً ؛ فإنّ الله وصف نفسه بالقدرة.(10/348)
ولم يصف العباد بالقدرة ، ولا أسند إليهم فعل قَدَر وَإنّما أسند إليهم الكسب ، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد ، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد ، وقد قيل : إنّ أول من استعمل كلمة الكسب هو الحسين بن محمد النجار ، رأس الفرقة النجارية من الجبرية ، كان معاصِراً للنظام في القرن الثالث ، ولكن اشتهر بها أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي : "أدقُّ مِن كَسْب الأشعريّ".
وتعريف الكسب ، عند الأشعري : هو حالة للعبد يقارنها خَلْقُ الله فعلاً متعلَّقاً بها.
وعرّفه الإمام الرازي بأنّه صفة تَحصلُ بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله.
وللكسب تعاريف أخر.
وحاصل معنى الكسب ، وما دعا إلى إثباته : هو أنّه لما تقرر أنّ الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد ، وجب أن يقرّر عموم قدرته على كلّ شيء لئلاّ تكون قدرة الله غير متسلّطة على بعض الكائنات ، إعمالاً للأدلة الدالة على أنّ الله على كلّ شيء قدير ، وأنّه خالق كلّ شيء ، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصّصه ، فوجب إعمال هذا العموم.
ثم إنّه لما لم يجز أن يُدّعى كون العبد مجبوراً على أفعاله ، للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية ، كحركة المرتعش ، والأفعالِ الاختيارية ، كحركة الماشي والقاتِل ، ورعيا لحقيّة التكاليف الشرعية للعباد لئلاّ يكون التكليف عبثاً ، ولحقيّة الوعد والوعيد لئلاّ يكون باطلاً ، تعيّن أن تكون للعبد حالة تمكِّنه من فعل ما يريد فعله ، وترككِ ما يريد تركه ، وهي ميله إلى الفعل أو الترك ، فهذه الحالة سمّاها الأشعري الاستطاعة ، وسمّاها كسباً.
وقال : إنّها تتعلّق بالفعل فإذا تعلّقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها.(10/349)
وتقديم المجروريْن في الآية : لقصد الاختصاص ، أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها ، وكأنّ هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية : من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله.
وتمسّك بهذه الآية من رأى أنّ الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب ، إلاّ إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره ؛ ففي الحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقة جارية وعلم بثّه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له " وفي الحديث : " ما من نفس تُقتل ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها ذلك لأنّه أول من سنّ القتل " وفي الحديث : " من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ سنة سيِّئَة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 137 ـ 139}
فائدة
قال القرطبى :
في هذه الآية دليل على صِحّة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كَسْباً وَاكْتِساباً ؛ ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خَلَق ولا خَالِق ؛ خلافاً لمن أطلق ذلك من مُجْترِئَة المبتدعة.
ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد ، وأنه فاعل فبالمجاز المحْضِ.
وقال المَهْدَوِيّ وغيره : وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد.
قال ابن عطية : وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 431}
فائدة
قال ابن جزى :
جاءت العبارة بلها في الحسنات لأنها مما ينتفع العبد به وجاءت بعليها في السيئات لأنها مما يضر بالعبد وإنما قال في الحسنات كسبت وفي الشر اكتسبت لأن في الاكتساب ضرب من الاعتمال والمعالجة حسبما تقتضيه صيغة افتعل فالسيئات فاعلها يتكلف مخالفة أمر الله ويتعداه بخلاف الحسنات فإنه فيها على الجادة من غير تكلف أو لأن السيئات يجد في فعلها لميل النفس إليها فجعلت لذلك مكتسبة ولما لم يكن الإنسان في الحسنات كذلك وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. أ هـ {التسهيل حـ 1 صـ 99}(10/350)
فصل فى مسائل مهمة للعلامة الفخر
قال رحمه الله ما نصه :
المسألة الثانية : المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبد بإيجاده وتكوينه ، قالوا لأن الآية صريحة في إضافة خيره وشره إليه ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة ويجري صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتة والكلام فيه معلوم وبالله التوفيق ، قال القاضي : لو كان خالقاً أفعالهم فما الفائدة في التكليف ، وأما الوجه في أن يسألوه أن لا يثقل عليهم والثقيل على قولهم كالخفيف في أنه تعالى يخلقه فيهم وليس يلحقهم به نصب ولا لغوب.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة قالوا : لأنه تعالى أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع ، فبيّن أن لها ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت ، وهذا صريح في أن هذين الاستحقاقين يجتمعان ، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر ، قال الجبائي : ظاهر الآية وإن دل على الإطلاق إلا أنه مشروط والتقدير : لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم تبطله ، وعليها ما اكتسبت من العقاب إذا لم تكفره بالتوبة ، وإنما صرنا إلى إضمار هذا الشرط لما بينا أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة وأن العقاب يجب أن يكون مضرة خالصة دائمة ، والجمع بينهما محال في العقول ، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضاً محالاً.
واعلم أن الكلام على هذه المسألة مرّ على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى : {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} [ البقرة : 264 ] فلا نعيده.
المسألة الرابعة : احتج كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم ، ووجه الاستدلال ظاهر فيه ، ونظيره قوله تعالى : {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [ الأنعام : 164 ].(10/351)
المسألة الخامسة : الفقهاء تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الأصل في الإمساك البقاء والاستمرار ، لأن اللام في قوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يدل على ثبوت هذا الاختصاص ، وتأكد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : " كل امرىء أحق بكسبه من والده وولده وسائر الناس أجمعين " وإذا تمهد هذا الأصل خرج عليه شيء كثير من مسائل الفقه.
منها أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان ، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم ، وهو قوله : {لَهَا مَا كَسَبَتْ} والعارض الموجود ، إما الغضب ، وإما الضمان ، وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبرة.
ومنها أنه إذا غصب ساحة وأدرجها في بنائه ، أو غصب حنطة فطحنها لا يزول الملك لقوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ }.
ومنها أنه لا شفعة للجار ، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم ، وهو قوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ} والفرق بين الشريك والجار ظاهر بدليل أن الجار لا يقدم على الشريك ، وذلك يمنع من حصول الاستواء ولأن التضرر بمخالطة الجار أقل ولأن في الشركة يحتاج إلى تحمل مؤنة القسمة وهذا المعنى مفقود في الجار.
ومنها أن القطع لا يمنع وجوب الضمان ، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم ، وهو قوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ} والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقياً قائماً ، فإنه يجب رده على المالك ، ولا يكون القطع مقتضياً زوال ملكه عنه.
ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به ، وجوابه أن الدلائل الموجبة للزكاة أخص ، والخاص مقدم على العام ، وبالجملة فهذه الآية أصل كبير في فروع الفقه والله أعلم.(10/352)
ثم اعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين دعاءهم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء مخ العبادة " لأن الداعي يشاهد نفسه في مقام الفقر والحاجة والذلة والمسكنة ويشاهد جلال الله تعالى وكرمه وعزته وعظمته بنعت الاستغناء والتعالي ، وهو المقصود من جميع العبادات والطاعات فلهذا السبب ختم هذه السورة الشريفة المشتملة على هذه العلوم العظيمة بالدعاء والتضرع إلى الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 124 ـ 125}
قوله تعالى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه في دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي إعلاماً بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسياناً ولا بما قارفوه خطأ ولا حمل عليهم ثقلاً بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاً ولا حملهم فوق طاقتهم مع أن له جميع ذلك ،
وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم ،
ثم رحمهم بأن أحلهم محل القرب فجعلهم أهلاً للخلافة ؛ فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر ويظهر دينهم على كل دين ، إذ كان سبحانه وتعالى هو الداعي عنهم ،
وليكون الدعاء كله محمولاً على الإصابة ومشمولاً بالإجابة فقال سبحانه وتعالى : {ربنا لا تؤاخذنا} أي لا تفعل معنا فعل من يناظر خصماً فهو يناقشه على كل صغير وكبير {إن نسينآ} أي ففعلنا ما نهيتنا عنه {أو أخطأنا} أي فعلناه ذاكرين له لكنا لم نتعمد سوءاً.
قال الحرالي : والخطأ هو الزلل عن الحد عن غير تعمد بل مع عزم الإصابة أو ودّ أن لا يخطىء ،
وفي إجرائه من كلام الله سبحانه وتعالى على لسان عباده قبوله - انتهى.
وإعادة ربنا في صدر كل جملة من هذا الطراز كما تقدمت الإشارة إليه في التذكير بعظم المقام في حسن التربية ولطف الإحسان والرأفة.(10/353)
ولما كان ذلك قد يكون فإن له أن يكلف بما يشاء مع تحميل ما تعظم مشقته من التكاليف فإنه لا يسأل عما يفعل قال : {ربنا ولا تحمل علينا إصراً} أي ثقلاً.
قال الحرالي : هو العهد الثقيل أي الذي في تحمله أشد المشقة - انتهى.
ثم عظم المنة بقوله : {كما حملته على الذين من قبلنا} إشارة إلى أنه كان حمل على من سبق من الأحكام ما يهدّ الأركان تأكيداً لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا ،
وأصل الإصر العاطف ،
أصره الشيء يأصره : عطفه ،
ويلزمه الثقل لأن الغصن إذا ثقل مال وانعطف وهو المقصود هنا ؛ وتلك الآصار المشار إليها كثيرة جداً ،
منها ما في السفر الثاني من التوراة في القربان أنه ينضح من دك الذبيحة على زوايا المذبح ،
ثم قال : ومن تقرب بذبح ثور أو غيره في مكان غير باب قبة الزمان بيت الرب يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلاً لأنه سفك دماً ويهلك ذلك الرجل من شعبه ،
ومن أكل دماً نزل به الغضب وهلك لأن أنفس البهائم هي الدم ، وإنما أمروا أن يقربوه على المذبح لغفران خطاياهم وتطهير أنفسهم لأنه إنما يغفر للنفس بالدم ،
ومن قرب قرباناً أكل منه يوم ذبحه وثانيه ،
وما بقي في الثالث أحرق بالنار ،
ومن أكل منه هلك من شعبه ؛ ومن ذلك في ذوي العاهات أن من برص من الآدميين يجلس وحده ولا يختلط مع الناس ويكون سكنه خارجاً من محلة بني إسرائيل - حتى ذكر البرص في الثياب والبيوت وغيرها ،
فما برص من الجلود والثياب يقطع موضع البرص منه ،
فإن ظهر فيه بعد القطع أحرق كله بالنار ،
وإن ظهر في بيت برص يهدم وتجمع حجارته وخشبه وترابه خارجاً من القرية ويحرق بالنار ؛ وكذا مرض السلس فيه تشديدات كثيرة ،(10/354)
منها أن من جلس على ثوب عليه مسلوس يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجساً إلى الليل - ونحو هذا ؛ ثم قال : وكلم الرب موسى وقال له : هذه سنة الأبرص الذي يتطهر : يقدم إلى الكاهن ويخرجه خارجاً من العسكر وينظر الحبر إن كانت ضربة البرص قد برأت وتطهر منها يأمر الحبر فيقدم ، ويؤتى بعصفورين حيين زكيين ،
وعود من خشب الأرز ، وعهنة حمراء - وعد أشياء أخرى ؛ وقرباناً على كيفية مخصوصة صعبة على عين ماء ،
ويغسل ثيابه وبدنه ، ويحلق شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وكل شعر جسده ، وأنه يمكث خارجاً من بيته سبعة أيام ،
وفي اليوم الثامن يأتي بقربان آخر فيقرب على كيفية مخصوصة ، وينضح الكاهن من دمه على ثياب وبدن هذا الذي تطهر من البرص ، وكذا من زيت قربانه ، ويصب بقيته على رأسه.
وكذا في مرض السلس إذا برأ المسلوس يمكث سبعة أيام ،
ثم يتطهر ويغسل ثيابه ،
ويقرب قرباناً في باب قبة الزمان.
وقال : وأي رجل أمذى أو خرج منه منيه يغسل جسده كله بالماء ، ويكون نجساً إلى الليل ؛ ومن دنا من الحائض يكون نجساً إلى الليل وأي ثوب أو فراش وقعت عليه جنابة يغسل بالماء ويكون نجساً إلى الليل وأي ثوب رقدت عليه وهي حائض كان نجساً ،
ومن دنا من فراشها يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجساً إلى الليل ، وكذا المستحاضة.
وفيه أيضاً : وكلم الرب موسى وقال له : كلم بني إسرائيل وقل لهم : المرأة إذا حبلت وولدت ذكراً تكون نجسة سبعة أيام كما تكون في أيام حيضها ،
وفي اليوم الثامن يختن الصبي ،
وتكون نجسة وتجلس مكانها ثلاثة وثلاثين يوماً ،
لا تدنو من شيء مقدس ،
ولا تدخل بيت الله سبحانه وتعالى لأن الصلاة محرمة عليها حتى تتم أيام تطهيرها ؛ فإن ولدت جارية تكون مثل نجاستها في أيام حيضها أربعة عشر يوماً وتجلس مكانها على الدم الزكي ستة وستين يوماً ،(10/355)
فإذا كملت أيام تطهيرها ابناً ولدت أو بنتاً تجيء بحمل حول - فذكر قرباناً في قبة الزمان على يد الكاهن لتطهر مما كان يجري منها من الدم.
ومن الآصار ما في السفر الثاني أيضاً من أنهم إذا حصدوا أرضاً أو قطفوا كرماً حرم عليهم الاستقصاء وأمروا أن يتركوا للمساكين ،
ثم قال : ولا تلتقطوا ما ينتثر من زيتونكم بل دعوه للمساكين والذين يقبلون إليّ لأني أنا الله ربكم ،
ثم قال : فإذا دخلتم الأرض وغرستم فيها كل شجر يثمر ثماراً تؤكل فدعوها ثلاث سنين ولا تأكلوا من ثمارها ،
فإذا كان في السنة الرابعة صيروا جميع ثمار شجركم حرمة للرب ومجداً لإكرامه ،
وفي السنة الخامسة كلوا ثمارها فإنها تنمو وتزداد لكم غلاتها ، أنا الله ربكم! وقال في أواخر السفر الخامس وهو آخر أسفارها : لا تحيفوا على المسكين واليتيم والساكن بينكم في القضاء ، ولا تأخذوا ثوب الأرملة رهناً ،
واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر وأنقذكم الرب من هناك ،
لذلك آمركم وأقول لكم إنه واجب عليكم أن تفعلوا مثل هذا الفعل ، وإذا حصدتم حقل أرضكم ونسيتم حزمة لا ترجعوا في طلب أخذها بل تكون للساكن ولليتيم والأرملة ،
ليبارك الله ربكم في جميع أعمال أيديكم ؛ وإذا نثرتم زيتونكم فلا تطلبوا ما نسيتم في حقلكم بل يكون لليتيم والساكن والأرملة ؛ وإذا قطعتم كرومكم لا تستقصوا ما فيها بل دعوها ما يعيش به الساكن واليتيم والأرملة ؛ واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر ،
لذلك آمركم أن تفعلوا هذا الفعل - وأما ما على النصارى من ذلك فسيأتي كثير منه إن شاء الله تعالى في المائدة عند قوله تعالى {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [ المائدة : 47 ]. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 557 ـ 559}
فصل
قال الفخر :(10/356)
اعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء ، وذكر في مطلع كل واحد منها قوله {رَبَّنَا} إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله {واعف عَنَّا واغفر لَنَا }.
أما النوع الأول فهو قوله {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا ، وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد ، لأن الناسي قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ، فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة ، فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم ، فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو ، فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به ، فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 125}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } المعنى : أعف عن إثْم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما ؛ كقوله عليه السلام : " رفع عن أُمتى الخطأ والنسيان وما استكرِهوا عليه " أي إثم ذلك.
وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع ، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام ، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء أو يلزم أحكام ذلك كله ؟ اختلف فيه.
والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع ، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات.
وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنّطق بكلمة الكفر.
وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسياً في رمضان أو حنِث ساهياً ، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسياناً ؛ ويعرف ذلك في الفروع. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 431 ـ 432}(10/357)
وقال أبو حيان :
{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } هذا على إضمار القول ، أي : قولوا في دعائكم : ربنا لا تؤاخذنا ، والدعاء مخّ العبادة ، إذ الداعي يشاهد نفسه في مقام الحاجة والذلة والافتقار ، ويشاهد ربه بعين الاستغناء والإفضال ، فلذلك ختمت هذه الصورة بالدعاء والتضرع ، وافتتحت كل جملة منها بقولهم : ربنا ، إيذاناً منهم بأنهم يرغبون من ربهم الذي هو مربيهم ، ومصلح أحوالهم ، ولأنهم مقرون بأنهم مربوبون داخلون تحت رق العبودية والافتقار. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 382}
وقال ابن عاشور :
والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا يُنسخ ذلك من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ].
والمؤاخذة مشتقّة من الأخذ بمعنى العقوبة ، كقوله : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } [ هود : 102 ] والمفاعلة فيه للمبالغة أي لا تأخذنا بالنسيان والخطأ.
والمراد ما يترتّب على النسيان والخطأ من فِعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى.
فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أنّ الله رفع عنهم ذلك بقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وفي رواية : " وضع " رواه ابن ماجه وتكلم العلماء في صحته ، وقد حسّنه النووي ، وأنكره أحمد ، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى الخطاب الوضع.
فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالإتلاف والغرامات ولذلك جاء في هذه الدعوة "لا تؤاخذنا" أي لا تؤاخذنا بالعقاب على فعلٍ : نسيانٍ أو خطأ ، فلا يرد إشكال الدعاء بما عُلم حصوله ، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأنّ المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في "الكشاف". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 140}
فصل
قال الفخر :
في النسيان وجهان(10/358)
الأول : أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر.
فإن قيل : أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا كان النسيان في محل العفو قطعاً فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء ".
والجواب : عنه من وجوه
الأول : أن النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ، ومنه ما لا يعذر ألا ترى أن من رأى في ثوبه دماً فأخر إزالته إلى أن نسي فصلّى وهو على ثوبه عد مقصراً ، إذ كان يلزمه المبادر إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه ، ومن رمى صيداً في موضع فأصاب إنساناً فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوماً أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنساناً كان ههنا معذوراً ، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون ملوماً ، وأما إذا واظب على القراءة ، لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذوراً ، فثبت أن النسيان على قسمين ، منه ما يكون معذوراً ، ومنه ما لا يكون معذوراً ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطاً في أصبعه فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذوراً ، وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر ، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء.
الوجه الثاني في الجواب : أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته ، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل : إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به.(10/359)
الوجه الثالث في الجواب : أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى ، لا طلب الفعل ، ولذلك فإن الداعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع ، قال الله تعالى : {قَالَ رَبّ احكم بالحق} [ الأنبياء : 112 ] وقال : {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} [ آل عمران : 194 ] وقالت الملائكة في دعائهم {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} [ غافر : 7 ] فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء.
الوجه الرابع في الجواب : أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلاً ، وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذاً فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر ، فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس ، فلما كان ذلك جائزاً في العقول ، لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء.
الوجه الخامس : أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل ، فلولا أنه جائز عقلاً من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه.
والقول الثاني : في تفسير النسيان ، أن يحمل على الترك ، قال الله تعالى : {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [ طه : 115 ] وقال تعالى : {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [ التوبة : 67 ] أي تركوا العمل لله فتركهم ، ويقول الرجل لصاحبه : لا تنسني من عطيتك ، أي لا تتركني ، فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد ، والمراد بالخطأ ، أن يفعل الفعل لتأويل فاسد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 125 ـ 126}
قال القاسمى :
وقد ولع كثير من المفسرين ههنا بالبحث فى أن النسيان والخطأ معفو عنهما ، فما فائدة طلب العفو عنهما ؟
وأجابوا عن ذلك بوجوه.
وأرق جواب رأيته قول العلامة بير محمد فى المدحة الكبرى : لما كان طالب العفو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأنصار والمهاجرون ومن كان على شاكلتهم فكأنهم يعدون النسيان من العصيان والخطأ من الخطيئة.
كقوله تعالى {والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون}.(المؤمنون : 60). أ هـ {محاسن التأويل حـ 1 صـ 289}(10/360)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : النِّسْيَانُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ قَدْ يَتَعَرَّضُ الْإِنْسَانُ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَقَعُ مَعَهُ النِّسْيَانُ فَيُحْسِنُ الِاعْتِذَارَ بِهِ إذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ.
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ النِّسْيَانُ بِمَعْنَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِشُبْهَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ أَوْ سُوءِ تَأْوِيلٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ نَفْسُهُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَيَحْسُنُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ مَغْفِرَةَ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَالنِّسْيَانُ بِمَعْنَى التَّرْكِ مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } يَعْنِي تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَسْتَحِقُّوا ثَوَابَهُ ، فَأَطْلَقَ اسْمَ النِّسْيَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ مُقَابَلَةِ الِاسْمِ كَقَوْلِهِ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَوْلِهِ : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }.(10/361)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ فَإِنَّ حُكْمَهُ مَرْفُوعٌ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ ، وَالتَّكْلِيفُ فِي مِثْلِهِ سَاقِطٌ عَنْهُ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ جَائِزَةٍ ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِيمَا يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَصَّ عَلَى لُزُومِ حُكْمِ كَثِيرٍ مِنْهَا مَعَ النِّسْيَانِ ، وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ أَيْضًا عَلَى حُكْمِهَا ؛ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا وَتَلَا عِنْدَ ذَلِكَ : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } فَعَلَ الْمَنْسِيَّةَ مِنْهَا عِنْدَ الذِّكْرِ.
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي لُزُومِهِ قَضَاءُ كُلِّ مَنْسِيٍّ عِنْدَ ذِكْرِهِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ نَاسِيَ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْفُرُوضِ بِمَنْزِلَةِ نَاسِي الصَّلَاةِ فِي لُزُومِ قَضَائِهَا عِنْدَ ذِكْرِهَا ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُتَكَلِّمِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا : إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِدِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْعَامِدَ وَالنَّاسِيَ فِي حُكْمِ الْفُرُوضِ سَوَاءٌ ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلنِّسْيَانِ فِي إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا مَا وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ ؛ وَلَا خِلَافَ أَنَّ تَارِكَ الطَّهَارَةِ نَاسِيًا كَتَارِكِهَا عَامِدًا فِي بُطْلَانِ حُكْمِ صَلَاتِهِ.(10/362)
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْأَكْلِ فِي نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا : إنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ إيجَابُ الْقَضَاءِ ؛ وَإِنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ.
وَمَعَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّ النَّاسِيَ مُؤَدٍّ لِفَرْضِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ ؛ إذْ لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ غَيْرَهُ ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ فَرْضٌ آخَرُ أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، فَكَانَ تَأْثِيرُ النِّسْيَانِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ فَحَسْبُ ، فَأَمَّا فِي لُزُومِ فَرْضٍ فَلَا.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ } مَقْصُورٌ عَلَى الْمَأْثَمِ أَيْضًا دُونَ رَفْعِ الْحُكْمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى لُزُومِ حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَإِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ؟ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسْيَانَ مَعَ الْخَطَإِ ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 278}(10/363)
فائدة
قال الماوردى :
{ أَوْ أَخْطَأْنَا } فيه تأويلان :
أحدهما : ما تأولوه من المعاصي بالشبهات.
والثاني : ما عمدوه من المعاصي التي هي خطأ تخالف الصواب.
وقد فَرَّقَ أهل اللسان بين " أخطأ " وخطيء ، فقالوا : " أخطأ " يكون على جهة الإِثم وغير الإِثم ، وخطىء : لا يكون إلا على جهة الإِثم ، ومنه قول الشاعر :
والناس يَلْحُون الأَميرَ إذا هُمُ... خطئوا الصوابَ ولا يُلام المرْشدُ. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 364}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي ، أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر ، فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر ، لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلاً في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم {لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فكان ذلك أمراً من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي ، ولما أمرهم بطلب ذلك ، دلّ على أنه يعطيهم هذا المطلوب ، وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر ، وأما القسم الثاني والثالث فباطلان لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم ، وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء.
فإن قيل : الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصداً وعمداً على ما قررتم في المسألة المتقدمة.
قلنا : فهو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصداً وعمداً ، فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه عمداً ، وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 126 ـ 127}(10/364)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } : " وُسْعَهَا " مفعولٌ ثانٍ ، وقال ابن عطية : " يُكَلِّفُ يتعدَّى إلى مفعولين ، أحدهما محذوفٌ ، تقديره : عبادةً أو شيئاً ". قال أبو حيان : " إن غَنَى أنَّ أصله كذا ، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله : " إِلاَّ وُسْعَهَا " استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني ، وإن عَنَى أنَّ أصله كذا ، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله : " إِلاَّ وُسْعَهَا " استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني ، وإن عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصنعة ، فليس كذلك ، بل الثاني هو " وُسْعَهَا " ؛ نحو : " مَا أَعْطَيْتُ زَيْداً إِلاَّ دِرْهَماً " ، و" مَا ضَرَبْتُ إِلاَّ زَيْداً " هذا في الصناعة هو المفعول ، وإن كان أصله : ما أعْطَيْتُ زَيْداً شَيْئاً إِلاَّ دِرْهَماً "
قوله : { لاَ تُؤَاخِذْنَا } يقرأ بالهمزة ، وهو من الأخذ بالذَّنب ، ويقرأ بالواو ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون من الأخذ أيضاً ، وإنما أُبدلت الهمزة واواً؛ لفتحها وانضمام ما قبلها ، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ ، ويحتمل أن يكون من : واخذه بالواو ، قاله أبو البقاء. وجاء هنا بلفظ المفاعلة ، وهو فعل واحدٍ؛ لأنَّ المسيء قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله؛ فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه ، ويأخذ به على نفسه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 530 ـ 536}. بتصرف.(10/365)
قوله تعالى : { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما دعوا بما تضمن الإيمان بما نزل إليهم مما حمل من كان قبلهم من الثقل أتبعوه ما يدل على اعتقادهم أن ذلك عدل منه في القضاء ، وأنه له أن يفعل فوق ذلك فيكلف بما ليس في الوسع ، لأنه المالك التام المِلك والمَلِك المنفرد بالمُلك ،
وسألوا التخفيف برفع ذلك فقالوا : {ربنا ولا} وعبر بالتفعيل لما فيه بما يفهم من العلاج من مناسبة التكليف بما لا يطاق فقال : {تحملنا ما لا طاقة} أي قدرة {لنا به }.
ولما كان الإنسان قد يتعمد الذنب لشهوة تدعوه إليه وغرض يحمله عليه أتبعوا ذلك دعاء عاماً فقالوا : {واعف عنا} أي ارفع عنا عقاب الذنوب كلها {واغفر لنا} أي ولا تذكرها لنا أصلاً ،
فالأول العفو عن عقاب الجسم ،
والثاني العفو عن عذاب الروح.
وقال الحرالي : ولما كان قد يلحق من يعفى عنه ويغفر له قصور في الرتبة عن منال الحظ من الرحمة ألحق تعالى المعفو عنه المغفور له بالمرحوم ابتداء بقوله : {وارحمنا} أي حتى يستوي المذنب التائب والذي لم يذنب قط في منال الرحمة.
ولما ضاعف لهم تعالى عفوه ومغفرته ورحمته أنهاهم بذلك إلى محل الخلافة العاصمة {لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم} [ هود : 43 ] فلما صاروا خلفاء تحقق منهم الجهاد لأعداء الله والقيام بأمر الله ومنابذة من تولى غير الله ، فتحقق أنه لا بد أن يشاققهم أعداء وينابذوهم ،
فعلمهم الذي رحمهم سبحانه إسناد أمرهم بالولاية إليه قائلاً عنهم : {أنت مولانا} والمولى هو الولي اللازم الولاية القائم بها الدائم عليها لمن تولاه بإسناد أمره إليه فيما ليس هو بمستطيع لها - انتهى بالمعنى.
وكان حقيقته الفاعل لثمرة الولاية وهي القرب والإقبال ،
وذلك أنهم لما سألوا العفو عن عذاب الجسم والروح سألوا ثوابهما ،
فثواب الجسم الجنة وثواب الروح لذة الشهود وذلك ثمرة الولاية وهي الإقبال على الولي بالكلية ،(10/366)
ثم جعل ختام توجه المؤمنين إلى ربهم الدعاء بثمرة الولاية فقال : {فانصرنا} باللسان والسنان ،
وأشار إلى قوة المخالفين حثاً على تصحيح الالتجاء والصدق في الرغبة بقوله : {على القوم} وأشار إلى أن الأدلة عليه سبحانه في غاية الظهور لكل عاقل بقوله : {الكافرين} أي الساترين للأدلة الدالة لهم على ربهم المذكورين أول السورة ،
فتضمن ذلك وجوب قتالهم وأنهم أعدى الأعداء ،
وأن قوله تعالى {لا إكراه في الدّين} [ البقرة : 256 ] ليس ناهياً عن ذلك وإنما هو إشارة إلى أن الدّين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلاً عن الإحواج إلى إرهاب ،
فمن نصح نفسه دخل فيه بما دله عليه عقله ،
ومن أبى أدخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام.
ولما كان الختم بذلك مشيراً إلى أنه تعالى لما ضاعف لهم عفوه عن الذنب فلا يعاقب عليه ومغفرته له بحيث يجعله كأن لم يكن فلا يذكره أصلاً ولا يعاقب عليه ورحمته في إيصال المذنب المعفو عنه المغفور له إلى المنازل العالية أنهاهم إلى رتبة الخلافة في القيام بأمره والجهاد لأعدائه وإن جل أمرهم وأعنى حصرهم كان منبهاً على أن بداية هذه الصورة هداية وخاتمتها خلافة ،
فاستوفت تبيين أمر النبوة إلى حد ظهور الخلافة فكانت سناماً للقرآن ، وكان جماع ما في القرآن منضماً إلى معانيها إما لما صرحت به أو لما ألاحته وأفهمه إفصاح من إفصاحها كما تنضم هي مع سائر القرآن إلى سورة الفاتحة فتكون أماً للجميع - أفاد ذلك الأستاذ أبو الحسن الحرالي.
وقد بان بذكر المنزل والإيمان به والنصرة على الكفار بعد تفصيل أمر النفقة والمال الذي ينفق منه رد مقطعها على مطلعها وآخرها على أولها ، (10/367)
ومن الجوامع العظيمة في أمرها وشمول معناها المبين لعلو قدرها ما قال الحرالي إنه لما كان منزل هذا القرآن المختص بخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين منزلاً حروفاً محيطة المعاني مخاطباً بها النبي والأئمة وتفصيل آيات مخاطباً به عامة الأمة انتظمت هذه السورة صنفي الخطابين فافتتحت بالم حروفاً منبئة عن إحاطة بما تضمنته معانيها من إحاطة القائم من معنى الألف وإحاطة المقام من معنى الميم وإحاطة الوصلة من معنى اللام ؛ ولما كانت الإحاطة في ثلاث رتب إحاطة إلهية قيومية وإحاطة كتابية وإحاطة تفصيلية كانت الإحاطة الخاصة بهذه الأحرف التي افتتحت بها هذه السورة إحاطة كتابية متوسطة ،
فوقع الافتتاح فيما وقع عليه أمر القرآن في تلاوته في الأرض بالرتبة المتوسطة من حيث هي أقرب للطرفين وأيسر للاطلاع على الأعلى والقيام بالأدنى ،
فكان ما كان في القرآن من {الم تلك آيات الكتاب الحكيم} [ لقمان : 26 ] ونحوه تفصيل إحاطة من إحاطة الكتاب التي أنزلت فيها سورة البقرة ،
فكانت مشتملة على إحاطات الكتب الأربعة : كتاب التقدير الذي كتبه الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلائق بما شاء الله من أمد وعدد ،
ورد " أن الله كتب الكتاب وقضى القضية وعرشه على الماء " ، و" أن الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف عام " وأنه قدر الأرزاق قبل أن يخلق الصور بألفي عام - وكثير من ذلك مما ورد في الأخبار ؛ وفي مقابلة هذا الكتاب السابق بالتقدير الكتاب اللاحق بالجزاء الذي كتبه الله سبحانه وتعالى ويكتبه أثر تمام الإبداء باستبقاء الأعمال البادية على أيدي الخلق الذين ينالهم النعيم والجحيم والأمن والروع والكشف والحجاب ؛ وهذا الكتاب الآخر مطابق للكيان الأول ، ويبين بتطرقهما كتاب الأحكام المتضمن لأمر الدين والدعوة الذي وقعت فيه الهداية والفتنة ، (10/368)
ثم كتاب الأعمال الذي كتبه الله سبحانه وتعالى في ذوات المكلفين من أفعالهم وأحوال أنفسهم وما كتب في قلوبهم من إيمان أو طبع علهيا أو ختم عليها بفجور أو طغيان ؛ فتطابقت الأوائل والأواخر واختلف كتاب الأحكام وكتاب الأعمال بما أبداه الله سبحانه وتعالى من وراء حجاب من معنى الهدى والفتنة والإقدام والإحجام ،
فتضمنت سورة البقرة إحاطات جميع هذه الكتب واستوفت كتاب الأقدار بما في صدرها من تبيين أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين ، وكتاب الأفعال كما ذكر سبحانه وتعالى أمر الختم على الكافرين والمرض في قلوب المنافقين ،
وما يفصل في جميع السورة من أحكام الدين وما يذكر معها مما يناسبها من الجزاء من ابتداء الإيمان إلى غاية الإيقان الذي انتهى إليه معنى السورة فيما بين الحق والخلق من أمر الدين ، وفيما بين الخلق والخلق من المعاملات والمقاومات ،
وفيما بين المرء ونفسه من الأيمان والعهود ،
إلى حد ختمها بما يكون من الحق للخلق في استخلاف الخلفاء الذين ختم بذكرهم هذه السورة الذين قالوا : {غفرانك ربنا} إلى انتهائها ؛ ولما كان مقصود هذه السورة الإحاطة الكتابية كان ذلك إفصاحها ومعظم آياتها وكانت الإحاطة الإلهية القيومية إلاحتها ونور آياتها ،
فكان ذلك في آية الكرسي تصريحاً وفي سائر آيها الإحة بحسب قرب الإحاطة الكتابية من الإحاطة الإلهية ،
وفي بدء سابق أو ختم لاحق أو حكمة جامعة ،
فلذلك انتظم بالسورة التي ذكرت فيها البقرة السورة التي يذكر فيها آل عمران ،
لما نزل في سورة آل عمران من الإحاطة الإلهية حتى كان في مفتتحها اسم الله الأعظم ،
فكان ما في البقرة إفصاحاً في سورة آل عمران إلاحة ،
وكان ما في البقرة إلاحة في سورة آل عمران إفصاحاً ،
إلا ما اطلع في كل واحدة منهما من تصريح الأخرى ؛ فلذلك هما سورتان مرتبطتان وغيايتان وغمامتان تظلان صاحبهما يوم القيامة ، (10/369)
وبما هما من الذكر الأول وبينهما من ظاهر التفاوت ما بين الإحاطة الكتابية وبين الإحاطة الإلهية فلذلك كانت سورة البقرة سناماً له والسنام أعلى ما في الحيوان المنكب وأجمله جملة وهو البعير ،
وكانت سورة آل عمران تاج القرآن والتاج هو أعلى ما في المخلوقات من الخلق القائم المستخلف في الأرض ظاهره وفي جميع المكون إحاطته ؛ فوقع انتظام هاتين السورتين على نحو من انتظام الآي يتصل الإفصاح في الآية بإلاحة سابقتها كما تقدم التنبيه عليه في مواضع - انتهى.
وسر ترتيب سورة السنام على هذا النظام أنه لما افتتحها سبحانه وتعالى بتصنيف الناس الذين هم للدين كالقوائم الحاملة لذي السنام فاستوى وقام ابتداء المقصود بذكر أقرب السنام إلى أفهام أهل القيام فقال مخاطباً لجميع الأصناف التي قدمها {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [ البقرة : 21 ] واستمر إلى أن بان الأمر غاية البيان فأخذ يذكر مننه سبحانه على الناس المأمورين بالعبادة بما أنعم عليهم من خلق جميع ما في الوجود لهم بما أكرم به أباهم آدم عليه الصلاة والسلام ،
ثم خص العرب ومن تبعهم ببيان المنة عليهم في مجادلة بني إسرائيل وتبكيتهم ،
وهو سبحانه وتعالى يؤكد كل قليل أمر الربوبية والتوحيد بالعبادة من غير ذكر شيء من الأحكام إلا ما انسلخ منه بنو إسرائيل ،
فذكره على وجه الامتنان به على العرب وتبكيت بني إسرائيل بتركه لا على أنه مقصود بالذات ، (10/370)
فلما تزكوا فترقوا فتأهلوا لأنواع المعارف قال معلياً لهم من مصاعد الربوبية إلى معارج الإلهية {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو} [ البقرة : 163 ] فلما تسنموا هذا الشرف لقنهم العبادات المزكية ونقاهم أرواحها المصفية فذكر أمهات الأعمال أصولاً وفروعاً الدعائم الخمس والحظيرة وما تبع ذلك من الحدود في المآكل والمشارب والمناكح وغير ذلك من المصالح فتهيؤوا بها وأنها المواردات الغر من ذي الجلال فقال مرقياً لهم إلى غيب حضرته الشماء ذاكراً مسمى جميع الأسماء {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [ البقرة : 255 ] ولما كان الواصل إلى أعلى مقام الحرية لا بد عند القوم من رجوعه إلى ربقة العبودية ذكر لهم بعض الأعمال اللائقة بهم ، فحث على أشياء أكثرها من وادي الإحسان الذي هو مقام أولي العرفان ، فذكر مثل النفقة التي هي أحد مباني السورة عقب ما ذكر مقام الطمأنينة إيذاناً بأن ذلك شأن المطمئن ،
ورغب فيها إشارة إلى أنه لا مطمع في الوصول إلا بالانسلاخ من الدنيا كلها ، وأكثر من الحث على طيب المطعم الذي لا بقاء بحال من الأحوال بدونه ،
ونهى عن الربا أشد نهي إشارة إلى التقنع بأقل الكفاف ونهياً عن مطلق الزيادة للخواص وعن كل حرام للعوام ،
وأرشد إلى آداب الدين الموجب للثقة بما عند الله المقتضي بصدق التوكل المثمر للعون من الله سبحانه وتعالى والإرشاد إلى ذلك ،
توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو متلبس به ؛ وبنى سبحانه وتعالى كل ثلث من هذه الأثلاث على مقدمة في تثبيت أمره وتوجه بخاتمة في التحذير من التهاون به ،
وزاد الثالث لكونه الختام وبه بركة التمام أن أكد عليهم بعد خاتمته في الإيمان بجميع ما في السورة ،
وختم بالإشارة إلى أن عمدة ذلك الجهاد الذي لذوي الغي والعناد ، والاعتماد فيه على مالك الملك وملك العباد ،
وذلك هو طريق أهل الرشاد ، والهداية والسداد والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 560 ـ 564}(10/371)
قال ابن عاشور :
وقوله : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } إلخ فصلّ بين الجملتين المتعاطفتين ، بإعادة النداء ، مع أنّه مستغنى عنه : لأنّ مخاطبة المنادى مغنِيَة عن إعادَة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلّل.
والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس ، وهو مناسب لاستعارة الإصر.
وأصل معنى الإصر ما يُؤصَر به أي يُربط ، وتعقد به الأشياء ، ويقال له : الإصار بكسر الهمزة ثم استعمل مجازاً في العهد والميثاق المؤكّد فيما يصعب الوفاء به ، ومنه قوله في آل عمران ( 81 ) : { قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } وأطلق أيضاً على ما يثقل عمله ، والامتثالُ فيه ، وبذلك فسّره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله ، في سورة الأعراف ( 157 ) : { ويضع عنهم إصرهم } وهو المقصود هنا ، ومن ثم حسنت استعارة الحَمْل للتكليف ، لأنّ الحمل يناسب الثِقَل فيكون قوله : ولا تحمِلْ } ترشيحاً مستعاراً لملائم المشبّه به وعن ابن عباس : { ولا تحمل علينا إصراً } عهداً لا نفي به ، ونعذّب بتركه ونقضه".
وقوله : { كما حملته على الذين من قبلنا } صفة لـ { إصراً } أي عهداً من الدين ، كالعهد الذي كلّف به من قبلنا في المشقة ، مثل ما كلّف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقّة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة ، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك ، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات ، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم ، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم " ويضع عنهم إصرهم ". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 140 ـ 141}
وقال الماوردى :
{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : إصراً أي عهداً نعجز عن القيام به ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة.
الثاني : أي لا تمسخنا قردة وخنازير ، وهذا قول عطاء.
الثالث : أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة ، قاله ابن زيد.(10/372)
الرابع : الإِصر : الثقل العظيم ، قاله مالك ، والربيع ، قال النابغة :
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم... والحامل الإِصر عنهم بعدما عرضوا. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 364}
فصل
قال الفخر :
ذكر أهل التفسير فيه وجهين(10/373)
الأول : لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود ، قال المفسرون : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها ، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجلت لهم العقوبة في الدنيا ، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالاً لهم ، قال الله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [ النساء : 160 ] وقال تعالى : {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دياركم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} [ النساء : 66 ] وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر ، وكان عذابهم معجلاً في الدنيا ، كما قال : {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} [ النساء : 47 ] وكانوا يمسخون قرد وخنازير ، قال القفال : ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة ، فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات ، وهو بفضله ورحمته قد أزال ذلك عنهم ، قال الله تعالى في صفة هذه الأمة {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [ الأعراف : 157 ] وقال عليه السلام : " رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق " وقال الله تعالى : {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [ الأنفال : 33 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير ، والتقصير موجب للعقوبة ، ولا طاقة لهم بعذاب الله تعالى ، فلا جرم طلبوا السهولة في التكاليف.(10/374)
والقول الثاني : لا تحمل علينا عهداً وميثاقاً يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة ، وهذا القول يرجع إلى الأول في الحقيقة لكن بإضمار شيء زائد على الملفوظ ، فيكون القول الأول أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 127}
فصل
قال الفخر :
لقائل أن يقول : دلّت الدلائل العقلية والسمعية على أنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين ، فما السبب في أن شدد التكليف على اليهود حتى أدى ذلك إلى وقوعهم في المخالفات والتمرد ، قالت المعتزلة : من الجائز أن يكون الشيء مصلحة في حق إنسان ، مفسدة في حق غيره ، فاليهود كانت الفظاظة والغلظة غالبة على طباعهم ، فما كانوا ينصلحون إلا بالتكاليف الشاقة والشدة ، وهذه الأمة كانت الرقة وكرم الخلق غالباً على طباعهم ، فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ.
أجاب الأصحاب بأن السؤال الذي ذكرناه في المقام الأول ننقله إلى المقام الثاني فنقول : ولماذا خص اليهود بغلظة الطبع ، وقسوة القلب ودناءة الهمة ، حتى احتاجوا إلى التشديدات العظيمة في التكاليف ولماذا خص هذه الأمة بلطافة الطبع وكرم الخلق وعلو الهمة حتى صار يكفيهم التكاليف السهلة في حصول مصالحهم.
ومن تأمل وأنصف علم أن هذه التعليلات عليلة فجل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال ، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [ الأنبياء : 23 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 127 ـ 128}
قوله تعالى : {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }
فصل
قال الفخر :
من الأصحاب من تمسك به في أن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزاً لما حسن طلبه بالدعاء من الله تعالى.
أجاب المعتزلة عنه من وجوه
الأول : أن قوله {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي يشق فعله مشقة عظيمة وهو كما يقول الرجل : لا أستطيع أن أنظر إلى فلان إذا كان مستثقلاً له.
قال الشاعر : (10/375)
إنك إن كلفتني ما لم أطق.. ساءك ما سرك مني من خلق
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك : " له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " أي ما يشق عليه ، وروى عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المريض يصلي جالساً ، فإن لم يستطع فعلى جنب " فقوله : فإن لم يستطع ليس معناه عدم القوة على الجلوس ، بل كل الفقهاء يقولون : المراد منه إذا كان يلحقه في الجلوس مشقة عظيمة شديدة ، وقال الله تعالى في وصف الكفار {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} [ هود : 20 ] أي كان يشق عليهم.
الوجه الثاني : أنه تعالى لم يقل : لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به ، بل قال : {لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} والتحميل هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمله فيكون المراد منه العذاب والمعنى لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله {لا تُحَمّلْنَا} حقيقة فيه ولو حملناه على التكليف كان قوله {لا تُحَمّلْنَا} مجازاً فيه ، فكان الأول أولى.
الوجه الثالث : هب أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه ، لأنه لو دل على ذلك لدل قوله {رَبّ احكم بالحق} [ الأنبياء : 112 ] على جواز أن يحكم بباطل ، وكذلك يدل قول إبراهيم عليه السلام {وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [ الشعراء : 87 ] على جواز أن يخزي الأنبياء ، وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [ الأحزاب : 48 ] ولا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين والمنافقين وكذا الكلام في قوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [ الزمر : 65 ] هذا جملة أجوبة المعتزلة.
أجاب الأصحاب فقالوا :
أما الوجه الأول : فمدفوع من وجهين(10/376)
الأول : أنه لو كان قوله {وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} محمولاً على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} واحداً فتكون هذه الآية تكراراً محضاً وذلك غير جائز الثاني : أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة ، فقوله {لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة.
وأما الوجه الثاني : فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف ، قال الله تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات} [ الأحزاب : 72 ] إلى قوله {وَحَمَلَهَا الإنسان} [ الأحزاب : 72 ] ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله {لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز.
وأما الوجه الثالث : فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ويصير ذلك جارياً مجرى من يقول في دعائه وتضرعه : ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثاً ، كما أن ذلك غير جائز ، فكذا ما ذكرتم.
إذا ثبت هذا فنقول : هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل وبالله التوفيق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 128 ـ 129}
فائدة
قال ابن جزى :
هذا الدعاء دليل على جواز تكليف ما لا يطاق لأنه لا يدعى برفع ما لا يجوز أن يقع ثم إن الشرع دفع وقوعه وتحقيق ذلك أن ما لا يطاق أربعة أنواع الأول عقلي محض كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن فهذا جائز وواقع بالاتفاق والثاني عادي كالطيران في الهواء والثاني عقلي وعادي كالجمع بين الضدين فهذان وقع الخلاف في جواز التكليف بهما والاتفاق على عدم وقوعه والرابع تكليف ما يشق ويصعب فهذا جائز اتفاقا فقد كلفه الله من تقدر من الأمم ورفعه عن هذه الأمة. أ هـ {التسهيل حـ 1 صـ 99}(10/377)
أسئلة وأجوبة للإمام الفخر :
السؤال الأول : لم قال في الآية الأولى {لاَّ تَحْمِلُ عَلَيْنَا إِصْرًا} وقال في هذه الآية {لا تُحَمّلْنَا} خص ذلك بالحمل وهذا بالتحميل.
الجواب : أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدوراً لا يمكن حمله ، فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن وأما الشاق فالحمل والتحميل يمكنان فيه ، فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل.
السؤال الثاني : أنه لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق قوله {لاَّ تَحْمِلُ عَلَيْنَا إِصْرًا} كان من لوازمه أن لا يكلفه ما لا يطاق ، وعلى هذا التقدير كان عكس هذا الترتيب أولى.
والجواب : الذي أتخيله فيه والعلم عند الله تعالى أن للعبد مقامين
أحدهما : قيامه بظاهر الشريعة والثاني : شروعه في بدء المكاشفات ، وذلك هو أن يشتغل بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمته ففي المقام الأول طلب ترك التشديد ، وفي المقام الثاني قال : لا تطلب مني حمداً يليق بجلالك ، ولا شكراً يليق بآلائك ونعمائك ، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك ، فإن ذلك لا يليق بذكري وشكري وفكري ولا طاقة لي بذلك ، ولما كانت الشريعة متقدمة على الحقيقة لا جرم كان قوله {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} مقدماً في الذكر على قوله {لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }.
السؤال الثالث : أنه تعالى حكى عن المؤمنين هذه الأدعية بصيغة الجمع بأنهم قالوا {لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا * وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا * وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فما الفائدة في هذه الجمعية وقت الدعاء ؟
والجواب : المقصود منه ببيان أن قبول الدعاء عند الاجتماع أكمل وذلك لأن للهمم تأثيرات فإذا اجتمعت الأرواح والدواعي على شيء واحد كان حصوله أكمل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 129 ـ 130}
قوله تعالى : {واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنا أَنتَ مولانا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين }
قال ابن عاشور : (10/378)
وقوله : { واعف عنا واغفر لنا } لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله ربّنا ، إمّا لأنّه تكرّر ثلاث مرات ، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلاّ في مقام التهويل ، وإمّا لأنّ تلك الدعوات المقترنة بقوله : { ربنا } فروع لهذه الدعوات الثلاث ، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه بالأوْلى ؛ فإنّ العفو أصل لعدم المؤاخذة ، والمغفرةَ أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية ، فلمّا كان تعميماً بعد تخصيص ، كان كأنّه دعاء واحد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 141}
قال الفخر :
اعلم أن تلك الأنواع الثلاثة من الأدعية كان المطلوب فيها الترك وكانت مقرونة بلفظ {رَبَّنَا} وأما هذا الدعاء الرابع ، فقد حذف منه لفظ {رَبَّنَا} وظاهره يدل على طلب الفعل ففيه سؤالان :
السؤال الأول : لم لم يذكر ههنا لفظ ربنا ؟ .
الجواب : النداء إنما يحتاج إليه عند البعد ، أما عند القرب فلا وإنما حذف النداء إشعاراً بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أُخر.
السؤال الثاني : ما الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة ؟ .(10/379)
الجواب : أن العفو أن يسقط عنه العقاب ، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل والفضيحة ، كأن العبد يقول : أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة ، والأول : هو العذاب الجسماني ، والثاني : هو العذاب الروحاني ، فلما تخلص منهما أقبل على طلب الثواب ، وهو أيضاً قسمان : ثواب جسماني وهو نعيم الجنة ولذاتها وطيباتها ، وثواب روحاني وغايته أن يتجلى له نور جلال الله تعالى ، وينكشف له بقدر الطاقة علو كبرياء الله وذلك بأن يصير غائباً عن كل ما سوى الله تعالى ، مستغرقاً بالكلية في نور حضور جلال الله تعالى ، فقوله {وارحمنا} طلب للثواب الجسماني وقوله بعد ذلك {أَنتَ مولانا} طلب للثواب الروحاني ، ولأن يصير العبد مقبلا بكليته على الله تعالى لأن قوله {أَنتَ مولانا} خطاب الحاضرين ، ولعلّ كثيراً من المتكلمين يستبعدون هذه الكلمات ، ويقولون : إنها من باب الطاعات ، ولقد صدقوا فيما يقولون ، فذلك مبلغهم من العلم {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} [ النجم : 30 ].
(10/380)
وفي قوله {أَنتَ مولانا} فائدة أخرى ، وذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها ، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله وإحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه ، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه ، فهو سبحانه قيوم السموات والأرض ، والقائم بإصلاح مهمات الكل ، وهو المتولي في الحقيقة للكل ، على ما قال : {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [ الأنفال : 40 ] ونظير هذه الآية {الله وَلِيُّ الذين ءَامَنُواْ} [ البقرة : 257 ] أي ناصرهم ، وقوله {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه} [ التحريم : 4 ] أي ناصره ، وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين ءَامَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُم} [ محمد : 11 ].
ثم قال : {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم ، وفي مناظرتنا بالحجة معهم ، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال : {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [ التوبة : 33 ] ومن المحققين من قال : {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} المراد منه إعانة الله بالقوة الروحانية الملكية على قهر القوى الجسمانية الداعية إلى ما سوى الله ، وهذا آخر السورة.(10/381)
وروى الواحدي رحمه الله عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أعطى خواتيم سورة البقرة ، فقالت الملائكة : إن الله عزّ وجلّ قد أكرمك بحسن الثناء عليك بقوله {آمن الرسول} فسله وارغب إليه ، فعلمه جبريل عليهما الصلاة والسلام كيف يدعو ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} فقال الله تعالى : "قد غفرت لكم" فقال : {لاَ تُؤَاخِذْنَا} فقال الله : ( لا أؤاخذكم ) فقال : {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} فقال : "لا أشدد عليكم" فقال محمد {لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فقال : "لا أحملكم ذلك" فقال محمد {واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنا} فقال الله تعالى : "قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم وأنصركم على القوم الكافرين" وفي بعض الروايات أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذه الدعوات ، والملائكة كانوا يقولون آمين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 130 ـ 131}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { واعف عَنَّا } أي عن ذنوبنا.
عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه.
{ واغفر لَنَا } أي استر على ذنوبنا.
والغفر : الستر.
{ وارحمنآ } أي تفضل برحمة مبتدئاً منك علينا.
{ أَنتَ مَوْلاَنَا } أي ولِينا وناصرنا.
وخرج هذا مخرج التعليم للخلق كيف يدعون.
روي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال : آمين.
قال ابن عطية : هذا يُظَنّ به أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان ذلك فكمال ، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هنالك دعاء وهنا دعاء فحسن.
وقال علي بن أبي طالب : ما أظن أحداً عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 433}
وقال أبو حيان :
(10/382)
طلبوا العفو وهو الصفح عن الذنب : وإسقاط العقاب ، ثم ستره عليهم صوناً لهم من عذاب التخجيل ، لأن العفو عن الشيء لا يقتضي ستره فيقال : عفا عنه إذا وقفه على الذنب ثم أسقط عنه عقوبة ذلك الذنب ، فسألوا الإسقاط للعقوبة أولاً لأنه الأهم ، إذ فيه التعذيب الجسماني والنعيم الروحاني بتجلي البارىء تعالى لهم وقال الراغب : العفو إزالة الذنب بترك عقوبته ، والغفران ستر الذنب وإظهار الإحسان بدله ، فكأنه جمع بين تغطية ذنبه ، وكشف الإحسان الذي غطى به.
والرحمة إفاضة الإحسان إليه ، فالثاني أبلغ من الأول ، والثالث أبلغ من الثاني. انتهى.
وقيل : واعف عنا من المسخ ، واغفر لنا عن الخسف من القذف ، وقيل : اعف عنا من الأفعال ، واغفر لنا من الأقوال ، وارحمنا بثقل الميزان.
وقيل : واعف عنا في سكرات الموت ، واغفر لنا في ظلمة القبر ، وارحمنا في أهوال يوم القيامة.
وكل هذه الأقوال تخصيصات لا دليل عليها. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 385}
وقال الآلوسى : (10/383)
{ واعف عَنَّا } أي امح آثار ذنوبنا بترك العقوبة. { واغفر لَنَا } بستر القبيح وإظهار الجميل { وارحمنا } وتعطف علينا بما يوجب المزيد ، وقيل : { أَذْهَبَ عَنَّا } من الأفعال { واغفر لَنَا } من الأقوال { وارحمنا } بثقل الميزان ، وقيل : { واعف عَنَّا } في سكرات الموت { واغفر لَنَا } في ظلمة القبور { وارحمنا } في أهوال يوم النشور ، قال أبو حيان : ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ ربنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء فاعف عنا مقابلاً لقوله تعالى : { لاَ تُؤَاخِذْنَا } { واغفر لَنَا } لقوله سبحانه : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } { وارحمنا } لقوله عز شأنه : { وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب { أَنتَ مولانا } أي مالكنا وسيدنا ، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال : مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء :
وإن صخراً لمولانا وسيدنا... وإن صخراً إذا اشتوا لمنحار
وخطئوا من قال : سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى كما قاله ابن أيبك ولي فيه تردد قيل : والجملة على معنى القول أي قولوا أنت مولانا { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أي الأعداء في الدين المحاربين لنا أو مطلق الكفرة وأتى بالفاء إيذاناً بالسببية لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم عليّ وأنت البطل فاحْمِ الجار. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 71}
وقال ابن كثير : (10/384)
وقوله : { وَاعْفُ عَنَّا } أي : فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا ، { وَاغْفِرْ لَنَا } أي : فيما بيننا وبين عبادك ، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة ، { وَارْحَمْنَا } أي : فيما يُسْتَقبل ، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه ، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم ، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 738}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { أنت مولانا } فصله لأنّه كالعلّة للدعوات الماضية : أي دعوناك ورجونا منك ذلك لأنّك مولانا ، ومن شأن المولى الرفقُ بالمملوك ، وليكون هذا أيضاً كالمقدمة للدعوة الآتية.
وقوله : { فانصرنا على القوم الكافرين } جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى ، لأنّ شأن المولى أن ينصر مولاه ، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي :
رأيتُ مَوَالِيّ الألَى يخذلونني
على حدثَانِ الدّهْرِ إذْ يَتَقلّب...
وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر ، لأنّهم جعلوه مرتّباً على وصف محقّق ، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين ، قال تعالى : { اللَّه ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] وفي حديث يوم أحد لَمَّا قال أبو سفيان : "لَنا العُزّى ولا عُزَّى لكم" قال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه " الله مولانا ولا مولَى لكم ".
ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنّها جامعة لخيري الدنيا والآخرة ؛ لأنّهم إذا نصروا على العدوّ ، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم ، وسلموا من الفتنة ، ودخل الناس فيه أفواجاً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 141 ـ 142}.
فائدة
قال الشيخ المراغى رحمه الله :
وما علمنا الله هذا الدعاء لتلوكه ألستنا وتتحرك بها شفاهنا فقط ، بل لندعوه مخلصين له لاجئين إليه بعد استعمال ما يصل إليه كسبنا من الأسباب والوسائل التى هى طريق الاستجابة ، فمن فعل ذلك فإن الله يستجيب دعاءه ، ومن لم يعرف من الدعاء إلا حركة اللسان ، مع مخالفة أحكام الشريعة ، وتجافى السنن التى سنها الله ، فهو بدعائه كالساخر من ربه ، فهو لا يستحق منه إلا المقت والخذلان.
ونحن الآن قد أعرضنا عن هدايته ، وتنكبنا سنته فى خليقته ، ثم طلبنا منه النصر بألسنتنا دون قلوبنا ، فلم يستجب لنا دعاء ، وكنا نحن الجانين على أنفسنا ، المستحقين لهذا الخذلان.أ هـ {تفسير المراغى حـ 3 صـ 84 ـ 85}.(10/385)
فصل
قال ابن الجوزى فى معنى الآية :
قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } الوسع : الطاقة.
قاله ابن عباس ، وقتادة.
ومعناه : لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته ، كتكليف الزمن السعي ، والأعمى النظر.
فأما تكليف ما يستحيل من المكلف ، لا لفقد الآلات ، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان ، فالآية محمولة على القول الأول.
ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية { ربنا لا تحملنا مالا طاقة لنا به } فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعاً ، كان السؤال عبثاً ، وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم : { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً } [ الكهف : 57 ] وقال ابن الأنباري : المعنى : لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه ، وإن كنا مطيقين له على تجشم ، وتحمل مكروه ، فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه ، ومثله قوله تعالى : { ما كانوا يستطيعون السمع }.
قوله تعالى : { لها ما كسبت } قال ابن عباس : لها ما كسبت من طاعة { وعليها ما اكتسبت } من معصية.
قال أبو بكر النقاش : فقوله : "لها" دليل على الخير ، و"عليها" دليل على الشر.(10/386)
وقد ذهب قوم إلى أن "كسبت" لمرة ومرات ، و"اكتسبت" لا يكون إلا لشيء بعد شيء ، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد ، كقوله عز وجل : { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } [ الطارق : 17 ].
قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } هذا تعليم من الله للخلق أن يقولوا ذلك ، قال ابن الأنباري : والمراد بالنسيان هاهنا : الترك مع العمد ، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته.
والخطأ أيضاً هاهنا من جهة العمد ، لا من جهة السهو ، يقال : أخطأ الرجل : إذا تعمد ، كما يقال : أخطأ إذا غفل.
وفي "الإصر" قولان.
أحدهما : أنه العهد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي.
والثاني : الثقل أي : لا تثقل علينا من الفروض ما ثقلته على بني اسرائيل ، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى : { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } فيه خمسة أقوال.
أحدهما : أنه ما يصعُب ويشق من الأعمال ، قاله الضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، والجمهور.
والثاني : أنه المحبة ، رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم.
والثالث : الغلمة قاله مكحول.
والرابع : حديث النفس ووساوسها.
والخامس : عذاب النار.
قوله تعالى : { أنت مولانا } أي : أنت ولينا { فانصرنا } أي : أعنا.
وكان معاذ إذا فرغ من هذه السورة قال : آمين. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 347 ـ 348}
وقال السعدى : (10/387)
لما نزل قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به ، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي : أمرا تسعه طاقتها ، ولا يكلفها ويشق عليها ، كما قال تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس ، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان ، وحمية عن الضرر ، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا ، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل ، إما بإسقاطه عن المكلف ، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم ، ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير ، وعليها ما اكتسبت من الشر ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره ، وفي الإتيان بـ "كسب "في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى بـ "اكتسب "في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه ، ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله ، وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان ، وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا ، أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم [ ص 121 ] أن الله قال : قد فعلت. إجابة لهذا الدعاء ، فقال { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } والفرق بينهما : أن النسيان : ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا ، والخطأ : أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله : فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا ، فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب ، أو نجس ، أو قد نسي نجاسة على بدنه ، أو تكلم في الصلاة ناسيا ، أو فعل مفطرا ناسيا ، أو فعل محظورا من محظورات الإحرام التي ليس(10/388)
فيها إتلاف ناسيا ، فإنه معفو عنه ، وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا ، وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم ، وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف ، وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر. { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } أي : تكاليف مشقة { كما حملته على الذين من قبلنا } وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وقد فعل وله الحمد { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور ، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور { أنت مولانا } أي : ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات ، ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ، وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها ، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين ، الذين كفروا بك وبرسلك ، وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك ، فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان ، بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر ، والحمد لله رب العالمين. أ هـ {تفسير السعدى صـ 130}
فائدة بلاغية
قال أبو حيان :
تضمنت هذه الآية من أنواع الفصاحة وضروب البلاغة أشياء ، منها : الطباق في { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } والطباق المعنوي في : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } لأن : لها ، إشارة إلى ما يحصل به نفع ، و: عليها ، إشارة إلى ما يحصل به ضرر.
والتكرار في قوله : { وما في الأرض } كرر : ما ، تنبيهاً وتوكيداً.
وفي قوله : { بين أحد من رسله } وفي قوله : ما كسبت وما اكتسبت.
إذا قلنا إنهما بمعنى واحد ، إذ كان يعني : لها ما كسبت.
والتجنيس المغاير في : { آمن والمؤمنون }.
والحذف في عدّة مواضع. والله أعلم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 385}.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }.
لكمال رحمته بهم وقفهم على حد وسعهم ودون ذلك بكثير ، كل ذلك رِفق منه وفضل. { لَهَا مَا كَسَبَتْ }.
من الخيرات.
{ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }.
ما تكسبه من التوبة التي تُنَجِّي من كسب.
قوله جلّ ذكره : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }.(10/389)
كان إذا وقعت حاجة كلَّموه بلسان الواسطة. قالوا : { يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ } [ الأعراف : 134 ] وهذه الأمة قال لهم : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ].
وكانت الأمم ( السالفة ) إذا أذنبوا احتاجوا إلى مضي مدة لقبول التوبة ، وفي هذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم : " الندم توبة ".
وكانت الأمم السالفة منهم من قال اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، وهذه الأمة اختصت بإشراق أنوار توحيدهم ، وخصائصُهم أكثر من أن يأتي عليه الشرح.
قوله جلّ ذكره : { وَاعْفُ عَنَّا }. في الحال.
{ وَاغْفِرْ لَنَا }. في المآل.
{ وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ }.
في جميع الأحوال إذ ليس لنا أحد سواك ، فأنت مولانا فاجعل النصرة لنا على ما يشغلنا عنك.
ولمَّا قالوا : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } خَسَفَ الله ذنوبهم بدل خسف المتقدمين ، فأبدل ذنوبهم حسنات بدل مسخهم ، وأمطر عليهم الرحمة بدل ما أمطر على المتقدمين من الحجارة. والحمد لله رب العالمين. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 216 ـ 217}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا . . . }.
ابن عرفة : تقدم في الآية السابقة أنّها ( إما ) منسوخة او مخصوصة بهذا أو مبيّنة بهذا.
زاد ابن الخطيب أنها من كلام الناس.
ورده ابن عرفة : بأنّ هذا خبر فلا يصح أن يكون من كلام الناس إذ لا طريق لهم إلى معرفته إلا أن يكون أنزل قبله ما هو في معناه.
قال ابن عرفة : وتكليف ما لا يطاق فيه ثلاث أقوال :
مذهب أهل السنة جوازه ، ومذهب المعتزلة منعه ، والثالث الوقف.
وإذا قلنا بالجواز فهل هو واقع أم لا ؟ فيه خلاف.(10/390)
وتردد الأشعري في وقوعه ، وقسمه ابن التلمساني على خمسة أقسام والخلاف إنما هو في قسمين وهما المستحيل عقلا والمستحيل عادة ، وما عداهما فلا خلاف فيه إذ ليس من تكليف ما لايطاق.
قال في ( شرح ) المحصول : وفائدة التّكليف بالمستحيل عقلا أو عادة أن يكون علامة على ( شقاوة ) المكلف بذلك لأنه لا يتوصل إلى امتثاله والآية حجة لمن يجيز التكليف ( بما ) لا يطاق ويبقى وقوعه إذ لا ( ينفى إلا ) ما هو ممكن الوقوع و( من ) قال بوقوع تكليف ما لا يطاق واحتج بقضية أبي لهب فإنه مكلف بأن لا يؤمن لقوله تعالى : { سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } وهو مكلف بأن يؤمن بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم وبجميع ما جاء به ومن جملته هذا.
وأجاب تاج الدين الأرموي في شرح الحاصل بأنه مكلف بأن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به إيمانا جمليا لا تفصيليا.
قال الفخر وابن التلمساني : من تكليف ما لا يطاق التكليف بما علم عدم وقوعه.
فقال ابن عرفة : هذا وهم وليس ذلك من تكليف ما لا يطاق بوجه لأنه ممكن في نفس الأمر فهو ( مطيق ) فعله كتكليف العصاة بالصلاة في الوقت فيفعلونها بعد الوقت قضاء.
قيل لابن عرفة : ما فائدة الخلاف ( بتكليف ) ما لا يطاق بالنسبة إلى النائم ؟
فقال : قد ذكروا في النائم أنّه إذا ضرب ( برجله ) إناء فكسره فإنه يضمنه.
وكذلك إذا ضرب أحدا فقتله فهل تضمينه ذلك من تكليف ما لا يطاق أم لا ؟
والظاهر أنه من خطاب الوضع والإجبار.
قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت . . . }.
ذكر ( الزمخشري ) وابن عطية وجه المغايرة بين الفعلين وهما متقاربان.
فتقرير ما قال ابن عطية ( والزّمخشري ) أنّ المكلّف بفعل الطاعة مستحضر للثواب عليها فيسهل عليه أمرها من غير تكليف طبيعي ولا وازع له عن فعلها ، وفاعل المعصية يستحضر العقوبة عليها في الدّار الآخرة فشهوته تحمله عليها وتكلفه على فعلها وتوجب معاندته للوازع الديني.(10/391)
وتقرير كلام الزمخشري كأنه على عكس هذا لكنه في الحقيقة راجع إلى هذا وهو أنّ الشّر مما تشتهيه النفوس وتأمر به فهي في تحصيله أعمل وأقوى اجتهادا ( فجعلت ) له مكتسبة ولما لم تكن كذلك في الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الفعل والتكليف.
وقال ابن الصائغ في باب ما جاء من المعدول على فعال : لما كان الإنسان يثاب على قليل الخير وكثيره استعمل فيه اللّفظ العام للقليل والكثير وهو " كسب " ، ولما كانت الصغائر معفوا عنها بفضل الله عز وجل جاء بلفظ الكثير إشعارا بأنها ليس عليها إلا ما فوق الصغائر قال هذا بعد أن ذكر أن : كَسَبَ واكْتَسَبَ إن اجتمعتا في كلام واحد كانت " كَسَبَ " عامة ( في الأمرين ) و" اكْتَسَبَ " خاصة بالكثير وإن انفردت إحداهما عمت في الأمرين.
وقال القرافي في قواعده : إنها تدل على أن المصائب لا يثاب عليها لأنها ليس للمكلف فيها اعتماد.
قلت : وفي شرح أبيات الجمل لابن هشام / النحوي حكى ابن جني عن الزجاج أنه يقال : جزيته في الخير وجازيته في الشر فيستعمل فعل الزيادة في الشر وفعل النقص في الخير ومنه { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت }.
وقول الشاعر أيضا :
إنا اقتسمنا خطيئتنا بيننا . . .
فحملت بِرّهُ واحتملت فجار
قوله تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا . . . }.
قال الزمخشري : فإن قلت : النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة فيهما ؟
وأجاب بأن الدعاء راجع لسببهما وهو التفريط والغفلة.
قال ابن عرفة : هذا على مذهبه في منع تكليف ما لا يطاق لأنه دعاء بتحصيل الحاصل ونحن نقول : يجوز الدعاء بتحصيله لأنه ممكن باعتبار الأصالة.
فإن قلت : الأصل تقديم الشّرط نحو أن يقال : إن نسينا أو أخطأنا فلا تؤاخذنا ؟
قلت : قدم المدعو به للاهتمام به.
قال ابن عرفة : فالنسيان والخطأ مرفوع عن ابن آدم فيما بينه وبين الله تعالى.(10/392)
قيل له : قد قال الإمام مالك رضي الله عنه في العتبية فيمن حلف بالطلاق : ليصومن يوم كذا فأفطر ناسيا : إنّه لا شيء عليه ؟
فقال : قال ابن رشد وابن دحون : أي لا حنث له.
وقال السيُورِي : واختاره اللخمي أي لا فضل عليه ، واحتج بحديث : " حمل ( عن ) أمتي أخطاؤها ونسيانها.
وأجاب الآخرون : بأن الذي حمل إنما هو إثم الخطإ والنيسان لا نفس الخطإ.
وذكرها ابن الحاجب في كتاب الأيمان والنذور ، قال : وفيها ما نصه : " والنسيان في المطلق كالعمد على المعروف ، وخرج الفرق من قوله : من حلف بالطلاق لأصومن كذا فأفطر ناسيا فلا شيء عليه ".
قلت : ووقعت هذه المسألة في رسم سلف سمع من سماع عيسى من كتاب الأيمان والنذور بالطلاق.
( وقال ابن رشد : أي لا حنث عليه إذا كان ناسيا بخلاف ما لو أصبح مفطرا ) ناسيا ليمينه ، مراعاة للخلاف في وجوب القضاء على من أفطر في التطوع متعمّدا وفي رمضان ناسيا لما جاء في ذلك.
قيل لابن عرفة : قد قالوا : إذا قتل رجل خطأ : إنّ على قاتله صوم شهرين ؟
فقال : النسيان إنما هو في رفع الإثم وليس سببا في صومه والقتل سبب في الصوم والشرع رتب عل ذلك القتل صوما فيجب عليه امتثاله ( لا لأنه ) كفارة بل الإثم ساقط عنه.
انتهى.
قوله تعالى : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا . . . }.
قال أبو حيان : قرىء بالتشديد والتّخفيف.
قال : في التشديد إما للتعدية أو للمبالغة.
قال ابن عرفة : فظاهره أنه لهما على ( البديلة ) ومنهم من قال : يصح كونه لهما على المعية وقال بعضهم : أما المبالغة هنا مع التشديد فظاهرة ، وأما مع التخفيف ( فمستفادة ) من لفظ " على " لاقتضائها الاستعلاء والاستيلاء.
فإن قلت : ما الفائدة في قوله : { كَمَا حَمَلْتَهُ } ولو أسقط " كما " ( احتمل ) المعنى ، وإسقاطه كان يكون أتمّ وأبلغ لأن نفي " إِصْرا " مطلق أبلغ منه مقيدا ؟ (10/393)
( قال ) ابن عرفة : وعادتهم ( يجيبون ) بأن الدعاء حالة الخوف مظنة الإجابة فهو فيه أقوى ( منها ) حالة عدم الخوف لأن الخوف أقرب لمقام التضرع والالتجاء.
فذكر عقوبة من مضى في هذا مما يزيد في الخوف ويقوي فيه العبودية والتضرع والالتجاء.
قال ابن عطية : ولا خلاف أن المراد بـ { الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } اليهود.
ابن عرفة : لأن ( تكاليفهم ) والتشديد الواقع في شريعتهم أكثر من النصارى وغيرهم ، قال الضحاك : اليهود والنصارى.
قوله تعالى : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ . . . }.
تقدم إما أنه راجع لأمور الآخرة أو للتكاليف الدنيوية فإن كان للآخرة فهو تأسيس وإن كان للدنيا فهو تأكيد ، إن أريد بما لاَ طاقة لنا به الحقيقة وهو ما ليس في قدرة البشر لأن الدعاء لنفي ( الإصر ) يستلزم الدعاء بنفي ما فوقه ، وإن أريد به المجاز كما أشار إليه ابن عطية في أحد التفاسير من أنّه الأمر المستصعب وإن ( كانت ) تطيقه فيكون تأسيسا.
قوله تعالى : { واعف عَنَّا . . . }. الآية.
قال ابن عرفة : وجه الترتيب هذا أن العفو عبارة عن عدم المؤاخذة بالذّنب ، وما يلزم من الدعاء برفع ( الأمر ) الذي في قدرة البشر بمشقة أو الخارجة عن قدرة ( البشر ) ، عدم المؤاخذة بالذنب.
ثم عقبه بالمغفرة لأنه لا يلزم من عدم المؤاخذة ستر ولأنه قد لا يؤاخذه به ويظهره عليه ، ثم عقبه بالرّحمة لأنّ العفو والمغفرة من باب دفع المؤلم والرحمة من باب جلب الملائم ، فدفع المؤلم آكد وأولى من جلب الملائم ونحوه لابن الخطيب.
قال ابن عطية : وقال سلام بن سابور الذي لا طاقة لنا به الغُلْمةُ.
وروي أَن أبا الدرداء كان يقول في دعائه : وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة.
ابن عرفة : الغلمة ( هي ) قوله : أنت مولانا فانصرنا.
الزمخشري : أي سيدنا وناصرنا ومتولي أمرنا ومالكنا.(10/394)
ابن عرفة : السيد والناصر إطلاقه عليهما من قبيل المشترك والمتولي والمالك ينبغي أن يحمل على أن المراد الأخص منهما ليدخل تحت الأعم من باب أحرى.
قال الزمخشري : وعنه عليه الصلاة والسلام : " من قرأ الآيتين من سورة البقرة في كل ليلة كفتاه ".
قال ابن عرفة : أولهما " آمَنَ الرّسُول " ومعنى كفتاه أي يرفعان قارئهما عن رتبة من حرم قيام الليّل.
قلت : وفي إكمال القاضي عياض أي في كتاب الطب : أي كفتاه كل هامة وشيطان فلا يضره ( وفي سلاح المؤمن معنى كفتاه أجزأتاه عن قيام الليّل.
وقيل : كفتاه من كل شيطان لم يضر به ليلته " وقيل : كفتاه مما يكون من تلك اللّيلة من الآفات وقيل : حسبه بهما فضلا وأجرا. ويحتمل الجميع والله سبحانه وتعالى أعلم ). أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 371 ـ 374}.(10/395)
فائدة
قال ابن القيم :
تأمل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله وله الحمد كله أزمة الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومرادها إليه مستويا على سرير ملكه لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته عالما بما في نفوس عبيده مطلعا علي أسرارهم وعلانيتهم منفردا بتدبير المملكة يسمع ويرى ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب ويكرم ويهين ويخلق ويرزق ويميت ويحيي ويقدر ويقضي ويدبر الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها وصاعدة إليه لا تتحرك في ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه ويحذرهم مما فيه هلاكهم ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته ويتححب إليهم بنعمه وآلائه فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن اطاعوه وما أعد لهم ما العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم ويذم أعداءه بسىء أعمالهم وقبيح صفاتهم ويضرب الأمثال وينوع الأدلة والبراهين ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة ويصدق الصادق ويكذب الكاذب ويقول الحق ويهدي السبيل ويدعو إلى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات وأنه الغنى بنفسه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه بنفسه وأنه لا ينال أحد ذرة من الخبر فما فوقها إلا بفضله ورحمته ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم وغافر زلاتهم ومقيم أعذارهم ومصلح فسادهم والدافع(10/396)
عنهم والمحامي عنهم والناصر لهم والكفيل بمصالحهم والمنجي لهم من كل كرب والموفي لهم بوعده وأنه وليهم الذي لا ولى لهم سواه فهو مولاهم الحق ونصيرهم علي عدوهم فنعم المولى ونعم النصير فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما رحيما جوادا جميلا هذا شانه فكيف لا تحبه وتنافس في القرب منه وتنفق أنفاسها في التودد إليه ويكون أحب إليها من كل ما سواه ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذائها وقوتها ودواؤها بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنفع بحياتها. أ هـ {الفوائد صـ 28 ـ 29}.
تم الجزء العاشر من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الحادى عشر وأوله فاتحة سورة آل عمران من قوله تعالى :
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}(10/397)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء الحادى عشر
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(11/3)
الجزء الحادى عشر
من الآية {1} من سورة آل عمران
وحتى الآية {17} من نفس السورة
تنبيه : تم الاعتماد من أول هذا الجزء فى توثيق تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ـ رحمه الله ـ على طبعة : مؤسسة التاريخ العربي ، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى ، 1420هـ/2000م
وكان الاعتماد فى الأجزاء السابقة على طبعة : الدار التونسية 1984
والله ولى التوفيق(11/4)
فصل
قال ابن عاشور :
سميت هذه السورة ، في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة : سورة آل عمران ، ففي "صحيح مسلم" ، عن أبي أمامة : قال سمعت رسول الله يقول "إقرأوا الزهراوين : البقرة وآل عمران" وفيه عن النواس بن سمعان : قال سمعت النبي يقول يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران" وروى الدارمي في "مسنده" : أن عثمان بن عفان قال : "من قرأ سورة آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة" وسماها ابن عباس ، في حديثه في "الصحيح" ، قال : "بت في بيت رسول الله فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران" . ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران وهو عمران بن ماتان أبو مريم وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي ، وزكريا كافل مريم إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملا فكفلها زوج خالتها.
ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم.
وذكر الآلوسي أنها تسمى : الأمان ، والكنز ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار. ولم أره لغيره ، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي ، في المسألة الثالثة والرابعة ، من تفسير أول السورة.(11/5)
وهذه السورة نزلت بالمدينة بالاتفاق ، بعد سورة البقرة ، فقيل ، أنها ثانية لسورة البقرة على أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة ، وقيل : نزلت بالمدينة سورة المطففين أولا ، ثم البقرة ، ثم نزلت سورة آل عمران ، ثم نزلت الأنفال في وقعة بدر ، وهذا يقتضي : أن سورة آل عمران نزلت قبل وقعة بدر ، للاتفاق على أن الأنفال نزلت في وقعة بدر ، ويبعد ذلك أن سورة آل عمران اشتملت على التذكير بنصر المسلمين يوم بدر ، وأن فيها ذكر يوم أحد ، ويجوز أن يكون بعضها نزل متأخرا. وذكر الواحدي في أسباب النزول ، عن المفسرين : أن أول هذه السورة إلى قوله {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 84] نزل بسبب وفد نجران ، وهو وفد السيد والعاقب ، أي سنة اثنين من الهجرة ، ومن العلماء من قالوا : نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال ، وكان نزولها في وقعة أحد ، أي شوال سنة ثلاث ، وهذا أقرب ، فقد أتفق المفسرون على أن قوله تعالى {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران : 121] أنه قتال يوم أحد. وكذلك قوله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران : 144] فإنه مشير إلى الإرجاف يوم أحد بقتل النبي صلى الله عليه وسلم.(11/6)
ويجوز أن يكون أولها نزل بعد البقرة إلى نهاية ما يشير إلى حديث وفد نجران ، وذلك مقدار ثمانين آية من أولها إلى قوله {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران : 121] قاله القرطبي في أول السورة ، وفي تفسير قوله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} [آل عمران : 79] الآية. وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة : إننا بينا إمكان تقارن نزول السور عدة في مدة واحدة ، فليس معنى قولهم : نزلت سورة كذا بعد سورة كذا ، مرادا منه أن المعدودة نازلة بعد أخرى أنها ابتدئ نزولها بعد نزول الأخرى ، بل المراد أنها ابتدئ نزولها بعد ابتداء نزول التي سبقتها.
وقد عدت هذه السورة الثامنة والأربعين في عداد سور القرآن.
وعدد آيها مائتان في عد الجمهور وعددها عند أهل العدد بالشام مائة وتسع وتسعون.(11/7)
واشتملت هذه السورة ، من الأغراض : على الابتداء بالتنويه بالقرآن ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وتقسيم آيات القرآن ، ومراتب الأفهام في تلقيها ، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين ، وأنه لا يقبل دين عند الله ، بعد ظهور الإسلام ، غير الإسلام ، والتنويه بالتوراة والإنجيل ، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن ، تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به ، وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى ، وانفراده ، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله : من جعلوا له شركاء ، أو اتخذوا له أبناء ، وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال ، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك ، وتهديدهم بزوال سلطانهم ، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته ، وذكر معجزة ظهوره ، وأنه مخلوق لله ، وذكر الذين آمنوا به حقا ، وإبطال إلهية عيسى ، ومن ثم أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم ، ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنفية وأنهم بعداء عنها ، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم : أن يؤمنوا بالرسول الخاتم ، وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس ، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه ، وأوجب حجه على المؤمنين ، وأظهر ضلالات اليهود ، وسوء مقالتهم ، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم. وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام ، وأمرهم بالاتحاد والوفاق ، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية ، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين ، وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب ، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم ، والصبر على تلقي الشدائد ، والبلاء ، وأذى العدو ، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم ، ثم ذكرهم بيوم أحد ، ويوم بدر ، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما ، ونوه ، بشأن الشهداء من المسلمين ، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال : من بذل المال في(11/8)
مواساة الأمة ، والإحسان ، وفضائل الأعمال ، وترك البخل ، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله.
وقد علمت أن سبب نزول هذه السورة قضية وفد نجران من بلاد اليمن. ووفد نجران هم قوم من نجران بلغهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أهل نجران متدينين بالنصرانية ، وهم من أصدق العرب تمسكا بدين المسيح ، وفيهم رهبان مشاهير ، وقد أقاموا للمسيحية كعبة ببلادهم هي التي أشار إليها الأعشى حين مدحهم بقوله :
فكعبة نجران حتم عليك ... حتى تناخي بأبوابها
فاجتمع وفد منهم يرأسه العاقب فيه ستون رجلا وأسمه عبد المسيح ، وهو أمير الوفد ، ومعه السيد واسمه الأيهم ، وهو ثمال القوم وولي تدبير الوفد ، ومشيره وذو الرأي فيه ، وفيهم أبو حارثة بن علقمة البكري وهو أسقفهم وصاحب مدارسهم وولي دينهم ، وفيهم أخو أبي حارثة ، ولم يكن من أهل نجران ، ولكنه كان ذا رتبة : شرفه ملوك الروم ومولوه. فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وجادلهم في دينهم ، وفي شأن إلوهية المسيح ، فلما قامت الحجة عليهم أصروا على كفرهم وكابروا ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة ، فأجابوا ثم استعظموا ذلك ، وتخلصوا منه ، ورجعوا إلى أوطانهم ، ونزلت بضع وثمانون آية من أول هذه السورة في شأنهم كما في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق. وذكر ذلك الواحدي والفخر ، فمن ظن من أهل السير أن وفد نجران وفدوا في سنة تسع فقد وهم وهما انجر إليه من اشتهار سنة تسع بأنها سنة الوفود. والإجماع على أن سورة آل عمران من أوائل المدنيات ، وترجيح أنها نزلت في وفد نجران يعينان أن وفد نجران كان قبل سنة الوفود.(11/9)
لما كان أول أغراض هذه السورة ، الذي نزلت فيه ، هو قضية مجادلة نصارى نجران حين وفدوا إلى المدينة ، وبيان فضل الإسلام على النصرانية ، لا جرم افتتحت بحروف التهجي ، المرموز لها إلى تحدي المكذبين بهذا الكتاب ، وكان الحظ الأوفر من التكذيب بالقرآن للمشركين منهم ، ثم للنصارى من العرب ؛ لأن اليهود الذين سكنوا بلاد العرب فتكلموا بلسانهم لم يكونوا معدودين من أهل اللسان ، ويندر فيهم البلغاء بالعربية مثل السموأل ، وهذا وما بعده إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} [آل عمران : 33] تمهيد لما نزلت السورة بسببه وبراعة استهلال لذلك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 5 ـ 8}(11/10)
بحث نفيس للشهيد سيد قطب فى التعريف بسورة آل عمران
قال رحمه الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة . هو روحها وباعثها . وهو قوامها وكيانها . وهو حارسها وراعيها . وهو بيانها وترجمانها . وهو دستورها ومنهجها . وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة - كما يستمد منه الدعاة - وسائل العمل , ومناهج الحركة , وزاد الطريق . .
ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا , ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية , ذات وجود حقيقي ; ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة ; ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض ; وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك . معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات .
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن , طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة , لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان , والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين ! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية , ذات كينونة واقعية حية ; ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا , نشأ عنه وجود , ذو خصائص في حياة "الإنسان" بصفة عامة , وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص .
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة , في فترة من فترات التاريخ محددة , وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها , ولكنه - مع هذا - يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة , وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية , وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها , وفي معركتها كذلك في داخل النفس , وفي عالم الضمير , بنفس الحيوية , ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك .(11/11)
ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة , وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة , ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل . . ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة . . كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة , وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها ; وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها ; وتتصارع مع شهواتها وأهوائها ; ويتنزل القرآن حينئذ ليواجه هذا كله , ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة : مع نفسها التي بين جنبيها , ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما . . وفيما وراءهما كذلك . .
أجل . . يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى ; ونتمثلها في بشريتها الحقيقية , وفي حياتها الواقعية , وفي مشكلاتها الإنسانية ; ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء ; ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة . وهي تعثر وتنهض . وتحيد وتستقيم . وتضعف وتقاوم . وتتألم وتحتمل . وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة , وفي صبر ومجاهدة , تتجلى فيها كل خصائص الإنسان , وكل ضعف الإنسان , وكل طاقات الإنسان .
ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى . وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها , تملك الاستجابة للقرآن , والانتفاع بقيادته في ذات الطريق .
إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى ; ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا . وسنحس أنه معنا اليوم وغدا . وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد , كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية .(11/12)
إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته . الكون كتاب الله المنظور . والقرآن كتاب الله المقروء . وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع ; كما أن كليهما كائن ليعمل . . والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه . الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها , والقمر والأرض , وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها , وجدة هذا الدور في المحيط الكوني . . والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية , وما يزال هو هو . فالإنسان ما يزال هوهو كذلك . ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته . وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان - فيمن خاطبهم الله به . خطاب لا يتغير , لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر , مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله , ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات . . والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير ; ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا , بما أنه خطاب الله الأخير ; وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل .
وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا : هذا نجم قديم "رجعي ? " يحسن أن يستبدل به نجم جديد "تقدمي ! " أو أن هذا "الإنسان" مخلوق قديم "رجعي" يحسن أن يستبدل به كائن آخر "تقدمي" لعمارة هذه الأرض !!!
إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك , فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن . خطاب الله الأخير للإنسان .
وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد "غزوة بدر" - في السنة الثانيةمن الهجرة - إلى ما بعد "غزوة أحد" في السنة الثالثة . وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية . وفعل القرآن - إلى جانب الأحداث - في هذه الحياة , وتفاعله معها في شتى الجوانب .(11/13)
والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة ; وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة ; وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة . مع استبطان السرائر والضمائر , وما يدب فيها من الخواطر , وما يشتجر فيها من المشاعر , حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث , ويعايش الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها . ولو أغمض الإنسان عينيه فلربما تراءت له - كما تراءت لي - شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية , بسماتها الظاهرة على الوجوه , ومشاعرها المستكنة في الضمائر . ومن حولها أعداؤها يتربصون بها , ويبيتون لها , ويلقون بينها بالفرية والشبهة , ويتحاقدون عليها , ويجمعون لها , ويلقونها في الميدان , وينهزمون أمامها - في أحد - ثم يكرون عليها فيوقعون بها . . وكل ما يجري في المعركة من حركة وكل ما يصاحب حركاتها من انفعال باطن وسمة ظاهرة . . والقرآن يتنزل ليواجه الكيد والدس , ويبطل الفرية والشبهة , ويثبت القلوب والأقدام , ويوجه الأرواح والأفكار , ويعقب على الحادث ويبرز منه العبرة , ويبني التصور ويزيل عنه الغبش , ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر والكيد الماكر , ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل , قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكن الصدور . .
ومن وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة طليقة من قيد الزمان والمكان , وقيد الظروف والملابسات , تواجه النفس البشرية , وتواجه الجماعة المسلمة - اليوم وغدا - وتواجه الإنسانية كلها , وكأنها تتنزل اللحظة لها , وتخاطبها في شأنها الحاضر , وتواجهها في واقعها الراهن . ذلك أنها تتناول أمورا وأحداثا ومشاعر وجدانية وحالات نفسية كأنما كانت ملحوظة في سياق السورة . . بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير بالنفوس والأشياء والأمور .(11/14)
ومن ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان . وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل . وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون . . ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور . .
في هذه الفترة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول {صلى الله عليه وسلم} ومضت خطوة وراء الموقف الذي صورناه من قبل في هذه الظلال في مطلع استعراض "سورة البقرة " .
كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت ; وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش . وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة . . ومن ثم اضطر رجل كعبد الله بن أبي بن سلول من عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه {صلى الله عليه وسلم} وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم ; وأن ينضم - منافقا - للجماعة المسلمة , وهو يقول : "هذا أمر قد توجه" . . أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يرده عنها راد !
بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة - أو تمت وأفرخت , فقد كان هناك قبل بدر من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام - وأصبحت مجموعة من الرجال , ومن ذوي المكانة فيهم , مضطرة إلى التظاهر بالإسلام , والانضمام إلى المجتمع المسلم , بينما هي تضمر في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين ; وتتربص بهم الدوائر ; وتتلمس الثغرات في الصف ; وتترقب الأحداث التي تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم , ليظهروا كوامن صدورهم , أو ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم !(11/15)
وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود , الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين , وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام مثل ما يجد المنافقون بل أشد . وقد هددهم الإسلام تهديدا قويا في مكانتهم بين "الأميين" من العرب في المدينة ; وسد عليهم الثغرة التي كانوا ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج , بعدما أصبحوا بنعمة الله إخوانا , وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا .
وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر , وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة , وانطلقوا بكل ما يمكلون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي , وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين , ونشر الشبهات والشكوك , في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء !
وفي هذه الفترة وقع حادث بني قينقاع فوضح العداء وسفر . . على الرغم مما كان بين اليهود والنبي {صلى الله عليه وسلم} من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة .
كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر , يحسبون ألف حساب لانتصار محمد {صلى الله عليه وسلم} ومعسكر المدينة , وللخطر الذي يتمثل إذن على تجارتهم وعلى مكانتهم وعلى وجودهم كذلك ! ومن ثم يتهيأون لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن يصبح القضاء عليه مستحيلا .
وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك ! كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة . غير متناسق تماما . فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار ; ولكن فيه كذلك نفوس وشخصيات لم تنضج بعد . والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب الواقعية ما يسوي النتوءات , ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة لها , وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه .(11/16)
كان للمنافقين - وعلى رأسهم عبد الله بن أبي - مكانتهم في المجتمع , وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد ; ولم ينضج في نفوس المسلمين الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة معها . ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه العناصر مندمجة في الصف , مؤثرة في مقاديره . [ كما يتجلى ذلك في أحداث غزوة أحد عند استعراض النصوص الخاصة بها في السورة ] .
وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة , وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها . ولم يتبين عداؤهم سافرا . ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد , وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة ! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة . وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به . وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي {صلى الله عليه وسلم} أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم [ كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي في بني قينقاع , وإغلاظه في هذا للرسول {صلى الله عليه وسلم} ] .
ومن ناحية أخرى كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل . فقدخرج ذلك العدد القليل من المسلمين , غير مزودين بعدة ولا عتاد - إلا اليسير - فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم . ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر .
وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من قدر الله . ندرك اليوم طرفا من حكمته . ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها . بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة , لتأخذ بعد ذلك طريقها .(11/17)
فأما المسلمون فلعلهم قد وقع في نفوسهم - من هذا النصر - أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره . وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق ! أليسوا بالمسلمين ? أليس أعداؤهم بالكافرين ? وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين !
غير أن سنة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة , فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس , وتكوين الصفوف , وإعداد العدة , واتباع المنهج , والتزام الطاعة والنظام , واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان . . وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في "غزوة أحد" على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا , وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين ; وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء .
وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء - على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه - وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم . . كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته وتكسر سنة , ويسقط في الحفرة , ويغوص حلق المغفر في وجنته {صلى الله عليه وسلم} الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين !
ويسبق استعراض "غزوة أحد" وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة ; ولتقرير حقيقة التوحيد جلية ناصعة , والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب , سواء منها ما هو ناشىء من انحرافاتهم هم في معتقداتهم , وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة .(11/18)
وتذكر عدة روايات أن الآيات من 1 - 83 نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران اليمن الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة . ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة هي زمن نزول هذه الآيات . فواضح من طبيعتها وجوها أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة , حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة . وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وفي سلوكها .
وسواء صحت رواية أن الآيات نزلت في وفد نجران أم لم تصح ; فإنه واضح من الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى عليه السلام , وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام . وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه . وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها .
ولكن هذا الفصل يتضمن كذلك إشارات وتقريعات لليهود وتحذيرات للمسلمين من دسائس أهل الكتاب . وما كان يجاورهم في المدينة من أهل الكتاب ممن يمثل مثل هذا الخطر إلا اليهود .
وعلى أية حال فإن هذا الفصل الذي يستغرق حوالي نصف السورة يصور جانبا من جوانب الصراع بينالعقيدة الإسلامية والعقائد المنحرفة في الجزيرة كلها . . وهو ليس صراعا نظريا إنما هو الجانب النظري من المعركة الكبيرة الشاملة بين الجماعة المسلمة الناشئة وكل أعدائها الذين كانوا يتربصون بها , ويتحفزون من حولها , ويستخدمون في حربها كل الأسلحة وكل الوسائل . وفي أولها زعزعة العقيدة ! وهي في صميمها المعركة التي ما تزال ناشبة إلى هذه اللحظة بين الأمة المسلمة وأعدائها . . إنهم هم هم : الملحدون المنكرون , والصهيونية العالمية , والصليبية العالمية !!!(11/19)
ومن مراجعة نصوص السورة يتبين أن الوسائل هي الوسائل كذلك ; والأهداف هي الأهداف . ويتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة , ومرجع هذه الأمة - اليوم وغدا - كما كان قرآنها ومرجعها بالأمس في نشأتها الأولى . وأنه لا يعرض عن استنصاح هذا الناصح واستشارة هذا المرجع في المعركة الناشبة اليوم إلا مدخول يعرض عن سلاح النصر في المعركة ; ويخدع نفسه أو يخدع الأمة , لخدمة أعدائها القدامى المحدثين في غفلة بلهاء أو في خبث لئيم !
ومن خلال المناقشات والجدل والاستعراض والتوجيه في هذا المقطع الأول يتبين موقف أهل الكتاب المنحرفين عن كتابهم , من الجماعة المسلمة والعقيدة الجديدة , ممثلا في أمثال هذه النصوص :
(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه , ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . . .). .
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم , ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ?). .
(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده . . . ?). .
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم . .). .
(يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ?). .
(يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ?). .
(وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) , (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ! . .). .
(ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما . ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ! ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون). .
(وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب - وما هو من الكتاب - ويقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون). .(11/20)
(قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون). .
(قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء ?).
(ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله . وإذا لقوكم قالوا : آمنا . وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ). .
(إن تمسسكم حسنة تسؤهم , وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها). .
وهكذا نرى أن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب ; ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربوها بالسيف والرمح فحسب . . إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها . كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك , ونثر الشبهات وتدبير المناورات ! كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها , ومنها قام وجودها , فيعملون فيها معاول الهدم والتوهين . ذلك أنهم كانوا يدركون كما يدركون اليوم تماما - أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل ; ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها ; ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها ; ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان , مرتكنة إلى ركنه , سائرة على نهجه , حاملة لرايته , ممثلة لحزبه , منتسبة إليه , معتزة بهذا النسب وحده .
ومن هنا يبدو أن أعدى أعداء هذه الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية , ويحيد بها عن منهج الله وطريقه , ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة .(11/21)
إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة . وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات , فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة , لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها , ملتزمة بمنهجها , مدركة لكيد أعدائها . . ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين في خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة , ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال , وهم آمنون من عزمة العقيدة في الصدور !
وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة , والتشكيك فيها , والتوهين من عراها , استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة . ولكن لنفس الغاية القديمة : (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم !!!). . فهذه هي الغاية الثابتة الدفينة !
لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا . . كان يأخذ الجماعة المسلمة بالتثبيت على الحق الذي هي عليه ; وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب ; ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين ; ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض , ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية .
وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين , ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة , وأهدافهم الخطرة , وأحقادهم على الإسلام والمسلمين , لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم . .
وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود . فيبين لها هزال أعدائها , وهوانهم على الله , وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء . كما يبين لها أن الله معها , وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك . وأنه سيأخذ الكفار [ وهو تعبير هنا عن اليهود ] بالعذاب والنكال ; كما أخذ المشركين في بدر منذ عهد قريب .
وكانت هذه التوجيهات تتمثل في أمثال هذه النصوص :(11/22)