والقول الثاني : أنه تعالى أمر الرسول أن يقول لهم : موتوا ، وأن يقول عند الإحياء ما رويناه عن السدي ، ويحتمل أيضاً ما رويناه من أن الملك قال ذلك ، والقول الأول أقرب إلى التحقيق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 139}
وقال ابن عاشور :
وقوله تعالى : {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} القَولُ فيه إما مجاز في التكوين والموت حقيقة أي جعل فيهم حالة الموت ، وهي وقوف القلب وذهاب الإدراك والإحساس ، استعيرت حالة تلقي المكوَّن لأثر الإرادة بتلقي المأمور للأمر ، فأطلق على الحالة المشبهة المركبُ الدال على الحالة المشبَّه بها على طريقة التمثيل ، ثم أحياهم بزوال ذلك العارض فعلموا أنهم أصيبوا بما لو دام لكان موتاً مستمراً ، وقد يكون هذا من الأدواء النادرة المشْبِهة داء السكت وإما أن يكون القول مجازاً عن الإنذار بالموت ، والموتُ حقيقة ، أي أراهم الله مهالك شموا منها رائحة الموت ، ثم فرج الله عنهم فأحياهم.
وإما أن يكون كلاماً حقيقياً بوحي الله ، لبعض الأنبياء ، والموتُ موت مجازي ، وهو أمر للتحقير شتماً لهم ، ورَماهم بالذل والصغار ، ثم أحياهم ، وثبتَ فيهم روح الشجاعة. (1)
_____________
(1) لا يخفى ما فى هذا الوجه وما قبله من بعد بعيد فما سبب حمل الموت على المجاز مع أن المجاز خلاف الأصل ولا يصار إليه إلا إذا تعذر حمل اللفظ على الحقيقة كذلك المجاز يحتاج إلى قرينة أو مرجح وهو مفقود فى الآية الكريمة فلم يبق إلا حمل الموت على الحقيقة. والله أعلم بمراده.(7/282)
والمقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن ، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت ، فهؤلاء الذين ضُرب بهم هذا المثلُ خرجوا من ديارهم خائفين من الموت ، فلم يغن خوفهم عنهم شيئاً ، وأراهم الله الموت ثم أحياهم ، ليصير خُلُق الشجاعة لهم حاصلاً بإدراك الحس.
ومحل العبرة من القصة هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه ، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئاً ، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت ، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله ، كما قال تعالى : {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل} [ الأحزاب : 16 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 479 ـ 480}
وقال أبو حيان :
{فقال لهم الله موتوا} ظاهره أن ثَمّ قولاً لله ، فقيل : قال لهم ذلك على لسان الرسول الذي أذن له في أن يقول لهم ذلك عن الله ، وقيل : على لسان الملك. وحكي : أن ملكين صاحا بهم : موتوا ، فماتوا. وقيل : سمعت الملائكة ذلك فتوفتهم ، وقيل : لا قول هناك ، وهو كناية عن قابليتهم الموت في ساعة واحدةٍ وموتهم كموتة رجل واحد ، والمعنى : فأماتهم ، لكن أخرج ذلك مخرج الشخص المأمور بشيء ، المسرع الامتثال من غير توقف ، ولا امتناع ، كقوله تعالى : {كن فيكون}
وفي الكلام حذف ، التقدير : فماتوا ، وظاهر هذا الموت مفارقة الأرواح الأجساد ، فقيل : ماتوا ثمانية أيام ثم أحياهم بعد ، بدعاء حزقيل ؛ وقيل : سبعة أيام ، وقد تقدّم في بعض القصص أنه عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، وهذا لا يكون في العادة في ثمانية أيام ، وهذا الموت ليس بموت الآجال ، بل جعله الله في هؤلاء كمرض وحادث مما يحدث على البشر ، كحال {الذي مر على قرية} المذكورة بعد هذا.
{ثم أحياهم} العطف بثم يدل على تراخي الإحياء عن الإماتة ، قال قتادة : أحياهم ليستوفوا آجالهم.(7/283)
وظاهره أن الله هو الذي أحياهم بغير واسطة ، وقال مقاتل : كانوا قوم حزقيل ، فخرج فوجدهم موتى ، فأوحى الله إليه : إني جعلت حياتهم إليك ، فقال لهم : احيوا. وقال ابن عباس : النبي شمعون ، وريح الموتى توجد في أولادهم. وقيل : النبي يوشع بن نون ، وقال وهب : اسمه شمويل وهو ذو الكفل ، وقال مجاهد : لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرقون ، لكن سحنة الموت على وجوههم ولا يلبس أحد منهم ثوباً إلاَّ عاد كفناً دسماً ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم (1) ، وقيل : معنى إماتتهم تذليلهم تذليلاً يجري مجرى الموت ، فلم تغن عنهم كثرتهم وتظاهرهم من الله شيئاً ، ثم أعانهم وخلصهم ليعرفوا قدرة الله في أنه يذل من يشاء ، ويعز من يشاء ، وقيل : عنى بالموت : الجهل ، وبالحياة : العلم ، كما يحيا الجسد بالروح.
_____________
(1) كثير من هذه الأقوال يفتقر إلى الدليل والسند الصحيح والأولى الإعراض عن الجزم بصحتها وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى. والله أعلم.(7/284)
وأتت هذه القصة بين يدي الأمر بالقتال تشجيعاً للمؤمنين ، وحثاً على الجهاد والتعريض للشهادة ، وإعلاماً أن لا مفر مما قضى الله تعالى : {قل لن يصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا} واحتجاجاً على اليهود ، والنصارى بإنبائه صلى الله عليه وسلم بما لا يدفعون صحته ، مع كونه أمّياً لم يقرأ كتاباً ، ولم يدارس أحداً ، وعلى مشركي العرب إذ من قرأ الكتب يصدقه في إخباره بما جاء به مما هو في كتبهم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 260}
سؤال : لم عبر بالأمر ، دون أن يقال : فأماتهم الله ثم أحياهم ؟
الجواب : إنما عبر بالأمر ، دون أن يقال : فأماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدل على نفوذ القدرة وغلبة الأمر ، فإن التعبير بالإنشاء في التكوينيات أقوى وآكد من التعبير بالإخبار كما أن التعبير بصورة الإخبار الدال على الوقوع في التشريعيات أقوى وآكد من الإنشاء ، ولا يخلو قوله تعالى : {ثم أحياهم} عن الدلالة على أن الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم ، إذ لو كان إحياؤهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لإتمام حجة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصة أصحاب الكهف ، على أن قوله تعالى بعد : {إن الله لذو فضل على الناس} ، يشعر بذلك أيضا. أ هـ {الميزان 2 صـ 279}
قوله تعالى : {ثُمَّ أحياهم}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {ثُمَّ أحياهم} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الآية دالة على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا فوجب القطع به ، وذلك لأنه في نفسه جائز والصادق أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه ، أما الإمكان فلأن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن ، وإلا لما وجد أولاً ، واحتمال تلك الأجزاء للحياة ممكن وإلا لما وجد أولاً ، ومتى ثبت هذا فقد ثبت الإمكان ، وأما إن الصادق قد أخبر عنه ففي هذه الآية ، ومتى أخبر الصادق عن وقوع ما ثبت في العقل إمكان وقوعه وجب القطع به.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : إحياء الميت فعل خارق للعادة ، ومثل هذا لا يجوز من الله تعالى إظهاره إلا عندما يكون معجزة لنبي ، إذ لو جاز ظهوره لا لأجل أن يكون معجزة لنبي لبطلت دلالته على النبوة ، وأما عند أصحابنا فإنه يجوز إظهار خوارق العادات لكرامة الولي ، ولسائر الأغراض ، فكأن هذا الحصر باطلاً ، ثم قالت المعتزلة : وقد روي أن هذا الإحياء إنما وقع في زمان حزقيل النبي عليه السلام ببركة دعائه ، وهذا يحقق ما ذكرناه من أن مثل هذا لا يوجد إلا ليكون معجزة للأنبياء عليهم السلام ، وقيل : حزقيل هو ذو الكفل ، وإنما سمي بذلك لأنه تكفل بشأن سبعين نبياً وأنجاهم من القتل ، وقيل : إنه عليه السلام مر بهم وهم موتى فجعل يفكر فيهم متعجباً ، فأوحى الله تعالى إليه : إن أردت أحييتهم وجعلت ذلك الإحياء آية لك ، فقال : نعم فأحياهم الله تعالى بدعائه.(7/285)
المسألة الثالثة : أنه قد ثبت بالدلائل أن معارف المكلفين تصير ضرورية عند القرب من الموت : وعند معاينة الأهوال والشدائد ، فهؤلاء الذين أماتهم الله ثم أحياهم لا يخلو إما أن يقال إنهم عاينوا الأهوال والأحوال التي معها صارت معارفهم ضرورية ، وإما ما شاهدوا شيئاً من تلك الأهوال بل الله تعالى أماتهم بغتة ، كالنوم الحادث من غير مشاهدة الأهوال ألبتة ، فإن كان الحق هو الأول ، فعندما أحياهم يمتنع أن يقال : إنهم نسوا تلك الأهوال ونسوا ما عرفوا به ربهم بضرورة العقل ، لأن الأحوال العظيمة لا يجوز نسيانها مع كمال العقل ، فكان يجب أن تبقى تلك المعارف الضرورية معهم بعد الإحياء ، وبقاء تلك المعارف الضرورية يمنع من صحة التكليف ، كما أنه لا يبقى التكليف في الآخرة ، وإما أن يقال : إنهم بقوا بعد الإحياء غير مكلفين ، وليس في الآية ما يمنع منه ، أو يقال : إن الله تعالى حين أماتهم ما أراهم شيئاً من الآيات العظيمة التي تصير معارفهم عندها ضرورية ، وما كان ذلك الموت كموت سائر المكلفين الذين يعاينون الأهوال عند القرب من الموت ، والله أعلم بحقائق الأمور.
المسألة الرابعة : قال قتادة : إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم ، وهذا القول فيه كلام كثير وبحث طويل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 139 ـ 140}
فائدة
قال البقاعى :
قال أهل التفسير : إن إحياءهم كان على يد حزقيل أحد أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام ؛ وقال البغوي : إنه ثالث خلفائهم ، والذي رأيته في سفر الأنبياء المبعوثين منهم بعد موسى عليه الصلاة والسلام لتجديد أمر التوراة وإقامة ما درس من أحكامها وهم ستة عشر نبياً أولهم يوشع بن نون وآخرهم دانيال على جميعهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام أن حزقيل خامس عشرهم عليه الصلاة والسلام.
(7/286)
قال في الإصحاح الحادي والعشرين من نبوته : وكانت على يد الرب وأخرجني روح الرب إلى صحراء مملوءة عظام موتى وأمرني أجوز عليها وأدور حولها ، فرأيتها كثيرة في الصحراء يابسة وقال لي : يا ابن الإنسان! هل تعيش هذه العظام ؟ فقلت : أنت تعلم يا رب الأرباب! قال لي : تنبأ على هذه العظام وقل لها : أيتها العظام البالية! اسمعوا كلام الله أن هكذا يقول رب الأرباب لهذه العظام : إني أرد فيكم الروح فتحيون وتعلمون أني أنا الرب ، آتي بالعصب والجلد واللحم أنبته ، وأرد فيكم الأرواح فتحيون ، فلما تنبأت بهذا صار صوت عظيم وزلزلة ، واقتربت العظام كل عظم إلى مفصله ، ورأيت قد صعد عليها العصب ونبت اللحم ورد عليها الجلد من فوق ذلك ولم يكن فيهم روح ، وقال الرب : يا ابن الإنسان! هذه العظام كلها من بني إسرائيل ومن الأنبياء الذين كانوا يقتلون وقد بليت عظامهم وكل رجل بطل ، تنبأ أيها الإنسان وقل للروح : هكذا يقول رب الأرباب : تعالوا أيها الأرواح ، وأنفخ في هؤلاء القتلى فيعيشوا ، فتنبأت كالذي أمرني الرب ، فدخلت فيهم الروح وعاشوا وقاموا على أرجلهم جيش عظيم جداً ، وقال لي الرب : يا ابن الإنسان! هذه العظام كلها من بني إسرائيل ومن الأنبياء الذين كانوا يقتلون وقد بليت عظامهم وكل رجل بطل ، فمن أجل هذا تنبأ وقل : هكذا يقول رب الأرباب : هو ذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم وآتي بكم إلى أرض إسرائيل وتعلمون أني أنا الرب أنفخ فيكم روحي فتعيشون وأترككم تعملون ؛ قد قلت هذا وأنا أفعله - انتهى. (1) أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 466 ـ 467}
______________
(1) ما ذكر فى التوراة ينبغى عدم التعويل عليه لعدم سلامتها من التحريف. والله أعلم بحقائق الأمور.(7/287)
شبهة والرد عليها
قال صاحب الميزان :
وقد ذكر بعض المفسرين أن الآية مثل ضربه الله لحال الأمة في تأخرها وموتها باستخزاء الأجانب إياها ببسط السلطة والسيطرة عليها ، ثم حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيوية واستقلالها في حكومتها على نفسها.
قال ما حاصله : إن الآية لو كانت مسوقة لبيان قصة من قصص بني إسرائيل كما يدل عليه أكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الإشارة إلى كونهم من بني إسرائيل ، وإلى النبي الذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع أن الآية خالية عن ذلك ، على أن التوراة أيضا لم تتعرض لذلك في قصص حزقيل النبي على نبينا وآله و(عليه السلام) فليست الروايات إلا من الإسرائيليات التي دستها اليهود ، مع أن الموت والحياة الدنيويتين ليستا إلا موتا واحدا أو حياة واحدة كما يدل عليه قوله تعالى : " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " الدخان - 56 ، وقوله تعالى : " وأحييتنا اثنتين " المؤمن - 11 ، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا ، فالآية مسوقة سوق المثل ، والمراد بها قوم هجم عليهم أولوا القدرة والقوة من أعدائهم باستذلالهم واستخزائهم وبسط السلطة فيهم والتحكم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم ، وخرجوا من ديارهم وهم الوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت ، فقال لهم الله موتوا موت الخزى والجهل ، فإن الجهل والخمود موت كما أن العلم وإباء الضيم حياة ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " الأنفال - 24 ، وقال تعالى : "أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الأنعام - 122.
(7/288)
وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزى وتمكن الأعداء منهم ويبقون أمواتا ، ثم أحياهم الله بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحق فيهم ، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلوا في أمرهم ، وهؤلاء الذين أحياهم الله وإن كانوا بحسب الأشخاص غير الذين أماتهم الله إلا أن الجميع أمة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين ، وقد عد الله تعالى القوم واحدا مع اختلاف الأشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل : " أنجيناكم من آل فرعون " الأعراف - 141 ، وقوله تعالى : " ثم بعثناكم من بعد موتكم " البقرة - 56 ، ولولا ما ذكرناه من كون الآية مسوقة للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال وهو ظاهر ، انتهى ما ذكره ملخصا.
وهذا الكلام كما ترى مبني أولا : على إنكار المعجزات وخوارق العادات أو بعضها كإحياء الموتى وقد مر إثباتها ، على أن ظهور القرآن في إثبات خرق العادة بإحياء الموتى ونحو ذلك مما لا يمكن إنكاره ولو لم يسع لنا إثبات صحته من طريق العقل.
وثانيا : على دعوى أن القرآن يدل على امتناع أكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدل بمثل قوله تعالى : " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " الدخان - 56 ، وقوله تعالى : " أحييتنا اثنتين " المؤمن - 11.
وفيه أن جميع الآيات الدالة على إحياء الموتى كما في قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير ، بحيث لا تدفع دلالتها ، يكفي في رد ما ذكره ، على أن الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين كما يستفاد أحسن الاستفادة من قصة عزير ، حيث لم يتنبه لموته الممتد ، والمراد بما أورده من الآيات الدالة على نوع الحياة.
وثالثا : على أن الآية لو كانت مسوقة لبيان القصة لتعرضت لتعيين قومهم وتشخيص النبي الذي أحياهم.
(7/289)
وأنت تعلم أن مذاهب البلاغة مختلفة متشتتة ، والكلام كما ربما يجري مجرى الإطناب كذلك يجري مجرى الإيجاز ، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى : " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود " البروج - 7 ، وقوله تعالى : " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " الاعراف - 181.
ورابعا : على أن الآية لو لم تحمل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى ، وأنت تعلم أن نزول القرآن نجوما يغني عن كل تكلف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض إلا ما كان منها ظاهر الارتباط ، بين الاتصال على ما هو شأن الكلام البليغ.
فالحق أن الآيه كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصة ، وليت شعري أي بلاغة في أن يلقي الله سبحانه للناس كلاما لا يرى أكثر الناظرين فيه إلا أنه قصة من قصص الماضين ، وهو في الحقيقة تمثيل مبني على التخييل من غير حقيقة.
مع أن دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الأمثال الموضوعة فيه بنحو قوله : " مثلهم كمثل الذي " البقرة - 17 ، وقوله : " إنما مثل الحياة الدنيا " يونس - 24 ، وقوله : " مثل الذين حملوا " الجمعة - 5 ، إلى غير ذلك. أ هـ {الميزان 2 صـ 280 ـ 281}(7/290)
سؤال : فإن قلت كيف أميت هؤلاء مرتين في الدنيا وقد قال الله تعالى : {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} [ الدخان : 56 ] ؟ .
قلت : إن موتهم كان عقوبة لهم كما قال قتادة
وقيل : إن موتهم وإحياءهم كان معجزة من معجزات ذلك النبي ومعجزات الأنبياء خوارق للعادات ، ونوادر فلا يقاس فيكون قوله {إلاّ الموتة الأولى} عاماً مخصوصاً بمعجزات الأنبياء أي إلاّ الموتة الأولى التي ليست من معجزات الأنبياء ولا من خوارق العادات. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 169}
قوله تعالى : {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} ففيه وجوه
أحدها : أنه تفضل على أولئك الأقوام الذين أماتهم بسبب أنه أحياهم ، وذلك لأنهم خرجوا من الدنيا على المعصية ، فهو تعالى أعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي
وثانيها : أن العرب الذين كانوا ينكرون المعاد كانوا متمسكين بقول اليهود في كثير من الأمور ، فلما نبه الله تعالى اليهود على هذه الواقعة التي كانت معلومة لهم ، وهم يذكرونها للعرب المنكرين للمعاد ، فالظاهر أن أولئك المنكرين يرجعون من الدين الباطل الذي هو الإنكار إلى الدين الحق الذي هو الإقرار بالبعث والنشور فيخلصون من العقاب ، ويستحقون الثواب ، فكان ذكر هذه القصة فضلاً من الله تعالى وإحساناً في حق هؤلاء المنكرين
وثالثها : أن هذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد ، فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان ، وتزيل عن قلبه الخوف من الموت ، فكان ذكر هذه القصة سبباً لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة التي بها يفوز بالثواب العظيم ، فكان ذكر هذه القصة فضلاً وإحساناً من الله تعالى على عبده ، ثم قال : {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} وهو كقوله : {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} [ الفرقان : 50 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 140}
وقال ابن عطية : (7/291)
وقوله تعالى : {إن الله لذو فضل على الناس} الآية ، تنبيه على فضل الله على هؤلاء القوم الذين تفضل عليهم بالنعم وأمرهم بالجهاد ، وأمرهم بأن لا يجعلوا الحول والقوة إلاّ له ، حسبما أمر جميع العالم بذلك ، فلم يشكروا نعمته في جميع هذا ، بل استبدوا وظنوا أن حولهم وسعيهم ينجيهم . وهذه الآية تحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل ، أي فيجب أن يشكر الناس فضل الله في إيجاده لهم ورزقه إياهم وهدايته بالأوامر والنواهي ، فيكون منهم الجري إلى امتثالها لا طلب الخروج عنها ، وتخصيصه تعالى الأكثر دلالة على الأقل الشاكر. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 328}
وقال العلامة أبو حيان :
{إن الله لذو فضل على الناس} أكد هذه الجملة : بإن ، واللام ، وأتى الخبر : لذو ، الدالة على الشرف ، بخلاف صاحب ، و: الناس ، هنا عام ، لأن كل أحد لله عليه فضل أيّ فضل ، وخصوصاً هنا ، حيث نبههم على ما به يستبصرون ويعتبرون على النشأة الآخرة ، وأنها ممكنة عقلا ، كائنة بإخباره تعالى : إذ أعاد إلى الأجسام البالية المشاهدة بالعين الأرواح المفارقة ، وأبقاها فيها الأزمان الطويلة إلى أن قبضها ثانية ، وأي فضل أجل من هذا الفضل ، إذ تتضمن جميع كليات العقائد المنجية وجزئياتها : ويجوز أن يراد : بالناس ، ههنا الخصوص ، وهم هؤلاء الذين تفضل عليهم بالنعم ، وأمرهم بالجهاد ففروا منه خوفاً من الموت ، فأماتهم ، ثم تفضل عليهم بالإحياء وطوّل لهم في الحياة ليستيقنوا أن لا مفر من القدر ، ويستدركوا ما فاتهم من الطاعات ، وقص الله علينا ذلك تنبيهاً على أن لا نسلك مسلكهم بل نمتثل ما يأمر به تعالى.(7/292)
{ولكن أكثر الناس لا يشكرون} تقدّم فضل الله على جميع الناس بالإيجاد والرزق ، وغير ذلك ، فكان المناسب لهم أنهم يشكرون الله على ذلك ، وهذا الاستدراك : بلكن ، مما تضمنه قوله : {إن الله لذو فضل على الناس} والتقدير : فيجب عليهم أن يشكروا الله على فضله ، فاستدرك بأن أكثرهم لا يشكرون ، ودل على أن الشاكر قليل ، كقوله : {وقليل من عبادي الشكور} ويخص : الناس ، الثاني بالمكلفين. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 260}
سؤال : لم إظهارُ الناس في مقام الإضمار ؟
الجواب : إظهارُ الناس في مقام الإضمار لمزيد التشنيع. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 238}
فوائد وفصول مهمة للعلامة القرطبى
قال رحمه الله : :
روى الأئمة واللفظ للبخاريّ من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أُسامة بن زيد يحدّث سعداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال : " رِجْزٌ أَوْ عَذابٌ عُذِّب به بعض الأُمم ثم بقي منه بِقيّةٌ فيذهب المرّةَ ويأتي الأُخْرى فمن سمع به بأرض فلا يقِدَمنّ عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فِراراً منه " وأخرجه أبو عيسى الترمذيّ فقال : حدّثنا قتيبة أنبأنا حمّاد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عامر بن سعد عن أُسامة بن زيد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال : " بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها " قال : حديث حسن صحيح. وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم لما رجعوا من سَرْغ حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بالحديث ، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره.(7/293)
وقد كَرِه قوم الفِرار من الوَبَاء والأرض السقيمة ؛ رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الفِرار من الوباء كالفرار من الزَّحْف. وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة ، وفيها : أنه رجع. وقال الطبريّ : في حديث سعد دلالةٌ على أن على المرء توقِّي المكاره قبل نزولها ، وتجنُّب الأشياء المخوفة قبل هجومها ، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها ؛ وذلك أنه عليه السلام نَهى مَن لم يكن في أرض الوَبَاء عن دخولها إذا وقع فيها ، ونَهى مَن هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فراراً منه ؛ فكذلك الواجب أن يكون حكم كل مُتّق من الأُمور غوائلها ، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام : " لا تتَمنَّوْا لقاء العدوّ وسَلُوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا ". قلت : وهذا هو الصحيح في الباب ، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام ، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام ( رضي الله عنهم ) ، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجّاً عليه لما قال له : أفراراً من قدر الله! فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم ، نَفِرّ من قدر الله إلى قدر الله. المعنى : أي لا محيص للإنسان عما قدّره الله له وعليه ، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرّز من المخاوف ( والمهلكات ) ، وباستفراغ الوسع في التَوقِّي من المكروهات. ثم قال له : أرأيت لو كانت لك إبْلٌ فهبطت وادياً له عُدْوَتان إحداهما خَصْبة والأُخرى جَدْبَة ، أليس إن رَعَيْتَ الخَصْبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجَدْبَة رعيتها بقَدَر الله ( عز وجل ). فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. قال الكيا الطبريّ : ولا نعلم خلافاً أن الكفار أو قُطّاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحّوا من بين أيديهم ، وإن كانت الآجال المقدّرة لا تزيد ولا تنقص. وقد قيل : إنما نُهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه ، (7/294)
لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام ، فلا فائدة لفراره ، بل يُضِيف إلى ما أصابه من مَبادىء الوباء مَشَقّات السفر ، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فَجْوَة ومَضِيق ، ولذلك يقال : ما فرّ أحد من الوباء فسَلِم ؛ حكاه ابن المدائني. ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} ولعله إن فرّ ونجا يقول : إنما نجوت من أجل خروجي عنه. فيسوء اعتقاده. وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه ، ولما فيه من تخلية البلاد : ولا تخلو من مستَضْعَفين يصعب عليهم الخروج منها ، ولا يتأتّى لهم ذلك ، ويتأذّون بخلوِّ البلاد من المياسير الذين كانوا أركاناً للبلاد ومَعُونَةً للمستضعفين.
وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدَم عليه أحدٌ أخْذاً بالحَزْم والحَذَر والتحرّز من مواضع الضرر ، ودفْعاً للأوهام المشوِّشة لنفس الإنسان ؛ وفي الدخول عليه الهلاك ، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى ، فإنّ صيانة النفس عن المكروه واجبةٌ ، وقد يُخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول : لولا دخولي في هذا المكان لما نَزَل بي مكروه. فهذه فائدة النّهْي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها ، والله أعلم. وقد قال ابن مسعود : الطاعون فِتْنَةٌ على المقيم والفارّ ؛ فأما الفارّ فيقول : فبفراري نجوت ، وأما المقيم فيقول : أقمتُ فمتّ ؛ وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجْذُوم فقال : ما سمعت فيه بكراهة ، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خِيفَةَ أن يفزعه أو يُخيفه شيء يقع في نفسه ؛ " قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الوباء : "إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" " وسئل أيضاً عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض ، فهل يُكره الخروج منها ؟ فقال : ما أرى بأساً خرج أو أقام.
(7/295)
فصل في قوله عليه السلام : " إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه ، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وكذلك حكم الداخل إذا أيْقَنَ أن دخولها لا يجلب إليه قَدَراً لم يكن الله قدّره له ؛ فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحدّ الذي ذكرناه ، والله أعلم.
فصل
في فضل الصبر على الطاعون وبيانه. الطاعون وزنه فاعول من الطَّعْن ، غير أنه لما عُدِل به عن أصله وُضع دالاّ على الموت العام بالوباء ؛ قاله الجوهري. ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " "فَناء أُمتي بالطَّعْن والطاعون" قالت : الطعن قد عرفنا فما الطاعون ؟ قال : "غُدّة كغدّة البعير تخرج في المَرَاقِّ والآباط" " قال العلماء : وهذا الوَبَاء قد يُرسله الله نِقْمَةً وعُقوبةً على من يشاء من العُصَاة من عبيده وكَفَرَتهم ، وقد يُرسله شهادةً ورحمةً للصالحين ؛ كما قال معاذ في طاعون عَمْوَاس : إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيِّكم ، اللهم أعط معاذاً وأهله نصيبهم من رحمتك. فطعن في كفه رضي الله عنه. قال أبو قِلابة : قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم ؟ فسألت عنها فقيل : دعا عليه السلام أن يجعل فَناء أُمته بالطعن والطاعون حين دعاء ألا يجعل بأس أُمته بينهم فمُنِعَها فدعا بهذا. ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الفارّ من الطاعون كالفارّ من الزَّحْف والصابر فيه كالصابر في الزحف "
(7/296)
وفي البخاري " عن يحيى بن يَعْمَر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم : "أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يَقَع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مِثْلَ أجر الشهيد" " وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام : " الطاعون شهادة والمطعون شهيد " أي الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه ؛ ولذلك تَمَنّى معاذٌ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد. وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفرّ منه فليس بداخل في معنى الحديث ، والله أعلم.
فصل
قال أبو عمر : لم يبلغني أن أحداً من حملة العلم فرّ من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جُدْعان هرب من الطاعون إلى السَّيَالة فكان يُجَمِّع كل جمعة ويرجع ؛ فكان إذا جَمَّع صاحوا به : فرّ من الطاعون! فمات بالسَّيَالة. قال : وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن علي الفُقَيْمي في ذلك :
ولما استفز الموتُ كلَّ مكذِّب ... صبرتُ ولم يصبر رباطٌ ولا عمْرو
وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال : هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حماراً له ومضى بأهله نحو سَفَوَان ؛ فسمع حادِياً يَحْدُو خلفه :
لن يُسبقَ الله على حمارِ ... ولا على ذي مَنْعة طيّار
أو يأتيَ الحَتْفُ على مقدار ... قد يُصبح اللَّه أمام السّاري
وذكر المدائني قال : وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مَرْوَان فخرج هارباً منه فنزل قرية من قُرى الصعيد يقال لها "سُكَر". فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك بن مروان. فقال له عبد العزيز : ما اسمك ؟ فقال له : طالب بن مُدْرِك. فقال : أَوْه ما أرَاني راجعاً إلى الفُسْطاط! فمات في تلك القرية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 232 ـ 236}(7/297)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
لمّا استبعدوا قدرة الله في الإعادة أراهم في أنفسهم عياناً ، ثم لم ينفع إظهار ذلك لِمَنْ لم يشحذ بصيرته في التوحيد. ومن قويت بصيرته لم يضره عدم تلك المشاهدات فإنهم تحققوا بما أُخْبِرُوا ، لِمَا آمنوا به بالغيب. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 189}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ...}.
أي متآلفون مجتمعون ، خرجوا في وقت واحد فارين من الموت ، والرؤية إما بصرية أو علمية لكن ( العلمية لاتتعدى بـ ( إلى ) فلذلك قال أبو حيان : " المعنى لم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم ).
قال ابن عرفة : وكذا البصرية ممتنعة هنا فإن أولئك غير موجودين ( حين ) الخطاب لكن نزل الماضي منزلة الحاضر تحقيقا له حتى كأنه مشاهد كما قال سيبويه ، وهذا باب كذا. وفرق في الإرشاد بين نظر في كذا وهو النظر الفكري فجعله يتعدى ( بفي ).
قوله تعالى : {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ...}.
أورد الزمخشري هنا سؤالا فقال : كيف قال لهم الله " مُوتُوا " وكان الأصل فأماتهم الله.
قال ابن عرفة : هذا السؤال إنّما يرد على مذهبه لأنه ينفي الكلام النفسي.
وأجاب بأنه عبارة عن سرعة ( التكوين ) وزاد فيه ( تدقيقا ) لمذهبه بقاعدة ( إجماعية ) وهي قول الله تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وهذا بناء على خطاب المعدوم وهل يصح ( أم ) لا ؟
قال ابن عرفة : وهنا إضمارٌ أي : فماتوا ثم أحياهم.
قوله تعالى : {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس...}.(7/298)
فضله عام باعتبار الكم وباعتبار الكيف فالكم راجع إلى تكثير أعداد النعم والكيف راجع إلى حالها في أنفسها ، والناس عام ، فالكافر منعم عليه في الدنيا وأما في الأخرة فمحل نظر. والاستدراك في قوله {ولكن أَكْثَرَ الناس} راجع إلى لازم قوله {لَذُو فَضْلٍ} فإن من لوازم فضله على الناس أن يشكروه ويحمدوه فلذلك استدرك بعده بـ ( لكن ). أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 316}(7/299)
كلام نفيس للعلامة الشنقيطى فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}.
المقصود من هذه الآية الكريمة ، تشجيع المؤمنين على القتال بإعلامهم بأن الفرار من الموت لا ينجي ، فإذا علم الإنسان أن فراره من الموت أو القتل لا ينجيه ، هانت عليه مبارزة الأقران. والتقدم في الميدان. وقد أشار تعالى أن هذا هو مراده بالآية حيث أتبعها بقوله : {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} [ البقرة : 190 ] الآية وصرح بما أشار إليه هنا في قوله : {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [ الأحزاب : 16 ] وهذه أعظم آية في التشجيع على القتال. لأنها تبين أن الفرار من القتل لا ينجي منه ولو فرض نجاته منه فهو ميت عن قريب ، كما قال قعنب ابن أم صاحب :
إذا أنت لاقيت في نجدة... فلا تتهيبك أن تقدما
فإن المنية من يخشها... فسوف تصادفه أينما
وإن تتخطاك أسبابها... فإن قصاراك أن تهرما
وقال زهير :
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
وقال أبو الطيب :
وإذا لم يكن من الموت بلد... فمن العجز أن تكون جبانا
ولقد أجاد من قال :
في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة... والمرء في الجبن لا ينجو من القدر
وهذا هو المراد بالآيات المذكورة ، ويؤخذ من هذه الآية عدم جواز الفرار من الطاعون إذا وقع بأرض وأنت فيها ، وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الفرار من الطاعون وعن القدوم على الأرض التي هو فيها إذا كنت خارجاً عنها.
تنبيه : لم تأت لفظة ألم تر ونحوها في القرآن مما تقدمه لفظ ألم ، معداة إلا بالحرف الذي هو إلى. وقد ظن بعض العلماء أن ذلك لازم والتحقيق عدم لزومه وجواز تعديته بنفسه دون حرف الجر ، كما يشهد له قول امرئ القيس :
ألم ترياني كلما جئت طارقاً... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 179}(7/300)
من فوائد العلامة الجصاص فى الآية
قال رحمه الله :
بَابُ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ( كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ خَرَجُوا فِرَارًا مِنْ الطَّاعُونِ فَمَاتُوا فَمَرَّ عَلَيْهِمْ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُحْيِيَهُمْ فَأَحْيَاهُمْ اللَّهُ ).
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ الطَّاعُونِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : ( فَرُّوا مِنْ الْقِتَالِ ).
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ فِرَارَهُمْ مِنْ الطَّاعُونِ ؛ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} وقَوْله تَعَالَى : {قُلْ إنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} وقَوْله تَعَالَى : {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ} وقَوْله تَعَالَى : {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.
وَإِذَا كَانَتْ الْآجَالُ مُوَقَّتَةً مَحْصُورَةً لَا يَقَعُ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ عَمَّا قَدَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَالْفِرَارُ مِنْ الطَّاعُونِ عُدُولٌ عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ ؛ وَكَذَلِكَ الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ وَالْإِيمَانُ بِالنُّجُومِ ، كُلُّ ذَلِكَ فِرَارٌ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي لَا مَحِيصَ لِأَحَدٍ عَنْهُ.
(7/301)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَابِرٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {الْفِرَارُ مِنْ الطَّاعُونِ كَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالصَّابِرِ فِي الزَّحْفِ}.
وَرَوَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِير عَنْ سَعِيد بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ ، وَإِنْ تَكُنْ الطِّيَرَةُ فِي شَيْءٍ فَهِيَ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ لَسْتُمْ بِهَا فَلَا تَهْبِطُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا عَنْهُ}.
وَرُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ فِي الطَّاعُونِ.
(7/302)
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : {أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إلَى الشَّامِ ، حَتَّى إذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ التُّجَّارُ فَقَالُوا : الْأَرْضُ سَقِيمَةٌ ؛ فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ : أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرَ : لَوْ غَيْرُك يَقُولُهَا يَا أَبَا عُبَيْدَة ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إلَى قَدَرِ اللَّهِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَك إبِلٌ فَهَبَطْت بِهَا وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إحْدَاهُمَا خَصِيبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدِيبَةٌ أَلَسْت إنْ رَعَيْت الْخَصِيبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْت الْجَدِيبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ؟ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ : عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ وَانْصَرَفَ}.
فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ النَّهْيُ عَنْ الْخُرُوجِ عَنْ الطَّاعُونِ فِرَارًا مِنْهُ وَالنَّهْيُ عَنْ الْهُبُوطِ عَلَيْهِ أَيْضًا.
(7/303)
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا كَانَتْ الْآجَالُ مُقَدَّرَةً مَحْصُورَةً لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِهَا ، فَمَا وَجْهُ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دُخُولِ أَرْضٍ بِهَا الطَّاعُونُ وَهُوَ قَدْ مَنَعَ الْخُرُوجَ مِنْهَا بَدِيًّا لِأَجْلِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ دُخُولِهَا وَبَيْنَ الْبَقَاءِ فِيهَا ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّمَا وَجْهُ النَّهْيِ أَنَّهُ إذَا دَخَلَهَا وَبِهَا الطَّاعُونُ فَجَائِزٌ أَنْ تُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ وَأَجَلُهُ بِهَا ، فَيَقُولُ قَائِلٌ : لَوْ لَمْ يَدْخُلْهَا مَا مَاتَ ؛ فَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ دُخُولِهَا لِئَلَّا يُقَالَ هَذَا ؛ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَهَا ، فَعَسَى يَمُوتُ فِيهَا بِأَجَلِهِ فَيَقُولُ قَوْمٌ مِنْ الْجُهَّالِ : لَوْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَمُتْ.
(7/304)
وَقَدْ أَصَابَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى حِينَ قَالَ : يَقُولُونَ لِي لَوْ كَانَ بِالرَّمْلِ لَمْ تَمُتْ بُثَيْنَةُ وَالْأَنْبَاءُ يُكَذَّبُ قِيلُهَا وَلَوْ أَنَّنِي اسْتَوْدَعْتهَا الشَّمْسَ لَاهْتَدَتْ إلَيْهَا الْمَنَايَا عَيْنُهَا وَدَلِيلُهَا وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {لَا يُورِدَنَّ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ} مَعَ قَوْلِهِ : {لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ} لِئَلَّا يُقَالَ إذَا أَصَابَ الصَّحِيحَ عَاهَةٌ بَعْد إيرَادِ ذِي عَاهَةٍ عَلَيْهِ : إنَّمَا أَعْدَاهُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ.
{وَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ النُّقْبَةَ تَكُونُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَتَجْرَبُ لَهَا الْإِبِلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَا أَعْدَى الْأَوَّلَ ؟ }.
وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ الزُّبَيْرَ اسْتَفْتَحَ مِصْرًا فَقِيلَ لَهُ : إنَّ هُنَا طَاعُونًا ؛ فَدَخَلَهَا وَقَالَ : مَا جِئْنَا إلَّا لِلطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا جَهَّزَ الْجُيُوشَ إلَى الشَّامِّ شَيَّعَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ أَفْنِهِمْ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ ).
فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ، فَقَالَ قَائِلُونَ : لَمَّا رَآهُمْ عَلَى حَالِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْبَصَائِرِ الصَّحِيحَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ خَشِيَ عَلَيْهِمْ الْفِتْنَةَ ، وَكَانَتْ بِلَادُ الشَّامِ بِلَادَ الطَّاعُونِ مَشْهُورٌ ذَلِكَ بِهَا ، أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي خَرَجُوا عَلَيْهَا قَبْل أَنْ يَفْتَتِنُوا بِالدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا.
(7/305)
وَقَالَ آخَرُونَ : قَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ} يَعْنِي عِظَمَ الصَّحَابَةِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهِ سَيَفْتَحُ الْبِلَادَ بِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، فَرَجَا أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُحِبَّ أَبُو عُبَيْدَةَ الْخُرُوجَ مِنْ الشَّامِ.
وَقَالَ مُعَاذٌ : لَمَّا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالشَّامِ وَهُوَ بِهَا قَالَ : اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا حَظًّا مِنْهُ وَلَمَّا طُعِنَ فِي كَفِّهِ أَخَذَ يُقَبِّلُهَا وَيَقُولُ : مَا يَسُرُّنِي بِهَا كَذَا وَكَذَا وَقَالَ : لَئِنْ كُنْت صَغِيرًا فَرُبَّ صَغِيرٍ يُبَارِكُ اللَّهُ فِيهِ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ، يَتَمَنَّى الطَّاعُونَ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا أُمَّتَهُ الَّذِينَ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهِمْ الْبِلَادَ وَيُظْهِرُ بِهِمْ الْإِسْلَامَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَمَاتَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ، فَكَذَلِكَ يُحْيِيهِمْ فِي الْقَبْرِ وَيُعَذِّبُهُمْ إذَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 146 ـ 166}(7/306)
بحث نفيس {دروس من السماء}
قصة أمة :
إنها أمة واهنة القوى ، ساقطة المستوى ، كهذه الأمم المبعثرة فى ربوع الشرق ، الباقية على خريطة العالم القديم ، كأنها أطلال دارسة ، لحضارات طال عليها الأمد ، وانقطع بها الزمن ، وأدبرت عنها الحياة.
فهى ـ فى شيخوختها العاثرة ـ تذكر ماضيها فترجو ، ويلحقها حاضرها فتكبو.
إنها بين اليأس والأمل ، وبين الحياة والموت ، وبين رغبتها فى العيش الكريم ، وتعثرها فى الأخذ بأسبابه.
تواجه الدنيا بأمانيها ، ويواجهها القدر بدروسه ، وتنزل إلى ميدان الحياة برغائبها المجردة ، فيفاجئها الميدان بعقباته المعترضة ، ومتاهاته المحيرة.
وقد وصلت ـ أخيرا ـ إلى ما تبغى ، ولكن مثل ما يصل الفتى الغر إلى تحقيق أحلامه ، بعد سنوات طويلات تترك تجاعيدها على جبينه.
وبعد أحداث قاهرات تدع ندوبها فى فؤاده ، وكفاح موصول المرارة والتجهم والمصابرة ، لم يزل به حتى يغير منه كل شىء.
فكأن الذى وصل إلى أخر الطريق ، شخص آخر ، غير الذى بدأ مراحله ، ووقف على أوائله لا يعرف ما يكون ، ولا يدرى ما يخبأ له.
هذه الأمم تموت حتما : الأمة التى تقبل الخنوع وتعطى الدنية من نفسها ، لن تحرم من مكان تعيش فيه ، فإن سادة العالم لن يرفضوا الاستكثار من الخدم والأتباع.
ولا ضير على الواحد منهم ، إن سخر مستعمرة واسعة الرقعة ، ليعيش ما فيها من حيوان ، وما فيها من إنسان ، سواسية فى العمل له والفناء فيه.
بيد أن الشعوب الخادمة لغيرها ، ليست إلا شعوبا ماتت فيها المواهب الإنسانية العليا ، وارتكست فيها الملكات الذكية اليقظة.
فهى توصف بالحياة ، كما يصف السادة بالحياة كلاب الصيد التى تلهث بين أيديهم ، أو أبقار الحرث التى تعمل فى حقولهم!.
أما هم ـ من الناحية الإنسانية المحضة ـ فأموات.
وكل أمة تنكل عن حمل أعباء الحياة الحرة الأبية ، وتنكص عن الإقدام فى ساحات الجهاد والتضحية ، وتخشى عواقب المخاطرة والجرأة ، فلابد أن تصدر عليها محكمة التاريخ ، حكمها بالإعدام.(7/307)
وهكذا بدأ القرآن يقص أنباء هذه الأمة التى فرت من تكاليف الحياة فأدركها الموت! : (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا).
فحقت عليهم كلمة العذاب ، وماتوا فى الديار التى عجزوا عن الدفاع عنها ، كما تموت ـ الآن ـ شعوب كثيرة فى المستعمرات ، وفى الأمم المستقلة اسما ، والمرتبطة مع قاهريها بمعاهدات!.
فلما أراد الله أن يعلم هذه الأمة كيف تحيا ، أشعرها أن دون نيل الحياة الكريمة.
بذل النفس والنفيس ، ودفع الضرائب المفروضة على الدم والمال فقال لهم : (..قاتلوا في سبيل الله).
ثم قال لهم : (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له).
وهيهات أن تستطيع الأمم الخوارة ، دفع ذلك الثمن الغالى! وكيف تدفعه من نفوس هى بها ـ فى الحق ـ شحيحة ؟! ومن أموال هى بها ـ فى الخير ـ ضنينة ؟ . أ هـ {الإسلام المفترى عليه للشيخ محمد الغزالى صـ 151}(7/308)
بحث قيم فى الطاعون والفاحشة
سمي بأسماء عديدة ولكنها مرعبة ، فهو تارة يسمى بالموت الأسود ، وتارة أخرى بالطاعون الأسود ، لنتأمل كيف أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الوباء القاتل....
بدأ الانحطاط الأخلاقي بالانتشار في أجزاء مختلفة من أنحاء العالم ، ومنها الدول الإسلامية بسبب كثرة الأموال والجاريات والغواني ومجالس اللهو الطرب والخمر. وقد كانت أماكن كثيرة من العالم تعجّ بالفساد والفاحشة.
وفي القرن الرابع عشر في عام 1347 بدأ مرض جديد لم يكن منتشراً من قبل هو مرض الطاعون ، بدأ بالانتشار في جنوب آسيا والصين وقتل أكثر من
لوحة تعبر عن صورة الموت الذي خلفه الطاعون في أوربا في القرن السابع عشر.
75 مليون شخص وانتقل إلى أوربا ، وقتل وقتها ثلثي سكان أوربا ، وسمي بالموت الأسود [1].
ومع بداية عصر النهضة في أوربا بدأت ظاهرة الفساد الأخلاقي بالتفشي أكثر فأكثر ، وبدأ الناس في دول الغرب يجاهرون بالمعاصي بشكل غير مسبوق ، وكان ذلك في القرن السابع عشر الميلادي. ولذلك وبسبب كثرة الزنا والشذوذ الجنسي بدأ مرض الطاعون بالانتشار في مختلف أنحاء أوربا.
وبالطبع لا يمكن مقارنة ذلك العصر بما تعيشه اليوم أوربا من فساد أخلاقي ، ولكن بدايات تفشي الفواحش بدأت مع القرن السابع عشر بسبب توافر أماكن خاصة للدعارة وانتشارها في أنحاء متفرقة من أوربا.(7/309)
لقد كان هذا المرض إنذاراً إلهياً مرعباً ، فقد أحدث خللاً كبيراً في حياة البشر ، وفوضى لم يسبق لها مثيل من قبل.
كيف بدأت القصة
يؤكد العديد من علماء الغرب أنفسهم أن انتشار مرض الطاعون والذي حصد أكثر من عشرين مليون إنسان خلال أسابيع قليلة ، يؤكدون أن هذا المرض إنما هو عقاب من الله بسبب فساد الأخلاق وتفشي الفواحش ، ونؤكد عزيزي القارئ أن هذا كلامهم أنفسهم [1].
جرثومة الطاعون Yersinia pestis التي قتلت أكثر من ثلثي سكان الصين والهند وأوربا خلال زمن قصير وبشكل مفاجئ.
ويسبب الطاعون ألماً شديداً وحمى وورماً في الغدد اللمفاوية ، ويسبب هذا المرض بقعاً حمراء على الجلد ثم تتجول إلى بقع سوداء مخيفة. ويشعر مريض الطاعون بالصداع والبرد في الأطراف ، وتسرع في ضربات القلب ، ثم يحدث نزيف تحت جلدي ، ويسبب لطخات على الجلد ، ثم يبدأ الجهاز العصبي بالانهيار ، وتبدأ بعد ذلك الاضطرابات العصبية الغريبة والتي يتمايل منها المريض وكأنه يرقص رقصة الموت! وخلال عدة أيام يكون الجلد قد اسود وفارق المريض الحياة.
إحصائيات مرعبة
نقدم من خلال هذا الجدول إحصائية بسيطة لنسبة الذين ماتوا بالطاعون في أوربا فقط ، ونلاحظ أن الطاعون الذي ضرب أوربا عام 1630 قد حصد بحدود 69 % من سكان أوربا ، وهي أعلى نسبة للموت في التاريخ [2]!
السنة نسبة الموت ـ من عدد السكان
1347-52 5%-35%
1563-1636 10-30%
1665 28%
1630 35%-69%
1709-13 30%-49%
1720 25%-50%
1743 60%
ويؤكد الباحثون حديثاً بأن هذا المرض كان يظهر بشكل مفاجئ ثم يختفي. ولم يختفي هذا المرض إلا في القرن التاسع عشر ، وفي القرن العشرين عادت الكثير من الأمراض التي ظهرت بسبب تفشي الفواحش من جديد.(7/310)
وربما يكون أشهرها مرض الإيدز الذي يقتل ملايين الأشخاص في المناطق الأكثر فساداً في العالم. إذن يمكننا أن نستنتج حقيقة تاريخية وطبية وهي أنه بدأ مرض الطاعون بالتفشي لقرون عدة ، ثم بدأت بعده أمراضاً لم تكن معروفة من قبل مثل الإيدز وغيره من الأمراض التي ارتبطت بالفواحش مثل الزنا والشذوذ الجنسي.
والسؤال : هل من حديث نبوي يتنبأ بهذه الحقائق ؟
المعجزة النبوية
يقول صلى الله عليه وسلم : (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) [رواه ابن ماجه]. إن هذا الحديث يمثل معجزة نبوية حيث يتحدث بوضوح عن مرض الطاعون ، ثم عن أمراض وأوجاع لم تكن معروفة من قبل ، وهذا هو مرض الإيدز خير شاهد على ذلك.
بعض آثار الطاعون الأسود الذي فاجأ البشر مرات عديدة وقتل مئات الملايين من الناس بسرعة مرعبة.
لقد ربط البيان النبوي بين ظهور الفاحشة والإعلان بها ، وبين الطاعون والأمراض التي لم تكن في الأمم السابقة ، ومن خلال المعلومات التي رأيناها نستنتج أن ظهور الطاعون أولاً ثم الأمراض الجديدة التي لم تكن معروفة من قبل ، يرتبط بكثرة الفواحش.
ولا نملك إلا أن ندعو بأكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : (اللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك).أ هـ {موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
/ بحث بقلم عبد الدائم الكحيل}(7/311)
قوله تعالى : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بيّن سبحانه وتعالى أن الموت لا يصون منه فرار أمر بالجهاد الذي هو المقصود الأعظم بهذه السياقات ولفت القول إلى من يحتاج إلى الأمر به وصدره بالواو فأفهم العطف على غير معطوف عليه مذكور أن التقدير : فلا تفروا من أسباب الموت بل اثبتوا في مواطن البأساء {وقاتلوا} وعبر بفي الظرفية إشارة إلى وجوب كونهم في القتال وإن اشتدت الأحوال مظروفين للدين مراعين له لا بخرجون عنه بوجه ما فيصدقون في الإقدام على من لج في الكفران ويسارعون إلى الإحجام عمن بدا منه الإذعان ونحو ذلك من مراعاة شرائع الإيمان ، وعبر بالسبيل إشارة إلى يسر الدين ووضوحه فلا عذر في الخروج عن شيء منه بحال فقال : {في سبيل الله} أي الذي لا كفوء له كما كتبه عليكم وإن كنتم تكرهون القتال.
ولما أمرهم بعد ما حذرهم رغبهم ورهبهم بقوله : {واعلموا} منبهاً لهم لأن يلقوا أسماعهم ويحضروا أفهامهم لما يلقى عليهم {أن الله} أي الذي له القدرة الكاملة والعلم المحيط {سميع} لما تقولون إذا أمرتم بما يكره من القتال {عليم} بما تضمرون من الإعراض عنه والإقبال فهو يجازيكم على الخير قولاً وعملاً ونية ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين ضعفاً إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وعلى السيئة بمثلها إن شاء {ولا يظلم ربك أحداً} [ الكهف : 49 ]. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 467 ـ 468}
قال الفخر :
فيه قولان الأول : أن هذا خطاب للذين أحيوا ، قال الضحاك : أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد لأنه تعالى إنما أماتهم بسبب أن كرهوا الجهاد.(7/312)
واعلم أن القول لا يتم إلا بإضمار محذوف تقديره : وقيل لهم قاتلوا.
والقول الثاني : وهو اختيار جمهور المحققين : أن هذا استئناف خطاب للحاضرين ، يتضمن الأمر بالجهاد إلا أنه سبحانه بلطفه ورحمته قدم على الأمر بالقتال ذكر الذين خرجوا من ديارهم لئلا ينكص عن أمر الله بحب الحياة بسبب خوف الموت ، وليعلم كل أحد أنه يترك القتال لا يثق بالسلامة من الموت ، كما قال في قوله : {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [ الأحزاب : 16 ] فشجعهم على القتال الذي به وعد إحدى الحسنيين ، إما في العاجل الظهور على العدو ، أو في الآجل الفوز بالخلود في النعيم ، والوصول إلى ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
أما قوله تعالى : {فِى سَبِيلِ الله} فالسبيل هو الطريق ، وسميت العبادات سبيلاً إلى الله تعالى من حيث أن الإنسان يسلكها ، ويتوصل إلى الله تعالى بها ، ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين ، فكان طاعة ، فلا جرم كان المجاهد مقاتلاً في سبيل الله ثم قال : {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي هو يسمع كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد ، وفي تنفير الغير عنه ، وعليم بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لعاجل الدنيا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 140 ـ 141}
قال الطبرى :
(7/313)
يعني تعالى ذكره بذلك : "وقاتلوا" ، أيها المؤمنون "في سبيل الله" ، يعني : في دينه الذي هداكم له ، لا في طاعة الشيطان أعداء دينكم ، الصادين عن سبيل ربكم ، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم ، ولا تجبنوا عن حربهم ، فإن بيدي حياتكم وموتكم. ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم ، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم ، فتذلوا ، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه ، كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، الذين قصصت عليكم قصتهم ، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري ، وحل بهم قضائي ، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه ، إذ دافعت عنهم مناياهم ، وصرفتها عن حوبائهم ، فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني ، فإن من حيي منكم فأنا أحييه ، ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله.
ثم قال تعالى ذكره لهم : واعلموا ، أيها المؤمنون ، أن ربكم"سميع" لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي : لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا "عليم" بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم ، وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم ، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي.
يقول تعالى ذكره لعباده المؤمنين : فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي ، وغير ذلك من أمري ونهيي ، إذ كفر هؤلاء نعمي. واعلموا أن الله سميع لقولهم ، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، محيط بذلك كله ، حتى أجازي كلا بعمله ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 280 ـ 281}
وقال القرطبى : (7/314)
هذا خطاب لأُمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور. وهو الذي يُنْوَى به أن تكون كلمة الله هي العليا. وسُبُل الله كثيرة فهي عامة في كل سبيل ؛ قال الله تعالى : {قُلْ هذه سبيلي} [ يوسف : 108 ]. قال مالك : سُبُل الله كثيرة ، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أولها ، وأعظمها دين الإسلام ، لا خلاف في هذا. وقيل : الخطاب للذين أُحْيُوا من بني إسرائيل ؛ روي عن ابن عباس والضحاك. والواو على هذا في قوله {وَقَاتِلُواْ} عاطفة على الأمر المتقدّم ، وفي الكلام متروك تقديره : وقال لهم قاتلوا. وعلى القول الأوّل عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدّم ، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام.
قال النحاس : "وقَاتِلُوا" أمر من الله تعالى للمؤمنين ألاّ تهربوا كما هرب هؤلاء. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 236}
قال الطبري :
ولا وجه لقول من زعم أن قوله : "وقاتلوا في سبيل الله" ، أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال ، بعد ما أحياهم. لأن قوله : "وقاتلوا في سبيل الله" ، لا يخلو- إن كان الأمر على ما تأولوه- من أحد أمور ثلاثة :
إما أن يكون عطفا على قوله : "فقال لهم الله موتوا" ، وذلك من المحال أن يميتهم ، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله.
أو يكون عطفا على قوله : "ثم أحياهم" ، وذلك أيضا مما لا معنى له.
لأن قوله : "وقاتلوا في سبيل الله" ، أمر من الله بالقتال ، وقوله : "ثم أحياهم" ، خبر عن فعل قد مضى. وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض ، لو كانا جميعا خبرين ، لاختلاف معنييهما. فكيف عطف الأمر على خبر ماض ؟ (7/315)
أو يكون معناه : ثم أحياهم وقال لهم : قاتلوا في سبيل الله ، ثم أسقط"القول" ، كما قال تعالى ذكره : ( إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ) [سورة السجدة : 12] ، بمعنى يقولون : ربنا أبصرنا وسمعنا. وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه ، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر. فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه ، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 281 ـ 282}
وقال أبو حيان :
والذي يظهر القول الأول ، وأن هذه الآية ملتحمة بقوله : {حافظوا على الصلوات} وبقوله : {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} لأن في هذا إشعاراً بلقاء العدو ، ثم ما جاء بين هاتين الآيتين جاء كالاعتراض ، فقوله : {وللمطلقات متاع بالمعروف} تتميم أو توكيد لبعض أحكام المطلقات ، وقوله : {ألم تر إلى الذين} اعتبار بمن مضى ممن فرّ من الموت ، فمات ، أن لا ننكص ولا نحجم عن القتال ، وبيان المقاتل فيه ، وأنه سبيل الله فيه حث عظيم على القتال ، إذ كان الإنسان يقاتل للحمية ، ولنيل عرض من الدنيا ، والقتال في سبيل الله مورث للعز الأبدي والفوز السرمدي. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 261}
فائدة
قال ابن عاشور :
وجملة : {وقاتلوا في سبيل الله} الآية هي المقصود الأول ، فإن ما قبلها تمهيد لها كما علمتَ ، وقد جعلت في النظم معطوفة على جملة {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} عطفاً على الاستئناف ، فيكون لها حكم جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، ولولا طول الفصل بينها وبين جملة {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [ البقرة : 216 ] ، لقُلنا : إنها معطوفة عليها على أن اتصال الغرضين يُلحقها بها بدون عطف.
وجملة {واعلموا أن الله سميع عليم} حث على القتال وتحذير من تركه بتذكيرهم بإحاطة علم الله تعالى بجميع المعلومات : ظاهرها وباطنها.(7/316)
وقدِّم وصف سميع ، وهو أخص من عليم ، اهتماماً به هنا ؛ لأن معظم أحوال القتال في سبيل الله من الأمور المسموعة ، مثل جلبة الجيش وقعقعة السلاح وصهيل الخيل.
ثم ذكر وصف عليم لأنه يعم العلم بجميع المعلومات ، وفيها ما هو من حديث النفس مثل خلُق الخوف ، وتسويل النفس القعودَ عن القتال ، وفي هذا تعريض بالوعد والوعيد.
وافتتاح الجملة بقوله : {واعلموا} للتنبيه على ما تحتوي عليه من معنى صريح وتعريض ، وقد تقدم قريباً عند قوله تعالى : {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} [ البقرة : 223 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 480 ـ 481}
لام نفيس للعلامة الآلوسى فى الآية الكريمة
قال رحمه الله :
(7/317)
{وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} وهو عطف في المعنى على {أَلَمْ تَرَ} [ البقرة : 3 24 ] لأنه بمعنى انظروا وتفكروا ، والسورة الكريمة لكونها سنام القرآن ذكر فيها كليات الأحكام الدينية من الصيام والحج والصلاة والجهاد على نمط عجيب مستطرداً تارة للاهتمام بشأنها يكر عليها كلما وجد مجال ، ومقصوداً أخرى دلالة على أن المؤمن المخلص لا ينبغي أن يشغله حال عن حال ، وإن المصالح الدنيوية ذرائع إلى الفراغة للمشاغل الأخروية ، والجهاد لما كان ذروة سنام الدين ، وكان من أشق التكاليف حرضهم عليه من طرق شتى مبتدأ من قوله سبحانه : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله} [ البقرة : 4 15 ] منتهياً إلى هذا المقام الكريم مختتماً بذكر الانفاق في سبيله للتتميم قاله في "الكشف" وجوز في العطف وجوه أخر ، الأوّل : أنه عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم وقاتلوا في سبيله لما علمتم أن الفرار لا ينجي من الحمام وأن المقدر لا يمحى فإن كان قد حان الأجل فموت في سبيل الله تعالى خير سبيل وإلا فنصر وثواب ، الثاني : أنه عطف على ما يفهم من القصة أي اثبتوا ولا تهربوا كما هرب هؤلاء وقاتلوا ، والثالث : أنه عطف على {حافظوا عَلَى الصلوات} إلى {فَإِنْ خِفْتُمْ} [ البقرة : 283 ، 9 23 ] الآية لأن فيه إشعاراً بلقاء العدوّ وما جاء جاء كالاعتراض ، الرابع : أنه عطف على {فَقَالَ لَهُمُ الله} [ البقرة : 3 24 ] والخطاب لمن أحياهم الله تعالى وهو كما ترى {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ} لما يقوله المتخلف عن الجهاد من تنفير الغير عنه وما يقوله السابق إليه من ترغيب فيه {عَلِيمٌ} بما يضمره هذا وذلك من الأغراض والبواعث فيجازي كلاً حسب عمله ونيته. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 162}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله...}.(7/318)
المقاتلة تكون للجهاد بالذات لتكون كلمة الله هي العليا أو باللزوم كمن يقاتل ليذبّ عن حريمه ، فإنّه يستلزم الجهاد. معناها ليكن اعتقادهم ونيتكم بالقتال ( سبيل الله ).
قوله تعالى : {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
قال ابن عرفة : وجه مناسبة الصفتين أن من قعد ولم يخرج للقتال لا بد أن يتكلم في المؤمنين ويتحدث في أمره فالله سميع له عليم. ( قتال ) من قاتل ، ففيه وعد ووعيد. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 317}(7/319)
قوله تعالى : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت النفقة التي هي من أعظم مقاصد السورة أوثق دعائم الجهاد وأقوى مصدق للإيمان ومحقق لمبايعة الملك الديان كرر الحث عليها على وجه أبلغ تشويقاً مما مضى فقال على هيئه الممتحن للصادق ممن أمره وحذره وأنذره : {من ذا الذي} منكم يا من كتب عليهم القتال والخروج عن الأنفس والأموال {يقرض الله} الذي تفرد بالعظمة ، وهو من الإقراض أي إيقاع القرض ولذا قال : {قرضاً} وشبه سبحانه وتعالى العمل به لما يرجى عليه من الثواب فهو كالقرض الذي هو بذل المال للرجوع بمثله ، وعبر به لدلالته على المحبة لأنه لا يقرضك إلا محب ، ولأن أجره أكثر من أجر الصدقة {حسناً} أي جامعاً لطيب النفس وإخلاص النية وزكاء المال.
وقال الحرالي : القرض الجزّ من الشيء والقطع منه ، كأنه يقطع له من ماله قطعة ليقطع له من ثوابه أقطاعاً مضاعفة ، والقرض بين الناس قرضاً بقرض مثلاً بمثل فمن ازداد فقد أربى ومن زاد من غير عقد ولا عهد فقد وفى ، فالقرض مساواة والربا ازدياد ، ووصف سبحانه وتعالى القرض الذي حرض عليه بالحسن لتكون المعاملة بذلة على وجه الإحسان الذي هو روح الدين وهو أن يعامل الله به كأنه يراه - انتهى.
ولما كانت الأنفس مجبولة على الشحّ بما لديها إلا لفائدة رغبها بقوله مسبباً عن ذلك : {فيضاعفه} قال الحرالي : من المضاعفة مفاعلة من الضعف - بالكسر - وهي ثني الشيء بمثله مرة أو مرات ، وأزال عنه ريب الاحتمال بقوله : {له} أي في الدنيا والآخرة.
(7/320)
قال الحرالي : هذه المضاعفة أول إنبائها أن الزائد ضعف ليس كسراً من واحد المقرض ليخرج ذلك عن معنى وفاء القضاء فإن المقترض تارة يوفي على الواحد كسراً من وزنه ، " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقترض قرضاً إلا وفى عليه زيادة ، وقال : خير الناس أحسنهم قضاء " فأنبأ تعالى أن اقتراضه ليس بهذه المثابة بل بما هو فوق ذلك لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله إلى ما يقال فيه الكثرة ؛ وفي قوله : {أضعافاً} ما يفيد أن الحسنة بعشر ، وفي قوله : {كثيرة} ما يفيد البلاغ إلى فوق العشر وإلى المائة كأنه المفسر في قوله بعد هذا {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} [ البقرة : 261 ] ، فأوصل تخصيص هذه الكثرة إلى المئين ثم فتح باب التضعيف إلى ما لا يناله علم العالمين في قوله : {والله يضاعف لمن يشاء} [ البقرة : 261 ] - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 468 ـ 469}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}
اعتراض بين جملة : {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} [ البقرة : 243 ] إلى آخرها ، وجملة {ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل} [ البقرة : 246 ] الآية ، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر ، لمناسبة الحث على القتال ، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العُدَّة والمَؤُونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلاً في سبيل الله بإعطاء العُدَّة لمن لا عُدَّة له ، والإنفاق على المعسرين من الجيش ، وفيها تبيين لمضمون جملة : {واعلموا أن الله سميع عليم} [ البقرة : 244 ] فكانت ذات ثلاثة أغراض. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 481}
وقال أبو حيان :
(7/321)
{من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} هذا على سبيل التأسيس والتقريب للناس بما يفهمونه والله هو الغني الحميد ، شبه تعالى عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض ، كما شبه بذل النفوس والأموال في الجنة بالبيع والشراء.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ، وكان ذلك مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله ، أثنى على من بذل شيئاً من ماله في طاعة الله ، وكان هذا أقل حرجاً على المؤمنين ، إذ ليس فيه إلاَّ بذل المال دون النفس ، فأتى بهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة معنى الطلب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 261}
سبب نزول الآية(7/322)
عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} قال أبو الدحداح : يا رسول الله أو إنّ الله تعالى يريد منا القرض ؟ قال : "نعم يا أبا الدحداح" قال : أرِنِي يدك ( قال ) فناوله ؛ قال : فإني أقرضت الله حائطاً فيه ستمائة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأُمّ الدحداح فيه وعياله ؛ فناداها : يا أُمّ الدحداح ؛ قالت : لبيك ؛ قال : اخرجي ، قد أقرضت ربي عز وجل حائطاً فيه ستمائة نخلة. وقال زيد ابن أسلم : لما نزل : {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} قال أبو الدحداح : فداك أبي وأُمي يا رسول اللها إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ؟ قال : "نعم يريد أن يدخلكم الجنة به". قال : فإني إن أقرضتُ ربي قرضاً يضمن لي به ولِصِبْيَتي الدَّحْداحة معي الجنة ؟ قال : "نعم" قال : فناولني يدك ؛ فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده. فقال : إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأُخرى بالعالية ، والله لا أملك غيرهما ، قد جعلتهما قرضاً لله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجعل إحداهما لله والأُخرى دعها معيشة لك ولعيالك" قال : فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى ، وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال : "إذاً يجزيك الله به الجنة" "
فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول :
هداكِ ربّي سُبُلَ الرشادِ ... إلى سبيل الخير والسّدادِ
بِينِي من الحائط بالوِداد ... فقد مضى قرضاً إلى التَّناد
أقرضتُه اللَّه على اعتمادي ... بالطَّوْع لا مَنٍّ ولا ارتداد
إلاّ رَجاءَ الضِّعْف في المَعاد ... فارتحِلِي بالنفس والأولادِ
والبِرّ لا شَكّ فخيْرُ زادِ ... قدّمَه المرءُ إلى المعادِ
قالت أُم الدحداح : رَبِحَ بيعُك! بارك الله لك فيما اشتريت ، ثم أجابته أُم الدحداح وأنشأت تقول :
(7/323)
بشّرك اللَّهُ بخَيْر وفَرَحْ ... مِثلُك أدّى ما لديه ونَصَحْ
قد مَتَّع اللّه عيالي ومَنَحْ ... بالعَجْوَة السّوْداءِ والزَّهْوِ البَلَحْ
والعبدُ يسعى وله ما قد كَدَحْ ... طولَ الليالي وعليه ما اجْتَرحْ
ثم أقبلت أُم الدحداح على صبيانها تُخْرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كم من عِذَقٍ رَدَاح ودار فَياح لأبي الدحداح ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 238 ـ 239}
قال الفخر :
إنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ثم أردفه بقوله : {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا}
اختلف المفسرون فيه على قولين :
الأول : أن هذه الآية متعلقة بما قبلها والمراد منها القرض في الجهاد خاصة ، فندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد ، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد ، ثم أكد تعالى ذلك بقوله : {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} وذلك لأن من علم ذلك كان اعتماده على فضل الله تعالى أكثر من اعتماده على ماله وذلك يدعوه إلى إنفاق المال في سبيل الله ، والاحتراز عن البخل بذلك الإنفاق.
والقول الثاني : أن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال : المراد من هذا القرض إنفاق المال ، ومنهم من قال : إنه غيره ، والقائلون بأنه إنفاق المال لهم ثلاثة أقوال :
الأول : أن المراد من الآية ما ليس بواجب من الصدقة ، وهو قول الأصم واحتج عليه بوجهين
الأول : أنه تعالى سماه بالقرض والقرض لا يكون إلا تبرعاً.(7/324)
الحجة الثانية : سبب نزول الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت الآية في أبي الدحداح قال : " يا رسول الله إن لي حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة ؟ قال : نعم ، قال : وأم الدحداح معي ؟ قال : نعم ، قال : والصبية معي ؟ قال : نعم ، فتصدق بأفضل حديقته ، وكانت تسمى الحنينة ، قال : فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها ، فقام على باب الحديقة ، وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدحداح : بارك الله لك فيما اشتريت ، فخرجوا منها وسلموها ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : كم من نخلة رداح ، تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح ".
إذا عرفت سبب نزول هذه الآية ظهر أن المراد بهذا القرض ما كان تبرعاً لا واجباً.
والقول الثاني : أن المراد من هذا القرض الإنفاق الواجب في سبيل الله ، واحتج هذا القائل على قوله بأنه تعالى ذكر في آخر الآية : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وذلك كالزجر ، وهو إنما يليق بالواجب.
والقول الثالث : وهو الأقرب أنه يدخل فيه كلا القسمين ، كما أنه داخل تحت قوله : {مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ} [ البقرة : 261 ] من قال : المراد من هذا القرض شيء سوى إنفاق المال ، قالوا : روي عن بعض أصحاب ابن مسعود أنه قول الرجل "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" قال القاضي : وهذا بعيد ، لأن لفظ الإقراض لا يقع عليه في عرف اللغة ثم قال : ولا يمكن حمل هذا القول على الصحة ، إلا أن نقول : الفقير الذي لا يملك شيئاً إذا كان في قلبه أنه لو كان قادراً لأنفق وأعطى فحينئذٍ تكون تلك النية قائمة مقام الإنفاق ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 141 ـ 142}
فوائد لغوية
قال ابن عاشور :
(7/325)
و {القرض} إسلاف المال ونحوه بنية إرجاع مثله ، ويطلق مجازاً على البذل لأجل الجزاء ، فيشمل بهذا المعنى بذل النفس والجسم رجاءَ الثواب ، ففعل ( يقرض ) مستعمل في حقيقته ومجازه.
والاستفهام في قوله : {من ذا يقرض الله} مستعمل في التحضيض والتهييج على الاتصاف بالخير كأنَّ المستفهم لا يدري مَن هو أهل هذا الخير والجديرُ به ، قال طرفة :
إذا القوم قالوا مَن فتى خِلْتُ أنني
عُنِيتُ فلَم أَكسَلْ ولم أتَبَلَّدِ...
(7/326)
و ( ذا ) بعد أسماء الاستفهام قد يكون مستعملاً في معناه كما تقول وقد رأيتَ شخصاً لا تعرفه : ( مَن ذا ) فإذا لم يكن في مقام الكلام شيء يصلح لأن يشار إليه بالاستفهام كان استعمال ( ذا ) بعد اسم الاستفهام للإشارة المجازية بأن يَتصوَّر المتكلم في ذهنه شخصاً موهوماً مجهولاً صدر منه فعل فهو يسأل عن تعيينه ، وإنما يكون ذلك للاهتمام بالفعل الواقع وتطلُّب معرفة فاعله ولكون هذا الاستعمال يلازم ذكر فعللٍ بعد اسم الإشارة ، قال النُّحاة كلهم بصريُّهم وكوفيُّهم : بأن ( ذا ) مع الاستفهام تتحوّل إلى اسم موصول مبهم غير معهود ، فعدُّوه اسمَ موصول ، وبوَّب سيبويه في "كتابه" فقال : "باب إجرائهم ذَا وحدَه بمنزلة الذي وليس يكون كالذي إلا مع ( ما ) و( من ) في الاستفهام فيكون ( ذا ) بمنزلة الذي ويكون ما أي أو من حرفَ الاستفهام وإجراؤهم إياه مع ما أي أو من بمنزلة اسم واحد" ومثَّله بقوله تعالى : {ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً} [ النحل : 30 ] وبقية أسماء الإشارة مثل اسم ( ذا ) عند الكوفيين ، وأما البصريون فقصروا هذا الاستعمال على ( ذا ) وليس مرادهم أن ذا مع الاستفهام يصير اسم موصول فإنه يكثر في الكلام أن يقع بعده اسم موصول ، كما في هذه الآية ، ولا معنى لوقوع اسمى موصول صلتهما واحدة ، ولكنهم أرادوا أنه يفيد مُفاد اسم الموصول ، فيكون ما بعده من فِعل أو وصف في معنى صلة الموصول ، وإنما دوَّنوا ذلك لأنهم تناسوا ما في استعمال ذا في الاستفهام من المجاز ، فكان تدوينها قليل الجدوى.
والوجه أن ( ذا ) في الاستفهام لا يخرج عن كونه للإشارة وإنما هي إشارة مجازية ، والفعل الذي يجيء بعده يكون في موضع الحال ، فوزان قوله تعالى : {ماذا أنزل ربكم} [ النحل : 24 ] وزان قول يزيد بن ربيعة بن مفرغ يخاطب بغلته :
نَجَوْتتِ وهذا تَحْمِلِينَ طَلِيق
والإقراض : فعل القرض.
(7/327)
والقرض : السلف ، وهو بذل شيء ليرد مثله أو مساويه ، واستعمل هنا مجازاً في البذل الذي يرجى الجزاء عليه تأكيداً في تحقيق حصول التعويض والجزاء.
ووصف القرض بالحسن لأنه لا يرضَى الله به إلاَّ إذا كان مبرَّأً عن شوائب الرياء والأذى ، كما قال النابغة :
ليست بذات عقارب
وقيل : القرض هنا على حقيقته وهو السلف ، ولعله علق باسم الجلالة لأن الذي يُقرض الناس طمعاً في الثواب كأنه أقرض الله تعالى ؛ لأن القرض من الإحسان الذي أمر الله به وفي معنى هذا ما جاء في الحديث القدسي " أن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه " الحديث.
وقد رووا أن ثواب الصدقة عشْر أمْثالها وثواب القرض ثمانية عشر من أمثاله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 481 ـ 482}
وقال القرطبى :
واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه ، والله هو الغنى الحميد ؛ لكنه تعالى شَبّه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبّه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء ، حسب ما يأتي بيانه في "براءة" إن شاء الله تعالى.
وقيل المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم ، وفي سبيل الله بنصرة الدِّين.
وكَنَى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيباً في الصدقة ، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدَّسة عن النقائص والآلام.
(7/328)
ففي صحيح الحديث إخباراً عن الله تعالى : " "يابن آدم مرِضتُ فلم تَعُدْني واستطعمتك فلم تُطْعمني واستسقيتك فلم تسقني" قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمينا ؟ قال : "استسقاك عبدي فلان فلم تسقِه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي" " وكذا فيما قبْلُ ؛ أخرجه مسلم والبخاريّ وهذا كله خرج مخرج التّشْريف لمن كَنَى عنه ترغيباً لمن خُوطب به. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 240}
فائدة
قال الواحديُّ : والقَرْضُ في هذه الآيةِ اسمٌ لا مصدر ، ولو كان مصدراً ؛ لكان إقراضاً. و" حَسَناً " يجوز أَن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين ، ويجوزُ أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، إذا جعلنا " قَرْضاً " بمعنى مفعول أي : إقراضاً حسناً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 254}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن إطلاق لفظ القرض على هذا الإنفاق حقيقة أو مجاز ، قال الزجاج : إنه حقيقة ، وذلك لأن القرض هو كل ما يفعل ليجازى عليه ، تقول العرب : لك عندي قرض حسن وسيء ، والمراد منه الفعل الذي يجازى عليه ، قال أمية بن أبي الصلت :
كل امرىء سوف يجزى قرضه حسنا.. أو سيئاً أو مديناً كالذي دانا
ومما يدل على أن القرض ما ذكرناه أن القرض أصله في اللغة القطع ، ومنه القراض ، وانقرض القوم إذا هلكوا ، وذلك لانقطاع أثرهم فإذا أقرض فالمراد قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها.(7/329)
والقول الثاني : أن لفظ القرض ههنا مجاز ، وذلك لأن القرض هو أن يعطي الإنسان شيئاً ليرجع إليه مثله وههنا المنفق في سبيل الله إنما ينفق ليرجع إليه بدله إلا أنه جعل الاختلاف بين هذا الإنفاق وبين القرض من وجوه أحدها : أن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله تعالى محال وثانيها : أن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا المثل ، وفي هذا الإنفاق هو الضعف وثالثها : أن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكاً له وههنا هذا المال المأخوذ ملك لله ، ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله قرضاً ، والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله ، فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة ، ويروى أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود : إن الله فقير ونحن أغنياء ، فهو يطلب منا القرض ، وهذا الكلام لائق بجهلهم وحمقهم ، لأن الغالب عليهم التشبيه ، ويقولون : إن معبودهم شيخ ، قال القاضي : من يقول في معبوده مثل هذا القول لا يستبعد منه أن يصفه بالفقر.
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} ولأي فائدة جرى الكلام على طريق الاستفهام.
قلنا : إن ذلك في الترغيب في الدعاء إلى الفعل أقرب من ظاهر الأمر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 142 ـ 143}
سؤال : فإن قيل : ما وجه تسمية الصدقة قرضاً ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه.
أحدهما : لأن هذا القرض يبدل بالجزاء ،
والثاني : لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة ،
والثالث : لتأكيد استحقاق الثواب به ، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحق به. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 290}
قوله تعالى : {قَرْضًا حَسَنًا}
قال الفخر :
كون القرض حسناً يحتمل وجوهاً
أحدها : أراد به حلالاً خالصاً لا يختلط به الحرام ، لأن مع الشبهة يقع الاختلاط ، ومع الاختلاط ربما قبح الفعل وثانيها : أن لا يتبع ذلك الإنفاق مناً ولا أذى(7/330)
وثالثها : أن يفعله على نية التقرب إلى الله تعالى ، لأن ما يفعل رياء وسمعة لا يستحق به الثواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 143}
وقال ابن الجوزى :
وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال.
أحدها : أنه الخالص لله ، قاله الضحاك ،
والثاني : أن يخرج عن طيب نفس ، قاله مقاتل ،
والثالث : أن يكون حلالا ، قاله ابن المبارك.
والرابع : أن يحتسب عند الله ثوابه ،
والخامس : أن لا يتبعه مناً ولا أذى ،
والسادس : أن يكون من خيار المال. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 290}
قوله تعالى : {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}
قال الفخر :
التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يبلغ مثلين أو أكثر ، وفي الآية حذف ، والتقدير : فيضاعف ثوابه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 143}
قال ابن عادل :
قوله : " فَيُضَاعِفَهُ " قرأ عاصمٌ وابن عامر هنا ، وفي الحديد بنصب الفاء ، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر وعاصماً ويعقوب يشدِّدون العينَ من غير ألفٍ وبابه التشديد وقرأ أبو عمرو في الأحزاب والباقون برفعِها ، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ ؛ فحصَلَ فيها أربعُ قراءتٍ.
أحدها : قرأ أبو عمرو ونافع ، وحمزة ، والكسائيُّ فيضاعفُهُ بالألف ورفع الفاء.
والثانية : قراءة عاصم " فيضاعفه " بالألف ونصب الفاء.
والثالثة : قرأ ابن كثير : " فَيُضَعِّفُهُ " بالتَّشديد ، ورفع الفاءِ.
والرابعة : قرأ ابن عامرٍ فيضعِّفَه بالتَّشْديد ، ونصب الفاء. فالرَّفْعُ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ عطفٌ على " يقرض " الصِّلةِ.
والثاني : أَنَّهُ رفعٌ على الاستئناف أي : فهو يُضاعِفُهُ ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ.
والنصبُ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ بإضمارٍ " أَنْ " عطفاً على المصدر المفهوم من " يقرضُ " في المعنى ، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ : مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ مِنَ اللهِ تعالى كقوله : [ الوافر ](7/331)
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
والثاني : أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهام في المعنى ؛ لأَنَّ الاستفهام وإِنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً ، فهو عن الإِقراضِ معنى كأنه قال : أيقرضُ اللهَ أَحَدٌ فيضاعفَه.
قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهام على اللفظ ؛ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللَّفْظِ المُقرِضُ أي الفاعلُ للقَرْضِ ، لا عن القَرْضِ ، أي : الذي هو الفِعْلُ " وقد مَنَع بعضُ النَّحويّين النَّصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقع عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحُكم ، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرها ، كقوله : " مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي ؛ فأغفرَ له ، مَنْ يَدْعُونِي ؛ فأَسْتَجِيبَ له " بالنصبِ فيهما.
قال أبو البقاء : فإنْ قيلَ : لِمَ لاَ يُعْطَفُ [ الفعل على ] المصدرِ الذي هو " قرضاً " كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار " أَنْ " كقولِ الشاعر [ الوافر ]
1154- لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي...............................
قيل : هذا لا يصحُّ لوجهين :
أحدهما : أنَّ " قرضاً " هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ ، والمصدرُ المُؤكِّدِ لا يُقَدَّرُ بـ " أَنْ " والفعلِ.
والثاني : أنَّ عطفَهُ عليه يُوجبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ ، ولا يصِحُّ هذا في المعنى ؛ لأَنَّ المضاعفةَ ليستُ مُقْرضَةً ، وإِنَّما هي فعلُ اللهِ تعالى ، وتعليله في الوجهِ الأولِ يُؤذِنُ بأنه يُشترط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدر يتقدَّر بـ " أَنْ " والفعلِ ، وهذا ليس بشرطٍ ؛ بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ ؛ كقوله : [ الطويل ]
1155- وَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أَعِزَّةٍ... وآلُ سُبَيْعٍ أَوْ أَسُوءَكَ عَلْقَمَا(7/332)
فـ " أَسُوءَكَ " منصوبٌ بـ " أَنْ " ؛ عطفاً على " رِجَالٌ " ، فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال : لو عُطفَ على " قرضاً " ؛ لشاركه في عامِلِه ، وهو " يُقْرض " فيصيرُ التَّقْدِيرُ : مَنْ ذا الذي يَقْرِضُ مضاعفةً ، وهذا ليسَ صحيحاً معنى.
وقد تقدَّم أَنَّه قرئ " يُضاعِفُ " ، و" يُضَعِّفُ " فقيل : هما بمعنى ، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد ، نحو عاقَبْت ، وقيل : بل هما مختلفان ، فقيل : إنَّ المضعَّفَ للتكثير.
وقيل : إنَّ " يُضَعِّف " لِما جُعِلَ مثلين ، و" ضاعَفَه " لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 255 ـ 256}
قوله تعالى : {أَضْعَافًا كَثِيرَةً}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} فمنهم من ذكر فيه قدراً معيناً ، وأجود ما يقال فيه : إنه القدر المذكور في قوله تعالى : {مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [ البقرة : 261 ] فيقال يحمل المجمل على المفسر لأن كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لم يقتصر في هذه الآية على التحديد ، بل قال بعده : {والله يضاعف لِمَن يَشَاء} [ البقرة : 261 ].
والقول الثاني : وهو الأصح واختيار السدي : أن هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو وكم هو ؟ وإنما أبهم تعالى ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 143}
قال أبو حيان :
انتصب : أضعافاً ، على الحال من الهاء في : يضاعفه ، قيل : ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول به ، تضمن معنى فيضاعفه : فيصيره. ويجوز أن ينتصب على المصدر باعتبار أن يطلق الضعف ، وهو المضاعف أو المضعف ، بمعنى المضاعفة أو التضعيف ، كما أطلق العطاء وهو اسم المعطى بمعنى الإعطاء ، وجمع لاختلاف جهات التضعيف باعتبار الإخلاص ، وهذه المضاعفة غير محدودة لكنها كثيرة.(7/333)
قال الحسن ، والسدّي : لا يعلم كُنْهَ التضعيف إلاَّ الله تعالى : وهو قول ابن عباس ، وقد رويت مقادير من التضعيف ، وجاء في القرآن : {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} ثم قال : {والله يضاعف لمن يشاء}
قيل والآية عامّة في سائر وجوه البرّ من : صدقة ، وجهاد ، وغير ذلك ، وقيل : خاصة بالنفقة في الجهاد ، وقيل : بالصدقة وإنفاق المال على الفقراء المحتاجين. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 261 ـ 262}
فصل
قال القرطبى :
ثواب القَرْض عظيم ، لأن فيه تَوْسِعة على المسلم وتفريجاً عنه.
خرّج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسرِي بي على باب الجنة مكتوباً الصدقةُ بعشر أمثالها والقرضُ بثمانية عشر فقلت لجبريل : ما بالُ القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة " قال حدّثنا محمد بن خَلَف العَسْقَلاني حدّثنا يَعْلَى حدّثنا سليمان بن يُسَيْر عن قيس بن رومي قال : كان سليمان بن أُذُنَانِ يُقرِض علقَمَة ألف درهم إلى عطائه ، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه ، واشتدّ عليه فقضاه ، فكأنّ علقمة غِضب فمكث أشهراً ثم أتاه فقال : أقرِضنِي ألف درهم إلى عطائي ، قال : نعم وكرامة! يا أُمّ عُتبة هَلمي تلك الخريطةَ المختومة التي عندكِ ، قال : فجاءت بها فقال : أما والله إنها لَدراهمُكَ التي قضيتني ما حركت منها درهماً واحداً ؛ قال : فللَّه أبوك ؟ ما حملك على ما فعلتَ بي ؟ قال : ما سمعتُ منك ؛ قال : ما سمعتَ مني ؟ قال : سمعتك تذكر عن ابن مسعود أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يقرِض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتها مرة " قال : كذلك أنبأني ابن مسعود. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 241}
فائدة
قال ابن كثير(7/334)
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي ، قال : أتيت أبا هريرة فقلت له : إنه بلغني أنك تقول : إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة. فقال : وما أعجبك من ذلك ؟ لقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة". {المسند (2/296)}.
هذا حديث غريب ، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير ، لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال :
حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب ، حدثنا يونس بن محمد المؤدب ، حدثنا محمد بن عقبة الرباعي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي ، قال : لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال : وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة" فقلت : ويحكم ، والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني ، فما سمعت هذا الحديث. قال : فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث ، فلقيته لهذا فقلت : يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك ؟ قال : ما هو ؟ قلت : زعموا أنك تقول : إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة. قال : يا أبا عثمان وما تعجب من ذا والله يقول : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} ويقول : {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة : 38] والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة". {رواه أحمد في المسند (5/521) من طريق علي بن زيد ، عن أبي عثمان به}. أ هـ {تفسيرابن كثير حـ 1 صـ 663 ـ 664}(7/335)
فائدة
قال ابن العربي :
الْقَرْضُ يَكُونُ مِنْ الْمَالِ وَيَكُونُ مِنْ الْعِرْضِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْهُورِ الْآثَارِ : {أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ ، كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك}.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَقْرِضْ مِنْ عِرْضِك لِيَوْمِ فَقْرِك يَعْنِي مَنْ سَبَّك فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ حَقًّا ، وَلَا تُقِمْ عَلَيْهِ حَدًّا ، حَتَّى تَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُوَفَّرَ الْأَجْرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِالْعِرْضِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : {إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا}.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّلَاثَ تَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا فِي كَوْنِهَا بِاحْتِرَامِهَا حَقًّا لِلْآدَمِيِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 308 ـ 309}(7/336)
قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما رغب سبحانه وتعالى في إقراضه أتبعه جملة حالية من ضمير يضاعف مرهبة مرغبة فقال : {والله} أي المحيط علماً وقدرة {يقبض} أي له هذه الصفة وهي إيقاع القبض والإقتار بمن يشاء وإن جلت أمواله.
قال الحرالي : والقبض إكمال الأخذ ، أصله القبض باليد كله ، والقبض - بالمهملة - أخذ بأطراف الأصابع وهو جمع عن بسط فلذلك قوبل به {ويبصط} أي لمن يشاء وإن ضاقت حاله ، والبسط توسعة المجتمع إلى حد غاية {وإليه ترجعون} حساً بالبعث ومعنى في جميع أموركم ، فهو يجازيكم في الدارين على حسب ما يعلم من نياتكم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 469}
قال ابن عاشور :
وقوله : {والله يقبض ويبصط} أصل القبض الشد والتماسك ، وأصل البسط : ضد القبض وهو الإطلاق والإرسال ، وقد تفرعت عن هذا المعنى معان : منها القبض بمعنى الأخذ {فَرِهانٌ مقبوضة} [ البقرة : 283 ] وبمعنى الشح {ويقبضون أيديَهم} [ التوبة : 67 ] ومنها البَسط بمعنى البذل {الله يبسط الرزق لمن يشاء} [ الرعد : 26 ] وبمعنى السخاء {بل يداه مبسوطتان} [ المائدة : 64 ] ومن أسمائه تعالى القابض الباسط بمعنى المانع المعطي.
وقرأ الجمهور : ( ويبسط ) بالسين ، وقرأه نافع والبزي عن ابن كثير وأبو بكر عن عاصم والكسائي وأبو جعفر وزوج عن يعقوب بالصاد وهو لغة.
يحتمل أن المراد هنا : يقبض العطايا والصدقات ويبسط الجزاء والثواب ، ويحتمل أن المراد يقبض نفوساً عن الخير ويبسط نفوساً للخير ، وفيه تعريض بالوعد بالتوسعة على المنفق في سبيل الله ، والتقتير على البخيل.
وفي الحديث " اللهم أعط منفقاً خلفا وممسكاً تلفاً " وفي ابن عطية عن الحلواني عن قالون عن نافع "أنه لا يبالي كيف قرأ يبسط وبسطه بالسين أو بالصاد" أي لأنهما لغتان مثل الصراط والسراط ، والأصل هو السين ، ولكنها قلبت صاداً في بصطه ويبصط لوجود الطاء بعدها ، ومخرجها بعيد عن مخرج السين ؛ لأن الانتقال من السين إلى الطاء ثقيل بخلاف الصاد.(7/337)
وقوله : {وإليه ترجعون} خبر مستعمل في التنبيه والتذكير بأن ما أعد لهم في الآخرة من الجزاء على الإنفاق في سبيل الله أعظم مما وعدوا به من الخير في الدنيا ، وفيه تعريض بأن الممسك البخيل عن الإنفاق في سبيل الله محروم من خير كثير. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 483}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} ففي بيان أن هذا كيف يناسب ما تقدم وجوه
أحدها : أن المعنى أنه تعالى لما كان هو القابض الباسط ، فإن كان تقدير هذا الذي أمر بإنفاق المال الفقر فلينفق المال في سبيل الله ، فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الفقر ، وإن كان تقديره الغنى فلينفق فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الغنى والسعة وبسط اليد ، فعلى كلا التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى وثانيها : أن الإنسان إذا علم أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا ، وبقي اعتماده على الله ، فحينئذٍ يسهل عليه إنفاق المال في سبيل مرضاة الله تعالى
وثالثها : أنه تعالى يوسع عن عباده ويقتر ، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم ، لئلا يبدل السعة الحاصلة لكم بالضيق ورابعها : أنه تعالى لما أمرهم بالصدقة وحثهم عليها أخبر أنه لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه وإعانته ، فقال : {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} يعني يقبض القلوب حتى لا تقدم على هذه الطاعة ، ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة ، ثم قال : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} والمراد به إلى حيث لا حاكم ولا مدبر سواه ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 143 ـ 144}
وقال ابن عادل :
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجزيكم بأعمالكم ، حيث لا حاكم ولا مُدَبِّرَ سواه.
وقال قتادة : الهاء في " إليه " راجعة إلى التّراب كنايةً عن غير مذكور ، أي من التُّراب خلقتم ، وإليه تُرْجعون ، وتعودون. (1) أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 261}
____________
(1) لا يخفى ما فى القول الأخير من الوهن والضعف والتكلف وسياق الآية يأباه ويرده. والله أعلم.(7/338)
فائدة
قال ابن العربي :
انْقَسَمَ الْخَلْقُ بِحُكْمِ الْخَالِقِ وَحِكْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ حِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ أَقْسَامًا وَتَفَرَّقُوا فِرَقًا ثَلَاثَةً : الْفِرْقَةُ الْأُولَى : الرَّذْلَى ، قَالُوا : إنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إلَيْنَا ، وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ؛ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} وَالْعَجَبُ مِنْ مُعَانَدَتِهِمْ مَعَ خِذْلَانِهِمْ ؛ وَفِي التَّوْرَاةِ نَظِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ.
الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا سَمِعَتْ هَذَا الْقَوْلَ آثَرَتْ الشُّحَّ وَالْبُخْلَ ، وَقَدَّمَتْ الرَّغْبَةَ فِي الْمَالِ ؛ فَمَا أَنْفَقَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا فَكَّتْ أَسِيرًا ، وَلَا أَغَاثَتْ أَحَدًا ، تَكَاسُلًا عَنْ الطَّاعَةِ وَرُكُونًا إلَى هَذِهِ الدَّارِ.
الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ : لَمَّا سَمِعَتْ بَادَرَتْ إلَى امْتِثَالِهِ ، وَآثَرَ الْمُجِيبُ مِنْهُمْ بِسُرْعَةٍ بِمَالِهِ ، أَوَّلُهُمْ أَبُو الدَّحْدَاحِ لَمَّا سَمِعَ هَذَا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؛ أَلَا أَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا ، وَلِي أَرْضَانِ : أَرْضٌ بِالْعَالِيَةِ وَأَرْضٌ بِالسَّافِلَةِ ، وَقَدْ جَعَلْت خَيْرَهُمَا صَدَقَةً.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {كَمْ عَذْقٍ مُذَلَّلٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ}.
فَانْظُرُوا إلَى حُسْنِ فَهْمِهِ فِي قَوْلِهِ : يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا ، وَجُودِهِ بِخَيْرِ مَالِهِ وَأَفْضَلِهِ ؛ فَطُوبَى لَهُ ، طُوبَى لَهُ ، ثُمَّ طُوبَى لَهُ ، ثُمَّ طُوبَى لَهُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 308}
لطيفة
قال الثعالبى : (7/339)
قال صاحب "سِلاحِ المؤمن" عند شَرْحه لاسمه تعالَى "القَابِضِ البَاسِطِ" : قال بعْضُ العلماءِ : يجبُ أن يُقْرَنَ بيْنَ هذَيْن الاسمين ، ولا يفصل بينهما ؛ ليكون أنبأَ عن القُدْرة ، وأدلَّ على الحكمة ؛ كقوله تعالى : {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} ، وإِذا قلْتَ : "القَابِض" مفرداً ، فكأنَّك قَصَرْتَ بالصفة على المنع والحرْمان ، وإِذا جمعْتَ أَثْبَتَّ الصفتين ؛ وكذلك القولُ في الخافضِ والرافعِ والمُعِزِّ والمُذِلِّ. انتهى ، وما ذكره عن بعض العلماءِ ، هو كلامُ الإِمام الفَخْر في شرحه لأسماء اللَّه الحسنى ، ولفظه : القابضُ والباسطُ : الأحسنُ في هذين الاِسمَيْن أنْ يقْرَنَ أحدهما في الذِّكْر بالآخر ؛ ليكون ذلك أدلَّ على القدرة والحكمةِ ؛ ولهذا السببِ قال اللَّه تعالى : {والله يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ} وإذا ذكرت "القابضَ" منْفرداً عن "البَاسِطِ" ، كنْتَ قد وصفته بالمَنْع والحرمانِ ، وذلك غير جائز ، وقوله : "المُعِزُّ المُذِلّ" ، وقد عرفْتَ أنه يجبُ في أَمثالِ هذَيْن ذكْرُ كل واحد منهما مع الآخر. انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 191}
لطيفة
قال فى روح البيان :
اجتمع جماعة من الأغنياء والفقراء فقال غنى : إن الله تعالى رفع درجاتنا حتى استقرض منا ، وقال فقير : بل رفع درجاتنا حتى استقرض لنا ، والواحد قد يستقرض من غير الحبيب ، ولك أن لا تستقرض إلا لأجل الحبيب وقبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودرعه عند يهودى بشعير أخذه لقوت عياله.
انظر ممن استدان ولمن استدان. ؟؟!!!
أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 469}
فصل
قال القرطبى :
أجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف رِباً ولو كان قبضة من علَفٍ كما قال ابن مسعود أو حبّة واحدة.(7/340)
ويجوز أن يردّ أفضل مما يستلِف إذا لم يشترط ذلك عليه ؛ لأن ذلك من باب المعروف ؛ استدلالاً بحديث أبي هريرة في البكْر : " إنّ خِياركم أحسنكم قضاء " رواه الأئمة : البخاريّ ومسلم وغيرهما.
فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء ، وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة.
وكذلك قضى هو صلى الله عليه وسلم في البِكْرِ وهو الفَتِيّ المختار من الإبل جملا خِياراً رَباعِياً ، والخِيار : المختار ، والرَّباعِي هو الذي دخل في السّنة الرابعة ؛ لأنه يُلقِي فيها رباعيته وهي التي تلِي الثنايا وهي أربع رباعِيات مخففة الباء وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان ، وهو مذهب الجمهور ، ومنع من ذلك أبو حنيفة وقد تقدّم. أ هـ
وقال رحمه الله :
ولا يجوز أن يهدِي من استقرض هدية لِلمُقرِض ، ولا يحِل للمقرِض قبولها إلا أن يكون عادتهما ذلك ؛ بهذا جاءت السنة : خرّج ابن ماجه حدّثنا هشام بن عمار قال حدّثنا إسماعيل بن عَيّاش حدّثنا عُتبة بن حُمَيْد الضبيِّ عن يحيى بن أبي إسحاق الهُنَائي قال : سألت أنس بن مالك عن الرجل مِنا يقرض أخاه المال فيهدِي إليه ؟ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقرض أحدكم أخاه قرضاً فأهدى له أو حمله على دابته فلا يقبلها ولا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 241 ـ 242}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}.
سُمِّي القرض قرضاً لأنه يقطع من ماله شيئاً ليعطيه للمقترض ، والمتصدِّق لما يقطع الصدقة من ماله سميت صدقته قرضاً ، فالقرض القطع ، ولكن هذه التسمية لحفظ قلوب الأحباب حيث خاطبك في باب الصدقة باسم القرض ولفظه.(7/341)
ويقال دلّت الآية على عِظَم رتبة الغَنِيِّ حيث سأل منه القرض ، ولكن رتبة الفقير في هذا أعظم لأنه سأَل لأَجْله القَرضَ ، وقد يسأل القرض من كل أحد ولكن لا يسأل لأجل كل أحد. وفي الخبر " مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي على شعير أخذه لقوت عياله أَبْصِرْ مِمَّن اقترض ولأجل مَنْ اقترض ".
ويقال القرض الحسن ما لا تتطلع عليه لجزاء ولا تطلب بسببه العِوَض.
ويقال القرض الحسن ألا يعطى على الغفلة ، وإنما يعطى عن شهود.
ويقال القرض الحسن من العلماء إذا كان عند ظهر الغني ، ومن الأكابر إذا كان بشرط الإيثار يعطى ما لا بد منه.
ويقال القرض الحسن من العلماء عن مائتين خَمْسَة ، وعلى لسان القوم بذل الكل ، وزيادة الروح على ما يبذل.
قوله جلّ ذكره : {وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
يقبض الصدقة من الأغنياء قبض قبوله ، ويبسط عليهم بسط خَلَفِه.
ويقال يقبض الرزق أي يُضَيق ، يبسط الرزق أي يوسِّع ؛ يقبض على الفقراء ليمتحنَهم بالصبر ، ويبسط على الأغنياء ليطالبهم بالشكر.
ويقال يقبض تسلية للفقراء ليطالبهم حتى لا يروا من الأغنياء ، ويبسط لئلا يتقلدوا المِنَّةَ من الأغنياء.
ويقال قال للأغنياء : إذا أنا قبضت الرزق على الفقراء فلا تذروهم ، وإذا أنا بسطت عليكم فلا تروا ذلك لفضيلة لكم.
ويقال قَبَضَ القلوب بإعراضه وبَسَطَها بإقباله.
ويقال القبض لما غلب القلوب من الخوف ، والبسط لما يغلب عليها من الرجاء.
ويقال القبض لقهره والبسط لِبِرَّه.
ويقال القبض لِسرِّه والبسط لكشْفِه.
ويقال القبض للمريدين والبسط للمُرادين.
ويقال القبض للمتسابقين والبسط للعارفين.
ويقال يقبضك عنك ثم يبسطك به.
ويقال القبض حقه ، والبسط حظك.
ويقال القبض لمن تولَّى عن الحق ، والبسط لمن تجلى له الحق.
ويقال يقبض إذا أَشْهَدَكَ فِعْلَكَ ، ويبسط إذا أشهدك فضله.
(7/342)
ويقال يقبض بذكر العذاب ويبسط بذكر الإيجاب. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 189 ـ 191}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً...}.
هذه رحمة من الله تعالى لأنه متولّ على جميع الخلق غني بذاته عنهم ، ومع هذا يجعل طاعتهم له ( سلفا ) منهم له ، وقال في سورة براءة : {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} ووصفه بالحسن في كميته وكيفيته. و" قرضا " إن كان مصدرا فهو مجاز ، كما قال الإمام المازري في {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} إنّ التأكيد يصير التطهير المعنوي حسيا وهو من ترشيح المجاز كقولك قول هند زوجة ابن زنباع :
بكى الخزمن ( عوف ) وانكره جلده... وعج عجيجا من جذام المطارق
قوله تعالى : {أَضْعَافاً كَثِيرَةً...}.
قال ابن عرفة : " كثيرة " راجع إلى المجموع ( وإفراد ) ، كل واحد من تلك الأضعاف موصوف بالكثرة.
قوله تعالى : {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
قدم القبض ترجيحا له أي ذلك القبض الذي ينالكم ( بالصلاة ) والزكاة ( راجع ) لكونه يعود عليكم بالبسط في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهذا بحسب الأشخاص فقد يكون إنفاق درهم قليلا لشخص ( وكثيرا لآخر كما في الحديث : " سَبَقَ دينار مائة ، فمن عنده درهمان فأنفق منهما ) درهما ليس كمن عنده عشرة دراهم فينفق منها درهما ". أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 318}
فوائد بلاغية فى الآيات السابقة
قال أبو حيان :(7/343)
تضمنت هذه الآيات الكريمة من ضروب علم البيان ، وصنوف البلاغة : الاستفهام الذي أجرى مجرى التعجب في قوله : {ألم تر إلى الذين} والحذف بين : موتوا ثم أحياهم ، أي : فماتوا ثم أحياهم ، وفي قوله تعالى : فقال لهم الله ، أي : ملك الله بإذنه ، وفي لا لا يشكرونه ، وفي قوله : سميع لأقوالكم عليم باعمالكم ، وفي قوله : ترجعون ، فيجازي كلاً بما عمل. والطباق في قوله : موتوا ثم أحياهم ، وفي : يقبض ويبسط ؛ والتكرار في : على الناس ، ولكن أكثر الناس ؛ والالتفات في : وقاتلوا في سبيل الله ؛ والتشبيه بغير أداته في : قرضاً حسناً ، شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله ومجازاته عليه بالقرض الحقيقي ، فأطلق اسم القرض عليه ، والاختصاص بوصفه بقوله : حسناً ؛ والتجنيس المغاير في قوله : فيضاعفه له أضعافاً. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 262}(7/344)
كلام نفيس للعلامة ابن القيم يتعلق بالآية الكريمة
قال رحمه الله :
فصل في مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها وهم ثمان عشرة طبقة
وذكر منهم أهل الإيثار والصدقة
فقال ما نصه :
الطبقة السابعة : أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى الناس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم من تفريج كرباتهم ودفع ضروراتهم وكفايتهم فى مهماتهم وهم أحد الصنفين اللذين قال النبى صلى الله عليه وسلم فيهم : "لا حسد إلا فى اثنين : رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس ، ورجل آتاه الله مالاً وسلطه على هلكته فى الحق" ، يعنى أنه لا ينبغى لأحد أن يغبط أحداً على نعمة ويتمنى مثلها ، إلا أحد هذين ، وذلك لما فيهما من منافع النفع العام والإحسان المتعدى إلى الخلق ، فهذا ينفعهم بعلمه وهذا ينفعهم بماله ، والخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله.
(7/345)
ولا ريب أن هذين الصنفين من أنفع الناس لعيال الله ، ولا يقوم أمر الناس إلا بهذين الصنفين ولا يعمر العالم إلا بهما ، قال تعالى : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ الله ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أنفقوا مِنَّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة : 262] ، [وقال تعالى : {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا يحزنون وقال تعالى : {إنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالمصَّدِّقَات وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد : 18] قال تعالى {من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً فَيْضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة : 542] ، وقال تعالى : {مَنْ ذَا الَّذِى يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد : 11] ، فصدَّر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب ، وهو الاستفهام المتضمن لمعنى الطلب ، وهو أبلغ فى الطلب من صيغة الأمر ، والمعنى : هل أحد يبذل هذا القرض الحسن فيجازى عليه أضعافاً مضاعفة ؟ وسمى ذلك الإنفاق قرضاً حسناً حثاً للنفوس وبعثاً لها على البذل لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوّعت له نفسه بذله وسهل عليه إخراجه.
فإن علم أن المستقرض ملى وفى محسن كان أبلغ فى طيب قلبه وسماحة نفسه ، فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه وينميه له ويثمرة حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح ، فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجراً آخر من غير جنس القرض وأن ذلك الأجر حظ عظيم وعطاءٌ كريم فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة فى نفسه من البخل والشح أو عدم الثقة بالضمان ، وذلك من ضعف إيمانه ، ولهذا كانت الصدقة برهاناً لصاحبها.
(7/346)
وهذه الأمور كلها تحت هذه الألفاظ التى تضمنتها الآية ، فإنه [سبحانه] سماه قرضاً ، وأخبر أنه هو المقترض لا قرض حاجة ، ولكن قرض إحسان إلى المقرض [استدعاه] لمعاملته ، وليعرف مقدار الربح فهو الذى أعطاه ماله واستدعى منه معاملته به ، ثم أخبر [عن ما] يرجع إليه بالقرض وهو الأضعاف المضاعفة ، ثم أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة وهو الأجر الكريم.
وحيث جاءَ هذا القرض فى القرآن قيده بكونه حسناً ، وذلك يجمع أموراً ثلاثة : أحدها أن يكون من طيب ماله لا من رديئه وخبيثه. الثانى : أن [يخرجه] طيبة به نفسه ثابتة عند بذله ابتغاءَ مرضاة الله. الثالث : أن لا يمن به ولا يؤذى. فالأول يتعلق بالمال ، والثانى يتعلق بالمنفق بينه وبين الله ، والثالث بينه وبين الآخذ. أ هـ {طريق الهجرتين صـ 537 ـ 539}(7/347)
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتمنون في مكة المشرفة الإذن في مقارعة الكفار ليردوهم عما هم عليه من الأذى والغي والعمى عجب من حال بني إسرائيل حيث سألوا الأمر بالقتال ثم لم ينصفوا إذ أمروا تحذيراً من مثل حالهم ، وتصويراً لعجيب قدرته على نقض العزائم وتقليب القلوب ، وإعلاماً بعظيم مقادير الأنبياء وتمكنهم في المعارف الإلهية ، ودليلاً على ختام الآية التي قبلها فقال مقبلاً على أعلى الخلق إشارة إلى أن للنفوس من دقائق الوساوس ما لا يفهمه إلا البصراء : {ألم تر} قال الحرالي : أراه في الأولى حال أهل الحذر من الموت بما في الأنفس من الهلع الذي حذرت منه هذه الأمة ثم أراه في هذه مقابل ذلك من الترامي إلى طلب الحرب وهما طرفا انحراف في الأنفس ، قال صلى الله عليه وسلم : " لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموه فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " ففيه إشعار لهذه الأمة بأن لا تطلب الحرب ابتداء وإنما تدافع عن منعها من إقامة دينها كما قال سبحانه وتعالى : {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [ الحج : 39 ] وقال عليه الصلاة والسلام :
" والمشركون قد بغوا علينا . . .
إذا أرادوا فتنة أبينا "
(7/348)
فحق المؤمن أن يأبى الحرب ولا يطلبه فإنه إن طلبه فأوتيه عجز كما عجز هؤلاء حين تولوا إلا قليلاً فهذه الأقاصيص ليس المراد منها حديثاً عن الماضين وإنما هو إعلام بما يستقبله الآتون ، إياك أعني واسمعي يا جارة! فلذلك لا يسمع القرآن من لم يأخذه بجملته خطاباً لهذه الأمة بكل ما قص له من أقاصيص الأولين - انتهى.
ويجوز أن يكون الخطاب لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
ولما كان الإخلال من الشريف أقبح قال {إلى الملإ} أي الأشراف ، قال الحرالي : الذين يملؤون العيون بهجة والقلوب هيبة - انتهى.
ولما كان ذلك من أولاد الصلحاء أشنع قال : {من بني إسراءيل} ولما كان ممن تقرر له الدين واتضحت له المعجزات واشتهرت عنده الأمور الإلهيات أفحش قال {من بعد موسى} أي الذي أتاهم من الآيات بما طبق الأرض كثرة وملأ الصدور عظمة وأبقى فيهم كتاباً عجباً ما بعد القرآن من الكتب السماوية مثله.
قال الحرالي : وفيه إيذان بأن الأمة تختل بعد نبيها بما يصحبها من نوره زمن وجوده معهم ، قالوا : ما نفضنا أيدينا من تراب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا - انتهى.
{إذ قالوا} ولما كان الإخلاف مع الأكابر لا سيما مع الأنبياء أفظع قال : {لنبي لهم} ونكره لعدم مقتض لتعريفه.
قال الحرالي : لأن نبيهم المعهود الآمر لهم إنما هو موسى عليه الصلاة والسلام ، ومن بعده إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام إنما هم أنبياء بمنزلة الساسة والقادة لهم كالعلماء في هذه الأمة منفذون وعالمون بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام كذلك كانوا إلى حين تنزيل الإنجيل فكما قص في صدر السورة حالهم مع موسى عليه الصلاة والسلام قص في خواتيمها حالهم من بعد موسى لتعتبر هذه الأمة من ذلك حالها مع نبيها صلى الله عليه وسلم وبعده انتهى.
(7/349)
ولما كان عندهم من الغلظة ما لا ينقادون به إلا لإنالة الملك وكان القتال لا يقوم إلا برأس جامع تكون الكلمة به واحدة قالوا : {ابعث لنا} أي خاصة {ملكاً} أي يقيم لنا أمر الحرب {نقاتل} أي عن أمره {في سبيل الله} أي الملك الأعلى.
قال الحرالي في إعلامه أخذهم الأمر بمنة الأنفس حيث لم يظهر في قولهم إسناد إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا تصح الأعمال إلا بإسنادها إليه فما كان بناء على تقوى تم ، وما كان على دعوى نفس انهدّ {قال} أي ذلك النبي {هل} كلمة تنبىء عن تحقيق الاستفهام اكتفي بمعناها عن الهمزة - انتهى.
{عسيتم} أي قاربتم ولما كانت العناية بتأديب السائلين في هذا المهم أكثر قدم قوله : {إن كتب} أي فرض - كذا قالوا ، والأحسن عندي كما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة براءة أن يكون المعنى : هل تخافون من أنفسكم ، ولما كان القصد التنبيه على سؤال العافية والبعد عن التعرض للبلاء لخطر المقام بأن الأمر إذا وجب لم تبق فيه رخصة فمن قصر فيه هلك وسط بين عسى وصلتها قوله : {عليكم القتال} فرضاً لازماً ، وبناه للمفعول صيانة لاسم الفاعل عن مخالفة يتوقع تقصيرهم بها {ألا تقاتلوا} فيوقعكم ذلك في العصيان ، قال الحرالي : بكسر سين عسى وفتحها لغتان ، عادة النحاة أن لا يلتمسوا اختلاف المعاني من أوساط الصيغ وأوائلها ، وفي فهم اللغة وتحقيقها إعراب في الأوساط والأوائل كما اشتهر إعراب الأواخر عند عامة النحاة ، فالكسر حيث كان مبنى عن باد عن ضعف وانكسار ، والفتح معرب عن باد عن قوة واستواء - انتهى.
فكأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن بعضهم يترك القتال عن ضعف عنه وبعضهم يتركه عن قوة ولذلك نفى الفعل ولم يقل : أن تعجزوا.
قال الحرالي : فأنبأهم بما آل إليه أمرهم فلم يلتفوا عنه وحاجوه وردوا عليه بمثل سابقة قولهم ، ففي إشعاره إنباء بما كانوا عليه من غلظ الطباع وعدم سرعة التنبه - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 469 ـ 471}
(7/350)
قال ابن عاشور :
جملة : {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} استئناف ثان من جملة {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} [ البقرة : 243 ] سيق مساق الاستدلال لجملة {وقاتلوا في سبيل الله} [ البقرة : 190 ] وفيها زيادة تأكيد لفظاعة حال التقاعس عن القتال بعد التهيؤ له في سبيل الله ، والتكرير في مثله يفيد مزيد تحذير وتعريض بالتوبيخ ؛ فإن المأمورين بالجهاد في قوله : {وقاتلوا في سبيل الله} لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال ، حباً للحياة ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة ، ومصائب المذلة ، فضرب الله لهذين الحالين مثلين : أحدهما ما تقدم في قوله : {ألم تر إلى الذين أخرجوا من ديارهم} والثاني قوله : {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} وقد قدم أحدهما وأخر الآخر ليقع التحريض على القتال بينهما.
"
ومناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم ، فخرجوا من ديارهم مع كثرتهم ، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة ؛ لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة ، ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم : {وما لنا ألا نقاتل} إلخ.
فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم ، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم بعد الشروع في القتال أو بعد كتبه عليهم ، فلله بلاغة هذا الكلام ، وبراعة هذا الأسلوب تقديماً وتأخيراً.
وتقدم القول على {ألم تر} [ البقرة : 243 ] في الآية قبل هذه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 484}
قال القرطبى :
الملأ : الأشراف من الناس ، كأنّهم ممتلئون شرفاً.
وقال الزجاج : سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم.
والملأ في هذه الآية القوم ؛ لأنّ المعنى يقتضيه.
والملأ : اسم للجمع كالقوم والرهط.
(7/351)
والملأ أيضاً : حسن الخلقِ ، ومنه الحديث : " أحسِنوا المَلأ فكلكم سَيَرْوَى " خرجه مسلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 243}
وقال ابن عاشور :
والملأ : الجماعة الذين أمرهم واحد ، وهو اسم جمع كالقوم والرهط ، وكأنه مشتق من الملْء وهو تعمير الوعاء بالماء ونحوه ، وأنه مؤذن بالتشاور لقولهم : تمالأ القوم إذا اتفقوا على شيء والكل مأخوذ من ملء الماء ؛ فإنهم كانوا يملأون قربهم وأوعيتهم كل مساء عند الورد ، فإذا ملأ أحد لآخر فقد كفاه شيئاً مهماً ؛ لأن الماء قوام الحياة ، فضربوا ذلك مثلاً للتعاون على الأمر النافع الذي به قوام الحياة والتمثيل بأحوال الماء في مثل هذا منه قول علي " اللهم عليك بقريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي " تمثيلاً لإضاعتهم حقه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 484 ـ 485}
قوله تعالى : {من بعد موسى}
قال ابن عاشور :
وقوله : {من بعد موسى} إعلام بأن أصحاب هذه القصة كانوا مع نبيء بعد موسى ، فإن زمان موسى لم يكن فيه نصب ملوك على بني إسرائيل وكأنه إشارة إلى أنهم أضاعوا الانتفاع بالزمن الذي كان فيه رسولهم بين ظهرانيهم ، فكانوا يقولون : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وكان النصر لهم معه أرجى لهم ببركة رسولهم ، والمقصود التعريض بتحذير المسلمين من الاختلاف على رسولهم.
وتنكير نبيء لهم للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي فلا حاجة إلى تعيينه ، وإنما المقصود حال القوم وهذا دأب القرآن في قصصه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 485}
قوله تعالى : {إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابعث لَنَا}
قال الفخر :
قوله تعالى : {إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابعث لَنَا}(7/352)
تعلق هذه الآية بما قبلها من حيث إنه تعالى لما فرض القتال بقوله : {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} [ البقرة : 244 ] ثم أمرنا بالإنفاق فيه لما له من التأثير في كمال المراد بالقتال ذكر قصة بني إسرائيل ، وهي أنهم لما أمروا بالقتال نكثوا وخالفوا فذمهم الله تعالى عليه ، ونسبهم إلى الظلم والمقصود منه أن لا يقدم المأمورون بالقتال من هذه الأمة على المخالفة ، وأن يكونوا مستمرين في القتال مع أعداء الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 144}
قال الماوردى :
{ابْعَثْ لَنَا مَلَكاً نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سبب سؤالهم لذلك قولان :
أحدهما : أنهم سألوا ذلك لقتال العمالقة ، وهو قول السدي.
والثاني : أن الجبابرة الذين كانوا في زمانهم استزلوهم ، فسألوا قتالهم ، وهو قول وهب والربيع. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 314}
فصل
قال الفخر :
لا شك أن المقصود الذي ذكرناه حاصل ، سواء علمنا أن النبي من كان من أولئك ، وأن أولئك الملأ من كانوا أو لم نعلم شيئاً من ذلك ، لأن المقصود هو الترغيب في باب الجهاد وذلك لا يختلف ، وإنما يعلم من ذلك النبي ومن ذلك الملأ بالخبر المتواتر وهو مفقود ، وأما خبر الواحد فإنه لا يفيد إلا الظن ، ومنهم من قال : إنه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف ، والدليل عليه قوله تعالى : {مِن بَعْدِ موسى} وهذا ضعيف لأن قوله : {مِن بَعْدِ موسى} كما يحتمل الاتصال يحتمل الحصول من بعد زمان ، ومنهم من قال : كان اسم ذلك النبي أشمويل من بني هارون واسمه بالعربية : إسماعيل ، وهو قول الأكثرين ، وقال السدي : هو شمعون ، سمته أمه بذلك ، لأنها دعت الله تعالى أن يرزقها ولداً فاستجاب الله تعالى دعاءها ، فسمته شمعون ، يعني سمع دعاءها فيه ، والسين تصير شيناً بالعبرانية ، وهو من ولد لاوى بن يعقوب عليه السلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 144 ـ 145}
وقال ابن عطية : (7/353)
اختلف المتأولون في النبي الذي قيل له {ابعث} ، فقال ابن إسحاق وغيره عن وهب بن منبه : هو سمويل بن بالي : وقال السدي : هو شمعون وقال قتادة : هو يوشع بن نون .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا قول ضعيف ، لأن مدة داود هي بعد مدة موسى بقرون من الناس ، ويوشع هو فتى موسى ، وكانت بنو إسرائيل تغلب من حاربها ، وروي أنها كانت تضع التابوت الذي فيه السكينة والبقية في مأزق الحرب ، فلا تزال تغلب حتى عصوا وظهرت فيهم الأحداث . وخالف ملوكهم الأنبياء ، واتبعوا الشهوات ، وقد كان الله تعالى أقام أمورهم بأن يكون أنبياؤهم يسددون ملوكهم ، فلما فعلوا ما ذكرناه سلط الله عليهم أمماً من الكفرة فغلبوهم وأخذ لهم التابوت في بعض الحروب فذل أمرهم . وقال السدي : " كان الغالب لهم جالوت وهو من العمالقة ، فلما رأوا أنه الاصطلام وذهاب الذكر أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم . حتى اجتمع ملأهم على أن قالوا لنبي الوقت : {ابعث لنا ملكاً} الآية ، وإنما طلبوا ملكاً يقوم بأمر القتال ، وكانت المملكة في سبط من أسباط بني إسرائيل يقال لهم : " بنو يهوذا " ، فعلم النبي بالوحي أنه ليس في بيت المملكة من يقوم بأمر الحرب ، ويسر الله لذلك طالوت. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 330}
فائدة
قال القرطبى :
وهذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذِلة وغَلَبَةُ عدوّ فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به ، فلما أُمِروا كَعَّ أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله.
وفي الخبر أن هؤلاء المذكورين هم الذين أُميتوا ثم أُحيوا ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 244}
فصل
قال الفخر : (7/354)
قال وهب والكلبي : إن المعاصي كثرت في بني إسرائيل ، والخطايا عظمت فيهم ، ثم غلب عليهم عدو لهم فسبى كثيراً من ذراريهم ، فسألوا نبيهم ملكاً تنتظم به كلمتهم ويجتمع به أمرهم ، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم ، وقيل تغلب جالوت على بني إسرائيل ، وكان قوام بني إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء ، ويجري الأحكام ، ونبي يطيعه الملك ، ويقيم أمر دينهم ، ويأتيهم بالخبر من عند ربهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 145}
قال الفخر :
أما قوله : {نقاتل فِى سَبِيلِ الله} فاعلم أنه قرىء {نقاتل} بالنون والجزم على الجواب ، وبالنون والرفع على أنه حال ، أي ابعثه لنا مقدرين القتال ، أو استئناف كأنه قيل : ما تصنعون بالملك ، قالوا نقاتل ، وقرىء بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة لقوله : {مَلَكًا}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 145}
قوله : {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَن لا تقاتلوا}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ} و"عَسِيْتُمْ" بالفتح والكسر لغتان ، وبالثانية قرأ نافع ، والباقون بالأُولى وهي الأشهر.
قال أبو حاتم : وليس للكسر وجه (1) ، وبه قرأ الحسن وطلحة.
________________
(1) القراءة بكسر السين فى {عسيتم} متواترة ومن ثم فلا يجوز الطعن فيها مطلقا. والله أعلم.(7/355)
قال مكيّ في اسم الفاعل : عَسٍ ، فهذا يدل على كسر السين في الماضي.
والفتح في السين هي اللغة الفاشية.
قال أبو عليّ : ووجه الكسر قول العرب : هو عسٍ بذلك ، مثل حرٍ وشَج ، وقد جاء فَعل وفَعِل في نحو نَعَم ونعِم ، وكذلك عَسَيت وعَسِيت ، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال : عَسِيَ زيد ، مثل رَضِيَ زيد ، فإن قيل فهو القياس ، وإن لم يقل ، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأُخرى.
ومعنى هذه المقالة : هل أنتم قريب من التولي والفِرار ؟ . أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 244}
وقال الفخر :
قرأ نافع وحده {عَسَيْتُمْ} بكسر السين ههنا ، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم ، واللغة المشهورة فتحها ووجه قراءة نافع ما حكاه ابن الأعرابي أنهم يقولون : هو عسى بكذا وهذا يقوي {عَسَيْتُمْ} بكسر السين ، ألا ترى أن عسى بكذا ، مثل حري وشحيح وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة فقال لو جاز ذلك لجاز {عسى رَبُّكُمْ} أجاب أصحاب نافع عنه من وجهين
الأول : أن الياء إذا سكنت وانفتح ما قبلها حصل في التلفظ بها نوع كلفة ومشقة ، وليست الياء من {عَسَى} كذلك ، لأنها وإن كانت في الكتابة ياء إلا أنها في اللفظ مدة ، وهي خفيفة فلا تحتاج إلى خفة أخرى.
والجواب الثاني : هب أن القياس يقتضي جواز {عسى رَبُّكُمْ} إلا أنا ذكرنا أنهما لغتان ، فله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع والأخرى في موضع آخر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 145}
قال ابن عاشور :
وقوله : {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال} الآية ، استفهام تقريري وتحذير ، فقوله : {ألا تقاتلوا} مستفهم عنه بهل وخبر لعسى متوقع ، ودليل على جواب الشرط {إن كتب عليكم القتال} وهذا من أبدع الإيجاز فقد حكى جملاً كثيرة وقعت في كلام بينهم ، وذلك أنه قررهم على إضمارهم نية عدم القتال اختباراً وسبراً لمقدار عزمهم عليه ، ولذلك جاء في الاستفهام بالنفي فقال ما يؤدي معنى "هلْ لاَ تقاتلون" ولم يقل : هل تقاتلون ؛ لأن المستفهم عنه هو الطرَف الراجح عند المستفهم ، وإن كان الطرَف الآخر مقدراً ، وإذا خرج الاستفهام إلى معانيه المجازية كانت حاجة المتكلم إلى اختيار الطرف الراجح متأكدة.
وتوقع منهم عدم القتال وحذرهم من عدم القتال إن فرض عليهم ، فجملة : {ألا تقاتلوا} يتنازع معناها كل من هَل وَعسى وإنْ ، وأُعطيت لعسى ، فلذلك قرنت بإنْ ، وهي دليل للبقية فيقدر لكل عامل ما يقتضيه.(7/356)
والمقصود من هذا الكلام التحريض لأن ذا الهمة يأنف من نسبته إلى التقصير ، فإذا سجل ذلك عليه قبل وجود دواعيه كان على حذر من وقوعه في المستقبل ، كما يقول من يوصي غيره : افعل كذا وكذا وما أظنك تفعل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 485 ـ 486}
قال الزمخشرى :
والمعنى : هل قاربتم أن لا تقاتلوا ؟ يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون ؟ أراد أن يقول : عسيتم أن لا تقاتلوا ، بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال ، فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون. وأراد بالاستفهام التقرير ، وتثبيت أنّ المتوقع كائن ، وأنه صائب في توقعه ، كقوله تعالى : {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [ الإنسان : 1 ] معناه التقرير. وقرىء "عسيتم" بكسر السين وهي ضعيفة. (1) أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 319}
فصل
قال الفخر :
خبر {هَلْ عَسَيْتُمْ} وهو قوله : {أَن لا تقاتلوا} والشرط فاصل بينهما ، والمعنى هل قاربتم أن تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل {هَلُ} مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون ، وأراد بالاستفهام التقرير ، وثبت أن المتوقع كائن له ، وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى : {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر} معناه التقرير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 145}
________________
(1) تقدمت الإشارة إلى خطأ هذا القول لأنه طعن فى قراءة متواترة ، وسبحان الله فمن العجب العجاب أنهم يستندون أحيانا فى إثبات بعض القواعد النحوية بشطر بيت لا يعرف قائله ويطعنون فى بعض القراءات المتواترة. والقرآن أساس وأصل للغة العربية وأهل مكة مع شدة عداوتهم للقرآن إلا أنهم لم يستطيعوا توجيه طعن واحد فيه بل كانوا يذهبون خفية لسماعه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسمع أحدهم قول الله تعالى {فاصدع بما تؤمر} فسجد فقيل له : لم سجدت ؟ فقال : سجدت لفصاحته. والله أعلم.(7/357)
قوله تعالى : {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان مضمون هذا الاستفهام : إني أخشى عليكم القعود عن القتال أعلمنا الله عن جوابهم بقوله : {قالوا} أي لموسى في المخالفة ولما أرشد العطف على غير مذكور أن التقدير : ما يوجب لنا القعود وإنا لا نخاف ذلك على أنفسنا بل نحن جازمون بأنا نقاتل أشد القتال! عطف عليهم قولهم : {وما} أي وأي شيء {لنا} في {ألا نقاتل} ولما كانت النفس فيما لله أجد وإليه أنهض قالوا : {في سبيل الله} أي الذي لا كفوء له إلهاباً وتهييجاً {وقد} أي والحال أنا قد {أخرجنا} أعم من أن يكون مع لإخراج إبعاد أو لا ، وبناه للمجهول لأن موجب الإحفاظ والإخراج نفس الإخراج لا نسبة إلى حد بعينه {من ديارنا} التي هي لأبداننا كأبداننا لأرواحنا.
ولما كان في {أخرجنا} معنى أبعدنا عطف عليه {وأبنائنا} فخلطوا بذلك ما لله بما لغيره وهو أغنى الشركاء لا يقبل إلا خالصاً.
قال الحرالي : فأنبأ سبحانه وتعالى أنهم أسندوا ذلك إلى غضب الأنفس على الإخراج وإنما يقاتل في سبيل الله من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا - انتهى.
(7/358)
ولما كان إخلاف الوعد مع قرب العهد أشنع قال : {فلما} بالفاء المؤذنة بالتعقيب {كتب عليهم} أي خاصة {القتال} أي الذي سألوه كما كتب عليكم بعد أن كنتم تمنونه إذ كنتم بمكة كما سيبين إن شاء الله تعالى في النساء عند قوله تعالى : {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم} [ النساء : 77 ] ، {تولوا} فبادروا الإدبار بعد شدة ذلك الإقبال {إلا قليلاً منهم} أي فقاتلوا والله عليم بهم {والله} أي الذي له الإحاطة بكل كمال {عليم} بالمتولين ، هكذا كان الأصل ولكنه قال : {بالظالمين} معلماً بأنهم سألوا البلاء وكان من حقهم سؤال العافية ، ثم لما أجيبوا إلى ما سألوا أعرضوا عنه فكفوا حيث ينبغي المضاء ومضوا حيث كان ينبغي الكف فعصوا الله الذي أوجبه عليهم ، فجمعوا بين عار الإخلاف وفضيحة العصيان وخزي النكوص عن الأقران وقباحة الخذلان للإخوان. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 471 ـ 472}
قال الفخر :
إنه تعالى ذكر أن القوم قالوا : {وَمَا لَنَا أَن لا نقاتل فِى سَبِيلِ الله} وهذا يدل على ضمان قوي خصوصاً واتبعوا ذلك بعلة قوية توجب التشدد في ذلك ، وهو قولهم : {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا} لأن من بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه ومقاتلته.
فإن قيل : المشهور أنه يقال : مالك تفعل كذا ؟ ولا يقال : مالك أن تفعل كذا ؟ قال تعالى : {مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [ نوح : 13 ] وقال : {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} [ الحديد : 8 ].
والجواب من وجهين : الأول : وهو قول المبرد : أن {مَا} في هذه الآية جحد لا استفهام كأنه قال : ما لنا نترك القتال ، وعلى هذا الطريق يزول السؤال.
الوجه الثاني : أن نسلم أن {مَا} ههنا بمعنى الاستفهام ، ثم على هذا القول وجوه
الأول : قال الأخفش : أن ههنا زائدة ، والمعنى : ما لنا لا نقاتل وهذا ضعيف ، لأن القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل
(7/359)
الثاني : قال الفراء : الكلام ههنا محمول على المعنى ، لأن قولك : مالك لا تقاتل معناه ما يمنعك أن تقاتل ؟ فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال أن فيه قال تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ ص : 75 ] وقال : {مالك أَن لا تَكُونَ مَعَ الساجدين} [ الحجر : 32 ]
الثالث : قال الكسائي : معنى {وَمَا لَنَا أَن لا نقاتل} أي شيء لنا في ترك القتال ؟ ثم سقطت كلمة {فِى} ورجح أبو علي الفارسي ، قول الكسائي على قول الفراء ، قال : وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر ، والتقدير : ما يمنعنا من أن نقاتل ، إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين ، ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره ، وعلى قول الفراء لا يبقى ، فكان قول الكسائي لا محالة أولى وأقوى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 145 ـ 146}
قال ابن عاشور :
وقوله : {قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله} جاءت واو العطف في حكاية قولهم ؛ إذ كان في كلامهم ما يفيد إرادة أن يكون جوابهم عن كلامه معطوفاً على قولهم : {ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} ما يؤدَّى مثله بواو العطف فأرادوا تأكيد رغبتهم ، في تعيين ملك يدبر أمور القتال ، بأنهم ينكرون كل خاطر يخطر في نفوسهم من التثبيط عن القتال ، فجعلوا كلام نبيئهم بمنزلة كلام معترض في أثناء كلامهم الذي كملوه ، فما يحصل به جوابهم عن شك نبيهم في ثباتهم ، فكان نظم كلامهم على طريقة قوله تعالى حكاية عن الرسل : {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [ آل عمران : 122 ] ، {وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا} [ إبراهيم : 12 ].
و ( ما ) اسم استفهام بمعنى أي شيء واللام للاختصاص والاستفهام إنكاري وتعجبي من قول نبيهم : {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} لأن شأن المتعجب منه أن يسأل عن سببه.
(7/360)
واسم الاستفهام في موضع الابتداء ، و{لنا} خبره ، ومعناه ما حصل لنا أو ما استقرَّ لنا ، فاللام في قوله : {لنا} لام الاختصاص و"أن" حرف مصدر واستقبال ، و{نقاتل} منصوب بأن ، ولما كان حرف المصدر يقتضي أن يكون الفعل بعده في تأويل المصدر ، فالمصدر المنسبك من أن وفعلها إما أن يجعل مجروراً بحرف جر مقدر قبل أن مناسب لتعلق ( لا نقاتل ) بالخبر ما لنا في ألا نقاتل أي انتفاء قتالنا أو ما لنا لأَلا نقاتل أي لأجل انتفاء قتالنا ، فيكون معنى الكلام إنكارهم أن يثبت لهم سبب يحملهم على تركهم القتال ، أو سبب لأجل تركهم القتال ، أي لا يكون لهم ذلك.
وإما أن يجعل المصدر المنسبك بدلاً من ضمير {لنا} : بَدَل اشتمال ، والتقدير : ما لنا لِتَرْكِنا القتال.
ومثل هذا النظم يجيء بأشكال خمسة : مثل {مالك لا تأمنا على يوسف} [ يوسف : 11 ] {ومالي لا أعبد الذي فطرني} [ يس : 22 ] {ما لكم كيف تحكمون} [ النساء : 88 ] فمالك والتلدد حول نجد {فما لكم في المنافقين فئتين} [ الصافات : 154 ] ، والأكثر أن يكون ما بعد الاستفهام في موضع حال ، ولكن الإعراب يختلف ومآل المعنى متحد.
و"ما" مبتدأ و"لنا" خبره ، والمعنى : أي شيء كان لنا.
وجملة "ألا نُقَاتل" حال وهي قيد للاستفهام الإنكاري ، أي لا يثبت لنا شيء في حالة تركنا القتال.
وهذا كنظائره في قولك : مالي لا أفعل أو مالي أفعل ، فإن مصدرية مجرورة بحرف جر محذوف يقدر بفي أو لام الجر ، متعلق بما تعلقَ به {لنا}.
وجملة {وقد أخرجنا} حال معللة لوجه الإنكار ، أي إنهم في هذه الحال أبعد الناس عن ترك القتال ؛ لأن أسباب حب الحياة تضعف في حالة الضر والكدر بالإخراج من الديار والأبناء.
(7/361)
وعطف الأبناء على الديار لأن الإخراج يطلق على إبعاد الشيء من حيزه ، وعلى إبعاده من بين ما يصاحبه ، ولا حاجة إلى دعوى جعل الواو عاطفة عاملاً محذوفاً تقديره وأبعدنا عن أبنائنا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 486 ـ 487}
قال ابن الجوزى :
قوله تعالى : {وقد أُخرجنا من ديارنا} يعنون : أُخرج بعضنا ، وهم الذين سبوا منهم وقهروا ، فظاهره العموم ، ومعناه الخصوص. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 292}
قوله تعالى : {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ} أي فرِض عليهم {القتال تَوَلَّوْاْ} أخبر تعالى أنه لما فَرض عليهم القتال ورَأُوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم ربما قد تذهب "تَوَلَّوْا" أي اضطربت نياتُهم وفَتَرت عزائمهم ، وهذا شأن الأُمم المتنعِّمَة المائلة إلى الدَّعَة تتمنّى الحرب أوقات الأنفة فإذا حَضرتِ الحرب كَعَّت وانقادت لِطبعها.
وعن هذا المعنى نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله : " لا تتمنوا لِقاء العدوّ وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا " رواه الأئمة.
ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثَبَتُوا على النية الأُولى واستمرّت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 244 ـ 245}
وقال الفخر :
أما قوله : {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ} فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره : فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا.
أما قوله : {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} فهم الذين عبروا منهم النهر وسيأتي ذكرهم ، وقيل : كان عدد هذا القليل ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر (1 ) {والله عَلِيمٌ بالظالمين} أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه ، وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك : {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجراً عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثاً على الجهاد ، وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 146}
________________
(1 ) الجزم بهذا العدد يفتقر إلى سند صحيح فإن وجد قلنا به وإلا وجب التوقف والسكوت عند ما أخبر القرآن. والله أعلم.(7/362)
قوله تعالى {والله عليم بالظالمين}
قال أبو حيان :
{والله عليم بالظالمين} فيه وعيد وتهديد لمن تقاعد عن القتال بعد أن فرض عليه بسؤاله ورغبته ، وأن الإعراض عما أوجب الله على العبد ظلم ، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 265}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {والله عليم بالظالمين} تذييل ، لأن فعلهم هذا من الظلم ؛ لأنهم لما طلبوا القتال خيلوا أنهم محبون له ثم نكصوا عنه.
ومن أحسن التأديب قول الراجز :
مَن قال لاَ في حاجة
مسؤولة فما ظلم...
وإنما الظالم من
يقول لا بعد نعم...
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 487}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : {أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلإِ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِىٍ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا}.(7/363)
استقبلوا الأمر بالاختيار ، واقترحوا على نبيِّهم بسؤال الإذن لهم في القتال ، فلمَّا أجيبوا إلى ما ضمنوه من أنفسهم ركنوا إلى التكاسل ، وعرَّجوا في أوطان التجادل والتغافل. ويقال إنهم أظهروا التصلب والجد في القتال ذَبَّاً عن أموالهم ومنازلهم حيث :
{قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
فلذلك لم يتم قصدهم لأنه لم يَخْلُص - لحقِّ الله - عزمُهم ، ولو أنهم قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله لأنه قد أمرنا ، وأوجب علينا ، فإنه سيدنا ومولانا ، ويجب علينا أمره - لعلَّهم وُفِّقُوا لإتمام ما قصدوه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 191}
لطيفة
قال فى روح البيان :
إن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان ؛ إذ عجزوا عن البرهان ، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 471}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ...}.
قال ابن عرفة : الرؤية إن كانت بصرية ونزل الغائب منزلة الحاضر تحقيقا له ، ( فالخطاب ) للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ، وكذلك قالوا في قول سيبويه : هذا باب : إنّ الخطاب للخواص لا للعوام. وإن كانت علمية فالخطاب للجميع والظاهر الأول ( لتعديه بإلى ).
قوله تعالى : {إِذْ قَالُواْ...}.
قوله تعالى : {لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً...}.
لم يقل : لنبيّهم لأجل مخالفتهم له وعدم اتّباعهم إياه فلذلك لم يضفه إليهم ، والنبي إما شمعون ، أو شمويل ، أو يوشع.
وأبطل ابن عطية كونه يوشع لأن يوشع كان بعد موسى وبينه وبين داود قرون كثيرة.(7/364)
قال ابن عرفة : لعل يوشع رجل آخر ( غير ) الذي كان بعد موسى.
( ابن عرفة قال : وتقدم لنا أنّ الإخبار بهذا القصص إما معجزة له صلى الله عليه وسلم ( أو وعظ وتخويف لأمّته أن ينالهم مثل ما نال أولئك ).
قوله تعالى : {نُّقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله...}.
القتال مع أنّهم لم يقاتلوا إلا لأجل استخلاص ( حريمهم ) وأولادهم لكنه مستلزم لقتالهم في سبيل الله.
قوله تعالى : {هَلْ عَسَيْتُمْ...}.
قال الزمخشري : ( هل ) استفهام في معنى الإنكار عليهم والتقدير مثل : {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} قال ابن عرفة : ويظهر لي أنه استفهام على بابه ، وأنه تأكيد في التلطف في الخطاب لمّا وبخهم على العصيان تلطف في العبارة عنه بوجهين :
أحدهما : ذكره له بلفظ الرجاء ( مقاربة ) العصيان دون التحقيق.
الثاني : لفظ الاستفهام دون الخبر.
فإن قلت : هم إنما طلبوا منه أن يؤمر عليهم ملكا في قتال يتطوعون به فكيف أجابهم بامتناعهم من قتال يكتب عليهم فرضا ؟
قلت : إذا امتنعوا من امتثال قتال يجب عليهم ( فأحرى ) ( ألا يوفوا ) بقتال يتطوعون به.
وقرأ الكل " عَسَيتُمْ " بفتح السين إلا نافعا كسرها.
قال الزمخشري : وهي ضعيفة.
قال ابن عرفة : هذا ( عادته ) في تجاسره على القراءات ( السبعة ) وتصريحه بأنها غير متواترة.
قوله تعالى : {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا...}.
قال ابن عرفة : ( إما أنّهم جعلوا ) إخراج مثلهم كإخراجهم فنزّلوا إخراج المماثل لهم منزلة إخراجهم ، وإمّا أن المراد وقد قاربنا الإخراج من الديار.
قيل لابن عرفة ( أو ) أخرجوا منها حقيقة ثم رجعوا إليها وقيل : إنّه على القلب ، أي إخراج أبنائنا من ديارنا.
قوله تعالى : {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ...}.
(7/365)
ابن عرفة : هذا أبلغ من لو قيل : فكُتب عليهم القتال فتولوا ، لأن قولك : لما قام زيد قام عمرو ، أبلغ من قولك : قام زيد فقام عمرو ، لاقتضائه تحقيق السبيبية والارتباط.
ابن عرفة : ويحتمل أن يكون ( تقدم ) سؤالهم سببا في ( وجوب ) القتال عليهم وكان قبل ذلك تطوعا كقضية بني إسرائيل في البقرة. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 319}
قال السعدى فى معنى الآية
(7/366)
يقص تعالى على نبيه قصة الملأ من بني إسرائيل وهم الأشراف والرؤساء ، وخص الملأ بالذكر ، لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا فيتبعهم غيرهم على ما يرونه ، وذلك أنهم أتوا إلى نبي لهم بعد موسى عليه السلام فقالوا له {ابعث لنا ملكا} أي : عيِّن لنا ملكا {نقاتل في سبيل الله} ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا ، ولعلهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم ، كما جرت عادة القبائل أصحاب البيوت ، كل بيت لا يرضى أن يكون من البيت الآخر رئيس ، فالتمسوا من نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم ، وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم ، كلما مات نبي خلفه نبي آخر ، فلما قالوا لنبيهم تلك المقالة {قال} لهم نبيهم {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} أي : لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم لا تقومون به ، فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها ، واعتمدوا على عزمهم ونيتهم ، فقالوا : {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} أي : أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه ، بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت ذرارينا ، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا ، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل ، ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم {فلما كتب عليهم القتال تولوا} فجبنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة ، وزال ما كانوا عزموا عليه ، واستولى على أكثرهم الخور والجبن {إلا قليلا منهم} فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه ، فحازوا شرف الدنيا والآخرة ، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله ، فلهذا قال : {والله عليم بالظالمين}. أ هـ {تفسير السعدى صـ 107}
فصل
قال الخازن :
ذكر الإشارة إلى القصة
(7/367)
كان سبب مسألة أولئك الملأ لذلك النبي أنه لما مات موسى عليه السلام خلف من بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم أمر الله تعالى. ويحكم بالتوراة حتى قبضة الله تعالى. ثم خلف من بعده كالب بن يوقنا كذلك ، ثم حزقيل كذلك ، حتى قبضه الله تعالى فعظمت الأحداث بعده في بني إسرائيل ونسوا عهد الله حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم إلياس نبياً فدعاهم إلى الله تعالى ، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم ليجددوا ما نسوا من التوراة ويأمروهم بالعمل بأحكامها. ثم خلف من بعد إلياس اليسع فكان فيهم ما شاء الله تعالى ثم قبضة الله تعالى. ثم خلف من بعده خلوف وعظمت فيهم الخطايا وظهر لهم عدو يقال له البلثاثا وهم قوم جالوت وكانوا يسكنون ساحل البحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيراً من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاماً ، فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة ولم يكن لهم نبي يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا كلهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمته أشمويل ومعناه بالعربية إسماعيل. تقول : سمع الله دعائي فلما كبر الغلام أسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبناه فلما بلغ الغلام أتاه جبريل عليه السلام وهو نائم إلى جانب الشيخ وكان الشيخ لا يأمن عليه أحداً فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا أشمويل! فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ وقال : يا أبتاه رأيتك تدعوني فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام : دعوتني فقال : نم فإن دعوتك فلا تجبني فلما كانت الثالثة ظهر له : جبريل عليه السلام وقال له اذهب إلى قومك(7/368)
فبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبياً فلما أتاها كذبوه وقالوا به استعجلت بالنبوة ولم تنلك وقالوا له إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آية على نبوتك وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة أنبياءهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم له أمره ويشير عليه ويرشده ويأتيه بالخبر من ربه.
قال وهب فبعث الله أشمويل نبياً فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فذلك قوله تعالى : {إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله}. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 170 ـ 171}
وقال ابن عاشور :
وهذه الآية أشارت إلى قصة عظيمة من تاريخ بني إسرائيل ، لما فيها من العلم والعبرة ، فإن القرآن يأتي بذكر الحوادث التاريخية تعليماً للأمة بفوائد ما في التاريخ ، ويختار لذلك ما هو من تاريخ أهل الشرائع ، لأنه أقرب للغرض الذي جاء لأجله القرآن.(7/369)
هذه القصة هي حادث انتقال نظام حكومة بني إسرائيل من الصبغة الشورية ، المعبر عنها عندهم بعصر القضاة إلى الصبغة الملكية ، المعبر عنها بعصر الملوك وذلك أنه لما توفي موسى عليه السلام في حدود سنة 1380 قبل الميلاد المسيحي ، خلفه في الأمة الإسرائيلية يوشع بن نُون ، الذي عهد له موسى في آخر حياته بأن يخلفه فلما صار أمر بني إسرائيل إلى يوشع جعل لأسباط بني إسرائيل حكاماً يسوسونهم ويقضون بينهم ، وسماهم القضاة فكانوا في مدن متعددة ، وكان من أولئك الحكام أنبياء ، وكان هنالك أنبياء غير حكام ، وكان كل سِبط من بني إسرائيل يسيرون على ما يظهر لهم ، وكان من قضاتهم وأنبيائهم صمويل بن القانة ، من سبط أفرايم ، قاضياً لجميع بني إسرائيل ، وكان محبوباً عندهم ، فلما شاخ وكبر وقعت حروب بين بني إسرائيل والفلسطينيين وكانت سجالاً بينهم ، ثم كان الانتصار للفلسطينيين ، فأخذوا بعض قرى بني إسرائيل حتى إن تابوت العهد ، الذي سيأتي الكلام عليه ، أسره الفلسطينيون ، وذهبوا به إلى ( أَشدود ) بلادهم وبقي بأيديهم عدة أشهر ، فلما رأت بنو إسرائيل ما حل بهم من الهزيمة ، ظنوا أن سبب ذلك هو ضعف صمويل عن تدبير أمورهم ، وظنوا أن انتظام أمر الفلسطينيين ، لم يكن إلاّ بسبب النظام الملكي ، وكانوا يومئذٍ يتوقعون هجوم ناحاش : ملك العمونيين عليهم أيضاً ، فاجتمعت إسرائيل وأرسلوا عرفاءهم من كل مدينة ، وطلبوا من صمويل أن يقيم لهم ملكاً يقاتل بهم في سبيل الله ، فاستاء صمويل من ذلك ، وحذرهم عواقب حكم الملوك "إن الملك يأخذ بينكم لخدمته وخدمة خيله ويتخذ منكم من يركض أمام مراكبه ، ويسخر منكم حراثين لحرثه ، وعملة لعُدد حربه ، وأدوات مراكبه ، ويجعل بناتكم عطَّارات وطباخات وخبازات ، ويصطفي من حقولكم ، وكرومكم ، وزياتينكم ، أجودها فيعطيها لعبيده ، ويتخذكم عبيداً ، فإذا صرختم بعد ذلك في وجه ملككم لا يستجيب الله لكم ، فقالوا : لا بد لنا من ملك(7/370)
لنكون مثل سائر الأمم ، وقال لهم : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا {وما لنا ألا نقاتل} الخ.
وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر قبل المسيح.
وقوله : {وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا} يقتضي أن الفلسطينيين أخذوا بعض مدن بني إسرائيل ، وقد صُرح بذلك إجمالاً في الإصحاح السابع من سفر صمويل الأول ، وأنهم أسروا أبناءهم ، وأطلقوا كهولهم وشيوخهم ، وفي ذكر الإخراج من الديار والأبناء تلهيب للمهاجرين من المسلمين على مقاتلة المشركين الذين أخرجوهم من مكة ، وفرقوا بينهم وبين نسائهم ، وبينهم وبين أبنائهم ، كما قال تعالى : {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان} [ النساء : 75 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 487 ـ 488}(7/371)
قوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أرشد العطف على غير مذكور إلى أن التقدير : فقال لهم نبيّهم : ألم أقل لكم : لا تسألوا البلاء ولا تدانوا أمر القضاء فإن أكثر قول النفس كذب وجل أمانيها زور وأما أمر الله فمتى برز يجب ، عطف عليه قوله : {وقال لهم} أي خاصة لم يكن معهم أحد غيرهم يحال عليهم جوابهم الذي لا يليق وصرح بالمقصود لئلا يظن أن القائل الله وأنهم واجهوه بالاعتراض فقال : {نبيهم} أي الذي تقدم أنهم سألوه ذلك مؤكداً معظماً محققاً بأداة التوقع لأن سؤالهم على لسان نبي يقتضي توقع الإجابة {إن الله} أي بجلاله وعزّ كماله {قد} ولما كان إلباس الشخص عزّ الملك مثل إعزاز الجماد بنفخ الروح كان التعبير عن ذلك بالبعث أليق فقال : {بعث لكم} أي خاصة لأجل سؤالكم {طالوت} اسم ملك من بني إسرائيل من سبط لم يكن الملك فيهم {ملكاً} تنتهون في تدبير الحرب إلى أمره.
قال الحرالي : فكان أول ما ابتلوا به أن ملك عليهم من لم يكن من أهل بيت الملك عندهم فكان أول فتنتهم بما طلبوا ملكاً فأجيبوا فلم يرضوا بما بعث لهم - انتهى.
(7/372)
ولما أجابهم إلى ما سألوا كان من أول جلافتهم اعتراضهم على أمر الملك الديان الذي أورده لهم باسمه الأعظم الدال على جميع الكمال من الجلال والجمال ليكون أجدر لهم بقبول أمره والوقوف عند زجره وأورد اعتراضهم في جواب من كأنه قال : ما فعلوا إذ أجابهم إلى ما سألوا ؟ فقال : {قالوآ} أي هم لا غيرهم {أنى} أي من أين وكيف {يكون له} أي خاصة {الملك علينا ونحن} أي والحال أنا نحن {أحق بالملك منه} لأن فينا من هو من سبط الملوك دونه.
قال الحرالي : فثنوا اعتراضهم بما هو أشد وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم فكان فيه حظ من فخر إبليس حيث قال حين أمر بالسجود لآدم : {أنا خير منه} [ ص : 76 ] انتهى.
{ولم} أي والحال أنه لم {يؤت سعة من المال} أي فصار له مانعان : أحدهما أنه ليس من بيت المملكة ، والثاني أنه مملق والملك لا بد له من مال يعتضد به.
قال الحرالي : فكان في هذه الثالثة فتنة استصنام المال وأنه مما يقام به ملك وإنما الملك بايتاء الله فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك ، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 472 ـ 473}
قال الفخر :
(7/373)
اعلم أنه لما بين في الآية الأولى أنه أجابهم إلى ما سألوا ، ثم إنهم تولوا فبين أن أول ما تولوا إنكارهم إمرة طالوت ، وذلك لأنهم طلبوا من نبيهم أن يطلب من الله أن يعين لهم ملكاً فأجابهم بأن الله قد بعث لهم طالوت ملكاً ، قال صاحب "الكشاف" : طالوت اسم أعجمي ، كجالوت ، وداود وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته ، وزعموا أنه من الطول لما وصف به من البسطة في الجسم ، ووزنه إن كان من الطول فعلوت ، وأصله طولوت ، إلا أن امتناع صرفه يدفع أن يكون منه ، إلا أن يقال : هو اسم عبراني وافق عربياً كما وافق حطة حنطة ، وعلى هذا التقدير يكون أحد سببيه العجمة لكونه عبرانياً ، ثم إن الله تعالى لما عينه لأن يكون ملكاً لهم أظهروا التولي عن طاعته ، والإعراض عن حكمه ، وقالوا : {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} واستبعدوا جداً أن يكون هو ملكاً عليهم ، قال المفسرون : وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل ، وهو سبط لاوى بن يعقوب ، ومنه موسى وهرون ، وسبط المملكة ، سبط يهوذا ، ومنه داود وسليمان ، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين ، بل كان من ولد بنيامين فلهذا السبب أنكروا كونه ملكاً لهم ، وزعموا أنهم أحق بالملك منه ، ثم أنهم أكدوا هذه الشبهة بشبهة أخرى ، وهي قولهم : ولم يؤت سعة من المال ، وذلك إشارة إلى أنه فقير ، واختلفوا فقال وهب ، كان دبّاغاً ، وقال السدي : كان مكارياً ، وقال آخرون ، كان سقاء. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 146 ـ 147}
قال ابن عاشور :
أعاد الفعل في قوله : {وقال لهم نبيهم} للدلالة على أن كلامه هذا ليس من بقية كلامه الأول ، بل هو حديث آخر متأخر عنه وذلك أنه بعد أن حذرهم عواقب الحكومة الملكية وحذرهم التولي عن القتال ، تكلم معهم كلاماً آخَرَ في وقت آخر.
_________________
(1) مثل هذا الكلام يفتقر إلى السند ولا يترتب على ذكره كبير فائدة. والله أعلم.(7/374)
وتأكيدُ الخبر بإنَّ إيذان بأن من شأن هذا الخبر أن يُتلقى بالاستغراب والشك ، كما أنبأ عنه قولهم : {أنى يكون له الملك علينا}.
ووقع في سفر صمويل في الإصحاح التاسع أنه لما صمم بنو إسرائيل في سؤالهم أن يعين لهم مِلكاً ، صلى لله تعالى فأوحى الله إليه أنْ أجبْهم إلى كل ما طلبوه ، فأجابهم وقال لهم : اذهبوا إلى مدنكم ، ثم أوحى الله إليه صفة الملك الذي سيعينه لهم ، وأَنه لقيه رجل من بنيامين اسمه شَاول بن قيس ، فوجد فيه الصفة وهي أنه أطول القوم ، ومسَحَهُ صمويلُ ملكاً على إسرائيل ، إذْ صب على رأسه زيتاً ، وقبَّله وجمع بني إسرائيل بعد أيام في بلد المصفاة وأحضره وعينه لهم ملكاً ، وذلك سنة 1095 قبل المسيح.
وهذا الملك هو الذي سمي في الآية طالوت وهو شاول وطالوت لقبهُ ، وهو وزن اسم مصدر من الطول ، على وزن فعَلُوت مثل جَبَروت ومَلكوت ورَهَبوت ورغَبوت ورحموت ، ومنه طاغوت أصله طَغَيُوت فوقع فيه قلب مكاني ، وطالوت وصف به للمبالغة في طول قامته ، ولعله جعل لقباً له في القرآن للإِشارة إلى الصفة التي عرف بها لصمويل في الوحي الذي أوحى الله إليه كما تقدم ، ولمراعاة التنظير بينه وبين جالوت غريمه في الحرب ، أو كان ذلك لقباً له في قومه قبلَ أن يؤتى الملك ، وإنما يلقب بأمثال هذا اللقب من كان من العموم.
(7/375)
ووزن فَعَلوت وزن نادر في العربية ولعله من بقايا العربية القديمة السامية ، وهذا هو الذي يؤذن به منعه من الصرف ، فإن منعه من الصرف لا علة له إلاّ العلمية والعجمة ، وجزم الراغب بأنه اسم عجمي ولم يُذكر في كتب اللغة لذلك ولعله عومل معاملة الاسم العجمي لمَّا جُعل علماً على هذا العَجمي في العربية ، فعُجمته عارضة وليس هو عجمياً بالأصالة ، لأنه لم يعرف هذا الاسم في لغة العبرانيين كداوود وشاوول ، ويجوز أن يكون منعه من الصرف لمصيره بالإبدال إلى شبه وزن فاعُول ، ووزنُ فاعول في الأعلام عجمي ، مثل هاروت وماروت وشاوول وداوود ، ولذلك منعوا قابوس من الصرف ، ولم يعتدوا باشتقاقه من القبس ، وكأنَّ عدول القرآن عن ذكره باسمه شاول لثقل هذا اللفظ وخفة طالوت. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 489 ـ 490}
قال ابن الجوزى :
قوله تعالى : {وقال لهم نبيهم إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً} ذكر أهل التفسير أن نبي بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكاً ، فأتى بعصا وقرن فيه دهن ، وقيل له : إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا ، ومتى دخل عليك رجل ، فنشق الدهن ، فهو الملك ، فادهن به رأسه ، وملكه على بني إسرائيل ، فقاس القوم أنفسهم بالعصا ، فلم يكونوا على مقدارها.
قال عكرمة ، والسدي : كان طالوت سقاءً يسقي على حمار له ، فضلَّ حماره ، فخرج يطلبه ، وقال وهب : بل كان دباغاً يعمل الأدم ، فضلت حمرٌ لأبيه ، فأرسل مع غلام له في طلبها ، فمرا ببيت شمويل النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلا ليسألاه عن ضالتهما ، فنشق الدهن ، فقام شمويل فقاس طالوت بالعصا ، وكان على مقدارها ، فدهنه ، ثم قال له : أنت ملك بني إسرائيل ، فقال طالوت : أما علمت أن وسطي أدنى أسباط بني إسرائيل ، وبيتي أدنى بيوتهم ؟ قال : بلى ، قال فبأية آية ؟ قال بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره ، فكان كما قال. (1) أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 293}
______________
(1) يجب التثبت من أخبار وهب بن منبه وكعب الأحبار ، وهذا ما عليه العلماء المحققون.(7/376)
قال أبو حيان :
قول النبي لهم : إن الله قد بعث ، لا يكون إلاَّ بوحي ، لأنهم سألوه أن يبعث لهم ملكاً يقاتل في سبيل الله ، فأخبر ذلك النبي أن الله قد بعثه ، فيحتمل أن يكون ذلك بسؤال من النبيّ الله أن يبعثه ويحتمل أن يكون ذلك بغير سؤاله ، بل لما علم حاجتهم إليه بعثه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 265}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} أي كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه ؟ .
جَروا على سنّتهم في تَعْنِيتهم الأنبياء وحَيْدهم عن أمر الله تعالى فقالوا : "أَني" أيْ من أيّ جهة ، ف "أَنّي" في موضع نصب على الظرف ، ونحن من سِبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير ، فتركوا السبب الأقوى وهو قَدَر الله تعالى وقضاؤه السابق. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 246}
وقال أبو حيان :
{قالوا أنَّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال} هذا كلام من تعنتَ وحادَ عن أمر الله ، وهي عادة بني اسرائيل ، فكان ينبغي لهم إذ قال لهم النبي عن الله {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً} أن يسلموا لأمر الله ، ولا تنكره قلوبهم ، ولا يتعجبوا من ذلك ، ففي المقادير أسرار لا تدرك ، فقالوا : كيف يملك علينا من هو دوننا.
ليس من بيت الملك الذي هو سبط يهوذا.
ومنه داود وسليمان ؟ وليس من بيت النبوّة الذي هو سبط لاوي ومنه موسى وهارون ؟ قال ابن السائب : وكان سبط طالوت قد عملوا ذنباً عظيماً ، نكحوا النساء نهاراً على ظهر الطريق ، فغضب الله عليهم ، فنزع النبوّة والملك منهم ، وكانوا يسمون سبط الإثم.(7/377)
وفي قولهم : {أنى يكون له الملك علينا} إلى آخره ما يدل على أنه مركوز في الطباع أن لا يقدم المفضول على الفاضل ، واستحقار من كان غير موسع عليه ، فاستبعدوا أن يتملك عليهم من هم أحق بالملك منه ، وهو فقير والملك يحتاج إلى أصالة فيه ، إذ يكون أعظم في النفوس ، وإلى غنى يستعبد به الرجال ، ويعينه على مقاصد الملك ، لم يعتبروا السبب الأقوى ، وهو : قضاء الله وقدره : {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} واعتبروا السبب الأضعف ، وهو : النسب والغنى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} "لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلاَّ بالتقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} " وقال الله تعالى {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} قال الشاعر :
وأعجب شيء إلى عاقل . . .
فتوّ عن المجد مستأخره
إذا سئلوا ما لهم من علا ؟ . . .
أشاروا إلى أعظم ناخره. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 266}
وقال ابن عاشور :
وأَنَّى في قوله : {أنى يكون له الملك علينا} بمعنى كيف ، وهو استفهام مستعمل في التعجب ، تعجبوا من جعل مِثله ملكاً ، وكان رجلاً فلاحاً من بيت حقير ، إلاّ أنه كان شجاعاً ، وكان أطول القوم ، ولما اختاره صمويل لذلك ، فتح الله عليه بالحكمة ، وتنبأ نبوءات كثيرة ، ورضيت به بعض إسرائيل ، وأباه بعضهم ، ففي سفر صمويل أن الذين لم يرضَوا به هم بنو بليعال (1) والقرآن ذكر أن بني إسرائيل قالوا : أنى يكون له الملك علينا وهو الحق ؛ لأنهم لا بد أن يكونوا قد ظنوا أن مَلكهم سيكون من كبرائهم وقوادهم.
_____________
(1) ما ذكر فى التوراة لا ينبغى التعويل عليه لعدم سلامتها من الأيادى الآثمة التى حرفتها. والله أعلم.(7/378)
والسر في اختيار نبيئهم لهم هذا الملك أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان ، فجعل مَلِكهم من عامتهم لا من سادتهم ، لتكون قدمه في الملك غير راسخة ، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته ، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتَهم لأمثالهم ، وما يزالون يتوقعون الخلع ، ولهذا كانت الخلافة سُنَّةَ الإسلام ، وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام ، إذ عهد معاوية ابن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة بعده ، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذٍ إلاّ ذلك ؛ لأن شيعة بني أمية راغبون فيه ، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ ، وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم ، وقواد بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم ، وإنما نظروا إلى قلة جدته ، فتوهموا ذلك مانعاً من تمليكه عليهم ، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية ، وأن الغنى غنى النفس لا وفرة المال وماذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح ، وقد قال الراجز :
قدني من نصر الخُبَيْبين قَدِي
ليسَ الإمامُ بالشحيح المُلحد...
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 490}
فإن قيل : ما الفرق بين الواوين في قوله : {وَنَحْنُ أَحَقُّ} وفي قوله : {وَلَمْ يُؤْتَ}.
قلنا : الأولى للحال ، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً ، والمعنى : كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك ، وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 147}
قوله تعالى : {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
المناسبة
قال البقاعى :
(7/379)
ولما كان الخلق كلهم متساوين في أصل الجسمية وإنما جاء تفضيل بعضهم على بعض من الله فكان هو المدار علق الأمر به في قوله : {قال} أي النبي لا غيره مؤكداً لأجل إنكارهم معظماً عليهم الحق بإعادة الاسم الأعظم {إن الله} أي الذي له جميع الأمر فلا اعتراض عليه وهو أعلم بالمصالح {اصطفاه} قال الحرالي : والاصطفاء أخذ الصفوة - انتهى.
ولما كان ذلك مضمناً معنى ملكه قال في تعديته {عليكم} ثم أتبع ذلك ما أودعه سبحانه مما اقتضى ذلك فقال : {وزاده} أي عليكم {بسطة في العلم} الذي به تحصل المكنة في التدبير والنفاذ في كل أمر ، وهو يدل على اشتراط العلم في الملك ، وفي تقديمه أن الفضائل النفسانية أشرف من الجسمانية وغيرها ، وأن الملك ليس بالإرث {والجسم} الذي به يتمكن من الظفر بمن بارزه من الشجعان وقصده من سائر الأقران.
ولما كان من إليه شيء كان له الخيار في إسناده إلى غيره قال : والله} أي اصطفاه والحال أن الملك الذي لا أمر لغيره {يؤتي ملكه} أي الذي هو له وليس لغيره فيه شيء {من يشاء} كما آتاكموه بعد أن كنتم مستعبدين عند آل فرعون {والله} الذي له الإحاطة الكاملة فلا يجوز الاعتراض عليه {واسع} أي في إحاطة قدرته وشمول عظمته وكثرة جنوده ورزقه {عليم} أي بالغ العلم ، فما اختاره فهو المختار وليس لأحد معه خيرة فهو يفعل بما له من السعة في القدرة والعلم ما قد لا تدركه العقول ولا تحتمل وصفه الألباب والفهوم ويؤتي من ليس له مال من خزائن رزقه ما يشاء. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 473}
قال أبو السعود :
(7/380)
{قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} لمّا استبعدوا تملُّكَه بسقوط نسَبِه وبفقره ردَّ عليهم ذلك أولاً بأن مَلاكَ الأمرِ هو اصطفاءُ الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ، وثانياً بأن العُمدة فيه وُفورُ العلم ليتمكَّنَ به من معرفة أمورِ السياسةِ ، وجسامةُ البدن ليعظُم خطرُه في القلوب ويقدِرَ على مقاومة الأعداءِ ومكابدةِ الحروب وقد خصه الله تعالى منهما بحظَ وافرٍ. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 240}
قوله تعالى : {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ}
قال الفخر :
إنه تعالى أجاب عن شبههم بوجوه الأول : قوله : {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : معنى الآية أنه تعالى خصه بالملك والإمرة.
واعلم أن القوم لما كانوا مقرين بنبوة ذلك النبي ، كان إخباره عن الله تعالى أنه جعل طالوت ملكاً عليهم حجة قاطعة في ثبوت الملك له لأن تجويز الكذب على الأنبياء عليهم السلام يقتضي رفع الوثوق بقولهم وذلك يقدح في ثبوت نبوتهم ورسالتهم ، وإذا ثبت صدق المخبر ثبت أن الله تعالى خصه بالملك ، وإذا ثبت ذلك كان ملكاً واجب الطاعة وكانت الاعتراضات ساقطة.
المسألة الثانية : قوله : {اصطفاه} أي أخذ الملك من غيره صافياً له ، واصطفاه ، واستصفاه بمعنى الاستخلاص ، وهو أن يأخذ الشيء خالصاً لنفسه ، وقال الزجاج : إنه مأخوذ من الصفوة ، والأصل فيه اصتفى بالتاء فأبدلت التاء طاء ليسهل النطق بها بعد الصاد ، وكيفما كان الاشتقاق فالمراد ما ذكرناه أنه تعالى خصه بالملك والإمرة ، وعلى هذا الوجه وصف تعالى نفسه بأنه اصطفى الرسل ووصفهم بأنهم : المصطفون الأخيار ووصف الرسول بأنه المصطفى.(7/381)
المسألة الثالثة : هذه الآية تدل على بطلان قول من يقول : إن الإمامة موروثة ، وذلك لأن بني إسرائيل أنكروا أن يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة ، فأعلمهم الله تعالى أن هذا ساقط ، والمستحق لذلك من خصه الله تعالى بذلك وهو نظير قوله : {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء} [ آل عمران : 26 ].
الوجه الثاني : في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى : {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} وتقرير هذا الجواب أنهم طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين أحدهما : أنه ليس من أهل بيت الملك الثاني : أنه فقير ، والله تعالى بين أنه أهل للملك وقرر ذلك بأنه حصل له وصفان أحدهما : العلم والثاني : القدرة ، وهذان الوصفان أشد مناسبة لاستحقاقه الملك من الوصفين الأولين وبيانه من وجوه أحدها : أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية ، والمال والجاه ليسا كذلك والثاني : أن العلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لجوهر نفس الإنسان والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان الثالث : أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان ، والمال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان والرابع : أن العلم بأمر الحروب ، والقوي الشديد على المحاربة يكون الانتفاع به في حفظ مصلحة البلد ، وفي دفع شر الأعداء أتم من الانتفاع بالرجل النسيب الغني إذا لم يكن له علم بضبط المصالح ، وقدرة على دفع الأعداء ، فثبت بما ذكرنا أن إسناد الملك إلى العالم القادر ، أولى من إسناده إلى النسيب الغني. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 147 ـ 148}
قال الماوردى :
{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} يعني زيادة في العلم وعظماً في الجسم. واختلفوا هل كان ذلك فيه قبل الملك ؟ فقال وهب بن منبه ، والسدي : كان له ذلك قبل الملك ، وقال ابن زيد : زيادة ذلك بعد الملك. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 315}
فائدة
قال الفخر : (7/382)
قال بعضهم : المراد بالبسطة في الجسم طول القامة ، وكان يفوق الناس برأسه ومنكبه ، وإنما سمي طالوت لطوله ، وقيل المراد من البسطة في الجسم الجمال ، وكان أجمل بني إسرائيل وقيل : المراد القوة ، وهذا القول عندي أصح لأن المنتفع به في دفع الأعداء هو القوة والشدة ، لا الطول والجمال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 148}
وقال القرطبى :
قال ابن عباس : كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجملَه وأتَمّه ؛ وزيادة الجسم مما يَهيب العدوّ.
وقيل : سُمي طالوت لطوله.
وقيل : زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة ، ولم يرد عِظم الجسم ؛ ألم تر إلى قول الشاعر : ترى الرّجُلَ النّحِيف فتَزْدَرِيهِ . . .
وفي أثْوابه أسَدٌ هَصُورُ
ويُعجبك الطّرِير فتَبْتَلِيه . . .
فيُخْلِف ظنّك الرجلُ الطّرِيرُ
وقد عَظُم البعير بغير لُبٍّ . . .
فلم يَسْتَغْنِ بالعِظَم البعيرُ
قلت : ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه : " أسرعكنّ لحاقا بي أطولكنّ يداً " فكنّ يتطاولن ؛ فكانت زينب أوّلهن موتاً ؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدّق ؛ خرّجه مسلم.
وقال بعض المتأوّلين : المراد بالعلم عِلم الحرب ، وهذا تخصيص العموم من غير دليل.
وقد قيل : زيادة العلم بأن أوحى الله إليه ، وعلى هذا كان طالوت نبياً ، وسيأتي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 246 ـ 247}
فائدة
قال الفخر :
إنه تعالى قدم البسطة في العلم ، على البسطة في الجسم ، وهذا منه تعالى تنبيه على أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف وأكمل من الفضائل الجسمانية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 148}
وقال ابن عاشور :
قدم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم ، قال أبو الطيب :
الرأي قبلَ شجاعةِ الشجعان
هو أَوَّلٌ وهي المحل الثاني...
فالعلم المراد هنا ، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة ، وقيل : هو علم النبوءة ، ولا يصح ذلك لأن طالوت لم يكن معدوداً من أنبيائهم.(7/383)
ولم يجبهم نبيئهم عن قوله : {ولم يؤت سعة من المال} اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله : {وزاده بسطة في العلم والجسم} فإنه ببسطة العلم وبالنصر يتوافر له المال ؛ لأن "المال تجلبه الرعية" كما قال أرسططاليس ، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة ، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة ، وقد ولي على الأمة أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار ، وغنى الأمة في بيت مالها ومنه تقوم مصالحها ، وأرزاق ولاة أمورها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 491}
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله : {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} وهذا يدل على أن العلوم الحاصلة للخلق ، إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده ، وقالت المعتزلة هذه الإضافة إنما كانت لأنه تعالى هو الذي يعطي العقل ونصب الدلائل ، وأجاب الأصحاب بأن الأصل في الإضافة المباشرة دون التسبب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 148}
فائدة
قوله تعالى : {والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء}
قال الفخر :
الوجه الثالث : في الجواب عن الشبهة قوله تعالى : {والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء} وتقريره أن الملك لله والعبيد لله فهو سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله ، لأن المالك إذا تصرف في ملكه فلا اعتراض لأحد عليه في فعله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 148}
قال أبو حيان :
{والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم} ظاهره أنه من معمول قول النبي لهم ، لما علم بغيتهم في مسائلهم ومجادلتهم في الحجج التي تبديها ، أتم كلامه بالأمر القطعي ، وهو إن الله هو الفاعل المختار ، يفعل ما يشاء.
(7/384)
ولما قالوا : {ونحن أحق بالملك منه} فكان في قولهم ادّعاء الأحقية في الملك ، حتى كأن الملك هو في ملكهم ، أضاف الملك إلى الله في قوله : ملكاً ، فالملك ملكه يتصرف فيه كما أراد ، فلستم بأحق فيه ، لأنه ملك الله يؤتيه من يشاء ، وقيل : هاتان الجملتان ليستا داخلتين في قول النبي ، بل هي إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فهي معترضة في هذه القصة ، جاءت للتشديد والتقوية لمن يؤتيه الله الملك ، أي : فإذا كان الله تعالى هو المتصرف في ملكه فلا اعتراض عليه {لا يسأل عما يفعل} وختم بهاتين الصفتين ، إذ تقدّم دعواهم أنهم أهل الملك ، وأنهم الأغنياء ، وأن طالوت ليس من بيت الملك ، وأنه فقير فقال تعالى : إنه واسع ، يوسع فضله على الفقير ، عليم بمن هو أحق بالملك ، فيضعه فيه ويختاره له. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 267}
قال الفخر :
الوجه الرابع : في الجواب قوله تعالى : {والله واسع عَلِيمٌ} وفيه ثلاثة أقوال
أحدها : أنه تعالى واسع الفضل والرزق والرحمة ، وسعت رحمته كل شيء ، والتقدير : أنتم طعنتم في طالوت بكونه فقيراً ، والله تعالى واسع الفضل والرحمة ، فإذا فوض الملك إليه ، فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال ، فالله تعالى يفتح عليه باب الرزق والسعة في المال.
والقول الثاني : أنه واسع ، بمعنى موسع ، أي يوسع على من يشاء من نعمه ، وتعلقه بما قبله على ما ذكرناه والثالث : أنه واسع بمعنى ذو سعة ، ويجيء فاعل ومعناه ذو كذا ، كقوله : {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [ الحاقة : 21 ] أي ذات رضا ، وهم ناصب ذو نصب ، ثم بين بقوله : {عَلِيمٌ} أنه تعالى مع قدرته على إغناء الفقير عالم بمقادير ما يحتاج إليه في تدبير الملك ، وعالم بحال ذلك الملك في الحاضر والمستقبل ، فيختار لعلمه بجميع العواقب ما هو مصلحته في قيامه بأمر الملك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 148}
قال ابن عاشور :(7/385)
وقوله : والله يؤتي ملكه من يشاء} يحتمل أن يكون من كلام النبي ، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله ، بعد أن بين لهم شيئاً من حكمة الله في ذلك.
ويحتمل أن يكون تذييلاً للقصة من كلام الله تعالى ، وكذلك قوله : {والله واسع عليم}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 491}
قال الماوردى :
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وفي واسع ثلاثة أقاويل :
أحدها : واسع الفضل ، فحذف ذكر الفضل اكتفاء بدليل اللفظ ، كما يقال فلان كبير ، بمعنى كبير القَدْر.
الثاني : أنه بمعنى مُوسِع النعمة على مَنْ يشاء من خلقه.
والثالث : أنه بمعنى ذو سعة. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 315}
لطيفة
قال الآلوسى :
وفي اختيار واسع وعليم في الأخبار عنه تعالى هنا حسن المناسبة لبسطة الجسم وكثرة العلم ما تهتش له الخواطر لا سيما على ما يتبادر من بسطة الجسم ، وقدم الوصف الأول مع أن ما يناسبه ظاهراً مؤخر لأن له مناسبة معنى لأول الأخبار إذ الاصطفاء من سعة الفضل أيضاً ، ولأنّ عليم أوفق بالفواصل وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 167}
فائدة
قال أبو حيان فى معنى الآية :
أخبر تعالى عن نبيهم أنه قال لهم عن الله إنه قد بعث طالوت ملكاً عليهم ، ولم يكن عندهم من أنفسهم ولا أشرفهم منصباً ، إذ ليس من سبط النبوّة ، ولا من سبط الملك ، فلم يأخذوا ما أخبرهم عن الله بالقبول ، وشرعوا يتعنتون على عادتهم مع أنبيائهم ، فاستبعدوا تمليكه عليهم ، لأن فيهم من هو أحق بالملك منه على زعمهم ، إذ لم يسبق له أن يكون من آبائه ملك فيعظم عند العامّة ، ولأنه فقير ، وهاتان الخلتان هما يضعفان الملك ، إذ سابق الرئاسة والجاه والملاءة بالأموال مما يستتبع الرجال ، ويستعبد الأحرار ، وما علموا أن عناية المقادير تجعل المفضول فاضلاً.
فأخبرهم نبيهم ، أن الله تعالى قد اختاره عليكم ، وشرّفه بخصلتين : هما في ذاته : إحداهما : الخلق العظيم ، والأخرى : المعرفة التي هي الفضل الجسيم ، واستغنى بهذين الوصفين الذاتيين عن الوصفين الخارجين عن الذات ، وهما الفخر : بالعظم الرميم ، والاستكثار بالمال الذي مرتعه وخيم.
ثم أخبر أن الله تعالى يعطي ملكه من أراد ، وأنه الواسع الفضل ، العالم بمصالح العباد ، فلا اعتراض عليه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 268}(7/386)
( بصيرة فى وسع )
وَسِعَهُ الشىءُ بالكسر يَسَعُه سَعَةً وسِعَة كدَعَة وزِنَةٍ. وقرأَ زَيْدُ بن علىّ : {وَلَمْ يُؤْتَ سِعَةً} بالكسر.
والواسِعُ من صِفات الله تعالى الَّذى وَسِع رِزْقُه جميع خَلْقِه ، ووَسِعَت رحمتُه كلَّ شىءِ. وقال ابن الأَنبارىّ : هو الكثيرُ العطاءِ ، والَّذى يَسَعُ لما يُسْأَل. ويقال : معناه : المُحيط بكلّ شىءٍ من قوله تعالى : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}. ويقال : إِنَّه لَيَسْعُنَى/ ما وَسِعَكَ. ويُقال : ما أَسَعُ ذلك ، أَى ما أُطِيقُه. وفى النَّوادر : الَّلهُمَّ سَعْ عَلَيْه ، أَى وَسّع عليه. ويقال : لِيَسَعْكَ بَيْتُك ، معناه : القَرارُ فيه.
وهذا الوعاءُ يَسَعه عِشْرون كَيْلاً على مِثال : أَنا أَسَعُ هذا الأَمرَ.
وهذا الأَمرُ يَسَعُنْى. قال أَبو زُبَيْد حَرْمَلَة بن المُنْذِرالطَّائىّ :
*حَمّالُ أَثْقالِ أَهْلِ الوُدِّ آونَةً * أُعْطِيهُمُ الجَهْدَ منِّى بَلْهَ ما أَسَعُ*
ويقال أَيضاً : هذا يَسَعُ عِشْرِين كَيْلاً ، معناه : يَسَعُ لِعشرين ، أَى يتَّسِع لذلك. ومِثْلُه : هذا الخُفُّ يَسَعُ رِجْلِى ، أَى يتَّسع لَها وعليها. وتقول : هذا يَسَعُه عشرون كَيْلاً ، أَى يَسَعُ فيه عِشْرِين كَيْلاً ، ويقال : وَسِعَتْ رحمةُ اللهِ كلّ شىءٍ ولكلّ شىءٍ وعلى كلِّ شىءٍ. وفى حديث النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم : "إِنكم لن تَسَعُوا النَّاسَ بأَمْوالِكم فَلْيَسَعْهم منكم بَسْطُ وَجْه وحُسْنُ خُلُق".
والوُسْعُ والوَسْعُ بالحركات الثلاث : السَّعَةُ والجدَةُ والطَّاقَةُ. وقرأَ ابن أَبِى عَيْلة : {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وَسْعَها} بالفتح ، وقرأ عِكْرِمَةُ : (وسِْعَها) بالكسر. والهاءُ فى السَّعَةِ عِوَضٌ عن الواو. وشىْءٌ وَسِيعٌ ، أَى واسِعٌ.
(7/387)
ويَسَع : اسمٌ من أَسماءِ العَجَم ، وقد أُدْخِل عليه الأَلفُ واللاَّم ، وهما لا يَدْخلان على نظائره ، نحو يَعْمُرَ ويَزيدَ ويَشْكُرَ. وقرأَ حَمزة والكسائىّ وخَلَف.
واللَّيْسَع بِلامَيْن ، وقرأَ الباقون والْيَسَع بلامٍ واحدة.
وأَوسع الرّجلُ صارَ ذا سَعَة وغِنىً ، قال الله تعالى : {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أَى أَغنياءُ قادِرون. وأَوْسَعَ الله عليك ، أَى أَغْناك. وأَوْسعْتُ المكانَ : وجدتُه واسِعاً ، يقال : "أَوْسَعْتَ فابْنِ" والتَّوّسِيعُ : خلاف التَّضْيْيق وتَوَسَّعُوا فى المَجْلس أَى تَفَسَّحوا. واسْتَوْسَعَ : اتَّسع. وقولُ النابغة :
*تَسَعُ البلادُ إِذا أَتَيْتُكُ زائراً * وإِذا هَجَرْتُك ضاقَ عَنِّى مَقْعَدِى*
أَى تتَوَسَّع لى البِلادُ.
واعلم أَنَّ السَّعَة تكونُ فى الأَمكِنَة وفى الحال ، وفى الفعل ، كالقُدْرة والجُودِ ونحو ذلك ، ففى المكان نحو قوله تعالى : {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} ، وفى الحال : نحو {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ}
قال أَبو القاسم : الوُسْعُ من القُدْرَة : ما يَفْضُل عن قَدْرِ المكلَّف ، قال تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} تنبيهاً أَنَّه يكلِّف عبدَه دون ما تَنُوءُ به قُدْرَته. وقيل : معناه : يُكلِّفه ما يُثْمِرُ له السَّعَة ، أَى جَنَّة عرضُها السماوات والأَرض.
وقوله تعالى : {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} وقوله : {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} عبارة عن سَعَةِ عِلْمه وقُدْرته وأَفضْاله ورَحْمَته ، كقوله تعالى : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 6 صـ 51 ـ 52}(7/388)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
نسوا حق الاختيار فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فاستبعدوا أن يكون طالوت ملكاً لأنه كان فقيراً لا مال له ، فبيَّن لهم أن الفضيلة باختيار الحق ، وأنه وإن عَدِمَ المالَ فقد زاده الله علماً فَفَضَلَكم بعلمه وجسمه ، وقيل أراد أنه محمود خصال النفس ولم يُرِدْ عظيم البِنْيَة فإن في المثل : " فلان اسم بلا جسم " أي ذكر بلا معنى. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 192}
لطائف وفوائد ومواعظ
قال فى روح البيان :
إنما حرم بنوا إسرائيل من الملك لأنهم كانوا معجبين بأنفسهم متكبرين على طالوت ناظرين إليه بنظر الحقارة
من عجبهم قالوا : {ونحن أحق بالملك منه}
ومن تكبرهم عليه قالوا : {أنى يكون له الملك علينا}
ومن تحقيرهم إياه قالوا : {ولم يؤت سعة من المال}
فلما تكبروا وضعهم الله وحرموا من الملك.
ومن بلاغات الزمخشرى
كم يحدث بين الخبيثين ابن لا يعابن والفرث والدم يخرج من بينهما اللبن يعنى حدوثا كثيرا يحدث بين الزوجين الخبيثين ابن طيب لا يعاب بين الناس ولا يذكر بقبيح وهذا غير مستبعد لأن اللبن يخرج من بين السرجين والدم وهما مع كونهما مستقذرين لا يؤثران فى اللبن بشىء من طعمهما ولونهما بل يحدث اللبن من بينهما لطيفا نظيفا سائغا للشاربين.
قالوا يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله.(7/389)
قيل : إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر فى كرشها وهو من الحيوان بمنزلة المعدة من الإنسان طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه مادة اللبن وأعلاه مادة الدم والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجرى الدم فى العروق واللبن فى الضروع وتبقى الفرث فى الكرش فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تأمل
والإنسان له استعداد الصلاح والفساد فتارة يظهر فى الأولاد الصلاح المبطون فى الآباء وتارة يكون الأمر بالعكس وأمر الإيجاد يدور على الإظهار والإبطان فانظر إلى آدم وابنيه قابيل وهابيل ثم وثم إلى انتهاء الزمان. والحاصل أن طالوت ولو كان أخس الناس عند بنى إسرائيل لكنه عظيم شريف عند الله لما أن النظر الآلهى إذا تعلق بحجر يجعله جوهرا وبشوك يجعله وردا وريحانا فلا معترض لحكمه ولا راد لقضائه.
فالوضيع من وضعه الله وإن كان قد رفعه الناس والرفيع من رفعه الله وإن كان قد وضعه الناس.
والعاقل إذا تأمل أمثال هذا يجد من نفسه الإنصاف والسكوت وتفويض الأمر إلى الحى الذى لا يموت والله يقول الحق وهو يهدى السبيل. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 473 ـ 474}باختصار يسير.
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ...}.
إن قلت : لِمَ أضافه هنا إليهم ولم يضفه في {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ} قلنا : إنّما أضافه هنا لأنه في مقام التبليغ لهم بخلاف الأول فإنه حكاية عن ( مقالتهم ) التي لم يوفّوا بها وعصوا وقدم المجرور لأنهم المقصودون بالذكر.
ابن عطية : عن وهب بن منبه لما سأل شمويل من الله عز وجل أن يبعث لهم ملكا ونزله عليهم قال الله تعالى : " انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فسرا الدهن الذي فيه فهو ملك لبني إسرائيل.
قال ابن عرفة سرا أي ارتفع. وهذا الخبر إن صح وإلاّ فما يكون ( مفسره ) ( في قوله {بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} ) إلا مجرد ( الوحي ).(7/390)
فإن قلت : ( قد ) حرف ( توقع ) حسبما ذكره الزمخشري في قول الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} وبنو اسرائيل لم يكونوا قط ( متوقعين تأمّر طالوت عليهم ؟
فالجواب : أنّهم كانوا ) متوقعين البعثة بالإطلاق لا من حيث تعلقها بشخص معين.
قال الزمخشري : طالوت إن كان من الطول فوزنه فعلوت إلا أن امتناع صرفه يمنع أن يكون منه إلا أن يقال : هو اسم عبراني وافق عربيا ، كما وافق : حنط حنطة ، وبسمالاها رحمانا رحيما ، بِسْم الله الرّحْمَانِ الرّحِيمِ.
قال ابن عرفة : واستدلّوا على مرجوحية ملكه بالأصل ، لأنه ليس في آبائه ملك ولا نبي أحق منه بالعادة لأن الأمير باعتبار العادة لا بد أن يكون غنيا عن غيره ولا يكون فقيرا أصلا. وغالطوا في احتجاجهم فأتوا بدليل ظاهره صواب يمكن قبوله فقالوا : {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال}. وعدلوا عن أن يقولوا : ولم يؤت شيئا من المال ، لئلا يرمى دليلهم في وجوههم فيقال لهم : قد أوتي بعض المال وإنْ قل مع أن طالوت لم يكن لديه مال البتة. فأجيبوا عن الدليل الأول بقول الله تعالى : {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} فلا مزية لكم عليه بآبائكم ، وعن الثاني بإن الزيادة في العلم والجسم أرجح / من الزيادة في المال ، فإنّ المال سريع الذّهاب والعلم إذا حصل ثابت لا يزول وكذلك الجسم الطويل لا يعود قصيرا بوجه.
الزمخشري : والواو في {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ} واو الحال وفي {وَلَمْ يُؤْتَ} واو العطف.
قال ابن عرفة : الأولى أن يكونا معا للحال وهو أبلغ في التعليل لأنّ كل واحد منهما علة مستقلة ، أي أنّى يكون له الملك والحالة أنّا أحق به منه ، وأنّى يكون له الملك علينا والحالة أنّه فقير لا مال له ، فلم يعللوا بمجموع الأمرين بل بكل واحد منهما.
قال ابن عرفة : وهما حالان من الفاعل والمفعول. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 320}(7/391)
قوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان أغلبهم واقفاً مع المشاهدات غير ثابت القدم في الإيمان بالغيب قال : {وقال لهم نبيهم} مثبتاً لأمر طالوت {إن آية} أي علامة {ملكه} قال الحرالي : وقل ما احتاج أحد في إيمانه إلى آية خارقة إلا كان إيمانه إن آمن غلبة يخرج عنه بأيسر فتنة ، ومن كان إيمانه باستبصار ثبت عليه ولم يحتج إلى آية ، فإن كانت الآية كانت له نعمة ولم تكن عليه فتنة {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاّ أن كذب بها الأولون - وما نرسل بالآيات إلاّ تخويفاً} [ الإسراء : 59 ] فإن الآيات طليعة المؤاخذة والاقتناع بالاعتبار طليعة القبول والثبات - انتهى.
{أن يأتيكم} أي من غير آت به ترونه {التابوت} قال الحرالي : ويعز قدره - انتهى.
وهو والله سبحانه وتعالى أعلم الصندوق الذي وضع فيه اللوحان اللذان كتب فيهما العشر الآيات التي نسبتها من التوراة نسبة فاتحة الكتاب من القرآن وهو يسمى تابوت الشهادة كما تقدم ذكره في وصف قبة الزمان فيما مضى أول قصة بني إسرائيل وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم موظفون لحمله ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم وكان العمالقة أصحاب جالوت لما ظهروا عليهم أخذوه في جملة ما أخذوا من نفائسهم وكأن عهدهم به كأن قد طال فذكّرهم بماثره ترغيباً فيه وحملاً على الانقياد لطالوت فقال : {فيه سكينة} أي شيء يوجب السكون والثبات في مواطن الخوف.
(7/392)
وقال الحرالي : معناه ثبات في القلوب يكون له في عالم الملكوت صورة بحسب حال المثبت ، ويقال : كانت سكينة بني إسرائيل صورة هرّ من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد ملفق منه أعضاء تلك الصورة تخرج منه ريح هفّافة تكون علم النصر لهم - انتهى.
وزاده مدحاً بقوله : {من ربّكم} أي الذي طال إحسانه إليكم وتربيته باللطف لكم.
وقال الحرالي وغيره : إنه كان في التابوت صورة يأتي منها عند النصر ريح تسمع.
قال الحرالي : كما كانت الصبا تهب لهذه الأمة بالنصر ، قال صلى الله عليه وسلم : " نصرت بالصبا " فكانت سكينتها كلية آفاقها وتابوتها كلية سمائها حتى لا تحتاج إلى محمل يحملها ولا عدة تعدها لأنها أمة أمية تولى الله لها إقامة علمها وأعمالها - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 474 ـ 475}
قال الفخر :
اعلم أن ظاهر الآية المتقدمة يدل على أن أولئك الأقوام كانوا مقرين بنبوة النبي الذي كان فيهم لأن قوله تعالى حكاية عنهم {إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكًا} كالظاهر في أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي ، ومقرين بأنه مبعوث من عند الله تعالى ، ثم إن ذلك النبي لما قال : {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} كان هذا دليلاً قاطعاً في كون طالوت ملكاً ، ثم إنه تعالى لكمال رحمته بالخلق ، ضم إلى ذلك الدليل دليلاً آخر يدل على كون ذلك النبي صادقاً في ذلك الكلام ، ويدل أيضاً على أن طالوت نصبه الله تعالى للملك وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز ، ولذلك أنه كثرت معجزات موسى عليه السلام ، ومحمد عليه الصلاة والسلام ، فلهذا قال تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 149}
قال القرطبى :
(7/393)
قوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} أي إتيانُ التابوت ، والتابوت كان من شأنه فيما ذكر أنه أنزله الله على آدم عليه السلام ، فكان عنده إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام ، فكان في بني إسرائيل يَغلبون به من قاتلهم حتى عَصَوْا فَغُلبوا على التابوت غلبهم عليه العمالقة : جالوت وأصحابه في قول السدي ، وسلبوا التابوت منهم.
قلت : وهذا أدل دليل على أن العصيان سبب الخذلان ، وهذا بَيِّن.
قال النحاس : والآية في التابوت على ما رُوي أنه كان يسمع فيه أنِينٌ ، فإذا سمعوا ذلك ساروا لحربهم ، وإذا هَدأَ الأنين لم يسيروا ولم يسِر التابوت.
وقيل : كانوا يضعونه في مأزق الحرب فلا تزال تَغلِب حتى عصوا فغُلبوا وأُخِذ منهم التابوت وذلّ أمرهم ؛ فلما رأُوا آية الاصْطِلام وذهاب الذكر ، أنِف بعضهم وتكلموا في أمرهم حتى اجتمع ملؤهم أن قالوا لنبيّ الوقت : ابعث لنا ملكاً ؛ فلما قال لهم : ملككم طالوت راجعوه فيه كما أخبر الله عنهم ؛ فلما قطعهم بالحجة سألوه البيِّنة على ذلك ، في قول الطبريّ.
فلما سألوا نبيهم البينة على ما قال ، دعا ربه فنزل بالقوم الذين أخذوا التابوت داءٌ بسببه ، على خلاف في ذلك.
قيل : وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام فكانت الأصنام تصبح منكوسة.
وقيل : وضعوه في بيت أصنامهم تحت الصنم الكبير فأصبحوا وهو فوق الصنم ، فأخذوه وشدّوه إلى رجليه فأصبحوا وقد قُطعت يدا الصنم ورجلاه وألقيت تحت التابوت ؛ فأخذوه وجعلوه في قرية قوم فأصاب أُولئك القوم أوجاع في أعناقهم.
(7/394)
وقيل : جعلوه في مَخْرأة قوم فكانوا يُصيبهم الباسُور ؛ فلما عظم بلاؤهم كيفما كان ، قالوا : ما هذا إلا لهذا التابوت! فلنردّه إلى بني إسرائيل فوضعوه على عجلة بين ثورين وأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل ، وبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بني إسرائيل ، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر ؛ وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 247 ـ 248}(7/395)
وقال الطبرى :
وهذا الخبر من الله تعالى ذكره عن نبيه الذي أخبر عنه به ، دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم هذا القول ، لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا إذ أخبرهم نبيهم بذلك ، وعرفهم فضيلته التي فضله الله بها ، ولكنهم سألوه الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به. فتأويل الكلام ، إذ كان الأمر على ما وصفنا : "والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم" ، فقالوا له : ما آية ذلكإن كنت من الصادقين ؟ "قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت" . وهذه القصة وإن كانت خبرا من الله تعالى ذكره عن الملإ من بني إسرائيل ونبيهم ، وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدءوا به من مسألته أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله ، ونبأً عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوته ، ثم إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله ، من الجهاد في سبيل الله ، بالتخلف عنه حين استنهضوا لحرب من استنهضوا لحربه ، وفتح الله على القليل من الفئة ، مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير ، وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه مع علمهم بصدقه ، ومعرفتهم بحقيقة نبوته ، بعد ما كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته ، وقبل بعثة الله إياه إليهم وإلى غيرهم أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبيهم شمويل بن بالي ، مع علمهم بصدقه ، ومعرفتهم بحقية نبوته ، وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله ملكا عليهم ، بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوهم ويجاهدون معه في سبيل ربهم ، ابتداء منهم بذلك نبيهم ، وبعد مراجعة نبيهم شمويل إياهم في ذلك وحض لأهل الإيمان بالله وبرسوله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيله ، وتحذير منه لهم أن يكونوا في(7/396)
التخلف عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عند لقائه العدو ، ومناهضته أهل الكفر بالله وبه ، على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن ملكهم طالوت إذ زحف لحرب عدو الله جالوت ، وإيثارهم الدعة والخفض على مباشرة حر الجهاد والقتال في سبيل الله وشحذ منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب ، وترك تهيب قتالهم أن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم بقوله : ( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [سورة البقرة : 249] ، وإعلام منه تعالى ذكره عباده المؤمنين به أن بيده النصر والظفر والخير والشر. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 215 ـ 216}(7/397)
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
وفي » التَّابوتِ « ، قولان :
أحدهما : أنه فاعولٌ ، ولا يعرف له اشتقاقٌ ، ومنع قائل هذا أن يكون وزنه فعلوتاً مشتقاً من تاب يتوب كملكوت من الملك ورهبوت من الرُّهب ، قال : لأنَّ المعنى لا يساعد على ذلك.
الثاني : أن وزنه فعلوت كملكوت ، وجعله مشتقاً من التَّوب وهو الرُّجوع ، وجعل معناه صحيحاً فيه ، لأنَّ التَّابوت هو الصُّندوق الذي توضع فيه الأشياء ، فيرجع إليه صاحبه عند احتياجه إليه ، فقد جعلنا فيه معنى الرجوع.
والمشهور أن يوقف على تائه بتاءٍ من غير إبدالها هاءً ؛ لأنَّها إمَّا أصلٌ إن كان وزنه فاعولاً ، وإمَّا زائدةٌ لغير التَّأنيث كملكوت ، ومنهم من يقلبها هاءً ، وقد قرئ بها شاذّاً ، قرأها أُبيّ ، وزيد بن ثابت ، وهي لغة الأنصار ، ويحكى أنهم لمَّا كتبوا المصاحف زمن عثمان - رضي الله عنه - اختلفوا فيه فقال زيد : » بالهَاءِ « ، وقال : [ أُبَيّ : ] » بالتَّاءِ « ، فجاءوا عثمان فقال : » اكْتبوه على لغة قريش « يعني بالتَّاءِ.
وهذه الهاء هل هي أصل بنفسها ، فيكون فيه لغتان ، ووزنه على هذا فاعول ليس إلاَّ ، أو بدلٌ من التَّاء ؛ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهمس ، أو إجراءٌ لها مجرى تاء التَّأنيث ؟ قال الزَّمخشريُّ : » فإنْ قلت : ما وزنُ التابوت ؟ قلت : لا يَخْلو أن يَكُونَ فَعَلوتاً ، أو فاعُولاً ، فلا يَكُونُ فاعُولاً لقلته نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ « يعني : في الأوزان العربيَّة ، ولا يجوز ترك المعروف [ إليه ] فهو إذاً فعلوت من التَّوب وهو الرُّجوع ؛ لأنَّه ظرفٌ تودع فيه الأشياء ، فيرجع إليه كلَّ وقتٍ.
وأمَّا من قرأ بالهاء فهو فاعول عنده ، إلاَّ من يجعل هاءه بدلاً من التَّاء لاجتماعهما في الهمس ، ولأنَّهما من حروف الزِّيادة ، ولذلك أُبدلت من تاء التَّأنيث.أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 273 ـ 274}(7/398)
فصل
قال الفخر :
إن مجيء ذلك التابوت لا بد وأن يقع على وجه يكون خارقاً للعادة حتى يصح أن يكون آية من عند الله ، دالة على صدق تلك الدعوى ، ثم قال أصحاب الأخبار : إن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده ، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل ، فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصرة ، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه ، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت ، قال ذلك النبي : إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره ، ثم إن الكفار الذين سلبوا ذلك التابوت كانوا قد جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا النبي عليهم في ذلك الوقت ، فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كلّ من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله تعالى بالبواسير ، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت ، فأخرجوه ووضعوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما ، حتى أتوا منزل طالوت ، ثم إن قوم ذلك النبي رأوا التابوت عند طالوت ، فعلموا أن ذلك دليل على كونه ملكاً لهم ، فذلك هو قوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أن يأتيكم التابوت} والإتيان على هذا مجاز ، لأنه أتى به ولم يأت هو فنسب إليه توسعاً ، كما يقال : ربحت الدراهم ، وخسرت التجارة.(7/399)
والرواية الثانية : أن التابوت صندوق كان موسى عليه السلام يضع التوراة فيه ، وكان من خشب ، وكانوا يعرفونه ، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل ، ثم قال نبي ذلك القوم : إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء ، ثم إن التابوت لم تحمله الملائكة ولا الثوران ، بل نزل من السماء إلى الأرض ، والملائكة كانوا يحفظونه ، والقوم كانوا ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت ، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وعلى هذا الإتيان حقيقة في التابوت ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعاً ، لأن من حفظ شيئاً في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء وإن لم يحمله كما يقول القائل : حملت الأمتعة إلى زيد إذا حفظها في الطريق ، وإن كان الحامل غيره.
واعلم أنه تعالى جعل إتيان التابوت معجزة ، ثم فيه احتمالان أحدهما : أن يكون مجىء التابوت معجزاً ، وذلك هو الذي قررناه
والثاني : أن لا يكون التابوت معجزاً ، بل يكون ما فيه هو المعجز ، وذلك بأن يشاهدوا التابوت خالياً ، ثم إن ذلك النبي يضعه بمحضر من القوم في بيت ويغلقوا البيت ، ثم إن النبي يدعي أن الله تعالى خلق فيه ما يدل على واقعتنا ، فإذا فتحوا باب البيت ونظروا في التابوت رأوا فيه كتاباً يدل على أن ملكهم هو طالوت ، وعلى أن الله سينصرهم على أعدائهم فهذا يكون معجزاً قاطعاً دالاً على أنه من عند الله تعالى ، ولفظ القرآن يحتمل هذا ، لأن قوله : {يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} يحتمل أن يكون المراد منه أنهم يجدون في التابوت هذا المعجز الذي هو سبب لاستقرار قلبهم واطمئنان أنفسهم فهذا محتمل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 149 ـ 150}
وقال الطبرى :
وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباس ووهب بن منبه : من أن التابوت كان عند عدو لبني إسرائيل كان سلبهموه.
(7/400)
وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل : "إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت" ، و"الألف واللام" لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به. وقد عرفه المخبر والمخبر. فقد علم بذلك أن معنى الكلام : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه ، الذي كنتم تستنصرون به ، فيه سكينة من ربكم. ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره ومبلغ نفعه قبل ذلك ، لقيل : إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم.
فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فيه وهو عند موسى ويوشع ، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه. وذلك أنه لم يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ولا فتاه يوشع ، بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قص الله من شأنهما ، وكذلك أمره وأمر الجبارين. وأما فتاه يوشع ، فإن الذين قالوا هذه المقالة ، زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى رد عليهم حين ملك طالوت. فإن كان الأمر على ما وصفوه ، فأي الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه فيها ، فجاز أن يقال : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه وعرفتم أمره ؟ وفي فساد هذا القول بالذي ذكرنا ، أبين الدلالة على صحة القول الآخر ، إذ لا قول في ذلك لأهل التأويل غيرهما. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 224 ـ 225}
فائدة
قال أبو حيان :
ونسبة الإتيان إلى التابوت مجاز لأن التابوت لا يأتي ، إنما يؤتى به ، كقوله : {فإذا عزم الأمور} {فما ربحت تجارتهم}. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 270}
قال ابن عاشور :
(7/401)
والتابوت بمعنى الصندوق المستطيل : وهو صندوق أمر موسى عليه السلام بصنعه صنعه بصلئيل الملهم في صناعة الذهب والفضة والنحاس ونجارة الخشب ، فصنعه من خشب السنط وهو شجرة من صنف القرظ وجعل طوله ذراعين ونصفاً وعرضه ذراعاً ونصفاً وارتفاعه ذراعاً ونصفاً ، وغشاه بذهب من داخل ومن خارج ، وصنع له إكليلاً من ذهب ، وسبك له أربع حلق من ذهب على قوائمه الأربع ، وجعل له عصوين من خشب مغشاتين بذهب لتدخل في الحلقات لحمل التابوت ، وجعل غطاءه من ذهب ، وجعل على طريق الغطاء صورة تخيل بها اثنين من الملائكة من ذهب باسطين أجنحتهما فوق الغطاء ، وأمر الله موسى أن يضع في هذا التابوت لوحي الشهادة اللذين أعطاه الله إياهما وهي الألواح التي ذكرها الله في قوله : {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح} [ الأعراف : 154 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 493}
فصل فى المراد بالسكينة
قال الفخر :
اختلفوا في السكينة ، وضبط الأقوال فيها أن نقول : المراد بالسكينة إما أن يقال إنه كان شيئاً حاصلاً في التابوت أو ما كان كذلك.
والقسم الثاني : هو قول أبي بكر الأصم ، فإنه قال : {آية مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك ، وتزول نفرتكم عنه ، لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية.(7/402)
وأما القسم الأول : وهو أن المراد من السكينة شيء كان موضوعاً في التابوت ، وعلى هذا ففيه أقوال الأول : وهو قول أبي مسلم أنه كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام ، بأن الله ينصر طالوت وجنوده ، ويزيل خوف العدو عنهم الثاني : وهو قول علي عليه السلام : كان لها وجه كوجه الإنسان ، وكان لها ريح هفافة والثالث : قول ابن عباس رضي الله عنهما : هي صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، فإذا صاحت كصياح الهر ذهب التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا وقف وقفوا ونزل النصر.
القول الرابع : وهو قول عمرو بن عبيد : إن السكينة التي كانت في التابوت شيء لا يعلم.
واعلم أن السكينة عبارة عن الثبات والأمن ، وهو كقوله في قصة الغار : {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} [ الفتح : 26 ] فكذا قوله تعالى : {فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} معناه الأمن والسكون. (1)
واحتج القائلون بأنه حصل في التابوت شيء بوجهين الأول : أن قوله : {فِيهِ سَكِينَةٌ} يدل على كون التابوت ظرفاً للسكينة والثاني : وهو أنه عطف عليه قوله : {وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ موسى} فكما أن التابوت كان ظرفاً للبقية وجب أن يكون ظرفاً للسكينة.
والجواب عن الأول : أن كلمة {فِى} كما تكون للظرفية فقد تكون للسببية قال عليه الصلاة والسلام : " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " وقال : " في خمس من الإبل شاة " أي بسببه فقوله في هذه الآية : {فِيهِ سَكِينَةٌ} أي بسببه تحصل السكينة.
والجواب عن الثاني : لا يبعد أن يكون المراد بقية مما ترك آل موسى وآل هارون من الدين والشريعة ، والمعنى أن بسبب هذا التابوت ينتظم أمر ما بقي من دينهما وشريعتهما.
_________________
(1) هذا ما تطمئن إليه النفس فى المراد من السكينة فى الآية الكريمة. والله أعلم.(7/403)
وأما القائلون بأن المراد بالبقية شيء كان موضوعاً في التابوت فقالوا : البقية هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفير من المن الذي كان ينزل عليهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 151}
فائدة
قال ابن عطية
والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم ، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى ، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده ، والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون ، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة.أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 333}
وعلق القرطبى على هذا الكلام بقوله :
وفي صحيح مسلم " عن البَرَاء قال : كان رجل يقرأ سورة "الكهف" وعنده فرس مربوط بشَطَنَيْن فتغشّته سحابةٌ فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسُه ينفِر منها ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال : "تلك السّكِينَة تنزّلت للقرآن" " وفي حديث أبي سعيد الخدرِي : أن أُسَيد بن الحُضَير بينما هو ليلة يقرأ في مِرْبَده الحديث.
وفيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأتَ لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم " خرحه البخاري ومسلم.
فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة ، ومرة عن نزول الملائكة ؛ فدل على أن السكينة كانت في تلك الظُّلّة ، وأنها تنزل أبداً مع الملائكة.
وفي هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شيء له روح ؛ لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل (1) ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 249}
_________________
(1) هذا الكلام معارض بقوله تعالى {وإن من شىء إلا يسبح بحمده} ومن ثم فلا دلالة فيه على المراد من السكينة. والله أعلم.(7/404)
وقال الخازن :
وقال قتادة والكلبي هي فعلية من السكون أي طمأنينة من ربكم ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا وسكنوا إليه وهذا القول أولى بالصحة فعلى هذا كل شيء كانوا يسكنون إليه فهو سكينة فيحمل على جميع ما قيل فيه لأن كل شيء يسكن إليه القلب فهو سكينة ولم يرد فيه نص صريح فلا يجوز تصويب قول وتضعيف آخر. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 172}
فصل
قال الفخر :
من الناس من قال : إن طالوت كان نبياً ، لأنه تعالى أظهر المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً ، ولا يقال : إن هذا كان من كرامات الأولياء ، لأن الفرق بين الكرامة والمعجزة أن الكرامة لا تكون على سبيل التحدي ، وهذا كان على سبيل التحدي ، فوجب أن لا يكون من جنس الكرامات.
والجواب : لا يبعد أن يكون ذلك معجزة لنبي ذلك الزمان ، ومع كونه معجزة له فإنه كان آية قاطعة في ثبوت ملكه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 140}
فائدة
قال أبو حيان :
السكينة : هي الطمأنينة ولما كانت حاصلة بإتيان التابوت ، جعل التابوت ظرفاً لها ، وهذا من المجاز الحسن ، وهو تشبيه المعاني بالأجرام ، وجاء في حديث عمران بن حصين أنه كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة ، فغشيته سحابة ، فجعلت تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له فقال : " تلك السكينة تنزلت للقرآن "(7/405)
وفي حديث أسيد بن حضير ، بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث ، وفيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تلك الملائكة كانت تسمع لذلك ، ولو قرأت لأصبحت تراها الناس ما تستتر منهم " فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة ، ومرة عن نزول الملائكة ، ودل حديث أسيد على أن نزول السكينة في حديث عمران هو على مضاف ، أي : تلك أصحاب السكينة ، وهم الملائكة المخبر عنهم في حديث أسيد ، وجعلوا ذوي السكينة لأن إيمانهم في غاية الطمأنينة ، وطواعيتهم دائمة لا يعصون الله ما أمرهم ، وقد جاء في ( الصحيح ) : " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاَّ نزلت عليهم السكينة.
وحفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده "
فنزول السكينة عليهم كناية عن التباسهم بطمأنينة الإيمان ، واستقرار ذلك في قلوبهم ، لأن من تلا كتاب الله وتدارسه يحصل له بالتدبر في معانيه.
والتفكر في أساليبه ، ما يطمئن إليه قلبه ، وتستقر له نفسه ، وكأنه كان قبل التلاوة له والدراسة خالياً من ذلك ، فحين تلا نزل ذلك عليه.
وقد قال بهذا المعنى بعض المفسرين ، قال قتادة السكينة هنا الوقار.
وقال عطاء : ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ، وقال نحوه الزجاج.
وقال الزمخشري : التابوت صندوق التوراة ، كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون ، والسكينة : السكون والطمأنينة ، وذكر عن عليّ أن السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، وهي ريح هفافة ، وقيل : السكينة صورة من زبرجد أو ياقوت ، لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، وجناحان ، فتئن فيزف التابوت نحو العدو ، وهم يمضون معه ، فإذا استقر ثبتت وسكنوا ، ونزل النصر.
وقيل : بالسكينة بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء ، فإن الله ينصر طالوت وجنوده ، ويقال : جعل تعالى سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي فيه رضاض الألواح ، والعصا ، وآثار أصحاب نبوتهم ، وجعل تعالى سكينة هذه الأمة في قلوبهم ، وفرق بين مقر تداولته الأيدي ، قد فر مرة ، وغلب عليه مرة ، وبين مقر بين أصبعين من أصابع الرحمن. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 270 ـ 271}(7/406)
فائدة
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة السكينة
هذه المنزلة من منازل المواهب لا من منازل المكاسب وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في ستة مواضع :
الأولى : قوله تعالى : وقال لهم نبيهم : {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [ البقرة : 248 ]
الثاني قوله تعالى {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [ التوبة : 26 ]
الثالث : قوله تعالى : {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [ التوبة : 40 ]
الرابع : قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [ الفتح : 4 ]
الخامس : قوله تعالى : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [ الفتح : 18 ]
(7/407)
السادس : قوله تعالى : {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [ الفتح : 26] الآية وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور : قرأ آيات السكينة وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له فى مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة قال : فلما اشتد علي الأمر قلت لأقاربي ومن حولي : اقرؤا آيات السكينة قال : ثم أقلع عني ذلك الحال وجلست وما بي قلبة وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه فرأيت لها تأثيراعظيما في سكونه وطمأنينته وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رءوسهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس وحسبك بضعف عمر رضي الله عنه عن حملها وهو عمر حتى ثبته الله بالصديق رضي الله عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : رأيت النبي ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلدة بطنه وهو يرتجز بكلمة عبدالله بن رواحة رضي الله عنه :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا
وإن أرادوا فتنة أبينا(7/408)
وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة : إني باعث نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للخنا أسدده لكل جميل وأهب له كل خلق كريم ثم أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه. أ هـ {مدارج السالكين حـ 2 صـ 502 ـ 503}(7/409)
قوله تعالى : {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان الكليم وأخوه عليهما الصلاة والسلام أعظم أنبيائه قال : {وبقية} قال الحرالي : فضلة جملة ذهب جلها {مما ترك} من الترك وهو أن لا يعرض للأمر حساً أو معنى {آل موسى وهارون} أي وهي لوحا العهد.
قال الحرالي : وفي إشعار تثنية ذكر الآل ما يعلم باختصاص موسى عليه الصلاة والسلام بوصف دون هارون عليه السلام بما كان فيه من الشدة في أمر الله وباختصاص هارون عليه الصلاة والسلام بما كان فيه من اللين والاحتمال حيث لم يكن آل موسى وهارون ، لأن الآل حقيقة من يبدو فيه وصف من هو آله.
وقال : الآل أصل معناه السراب الذي تبدو فيه الأشياء البعيدة كأنه مرآة تجلو الأشياء فآل الرجل من إذا حضروا فكأنه لم يغب - انتهى.(7/410)
ثم صرح بما أفهمه إسناد الإتيان إليه فقال : {تحمله} من الحمل وهو ما استقل به الناقل {الملائكة} وما هذا بأغرب من قصة سفينة رضي الله تعالى عنه قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه رضي الله تعالى عنهم فثقل عليهم متاعهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابسط كساءك ، فبسطته فجعلوا فيه متاعهم فحملوه علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احمل فإنما أنت سفينة! قال : فلو حملت من يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة ما ثقل عليّ " وأما مقاتلة الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم في غزوة بدر فأمر شهير ، كان الصحابي يكون قاصداً الكافر ليقاتله فإذا رأسه قد سقط من قبل أن يصل إليه ، ولما كان هذا أمراً باهراً قال منبهاً على عظمته : {إن في ذلك} أي الأمر العظيم الشأن {لآية} أي باهرة {لكم إن كنتم مؤمنين} فإن المواعظ لا تنفع غيرهم.
قال الحرالي : ولما ضعف قبولهم عن النظر والاستبصار صار حالهم في صورة الضعف الذي يقال فيه : إن كان كذا ، فكان في إشعاره خللهم وفتنتهم إلا قليلاً - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 475 ـ 476}
فصل فى المقصود بالبقية
قال أبو حيان :
والبقية ؛ قيل : رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، قاله عكرمة.
وقيل : عصا موسى قاله وهب وقيل : عصا موسى وهارون وثيابهما ولوحان من التوراة المنّ ، قاله أبو صالح.
وقيل : العلم والتوراة قاله مجاهد ، وعطاء وقيل : رضاض الألواح وطست من ذهب وعصا موسى وعمامته ، قاله مقاتل وقيل : قفيز من منّ ورضاض الألواح حكاه سفيان الثوري.
وقيل : العصا والنعلان ، حكاه الثوري أيضاً ، وقيل : الجهاد في سبيل الله ، وبذلك أمروا ، قاله الضحاك.
وقيل : التوراة ورضاض الألواح قاله السدّي.(7/411)
وقيل : لوحان من التوراة ، وثياب موسى وهارون وعصواهما ، وكلمة الله : لا إله إلا الله الحكيم الكريم ، وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، وقيل : عصا موسى وأمور من التوراة ، قاله الربيع.
ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر في التابوت ، فأخبر كل قائل عن بعض ما فيه ، وانحصر بهذه الأقوال ما في التابوت من البقية. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 271}
قال الطبرى :
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى الله عليه الذي قال لأمته : "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" أن فيه سكينة منه ، وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون. وجائز أن يكون تلك البقية : العصا ، وكسر الألواح ، والتوراة ، أو بعضها ، والنعلين ، والثياب ، والجهاد في سبيل الله وجائز أن يكون بعض ذلك ، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا اللغة ، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم. ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا. وإذ كان كذلك ، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره ، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 234}
قال الفخر :
أما قوله : {آل موسى وآل هارون} ففيه قولان الأول : قال بعض المفسرين يحتمل أن يكون المراد من آل موسى وآل هارون هو موسى وهارون أنفسهما ، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام لأبي موسى الأشعري : " لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود " وأراد به داود نفسه ، لأنه لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن مثل ما كان لداود عليه السلام.
(7/412)
والقول الثاني : قال القفال رحمه الله : إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون ، لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت ، وما في التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون ، فيكون الآل هم الأتباع ، قال تعالى : {ادخلوا آل فرعون أشد العذاب} [ غافر : 46 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 151 ـ 152}
وقال أبو حيان :
و : {آل موسى وآل هارون} هم من الأنبياء ، إليهما من قرابة أو شريعة ، والذي يظهر أن آل موسى وآل هارون هم الأنبياء الذين كانوا بعدهما ، فإنهم كانوا يتوارثون ذلك إلى أن فقد.
ونذكر كيفية فقده إن شاء الله.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون ، والآل مقحم لتفخيم شأنهما. انتهى.
وقال غيره : آل هنا زائدة ، والتقدير : مما ترك موسى وهارون ، ومنه اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى آل أبي أوفى ، يريد نفسه ، ولقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود ، أي : من مزامير داود ومنه قول جميل :
بثينة من آل النساء وإنما . . .
يكنّ لأدنى ، لا وصال لغائب
أي : من النساء. انتهى.
(7/413)
ودعوى الإقحام والزيادة في الأسماء لا يذهب إليه نحوي محقق ، وقول الزمخشري : والآل مقحم لتفخيم شأنهما إن عنى بالإقحام ما يدل عليه أول كلامه في قوله : ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون ، فلا أدري كيف يفيد زيادة آل تفخيم شأن موسى وهارون ؟ وإن عنى بالآل الشخص ، فإنه يطلق على شخص الرجل آله ، فكأنه قيل : مما ترك موسى وهارون أنفسهما ، فنسب تلك الأشياء العظيمة التي تضمنها التابوت إلى أنها من بقايا موسى وهارون شخصيهما ، أي أنفسهما لا من بقايا غيرهما ، فجرى آل هنا مجرى التوكيد الذي يراد به : أن المتروك من ذلك الخير هو منسوب لذات موسى وهارون ، فيكون في التنصيص عليهما ذاتهما تفخيم لشأنهما ، وكان ذلك مقحماً لأنه لو قيل : مما ترك موسى وهارون لاكتفى ، وكان ظاهر ذلك أنهما أنفسهما ، تركا ذلك وورث عنهما. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 271 ـ 272}
قوله تعالى {تحمله الملائكة}
قال أبو حيان :
قرأ مجاهد : يحمله ، بالياء من أسفل ، والضمير يعود على التابوت ، وهذه الجملة حال من التابوت ، أي حاملاً له الملائكة ، ويحتمل الاستئناف ، كأنه قيل : ومن يأتي به وقد فقد ؟ فقال : {تحمله الملائكة} استعظاماً لشأن هذه الآية العظيمة ، وهو أن الذي يباشر إتيانه إليكم الملائكة الذين يكونون معدين للأمور العظام ، ولهم القوّة والتمكين والاطلاع بأقدار الله لهم على ذلك ، ألا ترى إلى تلقيهم الكتب الإلهية وتنزيلهم بها على من أوحي إليهم ، وقلبهم مدائن العصاة ، وقبض الأرواح ، وإزجاء السحاب ، وحمل العرش ، وغير ذلك من الأمور الخارقة ، والمعنى : تحمله الملائكة إليكم.
قال ابن عباس : جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض ، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت.
قال وهب : قالوا لنبيهم : انعت وقتاً تأتينا به! فقال : الصبح ، فلم يناموا ليلتهم حتى سمعوا حفيف الملائكة بين السماء والأرض.
(7/414)
وقال قتادة : كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع ، فبقي هناك ولم يعلم به بنو إسرائيل ، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت ، فأقروا بملكه.
قال ابن زيد : غير راضين ، وقيل : سبى التابوت أهل الأردن ، قرية من قرى بفلسطين ، وجعلوه في بيت صنم لهم تحت الصنم ، فأصبح الصنم تحت التابوت ، فسمروا قدمي الصنم على التابوت ، فأصبح وقد قطعت يداه ورجلاه ملقى تحت التابوت ، وأصنامهم منكسة ، فوضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم ، فدفنوه بالصحراء في متبَّرزٍ لهم ، فكان من تبرز هناك أخذه الناسور والقولنج ، فتحيروا ، وقالت امرأة من أولاد الأنبياء من بني إسرائيل : ما تزالوان ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم! فاخرجوه عنكم! فحملوا التابوت على عجلة ، وعلقوا بها ثورين أو بقرتين ، وضربوا جنوبهما ، فوكل الله أربعة من الملائكة يسوقونهما ، فما مرّ التابوت بشيء من الأرض إلاَّ كان مقدّساً ، إلى أرض بني إسرائيل ، وضع التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل ، ورجعا إلى أرضهما ، فلم يرع بني إسرائيل إلاَّ التابوت ، فكبروا وحمدوا الله على تمليك طالوت ، فذلك قوله : {تحمله الملائكة}.
وقال ابن عباس : إن التابوت والعصا في بحيرة طبرية يخرجان قبل يوم القيامة ، وقيل يوم القيامة ، وقيل : عند نزول عيسى على نبينا وعليه السلام. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 272}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {تحمله الملائكة} حال من ( التابوت ) ، والحمل هنا هو الترحيل كما في قوله تعالى : {قلت لا أجد ما أحملكم عليه} [ التوبة : 92 ] لأن الراحلة تحمل راكبها ؛ ولذلك تسمى حمولة وفي حديث غزوة خيبر : " وكانت الحمر حمولتهم " وقال النابغة :
يُخَال به راعي الحَمُولة طَائرا
(7/415)
فمعنى حمل الملائكة التابوت هو تسييرهم بإذن الله البقرتين السائرتين بالعجلة التي عليها التابوت إلى محلة بني إسرائيل ، من غير أن يسبق لهما إلف بالسير إلى تلك الجهة ، هذا هو الملاقى لما في كتب بني إسرائيل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 494 ـ 495}
قال الطبرى :
اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت.
فقال بعضهم : معنى ذلك : تحمله بين السماء والأرض ، حتى تضعه بين أظهرهم.
وقال آخرون : معنى ذلك : تسوق الملائكة الدواب التي تحمله. أ هـ
ثم قال رحمه الله :
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : "حملت التابوت الملائكة حتى وضعته لها في دار طالوت قائما بين أظهر بني إسرائيل".
وذلك أن الله تعالى ذكره قال : "تحمله الملائكة" ، ولم يقل : تأتي به الملائكة. وما جرته البقر على عجل. وإن كانت الملائكة هي سائقتها ، فهي غير حاملته. لأن"الحمل" المعروف ، هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل ، فأما ما حمله على غيره وإن كان جائزا في اللغة أن يقال"حمله" بمعنى معونته الحامل ، وبأن حمله كان عن سببه فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه ، في تعارف الناس إياه بينهم. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات ، أولى من توجيهه إلى الأنكر ، ما وُجد إلى ذلك سبيل. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 235 ـ 237} باختصار يسير.
فائدة
قال ابن عطية ـ وقد أجاد ـ :
وكثر الرواة في قصص التابوت وصورة حمله بما لم أر لإثباته وجهاً للين إسناده. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 333}
قوله تعالى : {إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}
قال الفخر
وأما قوله : {إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالمعنى أن هذه الآية معجزة باهرة إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق المدعي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 152}
وقال الطبرى : (7/416)
يعني تعالى ذكره بذلك : أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل : إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة"لآية لكم" ، يعني : لعلامة لكم ودلالة ، أيها الناس ، على صدقي فيما أخبرتكم : أن الله بعث لكم طالوت ملكا ، أن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم ، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك"إن كنتم مؤمنين" ، يعني بذلك : إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه.
وإنما قلنا ذلك معناه ، لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم وردهم عليه قوله : "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" ، بقولهم : "أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه" ، وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه. فإذ كان ذلك منهم كفرا ،
فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار : لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله : وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله. ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه ، لأنهم سألوا الآية على صدق خبره إياهم ليقروا بصدقه ، فقال لهم : في مجيء التابوت- على ما وصفه لهم - آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقي بما قلت لكم وأخبرتكم به. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 237 ـ 238}
وقال أبو حيان :
{إن في ذلك لآية لكم ، إن كنتم مؤمنين} قيل : الإشارة إلى التابوت ، والأحسن أن يعود على الإتيان أي : إتيان التابوت على الوصف المذكور ليناسب أول الآية آخرها ، لأن أولها {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت} والمعنى لآية لكم على ملكه واختياره لكم ، وقيل : علامة لكم على نصركم على عدوّكم ، لأنهم كانوا يستنصرون بالتابوت أينما توجهوا ، فينصرون.
و : إن ، قيل على حالها من وضعها للشرط.
أي : ذلك آية لكم على تقدير إيمانكم لأنهم قيل : صاروا كفرة بإنكارهم على نبيهم.
(7/417)
وقيل : إن كان من شأنكم وهممكم الإيمان بما تقوم به الحجة عليكم ، وقيل : إن كنتم مصدّقين بأن الله قد جعل لكم طالوت ملكاً.
وقيل : مصدّقين بأن وعد الله حق.
وقيل : إن ، بمعنى : إذ ، ولم يسألوا تكذيباً لنبيهم ، وإنما سألوا تعرفاً لوجه الحكمة ، والسؤال عن الكيفية لا يكون إنكارا كلياً. (1) أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 272}
فائدة
قال البقاعى :
وفي هذه القصة توطئة لغزوة بدر وتدريب لمن كتب عليهم القتال وهو كره لهم وتأديب لهم وتهذيب وإشارة عظيمة واضحة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بما دل عليه من أمر استخلافه في الإمامة في الصلاة التي هي خلاصة هذا الدين كما أن ما في تابوت الشهادة كان خلاصة ذلك الدين ، وتحذير لمن لعله يخالف فيها أو يقول إنه ليس من بني هاشم ولا عبد مناف الذين هم بيت الإمامة والرئاسة ونحو ذلك مما حمى الله المؤمنين منه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يأبى الله ذلك والمؤمنون " وفي توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعلام بأن أول مقصود به الأقرب منه صلى الله عليه وسلم فالأقرب ، وفيها تشجيع للصحابة رضوان الله تعالى عليهم فيما يندبهم إليه الصديق رضي الله عنه من قتال أهل الردة وما بعده إلى غير ذلك من الإشارات التي تقصر عنها العبارات - والله سبحانه وتعالى الموفق. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 476}
________________
(1) فى هذا القول توجيه وبيان لما استبعده الطبرى بقوله : فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار : لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله. والله أعلم.(7/418)
فصل
قال الخازن :
وكانوا إذا حضروا القتال قدموه {التابوت} بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم فينصرون فلما عصوا وأفسدوا سلط الله عز وجل عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وأخذه منهم وكان السبب في ذلك أنه كان لعيلى وهو الذي ربى أشمويل ابنان شابان وكان عيلى حبر بني إسرائيل وصاحب قربانهم في زمنه فأحدث ابناه في القربان شيئاً لم يكن فيه وذلك أنه كان منوط القربان الذي ينوطونه كلابين فما أخرجا كانا للكاهن الذي كانا ينوطه فجعل ابناه كلاليب. وكان النساء يصلين في بيت المقدس فيتشبثان بهن فأوحي إلى اشمويل : أن انطلق إلى عيلى وقل له منعك حب الولد من أن تزجر ابنيك عن أن يحدثا في قرباني وقدسي شيئاً وأن يعصياني فلأنزعن الكهانة منك ومن ولدك ولأهلكنك وإياهما. فأخبره أشمويل بذلك ففزع وسار إليهم عدوهم من حولهم فأمر عيلى ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو فخرجا واخرجا معهما التابوت فلما تهيؤوا القتال جعل عيلى يتوقع الخبر فجاءه رجل فأخبره أن الناس قد انهزموا وقد قتل ابناه قال : فما فعل في التابوت قال أخذه العدو. وكان عيلى قاعداً على كرسيه فشهق ووقع على قفاه فمات فخرج أمر بني إسرائيل وتفرقوا إلى أن بعث الله طالوت ملكاً فسألوا أشمويل البينة على صحة ملك الطالوت فقال لهم نبيهم يعني أشمويل : إن الآية ملكه يعني علامة ملكة التي تدل على صحته أن يأتيكم التابوت وكانات قصة رجوع التابوت على ما ذكره أصحاب الأخبار أن الذين أخذوا التابوت من بني إسرائيل أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها أزدود فجعلوه في بيت أصنام لهم ووضعوه تحت الصنم الأعظم فأصحبوا من الغد والصنم تحته فأخذوه ووضعوه فوقه وسمروا قدمي الصنم على التابوت فأصحبوا وقد قطعت يد الصنم ورجلاه وأصبح الصنم ملقى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم منكسة فأخرجوا التابوت من بيت الأصنام ووضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتى هلك أكثرهم. فقال بعضهم لبعض أليس قد علمتم(7/419)
أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء فأخرجوه إلى قرية أخرى فبعث الله على أهل تلك الناحية فأرة فكانت الفأرة تبيت مع الرجل فيصبح ميتاً قد أكلت ما في جوفه.
فأخرجوه إلى الصحراء ودفنوه في مخرأة لهم فكان كل من تبرز هناك أخذه الباسور والقولنج فتحيروا فيه فقالت لهم امرأة من بني إسرائيل كانت عندهم وهي من بنات الأنبياء : لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم. فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت عن علقوها في ثورين وضربوا جنوبهما فأقبل الثوران يسيران ووكل الله بالثورين أربعة أملاك يسوقونهما فأقبلا حتى وقفا على أرض بني إسرائيل فكسرا نيريهما وقطعا حبالهما ووضعا التابوت في أرض فيها حصاد لبني إسرائيل ورجعا إلى أرضهما ما لم يرع بني إسرائيل إلا والتابوت عندهم فكبروا وحمدوا الله تعالى. (1) أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 172 ـ 173}
وقال ابن عاشور :
أراد نبيئهم أن يتحداهم بمعجزة تدل على أن الله تعالى اختار لهم شاوول ملكاً ، فجعل لهم آية تدل على ذلك وهي أن يأتيهم التابوت ، أي تابوت العهد ، بعد أن كان في يد الفلسطينيين كما تقدم ، وهذا إشارة إلى قصة تيسير الله تعالى إرجاع التابوت إلى بني إسرائيل بدون قتال ، وذلك أن الفلسطينيين أرجعوا التابوت إلى بني إسرائيل في قصة ذكرت في سفر صمويل ، حاصلها أن التابوت بقي سبعة أشهر في بلاد فلسطين موضوعاً في بيت صنمهم داجون ورأى الفلسطينيون آيات من سقوط صنمهم على وجهه ، وانكسار يديه ورأسه ، وإصابتهم بالبواسير في أشدود وتخومها ، وسلطت عليهم الجرذان تفسد الزروع ، فلما رأوا ذلك استشاروا الكهنة ، فأشاروا عليهم بإلهام من الله بإرجاعه إلى إسرائيل لأن إله إسرائيل قد غضب لتابوته وأن يرجعوه مصحوباً بهدية : صورة خمس بواسير من ذهب ، وصورة خمس فيران من ذهب ، على عدد مدن الفلسطينيين العظيمة : أشدود ، وغزة ، واشقلون ، وجت ، وعفرون.
__________
(1) كما تقدم فلا ينبغى التعويل على مثل هذه الكلام. والله أعلم.(7/420)
ويوضع التابوت على عجلة جديدة تجرها بقرتان ومعه صندوق به التماثيل الذهبية ، ويطلقون البقرتين تذهبان بإلهام إلى أرض إسرائيل ، ففعلوا واهتدت البقرتان إلى أن بلغ التابوت والصندوق إلى يد اللاويين في تخم بيت شمس ، هكذا وقع في سفر صمويل غير أن ظاهر سياقه أن رجوع التابوت إليهم كان قبل تمليك شاوول ، وصريح القرآن يخالف ذلك ، ويمكن تأويل كلام السفر بما يوافق هذا بأن تحمل الحوادث على غير ترتيبها في الذكر ، وهو كثير في كتابهم.
والذي يظهر لي أن الفلسطينيين لما علموا اتحاد الإسرائيليين تحت ملك علموا أنهم ما أجمعوا أمرهم إلاّ لقصد أخذ الثأر من أعدائهم وتخليص تابوت العهد من أيديهم ، فدبروا أن يظهروا إرجاع التابوت بسبب آيات شاهدوها ، ظناً منهم أن حدة بني إسرائيل تفل إذا أرجع إليهم التابوت بالكيفية المذكورة آنفاً ، ولا يمكن أن يكون هذا الرعب حصل لهم قبل تمليك شاول ، وابتداء ظهور الانتصار به. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 492 ـ 493}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إن الله سبحانه إذا أظهر نوراً أمدَّه بتأييد من قِبَلهِ ، فلما ملك طالوت عليهم أزال الإشكال عن صفته بما أظهر من آياته الدالة على صدق قول نبيِّهم في اختياره ، فردَّ عليهم التابوت الذي فيه السكينة ، فاتضحت لهم آية ملكه ، وأن نبيهم عليه السلام صَدَقَهم فيما أخبرهم.
ويقال إن الله تعالى جعل سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي رَضوا عن الألواح ، وعصا موسى عليه السلام ، وآثار صاحب نبوتهم. وجعل سكينة هذه الأمة في قلوبهم ، فقال : " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين " ثم إن التابوت كان تتداوله أيدي الأعداء وغيرهم ؛ فَمرَّةً كان يُدْفَن ومرة كان يُغلب عليه فيُحمَل ، ومرة يُرَد ومرة ومرة... وأما قلوب المؤمنين فَحَالَ بين أربابها وبينها ، ولم يستودعها ملكاً ولا نبياً ، ولا سماء ولا هواء ، ولا مكاناً ولا سخصاً ، وقال صلى الله عليه وسلم :
(7/421)
" قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن " يعني في قبضة الحق سبحانه ، وتحت تغليبه وتصريفه ، والمراد منه " القدرة " ، وشتَّان بين أمة سكينتهم فيما للأعداء عليه تَسَلُّط وأمةٍ سكينتهم فيما ليس لمخلوق عليه لسلطان. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 192 ـ 193}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت...}.
قال ابن عرفة : هذا دليل على صحة ما يقول ابن التلمساني من أنّ لفظ الآية ليس خاصا بالمعجزة لأن المراد ( بها ) هنا الدليل والعلامة بلا خلاف ، وهذا اللفظ من حيث هو قابل لأن يراد به آية ثبوت ملكه ملكه أو آية بطلان ملكه ، والمراد هنا الأول ، فإما أن يكون على حذف مضاف أو ( يقول ) : " القرينة معينة فلا يحتاج إلى إضماره ".
قال ابن عرفة : والتأكيد بـ ( إنّ ) إنّما هو لمن ينكر ذلك وهم لا ينكرون هذا عند ظهور هذه العلامة.
قال ابن عرفة : كان بعض الشيوخ يجيب بأن الإنكار تارة يتسلط على نسبة الخبر ( للمخبر ) عنه ، وتارة يتسلط على الذات المخبر عنها وإن كانت النسبة متفقا عليها كقول الولد لأبيه الذي لا شك في صدقه : جميع ما نربح في هذه السلعة فهو لك وتكون السلعة بخيسة فالأب مستعد للرّبح من أصله وإن كان موافقا على النسبة. فالإنكار بمعنى استبعادهم وقوع ذلك ، لأنه إن وقع لا يكون دليلا على صحة ملكه ؟
وأجيب أيضا بأنّه روعي في ذلك مخالفتهم له أخيرا لأن بعضهم تعنتوا عليه.
وذكر ابن عطية هنا أقوالا منها : أن التابوت من خشب ( الشمشار ) طوله ثلاثة أذرع وفيه عصى موسى.
قيل لابن عرفة : ( كيف ) تَسَعُ فيه وهي طويلة ؟
فقال : لعل ذراعهم كان أكبر من ذراعنا أو تكون العصا مفصلة أو مكسورة.
وحكي في السكينة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنها ريح ( هفافة ) لها وجه كوجه الإنسان وعنه أيضا أنها ريح ( خجوج ) لها رأسان.
وقال الزمخشري هي صرصرة فيها ريح.(7/422)
قال ابن عرفة : ولا يبعد ما حكى ابن عطية على مذهبنا لأن الوجود مصحح للرؤية فيمكن أن ترى الريح. وقوله : ريح ( خجوج ) أي لينة.
قال ابن عطية : وقال أبو صالح : ( البقية ) عصى موسى وعصى هارون ولوحان من التّوراة والمنّ المنزل على بني إسرائيل.
واستشكله ابن عرفة لأنهم ذكروا أنّ المراد المنّ إذا بقي يفسد.
قلت : يجاب بأنّ هذه آية وخرق عادة.
ابن عرفة : لما ذكر الخلاف كله قال : وهذه أخبار متعارضة ويمكن الجمع بينهما فإنّ السّكينة ( تتطور ) فتارة تكون كالطست وتارة كالهرّ وتارة كغيره (1) ، والله أعلم!
قوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
قال ابن عرفة : إنّما أكّده بـ ( إِنّ ) ( لأن ) الخطاب بهذا قبل وقوعه وقد كانوا منكرين له حينئذ أو بعد وقوعه ويكون تأكيدا لكونه آية.
وقوله {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إما حقيقة أو تهييجا على الاتصاف بالإيمان. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 321}
_______________
(1) تقدمت الإشارة إلى ضعف مثل هذه الأقوال.
والراجح والله أعلم أنها من أساطير بنى إسرائيل التى شوهوا بها التوراة. قبحهم الله ولعنهم.(7/423)
فائدة مهمة
قال الدكتور محمد أبو شهبة ـ رحمه الله ـ فى كتابه القيم الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير :
معلقا على ما ذكر فى التابوت :
وهذا الكلام وإن كان محتملا للصدق والكذب ، لكننا فى غنية ولا يتوقف تفسير الآية عليه.
وعلق على ما ذكر فى المراد بالسكينة بقوله :
والحق أنه ليس فى القرآن ما يدل على شىء من ذلك ، ولا فيما صح عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما هى من أخبار بنى إسرائيل التى نقلها إلينا مسلمة أهل الكتاب ، وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين ومرجعها إلى وهب بن منبه ، وكعب الأحبار وأمثالهما.
وعلق على ما ذكر فى كيفية مجىء التابوت فقال :
وكذلك ذكروا فى مجىء التابوت أقوالا متضاربة ، يرد بعضها بعضا ، مما يدل على أن مرجعه إلى أخبار بنى إسرائيل ، وابتداعهم ، وأنه ليس فيه نقل يعتد به.
ثم قال رحمه الله :
والذى نقطع به ، ويجب الإيمان به : أنه كان فى بنى إسرائيل تابوت ـ أى صندوق ـ ، من غير بحث فى حقيقته ، وهيئته ، ومن أين جاء ، إذ ليس فى ذلك خبر صحيح عن المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأن هذا التابوت كان فيه مخلفات موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ . أ هـ {الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير صـ 172 ـ 173} باختصار يسير.
تم الجزء السابع من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن وأوله قوله تعالى :
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}(7/424)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء الثامن
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا }(8/3)
الجزء الثامن
من الآية {249} من سورة البقرة
وحتى الآية {262} من نفس السورة(8/4)
قوله تعالى : {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوش اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان التقدير : فأتاهم التابوت على الصفة المذكورة فأطاعوا نبيهم فيه فملكوه وانتدبوا معه فخرج بهم إلى العدو وفصل بالجنود من محل السكن ، عطف عليه قوله : {فلما فصل} من الفصل وهو انقطاع بعض من كل ، وأصله : فصل نفسه أو جنده - أو نحو ذلك ، ولكنه كثر حذف المفعول للعلم به فصار يستعمل استعمال اللازم {طالوت} أي الذي ملكوه {بالجنود} أي التي اختارها وخرجوا للقاء من سألوا لقاءه لكفره بالله مع ما قد أحرقهم به من أنواع القهر.
قال الحرالي : وهو جمع جند وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع {قال} أي ملكهم {إن الله} أي الذي لا أعظم منه وأنتم خارجون في مرضاته {مبتليكم بنهر} من الماء الذي جعله سبحانه وتعالى حياة لكل شيء ، فضربه مثلاً للدنيا التي من ركن إليها ذل ومن صدف عنها عز.
قال الحرالي : فأظهر الله على لسانه ما أنبأ به نبيّهم في قوله {وزاده بسطة في العلم} [ البقرة : 247 ] - انتهى.(8/5)
{فمن شرب منه} أي ملأ بطنه {فليس مني} أي كمن انغمس في الدنيا فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون {ومن لم يطعمه فإنه مني} كمن عزف عنها بكليته ثم تلا هذه الدرجة العلية التي قد قدمت للعناية بها بما يليها من الاقتصاد فقال مستثنياً من {فمن شرب} : {إلا من اغترف} أي تكلف الغرف {غرفة بيده} ففي قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها أخذة ما أخذت من قليل أو كثير ، وفي الضم إعلام بملئها ، والغرف بالفتح الأخذ بكلية اليد ، والغرفة الفعلة الواحدة منه ، وبالضم اسم ما حوته الغرفة ، فكان في المغترفين من استوفى الغرفة ومنهم من لم يستوف - قاله الحرالي وقال : فكان فيه إيذان بتصنيفهم ثلاثة أصناف : من لم يطعمه ألبتة وأولئك الذين ثبتوا وظنوا أنهم ملاقو الله ، ومن شرب منهم وأولئك الذين افتتنوا وانقطعوا عن الجهاد في سبيل الله ومن اغترف غرفة وهم الذين ثبتوا وتزلزلوا حتى ثبتهم الذين لم يطعموا.
ولما كان قصص بني إسرائيل مثالاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر ابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها ، فكانت جيوشهم بحكم هذا الإيحاء الاعتباري إذا مروا بنهر أموال الناس وبلادهم وزروعهم وأقطارهم في سبيلهم إلى غزوهم ، فمن أصاب من أموال الناس ما لم ينله الإذن من الله انقطع عن ذلك الجيش ولو حضره.
فما كان في بني إسرائيل عياناً يكون وقوعه في هذه الأمة استبصاراً سترة لها وفضيحة لأولئك ، ومن لم يصب منها شيئاً بتاً كان أهل ثبت ذلك الجيش الثابت المثبت ، قيل لعلي رضي الله تعالى عنه : يا أمير المؤمنين! ما بال فرسك لم يكب بك قط ؟ قال : ما وطئت به زرع مسلم قط.
ومن أصاب ما له فيه ضرورة من منزل ينزله أو غلبة عادة تقع منه ويوده أن لا يقع فهؤلاء يقبلون التثبيت من الذين تورعوا كل الورع ، فملاك هذا الدين الزهد في القلب والورع في التناول باليد ، قال صلى الله عليه وسلم :(8/6)
" إنما تنصرون بضعفائكم " وفي إلاحة هذا التمثيل والاعتبار أن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد الثابتين من أصحاب طالوت الذين بعددهم كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد المرسلين من كثرة عدد النبيين ، قال : وفي إفراد اليد إيذان بأنها غرفة اليد اليمنى لأنها اليد الخاصة للتعريف ، ففي اعتباره أن الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين لاشتمال اليدين على جانبي الخير والشر - انتهى.
فعرض لهم النهر كما أخبرهم به {فشربوا منه} مجاوزين حد الاقتصاد {إلاّ قليلاً منهم} فأطاعوا فأرواهم الله وقوى قلوبهم ، ومن عصى في شربه غلبه العطش وضعف عن اللقاء فبقي على شاطىء النهر.
قال الحرالي : وفيما يذكر أنه قرىء بالرفع وهو إخراج لهم من الشاربين بالاتباع كأن الكلام مبني عليه حيث صار تابعاً وإعرابه مما أهمله النحاة فلم يحكموه وحكمه أن ما بني على إخراج اتبع وما لم يبن على إخراجه وكأنه إنما انثنى إليه بعد مضار الكلام الأول قطع ونصب - انتهى.
وكان المعنى في النصب أنه لما استقر الفعل للكل رجع الاستثناء إلى البعض ، وفي الاتباع نوى الاستثناء من الأول فصار كالمفرغ وهذه القراءة عزاها الأهوازي في كتاب الشواذ إلى الأعمش وعزاها السمين في إعرابه إلى عبد الله وأُبيّ رضي الله تعالى عنهما ، وعقد سيبويه رحمه الله تعالى في نحو نصف كتابه لاتباع مثل هذا باباً ترجمه بقوله : باب ما يكون فيه إلاّ وما بعده وصفاً بمنزلة غير ومثل ، ودل عليه بأبيات كثيرة منها :
وكل أخ مفارقه أخوه . . .
لعمر أبيك إلا الفرقدان(8/7)
قال كأنه قال : وكل أخ غر الفرقدين ، وسوى بين هذا وبين آية {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} [ النساء : 95 ] بالرفع {وغير المغضوب عليهم} [ الفاتحة : 7 ] ، وجوز في ما قام القوم إلا زبد ، - بالرفع البدل والصفة ، قال الرضي تمسكاً بقوله : وكل أخ - البيت ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " الناس كلهم هلكى إلا العالمون ، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم " وقال السمين : والفرق بين الوصف بإلا والوصف بغيرها أن لا يوصف بها المعارف والنكرات والظاهر والمضمر ، وقال بعضهم : لا يوصف بها إلا النكرة والمعرفة بلام الجنس فإنه في قوة النكرة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 476 ـ 478}
قال الفخر :
اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها يظهر بتقدير محذوف يدل عليه باقي الكلام ، والتقدير أنه لما أتاهم بآية التابوت أذعنوا له ، وأجابوا إلى المسير تحت رايته.
فلما فصل بهم أي فارق بهم حد بلده وانقطع عنه ، ومعنى الفصل القطع ، يقال : قول فصل ، إذا كان يقطع بين الحق والباطل وفصلت اللحم عن العظم فصلاً وفاصل الرجل شريكه وامرأته فصالاً ، ويقال للفطام فصال ، لأنه يقطع عن الرضاع ، وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه ، ومنه قوله : {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} [ يوسف : 94 ]
قال صاحب "الكشاف" قوله : فصل عن موضع كذا أصله فصل نفسه ، ثم لأجل الكثرة في الاستعمال حذفوا المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كما يقال انفصل والجنود جمع جند وكل صنف من الخلق جند على حدة ، يقال للجراد الكثيرة إنها جنود الله ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " الأرواح جنود مجندة ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 152}
فائدة
قال ابن الجوزى :
وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال.
أحدها : سبعون ألفاً ، قاله ابن عباس.
والثاني : ثمانون ألفاً ، قاله عكرمة والسدي.(8/8)
والثالث : مائة ألف ، قاله مقاتل. (1) أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 297}
فصل
قال الفخر :
روي أن طالوت قال لقومه : لا ينبغي أن يخرج معي رجل يبني بناءً لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختار ثمانون ألفاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 152}
{قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ}
قال الفخر :
اختلفوا في أن هذا القائل من كان
فقال الأكثرون : إنه هو طالوت وهذا هو الأظهر لأن قوله لا بد وأن يكون مسنداً إلى مذكور سابق ، والمذكور السابق هو طالوت ، ثم على هذا يحتمل أن يكون القول من طالوت لكنه تحمله من نبي الوقت ، وعلى هذا التقدير لا يلزم أن يكون طالوت نبياً ويحتمل أن يكون من قبل نفسه فلا بد من وحي أتاه عن ربه ، وذلك يقتضي أنه مع الملك كان نبياً.
والقول الثاني : أن قائل هذا القول هو النبي المذكور في أول الآية ، والتقدير : فلما فصل طالوت بالجنود قال لهم نبيهم : {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} ونبي ذلك الوقت هو اشمويل عليه السلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 152}
وقال ابن عاشور :
____________
(1) الأولى تفويض علم ذلك إلى الله تعالى.(8/9)
وضمير { قال } راجع إلى ( طالوت ) ، ولا يصح رجوعه إلى نبيئهم لأنه لم يخرج معهم ، وإنما أخبر طالوت عن الله تعالى بأنه مبتليهم ، مع أنه لم يكن نبيئاً ، يوحى إليه : إما إستناداً لإخبار تلقاه من صمويل ، وإما لأنه اجتهد أن يختبرهم بالشرب من النهر لمصلحة رآها في ذلك ، فأخبر عن اجتهاده ، إذ هو حكم الله في شرعهم فأسنده إلى الله ، وهذا من معنى قول علماء أصول الفقه إن المجتهد يصح له أن يقول فيما ظهر له باجتهاده إنه دين الله أو لأنه في شرعهم أن الله أوجب على الجيش طاعة أميرهم فيما يأمرهم به ، وطاعة الملك فيما يراه من مصالحهم ، وكان طالوت قد رأى أن يختبر طاعتهم ومقدار صبرهم بهذه البلوى فجعل البلوى من الله ؛ إذ قد أمرهم بطاعته بها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 496}
فصل في حكمة هذا الابتلاء
قال الفخر :
في حكمة هذا الابتلاء وجهان الأول : قال القاضي : كان مشهوراً من بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة فأراد الله تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميز بها من يصبر على الحرب ممن لا يصبر لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو ، فلما كان هذا هو الصلاح قبل مقاتلة العدو لا جرم قال : {فَإِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ}
الثاني : أنه تعالى ابتلاهم ليتعودوا الصبر على الشدائد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 152}
قال القرطبى :
ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء عُلِم أنه مطيع فيما عدا ذلك ، ومن غلبته شهوته ( في الماء ) وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى ، فرُوي أنهم أتوا النهر وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن ، فلذلك رُخِّص للمطيعين في الغَرْفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليَكْسِروا نزاع النفس في هذه الحال.(8/10)
وبين أن الغَرْفة كافَّةٌ ضررَ العطش عند الحَزَمة الصابرين على شَظَف العيْش الذين هَمُّهم في غير الرفاهية ، كما قال عروة :
وأحْسُوا قَرَاح الماءِ والماءُ باردُ . . .
قلت : ومن هذا المعنى قوله عليه السلام : " حسْب المرء لُقيْمات يُقِمن صلبه " وقال بعض من يتعاطى غوامض المعاني : هذه الآية مثلٌ ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها ، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهِد فيها ، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة ، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة. (1)
قلت : ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر ، لكن معناه صحيح من غير هذا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 251}
وقال ابن عاشور :
تسمية هذا التكليف ابتلاء تقريب للمعنى إلى عقولهم لأن المقصود إظهار الاعتناء بهذا الحكم ، وأن فيه مرضاة الله تعالى على الممتثل ، وغضبه على العاصي ، وأمثال هذه التقريبات في مخاطبات العموم شائعة ، وأكثر كلام كتب بني إسرائيل من هذا القبيل.
والظاهر أن الملك لما علم أنه سائر بهم إلى عدو كثير العدد ، وقوي العهد أراد أن يختبر قوة يقينهم في نصرة الدين ، ومخاطرتهم بأنفسهم وتحملهم المتاعب وعزيمة معاكستهم نفوسهم فقال لهم إنكم ستمرون على نهر ، وهو نهر الأردن ، فلا تشربوا منه فمن شرب منه فليس مني ، ورخص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبل بها ريقه ، وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش ، فإن السير في الحرب يعطش الجيش ، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشاً وشهوة ، ويحتمل أنه أراد إبقاء نشاطهم : لأن المحارب إذا شرب ماء كثيراً بعد التعب ، انحلت عراه ومال إلى الراحة ، وأثقله الماء.
والعرب تعرف ذلك قال طفيل يذكر خيلهم :
فلما شَارَفَتْ أَعلام طي...
وطيٌّ في المَغَار وفي الشعاب
_____________
(1) ذكر هذا الكلام الماوردى فى النكت والعيون حـ 1 صـ 318}(8/11)
سَقَيْنَاهُنَّ من سهل الأداوى...
فمصطبح على عَجَل وآبي
يريد أن الذي مارس الحرب مراراً لم يشرب ؛ لأنه لا يسأم من الركض والجهد ، فإذا كان حاجزاً كان أخفَّ له وأسرعَ ، والغر منهم يشرب لجهله لما يراد منه ، ولأجل هذا رخص لهم في اغتراف غرفة واحدة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 496 ـ 497}
فائدة
قال الفخر :
في النهر أقوال أحدها : وهو قول قتادة والربيع ، أنه نهر بين الأردن وفلسطين والثاني : وهو قول ابن عباس والسدي : أنه نهر فلسطين ، قال القاضي : والتوفيق بين القولين أن النهر الممتد من بلد قد يضاف إلى أحد البلدين.
القول الثالث : وهو الذي رواه صاحب "الكشاف" : أن الوقت كان قيظاً فسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهراً فقال : إن الله مبتليكم بما اقترحتموه من النهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 152 ـ 153}
فائدة
قال الفخر :
قوله : {مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} أي ممتحنكم امتحان العبد كما قال : {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} [ الإنسان : 2 ] ولما كان الابتلاء بين الناس إنما يكون لظهور الشيء ، وثبت أن الله تعالى لا يثبت ، ولا يعاقب على علمه ، إنما يفعل ذلك بظهور الأفعال بين الناس ، وذلك لا يحصل إلا بالتكليف لا جرم سمي التكليف ابتلاء ، وفيه لغتان بلا يبلو ، وابتلى يبتلي ، قال الشاعر :
ولقد بلوتك وابتليت خليفتي.. ولقد كفاك مودتي بتأدب
فجاء باللغتين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 153}
فائدة
قال القرطبى :
استدل من قال إن طالوت كان نبياً بقوله : "إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ" وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم.
ومن قال لم يكن نبياً قال : أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوتُ قومه بهذا ، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميّز الصادق من الكاذب. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 251}(8/12)
قوله تعالى {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى}
قال الفخر :
قوله : {فَلَيْسَ مِنّي} كالزجر ، يعني ليس من أهل ديني وطاعتي ، ونظيره قوله تعالى : {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} ثم قال قبل هذا : {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف} وأيضاً نظيره قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا " أي ليس على ديننا ومذهبنا والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 153}
وقال أبو حيان :
{ فمن شرب منه فليس مني } أي : ليس من أتباعي في هذه الحرب ، ولا أشياعي ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان نحو : "من غشنا فليس منا" ، "ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود" ، أو : ليس بمتصل بي ومتحد معي ، من قولهم : فلان مني كأنه بعضه ، لاختلاطهما واتحادهما قال النابغة :
إذا حاولت في أسد فجوراً . . .
فإني لست منك ولست مني. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 273}
وقال ابن عاشور :
ومعنى قول طالوت "ليس مني" يحتمل أنه أراد الغضب عليه والبعد المعنوي ، ويحتمل أنه أراد أنه يفصله عن الجيش ، فلا يكمل الجهاد معه ، والظاهر الأول لقوله { ومن لم يطعَمْه فإنه مني } لأنه أراد به إظهار مكانة من ترك الشرب من النهر وولائه وقربه ، ولو لم يكن هذا مراده لكان في قوله : { فمن شرب منه فليس مني } غنية عن قوله : ومن لم يطعمه فإنه مني ؛ لأنه إذا كان الشارب مبعداً من الجيش فقد علم أن من لم يشرب هو باقي الجيش. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 497}
فائدة جليلة
قال الفخر :(8/13)
قال أهل اللغة {لَّمْ يَطْعَمْهُ} أي لم يذقه ، وهو من الطعم ، وهو يقع على الطعام والشراب هذا ما قاله أهل اللغة ، وعندي إنما اختير هذا اللفظ لوجهين من الفائدة أحدهما : أن الإنسان إذا عطش جداً ، ثم شرب الماء وأراد وصف ذلك الماء بالطيب واللذة قال : إن هذا الماء كأنه الجلاب ، وكأنه عسل فيصفه بالطعوم اللذيذة ، فقوله : {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} معناه أنه وإن بلغ به العطش إلى حيث يكون ذلك الماء في فمه كالموصوف بهذه الطعوم الطيبة فإنه يجب عليه الاحتراز عنه ، وأن لا يشربه والثاني : أن من جعل الماء في فمه وتمضمض به ثم أخرجه من الفم ، فإنه يصدق عليه أنه ذاقه وطعمه ، ولا يصدق عليه أنه شربه ، فلو قال : ومن لم يشربه فإنه مني كان المنع مقصوراً على الشرب ، أما لما قال : {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} كان المنع حاصلاً في الشرب وفي المضمضة ، ومعلوم أن هذا التكليف أشق ، وأن الممنوع من شرب الماء إذا تمضمض به وجد نوع خفة وراحة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 153}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } يقال : طعِمت الشيء أي ذقته.
وأطعمته الماء أي أذقته ، ولم يقل ومن لم يشربه لأن من عادة العرب إذا كرروا شيئاً أن يكرروه بلفظ آخر ، ولغة القرآن أفصح اللغات ، فلا عِبرة بقدح من يقول : لا يقال طعمت الماء. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 252}
وقال أبو حيان :
{ ومن لم يطعمه فإنه مني } أي : من لم يذقه ، وطعم كل شيء ذوقه ، ومنه التطعم ، يقال : تطعمت منه أي : ذقته ، وتقول العرب لمن لا تميل نفسه إلى مأكول ، تطعم منه يسهل أكله ، قال ابن الأنباري : العرب تقول : أطعمتك الماء تريد أذقتك ، وطعمت الماء أطعمه بمعنى ذقته قال الشاعر :
فإن شئتُ حرمت النساء عليكم . . .
وإن شئتُ لم أطعم نقاخاً ولا برداً
النقاخ : العذب ، والبرد : النوم ، ويقال : ما ذقت غماضاً.
وفي حديث أبي ذر.
"في ماء زمزم.(8/14)
طعام طعم" وفي الحديث : " ليس لنا طعام إلاَّ الأسودين : التمر والماء " والطعم يقع على الطعام والشراب ، واختير هذا اللفظ لأنه أبلغ ، لأن نفي الطعم يستلزم نفي الشرب ، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم ، لأن الطعم ينطلق على الذوق ، والمنع من الطعم أشق في التكليف من المنع من الشرب ، إذ يحصل بإلقائه في الفم ، وإن لم يشربه ، نوع راحة.
وفي قوله : { ومن لم يطعمه } دلالة على أن الماء طعام ، وقد تقدّم أيضاً ما يدل على ذلك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 273}
وقال الخليل بن أحمد :
الطَّعامُ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُؤْكَلُ ، وكذلك الشّراب لكلّ ما يُشْرَبُ.
والعالي في كلامِ العَرَب : أنّ الطّعام هو البُرُّ خاصّة. ويقال : اسم له وللخُبْزِ المخبوز ، ثم يُسَمَّى بالطعام ما قرب منه ، وصار في حدّه ، وكلُّ ما يَسُدُّ جوعاً فهو طَعام. قال تعالى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ مَتاعاً لكُمْ .
فسمَّى الصّيدَ طَعاماً ، لأنّه يَسُدُّ الجوعَ ، ويُجْمَعُ : أطْعِمَة وأَطْعِمات.
ورجل طاعِمٌ : حسن الحال في المَطْعَم. قال :
فَاقْعُدْ فإنّكَ أنْتَ الطّاعم الكاسي
وطَعِمَ يَطْعَمُ طعاماً ، هكذا قياسُه.
وقول العرب : مُرُّ الطَّعْمِ وحُلْو الطَّعْمِ معناه الذّوق ، لأنّكَ تقول : اطْعَمْهُ ، أي : ذُقْهُ ، ولا تُريد به امضَغْه كما يُمْضَغ الخبز ، وهكذا في القرآن : " ومَنْ لم يَطْعَمْهُ فإِنّه منّي " .
فجعل ذوق الشّراب طَعْماً. نهاهم أن يأخذوا منه إلا غَرْفَة وكان فيها ريُّ الرّجُلِ وريُّ دابَّتِهِ. أ هـ {العين حـ 2 صـ 25 ـ 26}
فائدة
قال الفخر :
إنه تعالى قال في أول الآية : {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي} ثم قال بعده : {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} وكان ينبغي أن يقال : ومن لم يطعم منه ليكون آخر الآية مطابقاً أولها ، إلا أنه ترك ذلك اللفظ ، واختير هذا لفائدة ، وهي أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث ؟ قال أبو حنيفة لا يحنث إلا إذا كرع من النهر ، حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث ، لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربه متصلاً بذلك الشيء ، وهذا لا يحصل إلا بأن يشرب من النهر ، وقال الباقون إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث ، لأن ذلك وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز معروف مشهور.
إذا عرفت هذا فنقول : إن قوله : {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي} ظاهره أن يكون النهي مقصوراً على الشرب من النهر ، حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلاً تحت النهي ، فلما كان هذا الاحتمال قائماً في اللفظ الأول ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام ، فقال : {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} أضاف الطعم والشرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الإبهام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 153 ـ 154}
فائدة أخرى
قال القرطبى :(8/15)
استدل علماؤنا بهذا على القول بسدّ الذرائع ؛ لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم ؛ ولهذه المبالغة لم يأت الكلام "ومن لم يشرب منه". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 252}
قال أبو حيان :
واستثنى من الطعم منه الاغتراف ، فحظرُ الشرب باقٍ ، ودل على أن الاغتراف ليس بشرب ، وأتى بقوله : { ومن لم } معدّى لضمير الماء ، لا إلى النهر ، ليزيل ذلك الإبهام ، وليعلم أن المقصود هو المنع من وصولهم إلى الماء من النهر ، بمباشرة الشرب منه ، أو بواسطة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 274}
وقال ابن عاشور :
والمقصود من هذا الاستثناء الرخصة للمضطر في بلال ريقه ، ولم تذكر كتب اليهود هذا الأمر بترك شرب الماء من النهر حين مرور الجيش في قصة شاول ، وإنما ذكرت قريباً منه إذ قال في سفر صمويل لما ذكر أشد وقعة بين اليهود وأهل فلسطين : "وضنك رجال إسرائيل في ذلك اليوم ؛ لأن شاول حلف القوم قائلاً ملعون من يأكل خبزاً إلى المساء حتى أنتقم من أعدائي" وذكر في سفر القضاة في الإصحاح السابع مثل واقعة النهر ، في حرب جَدعون قاضي إسرائيل للمديانيين ، والظاهر أن الواقعة تكررت لأن مثلها يتكرر فأهملتها كتبهم في أخبار شاول. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 497}
فائدة
قال القرطبى :
قال ابن العربيّ قال أبو حنيفة : من قال إن شرِب عبدي فلان من الفُرَات فهو حُرّ فلا يعتق إلا أن يكْرَع فيه ، والكرع أن يشرب الرجل بِفيه من النهر ، فإن شرب بيده أو اغترف بالإناء منه لم يعتق ؛ لأن الله سبحانه فرّق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد.
قال : وهذا فاسد ؛ لأن شرب الماء يطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غَرْفٍ باليد أو كَرْع بالفم انطلاقاً واحداً ، فإذا وُجِد الشّرب المحلوفُ عليه لغة وحقيقة حنَث فاعلمه.
قلت : قول أبي حنيفة أصح ، فإن أهل اللغة فرّقوا بينهما كما فرّق الكتاب والسنة.(8/16)
قال الجوهري وغيره : وكَرَع في الماء كُروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء ، وفيه لغة أُخرى "كرِع" بكسر الراء ( يكرع ) كَرَعا.
والكَرَع : ماء السماء يكرع فيه.
وأما السنة فذكر ابن ماجه في سننه : حدّثنا واصل بن عبد الأعلى حدّثنا ابن فُضيل عن ليث عن سعيد بن عامر عن ابن عمر قال : مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تكْرَعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها فإنه ليس إناء أطيب من اليد " وهذا نص.
وليث بن أبي سليم خرّج له مسلم وقد ضُعِّف. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 253}
قوله : {إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ}
قال الفخر :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {غَرْفَةً} بفتح الغين ، وكذلك يعقوب وخلف ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم ، قال أهل اللغة الغرفة بالضم الشيء القليل الذي يحصل في الكف ، والغرفة بالفتح الفعل ، وهو الاغتراف مرة واحدة ، ومثله الأكلة والأكلة ، يقال : فلان يأكل في النهار أكله واحدة ، وما أكلت عندهم إلا أكلة بالضم أي شيئاً قليلاً كاللقمة ، ويقال : الحزة من اللحم بالضم للقطعة اليسيرة منه ، وحززت اللحم حزة أي قطعته مرة واحدة ، ونحوه : الخطوة والخطوة بالضم مقدار ما بين القدمين ، والخطوة أن يخطو مرة واحدة ، وقال المبرد : غرفة بالفتح مصدر يقع على قليل ما في يده وكثيره والغرفة بالضم اسم ملء الكف أو ما اغترف به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 154}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ } الاغتراف : الأخذ من الشيء باليد وبآلة ، ومنه المِغْرفَة ، والغَرْف مثل الاغتراف.
وقرىء "غَرْفة" بفتح الغين وهي مصدر ، ولم يقل اغترافة ؛ لأن معنى الغَرْف والاغتراف واحد.
والغَرفة المرة الواحدة.
وقرىء "غُرْفَة" بضم الغين وهي الشيء المُغْتَرَفُ.(8/17)
وقال بعض المفسرين : الغَرْفة بالكفِّ الواحد والغُرْفة بالكفَّيْن.
وقال بعضهم : كلاهما لغتان بمعنى واحد.
وقال عليّ رضي الله عنه : الأكُفّ أنْظَفُ الآنية ، ومنه قول الحسن :
لا يَدلِفون إلى ماء بآنية . . .
إلا اغترافاً من الغُدْران بالرّاح
الدلِيف : المشي الرويد.
قلت : ومن أراد الحلال الصِّرف في هذه الأزمان دون شبهة ولا امتراء ولا ارتياب فليشرب بكفَّيْه الماء من العيون والأنهار المسخَّرة بالجَرَيَان آناء الليل و( آناء ) النهار ، مُبْتغياً بذلك من الله كسب الحسنات ووضع الأوزار واللُّحوق بالأئمة الأبرار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى بن مريم عليهما السّلام إذ طرح القدح فقال أفّ هذا مع الدنيا " خرّجه ابن ماجه من حديث ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكَرْع ، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة ، وقال : " لا يلِغ أحدكم كما يلِغ الكلب ولا يشرب باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخِط الله عليهم ولا يشرب بالليل في إناء حتى يحركه إلا أن يكون إناء مُخَمَّراً ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء ".
الحديث كما تقدّم ، وفي إسناده بَقِيّة بن الوليد ، قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به.
وقال أبو زرعة : إذا حدّث بَقيّة عن الثقات فهو ثقة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 254}
وقال أبو حيان ـ وقد أجاد ـ :(8/18)
وقرأ الحرميان ، وأبو عمر ، و: غرفة ، بفتح الغين وقرأ الباقون بضمها ، فقيل : هما بمعنى المصدر ، وقيل : هما بمعنى المغروف ، وقيل : الغرفة بالفتح المرة ، وبالضم ما تحمله اليد ، فإذا كان مصدراً فهو على غير الصدر ، إذ لو جاء على الصدر لقال : اغترافة ، ويكون مفعول اغترف محذوفاً ، أي : ماء ، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولاً به ، قال ابن عطية : وكان أبو عليّ يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضاً : أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف. انتهى.
وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي ، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية ، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة. (1) أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 275}
فائدة
قال الفخر :
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ، ويحمل منها.
وأقول : هذا الكلام يحتمل وجهين
أحدهما : أنه كان مأذوناً أن يأخذ من الماء ما شاءه مرة واحدة ، بغرفة واحدة ، بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه وخدمه ، ولأن يحمله مع نفسه
والثاني : أنه كان يأخذ القليل إلا أن الله تعالى يجعل البركة فيه حتى يكفي لكل هؤلاء ، وهذا كان معجزة لنبي ذلك الزمان ، كما أنه تعالى كان يروي الخلق العظيم من الماء القليل في زمان محمد عليه الصلاة والسلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 154}
وقال أبو حيان :
_______________
(1) هذه قاعدة جليلة تكثر الحاجة إليها فكثيرا ما نرى بعض المفسرين يفاضلون ويرجحون بين القراءات المتواترة وكلها ثابت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يجوز تضعيف شىء منها بحال. والله أعلم.(8/19)
قال بعض المفسرين : لم يرد غرفة الكف ، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك ، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به جنود طالوت ابتلاء عظيم ، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر والقيظة ، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده ، فأين يصل منه ذلك ؟ وهذا أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت ، مع إمكان ذلك فيه ، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 275}
وقال القرطبى :
قال ابن عباس : شرِبوا على قدر يقينهم ، فشرِب الكفار شرب الهِيمِ وشرِب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفاً وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً وأخذ بعضهم الغُرْفة ، فأما من شرب فلم يَرْوَ ، بل برّح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسُنَت حاله وكان أجْلَد ممن أخذ الغُرفة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 254}
قوله تعالى : {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبي والأعمش {إِلاَّ قَلِيلٌ} قال صاحب "الكشاف" : وهذا بسبب ميلهم إلى المعنى ، وإعراضهم عن اللفظ ، لأن قوله : {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} في معنى : فلم يطيعوه ، لا جرم حمل عليه كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم.(8/20)
المسألة الثانية : قد ذكرنا أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز الصديق عن الزنديق ، والموافق عن المخالف ، فلما ذكر الله تعالى أن الذين يكونون أهلاً لهذا القتال هم الذين لا يشربون من هذا النهر ، وأن كل من شرب منه فإنه لا يكون مأذوناً في هذا القتال ، وكان في قلبهم نفرة شديدة عن ذلك القتال ، لا جرم أقدموا على الشرب ، فتميز الموافق عن المخالف ، والصديق عن العدو ، ويروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد ، وقع أكثرهم في النهر ، وأكثروا الشرب ، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى ، فلم يزيدوا على الاغتراف ، وأما الذين شربوا وخالفوا أمر الله فاسودت شفاههم وغلبهم العطش ولم يرووا ، وبقوا على شط النهر ، وجبنوا على لقاء العدو ، وأما الذين أطاعوا أمر الله تعالى ، فقوي قلبهم وصح إيمانهم ، وعبروا النهر سالمين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 154 ـ 155}
قال ابن عاشور :
وقد دل قوله : { فشربوا منه } على قِلة صبرهم ، وأنهم ليسوا بأهل لمزاولة الحروب ، ولذلك لم يلبثوا أن صرحوا بعدَ مجاوزة النهر فقالوا : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } فيحتمل أن ذلك قالوه لما رأوا جنود الأعداء ، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون قوة العدو ، وكانوا يسرون الخوف ، فلما اقترب الجيشان ، لم يستطيعوا كتمان ما بهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 498}
فصل
قال الفخر :
القليل الذي لم يشرب قيل : إنه أربعة آلاف ، والمشهور وهو قول الحسن أنهم كانوا على عدد أهل بدر ثلثمائة وبضعة عشر وهم المؤمنون ، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن ، قال البراء بن عازب : وكنا يومئذٍ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 155}(8/21)
قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما ذكر فتنتهم بالنهر أتبعه فتنة اللقاء ببحر الجيش وما فيه من عظيم الخطر المزلزل للقلوب حثاً على سؤال العافية وتعريفاً بعظيم رتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم يوم عرض نفسه الشريفة على أهل الطائف ومسه منهم من عظيم الأذى ما مسه : إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ولكن هي أوسع لي! فقال سبحانه وتعالى : {فلما جاوزه} أي النهر من غير شرب ، من المجاوزة مفاعلة من الجواز وهو العبور من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى {هو والذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان وجاوزوا {معه} وتراءت الفئتان {قالوا} أي معظمهم.
قال الحرالي : رد الضمير مرداً عاماً إيذاناً بكثرة الذين اغترفوا وقلة الذين لم يطعموا كما آذن ضمير شربوا بكثرة الذين شربوا منه - انتهى.
{لا طاقة} مما منه الطوق وهو ما استقل به الفاعل ولم يعجزه {لنا اليوم} أي على ما نحن فيه من الحال {بجالوت وجنوده} لما هم فيه من القوة والكثرة.
قال الحرالي : ففيه من نحو قولهم {ولم يؤت سعة من المال} اعتماداً على أن النصر بعدة مال أو قوة ، وليس إلا بنصر الله ، ثم قال : فإذا نوظر هذا الإنباء منهم والطلب أي كما يأتي في {ربنا أفرغ} بما تولى الله من أمر هذه الأمة في جيشهم الممثول لهذا الجيش في سورة الأنفال من نحو قوله {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} [ الأنفال : 11 ] - الآيات ، علم عظيم فضل الله على هذه الأمة واستشعر بما يكون لها في خاتمتها مما هو أعظم نبأ وأكمل عياناً فلله الحمد على ما أعظم من فضله ولطفه - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 478 ـ 479}
قال ابن عاشور :(8/22)
وفي الآية انتقال بديع إلى ذكر جند جالوت والتصريح باسمه ، وهو قائد من قواد الفلسطينيين اسمه في كتب اليهود جُلْيَات كان طوله ستة أذرع وشبراً ، وكان مسلحاً مدرعاً ، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل ، فكان إذا خرج للصف عرض عليهم مبارزته وعيرهم بجنبهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 498}
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ مَعَهُ }.
ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان ، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت ، بل المراد : أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ " مع " لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 5 ] واليسر لا يكون مع العسر. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 286}
فصل
قال الفخر :
لا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع الله تعالى في باب الشرب من النهر ، وإنما اختلفوا في أن رجوعهم إلى بلدهم كان قبل عبور النهر أو بعده ، وفيه قولان الأول : أنه ما عبر معه إلا المطيع ، واحتج هذا القائل بأمور الأول : أن الله تعالى قال : {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه} فالمراد بقوله : {الذين ءامَنُواْ مَعَهُ} الذين وافقوه في تلك الطاعة ، فلما ذكر الله تعالى كل العسكر ، ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر ، علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين.
الحجة الثانية : الآية المتقدمة وهي قوله تعالى حكاية عن طالوت {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي} أي ليس من أصحابي في سفري ، كالرجل الذي يقول لغيره : لست أنت منا في هذا الأمر ، قال : ومعنى {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} أي ليتسببوا به إلى الرجوع ، وذلك لفساد دينهم وقلبهم.(8/23)
الحجة الثالثة : أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي والمتمرد ، حتى يصرفهم عن نفسه ويردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو ، وإذا كان المقصود من هذا الابتلاء ليس إلا هذا المعنى كان الظاهر أنه صرفهم عن نفسه في ذلك الوقت وما أذن لهم في عبور النهر.
القول الثاني : أنه استصحب كل جنوده وكلهم عبروا النهر واعتمدوا في إثبات هذا القول على قوله تعالى حكاية عن قوم طالوت {قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه ، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق ، وهذه الحجة ضعيفة ، وبيان ضعفها من وجوه أحدها : يحتمل أن يقال : إن طالوت لما عزم على مجاوزة النهر وتخلف الأكثرون ذكر المتخلفون أن عذرنا في هذا التخلف أنه لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فنحن معذورون في هذا التخلف ، أقصى ما في الباب أن يقال : إن الفاء في قوله : {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} تقتضي أن يكون قولهم : {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ} إنما وقع بعد المجاوزة ، إلا أنا نقول يحتمل أن يقال : إن طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه ، سألهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك ، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع من المكالمة ، ويحتمل أن يكون المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة ، وعلى هذا التقدير فالإشكال أيضاً زائل.
والجواب الثاني : أنه يحتمل أن يقال : المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين : بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالباً على طبعه ، ومنهم من كان شجاعاً قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى.
فالقسم الأول : هم الذين قالوا : {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم }.
والقسم الثاني : هم الذين أجابوا بقولهم : {كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً }.(8/24)
والجواب الثالث : يحتمل أن يقال : القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالوا : {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} فلا بد أن نوطن أنفسنا على القتل ، لأنه لا سبيل إلى الفرار من أمر الله ، والقسم الثاني قالوا : لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر ، فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة ، وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة ، وعلى هذا التقدير لا يكون في واحد من القولين ما ينقض الآخر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 155 ـ 156}
قوله تعالى : { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما أخبر عنهم بهذا القول نبه على أنه لا ينبغي أن يصدر ممن يظن أن أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام ولا ينقص بالجرأة والإقدام وأنه يلقى الله فيجازيه على عمله وأن النصر من الله لا بالقوة والعدد فقال : {قال الذين يظنون} أي يعلمون ولكنه عبر بالظن لما ذكر {أنهم ملاقوا الله} أي الذي له الجلال والإكرام إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من الله والرجاء له الظن لأنه يوجب فرار العقل مما يظن أنه يكرهه سبحانه وتعالى إنقاذاً لنفسه من الهلاك بذلك كما أسرف هؤلاء في الشرب لظن الهلاك بعدمه ورجعوا لظن الهلاك باللقاء ؛ ويجوز أن يكون الظن على بابه ويأول اللقاء بالحالة الحسنة {كم من فئة قليلة} كما كان في هذه الأمة في يوم بدر {غلبت فئة كثيرة} ثم نبه على أن سبب النصر الطاعة والذكر لله بقوله : {بإذن الله} أي بتمكين الذي لا كفوء له ، فلا ينبغي لمن علم ذلك أن يفتر عن ذكره ويرضى بقضائه.
ثم بين أن ملاك ذلك كله الصبر بقوله : {والله} أي الملك الأعظم {مع الصابرين} ولا يخذل من كان معه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 479}
قال أبو السعود :(8/25)
{ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله } قيل : أي الخُلَّصُ منهم الذين يوقنون بلقاءِ الله تعالى بالبعث ويتوقّعون ثوابَه ، وإفرادُهم بذلك الوصف لا ينافي إيمانَ الباقين فإن درجاتِ المؤمنين في التيقن والتوقع مُتفاوتةٌ أو الذين يعلمون أنهم يُستشهدون عما قريب فيلقَوْن الله تعالى ، وقيل : الموصولُ عبارةٌ عن المؤمنين كافةً والضميرُ في قالوا للمنخذِلين عنهم كأنهم قالوه اعتذاراً عن التخلُّف والنهرُ بينهما. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 243}
سؤال :
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} ففيه سؤال ، وهو أنه تعالى لم جعلهم ظانين ولم يجعلهم حازمين ؟ .
وجوابه : أن السبب فيه أمور
الأول : وهو قول قتادة : أن المراد من لقاء الله الموت ، قال عليه الصلاة والسلام : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " وهؤلاء المؤمنون لما وطنوا أنفسهم على القتل ، وغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت ، لا جرم قيل في صفتهم : إنهم يظنون أنهم ملاقوا الله
الثاني : {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} أي ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك لأن أحداً لا يعلم عاقبة أمره ، فلا بد أن يكون ظاناً راجياً وإن بلغ في الطاعة أبلغ الأمر ، إلا من أخبر الله بعاقبة أمره ، وهذا قول أبي مسلم وهو حسن.
الوجه الثالث : أن يكون المعنى : قال الذين يظنون أنهم ملاقوا طاعة الله ، وذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون قاطعاً بأن هذا العمل الذي عمله طاعة ، لأنه ربما أتى فيه بشيء من الرياء والسمعة ، ولا يكون بنية خالصة فحيئذٍ لا يكون الفعل طاعة ، إنما الممكن فيه أن يظن أنه أتى به على نعت الطاعة والإخلاص.(8/26)
الوجه الرابع : أنا ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أن المراد بالسكينة على قول بعض المفسرين أنه كان في التابوت كتب إلهية نازلة على الأنبياء المتقدمين ، دالة على حصول النصر والظفر لطالوت وجنوده ، ولكنه ما كان في تلك الكتب أن النصر والظفر يحصل في المرة الأولى أو بعدها ، فقوله : {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وعد الله بالظفر ، وإنما جعله ظناً لا يقيناً لأن حصوله في الجملة وإن كان قطعاً إلا أن حصوله في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل حسن الظن.
الوجه الخامس : قال كثير من المفسرين : المراد بقوله : {يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} أنهم يعلمون ويوقنون ، إلا أنه أطلق لفظ الظن على اليقين على سبيل المجاز لما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكد الاعتقاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 156 ـ 157}
وقال القرطبى :
ويجوز أن يكون شَكّاً لا علماً ، أي قال الذين يتوَهّمون أنهم يُقْتلون مع طالوت فيلقون الله شهداء ، فوقع الشك في القتل. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 255}
قوله تعالى : {كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}
قال الفخر :
أما قوله : {كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}
المراد منه تقوية قلوب الذين قالوا : {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} والمعنى أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي ، والنصر السماوي ، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة ، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 157}
وقال القرطبى ـ ولله دره ـ :
وفي قولهم رضي الله عنهم : "كم من فئة قليلة" الآية ، تحريضٌ على القتال واستشعارٌ للصبر واقتداءٌ بمن صدّق ربه.(8/27)
قلت : هكذا يجب علينا نحن أن نفعل ؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدّام اليسير من العدوّ كما شاهدناه غير مرة ، وذلك بما كسبت أيدينا! وفي البخاريّ : وقال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم.
وفيه مُسْند أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم " فالأعمال فاسدة والضعفاء مُهْمَلون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة! قال الله تعالى : { اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله } [ آل عمران : 200 ] وقال : { وَعَلَى الله فتوكلوا } [ المائدة : 23 ] وقال : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] وقال : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } [ الحج : 40 ] وقال : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } [ الأنفال : 45 ].
فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحلَّ بنا! بل لم يبق من الإسلام إلى ذكره ، ولا من الدِّين إلاّ رَسْمُه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدوّ شرقاً وغرباً براً وبحراً ، وعَمّت الفتن وعظُمت المحَن ولا عاصم إلا من رحِم!. (1) أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 255}
________________
(1) رحم الله الإمام القرطبى فكأنه كان ينظر من شرفات الغيب بهذا الكلام الذى يجسد واقعنا المر وما آلت إليه أحوال الأمة الممزقة. وحسبنا الله ونعم الوكيل.(8/28)
قال أبو السعود :
{ كَم مّن فِئَةٍ } أي فِرْقة وجماعة من الناس من فأَوْتُ رأسَه إذا شققتها أو من فاء إليه إذا رجَع فوزنُها على الأول فِعةٌ وعلى الثاني فِلَةٌ { قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً } وكم خبرية كانت أو استفهامية مفيدةٌ للتكثير وهي في حيز الرفعِ بالابتداء خبرُها غلبتْ أي كثيرٌ من الفئات القليلةِ غلبت الفئاتِ الكثيرةَ { بِإِذُنِ الله } أي بحُكمه وتيسيرِه فإن دورانَ كافةِ الأمور على مشيئته تعالى فلا يذِلُّ من نصرَه وإن قل عددُه ولا يعِزُّ مَنْ خَذله وإن كثُرت أسبابُه وعُددُه وقد روُعيَ في الجواب نُكتةٌ بديعة حيث لم يقُلْ أطاقت بفئة كثيرةٍ حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغةً في رد مقالتِهم وتسكينِ قلوبهم ، وهذا كما ترى جواب ناشىء من كمال ثقتِهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاءِ الله تعالى بالبعث لا سيما بالاستشهاد فإن العلمَ به ربما يورِثُ اليأسَ من الغَلَبة ولا لتوقُّع ثوابِه تعالى ولا ريب في أن ما ذُكر في حيز الصلةِ ينبغي أن يكونَ مداراً للحكم الواردِ على الموصول فلا أقلَّ من أن يكون وصفاً ملائماً له ، فلعل المرادَ بلقائه تعالى لقاءُ نصرِه وتأييدُه عُبر عنه بذلك مبالغةً كما عُبر عن مقارَنةِ نصرِه تعالى لمعيَّته سبحانه حيث قيل : { والله مَعَ الصابرين } فإن المرادَ به معيّةُ نصرِه وتوفيقِه حتماً ، وحملُها على المعية بالإثابة كما فعل يأباه أنهم إنما قالوه تتميماً لجوابهم وتأييداً له بطريق الاعتراضِ التذييليِّ تشجيعاً لأصحابهم وتثبيتاً لهم على الصبر المؤدي إلى الغَلَبة ، ولا تعلّقَ له بما ذكر من المعية بالإثابة قطعاً وكذا الحالُ إذا جُعل ذلك ابتداءَ كلامٍ من جهة الله تعالى جيء به تقريراً لكلامهم ، والمعنى قال الذين يظنون أو يعلمون من جهة النبي أو من جهة التابوتِ والسكينة أنهم ملاقوا نصرِ الله العزيزِ : كم من فئةٍ قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى فنحن أيضاً نغلِبُ(8/29)
جالوتَ وجنودَه ، وإيرادُ خبرِ أن اسماً مع أن اللقاءَ مستقبلٌ للدَلالة على تقرره وتحققه. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 243 ـ 244}
فائدة جليلة
قال أبو حيان :
وفي هذه الآية دليل على جواز قتال الجمع القليل للجمع الكثير ، وإن كانوا أضعاف أضعافهم ، إذا علموا أن في ذلك نكاية لهم ، وأما جواز الفرار من الجمع الكثير إذا زادوا عن ضعفهم فسيأتي بيانه في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 277}
قوله تعالى {والله مَعَ الصابرين}
قال الفخر :
قوله : {والله مَعَ الصابرين} فلا شبهة أن المراد المعونة والنصرة ، ثم يحتمل أن يكون هذا قولاً للذين قالوا : {كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} ويحتمل أن يكون قولاً من الله تعالى ، وإن كان الأول أظهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 157}
وقال أبو حيان :
{ والله مع الصابرين } ، تحريض على الصبر في القتال ، فإن الله مع من صبر لنصرة دينه ، ينصره ويعينه ويؤيده ، ويحتمل أن يكون من تمام كلامهم ، ويحتمل أن يكون استئنافاً من الله ، قاله القفال. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 277}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ }.
الإشارة من هذه الآية أن الله سبحانه ابتلى الخَلْق بصحبة الخلْق وبالدنيا وبالنَّفس ، ومن كانت صحبته مع هذه الأشياء على حدِّ الاضطرار بمقدار القوام ، وما لا بد منه نجا وسَلِمَ ، ومن جاوز حد الاضطرار وانبسط في صحبته مع شيء من ذلك من الدنيا والنفس والخلْق بموجب الشهادة والاختيار - فليس من الله في شيء إنْ كان ارتكاب محظور ، وليس من هذه الطريق في شيء إن كان على جهة الفضيلة وماله منه بُدٌّ.
ثم قال جلّ ذكره : { فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ }.(8/30)
كذلك الخواص في كل وقت يقل عددهم ولكن يجل قدرهم.
قوله جلّ ذكره : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ }.
فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فَدَاخَلَهم شيء من رعب البشرية ، فربط الله على قلوبهم بما ذكَرهم من نصرة الحق سبحانه لأوليائه إذا شاء.
قوله جلّ ذكره : { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }.
لا بهم ولكن بإذن الله ، بمشيئته وعونه ونصرته ، والله مع الصابرين بالنصرة والتأييد والقوة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 193 ـ 194}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ... }.
أضمر ابن عطية هنا الجواب فقال : التقدير ، فاتفق بنو اسرائيل على أن طالوت ملك وأذعنوا وتهيّؤوا لغزوهم عدوهم فلما فصل طالوت بالجنود ( تعنتوا ).
قال ابن عرفة : ترك ( إضماره ) سبب الجواب وحقه إن كان يضمر شيئين : الجواب وسبب الجواب ، ويقول : التقدير فلما أتاهم بآية ملكه وفصل بالجنود تعنتوا.
قال ابن عرفة : وعطفه بالفاء لأنه سبب ظاهر كما تقول : جاء الغيم فلما نزل المطر كان كذا ، وتقول أيضا : قام زيد ولما نزل المطر قعد فهذا ليس بسبب.
قال ابن عرفة : وإنما قال : " بِالجُنُودِ " ولم يقل : بجنوده لما اقتضت الآية من أن أكثرهم تعنتوا عليه وخرجوا عن طاعته فليسوا بجنوده ، وإنما قال : " مُبْتَلِيكُمْ " فعبر بالاسم دون الفعل تحقيقا لوقوع ذلك في نفس الأمر وثبوته في علم الله تعالى أزلا ، وأنه لا بد منه.
وعلمه بذلك ، إما بالوحي أو بإخبار من النبي.
قوله تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي... }.(8/31)
فسره الشيخ الزمخشري : بالكرع مع أنه ينفي فيه المفهوم لأن الشرب منه يكون كرعا ويكون بإناء تملأ منه أو باليد.
وقوله " فَلَيْسَ مِنِّي " فسره إن أراد نفيه حقيقة عنه فيكون مجازا لأنه معلوم أنه ليس منه ، فعبر بنفيه عنه نفيه عن ملته ، وإن أراد نفيه عن اتباعه أي فليس من أتباعي وجندي فيكون على إضمار مضاف فيتعارض المجاز والإضمار.
قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني }.
قال ابن عرفة : أكد الثّاني بـ ( إن ) ، ولم يقل في الأول " فمن شرب منه فإنه ليس منّي " ؟ قال : والجواب بأنه إنّما لم يؤكد الأول لأن سببه أكثر ( في ) الوقوع ، وأكد الثاني لأن سببه أقل في الوقوع فأكده حضا على المبادرة إلى امتثال سببه والعمل بمقتضاه.
قال : واحتج به بعضهم على أنّ الماء طعام وهو قول ابن نافع نقله ابن يونس في كتاب السلم الثالث.
وكان القاضي أبو عبد الله بن عبد السلام يحكي لنا عن الفقيه القاضي أبي القاسم بن علي بن البراء أن رجلا سأله وهو راكب على بغلته عمن حلف بالله لا يتناول طعاما ؟ فقال له : لا يأكل ولا يشرب الماء لأنه طعام واحتجّ بهذه الآية.
ورده ابن عرفة بوجهين :
الأول منهما : أن الآية اقتضت ذلك لغة ، وأما الشرع فلا يسميه طعاما.
الثاني : أنه نفى في الأول الشرب وفي الثاني الطعمية ، والطعمية أوائل الشرب ، ولذلك ذكروا في الصيام أن الصّائم إذا استطعم الماء وبصقه فإنه لا يفسد صومه ، فلما تعلق النفي بأوائل الشرب قال : " فَإِنَّهُ مِنِّي " ، فأكد نسبته إليه بـ ( إنّ ) أي من اتّصف بكمال البعد عنه فهو موصوف بكمال القرب مني وبقي الواسطة مسكوتا عنه وهو الذي شرب بالإناء على تفسير الزمخشري فإما أن ذنبه أقل من ذنب من كرع أو مُسَاوٍ.
قال ابن عرفة : وَ ( لَمْ ) هنا بمعنى ( لما ).
قوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ... }.(8/32)
قال أبو حيان : يستثني من الجملة ( الأولى وهي ) { فَمَن شَرِبَ }. زاد أبو البقاء أو مِنْ " مَنْ " الثانية وهي { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ }. وتعقب بأنّه لو كان من " مَن " الثانية للزم أن يكون من اغترف غرفة واحدة بيده ليس منه ( مع أنّه أبيحت لهم الغرفة ) الواحدة باليد لأن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات.
قال ابن عرفة : هذا لا يتعين بل يحتمل عندي استثناؤه من الجملتين فعلى أنّه مستثنى من الأولى يكون المراد نفيه عن الدخول في حكم ليس منِّي أي هو ( منه ) وعلى أنّه مستثنى من قوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } يكون ( النَّاس ) على ثلاثة أقسام :
شارب بفيه فليس منه ، وشارب منه بيده وهذا يقال فيه ( هو ) منه فقط ، ومن لم يشرب منه شيئا يقال فيه : إنَّه منه مجاله أبلغ ، فاستثناؤه من الأخص أي إلا من اغترف غرفة بيده فليس محكوما عليه بأنّه " منّي " أي ليس متصفا بكمال القرب مني.
قيل لابن عرفة : يلزمك أن يكون {ليس منّي} قدرا مشتركا بين الحرام والمباح ؟
فقال : لم نخرجه ( منه ) وإنّما أخرجتهم ، من قوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } فإذا خرج من هذا كان منفيا عنه أي يكون منه ( وقد ) قال : أول الآية { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي }. فيتعين أنّ النفي هنا ( نفي ) أخص باعتبار ترك الأمر المستحب بفعل الأمر المباح ، فالمستحب ترك الشرب ، والمباح الشرب باليد ، والحرام الكرع فيه بالفم.
قال ابن عرفة : وغرفة بالضم والفتح ، فالفتح هو الماء والضم الفعل.
( قال ابن عرفة ) : وعلى أنها الفعل يكون المفعول مقدرا أي إلا من اغترف غرفة ماء.
قال ( ابن عرفة ) : وفائدة التأكيد بالمصدر على هذا تحقيقا للرخصة في ذلك الفعل وتأكيدَ ( إباحتها ) خشية أن يتوهم قصر ذلك على أدنى شيء من الماء المأخوذ باليد فأكده تنبيها على إباحتة الغرفة الواحدة بكمالها.(8/33)
قوله تعالى : { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ الله }.
قال ابن عرفة : إن أريد الملاقاة بالإطلاق فهي بمعنى العلم وإن أريد الملاقاة حينئذ فالظن على بابه لأن الإنسان لا علم له بزمن موته.
قال ( ابن عرفة ) : وعبر عنهم بهذا إشارة إلى ما قاله بعضهم في رسالة : " من أحب الممات حيي ومن أحب الحياة مات ".
قوله تعالى : { بِإِذْنِ الله }.
قال ابن عرفة : قال ابن عطية : إذنُ الله هنا تمكينه وعلمه بمجموع ذلك الإذن.
( ابن عرفة : كذا يقول في كل موضع ) والصواب أنّ معناه بقدرة الله وفضله وإرادته.
قال ابن عرفة : وهذا إما أن بعضهم قاله لبعض أو قالوه كلهم لأنفسهم ( تشجيعا ) لها وتوطينا على الصبر على القتال والهجوم عليه.
قوله تعالى : { والله مَعَ الصابرين }.
قالوا : هذا إما من كلامهم أو من كلام الله تعالى.
ابن عرفة : ( والصواب أنه من كلامهم لأن فيه تشجيعا لأنفسهم وحضا لها على المقاتلة وأما إن كان من قوله الله تعالى ) خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم فهو بعد انفصال تلك القضية فلا مناسبة لها ، انتهى. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 322 ـ 323}
موعظة
قال بعض الحكماء : الدنيا كنهر طالوت ، لا ينجو منها إلا من لم يشربْ أو اغترف غرفةً بيده ، فمن أخذ منها قَدْرَ الضرورةِ كَفَتْه ، ونَشَطَ لعبادة مولاه ، ومن أخذ فوق الحاجة حُبس في سجنها ، وكان أسيراً في يدها.
وقال بعضهم : طالبُ الدنيا كشارب ماءِ البحر ، كلما زاد شربه ازداد عطشه. ه. وقال صلى الله عليه وسلم : " من أُشرب قلبه حُبَ الدنيا التاط منها بثلاث : بشغل لا ينفد عناه ، وأمل لا يبلغ منتهاه ، وحرص لا يدرك مداه " وقال عيسى عليه السلام : الدنيا مزرعة لإبليس ، وأهلها حراث له. أ هـ.
وقال عليّ رضي الله عنه : الدنيا كالحية : لَيِّن مسها ، قاتل سمها ، فكن أحذر ما تكونُ منها ، أَسَرَّ ما تكون بها ؛ فإن من سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش.(8/34)
وقال عليه الصلاة والسلام : " مِنْ هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها " وقال سيدنا عليّ - كرّم الله وجهه- : أول الدنيا عناء ، وآخرها فناء ، حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، ومتشابهها عتاب ، من استغنى فيها فُتن ، ومن افتقر فيها حزن. ه. وقيل : الدنيا تُقبل إقبال الطالب ، وتُدبر إدبار الهارب ، وتصل وصال الملول ، وتُفارق فراق العجول ، خيرها يسير ، وعمرها قصير ، ولذاتها فانية ، وتبعاتها باقية.
وقال عيسى عليه السلام : تعملون للدنيا ، وأنتم تُرزقون فيها بغير عمل ، ولا تعملون للآخرة ، وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل. ه. وقيل : أوحى الله إلى الدنيا : مَنْ خدَمني فاخدِميه ، ومن خدمك فاستخدِميه.
وكان عمرُ بنُ عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات :
نهارُكَ مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ... وليلُكَ نومٌ ، والأسَى لك لازمٌ
تُسَرُّ بما يفْنَى ، وتفرحُ بالمُنَى... كما سُرَّ باللذَّات في النومِ حالمُ
وشغلُك فيها سوف تكرَه غَبَّه... كذلك في الدنيا تَعيِشُ البهائمُ
وقال آخر :
هي الدارُ دَارُ الأذى والقذى... ودارُ الفناءِ ودارُ الْغِيَرْ
فلو نِلْتَها بحذافيرها... لمِتَّ ولم تَقْضِ منا الوطرْ
أيا مَنْ يؤملُ طولَ الخلودِ... وطولُ الخلودِ عليه ضررْ
إذا ما كبِرْتَ وفات الشبَابُ... فلا خيرَ في العيش بعد الكِبرْ (1) أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 205 ـ 206}
__________________
(1) بعض ما ذكر من آثار عن سيدنا عيسى عليه السلام يفتقر إلى سند. والله أعلم.(8/35)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
[ قوله تعالى : " فَصَلَ " : أي : انْفَصَلَ ، فلذلك كان قاصِراً. وقيل إِنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكن حُذِفَ ، والتقديرُ : فَصَلَ نفسه ثم إن هذا المفعول حذف حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ.
و { بالجنود } متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من " طَالُوت " أي مصاحباً لهم ]. وبين جملةِ قوله : " فلمَّا فَصَلَ " وبين ما قبلَها من الجملِ جُمل محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه ، تقديرُهُ : فلما أتاهم بالتَّابُوت أذعنوا له وأجابوا فَمَلَّكُوا طالوتَ ، وتأهَّبوا للخروجِ ، وهي كقوله : { فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } [ يوسف : 45 ، 46 ]. ومعنى الفصل : القَطْعُ.
يقال : فصلت اللَّحْمَ عن العَظم فَصْلاً ، وفاصل الرَّجُل شريكهُ وامرأته فصالاً. ويُقالُ للفطام فِصالٌ؛ لأَنَّه يقطعُ عن الرَّضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه ، قال تعالى : { وَلَمَّا فَصَلَتِ العير } [ يوسف : 94 ] والجنود جمع جُنْدٍ ، وكل صنف من الخلق جُنْدٌ على حدةٍ ، يقال للجراد الكثيرة : إنَّها جنود اللهِ ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " الأَرْوَاح جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ".
والابتلاء الامتحان وفيه لغتان من " بَلاَ يَبْلُو " و" ابْتَلَى يَبْتَلِي " ؛ قال : [ الكامل ]
وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي... وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ
فجاء باللُّغتين ، وأصلُ الياءِ في مبتليكم واوٌ لأَنَّهُ من بلا يبلُو؛ وابتلى يَبْتَلِي ، أي : اختبر ، وإِنَّما قلبت لانكِسَارِ ما قبلها.(8/36)
قوله { بِنَهَرٍ } الجمهورُ على قراءتَه بفتح الهاء وهي اللَّغة الفصيحةُ ، وفيه لغةٌ أخرى : تسكينُ الهاءِ ، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآن وكلُّ ثلاثي حشوه حرف حلق ، فإِنّهُ يجيء على هذين الوجهين؛ كقوله : صَخَرَ وَصَخْر وشَعَر وشَعْر وَبَحَر وَبَحْر؛ قال : [ البسيط ]
كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِن حَجَرٍ... فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنِّى عَمَلُ
يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وفي بَحَرٍ... مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ
وتقدم اشتقاقُ هذه اللَّفظة عند قوله تعالى : { مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ البقرة : 25 ].
قوله : { فَلَيْسَ مِنِّي } ، أي : من أَشياعي وأصحابي ، و" مِنْ " للتَّبعيض؛ كأنه يجعلُ أصحابَه بعضه؛ ومثله قول النَّابغة : [ الوافر ]
إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُوراً... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
ومعنى يَطْعَمْهُ : يَذُقْهُ؛ تقولُ العربُ : " طَمِعْتُ الشَّيْءَ " أي : ذُقْتُ طَعْمَهُ؛ قال : [ الطويل ]
فَإِنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ... وَإِنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
والنقاخ : الماءُ العذبُ المروِي ، والبردُ : هو النَّومُ.
فصل
قال أهلُ اللُّغة : وإِنَّما اختير هذا اللَّفظُ لوجهين :
أحدهما : أَنَّ الإِنسانَ إذا عطش جدّاً ، ثم شربَ الماء ، وأراد وصف ذلك الماء ، فإِنَّهُ يصفُهُ بالطُّعُومِ اللَّذِيذة ، فقوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } ، أي : وَإِنْ بلغ به العطشُ إلى حيث يكون الماءُ في فَمِهِ موصوفاً بالطُّعوم الطَّيِّبة؛ فإنه يجب عليه الاحتراز عنه ، وألا يشرب.(8/37)
الثاني : أَنَّ مَنْ جعل الماءَ في فمه ، وتمضمض به ، ثم أخرجه فإنّه يصدق عليه أَنَّهُ ذاقه وطعمه ، ولا يصدُق عليه أَنَّه شربه ، فلو قال : ومن لم يشربه فإِنَّهُ مني ، كان المنعُ مقصوراً على الشّرب. فلما قال : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } حصل المنعُ في الشُّربِ ، والمضمضة ، ومعلومٌ أَنَّ هذا التَّكليف أَشَقُّ ، فإِنَّ الممنُوع من الشُّربِ ، إِذَا تَمَضْمضَ بالماءِ وجد نوع خِفَّةٍ وراحةٍ.
قوله : { إِلاَّ مَنِ اغترف } منصوبٌ على الاستثناء ، وفي المُستَثنى منه وجهان :
الصَّحيح أَنَّهُ الجملةُ الأولى ، وهي : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، والجملةُ الثانيةُ معترِضةٌ بين المُستَثنى والمُستَثنى مِنْهُ وأصلُها التَّأخيرِ ، وإِنَّما قُدِّمَتْ ، لأنها تَدلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهوم ، فإنَّه لمَّا قال تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، فُهِمَ منه أَنَّ من لم يشرب فإنَّه منه ، فَلَمَّا كانت مدلولاً عليها بالمفهوم ، صارَ الفصلُ بها كلا فصلٍ.
وقال الزمخشريُّ : والجُمْلَةُ الثَّانيةُ في حُكم المُتَأَخِّرة ، إلاَّ أَنَّها قُدِّمَتْ للعناية ، كما قُدِّمَتْ للعناية ، كما قُدِّمَ " والصَّابِئُونَ " في قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون } [ المائدة : 69 ].
والثاني : أَنَّهُ مستثنى من الجملة الثَّانية ، وإليه ذهب أبو البقاء. قال شهاب الدين : وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أَنَّ المعنى : ومَنْ لم يطعمْه فإِنَّهُ مِنِّي ، إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرفة بيده؛ فإنه ليس مني ، لأَنَّ الاسْتثناء من النَّفْي إثباتٌ ، ومن الإِثبات نفيٌ ، كما هو الصَّحيحُ ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى؛ لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غرفةً واحدةً.(8/38)
والاستثناءُ إذا تعقَّبَ الجُمَلَ ، وصلح عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة ، أم لا؟
خلافٌ مشهورٌ ، فإنْ دلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجُمَلِ عمِلَ به ، والآيةُ من هذا القبيل ، فإنَّ المعنى يعودُ إلى عودِهِ إلى الجُملة الأولى ، لا الثَّانية لِمَا قَرَّرْنَاهُ.
وقرأ الحرمِيَّان وأبو عمرو : " غَرْفَة " بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلفٌ. والباقون بضمها. فقيل : هما بمعنى المصدر ، إلاَّ أنهما جاءا على غير الصَّدر كنبات من أَنْبَتَ ، وَلَوْ جاءَ على الصَّدر لقيل : اغترافاً. وقيل : هما بمعنى المُغْتَرف كالأَكل بمعنى المأكولِ. وقيل : المَفْتُوح مصدرٌ قُصِدَ به الدَّلالة على الوحدةِ ، فإنَّ " فَعْلَة " يدُلُّ على المَرَّة الواحدة ، ومثله الأكلة يقال فلان يأكل بالنهار أكلة واحدة والمضمُومُ بمعنى المفعول ، فحيثُ جعلتهما مَصْدراً فالمفعولُ [ محذوفٌ ، تقديره : إلاَّ مَن اغترف ماءً ، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول ] كانا مفعولاً به ، فَلا يُحتاج إلى تقديرِ مَفْعُولٍ.
ويدل على الشَّيء الَّذي يحصُلُ بالكَفِّ كاللُّقمة والحُسْوة والخُطوةِ بالضم ، والحُزَّة القطعة اليسيرة من اللحم. قال القرطبيُّ : وقال بعضهم : الغرقة بالكَفّ الواحد ، والغُرفة بالكفين.
(8/39)
وقال المبرِّدُ " غَرْفَةً " بالفتح مصدر يقعُ على قليل ما في يده وكثيره وبالضَّمِّ اسم ملء الكف ، أو ما اغترف به ، فحيثُ جعلتهما مصدراً ، فالمفعولُ محذوفٌ تقديره : إِلاَّ من اغترف ماءً ، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول كان مفعولاً به ، فلا يحتاجُ إلى تقديره مفعولٍ ونُقِلَ عن أبي علي أَنَّهُ كان يُرَجِّح قراءة الضَّمِّ؛ لأَنَّه في قراءةِ الفتح يجعلها مصدراً ، والمصدرُ لا يوافق الفعل في بنائِهِ ، إِنَّما جاءَ على حذفِ الزوائد وجعلُها بمعنى المفعول لا يحوج إلى ذلك فكان أرجح.
قوله : { بِيَدِهِ } يجوزُ أن يتعلَّق بـ " اغْتَرَفَ " وهو الظَّاهر. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ لـ " غُرْفَة " ، وهذا على قولنا : بأن " غُرْفَة " ، بمعنى المفعول أَظْهر منه على قولنا : بأنها مَصْدَرٌ ، فإنَّ الظَّاهِرَ من الباء على هذا أن تكون ظرفيَّةٌ ، أي : غُرفةً كائِنَةً في يده.
قوله : { جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ } " هو " ضميرٌ مرفوعٌ منفصِلٌ مؤكِّدٌ للضّمير المستكنِّ في " جَاوَزَ ".
قوله : " والَّذِين " يحتملُ وجهين :
أظهرهما : أنه عطفٌ على الضَّمير المستكنِّ في " جَاوَزَ " لوجود الشَّرط ، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضَّمير المنفصلِ.
والثاني : أَنْ تكُون الواوُ للحالِ ، قالوا : ويلزَمُ من الحالِ أن يكونُوا جاوزوا معه ، وهذا القائلُ يجعلُ " الَّذِينَ " مبتدأ ، والخبرَ قالوا : " لاَ طَاقَةَ " ؛ فصار المعنى : " َفَمَّا جَاوَزَهُ ، والحالُ أنَّ الَّذِين آمنوا قالوا هذه المقالة " ، والمعنى ليس عليه.(8/40)
ويجوزُ إدغامُ هاء " جَاوَزَهُ " في هاء " هُو " ، ولا يُعْتدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ؛ لأنها ضعيفةٌ ، وإِنْ كان بعضهم استضعف الإِدغام ، قال : " إِلاَّ أَنْ تُخْتَلَسَ الهاءُ " ، يعني : فلا يبقى فاصلٌ. وهي قراءة أبي عمرو ، وأدغم أيضاً واوَ " هُوَ " في واو العطف بخلاف عنه ، فوه الإِدغام ظاهرٌ لالتقاءِ مثلين بشروطِهما. ومَنْ أظهر وهو ابن مجاهدٍ ، وأصحابُهُ قال : " لأَنَّ الواو إِذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ ، وإذا سكنت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلها ضمَّةٌ ، فصارَت نظير : { آمَنُواْ وَكَانُواْ } [ يونس : 63 ] فكما لا يُدغم ذاك لا يدغم هذا. وهذه العِلَّةُ فاسدةٌ لوجهين :
أحدهما : أنها ما صارَتْ مثلَ " آمنوا ، وكانوا " إلا بعد الإِدغام ، فكيف يُقال ذلك؟ وأيضاً فإِنَّهُم أدغموا : { يَأْتِيَ يَوْمٌ } [ البقرة : 254 ] وهو نظيرُ : { فِي يَوْمٍ } [ إبراهيم : 18 ] و{ الذى يُوَسْوِسُ } [ الناس : 4 ] بعين ما عَلَّلوا به.
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ ، كهذه الآية ، ومثله : { هُوَ والملائكة } [ آل عمران : 18 ] { هُوَ وَجُنُودُهُ } [ القصص : 39 ] ، فلو سكنت الهاءُ؛ امتنع الإِدغامُ نحو { وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } [ الأنعام : 127 ] ولو جرى فيه الخلافُ أيضاً لم يكن بعيداً ، فله أُسوة بقوله : { خُذِ العفو وَأْمُرْ } [ الأعراف : 199 ] بل أولى لأَنَّ سكون هذا عارضٌ بخلافِ : " الْعفوَ وأمر ".
قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ مَعَهُ }.
ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان ، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت ، بل المراد : أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ " مع " لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 5 ] واليسر لا يكون مع العسر.
(8/41)
قوله : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم } [ لنَا ] هو : خبر " لا " ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بطاقة ، وكذلك ما بعده من قوله " اليَومَ " و" بِجَالُوتَ " ؛ لأنه حينئذٍ يصير مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ ينصبُ منوناً ، وهذا كما تراهُ مبنياً على الفتح ، بل " اليَوْمَ " و" بِجَالُوتَ " متعلِّقان بالاستقرار الَّذي تعلَّق به " لنَا ".
وأجاز أبو البقاء : أن يكون " بِجَالُوتَ " هو خبرَ " لا " ، و" لنَا " حينئذٍ : إِمَّا تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوف على أَنَّه صفةٌ لطاقة.
والطَّاقةُ : القُدرةُ وعينُها واو؛ لأَنَّها مِنَ الطَّوقِ وهو القُدرةُ ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزَّوائدِ ، فإِنَّها من " أَطَاقَ " ونظيرها : أجَابَ جابةً ، وأَغَارَ غارةً ، وَأَطَاعَ طَاعةً.
و " جالوت " اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ ، لا اشتقاقَ له ، وليس هو فَعَلوتاً من جال يَجُول ، كما تقدَّم في طَالُوت ، ومثلهما داود.
قوله : { كَم مِّن فِئَةٍ } " كَمْ " خبريةٌ ، فإنَّ معناها التَّكثيرُ ، ويدلُّ على ذلك قراءة أبي : " وكَائِن " ، وهي للتكثير ، ومحلُّها الرَّفعُ بالابتداء ، و" مِنْ فِئَةٍ " تمييزُها ، و" مِنْ " زائدةٌ فيه. وأكثرُ ما يجيءُ مميِّزها ، ومميِّز " كَائِن " مجروراً بمِنْ ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك ، وقد تُحْذفُ " مِنْ " فيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصَّحيح ، وقد يُنصَبُ حَمْلاً على مُميِّز " كَم " الاستفهامية ، كما أَنَّهُ قد يُجَرُّ مميِّز الاستفهاميّةِ حَمْلاً عليها ، وذلك بشروطٍ ذكرها النُّحاةُ.
قال الفرَّاء : لو ألغيت " مِنْ " ها هنا جاز فيه الرَّفع والنَّصبُ والخفضُ.(8/42)
أَمَّا النَّصبُ فلأنّ " كم " بمنزلة عددٍ ، فينصب ما بعدهُ نحو : عشرونَ رجلاً. وَأَمَّا الخَفْضُ ، فبتقدير دخول حرف " من " عليه.
وأَمَّا الرَّفعُ ، فعلى نيَّة الفِعْل تقديره " كم غلبت فئةٌ " ومِنْ مجيءِ " كَائِن " منصوباً قولُ الشاعر : [ الخفيف ]
أُطْرُدِ اليَأْسَ بالرَّجَاءِ فَكَائِنْ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وَأَجازُوا أَنُ يكونَ " مِنْ فِئَةٍ " في محلِّ رفع صفةً لـ " كم " فيتعلَّق بمحذوفٍ. و" غَلَبَت " هذه الجملةُ هي خبرُ " كم " والتقديرُ : كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبٌ الفئاتِ الكثيرةَ.
وفي اشتقاق " فئة " قولان :
أحدهما : أنها من فاء يَفِيء ، أي : رجع فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة.
والثاني : أَنَّها مِنْ فَأَوْتُ رأسَه أي : كسرتُه ، فحُذِفت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة ، إِلاَّ أَنَّ لامَ مائة ياءٌ ، ولامَ هذه واوٌ ، والفِئَةُ : الجماعةُ من النَّاسِ قلَّت ، أو كثرت ، وهي جمعٌ لا واحد له من لفظه ، وجمعها : فئات وفئون في الرَّفع ، وفئين في النَّصب والجرِّ ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ ، فإنَّ الجماعَةَ من النَّاسِ يَرْجِعُ بعضهم إلى بعضٍ ، وهم أيضاً قطعةٌ من النَّاسِ كقطَعِ الرَّأْسِ المكسَّرة.
قوله : { بِإِذْنِ الله } فيه وجهان.
أَظهرهُمَا : أنَّه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والتَّقدير : ملتبسين بتيسير الله لهم.
والثاني : أَنَّ الباءَ للتَّعْدية ، ومجرورها مفعولٌ به في المعنى ، ولهذا قال أبو البقاء : " وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مَفْعُولاً به ".
وقوله : { والله مَعَ الصابرين } مبتدأٌ وخبرٌ ، وتحتمِل وجهين :
أحدهما : أن يكون محلُّها النَّصْبَ على أنها من مقولهم.
والثاني : أنَّها لا محلَّ لها من الإِعراب ، على أَنّها استئنافٌ أَخْبَرَ اللهُ تعالى بها. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 278 ـ 287}. بتصرف.(8/43)
قوله تعالى : { وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}
قال البقاعى :
ثم بين أنهم صدقوا قولهم قبل المباشرة بالفعل عندها فقال عاطفاً على ما تقديره : فلما قالوا لهم ذلك جمع الله كلمتهم فاعتمدوا عليه وبرزوا للقتال بين يديه : {ولما برزوا} وهم على ما هم عليه من الضعف والقلة ، والبروز هو الخروج عن كل شيء يوارى في براز من الأرض وهو الذي لا يكون فيه ما يتوارى فيه عن عين الناظر {لجالوت} اسم ملك من ملوك الكنعانيين كان بالشام في زمن بني إسرائيل {وجنوده} على ما هم عليه من القوة والكثرة والجرأة بالتعود بالنصر {قالوا ربنا أفرغ} من الإفراغ وهو السكب المفيض على كلية المسكوب عليه {علينا صبراً} حتى نبلغ من الضرب ما نحب في مثل هذا الموطن {وثبت} من التثبيت تفعيل من الثبات وهو التمكن في الموضع الذي شأنه الاستزلال {أقدامنا} جمع قدم وهو ما يقوم عليه الشيء ويعتمده ، أي بتقوية قلوبنا حتى لا نفر وتكون ضرباتنا منكبة موجعة وأشاروا بقولهم {وانصرنا على القوم الكافرين} موضع قولهم : عليهم ، إلى أنهم إنما يقاتلونهم لتضييعهم حقه سبحانه وتعالى لا لحظ من حظوظ النفس كما كان من معظمهم أول ما سألوا وإلى أنهم أقوياء فلا بد لهم من معونته عليهم سبحانه وتعالى أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 479}
قال الفخر :
إن العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع العوام والضعفاء أنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وأوضحوا أن الفتح والنصرة لا يحصلان إلا بإعانة الله ، لا جرم لما برز عسكر طالوت إلى عسكر جالوت ورأوا القلة في جانبهم ، والكثرة في جانب عدوهم ، لا جرم اشتغلوا بالدعاء والتضرع ، فقالوا : {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} ونظيره ما حكى الله عن قوم آخرين أنهم قالوا حين الالتقاء مع المشركين : {وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ} [ آل عمران : 146 ] إلى قوله : {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [ آل عمران : 147 ] وهكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل المواطن ، وروي عنه في قصة بدر أنه عليه السلام لم يزل يصلي ويستنجز من الله وعده ، وكان متى لقي عدواً قال : " اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم " وكان يقول : " اللهم بك أصول وبك أجول ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 157 ـ 158}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { بَرَزُواْ لِجَالُوتَ } في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنَّها تتعلَّق بـ " برزوا ".
والثاني : أنها تتعلَّقُ بمحذُوفٍ على أَنَّها ومجرورها حالٌ من فاعل : " بَرَزوا " قال أبو البقاء : " وَيَجُوزُ أن تكُونَ حالاً أي : برزوا قاصِدِين لِجَالُوتَ ". ومعنى برزوا : صاروا إلى بَراز من الأرض ، وهو ما انْكَشَفَ منها وَاسْتَوَى ، وسميت المبارزة لظهور كُلّ قرنٍ لصاحبه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 288}
فصل
قال الفخر :(8/44)
الإفراغ الصب ، يقال : أفرغت الإناء إذا صببت ما فيه ، وأصله من الفراغ ، يقال : فلان فارغ معناه أنه خال مما يشغله ، والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه ، وإنما يخلو بصب كل ما فيه.
إذا عرفت هذا فنقول قوله : {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} يدل على المبالغة في طلب الصبر من وجهين أحدهما : أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه ، وهذا يدل على التأكيد والثاني : أن إفراغ الإناء هو إخلاؤه ، وذلك يكون بصب كل ما فيه ، فمعنى : أفرغ علينا صبراً : أي أصبب علينا أتم صب وأبلغه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 158}
فصل
قال الفخر :
المسألة الرابعة : اعلم أن الأمور المطلوبة عند المحاربة مجموع أمور ثلاثة فأولها : أن يكون الإنسان صبوراً على مشاهدة المخاوف والأمور الهائلة ، وهذا هو الركن الأعلى للمحارب فإنه إذا كان جباناً لا يحصل منه مقصود أصلاً وثانيها : أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات والاتفاقات الحسنة مما يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار وثالثها : أن تزداد قوته على قوة عدوه حتى يمكنه أن يقهر العدو.
إذا عرفت هذا فنقول المرتبة الأولى : هي المراد من قوله : {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} والثانية : هي المراد بقوله : {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} والثالثة : هي المراد بقوله : {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 158}
فصل :
قال الفخر : (8/45)
احتج الأصحاب على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى بقوله : {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} وذلك لأنه لا معنى للصبر إلا القصد على الثبات ، ولا معنى للثبات إلا السكون والاستقرار وهذه الآية دالة على أن ذلك القصد المسمى بالصبر من الله تعالى ، وهو قوله : {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} وعلى أن الثبات والسكون الحاصل عند ذلك القصد أيضاً بفعل الله تعالى ، وهو قوله : {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} وهذا صريح في أن الإرادة من فعل العبد وبخلق الله تعالى ، أجاب القاضي عنه بأن المراد من الصبر وتثبيت القدم تحصيل أسباب الصبر ، وأسباب ثبات القدم ، وتلك الأسباب أمور أحدها : أن يجعل في قلوب أعدائهم الرعب والجبن منهم فيقع بسبب ذلك منهم الاضطراب فيصير ذلك سبباً لجراءة المسلمين عليهم ، ويصير داعياً لهم إلى الصبر على القتال وترك الانهزام ، وثانيها : أن يلطف ببعض أعدائهم في معرفة بطلان ما هم عليه فيقع بينهم الاختلاف والتفرق ويصير ذلك سبباً لجراءة المؤمنين عليهم وثالثها : أن يحدث تعالى فيهم وفي ديارهم وأهاليهم من البلاء مثل الموت والوباء ، وما يكون سبباً لاشتغالهم بأنفسهم ، ولا يتفرغون حينئذٍ للمحاربة فيصير ذلك سبباً لجراءة المسلمين عليهم ورابعها : أن يبتليهم بمرض وضعف يعمهم أو يعم أكثرهم ، أو يموت رئيسهم ومن يدبر أمرهم فيعرف المؤمنون ذلك فيصير ذلك سبباً لقوة قلوبهم ، وموجباً لأن يحصل لهم الصبر والثبات ، هذا كلام القاضي.
والجواب عنه من وجهين : الأول : أنا بينا أن الصبر عبارة عن القصد إلى السكوت والثبات عبارة عن السكون ، فدلت هذه الآية على أن إرادة العبد ومراده من الله تعالى وذلك يبطل قولكم وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره وتحملونه على أسباب الصبر وثبات الأقدام ، ومعلوم أن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز.(8/46)
الوجه الثاني : في الجواب أن هذه الأسباب التي سلمتم أنها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في الترجيح الداعي أوليس لها أثر فيه وإن لم يكن لها أثر فيه لم يكن لطلبها من الله قائدة وإن كان لها أثر في الترجيح فعند صدور هذه الأسباب المرجحة من الله يحصل الرجحان ، وعند حصول الرجحان يمتنع الطرف المرجوح ، فيجب حصول الطرف الراجح ، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض ، وهو المطلوب ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 158 ـ 159}
كلام نفيس للعلامة أبى السعود فى الآية الكريمة
قال رحمه الله :
{ وَلَمَّا بَرَزُواْ } أي ظهر طالوتُ ومن معه من المؤمنين وصاروا إلى براز من الأرض في موطن الحرب { لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } وشاهدوا ما هم عليه من العَدد والعُدد وأيقنوا أنهم غيرُ مطيقين لهم عادة { قَالُواْ } أي جميعاً عند تقوى قلوب الفريقُ الأولُ منهم بقول الفريق الثاني متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } على مقاساة شدائِد الحربِ واقتحامِ مواردِه الصعبةِ الضيقة وفي التوسل بوصف الربوبية المُنبىء عن التبليغ إلى الكمال وإيثارِ الإفراغِ المعرب عن الكثرة وتنكيرِ الصبر المفصح عن التفخيم من الجزالة ما لا يخفى { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } في مداحض القتالِ ومزالِّ النزال وثباتُ القدم عبارةٌ عن كمال القوةِ والرسوخِ عند المقارعة وعدمِ التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرّر في حيز واحد { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } بقهرهم وهزمِهم ، ووضعُ الكافرين في موضع الضمير العائد إلى جالوتَ وجنودِه للإشعار بعِلة النصرِ عليهم ، ولقد راعَوْا في الدعاء ترتيباً بديعاً حيث قدموا سؤالَ إفراغِ الصبر الذي هو مِلاكُ الأمر ثم سؤالَ تثبيتِ القدم المتفرغِ عليه ثم سؤالَ النصرِ الذي هو الغاية القصوى. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 244}
وقال أبو حيان : (8/47)
{ ولما برزوا لجالوت وجنوده } صاروا بالبراز من الأرض ، وهو ما ظهر واستوى ، والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه قرنه ، وكان جنود طالوت ثلاثمائة ألف فارس ، وقيل : مائة ألف ، وقال عكرمة : تسعين ألفاً.
{ قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا } الصبر : هنا حبس النفس للقتال ، فزعوا إلى الدعاء لله تعالى فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك ، ففي ذلك إشعار بالعبودية.
وقولهم : أفرغ علينا صبراً سؤال بأن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعلياً عليهم ، ويكون لهم كالظرف وهم كالمظروفين فيه.
{ وثبت أقدامنا } فلا تزل عن مداحض القتال ، وهو كناية عن تشجيع قلوبهم وتقويتها ، ولما سألوا ما يكون مستعلياً عليهم من الصبر سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها.
{ وانصرنا على القوم الكافرين } أي : أعنا عليهم ، وجاؤا بالوصف المقتضي لخذلان أعدائهم ، وهو الكفر ، وكانوا يعبدون الأصنام ، وفي قولهم : ربنا ، إقرار لله تعالى بالوحدانية ، وقرار له بالعبودية. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 277}
لطيفة
قال العلامة الآلوسى :
وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى ، أما أولاً : فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال ،
وأما ثانياً : فلأن فيه الإفراغ ، وهو يؤذن بالكثرة ، وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه ،
وأما ثالثاً : فلأن فيه التعبير بعلى المشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين ،
وأما رابعاً : فلأن فيه تنكير صبراً المفصح عن التفخيم ،
وأما خامساً : فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبت ،
وأما سادساً : فلأن فيه حسن الترتيب حيث طلبوا
أولاً : إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء(8/48)
وثانياً : ثبات القدم والقوة على مقاومة العدوّ حيث أن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له ،
وثالثاً : العمدة والمقصود من المحاربة وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة ، وقيل : إنما طلبوا
أولاً : إفراغ الصبر لأنه ملاك الأمر ،
وثانياً : التثبيت لأنه متفرع عليه ،
وثالثاً : النصر لأنه الغاية القصوى ،
واعترض هذا بأنه يقتضي حينئذٍ التعبير بالفاء لأنها التي تفيد الترتيب ،
وأجيب بأن الواو أبلغ لأنه عول في الترتيب على الذهن الذي هو أعدل شاهد كما ذكر السكاكي. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 173}
فائدة بلاغية
قال ابن عاشور :
عبروا عن إلهامهم إلى الصبر بالإفراغ استعارة لقوة الصبر فإن القوة والكثرة يتعاوران الألفاظَ الدالة عليهما ، كقول أبي كبير الهذلي :
كثير الهوى شَتَّى النوى والمسالك...
وقد تقدم نظيره ، فاستعير الإفراغ هنا للكثرة مع التعميم والإحاطة وتثبيت الأقدام استعارة لعدم الفرار شبه الفرار والخوف بزلق القدم ، فشبه عدمه بثبات القدم في المأزق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 499}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
كان أهم أمورهم الصبر والوقوف للعدو ، ثم بعده النصرة عليهم فإن الصبر حق الحق ، والنصرة نصيبهم ، فقدَّموا تحقيق حقه - سبحانه - وتوفيقه لهم ، ثم وجود حظِّهم من النصرة ، ثم أشاروا إلى أنهم يطلبون النصرة عليهم - لا للانتقام منهم لأَجْل ما فاتهم من نصيبهم - ولكن لكونهم كافرين ، أعداء الله.
فقاموا بكل وجهٍ لله بالله ؛ فلذلك نُصِرُوا وَوَجدوا الظفر. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 194}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً... }.
دَعَوْا بالأمر المعنوي وهو الصبر وبالحسي ( والمراد ) بتثبيت الأقدام عدم الرجوع على الأعقاب ، وليس المراد الوقوف في موضع واحد وابتدؤوا في الدعاء بالصبر لأنه سبب في تثبيت الأقدام.(8/49)
قاله الزمخشري : " أي هب لنا ما نثبت به من القوة والرعب ( في قلب العدو ) ونحوه من الأسباب.
قال ابن عرفة : وهذا على مذهبه في أن العبد يستقل بفعله ونحن نقول : المراد ثبت أقدامنا حقيقة.
قوله تعالى : { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين }.
تنبيه على أن قتالهم إياهم إنما هو لوصف كفرهم لا لغرض دنيوي ، وهنا محذوف مقدر أي فقاتلوهم فهزموهم.
وحكى ابن عطية هنا والزمخشري أن ( ايشي ) كان له ستة أولاد أحدهم ( داود ) وكان صغير السن فمر في طريقه بثلاثة أحجار ، قال له : كل واحد منها خذني ( فَبِي تقتل ) جالوت فجعلها في مخلاته وطلب جالوت ( المبارزة ) ، فقال طالوت : من يبرز فيقلته فأنا أزوجه بنتي وأحكمه في مالي ؟ وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع والتأمت الحجارة فوضعها في ( المقلاع ) وسمى بالله وأداره ورماه فأصاب رأس جالوت فقتله وحزّ رأسه وجعله في مخلاته.
قال ابن عرفة : المقلاع شبه الوضف.
الزمخشري : وزوجه طالوت ابنته وروي أنه ( حسده ) وأراد قتله ثم تاب.
قيل لابن عرفة : كيف صحّ هذا وقد حكى الزمخشري عن بعضهم أنّ طالوت ( نبي ). والنّبي معصوم ؟
فقال : الأكثر على أنّه غير نبي وقد ( تاب ) من هذا ، ومعلوم ما فيه.
قال ابن عرفة : وهذه الآية يرد بها على الكوفيين في قولهم : إن الواو تفيد الترتيب لأن المفسرين نقلوا هنا أنّ الهزيمة إنما كانت بعد أن قتل داود جالوت فحينئذ انهزموا وتفرقوا. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 324}(8/50)
قوله تعالى : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ثم رتب على ذلك النتيجة حثاً على الاقتداء بهم لنيل ما نالوا فقال عاطفاً على ما تقديره : فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم : {فهزموهم} مما منه الهزيمة وهو فرار من شأنه الثبات - قاله الحرالي ، وقال : ولم يكن فهزمهم الله ، كما لهذه الأمة في {ولكن الله قتلهم} [ الأنفال : 17 ] انتهى.
{بإذن الله} أي الذي له الأمر كله.
ثم بين ما خص به المتولي لعظم الأمر بتعريض نفسه للتلف في ذات الله سبحانه وتعالى من الخلال الشريفة الموجبة لكمال الحياة الموصلة إلى البقاء السرمدي فقال : {وقتل داود} وكان في جيش طالوت {جالوت} قال الحرالي : مناظرة قوله {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [ الأنفال : 17 ] وكان فضل الله عليك عظيماً - انتهى.
وفي الزبور في المزمور الحادي والخمسين بعد المائة وهو آخره : صغيراً كنت في إخوتي ، حدثاً في بيت أبي ، راعياً غنمه ، يداي صنعتا الأرغن ، وأصابعي عملت القيثار ، من الآن اختارني الرب إلهي واستجاب لي وأرسل ملاكه وأخذني من غنم أبي ومسحني بدهن مسحته إخوتي حسان وأكرمني ولم يسر بهم الرب ، خرجت ملتقياً الفلسطيني الجبار الغريب فدعا علي بأوثانه فرميته بثلاثة أحجار في جبهته بقوة الرب فصرعته واستللت سيفه وقطعت به رأسه ونزعت العار عن بني إسرائيل.(8/51)
{وآتاه الله} بجلاله وعظمته {الملك} قال الحرالي : كان داود عليه الصلاة والسلام عندهم من سبط الملك فاجتمعت له المزيتان من استحقاق البيت وظهور الآية على يديه بقتل جالوت ، قال تعالى : {والحكمة} تخليصاً للملك مما يلحقه بفقد الحكمة من اعتداء الحدود انتهى.
فكان داود عليه الصلاة والسلام أول من جمع له بين الملك والنبوة {وعلمه} أي زيادة مما يحتاجان إليه {مما يشاء} من صنعة الدروع وكلام الطير وغير ذلك. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 479 ـ 480}
قال الفخر :
(8/52)
المعنى : أن الله تعالى استجاب دعاءهم ، وأفرغ الصبر عليهم ، وثبت أقدامهم ، ونصرهم على القوم الكافرين : جالوت وجنوده وحقق بفضله ورحمته ظن من قال : {كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وهزموهم بِإِذُنِ الله} وأصل الهزم في اللغة الكسر ، يقال سقاء منهزم إذا تشقق مع جفاف ، وهزمت العظم أو القصبة هزماً ، والهزمة نقرة في الجبل ، أو في الصخرة ، قال سفيان بن عيينة في زمزم : هي هَزْمَةُ جبريل يريد هزمها برجله فخرج الماء ، ويقال : سمعت هزمة الرعد كأنه صوت فيه تشقق ، ويقال للسحاب : هزيم ، لأنه يتشقق بالمطر ، وهزم الضرع وهزمه ما يكسر منه ، ثم أخبر تعالى أن تلك الهزيمة كانت بإذن الله وبإعانته وتوفيقه وتيسيره ، وأنه لولا إعانته وتيسيره لما حصل ألبتة ثم قال : {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن داود عليه السلام كان راعياً وله سبعة إخوة مع طالوت فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشاً أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجبار وكان من قوم عاد إلى البراز فلم يخرج إليه أحد فقال : يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم فقال داود لإخوته أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف ؟ فسكتوا ، فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرض الناس ، فقال له داود : ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف ؟ فقال طالوت : أنكحه ابنتي وأعطيه نصف ملكي فقال داود : فأنا خارج إليه وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في الرعي ، وكان طالوت عارفاً بجلادته ، فلما هم داود بأن يخرج رماه فأصابه في صدره ، ونفذ الحجر فيه ، وقتل بعده ناساً كثيراً ، فهزم الله جنود جالوت {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} فحسده طالوت وأخرجه من مملكته ، ولم يف له بوعده ، ثم ندم فذهب يطلبه إلى أن قتل ، وملك داود وحصلت له النبوة ، ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك(8/53)
والنبوة إلا له. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 159}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت ، وكان رجلاً قصيراً مِسقاماً مِصفاراً أصغر أزرق ، وكان جالوت من أشدّ الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده ، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده.
وهو داود بن إيشَى بكسر الهمزة ، ويُقال : داود بن زكريا بن رشوى ، وكان من سِبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السَّلام ، وكان من أهل بيت المقدس جمع له بين النبوّة والملك بعد أن كان راعياً وكان أصغر إخوته وكان يرعى غنماً ، وكان له سبعة إخوة في أصحاب طالوت ؛ فلما حضرت الحرب قال في نفسه : لأذهبنّ إلى رؤية هذه الحرب ، فلما نهض في طريقه مر بحجر فناداه : يا داود خذني فبي تقتل جالوت ، ثم ناداه حَجَر آخر ثم آخر فأخذها وجعلها في مخِلاته وسار ، فخرج جالوت يطلب مبارِزاً فكَعّ الناس عنه حتى قال طالوت : من يَبْرُز إليه ويقتله فأنا أزوّجه ابنتي وأحكِّمه في مالي ؛ فجاء داود عليه السَّلام فقال : أنا أبرز إليه وأقتله ، فازدراه طالوت حين رآه لصغر سِنِّه وقصره فردّه ، وكان داود أزرق قصيراً ؛ ثم نادى ثانية وثالثة فخرج داود ، فقال طالوت له : هل جرّبت نفسك بشيء ؟ قال نعم ؛ قال بماذا ؟ قال : وقع ذئب في غنمي فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده.
قال طالوت : الذئب ضعيف ، هلى جرّبت نفسك في غيره ؟ قال : نعم ، دخل الأسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما ؛ أفترى هذا أشدّ من الأسد ؟ قال لا ؛ وكان عند طالوت دِرْعٌ لا تستوي إلاَّ على من يقتل جالوت ، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت ؛ فقال طالوت : فاركب فرسي وخذ سلاحي ففعل ؛ فلما مشى قليلاً رجع فقال الناس : جَبُن الفتى! فقال داود : إن الله إن لم يقتله لي ويُعِنِّي عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح ، ولكنِّي أحب أن أُقاتله على عادتي.
(8/54)
قال : وكان داود من أرْمَى الناس بالمِقْلاع ، فنزل وأخذ مِخْلاته فتقلّدها وأخذ مقلاعه وخرج إلى جالوت ، وهو شاكٍ في سلاحه على رأسه بيضة فيها ثلاثمائة رطل ، فيما ذكر الماوردي وغيره ؛ فقال له جالوت : أنت يا فتى تخرج إلي! قال نعم ؛ قال : هكذا كما تخرج إلى الكلب! قال نعم ، وأنت أهون.
قال : لأطعمنّ لحمك اليوم للطّيْر والسِّباع ؛ ثم تدانيا وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده استخفافاً به ، فأدخل داود يده إلى الحجارة ، فرُوي أنها التأمَتْ فصارت حجراً واحداً ، فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله ، وحز رأسه وجعله في مِخلاته ، واختلط الناس وحمل أصحاب طالوت فكانت الهزيمة.
وقد قيل : إنما أصاب بالحجر من البيضة موضع أنفه ، وقيل : عينه وخرج من قفاه ، وأصاب جماعة من عسكره فقتلهم.
وقيل : إن الحجر تفَتّت حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه ؛ وكان كالقبْضَة التي رمى بها النبي صلى الله عليه وسلم هَوَازن يوم حُنَيْن ، والله أعلم.
وقد أكثر الناس في قصص هذه الآي ، وقد ذكرت لك منها المقصود والله المحمود. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 257 ـ 258}
وقال الآلوسى : (8/55)
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال : لما برز طالوت لجالوت قال جالوت : أبرزوا إليّ من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فأتى بداود إلى طالوت فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته وأن يحكمه في ماله فألبسه طالوت سلاحاً فكره داود أن يقاتله بسلاح وقال : إن الله تعالى إن لم ينصرني عليه لم يغن السلاح شيئاً فخرج إليه بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار ثم برز له فقال له جالوت : أنت تقاتلني ؟ قال داود : نعم قال : ويلك ما خرجت إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة لأبددن لحمك ولأطعمنه اليوم للطير والسباع فقال له داود : بل أنت عدو الله تعالى شر من الكلب فأخذ داود حجراً فرماه بالمقلاع فأصابت بين عينيه حتى قعدت في دماغه فصرخ جالوت وانهزم من معه واحتز رأسه.
(8/56)
{ آتاه الله الملك } في بني إسرائيل بعد ما قتل جالوت وهلك طالوت ، وذلك أن طالوت كما روي في بعض الأخبار لما رجع وفي الشرط فأنكح داود ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده فأراد قتله فعلم به داود فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود فضرب الزق ضربة فخرقه فسال الخمر منه فقال : يرحم الله تعالى داود ما كان أكثر شربه للخمر ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال : يرحم الله تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني ثم إنه ركب يوماً فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس فقال : اليوم أقتل داود وكان داود إذا فزع لا يدرك فركض على أثره طالوت ففزع داود فاشتد فدخل غاراً وأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فضربت عليه بيتاً فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال : لو كان دخل ههنا لخرق بيت العنكبوت فرجع ، وجعل العلماء والعباد يطعنون عليه بما فعل مع داود وجعل هو يقتل العلماء وسائر من ينهاه عن قتل داود حتى قتل كثيراً من الناس ثم إنه ندم بعد ذلك وخلى الملك وكان له عشرة بنين فأخذهم وخرج يقاتل في سبيل الله تعالى كفارة لما فعل حتى قتل هو وبنوه في سبيل الله تعالى فاجتمعت بنو إسرائيل على داود وملكوه أمرهم فهذا إيتاء الملك.(1) أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 173}
________________
(1) هذا الكلام فيه نظر والأولى عدم التعويل عليه. والله أعلم.(8/57)
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن قوله : {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} يدل على أن هزيمة عسكر جالوت كانت من طالوت وإن كان قتل جالوت ما كان إلا من داود ولا دلالة في الظاهر على أن انهزام العسكر كان قبل قتل جالوت أو بعده ، لأن الواو لا تفيد الترتيب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 159}
فائدة
قال القرطبى :
وفي قول طالوت : "ومن يبرز له ويقتله فأني أزوّجه ابنتي وأحكِّمه في مالي" معناه ثابت في شرعنا ، وهو أن يقول الإمام : من جاء برأس فله كذا ، أو أسير فله كذا ، على ما يأتي بيانه في "الأنفال" إن شاء الله تعالى.
وفيه دليل على أن المبارزة لا تكون إلاَّ بإذن الإمام ؛ كما يقوله أحمد وإسحاق وغيرهما.
واختلف فيه عن الأوزاعيّ فحكي عنه أنه قال : لا يحمل أحد إلاَّ بإذن إمامه.
وحكي عنه أنه قال : لا بأس به ، فإن نهى الإمام عن البَرَاز فلا يُبارز أحد إلاَّ بإذنه.
وأباحت طائفة البراز ولم تذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه ؛ هذا قول مالك.
سئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين : من يبارز ؟ فقال : ذلك إلى نيته إن كان يريد بذلك الله فأرجو ألا يكون به بأس ، قد كان يُفعَل ذلك فيما مضى.
وقال الشافعيّ : لا بأس بالمبارزة.
قال ابن المنذر : المبارزة بإذن الإمام حسن ، وليس على من بارز بغير إذن الإمام حرج ، وليس ذلك بمكروه لأني لا أعلم خبراً يمنع منه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 258}
قوله تعالى : {وآتاه الله الملك والحكمة}
فصل
قال الفخر : (8/58)
قال بعضهم آتاه الله الملك والنبوة جزاء على ما فعل من الطاعة العظيمة ، وبذل النفس في سبيل الله ، مع أنه تعالى كان عالماً بأنه صالح لتحمل أمر النبوة ، والنبوة لا يمتنع جعلها جزاء على الطاعات كما قال تعالى : {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين * وءاتيناهم مِنَ الآيات مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ} [ الدخان : 32 ، 33 ] وقال : {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [ الأنعام : 124 ] وظاهر هذه الآية يدل أيضاً على ذلك لأنه تعالى لما حكى عن داود أنه قتل جالوت ، قال بعده : {وآتاه الله الملك والحكمة} والسلطان إذا أنعم على بعض عبيده الذين قاموا بخدمة شاقة ، يغلب على الظن أن ذلك الإنعام لأجل تلك الخدمة ،
وقال الأكثرون : إن النبوة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ، بل ذلك محض التفضل والإنعام ، قال تعالى : {الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} [ الحج : 75 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 160}
قال القرطبى :
{ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة } قال السدي : أتاه الله ملك طالوت ونبوّة شمعون.
والذي علّمه هو صنعة الدرُوع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس : هو أن الله أعطاه سلسلة موصولة بالمجرّة والفلك ورأسها عند صومعة داود ؛ فكان لا يحدث في الهواء حدث إلاَّ صلصلت السلسلة فيعلم داود ما حدث ، ولا يمسها ذو عاهة إلاَّ برىء ؛ وكانت علامة دخول قومه في الدِّين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفّهم على صدورهم ، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السَّلام إلى أن رفعت. (1) أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 258}
________________
(1) لا يخفى ما فى بعض هذا الكلام من غرابة وبعد ، وألفاظ الآية لم تشر إليه ألبتة ، ولا يترتب على ذكره كثير فائدة. والله أعلم.(8/59)
فصل
قال الفخر :
قال بعضهم : ظاهر الآية يدل على أن داود حين قتل جالوت آتاه الله الملك والنبوة ، وذلك لأنه تعالى ذكر إيتاء الملك والنبوة عقيب ذكره لقتل داود جالوت ، وترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، وبيان المناسبة أنه عليه السلام لما قتل مثل ذلك الخصم العظيم بالمقلاع والحجر ، كان ذلك معجزاً ، لا سيما وقد تعلقت الأحجار معه وقالت : خذنا فإنك تقتل جالوت بنا ، فظهور المعجز يدل على النبوة ، وأما الملك فلأن القوم لما شاهدوا منه قهر ذلك العدو العظيم المهيب بذلك العمل القليل ، فلا شك أن النفوس تميل إليه وذلك يقتضي حصول الملك له ظاهراً ، وقال الأكثرون : إن حصول الملك والنبوة له تأخر عن ذلك الوقت بسبع سنين على ما قاله الضحاك ، قالوا والروايات وردت بذلك ، قالوا : لأن الله تعالى كان قد عين طالوت للملك فيبعد أن يعزله عن الملك حال حياته ، والمشهور في أحوال بني إسرائيل كان نبي ذلك الزمان أشمويل ، وملك ذلك الزمان طالوت ، فلما توفي أشمويل أعطى الله تعالى النبوة لداود ، ولما مات طالوت أعطى الله تعالى الملك لداود ، فاجتمع الملك والنبوة فيه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 160}
فصل
قال أبو حيان :
الحكمة وضع الأمور مواضعها على الصواب ، وكمال ذلك إنما يحصل بالنبوّة ، ولم يكن ذلك لغيره قبله ، كان الملك في سبط والنبوّة في سبط ، فلما مات شمويل وطالوت اجتمع لداود الملك والنبّوة.
وقال مقاتل : الحكمة الزبور ، وقيل : العدل في السيرة ؟ وقيل : الحكمة العلم والعمل به.
وقال الضحاك : هي سلسلة كانت متدلية من السماء لا يمسكها ذو عاهة إلاَّ برىء ، يتحاكم إليها ، فمن كان محقاً تمكن منها حتى إن رجلاً كانت عنده درة لرجل ، فجعلها في عكازته ودفعها إليه أن احفظها حتى أمس السلسلة ، فتمكن منها لأنه ردها ، فرفعت لشؤم احتياله. (1)
وإذا كانت الحكمة كان ذكر الملك قبلها.
_____________
(1) لا يخفى ما فى هذا القول من البعد البعيد.(8/60)
والنبوّة بعده من باب الترقي. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 278}
وقال الفخر :
{الحكمة} هي وضع الأمور مواضعها على الصواب والصلاح ، وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة ، فلا يبعد أن يكون المراد بالحكمة ههنا النبوة ، قال تعالى : {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً} [ النساء : 54 ] وقال فيما بعث به نبيه عليه السلام {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} [ آل عمران : 146 ].
فإن قيل : فإذا كان المراد من الحكمة النبوة ، فلم قدم الملك على الحكمة ؟ مع أن الملك أدون حالاً من النبوة.
قلنا : لأن الله تعالى بين في هذه الآية كيفية ترقي داود عليه السلام إلى المراتب العالية ، وإذا تكلم المتكلم في كيفية الترقي ، فكل ما كان أكثر تأخراً في الذكر كان أعلى حالاً وأعظم رتبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 160}
قوله تعالى : {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} ففيه وجوه أحدها : أن المراد به ما ذكره في قوله : {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ} [ الأنبياء : 80 ] وقال : {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد * أَنِ اعمل سابغات وَقَدّرْ فِى السرد }
[ سبأ : 10 ، 11 ]
وثانيها : أن المراد كلام الطير والنمل ، قال تعالى حكاية عنه : {عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير} [ النمل : 16 ]
وثالثها : أن المراد به ما يتعلق بمصالح الدنيا وضبط الملك ، فإنه ما ورث الملك من آبائه ، لأنهم ما كانوا ملوكاً بل كانوا رعاة ورابعها : علم الدين ، قال تعالى : {وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً} [ النساء : 163 ] وذلك لأنه كان حاكماً بين الناس ، فلا بد وأن يعلمه الله تعالى كيفية الحكم والقضاء وخامسها : الألحان الطيبة ، ولا يبعد حمل اللفظ على الكل.(8/61)
فإن قيل : إنه تعالى لما ذكر إنه آتاه الحكمة ، وكان المراد بالحكمة النبوة ، فقد دخل العلم في ذلك ، فلم ذكر بعده {علمه مِمَّا يَشَاء }.
قلنا : المقصود منه التنبيه على أن العبد قط لا ينتهي إلى حالة يستغني عن التعلم ، سواء كان نبياً أو لم يكن ، ولهذا السبب قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً} [ طه : 114 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 160 ـ 161}
وقال أبو حيان :
{ وعلمه مما يشاء }وقيل : الزبور ، وقيل : الصوت الطيب والألحان ، قيل : ولم يعط الله أحداً من خلقه مثل صوته ، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها ، وتظله الطير مصيخة له ، ويركد الماء الجاري ، وتسكن الريح ، وما صنعت المزامير والصنوج إلاَّ على صوته. (1)
وقيل : { مما يشاء } فعل الطاعات والأمر بها ، واجتناب المعاصي.
والضمير الفاعل في : يشاء عائد على داود أي : مما يشاء داود. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 278}
وقال الآلوسى :
الضمير المستتر راجع إلى الله تعالى ، وعوده إلى داود كما قال السمين ضعيف لأن معظم ما علمه تعالى له مما لا يكاد يخطر ببال ، ولا يقع في أمنية بشر ليتمكن من طلبه ومشيئته. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 173}
قوله تعالى : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }
المناسبة
قال البقاعى :
_____________
(1) هذا الكلام يفتقر إلى سند.(8/62)
ولما بين سبحانه وتعالى هذه الواقعة على طولها هذا البيان الذي يعجز عنه الإنس والجان بين حكمة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل ما هو أعم من ذلك من تسليط بعض الناس على بعض بسبب أنه جبل البشر على خلائق موجبة للتجبر وطلب التفرد بالعلو المفضي إلى الاختلاف فقال - بانياً له على ما تقديره : فدفع الله بذلك عن بني إسرائيل ما كان ابتلاهم به - : {ولولا دفع الله} المحيط بالحكمة والقدرة بقوته وقدرته {الناس} وقرىء : دفاع.
قال الحرالي : فعال من اثنين وما يقع من أحدهما دفع وهو رد الشيء بغلبة وقهر عن وجهته التي هو منبعث إليها بأشد منته ، وهو أبلغ من الأول إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يفعل في ذلك فعل المبالغ.(8/63)
ولما أثبت سبحانه وتعالى أن الفعل له خلقاً وإيجاداً بيّن أنه لعباده كسباً ومباشرة فقال : {بعضهم ببعض} فتارة ينصر قويهم على ضعيفهم كما هو مقتضى القياس ، وتارة ينصر ضعيفهم - كما فعل في قصة طالوت - على قويهم حتى لا يزال ما أقام بينهم من سبب الحفظ بهيبة بعضهم لبعض قائماً {لفسدت الأرض} بأكل القوي الضعيف حتى لا يبقى أحد {ولكن الله} تعالى بعظمته وجلاله وعزته وكماله يكف بعض الناس ببعض ويولي بعض الظالمين بعضاً وقد يؤيد الدين بالرجل الفاجر على نظام دبّره وقانون أحكمه في الأزل يكون سبباً لكف القوي عن الضعيف إبقاء لهذا الوجود على هذا النظام إلى الحد الذي حده ثم يزيل الشحناء على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام ليتم العلم بكمال قدرته واختياره وذلك من فضله على عباده وهو {ذو فضل} عظيم جداً {على العالمين} أي كلهم أولاً بالإيجاد وثانياً بالدفاع فهو يكف من ظلم الظلمة إما بعضهم ببعض أو بالصالحين وقليل ما هم ويسبغ عليهم غير ذلك من أثواب نعمه ظاهرة وباطنة ، ومما يشتد اتصاله بهذه القصة ما أسنده الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الكنى من تاريخ دمشق في ترجمة أبي عمرو بن العلاء عن الأصمعي قال : أنشدنا أبو عمرو بن العلاء قال : سمعت أعرابياً ينشد وقد كنت خرجت إلى ظاهر البصرة متفرجاً مما نالني من طلب الحجاج واستخفائي منه :
صبر النفس عند كل ملمّ . . .
إن في الصبر حيلة المحتال
لا تضيقن في الأمور فقد . . .
يكشف لأواؤها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس من . . .
الأمر له فرجة كحل العقال
قد يصاب الجبان في آخر . . .
الصفّ وينجو مقارع الأبطال
فقلت ما وراءك يا أعربي ؟ فقال : مات الحجاج ، فلم أدر بأيهما أفرح بموت الحجاج أو بقوله : له فرجة! لأني كنت أطلب شاهداً لاختياري القراءة في سورة البقرة {إلا من اغترف غرفة} [ البقرة : 249 ] - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 481 ـ 482}
قال الفخر :
(8/64)
اعلم أنه تعالى لما بين أن الفساد الواقع بجالوت وجنوده زال بما كان من طالوت وجنوده ، وبما كان من داود من قتل جالوت بين عقيب ذلك جملة تشتمل كل تفصيل في هذا الباب ، وهو أنه تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض لكي لا تفسد الأرض ، فقال : {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله} بغير ألف ، وكذلك في سورة الحج {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله} [ الحج : 40 ] وقرآ جميعاً {إِنَّ الله يدفع عَنِ الذين ءامَنُواْ} [ الحج : 38 ] بغير ألف ووافقهما عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر اليحصبي على دفع الله بغير ألف إلا أنهم قرؤا {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ} بالألف ، وقرأ نافع {وَلَوْلاَ دفاع الله} و{إِنَّ الله يُدَافِعُ} بالألف.
إذا عرفت هذه الروايات فنقول : أما من قرأ : {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله} ، {إِنَّ الله يدفع} فوجهه ظاهر ، وأما من قرأ : {وَلَوْلاَ دفاع الله} ، {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ} فوجه الإشكال فيه أن المدافعة مفاعلة ، وهي عبارة عن كون كل واحد من المدافعين دافعاً لصاحبه ومانعاً له من فعله ، وذلك من العبد في حق الله تعالى محال ، وجوابه أن لأهل اللغة في لفظ دفاع قولين
أحدهما : أنه مصدر لدفع ، تقول : دفعته دفعاً ودفاعاً ، كما تقول : كتبته كتباً وكتاباً ، قالوا : وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فعل وفعل ، تقول : جمح جماحاً ، وطمح طماحاً ، وتقول : لقيته لقاء ، وقمت قياماً ، وعلى هذا التأويل كان قوله : {وَلَوْلاَ دفاع الله} معناه ولولا دفع الله.
(8/65)
والقول الثاني : قول من جعل دفاع من دافع ، فالمعنى أنه سبحانه إنما يكف الظلمة والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ورسله وأئمة دينه وكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات ، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة ، كما قال : {يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [ المائدة : 33 ] ، {وَشَاقُّواْ الله} [ الأنفال : 13 ] وكما قال : {قاتلهم الله} [ التوبة : 30 ] ونظائره والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 161}
فصل
قال القرطبى :
اختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم ؟ فقيل : هم الأبْدَال وهم أربعون رجلاً كلما مات واحد بدّل الله آخر ، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم ؛ اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق.
وروي عن عليّ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلاً كلما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلاً يسقي بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء " ذكره الترمذيّ الحكيم في "نوادر الأُصول".
وخرّج أيضاً عن أبي الدرداء قال : إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض ، فلما انقطعت النبوّة أبدل الله مكانهم قوماً من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم يُقال لهم الأبدال ؛ لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب وتواضع في غير مَذلّة ، فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه ، وهم أربعون صِدّيقاً منهم ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن ، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس ، وبهم يُمطَرون ويُرزَقون ، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه.
(8/66)
وقال ابن عباس : ولولا دفع الله العدوّ بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخرّبوا البلاد والمساجد.
وقال سفيان الثوريّ : هم الشهود الذين تُستخرج بهم الحقوق.
وحكى مكيّ أن أكثر المفسرين على أن المعنى : لولا أن الله يدفع بمن يصلِّي عمن لا يصلِّي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم ؛ وكذا ذكر النحاس والثعلبيّ أيضاً.
( قال الثعلبي ) وقال سائر المفسرين : ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض ، أي هلكت.
وذكر حديثاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " "إن الله يدفع العذاب بمن يصلّي من أُمتي عمن لا يصلِّي وبمن يزكِّي عمن لا يزكِّي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الاٌّرْضُ""
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد رُكَّعٌ وأطفال رُضّع وبهائم رُتّع لصبّ عليكم العذاب صبا " خرّجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض.
حدّثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا فيكم رجال خُشّع وبهائم رُتّع وصبيان رُضّع لصب العذاب على المؤمنين صبا " أخذ بعضهم هذا المعنى فقال :
لولا عبادٌ للإله رُكّعُ . . .
وصِبْيَة من اليتامى رُضّعُ
وَمُهْمَلاتٌ في الفَلاة رُتّعُ . . .
صُبّ عليكم العذاب الأوْجَعُ
وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم " وقال قتادة : يبتلى الله المؤمن بالكافر ويعافى الكافر بالمؤمن.
(8/67)
وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء " ثم قرأ ابن عمر "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ".
وقيل : هذا الدفع بما شرع على ألْسِنَة الرسل من الشرائع ، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا ، وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمّله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 260 ـ 261}
وقال أبو حيان :
والذي يظهر : أن المدفوع بهم هم المؤمنون ، ولولا ذلك لفسدت الأرض ، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها ، ولكنه تعالى لا يخلي زماناً من قائم يقوم بالحق ويدعو إلى الله تعالى ، إلى أن جعل ذلك في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الزمخشري : لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ، ويكف بهم فسادهم ، لغلب المفسدون ، وفسدت الأرض ، وبطلت منافعها ، وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. انتهى.
وهو كلام حسن. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 279}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به ، فقوله : {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم} إشارة إلى المدفوع ، وقوله : {بِبَعْضِ} إشارة إلى المدفوع به ، فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية ، فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا ، ويحتمل أن يكون مجموعهما.
أما القسم الأول : وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ، فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر ، أو إلى الفسق ، أو إليهما ، فلنذكر هذه الاحتمالات.(8/68)
الاحتمال الأول : أن يكون المعنى : ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض ، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى : {كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [ إبراهيم : 1 ].
والاحتمال الثاني : أن يكون المراد : ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض ، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على ما قال تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [ آل عمران : 110 ] ويدخل في هذا الباب : الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ونظيره قوله تعالى : {ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ السيئة} [ المؤمنون : 96 ] وفي موضع آخر : {وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة} [ الرعد : 22 ].
الاحتمال الثالث : ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض ،
(8/69)
واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام ، ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم ، وتقريره : أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده ، لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا ، ولا يبني هذا لذاك ، ولا ينسج ذاك لهذا ، لا تتم مصلحة الإنسان الواحد ، ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد ، فلهذا قيل : الإنسان مدني بالطبع ، ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولاً ، والمقاتلة ثانياً ، فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق ، لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات ، فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعتهم الآفات عن الخلق فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع ، فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة ، والمصالح حاصلة فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام واعلم أنه كما لا بد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام
(8/70)
" الإسلام والسلطان أخوان توأمان " وقال أيضاً : " الإسلام أمير ، والسلطان حارس ، فما لا أمير له فهو منهزم ، وما لا حارس له فهو ضائع " ولهذا يدفع الله تعالى عن المسلمين أنواع شرور الدنيا بسبب وضع الشرائع وبسبب نصب الملوك وتقويتهم ، ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله : {لَفَسَدَتِ الأرض} أي لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي ، وذلك يسمى فساداً قال الله تعالى : {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [ البقرة : 205 ] وقال : {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ من المصلحين} [ القصص : 19 ] وقال : {إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرض الفساد} [ غافر : 26 ] وقال : {أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض} [ الأعراف : 127 ] وقال : {ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس} [ الروم : 41 ] وهذا التأويل يشهد له قوله في سورة الحج : {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد} [ الحج : 40 ]
(8/71)
الاحتمال الرابع : ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار ، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها ، وتصديق هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي ، وبمن يزكي عمن لا يزكي ، وبمن يصوم عمن لا يصوم ، وبمن يحج عمن لا يحج ، وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على صحة هذا القول من القرآن قوله تعالى : {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ فِى المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا} [ الكهف : 82 ] وقال تعالى : {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات} [ الفتح : 25 ] إلى قوله : {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [ الفتح : 25 ] وقال : {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [ الأنفال : 33 ] ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله : {لَفَسَدَتِ الأرض} أي لأهلك الله أهلها لكثرة الكفار والعصاة.
والاحتمال الخامس : أن يكون اللفظ محمولاً على الكل ، لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً وهو دفع المفسدة ، فإذا حملنا اللفظ عليه دخلت الأقسام بأسرها فيه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 161 ـ 163}(8/72)
قال الطبرى فى معنى الآية :
وهذه الآية إعلامٌ من الله تعالى ذكره أهلَ النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المتخلِّفين عن مَشاهده والجهادِ معه للشكّ الذي في نفوسهم ومرض قلوبهم ، والمشركين وأهلِ الكفر منهم ، وأنه إنما يدفع عنهم معاجَلَتهم العقوبة على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله ، الذين هم أهل البصائر والجدّ في أمر الله ، وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعدَه على جهاد أعدائه وأعداء رسوله ، من النصر في العاجل ، والفوز بجنانه في الآجل. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 373}(8/73)
كلام نفيس للعلامة ابن عاشور فى معنى الآية :
قال رحمه الله :
ومعنى الآية : أنه لولا وقوع دفع بعض الناس بعضاً آخر بتكوين الله وإيداعه قوة الدفع وبواعثه في الدافع لفسدت الأرض ، أي من على الأرض ، واختل نظام ما عليها ، ذلك أن الله تعالى لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس وأنواع وأصناف ، خلقها قابلة للاضمحلال ، وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده ، ولذلك نجد قانون الخَلَفية منبثاً في جميع أنواع الموجودات فما من نوع إلاّ وفي أفراده قوة إيجاد أمثالها لتكون تلك الأمثال أخلافاً عن الأفراد عند اضمحلالها ، وهذه القوة هي المعبر عنها بالتناسل في الحيوان ، والبذر في النبت ، والنضح في المعادن ، والتولد في العناصر الكيماوية.
ووجود هذه القوة في جميع الموجودات أول دليل على أن موجِدها قد أراد بقاء الأنواع ، كما أراد اضمحلال الأفراد عند آجال معينة ، لاختلال أو انعدام صلاحيتها ، ونعلم من هذا أن الله خالق هذه الأكوان لا يحب فسادها ، وقد تقدم لنا تفسير قوله : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ].
ثم إن الله تعالى كما أودع في الأفراد قوة بها بقاء الأنواع ، أودع في الأفراد أيضاً قوى بها بقاء تلك الأفراد بقدر الطاقة ، وهي قوى تطلُّب الملائم ودفع المنافي ، أو تطلُّب البقاء وكراهية الهلاك ، ولذلك أودع في جميع الكائنات إدراكات تنساق بها ، بدون تأمل أو بتأمل ، إلى ما فيه صلاحها وبقاؤها ، كانسياق الوليد لالتهام الثدي ، وأطفال الحيوان إلى الأثداء والمراعي ، ثم تتوسع هذه الإدراكات ، فيتفرع عنها كل ما فيه جلب النافع الملائم عن بصيرة واعتياد ، ويسمى ذلك بالقوة الشاهية.(8/74)
وأودع أيضاً في جميع الكائنات إدراكات تندفع بها إلى الذب عن أنفسها ، ودفع العوادي عنها ، عن غير بصيرة ، كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه ، وتعريض البقرة رأسها بمجرد الشعور بما يهجم عليها من غير تأمل في تفوق قوة الهاجم على قوة المدافع ، ثم تتوسع هاته الإدراكات فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر من ابتداء بإهلاك من يُتوقع منه الضر ، ومن طلب الكِن ، واتخاذ السلاح ، ومقاومة العدو عند توقع الهلاك ، ولو بآخر ما في القوة وهو القوة الغاضبة ولهذا تزيد قوة المدافعة اشتداداً عند زيادة توقع الأخطار حتى في الحيوان.
وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمريد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها ، وقد عَوَّضَ الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقلَ والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضرراً ، وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به ، وهو المعبر عنه بالاستعداد.
ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع ، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على إبقاء الآخر ، فهذا ناموس عام ، وجعل الإنسان بما أودَعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع.
وجعل له العلم بما في الأنواع من الخصائص ، وبما في أفراد نوعه من الفوائد.
فخلق الله تعالى أسباب الدفاع بمنزلة دفع من الله يدفع مريد الضر بوسائل يستعملها المراد إضراره ، ولولا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع ، لاشتد طمع القوي في إهلاك الضعيف ، ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره ، فابتزها منه ، ولأفرَطتْ أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها ، مما هو له ، ولتناسى صاحب الحاجة حين الاحتياج ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضاً.
(8/75)
وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره ، وكل قوي على ضعيفه ، فيهلك القوي الضعيف ، ويهلك الأقوى القويَّ ، وتذهب الأفراد تباعاً ، والأنواع كذلك حتى لا يبقى إلاّ أقوى الأفراد من أقوى الأنواع ، وذلك شيء قليل ، حتى إذا بقي أعوزته حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه ، وكان يجدها في غيره من أفراد نوعه ، كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض ، أو من أنواع أخر ، كحاجة الإنسان إلى البقرة ، فيذهب هدراً.
ولما كان نوع الإنسان هو المهيمن على بقية موجودات الأرض وهو الذي تظهر في أفراده جميع التطورات والمساعي ، خصتهُ الآية بالكلام فقالت : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } إذ جعل الله في الإنسان القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه ، وجعل فيه القوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه ، وفي ذلك استبقاء بقية الأنواع ؛ لأن الإنسان يذب عنها لما في بقائها من منافع له.
وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي ، وهو ظاهر ، وسلامة الضعيف أيضاً لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع سئم ذلك ، واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة.
وإنما كان الحاصل هو الفساد ، لولا الدفاع ، دون الصلاح ، لأن الفساد كثيراً ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة القصيرة الزمن ، ولأن في كثير من النفوس أو أكثرها الميل إلى مفاسد كثيرة ، لأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها ، بخلاف النفوس الصالحة ، فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها ، ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها وانتشارها ، فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات ، فلا جرم لولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين ، لأسرع ذلك في فساد حالهم ، ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت.
(8/76)
وأعظم مظاهر هذا الدفاع هو الحروب ؛ فبالحرب الجائرة يطلب المحارب غصب منافع غيره ، وبالحرب العادلة ينتصف المحق من المبطل ، ولأجلها تتألف العصبيات والدعوات إلى الحق ، والإنحاء على الظالمين ، وهزم الكافرين.
ثم إن دفاع الناس بعضهم بعضاً يصد المفسد عن محاولة الفساد ، ونفس شعور المفسد بتأهب غيره لدفاعه يصده عن اقتحام مفاسد جمة.
ومعنى فساد الأرض : إما فساد الجامعة البشرية كما دل عليه تعليق الدفاع بالناس ، أي لفسد أهل الأرض ، وإما فساد جميع ما يقبل الفساد فيكون في الآية احتباك ، والتقدير : ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض وبقية الموجودات بعضها ببعض لفسدت الأرض أي من على الأرض ولفسد الناس.
والآية مسوقة مساق الامتنان ، فلذلك قال تعالى : { لفسدت الأرض } لأنا لا نحب فساد الأرض ، إذ في فسادها بمعنى فساد ما عليها اختلالُ نظامنا وذهاب أسباب سعادتنا ، ولذلك عقبه بقوله : { ولكن الله ذو فضل على العالمين } فهو استدراك مما تضمنته "لولا" من تقدير انتفاء الدفاع ؛ لأن أصل لولا لو مع لا النافية ، أي لو كان انتفاءُ الدفاع موجوداً لفسدت الأرض وهذا الاستدراك في هذه الآية أدل دليل على تركيب ( لولا ) من ( لو ) و( لا ) ، إذ لا يتم الاستدراك على قوله : { لفسدت الأرض } لأن فساد الأرض غير واقع بعد فرض وجود الدفاع ، إن قلنا "لولا" حرف امتناع لوجود.
وعلق الفضل بالعالمين كلهم لأن هذه المنة لا تختص. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 500 ـ 503}
فائدة
قال الفخر :
قال القاضي : هذه الآية من أقوى ما يدل على بطلان الجبر ، لأنه إذا كان الفساد من خلقه فكيف يصلح أن يقول تعالى : {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} ويجب أن لا يكون على قولهم لدفاع الناس بعضهم ببعض تأثير في زوال الفساد وذلك لأن على قولهم الفساد إنما لا يقع بسبب أن لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى الناس.
(8/77)
والجواب : أن الله تعالى لما كان عالماً بوقوع الفساد ، فإذا صح مع ذلك العلم أن لا يفعل الفساد كان المعنى أنه يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد ، فيلزم أن يكون قادراً على الجمع بين النفي والإثبات وهو محال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 163}
قوله تعالى : {ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين}
قال الفخر :
أما قوله : {ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} فالمقصود منه أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكل بقضاء الله تعالى ، فقالوا : لو لم يكن فعل العبد خلقاً لله تعالى ، لم يكن دفع المحققين شر المبطلين فضلاً من الله تعالى على أهل الدنيا لأن المتولي لذلك الدفع إذا كان هو العبد من قبل نفسه وباختياره ولم يكن لله تعالى {ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} عقيب قوله : {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} يدل على أنه تعالى ذو فضل على العالمين بسبب ذلك الدفع ، فدل هذا على أن ذلك الدفع الذي هو فعلهم هو من خلق الله تعالى ومن تقديره.
فإن قالوا : يحمل هذا على البيان والإرشاد والأمر.
قلنا : كل ذلك قائم في حق الكفار والفجار ولم يحصل منه الدفع ، فعلمنا أن فضل الله ونعمته علينا إنما كان بسبب نفس ذلك الدفع وذلك يوجب قولنا ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 163}
فائدة جليلة
قال البقاعى :
(8/78)
ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة لما فيها للنبي صلى الله عليه وسلم من واضح الدلالة على صحة دعواه الرسالة لأنها مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل ثم عقبها بآية الكرسي التي هي العلم الأعظم من دلائل التوحيد فكان ذلك في غاية المناسبة لما في أوائل السورة في قوله تعالى {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [ البقرة : 21 ] إلى آخر تلك الآيات من دلائل التوحيد المتضمنة لدلائل النبوة المفتتح بها قصص بني إسرائيل فكانت دلائل التوحيد مكتنفة قصتهم أولها وآخرها مع ما في أثنائها جرياً على الآسلوب الحكيم في مناضلة العلماء ومجادلة الفضلاء ، فكان خلاصة ذلك كأنه قيل : {ألم} تنبيهاً للنفوس بما استأثر العليم سبحانه وتعالى بعلمه فلما ألقت الأسماع وأحضرت الأفهام قيل يا أيها الناس فلما عظم التشوف قال {اعبدوا ربكم} [ البقرة : 21 ] ثم عينه بعد وصفه بما بينه بقوله {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [ البقرة : 255 ] كما سيجمع ذلك من غير فاصل أول سورة التوحيد آل عمران المنزلة في مجادلة أهل الكتاب من النصارى وغيرهم ، وتختم قصصهم بقوله : {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم} [ آل عمران : 193 ] يعني بالمنادي والله سبحانه وتعالى أعلم القائل {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [ البقرة : 21 ] - إلى آخرها ، ومما يجب التنبه له من قصتهم هذه ما فيها لأنها تدريب لمن كتب عليهم القتال وتأديب في ملاقاة الرجال من الإرشاد إلى أن أكثر حديث النفس وأمانيها الكذب لا سيما بالثبات في مزال الأقدام فتشجع الإنسان ، فإذا تورّط أقبلت به على الهلع حتى لا يتمنوا لقاء العدو كما أدبهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن بني إسرائيل مع كونهم لا يحصون كثرة سألوا نبيهم صلى الله عليه وسلم بعث ملك للجهاد ، فلما بعث فخالف أغراضهم لم يفاجئوه إلا بالاعتراض ، ثم لما استقر الحال بعد نصب الأدلة وإظهار الآيات ندبهم ، فانتدب(8/79)
جيش لا يحصى كثرة ، فشرط عليهم الشاب الفارغ بناء دار وبناء بامرأة ، فلم يكن الموجود بالشرط إلا ثمانين ألفاً ؛ ثم امتحنوا بالنهر فلم يثبت منهم إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر وهم دون الثلث من ثمن العشر من المتصفين بالشرط من الذين هم دون الدون من المنتدبين الذين هم دون الدون من السائلين في بعث الملك ، فكان الخالصون معه ، كما قال بعض الأولياء المتأخرين لآخر قصده بالزيارة :
ألم تعلم بأني صيرفيّ . . .
أحك الأصدقاء على محك
فمنهم بهرج لا خير فيه . . .
ومنهم من أجوزه بشك
وأنت الخالص الذهب المصفى . . .
بتزكيتي ومثلي من يزكي
وهذا سر قول الصادق عليه الصلاة والسلام " أمتي كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة " وقوله صلى الله عليه وسلم " لا تمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا " فالحاصل أنه على العاقل المعتقد جهله بالعواقب وشمول قدرة ربه أن لا يثق بنفسه في شيء من الأشياء ، ولا يزال يصفها بالعجز وإن ادعت خلاف ذلك ، ويتبرأ من حوله وقوته إلى حول مولاه وقوته ولا ينفك يسأله العفو والعافية. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 482 ـ 483}
فائدة
قال الآلوسى :
{ ولكن الله ذُو فَضْلٍ } لا يقدر قدره { عَلَى العالمين } كافة وهذا إشارة إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض المقدم منتج لنقيض التالي خلا أنه قد وضع موضعه ما يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذاناً بأنه تعالى يتفضل في ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل : ولكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وينتظم به مصالح العالم وينصلح أحوال الأمم ، قاله مولانا مفتي الديار الرومية قدس سره.
(8/80)
واعترض بأنه مخالف لقول المنطقيين : إن المتصلة ينتج استثناء عين مقدمها عين تاليها لاستلزام وجود الملزوم وجود اللازم واستثناء نقيض تاليها نقيض المقدم لاستلزام عدم اللازم عدم الملزوم ولا ينعكس فلا ينتج استثناء عين التالي عين المقدم ولا نقيض المقدم نقيض التالي لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم ولا من عدم الملزوم عدم اللازم ، وأجيب بأن ذلك إنما هو باعتبار الهيئة ، وقد يستلزمه بواسطة خصوصية مادة المساواة ، وقد صرح ابن سينا في "الفصول" بأن الملازمة إذا كانت من الطرفين كما بين العلة والمعلول ينتج استثناء كل من المقدم والتالي عين الآخر ونقيضه نقيض الآخر ، وفي تعليل القوم أيضاً إشارة إليه حيث قالوا : لجواز أن يكون اللازم أعم وكأن في عبارة المولى إشارة إلى أن الملازمة في الشرطية من الطرفين حيث قال : منتج ولم يقل ينتج. أهـ
وأجاب بعضهم بأن قولهم ذلك ليس على سبيل الاطراد بل إذا كان نقيض المقدم أعم من نقيض التالي ، وأما إذا كان نقيضه بعكس هذا كما في هذه الآية الكريمة وأمثالها فإنه ينتج التالي ، وذلك أن الدفع المذكور لما كان ملزوماً لعدم فساد الأرض كانت الملازمة ثابتة بينهما لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم كما بين في موضعه وادعاء أن الملازمة من الطرفين هنا كما زعمه المجيب الأول ليس بشيء بل اللازم ههنا أعم من الملزوم كما لا يخفى على ذي روية ، وكون عبارة المولى مشيرة إلى أن الملازمة من الطرفين في حيز المنع وما ذكره لا يدل عليه كما لا يخفى فافهم وتدبر فإن نظر المولى دقيق. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 174}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ }.(8/81)
هيب الله الأعداء بطالوت لما زاده من البسطة في الجسم ولكن عند القتال جعل الظفر على يدي داود. وكان كما في القصة رَبْعَ القامة غير عظيم الجثة ، مختصر الشخص ، ولم يكن معه من السلاح إلا مقلاع ، ولكن الظفر كان له لأن نصرة الله سبحانه كانت معه.
قوله جلّ ذكره : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ }.
فلم يبق منهم أثر ولا عين ، وقتل داودُ جالوتَ وداود بالإضافة إلى جالوت في الضخامة والجسامة كان بحيث لا تُتَوهَم غلبته إياه ولكن كما قال قائلهم :
استقبلني وسيفه مسلول... وقال لي واحدنا معذول
قوله جلّ ذكره : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ }.
لو تظاهر الخلْق وتوافقوا بأجمعهم لهلك المستضعفون لغلبة الأقوياء ولكن شغل بعضهم ببعض ليدفع بتشاغلهم شرَّهم عن قوم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 195}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { مِمَّا يَشَآءُ... }.
قوله تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرض... }.
قال ابن عطية : أي لولا دفعه لكفر بالمؤمنين لفسدت الأرض بعموم ( الكفر ) من أقطارها ، لكنه لا يخلو زمان من داع إلى الله ومقاتل عليه إلى أن جعله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال مكي : أكثر المفسرين على أن المراد لولا أن يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي ( لأهلك ) لأناس بذنوبهم.
وضعفه ابن عطية قال : والحديث الذي ذكر عن ابنِ عمر رضي الله عنهما المعارض للآية لا يصح.
قلت : انظره في تفسير مكي.(8/82)
قال ابن عرفة : وكان بعضهم يبدي في هذه الآية معنى ذكره البيانيون وهو الفرق بين قولك : أكلت بعض الرغيف وبين قولك : أكلت الّرغيف بعضه. وكذلك : أكلت بعض الشاة ، وأكلت الشاة بعضها. ( فما تقول ) إلا إذا كان المأكول أكثرها أو كان أفضلها ، لأنه من باب إطلاق اسم الكل على الجزء ولا يكون إلا لمعنى. قال : وفي الآية حجة على من يجعل لفظ البعض لا يطلق إلا على الأقل وهو ( خلاف نقله ) الآمدي في شرح الجزولية في باب التثنية والجمع لأن البعض الأول عبر به عن الدافع والبعض الثاني عن المدفوع ، والدافع إما أقل من المدفوع أو أكثر أو مساو.
وأجيب بأن هذا لازم إذا كانا قسمين فقط ولعلها ثلاثة أقسام دافع ومدفوع عنه ومدفوع.
قال ابن عرفة : وفي الآية حجة لمن قال : إن العقل ما خلا عن سمع قط لاقتضائها أنّه لولا ذهاب الفساد بالصلاح المرشد إلى اتباع أوامر الله ونواهيه لعمّ الكفر والفساد الأرض ، فلو خلا العقل من سمع في زمن من الأزمان لهلك الخلق كلهم.
فقال : بعض الطلبة بمحضره : إنّما يتم هذا على أحد تفسيري ابن عطية.
فقال ابن عرفة : والآية دالة على أنّ الفساد هو الأصل والأكثر فيستفاد ( منها ) فيما إذا كنّا شككنا في صفته ، واحتملت الصحة والفساد أنّها تحمل على الفساد كقولهم في فداء المسلمين من أيدي الكفار بالسلاح والكراع هل يجوز ؟ وتغلب مصلحة استخلاص المسلمين منهم على مفسدة تقوي الكافرين بالسّلاح أو يمتنع ؟ وكذلك إذا تترّس الكفار بالمسلمين هل يباح قتل الترس أم لا ؟
قوله تعالى : { ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين }.
قال ابن عرفة : هذا احتراس وهو حجة لأهل السنة لأن ما قبلها تضمّن أنّ الله تعالى يذهب الفاسد بالصالح فلو اقتصر عليه لأوهم وجوب مراعاة الأصلح على الله تعالى فبين بهذه الآية أن ذلك محض تفضل من الله تعالى ولا يجب عليه شيء.
(8/83)
قال ابو حيان : " وَلَكِنّ " استدراك بإثبات الفضل على جميع العالمين لما يتوهمه من يريد الفساد أن الله غير متفضل عليه إذ لم يبلغه مقاصده.
قال ابن عرفة : هذا بناء على أنّ ما بعد ( لَكِنّ ) لا يكون ( مضادا ) لما قبلها ، ومن يجيز كونه مخالفا له لا يحتاج إلى هذا بل نقول : معناه لهلك النّاس كلّهم بغلبة الفساد. ( وعلّل تفضله ) بالجميع لأنّه عام يناله المفسد والمصلح والمدفوع عنه ، أما نيله المدفوع فظاهر وأما المفسد فلأن منعه من ذلك منقذ ( له ) من الهلاك ودخول النّار فيصير صالحا. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 225}(8/84)
فائدة
قال ابن القيم :
معلوم أن الصبر والتوفيق فعل اختياري للعبد وقد أخبر أنه به لا بالعبد وهذا لا ينبغي أن يكون فعلا للعبد حقيقة ولهذا أمر به وهو لا يأمر عبده بفعل نفسه سبحانه وإنما يؤمر العبد بفعله هو ومع هذا فليس فعله واقعا به وإنما هو بالخالق لكل شيء الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فالتصبير منه سبحانه وهو فعله والصبر هو القائم بالعبد وهو فعل العبد ولهذا أثنى على من يسأله أن يصبره فقال تعالى {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله}
ففي الآية أربعة أدلة :
أحدها : قولهم أفرغ علينا صبرا ، والصبر فعلهم الاختياري فسألوه ممن هو
بيده ومشيئته وإذنه إن شاء أعطاهموه وإن شاء منعهموه
والثاني قولهم وثبت أقدامنا ، وثبات الأقدام فعل اختياري ، ولكن التثبيت فعله والثبات فعلهم ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله
الثالث قولهم {وانصرنا على القوم الكافرين } فسألوه النصر وذلك بأن يقوي عزائمهم ويشجعهم ويصبرهم ويثبتهم ويلقي في قلوب أعداهم الخور والخوف والرعب فيحصل النصر ، وأيضا فإن كون الإنسان منصورا على غيره إما أن يكون بأفعال الجوارح وهو واقع بقدرة العبد واختياره ، وإما أن يكون بالحجة والبيان والعلم وذلك أيضا فعل العبد وقد أخبر سبحانه أن النصر بجملته من عنده وأثنى على من طلبه منه وعند القدرية لا يدخل تحت مقدور الرب
الرابع قوله {فهزموهم بإذن الله}
وإذنه ههنا هو الإذن الكوني القدري أي بمشيئته وقضائه وقدره وليس هو الإذن الشرعي الذي بمعنى الأمر فإن ذلك لا يستلزم الهزيمة بخلاف إذنه الكوني وأمره الكوني فإن المأمور المكون لا يتخلف عنه ألبتة أ هـ {شفاء العليل صـ 63 ـ 64}(8/85)
فصل فى قصة قتل داود ـ عليه السلام ـ جالوت
قال البغوى :
{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي بعلم الله تعالى { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } وصفة قتله : قال أهل التفسير
(8/86)
عبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا له وكان داود أصغرهم وكان يرمي بالقذافة فقال لأبيه يوما يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته فقال : أبشر يا بني فإن الله جعل رزقك في قذافتك ، ثم أتاه مرة أخرى فقال : يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبته فأخذت بأذنيه فلم يهجني ، فقال : أبشر يا بني فإن هذا خير يريده الله بك ثم أتاه يوما آخر فقال : يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فما يبقى جبل إلا سبح معي ، فقال : أبشر يا بني فإن هذا خير أعطاكه الله تعالى فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز إلي أو أبرز إلي من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره من قتل جالوت زوجته ابنتي وناصفته ملكي فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى فدعا الله في ذلك ، فأتى بقرن فيه دهن القدس وتنور في حديد فقيل إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتى يدهن منه رأسه ولا يسيل على وجهه ويكون على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنور فيملؤه ولا يتقلقل فيه ، فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم فلم يوافقه منهم أحد فأوحى الله إلى نبيهم أن في ولد إيشا من يقتل الله به جالوت فدعا طالوت إيشا فقال : اعرض علي بنيك فأخرج له اثنى عشر رجلا أمثال السواري فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا فقال : لإيشا هل بقي لك ولد غيرهم فقال لا فقال النبي : يا رب إنه زعم أن لا ولد له غيرهم ، فقال كذب ، فقال النبي : إن ربي كذبك فقال : صدق الله يا نبي الله إن لي ابنا صغيرا يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته( فخلفته ) في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا وكذا ، وكان داود رجلا قصيرا مسقاما
(8/87)
مصفارا أزرق أمعر ، فدعاه طالوت ، ويقال : بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها ، فوجده يحمل شاتين يجيز بهما السيل ولا يخوض بهما الماء فلما رآه قال : هذا هو لا شك فيه ، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض فقال طالوت : هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي قال : نعم قال : وهل آنست من نفسك شيئا تتقوى به على قتله ؟ قال : نعم ، أنا أرعى فيجيء الأسد أو النمر أو الذئب فيأخذ شاة فأقوم إليه فأفتح لحييه عنها وأضرقها إلى قفاه ، فرده إلى عسكره ، فمر داود عليه السلام في طريقه بحجر فناداه الحجر يا داود احملني فإني حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا ، فحمله في مخلاته ، ثم مر بحجر آخر فقال : احملني فإني حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا فحمله في مخلاته ، ثم مر بحجر آخر فقال : احملني فإني حجرك الذي تقتل بي جالوت فوضعها في مخلاته ، فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة انتدب له داود فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا فلبس السلاح وركب الفرس وسار قريبا ثم انصرف إلى الملك فقال : من حوله جبن الغلام فجاء فوقف على الملك فقال : ما شأنك ؟ فقال : إن الله إن لم ينصرني لم يغن عني هذا السلاح شيئا ، فدعني أقاتل كما أريد ، قال : فافعل ما شئت قال : نعم ، فأخذ داود مخلاته فتقلدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت وكان جالوت من أشد الرجال وأقواهم ، وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد فلما نظر إلى داود ألقي في قلبه الرعب فقال له : أنت تبرز إلي ؟ قال : نعم.
(8/88)
وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام ، قال : فأتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب ؟ قال : نعم أنت شر من الكلب ، قال لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء قال داود : أو يقسم الله لحمك ، فقال داود : باسم إله إبراهيم وأخرج حجرا ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله إسحاق ووضعه في مقلاعه ثم أخرج الثالث وقال : باسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجرا واحدا ودور داود المقلاع ورمى به فسخر الله له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة فخالط دماغه وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلا وهزم الله تعالى الجيش وخر جالوت قتيلا فأخذه يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت ، ففرح المسلمون فرحا شديدا ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود فجاء داود طالوت وقال انجز لي ما وعدتني ، فقال : أتريد ابنة الملك بغير صداق ؟ فقال داود : ما شرطت علي صداقا وليس لي شيء فقال لا أكلفك إلا ما تطيق أنت رجل جريء وفي حيالنا أعداء لنا غلف فإذا قتلت منهم مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوجتك ابنتي فأتاهم فجعل كلما قتل واحدا منهم نظم غلفته في خيط حتى نظم غلفهم فجاء بها إلى طالوت فألقى إليه وقال ادفع إلي امرأتي فزوجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه ، فمال الناس إلى داود وأحبوه وأكثروا ذكره ، فحسده طالوت وأراد قتله فأخبر ذلك ابنة طالوت رجل يقال له ذو العينين فقالت لداود إنك مقتول في هذه الليلة قال : ومن يقتلني ؟ قالت أبي قال وهل أجرمت جرما ؟ قالت : حدثني من لا يكذب ولا عليك أن تغيب هذه الليلة حتى تنظر مصداق ذلك ، فقال : لئن كان أراد الله ذلك لا أستطيع خروجا ولكن ائتيني بزق خمر فأتت به فوضعه في مضجعه على السرير وسجاه ودخل تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل فقال لها : أين بعلك ؟ فقالت : هو نائم على السرير فضربه بالسيف ضربة فسال الخمر فلما وجد ريح الشراب قال : يرحم الله داود ما كان أكثر شربه للخمر ، وخرج.
(8/89)
فلما أصبح علم أنه لم يفعل شيئا فقال : إن رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتى يدرك مني ثأره فاشتد حجابه وحراسه وأغلق دونه أبوابه ، ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون فأعمى الله سبحانه الحجبة وفتح له الأبواب فدخل عليه وهو نائم على فراشه ، فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج ، فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال : يرحم الله تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكف عني ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي وما أنا بالذي آمنه ، فلما كانت القابلة أتاه ثانيا وأعمى الله الحجاب فدخل عليه وهو نائم فأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ منه وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه ، ثم خرج وهرب وتوارى ، فلما أصبح طالوت ورأى ذلك سلط على داود العيون وطلبه أشد الطلب فلم يقدر عليه ، ثم إن طالوت ركب يوما فوجد داود يمشي في البرية فقال : اليوم أقتله فركض على أثره ، فاشتد داود وكان إذا فزع لم يدرك ، فدخل غارا فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسج عليه بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال : لو كان دخل هاهنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى ، فانطلق داود وأتى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه فطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلا قتله ، وأغرى بقتل العلماء فلم يكن يقدر على عالم في بني إسرائيل يطيق قتله إلا قتله ، حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم فأمر خبازه بقتلها فرحمها الخباز وقال : لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها فوقع في قلب طالوت التوبة وندم على ما فعل ، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس.
(8/90)
وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي وينادي : أنشد الله عبدا يعلم أن لي توبة إلا أخبرني بها ، فلما أكثر عليهم ناداه مناد من القبور يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا فازداد بكاء وحزنا فرحمه الخباز فقال : ما لك أيها الملك ؟ قال : هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله هل لي من توبة فقال الخباز : إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك فتطير منه فقال : لا تتركوا في القرية ديكا إلا ذبحتموه ، فلما أراد أن ينام قال لأصحابه : إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج فقالوا له : وهل تركت ديكا نسمع صوته ؟ ولكن هل تركت عالما في الأرض ؟ فازداد حزنا وبكاء فلما رأى الخباز ذلك قال له : أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله قال : لا فتوثق عليه الخباز فأخبره أن المرأة العالمة عنده قال : انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة ؟ وكانت من أهل بيت يعلم الاسم الأعظم فإذا فنيت رجالهم علمت نساؤهم فلما بلغ طالوت الباب قال الخباز إنها إذا رأتك فزعت فخلفه خلفه ثم دخله عليها فقال لها : ألست أعظم الناس منة عليك أنجيتك من القتل وآويتك ، قالت : بلى ، قال : فإن لي إليك حاجة هذا طالوت يسأل هل لي من توبة ؟ فغشي عليها من الفرق فقال لها : إنه لا يريد قتلك ولكن يسألك هل له من توبة ؟ قالت : لا والله لا أعلم لطالوت توبة ، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي ؟ فانطلق بهما إلى قبر إشمويل فصلت ودعت ثم نادت يا صاحب القبر فخرج إشمويل من القبر ينفض رأسه من التراب فلما نظر إليهم ثلاثتهم قال : ما لكم أقامت القيامة ؟ قالت : لا ولكن طالوت يسألك هل له من توبة ؟ قال إشمويل : يا طالوت ما فعلت بعدي ؟ قال : لم أدع من الشر شيئا إلا فعلته وجئت أطلب التوبة قال : كم لك من الولد ؟ قال عشرة رجال ، قال : ما أعلم لك من توبة إلا أن تتخلى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل الله ، ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم ؟ ثم رجع إشمويل إلى القبر وسقط ميتا ، ورجع طالوت(8/91)
أحزن ما كان رهبة أن لا يتابعه ولده وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه فدخل عليه أولاده فقال لهم : أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تفدونني ؟ قالوا : نعم نفديك بما قدرنا عليه قال : فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم قالوا : فاعرض علينا فذكر لهم القصة ، قالوا : وإنك لمقتول قال : نعم ، قالوا : فلا خير لنا في الحياة بعدك قد طابت أنفسنا بالذي سألت ، فتجهز بماله وولده فتقدم ولده وكانوا عشرة فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ثم شد هو بعدهم حتى قتل فجاء قاتله إلى داود ليبشره وقال : قتلت عدوك فقال داود : ما أنت بالذي تحيا بعده ، فضرب عنقه ، وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة وأتى بنو إسرائيل إلى داود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم.
قال الكلبي والضحاك : ملك داود بعد قتل طالوت سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك قوله تعالى : { وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 1 صـ 302 ـ 307}
قال العلامة ابن عطية :
وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية ، وذلك كله لين الأسانيد ، فلذلك انتقيت منه ما تنفك به الآية وتعلم به مناقل النازلة واختصرت سائر ذلك. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 337}(8/92)
قوله تعالى : { تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما علت هذه الآيات عن أقصى ما يعرفه البصراء البلغاء من الغايات ، وتجاوزت إلى حد تعجز العقول عن مناله ، وتضاءل نوافذ الأفهام عن الإتيان بشيء من مثاله ، نبه سبحانه وتعالى على ذلك بقوله : {تلك} أي الآيات المعجزات لمن شمخت أنوفهم ، وتعالت في مراتب الكبر هممهم ونفوسهم ؛ والإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة ولا سيما هذه القصة من أخبار بني إسرائيل والعبارة عن ذلك في هذه الأساليب الباهرة والأفانين المعجزة القاهرة {آيات الله} أي الذي علت عظمته وتمت قدرته وقوته ، ولما كانت الجلالة من حيث إنها اسم للذات جامعة لصفات الكمال والجمال ونعوت الجلال لفت القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى إعجازهم عن هذا النظم بنعوت الكبر والتعالي فقال : {نتلوها} أي ننزلها شيئاً في إثر شيء بما لنا من العظمة {عليك} تثبيتاً لدعائم الكتاب الذي هو الهدى ، وتشييداً لقواعده {بالحق} قال الإمام سعد الدين التفتازاني في شرح العقائد : الحق الحكم المطابق للواقع ، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابله الباطل ، وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة ويقابله الكذب ، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع.
وفي الصدق من جانب الحكم ؛ فمعنى صدق الحكم مطابقته الواقع.
ومعنى حقيته مطابقة الواقع إياه - انتهى.
(8/93)
فمعنى الآية على هذا : إنا عالمون بالواقع من هذه الآيات فأتينا بعبارة يطابقها ذلك الواقع لا يزيد عنها ولا ينقص ، فتلك العبارة ثابتة ثبات الواقع لا يتمكن منصف عالم من إنكارها ولا إنكار شيء منها ، كما لا يتمكن من إنكار الواقع المعلوم وقوعه ، ويكون الخبر عنها صدقاً لأنه مطابق لذلك الواقع بغير زيادة ولا نقص ؛ والحاصل أن الحق يعتبر من جانب المخبر ، فإنه يأتى بعبارة يساويها الواقع فتكون حقاً ، وأن الصدق يعتبر من جانب السامع ، فإنه ينظر إلى الخبر ، فإن وجده مطابقاً للواقع قال : هذا صدق ، وليس ببعيد أن يكون من الشواهد على ذلك هذه الآية وقوله سبحانه وتعالى {والذي جاء بالصدق وصدق به} [ الزمر : 33 ] وقوله {قال فالحق والحق أقول} [ ص : 84 ] {بل جاء بالحق وصدق المرسلين} [ الصافات : 37 ] و{هو الحق مصدقاً لما بين يديه} [ فاطر : 31 ] ، وكذا {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [ الحجر : 85 ] أي أن هذا الفعل وهو خلقنا لها لسنا متعدين فيه ، وهذ الواقع يطابق خلقها لا يزيد عليه بمعنى أنه كان علينا أن نزيد فيها شيئاً وليس لنا الاقتصار على ما وجد ولا ننقص عنه بمعنى أنه كان علينا أن نجعلها ناقصة عما هي عليه ولم يكن لنا إتمامها هكذا ؛ أو بالحق الذي هو قدرتنا واختيارنا لا كما يدعيه الفلاسفة من الفعل بالذات من غير اختيار : أو بسبب الحق أي إقامته وإثباته وإبطال الباطل ونفيه ، وقوله {وأتيناك بالحق وإنا لصادقون} [ الحجر : 64 ] أي أتيناك بالخبر بعذابهم وهو ثابت ، لأن مضمونه إذا وقع فنسبتَه إلى الخبر علمت مطابقته له أي مطابقة الواقع إياه وإخبارنا عنه على ما هو به فنحن صادقون فيه ، أي نسبنا وقوع العذاب إليهم نسبة تطابق الواقع فإذا وقع نظرت إلى إخبارنا فرأيته مطابقاً له فعلمت صدقنا فيه ؛ والذي لا يدع في ذلك لبساً قوله سبحانه وتعالى حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام {قد جعلها ربي حقاً} [ يوسف : 100(8/94)
] أتى بمطابقة الواقع لتأويلها ، وأما صدقه صلى الله عليه وسلم فهو بنسبة الخبر إلى الواقع وهو أنه رأى ما أخبر به وذلك موجود من حين إخباره صلى الله عليه وسلم فإن خبره كان حين إخباره به مطابقاً للواقع ، وأما صدق الرؤيا فباعتبار أنه كان لها واقع طابقه تأويلها ؛ فإن قيل : تأسيس المفاعلة أن تكون بين اثنين فصاعداً يفعل أحدهما بالآخر ما يفعل الآخر به ، فهب أنّا اعتبرنا المطابقة من جانب واحد فذلك لا ينفي اعتبارها من الجانب الآخر فماذا يغني ما ادعيته ، قيل إنها وإن كان لا بد فيها من مراعاة الجانبين لكنها تفهم أن الذي أسند إليه الفعل هو الطالب ، بخلاف باب التفاعل فإنه لا دلالة لفعله على ذلك ، وجملة الأمر أن الواقع أحق باسم الحق لأنه الثابت والخبر أحق باسم الصدق ، والواقع طالب لخبر يطابقه ليعرف على ما هو عليه والخبر طالب لمطابقة الواقع له فيكتسب الشرف بتسميته صدقاً.
وأول ثابت في نفس الأمر هو الواقع فإنه قبل الخبر عنه بأنه وقع ، فإذا كان مبدأ الطلب من الواقع سمي الخبر باسمه ، إذا كان مبدأ الطلب من الخبر سمي باسمه الحقيق به ، ولعلك إذا اعتبرت آيات الكتاب الناطق بالصواب وجدتها كلها على هذا الأسلوب - والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما ثبت أن التلاوة عليه صلى الله عليه وسلم حق قال تعالى : {وإنك} أي والحال أنك {لمن المرسلين} بما دلت هذه الآيات عليه من علمك بها من غير معلم من البشر ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 483 ـ 484}
قال الفخر :
اعلم أن قوله : {تِلْكَ} إشارة إلى القصص التي ذكرها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت ، وإظهار الآية التي هي نزول التابوت من السماء ، وغلب الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير ، ولا شك أن هذه الأحوال آيات باهرة دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته.
(8/95)
فإن قيل : لم قال : {تِلْكَ} ولم يقل : ( هذه ) مع أن تلك يشار بها إلى غائب لا إلى حاضر ؟ .
قلنا : قد بينا في تفسير قوله : {ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [ البقرة : 2 ] أن تلك وذلك يرجع إلى معنى هذه وهذا ، وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشيء الذي انقضى ومضى ، فكانت في حكم الغائب فلهذا التأويل قال : {تِلْكَ }.
أما قوله تعالى : {نَتْلُوهَا} يعني يتلوها جبريل عليه السلام عليك لكنه تعالى جعل تلاوة جبريل عليه السلام تلاوة لنفسه ، وهذا تشريف عظيم لجبريل عليه السلام ، وهو كقوله : {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [ الفتح : 10 ].
أما قوله : {بالحق} ففيه وجوه
أحدها : أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد صلى الله عليه وسلم ، وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد ، كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة
وثانيها : {بالحق} أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب ، لأنه في كتبهم ، كذلك من غير تفاوت أصلاً
وثالثها : إنا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالة في نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة ورابعها : {تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} أي يجب أن يعلم أن نزول هذه الآيات عليك من قبل الله تعالى ، وليس بسبب إلقاء الشياطين ، ولا بسبب تحريف الكهنة والسحرة.
ثم قال : {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} وإنما ذكر هذا عقيب ما تقدم لوجوه
أحدها : أنك أخبرت عن هذه الأقاصيص من غير تعلم ولا دراسة ، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى
(8/96)
وثانيها : أنك قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخوف عليهم والرد لقولهم ، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك ، وخلاف من خالف عليك ، لأنك مثلهم ، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والتطوع ، لا على سبيل الإكراه ، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك يرجع عليهم فيكون تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظهر من الكفار والمنافقين ، ويكون قوله : {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} كالتنبيه على ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 163 ـ 164}
قال ابن الجوزى :
قوله تعالى : { تلك آيات الله نتلوها عليك } أي : نقص عليك من أخبار المتقدمين.
{ وإنك لمن المرسلين } حُكمُك حكمهم ، فمن صدقك ، فسبيله سبيل من صدقهم ، ومن عصاك ، فسبيله سبيل من عصاهم. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 201}
وقال أبو حيان :
{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين } تلك إشارة للبعيد ، وآيات الله قيل : هي القرآن ، والأظهر أنها الآيات التي تقدمت في القصص السابق من خروج أولئك الفارين من الموت ، وإماتة الله لهم دفعة واحدة ، ثم أحياهم إحياءة واحدة ، وتمليك طالوت على بني إسرائيل وليس من أولاد ملوكهم ، والإتيان بالتابوت بعد فقده مشتملاً على بقايا من إرث آل موسى وآل هارون ، وكونه تحمله الملائكة معاينة على ما نقل عن ترجمان القرآن ابن عباس ، وذلك الابتلاء العظيم بالنهر في فصل القيظ والسفر ، وإجابة من توكل على الله في النصرة ، وقتل داود جالوت ، وإيتاء الله إياه الملك والحكمة ، فهذه كلها آيات عظيمة خوارق ، تلاها الله على نبيه بالحق أي مصحوبة ، بالحق لا كذب فيها ولا انتحال ، ولا بقول كهنة ، بل مطابقاً لما في كتب بني إسرائيل.(8/97)
ولأمّة محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القصص الحظ الأوفر في الاستنصار بالله والإعداد للكفار ، وأن كثرة العدد قد يغلبها العقل ، وأن الوثوق بالله والرجوع إليه هو الذي يعوّل عليه في الملمات ، ولما ذكر تعالى أنه تلا الآيات على نبيه ، أعلم أنه من المرسلين ، وأكد ذلك بأن واللام حيث أخبر بهذه الآية ، من غير قراءة كتاب ، ولا مدارسة أحبار ، ولا سماع أخبار. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 280}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : { وإنك لمن المرسلين } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنه وتثبيتاً لقلبه ، وتعريضاً بالمنكرين رسالته.
وتأكيد الجملة بإنَّ للاهتمام بهذا الخبر ، وجيء بقوله ( من المرسلين ) دون أن يقول : وإنك لرسول الله ، للرد على المنكرين بتذكيرهم أنه ما كان بدْعاً من الرسل ، وأنه أرسله كما أرسل من قبله ، وليس في حاله ما ينقص عن أحوالهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 503}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق . . . }.
قال ابن عرفة : الإشارة إلى الآيات المتقدمة.
وعبر عن التلاوة الماضية بصيغة المستقبل للتصور والدّوام ، وإمّا أن يكون " نتلوها " مستقبلا حقيقة والإشارة إلى المتقدم باعتبار لفظه فقط.
مثل : عندي درهم ونصفه ، أو الإشارة إلى المستقبل ( المقدر ) في الذهن تحقيقا لوقوعه وتنزيلا له منزلة الدافع حقيقة.
وفي الآية التفات بالانتقال من الغيبة إلى التكلم.
قوله " ءَايَاتُ اللهِ " إشارة إلى عظمها وجلالة قدرها.
وقوله " نَتْلُوهَا " لم يقل : يتلوها الله عليك فعبر ( بالنون المشتركة ) بين المتكلم وحده وبين المتكلم ومعه غيره إشارة إلى بلوغها للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك.
قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين }.
ابن عرفة : هذا كالنتيجة بعد المقدمتين لأن تلك الآيات المعجزات دالة على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.(8/98)
وأكدت رسالته بـ ( أن ) واللاّم بورودها بهذا اللفظ لأنه أبلغ من قوله وإنّك ( المرسل ) كما قال { يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } قاله الزمخشري في قول الله عز وجل في سورة العنكبوت { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين}. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 326}(8/99)
قوله تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تقدم في هذه السورة ذكر رسل كثيرة وختم هذه الآيات بأنه صلى الله عليه وسلم منهم تشوفت النفس إلى معرفة أحوالهم في الفضل هل هم فيه سواء أو هم متفاضلون ، فأشار إلى علو مقادير الكل في قوله : {تلك الرسل} بأداة البعد إعلاماً ببعد مراتبهم وعلو منازلهم وأنها بالمحل الذي لا ينال والمقام الذي لا يرام ، وجعل الحرالي التعبير بتلك التي هي أداة التأنيث دون أولئك التي هي إشارة المذكر توطئة وإشارة لما يذكر بعد من اختلاف الأمم بعد أنبيائها وقال : يقول فيه النحاة إشارة لجماعة المؤنث وإنما هو في العربية لجماعة ثانية في الرتبة ، لأن التأنيث أخذ الثواني عن أولية تناسبه في المعنى وتقابله في التطرق ، قال : ومن لسن العرب وإشارة تأسيس كلمها أن المعنى متى أريد إرفاعه أطلق عن علامة الثاني في الرتبة وإشارته ، ومتى أريد إنزاله قيد بعلامة الثاني وإشارته ، ثم قال : ففي ضمن هذه الإشارة لأولي التنبه إشعار بما تتضمنه الآية من الإخبار النازل عن رتبة الثبات والدوام إلى رتبة الاختلاف والانقطاع كما أنه لما كان الذكر واقعاً في محل إعلاء في آية الأنعام قيل : {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [ الأنعام : 90 ](8/100)
ولما كان شأن الاختلاف والانقطاع غير مستغرب في محل النقص والإشكال وطأ لهذا الواقع بعد الرسل بأنه ليس من ذلك وأنه من الواقع بعد إظهار التفضيل وإبلاغ البينات لما يشاؤه من أمره - انتهى.
ثم أتبع هذه الإشارة حالاً منها أو استئنافاً قوله : {فضلنا بعضهم على بعض} أي بالتخصيص بمآثر لم تجتمع لغيره بعد أن فضلنا الجميع بالرسالة.
(8/101)
ولما كان أكثر السورة في بني إسرائيل وأكثر ذلك في أتباع موسى عليه الصلاة والسلام بدأ بوصفه وثنى بعيسى عليه الصلاة والسلام لأنه الناسخ لشريعته وهو آخر أنبيائهم فقال مبيناً لما أجمل من ذلك التفضيل بادئاً بدرجة الكلام لأنها من أعظم الدرجات لافتاً القول إلى مظهر الذات بما لها من جميع الصفات لأنه أوفق للكلام المستجمع للتمام {منهم من كلم الله} أي بلا واسطة بما له من الجلال كموسى ومحمد وآدم عليهم الصلاة والسلام {ورفع بعضهم} وهو محمد صلى الله عليه وسلم على غيره ، ومن فوائد الإبهام الاستنباط بالدليل ليكون مع أنه أجلى أجدر بالحفظ وذلك الاستنباط أن يقال إنه سبحانه وتعالى قد عمهم بالتفضيل بالرسالة أولاً ، ثم بين أنه فضل بعضهم على غيره ، وذلك كله رفعة فلو كانت هذه مجرد رفعة لكان تكريراً فوجب أن يفهم أنها رفعة على أعلاهم ، وأسقط الفوقية هنا إكراماً للرسل بخلاف ما في الزخرف فقال معيناً بعض ما اقتضاه التفضيل : {درجات} أي عظيمة بالدعوة العامة والمعجزات الباقية ؛ والأتباع الكثيرة في الأزمان الطويلة ، من غير تبديل ولا تحريف ، وبنسخ شرعه لجميع الشرائع ، وبكونه رحمة العالمين ، وأمته خير أمة أخرجت للناس ، وكونه خاتماً للنبيين الذين أرسلهم سبحانه وتعالى عند الاختلاف مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ، فلا نبي بعده ينسخ شريعته ، وإنما يأتي النبي الناسخ لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام مقرراً لشريعته مجدداً لما درس منها كما كان من أنبياء بني إسرائيل الذين بينه وبين موسى عليهم الصلاة والسلام ، ولما كان الشخص لا يبين فضله إلا بآثاره وكانت آيات موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أكثر من آيات من سبقهما خصهما بالذكر إشارة إلى ذلك ، فكان فيه إظهار الفضل لنبينا صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا نسبة لما أوتي أحد من الأنبياء إلى ما أوتي ، وإبهامه يدل على ذلك من حيث إنه إشارة إلى أن إبهامه في الظهور والجلاء كذكره ، (8/102)
لأن ما وصف به لا ينصرف إلا إليه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 485 ـ 486}
قال ابن عاشور :
موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها.
فأما الأول فإنّ الله تعالى لما أنبأ باختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله : تلك آيات اللَّه نتلوها عليك بالحق { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وأيدناه بِرُوحِ القدس } [ البقرة : 252 ].
جمع ذلك كلّه في قوله : { تلك الرسل } لَفْتاً إلى العبر التي في خلال ذلك كلّه.
ولما أنهى ذلك كلّه عَقَّبه بقوله : { وإنّك لمن المرسلين } [ البقرة : 252 ] تذكيراً بأنّ إعلامه بأخبار الأمم والرسل آية على صدق رسالته.
إذ ما كان لمثله قِبَلٌ بعلم ذلك لولا وحي الله إليه.
وفي هذا كلّه حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فموقع اسم الإشارة مثل موقعه في قول النابغة :
بني عمه دنيا وعمِرو بن عامر
أولئك قومٌ بأسهم غير كاذب...
والإشارة إلى جماعة المرسلين في قوله : { وإنّك لمن المرسلين }.
وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار حتى كأنّ جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مرّ من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال.
وأما الثاني فلأنّه لما أفيض القول في القتال وفي الحثّ على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنّه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكنّهم أساؤوا الفهم فجحدوا البيّنات فأفضى بهم سود فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال.(8/103)
فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع ضمير الشأن ، أي هي قصة الرسل وأممهم ، فضّلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذّب اليهود عيسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام وكذب النصارى محمداً صلى الله عليه وسلم
وقرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويهاً بمراتبهم كقوله : { ذلك الكتاب } [ البقرة : 2 ].
واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر ، وليس الرسل بدلاً لأنّ الإخبار عن الجماعة بأنّها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم ، وجملة "فضّلنا" حال.
والمقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم السلام ، وتعليم المسلمين أنّ هاته الفئة الطيّبة مع عظيم شأنها قد فضّل الله بعضها على بعض ، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، غير أنّها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المُصلِحة للبشر ومن نصر الحق ، وما لقوه من الأذى في سبيل ذلك ، وما أيَّدُوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر ، وفي عموم ذلك الهديِ ودوامهِ ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لأنْ يهدي الله بك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس "
فما بالك بمن هدى الله بهم أمماً في أزمان متعاقبة ، ومن أجل ذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل.
ويتضمن الكلام ثناء عليهم وتسلية للرسول عليه السلام فيما لقي من قومه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 5 ـ 6}
وقال الفخر :
(8/104)
وجه تعليق هذه الآية بما قبلها ما ذكره أبو مسلم وهو أنه تعالى أنبأ محمداً صلى الله عليه وسلم من أخبار المتقدمين مع قومهم ، كسؤال قوم موسى {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [ النساء : 153 ] وقولهم : {اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَة} [ الأعراف : 138 ] وكقوم عيسى بعد أن شاهدوا منه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله فكذبوه وراموا قتله ، ثم أقام فريق على الكفر به وهم اليهود ، وفريق زعموا أنهم أولياؤه وادعت على اليهود من قتله وصلبه ما كذبهم الله تعالى فيه كالملأ من بني إسرائيل حسدوا طالوت ودفعوا ملكه بعد المسألة ، وكذلك ما جرى من أمر النهر ، فعزى الله رسوله عما رأى من قومه من التكذيب والحسد ، فقال : هؤلاء الرسل الذين كلم الله تعالى بعضهم ، ورفع الباقين درجات وأيد عيسى بروح القدس ، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه بعد مشاهدة المعجزات ، وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك ، فلو شاء الله لم تختلفوا أنتم وأولئك ، ولكن ما قضى الله فهو كائن ، وما قدره فهو واقع وبالجملة فالمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على إيذاء قومه له. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 165}
وقال أبو حيان :
} مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر اصطفاء طالوت على بني إسرائيل ، وتفضل داود عليهم بإيتائه الملك والحكمة وتعليمه ، ثم خاطب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، بأنه من المرسلين ، وكان ظاهر اللفظ يقتضي التسوية بين المرسلين ، بين بأن المرسلين متفاضلون أيضاً ، كما كان التفاضل بين غير المرسلين : كطالوت وبني إسرائيل. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 282}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : { تِلْكَ الرسل } قال : "تلك" ولم يقل : ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة ، وهي رفع بالابتداء.
و "الرُّسُلُ" نعته ، وخبر الابتداء الجملة.
وقيل : الرسل عطف بيان ، و{ فَضَّلْنَا } الخبر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 261}
(8/105)
وقال الفخر :
{تِلْكَ} ابتداء ، وإنما قال : {تِلْكَ} ولم يقل أولئك الرسل ، لأنه ذهب إلى الجماعة ، كأنه قيل : تلك الجماعة الرسل بالرفع ، لأنه صفة لتلك وخبر الابتداء {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 165}
فوائد لغوية
قال أبو حيان :
و : تلك ، مبتدأ وخبره : الرسل ، و: فضلنا ، جملة حالية ، وذو الحال : الرسل ، والعامل فيه اسم الإشارة.
ويجوز أن يكون : الرسل ، صفة لاسم الإشارة ، أو عطف بيان ، وأشار بتلك التي للبعيد لبعد ما بينهم من الأزمان وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، قيل الإشارة إلى الرسل الذين ذكروا في هذه السورة ، أو للرسل التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأولى أن تكون إشارة إلى المرسلين في قوله : { وإنك لمن المرسلين } ولا يلزم من ذلك علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم ، بل أخبر أنه من جملة المرسلين ، وأن المرسلين فضل الله بعضهم على بعض ، وأتى : بتلك ، التي للواحدة المؤنثة ، وإن كان المشار إليه جمعاً ، لأنه جمع تكسير ، وجمع التكسير حكمه حكم الواحدة المؤنثة في الوصف ، وفي عود الضمير ، وفي غير ذلك ، وكان جمع تكسير هنا لاختصار اللفظ ، ولإزالة قلق التكرار ، لأنه لو جاء : أولئك المرسلون فضلنا ، كان اللفظ فيه طول ، وكان فيه التكرار.
والالتفات في : نتلوها ، وفي : فضلنا ، لأنه خروج إلى متكلم من غائب ، إذ قبله ذكر لفظ : الله ، وهو لفظ غائب.
والتضعيف في : فضلنا ، للتعدية ، و: على بعض ، متعلق بفضلنا ، قيل : والتفضيل بالفضائل بعد الفرائض أو الشرائع على غير ذي الشرائع ، أو بالخصائص كالكلام. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 282}
وقال الآلوسى :
(8/106)
{ تِلْكَ الرسل } استئناف مشعر بالترقي كأنه قيل : إنك لمن المرسلين وأفضلهم فضلاً ، والإشارة لجماعة الرسل الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما فيه من معنى البعد كما قيل للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم ، واللام للاستغراق ، ويجوز أن تكون للجماعة المعلومة له صلى الله عليه وسلم أو المذكورة قصصها في السورة ، واللام للعهد ، واختيار جمع التكسير لقرب جمع التصحيح. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 2}
فصل
قال الفخر :
في قوله : {تِلْكَ الرسل} أقوال
أحدها : أن المراد منه : من تقدم ذكرهم من الأنبياء عليهم السلام في القرآن ، كإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وموسى وغيرهم صلوات الله عليهم والثاني : أن المراد منه من تقدم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل وداود وطالوت على قول من يجعله نبياً والثالث : وهو قول الأصم : تلك الرسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد ، الذين إليهم الإشارة بقوله تعالى : {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} [ البقرة : 251 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 165}(8/107)
قال فى الميزان :
قوله تعالى : {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} ، إشارة إلى فخامة أمر الرسل وعلو مقامهم ولذلك جئ في الإشارة بكلمة تلك الدالة على الإشارةإلى بعيد ، وفيه دلالة على التفضيل الإلهي الواقع بين الأنبياء (عليهم السلام) ففيهم من هو أفضل وفيهم من هو مفضل عليه ، وللجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع ، ففيما بين الرسل أيضا اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم اختلافا على ما يدل عليه ذيل الآية إلا أن بين الاختلافين فرقا ، فإن الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة ، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد ، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين امم الأنبياء بعدهم فإنه اختلاف بالإيمان والكفر ، والنفى والإثبات ، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف ، ولذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للأنبياء تفضيلا ونسبه إلى نفسه ، وسمى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم ، فقال في مورد الرسل فضلنا ، وفي مورد أممهم اختلفوا.
ولما كان ذيل الآية متعرضا لمسألة القتال مرتبطا بها والآيات المتقدمة على الآية أيضا راجعة إلى القتال بالأمر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى : {تلك الرسل فضلنا} إلى قوله {بروح القدس} مقدمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله : {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم} إلى قوله تعالى : {ولكن الله يفعل ما يريد}.
وعلى هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل (عليهم السلام) مقام تنمو فيه الخيرات والبركات ، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الإلهي وإيتاء البينات والتأييد بروح القدس ، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.(8/108)
وبعبارة أخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلا جديدا ، وكلما ملت إلى نحو من أنحائه ألفيت غضا طريا ، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والإتيان بالآيات البينات لايتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والإيمان ، فإن هذا الاختلاف إنما يستند إلى أنفسهم ، فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع
آخر : { "إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " آل عمران - 19}. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 310 ـ 311}(8/109)
قوله تعالى : {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله}
فائدة
قال الفخر :
قرىء {كلم الله} بالنصب ، والقراءة الأولى أدل على الفضل ، لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال عليه السلام : " المصلي مناج ربه " إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى ، وقرأ اليماني : {كالم الله} من المكالمة ، ويدل عليه قولهم : كليم الله بمعنى مكالمه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 170}
فصل
قال الفخر :
اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى : {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله : {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} [ الأعراف : 155 ] وهل سمعه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ؟ اختلفوا فيه منهم من قال : نعم بدليل قوله : {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [ النجم : 10 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 170}
قال أبو حيان :
وذكر التفضيل بالكلام وهو من أشرف تفضيل حيث جعله محلاً لخطابه ومناجاته من غير سفير ، وتضافرت نصوص المفسرين هنا على أن المراد بالمكلم هنا هو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، " وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم : أنبي مرسل ؟ فقال : "نعم نبي مكلم " وقد صح في حديث الإسراء حيث ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقام تأخر عنه فيه جبريل ، أنه جرت بينه صلى الله عليه وسلم وبين ربه تعالى مخاطبات ومحاورات ، فلا يبعد أن يدخل تحت قوله : { منهم من كلم الله } : موسى وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه قد ثبت تكليم الله لهم.
وفي قوله : { كلم الله } التفات ، إذ هو خروج إلى ظاهر غائب من ضمير متكلم ، لما في ذكر هذا الاسم العظيم من التفخيم والتعظيم ، ولزوال قلق تكرار ضمير المتكلم ، إذ كأن يكون : فضلنا ، وكلمنا ، ورفعنا ، وآتينا. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 282}(8/110)
سؤال : فإن قيل : إن قوله تعالى : {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى ، ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام ، قال : {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس ، حيث قال : {فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [ ص : 79 81 ] إلى آخر هذه الآيات وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم وإن لم يوجب شرفاً فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال : {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} ؟ .
والجواب : أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل الواسطة كانت موجودة. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 170 ـ 171}
قوله تعالى : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} ففيه قولان
_______________
(1) شتان بين خطاب التشريف والإكرام وبين خطاب الذل والهوان ، وهذا أيضا متحقق فى خطاب الله تعالى لأهل الجنة ولأهل النار. والله أعلم.(8/111)
الأول : أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة ، وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يؤت أحداً مثله هذه الفضيلة ، وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره ، وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح ، ولم يكن هذا حاصلاً لأبيه داود عليه السلام ، ومحمد عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع ، وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب ، أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضاً وجه ، لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزة لائقاً بزمانه فمعجزات موسى عليه السلام ، وهي قلب العصا حية ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، كان كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر ، ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه ، وهو الطب ، ومعجزة محمد عليه السلام ، وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار ، وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة ،
وفيه وجه ثالث ، وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا ، وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة ، فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان مستجمعاً للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر.
القول الثاني : أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام ، لأنه هو المفضل على الكل ، وإنما قال : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له : من فعل هذا فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه ، ويكون ذلك أفخم من التصريح به ، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس ، فذكر زهيراً والنابغة ، ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 171}(8/112)
لطيفة
قال أبو حيان :
ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي ما لم يؤته أحد من كثرة المعجزات وعظمها ، وكان المشهود له بإحراز قصبات السبق ، حف ذكره بذكر هذين الرسولين العظيمين ، ليحصل لكل منهما بمجاورة ذكره الشرف ، إذ هو بينهما واسطة عقد النبوّة ، فينزل منهما منزلة واسطة العقد التي يزدان بها ما جاورها من اللآليء ، وتنوع هذا التقسيم ولم يرد على أسلوب واحد ، فجاءت الجملة الأولى من مبتدأ وخبر مصدرة بمن الدالة على التقسيم ، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير اسم الله ، لا لفظه ، لقربه ، إذ لو أسند إلى الظاهر لكان منهم من كلم الله ، ورفع الله ، فكان يقرب التكرار ، فكان الإضمار أحسن.
وفي الجملتين : المفضل منهم لا معين بالاسم ، لكن يعين الأول صلة الموصول ، لأنها معلومة عند السامع ، ويعين الثاني ما أخبر به عنه ، وهو أنه مرفوع على غيره من الرسل بدرجات ، وهذه الرتبة ليست إلاَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير المتكلم على سبيل الالتفات ، إذ قبله غائب ، وكل هذا يدل على التوسع في أفانين البلاغة وأساليب الفصاحة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 283}
قال ابن عاشور :
وقوله : { ورفع بعضهم درجات } يتعيّن أن يكون المراد من البعض هنا واحداً من الرسل معيّناً لا طائفة ، وتكون الدرجات مراتبَ من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد : لأنّه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مُجملاً ، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكراراً مع قوله فضّلنا بعضهم على بعض ، ولأنّه لو أريد بعضٌ فُضِّل على بعض لقال ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } [ الأنعام : 165 ].(8/113)
وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلِّغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد صلى الله عليه وسلم والعرب تعبّر بالبعض عن النفس كما في قول لبيد :
تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَها
أوْ يعْتَلِقْ بعضَ النّفوسسِ حِمَامُها...
أراد نفسه ، وعن المخاطب كقولي أبي الطيّب :
إذا كان بعضُ النّاس سيفاً لِدَوْلَةٍ
ففي النّاسِ بُوقات لها وطُبُول...
والذي يعيِّن المراد في هذا كلّه هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على واحد كقول طرفة :
إذا القَوْم قالوا مَنْ فتًى خِلْتُ أنّني
عُنِيْتُ فلم أكسل ولم أتَبَلَّدِ...
وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى : { وما أرسلناك عليهم وكيلاً وربّك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض } [ الإسراء : 54 ، 55 ] عَقب قوله : { وإذا قرآتَ القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا } إلى أن قال { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } إلى قوله { ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض } [ الإسراء : 45 ، 55 ].
وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدمِ تعيين الفاضل من المفضول : ذلك أنّ كل فريق اشتركوا في صفةِ خيرٍ لا يخلُونَ من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم ، وفي تمييز صفات التفاضل غموض ، وتطرق لتوقّع الخطأ وعروض ، وليس ذلك بسهلٍ على العقول المعرّضة للغفلة والخطأ.
فإذا كان التفضيل قد أنبأ به ربّ الجميع ، ومَنْ إليه التفضيل ، فليس من قدْر النّاس أن يتصدّوا لوضع الرسل في مراتبهم ، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله.
وهذا مورد الحديث الصحيح
" لا تُفضّلوا بين الأنبياء " يعني به النهى عن التفضيل التفصيلي ، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال ، كما نقول : الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلاً.(8/114)
وقد ثبت أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل لما تظاهر من آيات تفضيله وتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه.
وهي متقارنة الدلالة تنصيصاً وظهوراً.
إلاّ أنّ كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملاً بقاعدة كثرة الظواهر تفيد القطع.
وأعظمها آية { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنُنّ به ولتنصُرنَّه } [ آل عمران : 81 ] الآية.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقولَنّ أحَدُكُم أنا خير من يونس بن مَتَّى " يعني بقوله : " أنا " نفسه على أرجح الاحتمالين ، وقوله : " لا تُفَضِّلوني على مُوسَى " فذلك صدر قبل أن يُنبئَه اللَّهُ بأنّه أفضل الخلق عنده.
وهذه الدرجات كثيرة عرَفْنَا منها : عمومَ الرسالة لكافة الناس ، ودوامَها طُولَ الدهر ، وختمها للرسالات ، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعْوذة ، وبدوام تلك المعجزة ، وإمكان أن يشاهدها كل من يؤهّل نفسه لإدراك الإعجاز ، وبابتناء شريعته على رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال ، وبتيسير إدانة معانديه له ، وتمليكه أرضهم وديارَهم وأموالَهم في زمن قصير ، وبجعل نقل معجزته متواتراً لا يجهلها إلاّ مُكابر ، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف ، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلى الله عليه وسلم
وقد عطف ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى عليهما السلام لشدة الشبه بين شريعَتَيْهما ، لأنّ شريعة موسى عليه السلام أوسع الشرائع ، ممّا قبلها ، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 6 ـ 8}
وقال القرطبى :
وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لا تخيِّروا بين الأنبياء " و" لا تفضِّلوا بين أنبياء الله " رواها الأئمّة الثقات ، أي لا تقولوا : فلان خير من فلان ، ولا فلان أفضل من فلان.(8/115)
يُقال : خيّر فلان بين فلان وفلان ، وفضّل ( مشدداً ) إذا قال ذلك : وقد اختلف العلماء في تأويل هذا المعنى ؛ فقال قوم : إن هذا كان قبل أن يُوحى إليه بالتفضيل ، وقبل أن يعلم أنه سيِّد ولد آدم ، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل.
وقال ابن قتيبة : إنما أراد بقوله : " أنا سيد ولد آدم " يوم القيامة ؛ لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض ، وأراد بقوله : " لا تخيِّروني على موسى " على طريق التواضع ؛ كما قال أبو بكر : وليتكم ولست بخيركم.
وكذلك معنى قوله : " لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى " على معنى التواضع.
وفي قوله تعالى : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه ؛ لأن الله تعالى يقول : ولا تكن مثله ؛ فدلّ على أن قوله : "لا تفضِّلوني عليه" من طريق التواضع.
ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملاً منِّي ، ولا في البَلْوى والامتحان فإنه أعظم محنة منِّي.
وليس ما أعطاه الله لنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من السُّودَد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له ، وهذا التأويل اختاره المهلّب.
ومنهم من قال : إنما نهى عن الخوض في ذلك ، لأن الخوض في ذلك ذرِيعة إلى الجدال وذلك يؤدّي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويَقِلّ احترامهم عند المُماراة.
قال شيخنا : فلا يُقال : النبيّ أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خَيْرٌ ، كما هو ظاهر النهي لما يتوهم من النقص في المفضول ؛ لأن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى ؛ فإن الله تعالى أخبر بأن الرسُل متفاضلون ، فلا تقول : نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبيّ اجتناباً لما نُهي عنه وتأدّباً به وعملاً باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل ، والله بحقائق الأُمور عليم.(8/116)
قلت : وأحسن من هذا قول من قال : إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوّة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها ، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات ، وأما النبوّة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأُمور أُخَر زائدةٍ عليها ؛ ولذلك منهم رُسُل وأولوا عَزْم ، ومنهم مَن أُتّخِذ خليلاً ، ومنهم مَن كلّم الله ورفع بعضهم درجات ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ الإسراء : 55 ] وقال : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ }.
قلت : وهذا قول حسن ، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما مُنِح من الفضائل وأعطَي من الوسائل ، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال : إن الله فضل محمّداً على الأنبياء وعلى أهل السماء ، فقالوا : بِم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال : إن الله تعالى قال : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين } [ الأنبياء : 29 ].
وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 1 ، 2 ].
قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ قال قال الله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [ إبراهيم : 4 ] وقال الله عزّ وجلّ لمحمّد صلى الله عليه وسلم : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } [ سبأ : 28 ] فأرسله إلى الجن والإنس "ذكره أبو محمد الدارميّ في مسنده".(8/117)
وقال أبو هريرة : خير بني آدم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم أولو العزم من الرسل ، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين ، ومعلوم أن من أُرسل أفضل ممن لم يُرسل ، فإنّ من أُرسل فُضِّل على غيره بالرسالة واستووا في النبوّة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أُممهم وقتلهم إياهم ، وهذا مما لا خفاء فيه ، إلاَّ أن ابن عطية أبا محمد عبد الحق قال : إن القرآن يقتضي التفضيل ، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول ، وكذلك هي الأحاديث ؛ ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أنا أكرم ولد آدم على ربي " وقال : " أنا سيد ولد آدم " ولم يعيِّن ، وقال عليه السَّلام : " لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن مَتّى " وقال : " لا تفضِّلوني على موسى " وقال ابن عطية : وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول ؛ لأن يونس عليه السَّلام كان شاباً وتفَسّخ تحت أعْبَاء النبوّة.
فإذا كان التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم فغيره أحرى.
قلت : ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى ؛ فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يُبيِّن بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فُضِّلوا بها فقال : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } وقال : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ الإسراء : 55 ] وقال تعالى : { وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } [ المائدة : 46 ] ، { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ }
[ الأنبياء : 48 ] وقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } [ النمل : 15 ] وقال : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] فعمّ ثم خصّ وبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا ظاهر.
قلت : وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى ، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل ، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم ، وحسبك بقوله الحق : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } [ الفتح : 29 ] إلى آخر السورة.
وقال : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [ الفتح : 26 ] ثم قال : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ } [ الحديد : 10 ] وقال : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة } [ الفتح : 18 ] فعمّ وخص ، ونفي عنهم الشين والنقص ، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 261 ـ 264}(8/118)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ }.
في نصبه ستَّةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال.
الثاني : أَنَّهُ حالٌ على حذفِ مُضَافٍ ، أي : ذوي درجاتٍ.
الثالث : أَنَّهُ مفعولٌ ثانٍ لـ " رفع " على أَنَّهُ ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات.
الرابع : أنه بدلُ اشتمالٍ ، أي : رفع درجاتٍ بعضهم ، والمعنى : على درجاتِ بعض.
الخامس : أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظه؛ لأَنَّ الدّرجة بمعنى الرَّفعة ، فكأنه قيل : ورَفَع بعضهم رَفعاتٍ.
السادس : أنه على إِسْقاط الخافضِ ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يَكُون " عَلَى " أو " فِي " ، أو " إلى " تقديره : على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجات ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 304}(8/119)
بحث نفيس وقيم للعلامة فخر الدين الرازى ـ ولله دره ـ
قال رحمه الله :
أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض ، وعلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من الكل ، ويدل عليه وجوه أحدها : قوله تعالى : {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [ الأنبياء : 107 ] فلما كان رحمة لكل العالمين لزم أن يكون أفضل من كل العالمين.
الحجة الثانية : قوله تعالى : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} فقيل فيه لأنه قرن ذكر محمد بذكره في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ولم يكن ذكر سائر الأنبياء كذلك.
الحجة الثالثة : أنه تعالى قرن طاعته بطاعته ، فقال : {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [ النساء : 80 ] وبيعته ببيعته فقال : {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [ الفتح : 10 ] وعزته بعزته فقال : {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ }(8/120)
[ المنافقون : 8 ] ورضاه برضاه فقال : {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [ التوبة : 62 ] وإجابته بإجابته فقال : {ياأيها الذين ءَامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول} [ الأنفال : 24 ].
الحجة الرابعة : أن الله تعالى أمر محمداً بأن يتحدى بكل سورة من القرآن فقال : {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} [ البقرة : 23 ] وأقصر السور سورة الكوثر وهي ثلاث آيات ، وكان الله تحداهم بكل ثلاث آيات من القرآن ، ولما كان كل القرآن ستة آلاف آية ، وكذا آية ، لزم أن لا يكون معجز القرآن معجزاً واحداً بل يكون ألفي معجزة وأزيد.
وإذا ثبت هذا فنقول : إن الله سبحانه ذكر تشريف موسى بتسع آيات بينات ، فلأن يحصل التشريف لمحمد بهذه الآيات الكثيرة كان أولى.
الحجة الخامسة : أن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من معجزات سائر الأنبياء فوجب أن يكون رسولنا أفضل من سائر الأنبياء.
بيان الأول قوله عليه السلام : " القرآن في الكلام كآدم في الموجودات ".
بيان الثاني أن الخلعة كلما كانت أشرف كان صاحبها أكرم عند الملك.
الحجة السادسة : أن معجزته عليه السلام هي القرآن وهي من جنس الحروف والأصوات وهي أعراض غير باقية وسائر معجزات سائر الأنبياء من جنس الأمور الباقية ثم إنه سبحانه جعل معجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى آخر الدهر ، ومعجزات سائر الأنبياء فانية منقضية.(8/121)
الحجة السابعة : أنه تعالى بعد ما حكى أحوال الأنبياء عليهم السلام قال : {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [ الأنعام : 90 ] فأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمن قبله ، فإما أن يقال : إنه كان مأموراً بالاقتداء بهم في أصول الدين وهو غير جائز لأنه تقليد ، أو في فروع الدين وهو غير جائز ، لأن شرعه نسخ سائر الشرائع ، فلم يبق إلا أن يكون المراد محاسن الأخلاق ، فكأنه سبحانه قال : إنا أطلعناك على أحوالهم وسيرهم ، فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتدياً بهم في كلها ، وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقاً فيهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم.(8/122)
الحجة الثامنة : أنه عليه السلام بعث إلى كل الخلق وذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر ، فوجب أن يكون أفضل ، أما إنه بعث إلى كل الخلق فلقوله تعالى : {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} [ سبأ : 28 ] وأما أن ذلك يقتضي أن تكون مشتقه أكثر فلأنه كان إنساناً فرداً من غير مال ولا أعوان وأنصار ، فإذا قال لجميع العالمين : يا أيها الكافرون صار الكل أعداء له ، وحينئذٍ يصير خائفاً من الكل ، فكانت المشقة عظيمة ، وكذلك فإن موسى عليه السلام لما بعث إلى بني إسرائيل فهو ما كان يخاف أحداً إلا من فرعون وقومه ، وأما محمد عليه السلام فالكل كانوا أعداء له ، يبين ذلك أن إنساناً لو قيل له : هذا البلد الخالي عن الصديق والرفيق فيه رجل واحد ذو قوة وسلاح فاذهب إليه اليوم وحيداً وبلغ إليه خبراً يوحشه ويؤذيه ، فإنه قلما سمحت نفسه بذلك ، مع أنه إنسان واحد ، ولو قيل له : اذهب إلى بادية بعيدة ليس فيها أنس ولا صديق ، وبلغ إلى صاحب البادية كذا وكذا من الأخبار الموحشة لشق ذلك على الإنسان ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان مأموراً بأن يذهب طول ليله ونهاره في كل عمره إلى الجن والإنس الذين لا عهد له بهم ، بل المعتاد منهم أنهم يعادونه ويؤذونه ويستخفونه ، ثم إنه عليه السلام لم يمل من هذه الحالة ولم يتلكأ ، بل سارع إليها سامعاً مطيعاً ، فهذا يقتضي أنه تحمل في إظهار دين الله أعظم المشاق ، ولهذا قال تعالى :
{لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل} [ الحديد : 10 ] ومعلوم أن ذلك البلاء كان على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا عظم فضل الصحابة بسبب تلك الشدة فما ظنك بالرسول ، وإذا ثبت أن مشقته أعظم من مشقة غيره وجب أن يكون فضله أكثر من فضل غيره لقوله عليه السلام : " أفضل العبادات أحمزها ".(8/123)
الحجة التاسعة : أن دين محمد عليه السلام أفضل الأديان ، فيلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء ، بيان الأول أنه تعالى جعل الإسلام ناسخاً لسائر الأديان ، والناسخ يجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام : " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " فلما كان هذا الدين أفضل وأكثر ثواباً ، كان واضعه أكثر ثواباً من واضعي سائر الأديان ، فيلزم أن يكون محمد عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء.
الحجة العاشرة : أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم ، فوجب أن يكون محمد أفضل الأنبياء ، بيان الأول قوله تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [ آل عمران : 110 ] بيان الثاني أن هذه الأمة إنما نالت هذه الفضيلة لمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله} [ آل عمران : 31 ] وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع ، وأيضاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ثواباً لأنه مبعوث إلى الجن والإنس ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر ، لأن لكثرة المستجيبين أثراً في علو شأن المتبوع.
الحجة الحادية عشر : أنه عليه السلام خاتم الرسل ، فوجب أن يكون أفضل ، لأن نسخ الفاضل بالمفضول قبيح في المعقول.
الحجة الثانية عشرة : أن تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون لأمور منها : كثرة المعجزات التي هي دالة على صدقهم وموجبة لتشريفهم ، وقد حصل في حق نبينا عليه السلام ما يفضل على ثلاثة آلاف ، وهي بالجملة على أقسام ، منها ما يتعلق بالقدرة ، كإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وإروائهم من الماء القليل ، ومنها ما يتعلق بالعلوم كالإخبار عن الغيوب ، وفصاحة القرآن ، ومنها اختصاصه في ذاته بالفضائل ، نحو كونه أشرف نسباً من أشراف العرب ، وأيضاً كان في غاية الشجاعة ، كما روي أنه قال بعد محاربة علي رضي الله عنه لعمرو بن ود :(8/124)
" كيف وجدت نفسك يا علي ، قال : وجدتها لو كان كل أهل المدينة في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم فقال : تأهب فإنه يخرج من هذا الوادي فتى يقاتلك " ، الحديث إلى آخره وهو مشهور ، ومنها في خلقه وحلمه ووفائه وفصاحته وسخائه ، وكتب الحديث ناطقة بتفصيل هذه الأبواب.
الحجة الثالثة عشرة : قوله عليه السلام : " آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيام " وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ومن كل أولاده ، وقال عليه السلام : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " وقال عليه السلام : " لا يدخل الجنة أحد من النبيين حتى أدخلها أنا ، ولا يدخلها أحد من الأمم حتى تدخلها أمتي " وروى أنس قال صلى الله عليه وسلم : " أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا ، لواء الحمد بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر " وعن ابن عباس قال : جلس ناس من الصحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثهم فقال بعضهم : عجباً إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً ، وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً ، وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه ، وقال آخر : آدم اصطفاه الله فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " قد سمعت كلامكم وحجتكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وموسى نجى الله وهو كذلك ، وعيسى روح الله وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر.(8/125)
" الحجة الرابعة عشرة : روى البيهقي في "فضائل الصحابة" أنه ظهر علي بن أبي طالب من بعيد فقال عليه السلام : " هذا سيد العرب " فقالت عائشة : ألست أنت سيد العرب ؟ " فقال أنا أسيد العالمين وهو سيد العرب " ، وهذا يدل على أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام.
الحجة الخامسة عشرة : روى مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر ، بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي قبلي يبعث إلى قومه ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ولم تكن لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي ، فهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئاً "
وجه الاستدلال أنه صريح في أن الله فضله بهذه الفضائل على غيره.(8/126)
الحجة السادسةَ عشرةَ : قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير هذا المعنى : إن كل أمير فإنه تكون مؤنته على قدر رعيته ، فالأمير الذي تكون أمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية ، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير تلك القرية فكذلك كل رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرسالة ، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنما يعطي من هذه الكنوز الروحانية بقدر ذلك الموضع ، والمرسل إلى كل أهل الشرق والغرب إنسهم وجنهم لا بد وأن يعطي من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب ، وإذا كان كذلك كانت نسبة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كل المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة ، ولما كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله ، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحد الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقه : {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [ النجم : 10 ] وفي الفصاحة إلى أن قال : " أوتيت جوامع الكلم " وصار كتابه مهيمناً على الكتب وصارت أمته خير الأمم.
الحجة السابعةَ عشرةَ : روى محمد بن الحكيم الترمذي رحمه الله في كتاب "النوادر" : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً ، وموسى نجياً ، واتخذني حبيباً ، ثم قال وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي ".
الحجة الثامنة عشرة : في "الصحيحين" عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البنيان فيقولون : ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بناؤك ؟ فقال محمد : كنت أنا تلك اللبنة ".(8/127)
الحجة التاسعة عشرة : أن الله تعالى كلما نادى نبياً في القرآن ناداه باسمه {ويائادم اسكن} [ البقرة : 35 ] ، {وناديناه أَن ياإبراهيم} [ الصافات : 104 ] ، {يا موسى * إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} [ طه : 10 ، 11 ] وأما النبي عليه السلام فإنه ناداه بقوله : {ياأيها النبى} ، {ياأيها الرسول} وذلك يفيد الفضل.
واحتج المخالف بوجوه الأول : أن معجزات الأنبياء كانت أعظم من معجزاته ، فإن آدم عليه السلام كان مسجوداً للملائكة ، وما كان محمد عليه السلام كذلك ، وإن إبراهيم عليه السلام ألقي في النيران العظيمة فانقلبت روحاً وريحاناً عليه ، وأن موسى عليه السلام أوتي تلك المعجزات العظيمة ، ومحمد ما كان له مثلها ، وداود لأن له الحديد في يده ، وسليمان كان الجن والإنس والطير والوحش والرياح مسخرين له ، وما كان ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعيسى أنطقه الله في الطفولية وأقدره على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما كان ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم.
الحجة الثانية : أنه تعالى سمى إبراهيم في كتابه خليلاً ، فقال : {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} [ النساء : 125 ] وقال في موسى عليه السلام {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [ النساء : 164 ] وقال في عيسى عليه السلام : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [ التحريم : 12 ] وشيء من ذلك لم يقله في حق محمد عليه السلام.
الحجة الثالثة : قوله عليه السلام : " لا تفضلوني على يونس بن متى " وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروا بين الأنبياء ".(8/128)
الحجة الرابعة : روي عن ابن عباس قال : كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكرنا نوحاً بطول عبادته ، وإبراهيم بخلته ، وموسى بتكليم الله تعالى إياه ، وعيسى برفعه إلى السماء ، وقلنا رسول الله أفضل منهم ، بعث إلى الناس كافة ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهو خاتم الأنبياء ، فدخل رسول الله فقال : " فيم أنتم ؟ " فذكرنا له فقال : " لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا " وذلك أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها.
والجواب : أن كون آدم عليه السلام مسجوداً للملائكة لا يوجب أن يكون أفضل من محمد عليه السلام ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة " وقال : " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، وهذا أعظم من السجود ، وأيضاً أنه تعالى صلى بنفسه على محمد ، وأمر الملائكة والمؤمنين بالصلاة عليه ، وذلك أفضل من سجود الملائكة ، ويدل عليه وجوه الأول : أنه تعالى أمر الملائكة بسجود آدم تأديباً ، وأمرهم بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم تقريباً والثاني : أن الصلاة على محمد عليه السلام دائمة إلى يوم القيامة ، وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام ما كان إلا مرة واحدة الثالث : أن السجود لآدم إنما تولاه الملائكة ، وأما الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم فإنما تولاها رب العالمين ثم أمر بها الملائكة والمؤمنين والرابع : أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد عليه السلام في جبهة آدم.(8/129)
فإن قيل : إنه تعالى خص آدم بالعلم ، فقال : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسماء كُلَّهَا} [ البقرة : 31 ] وأما محمد عليه السلام فقال في حقه : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [ الشورى : 52 ] وقال : {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهدى} [ الضحى : 7 ] وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى ، قال : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسماء} ومعلم محمد عليه السلام جبريل عليه السلام لقوله :
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [ النجم : 5 ].
والجواب : أنه تعالى قال في علم محمد صلى الله عليه وسلم : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} [ النساء : 113 ] وقال عليه السلام : " أدبني ربي فأحسن تأديبي " وقال تعالى : {الرحمن علم القرآن} [ الرحمن : 2 ] وكان عليه السلام يقول : " أرنا الأشياء كما هي " وقال تعالى لمحمد عليه السلام : {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً} [ طه : 114 ] وأما الجمع بينه وبين قوله تعالى : {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} فذاك بحسب التلقين ، وأما التعليم فمن الله تعالى ، كما أنه تعالى قال : {قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت} [ السجدة : 11 ] ثم قال تعالى : {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [ الزمر : 42 ].
فإن قيل : قال نوح عليه السلام {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} [ الشعراء : 114 ] وقال الله تعالى لمحمد عليه السلام : {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [ الأنعام : 52 ] وهذا يدل على أن خلق نوح أحسن.
قلنا : إنه تعالى قال : {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ نوح : 1 ] فكان أول أمره العذاب ، وأما محمد عليه السلام فقيل فيه : {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [ الأنبياء : 107 ] ، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [ التوبة : 128 ] إلى قوله : {رَءوفٌ رَّحِيمٌ} فكان عاقبة نوح أن قال : {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [ نوح : 26 ] وعاقبة محمد عليه السلام الشفاعة {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} [ الإسراء : 79 ] وأما سائر المعجزات فقد ذكر في "كتب دلائل النبوة" في مقابلة كل واحد منها معجزة أفضل منها لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الكتاب لا يحتمل أكثر مما ذكرناه ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 165 ـ 170}(8/130)
لطيفة
قال ابن كثير فى البداية والنهاية :
قال الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد
فى مقام الخلة :
ويقال : الخليل الذي يعبد ربه على الرغبة والرهبة ، من قوله : * (إن إبراهيم لأواه حليم) * [ التوبة : 114 ] من كثرة ما يقول : أواه ، والحبيب الذي يعبد ربه على الرؤية والمحبة ، ويقال : الخليل الذي يكون معه انتظار العطاء ، والحبيب الذي يكون معه انتظار اللقاء ، ويقال : الخليل الذي يصل بالواسطة من قوله : * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين) * [ الأنعام : 75 ] والحبيب الذي يصل إليه من غير واسطة ، من قوله : * (فكان قاب قوسين أو أدنى) * [ النجم : 9 ] وقال الخليل : * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * [ الشعراء : 82 ] وقال الله للحبيب محمد : * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * [ الفتح : 2 ] وقال الخليل : * (ولا تخزني يوم يبعثون) * [ الشعراء : 87 ] وقال الله للنبي : * (يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه) * [ التحريم : 8 ] وقال الخليل حين ألقي في النار : * (حسبي الله ونعم الوكيل) * [ آل عمران : 173 ] وقال الله لمحمد : * (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * [ الأنفال : 64 ] وقال الخليل : * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) * [ الصافات : 99 ] وقال الله لمحمد : * (ووجدك ضالا فهدى) * [ الضحى : 7 ] وقال الخليل : * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * [ الشعراء : 84 ] وقال لمحمد : * (رفعنا لك ذكرك) * [ الشرح : 4 ] وقال الخليل : * (واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام) * [ إبراهيم : 35 ] وقال الله للحبيب : * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * [ الأحزاب : 33 ] وقال الخليل : * (واجعلني من ورثة جنة النعيم) * [ الشعراء : 85 ] وقال الله لمحمد : * (إنا أعطيناك الكوثر) * [ الكوثر : 1 ] * وذكر أشياء أخر ، وسيأتي الحديث في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني سأقوم مقاما يوم القيامة يرغب إلى الخلق كلهم حتى أبوهم إبراهيم الخليل * فدل على أنه أفضل إذ هو يحتاج إليه في ذلك المقام ، ودل على أن إبراهيم أفضل الخلق بعده ، ولو كان أحد أفضل من إبراهيم بعده لذكره. أ هـ {البداية والنهاية حـ 6 صـ 300 ـ 302}(8/131)
سؤال : فإن قيل : المفهوم من قوله : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} هو المفهوم من قوله : {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} فما الفائدة في التكرير ؟ وأيضاً قوله : {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} كلام كلي ، وقوله بعد ذلك : {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} شروع في تفصيل تلك الجملة ، وقوله بعد ذلك : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} إعادة لذلك الكلي ، ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركاً.
والجواب : أن قوله : {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض ، فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 171}(8/132)
قوله تعالى : { وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان الناس واقفين مع الحس إلا الفرد النادر وكان لعيسى صلى الله عليه وسلم من تكرر الآيات المحسوسات كالإحياء والإبراء ما ليس لغيره ومع ذلك ارتد أكثرهم بعد رفعه عليه الصلاة والسلام قال صارفاً القول إلى مظهر العظمة تهديداً لمن كفر بعد ما رأى أو سمع من تلك الآيات الكبر : {وءاتينا} بما لنا من العظمة بالقدرة على كل شيء من الخلق والتصوير كيف نشاء وعلى غير ذلك {عيسى} ونسبه إلى أمه إشارة إلى أنه لا أب له فقال : {ابن مريم} أي الذي خلقناه منها بغير واسطة ذكرٍ أصلاً {البينات} من إحياء الموتى وغيره.(8/133)
قال الحرالي : والبينة ما ظهر برهانه في الطبع والعلم والعقل بحيث لا مندوحة عن شهود وجوده ، وذلك فيما أظهر الله سبحانه وتعلى على يديه من الإحياء والإماتة الذي هو من أعلى آيات الله ، فإن كل باد في الخلق ومتنزل في الأمر فهو من آيات الله ، فما كان أقرب إلى ما اختص الله تعالى به كان أعلى وأبهر ، وما كان مما يجري نحوه على أيدي خلقه كان أخفى وألبس إلا على من نبه الله قلبه لاستبصاره فيه {وأيدناه} أي بعظمتنا البالغة {بروح القدس} في إعلامه ذكر ما جعل تعالى بينه وبين عيسى عليه الصلاة والسلام في كيانه فجرى نحوه في عمله من واسطة الروح كما قال سبحانه وتعالى : {فأرسلنا إليها روحنا} [ مريم : 17 ] كذلك كان فعله مع تأييده ؛ وفي ذلك بينه وبين موسى عليهما الصلاة والسلام موازنة ابتدائية ، حيث كان أمر موسى من ابتداء أمر التكليم الذي هو غاية سقوط الواسطة ، وكان أمر عيسى عليه الصلاة والسلام من ابتداء أمر الإحياء الذي هو غاية تصرف المتصرفين - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 486 ـ 487}
أسئلة وأجوبة للعلامة الفخر
قال رحمه الله :
أما قوله تعالى : {وءَاتينا عيسى ابن مريم البينات} ففيه سؤالات :
السؤال الأول : أنه تعالى قال في أول الآية : {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال : {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال : {وآتينا عيسى بن مريم البينات} فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى ؟ .
والجواب : أن قوله : {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} أهيب وأكثر وقعاً من أن يقال منهم من كلمنا ، ولذلك قال : {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة.(8/134)
وأما قوله : {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} فإنما اختار لفظ المخاطبة ، لأن الضمير في قوله : {وَءاتَيْنَا} ضمير التعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء.
السؤال الثاني : لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر ؟ وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما ؟ .
والجواب : سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضاً فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما ، كأنه قيل : هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما ، بل نازعوا وخالفوا ، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا.
السؤال الثالث : تخصيص عيسى بن مريم بإيتاء البينات ، يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره ، ومعلوم أن ذلك غير جائز فإن قلتم : إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى ؟ فنقول : إن بينات موسى عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى عليه السلام ، فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة.
الجواب : المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود ، حيث أنكروا نبوة عيسى عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة.
السؤال الرابع : البينات جمع قلة ، وذلك لا يليق بهذا المقام.
قلنا : لا نسلم أنه جمع قلة ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 171 ـ 172}
قوله تعالى : {وأيدناه بِرُوحِ القدس}
فصل فى تفسير القدس
قال الفخر :
في تفسيره أقوال(8/135)
الأول : قال الحسن : القدس هو الله تعالى ، وروحه جبريل عليه السلام ، والإضافة للتشريف ، والمعنى أعناه بجبريل عليه السلام في أول أمره وفي وسطه وفي آخره ، أما في أول الأمر فلقوله : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [ التحريم : 12 ] وأما في وسطه فلأن جبريل عليه السلام علمه العلوم ، وحفظه من الأعداء ، وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام ورفعه إلى السماء والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى : {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [ النحل : 102 ].
والقول الثاني : وهو المنقول عن ابن عباس أن روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى عليه السلام الموتى.
والقول الثالث : وهو قول أبي مسلم : أن روح القدس الذي أيد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه ، وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 171}
قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم }
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم } أي من بعد الرسل.
قيل : الضمير لموسى وعيسى ، والاثنان جمع.
وقيل : من بعد جميع الرسل ، وهو ظاهر اللفظ.
وقيل : إن القتال إنما وقع من الذين جاءوا بعدهم وليس كذلك المعنى ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبيّ ، وهذا كما تقول : اشتريت خيلاً ثم بعتها ، فجاز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرساً وبعته ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبيّ فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغياً وحسداً وعلى حطام الدنيا ، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى ، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بِسرّ الحكمة في ذلك الفعل لما يريد. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 265}
وقال أبو حيان :(8/136)
{ ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات } قيل : في الكلام حذف ، التقدير : فاختلف أممهم واقتتلوا ولو شاء الله ، ومفعول شاء محذوف تقديره : أن لا تقتتلوا ، وقيل : أن لا يأمر بالقتال ، قاله الزجاج.
وقال مجاهد : أن لا تختلفوا الاختلاف الذي هو سبب القتال ، وقيل : ولو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان فلم يقتتلوا ، وقال أبو عليّ بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف ، ولكن كلفهم فاختلفوا بالكفر والإيمان.
وقال عليّ بن عيسى : هذه مشيئة القدرة ، مثل : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } ولم يشأ ذلك ، وشاء تكليفهم فاختلفوا وقال الزمخشري : ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر ، وجواب لو : ما اقتتل ، وهو فعل منفي بما ، فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية ، ويجوز في القليل أن تدخل عليه اللام ، فتقول : لو قام زيد لما قام عمرو ، و: من بعدهم صلة للذين ، فيتعلق بمحذوف أي : الذين كانوا من بعدهم ، والضمير عائد على الرسل ، وقيل : عائد على موسى وعيسى وأتباعهما.
وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك ، بل المراد : ما اقتتل الناس بعد كل نبي ، فلف الكلام لفاً لم يفهمه السامع وهذا كما تقول : اشتريت خيلاً ثم بعتها ، وإن كنت قد اشتريتها فرساً فرساً وبعته ، وكذلك هذا ، إنما اختلف بعد كل نبي ، و: من بعد ، قيل : بدل من بعدهم ، والظاهر أنه متعلق بقوله ما اقتتل ، إذ كان في البينات ، وهي الدلائل الواضحة ، ما يفضي إلى الاتفاق وعدم التقاتل ، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل.
{ ولكن اختلفوا } هذا الاستدراك واضح لأن ما قبلها ضدّ لما بعدها ، لأن المعنى : لو شاء الاتفاق لاتفقوا ، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 284}
قوله تعالى { ولكن اختلفوا }
قال الآلوسى :(8/137)
{ ولكن اختلفوا } استدراك من الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشيء من قبلهم وسوء اختيارهم لا من جهته تعالى ابتداءاً كأنه قيل : ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافاً فاحشاً. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 3}
قوله تعالى : { فمنهم من آمن ومنهم من كفر }
قال أبو حيان :
قوله تعالى : { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم ، ومن كفر بإعراضه عن اتباع الرسل حسداً وبغياً واستئثاراً بحطام الدنيا. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 284}
قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما تقدم أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسلاً وأنزل معهم كتباً ، وأنهم تعبوا ومستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى جمعوا الناس على الحق ، وأن أتباعهم اختلفوا بعد ما جاءتهم البينات كان مما يتوجه النفس للسؤال عنه سبب اختلافهم ، فبين أنه مشيئته سبحانه وتعالى لا غير إعلاماً بأنه الفاعل المختار فكان التقدير : ولو شاء الله سبحانه وتعالى لساوى بين الرسل في الفضيلة ، ولو شاء لساوى بين أتباعهم في قبول ما أتوا به فلم يختلف عليهم اثنان ، ولكنه لم يشأ ذلك فاختلفوا عليهم وهم يشاهدون البينات ، وعطف عليه قوله تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم لافتاً القول إلى التعبير بالجلالة إشارة إلى أن الاختلاف مع دلالة العقل على أنه لا خير فيه شاهد للخالق بجميع صفات الجلال والجمال {ولو شاء الله} أي الذي له جميع الأمر.
قال الحرالي : وهي كلمة جامعة قرآنية محمدية تشهد الله وحده وتمحو عن الإقامة ما سواه - انتهى.
{ما اقتتل} أي ما تكلف القتال مع أنه مكروه للنفوس {الذين من بعدهم} لاتفاقهم على ما فارقوا عليه نبيهم من الهدى.(8/138)
قال الحرالي : فذكر الاقتتال الذي إنما يقع بعد فتنة المقال بعد فتنة الأحوال بالضغائن والأحقاد بعد فقد السلامة بعد فقد الوداد بعد فقد المحبة الجامعة للأمة مع نبيها - انتهى {من بعد ما جآءتهم البينات} أي على أيدي رسلهم.
قال الحرالي : فيه إيذان بأن الوسائل والأسباب لا تقتضي آثارها إلا بإمضاء كلمة الله فيها - انتهى.
{ولكن اختلفوا} لأنه سبحانه وتعالى لم يشأ اتفاقهم على الهدى {فمنهم} أي فتسبب عن اختلافهم أن كان منهم {من آمن} أي ثبت على ما فارق عليه نبيه حسبما دعت إليه البينات فكان إيمانه هذا هو الإيمان في الحقيقة لأنه أعرق في أمر الغيب {ومنهم من كفر} ضلالاً عنها أو عناداً.
ولما كان من الناس من أعمى الله قلبه فنسب أفعال المختارين من الخلق إليهم استقلالاً قال تعالى معلماً أن الكل بخلقه تأكيداً لما مضى من ذلك معيداً ذكر الاسم الأعظم إشارة إلى عظم الحال في أمر القتال الكاشف لمن باشره في ضلال عن أقبح الخلال : {ولو شاء الله} الذي لا كفوء له {ما اقتتلوا} بعد اختلافهم بالإيمان والكفر ، وكرر الاسم الأعظم زيادة في الإعلام بعظم المقام {ولكن الله} أي بجلاله وعزّ كماله شاء اقتتالهم فإنه {يفعل ما يريد} فاختلفوا واقتتلوا طوع مشيئته على خلاف طباعهم وما يناقض ما عندهم من العلم والحكمة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 491 ـ 492}
فصل
قال الفخر :
احتج القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية ، وقالوا تقدير الآية : ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا ، والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال ، وعدم اللازم يدل على عدم اللزوم ، فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئة عدم الاقتتال مفقودة ، بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال ، ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية ، فدل ذلك على أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته ، وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى.
(8/139)
وأما المعتزلة فقد أجابوا عن الاستدلال ، وقالوا : المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى وهذا المقصود يحصل بأن يقال : إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال : لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال : لو شاء لمنعهم من القتال جبراً وقسراً وإذا كان كذلك فقوله : {وَلَوْ شَاء الله} المراد منه هذه الأنواع من المشيئة ، وهذا كما يقال : لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ، ولم تشرب النصارى الخمر ، والمراد منه المشيئة التي ذكرناها ، وكذا ههنا ، ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال : إذا كانت المشيئة تقع على وجوه وتنتفي على وجوه لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص ، لا سيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية.
والجواب : أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة ، والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة ، لا من حيث إنها مشيئة خاصة ، فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلاً ، وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة ، وهي إما مشيئة الهلاك ، أو مشيئة سلب القوى والقدر ، أو مشيئة القهر والإجبار ، تقييد للمطلق وهو غير جائز ، وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع ، وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالماً بوقوع الاقتتال ، والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين النفي والإثبات ، وبين السلب والإيجاب ، فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال ، فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم ، والبرهان القاطع على ضد قولهم وبالله التوفيق.
(8/140)
ثم قال : {ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} فقد ذكرنا في أول الآية أن المعنى : ولو شاء لم يختلفوا ، وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا ، وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا ، وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي ، لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل ، والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة ، وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي ، وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة ، فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي ، وواجب عند حصول الداعي ، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره ، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعاً للتسلسل ، فكانت الآية دالة أيضاً من هذا الوجه على صحة مذهبنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 173}
قوله تعالى : {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتلوا}
سؤال : فإن قيل : فما الفائدة في التكرير ؟ .
قلنا : قال الواحدي رحمه الله تعالى : إنما كرره تأكيداً للكلام وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 173 ـ 174}
قوله تعالى : {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
قال أبو حيان :
{ ولكن الله يفعل ما يريد } هذا يدل على أن ما أراد الله فعله فهو كائن لا محالة ، وإن إرادة غيره غير مؤثرة ، وهو تعالى المستأثر بسر الحكمة فيما قدّر وقضى من خير وشر ، وهو فعله تعالى.
وقال الزمخشري : ولكنّ الله يفعل ما يريد من الخذلان والعصمة ، وهذا على طريقة الاعتزالية. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 284}
كلام نفيس فى هذا الموضع للعلامة ابن عاشور
قال رحمه الله :
(8/141)
{ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }.
اعتراض بين الفذلكة المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها وبين الجملة { يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } [ البقرة : 254 ] ، فالواو اعتراضية : فإنّ ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بَيّنَتْ خصال الشجاعة والجبن وآثارهما ، المقصود منه تشريعاً وتمثيلاً قتالُ أهلِ الإيمان لأهلِ الكفر لإعلاءِ كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهُدى وإزهاق الضلال.
بيّن اللَّه بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا : بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل ، ولو اتّبعوا الحق لسلموا وسالموا.
ثم يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله : { من بعدهم } مراداً به جملة الرسّل أي ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود ، ومقاتلة الفلسطينيَّين لبني إسرائيل انتصاراً لأصنامهم ، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصاراً لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليَمن ، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناوَوْه وقاتلوا المسلمين أهلَه ، وهم المشركون الذين يزعمون أنّهم على ملة إبراهيم واليهودُ والنصارى ، ويكون المراد بالبيّنات دلائللِ صدق محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية بإنحاء على الذين عاندوا النبي وناووا المسلمين وقاتلوهم ، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرّع على قوله : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا } [ البقرة : 244 ] إلخ.(8/142)
ويجوز أن يكون ضمير "مِنْ بعدهم" ضميرَ الرسل على إرادة التوزيع ، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل ، فيكون مفيداً أنّ أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافاً واقتتالاً نشَأ من تكفير بعضهم بعضاً كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدِّين إلى حد عبادة الأوثان ، وكما وقع للنصارى في عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفَّر بعضهم بعضاً ، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالاً جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل ، وتقاتلت النصارى كذلك من جرّاء الخلاف بين اليعاقبة والمَلَكية قبل الإسلام ، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفّاراً لادّعائهم ألوهية المسيح ، فعظمت بذلك حروب بين فرَنسا وأسبانيا وجرمانيا وإنكلترا وغيرها من دول أوروبا.
والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك ، وقد حَذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيراً متواتراً بقوله في خطبة حجة الوداع : " فَلاَ ترجعوا بعدي كُفّاراً يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعض " يحذّرهم ما يقع من حروب الردَّة وحروب الخوارج بدعوى التكفير ، وهذه الوصية من دلائلِ النبوءة العظيمة.
وورد في "الصحيح" قوله : " إذا التقَى المسلمان بسيْفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النار " قيل يا رسول الله هذا القاتلُ ، فما بالُ المقتول ، قال : " أمَا إنَّه كان حريصاً على قتل أخيه " وذلك يفسّر بعضه بعضاً أنّه القتالَ على اختلاف العقيدة.
(8/143)
والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقْبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عَرض الدنيا ، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا ، وشاء اختلافهم فاختلفوا ، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقديرِ لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلَوْ كقول طرفة :
فلو شاء ربي كنتُ قيس بن خالد
ولو شاء ربي كنتُ عَمْرو بن مرثد...
وقوله : { ولكن اختلفوا } استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله : وهو ما اقتتل ، لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لِجواب لوْ وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لَمَا اقتتلوا.
وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تَرْكَهم الاقتتال ، هو أنه خلَق داعية الاختلاف فيهم ، فبتلك الداعية اختلفوا ، فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع ، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطأ أهل الدين فيه إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به ، وإن كان المراد اختلاف أمممِ الرسل كلٍ للأخرى كما في قوله : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } [ البقرة : 113 ] ، فالإيمان والكفر في الآية ظاهر ، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتّبعه ومنهم من كفر به فعاداه ، فاقتتل الفريقان.
(8/144)
وأياما كان المراد من الوجهين فإن قوله : { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل ، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يُعْمِهم سوء الفهم وقلة الهدى.
لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام ، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسباباً لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب ، فأسباب الاختلاف إذَنْ مركوزة في الطباع ، ولهذَا قال تعالى : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } ثم قال : { ولكن اختلفوا } فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا ، لكنّ الخلاف مركوز في الجبلة.
بيد أن الله تَعالى قد جعل أيضاً في العقول أصُولاً ضرورية قطعية أو ظنّية ظناً قريباً من القطع به تستطيع العقول أن تعيِّن الحق من مختلف الآراء ، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلاتُ البعيدة التي تحمِل عليها المكابرةُ أو كراهيةُ ظهور المغلوبيّة ، أو حُب المدحة من الأشياع وأهلِ الأغراض ، أو السعي إلى عَرَض عاجل من الدنيا ، ولو شاء الله ما غَرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافاً يدوم ، ولكن اختلفوا هذا الخلافَ فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر ، فلا عذر في القتال إلا لفريقين : مؤمن ، وكافر بما آمن به الآخر ، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم ، أما الخلاف الناشيء بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب قتال.
(8/145)
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها " لأنّه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل ، فرجع هو بإثم الكفر لأنّه المتسبب فيما يتسبب على الكفر ، ولأنّه إذا كان يرى بعضَ أحوال الإيمان كفراً ، فقد صار هو كافراً لأنّه جعل الإيمان كفراً.
وقال عليه الصلاة والسلام : "فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" ، فجعل القتال شعار التكفير.
وقد صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافاً بلغ بهم إلى التكفير والقتال ، وأوّله خلاف الردة في زمن أبي بكر ، ثم خلاف الحرورية في زمن عليّ وقد كفَّروا علياً في قبوله تحكيم الحكمي ، ثم خلاف أتباع المقنَّع بخراسان الذي ادعى الإلاهية واتخذ وجهاً من ذهب ، وظهر سنة 159 وهلك سنة 163 ، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائِبة مِن الخلاف المذهبي لأنّهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفَروا وادّعوا الحلول أي حلول الرب في المخلوقات واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين ، وذلك من سنة 293.
واختلف المسلمون أيضاً خلافاً كثيراً في المذاهب جَرّ بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة ، وأكثرها حروب الخوارج غير المكفِّرين لبقية الأمة في المشرق ، ومقاتلات أبي يزيد النكارى الخارجي بالقيروان وغيرها سنة 333 ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة 407 ، ومقاتلة الشافعية والحنابلة ببغداد سنة 475 ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة 445 ، وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة 502 وزال الشر بينهم ، وقتال الباطنية المعروفين بالإسْمَاعِيلية لأهل السنة في سَاوَة وغيرها من سنة 494 إلى سنة 523.
ثم انقلبت إلى مقاتلات سياسية.
ثم انقلبوا أنصاراً للإسلام في الحروب الصليبية ، وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل.
(8/146)
لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظم الإسلام.
وتطرّقت كل جهة منه حتى البلدِ الحرام.
فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصاله العقول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائلِ التي يتفادون بها عن التقاتل ، فهم ملومون من هذه الجهة ، ومشيرة إلى أنّ الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدّوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصّر في العواقب قبل ذلك الإبّان ، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة ، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة ، ولذلك قال : { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } فأعاد { ولو شاء الله ما اقتتلوا } تأكيداً للأول وتمهيداً لقوله : { ولكن الله يفعل ما يريد } ليعلَمَ الواقف على كلام الله تعالى أنّ في هدى الله تعالى مقنعاً لهم لو أرادوا الاهتداء ، وأنّ في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكملَ من هذا الخَلق كما خلق الملائكةِ.
فالله يخلق ما يشاء ولكنّه يكمل حال الخلق بالإرشاد والهدى ، وهم يفرّطون في ذلك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 11 ـ 13}(8/147)
هل الأديان تسبّب الاختلافات ؟
يتّهم بعض الكتّاب الغربيين الأديان على أنّها هي سبب التفرقة والنزاع بين أفراد البشر ، وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء ، فالتاريخ شهد الكثير من الحروب الدينية ، وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة للحروب والمخاصمات.
وإزاء هذا القول لابدّ من الانتباه إلى ما يلي : أولاً : إنّ الاختلافات ـ كما جاء في الآية المذكورة ـ لا تنشأ في الحقيقة بين الأتباع الصادقين لدين من الأديان ، بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه. وإذا ما شاهدنا صراعاً بين أتباع مختلف الأديان فإنّ ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية ، بل بسبب تحريف التعاليم والأديان وبالتعصّب المقيت ومزج الأديان السماوية بالخرافات.
ثانياً : إنّ الدين ـ أو تأثيره ـ قد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات البشرية ، ومع ذلك نرى أنّ الحروب قد ازدادت قسوةً واتساعاً وانتشرت في مختلف أرجاء العالم.
فهل الدين هو السبب ، أم أنّ روح الطغيان في مجموعة من البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب ، ولكنّها تظهر اليوم بلبوس الدين ، وفي يوم آخر بلبوس المذاهب الاقتصادية والسياسية ، وفي أيّام أخرى بقوالب ومسمّيات أُخرى ؟! وعليه فالدِين لا ذنب له في هذا ، إنّما الطغاة هم الذين يشعلون نيران الحروب بحجج متنوّعة.
ثالثاً : إنّ الأديان السماوية ـ وعلى الأخصّ الإسلام ـ التي تكافح العنصرية والقومية ، كانت سبباً في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية ، فقضت بذلك على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل. وعليه فإن الكثير من الحروب في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين. كما أنّ روح السلام والصداقة والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية ، كان لها أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام.
(8/148)
رابعاً : أنّ من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة المعذّبة ، وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنّها الأنبياء وأتباعهم على الظالمين والمستغلّين ، من أمثال فرعون والنمرود.
إنّ هذه الحروب التي تعتبر جهاداً في سبيل تحرير الإنسان ، ليست عيوباً تلصق بالأديان ، بل هي من مظاهر فخرها واعتزازها وقوّتها.
إنّ حروب رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المشركين من العرب والمرابين في مكّة من جهة ، ومع قيصر وكسرى من جهة أُخرى ، كانت كلّها من هذا القبيل. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 237 ـ 238}(8/149)
فائدة
قال الفخر :
احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين ، وقالوا : لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن ،
ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد ، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى ، وأيضاً لما دل على أنه يفعل كل ما يريد فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان ، ولكانوا مؤمنين ، ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم ، فكانت هذه الآية دالة على مسألة خلق الأعمال ، وعلى مسألة إرادة الكائنات والمعتزلة يقيدون المطلق ويقولون : المراد يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه ، وهذا ضعيف لوجوه
أحدها : أنه تقييد للمطلق
والثاني : أنه على هذا التقييد تصير الآية بياناً للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله
الثالث : أن كل أحد كذلك فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلاً على كمال قدرته وعلو مرتبته ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 173}
لطيفة
قال الثعلبى :
عن الحرث الأعور قال : قام رجل إلى عليّ (رضي الله عنه) فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ،
قال : طريق مظلم لا تسلكه.
قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ،
قال : بحر عميق لا تلجه ،
قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ،
قال : سرّ الله قد خفي عليك فلا تفشه ،
قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ،
فقال عليّ : أيُّها السائل إن الله خلقك كما شاء أو كما شئت ؟ .
فقال : كما شاء.
قال : فيبعثك يوم القيامة كما شاء أو كما شئت ؟ .
قال : كما شاء.
قال : أيّها السائل ألك مع الله مشيئة أو فوق الله مشيئة أو دون الله مشيئة ؟
فإن زعمت أن لك دون الله مشيئة فقد اكتفيت عن مشيئة الله ،
وإن زعمت أنّ لك فوق الله مشيئة فقد زعمت أن مشيئتك غالبة على مشيئة الله ، وإن زعمت أن لك مع الله مشيئة فقد ادعيت الشركة ،
ألست تسأل ربّك العافية ؟
قال : بلى.
قال : فمن أي شيء تسأله ،
أمن البلاء الذي ابتلاك به ،
أم من البلاء الذي ابتلاك به غيره ؟ .
قال : من البلاء الذي ابتلاني به.
قال : ألست تقول : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ؟
قال : بلى.
قال : فتعلّم تفسيرها ؟
قال : لا ، علّمني يا أمير المؤمنين مما علمك الله.
قال : تفسيرها : أن العبد لا يقدر على طاعة الله ولا يكون له قوّة على معصية الله في الأمرين جميعاً إلاّ بالله ،
أيّها السائل إن الله عزّ وجلّ (يصح ويداوي ، منه الداء ومنه الدواء) أعقلت عن الله أمره.
قال : نعم.
قال علي (رضي الله عنه) : الآن أسلم أخوكم قوموا فصافحوه.
ثم قال : لو وجدت رجلاً من القدرية لأخذت برقبته فلا أزال أطأ عنقه حتى أكسرها فإنّهم يهود هذه الأمّة ونصاراها ومجوسها.
وقال المزني : سمعت الشافعي يقول :
وما شئتَ كانَ وإن لم أشأ
وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن. أ هـ {الكشف والبيان حـ 2 صـ 226}
فوائد لغوية
قال أبو حيان :
تضمنت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغة : التقسيم ، في قوله : { منهم من كلم الله } بلا واسطة ، ومنهم من كلمه بواسطة ، وهذا التقسيم اقتضاه المعنى ، وفي قوله { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } وهذا التقسيم ملفوظ به.
و : الاختصاص ، مشاراً إليه ومنصوباً عليه ، و: التكرار ، في لفظ البينات ، وفي { ولو شاء الله ما اقتتلوا } على أحد التأويلين.
و : الحذف ، في قوله { منهم من كلم الله } أي كفاحاً وفي قوله { يفعل ما يريد } يعني من هداية من شاء وضلالة من شاء. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 284}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَاَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ }.
جمعتهم الرسالة ولكن تباينوا في خصائص التفضيل ، لكل واحدٍ منهم أنوار ، ولأنوارهم مطارح ، فمنهم من هو أعلى نورا ، وأتم من الرفعة وفوراً. فلم تكن فضائلهم استحقاقهم على أفعالهم وأحوالهم ، بل حُكْمٌ بالحسنى أدركهم ، وعاقبة بالجميل تداركتهم.(8/150)
قوله جلّ ذكره : { وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّن ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }.
ولكنهم مُصَرّفون بالمشيئة الأزلية ، ومسلوبون من الاختيار الذي عليه المدار وبه الاعتبار. والعبودية شدُّ نطاق الخدمة وشهود سابق القسمة. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 196}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ . . . }.
قال ( الزمخشري ) : الإشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت فقط في السّورة ، أو التي ( ثبت ) علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عرفة : بل الإشارة إلى ما قبله يليه وهي الرسل المفهومة من قوله { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } قال ابن عرفة : فهذا التفضيل إما مطلقا / أي بعضهم أفضل من بعض ( مطلقا ) ، أو من وجه دون وجه ، فبعضهم أفضل من بعض في شيء والمفضول في ذلك أفضل من الفاضل في شيء آخر ، فهل هو كالأعم مطلقا أو كالأعم من وجه دون وجه ، والظاهر الأول.
وما ورد في الحديث : " لا تفضلوني على موسى ولا ينبغي لأحد أن يقول : أنا أفضل من يونس بن متى " فلا يعارض هذا لأن الآية اقتضت تفضيل بعضهم على بعض من غير تعيين الفاضل من المفضول.
قيل له : معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق ؟
( فقال ) : بأن ذلك يعتقده ( الإنسان ) ولا يقوله بمحضر الكفار لئلا يقعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بتنقيص ( فيتركه ) سدّا للذريعة ، أو يجاب بأنه تواضع من النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله الغزالي كقوله : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ".
وأجاب القاضي عياض في الإكمال عن معارضة حديث نوح(8/151)
لحديث " لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وحديث " لا تفضلوا بين الأنبياء " مع حديث " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ".
أحدها أن يكون قبل إعلام الله له أنه أفضل ولد آدم أو يكون على طريق الأدب والتواضع ، أو المراد : لا تفضّلوا بينهم في النبوة وإنّما تفضيلهم بخصائص خص الله بها بعضهم كما قال { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله } الآية.
قيل لابن عرفة : ( إنّ ) ابن عطية أخطأ في قوله هنا لأن يونس عليه السلام كان شابا وتشيخ تحت أعباء النبوة ؟
فقال : لا شيء في مثل هذا.
قال ابن عرفة : وكون بعض الرسل أوتي ما لم يؤته النبي صلى الله عليه وسلم ( لا ينافي كون النبي صلى الله عليه وسلم ) أفضل الخلق لأن المفضول قد يختص بفضيلة هي ليست في الفاضل كما قالوا : إن ( أفضل ) الصحابة أبو بكر مع أن لبعضهم من الخصوصيات ما ليست في أبي بكر ، وكذلك كون عيسى ( اختص ) بإحياء الموتى وموسى بالكلام لا ينافي كون النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منهم ، وكذلك قوله في سورة النجم { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } وتكليم الله للرسل ليس بمعجزة ، وكذلك رفع الدرجات مشترك بينهم ، فلذلك لم يسنده إلى معين ( ولما كان إيتاء البينات والتأييد خاصا بروح القدس أسنده إلى عيسى.
والكلام هنا المراد به ) كلام الرحمة.
فإن قلت : وكل رسول أيّد بروح القدس وهو جبريل ؟
قلت : عيسى اختص من ذلك بقدر زائد من صغره إلى كبره لتكونه من نفخ جبريل عليه السلام في فرج مريم وتكلّمه في المهد.
قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات . . . }.
قال الزمخشري : مشيئته قَصْدٌ وَإلجاءٌ لأنّ العبد عنده يستقل بفعله وفعله بإرادته فيقول : إنّه لا تتعلق إرادة الله تعالى بذلك الفعل.
(8/152)
قال ابن عرفة : وفي هذه الآية عندي حجة لمن يقول : إنّ العدم الإضافي تتعلق به القدرة لأن المعنى : ولو شاء الله عدم اقتتالهم.
فقيل له : فرق بين الإرادة والقدرة ؟
فقال : قد تقدم الخلاف في الإرادة هل هي مؤثرة أو لا ؟ والصحيح أنه اختلاف لفظي ( وأنَّه ) خلاف في حال.
فإن كان المقصود بها الإبراز من العدم إلى الوجود فليست مؤثرة ، إن أريد به كون الشيء على صفة مخصوصة فهي مؤثرة ، وإذا كانت مؤثرة فيه كالقدرة وقد تعلقت هنا بالعدم.
قال ( السكاكي ) : ومفعول ( شاء ) ( لا يحذف ) إلا إذا كان ( عدما ) أو أريد به العموم.
قوله تعالى : { فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا . . . }.
قدم المؤمن لشرفه وإلاّ فالكافر أكثر وأسبق وجودا.
وقوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله } إما تأكيد ، أو المراد بالأول جميع الخلق.
( والمراد ) بهذا المؤمنون.
قوله تعالى : { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }.
صريح في مذهب أهل السنة وهو ينعكس بنفسه ، فكل مراد مفعول لقوله ( { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }.
وكل مفعول مراد ).
ولقوله : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا } فدل على أنه أراد اقتتالهم إذ لو لم يرده لما وقع. انتهى. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 227 ـ 228}
فائدة
قال السعدى :
(8/153)
فائدة : كما يجب على المكلف معرفته بربه ، فيجب عليه معرفته برسله ، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم ، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة ، منها : أنهم رجال لا نساء ، من أهل القرى لا من أهل البوادي ، وأنهم مصطفون مختارون ، جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار ، وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية ، وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف ، وأن الله تعالى خصهم بوحيه ، فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر ، ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله ، ودلائل هذه الجمل كثيرة ، من تدبر القرآن تبين له الحق. أ هـ {تفسير السعدى صـ 109 ـ 110}(8/154)
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) }
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الاختلاف على الأنبياء سبباً للجهاد الذي هو حظيرة الدين وكان عماد الجهاد النفقة أتبع ذلك قوله رجوعاً إلى أول السورة من هنا إلى آخرها وإلى التأكيد بلفظ الأمر لما تقدم الحث عليه من أمر النفقة : {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بألسنتهم بالإيمان {أنفقوا} تصديقاً لدعواكم في جميع أبواب الجهاد الأصغر والأكبر ولا تبخلوا فأي داء أدوأ من البخل {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [ الحشر : 9 ]
ولما أمر بذلك هونه عليهم بالإعلام بأنه له لا لهم فقال : {مما} أي الشيء الذي ورد القول إلى مظهر العظمة حثاً على المبادرة إلى امتثال الأمر وتقبيحاً بحال من أبطأ عنه فقال : {رزقناكم} بما لنا من العظمة ، وجزم هنا بالأمر لأنه لما رغب في النفقة من أول السورة إلى هنا مرة بعد أخرى في أساليب متعددة صارت دواعي العقلاء في درجة القبول لما تندب إليه من أمرها وإن كان الخروج عما في اليد في غاية الكراهة إلى النفس ، وصرف الأمر بالتبعيض إلى الحلال الطيب ، فمنع احتجاج المعتزلة بها في أن الرزق لا يكون إلا حلالاً لكونه مأموراً به ، وأتبعه بما يرغب ويرهب من حال يوم التناد الذي تنقطع فيه الأسباب التي أقامها سبحانه وتعالى في هذه الدار فقال : {من قبل أن يأتي يوم} موصوف بأنه {لا بيع فيه} موجود {ولا خلة} قال الحرالي : هي مما منه المخاللة وهي المداخلة فيما يقبل التداخل حتى يكون كل واحد خلال الآخر ، وموقع معناها الموافقة في وصف الرضى والسخط ، فالخليل من رضاه رضى خليله وفعاله من فعاله - انتهى.(8/155)
{ولا شفاعة} والمعنى أنه لا يفدى فيه أسير بمال ، ولا يراعى لصداقة من مساوٍ ولا شفاعة من كبير ، لعدم إرادة الله سبحانه وتعالى لشيء من ذلك ولا يكون إلا ما يريد ، وفي الآية التفات شديد إلى أول السورة حيث وصف المؤمنين بالإنفاق مما رزقهم والإيقان بالآخرة ، وبيان لأن المراد بالإنفاق أعم من الزكاة وأن ذلك يحتمل جميع وجوه الإنفاق من جميع المعادن والحظوظ التي تكسب المعالي وتنجي من المهالك ، وسيأتي في الآيات الحاثّة على النفقة ما يرشد إلى ذلك كقوله تعالى {إن تبدوا الصدقات} [ البقرة : 271 ] وغيرها وقال الحرالي : فانتظم هذا الانتهاء في الخطاب بما في ابتداء السورة من {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} [ البقرة : 3 ] إلى قوله {المفلحون} [ البقرة : 5 ] فلذلك وقع بعد هذا الانتهاء افتتاح آية هي سيدة آي هذه السورة المنتظمة بأولها انتظاماً معنوياً برأس {الم ذلك الكتاب} [ البقرة : 1 2 ] فكان في إشارة هذا الانتظام توطئة لما أفصح به الخطاب في فاتحة سورة آل عمران ، لما ذكر من أن القرآن مثاني إفهام وحمد.
فكان أوله حمداً وآخره حمداً ينثني ما بين الحمدين على أوله ، كما قال " حمدني عبدي ، أثنى عليّ عبدي " فجملته حمد وتفاصيله ثناء - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 492 ـ 493}
قال الفخر :
اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال ، وبذل المال في الإنفاق فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه بالأمر بالإنفاق ، وأيضاً فيه وجه آخر ، وهو أنه تعالى أمر بالقتال فيما سبق بقوله : {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} [ البقرة : 244 ] ثم أعقبه بقوله : {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [ البقرة : 245 ] والمقصود منه إنفاق المال في الجهاد ، ثم إنه مرة ثانية أكد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد ، وهو قوله : {ياأيها الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 174}(8/156)
فصل
قال الفخر :
المعتزلة احتجوا على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً بقوله : {أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم} فنقول : الله تعالى أمر بالإنفاق من كل ما كان رزقاً بالإجماع أما ما كان حراماً فإنه لا يجوز إنفاقه ، وهذا يفيد القطع بأن الرزق لا يكون حراماً ، والأصحاب قالوا : ظاهر الآية وإن كان يدل على الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً إلا أنا نخصص هذا الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً حلالاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 174}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن قوله : {أَنفَقُواْ} مختص بالإنفاق الواجب كالزكاة أم هو عام في كل الإنفاقات سواء كانت واجبة أو مندوبة ، فقال الحسن : هذا الأمر مختص بالزكاة ، قال لأن قوله : {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} كالوعد والوعيد لا يتوجه إلا على الواجب
وقال الأكثرون : هذا الأمر يتناول الواجب والمندوب ، وليس في الآية وعيد ، فكأنه قيل : حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدنيا ، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة
والقول الثالث : أن المراد منه الإنفاق في الجهاد : والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد ، فكان المراد منه الإنفاق في الجهاد ، وهذا قول الأصم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 174 ـ 175 }
قال القرطبى :
وقال ابن جريج وسعيد بن جبير : هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوّع.
قال ابن عطية.
وهذا صحيح ، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا النّدب إنما هو في سبيل الله ، ويقوي ذلك في آخر الآية قوله : { هُمُ الظالمون } أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال.
قلت : وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرّة واجباً ومرّة ندباً بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 266}
فصل فى المقصود من الآية
قال الفخر :(8/157)
المقصود من الآية أن الإنسان يجىء وحده ، ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا ، قال تعالى : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [ الأنعام : 94 ] وقال : {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [ مريم : 80 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 175}
قوله تعالى : {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة }
قال القرطبى :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } بالنصب من غير تنوين ، وكذلك في سورة "إبراهيم" { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } [ إبراهيم : 31 ] وفي "الطور" { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } [ الطور : 23 ] وأنشد حسان بن ثابت :
ألاَ طِعانَ وَلاَ فُرْسَانَ عاديةٌ . . .
إلاَّ تَجَشُّؤكمْ عند التَّنَانِير
وألف الاستفهام غير مغيِّرة عملَ "لا" كقولك : ألا رجلَ عندك ، ويجوز ألاَ رجلٌ ولا امرأةٌ كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه.
وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين ، كما قال الراعيّ :
وما صَرَمْتُكِ حتى قُلْتِ مُعْلِنَةً . . .
لا ناقةٌ لِيَ في هذا ولا جَمَلُ
ويروى "وما هجرتكِ" فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف ، كأنّه جواب لمن قال : هل فيه مِن بيع ؟ فسأل سؤالاً عاماً فأُجيب جواباً عاماً بالنفي.
و "لا" مع الاسم المنفي بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء ، والخبر "فيه".
وإن شئت جعلته صفة ليوم ، ومَن رفع جعل "لا" بمنزلة ليس.
وجعل الجواب غير عام ، وكأنه جواب مَن قال : هل فيه بيع ؟ بإسقاط من ، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه ، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس و"فيه" الخبر.
قال مكيّ : والاختيار الرفع ؛ لأن أكثر القرّاء عليه (1) ، ويجوز في غير القرآن لا بيعَ فيه ولا خلةٌ ، وأنشد سيبويه لرجل من مَذْحِج :
هذا لعَمْركُمُ الصَّغار بعيْنِه . . .
______________
(1) هذا الكلام وما شابهه فيه نظر لأن القراءة بالنصب متواترة. والله أعلم.(8/158)
لا أُمَّ لِي إن كان ذاك ولا أَبُ
ويجوز أن تبني الأوّل وتنصب الثاني وتنوّنه فتقول : لا رجلَ فيه ولا امرأة ، وأنشد سيبويه :
لا نَسبَ اليومَ ولا خلةً . . .
اتسع الخرْقُ على الرّاقِعِ
فلا زائدة في الموضعين ، الأوّل عطف على الموضع والثاني على اللفظ.
ووجه خامس أن ترفع الأوّل وتبني الثاني كقولك : لا رجل فيها ولا امرأة ، قال أُمّيّةُ :
فلا لَغْوٌ ولا تَأتِيمَ فيها . . .
وما فَاهُوا به أبَداً مُقيمَ
وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، وقد تقدّم هذا والحمد لله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 266 ـ 267}
قال الفخر :
أما قوله : {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} ففيه وجهان
الأول : أن البيع ههنا بمعنى الفدية ، كما قال : {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} [ الحديد : 15 ] وقال : {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [ البقرة : 123 ] وقال : {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} [ الأنعام : 7 ] فكأنه قال : من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب
والثاني : أن يكون المعنى : قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 175}
قوله : {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة }
قال الفخر :(8/159)
أما قوله : {وَلاَ خُلَّةٌ} فالمراد المودة ، ونظيره من الآيات قوله تعالى : {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [ الزخرف : 67 ] وقال : {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [ البقرة : 166 ] وقال : {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [ العنكبوت : 25 ] وقال حكاية عن الكفار : {فَمَا لَنَا مِن شافعين وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [ الشعراء : 100 ] وقال : {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} [ البقرة : 270 ] وأما قوله : {وَلاَ شفاعة} يقتضي نفي كل الشفاعات.
واعلم أن قوله : {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة} عام في الكل ، إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين ، وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين ، وقد بيناه في تفسير قوله تعالى : {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [ البقرة : 281 ] {لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة} [ البقرة : 48 ].
واعلم أن السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور أحدها : أن كل أحد يكون مشغولاً بنفسه ، على ما قال تعالى : {لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ} [ عبس : 37 ] والثاني : أن الخوف الشديد غالب على كل أحد ، على ما قال : {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى} [ الحج : 2 ] والثالث : أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين ، وإذا صار مبغضاً لهما صار مبغضاً لمن كان موصوفاً بهما. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 175}
قال القرطبى :
أخبر الله تعالى ألاّ خُلّة في الآخرة ولا شفاعة إلاَّ بإذن الله.
وحقيقتها رحمة منه تعالى شرّف بها الذي أذن له في أن يشفع. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 266}
قال أبو حيان :(8/160)
{ ولا شفاعة } اللفظ عام والمراد الخصوص ، أي : ولا شفاعة للكفار ، وقال تعالى : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } أو : ولا شفاعة إلاَّ بإذن الله ، قال تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلاَّ لمن أذن له } وقال : { ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى } فعلى الخصوص بالكفار لا شفاعة لهم ولا منهم ، وعلى تأويل الإذن : لا شفاعة للمؤمنين إلاَّ بإذنه.
وقيل : المراد العموم ، والمعنى أن انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده لا يكون يوم القيامة ألبتة ، وأما الشفاعة التي توجد بالإذن من الله تعالى فحقيقتها رحمة الله ، لكن شرف تعالى الذي أذن له في أن يشفع.
وقد تعلق بقوله : ولا شفاعة ، منكرو الشفاعة ، واعتقدوا أن هذا نفي لأصل الشفاعة ، وقد أثبتت الشفاعة في الآخرة مشروطة بإذن الله ورضاه ، وصح حديث الشفاعة الذي تلقته الأمّة بالقبول ، فلا التفات لمن أنكر ذلك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 275 ـ 276}
قال ابن عاشور :
والشفاعة الوساطة في طلب النافع ، والسعي إلى من يراد استحقاق رضاه على مغضوب منه عليه أو إزالة وحشة أو بغضاء بينهما ، فهي مشتقة من الشفع ضد الوتر ، يقال شفع كمنع إذا صيّر الشيء شفعاً ، وشفع أيضاً كمنع إذا سعى في الإرضاء ونحوه لأنّ المغضوب عليه والمحروم يبعد عن واصله فيصير وتراً فإذا سعى الشفيع بجلب المنفعة والرضا فقد أعادهما شفعاً ، فالشفاعة تقتضي مشفوعاً إليه ومشفوعاً فيه ، وهي في عرفهم لا يتصدّى لها إلاّ من يتحقّق قبول شفاعته ، ويقال شفع فلان عند فلان في فلان فشفَّعهُ فيه أي فقبل شفاعته ، وفي الحديث : "قالوا هذا جدير إن خطب بأن ينكح وإن شفع بأن يشفع".
وبهذا يظهر أنّ الشفاعة تكون في دفع المضرة وتكون في جلب المنفعة قال :
فذاك فتًى إن تأته في صنيعة
إلى ماله لا تأته بشفيع...(8/161)
ومما جاء في منشور الخليفة القادر بالله للسلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي "ولّيناك كورة خراسان ولقبناك يمين الدولة ، بشفاعة أبي حامد الإسفرائيني" ، أي بواسطته ورغبته.
فالشفاعة في العرف تقتضي إدلال الشفيع عند المشفوع لديه ، ولهذا نفاها الله تعالى هنا بمعنى نفي استحقاق أحد من المخلوقات أن يكون شفيعاً عند الله بإدلال ، وأثبتها في آيات أخرى كقوله قريباً { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] وقوله : { ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] ، وثبتت للرسول عليه السلام في أحاديث كثيرة وأشير إليها بقوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } [ الإسراء : 79 ] وفسّرت الآية بذلك في الحديث الصحيح ، ولذلك كان من أصول اعتقادنا إثبات الشفاعة للنبيء صلى الله عليه وسلم وأنكرها المعتزلة وهم مخطئون في إنكارها وملبسون في استدلالهم ، والمسألة مبسوطة في كتب الكلام.
والشفاعة المنفية هنا مراد بها الشفاعة التي لا يسع المشفوعَ إليه ردّها ، فلا يعارض ما ورد من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة لأنّ تلك كرامة أكرمه الله تعالى بها وأذن له فيها إذ يقول : "اشفع تشفع" فهي ترجع إلى قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] وقوله : { ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] وقوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذن له } [ سبأ : 23 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 15 ـ 16}
قوله تعالى : { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
المناسبة
قال البقاعى :(8/162)
ولما حث سبحانه وتعالى على الإنفاق ختم الآية بذم الكافرين لكونهم لم يتحلوا بهذه الصفة لتخليهم من الإيمان وبعدهم عنه وتكذيبهم بذلك اليوم فهم لا ينفقون لخوفه ولا رجائه فقال بدل - ولا نصرة لكافر : {والكافرون} أي المعلوم كفرهم في ذلك اليوم ، وهذا العطف يرشد إلى أن التقدير : فالذين آمنوا يفعلون ما أمرناهم به لأنهم المحقون ، والكافرون {هم} المختصون بأنهم {الظالمون} أي الكاملون في الظلم لا غيرهم ، ومن المعلوم أن الظالم خاسر وأنه مخذول غير منصور ، لأنه يضع الأمور في غير مواضعها ، ومن كان كذلك لا يثبت له أمر ولا يرتفع له شأن بل هو دائماً على شفا جرف هار ، ولأجل ذلك يختم سبحانه وتعالى كثيراً من آياته بقوله {وما للظالمين من أنصار} [ البقرة : 270 ] فقد انتفى بذلك جميع أنواع الخلاص المعهودة في الدنيا في ذلك اليوم من الافتداء بالمال والمراعاة لصداقة أو عظمة ذي شفاعة أو نصرة بقوة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 493 ـ 494}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {والكافرون هُمُ الظالمون} فنقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول : الحمد لله الذي قال : {والكافرون هُمُ الظالمون} ولم يقل الظالمون هم الكافرون ، ثم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً
أحدها : أنه تعالى لما قال : {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة} أوهم ذلك نفي الخلة والشفاعة مطلقاً ، فذكر تعالى عقيبه : {والكافرون هُمُ الظالمون} ليدل على أن ذلك النفي مختص بالكافرين ، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على إثبات الشفاعة في حق الفساق ، قال القاضي : هذا التأويل غير صحيح لأن قوله : {والكافرون هُمُ الظالمون} كلام مبتدأ فلم يجب تعليقه بما تقدم.
والجواب : أنا لو جعلنا هذا الكلام مبتدأ ، تطرق الخُلفْ إلى كلام الله تعالى ، لأن غير الكافرين قد يكون ظالماً ، أما إذا علقناه بما تقدم زال الإشكال فوجب المصير إلى تعليقه بما قبله.(8/163)
التأويل الثاني : أن الكافرين إذا دخلوا النار عَجَزوا عن التخلص عن ذلك العذاب ، فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب ، ونظيره قوله تعالى : {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [ الكهف : 49 ].
والتأويل الثالث : أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الردىء ، ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله.
والتأويل الرابع : الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها ، لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله ، فإنهم كانوا يقولون في الأوثان : {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [ يونس : 18 ] ، وقالوا أيضاً : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [ الزمر : 3 ] فمن عبد جماداً وتوقع أن يكون شفيعاً له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخير ممن لا يجوز التوقع منه.
والتأويل الخامس : المراد من الظلم ترك الإنفاق ، قال تعالى : {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا} [ الكهف : 33 ] أي أعطت ولم تمنع فيكون معنى الآية والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله ، وأما المسلم فلا بد وأن ينفق منه شيئاً قل أو كثر.
والتأويل السادس : {والكافرون هُمُ الظالمون} أي هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه كما يقال : العلماء هم المتكلمون أي هم الكاملون في العلم فكذا ههنا ، وأكثر هذه الوجوه قد ذكرها القفال رحمه الله والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 175 ـ 176}
قال الزمخشرى :(8/164)
{ والكافرون هُمُ الظالمون } أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون ، فقال { والكافرون } للتغليظ ، كما قال في آخر آية الحج { وَمَن كَفَرَ } [ النور : 55 ] مكان : ومن لم يحج ، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله : { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } [ فصلت : 6 ]. (1) أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 327}
قال ابن عاشور :
وقوله : { والكافرون هم الظالمون } صيغة قصر نشأت عن قوله : { لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة } فدلّت على أن ذلك النفي تعريض وتهديد للمشركين فعقب بزيادة التغليظ عليهم والتنديد بأنّ ذلك التهديد والمهدّد به قد جلبوه لأنفسهم بمكابرتهم فما ظلمهم الله ، وهذا أشدّ وقعاً على المعاقب لأنّ المظلوم يجد لنفسه سلوّاً بأنّه معتدى عليه ، فالقصر قصر قلب ، بتنزيلهم منزلة من يعتقد أنّهم مظلومون.
ولك أن تجعلَه قصراً حقيقياً ادّعائياً لأنّ ظلمهم لما كان أشدّ الظلم جعلوا كمن انحصر الظلم فيهم.
والمراد بالكافرين ظاهراً المشركون ، وهذا من بدائع بلاغة القرآن ، فإنّ هذه الجملة صالحة أيضاً لتذييل الأمر بالإنفاق في سبيل الله ، لأنّ ذلك الإنفاق لقتال المشركين الذين بدأوا الدين بالمناوأة ، فهم الظالمون لا المؤمنون الذين يقاتلونهم لحماية الدين والذبّ عن حوزته.
_______________
(1) تبع الزمخشرى فى هذا القول البيضاوى وأبو السعود والآلوسى ، ولا يخفى ما فيه من البعد والتكلف ، والأولى حمل الآية على الكفر الذى يخرج من الملة ؛ لأنه ذكر فى مقابلة صدر الآية التى افتتحت بنداء التشريف{يا أيها الذين آمنوا}. والله أعلم.(8/165)
وذكر الكافرين في مقام التسجيل فيه تنزيه للمؤمنين عن أن يتركوا الإنفاق إذ لا يظنّ بهم ذلك ، فتركه والكفر متلازمان ، فالكافرون يظلمون أنفسهم ، والمؤمنون لا يظلمونها ، وهذا كقوله تعالى : { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة } [ فصلت : 6 ، 7 ] ، وذلك أنّ القرآن يصوّر المؤمنين في أكمل مراتب الإيمان ويقابل حالهم بحال الكفار تغليظاً وتنزيهاً ، ومن هذه الآية وأمثالها اعتقد بعض فرق الإسلام أنّ المعاصي تبطل الإيمان كما قدّمناه.أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 16}
قال ابن عطية فى معنى الآية :
ندب الله بهذه الآية ، إلى إنفاق شيء مما أنعم به وهذه غاية التفضل فعلاً وقولاً ، وحذر تعالى من الإمساك ، إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك بنفقة في ذات الله ، إذ هي مبايعة على ما قد فسرناه في قوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله } [ البقرة : 245 ] ، أو إذ البيع فدية لأن المرء قد يشتري نفسه ومراده بماله ، وكأن معنى الآية معنى سائر الآي التي تتضمن إلا فدية يوم القيامة .
وأخبر الله تعالى بعدم الخلة يوم القيامة ، والمعنى : خلة نافعة تقتضي المساهمة كما كانت في الدنيا ، وأهل التقوى بينهم في ذلك اليوم خلة ولكنها غير محتاج إليها ، وخلة غيرهم لا تغني من الله شيئاً ، وأخبر تعالى أن الشفاعة أيضاً معدومة في ذلك اليوم ، فحمل الطبري ذلك على عموم اللفظ وخصوص المعنى ، وأن المراد { ولا شفاعة } للكفار . وهذا لا يحتاج إليه . بل الشفاعة المعروفة في الدنيا وهي انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده مرتفعة يوم القيامة البتة . وإنما توجد شفاعة بإذن الله تعالى . فحقيقتها رحمة من الله تعالى . لكنه شرف الذي أذن له في أن يشفع ، وإنما المعدوم مثل حال الدنيا من البيع والخلة والشفاعة . أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 340}
وقال السعدى فى معنى الآية :(8/166)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله ، من صدقة واجبة ومستحبة ، ليكون لهم ذخرا وأجرا موفرا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير ، فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه ، ولم ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة ، وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين ، وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه ، فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلال إلى الحرام ، وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله ، فلهذا قال تعالى : { والكافرون هم الظالمون } وهذا من باب الحصر ، أي : الذين ثبت لهم الظلم التام ، كما قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم }. أ هـ {تفسير السعدى صـ 110}
لطيفة
قال فى روح البيان :
قال الراغب : حث المؤمنين على الإنفاق مما رزقهم من النعماء النفسية والبدنية الجارحية وإن كان الظاهر فى التعارف إنفاق المال ولكن قد يراد به بذل النفس والبدن فى مجاهدة العدو والهوى وسائر العبادات
ولما كانت الدنيا دار اكتساب وابتلاء والآخرة دار ثواب وجزاء بين أن لا سبيل للإنسان إلى تحصيل ما ينتفع به فى الآخرة فابتلى بذكر هذه الثلاثة لأنها أسباب اجتلاب المنافع المفضية إليها. أحدها المعاوضة وأعظمها المبايعة. والثانى ما تناوله بالمودة وهو المسمى بالصلات والهدايا.
والثالث ما يصل إليه بمعاونة الغير وذلك هو الشفاعة.(8/167)
ولما كانت العدالة بالقول المجمل ثلاثا عدالة بين الإنسان ونفسه وعدالة بينه وبين الناس وعدالة بينه وبين الله. فكذلك الظلم له مراتب ثلاث وأعظم العدالة ما بين العبد وبين الله وهو الإيمان وأعظم الظلم ما يقابله وهو الكفر ولذلك قال { والكافرون هم الظالمون } أى هم المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم بلا مشوبة. فليسارع العبد إلى تقوية الإيمان بالإنفاق والإحسان. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 487 ـ 488}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم }.
قال ابن عطية : ( هو عام في الجهاد والتطوع ).
والتحاكم في هذا إلى السبب المتقدم ( هل ينهض ) إلى وجوب القصد عليه أو يعم فيه وفي غيره ؟
قال ابن عرفة : وفرقوا بين قولك : تَصَدّقْ ، وبين قولك : يا غني تَصَدّقْ.
بثلاثة أوجه : إما للوصف المناسب ، أو تنبيه المخاطب ، أو استحضار ذهنه.
وإما خوف احتمال الشركة في النّداء.
فإن قلنا : إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة فينتفي احتمال ( الشريك ) هنا ، وأيضا فسبب النّزول يعين كون الخطاب للمؤمنين فانحصر كون فائدته إمّا التنبيه أو الإشعار بأنّ سبب الأمر بذلك وصف الإيمان.
قوله تعالى : { مِمَّا رَزَقْنَاكُم . . . }.
مذهب أهل السنة تعميم الرزق في الحلال والحرام ، وأمروا هنا بالحلال لأن ( من ) للتبعيض فيبقى البعض الآخر.
قوله تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ . . . }.
واليوم حمله المفسرون على يوم القيامة.
قال ابن عرفة : وعندي أنه يوم موت كل واحد لأن من مات قد قامت قيامته.
قيل لابن عرفة : يلزمك الإضمار لأن يوم القيامة لا بيع فيه بالإطلاق ويوم موت كل واحد لا بيع له فيه ولا خلة له فيه ، وإلاّ فالبيع لغيره ثابت له فيه لأن غيره حي قطعا ؟(8/168)
فقال : إنّما تعلق النّفي بيوم الموت والبيع غير ثابت فيه من حيث كونه يوم الموت ، ونفي البيع لايستلزم نفي الخلة لأنه قد لا يكون عنده ما يبيع وقد يكون ( له ) صاحب يحميه وينصره ، ولا يلزم من نفي الخليل نفي الشفاعة لأن العدو قد ( يرق ) لعدوه ويشفع فيه ، ولأن الخليل يستنقذ بالانتصار والقوة والغلبة والشفيع يستنقذ بالرغبة والفضل لا بالقوة. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 329}(8/169)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { أَنْفِقُواْ } : مفعوله محذوفٌ ، تقديره : شيئاً ممَّا رزقناكم ، فعلى هذا { مِمَّا رَزَقْنَاكُم } متعلّقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعه صفةً لذلك المفعول ، وإن لم تقدِّر مفعولاً محذوفاً ، فتكون متعلِّقة بنفس الفعل. و" مَا " يجوز أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوفٌ ، أي : رزقناكموه ، وأن تكون مصدريَّةً ، فلا حاجة إلى عائدٍ ، ولكن الرّزق المراد به المصدر لا ينفق ، فالمراد به اسم المفعول ، وأن تكون نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ].
قوله : { مِّن قَبْلِ } متعلِّقٌ أيضاً بأنفقوا ، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافهما معنًى؛ فإنَّ الأولى للتَّبعيض والثانية لابتداء الغاية ، و" أَنْ يَأْتي " في محلِّ جرٍّ بإضافة " قبل " إليه ، أي : من قبل إتيانه.
وقوله : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ } إلى آخره : الجملة المنفيَّة صفةٌ لـ " يَوم " فمحلُّها الرَّفع. وقرأ " بَيْعٌ " وما بعده مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر ، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير ، وتوجيه ذلك تقدم في قوله تبارك وتعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة : 197 ].
والخلَّة : الصَّداقة ، كأنها تتخلَّل الأعضاء ، أي : تدخل خلالها ، أي وسطها.
والخلَّة : الصديق نفسه؛ قال : [ الطويل ]
وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ... يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا(8/170)
وكأنه من إطلاق المصدر على العين مبالغةً ، أو على حذف مضافٍ ، أي : كان لها ذو خلَّة ، والخليل : الصَّديق لمداخلته إيَّاك ، ويصلح أن يكون بمعنى فاعل ، أو مفعول ، وجمعه " خُلاَّن " ، وفعلان جمع فعيل يقل في الصّفات ، وإنما يكثر في الجوامد نحو : " رُغْفَانٍ ".
قال القرطبيُّ : والخُلَّة : خالص المودَّة [ مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين والخِلالة والخَلالة ، والخُلالة : الصداقة ، والمودة ] ؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
وَكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
وأبو مرحب كنية الظِّلّ ، ويقال : هو كنية عرقوب الذي قيل فيه : " مواعيد عرقوب ".
والخَلَّة - بالضَّمِّ - أيضاً - ما خالل من النبت يقال : الخلة خبز الإبل ، والحمض فاكهتها.
والخَلَّة : - بالفتح - الحاجة والفقر ، يقال : سدَّ خلته ، أي : فقره.
والخِلَّة بالكسر ابن مَخَاض ، عن الأصمعي : يقال أتاهم بقرص كأنَّه فِرْسِنُ خلة.
والأنثى خلَّة أيضاً ، والخلّة : الخمرة الحامضة.
والخِلَّة - بالكسر - واحدة خلل السُّيوف ، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السُّيوف منقوشة بالذَّهب وغيره ، وهي أيضاً سُيُور تلبس ظهور سيتي القوس ، والخلّة أيضاً ما يبقى بين الأسنان.
و " هم " يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ ثانياً ، و{ الظالمون } خبره والجملة خبر الأوَّل. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 310 ـ 311}(8/171)
قوله تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال أبو حيان :
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه فضل بعض الأنبياء على بعض ، وأن منهم من كلمه ، وفسر بموسى عليه السلام ، وأنه رفع بعضهم درجات ، وفسر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ونص على عيسى عليه السلام ، وتفضيل المتبوع يفهم منه تفضيل التابع ، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعاً في أديانهم وعقائدهم ، ونسبوا الله تعالى إلى ما لا يجوز عليه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة ، فكان منهم العرب ، وكانوا قد اتخذوا من دون الله آلهة وأشركوا ، فصار جميع الناس المبعوث إليهم صلى الله عليه وسلم على غير استقامة في شرائعهم وعقائدهم ، وذكر تعالى أن الكافرين هم الظالمون ، وهم الواضعون الشيء غير مواضعه ، أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد الله بالوحدانية ، والمتضمنة صفاته العلا من : الحياة ، والاستبداد بالملك ، واستحالة كونه محلاً للحوادث ، وملكه لما في السموات والأرض ، وامتناع الشفاعة عنده إلاَّ باذنه ، وسعة علمه ، وعدم إحاطة أحد بشيء من علمه إلاَّ بارادته ، وباهر ما خلق من الكرسي العظيم الاتساع ، ووصفه بالمبالغة العلو والعظيمة ، إلى سائر ما تضمنته من أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، نبههم بها على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد ، وعلى طرح ما سواها. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 286}
وقال البقاعى :(8/172)
ولما أبتدأ سبحانه وتعالى الفاتحة كما مضى بذكر الذات ، ثم تعرف بالأفعال لأنها مشاهدات ، ثم رقي الخطاب إلى التعريف بالصفات ، ثم أعلاه رجوعاً إلى الذات للتأهل للمعرفة ابتدأ هذه السورة بصفة الكلام لأنها أعظم المعجزات وأبينها وأدلها على غيب الذات وأوقعها في النفوس لا سيما عند العرب ، ثم تعرف بالأفعال فأكثر منها.
(8/173)
فلما لم يبق لبس أثبت الوحدانية بآيتها السابقة مخللاً ذلك بأفانين الحكم ومحاسن الأحكام وأنواع الترغيب والترهيب في محكم الوصف والترتيب فلما تمت الأوامر وهالت تلك الزواجر وتشوقت الأنفس وتشوفت الخواطر إلى معرفة سبب انقطاع الوصل بانبتار الأسباب وانتفاء الشفاعة في ذلك اليوم ، إذ كان المألوف من ملوك الدنيا أنهم لا يكادون يتمكنون من أمر من الأمور حق التمكن من كثرة الشفعاء والراغبين من الأصدقاء ، إذ كان الملك منهم لا يخلو مجلسه قط عن جمع كل منهم صالح للقيام مقامه ولو خذله أو وجه إليه مكره ضعضع أمره وفتّ في عضده فهو محتاج إلى مراعاتهم واسترضائهم ومداراتهم ، بين سبحانه وتعالى صفة الآمر بما هو عليه من الجلال والعظمة ونفوذ الأمر والعلو عن الصد والتنزه عن الكفر والند والتفرد بجميع الكمالات والهيبة المانعة بعد انكشافها هناك أتم انكشاف لأن تتوجه الهمم لغيره وأن تنطق بغير إذنه وأن يكون غير ما يريد ليكون ذلك أدعى إلى قبول أمره والوقوف عند نهيه وزجره ، ولأجل هذه الأغراض ساق الكلام مساق جواب السؤال فكأنه قيل : هذا ما لا يعرف من أحوال الملوك فمن الملك في ذلك اليوم ؟ فذكر آية الكرسي سيدة آي القرآن التي ما اشتمل كتاب على مثلها مفتتحاً لها بالاسم العلم الفرد الجامع الذي لم يتسم به غيره ، وذلك لما تأهل السامع بعد التعرف بالكلام والتودد بالأفعال لمقام المعرفة فترقى إلى أوج المراقبة وحضرة المشاهدة فقال عائداً إلى مظهر الجلال الجامع لصفات الجلال والإكرام لأنه من أعظم مقاماته : {الله} أي هو الملك في ذلك اليوم ثم أثبت له صفات الكمال منزهاً عن شوائب النقص مفتتحاً لها بالتفرد فقال : {لا إله إلا هو} مقرراً لكمال التوحيد ، فإنه المقصود الأعظم من جميع الشرائع ولكن الإنسان لما جبل عليه من النقصان لا بد له من ترغيب يشده وترهيب يرده ومواعظ ترفقه وأعمال تصدقه وأخلاق تحققه ، فخلل سبحانه وتعالى أي التوحيد بالأحكام(8/174)
والقصص ، والأحكام تفيد الأعمال الصالحة فترفع أستار الغفلة عن عيون القلوب وتكسب الأخلاق الفاضلة لتصقل الصدأ عن مرائي النفوس فتتجلى فيها حقائق التوحيد ، والقصص تلزم بمواعظها واعتباراتها بالأحكام وتقرر دلائل المعارف فيرسخ التوحيد ، وكان هذا التفصيل لأنه أنشط للنفس بالانتقال من نوع إلى آخر مع الهز بحسن النظم وبلاغة التناسب والإلهاب ببداعة الربط وبراعة التلاحم.
وقال الحرالي : لما أتى بالخطاب على بيان جوامع من معالم الدين وجهات الاعتبار وبيان أحكام الجهاد والإنفاق فيه فتم الدين بحظيرته معالم إسلام وشعائر إيمان ولمحة إحسان أعلى تعالى الخطاب إلى بيان أمر الإحسان كما استوفى البيان في أمر الإيمان والإسلام فاستفتح هذا الخطاب العلي الذي يسود كل خطاب ليعلي به الذين آمنوا فيخرجهم به من ظلمة الإيمان بالغيب الذي نوره يذهب ظلمة الشك والكفر إلى صفاء ضياء الإيقان الذي يصير نور الإيمان بالإضافة إليه ظلمة كما يصير نور القمر عند ضياء الشمس ظلمة ، فكانت نسبة هذه الآية من آية الإلهية في قوله سبحانه وتعالى {وإلهكم إله واحد} [ البقرة : 163 ] وما بعدها من الاعتبار في خلق السماوات والأرض نسبة ما بين علو اسمه الله الذي لم يقع فيه شرك بحق ولا بباطل إلى اسمه الإله الذي وقع فيه الشرك بالباطل فينقل تعالى المؤمنين الذين استقر لهم إيمان الاعتبار بآية {وإلهكم إله واحد} [ البقرة : 163 ] وما بعدها من الاعتبار في خلق السماوات والأرض إلى يقين العيان باسمه {الله} وما يلتئم بمعناه من أوصافه العظيمة - انتهى.
ولما وحّد سبحانه وتعالى نفسه الشريفة أثبت استحقاقه لذلك بحياته وبين أن المراد بالحياة الأبدية بوصف القيومية فقال : {الحي} أي الذي له الحياة وهي صفة توجب صحة العلم والقدرة أي الذي يصح أن يعلم ويقدر {القيوم} أي القائم بنفسه المقيم لغيره على الدوام على أعلى ما يكون من القيام والإقامة.
(8/175)
قال الحرالي : فيعول زيدت في أصوله الياء ليجتمع فيه لفظ ما هو من معناه الذي هو القيام بالأمر مع واوه التي هي من قام يقوم فأفادت صيغته من المبالغة ما في القيام والقوام على حد ما تفهمه معاني الحروف عند المخاطبة بها من أئمة العلماء الوالجين في مدينة العلم المحمدي من بابه العلوي - انتهى.
ثم بين قيوميته وكمال حياته بقوله : {لا تأخذه سنة} قال الحرالي : هي مجال النعاس في العينين قبل أن يستغرق الحواس ويخامر القلب {ولا نوم} وهو ما وصل من النعاس إلى القلب فغشيه في حق من ينام قلبه وما استغرق الحواس في حق من لا ينام قلبه - انتهى ، ولما عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة ، كما لو قيل : فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان ، ثم بين هذه الجملة بقوله : {له} أي بيده وفي تصرفه واختصاصه {ما في السماوات} الذي من جملته الأرض {وما في الأرض} أي من السنة والنوم وغيرهما إبداعاً ودواماً وما هو في قبضته وتصرفه لا يغلبه.
قال الحرالي : وسلب بالجملة الأولى أمر الملكوت من أيدي الملائكة إلى قهر جبروته والآثار من نجوم الأفلاك إلى جبره ، وسلب بالجملة الثانية الآثار والصنائع من أيدي خليفته وخليقته إلى قضائه وقدره وظهور قدرته ، فكان هذا الخطاب بما أبدى للفهم إقامة قيامه على مجعول الحكمة الأرضية والسمائية التي هي حجاب قيوميته سلباً لقيام ما سواه - انتهى.
ثم بين ما تضمنته هذه الجملة بقوله منكراً على من ربما توهم أن شيئاً يخرج عن أمره فلا يكون مختصاً به {من ذا الذي يشفع} أي مما ادعى الكفار شفاعته وغيره {عنده إلا بإذنه} أي بتمكينه لأن من لم يقدر أحد على مخالفته كان من البيّن أن كل شيء في قبضته ، وكل ذلك دليل على تفرده بالإلهية.
(8/176)
قال الحرالي : وحقيقة الشفاعة وصلة بين الشفيع والمشفوع له لمزية وصلة بين الشفيع والمشفوع عنده ، فكان الإذن في باطن الشفاعة حظاً من سلب ما للشفعاء ليصير بالحقيقة إنما الشفاعة لله سبحانه وتعالى عند الله سبحانه وتعالى ، فهو سبحانه وتعالى بالحقيقة الذي شفع عند نفسه بنفسه ، فبإخفائه تعالى شفاعته في شفاعة الشفعاء كان هو الشفيع في الابتداء من وراء حجاب لأن إبداءه كله في حجاب وإعادته من غير حجاب ، فلذلك هو سبحانه وتعالى خاتم الشفعاء حيث يقول كما ورد في الخبر " شفع الأنبياء والمرسلون ولم يبق إلى الحي القيوم " انتهى.
ثم بين جميع ما مضى بقوله : {يعلم ما بين أيديهم} أي ما في الخافقين ممن ادعت شفاعته وغيرهم.
قال الحرالي : أي ما أتاهم علمه من أمر أنفسهم وغيرهم ، لأن ما بين يدي المرء يحيط به حسه ، وما علمه أيضاً فكأنه بين يدي قلبه يحيط به علمه {وما خلفهم} وهو ما لم ينله علمهم ، لأن الخلف هو ما لا يناله الحس ، فأنبأ أن علمه من وراء علمهم محيط بعلمهم فيما علموا وما لم يعلموا - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 494 ـ 497}
قال الفخر :
(8/177)
اعلم أن من عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط هذه الأنواع الثلاثة بعضها ببعض ، أعني علم التوحيد ، وعلم الأحكام ، وعلم القصص ، والمقصود من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف ، وهذا الطريق هو الطريق الأحسن لا إبقاء الإنسان في النوع الواحد لأنه يوجب الملال ، فأما إذا انتقل من نوع من العلوم إلى نوع آخر فكأنه يشرح به الصدر ويفرح به القلب ، فكأنه سافر من بلد إلى بلد آخر وانتقل من بستان إلى بستان آخر ، وانتقل من تناول طعام لذيذ إلى تناول نوع آخر ، ولا شك أنه يكون ألذ وأشهى ، ولما ذكر فيما تقدم من علم الأحكام ومن علم القصص ما رآه مصلحة ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد ، فقال : {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 3}
لطيفة
قال القرطبى :
قال ابن عباس : أشرف آية في القرآن آية الكرسي.
قال بعض العلماء : لأنه يكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثمان عشرة مرّة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 271}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم فكلما كان المذكور والمعلوم أشرف كان الذكر والعلم أشرف ، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله سبحانه بل هو متعال عن أن يقال : إنه أشرف من غيره ، لأن ذلك يقتضي نوع مجانسة ومشاكلة ، وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ، فلهذا السبب كل كلام اشتمل على نعوت جلاله وصفات كبريائه ، كان ذلك الكلام في نهاية الجلال والشرف ، ولما كانت هذه الآية كذلك لا جرم كانت هذه الآية بالغة في الشرف إلى أقصى الغايات وأبلغ النهايات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 4}
بحث لطيف للعلامة الفخر فى الآية الكريمة
قال الفخر : (8/178)
اعلم أن تفسير لفظة {الله} قد تقدم في أول الكتاب وتفسير قوله {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} قد تقدم في قوله {وإلهكم إله واحد لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} [ البقرة : 163 ] بقي ههنا أن نتكلم في تفسير قوله : {الحى القيوم} وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول : أعظم أسماء الله {الحى القيوم} وما روينا أنه صلوات الله وسلامه عليه ما كان يزيد على ذكره في السجود يوم بدر يدل على عظمة هذا الاسم والبراهين العقلية دالة على صحته وتقريره ، ومن الله التوفيق : أنه لا شك في وجود الموجودات فهي إما أن تكون بأسراها ممكنة ، وإما أن تكون بأسراها واجبة وإما أن تكون بعضها ممكنة وبعضها واجبة لا جائز أن تكون بأسراها ممكنة ، لأن كل مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزاء هذا المجموع ممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان ، فهذا المجموع ممكن بذاته وكل واحد من أجزائه ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح مغاير له ، فهذا المجموع مفتقر بحسب كونه مجموعاً وبحسب كل واحد من أجزائه إلى مرجح مغاير له وكل ما كان مغايراً لكل الممكنات لم يكن ممكناً فقد وجد موجود ليس بممكن ، فبطل القول بأن كل موجود ممكن وأما القسم الثاني وهو أن يقال الموجودات بأسرها واجبة فهذا أيضاً باطل.
(8/179)
لأنه لو حصل وجودان كل واحد منهما واجب لذاته لكانا مشتركين في الوجوب بالذات ومتغايرين بالنفي ، وما به المشاركة مغاير لما به الممايزة ، فيكون كل واحد منهما مركباً في الوجوب الذي به المشاركة ، ومن الغير الذي به الممايزة ، وكل مركب فهو مفتقر إلى كل واحد من جزئه وجزء غيره ، وكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، فلو كان واجب الوجود أكثر من واحد لما كان شيء منها واجب الوجود وذلك محال ، ولما بطلل هذان القسمان ثبت أنه حصل في مجموع الموجودات موجود واحد واجب الوجود لذاته وأن كل ما عداه فهو ممكن لذاته موجود بإيجاد ذلك الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته ، ولما بطل هذان فالواجب لذاته موجود لذاته وبذاته ، ومستغن في وجوده عن كل ما سواه ، وأما كل ما سواه فمفتقر في وجوده وماهيته إلى إيجاد الواجب لذاته ، فالواجب لذاته قائم بذاته وسبب لتقوم كل ما سواه في ماهيته وفي وجوده ، فهو القيوم الحي بالنسبة إلى كل الموجودات ، فالقيوم هو المتقوم بذاته ، المقوم لكل ما عداه في ماهيته ووجوده ، ولما كان واجب الوجود لذاته كان هو القيوم الحق بالنسبة إلى الكل ، ثم إنه لما كان المؤثر في الغير إما أن يكون مؤثراً على سبيل العلية والإيجاب وإما أن يكون مؤثراً على سبيل الفعل والاختيار : لا جرم أزال وهم كونه مؤثراً بالعلية والإيجاب بقوله {الحى القيوم} فإن {الحى} هو الدراك الفعال ، فبقوله {الحى} دل على كونه عالماً قادراً ، وبقوله {القيوم} دل على كونه قائماً بذاته ومقوماً لكل ما عداه ، ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد.
(8/180)
فأولها : أن واجب الوجود واحد بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء ، وبرهانه أن كل مركب فإنه مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه ، وجزؤه غيره ، وكل مركب فهو متقوّم بغيره ، والمتقوم بغيره لا يكون متقوماً بذاته ، فلا يكون قيوماً ، وقد بينا بالبرهان أنه قيوم وإذا ثبت أنه تعالى في ذاته واحد ، فهذا الأصل له لازمان أحدها : أن واجب الوجود واحد ، بمعنى أنه ليس في الوجود شيئان كل واحد منهما واجب لذاته ، إذ لو فرض ذلك لاشتركا في الوجوب ، وتباينا في التعين ، وما به المشاركة غير ما به المباينة ، فيلزم كون كل واحد منهما في ذاته مركباً من جزأين ، وقد بينا أنه محال.
اللازم الثاني : أنه لما امتنع في حقيقته أن تكون مركبة من جزأين امتنع كونه متحيزاً ، لأن كل متحيز فهو منقسم ، وقد ثبت أن التركيب عليه ممتنع ، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيزاً امتنع كونه في الجهة ، لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسيّة ، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة ، امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون.
وثانيها : أنه لما كان قيوماً كان قائماً بذاته ، وكونه قائماً بذاته يستلزم أمور :
اللازم الأول : أن لا يكون عَرَضاً في موضوع ، ولا صورة في مادة ، ولا حالاّ في محل أصلاً لأن الحال مفتقر إلى المحل والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوماً بذاته.
(8/181)
واللازم الثاني : قال بعض العلماء : لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، فإذا كان قيوماً بمعنى كونه قائماً بنفسه لا بغيره كانت حقيقته حاضرة عند ذاته ، وإذا كان لا معنى للعلم إلا هذا الحضور ، وجب أن تكون حقيقته معلومة لذاته فإذن ذاته معلومة لذاته ، وكل ما عداه فإنه إنما يحصل بتأثيره ، ولأنا بينا أنه قيوم بمعنى كونه مقوماً لغيره ، وذلك التأثير إن كان بالاختيار فالفاعل المختار لا بدّ وأن يكون له شعور بفعله وإن كان بالإيجاب لزم أيضاً كونه عالماً بكل ما سواه لأن ذاته موجبة لكل ما سواه ، وقد دللنا على أنه يلزم من كونه قائماً بالنفس لذاته كونه عالماً بذاته ، والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول ، فعلى التقديرات كلها يلزم من كونه قيوماً كونه عالماً بجميع المعلومات.
وثالثها : لما كان قيوماً لكل ما سواه كان كل ما سواه مُحْدَثاً ، لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير لأن تحصيل الحاصل محال فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثاً.
(8/182)
ورابعها : أنه لما كان قيوماً لكل الممكنات استندت كل الممكنات إليه إما بواسطة أو بغير واسطة ، وعلى التقديرين كان القول بالقضاء والقدر حقاً ، وهذا مما قد فصلناه وأوضحناه في هذا الكتاب في آيات كثيرة فأنت إن ساعدك التوفيق وتأملت في هذه المعاقد التي ذكرناها علمت أنه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلهي إلا بواسطة كونه تعالى حياً قيوماً فلا جرم لا يبعد أن يكون الاسم الأعظم هو هذا ، وأما سائر الآيات الإلهية ، كقوله {وإلهكم إله واحد لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} [ البقرة : 163 ] وقوله {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} [ آل عمران : 18 ] ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند ، وأما قوله {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [ الصمد : 1 ] ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند ، وبمعنى أن حقيقته غير مركبة من الأجزاء ، وأما قوله {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض} [ الأعراف : 54 ] ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان وحدة الحقيقة ، أما قوله {الحى القيوم} فإنه يدل على الكل لأن كونه قيوماً يقتضي أن يكون قائماً بذاته ، وأن يكون مقوماً لغيره وكونه قائماً بذاته يقتضي الوحدة بمعنى نفي الكثرة في حقيقته ، وذلك يقتضي الوحدة بمعنى نفي الضد والند ويقتضي نفي التحيز وبواسطته يقتضي نفي الجهة ، وأيضاً كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسماً كان أو روحاً عقلاً كان أو نفساً ، ويقتضي استناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه ، وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر فظهر أن هذين اللفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلهي ، فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى واستوجب أن يكون هو الاسم الأعظم من أسماء الله تعالى ،
(8/183)
ثم إنه تعالى لما بين أنه حي قيوم أكد ذلك بقوله {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} والمعنى : أنه لا يغفل عن تدبير الخلق ، لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة لاختل أمر الطفل ، فهو سبحانه قيم جميع المحدثات ، وقيوم الممكنات ، فلا يمكن أن يغفل عن تدبيرهم ، فقوله {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} كالتأكيد لبيان كونه تعالى قائماً ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لو سنان نائم ، ثم إنه تعالى لما بيّن كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته ، مقوماً لغيره ، رتب عليه حكماً وهو قوله {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} لأنه لما كان كل ما سواه إنما تقومت ماهيته ، وإنما يحصل وجوده بتقويمه وتكوينه وتخليقه لزم أن يكون كل ما سواه ملكاً له وملكاً له ، وهو المراد من قوله {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} ثم لما ثبت أنه هو الملك والمالك لكل ما سواه ، ثبت أن حكمه في الكل جار ليس لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله {مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ثم لما بيّن أنه يلزم من كونه مالكاً للكل ، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه ، بيّن أيضاً أنه يلزم من كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل ، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه إلا بإذنه ، وهو قوله {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} وهو إشارة إلى كونه سبحانه عالماً بالكل ، ثم قال : {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} وهو إشارة إلى كون غيره غير عالم بجميع المعلومات ، ثم إنه لما بيّن كمال ملكه وحكمه في السموات وفي الأرض ، بيّن أن ملكه فيما وراء السماوات والأرض أعظم وأجل ، وأن ذلك مما لا تصل إليه أوهام المتوهمين وينقطع دون الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها المتخيلين ، فقال : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض} ثم بيّن أن نفاذ حكمه وملكه في الكل على(8/184)
نعت واحد ، وصورة واحدة ، فقال : {وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا} ثم لما بين كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً للمحدثات والممكنات والمخلوقات ، بيّن كونه قيوماً بمعنى قائماً بنفسه وذاته ، منزّهاً عن الاحتياج إلى غيره في أمر من الأمور ، فتعالى عن أن يكون متحيزاً حتى يحتاج إلى مكان ، أو متغيراً حتى يحتاج إلى زمان ، فقال : {وَهُوَ العلى العظيم} فالمراد منه العلو والعظمة ، بمعنى أنه لا يحتاج إلى غيره في أمر من الأمور ، ولا ينسب غيره في صفة من الصفات ولا في نعت من النعوت ، فقال : {وَهُوَ العلى العظيم} إشارة إلى ما بدأ به في الآية من كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته مقوماً لغيره ، ومن أحاط عقله بما ذكرنا علم أنه ليس عند العقول البشرية من الأمور الإلهية كلام أكمل ، ولا برهان أوضح مما اشتملت عليه هذه الآيات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 4 ـ 6}
فائدة
قال الفخر :
قال بعضهم : الإله هو المعبود ، وهو خطأ لوجهين
الأول : أنه تعالى كان إلها في الأزل ، وما كان معبوداً
والثاني : أنه تعالى أثبت معبوداً سواه في القرآن بقوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [ الأنبياء : 98 ] بل الإله هو القادر على ما إذا فعله كان مسحتقاً للعبادة. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 7}
قوله {الحى}
قال القرطبى :
{ الحي القيوم } نعت لله عز وجل ، وإن شئت كان بدلاً من "هو" ، وإن شئت كان خبراً بعد خبر ، وإن شئت على إضمار مبتدأ.
ويجوز في غير القرآن النصب على المدح.
و "الحيّ" اسم من أسمائه الحسنى يسمى به ، ويقال : إنه اسم الله تعالى الأعظم.
ويقال : إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان إذا أراد أن يحيي الموتي يدعو بهذا الدعاء : يا حيّ يا قيوم.
ويقال : إن آصف بن بَرْخِيَا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله يا حيّ يا قيوم.
______________
(1) من الممكن أن يعارض هذا الكلام بأن الله تعالى خالق قبل وجود المخلوق ورازق قبل وجود المرزوق ومحمود قبل وجود من يحمده. والله أعلم وأحكم.(8/185)
ويقال : إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم : أياهيا شراهيا ، يعني يا حيّ يا قيوم.
ويقال : هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به.
قال الطبريّ عن قوم : إنه يقال حيّ قيوم كما وصف نفسه ، ويُسلّم ذلك دون أن يُنْظْر فيه.
وقيل : سمى نفسه حياً لصرفه الأُمور مصاريفها وتقديره الأشياء مقاديرها.
وقال قتادة : الحيّ الذي لا يموت.
وقال السدي : المراد بالحيّ الباقي.
قال لبيد :
فإمّا تَرِيني اليومَ أصبحتُ سالماً . . .
فلستُ بأحْيَا من كِلابٍ وجَعْفَرِ
وقد قيل : إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم. (1) أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 271}
سؤال : لقائل أن يقول : لما كان معنى الحي هو أنه الذي يصح أن يعلم ويقدر ، وهذا القدر حاصل لجميع الحيوانات ، فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات.
_______________
(1) بعض هذه الأقوال فيه نظر ، وأما بالنسبة لاسم الله الأعظم فقد أخافه الله تعالى فى أسمائه الحسنى ، لنسأله بجميعها ، والأولى تفويض علم ذلك إلى العليم الحكيم. والله أعلم.(8/186)
والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن هذه الصحة ، بل كل شيء كان كاملاً في جنسه ، فإنه يسمى حياً ، ألا ترى أن عمارة الأرض الخربة تسمى : إحياء الموات ، وقال تعالى : {فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [ الروم : 50 ] وقال : {إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض} [ فاطر : 9 ] والصفة المسماة في عرف المتكلمين ، إنما سميت بالحياة لأن كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة وكمال حال الأشجار أن لا تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة وكمال الأرض أن تكون معمورة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة فثبت أن المفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته ، وإذا كان كذلك فقد زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ، ولما لم يكن ذلك مقيداً بأنه كامل في هذا دون ذاك دل على أنه كامل على الإطلاق ، فقوله الحي يفيد كونه كاملاً على الإطلاق ، والكامل هو أن لا يكون قابلاً للعدم ، لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقة ولا في صفاته النسبية والإضافية ، ثم عند هذا إن خصصنا القيوم بكونه سبباً لتقويم غيره فقد زال الإشكال ، لأن كونه سبباً لتقويم غيره يدل على كونه متقوماً بذاته ، وكونه قيوماً يدل على كونه مقوماً لغيره ، وإن جعلنا القيوم اسماً يدل على كونه يتناول المتقوم بذاته والمقوم لغيره كان لفظ القيوم مفيداً فائدة لفظ الحي مع زيادة ، فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 7}
وقد تعقب الآلوسى الإمام الفخر فى هذا الجواب فقال ما نصه :
ولا يخفى أنه صرح ممرد من قوارير.
(8/187)
أما أولاً : فلأن قوله : إن الحي بمعنى الذي يصح أن يعلم ويقدر مما يشترك به سائر الحيوانات فلا يحسن أن يمدح الله تعالى به نفسه في غاية السقوط لأنه إن أراد الاشتراك في إطلاق اللفظ فليس الحي وحده كذلك بل السميع والبصير أيضاً مثله في الإطلاق على أخس الحيوانات ، وقد مدح الله تعالى بهما نفسه ولم يستشكل ذلك أهل السنة ، وإن أراد الاشتراك في الحقيقة فمعاذ الله تعالى من ذلك إذ الاشتراك فيها مستحيل بين التراب ورب الأرباب ، وبين الأزلي والزائل ، ومتى قلت إن الاشتراك في إطلاق اللفظ يوجب ذلك الاشتراك حقيقة ، ولا مناص عنه إلا بالحمل على المجاز لزمك مثل ذلك في سائر الصفات ولا قائل به من أهل السنة ، وأما ثانياً : فلأن كون الحياة في اللغة بمعنى الكمال مما لم يثبت في شيء من كتب اللغة أصلاً وإنما الثابت فيها غير ذلك ووصف الجمادات بها إنما هو على سبيل المجاز دون الحقيقة كما وهم فإن قال : إنها مجاز في الله تعالى أيضاً بذلك المعنى عاد الإشكال بحصول الاشتراك في الكمال مع الجمادات فضلاً عن الحيوان ، فإن قال : كمال كل شيء بالنسبة إلى ما يليق به قلنا : فحياة كل حي حقيقة بالنسبة إلى ما يليق به ، وليس كمثل الله تعالى شيء ، وكأني بك تفهم من كلامي الميل إلى مذهب السلف في مثل هذه المواطن فليكن ذلك فهم القوم كل القوم.
ويا حبذا هند وأرض بها هند... والزمخشري فسر الحي بالباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وجعلوا ذلك منه تفسيراً بما هو المتعارف من كلام العرب وأرى أن في القلب منه شيء ، ولعلي من وراء المنع لذلك ، نعم روي عن قتادة أنه الذي لا يموت وهو ليس بنص في المدعي. (1) أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 7}
_________________
(1) نسبة صفات الخلق لصفات الخالق ـ جل جلاله ـ كنسبة العدم إلى الوجود {ليس كمثله شىء وهو السميع البصير}. والله أعلم.(8/188)
كلام نفيس لصاحب الميزان فى معنى الحياة
قال رحمه الله :
وأما اسم الحي فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزن سائر الصفات المشبهة في دلالتها على الدوام والثبات.
والناس في بادئ مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين : قسم منها لا يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتا كالأحجار وسائر الجمادات ، وقسم منها ربما تغيرت حاله وتعطلت قواه وأفعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس ، وذلك كالإنسان وسائر أقسام الحيوان والنبات فإنا ربما نجدها تعطلت قواها ومشاعرها وأفعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجا ، وبذلك أذعن الإنسان بأن هناك وراء الحواس أمرا آخر هو المبدأ للإحساسات والإدراكات العلمية والأفعال المبتنية على العلم والإرادة وهو المسمى بالحياة ويسمى بطلانه بالموت ، فالحياة نحو وجود يترشح عنه العلم والقدرة.
وقد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها ، قال تعالى : " اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها " الحديد - 17 ، وقال تعالى : " أنك ترى الأرض خاسعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى " فصلت - 39 ، وقال تعالى : " وما يستوي الأحياء ولا الأموات " فاطر - 22 ، وقال تعالى : " وجعلنا من الماء كل شئ حي " الأنبياء - 30 ، فهذه تشمل حياة أقسام الحي من الإنسان والحيوان والنبات.
وكذلك القول في أقسام الحياة ، قال تعالى : " ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها " يونس - 7 ، وقال تعالى : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " المؤمن - 11 ، والإحيائان المذكوران يشتملان على حياتين :
إحداهما : الحياة البرزخية ، والثانية : الحياة الآخرة ، فللحياة أقسام كما للحي أقسام.(8/189)
والله سبحانه مع ما يقرر هذه الحياة الدنيا يعدها في مواضع كثيرة من كلامه شيئا رديا هينا لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى : " وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " الرعد - 26 ، وقوله تعالى : " تبتغون عرض الحياة الدنيا " النساء - 94 ، وقوله تعالى : " تريد زينة الحياة الدنيا " الكهف - 28 ، وقوله تعالى : " وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " الأنعام - 32 ، وقوله تعالى : " وما الحياة الدنيا إلامتاع الغرور " الحديد - 20 ، فوصف الحياة الدنيا بهذه الأوصاف فعدها متاعا والمتاع ما يقصد لغيره ، وعدها عرضا والعرض ما يعترض ثم يزول ، وعدها زينة والزينة هو الجمال الذي يضم على الشئ ليقصد الشئ لأجله فيقع غير ما قصد ويقصد غير ما وقع ، وعدها لهوا واللهو ما يلهيك ويشغلك بنفسه عما يهمك ، وعدها لعبا واللعب هو الفعل الذي يصدر لغاية خيالية لا حقيقية ، وعدها متاع الغرور وهو ما يغر به الإنسان.
ويفسر جميع هذه الآيات ويوضحها قوله تعالى : " وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت - 64 ، يبين أن الحياة الدنيا إنما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة وكمالها ، وهي الحياة التي لا موت بعدها ، قال تعالى : " آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " الدخان - 56 ، وقال تعالى : لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد " ق - 35 ، فلهم في حياتهم الآخرة أن لا يعتريهم الموت ، ولا يعترضهم نقص في العيش وتنغص ، لكن الأول من الوصفين أعني الأمن هو الخاصة الحقيقة للحياة الضرورية له.
(8/190)
فالحياة الأخروية هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طرو الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا ، لكن الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات أخر كثيرة أنه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقية الأخروية والمحيي للإنسان في الآخرة ، وبيده تعالى أزمة الأمور ، فأفاد ذلك أن الحياة الأخروية أيضا مملوكة لا مالكة ومسخرة لا مطلقة أعني أنها إنما ملكت خاصتها المذكورة بالله لا بنفسها.
ومن هنا يظهر أن الحياة الحقيقية يجب أن تكون بحيث يستحيل طرو الموت عليها لذاتها ولا يتصور ذلك إلا بكون الحياة عين ذات الحي غير عارضة لها ولاطارئة عليها بتمليك الغير وإفاضته ، قال تعالى : " وتوكل على الحي الذي لا يموت " الفرقان - 58 ، وعلى هذا فالحياة الحقيقية هي الحياة الواجبة ، وهي كون وجوده بحيث يعلم ويقدر بالذات.
ومن هنا يعلم : أن القصر في قوله تعالى : " هو الحي لا إله إلا هو " قصر حقيقي غير إضافي ، وأن حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت ولا يعتريها فناء وزوال هي حياته تعالى.
فالأوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى : الله لا إله إلا هو الحي القيوم الآية ، وكذا في قوله تعالى : " الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " آل عمران - 1 ، أن يكون لفظ الحي خبرا بعد خبر فيفيد الحصر لأن التقدير ، الله الحي فالآية تفيد أن الحياة لله محضا إلا ما أفاضه لغيره. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 329 ـ 330}(8/191)
قوله تعالى : {القيوم}
قال القرطبى :
{ القيوم } مِن قام ؛ أي القائم بتدبير ما خلق ؛ عن قتادة.
وقال الحسن : معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها ، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها.
وقال ابن عباس : معناه الذي لا يحول ولا يزول ؛ قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت :
لم تُخلَقِ السماءُ والنجومُ . . .
والشمس مَعْها قَمرٌ يقومُ
قدّره مُهَيْمِن قَيّومُ . . .
والحشْرُ والجنَّة والنّعيمُ
إلاّ لأمْرٍ شأنُه عظيمُ . . .
قال البيهقي : ورأيت في "عيون التفسير" لإسماعيل الضرير في تفسير القَيُّوم قال : ويقال هو الذي لا ينام ؛ وكأنه أخذه من قوله عز وجل عقيبه في آية الكرسي : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }.
وقال الكلبيّ : القيوم الذي لا بدىء له ؛ ذكره أبو بكر الأنباريّ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 271 ـ 272}
فصل
قال الفخر :
اختلفت عبارات المفسرين في هذا الباب ، فقال مجاهد : القيوم القائم على كل شيء ، وتأويله أنه قائم بتدبير أمر الخلق في إيجادهم ، وفي أرزاقهم ، ونظيره من الآيات قوله تعالى : {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [ الرعد : 33 ] وقال : {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} [ آل عمران : 18 ] إلى قوله {قَائِمَاً بالقسط} وقال : {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ} [ فاطر : 41 ] وهذا القول يرجع حاصله إلى كونه مقوماً لغيره ، وقال الضحاك : القيوم الدائم الوجود الذي يمتنع عليه التغير ، وأقول : هذا القول يرجع معناه إلى كونه قائماً بنفسه في ذاته وفي وجوده ، وقال بعضهم : القيوم الذي لا ينام بالسريانية ، وهذا القول بعيد حينئذ في قوله تعالى : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 8}
قوله تعالى : {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}
قال أبو حيان : (8/192)
{ لا تأخذه سنة ولا نوم } يقال : وسن سنة ووسناً ، والمعنى : أنه تعالى لا يغفل عن دقيق ولا جليل ، عبر بذلك عن الغفلة لأنه سببها ، فأطلق اسم السبب على المسبب قال ابن جرير : معناه لا تحله الآفات والعاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات ، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ، وهذا هو مفهوم الخطاب ، كما قال تعالى : { ولا تقبل لهما أف } وقيل : نزه نفسه عن السنة والنوم لما فيها من الراحة ، وهو تعالى لا يجوز عليه التعب والاستراحة.
وقيل : المعنى لا يقهره شيء ولا يغلبه ، وفي المثل : النوم سلطان قال الزمخشري : وهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 287 ـ 288}
سؤال : فإن قيل : إذ كانت السنة عبارة عن مقدمة النوم ، فإذا قال : {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} فقد دل ذلك على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى ، وكان ذكر النوم تكريراً.
قلنا : تقدير الآية : لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه النوم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 8}
قال ابن عاشور :
ونفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير ، وإثبات لكمال العلم ؛ فإنّ السنة والنوم يشبهان الموت ، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة ، وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس.
ونفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه لأنّ من الأحياء من لا تعتريه السنة فإذا نام نام عميقاً ، ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة ، وقد تمادحت العرب بالقدرة على السهر ، قال أبو كبير :
فأتَتْ به حُوشَ الفُؤادِ مُبَطَّناً
سُهُداً إذَا ما نَام ليلُ الهَوْجَلِ...
والمقصود أنّ الله لا يحجب علمه شيء حجباً ضعيفاً ولا طويلاً ولا غلبة ولا اكتساباً ، فلا حاجة إلى ما تطلّبه الفخر والبيضاوي من أن تقديم السنة على النوم مراعى فيه ترتيب الوجود ، وأنّ ذكر النوم من قبيل الاحتراس.
(8/193)
وقد أخذ هذا المعنى بشّار وصاغه بما يناسب صناعة الشعر فقال :
وليلٍ دَجُوجِي تَنَامُ بناتُه
وأبناؤه من طُوله ورَبَائِبه...
فإنّه أراد من بنات الليل وأبنائه الساهرات والساهرين بمواظبة ، وأراد بربائب الليل من هم أضعف منهم سهراً لليلِ لأنّ الربيب أضعف نسبة من الولد والبنت. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 19 ـ 20}
سؤال : ما فائدة تكرار : لا ، في قوله : ولا نوم ؟
الجواب : فائدة تكرار : لا ، في قوله : ولا نوم ، انتفاؤهما على كل حال ، إذ لو أسقطت ، لا : لا ، احتمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع ، تقول : ما قام زيد وعمرو ، بل أحدهما ، ولا يقال : ما قام زيد ولا عمرو ، بل أحدهما. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 288}
فصل
قال الفخر :
الدليل العقلي دل على أن النوم والسهو والغفلة محالات على الله تعالى ، لأن هذه الأشياء ، إما أن تكون عبارات عن عدم العلم ، أو عن أضداد العلم ، وعلى التقديرين فجواز طريانها يقتضي جواز زوال علم الله تعالى ، فلو كان كذلك لكانت ذاته تعالى بحيث يصح أن يكون عالماً ، ويصح أن لا يكون عالماً ، فحينئذ يفتقر حصول صفة العلم له إلى الفاعل ، والكلام فيه كما في الأول والتسلسل محال فلا بد وأن ينتهي إلى من يكون علمه صفة واجبة الثبوت ممتنعة الزوال ، وإذا كان كذلك كان النوم والغفلة والسهو عليه محالا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 8}
لطيفة
قال الفخر :
يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حكي عن موسى عليه السلام أنه وقع في نفسه : هل ينام الله تعالى أم لا ، فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثا ، ثم أعطاه قارورتين في كل يد واحدة ، وأمره بالاحتفاظ بهما ، وكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان ، فضرب الله تعالى ذلك مثلاً له في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السموات والأرض. (1)
________________
(1) قال القرطبى : ولا يصح هذا الحديث ، ضعّفه غير واحد منهم البيهقي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 273}(8/194)
واعلم أن مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى عليه السلام ، فإن من جوز النوم على الله أو كان شاكاً في جوازه كان كافراً ، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى ، بل إن صحت الرواية ، .
فالواجب نسبة هذا السؤال إلى جهال قومه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 8 ـ 9}
قوله تعالى : {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض}
قال أبو حيان :
{ له ما في السموات وما في الأرض } يصح أن يكون خبراً بعد خبر ، ويصح أن يكون استئناف خبر ، كما يصح ذلك في الجملة التي قبلها.
و : ما ، للعموم تشمل كل موجود ، و: اللام ، للملك أخبر تعالى أن مظروف السموات والأرض ملك له تعالى ، وكرر : ما ، للتوكيد.
وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف ، لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره ، لأن ما عبد من دون الله من الأجرام النيرة التي في السموات : كالشمس ، والقمر ، والشعرى ؛ والأشخاص الأرضية : كالأصنام ، وبعض بني آدم ، كل منهم ملك لله تعالى ، مربوب مخلوق.
وتقدّم أنه تعالى خالق السموات والأرض ، فلم يذكرهما كونه مالكاً لهما استغناء بما تقدّم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 288}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} فالمراد من هذه الإضافة إضافة الخلق والملك ، وتقديره ما ذكرنا من أنه لما كان واجب الوجود واحداً كان ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ممكن فله مؤثر ، وكل ما له مؤثر فهو محدث فإذن كل ما سواه فهو محدث بإحداثه مبدع بإبداعه فكانت هذه الإضافة إضافة الملك والإيجاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 9}
وقال ابن عاشور : (8/195)
وجملة { له ما في السماوات وما في الأرض } تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته ، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة لأنّ من كانت جميع الموجودات مِلكاً له فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألاّ يهملها ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها.
واللامُ للمِلك.
والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات ، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته ، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنّه لا يشذّ عن مِلكه موجود فحصل معنى الحصر ، ولكنّه زاده تأكيداً بتقديم المسند أي لا لِغيره لإفادة الردّ على أصناف المشركين ، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرّد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضّالة.
فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها ، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر ، وهذا بلاغة معجِزة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 20}
سؤال : فإن قيل : لم قال : {لَّهُ مَا فِي السموات} ولم يقل : له من في السموات ؟ .
قلنا : لما كان المراد إضافة ما سواه إليه بالمخلوقية ، وكان الغالب عليه ما لا يعقل أجرى الغالب مجرى الكل فعبر عنه بلفظ {مَا} وأيضاً فهذه الأشياء إنما أسندت إليه من حيث إنها مخلوقة ، وهي من حيث إنها مخلوقة غير عاقلة ، فعبّر عنها بلفظ {مَا} للتنبيه على أن المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 9}
فائدة
قال الفخر :
(8/196)
اعلم أن الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، قالوا : لأن قوله {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} يتناول كل ما في السموات والأرض ، وأفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض ، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق ، وكما أن اللفظ يدل على هذا المعنى فالعقل يؤكده ، وذلك لأن كل ما سواه فهو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح إلا بتأثير واجب الوجود لذاته ، وإلا لزم ترجح الممكن من غير مرجح وهو محال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 9}
قوله تعالى : {مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}
قال الفخر :
قوله {مَن ذَا الذى} استفهام معناه الإنكار والنفي ، أي لا يشفع عنده أحد إلا بأمره وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [ الزمر : 3 ] وقولهم {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [ يونس : 18 ] ثم بيّن تعالى أنهم لا يجدون هذا المطلوب.
فقال : {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} [ يونس : 18 ] فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ونظيره قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [ النبأ : 38 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 9}
وقال ابن عاشور :
وجملة { من ذا الذي يشفع عنده ألا بإذنه } مقرّرة لمضمون جملة { له ما في السموات وما في الأرض } لما أفادُه لام الملك من شمول ملكه تعالى لِجميع ما في السماوات وما في الأرض ، وما تضمنّه تقديم المجرور من قَصْر ذلك الملك عليه تعالى قصرَ قلب ، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى ، بالمطابقة.
(8/197)
وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده التي لا تردّ بالالتزام ، لأنّ الإدلال من شأن المساوي والمقارب ، والشفاعة إدلال.
وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنّهم لم يثبتوا لإلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة ، بل قالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وقالوا : { ما نعبدهم إلاَّ ليقرّبونا إلى الله زُلْفى } [ الزمر : 3 ] ، فأكّد هذا المدلول بالصريح ، ولذلك فصلت هذه الجملة عمّا قبلها.
وَ { ذا } مزيدة للتأكيد إذ ليس ثمّ مشار إليه معيَّن ، والعرب تزيد ( ذا ) لما تدل عليه الإشارة من وجود شخص معيّن يتعلق به حكم الاستفهام ، حتى إذا أظهر عدم وجوده كان ذلك أدلّ على أن ليس ثمّةَ متطلع ينصب نفسه لادّعاء هذا الحكم ، وتقدم القول في ( من ذا ) عند قوله تعالى : { مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ].
والاستفهام في قوله :
{ من ذا الذي يشفع عنده } مستعمل في الإنكار والنفي بقرينة الاستثناء مِنه بقوله { إلا بإذنه }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 20 ـ 21}
فصل
قال القرطبى :
وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة ، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله ، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ؛ كما قال : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] قال ابن عطية : والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين ، أو وصل ولكن له أعمال صالحة.
وفي البخاريّ في "بابٌ بقيّةٌ من أبواب الرؤية" : إن المؤمنين يقولون : ربنا إن إخواننا كانوا يُصلّون معنا ويصومون معنا.
وهذه شفاعة فيمن يقرب أمره ، وكما يشفع الطفل المُحْبَنْطِىء على باب الجنة.
وهذا إنما هو في قراباتهم ومعارفهم.
(8/198)
وإن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أُممهم بذنوبٍ دون قُربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان ، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين في الخطايا والذنوب الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء.
وأما شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في تعجيل الحساب فخاصّة له.
قلت : قد بيّن مسلم في صحيحه كيفية الشفاعة بياناً شافياً ، وكأنه رحمه الله لم يقرأه وأن الشافعين يدخلون النار ويُخرجون منها أناساً استوجبوا العذاب ؛ فعلى هذا لا يبعد أن يكون للمؤمنين شفاعتان : شفاعة فيمن لم يصل إلى النار ، وشفاعة فيمن وصل إليها ودخلها ؛ أجارنا الله منها.
(8/199)
فذكر من " حديث أبي سعيد الخدريّ : "ثم يُضرب الجسرُ على جهنم وتحِلّ الشفاعة ويقولون اللهم سلِّم سلِّم قيل : يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : دَحْضٌ مَزِلّةٌ فيها خَطاطيف وكلاليب وحَسَكَةٌ تكون بنَجْد فيها شُوَيْكة يقال لها السّعْدان فيمرّ المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والرِّكاب فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ ومَخْدُوشٌ مُرْسَل ومَكْدُوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشدّ مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار ، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويُحجّون ، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم ، فتُحرَّم صورُهم على النار فيُخرجون خلقاً كثيراً قد أخذتِ النار إلى نصف ساقيْه وإلى ركبتيْه ثم يقولون ربنا ما بقى فيها أحد ممن أمرتنا به ، فيقول عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مِثقال دينار من خير فأخرجوه ، فيُخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمر تنابه ، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مِثقال نصفِ دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه ، فيُخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيراً" "
وكان أبو سعيد يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] " فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيُخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قَطّ قد عادوا حُمما " وذكر الحديث.
(8/200)
وذكر من " حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : "فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك أو قال ليس ذلك إليك وعِزتي وكبريائي وعظمتي ( وكبريائي ) لأخرجنّ من قال لا إله إلا الله" " وذكر من حديث أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام : " حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود " الحديث بطوله.
قلت : فدلّت هذه الأحاديث على أن شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخل النار وحصل فيها ، أجارنا الله منها!
وقول ابن عطية : "ممن لم يصل أو وصل" يحتمل أن يكون أخذه من أحاديث أُخَر ، والله أعلم.
وقد خرّج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُصفّ الناسُ يوم القيامة صُفُوفاً وقال ابن نمير أهل الجنة فيمرّ الرجل من أهل النار على الرجل فيقول يا فلان أما تذكر يوم استسقيتَ فسقيتُك شَربة ؟ قال فيشفع له ويمرّ الرجل على الرجل فيقول أما تذكر يوم ناولتك طهوراً ؟ فيشفع له قال ابن نمير ويقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا فذهبت لك ؟ فيشفع له ".
وأما شفاعات نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم فاختلف فيها ؛ فقيل ثلاث ، وقيل اثنتان ، وقيل : خمس ، يأتي بيانها في "سبحان" إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 273 ـ 276}
فصل
قال الفخر :
قال القفال : إنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين ، إذ كان لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل الطاعة وأهل المعصية ، وطول في تقريره.
(8/201)
وأقول : إن هذا القفال عظيم الرغبة في الاعتزال حسن الاعتقاد في كلماتهم ، ومع ذلك فقد كان قليل الإحاطة بأصولهم ، وذلك لأن من مذهب البصريين منهم أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول ، إلا أن السمع دل على أن ذلك لا يقع ، وإذا كان كذلك كان الاستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ على قولهم ، بل على مذهب الكعبي أن العفو عن المعاصي قبيح عقلاً ، فإن كان القفال على مذهب الكعبي ، فحينئذ يستقيم هذا الاستدلال ، إلا أن الجواب عنه يرد ذلك من وجوه الأول : أن العقاب حق الله تعالى وللمستحق أن يسقط حق نفسه ، بخلاف الثواب فإنه حق العبد فلا يكون لله تعالى أن يسقطه ، وهذا الفرق ذكره البصريون في الجواب عن شبهة الكعبي والثاني : أن قوله : لا يجوز التسوية بين المطيع والعاصي إن أراد به أنه لا يجوز التسوية بينهما في أمر من الأمور فهو جهل ، لأنه تعالى قد سوى بينهما في الخلق والحياة والرزق وإطعام الطيبات ، والتمكين من المرادات وإن كان المراد أنه لا يجوز التسوية بينهما في كل الأمور فنحن نقول بموجبه ، فكيف لا يقول ذلك والمطيع لا يكون له جزع ، ولا يكون خائفاً من العقاب ، والمذنب يكون في غاية الخوف وربما يدخل النار ويتألم مدة ، ثم يخلصه الله تعالى عن ذلك العذاب بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن القَفّال رحمه الله كان حسن الكلام في التفسير دقيق النظر في تأويلات الألفاظ إلا أنه كان عظيم المبالغة في تقرير مذهب المعتزلة مع أنه كان قليل الحظ من علم الكلام قليل النصيب من معرفة كلام المعتزلة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 9 ـ 10}
قوله تعالى : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}
قال أبو حيان :
(8/202)
{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } الضمير يعود على : ما ، وهم الخلق ، وغلب من يعقل ، وقيل : الضميران في : أيديهم وخلفهم ، عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله : { له ما في السموات وما في الأرض } قاله ابن عطية. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 289}
فصل
قال الفخر :
في الآية وجوه
أحدها : قال مجاهد ، وعطاء ، والسدي {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما كان قبلهم من أمور الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما يكون بعدهم من أمر الآخرة
والثاني : قال الضحاك والكلبي {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها {وَمَا خَلْفَهُمْ} الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم
والثالث : قال عطاء عن ابن عباس {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من السماء إلى الأرض {وَمَا خَلْفَهُمْ} يريد ما في السموات
الرابع {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} بعد انقضاء آجالهم {وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما كان من قبل أن يخلقهم
والخامس : ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام : أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق العقاب والثواب ، لأنه عالم بجميع المعلومات لا تخفى عليه خافية ، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، ولا يعلمون أن الله تعالى هل أذن لهم في تلك الشفاعة وأنهم يستحقون المقت والزجر على ذلك ، وهذا يدل على أنه ليس لأحد من الخلائق أن يقدم على الشفاعة إلا بإذن الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 10}
قال أبو حيان :
(8/203)
والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به ، كما تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، وأنت تعني بذلك جميع جسده ، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات ، فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات ، لا يعزب عنه شيء ، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 289}
قال ابن عاشور :
وجملة { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه } تقرير وتكميل لما تضمنّه مجموع جملتي { الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } ولما تضمنّته جملة { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه } ، فإنّ جملتي { الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } دلتا على عموم علمه بما حدث ووُجد من الأكوان ولم تَدُلاّ على علمه بما سيكون فأُكد وكمل بقوله يعلمُ الآية ، وهي أيضاً تعليل لجملة من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه إذ قد يتّجه سؤال لماذا حُرموا الشفاعة إلاّ بعد الإذن فقيل لأنّهم لا يعلمون من يستحقّ الشفاعة وربّما غرّتهم الظواهر ، والله يعمل من يستحقّها فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولأجل هذين المعنيين فصلت الجملة عما قبلها.
والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها ، أو ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم.
وأما علمه بما في زمانهم فأحرى.
وقيل المستقبل هو ما بين الأيدي والماضي هوالخَلف ، وقيل عكس ذلك ، وهما استعمالان مبنيان على اختلاف الاعتبار في تمثيل ما بين الأيدي والخلف ، لأنّ ما بين أيدي المرء هو أمامَه ، فهو يستقبله ويشاهده ويسعى للوصول إليه ، وما خلفه هو ما وراء ظهره ، فهو قد تخلّف عنه وانقطع ولا يشاهده ، وقد تجاوزه ولا يتّصل به بعد وقيل أمور الدنيا وأمور الآخرة ، وهو فرع من الماضي والمستقبل ، وقيل المحسوسات والمعقولات.
(8/204)
وأياماً كان فاللفظ مجاز ، والمقصود عموم العلم بسائرِ الكائنات.
وضمير { أيديهم } و{ خلفهم } عائد إلى { ما في السماوات وما في الأرض } بِتغليب العقلاء من المخلوقات لأنّ المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما يشمل أحوال غير العقلاء ، أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السموات وما في الأرض فيكون المراد ما يختصّ بأحوال البشر وهو البعض ، لضمير ولا يحيطون لأنّ العلم من أحوال العقلاء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 21 ـ 22}
قوله تعالى : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما بين قهره لهم بعلمه بين عجزهم عن كل شيء من علمه إلا ما أفاض عليهم بحلمه فقال : {ولا يحيطون بشيء} أي قليل ولا كثير {من علمه إلا بما شاء} فبان بذلك ما سبقه ، لأن من كان شامل العلم ولا يعلم غيره إلا ما علمه كان كامل القدرة ، فكان كل شيء في قبضته ، فكان منزهاً عن الكفوء متعالياً عن كل عجز وجهل ، فكان بحيث لا يقدر غيره أن ينطق إلاّ بإذنه لأنه يسبب له ما يمنعه مما لا يريده.
ثم بين ما في هذه الجملة من إحاطة علمه وتمام قدرته بقوله مصوراً لعظمته وتمام علمه وكبريائه وقدرته بما اعتاده الناس في ملوكهم : {وسع كرسيه} ومادة كرس تدور على القوة والاجتماع والعظمة والكرس الذي هو البول والبعر الملبد مأخوذ من ذلك.
وقال الأصفهاني : الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد.
(8/205)
وقال الحرالي : معنى الكرس هو الجمع ، فكل ما كان أتم جمعاً فهو أحق بمعناه ، ويقال على المرقى للسرير الذي يسمى العرش الذي يضع الصاعد عليه قدمه إذا صعد وإذا نزل وحين يستوي إن شاء : كرسي ، ثم قال : والكرسي فيه صور الأشياء كلها كما بدت آيته في الأرض التي فيها موجودات الأشياء كلها ، فما في الأرض صورة إلاّ ولها في الكرسي مثل ، فما في العرش إقامته ففي الكرسي أمثلته ، وما في السماوات إقامته ففي الأرض صورته ، فكان الوجود مثنياً كما كان القرآن مثاني إجمالاً وتفصيلاً في القرآن ومداداً وصوراً في الكون ، فجمعت هذه الآية العلية تفصيل المفصلات وانبهام صورة المداديات بنسبة ما بين السماء وما منه ، وجعل وسع الكرسي وسعاً واحداً حيث قال : {السماوات والأرض} ولم يكن وسعان لأن الأرض في السماوات والسماوات في الكرسي والكرسي في العرش والعرش في الهواء - انتهى.
فبان بذلك ما قبله لأن من كان بهذه العظمة في هذا التدبير المحكم والصنع المتقن كان بهذا العلم وهذه القدرة التي لا يثقلها شيء ولذا قال : {ولا يؤوده} أي يثقله.
قال الحرالي : من الأود أي بلوغ المجهود ذوداً ، ويقابله ياء من لفظ لايد أي وهو القوة ، وأصل معناه والله سبحانه وتعالى أعلم أنه لا يعجزه علو أيده ولذلك يفسره اللغويون بلفظة يثقله {حفظهما} في قيوميته كما يثقل غيره أو يعجزه حفظ ما ينشئه بل هو عليه يسير لأنه لو أثقله لاختل أمرهما ولو يسيراً ولقدر غيره ولو يوماً ما على غير ما يريده.
والحفظ قال الحرالي : الرعاية لما هو متداع في نفسه فيكون تماسكه بالرعاية له عما يوهنه أو يبطله - انتهى.
(8/206)
ولما لم يكن علوه وعظمته بالقهر والسلطان والإحاطة بالكمال منحصراً فيما تقدم عطف عليه قوله : {وهو} أي مع ذلك كله المتفرد بأنه {العلي} أي الذي لا رتبة إلا وهي منحطة عن رتبته {العظيم} كما أنبأ عن ذلك افتتاح الآية بالاسم العلم الأعظم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى علواً وعظمة تتقاصر عنهما الأفهام لما غلب عليها من الأوهام ، ونظم الاسمين هكذا دال على أنه أريد بالعظم علو الرتبة وبعد المنال عن إدراك العقول. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 497 ـ 498}
قال الفخر :
أما قوله {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد بالعلم هاهنا كما يقال : اللّهم اغفر لنا علمك فينا ، أي معلومك وإذا ظهرت آية عظيمة ، قيل : هذه قدرة الله ، أي مقدوره والمعنى : أن أحداً لا يحيط بمعلومات الله تعالى.
المسألة الثانية : احتج بعض الأصحاب بهذه الآية في إثبات صفة العلم لله تعالى وهو ضعيف لوجوه أحدها : أن كلمة {مِّنْ} للتبعيض ، وهي داخلة هاهنا على العلم.
فلو كان المراد من العلم نفس الصفة لزم دخول التبعيض في صفة الله تعالى وهو محال والثاني : أن قوله {بِمَا شَاء} لا يأتي في العلم إنما يأتي في المعلوم والثالث : أن الكلام إنما وقع هاهنا في المعلومات ، والمراد أنه تعالى عالم بكل المعلومات ، والخلق لا يعلمون كل المعلومات ، بل لا يعلمون منها إلا القليل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 10 ـ 11}
قال ابن عاشور :
وعطفت جملة { ولا يحيطون بشيء من علمه على جملة يعلم ما بين أيديهم لأنّها تكملة لمعناها كقوله : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } [ البقرة : 216 ].
ومعنى يحيطون يعلمون علماً تاماً ، وهومجاز حقيقته أنّ الإحاطة بالشيء تقتضي الاحتواء على جميع أطرافه بحيث لا يشذّ منه شيء من أوله ولا آخره ، فالمعنى لا يعلمون علم اليقين شيئاً من معلوماته ، وأمَّا ما يدّعونه فهو رجم بالغيب.
(8/207)
فالعلمُ في قوله : { من علمه } بمعنى المعلوم ، كالخَلْق بمعنى المخلوق ، وإضافته إلى ضمير اسم الجلالة تخصيص له بالعلوم اللدُنية التي استأثر الله بها ولم ينصب الله تعالى عليها دلائل عقلية أو عادية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 22}
قوله تعالى {إِلاَّ بِمَا شَاء}
قال الفخر :
وأما قوله {إِلاَّ بِمَا شَاء} ففيه قولان
أحدها : أنهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما شاء هو أن يعلمهم كما حكي عنهم أنهم قالوا {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}
والثاني : أنهم لا يعلمون الغيب إلا عند إطلاع الله بعض أنبيائه على بعض الغيب ، كما قال : {عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 11}
قوله تعالى : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض}
قال ابن عاشور :
والكرسي شيء يُجلس عليه مُتركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية ، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصاً واحداً في جلوسه ، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعاً فهو العرش.
وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضائه التحيّز ، فتعين أن يكون مراداً به غير حقيقته.
والجمهور قالوا : إنّ الكرسي مخلوق عظيم ، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته ، فقيل هو العرش ، وهو قول الحسَن.
وهذا هو الظاهر لأنّ الكرسي لم يذكر في القرآن إلاّ في هذه الآية وتكرّر ذكر العرش ، ولم يَرِد ذكرهما مقترنين ، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذُكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى : { قل من رب السموات السبع وربُ العرش العظيم } [ المؤمنون : 86 ] ، وقيل الكرسي غير العرش ، فقال ابن زيد هو دون العرش وروى في ذلك عن أبي ذَر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما الكرسيُ في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيَتْ بين ظهري فلاة من الأرض " وهو حديث لم يصح.
(8/208)
وقال أبو موسى الأشعري والسُدى والضحاك : الكرسي موضع القدمين من العرش ، أي لأنّ الجالس على عرش يكون مرتفعاً عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربَّع ، وروي هذا عن ابن عباس.
وقيل الكرسي مثلَ لعلم الله ، وروي عن ابن عباس لأنّ العالم يجلس على كرسي ليعلّم الناس.
وقيل مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 23}
فصل فى المراد من الكرسى
قال الفخر :
واختلف المفسرون على أربعة أقوال الأول : أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض ، ثم اختلفوا فيه فقال الحسن الكرسي هو نفس العرش ، لأن السرير قد يوصف بأنه عرش ، وبأنه كرسي ، لكون كل واحد منهما بحيث يصح التمكن عليه ، وقال بعضهم : بل الكرسي غير العرش ، ثم اختلفوا فمنهم من قال : إنه دون العرش وفوق السماء السابعة ، وقال آخرون إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي.
واعلم أن لفظ الكرسي ورد في الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ولا امتناع في القول به فوجب القول باتباعه ، وأما ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : موضع القدمين ، ومن البعيد أن يقول ابن عباس : هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء ، وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ، فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى.
القول الثاني : أن المراد من الكرسي السلطان والقدرة والملك ، ثم تارة يقال : الإلهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد ، والعرب يسمون أصل كل شيء الكرسي وتارة يسمى الملك بالكرسي ، لأن الملك يجلس على الكرسي ، فيسمى الملك باسم مكان الملك.
(8/209)
القول الثالث : أن الكرسي هو العلم ، لأن العلم موضع العالم ، وهو الكرسي فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه ، والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه ، ومنه يقال للعلماء : كراسي ، لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم : أوتاد الأرض.
والقول الرابع : ما اختاره القفال ، وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ، وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم من ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم ، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيّين والشهداء ووضع الموازين ، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً ، فقال {الرحمن عَلَى العرش استوى} [ طه : 5 ] ثم وصف عرشه فقال {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} [ هود : 7 ] ثم قال : {وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبّحُونَ بِحَمْدِهِ رَّبِّهِمْ} [ الزمر : 75 ] وقال : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية} [ الحاقة : 17 ] وقال : {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} [ غافر : 7 ] ثم أثبت لنفسه كرسياً فقال : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض }.
إذا عرفت هذا فنقول : كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي ، فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر ، ولما توافقنا هاهنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزّه عن الكعبة ، فكذا الكلام في العرش والكرسي ، وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول ، لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 11 ـ 12}
وقال القرطبى :
(8/210)
قوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } ذكر ابن عساكر في تاريخه عن عليّ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكرسي لؤلؤة والقلم لؤلؤة وطول القلم سبعمائة سنة وطول الكرسيّ حيث لا يعلمه إلا الله " وروى حمّاد بن سلمة عن عاصم بن بَهْدَلَة وهو عاصم بن أبي النجود عن زِرّ بن حُبَيش عن ابن مسعود قال : بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام ، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام ، والعرش فوق الماء والله فوق العرش يعلم ما أنتم فيه وعليه.
يقال : كُرسيّ وكرسِيّ والجمع الكراسيّ.
وقال ابن عباس : كرسيه علمه.
ورجحه الطبري ، قال : ومنه الكُرّاسة التي تضم العلم ؛ ومنه قيل للعلماء : الكراسيّ ؛ لأنهم المعتمد عليهم ؛ كما يقال : أَوْتَادُ الأرض.
قال الشاعر :
يَحُفّ بهم بِيضُ الوُجوه وعُصْبَةٌ . . .
كَراسيّ بالأحْداث حين تَنُوبُ
أي علماء بحوادث الأُمور.
وقيل : كُرسيّه قدرته التي يمسك بها السموات والأرض ، كما تقول : اجعل لهذا الحائط كرسياً ، أي ما يعمده.
وهذا قريب من قول ابن عباس في قوله "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ" قال البيهقيّ : وروينا عن ابن مسعود وسعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله "وسع كرسيه" قال : علمه.
وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور مع العرش.
وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك في قوله "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ" قال : إن الصّخْرة التي عليها الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها ، عليها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه : وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر ؛ فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسموات ، ورؤوسهم تحت الكرسيّ والكرسيّ تحت العرش والله واضع كرسيه فوق العرش.
قال البيهقيّ : في هذا إشارة إلى كرسيين : أحدهما تحت العرش ، والآخر موضوع على العرش.
(8/211)
وفي رواية أسباط عن السديّ عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمدانيّ عن ابن عباس ، وعن مُرّة الهَمَدَانيّ عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ" فإن السَّمَوَاتِ والأَرْضَ في جوف الكرسيّ والكرسيّ بين يدي العرش.
وأرباب الإلحاد يحملونها على عِظم المُلْك وجلالة السلطان ، وينكرون وجود العرش والكرسيّ وليس بشيء.
وأهل الحق يجيزونهما ؛ إذ في قدرة الله متّسع فيجب الإيمان بذلك.
قال أبو موسى الأشعري : الكرسيّ موضع القدمين وله أطِيطٌ كأطِيط الرَّحْل.
قال البيهقيّ : قد روينا أيضاً في هذا عن ابن عباس وذكرنا أن معناه فيما يُرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير ، وليس فيه إثبات المكان لله تعالى.
وعن ابن بُريدة عن أبيه قال : " لما قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أعجب شيء رأيتَه" ؟ قال : رأيت امرأة على رأسها مِكْتَلُ طعامٍ فمرّ فارس فأذْرَاه فقعدت تجمع طعامها ، ثم التفتت إليه فقالت له : ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقولها : "لا قُدِّست أُمّةٌ أو كيف تقدس أُمة لا يأخذ ضعيفُها حقَّه من شديدها" " قال ابن عطية : في قول أبي موسى "الكرسي موضع القدمين" يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين من أسِرة الملوك ، فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه كنسبة الكرسيّ إلى سرير الملك.
وقال الحسن ابن أبي الحسن : الكرسيّ هو العرش نفسه ؛ وهذا ليس بمرضيّ ، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسيّ مخلوق بين يديّ العرش والعرش أعظم منه.
(8/212)
وروى أبو إدريس الخولانيّ " عن أبي ذرّ قال : قلت يا رسول الله ، أيّ ما أنزل عليك أعظم ؟ قال : "آية الكرسيُّ ثم قال يا أبا ذرّ ما السموات السبع مع الكرسيّ إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على الحلقة" " أخرجه الآجُرِّي وأبو حاتم البستيّ في صحيح مسنده والبيهقيّ وذكر أنه صحيح.
وقال مجاهد : ما السموات والأرض في الكرسيّ إلا بمنزلة حلقة ملقاة في أرض فلاة.
وهذه الآية منبِئة عن عِظم مخلوقات الله تعالى ، ويستفاد من ذلك عِظم قدرة الله عز وجل إذْ لا يَؤُدُه حفظ هذا الأمر العظيم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 276 ـ 278}
قال ابن عطية ـ ولله دره ـ :
والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش ، والعرش أعظم منه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما السموات السبع في الكرسي إلاَّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس " وقال أبو ذرّ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما الكرسيّ في العرش إلاَّ كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض " وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 342}
قوله تعالى {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}
قال أبو حيان :
{ ولا يؤوده حفظهما } قرأ الجمهور : يؤوده بالهمز ، وقرىء شاذاً بالحذف ، كما حذفت همزة أناس ، وقرىء أيضاً : يووده ، بواو مضمومة على البدل من الهمزة أي : لا يشقه ، ولا يثقل عليه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم.
وقال ابان بن تغلب : لا يتعاظمه حفظهما ، وقيل : لا يشغله حفظ السموات عن حفظ الأرضين ، ولا حفظ الأرضين عن حفظ السموات.
والهاء تعود على الله تعالى ، وقيل : تعود على الكرسي ، والظاهر الأول لتكون الضمائر متناسبة لواحد ولا تختلف ، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 290 ـ 291}
فائدة
قال الآلوسى : (8/213)
{ حِفْظُهُمَا } أي السموات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبع لحفظه ، وخصهما بالذكر دون الكرسي لأن حفظهما هو المشاهد المحسوس ، والقول بالاستخدام ليدخل هو والعرش وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى بعيد. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 11}
قال القرطبى :
و { العلي } يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان ؛ لأن الله منزَّه عن التحيُّز.
وحكى الطبريّ عن قوم أنهم قالوا : هو العلِيّ عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه.
قال ابن عطية : وهذا قول جهلةٍ مجسِّمين ، وكان الوجه ألا يُحكى.
وعن عبد الرحمن بن قُرْط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به سمع تسبيحاً في السموات العلى : سبحانه الله العلِيّ الأعلى سبحانه وتعالى.
والعلِي والعالي : القاهر الغالب للأشياء ؛ تقول العرب : علا فلان فلاناً أي غلبه وقهره ؛ قال الشاعر :
فَلَمّا عَلَوْنا واسْتَوَيْنا عليهم . . .
تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسرٍ
ومنه قوله تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض } [ القصص : 4 ].
و { العظيم } صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشّرف ، لا على معنى عِظَم الأجرام.
وحكى الطبريّ عن قوم أن العظيم معناه المعظَّم ، كما يقال : العتيق بمعنى المعتق ، وأنشد بيت الأعشى :
فكأنّ الخمرَ العَتِيقَ من الإِس . . .
فِنِّط مَمْزُوجَةً بماءٍ زُلالِ
وحكى عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا : لو كان بمعنى مُعَظَّم لوجب ألاّ يكون عظيماً قبل أن يخلق الخلق وبعد فَنائهم ؛ إذْ لا معظِّم له حينئذ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 278 ـ 279}
وقال أبو حيان :
{ وهو العلي العظيم } عليّ في جلاله ، عظيم في سلطانه.
وقال ابن عباس : الذي كمل في عظمته ، وقيل : العظيم المعظّم ، كما يقال : العتيق في المعتق ، قال الأعشى :
وكأنّ الخمر العتيق من الاس . . .
فنط ممزوجة بماء زلال(8/214)
وأنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف قبل الخلق وبعد فنائهم ، إذ لا معظم له حينئذ ، فلا يجوز هذا القول.
وقيل : والجواب أنها صفة فعل : كالخلق والرزق ، فلا يلزم ما قالوه.
وقيل : العلي الرفيع فوق خلقه ، المتعالي عن الأشباه والأنداد ، وقيل : العالي من : علا يعلو : ارتفع ، أي : العالي على خلقه بقدرته ، والعظيم ذو العظمة الذي كل شيء دونه ، فلا شيء أعظم منه.
قال الماوردي : وفي الفرق بين العلي والعالي وجهان : أحدهما : أن العالي هو الموجود في محل العلو ، والعلي هو مستحق للعلو.
الثاني : أن العالي هو الذي يجوز أن يشارك ، والعلي هو الذي لا يجوز أن يشارك ، فعلى هذا الوجه يجوز أن يوصف الله بالعليّ لا بالعالي ، وعلى الأول يجوز أن يوصف بهما ، وقيل : العلي : القاهر الغالب للأشياء ، تقول العرب : علا فلان فلاناً غلبه وقهره.
قال الشاعر :
فلما علونا واستوينا عليهم . . .
تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ومنه { إن فرعون علا في الأرض } وقال الزمخشري : العلي الشأن العظيم الملك والقدرة. انتهى.
وقال قوم : العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه.
قال ابن عطية : وهذا قول جهلة مجسمين ، وكان الوجه أن لا يحكى.
وقال أيضاً : العلي يراد به علو القدر والمنزلة ، لا علو المكان ، لأن الله منزه عن التحيز. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 291}
فائدة جليلة
قال البقاعى :(8/215)
وقد ختمت الآية بما بدئت به غير أن بدأها بالعظمة كما قال الحرالي كان باسم {الله} إلاحة وختمها كان بذلك إفصاحاً لما ذكر من أن الإبداء من وراء حجاب والإعادة بغير حجاب ، كذلك تنزل القرآن ، مبدأ الخطاب إلاحة وخاتمته إفصاح ليتطابق الوحي والكون تطابق قائم ومقام {ألا له الخلق والأمر} [ الأعراف : 54 ] ولما في العلو من الظهور وفي العظمة من الخفاء لموضع الإحاطة لأن العظيم هو ما يستغرق كما يستغرق الجسم العظيم جميع الأقطار {وله المثل الأعلى} [ الروم : 27 ] وذلك حين كان ظاهر العلو هو كبرياؤه الذي شهد به كبير خلقه ، قال سبحانه وتعالى فيما أنبأ عنه نبيه صلى الله عليه وسلم " الكبرياء ردائي " لأن الرداء هو ما على الظاهر " والعظمة إزاري " والإزار ما ستر الباطن والأسفل ، فإذا في السماء كبرياؤه وفي الأرض عظمته ، وفي العرش علوه وفي الكرسي عظمته ، فعظمته أخفى ما يكون حيث التفصيل ، وكبرياؤه وعلوه أجلى ما يكون حيث الإبهام والانبهام ، فتبين بهذا المعنى علو رتبة هذه الآية بما علت على الإيمان علو الإيمان على الكفران ، ولما ألاحته للأفهام من قيوميته تعالى وعلوه وعظمته وإبادة ما سواه في أن ينسب إليهم شيء لأنه سبحانه وتعالى إذا بدا باد ما سواه كان في إلاحة هذه الآية العلية العظيمة تقرير دين الإسلام الذي هو دين الإلقاء كما كان فيما تقدم من إيراد السورة تقرير دين القيمة الذي ما أمروا إلا ليعبدوا به مخلصين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، ولذلك كان ذكر دين الإسلام في سورة الإفصاح بمعاني هذه السورة آل عمران إثر قوله {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [ آل عمران : 18 ] - انتهى.
(8/216)
وقد علم من هذا التقرير أن كل جملة استؤنفت فهي علة لما قبلها وأن الأخيرة شارحة للازم العلم المحيط وهو القدرة التامة التي أقمت دليل لزومها في طه ، فمن ادعى شركة فليحفظ هذا الكون ولو في عام من الأعوام وليعلم بما هو فاعل في ذلك العام ليصح قوله : وأنى له ذلك وأنى! واتضح بما تقرر له سبحانه وتعالى من العلو والعظمة أن الكافر به هو الظالم ، وأن يوم تجليه للفصل لا تكون فيه شفاعة ولا خلة ، وأما البيع فهم عنه في أشغل الشغل ، وإن كان المراد به الفداء فقد علم أنه لا سبيل إليه ولا تعريج عليه ، وبهذه الأسرار اتضح قول السيد المختار صلى الله عليه وسلم : " إن هذه الآية سيدة آي القرآن " وذلك لما اشتملت عليه من أسماء الذات والصفات والأفعال ، ونفي النقص وإثبات الكمال ، ووفت به من أدلة التوحيد على أتم وجه في أحكم نظام وأبدع أسلوب متمحضة لذلك ، فإن فضل الذكر والعلم يتبع المذكور والمعلوم ، وقد احتوت على الصفات السبع : الحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام صريحاً ، فإن الإذن لا يكون إلا بالكلام والإرادة ، وعلى السمع والبصر من لازم {له ما في السماوات وما في الأرض} ومن لازم {الحي} لأن المراد الحياة الكاملة ؛ وكررت فيها الأسماء الشريفة ظاهرة ومضمرة سبع عشرة مرة بل إحدى وعشرين ، ولم يتضمن هذا المجموع آية غيرها في كتاب الله ، وهي خمسون كلمة على عدد الصلوات المأمور بها أولاً في تلك الحضرة السماء حضرة العرش والكرسي فوق سدرة المنتهى ، وبعدد ما استقرت عليه من رتبة الأجر آخراً ، فكأنها مراقي لروح قارئها إلى ذلك المحل الأسمى الذي هو آتيه الذي تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ولعل هذا سر ما ثبت من أنه لا يقرب من يقرؤها عند النوم شيطان ، لأن من كان في حضرة الرحمن عال عن وساوس الشيطان - والله سبحانه وتعالى الموفق. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 498 ـ 500}
لطيفة
قال أبو حيان :
(8/217)
تضمنت هذه الآية الكريمة صفات الذات ، منها : الوحدانية ، بقوله : لا إله إلا هو ، والحياة ، الدالة على البقاء بقوله : الحي ، و: القدرة ، بقوله : القيوم ، واستطرد من القيومية لانتفاء ما يؤول إلى العجز ، وهو ما يعرض للقادر غيره تعالى من الغفلة والآفات ، فينتفي عنه وصفه بالقدرة إذ ذاك ، واستطرد من القيومية الدالة على القدرة إلى ملكه وقهره وغلبته لما في السموات والأرض ، إذ الملك آثار القدرة ، إذ للمالك التصرف في المملوك.
و : الإرادة ، بقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } فهذا دال على الاختيار والإرادة ، و: العلم بقوله : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ثم سلب عنهم العلم ، إلاَّ أن أعلمهم هو تعالى ، فلما تكملت صفات الذات العلا ، واندرج معها شيء من صفات الفعل وانتفى عنه تعالى أن يكون محلاً للحوادث ، ختم ذلك بكونه : العلي القدر العظيم الشأن. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 291}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ }.
" الله " اسم تفرّد به الحق - سبحانه فلا سمِيّ له فيه. قال الله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [ مريم : 65 ] أي هل تعرف أحداً غيره تسمَّى " الله " ؟ .
من اعتبر في هذا الاسم الاشتقاق فهو كالمتعارض ، فهذا اسم يدل على استحقاق صفات الجلال لا على اشتقاق الألفاظ ، فلا يعارض ما لا يعارض فيه من الأقوال.
(8/218)
قوله : { لا إله إلا هو } : إخبار عن نفي النظير والشبيه ، بما استوجب من التقديس والتنزيه. ومن تحقق بهذه القالة لا يرى ذَرّةً من الإثبات بغيره أو من غيره ؛ فلا يرفع إلى غيره حاجته ، ولا يشهد من غيره ذرة ، فَيَصْدُقُ إليه انقطاعه ، ويديم لوجوده انفرادَه ، فلا يسمع إلا من الله وبالله ، ولا يشهد إلا بالله ، ولا يُقْبِلْ إلا على الله ، ولا يشتغل إلا بالله ، فهو محوٌ عما سِوى الله ، فَمَالَهُ شكوى ولا دعوى ، ولا يتحرك منه لغيره عِرْقٌ ، فإذا استوفى الحق عبداً لم يَبْقَ للحظوظ - ألبتة - مساغ.
ثم إن هذه القالة تقتضي التحقق بها ، والفناء عن الموسومات بجملتها ، والتحقق بأنه لا سبيل لمخلوق إلى وجود الحق - سبحانه ، فلا وصل ولا فصل ولا قُرْبَ ولا بُعدَ ، فإن ذلكَ أجمعَ آفاتٌ لا تليق بالقِدَم.
وقوله : { الحي القيوم } : المتولي لأمور عباده ، القائم بكل حركة ، و( المحوي ) ، لكل عين وأثر.
{ لا تأخذه سنة ولا نوم } لأنه أحدي لا ترهقه غفلة ، وصمد لا تمسه علة ، وعزيز لا تقاربه قلة ، وجبار لا تميزه عزلة ، وفَرْدٌ لا تضمه جثة ، ووتر لا تحده جهة ، وقديم لا تلْحَقُه آفة ، وعظيم لا تدركه مسافة.
تَقَدَّس مِنْ جمالِه جلالُه ، وجلالُه جمالُه ، وسناؤه بهاؤه ، وبهاؤه سناؤه ، وأزله أبده ، وأبده سرمده ، وسرمدهِ قدَمُه ، وقدمه وجوده.
قوله جلّ ذكره : { لَّهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ }
مِلْكاً وإبداعاً ، وخَلْقاً واختراعاً.
{ مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }.
من ذا الذي يتنفس بنَفَس (... ) إلا بإجرائه ، أو يتوسل إليه من دون إذنه وإبدائه. ومن ظنَّ أنه يتوسل إليه باستحقاقٍ أو عمل ، أو تذلل أو أمل ، أو قربة أو نسب ، أو علة أو سبب - فالظنُّ وطنه والجهل مألفه والغلظ غايته والبعد قُصاراه.
قوله جلّ ذكره : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }
(8/219)
لأنه لا يخرج عن علمه معلوم ، ولا يلتبس عليه موجود ولا معدوم.
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ }.
يعني من معلوماته ، أي تقاصرت العلوم عن الإحاطة بمعلوماته إلا بإذنه.
فأي طمع لها في الإحاطة بذاته وحقه ؟ وأَنَّى تجوز الإحاطة عليه وهو لا يقطعه في عِزِّه أَمَد ، ولا يدركه حَدٌّ ؟!.
قوله جلّ ذكره : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ }.
خطاب لهم على قدر فهمهم. وإلا فأي خَطَرٍ للأكوان عند صفاته ؟
جلَّ قَدْرُه عن التعزز بعرش أو كرسي ، والتجمل بجنٍ أو إنْسِي.
قوله جلّ ذكره : { وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِىُّ العَظِيمُ }.
كَيف تُتْعِبُ المخلوقاتُ مَنْ خَلْقُ الذرة والكونِ بجملته - لو سواء ؛ فلا من القليل له تَيَسُّر ، ولا من الكثير عليه تَعَسُّر. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 196 ـ 198}
لطيفة
قال العلامة أبو السعود :
انطوت هذه الآيةِ الكريمةِ على أمهات المسائل الإلهية المتعلقةِ بالذات العليةِ والصفاتِ الجلية فإنها ناطقةٌ بأنه تعالى موجودٌ متفردٌ بالإلهية متصفٌ بالحياة واجبُ الوجود لذاته موجدٌ لغيره لما أن القيومَ هو القائمُ بذاته المقيمُ لغيره منزَّهٌ عن التحيز والحلول مبرأٌ عن التغير والفتور ، لا مناسبةَ بينه وبين الأشباح ولا يعتريه ما يعتري النفوسَ والأرواحَ مالكُ المُلك والملكوتِ ومُبدعُ الأصولِ والفروع ، ذو البطش الشديد لا يشفَع عنده إلا من أذِن له فيه ، العالِمُ وحده بجميع الأشياء جليِّها وخفيِّها كليِّها وجزئيِّها واسعُ الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يُملَكَ ويُقدَرَ عليه لا يشُقّ عليه شاقٌّ ولا يشغَلُه شأنٌ عن شأن ، متعالٍ عما تناله الأوهامُ ، عظيمٌ لا تُحدق به الأفهام ، تفردت بفضائلَ رائقةٍ وخواصَّ فائقة خلت عنها أخواتُها. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 249}
قال السعدى فى معنى الآية : (8/220)
هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها ، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة ، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات ، فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن { لا إله إلا هو } أي : لا معبود بحق سواه ، فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى ، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه ، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه ، ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه ، وكل ما سوى الله تعالى باطل ، فعبادة ما سواه باطلة ، لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه ، فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة ، وقوله : { الحي القيوم } هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما ، فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات ، كالسمع والبصر والعلم والقدرة ، ونحو ذلك ، والقيوم : هو الذي قام بنفسه وقام بغيره ، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء ، وسائر أنواع التدبير ، كل ذلك داخل في قيومية الباري ، ولهذا قال بعض المحققين : إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، ومن تمام حياته وقيوميته أن { لا تأخذه سنة ولا نوم } والسنة النعاس { له ما في السماوات وما في الأرض } أي : هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } أي : لا أحد يشفع عنده بدون إذنه ، فالشفاعة كلها لله تعالى ، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه ، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن ، ثم قال {(8/221)
يعلم ما بين أيديهم } أي : ما مضى من جميع الأمور { وما خلفهم } أي : ما يستقبل منها ، فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور ، متقدمها ومتأخرها ، بالظواهر والبواطن ، بالغيب والشهادة ، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى ، ولهذا قال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض } وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه ، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما ، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى ، بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش ، وما لا يعلمه إلا هو ، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار ، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال ، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها ، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع ، والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب ، فلهذا قال : { ولا يؤوده } أي : يثقله { حفظهما وهو العلي } بذاته فوق عرشه ، العلي بقهره لجميع المخلوقات ، العلي بقدره لكمال صفاته { العظيم } الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة ، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة ، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء ، فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده ، وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته ، فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته ، متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا. أ هـ {تفسير السعدى صـ 110}
أسئلة وأجوبة لصاحب الكشاف
قال رحمه الله :
فإن قلت : كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف ؟(8/222)
قلت : ما منها جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه والبيان متحد بالمبين ، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب : بين العصا ولحائها ، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه. والثانية لكونه مالكاً لما يدبره.
والثالثة لكبرياء شأنه.
والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق ، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة ، وغير المرتضى.
والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو لجلاله وعظم قدره.
فإن قلت : لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد منه قوله صلى الله عليه وسلم :
" ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ، يا عليّ علمها ولدك وأهلك وجيرانك ، فما نزلت آية أعظم منها " وعن عليّ رضي الله عنه : سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم على أعواد المنبر وهو يقول :
" من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمّنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله " وتذاكر الصحابة رضوان الله عليهم أفضل ما في القرآن ، فقال لهم عليّ رضي الله عنه.
أين أنتم عن آية الكرسي ، ثم قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عليّ ، سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الفرس سلمان ، وسيد الروم صهيب ، وسيد الحبشة بلال ، وسيد الجبال الطور ، وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي " قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص لاشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار. وبهذا يعلم أنّ أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم أهل العدل والتوحيد ولا يغرّنك عنه كثرة أعدائه :(8/223)
فإنَّ الْعَرَانِينَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً... وَلاَ تَرَى لِلئَامِ النَّاسِ حُسَّادًا. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 228 ـ 231}
قال أبو حيان :
وأهل العدل والتوحيد الذين أشار إليهم هم المعتزلة ، سموا أنفسهم بذلك قال بعض شعرائهم من أبيات :
إن أنصر التوحيد والعدل في . . .
كل مقام باذلاً جهدي
وهذا الزمخشري لغلوه في محبة مذهبه يكاد أن يدخله في كل ما يتكلم به ، وإن لم يكن مكانه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 286}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم . . . }.
قال الإمام ابن العربي في شرح الأسماء الحسنى : يقال : حي وحيى ويحيي وقيل : حاي على وزن فاعل والخبر آكد ، أي جنس الحي ، وقيل : هو الحياة والحي نوع من القبيلة سمى به مجازا لأن به يستعزون على حماية أنفسهم وحياة مواشيهم بالخصب ورعي الحَيَا ، وشربه وهو المطر ، والحياة وصف للجسم ( عرض ) إذا وجدت في جسم أو جوهر كان دراكا فعالا والعرب إذا أرادت الإدراك والحس قالت : هذا حي ، والحي في الشاهد من قوله : حياة.
وأما الغائب فبعضهم قال : لا أقول : إنّ الله حي بحياة ، إذ لم يرد فيه ولا في السمع والبصر ونقول : ( عالم بعلم ) لِوروده ".
وقال الإمام الغزالي : والكثير من علمائنا : الحي : الفعال الدرّاك.
وهو باطل بوجوه : منها أن البارىء في الأزل حي مدرك بنفسه وصفاته ولم يفعل ، وأيضا الإدراك معنى غير الحياة والفعل فكيف يفسر معنى بمعنى مغاير له ، واعلم أنّ وجود الحياة مصحح للإدراك والفعل فيلزم الإدراك إذ لايصح حي غير مدرك ويصح الفعل ولا يلزم.
ووجوب الحياة للبارىء يختص بخمسة أوصاف : أنه لم يسبقه موت ، ولا ( يعتريه ) ، وليس له ( بلل ) ورطوبة ، ولا يحتاج إلى غذاء ، فإنه يطعم وهي للعبد بعكس ذلك كله.
قال الزمخشري : والحي الباقي الّذي لا سبيل للفناء عليه وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر.(8/224)
قال ابن عرفة : وكل شيء يصح اتصافه بالعلم والقدرة لكن الحي بغير واسطة والجماد بواسطة الحياة.
قال ابن عرفة :
قال ابن عطية : قال المعتزلة وقوم : الله حي لا بحياة ، وهو باطل.
وقال آخرون : حي بحياة ، وقال قوم : هو حي كما وصف نفسه ، وسلم ذلك أن ينظر فيه.
وقد تقدم الخلاف في الصفات فنحن نثبتها ونقول : الله عالم بعلم ، قادر بقدرة. حي بحياة.
المعتزلة ينفونها ، وتقدم الخلاف بيننا في الأحوال كالعالمية والقادرية والحيية.
فمنا من يثبتها ، ومنا من ينفيها ، والمثبتون لها قسموها على قسمين : معللة وغير معللة ، والمعللة عندهم مشروطة بالحياة والسوادية والبياضية غير معللة ، والعالمية معللة كالقادرية.
وكان بعضهم يرد على من يقول : إنها معللة بصفات الحياة لأن الحياة حال ليست معللة لئلا يلزم عليه تعليل الشيء بنفسه.
قوله تعالى : { الحي القيوم . . . }.
قال الإمام ابن العربي : على وزن فيعول : اجتمعت ياء وواو ، سبقت إحداهما بالسكون فقلبت وأدغمت.
والقيام أصله القيوام وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفعلان فيقولون في الصّداع صداع.
والقيم عند سيبويه فيعل للتأكيد ، فقلب وأدغم.
وأنكر الفراء أن في الأمثلة فيعل ، وقال : أصلها فعيل ككريم وكان ( أصلهم ) أن يجعلوا الواو وألفا لافتتاح ما قبلها ثم يسقطونها لسكونها وسكون الياء بعدها فلمّا فعلوا ذلك صار فعيل على لفظ فعل فزادوا ياء ليكمل بها بناء الحرف.
قال ابن العربي : واختلفوا في معناه فقيل : الدائم الذي لا يزول ، فالقيوم معناه : الباقي الدائم.
وقيل : القيوم هو القيم على كل شيء بالرعاية والمدبر لجميع أمور العالم بمعنى : الحفيظ والمدبّر.
وقيل : الذي لا تفنيه الدهور ولا يتغير بانقلاب الأمور فهو بمعنى : الثابت القدوس.
قال : والصحيح أنه مبالغة قائم من قام إذا أطاق.
(8/225)
قال : وروى ابن راشد الأزدي أنه ورد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : " ما اسمك ؟ فقال عبد العزى بن ( غاويه " ) فقال له : عليه الصلاة والسلام : بل اسمك عبد الرحمن بن راشد ، قال : من الذي معك ؟ قال : مولاي قال : ما اسمه ؟ قال : قيوم.
قال : ولكنه عبد القيوم ".
ورواه الدار قطني وعبد الغني الحافظ كذلك ورواه ابن ( رشد ) قال : " ما اسم مولاك.
قال : القيوم.
قال : لا بل عبد القيوم " والدارقطني أحفظ وأوثق.
قال : فأما القائم فله في اللغة ثلاثة معان : قام إذا انتصب وعلا ، وقام بالأمر أي استقل به ، وقام إذا لازم.
قال الله تعالى : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } فقيل كلها حقيقة ، وقيل : الأول فقط ، واختلفوا في معنى كون الله قائما بنفسه ، فقيل : لا يحتاج إلى مكان ، وقيل : موصوف بصفاته العلية ، وقيل : مستغن عن كل شيء.
والصحيح أنه لا يصح وصفه إلا مُضافا لما يبينه
فإذا قلت : قائم على كل نفس بما كسبت فصحيح معنى وارد شرعا ، وإن قلت : قائم بنفسه فصحيح لم يرد.
واختلفوا في معنى قائم على كل نفس بما كسبت ، فقيل بما كسبت من رزق تفضلا فهو امتنان ، وقيل : بما كسبت من عمل يحفظه عليها فهو وعيد.
وقيل : يطلع عليها لا يخفى عليه من أمرها شيء ، وقيل : المراد الملائكة الموكلون بحفظ بني آدم لا يستوون مع الأصنام فكيف بخالق الملائكة ومن هو قائم عليها ومدبرها وهذا مجاز.
ابن العربي : والصّحيح أنه قائم بالخلق والحفظ والرزق وغير ذلك فهو غني عنه.
قوله تعالى : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }.
قال ابن عرفة : هذا كالدليل على كونه حيا قيوما و{ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } كالدّليل على أنه لا تأخذه سنة ولا نوم.
فإن قلت : نفي السِّنة يستلزم نفي النوم فهلا قدم النوم على السنة ؟
قال : فالجواب من وجهين :
الأول منهما : ( قصد ) نفى السنة بالمطابقة واللزوم.
(8/226)
الثاني : إنّا نجد من يدافع النوم لا تأخذه سنة لأنه مهما تأخذه السّنة يدافعها ويغلبها حتى يأتيه النوم غلبة فينام فما يلزم من عدم السّنة عدم النوم.
قوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السماوات } دليل على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها ما في السَّمَاوَاتِ وما في الأرض.
قوله تعالى : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ . . . }.
قال ابن عرفة : ورد النّفي بصغية الاستفهام وهو أبلغ لاقتضائه موافقة المخاطب عليه.
قال ابن عطية : الإذن قسمان فهو في الشفاعة في الخروج من النّار بمعنى الأمر لحديث " يامحمد ارفع رأسك تعطه واشفع تشفع " ، وهو ( ( في شفاعة غيره من الأنبياء والعلماء وشفاعة ( الجار ) والصاحب الذين يشفعون ) ) قبل أن ( يؤمروا ) بمعنى العلم والتمكين.
قال ابن عرفة : ( يريد ) بمعنى خلق الدّاعي والقدرة على ذلك.
قال : واقتضت الآية ألاّ شفاعة إلا بإذن والإذن فيها يقتضي قبولها فيعارض قوله تعالى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } فدلّ على أنّ هناك من يشفع ولا تقبل منه ، إلا أن يجاب بأن تلك سالبة ، مثل : الحائط لا يبصر ( لا معدومة ) مثل : زيد غير بصير ، فليس المراد شفاعة الشافعين لا تنفعهم بل هو من باب نفي الشيء بنفي لازمه مثل :
على لا حب لا يهتدى بمنارة . . .
أي ليس له منار يهدى به ، أي لا شافع هناك فتنفع شفاعته.
قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ . . . }.
هنا دليل على عموم تعلق علمه بالجزيئات والكليات فيرد بها على من نفى تعلقه بالجزيئات.
قيل لابن عرفة : قد يقال إنه دليل ظاهر لا نص وندعى تخصيص عمومه ؟
فقال : استدلوا بظواهر ( الآي ) في ( كثير ) من المطالب وتعقبوا على ابن الخطيب في قوله في المحصول : إن الدلائل السمعية لا تفيد الظن فضلا عن اليقين.
(8/227)
قال ابن عرفة : وتقدم لنا سؤال وهو أنه تسلط النفي هنا على الأخص دون الأعم فلو قيل : ولا يعلمون شيئا من علمنا بل علمه إلا ما شاء لكان أبلغ لأن الإحاطة بعلم الشيء أخص من مطلق علمه.
قال : والجواب أنّا إن قلنا : إن العلوم كلها متساوية فلا فرق بين الإحاطة وعدمها.
وإن قلنا : إنها غير متساوية فالسؤال وارد.
وعادتهم يجيبون بأن ( الآية ) خرجت مخرج التمدح.
والعلوم قسمان : ضرورية ونظرية ، فالضرورية لا يقع عليها مدح ولا ذم لأنها جبرية يستوي فيها كل الناس وإنما يقع المدح على العلوم النظرية وهي لا تحصل إلاّ بالإحاطة لأنها ناشئة عن مقدمتين والعلم بالمقدمتين مستلزم الإحاطة بعلم النتيجة ، فالإحاطة بها وعلمها ( متساويان ).
قيل لابن عرفة : الآية دالة أن المعدوم ( يصدق ) عليه شيء لأنّا إن لم نجعله داخلا تحت مسمى شيء لزم إبطال العمل بمفهوم الصّفة لأنّه يكون مفهوم الآية ( أنهم ) يحيطون بالمعدوم من ( تعلق ) علمه وهذا كفر ؟
فأجاب : بأنه مفهوم أحرى لأنهم إذا لم يحيطوا بالموجود فأحرى المعدوم.
قلت : وقال بعضهم : إن هذا السؤال غير وارد لأن المعنى إلا بما شاء أن يحيطوا به فإنهم محيطون به ولا يلزم منه نفي تعلق المشيئة بالمعدوم بل يبقى الأمر مسكوتا عنه فلا يلزم تعلق الحكم بنفيه ولا بإثباته.
قال ابن عطية : " وقد قال الخضر لموسى عليهما السلام : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلاّ ما نقص هذا العصفور من البحر ".
قال ابن عرفة : شبّه ما ليس بمُتناه بما هو متناهٍ لأن البحر متناهٍ ، فالنقص فيه معقول وليس المراد حقيقة النقص ، بل معناه نسبة علمي وعلمك من معلوم الله تعالى الذي لم ندركه نحن كنسبة ما يتعلق بالعصفور من ماء البحر إلى ماء البحر. انتهى.
قوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض . . . }.
(8/228)
قال ابن عرفة : كلام الزمخشري هنا حسن وكلام ابن عطية في بعضه إيهام والألفاظ الموهمة إذا وردت من الشارع تأولت وردت إلى الصواب ، وإن وردت من غيره لم تتأول لأن الشارع يذكر الألفاظ الموهمة للابتلاء بها { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } ( فالمحق ) يصرفها عن ظاهرها إلى الصواب والمبطل يقف مع الظاهر ، وأما إذا وردت من غير ( الشارع ) فلا تتأول.
قلت : وكذا قال الزمخشري : لفظ الكرسي تخييلُ.
والتخييل أن يعبر عن الشيء بلازمه كقوله تعالى : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } قوله تعالى : { وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا . . . }.
إن قلت : هلا قيل : حفظُها ، بضمير جماعة ما لا يعقل أو : حفظُه ، بضمير الكرسي لا شتماله على العرش والسّماوات والأرض ، ( والشيء ) ( في نفسه ) ليس كهو مع غيره ، فلا يلزم من نفي الثقل ( عن ) السماوات والأرض ( بخصوصيتها ) نفي الثقل ( عنها ) مع غيرها ؟
فالجواب : أنّه ( خصهما ) بالذكر لأنهما المشاهدان للإنسان الذي يراهما ويوافق على إمساكهما وعدم إزالتهما ليكون ذلك أقطع في طريق الاستدلال وأقوى في قيام الحجة عليه.
قوله تعالى : { وَهُوَ العلي العظيم }.
قال ابن عطية : أي عظيم القدر والخطر وليس من عظيم الأجرام وحكى ( الطبّري ) عن قوم أن العظيم بمعنى المعظم كقولهم : العتيق بمعنى المعتق ، وأنكره آخرون وقالوا : لو كان بمعنى معظم لوجب أن لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم إذ لا معظم له حينئذ.
قال ابن عرفة : وهذا الإنكار غير صحيح ، بل يفهم كما قال الضرير في أرجوزته لأنه قسم الحمد على قسمين : قديم وحادث ، فالقديم حمده تعالى نفسه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 330 ـ 333}
فصل فى فضل آية الكرسى
قال القرطبى :
(8/229)
قوله تعالى : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } هذه آية الكرسيّ سيدة آي القرآن وأعظم آية ، كما تقدّم بيانه في الفاتحة ، ونزلت ليلاً ودعا النبيّ صلى الله عليه وسلم زيداً فكتبها.
روى عن محمد بن الحنفية أنه قال : لما نزلت آية الكرسي خرّ كل صنم في الدنيا ، وكذلك خرّ كل ملِك في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم ، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك ، فجاءوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت.
وروى الأئمة " عن أُبيّ بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم" ؟ قال قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : "يا أبا المنذر أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم" ؟ قال قلت : "اللَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" فضرب في صدري وقال : "لِيهنِك العلم يا أبا المنذر" " زاد الترمذيّ الحكيم أبو عبد الله : " فوالذي نفسي بيده إن لهذه الآية للسانا وشفتين تقدّس المَلِك عند ساق العرش " قال أبو عبد الله : فهذه آية أنزلها الله جل ذكره ، وجعل ثوابها لقارئها عاجلاً وآجلاً ، فأما في العاجل فهي حارسة لمن قرأها من الآفات ، ورُوي لنا عن نَوْف البِكاليّ أنه قال : آية الكرسي تدعى في التوراة وَليّة الله.
يريد يدعى قارئها في ملكوت السموات والأرض عزيزاً ، قال : فكان عبد الرحمن بن عوف إذا دخل بيته قرأ آية الكرسي في زوايا بيته الأربع ، معناه كأنه يلتمس بذلك أن تكون له حارساً من جوانبه الأربع ، وأن تنفي عنه الشيطان من زوايا بيته.
ورُوي عن عمر أنه صارع جنِّياً فصرعه عمر رضي الله عنه ، فقال له الجني : خلِّ عني حتى أُعلمك ما تمتنعون به منا ، فخلى عنه وسأله فقال : إنكم تمتنعون منا بآية الكرسي.
(8/230)
قلت : هذا صحيح ، وفي الخبر : من قرأ آية الكرسي دُبُر كل صلاة كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام ، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد.
وعن عليّ رضي الله عنه قال : سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول وهو على أعواد المنبر : " من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله " وفي البخاريّ " عن أبي هريرة قال : وكلّني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، وذكر قصة وفيها : فقلت يا رسول الله ، زعم أنه يعلِّمني كلمات ينفعني الله بها فخلّيْت سبيله ، قال : "ما هي" ؟ قلت قال لي : إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أوّلها حتى تختم { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم }.
وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، وكانوا أحرص شيء على الخير.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : "أمَا إنه قد صَدَقك وهو كَذُوب تعلم مَن تخاطب منذُ ثلاثِ ليالٍ يا أبا هُرَيرة" ؟ قال : لا ؛ قال : "ذاك شيطان" "
وفي مسند الدّارِمِيّ أبي محمد قال الشعبيّ قال عبد الله بن مسعود : لقِي رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجنّ فصارعه فصرعه الإنسيّ ، فقال له الإنسي : إني لأراك ضئيلاً شَخِيتاً كأن ذُرَيْعتيْك ذُرَيْعتا كلب فكذلك أنتم معشر الجن ، أم أنت من بينهم كذلك ؟ قال : لا والله إني منهم لضَليع ولكن عاوِدْني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك ، قال نعم ، فصرعه ، قال : تقرأ آية الكرسيّ : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } ؟ قال : نعم ؛ قال : فإنك لا تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خَبَج كَخَبج الحمار ثم لا يدخله حتى يصبح.
أخرجه أبو نعيم عن أبي عاصم الثقفيّ عن الشعبيّ.
(8/231)
وذكره أبو عبيدة في غريب حديث عمر حدّثناه أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفيّ عن الشعبيّ عن عبد الله قال : فقيل لعبد الله : أهو عمر ؟ فقال : ما عسى أن يكون إلا عمر! قال أبو محمد الدِراميّ : الضّئيل : الدقيق ، والشّخِيت : المهزول ، والضّلِيع : جيد الأضلاع ، والخَبَج : الريح.
وقال أبو عبيدة : الخَبج : الضراط ، وهو الحبَج أيضاً بالحاء.
وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح " قال : حديث غريب.
وقال أبو عبد الله الترمذيّ الحكيم : وروى أن المؤمنين ندبوا إلى المحافظة على قراءتها دبر كل صلاة.
عن أنس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أوحى الله إلى موسى عليه السلام مَن داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة أعطيته فوق ما أعطي الشاكرين وأجر النبيّين وأعمال الصدّيقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم يمنعه أن أدخله الجنة إلا أن يأتيه ملك الموت " قال موسى عليه السلام : يا رب من سمع بهذا لا يداوم عليه ؟ قال : "إني لا أُعطيه من عبادي إلا لنبيّ أو صدّيق أو رجل أحبه أو رجل أُريد قتله في سبيلي".
وعن أُبيّ بن كعب قال قال الله تعالى : "يا موسى من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة أعطيته ثواب الأنبياء" (1)
قال أبو عبد الله : معناه عندي أعطيته ثواب عمل الأنبياء ، فأما ثواب النبوّة فليس لأحد إلا للأنبياء.
وهذه الآية تضمنت التوحيد والصفات العُلا ، وهي خمسون كلمة ، وفي كل كلمة خمسون بركة ، وهي تعدل ثلث القرآن ، ورَدَ بذلك الحديث ، ذكره ابن عطِية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 268 ـ 270}
________________
(1) لا يخلو بعض هذه الآثار من مقال. والله أعلم.(8/232)
فصل في كون آية الكرسي سيدة آي القرآن وبيان الاسم الأعظم
قال حجة الإسلام ـ عليه الرحمه ـ ما نصه :
هل لك أن تتفكر في آية الكرسي أنها لم تسمى سيدة الآيات فإن كنت تعجز عن استنباطه بتفكرك فارجع إلى الأقسام التي ذكرناها والمراتب التي رتبناها وقد ذكرنا لك أن معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته هي المقصد الأقصى من علوم القرآن وأن سائر الأقسام مرادة له وهو مراد لنفسه لا لغيره فهو المتبوع وما عداه التابع وهي سيدة الاسم المقدم الذي يتوجه إليه وجوه الأتباع وقلوبهم فيحذون حذوه وينحون نحوه ومقصده وآية الكرسي تشتمل على ذكر الذات والصفات والأفعال فقط ليس فيها غيرها
فقوله {الله} إشارة إلى الذات
وقوله {لا إله إلا هو} إشارة إلى توحيد الذات وقوله {الحي القيوم} إشارة إلى صفة الذات وجلاله فإن معنى القيوم هو الذي يقوم بنفسه ويقوم به غيره فلا يتعلق قوامه بشيء ويتعلق به قوام كل شيء وذلك غاية الجلال والعظمة
وقوله {لا تأخذه سنة ولا نوم} تنزيه وتقديس له عما يستحيل عليه من أوصاف الحوادث والتقديس عما يستحيل أحد أقسام المعرفة بل هو أوضح أقسامها
وقوله {له ما في السموات وما في الأرض} إشارة إلى كلها وأن جميعها منه مصدرها وإليه مرجعها
وقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} إشارة إلى انفراده بالملك والحكم والأمر وأن من يملك الشفاعة فإنما يملك بتشريفه إياه والإذن فيه ، وهذا نفي للشركة عنه في الملك والأمر
وقوله {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} إشارة إلى صفة العلم وتفضيل بعض المعلومات والانفراد بالعلم حتى لا علم لغيره من ذاته وإن كان لغيره علم فهو من عطائه وهبته وعلى قدر إرادته ومشيئته
وقوله {وسع كرسيه السموات والأرض} إشارة إلى عظمة ملكه وكمال قدرته وفيه سر لا يحتمل الحال كشفه فإن معرفة الكرسي ومعرفة صفاته واتساع السموات والأرض معرفة شريفة غامضة ويرتبط بها علوم كثيرة
(8/233)
وقوله {ولا يؤوده حفظهما} إشارة إلى صفات القدرة وكمالها وتنزيهها عن الضعف والنقصان
وقوله {وهو العلي العظيم} إشارة إلى أصلين عظيمين في الصفات وشرح هذين الوصفين يطول وقد شرحنا منهما ما يحتمل الشرح في كتاب المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى فاطلبه منه
والآن إذا تأملت جملة هذه المعاني ثم تلوت جميع آيات القرآن لم تجد جملة هذه المعاني من التوحيد والتقديس وشرح الصفات العلى مجموعة في آية واحدة منها فلذلك قال النبي سيدة آي القرآن فإن {شهد الله}
ليس فيه إلا التوحيد
{وقل هو الله أحد}
ليس فيه إلا التوحيد والتقديس
{وقل اللهم مالك الملك}
ليس فيه إلا الأفعال وكمال القدرة
والفاتحة فيها رموز إلى هذه الصفات من غير شرح وهي مشروحة في آية الكرسي والذي يقرب منها في جميع المعاني آخر الحشر وأول الحديد إذ اشتملا على أسماء وصفات كثيرة ولكنها آيات لا آية
واحدة وهذه آية الكرسي آية واحدة إذا قابلتها بإحدى تلك الآيات وجدتها أجمع المقاصد فلذلك تستحق السيادة على الآي وقال هي سيدة الآيات كيف لا وفيها {الحي القيوم} وهو الاسم الأعظم وتحته سر ويشهد له ورود الخبر بأن الاسم الأعظم في آية الكرسي وأول آل عمران وقوله {وعنت الوجوه للحي القيوم}. أ هـ {جواهر القرآن صـ 73 ـ 76}(8/234)
لمسات بيانية للدكتور فاضل السامرائى فى آية الكرسى
آية الكرسي هي سيّدة آي القرآن الكريم.
بدأت الآية بالتوحيد ونفي الشرك وهو المطلب الأول للعقيدة عن طريق الإخبار عن الله.
بدأ الإخبار عن الذات الإلهية ونلاحظ أن كل جملة في هذه الآية تصح أن تكون خبراً للمبتدأ (الله) لأن كل جملة فيها ضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى : {الله لا تأخذه سنة ولا نوم} ، {الله له ما في السموات وما في الأرض} ، {الله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} ، {الله يعلم مابين أيديهم وما خلفهم} ، {الله لا يحيطون بعلمه إلا بما شاء} ، {الله وسع كرسيّه السموات والأرض} ، {الله لا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم}.
اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ :
الحيّ معرّفة والقيّوم معرّفة. والحيّ هو الكامل الاتصاف بالحياة ، ولم لم يقل حيّ ؟
لأنها تفيد أنه من جملة الأحياء. فالتعريف بـ(ال) هي دلالة على الكمال والقصر لأن ما سواه يصيبه الموت.
والتعريف قد يأتي بالكمال والقصر ، فالله له الكمال في الحياة وقصراً كل من عداه يجوز عليه الموت وكل ما عداه يجوز عليه الموت وهو الذي يفيض على الخلق بالحياة.
فالله هو الحيّ لا حيّ سواه على الحقيقة لأن من سواه يجوز عليه الموت.
القيّوم : من صيغ المبالغة (على وزن فيعال وفيعول من صيغ المبالغة وهي ليست من الأوزان المشهورة) هي صيغة المبالغة من القيام ومن معانيها القائم في تدبير أمر خلقه في إنشائهم وتدبيرهم ، ومن معانيها القائم على كل شيء ، ومن معانيها الذي لا ينعس ولا ينام لأنه إذا نعس أو نام لا يكون قيّوماً ، ومن معانيها القائم بذاته وهو القيّوم جاء بصيغة المتعريف لأنه لا قيّوم سواه على الأرض حصراً.
{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}
سنة هي النعاس الذي يتقدم النوم ولهذا جاءت في ترتيب الآية قبل النوم وهذا ما يعرف بتقديم السبق ، فهو سبحانه لا يأخذه نعاس أو ما يتقدم النوم من الفتور أو النوم ـ المتعارف عليه ـ يأتي النعاس ثم ينام الإنسان.(8/235)
ولم يقل سبحانه لا (تأخذه سنة ونوم) أو (سنة أو نوم) ففي قوله سنة ولا نوم ينفيهما سواءً اجتمعا أو افترقا لكن لو قال سبحانه : سنة ونوم فإنه ينفي الجمع ولا ينفي الإفراد فقد تأخذه سنة دون النوم أو يأخذه النوم دون السنة.
{لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}
دلالة (ما) : ما تفيد ذوات غير العاقل وصفات العقلاء ، إذن لمّا قال (له ما) جمع العقلاء وغيرهم ولو قال (من) لخصّ العقلاء. (ما) أشمل وعلى سبيل الإحاطة. قال (ما في السموات وما في الأرض) أولاً بقصد الإحاطة والشمول ، وثانياً قدّم الجار والمجرور على المبتدأ (له ما في السموات) إفادة القصر أن ذلك له حصراً لا شريك له في الملك (ما في السموات والأرض ملكه حصراُ قصراً فنفى الشرك). وجاء ترتيب (له ما في السموات وما في الأرض) بعد (الحيّ القيّوم) له دلالة خاصة : يدلّ على أنه قيوم على ملكه الذي لا يشاركه فيه أحد غيره
وهناك فرق بين من يقوم على ملكه ومن يقوم على ملك غيره فهذا الأخير قد يغفل عن ملك غيره
أما الذي يقوم على ملكه لا يقغل ولا ينام ولا تأخذه سنة ولا نوم سبحانه. فله كمال القيومية.
وفي قوله (له ما في السموات وما في الأرض) تفيد التخصيص فهو لا يترك شيئاً في السموات والأرض إلا هو قائم عليه سبحانه.
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}
دلالة واضحة على تبيان ملكوت الله وكبريائه وأن أحداً لا يملك أن يتكلم إلا بإذنه ولا يتقدم إلا بإذنه مصداقاً لقوله تعالى : (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) هذا الجزء من الآية والجزء الذي قبلها (له ما في السموات وما في الأرض) يدل على ملكه وحكمه في الدنيا والآخرة لأنه لمّا قال (له ما في السموات وما في الأرض) يشمل ما في الدنيا وفي قوله (لمن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) هذا في الآخرة فدلّ هذا على ملكوته في الدنيا والآخرة وأخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري لأنه أقوى من النفي.
فدلّ هذا على أنه حيّ قيّوم كيف ؟
لأن الذي يَستشفع عنده حيّ والذي لا يستطيع أحد أن يتقدم إلا بإذنه يجعله قائم بأمر خلقه وكلها تؤكد معنى أنه الحيّ القيّوم.
{من ذا}
فيها احتمالان كما يذكر أهل النحو : فقد تكون كلمة واحدة بمعنى (من) استفهامية لكن (من ذا) أقوى من (من) لزيادة مبناها (يقال في النحو :
زيادة المبنى زيادة في المعنى) فقد نقول من حضر ، ومن ذا حضر ؟ . أ هـ {من لقاء لقناة الشارقة الفضائية مع الدكتور / فاضل السامرائى }(8/236)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي } : مبتدأٌ وخبرٌ وهو مرفوعٌ محمولٌ على المعنى ، أي : ما إله إلاَّ هو ، ويجوز في غير القرآن لا إله إلاَّ إيَّاه ، نصب على الاستثناء.
وقيل : { الله } مبتدأٌ ، و{ لاَ إله } مبتدأ ثان ، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود.
و { الحي } فيه سبعة أوجه :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً للجلالة.
الثاني : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو الحيُّ.
الثالث : بدل من موضع : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فيكون في المعنى خبراً للجلالة ، وهذا في المعنى كالأول ، إلا أنَّه هنا لم يخبر عن الجلالة إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلاف الأول.
الرابع : أن يكون بدلاً من " هُوَ " وحده ، وهذا يبقى من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ، لأنَّ جملة النَّفي خبرٌ عن الجلالة ، وإذا جعلته بدلاً حلَّ محلَّ الأول ، فيصير التقدير : الله لا إله إلا الله.
الخامس : أن يكون مبتدأٌ وخبره { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ }.
السادس : أنه بدلٌ من " اللهِ ".
السابع : أنه صفة لله ، وهو أجودها ، لأنه قرئ بنصب " الحيَّ القَيُّومَ " على القطع ، والقطع إنَّما هو في باب النَّعت ، ولا يقال في هذا الوجه الفصل بين الصِّفة والموصوف بالخبر ، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [ تقول : قائمٌ العاقلُ ].
و { الحي } فيه قولان :
أحدهما : أن أصله حييٌ بياءين من حيي يحيا فهو حيٌّ ، وإليه ذهب أبو البقاء.
(8/237)
والثاني : أنَّ أصله حيوٌ فلامه واو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرِّفة ، وهذا لا حاجة إليه ، وكأنَّ الذي أحوج هذا القائل إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كون العين ، واللام من واد واحدٍ هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه ، ولذلك كتبوا " الحَيَاةَ " بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصل ، ويؤيده " الحَيَوَانُ " لظهور الواو فيه. ولناصر القول الأول أن يقول : قلبت الياء الثانية واواً تخفيفاً؛ لأنَّه لمَّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثقل المثلان.
وفي وزنه أيضاً قولان :
أحدهما : أنه فعل.
والثاني : أنَّه فيعل فخُفِّف ، كما قالوا ميْت ، وهيْن ، والأصل : هيّن وميّت.
قال السُّدِّيُّ المراد بـ " الحَيّ " الباقي؛ قال لبيدٌ : [ الطويل ]
فَإِمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً... فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلاَبٍ وَجَعْفَرِ
وقال قتادة : والحيُّ الذي لا يموتُ والحيُّ اسمٌ من أسمائه الحسنى ، ويقال إنه اسم الله الأعظم.
والقيُّوم : فيعولٌ من : قام بالأمر يقوم به ، إذا دبَّره؛ قال أميَّة : [ الرجز ]
لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ والنُّجُومُ... وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ
قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ... وَالحَشْرُ وَالجَنَّةُ والنَّعِيمُ
إلاَّ لأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ... وأصله " قَيْوُومٌ " ، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصار قيُّوماً.
(8/238)
وقرأ ابن مسعود والأعمش ويروى عن عمر : " الحَيُّ القَيَّام " ، وقرأ علقمة : " القَيِّم " وهذا كما يقولون : ديُّور ، وديار ، وديِّر. ولا يجوز أن يكون وزنه فعُّولاً كـ " سَفُّود " إذ لو كان كذلك؛ لكان لفظه قوُّوماً؛ لأنَّ العين المضاعفة أبداً من جنس الأصليَّة كسُبُّوح ، وقُدُّوس ، وضرَّاب ، وقتَّال ، فالزَّائد من جنس العين ، فلمَّا جاء بالياء دون الواو؛ علمنا أنَّ أصله فيعول ، لا فعُّول ، وعدَّ بعضهم فيعولاً من صيغ المبالغة كضروبٍ ، وضرَّاب.
قال بعضهم : هذه اللَّفظة عبريَّة؛ لأنَّهم يقولون " حياً قياماً " ، وليس الأمر كذلك؛ لأنا قد بيَّنا أن له وجهاً صحيحاً في اللُّغة.
قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } في هذه الجملة خمسة أوجه :
أحدها : أنها في محلِّ رفع خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحد أوجه رفع الحيّ.
الثاني : أنَّها خبرٌ عن الله تعالى عند من يجيز تعدُّد الخبر.
الثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضَّمير المستكنِّ في " القَيُّومِ " كأنَّه قيل : يقوم بأمر الخلق غير غافل ، قاله أبو البقاء رحمه الله تعالى.
الرابع : أنها استئناف إخبارٍ ، أخبر - تبارك وتعالى - عن ذاته القديمة بذلك.
الخامس : أنها تأكيد للقيُّوم؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيُّوماً ، قاله الزَّمخشريُّ ، فعلى قوله إنَّها تأكيدٌ يجوز أن يكون محلُّها النصب على الحال المؤكَّدة ، ويجوز أن تكون استئنافاً ، وفيها معنى التأكيد ، فتصير الأوجه أربعةً.
والسِّنة : النُّعاس ، وهو ما يتقدَّم النَّوم من الفتور؛ قال عديّ بن الرقاع : [ الكامل ]
وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ... في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ(8/239)
وهي مصدر وسن يَسِنُ؛ مثل : وَعَد ، يَعِد ، وقد تقدَّم علة الحذف عند قوله { سَعَةً مِّنَ المال } [ البقرة : 247 ].
قوله : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } هي كالتي قبلها إلاَّ في كونها تأكيداً ، و" ما " للشُّمول ، واللاّم في " لَهُ " للملك ، وكرَّر " مَا " تأكيداً ، وذكرها هنا المظروف دون الظرف؛ لأنَّ المقصود نفي الإلهيَّة عن غير الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلاّ هو ، لأنَّ ما عبد من دونه في السَّماء كالشَّمس ، والقمر ، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم ، فكلُّهم ملكه تعالى تحت قهره ، واستغنى عن ذكر أنَّ السَّموات ، والأرض ملكٌ له بذكره قبل ذلك أنه خالق السَّموات والأرض.
قوله : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ } كقوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله } [ البقرة : 245 ].
قال القرطبيُّ : " مَنْ " رفع بالابتداء ، و" ذَا " خبره ، و" الَّذِي " نعتٌ لـ " ذَا " ، أو بدل ولا يجوز أن تكون " ذا " زائدة كما زيدت مع " مَا " ؛ لأنَّ " ما " مبهمة ، فزيدت " ذا " معها لشبهها بها.
و " مَنْ " ، وإن كان لفظها استفهاماً فمعناه النَّفي ، ولذلك دخلت " إلاَّ " في قوله : { إِلاَّ بِإِذْنِهِ }.
و " عِنْدَهُ " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلِّق بيشفع.
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف لكونه [ حالاً ] من الضَّمير في " يَشْفَعُ " ، أي : يشفع مستقراً عنده ، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريبٌ منه فشفاعة غيره أبعد وضعَّف بعضهم الحاليَّة بأنَّ المعنى : يشفع إليه.(8/240)
و { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } متعلِّققٌ بمحذوف ، لأنَّه حال من فاعل ، " يَشْفَع " فهو استثناءٌ مفرَّغ ، والباء للمصاحبة ، والمعنى : لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له منه ، ويجوز أن يكون مفعولاً به ، أي : بإذنه يشفعون كما تقول : " ضَرَب بِسَيْفِهِ " ، أي : هو آلةٌ للضَّرب ، والباء للتعدية.
و " يَعْلَمُ " هذه الجملة يجوز أن تكون خبراً لأحد المبتدأين المتقدمين ، أو استئنافاً ، أو حالاً. والضَّمير فِي " أيْدِيهم " و" خَلْفَهُم " يعود على " مَا " في قوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } إلا أنَّه غلَّب من يعقل على غيره. وقيل : يعود على العقلاء ممَّن تضمَّنه لفظ " ما " دون غيرهم. وقيل : يعود على ما دلَّ عليه " مَنْ ذَا " من الملائكة والأنبياء. وقيل : من الملائكة خاصّةً.
(8/241)
قوله : { بِشَيْءٍ } متعلِّقٌ بـ " يحيطون ". والعلم عنا بمعنى المعلوم؛ لأنَّ علمه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاته المقدَّسة لا يتبعَّض ، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا " وحديث موسى ، والخَضِر - عليهما الصَّلاة والسَّلام - " مَا نَقَص علمي وعلمُك من علمه إلاَّ كَمَا نقص العُصْفُورُ من هذا البَحْر " ولكون العلم بمعنى المعلوم ، صحَّ دخول التَّبعيض ، والاستثناء عليه. و" مِنْ عِلْمِهِ " يجوز أن يتعلَّق بـ " يحيطون " ، وأن يتعلَّق بمحذوف لأنه صفة لشيء ، فيكون في محلِّ جر. و" بمَا شَاءَ " متعلِّقٌ بـ " يحيطون " أيضاً ، ولا يضرُّ تعلُّق هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأول ، بإعادة العامل بطرق الاستثناء ، كقولك : " مَا مَرَرْتُ بأحدٍ إلاَّ بِزَيْدٍ " ، ومفعول " شَاءَ " محذوفٌ تقديره : إلا بما شَاءَ أن يحيطوا به ، وإنما قدَّرته كذلك لدلالة قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ }. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 313 ـ 321}. بتصرف.(8/242)
قوله تعالى : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما اتضحت الدلائل لكل عالم وجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه فيه فقال : {لا إكراه في الدين} وقال الحرالي : لما نقل سبحانه وتعالى رتبة الخطاب من حد خطاب الأمر والنهي والحدود وما ينبني عليه المقام به دين القيمة الذي أخفى لهم أمر العظمة والجبروت الجابر لأهل الملكوت والملك فيما هم فيه مصرفون إلى علو رتبة دين الله المرضي الذي لا لبس فيه ولا حجاب عليه ولا عوج له ، وهو اطلاعه سبحانه وتعالى عبده على قيوميته الظاهرة بكل باد وفي كل باد وعلى كل باد وأظهر من كل بادٍ وعظمته الخفية التي لا يشير إليها اسم ولا يجوزها رسم وهي مداد كل مداد بين سبحانه وتعالى وأعلن بوضع الإكراه الخفي موقعه في دين القيمة من حيث ما فيه من حمل الأنفس على كرهها فيما كتب عليها مما هو علم عقابها وآية عذابها ، فذهب بالاطلاع على أمر الله في قيوميته وعظمته كره النفس بشهودها جميع ما تجري فيه لها ما عليها.
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات بما استشعرته قلوبهم من ماء التوحيد الجاري تحت مختلفات أثمار أعمالهم فعاد حلوه ومره بذلك التوحيد حلواً ، كما يقال في الكبريت الأحمر الذي يقلب أعيان الأشياء الدنية إلى حال أرفعها - انتهى.
ثم علل سبحانه وتعالى انتفاء الإكراه عنه بقوله : {قد تبين الرشد} قال الحرالي : وهو حسن التصرف في الأمر والإقامة عليه بحسب ما يثبت ويدوم {من الغي} وهو سوء التصرف في الشيء وإجراؤه على ما تسوء عاقبته - انتهى.(8/243)
أي فصار كل ذي لب يعرف أن الإسلام خير كله وغيره شر كله ، لما تبين من الدلائل وصار بحيث يبادر كل من أراد نفع نفسه إليه ويخضع أجبر الجبابرة لديه فكأنه لقوة ظهوره وغلبة نوره قد انتفى عنه الإكراه بحذافيره ، لأن الإكراه الحمل على ما لم يظهر فيه وجه المصلحة فلم يبق منه مانع إلاّ حظ النفس الخبيث في شهواتها البهيمية والشيطانية {فمن} أي فكان ذلك سبباً لأنه من {يكفر بالطاغوت} وهو نفسه وما دعت إليه ومالت بطبعها الرديء إليه.
وقال الحرالي : وهو ما أفحش في الإخراج عن الحد الموقف عن الهلكة صيغة مبالغة وزيادة انتهاء مما منه الطغيان - انتهى.
{ويؤمن بالله} أي الملك الأعلى ميلاً مع العقل الذي هو خير كله لما رأى بنوره من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة وداوم على ذلك بما أفادته صيغة المضارع من يكفر ويؤمن {فقد استمسك} على بصيرة منه {بالعروة الوثقى} أي التي لا يقع شك في أنها أوثق الأسباب في نجاته بما ألقى بيده واستسلم لربه {ومن يسلم وجهه إلى الله} [ الحج : 31 ] ، والعروة ما تشد به العياب ونحوها بتداخلها بعضها في بعض دخولاً لا ينفصم بعضه من بعض إلا بفصم طرفه فإذا انفصمت منه عروة انفصم جميعه ، والوثقى صيغة فعلى للمبالغة من الثقة بشدة ما شأنه أن يخاف وهنه ، ثم بين وثاقتها بقوله : {لا انفصام لها} أي لا مطاوعة في حل ولا صدع ولا ذهاب.
قال ابن القطاع : فصمت الشيء صدعته ، والعقدة حللتها ، والشيء عنه ذهب.
(8/244)
وقال الحرالي : من الفصم وهو خروج العرى بعضها من بعض ، أي فهذه العروة لا انحلال لها أصلاً ، وهو تمثيل للمعلوم بالنظر والاحتجاج بالمشاهد المحسوس ليتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده فيه ويجل اغتباطه به ، فعلم من هذا أنه لم يبق عائق عن الدخول في هذا الدين إلا القضاء والقدر ، فمن سبقت له السعادة قيض الله سبحانه وتعالى له من الأسباب ما يخرجه به من الظلمات إلى النور ، ومن غلبت عليه الشقاوة سلط عليه الشياطين فأخرجته من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والحيرة.
ولما كان كل من الإيمان والكفر المتقدمين قولاً وفعلاً واعتقاداً قال مرغباً فيهما ومرهباً من تركهما : {والله} الذي له صفات الكمال {سميع} أي لما يقال مما يدل على الإيمان {عليم} أي بما يفعل أو يضمر من الكفر والطغيان ومجاز عليه ، ولعل في الآية التفاتاً إلى ما ذكر أول السورة في الكفار من أنه سواء عليهم الإنذار وتركه وإلى المنافقين وتقبيح ما هم عليه مما هو في غاية المخالفة لما صارت أدلته أوضح من الشمس وهي مشعرة بالإذن في الإعراض عن المنافقين. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 500 ـ 501}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
استئناف بياني ناشىء عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } [ البقرة : 244 ] إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبيّن في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام وسيأتي الكلام على أنّها محكمة أو منسوخة.
(8/245)
وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أنّ ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأممُ ، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضحِ العقيدة ، المستقيم الشريعةِ ، باختيارهم دون جبر ولا إكراه ، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال : أيُتْرَكون عليه أم يُكْرَهُون على الإسلام ، فكانت الجملة استئنافاً بيانياً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 25}
قال الفخر :
اللام في {الدين} فيه قولان أحدهما : أنه لام العهد والثاني : أنه بدل من الإضافة ، كقوله {فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى} [ النازعات : 41 ] أي مأواه ، والمراد في دين الله.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 13}
فصل
قال ابن عاشور :
ونفي الإكراه خبر في معنى النهي ، والمراد نفي أسباب الإكراه في حُكم الإسلام ، أي لا تكرهوا أحداً على اتباع الإسلام قسراً ، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصاً.
وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدِّين بسائر أنواعه ، لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال ، والتمكين من النظر ، وبالاختيار.
وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين على الإسلام ، وفِي الحديث : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها ".
(8/246)
ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله ، فالظاهر أنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب ، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لا سيما وقد قيل بأنّ آخر آية نزلت هي في سورة النساء ( 176 ) { يبين الله لكم أن تضلوا } الآية (1) ، فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبّر عنه بالذمة ، ووضحُه عمل النبي وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجاً حين جاءت وفود العرب بعد الفتح ،
فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملَّة إبراهيم ، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين ، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته ، وتبيّنَ هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون أتِّباعه من المكابرة ، وحقّق الله سلامه بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع إنّ الشيطان قد يئس من أن يُعبد في بلدكم هذا لَمَّا تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه ، ولذلك قال ( سورة التوبة 29 )
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدّم من آيات القتال مثل قوله قبلها { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة :
__________________
(1) الراجح عند العلماء المحققين أن آخر آية نزلت هى قوله تعالى فى سورة البقرة {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله}
ولا يخلو بعض كلامه ـ رحمه الله ـ من نظر. والله أعلم.(8/247)
أحدها : آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } [ التوبة : 36 ] ، وقوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } [ البقرة : 194 ] ، وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين.
النوع الثاني : آيات أمرت بقتال المشركين والكفّار ولم تغيّ بغاية ، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيّداً بغاية آيةِ { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه { لا إكراه في الدين }.
النوع الثالث : مَا غُيِّيَ بغاية كقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } [ البقرة : 193 ] ، فيتعين أن يكون منسوخاً بهاته الآية وآيةِ { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] كما نُسخ حديثُ " أمرتُ أن أقاتل الناس " هذا ما يظهر لنا في معنى الآية ، والله أعلم.
ولأهل العلم قبلنا فيها قولان : الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى : هي منسوخة بقوله { يأيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] ، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلاّ به.
ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص.
والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلى الله عليه وسلم العربَ على الإسلام ، يعارضه أنّه عليه السلام أخذ الجزية من جميع الكفّار ، فوجه الجمع هو التنصيص.
القول الثاني أنها محكّمة ولكنّها خاصة ، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنّهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية وإنّما يجبر على الإسلام أهل الأوثان ، وإلى هذا مال الشافعي فقال : إنّ الجزية لا تؤخذ إلاّ من أهل الكتاب والمجوسِ.
قال ابن العربي في الأحكام "وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنسٍ يَحمل الآية عليه" ، يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه.
(8/248)
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد : نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مِقلاتاً أي لا يعيش لها ولد تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا : لا ندع أبناءنا بل نكرههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : { لا إكراه في الدين }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 26 ـ 27}
فصل
قال الفخر :
في تأويل الآية وجوه أحدها : وهو قول أبي مسلم والقفال وهو الأليق بأصول المعتزلة : معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنما بناه على التمكن والاختيار ، ثم احتج القفال على أن هذا هو المراد بأنه تعالى لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر ، قال بعد ذلك : إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء ، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان ، ونظير هذا قوله تعالى : {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [ الكهف : 29 ] وقال في سورة أخرى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [ الشعراء : 3 ، 4 ] وقال في سورة الشعراء {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءَايَةً فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} ومما يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} يعني ظهرت الدلائل ، ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه ، وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف فهذا تقرير هذا التأويل.
(8/249)
القول الثاني : في التأويل هو أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر : إن آمنت وإلا قتلتك فقال تعالى : {لا إِكْرَاهَ فِى الدين} أما في حق أهل الكتاب وفي حق المجوس ، فلأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم ، وأما سائر الكفار فإذا تهودوا أو تنصروا فقد اختلف الفقهاء فيهم ، فقال بعضهم : إنه يقر عليه ؛ وعلى هذا التقدير يسقط عنه القتل إذا قبل الجزية ، وعلى مذهب هؤلاء كان قوله {لا إِكْرَاهَ فِى الدين} عاماً في كل الكفار ، أما من يقول من الفقهاء بأن سائر الكفار إذا تهودوا أو تنصروا فإنهم لا يقرون عليه ، فعلى قوله يصح الإكراه في حقهم ، وكان قوله {لا إِكْرَاهَ} مخصوصاً بأهل الكتاب.
والقول الثالث : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً ، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره ، ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه ، ونظيره قوله تعالى : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} [ النساء : 94 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 13 ـ 14}
فصل
قال القرطبى :
اختلف العلماء في ( معنى ) هذه الآية على ستة أقوال :
( الأوّل ) قيل إنها منسوخة ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام ؛ قاله سليمان بن موسى ، قال : نسختها { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ].
وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.
( الثاني ) ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصةً ، وأنهم لا يُكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية ، والذين يُكرهون أهلُ الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ].
هذا قول الشعبيّ وقتادة والحسن والضحاك.
(8/250)
والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية : أسلمِي أيتها العجوز تسلمي ، إن الله بعث محمداً بالحق.
قالت : أنا عجوز كبيرة والموت إليّ قريب! فقال عمر : اللهم اشهد ، وتلا { لاَ إكْرَاهَ في الدِّينِ }.
( الثالث ) ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال : نزلت هذه في الأنصار ، كانت تكون المرأة مِقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده ؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي }.
قال أبو داود : والمِقلاتُ التي لا يعيش لها ولدٌ.
في رواية : إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه ، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنُكرِههم عليه فنزلت : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام.
وهذا قول سعيد بن جبير والشعبيّ ومجاهد إلا أنه قال : كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع.
قال النحاس : قول ابن عباس في هذه الآية أُولى الأقوال لصحة إسناده ، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي.
(8/251)
( الرابع ) قال السدي : نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان ، فقدم تجارٌ من الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصّرا ومضيا معهم إلى الشام ، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكياً أمرهما ، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردّهما فنزلت : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب ، وقال : "أبعدهما الله هما أوّل من كفر"! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبيّ صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] ، الآية ثم إنه نسخ { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة "براءة".
والصحيح في سبب قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السَّقْي ، على ما يأتي في "النساء" بيانه إن شاء الله تعالى.
وقيل : معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مُجْبَراً مُكْرهاً ؛ وهو القول الخامس.
وقول سادس ، وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كباراً ، وإن كانوا مجوساً صغاراً أو كباراً أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام ؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين ؛ ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم ، ويدينون بأكل الميتة والنجاسات وغيرهما ، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذّر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار.
ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك.
وأما أشهب فإنه قال : هم على دين من سباهم ، فإذا امتنعوا أُجبروا على الإسلام ، والصغار لا دين لهم فلذلك أجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل.
فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عرباً أم عجماً قريشاً أو غيرهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 280 ـ 281}(8/252)
بحث
قال فى الميزان :
وفي قوله تعالى : {لا إكراه في الدين} ، نفى الدين الإجبارى ، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات ، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار ، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية ، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك ، ومن المحال أن ينتج الجهل علما ، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علميا ، فقوله : لا إكراه في الدين ، إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكما دينيا بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد ، وإن كان حكما إنشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله : "قد تبين الرشد من الغي" ، كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرها ، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية ، وهي التي مر بيانها أن الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية.
وقد بين تعالى هذا الحكم بقوله : "قد تبين الرشد من الغي" ، وهو في مقام التعليل فإن الإكراه والإجبار إنما يركن إليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الأمور المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم ، أو لأسباب وجهات أخرى ، فيتسبب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه ، وأما الأمور المهمة التي تبين وجه الخير والشر فيها ، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه ، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب ، والدين لما انكشفت حقائقه واتضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في اتباعه ، والغي في تركه والرغبة عنه ، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحدا على الدين.
(8/253)
وهذه إحدى الآيات الدالة على أن الإسلام لم يبتن على السيف والدم ، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أن الإسلام دين السيف واستدلوا عليه : بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين.
وقد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أن القتال الذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدم وبسط الدين بالقوة والإكراه ، بل لإحياء الحق والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد ، وأما بعد انبساط التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصر فلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال ، فالإشكال ناش عن عدم التدبر.
ويظهر مما تقدم أن الآية أعني قوله : "لا إكراه في الدين" غير منسوخة بآية السيف
كما ذكره بعضهم.
ومن الشواهد على أن الآية غير منسوخة التعليل الذي فيها أعني قوله : "قد تبين الرشد من الغي" ، فإن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم ، فإن الحكم باق ببقاء سببه ، ومعلوم أن تبين الرشد من الغي في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف ، فإن قوله : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" مثلا ، أو قوله : "وقاتلوا في سبيل الله" الآية لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئا حتى ينسخا حكما معلولا لهذا
وبعبارة أخرى الآية تعلل قوله : "لا إكراه في الدين" بظهور الحق ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله ، فهو ثابت على كل حال ، فهو غير منسوخ. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 343 ـ 344}(8/254)
قوله تعالى : {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}
قال الفخر :
{تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} أي تميز الحق من الباطل ، والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة ، قال القاضي : ومعنى {قَد تَّبَيَّنَ الرشد} أي أنه قد اتضح وانجلى بالأدلة لا أن كل مكلف تنبه لأن المعلوم ذلك وأقول : قد ذكرنا أن معنى {تَّبَيَّنَ} انفصل وامتاز ، فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين ، وعلى هذا كان اللفظ مُجْرَى على ظاهره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 14}
وقال البيضاوى :
{ قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 557}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { قد تبين الرشد من الغيّ } واقع موقع العلة لقوله : { لا إكراه في الدين } ولذلك فصلت الجملة.
والرشد بضم فسكون ، وبفتح ففتح الهُدى وسداد الرأي ، ويقابله الغيّ والسفه ، والغيّ الضلال ، وأصله مصدرُ غَوَى المتعدي فأصله غَوْي قلبت الواو ياء ثم أدغمتا.
وضُمّن تبيّن معنى تميز فلذلك عدي بمَن ، وإنّما تبيّن ذلك بدعوة الإسلام وظهوره في بلد مستقل بعد الهجرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 28}
قوله تعالى : {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت ويؤمن بالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا}
قال ابن عاشور : (8/255)
وقوله : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } تفريع على قوله : { قد تبيّن الرشد من الغي } إذ لم يبق بعد التبيين إلاّ الكفرُ بالطاغوت ، وفيه بيان لنفي الإكراه في الدين ؛ إذ قد تفرّع عن تميّز الرشد من الغي ظهور أنّ متّبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختياراً.
والطاغوت الأوثان والأصنام ، والمسلمون يسمّون الصَّنم الطاغية ، وفي الحديث : " كانوا يهلون لمناة الطاغية " ويجمعون الطاغوت على طواغيت ، ولا أحسبه إلاّ من مصطلحات القرآن وهو مشتق من الطغيان وهو الارتفاع والغلو في الكبر وهو مذموم ومكروه.
ووزن طاغوت على التحقيق طَغَيُوت فَعَلُوت من أوزان المصادر مثل مَلَكوت ورَهَبوت وَرَحَمُوت فوقع فيه قلب مكاني بين عينه ولامه فصيرُ إلى فَلَعوت طيَغوت ليتأتى قلب اللام ألفاً فصار طَاغوت ، ثم أزيل عنه معنى المصدر وصار اسماً لطائفة مما فيه هذا المصدر فصار مثل مَلَكوت في أنه اسم طائفة مما فيه معنى المصدر لا مثل رَحَموت ورهبوت في أنّهما مصدران فتاؤه زائدة ، وجعل علماً على الكفر وعلى الأصنام ، وأصله صفة بالمصدر ويطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كشأن المصادر.
وعطف { ويؤمن بالله } على الشرط لأنّ نبذ عبادة الأصنام لا مزيّة فيه إن لم يكن عَوّضها بعبادة الله تعالى.
ومعنى استمسك تمسك ، فالسينُ والتاء للتأكيد كقوله : { فاستمسكْ بالذي أُوحيَ إليك } [ الزخرف : 43 ] وقوله : { فاستجاب لهم ربهم } [ آل عمران : 195 ] وقول النابغة : "فاستنكحوا أمّ جابر" إذ لا معنى لطلب التمسك بالعروة الوثقى بعد الإيمان ، بل الإيمان التمسك نفسه.
والعروة بضم العين ما يُجعل كالحلْقة في طرف شيء ليقبض على الشيء منه ، فللدّلوْ عروة وللكُوز عُروة ، وقد تكون العروة في حبل بأن يشدّ طرفه إلى بعضه ويعقد فيصير مثل الحلقة فيه ، فلذلك قال في "الكشاف" : العروة الوثقى من الحبل الوثيق.
(8/256)
و { الوثقى } المحكمة الشدّ.
{ ولا انفصام لها } أي لا انقطاع ، والفصم القطع بتفريق الاتصال دون تجزئة بخلاف القصم بالقاف فهو قطع مع إبانة وتجزئة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 28 ـ 29}
قال أبو حيان :
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. انتهى.
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 292 ـ 293}
فصل
قال الماوردى :
{ فَمَن يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ } فيه سبعة أقوال :
أحدها : أنه الشيطان وهو قول عمر بن الخطاب.
والثاني : أنه الساحر ، وهو قول أبي العالية.
والثالث : الكاهن ، وهو قول سعيد بن جبير.
والرابع : الأصنام.
والخامس : مَرَدَة الإنس والجن.
والسادس : أنه كل ذي طغيان طغى على الله ، فيعبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عبده ، أو بطاعة له ، سواء كان المعبود إنساناً أو صنماً ، وهذا قول أبي جعفر الطبري.
والسابع : أنها النفس لطغيانها فيما تأمر به من السوء ، كما قال تعالى : { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف : 53 ].
واختلفوا في { الطَّاغُوتِ } على وجهين :
أحدهما : أنه اسم أعجمي معرّب ، يقع على الواحد والجماعة.
والثاني : أنه اسم عربي مشتق من الطاغية ، قاله ابن بحر. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 327 ـ 328}
قال الفخر : (8/257)
والتحقيق أنه لما حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان كما في قوله {رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} [ إبراهيم : 36 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 15}
وقال أبو حيان :
ينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 292}
قال الفخر :
أما قوله {وَيُؤْمِن بالله} ففيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر من أن يتوب أولاً عن الكفر ، ثم يؤمن بعد ذلك.
أما قوله {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} فاعلم أنه يقال : استمسك بالشيء إذا تمسك به والعروة جمعها عرا نحو عروة الدلو والكوز وإنما سميت بذلك ، لأن العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلق به والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته ، فكذا هاهنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه ، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها ، لا جرم وصفها بأنها العروة الوثقى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 15}
فائدة
قال أبو حيان :
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و: بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك.
قال الزمخشري : وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن.
والمشبه بالعروة الإيمان ، قاله : مجاهد.
(8/258)
أو : الإسلام قاله السدّي أو : لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والضحاك ، أو : القرآن ، قاله السدّي أيضاً ، أو : السنة ، أو : التوفيق.
أو : العهد الوثيق.
أو : السبب الموصل إلى رضا الله وهذه أقوال متقاربه.
{ لا انفصام لها } لا انكسار لها ولا انقطاع ، قال الفراء : الانفصام والانقصام هما لغتان ، وبالفاء أفصح ، وفرق بعضهم بينهما ، فقال : الفصم انكسار بغير بينونة ، والقصم انكسار ببينونة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 293}
قال ابن كثير :
قال مجاهد : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } يعني : الإيمان. وقال السدي : هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني لا إله إلا الله. وعن أنس بن مالك : { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } : القرآن. وعن سالم بن أبي الجعد قال : هو الحب في الله والبغض في الله.
وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها.
وقال معاذ بن جبل في قوله : { لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : لا انقطاع لها دون دخول الجنة.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد : 11].
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال : كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم : هذا رجل من أهل الجنة. فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس قلت له : إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا. قال : سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم : إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه : رأيت كأني في روضة خضراء
(8/259)
قال ابن عون : فذكر من خضرتها وسعتها وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة ، فقيل لي : اصعد عليه فقلت : لا أستطيع. فجاءني مِنْصَف -قال ابن عون : هو الوصيف فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد. فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك بالعروة. فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه. فقال : "أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى ، أنت على الإسلام حتى تموت". {المسند (5/452)}.
قال : وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون. { صحيح البخاري برقم (3813) وصحيح مسلم برقم (2484).} وأخرجه البخاري من وجه آخر ، عن محمد بن سيرين به. { صحيح البخاري برقم (7010)}.
أ هـ {تفسيرابن كثير حـ 1 صـ 683}
فائدة بلاغية
قال ابن عاشور :
والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيلي ، شبهت هيأة المؤمن في ثباته على الإيمان بهيأة من أمسك بعروة وثقى من حَبل وهو راكب على صَعب أو في سفينة في هَول البحر ، وهي هيأة معقولة شبهت بهيأة محسوسة ، ولذلك قال في "الكشاف" "وهذا تمثيل للمعلوم بالنظَر ، بالمشاهَد" وقد أفصح عنه في تفسير سورة لقمان إذ قال "مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه" ، فالمعنى أنّ المؤمن ثابت اليقين سالم من اضطراب القلب في الدنيا وهو ناج من مَهاوي السقوط في الآخرة كحال من تمسك بعروة حبل متين لا ينفصم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 29}
قوله {لاَ انفصام لَهَا}
فصل
قال الفخر :
قال النحويون : نظم الآية بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، والعرب تضمر ( التى ) و( الذى ) و( مَنْ ) وتكتفي بصلاتها منها ، قال سلامة بن جندل :
والعاديات أسامي للدماء بها.. كأن أعناقها أنصاب ترحيب
(8/260)
يريد العاديات التي قال الله : {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [ الصافات : 164 ] أي من له. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 15}
لطيفة
قال ابن كثير :
قال أبو القاسم البغوي : حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق عن حسان -هو ابن فائد العبسي-قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الجِبت : السحر والطاغوت : الشيطان ، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من أمه ، وإن كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه ، وإن كان فارسيًّا أو نبطيا. وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد العبسي عن عمر فذكره.
ومعنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية ، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها. أ هـ {تفسيرابن كثير حـ 1 صـ 683}
قوله تعالى {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
قال الفخر :
فيه قولان :
القول الأول : أنه تعالى يسمع قول من يتكلم بالشهادتين ، وقول من يتكلم بالكفر ، ويعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر ، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث.
والقول الثاني : روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة ، وكان يسأل الله تعالى ذلك سراً وعلانية ، فمعنى قوله {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يريد لدعائك يا محمد بحرصك عليه واجتهادك. هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 15}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
(8/261)
قوله تعالى : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} هذه الآية تدل بظاهرها على أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين, ونظيرها قوله تعالى : {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}, قوله تعالى : {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ}, وقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام بالسيف كقوله تعالى : {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}, وقوله : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي الشرك, ويدل لهذا التفسير الحديث الصحيح : "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله" الحديث, والجواب عن هذا بأمرين :
(8/262)
الأول - وهو الأصح - : أنّ هذه الآية في خصوص أهل الكتاب, والمعنى أنهم قبل نزول قتالهم لا يكرهون على الدين مطلقا, وبعد نزول قتالهم لا يكرهون عليه إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, والدليل على خصوصها بهم ما رواه أبو داود وابن أبي حاتم والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : "كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده, فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : "لا ندع أبناءنا", فأنزل الله : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}, المقلاة التي لا يعيش لها ولد, وفي المثل : "أحر من دمع المقلاة", وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال "نزلت {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : (الحصين), كان له ابنان نصرانيان, وكان هو مسلما, فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : "ألا استكرههما فإنهما أبيا إلا النصرانية ؟ ", فأنزل الله الآية", وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير سأله أبو بشر عن هذه الآية ؟ فقال : نزلت في الأنصار, قال : خاصة ؟ قال : خاصة", واخرج ابن جرير عن قتادة بإسنادين في قوله : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال : أكره عليه هذا الحي من العرب ؛ لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه فلم يقبل منهم غير الإسلام, ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقرّوا بالجزية أو بالخراج ولم يفتنوا عن دينهم فيخلى سبيلهم" وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان فلم يقبل منهم إلاَّ لا إله إلا الله أو السيف, ثم أمر فيمن سواهم أن يقبلوا منهم الجزية فقال : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}, وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا في قوله : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}, قال : "وذلك لما دخل الناس في الإسلام, وأعطى أهل الكتاب الجزية",(8/263)
فهذه النقول تدل على خصوصها بأهل الكتاب المعطين الجزية, ومن في حكمهم, ولا يرد على هذا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؛ لأن التخصيص فيها عرف بنقل عن علماء التفسير لا بمطلق خصوص السبب, ومما يدل للخصوص أنه ثبت في الصحيح : "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" .
الأمر الثاني : أنها منسوخة بآيات القتال كقوله : {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية, ومعلوم أن سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة, وسورة براءة من آخر ما نزل بها, والقول بالنسخ مروي عن ابن مسعود, وزيد بن أسلم, وعلى كل حال فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها {لا إِكْرَاهَ} الآية, والمتأخر أولى من المتقدم, والعلم عند الله تعالى. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 44 ـ 46}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . . }.
نقل ابن عرفة عن ابن عطية الخلاف في سبب نزولها ثم قال : الظاهر عندي ( أنّها ) على ظاهرها ويكون خبرا في اللفظ والمعنى.
والمراد أنه ليس في الاعتقاد إكراه وهو أولى من قول من جعلها خبرا في معنى النّهي.
وكان أبو عمر ولد الأمير أبي الحسن على المريني في ( أيام ) مملكته جمع كل من كان في بلده من النّصارى وأهل الذمة وقال لهم : إما أن تسلموا أو ضربت أعناقكم ، فأنكر عليه ذلك فقهاء بلده ومنعوه وكان في عقله اختبال.
قيل لابن عرفة : من فسّر الدين بالإسلام لا يتمّ إلا على مذهب المعتزلة القائلين بأن الاعتقاد غير كاف.
فقال : قد قال الله تعالى : { إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام } وفسره في الحديث " بأنّ تشهد أن لاَ إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ".
قوله تعالى : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي . . . }.
( قد ) للتوقع لأن المشركين كانوا يتوقعون بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(8/264)
وعارضوها بقوله تعالى : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } فجعل الخبيث مخرجا من الطيب ، وعكس هنا.
وأجيب : بأن هذا في أول الإسلام كان الكفر أكثر وتلك في آخر الإسلام كان الإيمان أكثر ودخل الناس في الدين أفواجا.
قوله تعالى : { فَمَن يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله . . . }.
قدم الكفر إما لأنّه من دفع المؤلم ، أو لأنه مانع ولا يتم الدليل على الشيء إلاّ مع نفي المانع المعارض ولذلك قال في الإرشاد : " النظر في الشيء يضاد العلم بالمنظور ويضاد الجهل به والشك فيه ".
فإذا كان الكافر مصمما على كفره استحال إيمانه وإذا ظهر له بطلان الكفر وبقي قابلا للإيمان ونظر في دلائله أنتجت له الإيمان.
قوله تعالى : { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى . . . }.
قال الزمخشري : هذا تمثيل للمعلوم بالنّظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس ( ونظرٌ في دلالات أنتجت له ) حتى يتصوره السّامع كأنّه ينظر ( إليه ) بعينه.
ابن عطية : هذا تشبيه واختلفوا في المشبه بالعروة فقال مجاهد : العروة الإيمان وقال السدى : الإسلام.
وقال سعيد بن جبير والضّحاك : ( العروة ) لا إله إلا الله.
قال ابن عرفة : إنما يريد المشبه خاصة ولو أراد المشبه به لكان تشبيه الشيء بنفسه.
قوله تعالى : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
قال ابن عطية : لما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات سميع من أجل النّطق وعليم من أجل المعتقد.
وقال الفخر : هذا دليل على أنّ اعتقاد القلب الإيمان غير كاف ولا بد من النطق.
قال ابن عرفة : لايتم هذا إلاّ على مذهب المعتزلة الذين ينكرون الكلام النفسي ونحن نقول : كلام النفس مسموع ولذلك نتصوره في الكلام القديم الأزلي وهم ينكرونه. هـ {تفسير ابن عرفة صـ 334}(8/265)
بحث
الدين لا يُفرض :
لا يمكن للإسلام ولا للأديان الحقّة الأخرى أن تُفرض فرضاً على الناس لسببين :
1 ـ بَعدَ كلّ تلك الأدلّة والبراهين الواضحة والاستدلالات المنطقية والمعجزات الجلية لم تكن ثمة حاجة لذلك.
إنّما يستخدم القوّة من أعوزه المنطق والحجّة.
والدين الإلهي ذو منطق متين وحجّة قويّة.
2 ـ إنّ الدين القائم على أساس مجموعة من العقائد القلبية لا يمكن أن يُفرض بالإكراه.
إن عوامل القوّة والسيف والقدرة العسكرية يمكنها أن تؤثّر في الأجسام ، لا في الأفكار والمعتقدات.
يتّضح ممّا تقدّم الردّ على الإعلام الصليبي ـ المسموم ضدّ الإسلام ـ القائل "إنّ الإسلام انتشر بالسيف" ، إذ لا قول أبلغ ولا أفصح من (لا إكراه في الدين) الذي أعلنه القرآن.
هؤلاء الحاقدون يتناسون هذا الإعلان القرآني الصريح ، ويحاولون من خلال تحريف مفهوم الجهاد وأحداث الحروب الإسلامية أن يثبتوا مقولتهم ، بينما يتّضح بجلاء لكلّ منصف أنّ الحروب التي خاضها الإسلام كانت إمّا دفاعية ، وإمّا تحريرية ، ولم يكن هدف هذه الحروب السيطرة والتوسّع ، بل الدفاع عن النفس ، أو إنقاذ الفئة المستضعفة الرازحة تحت سيطرة طواغيت الأرض وتحريرها من
ربقة العبودية لتستنشق عبير الحرية وتختار بنفسها الطريق الذي ترتئيه.
والشاهد الحيّ على هذا هو ما تكرّر حدوثه في التاريخ الإسلامي ، فقد كان المسلمون إذا افتتحوا بلداً تركوا أتباع الأديان الأُخرى أحراراً كالمسلمين.
أمّا الضريبة الصغيرة التي كانوا يتقاضونها منهم باسم الجزية ، فقد كانت ثمناً للحفاظ على أمنهم ، ولتغطية ما تتطلّبه هذه المحافظة من نفقات ، وبذلك كانت أرواحهم وأموالهم وأعراضهم مصونة في حمى الإسلام.
كما أنّه كانوا أحراراً في أداء طقوسهم الدينية الخاصّة بهم.
جميع الذين يطالعون التاريخ الإسلامي يعرفون هذه الحقيقة ، بل إن المسيحيين الذين كتبوا في الإسلام يعترفون بهذا أيضاً.
(8/266)
يقول مؤلّف "حضارة الإسلام أو العرب" :
"كان تعامل المسلمين مع الجماعات الأُخرى من التساهل بحيث إنّ رؤساء تلك الجماعات كان مسموحاً لهم بإنشاء مجالسهم الدينية الخاصّة".
وقد جاء في بعض كتب التاريخ أنّ جمعاً من المسيحيين الذين كانوا قد زاروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للتحقيق والاستفسار أقاموا قدّاساً في مسجد النبي في المدينة بكلّ حرّية.
إنّ الإسلام ـ من حيث المبدأ ـ توسّل بالقوّة العسكرية لثلاثة أمور :
1 ـ لمحو آثار الشرك وعبادة الأصنام ، لأنّ الإسلام لا يعتبر عبادة الأصنام ديناً من الأديان ، بل يراها انحرافاً ومرضاً وخرافة ، ويعتقد أنّه لا يجوز مطلقاً أن يسمح لجمع من الناس أن يسيروا في طريق الضلال والخرافة ، بل يجب إيقافهم عند حدّهم ؛ لذلك دعا الإسلام عبدة الأصنام إلى التوحيد ، وإذا قاوموه توسّل بالقوِّة وحطّم الأصنام وهدّم معابدها ، وحال دون بروز أي مظهر من مظاهر عبادة الأصنام ، لكي يقضي تماماً على منشأ هذا المرض الروحي والفكري.
وهذا يتبيّن من آيات القتال مع المشركين ، مثل الآية 193 من سورة البقرة : (وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة). وليس هناك أيّ تعارض بين الآية التي نحن بصددها وهذه الآية ، ولا نسخ في هذا المجال.
2 ـ لمقابلة المتآمرين للقضاء على الإسلام ، عندئذ كانت الأوامر تصدر بالجهاد الدفاعي وبالتوسّل بالقوّة العسكرية. ولعلّ معظم الحروب الإسلامية على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت من هذا القبيل ، مثل حرب أُحد والأحزاب وحنين ومؤته وتبوك.
3 ـ للحصول على حريّة الدعوة والتبليغ. حيث إنّ لكل دين الحقّ في أن يكون حرّاً في الإعلان عن نفسه بصورة منطقية ، فإذا منعه أحد من ذلك فله أن ينتزع حقّه هذا بقوّة السلاح. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 261 ـ 263}(8/267)
لطيفة
قال ابن القيم :
قال بشر بن منصور عن وهيب ابن الورد قال : خرج رجل إلى الجبانة بعد ساعة من الليل قال : فسمعت حسا ـ أو صوتا ـ شديدا وجيء بسرير حتى وضع وجاء شيء حتى جلس عليه قال : واجتمعت إليه جنوده ثم صرخ فقال : من لي بعروة بن الزبير ؟ فلم يجبه أحد حتى تتابع ما شاء الله من الأصوات فقال واحد : انا أكفيكه قال : فتوجه نحو المدينة وأنا ناظر ثم أوشك الرجعة فقال : لا سبيل إلى عروة وقال : ويلكم وجدته يقول كلمات إذا أصبح وإذا أمسى فلا نخلص إليه معهن قال الرجل : فلما أصبحت قلت لأهلي جهزوني فأتيت المدينة فسألت عنه حتى دللت عليه فإذا بشيخ كبير فقلت : شيئا تقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت ؟ فأبى أن يخبرني فأخبرته بما رأيت وما سمعت فقال : ما أدري غير أني أقول إذا أصبحت : آمنت بالله العظيم وكفرت بالجبت والطاغوت واستمسكت بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم وإذا أصبحت قلت ثلاث مرات وإذا أمسيت قلت ثلاث مرات. أ هـ {الوابل الصيب صـ 111}(8/268)
قوله تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) }
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما قرر ذلك وأرشد السياق إلى شيء اقتضت البلاغة طيه إرشاداً إلى البعد منه والهرب عنه لبشاعته وسوء مغبته وهو ومن يؤمن بالطاغوت ويكفر بالله فلا يتمسك له والله يهويه إلى الجحيم ،
كأنه قيل : فمن يخلص النفس من ظلمات الهوى والشهوة ووساوس الشيطان ؟ فقال مستأنفاً : {الله} أي بما له من العظمة والأسماء الحسنى {ولي الذين آمنوا} أي يتولى مصالحهم ،
ولذلك بين ولايته بقوله : {يخرجهم من الظلمات} أي المعنوية جمع ظلمة وهو ما يطمس الباديات حساً أو معنى ،
وجمعها لأن طرق الضلال كثيرة فإن الكفر أنواع {إلى النور} أي المعنوي وهو ما يظهر الباديات حساً أو معنىً - قاله الحرالي ،
ووحده لأن الصراط المستقيم واحد {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [ الأنعام : 153 ] ومن المحامل الحسنة أن يشار بالجمع إلى ما ينشأ من الجهل عن المشاعر التي أخبر بالختم عليها ،
فصار البصر عرياً عن الاعتبار ،
والسمع خالياً عن الفهم والاستبصار ،
والقلب معرضاً عن التدبر والافتكار ،
وبالوحدة في النور إلى صلاح القلب فإنه كفيل بجلب كل سار ودفع كل ضار ،
والنور الذي هو العقل والفطرة الأولى ذو جهة واحدة وهي القوم ،
والظلمة الناشئة عن النفس ذات جهات هي في غاية الاختلاف.
ولما ذكر عبّاده الخلص ذكر عُبّاد الشهوات فقال : {والذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه أدلة العقول أولاً والنقول ثانياً بشهوات النفوس {أولياؤهم الطاغوت} من شهواتهم وما أدت إليه من اتباع كل ما أطغى من الشياطين والعكوف على الأصنام وغير ذلك ،
(8/269)
ثم بين استيلاءهم عليهم بقوله : {يخرجونهم} وإسناده إلى ضمير الجمع يؤيد أن جمع الظلمات لكثرة أنواع الكفر {من النور} أي الفطرى {إلى الظلمات} قال الحرالي : وفيه بيان استواء جميع الخلق في حقيقة النور الأول إلى الروح المجندة إلى الفطرة المستوية " كل مولود يولد على الفطرة " انتهى.
ولما ذكر استيلاء الشهوات عليهم الداعي إليها الطيش والخفة الناشىء عن عنصر النار التي هي شعبة من الشيطان بين أن أجزاءهم من جنس مرتكبهم فقال : {أولئك} أي الحالون في محل البعد والبغض {أصحاب النار} قال الحرالي : الذين اتبعوها من حيث لم يشعروا من حيث إن الصاحب من اتبع مصحوبه - انتهى.
ولما علم من ذكر الصحبة دوامهم فيها صرح به تأكيداً بقوله مبيناً اختصاصهم بها : {هم} أي خاصة {فيها خالدون} إلى ما لا آخر له.
قال الحرالي : وجعل الخلود وصفاً لهم إشعاراً بأنهم فيها وهم في دنياهم - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 501 ـ 502}
قال ابن عاشور :
وقع قوله : { الله ولي الذين آمنوا } الآية موقع التعليل لقوله : { لا انفصام لها } [ البقرة : 256 ] لأنّ الذين كفروا بالطاغوت وآمنوا بالله قد تولّوا الله فصار وليّهم ، فهو يقدّر لهم ما فيه نفعهم وهو ذبّ الشبهات عنهم ، فبذلك يستمر تمسّكهم بالعروة الوثقى ويأمنون انفصامها ، أي فإذا اختار أحد أن يكون مسلماً فإنّ الله يزيده هدى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 30}
فائدة
قال الفخر :
( الولى ) فعيل بمعنى فاعل من قولهم : ولي فلان الشيء يليه ولاية فهو وال وولي ، وأصله من الولي الذي هو القرب ، قال الهذلي :
(8/270)
وعدت عواد دون وليك تشغب.. ومنه يقال : داري تلى دارها ، أي تقرب منها ، ومنه يقال : للمحب المعاون : ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك ، ومنه الوالي ، لأنه يلي القوم بالتدبير والأمر والنهي ومنه المولى ومن ثم قالوا في خلاف الولاية : العداوة من عدا الشيء إذا جاوزه ، فلأجل هذا كانت الولاية خلاف العداوة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 16}
فصل
قال الفخر :
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمن فيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر ، بأن قالوا : الآية دلت على أنه تعالى ولي الذين آمنوا على التعيين ومعلوم أن الولي للشيء هو المتولي لما يكون سبباً لصلاح الإنسان واستقامة أمره في الغرض المطلوب ولأجله قال تعالى : {يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاءهُ إِلاَّ المتقون} [ الأنفال : 34 ] فجعل القيم بعمارة المسجد ولياً له ونفى في الكفار أن يكونوا أولياءه ، فلما كان معنى الولي المتكفل بالمصالح ، ثم إنه تعالى جعل نفسه ولياً للمؤمنين على التخصيص ، علمنا أنه تعالى تكفل بمصالحهم فوق ما تكفل بمصالح الكفار ، وعند المعتزلة أنه تعالى سوى بين الكفار والمؤمنين في الهداية والتوفيق والألطاف ، فكانت هذه الآية مبطلة لقولهم ، قالت المعتزلة : هذا التخصيص محمول على أحد وجوه
الأول : أن هذا محمول على زيادة الألطاف ، كما ذكره في قوله {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [ محمد : 17 ] وتقريره من حيث العقل أن الخير والطاعة يدعو بعضه إلى بعض ، وذلك لأن المؤمن إذا حضر مجلساً يجري فيه الوعظ ، فإنه يلحق قلبه خشوع وخضوع وانكسار ، ويكون حاله مفارقاً لحال من قسا قلبه بالكفر والمعاصي ، وذلك يدل على أنه يصح في المؤمن من الألطاف ما لا يصح في غيره ، فكان تخصيص المؤمنين بأنه تعالى وليهم محمولاً على ذلك.
(8/271)
والوجه الثاني : أنه تعالى يثيبهم في الآخرة ، ويخصهم بالنعيم المقيم والإكرام العظيم فكان التخصيص محمولاً عليه.
والوجه الثالث : وهو أنه تعالى وإن كان ولياً للكل بمعنى كونه متكفلاً بمصالح الكل على السوية ، إلا أن المنتفع بتلك الولاية هو المؤمن ، فصح تخصيصه بهذه الآية ، كما في قوله {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [ البقرة : 2 ].
الوجه الرابع : أنه تعالى ولي المؤمنين ، بمعنى : أنه يحبهم ، والمراد أنه يحب تعظيمهم.
أجاب الأصحاب عن الأول بأن زيادة الألطاف متى أمكنت وجبت عندكم ، ولا يكون لله تعالى في حق المؤمن إلا أداء الواجب ، وهذا المعنى بتمامه حاصل في حق الكافر ، بل المؤمن فعل ما لأجله استوجب من الله ذلك المزيد من اللطف.
أما السؤال الثاني : وهو أنه تعالى يثيبه في الآخرة فهو أيضاً بعيد ، لأن ذلك الثواب واجب على الله تعالى ، فولي المؤمن هو الذي جعله مستحقاً على الله ذلك الثواب ، فيكون وليه هو نفسه ولا يكون الله هو ولياً له.
وأما السؤال الثالث : وهو أن المنتفع بولاية الله هو المؤمن ، فنقول : هذا الأمر الذي امتاز به المؤمن عن الكافر في باب الولاية صدر من العبد لا من الله تعالى ، فكان ولي العبد على هذا القول هو العبد نفسه لا غير.
وأما السؤال الرابع : وهو أن الولاية هاهنا معناها المحبة والجواب : أن المحبة معناها إعطاء الثواب ، وذلك هو السؤال الثاني ، وقد أجبنا عنه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 16 ـ 17}
قوله تعالى : {يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور}
قال أبو حيان :
(8/272)
الإخراج هنا إن كان حقيقة فيكون مختصاً بمن كان كافراً ثم آمن وإن كان مجازاً فهو مجاز عن منع الله إياهم من دخولهم في الظلمات قال الحسن معنى يخرجهم يمنعهم وإن لم يدخلوا والمعنى أنه لو خلا عن توفيق الله لوقع في الظلمات فصار توفيقه سبباً لدفع تلك الظلمة قالوا ومثل هذه الاستعارة شائع سائغ في كلامهم كما قال طفيل الغنوي فإن تكنِ الأيام أحسنَّ مرة
إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
قال الواقدي كل شيء في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان غير التي في الأنعام وهو وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ فإنه أراد به الليل والنهار
وقال الواسطي يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها كالرضا والصدق والتوكل والمعرفة والمحبة
وقال أبو عثمان يخرجهم من ظلمات الوحشة والفرقة إلى نور الوصلة والإلفة
وقال الزمخشري آمنوا أرادوا أن يؤمنوا تلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان أو الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم لها من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 293}
وقال السمرقندى :
{ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور } ، يعني من الكفر إلى الإيمان.
واللفظ لفظ المستقبل والمراد به الماضي ، يعني أخرجهم.
ويقال : ثبتهم على الاستقامة كما أخرجهم من الظلمات.
ويقال : يخرجهم من الظلمات ، أي من ظلمة الدنيا ومن ظلمة القبر ومن ظلمة الصراط إلى الجنة. (1) أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 195}
_________________
(1) الأولى حمل اللفظ على العموم مالم يوجد مخصص. والله أعلم.(8/273)
فصل
قال الفخر :
أجمع المفسرون على أن المراد هاهنا من الظلمات والنور : الكفر والإيمان فتكون الآية صريحة في أن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من الكفر وأدخله في الإيمان ، فيلزم أن يكون الإيمان بخلق الله ، لأنه لو حصل بخلق العبد لكان هو الذي أخرج نفسه من الكفر إلى الإيمان ، وذلك يناقض صريح الآية.
أجابت المعتزلة عنه من وجهين الأول : أن الإخراج من الظلمات إلى النور محمول على نصب الدلائل ، وإرسال الأنبياء ، وإنزال الكتب ، والترغيب في الإيمان بأبلغ الوجوه ، والتحذير عن الكفر بأقصى الوجوه ، وقال القاضي : قد نسب الله تعالى الإضلال إلى الصنم في قوله {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} [ إبراهيم : 36 ] لأجل أن الأصنام سبب بوجه ما لضالهم ، فإن يضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الله تعالى مع قوة الأسباب التي فعلها بمن يؤمن كان أولى.
والوجه الثاني : أن يحمل الإخراج من الظلمات إلى النور على أنه تعالى يعدل بهم من النار إلى الجنة
قال القاضي : هذا أدخل في الحقيقة ، لأن ما يقع من ذلك في الآخرة يكون من فعله تعالى فكأنه فعله.
والجواب عن الأول من وجهين : أحدهما : أن هذه الإضافة حقيقة في الفعل ، مجاز في الحث والترغيب ، والأصل حمل اللفظ على الحقيقة والثاني : أن هذه الترغيبات إن كانت مؤثرة في ترجيح الداعية صار الراجح واجباً ، والمرجوح ممتنعاً ، وحينئذ يبطل قول المعتزلة وإن لم يكن لها أثر في الترجيح لم يصح تسميتها بالإخراج.
وأما السؤال الثاني : وهو حمل اللفظ على العدول بهم من النار إلى الجنة فهو أيضاً مدفوع من وجهين(8/274)
الأول : قال الواقدي : كل ما كان في القرآن {مِنَ الظلمات إِلَى النور} فإنه أراد به الكفر والإيمان ، غير قوله تعالى في سورة الأنعام {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [ الأنعام : 1 ] فإنه يعني به الليل والنهار ، وقال : وجعل الكفر ظلمة ، لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك ، وجعل الإيمان نوراً لأنه كالسبب في حصول الإدراك.
والجواب الثاني : أن العدول بالمؤمن من النار إلى الجنة أمر واجب على الله تعالى عند المعتزلة فلا يجوز حمل اللفظ عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 17 ـ 18}
قال الآلوسى :
واقتصر الواقدي في تفسير الظلمات ، والنور على ذكر الكفر والإيمان وحمل كل ما في القرآن على ذلك سوى ما في الأنعام من قوله تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } فإن المراد بهما هناك الليل والنهار ، والأولى أن يحمل الظلمات على المعنى الذي يعم سائر أنواعها ويحمل النور أيضاً على ما يعم سائر أنواعه ، ويجعل في مقابلة كل ظلمة مخرج منها نور مخرج إليه حتى إنه سبحانه ليخرج من شاء من ظلمة الدليل إلى نور العيان ، ومن ظلمة الوحشة إلى نور الوصلة ، ومن ظلمة عالم الأشباح إلى نور عالم الأرواح إلى غير ذلك "مما لا ، ولا" وأفرد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال ، أو أن الأول : إيماء إلى القلة والثاني : إلى الكثرة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 14}
فائدة
قال الخازن :
إنما سمي الكفر ظلمة لالتباس طريقه ، ولأن الظلمة تحجب الأبصار عن إدراك الحقائق فكذلك الكفر يحجب القلوب عن إدراك حقائق الإيمان وسمي الإسلام نوراً لوضوح طريقه وبيان أدلته. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 182}
سؤال : فان قيل : متى كان المؤمنون في ظلمة ؟ ومتى كان الكفار في نور ؟
فعنه ثلاثة أجوبة.(8/275)
أحدها : أن عصمة الله للمؤمنين عن مواقعة الضلال ، إخراج لهم من ظلام الكفر ، وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الذي يحيدون به عن الهدى ، إخراج لهم من نور الهدى ، و"الإخراج" مستعار هاهنا : وقد يقال للممتنع من الشيء : خرج منه ، وإن لم يكن دخل فيه.
قال تعالى : { إِني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله } [ يوسف : 37 ].
وقال : { ومنكم من يردُّ إِلى أرذل العمر } [ النحل : 70 ].
وقد سبقت شواهد هذا في قوله تعالى : { وإِلى الله ترجع الأمور } [ البقرة : 210 ].
والثاني : أن إيمان أهل الكتاب بالنبي قبل أن يظهر نورٌ لهم ، وكفرهم به بعد أن ظهر ، خروج إلى الظلمات.
والثالث : أنه لما ظهرت معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان المخالف له خارجاً من نور قد علمه ، والموافق له خارجاً من ظلمات الجهل إلى نور العلم. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 307}
وقال العلامة الماوردى :
فإن قيل : فكيف يخرجونهم من النور ، وهم لم يدخلوا فيه ؟ فعن ذلك جوابان :
أحدهما : أنها نزلت في قوم مُرْتَدِّين ، قاله مجاهد.
والثاني : أنها نزلت فيمن لم يزل كافراً ، وإنما قال ذلك لأنهم لو لم يفعلوا ذلك بهم لدخلوا فيه ، فصاروا بما فعلوه بمنزلة من قد أخرجهم منه. وفيه وجه ثالث : أنهم كانوا على الفطرة عند أخذ الميثاق عليهم ، فلما حَمَلُوهم على الكفر أخرجوهم من نور فطرتهم. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 329}
وقال الفخر :
قوله {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلمات إِلَى النور} ظاهره يقتضي أنهم كانوا في الكفر ثم أخرجهم الله تعالى من ذلك الكفر إلى الإيمان ، ثم هاهنا قولان :
القول الأول : أن يجري اللفظ على ظاهره ، وهو أن هذه الآية مختصة بمن كان كافراً ثم أسلم ، والقائلون بهذا القول ذكروا في سبب النزول روايات(8/276)
أحدها : قال مجاهد : هذه الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام وقوم كفروا به ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم آمن به من كفر بعيسى ، وكفر به من آمن بعيسى عليه السلام
وثانيتها : أن الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام على طريقة النصارى ، ثم آمنوا بعده بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقد كان إيمانهم بعيسى حين آمنوا به ظلمةً وكفراً ، لأن القول بالاتحاد كفر ، والله تعالى أخرجهم من تلك الظلمات إلى نور الإسلام
وثالثتها : أن الآية نزلت في كل كافر أسلم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(8/277)
والقول الثاني : أن يحمل اللفظ على كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك الإيمان بعد الكفر أو لم يكن كذلك ، وتقريره أنه لا يبعد أن يقال يخرجهم من النور إلى الظلمات وإن لم يكونوا في الظلمات ألبتة ، ويدل على جوازه : القرآن والخبر والعُرْف ، أما القرآن فقوله تعالى : {وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا} [ آل عمران : 103 ] ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار وقال {لَمَّا ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى} [ يونس : 98 ] ولم يكن نزل بهم عذاب ألبتة ، وقال في قصة يوسف عليه السلام : {تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} [ يوسف : 37 ] ولم يكن فيها قط ، وقال : {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} [ النحل : 70 ] وما كانوا فيه قط ، وأما الخبر فروي " أنه صلى الله عليه وسلم سمع إنساناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال على الفطرة ، فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله ، فقال خرج من النار " ، ومعلوم أنه ما كان فيها ، وروي أيضاً " أنه صلى الله عليه وسلم أقبل على أصحابه فقال : تتهافتون في النار تهافت الجراد ، وها أنا آخذ بحجزكم " ، ومعلوم أنهم ما كانوا متهافتين في النار ، وأما العرف فهو أن الأب إذا أنفق كل ماله فالابن قد يقول له : أخرجتني من مالك أي لم تجعل لي فيه شيئاً ، لا أنه كان فيه ثم أخرج منه ، وتحقيقه أن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات.
فصار توفيقه تعالى سبباً لدفع تلك الظلمات عنه ، وبين الدفع والرفع مشابهة ، فهذا الطريق يجوز استعمال الإخراج والإبعاد في معنى الدفع والرفع والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 18}
فائدة
قال ابن عاشور :
(8/278)
المراد بالنور نور البرهان والحق ، وبالظلمات ظلمات الشبهات والشك ، فالله يزيد الذين اهتدوا هدى لأنّ اتِّباعهم الإسلام تيسير لطرق اليقين فهم يزدادون توغّلا فيها يوماً فيوماً ، وبعكسهم الذين اختاروا الكفر على الإسلام فإنّ اختيارهم ذلك دل على ختم ضُرب على عقولهم فلم يهتدوا ، فهم يزدادون في الضلال يوماً فيوماً.
ولأجل هذا الازدياد المتجدّد في الأمرين وقع التعبير بالمضارع في يخرجهم ويخرجونهم وبهذا يتضّح وجه تعقيب هذه الآيات بآية { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم } [ البقرة : 258 ] ثم بآية { أوْ كالذي مر على قرية } [ البقرة : 259 ] ثم بآية { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تُحْيي الموتى } فإنّ جميعها جاء لبيان وجوه انجلاء الشك والشبهات عن أولياء الله تعالى الذين صدق إيمانهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 30 ـ 31}
قوله تعالى : {والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت}
قال أبو السعود :
{ والذين كَفَرُواْ } أي الذين ثبت في علمه تعالى كفرُهم { أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت } أي الشياطينُ وسائرُ المضلين عن طريق الحق فالموصولُ مبتدأ وأولياؤُهم مبتدأٌ ثانٍ والطاغوتُ خبرُه والجملةُ خبرٌ للأول والجملةُ الحاصلةُ معطوفةٌ على ما قبلها ، ولعل تغييرَ السبك للاحتراز عن وضع الطاغوتِ في مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الإسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجهٍ حتى من جهة التعبير أيضاً.
{ يُخْرِجُونَهُم } بالوساوس وغيرِها من طرق الإضلال والإغواء { مّنَ النور } الفِطري الذي جُبل عليه الناسُ كافةً أو من نور البيناتِ التي يشاهدونها من جهة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بتنزيل تمكُّنِهم من الاستضاءة بها منزلةَ نفسِها { إِلَى الظلمات } ظلماتِ الكفر والانهماكِ في الغِل. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 250}
فائدة
قال الفخر : (8/279)
قرأ الحسن {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطواغيت} واحتج بقوله تعالى بعده {يُخْرِجُونَهُم} إلا أنه شاذ مخالف للمصحف وأيضاً قد بينا في اشتقاق هذا اللفظ أنه مفرد لا جمع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 18}
قال أبو حيان :
{ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } قال مجاهد ، وعبدة بن أبي لبابة ، نزلت في قوم آمنوا بعيسى ، فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به ، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات.
وقال الكلبي يخرجونهم من إيمانهم بموسى عليه السلام واستفتاحهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى كفرهم به ، وقيل : من فطرة الإسلام ، وقيل : من نور الإقرار بالميثاق ، وقيل : من الإقرار باللسان إلى النفاق.
وقيل : من نور الثواب في الجنة إلى ظلمة العذاب في النار.
وقيل : من نور الحق إلى ظلمة الهوى.
وقيل : من نور العقل إلى ظلمة الجهل.
وقال الزمخشري : من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة.
وقال ابن عطية : لفظ الآية مستغن عن التخصيص ، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب ، وذلك أن كان من آمن منهم فالله وليه ، أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ومن كفر بعد وجود الداعي ، النبي المرسل ، فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان ، إذ هو معد ، وأهل للدخول فيه ، وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر : أخرجتني يا فلان من هذا الأمر ، وإن كنت لم تدخل فيه ألبتة. انتهى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 294}
فصل
قال الفخر :
(8/280)
أما قوله تعالى {يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات} فقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله تعالى ، قالوا : لأنه تعالى أضافه إلى الطاغوت مجازاً باتفاق ، لأن المراد من الطاغوت على أظهر الأقوال هو الصنم ويتأكد هذا بقوله تعالى : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} [ إبراهيم : 36 ] فأضاف الإضلال إلى الصنم ، وإذا كانت هذه الإضافة بالاتفاق بيننا وبينكم مجازاً ، خرجت عن أن تكون حجة لكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 18 ـ 19}
فائدة
قال البيضاوى :
إسناد الإِخراج إلى الطاغوت باعتبار التسبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته بها. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 558}
فائدة أخرى
قال ابن عاشور :
أعيد الضمير إلى الطاغوت بصيغة جمع العقلاء لأنّه أسند إليهم ما هو من فِعل العقلاء وإن كانوا في الحقيقة سبب الخروج لا مُخرجين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 31}
لطيفة
قال أبو حيان :
وقد تباين الإخبار في هاتين الجملتين ، فاستفتحت آية المؤمنين باسم الله تعالى ، وأخبر عنه بأنه ولي المؤمنين تشريفاً لهم إذ بدىء في جملتهم باسمه تعالى ، ولقربه من قوله : { والله سميع عليم } واستفتحت آية الكافرين بذكرهم نعياً عليهم ، وتسمية لهم بما صدر منهم من القبيح.
ثم أخبر عنهم بأن أولياءهم الطاغوت ، ولم يصدّر الطاغوت استهانة به ، وأنه مما ينبغي أن لا يجعل مقابلاً لله تعالى ، ثم عكس الإخبار فيه فابتدأ بقوله : أولياؤهم ، وجعل الطاغوت خبراً.
كأن الطاغوت هو مجهول.
أعلم المخاطب بأن أولياء الكفار هو الطاغوت ، والأحسن في : يخرجهم ويخرجونهم أن لا يكون له موضع من الإعراب ، لأنه خرج مخرج التفسير للولاية ، وكأنه من حيث إن الله ولي المؤمنين بين وجه الولاية والنصر والتأييد ، بأنها اخراجهم من الظلمات إلى النور ، وكذلك في الكفار.(8/281)
وجوّزوا أن يكون : يخرجهم ، حالاً والعامل فيه : ولي ، وأن يكون خبراً ثانياً ، وجوّزوا أن يكون : يخرجونهم ، حالاً والعامل فيه معنى الطاغوت. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 294}
قوله تعالى : {أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}
قال الفخر :
يحتمل أن يرجع ذلك إلى الكفار فقط ، ويحتمل أن يرجع إلى الكفار والطواغيت معاً ، فيكون زجراً للكل ووعيداً ، لأن لفظ {أولئك} إذا كان جمعاً وصح رجوعه إلى كلا المذكورين ، وجب رجوعه إليهما معاً ، والله تعالى أعلم بالصواب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 19}
وقال الآلوسى :
{ أولئك } إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح ، وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم ، وفيه بعد { أصحاب النار } أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه { هُمْ فِيهَا خالدون } ماكثون أبداً ، وفي هذا وعد وتحذير للكافرين ، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل : للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء ، أو أن ما أعد لهم لا تفي ببيانه العبارة ، وقيل : إنّ قوله سبحانه : ( ولي المؤمنين ) دل على الوعد وكفى به. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 15}
فائدة
قال القرطبى :
حكم عليهم بالدخول في النار لكفرهم ؛ عدلاً منه ، لا يسأل عما يفعل. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 283}
لطائف بلاغية
قال أبو حيان :
وذكروا في هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة وعلم البيان ، منها في آية الكرسي : حسن الافتتاح لأنها افتتحت بأجل أسماء الله تعالى ، وتكرار اسمه في ثمانية عشر موضعاً ، وتكرير الصفات ، والقطع للجمل بعضها عن بعض ، ولم يصلها بحرف العطف.
والطباق : في قوله { الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } فإن النوم موت وغفلة ، والحي القيوم يناقضه.(8/282)
وفي قوله : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون } والتشبيه : في قراءة من قرأ { وسع كرسيه السموات والأرض } أي كوسع ، فإن كان الكرسي جرماً فتشبيه محسوس بمحسوس ، أو معنى فتشبيه معقول بمحسوس.
ومعدول الخطاب في { لا إكراه في الدين } إذا كان المعنى لا تكرهوا على الدين أحداً.
والطباق : أيضاً في قوله { قد تبين الرشد من الغي } وفي قوله : { آمنوا وكفروا } وفي قوله { من الظلمات إلى النور } والتكرار : في الإخراج لتباين تعليقهما ، والتأكيد : بالمضمر في قوله : { هم فيها خالدون }.
أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 294 ـ 295}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : { اللهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا }.
الولي بمعنى المتولي لأمورهم ، والمتفرد بإصلاح شؤونهم ، ويصح أن يكون الولي على وزن فعيل في معنى المفعول فالمؤمنون يتولون طاعته. وكلاهما حق : فالأول جمع والثاني فرق ، وكلُّ جمع لا يكون مقيداً بفرقٍ وكلُّ فرقٍ لا يكون مؤيداً بجمع فذلك خطأ وصاحبه مبطل والآية تُحْمَلُ عليهما جميعاً.
{ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }.
يعني بحكمه الأزلي صانهم عن الظلمات التي هي الضلال والبدع ، لأنهم ما كانوا في الظلمات قط في سابق علمه.
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ }.
ما استهواهم من دواعي الكفر.
{ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
باستيلاء الشُبَه على قلوبهم ، فيجحدون الربوبية ، أولئك الذين بقوا عن الحق بقاء أبدياً.
ويقال بخرجهم من ظلمات تدبيرهم إلى سعة شهود تقديره.
ويقال يخرجهم من ظلمات ظنونهم أنهم يتوسلون أو يَصِلُون إليه بشيء من سكناتهم وحركاتهم.
ويقال يخرجهم من ظلماتهم بأن يرفع عنهم ظِلْ أنفسهم ويدخلهم في ظل عنايته.
ويقال يخلصهم عن حسبان النجاة بهم.
(8/283)
ويقال يحول بينهم وبين الاعتماد على أعمالهم والاستناد إلى أحوالهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 198 ـ 199}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ . . . }.
أفرد الولي هنا لأن الإيمان من لوازمه التوحيد والكفر من لوازمه الشرك وتعدد الآلهة.
قوله تعالى : { يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلمات إِلَى النور . . . }.
وأورد الزمخشري في أول سورة الأنعام سؤالا فقال : لأي شيء جمع الظلمات وأفرد النور وحقه إن كان يورده هنا ؟ وأجاب بتعدد طريق الشرك واتحاد طريق الإيمان.
قال ابن عرفة : وإخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور بالفعل حقيقة ، لأنهم كانوا كافرين فآمنوا ، والكافرون كانوا في مظنة الإيمان أو القبول إلى الإيمان فأخرجهم إلى التصميم على الكفر والقسمة رباعية كفر مستديم إلى الموت وإيمان دائم إلى الموت وكفر بعد الإيمان وإيمان بعد كفر فتضمنت الآية القسمين الأخيرين.
قال ابن عرفة : إما أن يتجوز في لفظ " ءَامَنُوا " فيريد به المستقبل ويبقى " يخرجهم " على ظاهره ، أو يبقى " ءَامَنُوا " على ظاهره ويتجوز في لفظ " يُخْرِجُهُم " وغلب في الآية مقام الوعظ والتخويف على مقام البشارة فلذلك لم يقل في الأول : { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وذكر في الثاني. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 335}(8/284)
لطيفة
قال سهل في قول الله تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } [ 257 ] أي ولاية الرضا فهو المتولي لهم بما سبق لهم من هدايته ومعرفته إياهم على توحيده وذلك لعلمه بتبرئهم من كل سبب إلا من خالقهم فأخرجوا من الظلمات إلى النور ومن الكفر والضلالة والمعاصي والبدع إلى الإيمان وهو النور الذي أثبته الحق عزَّ وجلَّ في قلوبهم وهو نور بصيرة اليقين الذي به يستبصرون التوحيد والطاعة له فيما أمر ونهى { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] قوله عزَّ وجلَّ : { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } [ 257 ] أي الشيطان . قال سهل : ورأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء ، لأن الشيطان لا يقدر على الإنسان إلاَّ من طريق هوى النفس ، فإن أحس منها بما تهم به ألقى إليها الوسوسة. أ هـ {تفسير التسترى صـ 54}(8/285)
من فوائد الشيخ الشنقيطى فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور }.
صرح في هذه الآية الكريمة بأن الله ولي المؤمنين ، وصرح في آية أخرى بانه وليهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليهم وأن بعضهم أولياء بعض وذلك في قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } [ المائدة : 55 ] الآية وقال : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] وصرح في موضع آخر بخصوص هذه الولاية للمسلمين دون الكافرين وهو قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } [ محمد : 11 ] ، وصرح في موضع آخر بأن نبيه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهو قوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] وبين في آية البقرة هذه ، ثمرة ولايته تعالى للمؤمنين ، وهي إخراجه لهم من الظلمات إلى النور بقوله تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] وبين في موضع آخر أن من ثمرة ولايته إذهاب الخوف والحزن عن أوليائه ، وبين أن ولايتهم له تعالى بإيمانهم وتقواهم وذلك في قوله تعالى : { ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62-63 ] ، وصرح في موضع آخر أنه تعالى ولى نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه أيضاً يتولى الصالحين وهو قوله تعالى : { إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } [ الأعراف : 196 ].
قوله تعالى : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور }.
(8/286)
المراد بالظلمات الضلالة ، وبالنور الهدى ، وهذه الآية يفهم منها أن طرق الضلال متعددة. لجمعه الظلمات وأن طريق الحق واحدة. لإفراده النور ، وهذا المعنى المشار إليه هنا بينه تعالى في مواضع أخر كقوله : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه : ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات. لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] وقال تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] وقال تعالى : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال } [ ق : 17 ] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتعدده وتشعبه منه بلفظه. قوله تعالى : { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } [ البقرة : 257 ] الآية. قال بعض العلماء : الطاغوت الشيطان ويدل لهذا قوله تعالى : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } [ آل عمران : 175 ] أي يخوفكم من أوليائه وقوله تعالى : { الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] وقوله : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [ الكهف : 50 ] الآية وقوله : { إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ } [ الأعراف : 30 ] الآية. والتحقيق أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت والحظ الأكبر من ذلك للشيطان كما قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } [ يس : 60] الآية وقال : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } [ النساء : 117 ] وقال عن خليله إبراهيم : { يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } [ مريم : 44 ] الآية وقال : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] إلى غير ذلك من الآيات. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 186}(8/287)
من لطائف ابن القيم فى الآية
قال رحمه الله :
قال الله تعالى {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}
فأولياؤهم يعيدونهم إلى ما خلقوا فيه من ظلمة طبائعهم وجهلهم وأهوائهم وكلما أشرق لهم نور النبوة والوحي وكادوا أن يدخلوا فيه منعهم أولياؤهم منه وصدوهم فذلك إخراجهم إياهم من النور إلى الظلمات وقال تعالى أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها فاحياؤه سبحانه وتعالى بروحه الذي هو وحيه وهو روح الإيمان والعلم وجعل له نورا يمشي به بين أهل الظلمة كما يمشي الرجل بالسراج المضيء في الليلة الظلماء فهو يرى أهل الظلمة في ظلامتهم وهم لا يرونه كالبصير الذي يمشي بين العميان. أ هـ
ثم قال رحمه الله :
فصل في أن الخارجين عن طاعة الرسل يتقلبون في الظلمات وأن اتباعهم يتقلبون في عشرة أنوار
والخارجون عن طاعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ومتابعتهم يتقلبون في عشر ظلمات ظلمة الطبع وظلمة الجهل وظلمة الهوى وظلمة القول وظلمة العمل وظلمة المدخل وظلمة المخرج وظلمة القبر وظلمة القيامة وظلمة دار القرار فالظلمة لازمة لهم في دورهم الثلاثة
وأتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يتقلبون في عشرة أنوار ولهذه الأمة من النور ما ليس لأمة غيرها ولنبيها وآله من النور ما ليس لنبي غيره فإن لكل نبي منهم نورين ولنبينا وآله تحت كل شعرة من رأسه وجسده نور تام كذلك صفته وصفة أمته في الكتب المتقدمة. أ هـ {اجتماع الجيوش الإسلامية صـ 8 ـ 9}
وقال فى البدائع :
والمقصود أن طريق الحق واحد إذ مرده إلى الله الملك الحق وطرق الباطل متشعبة متعددة فإنها لا ترجع إلى شيء موجود ولا غاية لها يوصل إليها بل هي بمنزلة بنيات الطريق وطريق الحق بمنزلة الطريق الموصل إلى المقصود فهي وإن تنوعت فأصلها طريق واحد
(8/288)
ولما كانت الظلمة بمنزلة طرق الباطل والنور بمنزلة طريق الحق فقد أفرد النور وجمعت الظلمات وعلى هذا جاء قوله {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}
فوحد ولي الذين آمنوا وهو الله الواحد الأحد وجمع الذين كفروا لتعددهم وكثرتهم وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغي لكثرتها واختلافها ووحد النور وهو دينه الحق وطريقه المستقيم الذي لا طريق إليه سواه. أ هـ {بدائع الفوائد حـ 1 صـ 137}(8/289)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
" الوليّ " فعيل بمعنى : فاعل من قولهم : ولي فلان الشَّيء يليه ولاية ، فهو وَال وولى ، وأصله من الوَلْي الَّذي هو القُرْبُ؛ قال الهُذليُّ : [ الكامل ]
.......................... وَعَدَتْ عَوَادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ
ومنه يقال داري تلي دارها ، أي : تقرب منها ومنه يُقالُ للمحبّ المقارب ولي؛ لأَنَّهُ يقرب منك بالمحبَّةِ والنُّصرة ، ولا يفارقك ، ومنه الوالي؛ لأَنَّه يلي القوم بالتَّدبير والأمر والنّهي ، ومنه المولى ، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية : العداوة من عدا الشَّيء : إذا جاوزه ، فلأجل هذا كانت العَدَاوةُ خلاف الوِلاَية ومعنى قوله تبارك وتعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } ، أي : ناصرهم ومعينهم ، وقيل : مُحبهم.
وقيل : متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره.
وقال الحسنُ : ولي هدايتهم.
قوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } ، أي : من الكُفْرِ إلى الإيمان.
قال الواقدي : كلّ ما في القرآن من الظُلُماتِ ، والنور فالمرادُ منه : الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] فالمراد منه اللَّيل والنَّهار ، سُمي الكفر ظُلمة لالتباس طريقه ، وسُمي الإسلام نُوراً ، لوضوح طريقه.
وقال أَبو العبَّاس المُقْرىءُ " الظُّلُمَات " على خمسة أوجه :
الأول : " الظُّلُمَاتُ " الكفر كهذه الآية الكريمة.
الثاني : ظُلمة اللَّيلِ قال تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } يعني اللَّيل والنهار.
الثالث : الظُّلُمَات ظلمات البر والبحر والأهوال قال تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر } [ الأنعام : 63 ] أي من أهوالهما.
(8/290)
الرابع : " الظُّلُمَات " بطون الأُمَّهات ، قال تعالى : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [ الزمر : 6 ] يعني المشيمة والرحم والبطن.
الخامس : بطنُ الحُوتِ قال تعالى : { فنادى فِي الظلمات } [ الأنبياء : 87 ] أي في بطنِ الحوت.
قوله تعالى : { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } : " الذين " مبتدأ أولُ ، وَأَوْلياؤهم مبتدأ ثانٍ ، وَالطَّاغُوتُ : خبرهُ ، والجملةُ خبرُ الأَوَّلِ. وقرأ الحسنُ " الطَّوَاغيت " بالجمع ، وإن كان أصلُه مصدراً؛ لأنه لمَّا أطلق على المعبود مِنْ دُونِ الله اختلفَت أنواعهُ ، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضميرِ مَجْمُوعاً من قوله : " يُخْرِجونهم ".
قوله : " يُخْرِجونهم " هذه الجُملة وما قبلها من قوله : " يُخْرِجُهم " الأحسنُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ ، لأَنَّهُمَا خَرَجا مخرجَ التفسير للولاية ، ويجوزُ أن يكونَ " يُخْرِجُهم " خبراً ثانياً لقوله : " الله " وَأَنْ يكونَ حالاً من الضَّمير في " وليُّ " ، وكذلك " يُخْرِجُونَهُم " والعاملُ في الحالِ ما في معنى الطَّاغُوتِ ، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسيُّ في قوله تعالى : { نَزَّاعَةً للشوى } [ المعارج : 16 ] إنها حالٌ العاملُ فيها " لَظَى " وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى و" مَنْ " [ و] " إِلى " مُتعلِّقان بفعلي الإِخراج. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 333 ـ 335}. بتصرف.(8/291)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر ما له سبحانه وتعالى من الإحاطة والعظمة وأتبعه أمر الإيمان وتوليه حزبه وأمر الكفران وخذلانه أهله أخذ يدل على ذلك بقصة المحاج للخليل والمار على القرية مذكراً بقصة الذين قال لهم موتوا ثم أحياهم في سياق التعجيب من تلك الجرأة - قال الحرالي : ولما كان ما أظهره الحق في آية عظمته وما اتصل بها في خاصة عباده اختص هذا الخطاب بالنبي صلى الله عليه وسلم لعلو مفهوم مغزاه عمن دونه ،
انتهى - فقال تعالى : {ألم تر} أي تعلم بما نخبرك به علماً هو عندك كالمشاهدة لما لك من كمال البصيرة وبما أودعناه فيك من المعاني المنيرة.
ولما كان هذا المحاج بعيداً من الصواب كثيف الحجاب أشار إلى بعده بحرف الغاية فقال : {إلى الذي حآج إبراهيم} أي الذي هو أبو العرب وهم أحق الناس بالاقتداء به {في ربه} الضمير يصح أن يعود على كل منهما أي فيما يختص به خالقه المربي له المحسن إليه بعد وضوح هذه الأدلة وقيام هذه البراهين إشارة إلى أنه سبحانه أوضح على لسان كل نبي أمره وبين عظمته وقدره مع أنه ركز ذلك في جميع الفطر وقادها إلى بحور جلاله بأدنى نظر فكأن نمرود المحاج للخليل ممن أخرجته الشياطين من النور إلى الظلمات ،
ولما كان ذلك أمراً باهراً معجباً بين أن علته الكبر الذي أشقى إبليس فقال : {أن} أي لأجل أن {آتاه الله} أي الملك الأعلى بفيض فضله {الملك} الفاني في الدنيا الدنيئة ،(8/292)
فجعل موضع ما يجب عليه من شكر من ملكه ذلك محاجته فيه وكبره رغم عليه ،
وعرفه إشارة إلى كماله بالنسبة إلى الآدميين بالحكم على جميع الأرض.
قال الحرالي : وفي إشعاره أن الملك فتنة وبلاء على من أوتيه - انتهى.
فتكبر بما خوله الله فيه على عباد الله وهم يطيعونه لما مكّن الله له من الأسباب إلى أن رسخت قدمه في الكبر المختص بالملك الأعظم مالك الملك ومبيد الملوك فظن جهلاً أنه أهل له. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 503}
وقال أبو حيان :
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى : لما أخبر أنه ولي الذين آمنوا ، وأخبر : أن الكفار أولياؤهم الطاغوت ، ذكر هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجه ، وانه ناظر ذلك الكافر فغلبه وقطعه ، إذ كان الله وليه ، وانقطع ذلك الكافر وبهت إذ كان وليه هو الطاغوت : { ألا إن حزب الله هم الغالبون } { ألا إن حزب الله هم المفلحون } فصارت هذه القصة مثلاً للمؤمن والكافر اللذين تقدّم ذكرهما. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 297}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا قصصاً ثلاثة : الأولى : منها في بيان إثبات العلم بالصّانع ، والثانية والثالثة : في إثبات الحشر والنشر والبعث ، والقصة الأولى مناظرة إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع ملك زمانه وهي هذه الآية التي نحن في تفسيرها فنقول :
أما قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ} فهي كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها ، ولفظها لفظ الاستفهام وهي كما يقال : ألم تر إلى فلان كيف يصنع ، معناه : هل رأيت كفلان في صنعه كذا.(8/293)
أما قوله : {إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ} فقال مجاهد : هو نمروذ بن كنعان ، وهو أول من تجبر وادعى الربوبية ، واختلفوا في وقت هذه المحاجة قيل : إنه عند كسر الأصنام قبل الإلقاء في النار عن مقاتل ، وقيل : بعد إلقائه في النار ، والمحاجة المغالبة ، يقال : حاججته فحججته ، أي غالبته فغلبته ، والضمير في قوله {فِى رِبّهِ} يحتمل أن يعود إلى إبراهيم ، ويحتمل أن يرجع إلى الطاعن ، والأول أظهر ، كما قال : {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى الله} [ الأنعام : 80 ] والمعنى وحاجه قومه في ربه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 19 ـ 20}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}
هو النُّمْروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح مِلك زمانه وصاحبُ النار والبَعُوضَة! هذا قول ابن عباس ومجاهد وقَتادة والرّبيع والسُّدِّي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم.
وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البَعُوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام ، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة ؛ فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عَتيدَة لذلك ، فبقي في البلاء أربعين يوماً.
قال ابن جُريج : هو أوّل ملِك في الأرض.
قال ابن عطية : وهذا مردود.
وقال قتادة : هو أوّل من تجبّر وهو صاحب الصَّرْح ببَابِلَ.
وقيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ؛ وهو أحد الكافرينْ ؛ والآخر بُخْتَنَصَّر.
وقيل : إن الذي حاجّ إبراهيم نمروذ بن فالخ بن شالخ بن أرفخشد بن سام ؛ حكى جميعه ابن عطية.
وحكى السهيليّ أنه النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وكان ملكاً على السواد وكان ملّكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق واسمه بيوراسب بن أندراست وكان ملك الأقاليم كلها ، وهو الذي قتله أفريدون بن أثفيان ؛ وفيه يقول حبيب :
(8/294)
وكأنه الضّحّاك من فَتَكاتهِ . . .
في العالمين وأنْتَ أفْرِيدُونُ
وكان الضحاك طاغياً جبّاراً ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا.
وهو أوّل من صلب وأوّل من قطع الأيدي والأرجل ، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى "كوشا" أو نحو هذا الاسم ، وله ابن يسمى نمروذ الأصغر.
وكان ملك نمروذ الأصغر عاماً واحداً ، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 284}
قال ابن عاشور :
والذي حَاجّ إبرهيم كافر لا محالة لقوله : { فبهت الذي كفر } ، وقد قيل : إنّه نمرودُ بن فالخ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن كوش بن حام بن نوح ، فيكون أخا ( رَعو ) جدِّ إبراهيم.
والذي يُعتمد أنّه ملك جبّار ، كان ملكاً في بابل ، وأنّه الذي بنى مدينة بابل ، وبنى الصرح الذي في بابل ، واسمه نمرُود بالدال المهملة في آخره ويقال بالذال المعجمة ، ولم تتعرّض كتب اليهود لهذه القصة وهي في المرويات. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 32}
فائدة
قال أبو حيان :
في : ربه ، يحتمل أن يعود الضمير على ابراهيم ، وأن يعود على النمروذ ، والظاهر الأول. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 298}
فصل
قال القرطبى :
وفي قصص هذه المحاجّة روايتان : إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها ؛ فلما رجعوا قال لهم : أتعبدون ما تنحتون ؟ فقالوا : فمن تعبد ؟ قال : أعبد ( ربي ) الذي يُحْيي ويُمِيت.
وقال بعضهم : إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه ، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ؛ فدخل إبراهيم فلم يسجد له ، فقال : مالك لا تسجد لي! قال : أنا لا أسجد إلا لِرَبِّي.
فقال له نمروذ : من ربك! ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت.
وذكر زيد بن أسلم أن النمروذ هذا قعد يأمر الناس بالمِيَرة ، فكلما جاء قوم يقول : من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون أنت ؛ فيقول : مِيروهم.
(8/295)
وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار فقال له : من ربك وإلهك ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ؛ فلما سمعها نمروذ قال : أنا أُحيي وأُميت ؛ فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبُهِتَ الذي كفر ، وقال لا تَمِيروه ؛ فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء فمرّ على كَثِيبِ رملٍ كالدقيق فقال في نفسه : لو ملأت غِرَارتيّ من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أُنظر لهم ، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغِرارتين ونام هو من الإعْيَاء ؛ فقالت امرأته : لو صنعتُ له طعاماً يجده حاضراً إذا انتبه ، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحُوَّارَى فخبزتْه ، فلما قام وضعته بين يديه فقال : من أين هذا ؟ فقالت : من الدقيق الذي سُقتَ.
فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك.
قلت : وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال : انطلق إبراهيم النبيّ عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام ، فمرّ بسِهْلَة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا : ما هذا ؟ فقال : حنطة حمراء ؛ ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء ، قال : وكان إذا زرع منها شيئاً جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حَبّاً متراكباً.
وقال الرّبيع وغيره في هذا القصص : إن النمروذ لما قال أنا أُحيي وأُميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال : قد أحييت هذا وأمت هذا ؛ فلما ردّ عليه بأمر الشمس بُهِتَ.
وروي في الخبر : أن الله تعالى قال : وعزَّتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك.
ثم أمر نمروذ بإبراهيم فأُلقِيَ في النار ، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة ، فأنجاه الله من النار ، على ما يأتي.
وقال السدي : إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه وقال له : من ربك ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت.
(8/296)
قال النمروذ : أنا أُحيي وأُميت ، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتاً ولا يطعمون شيئاً ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا.
فعارضه إبراهيم بالشمس فبُهِت. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 284 ـ 286}
قوله تعالى : {أَنْ آتاه الله الملك}
قال الآلوسى :
{ أنٍ آتاه الله الملك } أي لأن آتاه الله تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام وهو مطرد في أن ، وإن وليس هناك مفعولاً لأجله منصوب لعدم اتحاد الفاعل ، والتعليل فيه على وجهين : إما أن إيتاء الملك حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما ، وإما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة موضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول : العلة تحقيقية ، وعلى الثاني : تهكمية كما تقول : عاداني فلان لأني أحسنت إليه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 16}
وقال فى الميزان :
قوله تعالى : {أن آتاه الله الملك} ، ظاهر السياق : أنه من قبيل قول القائل : أساء إلى فلان لأني أحسنت إليه يريد : أن إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلى لكنه بدل الإحسان من الإساءة فأساء إلى ، وقولهم : واتق شر من أحسنت إليه ،
قال الشاعر : جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر *
وحسن فعل كما يجزى سنمار
فالجملة أعني قوله : أن آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضده للشكوى والاستعداء ونحوه ، فإن عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجة كان ينبغي أن يعلل بضد إنعام الله عليه بالملك ، لكن لما لم يتحقق من الله في حقه إلا الإحسان إليه وإيتائه الملك فوضع في موضع العلة فدل على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى : " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " القصص - 8 ، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.
وهناك نكتة أخرى
وهي : الدلالة على رداءة دعواه من رأس ، وذلك أنه إنما كان يدعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه ، فهو إنما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربه ، وأما هو في نفسه فلم يكن إلا واحدا من سواد الناس لا يعرف له وصف ، ولا يشار إليه بنعت ، ولهذا لم يذكر اسمه وعبر عنه بقوله : "الذي حاج إبراهيم في ربه" ، دلالة على حقارة شخصه وخسة أمره. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 352 }
فصل
قال الفخر :
أما قوله : {أَنْ آتاه الله الملك} فاعلم أن في الآية قولين
الأول : أن الهاء في آتاه عائد إلى إبراهيم ، يعني أن الله تعالى آتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم الملك ، واحتجوا على هذا القول بوجوه الأول : قوله تعالى : {فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم مُّلْكاً عَظِيماً} [ النساء : 54 ] أي سلطاناً بالنبوّة ، والقيام بدين الله تعالى والثاني : أنه تعالى لا يجوز أن يؤتي الملك الكفار ، ويدعي الربوبية لنفسه والثالث : أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب ، وإبراهيم أقرب المذكورين إلى هذا الضمير ، فوجب أن يكون هذا الضمير عائداً إليه والقول الثاني : وهو قول جمهور المفسرين : أن الضمير عائد إلى ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم.
وأجابوا عن الحجة الأولى بأن هذه الآية دالة على حصول الملك لآل إبراهيم ، وليس فيها دلالة على حصول الملك لإبراهيم عليه السلام.(8/297)
وعن الحجة الثانية بأن المراد من الملك هاهنا التمكن والقدرة والبسطة في الدنيا ، والحس يدل على أنه تعالى قد يعطي الكافر هذا المعنى ، وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى أعطاه الملك حال ما كان مؤمناً ، ثم أنه بعد ذلك كفر بالله تعالى.
وعن الحجة الثالثة بأن إبراهيم عليه السلام وإن كان أقرب المذكورين إلا أن الروايات الكثيرة واردة بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك ، فعود الضمير إليه أولى من هذه الجهة ، ثم احتج القائلون بهذا القول على مذهبهم من وجوه الأول : أن قوله تعالى : {أَنْ آتاه الله الملك} يحتمل تأويلات ثلاثة ، وكل واحد منها إنما يصح إذا قلنا : الضمير عائد إلى الملك لا إلى إبراهيم ، وأحد تلك التأويلات أن يكون المعنى حاج إبراهيم في ربه لأجل أن آتاه الله الملك ، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك ، ومعلوم أن هذا إنما يليق بالملك العاتي ، والتأويل الثاني أن يكون المعنى أنه جعل محاجته في ربه شكراً على أن آتاه ربه الملك ، كما يقال : عاداني فلان لأني أحسنت إليه ، يريد أنه عكس ما يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ، ونظيره قوله تعالى : {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [ الواقعة : 82 ] وهذا التأويل أيضاً لا يليق بالنبي فإنه يجب عليه إظهار المحاجة قبل حصول الملك وبعده
أما الملك العاتي فإنه لا يليق به إظهار هذا العتو الشديد إلا بعد أن يحصل الملك العظيم له ، فثبت أنه لا يستقيم لقوله {أَنْ آتاه الله الملك} معنى وتأويل إلا إذا حملناه على الملك العاتي.
الحجة الثانية : أن المقصود من هذه الآية بيان كمال حال إبراهيم صلى الله عليه وسلم في إظهار الدعوة إلى الدين الحق ، ومتى كان الكافر سلطاناً مهيباً ، وإبراهيم ما كان ملكاً ، كان هذا المعنى أتم مما إذا كان إبراهيم ملكاً ، ولما كان الكافر ملكاً ، فوجب المصير إلى ما ذكرنا.
(8/298)
الحجة الثانية : ما ذكره أبو بكر الأصم ، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لو كان هو الملك لما قدر الكافر أن يقتل أحد الرجلين ويستبقي الآخر ، بل كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم يمنعه منه أشد منع ، بل كان يجب أن يكون كالملجأ إلى أن لا يفعل ذلك ، قال القاضي هذا الاستدلال ضعيف ، لأنه من المحتمل أن يقال : إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان ملكاً وسلطاناً في الدين والتمكن من إظهار المعجزات ، وذلك الكافر كان ملكاً مسلطاً قادراً على الظلم ، فلهذا السبب أمكنه قتل أحد الرجلين ، وأيضاً فيجوز أن يقال إنما قتل أحد الرجلين قوداً ، وكان الاختيار إليه ، واستبقى الآخر ، إما لأنه لا قتل عليه أو بذل الدية واستبقاه.
وأيضاً قوله {أنا أحيي وأميت} خبر ووعد ، ولا دليل في القرآن على أنه فعله ، فهذا ما يتعلق بهذه المسألة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 19 ـ 20 ـ 21}
سؤال : فإن قلت : كيف جاز أن يؤتي الله الملك الكافر ؟
قلت : فيه قولان : آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع ، وأما التغليب والتسليط فلا ، وقيل : ملكة امتحاناً لعباده. انتهى. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 333}
قال أبو حيان :
وفيه نزعة اعتزالية ، وهو قوله : وأما التغليب والتسليط فلا ، لأنه عندهم هو الذي تغلب وتسلط ، فالتغليب والتسليط فعله لا فعل الله عندهم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 299}
فصل
قال القرطبى :
هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر مَلِكاً إذا آتاه الله المُلْك والعِزّ والرِّفعة في الدنيا ، وتدلّ على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة.
وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمّله ؛ قال الله تعالى : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ البقرة : 111 ].
{ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } [ يونس : 68 ] أي من حجة.
وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه وردّه عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة "الأنبياء" وغيرها.(8/299)
وقال في قصة نوح عليه السلام : { قَالُواْ يا نوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [ هود : 32 ] الآياتِ إلى قوله : { وَأَنَاْ بريء مِّمَّا تُجْرَمُونَ } [ هود : 35 ].
وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي.
فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدِّين ؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل.
وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهَلَهُم بعد الحجة ، على ما يأتي بيانه في "آل عمران".
وتحَاجّ آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة.
وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السّقِيفَة وتدافعوا وتقرّروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله ، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردّة ، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده.
وفي قول الله عز وجل : { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } [ آل عمران : 66 ] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر.
قال المُزنِيّ صاحب الشافعيّ : ومِن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يُقبل منها ما تبيّن.
وقالوا : لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف ، وإلاّ فهو مِرَاءٌ ومكابرة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 286 ـ 287}
فائدة
قال القرطبى :
ذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز ، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة ، وفَزِع نمروذ إلى المجاز ومَوّه على قومه ؛ فسلّم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه { فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق ؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 286}
(8/300)
فائدة
قال الجصاص :
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } الْآيَةَ.
قَالَ رحمه الله :
إنَّ إيتَاءَ اللَّهِ الْمُلْكَ لِلْكَافِرِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَاتِّسَاعِ الْحَالِ ، وَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ بِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا } فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْمُلْكِ جَائِزٌ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكَافِرَ ، وَأَمَّا الْمُلْكُ الَّذِي هُوَ تَمْلِيكُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَدْبِيرُ أُمُورِ النَّاسِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى وَزَوَاجِرَهُ إنَّمَا هِيَ اسْتِصْلَاحٌ لِلْخَلْقِ فَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِصْلَاحُهُمْ بِمَنْ هُوَ عَلَى الْفَسَادِ مُجَانِبٌ لِلصَّلَاحِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمِنَ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ عَلَى أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَأُمُورِ دِينِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى : { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 169}(8/301)
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما أخبر سبحانه وتعالى بمحاجته بين ما هي تقريراً لآية {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [ البقرة : 243 ] دلالة على البعث ليوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة فقال : {إذ} أي حاجه حين {قال إبراهيم ربي} أي الذي أحسن إليّ بخلقي وإدامة الهداية لي {الذي يحيي ويميت} أي وحده ،
وهذه العبارة تدل على تقدم كلام في هذا وادعاء أحد لمشاركة في هذه الصفة.
ولما كان كأنه قيل : هذا أمر ظاهر مجمع عليه فما ذا الذي يحاج المحاج فيه ؟ أجيب بقوله : {قال} أي ذلك المحاج بجرأة وعدم تأمل لما ألفه من ذل الناس له وطواعيتهم لجبروته {أنا} أي أيضاً {أحيي وأميت} بأن أمُنَّ على من استحق القتل وأقتل من لا يستحق القتل.
فلما رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قد اجترأ على عظيم وأن محاجته في نفس الإحياء ربما خفيت أو طالت رأى أن يعجل إبهاته مع بيان حقارته بما هو أجلى من ذلك ،
(8/302)
وفيه أنه دون ما ادعاه بمراتب لأن الإحياء إفاضة الروح على صورة بعد إيجادها من العدم بأن {قال إبراهيم} وقال الحرالي : ولما كان من حسن الاحتجاج ترك المراء بمتابعة الحجة الملبسة كما قال تعالى {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً} [ الكهف : 53 ] نقل المحاج من الحجة الواقعة في الأنفس إلى الحجة الواقعة في الآفاق بأعظم كواكبها الشمس {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [ فصلت : 53 ] ففي ظاهر الاحتجاج انتقال وفي طيه تقرير الأول لأن الروح شمس البدن فكأنه ضرب مثل من حيث إن الإحياء إنما هو أن يؤتى بشمس الروح من حيث غربت فكان في ظاهر واستقبال حجة قاطعة باطنه تتميم للحجة الأولى قال تعالى : {فإن} بالفاء الرابطة بين الكلامين إشعاراً لتتمة الحجة الأولى بالحجة الثانية - انتهى.
أي تسبب عن دعواك هذه أو أقول لك : إن {الله} بما له من العظمة والجلال باستجماع صفات الكمال {يأتي بالشمس} أي وهو الذي أوجدها {من المشرق} أي في كل يوم من قبل أن توجد أنت بدهور {فأت بها} أنت {من المغرب} ولو يوماً واحداً.
قال الحرالي : إظهاراً لمرجع العالم بكليته إلى واحد ،
وأن قيوم الإنسان في الإحياء والإماتة هو قيوم الآفاق في طلوع الشمس وغروبها ،
وفي لحنه إشعار بأن الله سبحانه وتعالى لا بد وأن يأتي بالشمس من المغرب ليكون في ذلك إظهار تصريفه لها حيث شاء حتى يطلعها من حيث غربت كما يطلع الروح من حيث قبضت ليكون طلوع الشمس من مغربها آية مقاربة قيام الساعة وطلوع الأرواح من أبدانها - انتهى.
{فبهت} قال الحرالي : من البهت وهو بقاء الشيء على حاله وصورته لا يتغير عنها لأمر يبهره وقعه أي فتسبب عن ذلك أنه بهت {الذي كفر} أي حصل له الكفر بتلك الدعوى التي لزمه بها إنكاره لاختصاصه سبحانه وتعالى بالقدرة على ذلك وادعاؤه لنفسه الشركة ،
(8/303)
فبين له الخليل عليه الصلاة والسلام بهذا المثال أنه عاجز عن تحويل صورة صورها الله سبحانه وتعالى ووضعها في جهة إلى غير تلك الجهة فكيف له بأن يوجد صورة من العدم فكيف ثم كيف بإفاضة الروح عليها فكيف بالروح الحساسة فكيف بالروح الناطقة! وسيأتي لهذا الشأن في سورة الشعراء مزيد بيان ،
فيالله ما أعلى مقامات الأنبياء! وما أصفى بصائرهم! وما أسمى درجاتهم وأزكى عناصرهم! عليهم أجمعين مني أعظم الصلاة والسلام وأعلى التحية والإكرام.
وقال الحرالي : فعرفه أي في قوله : {كفر} بوصفه من حيث دخل عليه البهت منه - انتهى.
أي لأنه ستر ما يعلمه من عجز نفسه وقدرة خالقه ،
فكشف سبحانه وتعالى بلسان خليله صلى الله عليه وسلم الستر الذي أرخاه كشفاً واضحاً وهتكه بعظيم البيان هتكاً فاضحاً.
ولما كان التقدير : لأنه ظلم في ادعائه ذلك وفي الوجه الذي ادعى ذلك بسبه من قتل البريء وترك المجترىء ،
قال سبحانه وتعالى : {والله} أي الذي لا أمر لأحد معه {لا يهدي القوم} أي الذين أعطاهم قوة المقاومة للأمور {الظالمين} عامة لوضعهم الأشياء بإرادته وتقديره في غير مواضعها ،
لأنه أظلم قلوبهم فجعلها أحلك من الليل الحالك فلم يبق لهم ذلك وجهاً ثابتاً يستمسكون به ،
فأين منهم الهداية وقد صاروا بمراحل عن مواطن أهل العناية! وقصر فعل الهداية لإفادة العموم ،
قال الإمام : فاختصر اللفظ إفادة لزيادة المعنى وهو من اللطائف القرآنية. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 503 ـ 505}
قال الفخر :
(8/304)
الظاهر أن هذا جواب سؤال سابق غير مذكور ، وذلك لأن من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا للدعوة ، والظاهر أنه متى ادعى الرسالة ، فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلها ، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما قال : {إِنّى رَسُولُ رَبِّ العالمين} [ الزخرف : 46 ] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} [ الشعراء : 23 ] فاحتج موسى عليه السلام على إثبات الإلهية بقوله {رَبّ السموات والأرض} فكذا هاهنا الظاهر أن إبراهيم ادعى الرسالة ، فقال نمروذ : من ربك ؟ فقال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، إلا أن تلك المقدمة حذفت ، لأن الواقعة تدل عليها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 21}
قال أبو حيان :
وفي قول إبراهيم : { ربي الذي يحيي ويميت } تقوية لقول من قال إن الضمير في قوله : في ربه ، عائد على إبراهيم.
و { ربي الذي يحيي ويميت } ، مبتدأ وخبر ، وفيه إشارة إلى أنه هو الذي أوجد الكافر ويحييه ويميته ، كأنه قال : ربي الذي يحيي ويميت هو متصرّف فيك وفي أشباهك بما لا تقدر عليه أنت ولا أشباهك من هذين الوصفين العظميين المشاهدين للعالم اللذين لا ينفع فيهما حيل الحكماء ولا طب الأطباء ، وفيه إشارة أيضاً إلى المبدأ والمعاد وفي قوله : { ربي الذي يحيي ويميت } دليل على الاختصاص لأنهم قد ذكروا أن الخبر ، إذا كان بمثل هذا ، دل على الاختصاص ، فتقول : زيد الذي يصنع كذا ، أي : المختص بالصنع. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 299}
فائدة
قال ابن عاشور :
وفي تقديم الاستدلال بخلق الحياة إدماج لإثبات البعث لأنّ الذي حاجّ إبراهيم كان من عبدة الأصنام ، وهم ينكرون البعث.
وذلك موضع العِبرة من سياق الآية في القرآن على مسامع أهل الشرك ، ثم أعقبه بدلالة الأمانة ، فإنّه لا يستطيع تنهية حياة الحي ، ففي الإحياء والأمانة دلالة على أنّهما من فعل فاعل غير البشر ، فالله هو الذي يحيي ويميت.
(8/305)
فالله هو الباقي دون غيره الذين لا حياة لهم أصلاً كالأصنام إذْ لا يُعطون الحياة غيرَهم وهم فاقدوها ، ودون من لا يدفع الموت على نفسه مثل هذا الذي حاجّ إبراهيم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 33}
فصل
قال الفخر :
دليل إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة ، وذلك لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين ، والأحياء والإماتة كذلك ، لأن الخلق عاجزون عنهما ، والعلم بعد الاختيار ضروري ، فلا بد من مؤثر آخر غير هؤلاء القادرين الذين تراهم ، وذلك المؤثر إما أن يكون موجباً أو مختاراً ، والأول : باطل ، لأنه يلزم من دوامه دوام الأثر ، فكان يجب أن لا يتبدل الأحياء بالاماتة ، وأن لا تتبدل الاماتة بالأحياء ، والثاني : وهو أنا نرى في الحيوان أعضاء مختلفة في الشكل والصفة والطبيعة والخاصية ، وتأثير المؤثر الموجب بالذات لا يكون كذلك فعلمنا أنه لا بد في الأحياء والاماتة من وجود آخر يؤثر على سبيل القدرة ، والاختيار في إحياء هذه الحيوانات وفي إماتتها ، وذلك هو الله سبحانه وتعالى ، وهو دليل متين قوي ذكره الله سبحانه وتعالى في مواضع في كتابه كقوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [ المؤمنون : 12 ] إلى آخره ، وقوله {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} [ التين : 4 ، 5 ] وقال تعالى : {الذى خَلَقَ الموت والحياة} [ الملك : 2 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 21}
(8/306)
سؤال : لقائل أن يقول : إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منها قوله تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [ البقرة : 28 ] وقال : {الذى خَلَقَ الموت والحياة} [ الملك : 2 ] وحكي عن إبراهيم أنه قال في ثنائه على الله تعالى : {والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} [ الشعراء : 81 ] فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت ، حيث قال : {رَبّيَ الذى يُحْىِ وَيُمِيتُ }.
والجواب : لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى وجب أن يكون الدليل في غاية الوضوح ، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر ، واطلاع الإنسان عليها أتم ، فلا جرم وجب تقديم الحياة هاهنا في الذكر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 21 ـ 22}
قوله تعالى : {أنا أحيي وأميت}
فصل
قال الفخر :
(8/307)
يروى أن إبراهيم عليه السلام لما احتج بتلك الحجة ، دعا ذلك الملك الكافر شخصين ، وقتل أحدهما ، واستبقى الآخر ، وقال : أنا أيضاً أحيي وأميت ، هذا هو المنقول في التفسير ، وعندي أنه بعيد ، وذلك لأن الظاهر من حال إبراهيم أنه شرح حقيقة الأحياء وحقيقة الإماتة على الوجه الذي لخصناه في الاستدلال ، ومتى شرحه على ذلك الوجه امتنع أن يشتبه على العاقل الإماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ، ويبعد في الجمع العظيم أن يكونوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق ، والمراد من الآية والله أعلم شيء آخر ، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما احتج بالإحياء والإماتة من الله قال المنكر ، تدعى الإحياء والإماتة من الله ابتداء من غير واسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية ، أو تدعى صدور الإحياء والإماتة من الله تعالى بواسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية ، أما الأول : فلا سبيل إليه ، وأما الثاني : فلا يدل على المقصود لأن الواحد منا يقدر على الإحياء والإماتة بواسطة سائر الأسباب ، فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية ، وتناول السم قد يفضي إلى الموت ، فلما ذكر نمروذ هذا السؤال على هذا الوجه أجاب إبراهيم عليه السلام بأن قال : هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله تعالى بواسطة الاتصالات الفلكية إلا أنه لا بد لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مدبر ، فإذا كان المدبر لتلك الحركات الفلكية هو الله تعالى ، كان الإحياء والإماتة الحاصلان بواسطة تلك الحركات الفلكية أيضاً من الله تعالى ، وأما الإحياء والإماتة الصادران على البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية فليست كذلك ، لأنه لا قدرة للبشر على الاتصالات الفلكية ، فظهر الفرق.
(8/308)
وإذا عرفت هذا فقوله {إِنَّ الله يَأْتِ بالشمس مِنَ المشرق} ليس دليلاً آخر ، بل تمام الدليل الأول : ومعناه : أنه وإن كان الإحياء والإماتة من الله بواسطة حركات الأفلاك ، إلا أن حركات الأفلاك من الله فكان الإحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى ، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب السماوية والأرضية إلا أن الأسباب ليست واقعة بقدرته ، فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرين عن البشر ليست على ذلك الوجه ، وأنه لا يصلح نقضاً عليه ، فهذا هو الذي أعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة ، لا ما هو المشهور عند الكل ، والله أعلم بحقيقة الحال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 22}
قوله تعالى : {قَالَ إبراهيم فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب}
قال الآلوسى :
وإنما أتى في الجملة الثانية بالاسم الكريم ولم يؤت بعنوان الربوبية كما أتى بها في الجملة الأولى بأن يقال : إن ربي ليكون في مقابلة أنا في ذلك القول مع ما فيه من الدلالة على ربوبيته تعالى له عليه السلام ولذلك المارد عليه اللعنة ففيه ترق عما في تلك الجملة كالترقي من الأرض إلى السماء وهو في هذا المقام حسن حسن التأكيد بأن والأمر للتعجيز والفاء الأولى للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها ، والمعنى إذا ادعيت الإحياء والإماتة لله تعالى وأخطأت أنت في الفهم أو غالطت فمريح البال ومزيح الالتباس والأشكال ( إن الله يأتي بالشمس ) الخ.
والباء للتعدية و( من ) في الموضعين لابتداء الغاية متعلقة بما تقدمها من الفعل ، وقيل : متعلقة بمحذوف وقع حالا أي مسخرة أو منقادة. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 19}
فصل
قال الفخر : (8/309)
أما قوله تعالى : {قَالَ إبراهيم فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} فاعلم أن للناس في هذا المقام طريقين الأول : وهو طريقة أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمروذ أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه ، فقال : {إِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} فزعم أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل.
فإن قيل : هلا قال نمروذ : فليأت ربك بها من المغرب ؟ .
قلنا : الجواب من وجهين :
أحدهما : أن هذه المحاجة كانت مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالماً ، فعلم أن من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب
والثاني : أن الله خذله وأنساه إيراد هذه الشبهة نصرة لنبيه عليه السلام.
والطريق الثاني : وهو الذي قال به المحققون : إن هذا ما كان انتقالاً من دليل إلى دليل آخر بل الدليل واحد في الموضعين وهو أنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها فلا بد من قادر آخر يتولى إحداثها وهو الله سبحانه وتعالى ، ثم إن قولنا : نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها له أمثلة منها : الإحياء ، والإماتة ، ومنها السحاب ، والرعد ، والبرق ، ومنها حركات الأفلاك ، والكواكب ، والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل آخر ، لكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً فله أن ينتقل من ذلك المثال إلى مثال آخر ، فكان ما فعله إبراهيم من باب ما يكون الدليل واحد إلا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر ، وليس من باب ما يقع الانتقال من دليل إلى دليل آخر ، وهذا الوجه أحسن من الأول وأليق بكلام أهل التحقيق منه ،
والإشكال عليهما من وجوه :
(8/310)
الإشكال الأول : أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ، ووقعت تلك الشبهة في الأسماع ، وجب على المحق القادر على الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول ، فلما طعن الملك الكافر في الدليل الأول ، أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة واجباً مضيقاً ، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب.
والإشكال الثاني : أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال ، فإذا ترك المحق الكلام الأول وانتقل إلى كلام آخر ، أوهم أن كلامه الأول كان ضعيفاً ساقطاً ، وأنه ما كان عالماً بضعفه ، وأن ذلك المبطل علم وجه ضعفه وكونه ساقطاً ، وأنه كأنه عالماً بضعفه فنبه عليه ، وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز.
والإشكال الثالث : وهو أنه وإن كان يحسن الانتقال من دليل إلى دليل ، أو من مثال إلى مثال ، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب ، وهاهنا ليس الأمر كذلك ، لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه ، وأما جنس تحريك الأجسام ، فللخلق قدرة عليه ، ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة أعظم من السموات ، وأنه هو الذي يكون محركاً للسموات ، وعلى هذا التقدير الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قوياً.
(8/311)
والإشكال الرابع : أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه وذلك لأنا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبديلات واختلافات والتبدل قوي الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر ، أما الشمس فلا نرى في ذاتها تبدلاً ، ولا في صفاتها تبدلاً ، ولا في منهج حركاتها تبدلاً ألبتة ، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى ، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأقوى الأجلى إلى الأخفى الأضعف ، وأنه لا يجوز.
(8/312)
الإشكال الخامس : أن نمروذ لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تعالى بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول : طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب ، وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك فقالوا : إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن تطلع الشمس من المغرب ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب ، فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب ، إلا أنه يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب ، ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلاً على وجود الصانع ، وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعاً كما صار دليله الأول ضائعاً ، وأيضاً فما الدليل الذي حمل إبراهيم عليه السلام على أن ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك والتزم الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال إلى تمسك بدليل لا يمكنه تمشيته إلا بالتزام طلوع الشمس من المغرب ، وبتقدير أن يأتي باطلاع الشمس من المغرب فإنه يضيع دليله الثاني كما ضاع الأول ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا يليق بأقل الناس علماً فضلاً عن أفضل العقلاء وأعلم العلماء ، فظهر بهذا أن هذا التفسير الذي أجمع المفسرون عليه ضعيف ، وأما الوجه الذي ذكرناه فلا يتوجه عليه شيء من هذه الإشكالات ، لأنا نقول : لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإحياء والإماتة أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء ، وهو أنك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطة ، فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلاً ، وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر ، فأجاب إبراهيم عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى بخلاف الخلق فإنه لا(8/313)
قدرة لهم على تحريكات الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم ، ومتى حملنا الكلام على هذا الوجه لم يكن شيء من المحذورات المذكورة لازماً عليه ، والله أعلم بحقيقة كلامه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 23 ـ 24}
قال ابن عرفة :
إن قلت : هلا قال نمرود : أَنا هو الَّذي يأتي بها من المشرق فليأت بها ربّك من المغرب ؟
قلت : إنه لا يقدر أن يقول ذلك لئلا تقوم عليه الحجة لأن الشمّس كانت تطلع من المشرق قبل أن يوجد نمرود.
وذكره ابن عطية فقال : إن ذوي الأسنان يكذبونه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 337}
وقال ابن الجوزى :
فإن قيل : لم انتقل إبراهيم إلى حجة أخرى ، وعدل عن نصرة الأولى ، فالجواب : أن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمراً على ضعف فهمه ، فإنه عارض اللفظ بمثله ، ونسي اختلاف الفعلين ، فانتقل إلى حجة أخرى ، قصداً لقطع المحاجّ ، لا عجزاً عن نصرة الأولى. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 308}
وقال السمرقندى :
فإن قيل : لِمَ لَمْ يثبت إبراهيم على الحجة الأولى ؟ وانتقل إلى حجة أخرى ؛ والانتقال في المناظرة من حجة إلى حجة غير محمود.
قيل له : الانتقال على ضربين :
انتقال محمود إذا كان بعد الإلزام ، وانتقال مذموم إذا كان قبل الإلزام.
وإبراهيم عليه السلام انتقل بعد الإلزام ، لأنه قد تبين له فساد قوله ، حيث قال له : إنك قد أحييت الحي ولم تحيي الميت.
وجواب آخر : إن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن للمناظرة ، وإنما كان قصده إظهار الحجة ، فترك مناظرته في الإحياء والإماتة على ترك الإطالة ، وأخذ بالاحتجاج بالحجة المسكتة ، ولأن الكافر هو الذي ترك حدّ النظر ، حيث لم يسأل عما قال له إبراهيم ، ولكنه اشتغل بالجواب عن ذات نفسه ، حيث قال : أنا أحيي وأميت. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 196}(8/314)
لطيفة
قال الجصاص :
وَفِي حِجَاجِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا أَلْطَفُ دَلِيلٍ وَأَوْضَحُ بُرْهَانٍ لِمَنْ عَرَفَ مَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا صَابِئِينَ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَلَمْ يَكُونُوا يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ كُلَّهَا فِي حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَهُمْ الشَّمْسُ وَيُسَمُّونَهَا وَسَائِرَ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً وَالشَّمْسُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إلَهٌ ، وَكَانُوا لَا يَعْتَرِفُونَ بِالْبَارِي جَلَّ وَعَزَّ وَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ وَسَائِرُ مَنْ يَعْرِفُ مَسِيرَ الْكَوَاكِبِ أَنَّ لَهَا وَلِسَائِرِ الْكَوَاكِبِ حَرَكَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا مِنْ الْمَغْرِبِ إلَى الْمَشْرِقِ وَهِيَ حَرَكَتُهَا الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا لِنَفْسِهَا ، وَالْأُخْرَى تَحْرِيكُ الْفُلْكِ لَهَا مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ وَبِهَذِهِ الْحَرَكَةُ تَدُورُ عَلَيْنَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً ، وَهَذَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ مَسِيرَهَا ؛ فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إنَّك تَعْتَرِفُ أَنَّ الشَّمْسَ الَّتِي تَعْبُدُهَا وَتُسَمِّيهَا إلَهًا لَهَا حَرَكَةُ قَسْرٍ لَيْسَ هِيَ حَرَكَةَ نَفْسِهَا بَلْ هِيَ بِتَحْرِيكِ غَيْرِهَا لَهَا يُحَرِّكُهَا مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ ، وَاَلَّذِي أَدْعُوك إلَى عِبَادَتِهِ هُوَ فَاعِلُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ فِي الشَّمْسِ ، وَلَوْ كَانَتْ إلَهًا لَمَا كَانَتْ مَقْسُورَةً وَلَا(8/315)
مُجْبَرَةً.
فَلَمْ يُمْكِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ دَفْعَ هَذِهِ الْحِجَاجِ بِشُبْهَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ إلَّا قَوْلَهُ : { حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } وَهَاتَانِ الْحَرَكَتَانِ الْمُتَضَادَّتَانِ لِلشَّمْسِ وَلِسَائِرِ الْكَوَاكِبِ لَا تُوجَدَانِ لَهَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ ذَلِكَ فِي جِسْمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَلَكِنَّهَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَتَخَلَّلَ إحْدَاهَا سُكُونٌ فَتُوجَدَ الْحَرَكَةُ الْأُخْرَى فِي وَقْتٍ لَا تُوجَدُ فِيهِ الْأُولَى. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 170 ـ 171}(8/316)
قوله تعالى : {فَبُهِتَ الذى كَفَرَ}
قال الآلوسى :
{ فَبُهِتَ الذى كَفَرَ } أي غلب وصار مبهوتاً منقطعاً عن الكلام متحيراً لاستيلاء الحجة عليه ، وقرىء ( بهت ) بفتح الباء وضم الهاء وبهت بفتح الأولى وكسر الثانية وهما لغتان والفعل فيهما لازم وبهت بفتحهما فيجوز أن يكون لازماً أيضاً ، و( الذي ) فاعله وأن يكون متعدياً وفاعله ضمير إبراهيم ، و( الذي ) مفعوله أي فغلب إبراهيم عليه السلام الكافر وأسكته وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 19}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَبُهِتَ الذى كَفَرَ} فالمعنى : فبقي مغلوباً لا يجد مقالاً ، ولا للمسألة جوابه ، وهو كقوله {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [ الأنبياء : 40 ] قال الواحدي ، وفيه ثلاث لغات : بهت الرجل فهو مبهوت ، وبهت وبهت ، قال عروة العذري :
فما هو إلا أن أراها فجاءة.. فأبهت حتى ما أكاد أجيب
أي أتحير وأسكت. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 24}
قوله تعالى {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين}
قال الفخر :
{والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} تأويله على قولنا ظاهر ، أما المعتزلة فقال القاضي : يحتمل وجوهاً : منها أنه لا يهديهم لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق كما يهدي المؤمن فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع.
وأقول : هذا ضعيف ، لأن قوله لا يهديهم للحجاج ، إنما يصح حيث يكون الحجاج موجوداً ولا حجاج على الكفر ، فكيف يصح أن يقال : إن الله تعالى لا يهديه إليه ، قال القاضي : ومنها أن يريد أنه لا يهديهم لزيادات الألطاف من حيث أنهم بالكفر والظلم سدوا على أنفسهم طريق الانتفاع به.(8/317)
وأقول : هذا أيضاً ضعيف ، لأن تلك الزيادات إذا كانت في حقهم ممتنعة عقلاً لم يصح أن يقال : إنه تعالى لا يهديهم ، كما لا يقال : إنه تعالى يجمع بين الضدين فلا يجمع بين الوجود والعدم قال القاضي : ومنها أنه تعالى لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا يهديهم إلى الجنة.
وأقول : هذا أيضاً ضعيف ، لأن المذكور هاهنا أمر الاستدلال وتحصيل المعرفة ولم يجر للجنة ذكر ، فيبعد صرف اللفظ إلى الجنة ، بل أقول : اللائق بسياق الآية أن يقال إنه تعالى لما بيّن أن الدليل كان قد بلغ في الظهور والحجة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عند سماعه إلا أن الله تعالى لما لم يقدر له الاهتداء لم ينفعه ذلك الدليل الظاهر ، ونظير هذا التفسير قوله {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [ الأنعام : 111 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 24 ـ 25}
وقال الماوردى :
{ واللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يعينهم على نصرة الظلم.
والثاني : لا يُخلِّصُهم من عقاب الظلم. ويحتمل الظلم هنا وجهين :
أحدهما : أنه الكفر خاصة.
والثاني : أنه التعدي من الحق إلى الباطل. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 330}
وقال أبو حيان :
{ والله لا يهدي القوم الظالمين } إخبار من الله تعالى بأن الظالم لا يهديه ، وظاهره العموم ، والمراد هداية خاصة ، أو ظالمون مخصوصون ، فما ذكر في الهداية الخاصة أنه لا يرشدهم في حجتهم ، وقيل : لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا إلى الجنة ، وقيل : لا يلطف بهم ولا يلهم ولا يوفق ، وخص الظالمون بمن يوافي ظالماً أي كافراً.(8/318)
والذي يظهر أن هذا إخبار من الله بأن من حكم عليه ، وقضى بأن يكون ظالماً أي كافراً وقدّر أن لا يسلم ، فإنه لا يمكن أن يقع هداية من الله له { أفمن حقت عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار }
ومناسبة هذه الآية بهذا الإخبار ظاهرة ، لأنه ذكر حال مدّع شركة الله في الإحياء والإماتة ، مموّهاً بما فعله أنه إحياء وإماتة ، ولا أحد أظلم ممن يدعي ذلك ، فأخبر الله تعالى : أن من كان بهذه الصفة من الظلم لا يهديه الله إلى اتباع الحق ، ومثل هذا محتوم له عدم الهداية ، مختوم له بالكفر ، لأن مثل هذه الدعوى ليست مما يلتبس على مدّعيها ، بل ذلك من باب الزندقة والفلسفة والسفسطة ، فمدّعيها إنما هو مكابر مخالف للعقل ، وقد منع الله هذا الكافر أن يدعي أنه هو الذي يأتي بالشمس من المشرق إذ من كابر في ادّعاء الإحياء والإماتة قد يكابر في ذلك ويدعيه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 301}
فائدة
قال ابن عاشور :
وإنّما انتفى هدي الله للقوم الظالمين لأنّ الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمّل من الحجج وإعمال النظر فيما فيه النفع ؛ إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 34}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
عَجَّل الحق سبحانه لأعدائه عقوبة الفرقة قبل أن يعاقبهم بالحرقة ، وهذه العقوبة أشد أثراً في التحقيق - لو كانت لهم عين البصيرة. وإن الحق سبحانه أخبر أن إبراهيم عليه السلام انتقل مع العدو اللعين من الحجة الصحيحة إلى أخرى ، أَوْضَحَ منها - لا لِخَلَلٍ في الحجة - ولكنْ لقصورٍ في فهم الكافر ، ومحكُّ مَنْ سُدَّتْ بصائره عن التحقيق تضييعُ الوقت بلا فائدة تُجدِي ، لا بمقدار ما يكون من الحاجة لأمرٍ لا بُدَّ منه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 200}(8/319)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { أَنْ آتَاهُ الله } فيه وجهان :
أظهرهما : أَنَّهُ مفعولٌ من أجله على حذفِ العِلّة ، أي : لأَنْ آتاه ، فحينئذٍ في محلِّ " أَنْ " الوجهان المشهوران ، أعني النَّصب ، أو الجرِّ ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِّ قبل " أَنْ " ؛ لأَنَّ المفعول مِنْ أجلهِ هنا نَقَّص شرطاً ، وهو عدمُ اتِّحادِ الفاعلِ ، وإنما حُذفت اللامُ ، لأَنَّ حرف الجرِّ يطَّرد حذفُهُ معها ، ومع أنَّ ، كما تقدَّم.
وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ وجهان :
أحدهما : أَنَّهُ من باب العكسِ في الكلام بمعنى : أنه وضعَ المُحاجَّة موضع الشُّكْر ، إذ كان مِنْ حقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْكِ ، ولكنَّهُ عَمِلَ على عكس القضية ، كقوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] ، وتقول : " عَادَاني فُلانٌ؛ لأني أَحسنت إليه " وهو باب بليغٌ.
والثاني : أَنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك؛ لأَنَّهُ أورثه الكِبْرَ وَالبَطَرَ ، فَنَشَأَ عنهما المُحاجَّةُ.
(8/320)
الوجه الثاني : أنَّ " أَنْ " ، وما في حيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزَّمانِ ، قال الزَّمخشريُّ رحمه الله " وَيَجُوزُ أن يكونَ التَّقديرُ : حاجَّ وقتَ أَنْ آتاهُ اللهُ ". وهذا الذي أجازه الزمخشريُّ فيه نظر؛ لأَنَّهُ إِنْ عنى أَنَّ ذلكَ على حذفِ مُضافٍ ففيه بُعْدٌ من جهةِ أَنَّ المحاجَّة لم تقع وقتَ إِيتاءِ اللهِ له المُلْك ، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الوقتِ ، فلا يُحْمَل على الظَّاهر ، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَت ابتداء إيتاءِ المُلْك ، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعت وقتَ وجود المُلْك ، وإن عنى أَنَّ " أَنْ " وما حيِّزها واقعةٌ موقع الظَّرف ، فقد نصَّ النَّحويون على منع ذلك وقالوا : لا يَنُوب عن الظَّرف الزَّماني إلا المصدرُ الصَّريحُ ، نحو : " أَتيتُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ " ولو قلت : " أَنْ يصيحَ الدِّيكُ " لم يَجز. كذا قاله أبو حيَّان قال شهاب الدين وفيه نظرٌ ، لأنه قال : " لا ينوبٌ عن الظَّرفِ إلا المصدرُ الصّريح " ، وهذا معارضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ " ما " المصدريةَ تنوبُ عن الزَّمانِ ، وليست بمصدرٍ صريحٍ.
والضمير في " آتاه " فيه وجهان :
(8/321)
أظهرهما : أَنْ يعودَ على " الَّذِي " ، وهو قول جمهور المفسرين وأَجاز المهدويُّ أن يعودَ على " إِبْرَاهِيم " ، أي : ملك النُّبُوَّة. قال ابن عطيَّة : " هذا تَحاملٌ من التَّأْوِيل " ، وقال أبو حيان : هذا قولُ المعتزلة ، قالوا : لأنَّ الله تعالى قال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] والمُلْك عهدٌ ، ولقوله تبارك وتعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ]. وعودُ الضَّمير إِلى أقرب مذكور واجب ، وأقرب مذكورٍ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأجيب عن الأَوَّل بأَنَّ الملك حصل لآل إبراهيم ، وليس فيها دلالةٌ على حصوله لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
وعن الثاني : بأن الذي حاج إبراهيم كان هو المَلِكُ ، فعود الضَّمير إليه أَوْلَى.
قوله : " إِذْ قَالَ " فيه أربعةُ أوجهٍ :
أظهرها : أَنَّهُ معمولٌ لحاجَّ.
والثاني : أن يكون معمولاً لآتاه ، ذكرهُ أبو البقاء. وفيه نظرٌ من حيثُ إنَّ وقت إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم ، { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } ، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الظَّرفِ كما تقدَّم.
والثالث : أن يكون بدلاً من { أَنْ آتَاهُ الله الملك } إذا جُعِلَ بمعنى الوقت ، أجازه الزَّمخشريّ بناءً منه على أَنَّ " أَنْ " واقعةٌ موقعَ الظَّرف ، وقد تقدَّم ضعفُهُ ، وأيضاً فإِنَّ الظّرفين مختلفان ، كما تقدَّم إلا بالتَّجوز المذكورِ.
(8/322)
وقال أبو البقاء رحمه الله " وَذَكَرَ بَعْضُهم أنه بَدَلٌ من " أَنْ آتَاهُ الملك " وليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ ، فلو كان بدلاً لكان غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل " إذ " بمعنى " أَنْ " المصدرية ، وقد جاء ذلك " انتهى. وهذا بناءً منه على أنَّ " أَنْ " مفعولٌ من أجله ، وليست واقعةً موقع الظَّرفِ ، أمَّا إِذَا كانت " أَنْ " واقعةٌ موقع الظرف فلا تكون بدل غلط ، بل بدلُ كلِّ من كُلِّ ، كما هو قول الزمخشري وفيه ما تقدَّم بجوابه ، مع أَنَّه يجوزُ أَنْ تكون بدلاً مِنْ " أَنْ آتاهُ " ، و" أَنْ آتَاهُ " مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ؛ لأَنَّ وقتَ القولِ لاتِّسَاعِهِ مُشتملٌ عليه وعلى غيره.
الرابع : أَنَّ العامِلَ فيه " تَرَ " منق وله : " أَلَمْ تَرَ " ذكره مكيٌّ رحمه الله تعالى ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الرُّؤية على كِلاَ المذكورين في نظيرها لم تكن في وقتِ قوله : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ }.
قوله : { الذي يُحْيِي } مبتدأٌ في محلِّ نصب بالقول.
{ قَالَ أَنَا أُحْيِي } مبتدأٌ ، وخبرٌ منصوب المحلِّ بالقول أيضاً. وأخبر عن " أَنَا " بالجملة الفعلية ، وعن " رَبّي " بالموصولِ بها؛ لأَنَّه في الإِخبار بالموصولِ يُفيد الاختصاص بالمُخبَرِ عنه بخلافِ الثاني ، فإِنَّهُ لم يدَّعِ لنفسه الخسيسة الخصوصية بذلك.
و " أَنَا " : ضميرٌ مرفوعٌ مُنفصلٌ ، والاسمُ منه " أَنَ " والألفُ زائدةٌ؛ لبيان الحركةِ في الوقفِ ، ولذلك حُذِفت وصلاً ، ومن العربِ مَنْ يثبتها مطلقاً ، فقيل : أُجريَ الوصلُ مجرى الوقف؛ قال القائل في ذلك : [ المتقارب ]
وَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالي القَوَا... فِي بَعْدَ المَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارا
وقال آخر : [ الوافر ]
(8/323)
أَنَا سَيْفُ فَاعْرِفُونِي... حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَاما
والصحيح أنه فيه لغتان ، إحداهما : لغةُ تميم ، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً ، وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإِنَّه قرأ بثبوت الألف وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } ، أو مفتوحةٍ نحو : { وَأَنَاْ أَوَّلُ } [ الأعراف : 143 ] ، واختلف عنه في المكسروة نحو : { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ } [ الشعراء : 115 ] ، وقرأ ابن عامرٍ : { لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف : 38 ] على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وهذا أحسنُ من توجيه مَنْ يَقُولُ " أُجْري الوصلُ مجرى الوَقْفِ ". واللُّغة الثانية : إثباتُها وَقْفاً وحَذفُها وَصْلاً ، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إِلاَّ ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل : بل " أَنَا " كلُّه ضمير.
وفيه لغاتٌ : " أَنا وأَنْ " - كلفظ أَنِ النَّاصبةِ - و" آن " ؛ وكأنه قَدَّم الألف على النون ، فصار " أانَ " ، قيل : إنَّ المراد به الزَّمان ، وقالوا : أَنَهْ ، وهي هاءُ السَّكْتِ ، لا بدلٌ من الألف؛ قال : " هكذا فَرْدِي أَنَهْ " ؛ وقال آخر : [ الرجز ]
إِنْ كُنْتُ أَدْرِي فَعَلَيَّ بَدَنَهْ... مِنْ كَثْرَةِ التَّخْلِيطِ أَنِّي مَنْ أَنَهْ
وإنما أثبت نافعٌ ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللُّغتين ، أو لأَنَّ النُّطقَ بالهمزِ عسرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ.
(8/324)
قوله : { فَإِنَّ الله } هذه الفاءُ جواب شرطٍ مقدَّر تقديره : قال إبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - إِنْ زعمتَ ، أو موَّهْتَ بذلك فإِنَّ اللهَ. ولو كانت الجملةُ محكيَّةً بالقول ، لما دخلت هذه الفاءُ ، بل كان تركيب الكلام : قال إبراهيم : إِنَّ اللهَ يَأْتِي ، وقال أبو البقاء رحمه الله : " دَخَلَتِ الفاءُ؛ إيذاناً بتعلُّق هذه الكلام بما قبلَه ، والمعنى : إذا ادَّعيت الإِحياءَ والإِماتة ، ولم تفهم ، فالحُجَّة أَنَّ الله تعالى يأتي ، هذا هو " المعنى " والباءُ في " بالشَّمْسِ " للتعديةِ ، تقول : أَتَتِ الشَّمْسُ ، وأَتَى اللهُ بها ، أي : أجاءها ، و" مِنَ المَشْرِقِ " و" مِنَ المَغْرِبِ " متعلِّقان بالفعلين قبلهما ، وأجاز أبو البقاء فيهما بعد أَنْ مَنع ذلك أن يكونا حالين ، وجعل التقدير : مُسخَّرةً أو منقادةً قال شهاب الدين - رحمه الله - : وليته استمر على منعه ذلك.
قوله : { فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } الجمهور : " بُهِتَ " مبنيّاً للمفعول ، والموصول مرفوعٌ به ، والفاعل في الأصل هو إبراهيم ، لأنه المناظر له ، ويحتمل أن يكون الفالع في الأصل ضمير المصدر المفهوم من " قَالَ " ، أي : فبهته قول إبراهيم ، وقرأ ابن السَّميفع : " فَبَهَتَ " بفتح الباء والهاء مبنيّاً للفاعل ، وهذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الفعل متعديّاً ، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، و" الَّذِي " هو المفعول ، أي : فبهت إبراهيم الكافر ، أي : غلبه في الحجَّة ، أو يكون الفاعل الموصول ، والمفعول محذوفٌ ، وهو إبراهيم ، أي : بهت الكافر إبراهيم ، أي : لمَّا انقطع عن الحجَّة بهته ، أي : سبَّه وقذفه حين انقطع ، ولم تكن له حيلةٌ.
(8/325)
والثاني : أن يكون لازماً ، والموصول فاعلٌ ، والمعنى معنى بهت ، فتتَّحد القراءتان ، أو بمعنى أتى بالبهتان ، وقرأ أبو حيوة : " فَبَهُتَ " بفتح الباء ، وضمِّ الهاء ، كظرف ، والفاعل الموصول ، وحكى الأخفش : فَبَهِتَ بكسر الهاء ، وهو قاصر أيضاً ، فيحصل فيه ثلاث لغاتٍ : بَهَت بفتحهما ، بَهُتَ بضم العين ، بَهِتَ بكسرها.
قال عروة العدويُّ : [ الطويل ]
فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً... فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
فالمفتوح يكون لازماً ومتعدياً ، قال تعالى : { فَتَبْهَتُهُمْ } [ الأنبياء : 40 ].
والبَهْتُ : التحيُّر ، والدَّهش ، وبَاهَتَهُ وَبَهَتَهُ واجهه بالكذب ، ومنه الحديث : " إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ " ، وذلك أن الكذب يحيِّر المكذوب عليه.
ومعنى الآية : أنَّه : بقي مغلوباً لا يجد مقالاً ، ولا للمسألة جواباً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 337 ـ 346}. بتصرف.(8/326)
قوله تعالى : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الإحياء والإماتة من أظهر آيات الربانية وأخصها بها أظهر سبحانه وتعالى الغيرة عليها تارة بإبهات المدعي للمشاركة ،
وتارة بإشهاد المستبعد في نفسه وغيره بفعل ربه ،
وتارة بإشهاد المسترشد في غيره بنفسه معبراً في كل منها بما اقتضاه حاله وأشعر به سؤاله ،
فعبر في الكافر بإلى إشارة إلى أنه في محل البعد عن المخاطب صلى الله عليه وسلم ،
وفي المتعجب بإسقاطها إسقاطاً لذلك البعد ،
وفي المسترشد المستطلع بإذ كما هي العادة المستمرة في أهل الصفاء والمحبة والوفاء فأتبع التعجيب من حال المحاجج التعجيب أيضاً من حال من استعظم إحياءه تعالى لتلك القرية.(8/327)
ولما كان معنى {ألم تر} هل رأيت لأن هل كما ذكر الرضي وغيره تختص مع كونها للاستفهام بأن تفيد فائدة النافي حتى جاز أن يجيء بعدها {إلا} قصداً للايجاب كقوله سبحانه تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [ الرحمن : 60 ] وقوله سبحانه وتعالى {هل هذا إلا بشر مثلكم} [ الأنبياء : 3 ] كان كأنه قيل : هل رأيت الذي حاج إبراهيم {أو} هل رأيت {كالذي} ويجوز أن يكون التقدير لأن أخبار الأولين إنما هي مواعظ لنا : أقومك كهذا المحاج لأعظم إبائهم فهم يقولون : إن الإحياء ليس على حقيقته بالبعث بعد الموت ،
أو هم كالذي {مر} قال الحرالي : من المرور وهو جعل الشيء على مسلك إلى غيره مع التفات إليه في سبيله {على قرية} وهي التي خرج منها الألوف أو بيت المقدس {وهي خاوية} أي متهدمة ساقطة جدرانها {على عروشها} أي سقوفها ،
أو خالية على بقاء سقوفها.
قال الحرالي : من الخوا وهو خلو الشيء عما شأنه أن يعينه حساً أو معنىً ،
والعروش جمع عرش من نحو معنى العريش وهو ما أقيم من البناء على حالة عجالة يدفع سورة الحر والبرد ولا يدفع جملتها كالكن المشيد ،
فكان المشيد في الحقيقة عريشاً لوهاء الدنيا بجملتها في عين الاستبصار - انتهى.
ولما كان كأنه قيل : ما الذي في حاله ذلك مما يعجب منه ؟ قيل : {قال أنى يحيي هذه} أي القرية {الله} أي الذي له الأمر كله {بعد موتها} أي بما صارت إليه من الخراب وذهاب الأهل فيعيدها إلى ما كانت عليه عامرة آهلة.
قال الحرالي : وفي لفظة " أنى " لشمول معناها لمعنى كيف وحيث ومتى استبعاده الإحياء في الكيف والمكان والزمان ،
ومنشأ هذا الاستبعاد إنما يطوق النفس من طلبها لمعرفة تكييف ما لا يصل إليه علمها - انتهى.
(8/328)
ولما كان هذا المستبعد قاصراً عن رتبة الخليل عليه الصلاة والسلام في التهيؤ للطمأنينة بل كان إيقانه على الكيفية متوقفاً في الحكمة على تركه في عالم الغيب المدة التي ضربت لبقائه ميتاً ليكون ذلك كالتخمير في الطين لتتهيأ نفسه لعلم ذلك والإيقان به قال : {فأماته} أي فتسبب عن ذلك أن أماته {الله} أي الذي لا كفوء له فمهما أراد كان لإيقانه على علم ذلك عناية من الله به {مائة} ولما كان المراد أن مدة موته كانت طويلة ليكون قد بلي فيها فتكون إعادته أمكن في القدرة على ما تستبعده العرب وأن ذلك الزمان كان حسناً طيباً لقبوله الإحياء والعمارة عبر عنه بما يدل على السعة فقال : {عام} حتى بلي حماره وحفظ طعامه وشرابه من التغير ليتحقق كمال القدرة بحفظ ما شأنه التغير وتغير ما شأنه البقاء وإعادة ما فني.
قال الحرالي : وخص المائة لكمالها في العد المثلث من الآحاد والعشرات وعشرها وتر الشفع لأن ما تم في الثالث كان ما زاد عليه تكراراً يجزىء عنه الثلاث {ثم بعثه} في بيانه إشعار بأن بدنه لم يتغير ولا فني فناء حماره حيث لم يكن ثم نشره والله سبحانه وتعالى أعلم كما قال {ثم إذا شاء أنشره} [ عبس : 22 ] - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 505 ـ 506}
فصل
قال الفخر :
اختلف النحويون في إدخال الكاف في قوله {أَوْ كالذى} وذكروا فيه ثلاثة أوجه
(8/329)
الأول : أن يكون قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم} [ البقرة : 258 ] في معنى ( أَلم تر كالذي حاج ابراهيم ) وتكون هذه الآية معطوفة عليه ، والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم ، أو كالذي مرّ على قرية ، فيكون هذا عطفاً على المعنى ، وهو قول الكسائي والفرّاء وأبي علي الفارسي ، وأكثر النحويين قالوا : ونظيره من القرآن قوله تعالى : {قُل لّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [ المؤمنون : 84 ، 85 ] ثم قال : {مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [ المؤمنون : 85 ، 86 ] فهذا عطف على المعنى لأن معناه : لمن السموات ؟ فقيل لله.
قال الشاعر :
معاوي إننا بشر فأسجح.. فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فحمل على المعنى وترك اللفظ.
والقول الثاني : وهو اختيار الأخفش : أن الكاف زائدة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج والذي مرّ على قرية.
والقول الثالث : وهو اختيار المبرد : أنا نضمر في الآية زيادة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، وألم تر إلى من كان كالذي مرّ على قرية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 25}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في الذي مرّ بالقرية ، فقال قوم : كان رجلاً كافراً شاكاً في البعث وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين من المعتزلة ، وقال الباقون : إنه كان مسلماً ، ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي : هو عزير ، وقال عطاء عن ابن عباس : هو أرمياء ، ثم من هؤلاء من قال : إن أرمياء هو الخضر عليه السلام ، وهو رجل من سبط هارون بن عمران عليهما السلام ، وهو قول محمد بن إسحاق ، وقال وهب بن منبه : إن أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عندما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة ، حجة من قال : إن هذا المار كان كافراً وجوه الأول : أن الله حكى عنه أنه قال : {أنى يحي هذه الله بعد موتها} وهذا كلام من يستبعد من الله الإحياء بعد الإماتة وذلك كفر.
(8/330)
فإن قيل : يجوز أن ذلك وقع منه قبل البلوغ.
قلنا : لو كان كذلك لم يجز من الله تعالى أن يعجب رسوله منه إذ الصبي لا يتعجب من شكه في مثل ذلك ، وهذه الحجة ضعيفة لاحتمال أن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشك في قدرة الله تعالى على ذلك ، بل كان بسبب إطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً وهذا كما أن الواحد منا يشير إلى جبل ، فيقول : متى يقلبه الله ذهباً ، أو ياقوتاً ، لا أن مراده منه الشك في قدرة الله تعالى ، بل على أن مراده منه أن ذلك لا يقع ولا يحصل في مطرد العادات ، فكذا هاهنا.
الوجه الثاني : قالوا : إنه تعالى قال في حقه {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} وهذا يدل على أنه قبل ذلك لم يكن ذلك التبين حاصلاً له وهذا أيضاً ضعيف لأن تبين الإحياء على سبيل المشاهدة ما كان حاصلاً له قبل ذلك ، فأما أن تبين ذلك على سبيل الاستدلال ما كان حاصلاً فهو ممنوع.
الوجه الثالث : أنه قال : {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} وهذا يدل على أن هذا العالم إنما حصل له في ذلك الوقت ، وأنه كان خالياً عن مثل ذلك العلم قبل ذلك الوقت ، وهذا أيضاً ضعيف لأن تلك المشاهدة لا شك أنها أفادت نوع توكيد وطمأنينة ووثوق ، وذلك القدر من التأكيد إنما حصل في ذلك الوقت ، وهذا لا يدل على أن أصل العلم ما كان حاصلاً قبل ذلك.
الوجه الرابع : لهم أن هذا المار كان كافراً لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد وهو ضعيف أيضاً ، لأن قبله وإن كان قصة نمروذ ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم ، فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم.
(8/331)
وحجة من قال : إنه كان مؤمناً وكان نبياً وجوه الأول : أن قوله {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} يدل على أنه كان عالماً بالله ، وعلى أنه كان عالماً بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة ، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء إنما يصح أن لو حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة فأما من يعتقد أن القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة.
الحجة الثانية : أن قوله {كَمْ لَبِثْتَ} لا بد له من قائل والمذكور السابق هو الله تعالى فصار التقدير : قال الله تعالى : {كَمْ لَبِثْتَ} فقال ذلك الإنسان {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فقال الله تعالى : {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} ومما يؤكد أن قائل هذا القول هو الله تعالى قوله {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ} ومن المعلوم أن القادر على جعله آية للناس هو الله تعالى ، ثم قال : {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} ولا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى ؛ فثبت أن هذه الآية دالة من هذه الوجوه الكثيرة على أنه تكلم معه ، ومعلوم أن هذا لا يليق بحال هذا الكافر.
فإن قيل : لعله تعالى بعث إليه رسولاً أو ملكاً حتى قال له هذا القول عن الله تعالى.
قلنا : ظاهر هذا الكلام يدل على أن قائل هذه الأقوال معه هو الله تعالى ، فصرف اللفظ عن هذا الظاهر إلى المجاز من غير دليل يوجبه غير جائز.
والحجة الثالثة : أن إعادته حياً وإبقاء الطعام والشراب على حالهما ، وإعادة الحمار حياً بعد ما صار رميماً مع كونه مشاهداً لإعادة أجزاء الحمار إلى التركيب وإلى الحياة إكرام عظيم وتشريف كريم ، وذلك لا يليق بحال الكافر له.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن كل هذه الأشياء إنما أدخلها الله تعالى في الوجود إكراماً لإنسان آخر كان نبياً في ذلك الزمان.
(8/332)
قلنا : لم يجر في هذه الآية ذكر هذا النبي ، وليس في هذه القصة حالة مشعرة بوجود النبي أصلاً فلو كان المقصود من إظهار هذه الأشياء إكرام ذلك النبي وتأييد رسالته بالمعجزة لكان ترك ذكر ذلك الرسول إهمالاً لما هو الغرض الأصلي من الكلام وأنه لا يجوز.
فإن قيل : لو كان ذلك الشخص لكان إما أن يقال : إنه ادعى النبوّة من قبل الإماتة والإحياء أو بعدهما ، والأول : باطل ، لأن إرسال النبي من قبل الله يكون لمصلحة تعود على الأمة ، وذلك لا يتم بعد الإماتة ، وإن ادعى النبوّة بعد الإحياء فالمعجز قد تقدم على الدعوى ، وذلك غير جائز.
قلنا : إظهار خوارق العادات على يد من يعلم الله أنه سيصير رسولاً جائز عندنا ، وعلى هذا الطريق زال السؤال.
الحجة الرابعة : أنه تعالى قال في حق هذا الشخص {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ} وهذا اللفظ إنما يستعمل في حق الأنبياء والرسل قال تعالى : {وجعلناها وابنها ءَايَةً للعالمين} [ الأنبياء : 91 ] فكان هذا وعداً من الله تعالى بأنه يجعله نبياً ، وأيضاً فهذا الكلام لم يدل على النبوّة بصريحه فلا شك أنه يفيد التشريف العظيم ، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر وعلى الشك في قدرة الله تعالى.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من جعله آية أن من عرفه من الناس شاباً كاملاً إذا شاهدوه بعد مائة سنة على شبابه وقد شاخوا أو هرموا ، أو سمعوا بالخبر أنه كان مات منذ زمان وقد عاد شاباً صح أن يقال لأجل ذلك إنه آية للناس لأنهم يعتبرون بذلك ويعرفون به قدرة الله تعالى ، ونبوّة نبي ذلك الزمان.
(8/333)
والجواب من وجهين الأول : أن قوله {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً} إخبار عن أنه تعالى يجعله آية ، وهذا الأخبار إنما وقع بعد أن أحياه الله ، وتكلم معه ، والمجعول لا يجعل ثانياً ، فوجب حمل قوله {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ} على أمر زائد عن هذا الإحياء ، وأنتم تحملونه على نفس هذا الإحياء فكان باطلاً والثاني : أنه وجه التمسك أن قوله {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ} يدل على التشريف العظيم ، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى.
(8/334)
الحجة الخامسة : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية قال : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرون ، ومنهم عزير وكان من علمائهم ، فجاء بهم إلى بابل ، فدخل عزير يوماً تلك القرية ونزل تحت شجرة وهو على حمار ، فربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً فعجب من ذلك وقال : {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} لا على سبيل الشك في القدرة ، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة ، وكانت الأشجار مثمرة ، فتناول من الفاكهة التين والعنب ، وشرب من عصير العنب ونام ، فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عن موته أيضاً الإنس والسباع والطير ، ثم أحياه الله تعالى بعد المائة ونودي من السماء : يا عزير {كَمْ لَبِثْتَ} بعد الموت فقال {يَوْماً} فأبصر من الشمس بقية فقال {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فقال الله تعالى : {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ} من التين والعنب وشرابك من العصير لم يتغير طعمهما ، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما ثم قال : {وانظر إلى حِمَارِكَ} فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله وسمع صوتاً أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ، ثم التصق كل عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه ثم العصب والعروق ثم أنبت طراء اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور عن الجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق فخر عزير ساجداً ، وقال : {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرخياء مات ببابل ، وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير ، والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً ، وكانت التوراة قد دفنت(8/335)
في موضع فأخرجت وعورض بما أملاه فما اختلفا في حرف ، فعند ذلك قالوا : عزير بن الله ، وهذه الرواية مشهورة فيما بين الناس ، وذلك يدل على أن ذلك المار كان نبياً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 26 ـ 28}
قال ابن عاشور :
والذي يظهر لي أنّه حزقيال ابن بوزي نبيء إسرائيل كان معاصراً لأرميا ودانيال وكان من جملة الذين أسرهم بختنصر إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل المسيح ، وذلك أنه لما رأى عزم بختنصر على استئصال اليهود وجمعه آثار الهيكل ليأتي بها إلى بابل ، جمع كتب شريعة موسى وتابوتَ العهد وعصَا موسى ورماها في بئر في أورشليم خشية أن يحرقها بختنصر ، ولعله اتّخذ علامة يعرفها بها وجعلها سراً بينه وبين أنبياء زمانِه وورثتهم من الأنبياء.
فلما أخرج إلى بابل بقي هنالك وكتب كتاباً في مَراءً رآها وَحْيا تدل على مصائب اليهودِ وما يرجى لهم من الخلاص ، وكان آخر ما كتبه في السنة الخامسة والعشرين بعد سبي اليهود ، ولم يعرف له خبر بعدُ كما ورد في تاريخهم ، ويظن أنّه مات أو قُتل.
ومن جملة ما كتبه "أخْرَجَنِي روحُ الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاماً كثيرة وأمّرَني عليها وإذا تلك البقعة يابسة فقال لي : أتَحيَى هذه العظامُ ؟ فقلت : يا سيدي الرّب أنتَ تعلم.
فقال لي : تنبأْ على هذه العظام وقل لها : أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب قال ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصباً وأكسوكم لحماً وجلداً.
فتنبأت ، كما أمرني فتقاربتْ العظام كل عظم إلى عطمه ، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ودخل فيهم الروح فحيُوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً".
(8/336)
ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا فلا شكّ أن الله لما أعاد عُمران أورشليم في عهد عزرا النبي في حدود سنة450 قبل المسيح أحيا النبي حزقيال عليه السلام ليرى مصداق نبوته ، وأراه إحياء العظام ، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الذين يوقنون بما أخبرهم الله تعالى ، أو لقوم أطلعهم الله على ذلك من أصفيائه ، أو لأهل القرية التي كان فيها وفُقِد من بينهم فجاءهم بعد مائة سنة وتحققه من يعرفه بصفاته ، فيكون قوله تعالى : { مرّ على قرية } إشارة إلى قوله : "أخرجني روح الرب وأمّرني عليها".
فقوله : { قال أنَّى يحيي هذه الله } إشارة إلى قوله أتحيي هذه العظام فقلت يا سيدي أنت تعلم لأنّ كلامه هذا ينبىء باستبعاد إحيائها ، ويكون قوله تعالى : { فأماته الله مائة عام } إلخ مما زاده القرآن من البيان على ما في كتب اليهود لأنّهم كتبوها بعد مرور أزمنة ، ويظن من هنا أنّه مات في حدود سنة 560 قبل المسيح ، وكان تجديد أورشليم في حدود 458 فتلك مائة سنة تقريباً ، ويكون قوله : { وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمَا } تذكرة له بتلك النبوءة وهي تجديد مدينة إسرائيل. (1) أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 35 ـ 36}
قوله تعالى : {وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا}
قال الفخر :
_______________
(1) فى النفس شىء بل أشياء من هذا الكلام فهو ـ كما ترى ـ يعتمد على ما ذكر فى التوراة ونحن مأمورون بالتوقف فى قبول أخبار التوراة ، وألفاظ الآية لم تبين شيئا من ذلك
والأولى ـ والله أعلم ـ الوقوف عند ما أخبر القرآن وتفويض ما سكت الوحى عن ذكره إلى الله ـ عز وجل ـ فما فائدة تعيين القرية ومن مر عليها ؟؟!!! والله أعلم بحقائق الأمور.(8/337)
أما قوله تعالى : {وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} قال الأصمعي : خوى البيت فهو يخوى خواء ممدود إذا ما خلا من أهله ، والخوا : خلو البطن من الطعام ، وفي الحديث : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى " أي خلى ما بين عضديه وجنبيه ، وبطنه وفخذيه ، وخوى الفرس ما بين قوائمه ، ثم يقال للبيت إذا انهدم : خوى لأنه بتهدمه يخلو من أهله ، وكذلك : خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر لأنها خلت عن المطر ، والعرش سقف البيت ، والعروش الأبنية ، والسقوف من الخشب يقال : عرش الرجل يعرش ويعرش إذا بني وسقف بخشب ، فقوله : {وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي منهدمة ساقطة خراب ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وفيه وجوه أحدها : أن حيطانها كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها ، ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المنهدمة ، ومعنى الخاوية المنقلعة وهي المنقلعة من أصولها يدل عليه قوله تعالى : {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [ الحاقة : 7 ] وموضع آخر {أَعْجَازُ نَخْلٍ منقعر} [ القمر : 20 ] وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به والثاني : قوله تعالى : {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي خاوية عن عروشها ، جعل ( على ) بمعنى ( عَنْ ) كقوله {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس} [ المطففين : 2 ] أي عنهم والثالث : أن المراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة فكان التعجب من ذلك أكثر ، لأن الغالب من القرية الخالية الخاوية أن يبطل ما فيها من عروش الفاكهة ، فلما خربت القرية مع بقاء عروشها كان التعجب أكثر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 28 ـ 29}
قوله تعالى : {قَالَ أنى يُحْىِ هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا}
قال الفخر :
(8/338)
أما قوله تعالى : {قَالَ أنى يُحْىِ هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} فقد ذكرنا أن من قال : المار كان كافراً حمله على الشك في قدرة الله تعالى ، ومن قال كان نبياً حمله على الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد ، كما قال إبراهيم عليه السلام : {أرني كيف تحيي الموتى} [ البقرة : 260 ] وقوله {أنّى} أي من أين كقوله {أنى لَكِ هذا} [ آل عمران : 37 ] والمراد بإحياء هذه القرية عمارتها ، أي متى يفعل الله تعالى ذلك ، على معنى أنه لا يفعله فأحب الله أن يريه في نفسه ، وفي إحياء القرية آية {فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ} وقد ذكرنا القصة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 29}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } معناه من أيّ طريق وبأيّ سبب ، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكّان ، كما يقال الآن في المدن الخِربة التي يبعد أن تعمر وتسكن : أنَّى تعمر هذه بعد خرابها.
فكأن هذا تلهّف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبّته.
وضرب له المَثَل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه ، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بني آدم ، أي أنَّى يحيي الله موتاها.
وقد حكى الطبريّ عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكّاً في قدرة الله تعالى على الإحياء ؛ فلذلك ضرب له المثل في نفسه.
قال ابن عطيّة : وليس يدخل شكّ في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصوّر الشك ( من جاهل ) في الوجه الآخر ، والصواب ألاّ يتأوّل في الآية شك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 290 ـ 291}
وقال أبو حيان :
الإحياء والإماتة هنا مجازان ، عبر بالإحياء عن العمارة ، وبالموت عن الخراب.
(8/339)
وقيل : حقيقتان فيكون ثم مضاف محذوف تقديره : أنَّى يحيي أهل هذه القرية ، أو يكون هذه إشارة إلى ما دل عليه المعنى من عظام أهلها البالية ، وجثثهم المتمزقة ، وأوصالهم المتفرقة ، فعلى القول بالمجاز يكون قوله : أنَّى يحيي على سبيل التلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته ، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه ، وعلى القول الثاني يكون قوله : أنَّى يحيي اعترافاً بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء واستعظاماً لقدرة المحيي ، وليس ذلك على سبيل الشك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 303}
قوله تعالى : { فَأَمَاتَهُ الله مِائَةَ عَامٍ }
قال القرطبى :
قوله تعالى : { فَأَمَاتَهُ الله مِائَةَ عَامٍ } "مائة" نصب على الظرف.
والعام : السنة ؛ يقال : سِنون عُوَّم وهو تأكيد للأوّل ؛ كما يقال : بينهم شُغْلٌ شاغلٌ.
وقال العجّاج :
مِن مرّ أعوامِ السِّنين العُوَّم . . .
وهو في التقدير جمع عائم ، إلا أنه لا يفرد بالذِّكر ؛ لأنه ليس باسم وإنما هو توكيد ، قاله الجوهريّ.
وقال النقاش : العام مصدر كالعَوْم ؛ سُمّيَ به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفَلك.
والعَوْم كالسَّبْح ؛ وقال الله تعالى : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ].
قال ابن عطية : هذا بمعنى قول النقاش ، والعامُ على هذا كالقول والقال. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 291}
سؤال : فإن قيل : ما الفائدة في إماتة الله له مائة عام ، مع أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بعد بعض يوم حاصل.
قلنا : لأن الإحياء بعد تراخي المدة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدة ، وأيضاً فلأن بعد تراخي المدة ما يشاهد منه ، ويشاهد هو من غيره أعجب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 29}
فصل
قال القرطبى :
روي في قصص هذه الآية أن الله تعالى بعث لها مَلكاً من الملوك يعمرها ويجدّ في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل.(8/340)
وقد قيل : إنه لما مضى لموته سبعون سنة أرسل الله ملِكاً من ملوك فارس عظيماً يقال له "كوشك" فعمّرها في ثلاثين سنة. (1) أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 291}
قوله تعالى : {ثُمَّ بَعَثَهُ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {ثُمَّ بَعَثَهُ} فالمعنى : ثم أحياه ، ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم ، وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها ، وإنما قال {ثُمَّ بَعَثَهُ} ولم يقل : ثم أحياه لأن قوله {ثُمَّ بَعَثَهُ} يدل على أنه عاد كما كان أولاً حياً عاقلاً فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ، ولو قال : ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 29}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { ثم بعثه } أي أحياه وهي حياة خاصة ردّت بها روحه إلى جسده ؛ لأنّ جسده لم يبلَ كسائر الأنبياء ، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 36}
قوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
المناسبة
قال البقاعى :
________________
(1) هذا الكلام يفتقر إلى سند صحيح لأنه من الأمور الغيبية. والله أعلم.(8/341)
ولما أحاط العلم بأن هذا العمل لأجل إيقانه على القدرة تشوفت النفس إلى ما حصل له بعد البعث فأجيبت بقوله تنبيهاً له ولكل سامع على ما في قصته من الخوارق : {قال} أي له الله سبحانه وتعالى أو من شاء ممن خطابه ناشىء عنه {كم لبثت} أي في رقدتك هذه {قال} لنظره إلى سلامة طعامه وشرابه {لبثت يوماً} ثم تغير ظنه بحسب الشمس أو غيرها فقال : {أو بعض يوم} وكأنه استعجل بهذا الجواب - كما هي عادة الإنسان - قبل النظر إلى حماره {قال} أي الذي خاطبه مضرباً عن جوابه بياناً لأنه غلط ظاهر {بل لبثت مائة عام} معبراً عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة والامتداد والطول ودله على ذلك وعلى كمال القدرة بقوله : {فانظر إلى طعامك وشرابك} أي الذي كان معك لما رقدت وهو أسرع الأشياء فساداً تين وعصير {لم يتسنه} من السنة أي يتغير بمر السنين على طول مرورها وقوة تقلباتها وتأثيرها ،
ومعنى القراءة بهاء السكت أن الخبر بذلك أمر جازم مقنع لا مرية فيه ولا تردد أصلاً {وانظر إلى} {حمارك} بالياً رميماً ،
فجمع الله له سبحانه وتعالى بين آيتي الرطب في حفظه واليابس في نقضه.
ولما كان التقدير : فعلنا ذلك لنجعله آية لك على كمال القدرة أو لتعلم أنت قدرتنا ،
عطف عليه قوله : {ولنجعلك} أي في مجموع خبرك {آية للناس} أي كافة فكان أمره إبقاء وتثبيتاً آية في موجود الدنيا على ما سيكون في أمر الآخرة قيام ساعة وبعثاً ونشوراً - قاله الحرالي.
ولما أمره بالنظر إلى ما جعله له آية على لبثه ذلك الزمن الطويل أمره بالنظر إلى ما جعله له آية على اقتداره على الإحياء كيف ما أراد فقال : {وانظر إلى العظام} أي من حمارك وهي جمع عظم وهو عماد البدن الذي عليه مقوم صورته {كيف ننشزها} قال الحرالي : بالراء من النشر وهو عود الفاني إلى صورته الأولى وبالضم جعل وتصيير إليه ،
وبالزاي من النشز وهو إظهار الشيء وإعلاؤه ،
من نشز الأرض وهو ما ارتفع منها وظهر - انتهى.
(8/342)
وضم بعضها إلى بعض على ما كانت عليه ينظم ذلك كله {ثم نكسوها لحماً} قال الحرالي : جعل حياته بعثاً وحياة حماره نشوراً وأراه النشر ،
واللحم الذي لحم بين العظام حتى صارت صورة واحدة ليتبين أمر الساعة عياناً فيكون حجة على الكافر والمستبعد {فلما تبين له} أي هذا الأمر الخارق الباهر الدال على ما وصف سبحانه وتعالى به نفسه المقدسة في آية الكرسي.
قال الحرالي : وفي صيغة تفعل إشعار بتردده في النظر بين الآيتين حتى استقر عنده أمر ما أعلم به واضمحل عنده ما قدره {قال أعلم} بصيغة الفعل بناء على نفسه وبصيغة الأمر إفادة لغيره ما علم لتدل القراءتان على أنه علم وعلم لأن العلم إنما يتم حين يصل إلى غير العالم فيجمع فضل العلم والتعليم - انتهى.
ويجوز أن يدل التعبير بالمضارع في أعلم على أنه لم يزل متصفاً بهذا العلم من غير نظر إلى حال ولا استقبال ويكون ذلك اعتذاراً عن تعبيره في التعجيب بما دل على الاستبعاد بأنه إنما قاله استبعاداً لتعليق القدرة بذلك لا للقدرة عليه {أن الله} أي لما أعلم من عظمته {على كل شيء} أي من هذا وغيره {قدير} قال الحرالي : في إشعاره إلزام البصائر شهود قدرة الله سبحانه وتعالى في تعينها في الأسباب الحكمية التي تتقيد بها الأبصار إلحاقاً لما دون آية الإحياء والإماتة بأمرها ليستوي في العلم أن محييك هو مصرفك ،
فكما أن حياتك بقدرته فكذلك عملك بقدرته فلاءم تفصيل افراد القدرة لله بما تقدم من إبداء الحفظ بالله والعظمة لله ،
فكأنها جوامع وتفاصيل كلها تقتضي إحاطة أمر الله سبحانه وتعالى بكلية ما أجمل وبدقائق تفاصيل ما فصل - انتهى.
وفي الآية بيان لوجه مغالطة الكافر لمن استخفه من قومه في المحاجة مع الخليل صلوات الله وسلامه عليه بأن الإحياء الذي يستحق به الملك الألوهية هو هذا الإحياء الحقيقي لا التخلية عمن استحق القتل. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 506 ـ 508}
فصل
قال الفخر :
(8/343)
أجمعوا على أن قائل هذا القول هو الله تعالى وإنما عرف أن هذا الخطاب من الله تعالى ، لأن ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز ، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره وظهور البلى في عظامه ما عرف به أن تلك الخوارق لم تصدر إلا من الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 29 }
وقال القرطبى :
اختُلف في القائل له "كم لبثت" ؛ فقيل : الله جل وعز ؛ ولم يقل له إن كنت صادقاً كما قال للملائكة على ما تقدّم.
وقيل : سمع هاتفاً من السماء يقول له ذلك.
وقيل ؛ خاطبه جبريل.
وقيل : نبيّ.
وقيل : رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له : كم لبثت.
ويقال : كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير.
ثم قال رحمه الله :
قلت : والأظهر أن القائل هو الله تعالى ؛ لقوله { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 291}. بتصرف يسير.
قال أبو حيان :
ولا نص في الآية على أن الله كلَّمه شفاهاً. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 303}
فصل
قال الفخر :
في الآية إشكال ، وهو أن الله تعالى كان عالماً بأنه كان ميتاً وكان عالماً بأن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته كانت طويلة أم قصيرة ، فمع ذلك لأي حكمة سأله عن مقدار تلك المدة.
والجواب عنه : أن المقصود من هذا السؤال التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 29 }
قوله تعالى : {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}
قال القرطبى :
(8/344)
{ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه ، وعلى هذا لا يكون كاذباً فيما أخبر به ؛ ومثله قول أصحاب الكهف { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [ الكهف : 19 ] وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين على ما يأتي ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم ، كأنهم قالوا : الذي عندنا وفي ظنوننا أننا لبثنا يوماً أو بعض يوم.
ونظيره " قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليَدَين : "لم أقصر ولم أَنْس" " ومن الناس من يقول : إنه كذبٌ على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ولكنه لا مؤاخذة به ، وإلا فالكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك لا يختلف بالعلم والجهل ، وهذا بيّن في نظر الأُصول.
فعلى هذا يجوز أن يقال : إن الأنبياء لا يُعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن عن قصد ، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان.
فهذا ما يتعلق بهذه الآية ، والقول الأول أصح.
قال ابن جُريج وقَتادة والربيع : أماته الله غُدوةَ يومٍ ثم بُعث قبل الغروب فظن هذا اليومَ واحداً فقال : لبثتُ يوماً ، ثم رأى بقيةً من الشمس فخشي أن يكون كاذباً فقال : أو بعض يوم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 292}
أسئلة وأجوبة للإمام الفخر
قال رحمه الله :
أما قوله تعالى : {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لم ذكر هذا الترديد ؟ .
الجواب : أن الميت طالت مدة موته أو قصرت فالحال واحدة بالنسبة إليه فأجاب بأقل ما يمكن أن يكون ميتاً لأنه اليقين ، وفي التفسير أن إماتته كانت في أول النهار ، فقال {يَوْماً} ثم لما نظر إلى ضوء الشمس باقياً على رؤوس الجدران فقال : {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }.
السؤال الثاني : أنه لما كان اللبث مائة عام ، ثم قال : {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أليس هذا يكون كذباً ؟ .(8/345)
والجواب : أنه قال ذلك على حسب الظن ، ولا يكون مؤاخذاً بهذا الكذب ، ونظيره أنه تعالى حكى عن أصحاب الكهف أنهم قالوا {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [ الكهف : 19 ] على ما توهموه ووقع عندهم ، وأيضاً قال أخوة يوسف عليه السلام : {ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [ يوسف : 81 ] وإنما قالوا : ذلك بناء على الأمارة من إخراج الصواع من رحله.
السؤال الثالث : هل علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت ، أو لم يعلم ذلك بل كان يعتقد أن ذلك اللبث بسبب الموت.
الجواب : الأظهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت ، وذلك لأن الغرض الأصلي في إماتته ثم إحيائه بعد مائة عام أن يشاهد الإحياء بعد الإماتة وذلك لا يحصل إلا إذا عرف أن ذلك اللبث كان بسبب الموت ، وهو أيضاً قد شاهد إما في نفسه ، أو في حماره أحوالاً دالة على أن ذلك اللبث كان بسبب الموت. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 29 ـ 30}
قوله تعالى : {قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ}
لطيفة
قال أبو حيان :
وذكر تعيين المدة هنا في قوله : بل لبثت مائة عام ، ولم يذكر تعيينها في قوله : { إن لبثتم إلاَّ قليلاً } وإن اشتركوا في جواب : { لبثنا يوماً أو بعض يوم } لأن المبعوث في البقرة واحد فانحصرت مدّة إماتة الله إياه ، وأولئك متفاوتو اللبث تحت الأرض نحو من مات في أول الدنيا ، ومن مات في آخرها ، فلم ينحصروا تحت عدد مخصوص ، فلذلك أدرجوا تحت قوله : إلاَّ قليلاً ، لأن مدة الحياة الدنيا بالنسبة إلى حياة الآخرة قليلة ، والله تعالى محيط علمه بمدة لبث كل واحد واحد ، فلو ذكر مدة كل واحد واحد لاحتيج في عدة ذلك إلى أسفار كثيرة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 303}
قوله تعالى : {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}
قال أبو حيان :
(8/346)
{ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } في قصة عزير أنه لما نجا من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة ، فطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، وعامة شجرها حامل ، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه ، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العنب في زق ، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال : أنى يحيي ؟ على سبيل التعجب ، لا شكاً في البعث ، وقيل : كان شرابه لبناً.
قيل : وجد التين والعنب كما تركه جنياً ، والشراب على حاله. (1) أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 304}
فصل
قال الفخر :
اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله {لَمْ يَتَسَنَّهْ} و{اقتده} و{مَالِيَهْ} و{سلطانيه} و{ماهيه} بعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف ، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل ، وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله {وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} و{اقتده} ويثبتها في الوصل في الباقي ولم يختلفوا في قوله {لَمْ أُوتَ كتابيه وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [ الحاقة : 25 ، 26 ] أنها بالهاء في الوصل والوقف.
إذا عرفت هذا فنقول : أما الحذف ففيه وجوه
أحدها : أن اشتقاق قوله {يَتَسَنَّهْ} من السنة وزعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة ، قالوا : والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة ، وقال الشاعر :
ورجال مكة مسنتون عجاف.. ويقولون في جمعها : سنوات وفي الفعل منها : سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة ، وفي التصغير : سنية إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله {لَمْ يَتَسَنَّهْ} للسكت لا للأصل
________________
(1) الأولى التوقف فى قبول هذه الأخبار وأمثالها وتفويض علمها إلى علام الغيوب.(8/347)
وثانيها : نقل الواحدي عن الفرّاء أنه قال : يجوز أن تكون أصل سنة سننة ، لأنهم قالوا في تصغيرها : سنينة وإن كان ذلك قليلاً ، فعلى هذا يجوز أن يكون {لَمْ يَتَسَنَّهْ} أصله لم يتسنن ، ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عن الوقف عليه كما أن أصل لم يتقض البازي لم يتقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة ، ثم أدخل عليه هاء السكت عند الوقف ، فيقال : لم يتقضه
وثالثها : أن يكون {لَمْ يَتَسَنَّهْ} مأخوذاً من قوله تعالى :
{مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [ الحجر : 26 ] والسن في اللغة هو الصب ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، فقوله : لم يتسنن.
أي الشراب بقي بحاله لم ينضب ، وقد أتى عليه مائة عام ، ثم أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني ، فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف ، وأما بيان الإثبات فهو أن {لَمْ يَتَسَنَّهْ} مأخوذ من السنة ، والسنة أصلها سنهه ، بدليل أنه يقال في تصغيرها : سنيهة ، ويقال : سانهت النخلة بمعنى عاومت ، وآجرت الدار مسانهة ، وإذا كان كذلك فالهاء في {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لام الفعل ، فلا جرم لم يحذف ألبتة لا عند الوصل ولا عند الوقف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 30 ـ 31}
سؤالان :
السؤال الأول : أنه تعالى لما قال : {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم.
(8/348)
والجواب : أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال : {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} قال : {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} فإن هذا مما يؤكد قولك {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة ، ثم قال بعده {وانظر إلى حِمَارِكَ} فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى ، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما ، والحمار ربما بقي دهراً طويلاً وزماناً عظيماً ، فرأى ما لا يبقى باقياً ، وهو الطعام والشراب ، وما يبقى غير باق وهو العظام ، فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى ، وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه.
السؤال الثاني : أنه تعالى ذكر الطعام والشراب ، وقوله {لَمْ يَتَسَنَّهْ} راجع إلى الشراب لا إلى الطعام.
والجواب : كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير ، كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير ، لا سيما إذا كان الطعام لطيفاً يتسارع الفساد إليه ، والمروى أن طعامه كان التين والعنب ، وشرابه كان عصير العنب واللبن ، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ( وانظر إِلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن ). أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 31}
قوله تعالى : {وانظر إلى حِمَارِكَ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وانظر إلى حِمَارِكَ} فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة ، وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته ، لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حياً في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال ، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طول مدة الموت ، بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ}
(8/349)
قال الضحاك : معنى قوله أنه لما أحيى بعد الموت كان دليلاً على صحة البعث ، وقال غيره : كان آية لأن الله تعالى أحياه شاباً أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والرؤوس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 31}
قال القرطبى :
قوله تعالى : { وانظر إلى حِمَارِكَ } قال وهب بن مُنْبّه وغيره : وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءاً جزءاً.
ويُروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاماً ملتئمة ، ثم كساه لحماً حتى كمل حماراً ، ثم جاءه ملَك فنفخ فيه الروح فقام الحمار ينْهَق ؛ على هذا أكثر المفسرين.
ورُوي عن الضحّاك ووهب بن منبّه أيضاً أنهما قالا : بل قيل له : وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء مائةَ عام ؛ وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه بعد أن أحيا الله منه عينيه ورأسَه ، وسائرُ جسده ميتٌ ، قالا : وأعمى الله العيون عن إرمياء وحماره طول هذه المدة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 294}
قال الزمخشري :
وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء ، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 335}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذْ أحيى جسده بنفخ الروح عن غير إعادة وأحيى طعامه بحفظه من التغيّر وأحيى حماره بالإعادة فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك ، ولعلّ الله أطْلَع على ذلك الإحياءِ بعض الأحياء من أصفيائه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 37}
قوله تعالى : {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ} فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا ، وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 32}
فصل
قال القرطبى :
قال الأعمش : موضع كونه آيةً هو أنه جاء شاباً على حاله يوم مات ، فوجد الأبناء والحَفَدة شيوخاً.(8/350)
عِكرمة : وكان يوم مات ابنَ أربعين سنة.
ورُوي عن علي رضوان الله عليه أن عُزيراً خرج من أهله وخلّف امرأته حاملاً ، وله خمسون سنة فأماته الله مائةَ عام ، ثم بعثه فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة وله ولد من مائة سنة فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة.
ورُوي عن ابن عباس قال : لما أحيا الله عُزيراً ركب حماره فأتى مَحلّته فأنكر الناسَ وأنكروه ، فوجد في منزله عجوزاً عمياء كانت أمَة لهم ، خرج عنهم عُزير وهي بنت عشرين سنة ، فقال لها : أهذا منزل عُزير ؟ فقالت نعم! ثم بكت وقالت : فارقنا عُزير منذ كذا وكذا سنة! قال : فأنا عُزير ؛ قالت : إن عزيراً فقدناه منذ مائة سنة.
قال : فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني.
قالت : فعزير كان مستجاب الدعوة للمريض وصاحبِ البلاء فيُفيق ، فادع الله يرد عليّ بصري ؛ فدعا الله ومسح على عينيها بيده فصحّت مكانها كأنها أُنْشطت من عِقَال.
قالت : أشهد أنك عُزير! ثم انطلقت إلى ملإ بني إسرائيل وفيهم ابنٌ لعزير شيخٌ ابن مائة وثمانية وعشرين سنة ، وبنو بنيه شيوخ ، فقالت : يا قوم ، هذا والله عُزير! فأقبل إليه ابنه مع الناس فقال ابنه : كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه ؛ فنظرها فإذا هو عُزير.
وقيل : جاء وقد هلك كل من يعرف ، فكان آيةً لمن كان حيّاً من قومه إذ كانوا موقنين بحاله سماعاً. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 294 ـ 295}
قال ابن عطية ـ وقد أجاد ـ :
وفي إماتته هذه المدّة ثم إحيائه بعدها أعظم آية ، وأمره كلّه آية للناس غابر الدهر ، ولا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 350}(8/351)
سؤال : فإن قيل : ما فائدة الواو في قوله {وَلِنَجْعَلَكَ} قلنا : قال الفرّاء : دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال : وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطاً ، وجعله آية جزاء ، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام ، أما لما قال : {وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً} كان المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ، ومثله قوله تعالى : {وكذلك نُصَرّفُ الأيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} [ الأنعام : 105 ] والمعنى : وليقولوا درست صرفنا الآيات {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [ الأنعام : 75 ] أي ونريه الملكوت. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 32}
قوله تعالى : {وانظر إِلَى العظام}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وانظر إِلَى العظام} فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، فإن اللام فيه بدل الكناية ، وقال آخرون أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه ، قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه ، وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة ، فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض ، وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه حين كان حياً لم يأكل ولم يشرب مائة عام ، وتقدير الكلام على هذا الوجه : وانظر إلى عظامك ، وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد ، وهو عندي ضعيف لوجوه
أحدها : أن قوله {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائماً في بعض يوم ، أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة ، وعظام بدنة رميمة نخرة ، فلا يليق به ذلك القول وثانيها : أنه تعالى حكي عنه أن خاطبه وأجاب ، فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله ، فإذا كانت الإماتة راجعة إلي كله ، فالمجيب أيضاً الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص
(8/352)
وثالثها : أن قوله {فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 32}
قوله تعالى {كَيْفَ ننشرها}
قال الفخر :
أما قوله {كَيْفَ ننشرها} فالمراد يحييها ، يقال : أنشر الله الميت ونشره ، قال تعالى : {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى : {قَالَ مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا} [ ياس : 78 ، 79 ] وقرىء {ننشرها} بفتح النون وضم الشين ، قال الفرّاء : كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي ، وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف ، فهو كأنه مطوي ما دام ميتاً ، فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي ،
وقرأ حمزة والكسائي {كَيْفَ نُنشِزُهَا} بالزاي المنقوطة من فوق ، والمعنى نرفع بعضها إلى بعض ، وانشاز الشيء رفعه ، يقال أنشزته فنشز ، أي رفعته فارتفع ، ويقال لما ارتفع من الأرض نشز ، ومنه نشوز المرأة ، وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج ،
ومعنى الآية على هذه القراءة : كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض ، وروي عن النخعي أنه كان يقرأ {ننشِزُهَا} بفتح النون وضم الشين والزاي ووجهه ما قال الأخفش أنه يقال : نشزته وأنشزته أي رفعته ، والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام ، ثم بسط اللحم عليها ، ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها ، ورفع بعضه إلى جنب البعض ، فيكون كل القراءات داخلاً في ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 32}
قال القرطبى :
القراءة بالراء بمعنى الإحياء ، والعظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض ، والزاي أوْلى بذلك المعنى ، إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء.
(8/353)
فالموصوف بالإحياء هو الرجل دون العظام على انفرادها ، ولا يقال : هذا عظم حيّ ، وإنما المعنى فانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 295 ـ 296}
قال ابن عطية :
وتعلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض ، وإنما النشوز الارتفاع قليلاً ، فكأنه وقف على نبات العظام الرفاة ، وخرج ما يوجد منها عند الاختراع. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 351}
قوله تعالى { ثم نكسوها لحماً }
قال أبو حيان :
الكسوة حقيقة هي ما وارى الجسد من الثياب ، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى به العظم.
كقوله : { فكسونا العظام لحماً } وهي استعارة في غاية الحسن ، إذ هي استعارة عين لعين ، وقد جاءت الاستعارة في المعنى للجرم.
قال النابغة :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي . . .
حتى اكتسيت من الإسلام سربالاً
وروي أنه كان يشاهد اللحم والعصب والعروق كيف تلئم وتتواصل ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ : أن قول الله له كان بعد تمام بعثه ، لا أن القول كان بعد إحياء بعضه.
والتعقيب بالفاء في قوله : فانظر إلى آخره ، يدل على أن العظام لا يراد بها عظام نفسه ، وتقدّم ذكر شيء من هذا ، إلاَّ إن كان وضع : ننشرها ، مكان : أنشرتها ، و: نكسوها ، مكان : كسوتها ، فيحتمل.
وتكرر الأمر بالنظر إلى الطعام والشراب في الثلاث الخوارق ، ولم ينسق نسق المفردات ، لأن كل واحد منها خارق عظيم ، ومعجز بالغ ، وبدأ أولاً بالنظر إلى العظام والشراب حيث لم يتغيرا على طول هذه المدة ، لأن ذلك أبلغ ، إذ هما من الأشياء التي يتسارع إليها الفساد ، إذ ما قام به الحياة وهو الحمار يمكن بقاؤه الزمان الطويل ، ويمكن أن يحتش بنفسه ويأكل ويرد المياه.(8/354)
كما قال صلى الله عليه وسلم في ضالة الإبل : " معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها " ولما أمر بالنظر إلى الطعام والشراب ، وبالنظر إلى الحمار ، وهذه الأشياء هي التي كانت صحبته ، وقال تعالى : { ولنجعلك آية للناس } أي فعلنا ذلك : ولما كان قوله : { وانظر إلى حمارك } كالمجمل ، بين له جهة النظر بالنسبة إلى الحمار ، فجاء النظر الثالث توضيحاً للنظر الثاني ، من أي جهة ينظر إلى الحمار ، وهي جهة إحيائه وارتفاع عظامه شيئاً فشيئاً عند التركيب وكسوتها اللحم ، فليس نظراً مستقلاً ، بل هو من تمام النظر الثاني ، فلذلك حسن الفصل بين النظرين بقوله : { ولنجعلك آية للناس }.
وليس في الكلام تقديم وتأخير كما زعم بعضهم ، وأن الأنظار منسوق بعضها على بعض ، وأن قوله : { ولنجعلك آية للناس } الخ وهو مقدّم في اللفظ ، مؤخر في الرتبة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 306}
قوله تعالى : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قال الفخر :
هذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} والمعنى فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه وقال صاحب "الكشاف" : فاعل {تَبَيَّنَ لَهُ} مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال : {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، وهذا عندي فيه تعسف ، بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال : {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} وتأويله : أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال وقرأ حمزة والكسائي {قَالَ أَعْلَمُ} على لفظ الأمر وفيه وجهان أحدهما : أنه عند التبين أمر نفسه بذلك ، قال الأعشى :
ودع أمامة إن الركب قد رحلوا..
(8/355)
والثاني : أن الله تعالى قال : {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش : قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ويؤكده قوله في قصة إبراهيم {ربي أرني كيف تحيي الموتى} [ البقرة : 260 ] ثم قال في آخرها {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [ البقرة : 260 ] قال القاضي : والقراءة الأولى وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وهاهنا العلم حاصل بدليل قوله {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز ،
أما الإخبار عن أنه حصل كان جائزاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 32 ـ 33}
قال القرطبى :
وقد رُوي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده.
قال قَتادة : إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض ؛ لأن أوّل ما خلق الله منه رأسه وقيل له : انظر ، فقال عند ذلك : "أعلم" بقطع الألف ، أي أعلم هذا.
وقال الطبري : المعنى في قوله "فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ" أي لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه قال : أعلم.
قال ابن عطية : وهذا خطأ ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ ، وفسّر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف ، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبلُ ينكره كما زعم الطبريّ ، بل هو قول بعثه الاعتبار ؛ كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى : لا إله إلا الله ونحو هذا.
وقال أبو عليّ : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته.
قلت : وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة ، وكذلك قال مَكّيّ رحمه الله ، قال مَكّيّ : إنه أخبر عن نفسه عند ما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى ، فتيقّن ذلك بالمشاهدة ، فأقرّ أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير ، أي أعلم ( أنا ) هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة ؛ وهذا على قراءة من قرأ "أَعْلَمُ" بقطع الألف وهم الأكثر من القراء.
(8/356)
وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف ، ويحتمل وجهين : أحدهما قال له الملك : اعلم ، والآخر هو أن ينزِّل نفسه منزلة المخاطَب الأجنبي المنفصل ؛ فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه : اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة ؛ وأنشد أبو عليّ في مثل هذا المعنى :
ودّع هريرةَ إن الرّكب مُرتحِلُ . . .
ألم تغْتَمِضْ عيناك ليلةَ أَرْمَدا . . .
قال ابن عطية : وتأنّس أبو عليّ في هذا المعنى بقول الشاعر :
تذَكّر من أنَّى ومن أين شُرْبُه . . .
يُؤامِرُ نَفْسَيْه كذِي الهَجْمَة الأَبِل
قال مَكّيّ : ويبعد أن يكون ذلك أمراً من الله جلّ ذكره له بالعلم ؛ لأنه قد أظهر إليه قدرته ، وأراه أمراً أيقن صحته وأقرّ بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك ، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسَن.
وفي حرف عبد الله ما يدل على أنه أمرٌ من الله تعالى له بالعلم على معنى الزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت ، وذلك أن في حرفه : قيل اعلم.
وأيضاً فإنه موافق لما قبله من الأمر في قوله : "انْظُرْ إلى طَعَامِكَ" و"انْظُرْ إلى حمارك" و"وَانْظُرْ إلى الْعِظَامِ" فكذلك و"واعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ" وقد كان ابن عباس يقرؤها "قيل أعلم" ويقول أهو خير أم إبراهيم ؟ إذ قيل له : "واعلم أن الله عزيز حكيم".
فهذا يبيّن أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الإحياء. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 296 ـ 297}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
(8/357)
لم يكن لك سؤال جحدٍ ، ولا قضية جهل ، ولا دلالة شكٍ في القدرة ، فإن هذا الخبر عن عُزَيْر النبي عليه السلام ، والأنبياءعليهم السلام لا يجوز عليهم الشّكُّ والجهل ، ولكنه كان سؤال تعجُّب ، وأراد بهذه المقالة زيادة اليقين ، فأراه الله ذلك في نفسه ، بأن أماته ثم أحياه ثم بعث حماره وهو ينظر إليه ، فازداد يقيناً على يقين. وسؤالُ اليقين من الله ، والحيلةُ في ردِّ الخواطر المشكلةُ ، دَيْدَنُ المتعرفين ، ولذلك (.... ) الله سبحانه عُزيراً في هذه المقالة حتى قدَّر عليه ما طلب من زيادة اليقين فيه. ثم قال { واعلم أن الله على كل شيء قدير } من الإحياء والإماتة أي ازددت معرفة بذلك ، وأراني من عظيم الآيات ما أزداد به يقيناً ؛ فإنَّ طعامه وشرابه لم يتغيرا في طول تلك المدة ، وحماره مات بلا عظام والطعام والشراب بالتغيير أَوْلى. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 230 ـ 201}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ . . . }.
قال ابن عطية عن ابن عباس وجماعة : هو عزيز بن منبه ، وجماعة هو أرمياء.
( وقال ابن اسحاق أرميا هو الخضر ).
( وضعفه ابن عطية.
قال : إلاّ أن يكون اسما وافق اسما لأن الخضر ) هو معاصر لموسى عليه السلام ، والّذي مر على القرية ( هو ) بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه.
قال ابن عرفة : هذا بناء منه على أنّ الخضر عليه السلام مات والنّاس يقولون : لم يزل حيا إلى الآن على أنّ العلماء قد حكوا في موته خلافا.
( قال ابن عرفة : وعطفه ) بغير فاء دليل على سرعة القول حتى أنه قال ذلك مع المرور لا بعده وتعجب من نفس الإحياء أو من كيفيته.
قوله تعالى : { بَعْدَ مَوْتِهَا . . . }.(8/358)
ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى ( كمال ) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها والمجاز فيها من أحد وجهين : إما أن يراد بالإحياء العمارة وبالموت الخراب أو يكون الإحياء حقيقة ، والموت كذلك والمراد بعد موت أهلها.
قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثَهُ . . . }.
قيل لابن عرفة : ثم للمهلة ولا مهلة بين المائة عام وبين البعثة ؟
فقال : إما أن يعتبر أول أزمنة المائة عام أو نقول : المائة عام ماهية مركبة من أجزاء والإماتة بعد مجموعها ، ولا تسمى الماهية إلا بكمال أجزائها فكانت المهلة بين إماتته مائة عام وبعثه لابين آخر جزء مائة ).
قوله تعالى : { قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ . . . }.
قالوا : إنه مات في أول النهار ضحوة وبُعث آخر النهار فقال : لبثت يوما ثم نظر فوجد الشّمس لم تزل على ( الجدران ) فقال : بعض يوم.
قيل لابن عرفة : وكذلك كان يقول : لو وجدها غابت لأنه ( ما مات ) إلا ضحوة بعد مضي بعض النهار ؟
فقال : ما اعتبر إلاّ ما بعد ( موته ) وما قبله كان فيها فيها مستصحبا الحياة.
قوله تعالى : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ . . . }.
الفاء للسببية والنّظر البصر ويستلزم العلم لقول الله : { أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
وقوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ }.
الزمخشري حمله على ثلاثة أوجه :
أحدها : لم تمرّ عليه السنون لعدم تغيره مثل " عَلى لا حب لا يهتدي بمناره " فبقاؤه دال على عدم مرور السنين عليه ومرور السّنين عليه يقتضي عدم بقائه.
الثاني : أنّ معناه لم يتغير.
قوله تعالى : { كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً . . . }.
قال أبو حيان : أعربوا " كَيْفَ نُنشِزُهَا " حالا من " العظام " أي انظر إلى العظام محياة.
وردّ بأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا وإنما تقع حالا ( كيف ) وحدها.
(8/359)
قال ابن عرفة : ( يصح ) ذلك على إضمار القول كما قال : " جاؤوا بمذق هل رأيت الذيب قط " ؟ .
قوله تعالى : { نُنشِزُهَا . . . }.
على قراءة الرّاء معناه نحييها فيحتج به على أن العظام تحلمها الحياة.
قوله تعالى : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ . . . }.
وقال أولا : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } ؟
قال ابن عرفة : إن كان كافرا فظاهر ، وإن كان مؤمنا ( فمذهبنا ) على القول بأن العلوم النظرية تتفاوت بالقوة والضعف خلافا لقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ".(1)
فهذا كان يعلم ذلك لكن علم المشاهدة أقوى من علم ما هو غائب.
قيل لابن عرفة : إنّ بعض الناس يجري على لسانه : يا حمار عزير.
فقال : يتقدم إليه وينهى عن ذلك فإن عاد إليه فلا يبعد أن يقال : إنه يؤدب.
قلت : في كتاب القذف من التهذيب ومن قال : يا شارب خمر أو يا خائن ، أو يا آكل الربا ، أو يا ابن الحمار ، ( أو يا ثور ) ، أو يا خنزير فعليه النكال.
وفي المدارك للقاضي أبي الفضل عياض رحمه الله في باب نوادر من أخبار مالك سأله رجل عمن قال للآخر : يا حمار ؟ قال : يجلد.
قال : وإن قال له : يا فرس ؟ قال : تجلد أنت.
ثم قال : يا ضعيف هل سمعت أحدا يقول : يا فرس ؟ . أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 337 ـ 338}
فائدة جليلة
قال ابن عطية :
وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيراً اختصرته لعدم صحته. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 350}
_____________
(1) قيل صاحب هذه العبارة هو علي ـ رضي الله عنه ـ وقيل : عامر بن عبد الله. والله أعلم.(8/360)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
الجمهور على سكون واو " أَوْ " وهي هنا للتفضيل ، وقيل : للتخيير بين التعجُّب من شأنهما ، وقرأ سفيان بن حسين " أَوَ " بفتحها ، على أنها واو العطف ، والهمزة قبلها للاستفهام.
وفي قوله : " كَالَّذِي " أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين ، قالوا : ونظيره من القرآن قوله تعالى : { قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون : 84-85 ] ثم قال : { مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون : 86-87 ]. فهذا عطف على المعنى؛ لأنَّ معناه : لمن السَّموات؟! فقيل لله؛ وقال الشَّاعر : [ الوافر ]
مُعَاوِيَ ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ... فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا
فحمل على المعنى ، وترك اللفظ ، وتقدير الآية :
هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم ، أو كالذي مرَّ على قريةٍ ، هكذا قال مكيٌّ ، أمَّا العطف على المعنى ، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم؛ كقوله : [ الطويل ]
تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
وقول الأخر في هذين البيتين : [ الوافر ]
أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ... وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ... بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ
فإنَّ معنى الأول : ليس بمكثِّر ، ولذلك عطف عليه " وَلاَ بِحَقَلَّد " ، ومعنى الثاني : أجِدَّك لست بِرَاءٍ ، ولذلك عطف عليه " وَلاَ مُتَدَارِكٍ " ، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه.
(8/361)
الثاني : أنه منصوبٌ على إضمار فعل ، وإليه نحا الزمخشريُّ ، وأبو البقاء ، قال الزمخشريُّ : " أو كالَّذِي : معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي " ، فحذف لدلالة " أَلَمْ تَرَ " عليه؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ ، وهو حسنٌ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ ، بخلاف العطف على المعنى.
الثالث : أنَّ الكاف زائدةٌ؛ كهي في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، وقول الآخر : [ السريع أو الرجز ]
فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ... والتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ الاصل عدم الزيادة.
والرابع : أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل ، لا حرفٌ؛ وهو مذهب الأخفش. قال شهاب الدِّين : وهو الصحيح من جهة الدليل ، وإن كان جمهور البصريين على خلافه ، فالتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ ، أو إلى مثل الذي مرَّ ، وهو معنى حسنٌ. وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم ، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب.
منها : معادلتها في الفاعلية بـ " مِثْل " في قوله : [ الطويل ]
وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ... ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ
ومنها دخول حروف الجر ، والإسناد إليها. وتقدَّم [ الكلام ] في اشتقاق القرية.
قوله : " وهي خَاوِيَةٌ " هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون حالاً من فاعل " مَرَّ " والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها ، والإتيان بها واجبٌ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه.
الثاني : أنها حالٌ من " قرية " : إمَّا على جعل " عَلَى عُرُوشِهَا " صفةٌ لقرية على أحد الأوجه الآتية في هذا الجارِّ ، أو على رأي من يجيز الإتيان بالحال من النكرة مطلقاً؛ وهو ضعيف عند سيبويه.
(8/362)
الثالث : أنها حالٌ من " عُرُوشِهَا " مقدَّمةٌ عليه ، تقديره : مرَّ على قرية على عروشها خاويةٌ.
الرابع : أن تكون حالاً من " هَا " المضاف إليها " عُرُوش " قال أبو البقاء : " والعَامِلُ مَعْنَى الإِضَافَةِ ، وهو ضَعِيفٌ مع جوازه " انتهى. والذي سهَّل مجيء الحال من المضاف إليه ، كونه بعض المضاف؛ لأنَّ " العُرُوشَ " بعض القرية ، فهو قريب من قوله تعالى : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ].
(8/363)
الخامس : أن تكون الجملة صفةً لقرية ، وهذا ليس بمرتضى عندهم؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين الصفة والموصوف ، وإن كان الزمخشريُّ قد أجاز ذلك في قوله تعالى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] [ فجعل : " وَلَهَا كِتَابٌ " ] صفةً ، قال : " وتَوَسَّطَتِ الواوُ؛ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف " وهذا مذهب سبقه إليه أبو الفتح ابن جنِّي في بعض تصانيفه ، وفي ما تقدَّم ، وكأنَّ الذي سهَّل ذلك تشبيه الجملة الواقعة صفةً ، بالواقعة حالاً ، لأنَّ الحال صفةٌ في المعنى ، ورتَّب أبو البقاء جعل هذه الجملة صفةً لقرية ، على جواز جعل " عَلَى عُرُوشِهَا " بدلاً من " قَرْيَةٍ " على إعادة حرف الجرِّ ، ورتَّب جعل " وَهِي خَاوِيَةٌ " حالاً من العروش ، أو من القرية ، أو من " ها " المضاف إليها ، على جعل " عَلَى عُرُوشِهَا " صفةٌ للقرية ، وهذا نصُّه ، قد ذكرته؛ ليتضح لك ، فإنه قال : وقد قيل : هو بدلٌ من القرية تقديره : مرَّ على قريةٍ على عروشها ، أي : مَرَّ على عروش القرية ، وأعاد حرف الجرِّ مع البدل ، ويجوز أن يكون " عَلَى عُرُوشِهَا " على هذا القول صفةً للقرية ، لا بدلاً ، تقديره : على قرية ساقطةٍ على عروشها ، فعلى هذا لا يجوز أن تكون " وَهِيَ خَاوِيَةٌ " حالاً من العروش وأن تكون حالاً من القرية؛ لأنها قد وصفت ، وأن تكون حالاً من " هَا " المضاف إليه ، وفي هذا البناء نظرٌ لا يخفى.
قوله : { على عُرُوشِهَا } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون بدلاً من " قرية " بإعادة العامل.
الثاني : أن يكون صفةً لـ " قَرْيَةٍ " كما تقدَّم فعلى الأول : يتعلَّق بـ " مَرَّ " ؛ لأنَّ العامل في البدل العامل في المبدل منه ، وعلى الثاني : يتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : ساقطةٍ على عروشها.(8/364)
الثالث : أن يتعلَّق بنفس خاوية ، إذا فسَّرنا " خَاوِيَةٌ " بمعنى متهدِّمة ساقطة.
الرابع : أن يتعلَّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه المعنى ، وذلك المحذوف قالوا : هو لفظ " ثَابِتَةٌ " ؛ لأنهم فسَّروا " خَاوِيَةٌ " بمعنى : خاليةٌ من أهلها ثابتةٌ على عروشها ، وبيوتها قائمة لم تتهدَّم ، وهذا حذفٌ من غير دليلٍ ، ولا يتبادر إليه الذهن ، وقيل : " عَلَى " بمعنى " مَعَ " ، أي : مع عروشها ، قالوا : وعلى هذا فالمراد بالعروش الأبنية.
وقيل : " عَلَى " بمعنى " عَنْ " أي : خاويةٌ عن عروشها ، جعل " عَلَى " بمعنى " عَنْ " كقوله : { إِذَا اكتالوا عَلَى الناس } [ المطففين : 2 ] أي : عنهم.
والخاوي : الخالي. يقال : خوت الدار تخوي خواءً بالمد ، وخويّاً ، وخويت - أيضاً - بكسر العين تَخْوَى خَوّى بالقصر ، وخَوْياً ، والخَوَى : الجوع؛ لخلوِّ البطن من الزَّاد. والخويُّ على فعيل : البطن السَّهل من الأرض ، وخوَّى البعير : جَافَى جنبه عن الأرض؛ قال القائل في ذلك : [ الرجز ]
خَوَّى عَلَى مُسْتَوِيَاتٍ خَمْسِ... كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ
ومنه الحديث : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَجَدَ خَوَّى " أي : خلا عن عضده ، وجنبيه ، وبطنه ، وفخذيه ، وخوَّى الفرس ما بين قوائمه ، ويقال للبيت إذا انهدم خوى؛ لأنه بتهدمه يخلو من أهله ، وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت.
والعُرُوشُ : جمع عرش ، وهو سقف البيت ، وكذلك كلُّ ما هُيِّىءَ ليستظلَّ به ، وقيل : هو البنيان نفسه؛ قال القائل في ذلك : [ الكامل ]
إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحَارِثِ بِنْ شِهَابِ
وقوله : { أنى يُحْيِي هذه الله } في " أَنَّى " وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى " متى ".
(8/365)
قال أبو البقاء رحمه الله : " فَعَلى هذا تكون ظرفاً ".
والثاني : أنَّها بمعنى كيف.
قال أبو البقاء رحمه الله : فيكون مَوْضِعُها حالاً من " هذه " ، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام ، والظاهرُ أنها بمعنى كيف ، وعلى كلا القولين : فالعاملُ فيها " يُحْيِي " ، و" بعد " أيضاً معمول له. والإحياء ، والإماتة : مجازٌ؛ إن أريد بهما العمران والخراب ، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافاً ، أي : أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها ، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية ، وجثثهم المتمزقة ، دلَّ على ذلك السياق.
قوله : { مِائَةَ عَامٍ } قال أبو البقاء رحمه الله : " مائَة عامٍ " : ظرفٌ لأماته على المعنى؛ لأنَّ المعنى ألبثه مائة عام ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً على ظاهر اللفظ ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف ، تقديره : " فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام " ويدلُّ على ذلك قوله : " كَمْ لَبِثْتَ " ، ولا حاجة إلى هذين التأويلين ، بل المعنى جعله ميِّتاً مائة عام.
و " مِائة " عقدٌ من العدد معروفٌ ، ولامها محذوفة ، وهي ياء ، يدلُّ على ذلك قولهم : " أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ " ، أي : صيَّرتها مائة ، فوزنها فعة ويجمع على " مِئَات " ، وشذَّ فيها مئون؛ قال القائل : [ الطويل ]
ثَلاَثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا... رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ
كأنَّهم جروها بهذا الجمع لما حذف منها؛ كما قالوا : سنون : في سنة.
والعام : مدَّة من الزمان معلومةٌ ، وعينه واوٌ؛ لقولهم في التصغير : عويم ، وفي التكسير : " أَعْوَام ".(8/366)
وقال النقَّاش : " هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك ، والعوم : هو السبح؛ وقال تعالى : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال ".
قوله : " كَمْ " منصوبٌ على الظرف ، ومميِّزها محذوفٌ تقديره : كم يوماً ، أو وقتاً.
والناصب له " لَبِثْتَ " ، والجملة في محلِّ نصب بالقول ، والظاهر أنَّ " أَوْ " في قوله : " يوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ " بمعنى " بَلْ " للإضراب ، وهو قول ثابت ، وقيل : هي للشك.
قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال ، وزعم بعضهم : أنَّ المضارع المنفيَّ بـ " لَمْ " إذا وقع حالاً ، فالمختار دخول واو الحال؛ وأنشد : [ الطويل ]
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيْمُوا سُيُوفَهُمْ... وَلَمْ تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ
وزعم آخرون : أنَّ الأولى نفي المضارع الواقع حالاً بما ، ولمَّا. وهذان الزَّعمان غير صحيحين؛ لأنَّ الاستعمالين واردان في القرآن ، قال تعالى : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] ، وقال تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } [ الأنعام : 93 ] فجاء النفي بـ " لم " مع الواو ودونها.
فإن قيل : قد تقدَّم شيئان ، وهما " طَعَامِكَ وشَرَابِكَ " ولم يعد الضَّمير إلاَّ مفرفاً ، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدهما : أنها لمَّا كانا متلازمين ، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر ، صارا بمنزلة شيء واحد؛ حتى كأنه [ قال : ] فانظر إلى غذائك.
(8/367)
الثاني : أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط؛ لأنه أقرب مذكور ، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها. والتقدير : وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه ، وإلى شرابك لم يتسنَّه ، وقرأ ابن مسعود - رضي الله عنه - " فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه " ، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه ، فعدم تغيُّر الطعام أولى ، قال معناه أبو البقاء.
الثالث : أنه أفرد في موضع التثنية ، قاله - أيضاً - أبو البقاء؛ وأنشد : [ الكامل ]
فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ... أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
وليس بشيءٍ.
وقرأ حمزة ، والكسائي : " لَمْ يَتَسَنَّهْ " بالهاءِ وقفاً ، وبحذفها وصلاً ، والباقون : بإثباتها في الحالين. فأمَّا قراءتهما ، فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ : فالهاءُ تحتملُ وجهين :
أحدهما : أن تكون - أيضاً - للسكت ، وإنما أُثبتت وصلاً إِجراءً للوصل مجرى الوقف ، وهو في القرآن كثيرٌ ، [ سيمرُّ بك منه مواضع ] فعلى هذا يكون أصل الكلمة : إِمَّا مشتقاً من لفظ " السَّنَةِ " على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع؛ قالوا : " سُنَيَّة وَسَنَوات " ؛ وعلى هذه اللغة قالوا : " سَانَيْتُ " أُبْدِلَتِ الواو ياءً؛ لوقوعها رابعةً ، وقالوا : أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
............................. وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
ويقولون في جمعها : سنوات فقلبوا الواو تاءً ، والأصلُ : أَسْنُووا ، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة؛ كما تقدَّم ، فأصله : يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزماً.
(8/368)
وإما من لفظ " مَسْنُون " وهو المتغيرُ ، ومنه { حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] ، والأصلُ : يتَسَنَّنُ ، بثلاثٍ نونات ، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال ، فأَبدلنا الأخيرة ياءً؛ كما قالوا في تظنَّن : تظنَّى ، وفي قصَّصت أظفاري : قصَّيتُ ، ثم أبدلنا الياء ألفاً؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها ، ثم حُذِفت جزماً ، قاله أبو عمرو ، وخطَّأَه الزجاج ، قال : " لأنَّ المسنونَ : المصبوبُ على سنن الطريق ".
وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال : " هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ " أي : تغيَّر ، وهذا وإِنْ كان صحيحاً معنًى ، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقاً ، إذ لو كان مشتقاً من " أَسِنَ الماءُ " لكان ينبغي حين منه تفعَّل ، أَنْ يقال تأسَّنَ. ويمكن أَنْ يُجاب عنه : أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضع لامها ، فبقي : يَتَسَنَّأ ، بالهمزة آخراً ، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفاً ، كقولهم في قرأ : " قَرَا " ، وفي استهزأ : " اسْتَهْزا " ثم حُذفت جزماً.
والوجه الثاني : أن تكون الهاءُ أصلاً بنفسها ، ويكونُ مشتقاً من لفظ " سَنَة " أيضاً ، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً ، وهم الحجازيون ، والأصلُ : سُنَيْهة ، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير ، قالوا : سُنَيْهةٌ ، وسُنَيْهَاتٌ ، وسَانَهْتُ؛ قال شاعرهم :
وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلاَ رُجَبِيَّةٍ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ
(8/369)
ومعنى " لم يَتَسَنَّهْ " على قولنا : إِنَّهُ من لفظ السَّنَة ، أي : لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه ، بل بقي على حالِهِ ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء في أثناء كلامه : " مِنْ قولك : أَسْنَى يُسْنِي ، إذا مَضَتْ عليه سِنُون " ؛ لأنه يصير المعنى : لم تمضِ عليه سِنُون ، وهذا يخالفه الحِسُّ ، والواقع.
وقرأ أُبَيّ؛ " لَمْ يَسَّنَّهْ " بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ ، والأَصْلُ : " لم يَتَسَنَّهْ ".
كما قُرِئ : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ } [ الصافات : 8 ] ، والأصل : يَتَسَمَّعُونَ؛ فأُدغم ، وقرأ طلحة بن مصرفٍ : " لِمِئَةِ سَنَةٍ ".
قوله : " وَلِنَجْعَلَكَ " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده ، تقديره : ولنجعلك فعلنا ذلك.
الثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديره : فعلنا ذلك ، لتعلَمَ قُدْرتنا ولنجعلك.
الثالث : أن الواو زائدة واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلها ، أي : وانظر إلى حِمارِك ، لنجعلَكَ.
(8/370)
قال الفرَّاء : وهذا المعنى غير مطلوبٍ من الكلامِ؛ لأنه لو قال فانظر إلى حِمارك لنجعلك آيةً للناسِ ، كان النظرُ إلى الحمار شرطاً ، وجعله آية جزاءً أَمَّا لمَّا قال : " وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً " [ كان المعنى : ولنجعلك آيةً فعلنا ما فعلنا ، من الإماتة ، والإحياء. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، كما زعم بعضهم؛ فقال : إن قوله : " وَلِنَجْعَلَكَ " مؤخر بعد قوله تعالى : { وانظر إِلَى العظام } ، وأَنَّ الأَنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضها على بعضٍ ، فُصِل بينها بهذا الجارّ؛ لأنَّ الثالث مِنْ تمامِ الثاني ، فلذلك لم تجعل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار " أَنْ " وهي وما بعدها من الفعلِ في محلِّ جرٍّ على ما سبق بيانُهُ غير مرةٍ. و" آية " مفولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى : التصيير. و" لِلنَّاسِ " صفةٌ لآيةٍ ، و" أَلْ " في الناس ، قيل : للعهدِ ، إِنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ ، وقيل : للجنس ، إِنْ عَنَى بهم جميع بني آدم ].
قوله : " كَيْفَ " منصوبٌ نصبَ الأَحوال ، والعاملُ فيها " نُنْشِزُها " وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في " نُنْشِزُها " ، ولا يعملُ في هذا الحالِ " انظُرْ " إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلام ، فلا يعملُ فيه ما قبله ، هذا هو القولُ في هذه المسألة ، ونظائرها.
وقال أبو البقاء : " كيف نُنْشِزُها " في موضِعِ الحالِ من " العِظَامِ " ، والعاملُ في " كيف " نُنْشِزُها ، ولا يجوز أن يعمل فيها " انظُرْ " لأنَّ هذه جملة استفهام ، والاستفهامُ لا يقعُ حالاً ، وإنما الذي يقعُ حالاً " كَيْفَ " ، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادة حرفِ الاستفهامِ ، نحو : " كيف ضَرَبْتَ زيداً؛ أقائماً أم قاعداً " ؟
(8/371)
والذي يَقْتَضِيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألة ، وأمثالها : أَنْ تكونَ جملةُ " كَيْفَ نُنْشِزُها " بدلاً مِنَ " العِظَامِ " فيكونَ في محلِّ جَرٍّ أو محلِّ نصبِ ، وذلك أنَّ " نظر " البصرية تتعدَّى بـ " إِلَى " ، ويجوزُ فيها التعليقُ ، كقوله تعالى : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ الإسراء : 21 ] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنَّ ما يتعدى بحرف الجرِّ يكونُ ما بعده في محلِّ نصبٍ به. ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ؛ لتصِحَّ البدليَّة ، والتقدير : إلى حال العظام ، ونظيرُهُ قولهم : عَرفْتُ زيداً : أبو مَنْ هُوَ؟ ف " أَبُو مَنْ " هو بدلٌ من " زَيْداً " ، على حذفٍ تقديرُهُ : " عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ ". والاستفهامُ في بابِ التعليقِ ، لا يُراد به معناه؛ بل جرى في لسانِهم مُعلَّقاً عليه ، حكُم اللفظِ دونَ المعنى ، و[ هو ] نظيرُ " أي " في الاختصاص ، نحو : " اللهُمَّ اغفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَةُ " فاللفظُ كالنداء في جميعِ أَحكامه ، وليس معناه عليه.
قوله : " لَحْماً " مفعولٌ ثانٍ لِ " نَكْسُوها " وهو من باب أَعْطَى ، وهذا من الاستعارة ، ومثله قول لبيدٍ : [ البسيط ]
الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِيني أَجَلِي... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالا
قوله : " فَلَمَّا تَبَيَّنَ " في فاعل " تَبيَّن " قولان :
أحدهما : مُضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ ، تقديرُهُ : فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياءِ التي استقر بها ، وقدَّره الزمخشريُّ : " فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه " يعني مِنْ أَمْرِ إِحياءِ الموتى ، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ قوةَ الكلامِ تدِلُّ عليه بخلافِ الثاني.
(8/372)
والثاني : - وبه بدأ الزمخشري - : أن تكون المسألةُ من بابِ الإِعمالِ ، يعني أن " تَبَيَّن " يطلُبُ فاعلاً ، و" أَعْلَمُ " يطلبُ مفعولاً ، و" أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ " يصلُح أَنْ يكونَ فاعلاً لتبيَّن ، ومفعولاً لأعلَمُ ، فصارَتِ المسألةُ من التنازع ، وهذا نصُّه ، قال : وفَاعِلُ " تبيَّن " مضمرٌ تقديره : فلمَّا تبيَّن له أَنَّ الله على كل شيءٍ قدير قال : أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ على كل شيء قديرٌ ، فحُذف الأَوَّل؛ لدلالةِ الثاني عليه ، كما في قولهم : " ضَرَبَنِي ، وضَرَبْتُ زَيْداً " فجعله مِنْ باب التنازع وجعله من إعمال الثاني ، وهو المختارُ عند البصريين ، فلمَّا أعملَ الثاني ، أَضْمَرَ في الأَولِ فاعلاً ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ من إعمال الأَولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول ، فكأنه قال : فلمَّا تبيَّن له ، قال أعلمه أن الله. ومثله في إعمال الثاني : { آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] لما ذكرت.
قوله : { قَالَ أَعْلَمُ } الجمهورُ على : " قال " مبنيّاً للفاعلِ. وفي فاعله على قراءة حمزة والكسائي : " اعْلَمْ " أمراً من " عَلِمَ " قولان :
أظهرهما : أنه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى أو على المَلِك ، أي : قال اللهُ تعالى أو الملكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ.
الثاني : أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسه ، نزَّل نفسه منزلة الأجنبي ، فخاطبها؛ ومنه : [ البسيط ]
وَدِّعْ أُمَامَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ...........................
وقوله : [ المتقارب ]
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ..............................................(8/373)
يعني نفسه ، قال أبو البقاء رحمه الله : " كما تقول لنفسك : اعلم يا عبد الله ، ويُسَمَّى هذا التجريدَ " يعني : كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطباً يخاطِبُه.
وأمَّا على قراءةِ " أَعْلَمُ " مضارعاً [ للمتكلم ] وهي قراة الجمهور ففاعل " قال " ضميرُ المارِّ ، أي : قال المارُّ : أعلمُ أنا. وقرأ الأَعمشُ : " قِيل " مبنيّاً للمفعولِ. والقائمُ مقام الفاعل : إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ ، وإمَّا الجملةُ التي بعده ، على حسبِ ما تقدَّم أول السورة.
و " أَنَّ الله " في محلّ نصب ، سادَّةً مسد المفعولين ، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 346 ـ 364}. بتصرف.(8/374)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى ـ ولله دره ـ :
ولما كان الإيمان بالبعث بل الإيقان من المقاصد العظمى في هذه السورة وانتهى إلى هذا السياق الذي هو لتثبيت دعائم القدرة على الإحياء مع تباين المناهج واختلاف الطرق فبين أولاً بالرد على الكافر ما يوجب الإيمان وبإشهاد المتعجب ما ختم الإيقان علا عن ذلك البيان في قصة الخليل صلوات الله وسلامه عليه إلى ما يثبت الطمأنينة ،
وقد قرر سبحانه وتعالى أمر البعث في هذه السورة بعد ما أشارت إليه الفاتحة بيوم الدين أحسن تقرير ،
فبث نجومه فيها خلال سماوات آياتها وفرق رسومه في أرجائها بين دلائلها وبيناتها فعل الحكيم الذي يلقي ما يريد بالتدريج غير عجل ولا مقصر ،
فكرر سبحانه وتعالى ذكره بالآخرة تارة والإحياء أخرى تارة في الدنيا وتارة في الآخرة في مثل قوله {وبالآخرة هم يوقنون} [ البقرة : 4 ] {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} [ البقرة : 28 ] {ثم بعثناكم من بعد موتكم} [ البقرة : 56 ] {كذلك يحيي الله الموتى} [ البقرة : 73 ] {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [ البقرة : 243 ] وما كان من أمثاله ونظائره وأشكاله في تلك الأساليب المرادة غالباً بالذات لغيره فاستأنست أنفس المنكرين له به ،
فصار لها استعداد لسماع الاستدلال عليه حتى ساق لهم أمر خليله عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام ،(8/375)
فكان كأنه قيل : يا منكري البعث ومظهري العجب منه ومقلدي الآباء في أمره بالأخبار التي أكثرها كاذب! اسمعوا قصة أبيكم إبراهيم صلى الله عليه وسلم التي لقاكم بها الاستدلال على البعث وجمع المتفرق وإعادة الروح باخبار من لا يتهم بشهادة القرآن الذي أعجزكم عن الإتيان بمثل شيء منه فشهادته شهادة الله لتصيروا من ذلك على علم اليقين بل عين اليقين فقال تعالى : {وإذ} عطفاً على نحو اذكروا ما تلي عليكم من أمر البعث واذكروا قصة أبيكم إبراهيم فيما يدل عليه إذ.
وقال الحرالي : ولما كان أمر منزل القرآن إقامة الدين بمكتوبه وحدوده فأنهاه تعالى منتهى منه ثم نظم به ما نظم من علنه في آية الكرسي ورتب على ذلك دين الإسلام الذي هو إلقاء كإلقاء اليد عند الموت انتظم به أمر المعاد الذي لا مدخل للعباد في أمره فرتب سبحانه وتعالى ذكر المعاد في ثلاثة أحوال : حال الجاحد الذي انتهت غايته إلى بهت ،
ثم حال المستبعد الذي انتهت غايته إلى علم وإيمان ،
وأنهى الخطاب إلى حال المؤمن الذي انتهى حاله إلى يقين وطمأنينة ورؤية ملكوت في ملكوت الأرض - انتهى ،
فقال سبحانه وتعالى : واذ {قال إبراهيم} ولقد استولى الترتيب والتعبير في هذه الآيات الثلاث على الأمد الأقصى من الحسن ،
فإنها بدئت بمن أراد أن يخفي ما أوضحته البراهين من أمر الإله في الإحياء بأن ادعى لنفسه المشاركة بإحياء مجازي تلبيساً بلفظ إلى الدال على بعده ولعنه وطرده ،
ثم بمن استبعد إحياء القرية فأراه الله سبحانه وتعالى كيفية الإحياء الحقيقي آية له وتتميماً للرد على ذلك مع الإقبال عليه بالمخاطبة ولذة الملاطفة ثم بمن سأل إكرام الله تعالى له بأن يريه كيف يحيي فيثبت ثم أثبتت ثم أكدت ،
ومناسبة الثلاث بكونها في إحياء الأشباح بالأرواح لما قبلها وهو في إحياء الأرواح بأسرار الصلاح أجل مناسبة ،
(8/376)
فالمراد التحذير عن حال الأول والندب إلى الارتقاء عن درجة الثاني إلى مقام الثالث الذي حقيقته الصدق في الإيمان لرجاء الحيازة مما أكرم به ،
ولذلك عبر في قصته بقوله واذ ولم يسقها مساق التعجيب كالأول {رب} أي أيها المحسن إليّ {أرني كيف تحيي الموتى} قال الحرالي : طلب ما هو أهله بما قال تعالى {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} [ الأنعام : 75 ] فمن ملكوت الأرض الإحياء ،
فقرره سبحانه وتعالى على تحقيق ابتداء حاله من تقرر الإيمان فقال مستأنفاً : {قال} ولما كان التقدير : ألم تعلم أني قادر على الإحياء لأني قادر على كل شيء عطف عليه قوله : {أو لم تؤمن} فإن الإيمان يجمع ذلك كله {قال بلى} فتحقق أن طلبه كيفية الإحياء ليس عن بقية تثبت في الإيمان ،
فكان في إشعاره أن أكثر طالبي الكيف في الأمور إنما يطلبونه عن وهن في إيمانهم ،
ومن طلب لتثبت الإيمان مع أن فيما دون الكيف من الآيات كفايته لم ينتفع بالآية في إيمانه ،
لأن كفايتها فيما دونه ولم يعل لليقين لنقص إيمانه عن تمام حده ،
فإذا تم الإيمان بحكم آياته التي في موجود حكمة الله في الدنيا بيناته ترتب عليه برؤية ملكوت شهود الدنيا رتبة اليقين ،
كما وجد تجربته أهل الكشف من الصادقين في أمر الله حيث أورث لهم اليقين ،
ومتى شاركهم في أمر من رؤية الكشف أو الكرامات ضعيف الإيمان طلب فيه تأويلاً ،
وربما كان عليه فتنة تنقصه مما كان عنده من حظ من إيمانه حتى ربما داخله نفاق لا ينفك منه إلا أن يستنقذه الله ،
فلذلك أبدى تعالى خطاب تقريره لخليله صلى الله عليه وسلم على تحقيق الإيمان ليصح الترقي منه إلى رتبة الإيقان ،
وهو مثل نحو ما تقدم في مطلق قوله سبحانه وتعالى {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [ البقرة : 257 ] وذكر عن الخليل عليه الصلاة والسلام أنه نظر إلى بدن دابة توزعها دواب البحر ودواب البر وطير الهواء ،
(8/377)
فتعجب منها وقال : يا رب! قد علمت لتجمعنها فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك ،
فإنما ينبني يقين العيان على تحقيق الإيمان {ولكن} أريد المعاينة {ليطمئن} من الطمأنينة وهي الهدو والسكون على سواء الخلقة واعتدال الخلق {قلبي} من فطر على نيل شيء جبل على الشوق له ،
فلما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام متهيئاً لقبول الطمأنينة قذف في قلبه طلبها ،
فأجابه الله بما قد هيأه له ،
فضرب سبحانه وتعالى له مثلاً أراه إياه ،
جعله جري العيان جلي الإيقان ،
وذلك أن الله تعالى سبحانه هو الأحد الذي لا يعد ولا يحد وكان من تنزل تجليه لعباده أنه الإله الواحد ،
والواحد بريء من العد ،
فكان أول ظهور الخلق هو أول ظهور العد ،
فأول العد الاثنان {ومن كل شيء خلقنا زوجين} [ الذاريات : 49 ] فالاثنان عد هو خلق كل واحد منهما واحد ،
فجعل تعالى اثنين كل واحد منهما اثنان لتكون الاثنينية فيه كلاًّ وجزءاً فيكون زوجاً من زوج ،
فكان ذلك العد هو الأربع ،
فجعله الله سبحانه وتعالى أصلاً لمخلوقاته فكانت جملتها وتره ، فجعل الأقوات من أربع {وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام} [ فصلت : 10 ] وجعل الأركان التي خلق منها صور المخلوقات أربعاً ،
وجعل الأقطار أربعاً ،
وجعل الأعمار أربعاً ،
وقال عليه الصلاة والسلام : " خير الرفقاء أربعة ،
وخير البعوث أربعون ،
وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف " والمربعات في أصول الخلق كثيرة تتبعها العلماء واطلع عليها الحكماء {هو الذي بعث في الأميين رسولاً} [ الجمعة : 2 ] ولما كان خلق آدم وسائر المخلوقات من مداد الأركان التي هي الماء والتراب والهواء والنار فأظهر منها الصور {وصوركم فأحسن صوركم} [ غافر : 64 ] ثم أظهر سبحانه وتعالى قهره بإماتته وإفناء صوره ،
" كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذَّنَبِ ،
منه خلق وفيه يركب " فكان بددها في أربعة أقطار شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ،
(8/378)
أرى خليله عليه الصلاة والسلام كيف يدعو خلقه من أقطار آفاقه الأربعة بعد بددها واختلاطها والتئام أجزائها على غير حدها ،
يقال إن علياً رضي الله تعالى عنه ضرب بيده على قدح من فخار فقال : كم فيه من خد أسيل وعين كحيل! {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} [ ق : 4 ] فأرى تعالى خليله عليه الصلاة والسلام مثلاً من جملة ذلك {قال فخذ} بالفاء تحقيقاً لمقاله وتصديقاً فيما تحقق من إيمانه وإبداء لاستحقاقه اليقين والطمأنينة بتقرر إيمانه {أربعة من الطير} هو اسم جمع من معنى ما منه الطيران وهو الخفة من ثقل ما ليس من شأنه أن يعلو في الهواء ،
جعل تعالى المثل من الطير لأن الأركان المجتمعة في الأبدان طوائر تطير إلى أوكارها ومراكزها التي حددها الله تعالى لها جعلاً فيها لا طبعاً واجباً منها ،
فإن الله عزّ وجلّ هو الحكيم الذي جعل الحكمة ،
فمن أشهده الحكمة وأشهده أنه جاعلها فهو حكيمها ،
ومن أشهده الحكمة الدنياوية ولم يشهده أنه جاعلها فهو جاهلها ،
فالحكمة شهود الحكمة مجعولة من الله كل ماهية ممهاة ،
وكل معنوية ممعناة ،
وكل حقيقة محققة ،
فالطبع وما فيه جعل من الله ،
من جهله ألحد ومن تحققه وحد.
كذلك المعقول وما فيه إقباس من الله وإراءة من أمر الله ،
من تقيد به واعتقده لا ينفك نسبة الحد في الطبع واحتاج إلى ملجأ فتن التأويل في غيب الشرع ،
وكل ما سوى الحق موضوع معطي حظاً وحداً ينال ما أعطى ويعجز عما فوقه ،
للعقول حد تقف عنده لا تتعداه ،
فلذلك جعلها تعالى طوائر يقهرها قفص الصورة وتمام التسوية ،
ويظهر تماسكها نفخ الروح انتهى.
وقوله سبحانه وتعالى ،
{فصرهن} أي اضممهن {إليك} أي لتعرف أشكالها فيكون ذلك أثبت في أمرها.
قال الحرالي : من الصور وهو استمالة القلوب بالإحسان حتى يشتد إلى المستميل صغوها وميلها ،
(8/379)
وإشعاره ينبىء والله سبحانه وتعالى أعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رباهن وغذاهن حتى عرفنه ليكون ذلك مثلاً لما لله سبحانه وتعالى في خلقه من تربيتهم بخلقهم ورزقهم حتى عرفوه بما احتاجوا إليه ،
فوجدوه معرفة عجز عنه لا معرفة نيل له ،
فمتى دعاهم من أقطار الآفاق أجابوه إجابة هذه الطوائر لخليله بحظ يسير من تربيته لهن ،
وإذا كانت هذه الأربع مجيبة للخليل عليه السلام بهذا الحظ اليسير من الصور والصغو فكيف تكون إجابة الجملة للجليل العزيز الحكيم! قال تعالى : {ثم اجعل} عطفاً بكلمة المهلة تجاوزاً بعد تربيتهن عن ذبحهن ودرسهن وخلطهن حتى صرن لحمة واحدة لا يبين في جملتها شيء من الصور الذاهبة ،
كما تصير المواليد تراباً عند موتها وتبددها صورة واحدة ترابية ليتطابق المثل والممثول مطابقة تامة إلى ما وراء ذلك من مجاوزة عبرة وروية {على كل جبل} من الجبال القريبة إليك {منهن جزءاً} والجزء بعض من كل يشابهه كالقطعة من الذهب ونحوه ،
فجعل الجبال مثل الأقطار وهي لارتفاعها أمكن في الرؤية وأبعد من الاشتباه {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [ يس : 53 ] {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} [ النازعات : 13 ] فما كان بالصيحة والزجرة من الممثول كان بالدعاء في المثل ،
كما أن ما كان بالخلق والرزق في الممثول كان بالصور في المثل وجعله جزءاً حيث كان يشبه بعضه بعضاً {ثم ادعهن يأتينك سعياً} والسعي هو العدو والقصد المسرع يكون في الحس ،
والمعنى في إتيان الطائر طائراً حظ من مُنَّته وفي إتيانه سعياً حظ من ذلته ،
فلذلك جلبهن عليه سعياً بحال المتذلل الطالب للرزق والأمنة من اليد التي عهد منها الرزق والجنبة التي ألف منها الأمن فبدأ المثل مطابقاً للمثول وغايته مرأى عين ،
فصار موقناً مطمئناً وليس ذلك بأعجب من مشي الأحجار تارة والأشجار كرة وأغصانها أخرى إلى خدمة ولده المصطفى صلى الله عليه وسلم ،
(8/380)
" وكذا إلحام يد معوذ بن عفراء بعد ما قطعت وجاء يحملها كما ذكر في السير في غزوة بدر ،
فصارت مثل أختها " في أشياء من أمثال ذلك ،
على أنه قد كان له من إحياء الموتى ما أذكره في آل عمران ، وكان لآحاد أمته من ذلك ما ذكره البيهقي في الدلائل منه عدداً كثيراً ،
وإنما لم يكثر ذلك على يده صلى الله عليه وسلم لأنه مرسل إلى قوم لا يقرون بالبعث ،
ومحط الإيمان التصديق بالغيب ،
فلو كثر وقوع ذلك له صلى الله عليه وسلم لكشف الغطاء ،
وإذا كشف الغطاء عوجل من تخلف عن الإيمان بالعذاب وهو نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ،
وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فكان في قوم يؤمنون بالآخرة ففعله ذلك لإظهار المعجزة بنوع أعلى مما كانوا يصلون إليه بالطب ،
على أنه لا فرق في إظهار الخارق بين واحد وأكثر - والله سبحانه وتعالى الموفق. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 508 ـ 512}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}
معطوف على قوله : { أو كالذي مر على قرية } [ البقرة : 259 ] ، فهو مثال ثالث لقضية قوله : { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] الآية ومثال ثان لقضية { أو كالذي مر على قرية } فالتقدير : أو هو كإبراهيم إذ قال رب أرني إلخ.
فإنّ إبراهيم لفرط محبته الوصول إلى مرتبة المعاينة في دليل البعث رام الانتقال من العلم النظري البرهاني ، إلى العلم الضروري ، فسأل الله أن يريه إحياء الموتى بالمحسوس. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 38}
قال أبو حيان :
(8/381)
مناسبة هذه الآية لما قبلها في غاية الظهور ، إذ كلاهما أتى بها دلالة على البعث المنسوب إلى الله تعالى ، في قول إبراهيم لنمروذ { ربي الذي يحيي ويميت } لكن المار على القرية أراه الله ذلك في نفسه وفي حماره ، وإبراهيم أراه ذلك في غيره ، وقدّمت آية المار على آية إبراهيم ، وإن كان إبراهيم مقدّماً في الزمان على المار ، لأنه تعجب من الإحياء بعد الموت ، وإن كان تعجب اعتبارٍ فأشبه الإنكار ، وإن لم يكن إنكاراً فكان أقرب إلى قصة النمروذ وإبراهيم ،
وأما إن كان المار كافراً فظهرت المناسبة أقوى ظهور. (1)
وأما قصة إبراهيم فهي سؤال لكيفية إراءة الإحياء ، ليشاهد عياناً ما كان يعلمه بالقلب ، وأخبر به نمروذ. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 308}
لطيفة
قال الفخر :
إنه تعالى لم يسم عزيراً حين قال : {أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ} [ البقرة : 259 ] وسمى هاهنا إبراهيم مع أن المقصود من البحث في كلتا القصتين شيء واحد ، والسبب أن عزيراً لم يحفظ الأدب ، بل قال : {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} وإبراهيم حفظ الأدب فإنه أثنى على الله أولاً بقوله {رَبّ} ثم دعا حيث قال : {أَرِنِى} وأيضاً أن إبراهيم لما راعى الأدب جعل الإحياء والإماتة في الطيور ، وعزيراً لما لم يراع الأدب جعل الإحياء والإماتة في نفسه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 33}
فائدة
قال أبو حيان :
وفي افتتاح السؤال بقوله : رب ، حسن استلطاف واستعطاف للسؤال ، وليناسب قوله لنمروذ { ربي الذي يحيي ويميت } لأن الرب هو الناظر في حاله ، والمصلح لأمره ، وحذفت ياء الإضافة اجتزاء بالكسرة ، وهي اللغة الفصحى في نداء المضاف لياء المتكلم ، وحذف حرف النداء للدّلالة عليه.
______________
(1) الراجح عند الجمهور أنه لم يكن كافرا.(8/382)
و : أرني ، سؤال رغبة ، وهو معمول : لقال ، والرؤية هنا بصرية ، دخلت على رأى همزة النقل ، فتعدّت لاثنين : أحدهما ياء المتكلم ، والآخر الجملة الاستفهامية. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 308}
فصل
قال القرطبى :
اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شكّ أم لا ؟ فقال الجمهور : لم يكن إبراهيم عليه السَّلام شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ وإنما طلب المعانية ، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به ؛ ولهذا قال عليه السلام : " ليس الخبر كالمعانية " رواه ابن عباس لم يروه غيره ؛ قاله أبو عمر.
قال الأخفش : لم يُرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين.
وقال الحسن وقَتادة وسعيد ابن جُبير والربيع : سأل ليزداد يقيناً إلى يقينه.
قال ابن عطية : وترجم الطبريّ في تفسيره فقال : وقال آخرون سأل ذلك ربّه ؛ لأنه شك في قدرة الله تعالى.
وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أرجى عندي منها.
وذُكر عن عطاء بن أبي رَبَاح أنه قال : دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوب الناس فقال : رب أرني كيف تحيي الموتى.
وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن أحقّ بالشك من إبراهيم " الحديث ، ثم رجّح الطبريّ هذا القول.
قلت : حديث أبي هريرة خرّجه البخاريّ ومُسْلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن أحق بالشّك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أوَ لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوِي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الدّاعي " قال ابن عطية : وما ترجم به الطبريّ عندي مردود ، وما أدخل تحت الترجمة متأوّل ؛ فأما قول ابن عباس : "هي أرجى آية" فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا وليست مظنة ذلك.
ويجوز أن يقول : هي أرجى آية لقوله "أوَلم تؤمن" أي إن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث.
(8/383)
وأما قول عطاء : "دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوب الناس" فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدّم.
وأما قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " فمعناه أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السَّلام أحرى ألاّ يشك ؛ فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم ، والذي روي فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ذلك محض الإيمان " إنما هو في الخواطر التي لا تثبت ، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السَّلام.
وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم عليه السَّلام أعلم به ، يدلّك على ذلك قوله { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوّة والخُلّة ، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً.
وإذا تأمّلت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكاً وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرّر الوجود عند السائل والمسؤول ؛ نحو قولك : كيف عِلْمُ زيد ؟ وكيف نَسْجُ الثوب ؟ ونحو هذا.
ومتى قلت : كيف ثَوبكِ ؟ وكيف زيد ؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله.
وقد تكون "كيف" خبراً عن شيء شأنه أن يُستفهم عنه بكيف ، نحو قولك : كيف شئت فكن ، ونحو قول البخاريّ : كيف كان بدء الوَحْي.
(8/384)
و "كيف" في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء ، والإحياءُ متقرِّرٌ ، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبّرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح ، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ؛ مثال ذلك أن يقول مدّع : أنا أرفع هذا الجبل ؛ فيقول المكذِّب له : أرني كيف ترفعه! فهذه طريقة مجازٍ في العبارة ، ومعناها تسليم جَدَليٌّ ، كأنه يقول : افرض أنك ترفعه ، فأرني كيف ترفعه! فلما كانت عبارة الخليل عليه السَّلام بهذا الإشتراك المجازي ، خلص الله له ذلك وحمله على أن بيّن له الحقيقة فقال له : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى } فكمل الأمر وتخلّص من كل شك ، ثم علّل عليه السَّلام سؤاله بالطمأنينة.
قلت : هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر ، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث.
وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] وقال اللعين : {إلاَّ عبادك منهم المخلصين} ، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم ، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها ؛ فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين ؛ فقوله : "أرني كيف" طلب مشاهدة الكيفية.
وقال بعض أهل المعاني : إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب ؛ وهذا فاسد مردود بما تعقّبه من البيان ، ذكره الماورديّ وليست الألف في قوله : "أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ" ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير :
ألستُم خيَر من ركب المَطايَا . . .
والواو واو الحال.
و "تُؤْمِنْ" معناه إيماناً مطلقاً ، دخل فيه فضل إحياء الموتى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 299 ـ 300}
وقال أبو حيان :
(8/385)
وعلم أن الأنبياء ، عليهم السلام ، معصومون من الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً ، قاله ابن عطية ، والذي اخترناه أنهم معصومون من الكبائر والصغائر على الإطلاق ، وإذا كان كذلك ، فقد تكلم بعض المفسرين هنا في حق من سأل الرؤية هنا بكلام ضربنا عن ذكره صفحاً ، ونقول : ألفاظ الآية لا تدل على عروض شيء يشين المعتقد ، لأن ذلك سؤال أن يريه عياناً كيفية إحياء الموتى ، لأنه لما علم ذلك بقلبه وتيقنه ، واستدل به على نمروذ في قوله { ربي الذي يحيي ويميت } طلب من الله تعالى رؤية ذلك ، لما في معاينة ذلك من رؤية اجتماع الأجزاء المتلاشية ، والأعضاء المتبدّدة ، والصور المضمحلة ، واستعظام باهر قدرته تعالى.
والسؤال عن الكيفية يقتضي تيقن ما سأل عنه : وهو الإحياء ، وتقرره ، والإيمان به ، وأنه مما انطوى الضمير على اعتقاده. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 308}
وقال الآلوسى :
وعلى كل تقدير لا يعود نقص على إبراهيم من هذا السؤال ولا ينافي منصب النبوة أصلاً ، وللناس ولوع بالسؤال عن هذه الآية وما ذكر هو المشهور فيها ويعجبني ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في الذب عن الخليل عليه السلام من الكلام ، وهو أن السؤال لم يكن عن شك في أمر ديني والعياذ بالله ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علماً بها وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها ، فالخليل عليه السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه ، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة { كَيْفَ } وموضوعها السؤال عن الحال ، ونظير هذا أن يقول القائل : كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته ولو كان سائلاً عن/ ثبوت ذلك لقال أيحكم زيد في الناس ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم وحاشاه شكا من هذه الآية قطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر هذا الوهم بقوله على سبيل التواضع :
(8/386)
" نحن أحق بالشك من إبراهيم " أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى ، وقيل : إن الكلام مع أفعل جاء هنا لنفي المعنى عن الحبيب والخليل عليهما الصلاة والسلام أي لا شك عندنا جميعاً ، ومن هذا الباب { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } [ الدخان : 37 ] أي لا خير في الفريقين ، وإنما جاء التقرير بعد لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد استعمل أيضاً في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلاً من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له : أرني كيف تحمل هذا وتريد أنك عاجز عن حمله فأراد سبحانه لما علم براءة الخليل عن الحوم حول حمى هذا المعنى أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى ليكون إيمانه مخلصاً بعبارة تنص عليه بفهمها كل من يسمعها فهماً لا يتخالجه فيه شك. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 27}
فصل نفيس
قال الإمام الفخر :
ذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوهاً
الأول : قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج : أنه رأى جيفة مطروحة في شط البحر فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر ، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت ، وإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : رب أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر ، فقيل : أو لم تؤمن قال بلى ولكن المطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضرورياً.(8/387)
الوجه الثاني : قال محمد بن إسحاق والقاضي : سبب السؤال أنه مع مناظرته مع نمروذ لما قال : {رَبّيَ الذى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ} فأطلق محبوساً وقتل رجلاً قال إبراهيم : ليس هذا بإحياء وإماتة ، وعند ذلك قال : {رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى} لتنكشف هذه المسألة عند نمروذ وأتباعه ، وروي عن نمرود أنه قال : قل لربك حتى يحيي وإلا قتلتك ، فسأل الله تعالى ذلك ، وقوله {لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} بنجاتي من القتل أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني ، وإن عدولي منها إلى غيرها ما كان بسبب ضعف تلك الحجة ، بل كان بسبب جهل المستمع.
والوجه الثالث : قال ابن عباس وسعيد بن جُبَيْر والسُّدّي رضي الله عنهم : أن الله تعالى أوحى إليه إني متخذ بشراً خليلاً : فاستعظم ذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وقال إلهي ما علامات ذلك ؟ فقال : علامته أنه يحيي الميت بدعائه ، فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة ، خطر بباله : إني لعلي أن أكون ذلك الخليل ، فسأل إحياء الميت فقال الله {أَوَلَمْ تُؤْمِنُ قَالَ بلى ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} على أنني خليل لك.
الوجه الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم إنما سأل ذلك لقومه وذلك أتباع الأنبياء كانوا يطالبونهم بأشياء تارة باطلة وتارة حقة ، كقولهم لموسى عليه السلام :
{اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [ الأعراف : 138 ] فسأل إبراهيم ذلك.
والمقصود أن يشاهده فيزول الإنكار عن قلوبهم.
(8/388)
الوجه الخامس : ما خطر ببالي فقلت : لا شك أن الأمة كما يحتاجون في العلم بأن الرسول صادق في ادعاء الرسالة إلى معجز يظهر على يده فكذلك الرسول عند وصول الملك إليه وإخباره إياه بأن الله بعثه رسولاً يحتاج إلى معجز يظهر على يد ذلك الملك ليعلم الرسول أن ذلك الواصل ملك كريم لا شيطان رجيم وكذا إذا سمع الملك كلام الله احتاج إلى معجز يدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى لا كلام غيره وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال : إنه لما جاء الملك إلى إبراهيم وأخبره بأن الله تعالى بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجز فقال : {رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم.
الوجه السادس : وهو على لسان أهل التصوف : أن المراد من الموتى القلوب المحجوبة عن أنوار المكاشفات والتجلي ، والإحياء عبارة عن حصول ذلك التجلي والأنوار الإلهية فقوله {أرني كيف تحيي الموتى} طلب لذلك التجلي والمكاشفات فقال أولم تؤمن قال بلى أؤمن به إيمان الغيب ، ولكن أطلب حصولها ليطمئن قلبي بسبب حصول ذلك التجلي ، وعلى قول المتكلمين : العلم الاستدلالي مما يتطرق إليه الشبهات والشكوك فطلب علماً ضرورياً يستقر القلب معه استقرار لا يتخالجه شيء من الشكوك والشبهات.
الوجه السابع : لعله طالع في الصحف التي أنزلها الله تعالى عليه أنه يشرف ولده عيسى بأنه يحيي الموتى بدعائه فطلب ذلك فقيل له {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} على أني لست أقل منزلة في حضرتك من ولدي عيسى.
الوجه الثامن : أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمر بذبح الولد فسارع إليه ، ثم قال : أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح ففعلت ، وأنا أسألك أن تجعل غير ذي روح روحانياً ، فقال : أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أنك اتخذتني خليلاً.
(8/389)
الوجه التاسع : نظر إبراهيم صلى الله عليه وسلم في قلبه فرآه ميتاً بحب ولده فاستحيى من الله وقال : أرني كيف تحيي الموتى أي القلب إذا مات بسبب الغفلة كيف يكون إحياؤه بذكر الله تعالى.
الوجه العاشر : تقدير الآية أن جميع الخلق يشاهدون الحشر يوم القيامة فأرني ذلك في الدنيا ، فقال : أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أن خصصتني في الدنيا بمزيد هذا التشريف.
الوجه الحادي عشر : لم يكن قصد إبراهيم إحياء الموتى ، بل كان قصده سماع الكلام بلا واسطة.
الثاني عشر : ما قاله قوم من الجهال ، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان شاكاً في معرفة المبدأ وفي معرفة المعاد ، أما شكه في معرفة المبدأ فقوله {هذا رَبّى} وقوله {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} [ الأنعام : 77 ] وأما شكه في المعاد فهو في هذه الآية ، وهذا القول سخيف ، بل كفر وذلك لأن الجاهل بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى كافر ، فمن نسب النبي المعصوم إلى ذلك فقد كفر النبي المعصوم ، فكان هذا بالكفر أولى ، ومما يدل على فساد ذلك وجوه أحدها : قوله تعالى : {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} ولو كان شاكاً لم يصح ذلك
وثانيها : قوله {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} وذلك كلام عارف طالب لمزيد اليقين ، ومنها أن الشك في قدرة الله تعالى يوجب الشك في النبوّة فكيف يعرف نبوّة نفسه. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 34 ـ 35}
قوله تعالى : {أَوَلَمْ تُؤْمِن}
قال الفخر :
قوله تعالى : {أَوَلَمْ تُؤْمِن} ففيه وجهان أحدهما : أنه استفهام بمعنى التقرير ، قال الشاعر :
ألستم خير من ركب المطايا.. وأندى العالمين بطون راح
______________
(1) بعض هذه الوجوه لا يخلو من مقال
ورحم الله الإمام الفخر فقد كان حبرا لا يبارى ولا يجارى. والله أعلم وأحكم.(8/390)
والثاني : المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه عليه السلام كان مؤمناً بذلك عارفاً به وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 35}
قوله تعالى : {قَالَ بلى ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى}
قال الفخر :
اعلم أن اللام في {لّيَطْمَئِنَّ} متعلق بمحذوف ، والتقدير : سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب ، قالوا.
والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض للمستدل وإلا فاليقين حاصل على كلتا الحالتين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 35}
كلام نفيس للعلامة الآلوسى فى هذا الموضع
قال رحمه الله ما نصه :
(8/391)
ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد ، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوه ، ولا أرى رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه عليه السلام شيئاً وإنما أفادت أمراً لا يجب الإيمان به ، ومن هنا تعلم أن علياً كرم الله تعالى وجهه لم يثبت لنفسه مرتبة في الإيمان أعلى من مرتبة الخليل فيه بقوله : لو كشفت لي الغطاء ما ازددت يقيناً كما ظنه جهلة الشيعة وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامي الخليل والأمير من أفضلية الثاني على الأول فبعض دفعه بأن اليقين يتصور أن يطرأ عليه الجحود لقوله تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] والطمأنينة لا يتصور طرو ذلك عليها ونسب هذا لحجة الإسلام الغزالي وفي القلب منه شيء ، وبعض قرر في دفعه أن مقام النبوة مغاير لمقام الصديقية ، فلمقام النبوة طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه ، ولمقام الصديقية طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه أيضاً ، وطمأنينة مقام النبوة كانت لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما كشف عنها بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } [ الفرقان : 45 ] على ما يعرفه أهل الذوق من الآية وكان الاستعداد من إبراهيم وكذا من موسى عليهما السلام متوجهاً إلى ابتغاء تلك الطمأنينة كما أبانا عن أنفسهما بـ { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ * يُحْيِىَ الموتى } و{ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] وطمأنينة مقام الصديقية كانت للصديقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما أبدى عن نفسه إمام الصديقين كرم الله تعالى وجهه بقوله : "لو كشف" الخ ، وكان الاستعداد في صدِّيقي سائر الأنبياء متوجهاً إلى ابتغاء تلك الطمأنينة فثبتت الفضيلة لمحمد صلى الله عليه وسلم على سائر إخوانه من الأنبياء والصديقية(8/392)
على سائر الصديقين من أممهم ولم يثبت لصديقيه لوجدانهم طمأنينتهم الفضيلة على الأنبياء عند فقدانهم طمأنينتهم لأن ما فقدوه من الطمأنينة غير ما وجده الصديقون منها لأنهم إنما يفقدون الطمأنينة اللائقة بمقام النبوة والصديقون لم يجدوا مثل تلك الطمأنينة وإنما وجدوا طمأنينة لائقة بمقام الصديقين ولو رضي النبيون بمثله لكان حاصلاً لهم ، وأجل من ذلك بعدة مراتب ولقد اعترف الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه بهذا التخلف حين بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إني لأسهو فقال : يا ليتني كنت سهو محمد صلى الله عليه وسلم إذ علم أن ما يعده رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه الكريمة سهواً فوق أعلى يقظان الصديق إذ حسنات الأبرار سيآت المقربين وحسنات المقربين سيآت النبيين ، وهذا أولى مما سبق ، وبعض من المتصوفة كجهلة الشيعة التزموا ظاهر كل من الكلامين وزعموا أن أولياء هذه الأمة وصديقهم أعلى كعباً من الأنبياء ولو نالوا مقام الصديقية محتجين بما روي عن الإمام الرباني سيدي وسندي عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال : يا معشر الأنبياء الفرق بيننا وبينكم بالألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه ، وببعض عبارات للشيخ الأكبر قدس سره ينطق بذلك ، وأنت تعلم أن التزام ذلك والقول به خرق لإجماع المسلمين ومصادم للأدلة القطعية على أفضلية الأنبياء على سائر الخلق أجمعين ، ويوشك أن يكون القول به كفراً بل قد قيل به ، وما روي عن الشيخ عبد القادر قدس سره فمما لم يثبت نقله عنه في كتاب يعول عليه ، وما يعزى إلى الشيخ الأكبر قدس سره فتعارضه عبارات له أخر مثل قوله قدس سره وهو الذي تعلم ترجمته لنفسه وعده إياها من أكبر الصديقين بل خاتم الولاية الخاصة والمقام المحمدي فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليّاً لا دخولاً فكدت أحترق ، وبتقدير تسليم ما نقل عمن نقل والقول بعدم قوة المعارض لنا أن نقول : إن ذلك القول صدر عن القائل عند فنائه(8/393)
في الحقيقة المحمدية والذات الأحمدية فاللسان حينئذ لسانها والقول قولها ولم يصدر ذلك منه حين رؤية نفسه ، والوقوف عند رتبته وهذا غير ما ذهب إليه الشيعة وبعيد عنه بمراحل ، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه بأتم من هذا إن شاء الله تعالى ، فخزائن الفكر ولله الحمد مملوءة ، ولكل مقام مقال ، هذا وذكر الزمخشري أن المراد بالطمأنينة هنا العلم الذي لا مجال للتشكيك فيه وهو علم الضرورة المخالف لعلم الاستدلال حيث يجوز معه ذلك ، واعترض بأن العلم الموقوف على سبب لا يتصور فيه تشكيك ما دام سببه مذكوراً في نفس العالم وإنما الذي قبل التشكيك قبولاً مطلقاً هو الاعتقاد وإن كان صحيحاً وسببه باق في الذكر وبهذا ينحط الاعتقاد الصحيح عن العلم ، وأجيب بأن هذا مبني على تفسير العلم بأنه صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض بوجه على ما ذكره ابن الحاجب في "مختصره" وقد قيل عليه ما قيل فتدبر. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 28}
قوله تعالى : {فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير}
قال أبو حيان :
الطير اسم جمع لما لا يعقل ، يجوز تذكيره وتأنيثه ، وهنا أتى مذكراً لقوله تعالى { وخذ أربعة من الطير } وجاء على الأفصح في اسم الجمع في العدد حيث فصل : بمن ، فقيل : أربعة من الطير يجوز الإضافة ، كما قال تعالى : { تسعة رهط } ونص بعض أصحابنا على أن الإضافة لاسم الجمع في العدد نادرة لا يقاس عليها ، ونص بعضهم على أن اسم الجمع لما لا يعقل مؤنث ، وكلا القولين غير صواب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 310}
فصل
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير} فقال ابن عباس رضي الله عنهما : أخذ طاوساً ونسراً وغراباً وديكاً ، وفي قول مجاهد وابن زيد رضي الله عنهما : حمامة بدل النسر ، وهاهنا أبحاث : (8/394)
البحث الأول : أنه لما خص الطير من جملة الحيوانات بهذه الحالة ذكروا فيه وجهين الأول : أن الطيران في السماء ، والارتفاع في الهواء ، والخليل كانت همته العلو والوصول إلى الملكوت فجعلت معجزته مشاكلة لهمته.
والوجه الثاني : أن الخليل عليه السلام لما ذبح الطيور وجعلها قطعة قطعة ، ووضع على رأس كل جبل قطعاً مختلطة ، ثم دعاها طار كل جزء إلى مشاكله ، فقيل له كما طار كل جزء إلى مشاكله كذا يوم القيامة يطير كل جزء إلى مشاكله حتى تتألف الأبدان وتتصل به الأرواح ، ويقرره قوله تعالى :
{يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [ القمر : 7 ].
البحث الثاني : أن المقصود من الإحياء والإماتة كان حاصلاً بحيوان واحد ، فلم أمر بأخذ أربع حيوانات ، وفيه وجهان الأول : أن المعنى فيه أنك سألت واحداً على قدر العبودية وأنا أعطي أربعاً على قدر الربوبية والثاني : أن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تركيب أبدان الحيوانات والنباتات والإشارة فيه أنك ما لم تفرق بين هذه الطيور الأربعة لا يقدر طير الروح على الارتفاع إلى هواء الربوبية وصفاء عالم القدس.
البحث الثالث : إنما خص هذه الحيوانات لأن الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع ، قال تعالى : {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} [ آل عمران : 14 ] والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء الشهوة من الفرج والغراب إشارة إلى شدة الحرص على الجمع والطلب ، فإن من حرص الغراب أنه يطير بالليل ويخرج بالنهار في غاية البرد للطلب ، والإشارة فيه إلى أن الإنسان ما لم يسع في قتل شهوة النفس والفرج وفي إبطال الحرص وإبطال التزين للخلق لم يجد في قلبه روحاً وراحة من نور جلال الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 36}
قال أبو حيان :
(8/395)
وما أبدوه في تخصيص الأربعة وفي تعيينها لا تكاد تظهر حكمته فيما ذكروه ، وما أجراه الله تعالى لأنبيائه من الخوارق مختلف ، وحكمة اختصاص كل نبي بما أجرى الله له منها مغيبة عنا.
ألا ترى خرق العادة لموسى في أشياء ، ولعيسى في أشياء غيرها ، ولرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم في أشياء لا يظهر لنا سر الحكمة في ذلك ؟ فكذلك كون هذه الأربعة من الطير ، لا يظهر لنا سر حكمته في ذلك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 310}
لطيفة
قال ابن عاشور :
وجيء بمن للتبعيض لدلالة على أنّ الأربعة مختلفة الأنواع ، والظاهر أنّ حكمة التعدّد والاختلاف زيادة في تحقّق أنّ الإحياء لم يكن أهون في بعض الأنواع دون بعض ، فلذلك عدّدت الأنواع ، ولعلّ جعلها أربعة ليكون وضعُها على الجهات الأربع : المشرق والمغرب والجنوب والشمال لئلاّ يظنّ لبعض الجهات مزيد اختصاص بتأتي الإحياء ، ويجوز أنّ المراد بالأربعة أربعة أجزاء من طير واحد فتكون اللام للعهد إشارة إلى طير حاضر ، أي خذ أربعة من أجزائه ثم ادعهنّ ، والسعي من أنواع المشي لا من أنواع الطيران ، فجعل ذلك آية على أنَّهنّ أعيدت إليهن حياة مخالفة للحياة السابقة ، لئلا يظن أنّهن لم يمتن تماماً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 39 ـ 40}
قوله تعالى : {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}
فصل
قال الفخر :
قرأ حمزة {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} بكسر الصاد ، والباقون بضم الصاد ، أما الضم ففيه قولان
الأول : أن من صرت الشيء أصوره إذا أملته إليه ورجل أصور أي مائل العنق ، ويقال : صار فلان إلى كذا إذا قال به ومال إليه ، وعلى هذا التفسير يحصل في الكلام محذوف ، كأنه قيل : أملهن إليك وقطعهن ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ ، فحذف الجملة التي هي قطعهن لدلالة الكلام عليه كقوله {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} على معنى : فضرب فانفلق لأن قوله {ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جزءاً} يدل على التقطيع.
(8/396)
فإن قيل : ما الفائدة في أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها ؟ .
قلنا : الفائدة أن يتأمل فيها ويعرف أشكالها وهيآتها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ، ولا يتوهم أنها غير تلك.
والقول الثاني : وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد {صرهن إليك} معناه قطعهن ، يقال : صار الشيء يصوره صوراً ، إذ قطعه ، قال رؤبة يصف خصماً ألد : صرناه بالحكم ، أي قطعناه ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار ، وأما قراءة حمزة بكسر الصاد ، فقد فسّر هذه الكلمة أيضاً تارة بالإمالة ، وأخرى بالتقطيع ، أما الإمالة فقال الفرّاء : هذه لغة هذيل وسليم : صاره يصيره إذا أماته ، وقال الأخفش وغيره {صرهن} بكسر الصاد : قطعهن.
يقال : صاره يصيره إذا قطعه ، قال الفرّاء : أظن أن ذلك مقلوب من صرى يصري إذا قطع ، فقدمت ياؤها ، كما قالوا : عثا وعاث ، قال المبرّد : وهذا لا يصح ، لأن كل واحد من هذين اللفظين أصل في نفسه مستقل بذاته ، فلا يجوز جعل أحدهما فرعاً عن الآخر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 36 ـ 37}
فصل
قال الفخر :
أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية : قطعهن ، وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها ، وخلط بعضها على بعض ، غير أبي مسلم فإنه أنكر ذلك ، وقال : إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه ، والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة ، أي فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك ، فإذا صارت كذلك ، فاجعل على كل جبل واحداً حال حياته ، ثم ادعهن يأتينك سعياً ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه : فقطعهن.
واحتج عليه بوجوه
(8/397)
الأول : أن المشهور في اللغة في قوله {فَصُرْهُنَّ} أملهن وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية إلحاقاً لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز والثاني : أنه لو كان المراد بصرهن قطعهن لم يقل إليك ، فإن ذلك لا يتعدى بإلي وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن.
قلنا : التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجىء إلى التزامه خلاف الظاهر والثالث : أن الضمير في قوله {ثُمَّ ادعهن} عائد إليها لا إلى أجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضاً الضمير في قوله {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} عائداً إليها لا إلى إجزائها وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في {يَأْتِينَكَ} عائداً إلى أجزائها لا إليها ، واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه
الأول : أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها ، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع والثاني : أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فلا يكون له فيه مزية على الغير
والثالث : أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى ، وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك ، وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة
(8/398)
والرابع : أن قوله {ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا} يدل على أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ ، قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة والجواب : أن ما ذكرته وإن كان محتملاً إلا أن حمل الجزء على ما ذكرناه أظهر والتقدير : فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزأً أو بعضاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 37 ـ 38}
قوله تعالى : {ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً}
فصل
قال الفخر :
ظاهر قوله {على كُلّ جَبَلٍ} جميع جبال الدنيا ، فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان ، كأنه قيل : فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه ،
وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة وعلى حسب الجهات الأربعة أيضاً أعني المشرق والمغرب والشمال والجنوب ،
وقال السدي وابن جريج : سبعة من الجبال لأن المراد كل جبل يشاهده إبراهيم عليه السلام حتى يصح منه دعاء الطير ، لأن ذلك لا يتم إلا بالمشاهدة ، والجبال التي كان يشاهدها إبراهيم عليه السلام سبعة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 38}
قال أبو حيان :
والظاهر أنه أمر أن يجعل على كل جبل ثلاثة مما يشاهده بصره ، بحيث يرى الأجزاء ، وكيف تلتئم إذا دعا الطيور. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 311}
فصل
قال الفخر :
روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذبحها ونتف ريشها وتقطيعها جزءاً جزءاً وخلط دمائها ولحومها ، وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال على كل جبل ربعاً من كل طائر ، ثم يصيح بها : تعالين بإذن الله تعالى ، ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث ، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها وانضم كل رأس إلى جثته ، وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 38}
قوله تعالى : {ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْيًا}
فصل
قال الفخر :
(8/399)
أما قوله تعالى : {ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْيًا} فقيل عدواً ومشياً على أرجلهن ، لأن ذلك أبلغ في الحجة ، وقيل طيراناً وليس يصح ، لأنه لا يقال للطير إذا طار : سعى ، ومنهم من أجاب عنه بأن السعي هو الاشتداد في الحركة ، فإن كانت الحركة طيراناً فالسعي فيها هو الاشتداد في تلك الحركة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 38}
وقال أبو حيان :
{ ثم ادعهنّ يأتينك سعياً } أمره بدعائهنّ وهنّ أموات ، ليكون أعظم له في الآية ، ولتكون حياتها متسببة عن دعائه ، ولذلك رتب على دعائه إياهنّ إتيانهنّ إليه ، والسعي هو : الإسراع في الشيء.
وقال الخليل : لا يقال سعى الطائر ، يعنى على سبيل المجاز ، فيقال : وترشيحه هنا هو أنه لما دعاهنّ فأتينه تنزلن منزلة العاقل الذي يوصف بالسعي ، وكان إتيانهنّ مسرعات في المشي أبلغ في الآية ، إذ اتيانهنّ إليه من الجبال يمشين مسرعات هو على خلاف المعهود لهنّ من الطيران ، وليظهر بذلك عظم الآية ، إذ أخبره أنهنّ يأتين على خلاف عادتهنّ من الطيران ، فكان كذلك.
وجعل سيرهنّ إليه سعياً ، إذ هو مشية المجد الراغب فيما يمشي إليه ، لإظهار جدها في قصد إبراهيم ، وإجابة دعوته.
وانتصاب : سعياً ، على أنه مصدر في موضع الحال من ضمير الطيور ، أي : ساعيات ، وروي عن الخليل : أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعياً.
فعلى هذا يكون مصدراً لفعل محذوف ، هو في موضع الحال من الكاف ، وكان المعنى : يأتينك وأنت ساع إليهنّ ، أي يكون منهنّ إتيان إليك ، ومنك سعي إليهنّ ، فتلتقي بهنّ.
والوجه الأول أظهر ، وقيل : انتصب : سعياً ، على أنه مصدر مؤكد لأن السعي والإتيان متقاربان. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 311}
سؤال : فإنْ قيل : فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله : { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] فعنه جوابان :
أحدهما : أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف ، وما سأله إبراهيم خاص يصح.
(8/400)
والثاني : أن الأحوال تختلف ، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة ، وفي بعض وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 335 ـ 336}
قوله تعالى : { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما أراه سبحانه وتعالى ملكوت الأرض صارت تلك الرؤية علماً على عزة الله من وراء الملكوت في محل الجبروت فقال : {واعلم أن الله} أي المحيط علماً وقدرة {عزيز} ولما كان للعزة صولة لا تقوى لها فطر المخترعين نزل تعالى الخطاب إلى محل حكمته فقال : {حكيم} فكان فيه إشعار بأنه سبحانه وتعالى جعل الأشياء بعضها من بعض كائنة وبعضها إلى بعض عامدة وبعضها من ذلك البعض معادة {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [ طه : 55 ] وهذه الحكمة التي أشار إليها اسمه الحكيم حكمة ملكوتية جامعة لوصلة ما بين حكمة الدنيا وحكمة الآخرة ،
لأن الحكيم بالحقيقة ليس من علمه الله حكمة الدنيا وألبس عليه جعله لها بل ذلك جاهلها كما تقدم ،
إنما الحكيم الذي أشهده الله حكمة الدنيا أرضاً وأفلاكاً ونجوماً وآفاقاً وموالد وتوالداً ،
وأشهده أنه حكيمها ،
ومزج له علم حكمة موجود الدنيا بعلم حكمة موجود الآخرة ،
وأراه كيفية توالج الحكمتين بعضها في بعض ومآل بعضها إلى بعض حتى يشهد دوران الأشياء في حكمة أمر الآخرة التي هي غيب الدنيا إلى مشهود حكمة الدنيا ثم إلى مشهود حكمة الآخرة كذلك عوداً على بدء وبدءاً على عود في ظهور غيب الإبداء إلى مشهوده وفي عود مشهوده إلى غيبه {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} [ غافر : 11 ] كذلك إلى المعاد الأعظم الإنساني {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن} [ التغابن : 9 ] فهذا هو الحكيم المتوسط الحكمة ،
ثم وراء ذلك أمر آخر من على أمر الله في متعالي تجلياته بأسماء وأوصاف يتعالى ويتعاظم للمؤمنين ويتبارك ويستعلن للموقنين الموحدين ، (8/401)
فله سبحانه وتعالى العزّة في خلقه وأمره وله الحكمة في خلقه وأمره ومن ورائها كلمته التي لا ينفد تفصيل حكمها {قل لو كان البحر مداداً} [ الكهف : 109 ] وكلماته لا تحد ولا تعد {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} [ لقمان : 27 ] ،
فهو العزيز الحكيم العلي العظيم - انتهى.
وهو أعلى من الجوهر الثمين وقد لاح بهذا أن قصد الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين بل إلى حق اليقين ،
وكأنه عد المرتبة الدنيا من الطمأنينة بالنسبة إلى العليا عدماً ،
وقيل : بل كان قصده بالسؤال رؤية المحيي ولكنه طلبها تلويحاً فأجيب بالمنع منها بوصف العزة تلويحاً ،
وموسى عليه الصلاة والسلام لما سأل تصريحاً أجيب تصريحاً ،
وسؤال الخليل عليه الصلاة والسلام ليس على وجه الشك ،
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " نحن أحق بالشك من إبراهيم " يرشد إلى ذلك ،
لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك ،
وإذا انتفى الشك عن الأحق انتفى الشك عن غيره من باب الأولى ،
ولئن سلمنا فالمراد أنه فعل مثل ما يفعل الشاك إطلاقاً لاسم الملزوم على اللازم في الجملة ،
وأما نفس الشك فقد نفاه القرآن عنه صلى الله عليه وسلم تصريحاً بقوله " بلى " وتلويحاً بكون هذه الآية عقب آية محاجته لذلك الذي بهت ،
نقل أن الشيخ أحمد أخا حجة الإسلام الغزالي سئل أيما أعلى المقام الإبراهيمي في سؤال الطمأنينة أو المقام العلوي القائل : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ؟ فقال : الإبراهيمي لقوله تعالى {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [ النمل : 14 ]. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 513 ـ 514}
قال أبو حيان :
{ واعلم أن الله عزيز حكيم } عزيز لا يمتنع عليه ما يريد ، حكيم فيما يريد ويمثل ، والعزة تتضمن القدرة ، لأن الغلبة تكون عن العزة.
وقيل : عزيز منتقم ممن ينكر بعث الأموات ، حكيم في نشر العظام الرفاة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 312}
فائدة
قال أبو حيان :
(8/402)
وقد تضمنت هذه القصص الثلاث ، من فصيح المحاورة بذكر : قال ، سؤالاً وجواباً ، وغير ذلك من غير عطف ، إذ لا يحتاج إلى التشريك بالحرف إلاَّ إذا كان الكلام بحيث لو لم يشرك لم يستقل ، فيؤتى بحرف التشريك ليدل على معناه.
أما إذا كان المعنى يدل على ذلك ، فالأحسن ترك الحرف إذا كان أخذ بعضه بعنق بعض ، ومرتب بعضه من حيث المعنى على بعض ، وقد أشرنا إلى شيء من هذا في قوله : { وإذ قال ربك للملائكة أنى جاعل في الأرض خليفة }
ومما جاء ذلك كثيراً محاورة موسى وفرعون في سورة الشعراء وسيأتي تفسير ذلك إن شاء الله تعالى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 312}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قيل كان في طلب في زيادة اليقين ، فأراد أن يقرن حق اليقين بما كان له حاصلاً من عين اليقين.
وقيل استجلب خطابه بهذه المقالة إلى قوله سبحانه : { أو لم تؤمن قال بلى } كنت أومن ولكني اشتقتُ إلى قولك لي : أَوَلم تؤمن ، فإن بقولك لي : { أو لم تؤمن } تطميناً لقلبي. والمحبُّ أبداً يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه.
وقيل : إنه طلب رؤية الحق سبحانه ولكن بالرمز والإشارة فَمُنِعَ منها بالإشارة بقوله { وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }. وإن موسى - عليه السلام - لما سأل الرؤية جهراً وقال : { رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] فَرُدَّ بالجهر صريحاً وقيل له { لَن تَرَانِى }.
وقيل إنما طلب حياة قلبه فأُشير إليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور ، وفي الطيور الأربعة طاووس ، والإشارة إلى ذبحه تعني زينة الدنيا ، وزهرتها ، والغراب لحِرصِه ، والديك لمشيته ، والبط لطلبه لرزقه.
ولما قال إبراهيم عليه السلام { أرِنِى كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى } ؟ قيل له : وأرني كيف تذبح الحي ؟ يعني إسماعيل ، مطالبة بمطالبة. فلمَّا وَفَّى بما طولب به وفَّى الحق سبحانه بحكم ما طلب.
(8/403)
وقيل كان تحت ميعاد من الحق - سبحانه - أن يتخذه خليلاً ، وأمارة ذلك إحياء الموتى على يده ، فجرى ما جرى.
ووصل بين قصة الخليل صلى الله عليه وسلم فيما أراه وأظهره على يده من إحياء الموتى وبين عُزَير إذ أراه في نفسه ؛ لأن الخليل يَرْجُح على عزير في السؤال وفي الحال ، فإن إبراهيم - عليه السلام - لم يَرُدَّ عليه في شيء ولكنه تَلَطَّف في السؤال ، وعُزَير كلمه كلام من يُشْبِه قولُه قولَ المسْتَبْعِد ، فأراد الحق أن يظهر له أقوى معجزة وأتمَّ دلالة حيث أظهر إحياءَ الموتى على يده حين التبس على نمرود ما قال إبراهيم - عليه السلام - ربي الذي يحيي ويميت ، فقال : { أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ } أراد إبراهيم أن يُرِيَه الله سبحانه إحياء الموتى ليعلم أنه ليس هو الذي ادَّعى.
وفي هاتين الآيتين رخصة لمن طلب زيادةَ اليقين من الله سبحانه وتعالى في حال النظر.
ويقال إن إبراهيم أراد إحياء القلب بنور الوصلة بحكم التمام ، فقيل له : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } يعني أما تذكر حال طلبك إيانا حين كنت تقول لكل شيء رأيته { هَذَا رَبِّى } [ الأنعام : 77 ] فلم تَدْرِ كيف بَلَّغْنَاكَ إلى هذه الغاية ، فكذلك يوصلك إلى ما سَمَتْ إليه هِمَّتُك.
والإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء يعني النفس ؛ فَمَنْ لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يَحْيَى قلبُه بالله.
وفيه إشارة أيضاً وهو أنه قال قَطِّعْ بيدك هذه الطيور ، وفَرِّقْ أجزاءها ، ثم ادْعُهُنَّ يأتينك سعياً ، فما كان مذبوحاً بيد صاحب الخلة ، مقطعاً مُفَرَّقاً بيده - فإذا ناداه استجاب له كل جزء مُفَرَّق.. كذلك الذي فَرَّقه الحق وشتَّته فإذا ناداه استجاب :
ولو أنَّ فوقي تُرْبةً وَدَعَوْتَنِي... لأجَبْتُ صَوْتَكَ والعِظَامُ رُفَاتُ (1)
أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 201 ـ 203}
_______________
(1) ما أجمل هذا الكلام مع أن فى بعضه نظر ، رحم الله الإمام القشيرى.(8/404)
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى . . . }.
قال ابن عطية : قال الجمهور : إن إبراهيم لم يكن شاكا قط في إحياء الله الموتى ، وإنما طلب المعاينة ، وقال آخرون : إنه شك في قدرة الله تعالى ( في ) إحياء الموتى ( ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه.
ابن عرفة : هذا كلام لا يليق بابن عباس ).
وحمله على ظاهره يلزم عليه الكفر فلا بد من تأويله وهو أن الشك في كيفية وجود الشيء لا يلزم منه الشك في وجود ذلك الشيء ، كما أنا لا نشك في موت عثمان رضي الله عنه مقتولا ونشك في كيفية ذلك حسبما اختلف فيه الرواة والنقلة.
قال : ومن هنا يستدل على القول بعدم تواتر القراءات ( السبعة ) غير ملزوم ( للقول ) بعدم تواتر القرآن جملة.
قال ابن عرفة : فأراد ابراهيم عليه السلام الانتقال من العلم النظري إلى العلم الضروري لأن ( النظري ) تعرض له الشكوك ( والضروري لا تعرض له الشكوك ) ولذلك يقول الفخر ابن الخطيب : في كلامه هذا تشكيك في الضروريات فلا يستحق جوابا.
قيل له علم ( النبي ) ضروري لا نظري ؟
فقال : علمه بنفس الإحياء ضروري وبكيفيته نظري ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " نحن أحق بالشك من إبراهيم " على سبيل الفرض والتقدير في حق إبراهيم ، وعلى جهة التواضع منه عليه الصلاة والسلام ، أي لو فرض وقوع الشك من إبراهيم عليه السلام لكنا نحن أحق بذلك منه.
قلت : تأول عياض في الشفاء هذه الآية بستة أوجه.
أحدها : ما تقدم أنه طلب زيادة اليقين لأن العلوم تتفاوت.
الثاني : علم وقوعه وأراد مشاهدته وكيفيته.
الثالث : المراد اختبار منزلته عند الله تعالى وأن يعلم / إجابة دعوته ، والمراد : أو لم تؤمن بمنزلتك واصطفائي ( لك ).
الرابع : لما احتج على الكفار بأن الله يحيي ويميت طلبه من ربه ليصحح احتجاجه به عيانا.
(8/405)
الخامس : أنّه سؤال على طريق الأدب أي ( أقدرني ) على إحياء الموتى.
والسادس : أنه آمن من نفسه الشّك ولم يشك لكن ليجاب فيزداد قربة.
وقول ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) " نحن أحق بالشك من إبراهيم " نفي لأن يكون من إبراهيم شك أي نحن موقنون بالبعث وإحياء الموتى ، فلو شك إبراهيم لكنا أولى بالشك منه ( أو ) على طريق الأدب أو المراد أمته ( الذين ) يجوز عليهم الشك أو هو تواضع ، فأما قول الله تعالى { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } فقيل : معناه قل يا محمد للشاك : إن كنت في شك ، كقوله تعالى : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } وَ { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } وقيل : المخاطب غيره وقيل : إنّه تقرير كقوله :
{ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } وقد علم أنّه لم يقل.
" وقيل : إن كنت في شك فأسأل تزدد علما إلى علمك ، وقيل : إن كنت شاكا فيما شرّفناك به فاسألهم عن صفتك في الكتاب ؟ وقيل : إن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا إليك.
قال القاضي عياض : واحذر أن يخطر ببالك ما نقله بعضهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أو غيره من إثبات شك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه وأنه من البشر فمثل هذا لا يجوز جملة بل قال ابن عباس : لم يشك عليه الصلاة والسلام.
وانظر ما قيل على هذا الحديث ( في كتاب الإيمان في دفتر الحديث ، وفي أسئلة السكوني ).
قوله تعالى : { قَالَ بلى ولكن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي . . . }.
دليل على أن ( العقل ) في القلب.
قوله تعالى : { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ . . . }.
قوله تعالى : { ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً . . . }.
أي من الطير لأنهم جعلوه حالا من جزء فيكون نكرة تقدم عليها فانتصب ( على الحال ).
قال ابن عرفة : ويحتمل هذا أن يكون على كل جبل من الجبال فيعود الضمير على الجبال المفهومة من كل جبل.
(8/406)
قيل لابن عرفة : هلا بين له ذلك بإعدامهن جملة ثم إيجادهن عن عدم ؟
فقال : إيجادهن لايلزم منه إعادتهن بأعيانهن لأنه يشاهد كل قوم أمثالهن : وقد يظن أن الموجود غير هذا مماثل لهن فهذا أغرب ، وهو رؤيته أجْزَاءهُنّ المفترقة ( حين ) تجتمع وتعود كما كانت أول مرة قالوا : ولما اجتمعت أتت إليه التصق كل جسد مع رأسه.
قال ابن راشد في اختصار ابن الخطيب : في الآية دليل على عدم اشتراط البنية خلافا للمعتزلة.
فقال ابن عرفة : هذا بناء فيه على أن البنية هي الشكل الخاص وليس كذلك مطلقا بل البنية المشترطة في الرؤية هي الشكل الخاص والبنية المشترطة في الحياة هي البلة والرطوبة المزاجية.
نص عليه القاضي والمقترح وغيرهما لأنا نجد الحيوانات على أشكال متنوعة ولو كانت الشكل الخاص لكانت على ( شكل ) واحد.
قوله تعالى : { يَأْتِينَكَ سَعْياً . . . }.
دليل على أنّهن أتينه يمشين خلافا لمن قال أتينه يطرن.
قوله تعالى : { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
الحكمة مشروطة ( بالإتقان ) وهو سأل عن كيفية الإتقان فأخبره أنّه إذا علم كيفية الإتقان فلا يسأل عما وراء ذلك ، فَإنّ اللهَ عَزِيز حَكِيم لا يمانع ولا يعاند في فعله فإذا تدبّر الإنسان في ملكوت الله وقدرته على الأشياء وخلقه لها ، فلا يتدبّر فيها وراء ذلك لئلا ( يجر به ) تدبيره إلى الكفر وفساد العقيدة كما قال تعالى : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجع البصر كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 339 ـ 340}(8/407)
لطائف ونفائس
سئل رحمه الله عن قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ 260 ] أفكان شاكاً في إيمانه حتى سأل ربه أن يريه آية ومعجزة ليصح معها إيمانه ؟ فقال سهل : لم يكن سؤاله ذلك عن شك ، وإنما كان طالباً زيادة يقين إلى إيمان كان معه ، فسأل كشف غطاء العيان بعيني رأسه ليزداد بنور اليقين يقيناً في قدرة الله ، وتمكيناً في خلقه ، ألا تراه كيف قال : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى } [ 260 ] فلو كان شاكاً لم يجب بـ " بلى " ، ولو علم الله منه الشك وهو أخبر بـ " بلى " وستر شكه لكشف الله تعالى ذلك ، إذ كان مثله مما لا يخفى عليه ، فصح أن طلب طمأنينته كان على معنى طلب الزيادة في يقينه . فقيل : إن أصحاب المائدة طلبوا الطمأنينة بإنزال المائدة ، وكان ذلك شكاً ، فكيف الوجه فيه ؟ فقال : إن إبراهيم عليه السلام أخبر أنه مؤمن ، وإنما سأل الطمأنينة بعد الإيمان زيادة ، وأصحاب المائدة أخبروا أنهم يؤمنون بعد أن تطمئن قلوبهم ، كما قال : { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } [ المائدة : 113 ] فأخبروه أن علمهم بصدقة بعد طمأنينتهم إلى معاينتهم المائدة يكون ابتداء إيمان لهم . وقال أبو بكر : وسمعته مرة أخرى يقول : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ 260 ] أي لست آمنُ أن يعارضني عدو لك
قلنا فقوله : { لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ 260 ] أي خلتي ، هذا لما أعلمه أنك تحيي وتميت .
وسئل سهل : إذا بلغ العبد إلى كفاح العيان ما علامته في البيان ؟ فقال : يغلب بطرد الشيطان ، وهو أن النفس في معاينة الهوان ، ولا سبيل إليه للنفس والشيطان بعزلهما عن الشيطان إلاَّ بحفظ الرحمن . وقال : [ من الوافر ]
كفاياتُ الكِفاح بِحُسْنِ ظنِّي ... كنسجِ العنكبوتِ بباب غارِ
وحسنُ الظَّنِّ جاوزَ كُلَّ حجبٍ ... وحُسْنُ الظَّنِّ جاوز نُورَ نار(8/408)
علاماتُ الْمُقَرَّبِ واضحاتٌ ... بعيدٌ أمْ قريبٌ ليلُ سارِ
فمنْ كانَ الإِله لهُ عِياناً ... فلا نومَ القرارِ إلى النهارِ
تقاضاه الإله لَهم ثلاثاً ... فهل من سائلٍ من لطف بارِ
متى نَجس الولوغ ببحر ود ... فدع شقي النباح بباب داري
ألا يا نفس والشيطان أخسوا ... كبطلان الوساوس والغمارِ
قوله : " كفايات الكفاح بحسن ظني " كأنه أشار إلى قوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } [ فصلت : 53 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بلى يا رب " وكذلك لما أنزلت { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } [ التين : 8 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بلى يا رب " ومن طريق فهمهم القرآن : أوَ لم يَكْفِ بِرَبِّكَ يا محمد بنصرتك في الدنيا على أعدائك بالقتل والهزيمة ، وفي العقبى بالمقام المحمود والشفاعة ، وفي الجنة باللقاء والزيارة ، وقوله : " كنسج العنكبوت بباب غار " وذلك أنَّ غار العارفين هو السر ، واطلاع رب العالمين إذا بلغوا إلى مقام الكفاح ، وهو عيان العيان بعد البيان ، فليس بينهم وبين الله تعالى إلاَّ حجاب العبودية بنظره إلى صفات الربوبية والهوية والإلهية والصمدية إلى السرمدية بلا منع ولا حجاب ، مثل من طريق الأمثال كنسيج العنكبوت حول قلبه ، وسره فؤاده بلطف الربوبية وكمال الشفقة بلا حجاب بينه وبين الله تعالى كنسج العنكبوت بباب غار رسول الله صلى الله عليه وسلم صرف الله به جميع أعدائه من صناديد قريش بدلالة إبليس إياهم عليه ، كذلك أهل المعرفة إذا بلغوا إلى مقام العيان بعد البيان انقطع وصرف وساوس الشيطان وسلطان النفس ، وصار كيدهم ضعيفاً ، بيانه قوله :
(8/409)
{ إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] يعني صار عليهم ضعيفاً كما قال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] لأن العبد إذا جاوز بحسن ظنه جميع الحجب ، حتى لا يكون بينه وبين الله حجاب ، فليس للنفس والشيطان والدنيا دخول على قلبه وفؤاده بالوساوس ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رأيت البارحة عجباً عبد بينه وبين الله حجاب فجاء حسن ظنه بالله فأدخله الحجاب " .
وقوله : " وحسن الظن جاوز نور نار " كأنه أشار إلى متابعة الرسول شرفاً بتفضيله على الخليل والكليم ، لأن الأنبياء والأولياء في مقام رؤية النار والنور على مقامات شتى ، فالخليل رأى النار وصارت عليه برداً وسلاماً ، والكليم رأى النار نوراً بيانه قوله : { إني ءَانَسْتُ نَاراً } [ طه : 10 ] وكان في الأصل نوراً مع قوله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] يعني موسى في وسط النور فاشتغل بالنور فعاتبه فقال : لا تشتغل بالنور فإني منور النور ، بيانه : { إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ } [ طه : 12 ] وأما الحبيب صلى الله عليه وسلم فأراه النار والنور ، وجاوز حجاب النار والنور ، ثم أدناه بلا نار ولا نور ، حتى رأى في دنوه الأدنى منوّر الأنوار ، بيانه قوله : { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } [ النجم : 11 ] فرفع الحبيب عن مقام الخليل والكليم ومقامات جميع الأنبياء المقربين ، حتى صار مكلماً بالله بلا وحي ولا ترجمان أحد ، بيانه قوله : { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى } [ النجم : 10 ] يعني قال الحبيب للحبيب سراً وعلمه وأكرمه بفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة .
(8/410)
وقوله : " علامات المقرب واضحات " أراد أن جميع الأنبياء والملائكة لهم قربة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم أقربهم قربة ، على وزن أفعل ، يقول قريب وأقرب ، فالقريب يدخل في الفهم والوهم والتفسير ، وأما الأقرب خارج عن الفهم والوهم والتفسير ، وما بعده لا يدخل في العبارة ولا في الإشارة ، وذلك أن موسى عليه السلام لما سمع ليلة النار نداء الوحدانية من الحق فقال : إلهي أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك ؟ فنادى الكليم من مكان القريب والبعيد أنه قريب . ولم يكن هذا في وصف الرسول حينئذ صيره مقرباً ، حتى سلم الله عليه فقال : السلام عليكم ، وإن الله تعالى مدح أمته فقال : { والسابقون السابقون أولئك المقربون } [ الواقعة : 10-11 ] ولم يقل القريبون ، وعلامات المقرب واضحات من هذه الأمة ، فالقريب وجد من الله المنة والكرامة ، والبعيد وجد من الله العذاب والعقوب ، والمبعد وجد من الله الحجاب والقطيعة ، والمقرب وجد من الله اللقاء والزيارة .
قوله : " فمن كان الإله له عياناً " علامات المشتاقين ، فليس لهم نوم ولا قرار لا بالليل ولا بالنهار ، والمخصوص بهذه الصفة صهيب وبلال ، لأن بلالاً كان من المشتاقين ، وكذلك صهيب ، لم يكن لهما نوم ولا قرار ، وقد حكي أن امرأة كانت اشترت صهيباً فرأته كذلك فقالت : لا أرضى حتى تنام بالليل لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي ، فبكى صهيب وقال : إن صهيباً إذا ذكر النار طار نومه ، وإذا ذكر الجنة جاء شوقه ، وإذا ذكر الله تعالى طال شوقه .
وقوله : " تقاضاه الإله لهم ثلاثاً " لأن " هل " من حروف الاستفهام ، وأن الله عزَّ وجلَّ يرفع الحجاب كل ليلة فيقول : " هل من سائل فأعطيه سؤله ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من داعٍ فأجيب دعوته ؟ " فإذا كانت ليلة القدر رفع الله الشرط فقال : " غفرت لكم وإن لم تستغفروني ، وأعطيتكم وإن لم تسألوني ، وأجبت لكم قبل أن تدعوني " ، وهذا غاية الكرم .
(8/411)
قوله : " متى نجس الولوغ ببحر ود " أشار إلى ولوغ الكلب ، إذا ولغ في الإناء يغسل سبع مرات أو ثلاثاً ، باختلاف الألفاظ الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف ولو أن ألف ألف كلب ولغوا في بحر ؟ فلا اختلاف بين الأمة أن البحر لا ينجس بوساوس الشيطان ، وولوغه في قلوب العارفين والمحبين في بحر الوداد متى يوجب التنجس ، لأنه كلما ولغ فيه جاءه موج فطهره .
وقوله : " فدع شقي النباح بباب داري " يعني دع يشقى إبليس يصيح على باب الدنيا بألوان الوساوس ، فإنه لا يضرني ، كقوله : { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ } [ الأعراف : 201 ] بالوحدانية مع قوله : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [ الإسراء : 46 ] .
قوله : " اخسؤوا " تباعدوا عني ، يقال للكلب اخسأ على كمال البعد والطرد ، وبهذا عاقبهم في آخر عقوباته إياهم ، كقوله : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ]. أ هـ {تفسير التسترى صـ 56 ـ 58}(8/412)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
في العامل في " إذْ " ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنه قال : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } ، أي : قال له ربَّه وقتَ قوله ذلك.
والثاني : أنه " أَلَمْ تَرَ " أي : ألم تر إذ قال إبراهيم.
والثالث : أنه مضمرٌ تقديره : واذكر قاله الزجاح ف " إِذْ " على هذين القولين مفعولٌ به ، لا ظرفٌ. و" ربِّ " منادى مضافٌ لياءِ المتكلم ، حُذفَتْ؛ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها ، وهي اللغةُ الفصيحةُ ، وحُذِف حرفُ النداءِ.
وقوله : " أَرِنِي " تقدَّم ما فيه من القراءات ، والتوجيه في قوله : { وَأَرِنَا } [ البقرة : 128 ] والرؤية - هنا - بصرية تتعدَّى لواحدٍ ، ولمَّا دخلَتْ همزةُ النقل ، أكسبته مفعولاً ثانياً ، والأولُ ياءُ المتكلم ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي معلقة للرؤية و" رأى " البصرية تُعَلَّق ، كما تعلق " نَظر " البصرية ، ومن كلامهم : " أَمَا تَرَى أَيُّ بَرْقٍ هَهُنَا ".
و " كَيْفَ " في محلِّ نصب : إمَّا على التشبيه بالظرف ، وإمَّا على التشبيه بالحال ، كما تقدَّم في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ]. والعاملُ فيها " تُحيي " وقدَّره مكي : بأي حالٍ تُحْيي الموتى ، وهو تفسيرُ معنًى ، لا إعرابٍ.
قوله : { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } في هذه الواوِ وجهان :
أظهرهما : أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي ، قَرَّره؛ كقول القائل : [ الوافر ]
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
و { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] ، المعنى : أنتم خيرُ ، وقد شرحنا.
(8/413)
والثاني : أنها واوُ الحالِ ، دخلت عليها ألفُ التقرير ، قال ابن عطية؛ وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ ، كانت الجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ ، وإذا كانت كذلك ، استدعَتْ ناصباً ، وليس ثمَّ ناصبٌ في اللفظِ ، فلا بُدَّ من تقديره؛ والتقديرُ " أَسأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ " ، فالهمزةُ في الحقيقة ، إِنما دخَلَتْ على العامل في الحالِ. وهذا ليس بظاهر ، بل الظاهرُ الأَوَّلُ ، ولذلك أُجيبت ببلى ، وعلى ما قال ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى.
وقوله : { بلى } جوابٌ للجملة المنفيَّة ، وإنْ صار معناه الإِثبات اعتباراً باللفظ لا بالمعنى ، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى ، نحو : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] وقد تقدَّم تحقيقه واللهُ أَعْلَمُ.
قوله : { لِّيَطْمَئِنَّ } اللامُ لامُ كَيْ ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها ، بإضمار " أَنْ " ، وهو مبنيٌّ لاتِّصاله بنون التوكيد واللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ بعد " لكنْ " تقديرُه " ولكن سألتُكَ كيفية الإِحياء للاطمئنان ، ولا بُدَّ من تقدير حذفٍ آخر ، قبل " لكنْ " ؛ حتَّى يصحَّ معه الاستدراكُ ، والتقديرُ : بلى آمنْتُ ، وما سألتُ غير مؤمنٍ ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قَلْبي ليحصل الفرقُ بين المعلوم بالبرهان وبين المعلوم عياناً.
قال السُّدِّيُّ ، وابن جبير : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } بأَنَّكَ خليلي { قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } بالخُلَّةِ.
قوله : { مِّنَ الطير } في متعلِّقه قولان :
أحدهما : أنه محذوفٌ لوقوع الجارِّ صفةً لأربعة ، تقديره : أربعةً كائنةً من الطير.
والثاني : أنه متعلقٌ بخذ ، أي : خذ من الطير.
فصل في لفظ " الصِّرِّ " في القرآن
قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ :
(8/414)
الأول : بمعنى القطع؛ كهذه الآية ، أي : قطِّعهنَّ إليك صوراً.
الثاني : بمعنى الريح الباردة ، قال تعالى : { رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } [ آل عمران : 117 ] أي : بردٌ.
الثالث : يعني الإقامة على الشيء؛ قال تعالى { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } [ آل عمران : 135 ] ، أي : لم يقيموا ، ومثله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } [ الواقعة : 46 ].
ونقل عن الفرَّاء أيضاً : أنه قال : " صَارَه " مقلوبٌ من قولهم : " صَرَاهُ عَنْ كَذَا " ، أي : قطعه عنه ، ويقال : صُرْتُ الشيء ، فانصار ، أي : انقطع؛ قالت الخنساء : [ البسيط ]
فَلَوْ يُلاَقِي الَّذي لاَقَيْتُهُ حَضِنٌ... لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ
أي : تنقطع.
قال المبرد : وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر.
واختلف في هذه اللفظة : هل هي عربيةٌ ، أو معرَّبة؟ فعن ابن عباس : أنها معرَّبة من النَّبطية ، وعن أبي الأسود ، أنَّها من السُّريانية ، والجمهور على أنها عربيةٌ ، لا معرَّبةٌ.
و " إِلَيْكَ " إن قلنا : إِنَّ " صُرْهُنَّ " بمعنى أملهنَّ : تعلَّق به ، وإن قلنا : إنه بمعنى : قطِّعهنَّ ، تعلَّق بـ " خُذْ ".
ولمَّا فسَّر أبو البقاء " فَصُرْهُنَّ " بمعنى : أَمْلْهُنَّ " قدَّر محذوفاً بعده تقديره : فأملهنَّ إليك ، ثم قطِّعهنَّ ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن - كما تقدم - قدَّر محذوفاً يتعلَّق به " إِلَى " تقديره : قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك. ثم قال : " والأجودُ عندي أن يكون " إليك " حالاً من المفعول المضمر تقديره : فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك ، أو ممالةً ، أو نحو ذلك ".
(8/415)
وقرأ ابن عباس - رضي الله عنه - : " فَصُرْهُنَّ " بتشديد الراء ، مع ضم الصاد وكسرها ، مِنْ : صرَّه يَصُرّه ، إذا جمعه؛ إلاَّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل - بكسر العين في المضارع - قليلٌ.
قوله : { ثُمَّ اجعل } " جَعَلَ " يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وهو " جُزْءاً " ، فعلى هذا يتعلَّق " عَلَى كُلِّ " و" مِنْهُنَّ " بـ " اجعل " ، وأن يكون بمعنى " صَيَّر " ، فيتعدَّى لاثنين ، فيكون " جُزءاً " الأول ، و" عَلَى كُلِّ " هو الثاني ، فيتعلَّق بمحذوفٍ.
و " منهنَّ " يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفً على أنَّه حالٌ من " جُزْءاً " ، لأنه في الأصل صفة نكرة ، فلمَّا قُدِّم عليها ، نصب حالاً.
وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً لـ " اجْعَلْ " يعني : إذا كانت " اجْعَلْ " بمعنى " صَيَّر " ، فيكون " جُزْءاً " مفعولاً أول ، و" منهنَّ " مفعولاً ثانياً قدِّم على الأول ، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف. [ ولا بد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد ] قوله : " كُلِّ جَبَلٍ " تقديره : " عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك ، أو يليك " حتى يصحَّ المعنى.
وقرأ الجمهور : " جُزْءاً " بسكون الزاي والهمز ، وأبو بكر ضمَّ الزاي ، وأبو جعفر شدَّد الزاي ، من غير همزٍ؛ ووجهها : أنَّه لمَّا حذف الهمزة ، وقف على الزاي ، ثم ضعَّفها ، كما قالوا : " هذا فَرَجّ " ، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف. وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله : { هُزُواً } [ البقرة : 67 ]. وفيه لغةٌ أخرى وهي : كسر الجيم.
قال أبو البقاء : " وَلاَ أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها ". والجزء : القطعة من الشيء ، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع ، والتفرق ، ومنه : التجزئة والأجزاء.
قوله : { سَعْياً } فيه أوجه :(8/416)
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال من ضمير الطير ، أي : يَأتينك ساعياتٍ ، أو ذوات سعي.
والثاني : أن يكون حالاً من المخاطب ، ونقل عن الخليل ما يقوِّي هذا ، فإنه روي عنه : " أن المعنى : يأتينك وأنت تسعى سعياً " فعلى هذا يكون " سعياً " منصوباً على المصدر ، وذلك الناصب لهذا المصدر في محلِّ نصب على الحال من الكاف في " يَأْتِينَكَ ". قال شهاب الدين : والذي حمل الخليل - رحمه الله - على هذا التقدير؛ أنه لا يقال عنده : " سَعَى الطائرُ " فلذلك جعل السَّعي من صفات الخليل - عليه السلام - لا من صفة الطيور.
الثالث : أن يكون " سَعْياً " منصوباً على نوع المصدر؛ لأنه نوعٌ من الإتيان ، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ ، فكأنه قيل : يأتينك إتياناً سريعاً.
وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ السعي ، والإتيان يتقاربان " ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدر المؤكِّد لا يزيد على معنى عامله ، إلاَّ أنه تساهل في العبارة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 364 ـ 375}. بتصرف.(8/417)
قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}
مناسبة الآية لما قبلها
ولما انقضى جواب السؤال عن الملك الذي لا تنفع عنده شفاعة بغير إذنه ولا خلة ولا غيرهما وما تبع ذلك إلى أن ختم بقصة الأطيار التي صغت إلى الخليل بالإنفاق عليها والإحسان إليها ثنى الكلام إلى الأمر بالنفقة قبل ذلك اليوم الذي لا تنفع فيه الوسائل إلا بالوجه الذي شرعه بعد قوله : {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له} [ الحديد : 11 ] نظراً إلى أول السورة تذكيراً بوصف المتقين حثاً عليه ،
فضرب لذلك مثلاً صريحة لمضاعفتها فاندرج فيه مطلق الأمر بها اندراج المطلق في المقيد وتلويحه الذي هو من جملة المشار إليه بحكيم للاحياء ،
فصرح بأن النفقة المأمور بها من ذخائر ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه إلا ما شرعه وهو من جليل العزة ،
وساقه على وجه يتضمن إحياء الموات الذي هو أنسب الأشياء لما قبله من نشر الأموات ،
فهو إيماء إلى الاستدلال على البعث بأمر محسوس ،
وذلك من دقيق الحكمة ،
فكأنه سبحانه وتعالى يقول : إن خليلي عليه الصلاة والسلام لما كان من الراسخين في رتبة الإيمان أهّلته لامتطاء درجة أعلى من درجة الإيقان بخرق العادة في رفع الأستار على يده عن إحياء الأطيار وأقمت نمطاً من ذلك لعامة الخلق مطوياً في إحياء النبات على وجه معتاد فمن اعتبر به أبصر ومن عمي عنه انعكس حاله وأدبر فقال سبحانه وتعالى : {مثل} فكان كأنه قيل : {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} [ الحديد : 11 ] {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا} [ البقرة : 254 ] فإنه مثل {الذين ينفقون} أي يبذلون {أموالهم} بطيب نفس {في سبيل الله} أي الذي له الكمال كله كمثل زارع مثل ما ينفقون {كمثل حبة} مما زرعه.(8/418)
قال الحرالي : من الحب وهو تمام النبات المنتهي إلى صلاحية كونه طعاماً للآدمي الذي هو أتم الخلق ،
فالحب أكمل من الثمرة طعامية والثمرة إدامية {أنبتت} أي بما جعل الله سبحانه وتعالى لها من قوة الإنبات بطيب أرضها واعتدال ريها {سبع سنابل} بأن تشعب منها سبع شعب في كل شعبة سنبلة وهو من السنبل.
قال الحرالي : وهو مجتمع الحب في أكمامه ،
كأنه آية استحقاق اجتماع أهل ذلك الرزق في تعاونهم في أمرهم ،
وتعريف بأن الحب يجمعه لا بوحدته {في كل سنبلة مائة حبة} فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها.
قال الحرالي : فضرب المثل للإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام بالحرث الذي هو كيميا عباده يشهدون من تثميره حيث تصير الحبة أصلاً ويثمر الأصل سنابل ويكون في كل سنبلة أعداد من الحب ،
فكان ما ذكر تعالى هو أول الإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام وما يقبله من التكثير ،
فإن ما أنبت أكثر من سبع إذا قصد بالتكثير أنبأ عنه بالسبع ،
لأن العرب تكثر به ما هو أقل منه أو أكثر ،
فجعل أدنى النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف ،
ثم فتح تعالى باب التضعيف إلى ما لا يصل إليه عد - انتهى.
فالآية من الاحتباك وتقديرها : مثل الذين ينفقون ونفقتهم كمثل حبة وزارعها ،
فذكر المنفق أولاً دليل على حذف الزارع ثانياً ،
وذكر الحبة ثانياً دليل على حذف النفقة أولاً. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 514 ـ 515}
فصل
قال الفخر :(8/419)
في كيفية النظم وجوه الأول : قال القاضي رحمه الله : إنه تعالى لما أجمل في قوله {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} فصل بعد ذلك في هذه الآية تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته بالإحياء والإماتة من حيث لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق ، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب ، لكان الإنفاق في سائر الطاعات عبثاً ، فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمتي عليك بالإحياء والأقدار وقد علمت قدرتي على المجازاة والإثابة ، فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال ، فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثم ضرب لذلك الكثير مثلاً ، وهو أن من بذر حبة أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، فصارت الواحدة سبعمائة.
الوجه الثاني : في بيان النظم ما ذكره الأصم ، وهو أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته.
والوجه الثالث : لما بين تعالى أنه ولي المؤمنين ، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت بين مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 36}
قال القرطبى :
لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين ، حث على الجهاد ، واعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلاَّ نبيّ فله في جهاده الثواب العظيم.(8/420)
روى البستِيّ في صحيح مسنده " عن ابن عمر قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رب زِد أُمّتي" فنزلت { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رب زد أُمتي" فنزلت { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] " وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها ، وضمنها التحريض على ذلك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 302 ـ 303}
فائدة
قال الفخر :
في الآية إضمار ، والتقدير : مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة وقيل : مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع حبة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 36}
فصل
قال القرطبى :
" روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تَبُوكَ جاءه عبد الرّحمن بأربعة آلاف فقال : يا رسول الله ، كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف ، وأربعة آلاف أقرضتها لربي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت".
وقال عثمان : يا رسول الله عليّ جهاز من لا جهاز له ؛ فنزلت هذه الآية فيهما " وقيل : نزلت في نفقة التطوّع.
وقيل : نزلت قبل آية الزكاة ثم نُسخت بآية الزكاة ، ولا حاجة إلى دعوى النسخ ؛ لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كل وقت.
وسُبُل الله كثيرة أعظمها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 303}
فصل
قال الفخر :(8/421)
معنى {يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله} يعني في دينه ، قيل : أراد النفقة في الجهاد خاصة ، وقيل : جميع أبواب البر ، ويدخل فيه الواجب والنفل من الإنفاق في الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن الإنفاق في الجهاد على نفسه وعلى الغير ، ومن صرف المال إلى الصدقات ، ومن إنفاقها في المصالح ، لأن كل ذلك معدود في السبيل الذي هو دين الله وطريقته لأن كل ذلك إنفاق في سبيل الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 36}
فائدة
قال أبو حيان :
وهذه الآية شبيهة في تقدير الحذف بقوله : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } فيحتمل أن يكون الحذف من الأول ، أي : مثل منفق الذين ، أو من الثاني : أي كمثل زارع ، حتى يصح التشبيه ، أو من الأول ومن الثاني باختلاف التقدير ، أي : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ومنفقهم.
كمثل حبة وزارعها.
وقد تقدم الكلام في تقرير هذا الوجه في قصة الكافر والناعق ، فيطالع هناك.
وهذا المثل يتضمن التحريض على الإنفاق في سبيل الله جميع ما هو طاعة ، وعائد نفعه على المسلمين ، وأعظمها وأعناها الجهاد لإعلاء كلمة الله وقيل : المراد : بسبيل الله ، هنا الجهاد خاصة ، وظاهر الإنفاق في سبيل الله يقتضي الفرض والنفل ، ويقتضي الإنفاق على نفسه في الجهاد وغيره ، والإنفاق على غيره ليتقوى به على طاعة من جهاد أو غيره.
وشبه الإنفاق بالزرع ، لأن الزرع لا ينقطع. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 315}
سؤال : فإن قيل : فهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها ؟ .(8/422)
قلنا : الجواب عنه من وجوه الأول : أن المقصود من الآية أنه لو علم إنسان يطلب الزيادة والربح أنه إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك ولا التقصير فيه فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر في الآخرة عند الله أن لا يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة ، وسبعمائة ، وإذا كان هذا المعنى معقولاً سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم يوجد كان المعنى حاصلاً مستقيماً ، وهذا قول القَفّال رحمه الله وهو حسن جداً.
والجواب الثاني : أنه شوهد ذلك في سنبلة الجاورس ، وهذا الجواب في غاية الركاكة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 36 ـ 37}
فوائد ونفائس للعلامة أبى حيان
قال رحمه الله :
ونسب الإنبات إلى الحبة على سبيل المجاز ، إذ كانت سبباً للإنبات ، كما ينسب ذلك إلى الماء والأرض والمنبت هو الله ، والمعنى : أن الحبة خرج منها ساق ، تشعب منها سبع شعب ، في كل شعبة سنبلة ، في كل سنبلة مائة حبة ، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر ، قالوا : والممثل به موجود ، شوهد ذلك في سنبلة الجاورس.
وقال الزمخشري : هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما ، وربما فرخت ساق البرة في الأراضي القوية المغلة ، فبلغ حبها هذا المبلغ ، ولو لم يوجد لكان صححيحاً في سبيل الفرض والتقدير ؛ انتهى كلامه.
وقال ابن عيسى : ذلك يتحقق في الدخن ، على أن التمثيل يصح بما يتصور ، وإن لم يعاين.
كما قال الشاعر :
فما تدوم على عهد تكون به . . .
كما تلوّن في أثوابها الغول
انتهى كلامه.
وكما قال امرؤ القيس :
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي . . .
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وخص سبعاً من العدد لأنه كما ذكر ، وأقصى ما تخرجه الحبة من الأسؤق.(8/423)
وقال ابن عطية : قد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة ، وأما في سائر الحبوب فأكثر ، ولكن المثال وقع بمائة ، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشرة أمثالها ، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد بسبعمائة ضعف ، ومن ذلك الحديث الصحيح.
انتهى ما ذكره.
وقيل : واختص هذا العدد لأن السبع أكثر أعداد العشرة ، والسبعين أكثر أعداد المائة ، وسبع المائة أكثر أعداد الألف ، والعرب كثيراً ما تراعي هذه الأعداد.
قال تعالى : { سبع سنابل } و{ سبع ليال } و{ سبع سنبلات } و{ سبع بقرات } و{ سبع سموات } و{ سبع سنين } و{ إن نستغفر لهم سبعين مرة } { ذرعها سبعون ذراعاً } وفي الحديث : " إلى سبعمائة ضعف " " إلى سبعة آلاف " " إلى ما لا يحصي عدده إلاَّ الله " وأتى التمييز هنا بالجمع الذي لا نظير له في الآحاد ، وفي سورة يوسف بالجمع بالألف والتاء في قوله : { وسبع سنبلات خضر }
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : { سبع سنبلات } على حقه من التمييز لجمع القلة ، كما قال : { وسبع سنبلات خضر }
قلت : هذا لما قدمت عند قوله : { ثلاثة قروء } من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها. انتهى كلامه.
فجعل هذا من باب الاتساع ، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر على سبيل المجاز ، إذ كان حقه أن يميز بأقل الجمع ، لأن السبع من أقل العدد ، وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على إطلاقه ، فنقول : جمع السلامة بالواو والنون ، أو بالألف والتاء ، لا يميز به من ثلاثة إلى عشرة إلاَّ إذا لم يكن لذلك المفرد جمع غير هذا الجمع ، أو جاور ما أهمل فيه هذا الجمع ، وإن كان المجاور لم يهمل فيه هذا الجمع.
فمثال الأول : قوله تعالى : { سبع سموات } فلم يجمع سماء هذه المظلة سوى هذا الجمع ، وأما قوله :
فوق سبع سمائيا . . .(8/424)
فنصوا على شذوذه ، وقوله تعالى : { سبع بقرات } { وتسع آيات } وخمس صلوات لأن البقرة والآية والصلاة ليس لها سوى هذا الجمع ، ولم يجمع على غيره.
ومثال الثاني : قوله تعالى : { وسبع سنبلات خضر } لما عطف على : { سبع بقرات } وجاوره حسن فيه جمعه بالألف والتاء ، ولو كان لم يعطف ولم يجاور لكان : { سبع سنابل } ، كما في هذه الآية ، ولذلك إذا عرى عن المجاور جاء على مفاعل في الأكثر ، والأَوْلى ، وإن كان يجمع بالألف والتاء ، مثال ذلك قوله تعالى : { سبع طرائق } و{ سبع ليال } ولم يقل : طريقات ، ولا : ليلات ، وإن كان جائزاً في جمع طريقة وليلة ، وقوله تعالى : { عشرة مساكين } ، وإن كان جائزاً في جمعه أن يكون جمع سلامة.
فتقول : مسكينون ومسكينين ، وقد آثروا ما لا يماثل مفاعل من جموع الكثرة على جمع التصحيح ، وإن لم يكن هناك مجاور يقصد مشاكلته لقوله تعالى : { ثماني حجج } وإن كان جائزاً فيه أن يجمع بالألف والتاء ، لأن مفرده حجة ، فتقول : حجات ، فعلى هذا الذي تقرر إذا كان للاسم جمعان : جمع تصحيح ، وجمع تكسير ، فجمع التكسير إما أن يكون للكثرة أو للقلة ، فإن كان للكثرة ، فإما أن يكون من باب مفاعل ، أو من غير باب مفاعل ، إن كان من باب مفاعل أوثر على جمع التصحيح ، فتقول : جاءني ثلاثة أحامد ، وثلاث زيانب ، ويجوز التصحيح على قلة ، فتقول : جاءني ثلاثة أحمدين ، وثلاث زينبات ، وإن لم يكن من باب مفاعل.
فإما أن يكثر فيه غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة ، فلا يجوز التصحيح ، ولا جمع الكثرة إلاَّ قليلاً ، مثال ، ذلك : جاءني ثلاثة زيود ، وثلاث هنود ، وعندي ثلاثة أفلس ، ولا يجوز : ثلاثة زيدين ، ولا : ثلاث هندات ، ولا : ثلاثة فلوس ، إلاَّ قليلاً.
وإن قل فيه غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة أوثر التصحيح وجمع الكسرة ، مثال ذلك : ثلاث سعادات ، وثلاثة شسوع ، ويجوز على قلة : ثلاث سعائد ، وثلاثة أشسع.
وتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله { سبع سنابل } جاء على ما تقرر في العربية من كونه جمعاً متناهياً ، وأن قوله : { سبع سنبلات } إنما جاز لأجل مشاكلة : { سبع بقرات } ومجاورته ، فليس استعذار الزمخشري بصحيح.
و { في كل سنبلة } في موضع الصفة : لسنابل ، فتكون في موضع جر ، أو : لسبع ، فيكون في موضع نصب ، وترتفع على التقديرين : مائة ، على الفاعل لأن الجار قد اعتمد بكونه صفة ، وهو أحسن من أن يرتفع على الابتداء ، و: في كل ، خبره ، والجملة صفة ، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة ، ولا بد من تقدير محذوف ، أي : في كل سنبلة منها ، أي : من السنابل.
أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 315 ـ 317}(8/425)
لطيفة
قال ابن القيم :
وأما خاصية السبع فإنها قد وقعت قدرا وشرعا فخلق الله عز وجل السماوات سبعا والأرضين سبعا والأيام سبعا والإنسان كمل خلقه في سبعة أطوار وشرع الله سبحانه لعباده الطواف سبعا والسعي بين الصفا والمروة سبعا ورمي الجمار سبعا سبعا وتكبيرات العيدين سبعا في الأولى وقال صلى الله عليه وسلم : [ مروهم بالصلاة لسبع ] : [ وإذا صار للغلام سبع سنين خير بين أبويه ] في رواية وفي رواية أخرى : [ أبوه أحق به من أمه ] وفي ثالثة : [ أمه أحق به ] وأمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أن يصب عليه من سبع قرب وسخر الله الريح على قوم عاد سبع ليال ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينه الله على قومه بسبع كسبع يوسف ومثل الله سبحانه ما يضاعف به صدقة المتصدق بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والسنابل التي رآها صاحب يوسف سبعا والسنين التي زرعوها دأبا سبعا وتضاعف الصدقة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ويدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب سبعون ألفا
فلا ريب أن لهذا العدد خاصية ليست لغيره والسبعة جمعت معاني العدد كله وخواصه فإن العدد شفع ووتر والشفع : أول وثان والوتر : كذلك فهذه أربع مراتب : شفع أول وثان ووتر أول وثان ولا تجتمع هذه المراتب في أقل من سبعة وهي عدد كامل جامع لمراتب العدد الأربعة أعني الشفع والوتر والأوائل والثواني ونغني بالوتر الأول الثلاثة وبالثاني الخمسة وبالشفع الأول الاثنين وبالثاني الأربعة وللأطباء اعتناء عظيم بالسبعة ولا سيما في البحارين وقد قال بقراط : كل شئ من هذا العالم فهو مقدر على سبعة أجزاء والنجوم سبعة والأيام سبعة وأسنان الناس سبعة أولها طفل إلى سبع ثم صبي إلى أربع عشرة ثم مراهق ثم شاب ثم كهل ثم شيخ ثم هرم إلى منتهى العمر والله تعالى أعلم بحكمته وشرعه وقدره في تخصيص هذا العدد هل هو لهذا المعنى أو لغيره ؟(8/426)
ونفع هذا العدد من هذا التمر من هذا البلد من هذه البقعة بعينها من السم والسحر بحيث تمنع إصابته من الخواص التي لو قالها بقراط وجالينوس وغيرهما من الأطباء لتلقاها عنهم الأطباء بالقبول والإذعان والإنقياد مع أن القائل إنما معه الحدس والتخمين والظن فمن كلامه كله يقين وقطع وبرهان ووحي أولى أن تتلقى أقواله بالقبول والتسليم وترك الاعتراض وأدوية السموم تارة تكون بالكيفية وتارة تكون بالخاصية كخواص كثير من الأحجار والجواهر واليواقيت والله أعلم. أ هـ {زاد المعاد حـ 4 صـ 88}(8/427)
فائدة
قال أبو حيان :
وفي تمثيل النفقة بالحبة المذكورة إشارة أيضاً إلى البعث ، وعظيم القدرة ، إذ حبة واحدة يخرج الله منها سبعائة حبة ، فمن كان قادراً على مثل هذا الأمر العجاب ، فهو قادر على إحياء الموات ، ويجامع ما اشتركا فيه من التغذية والنمو. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 315}
قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان التقدير : فكما ضاعف سبحانه وتعالى للزارع حبته فهو يضاعف للمنفق نفقته ،
عطف عليه قوله : {والله يضاعف لمن يشاء} بما له من السعة في القدرة وكل صفة حسنى {والله} أي بما له من الكمال في كل صفة {واسع} لا يحد في صفة من صفاته التي تنشأ عنها أفعاله {عليم} فهو يضاعف لأهل النفقة على قدر ما علمه من نياتهم ؛ ولما ختم أول آيات هذه الأمثال بهاتين الصفتين ختم آخرها بذلك إشارة إلى أن سعته قد أحاطت بجميع الكائنات فهو جدير بالإثابة في الدارين ،
وأن علمه قد شمل كل معلوم فلا يخشى أن يترك عملاً. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 515 ـ 516}
قال الفخر :(8/428)
قوله تعالى : {والله يضاعف لِمَن يَشَاء} وليس فيه بيان كمية تلك المضاعفة ، ولا بيان من يشرفه الله بهذه المضاعفة ، بل يجب أن يجوز أنه تعالى يضاعف لكل المتقين ، ويجوز أن يضاعف لبعضهم من حيث يكون إنفاقه أدخل في الإخلاص ، أو لأنه تعالى بفضله وإحسانه يجعل طاعته مقرونة بمزيد القبول والثواب.
ثم قال : {والله سَمِيعٌ} أي واسع القدرة على المجازاة على الجود والإفضال عليهم ، بمقادير الانفاقات ، وكيفية ما يستحق عليها ، ومتى كان الأمر كذلك لم يصر عمل العامل ضائعاً عند الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 36}
قال القرطبى :
اختلف العلماء في معنى قوله { والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } فقالت طائفة : هي مبيِّنة مؤكدة لما تقدّم من ذكر السبعمائة ، وليس ثمَّ تضعيف فوق السبعمائة.
وقالت طائفة من العلماء : بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.
قلت : وهذا القول أصحُّ لحديث ابن عمر المذكور أوّل الآية.
وروى ابن ماجة حدّثنا هارون بن عبد الله الحمال حدّثنا ابن أبي فُديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسن ( عن ) عليّ بن أبي طالب وأبي الدرداء وعبد الله بن عمر وأبي أُمامة الباهليّ وعبد الله بن عمرو وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا ( هذه الآية ) والله يضاعف لمن يشاء الله " وقد روي عن ابن عباس أن التضعيف ( ينتهي ) لمن شاء الله إلى ألفي ألف.
قال ابن عطية : وليس هذا بثابت الإسناد عنه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 305}
فائدة
قال القرطبى :(8/429)
في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحِرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال ؛ ولذلك ضرب الله به المثل فقال : "مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ" الآية.
وفي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلاَّ كان له صدقة " وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التمسوا الرزق في خبايا الأرض " يعني الزرع ، أخرجه الترمذيّ.
" وقال صلى الله عليه وسلم في النخل : "هي الراسخات في الوَحَل المُطْعِمات في المَحْل" " وهذا خرج مخرج المدح.
والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار.
ولقِي عبد الله بن عبد الملك بن شهاب الزُّهْريّ فقال : دُلّني على مالٍ أعالجه ؛ فأنشأ ابن شهاب يقول :
أقول لعبد اللَّه يوم لقيته . . .
وقد شدّ أحْلاسَ المطِيّ مُشرِّقا
تتَبَّع خَبايا الأرض وادع مليكَها . . .
لعلّك يوماً أن تُجاب فتُرزقا
فيؤتيك مالاً واسعاً ذا مَثابَة . . .
إذا ما مياهُ الأرض غارتْ تدَفّقا
وحُكي عن المعتضد أنه قال : رأيت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام يُناولني مِسْحاة وقال : خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 305 ـ 306}
وقال ابن عاشور :
ومعنى قوله : { والله يضعاف لمن يشاء } أنّ المضاعفة درجات كثيرة لا يعلمها إلاّ الله تعالى ؛ لأنّها تترتّب على أحوال المتصدّق وأحوال المتصدّق عليه وأوقات ذلك وأماكنه.
وللإخلاص وقصد الامتثال ومحبة الخير للناس والإيثار على النفس وغير ذلك مما يحفّ بالصدقة والإنفاق ، تأثير في تضعيف الأجر ، والله واسع عليم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 42}
قال الماوردى :
{ وَاللهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ } فيه قولان :(8/430)
أحدهما : واسع لا يَضِيق عن الزيادة ، عليم بمن يستحقها ، قاله ابن زيد.
والثاني : واسع الرحمة لا يَضِيق عن المضاعفة ، عليم بما كان من النفقة.
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : واسع القدرة ، عليم بالمصلحة. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 337}
فائدة
قال السعدى فى معنى الآية
هذا بيان للمضاعفة التي ذكرها الله في [ ص 113 ] قوله { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } وهنا قال : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } أي : في طاعته ومرضاته ، وأولاها إنفاقها في الجهاد في سبيله { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } وهذا إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل ، الذي كان العبد يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته ، فيقوى شاهد الإيمان مع شاهد العيان ، فتنقاد النفس مذعنة للإنفاق سامحة بها مؤملة لهذه المضاعفة الجزيلة والمنة الجليلة ، { والله يضاعف } هذه المضاعفة { لمن يشاء } أي : بحسب حال المنفق وإخلاصه وصدقه وبحسب حال النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها ، ويحتمل أن يكون { والله يضاعف } أكثر من هذه المضاعفة { لمن يشاء } فيعطيهم أجرهم بغير حساب { والله واسع } الفضل ، واسع العطاء ، لا ينقصه نائل ولا يحفيه سائل ، فلا يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة ، لأن الله تعالى لا يتعاظمه شيء ولا ينقصه العطاء على كثرته ، ومع هذا فهو { عليم } بمن يستحق هذه المضاعفة ومن لا يستحقها ، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته. أ هـ {تفسير السعدى صـ 112}
لطيفة
قال ابن عجيبة(8/431)
التقرب إلى الله تعالى يكون بالعمل البدني وبالعملي المالي ، وبالعمل القلبي ، أما العمل البدني ، ويدخل فيه العمل اللساني ، فقد ورد فيه التضعيف بعشر وبعشرين وبثلاثين وبخمسين وبمائة ، وبأكثر من ذلك أو أقل ، وكذلك العمل المالي : قد ورد تضعيفه إلى سبعمائة ، ويتفاوت ذلك بحسب النيات والمقاصد ، وأما العمل القلبي : فليس له أجر محصور ، قال تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزُّمَر : 10 ] ، فالصبر ، والخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والتوكل ، والمحبة ، والرضا ، والتسليم ، والمعرفة ، وحسن الخلق ، والفكرة ، وسائر الأخلاق الحميدة ، إنما جزاؤها : الرضا ، والإقبال والتقريب ، وحسن الوصال. قال تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التّوبَة : 72 ] أي : أكبر من الجزاء الحسيّ الذي هو القصور والحور. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 222}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله . . . }.
قال ابن عرفة : ويتناول ( نفقة ) النفوس وقدروه على حذف مضاف إمّا من الأول أو من الثاني.
وعندي أنّه لا يحتاج إليه لأنّ المنفقين للأموال نشأ عنهم نفقات ، ونشأ عن نفقاتهم منافع دنيوية من إعلاء كلمة الله وإظهار الإسلام وتكثير المسلمين وهضم ( حمية ) الكافرين واستئصالهم ومنافع أخروية بتكثير الثواب في الدار الآخرة كما أنّ الحبّة ينشأ عنها أولاد كثيرة.
وعن الإمام مالك رضي الله عنه الأولاد حبوب كثيرة.
قال الزمخشري : فإن قلت هلاّ قيل سبع سنبلات بلفظ جمع القلة ؟
وأجاب بجواز إيقاع جمع الكثرة على جمع القلة فوقع جمع القلة مثل " ثَلاثَةُ قُرُوءٍ ".
وأجاب ابن عرفة بأنّه لما سلك في الآية مسلك الحظ على النفقة في سبيل الله وتكثير الثواب المعد عليها روعي في ذلك وصف الكثرة فأتى به بجمع الكثرة.(8/432)
وجعله الزمخشري وابن ( عطية ) من تشبيه المحسوس بالمحسوس قبل الوجود.
زاد الزمخشري : أو تشبيه محسوس بمعقول مقدر الوجود.
قال ابن عرفة : كان ابن عبد السلام يقول : هذا عندهم في أرض الحجاز وأما نحن فهو عندنا كثير والحبة الواحدة تنبت قدر الخمسين سنبلة أو مائة
وأما أنّ ( في ) كل سنبلة مائة حبة فهذا عندنا قليل الوجود. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 341}(8/433)
من لطائف ابن القيم فى الآية
قال رحمه الله :
وهذه الآية كأنها كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرض ومثل سبحانه بهذا المثل إحضارا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التي غيبت في الأرض فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي من الحبة الواحدة فينضاف الشاهد العياني إلى الشاهد الإيماني القرآني فيقوى إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه الآية على سنابل وهي من جموع الكثرة إذ المقام مقام تكثير وتضعيف وجمعها على سنبلات في قوله تعالى وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات فجاء بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير وقوله تعالى والله يضاعف لمن يشاء قيل المعنى والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق بل يختص برحمته من يشاء وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه ولصفات المنفق وأحواله في شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع وقيل والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة واختلف في تفسير الآية فقيل مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة وقيل مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة ليطابق الممثل للممثل به فههنا أربعة أمور منفق ونفقة وباذر وبذر فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه فذكر من شق الممثل المنفق إذ المقصود ذكر حاله وشأنه وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها وذكر من شق الممثل به البذر إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان وهذا كثير في أمثال القرآن بل عامتها ترد على هذا النمط ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها وهما الواسع والعليم فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة ولا يضيق عنها عطاؤه فإن المضاعف واسع العطاء واسع الغنى واسع الفضل ومع ذلك(8/434)
فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه. أ هـ {طريق الهجرتين صـ 539 ـ 540}(8/435)
بحث
الإنفاق ومشكلة الفوارق الطبقيّة :
من المشكلات الاجتماعية الكبرى التي يعاني منها الإنسان دوماً ولازال يعاني رغم كلّ ما حقّقه البشر من تقدّم صناعي ومادّي هي مشكلة التباين الطبقي المتمثّلة بالفقر المدقع في جانب ، وتراكم الثروة في جانب آخر.
إنّك لترى بعضهم يكتنز من الثروة بحيث إنّه لا يستطيع أن يحصيها ، وترى بعضهم من الفقر في عذاب ممض بحيث لا يستطيع أن يجد حتّى الضروريّ اللازم لحياته كالحدّ الأدنى من الغذاء والملبس والمأوى.
لاشكّ أنّ المجتمع الذي يقوم قسم من بنيانه على الغنى الفاحش ، والقسم الأعظم على الفقر المدقع والجوع القاتل ، لا دوام له ، ولن يصل إلى السعادة الحقيقة أبداً ، إنّ مجتمعاً كهذا يسوده حتماً الهلع والاضطراب والقلق والخوف وسوء الظن ، ومن ثمّ العداء والصراع.
هذا التباين الطبقي الذي كان موجوداً في القديم قد تفشّى فينا اليوم ـ مع الأسف ـ بأكثر وأخطر ممّا سبق ، ذلك لأنك تجد أبواب التعاون الإنساني الحقيقي قد أُغلقت بوجوه الناس ، وفُتحت بمكانها أبواب الربا الفاحش الذي هو من أهمّ أسباب اتساع الهوة الطبقية بين الناس ، ولا أدلّ على ذلك من ظهور الشيوعية
وأمثالها ، وإراقة الدماء في أنواع الحروب المروعة التي اندلعت في قرننا الأخير وما زالت مندلعة هنا وهناك في أنحاء مختلفة من العالم ، ومعظمها ذات منشأ اقتصادي وردّ فعل لحرمان أكثرية شعوب العالم.(8/436)
وقد سعى العلماء والمذاهب الاقتصادية في العالم للبحث عن علاج ، واختار كلّ طريقاً ، فالشيوعية اختارت إلغاء الملكية الفردية ، والرأسمالية اختارت طريق استيفاء الضرائب الثقيلة وإنشاء المؤسّسات الخيرية العامّة (وهي شكلية أكثر من كونها حلاًّ لمشكلة الطبقية) ، ظانّين أنّهم بذلك يكافحون هذه المشكلة ، لكن أيّاً من هؤلاء لم يستطع في الحقيقة أن يخطو خطوة فعّالة في هذا السبيل ، وذلك لأنّ حلّ هذه المشكلة غير ممكن ضمن الروح المادّية التي تسيطر على العالم.
بالتدقيق في آيات القرآن الكريم يتّضح أنّ واحداً من الأهداف التي يسعى لها الإسلام هو إزالة هذه الفوارق غير العادلة الناشئة من الظلم الاجتماعي بين الطبقتين الغنية والفقيرة ، ورفع مستوى معيشة الذين لا يستطيعون رفع حاجاتهم الحياتية ولا توفير حدّ أدنى من متطلّباتهم اليومية دون مساعدة الآخرين.
وللوصول إلى هذا الهدف وضع الإسلام برنامجاً واسعاً يتمثّل بتحريم الربا مطلقاً ، وبوجوب دفع الضرائب الإسلامية كالزكاة والخُمس ، والحثّ على الإنفاق ، والقرض الحسن ، والمساعدات المالية المختلفة ، وأهمّ من هذا كلّه هو إحياء روح الأخوّة الإنسانية في الناس. أ هـ {الأمثل صـ 293 ـ 294}(8/437)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } أي : أخرجت وهذه الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ لحبة ، كأن قيل : كمثل حبَّةٍ منبتةٍ.
وأدغم تاء التأنيث في سين " سَبْع " أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وهشامٌ. وأظهر الباقون ، والتاء تقارب السين ، ولذلك أُبدلت منها؛ قالوا : ناسٌ ، وناتُ ، وأكياسٌ ، وأكياتٌ؛ قال : [ الرجز ]
عَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ... لَيْسُوا بَأَجْيَادٍ وَلاَ أَكْيَاتِ
أي : شرار الناس ، ولا أكياسِ.
وجاء التَّمييز هنا على مثال مفاعل ، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألف والتَّاء ، فقال الزمخشريُّ : " فإنْ قلتَ : هلاَّ قيل : " سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ " على حقِّه من التمييز بجمع القلَّة ، كما قال : { وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ } [ يوسف : 43 و46 ]. قلت : هذا لما قدَّمت عند قوله : { ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] من وقوع أمثلة الجمع [ متعاورةً ] مواقعها ".
يعني : أنه من باب الاتساع ، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر ، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص ، [ ولا محَصِّلٍ ] ، فلا بدَّ من ذكر قاعدةٍ مفيدة في ذلك :
قال شهاب الدين - رحمه الله - : اعلم أن جمعي السَّلامة لا يميَّز بهما عددٌ إلا في موضعين :
أحدهما : ألا يكون لذلك المفرد جمعٌ سواه ، نحو : سبع سموات ، وسبع بقرات ، وسبع سنبلات ، وتسع آيات ، وخمس صلوات ، لأنَّ هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة ، فأمَّا قوله : [ الطويل ]
....................................... فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا
فشاذٌ ، منصوصٌ على قلَّته ، فلا يلتفت إليه.(8/438)
والثاني : أن يعدل إليه لمجاوزة غيره ، كقوله : { وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ } [ يوسف : 43 و46 ] عدل من " سَنَابِلَ " إِلى " سُنْبُلاَتٍ " ؛ لأجل مجاورته " سَبْعَ بَقَرات " ، ولذلك إذا لم توجد المجاورة ، ميِّز بجمع التكسير دون جمع السلامة ، وإن كان موجوداً نحو : " سَبْعَ طَرَائِق ، وسَبْعِ لَيَالٍ " مع جواز : طريقات ، وليلات.
والحاصل أنَّ الاسم إذا كان له جمعان : جمع تصحيح ، وجمع تكسيرٍ ، فالتكسير إمَّا للقلة ، أو للكثرة ، فإن كان للكثرة : فإمَّا من باب مفاعل ، أو من غيره ، فإن كان من باب مفاعل ، أُوثر على التصحيح ، تقول : ثلاثة أحَامِدَ ، وثَلاَثُ زَيَانِبَ ، ويجوز قليلاً : أَحْمَدِينَ وَزَيْنَبَات.
وإن كان من غير باب مفاعل : فإمَّا أن يكثر فيه من غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة ، أو يقلَّ.
فإن كان الأول : فلا يجوز التصحيح ، ولا جمع الكثرة إلا قليلاً؛ نحو : ثَلاثَةُ زُيُودٍ ، وَثَلاثُ هُنُودٍ ، وثَلاَثَةُ أَفْلُسٍ ، ولا يجوز : ثلاثةُ زيْدِينَ ، ولا ثَلاَثُ هِنْدَات ، ولا ثَلاَثةُ فُلُوسٍ ، إلاَّ قليلاً.
وإن كان الثاني : أُوثر التصحيح وجمع الكثرة ، نحو : ثلاثُ سُعَادَات ، وثلاثة شُسُوع ، وعلى قلّة يجوز : ثَلاثُ سَعَائد ، وثلاثةُ أشْسُع. فإذا تقرَّر هذا ، فقوله : " سَبْعَ سَنَابِلَ " جاء على المختار ، وأمَّا قوله " سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ " ؛ فلأجل المجاورة كما تقدَّم.
وقيل : لمَّا كان الكلام - ها هنا - في تضعيف الأجر ، ناسبها جمع الكثرة ، وفي سورة يوسف ذكرت في سياق الكلام في سني الجدب؛ فناسبها التقليل؛ فجمعت جمع القلة.
والسُّنْبُلَةُ فيها قولان :
أحدهما : أنَّ نونها أصليةٌ؛ لقولهم : " سَنْبَلَ الزرعُ " أي : أخرج سنبله.(8/439)
والثاني : أنها زائدةٌ ، وهذا هو المشهور؛ لقولهم : " أَسْبَلَ الزرعُ " ، فوزنها على الأول : فُعلُلَةٌ ، وعلى الثاني : فُنْعُلَة ، فعلى ما ثبت من حكاية اللُّغتين : سَنْبَلَ الزرعُ ، وأسْبَلَ تكون من باب سَبِط وسِبَطْر.
قال القرطبي : من أسْبَلَ الزرعُ : إذا صار فيه السُّنبل ، كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل : معناه : صار فيه حبٌّ مستورٌ ، كما يستر الشيء بإسبال السَّتر عليه.
قوله : { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ } هذا الجارُّ في محلِّ جر؛ صفةً لسنابل ، أو نصبٍ؛ صفةً لسبع ، نحو : رأيت سبع إماءٍ أحرارٍ ، وأحراراً ، وعلى كلا التقديرين فيتعلَّق بمحذوفٍ.
وفي رفع " مائة " وجهان :
أحدهما : بالفاعلية بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وقع صفةً.
والثاني : أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره ، والجملة صفةٌ ، إمَّا في محلِّ جرٍّ ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم ، إلاَّ أنَّ الوجه [ الأول ] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات ، دون الجمل. ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ ، أي : في كلِّ سنبلة منها ، أي : من السنابل.
والجمهور على رفع : " مِائَة " على ما تقدَّم ، وقرئ : بنصبها.
وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين :
أحدهما : بإضمار فعلٍ ، أي : أَنْبَتَتْ ، أو أَخْرَجَتْ.
والثاني : أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره ، والجملة صفةٌ ، إمَّا في محلِّ جرٍّ ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم ، إلاَّ أنَّ الوجه [ الأول ] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات ، دون الجمل. ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ ، أي : في كلِّ سنبلة منها ، أي : من السنابل.
والجمهور على رفع : " مِائَة " على ما تقدَّم ، وقرئ : بنصبها.
وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين :
أحدهما : بإضمار فعلٍ ، أي : أَنْبَتَتْ ، أو أَخْرَجَتْ.(8/440)
والثاني : أنها بدلٌ من " سَبْعِ " ، وردَّ بأنَّه لا يخلو : إمَّا أن يكون بدل [ كلِّ ] من كلٍّ ، أو بدل بعضٍ من كلٍّ ، أو بدل اشتمالٍ.
فالأول : لا يصحُّ؛ لأنَّ المائة ليست كلَّ السبع سنابل.
والثاني : لا يصحُّ - أيضاً؛ لعدم الضمير الراجع على المبدل منه ، ولو سلِّم عدم اشتراط الضمير ، فالمئة ليست بعض السبع؛ لأنَّ المظروف ليس بعضاً للظرف ، والسنبلة ظرفٌ للحبة ، ألا ترى قوله : { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ } فجعل السُّنْبُلَة وعاءٌ للحَبِّ.
والثالث - أيضاً - لا يصحُّ؛ لعدم الضَّمير ، وإن سُلِّم ، فالمشتمل على " مِائَةِ حَبَّةٍ " هو سنبلة من سبع سنابل ، إلا أن يقال إنَّ المشتمل على المشتمل على الشيء ، هو مشتملٌ على ذلك الشيء ، فالسنبلة مشتملةٌ على مائة والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل ، فلزم أنَّ السبع مشتملةٌ على " مائة حبة ".
وأسهل من هذا كلِّه أن يكون ثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : حبَّ سَبْع سَنَابِلَ ، فعلى هذا يكون " مِائَةُ حَبَّةٍ " بدل بعضٍ من كل. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 378 ـ 380}. بتصرف.(8/441)
قوله تعالى : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الإنسان قد يزرع ما يكون لغيره بين أن هذا لهم بشرط فقال : - وقال الحرالي : ولما كان للخلافة وخصوصاً بالإنفاق موقع من النفس بوجوه مما ينقص التضعيف أو يبطله كالذي يطرأ على الحرث الذي ضرب به المثل مما ينقص نباته أو يستأصله نبه تعالى على ما يبطل ؛ انتهى.
فقال سبحانه وتعالى : {الذين ينفقون} ورغبهم في إصلاحها ورهبهم من إفسادها بإضافتها إليهم فقال : {أموالهم} وحث على الإخلاص في قوله : {في سبيل الله} أي الذي له الأسماء الحسنى.
ولما كانت النفس مطبوعة على ذكر فضلها وكان من المستبعد جداً تركها له نبه عليه بأداة البعد إعلاماً بعظيم فضله فقال : {ثم لا يتبعون ما أنفقوا} بما يجاهدون به أنفسهم {مناً} قال الحرالي : وهو ذكره لمن أنفق عليه فيكون قطعاً لوصله بالإغضاء عنه لأن أصل معنى المنّ القطع {ولا أذى} وهو ذكره لغيره فيؤذيه بذلك لما يتعالى عليه بإنفاقه - انتهى.
وكذا أن يقول لمن شاركه في فعل خير : لو لم أحضر ما تم ،
وتكرير {لا} تنبيه على أن انتفاء كل منهما شرط لحصول الأجر {لهم} ولم يقرنه بالفاء إعلاماً بأنه ابتداء عطاء من الله تفخيماً لمقداره وتعظيماً لشأنه حيث لم يجعله مسبباً عن إنفاقهم {أجرهم} أي الذي ذكره في التضعيف فأشعر ذلك أنه إن اقترن بما نهي عنه لم يكن لهم ،
ثم زادهم رغبة بقوله : {عند ربهم} أي المحسن إليهم بتربيتهم القائم على ما يقبل من النفقات بالحفظ والتنمية حتى يصير في العظم إلى حد يفوت الوصف {ولا خوف عليهم} من هضيمة تلحقهم {ولا هم يحزنون} على فائت ،(8/442)
لأن ربهم سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً من الفضل اللائق بهم إلا أوصله إليهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 516}
فصل فى نزول الآية
قال القرطبى :
قيل : إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه.
" قال عبد الرحمن بن سَمُرة : جاء عثمان بألف دينار في جيش العُسْرة فصبّها في حِجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول : "ما ضَرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللَّهُمَّ لا تنس هذا اليومَ لعثمان".
وقال أبو سعيد الخدرِيّ : رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه يدعو لعثمان يقول : "يا ربّ عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه" " فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزلت : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } الآية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 306}
وقيل نزلت فى عليّ ، وقيل : في عبد الرحمن بن عوف وعثمان ، جاء ابن عوف في غزوة تبوك بأربعة آلاف درهم وترك عنده مثلها ، وجاء عثمان بألف بعير بأقتابها وأحلاسها ، وتصدق برومة ركية كانت له تصدق بها على المسلمين. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 318}
وقال الفخر :
نزلت الآية في عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف دينار ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يقول : يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه ، وأما عبد الرحمن بن عوف فإنه تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار فنزلت الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 40}
فائدة
قال الفخر :
قال بعض المفسرين :
إن الآية المتقدمة مختصة بمن أنفق على نفسه ، وهذه الآية بمن أنفق على غيره فبيّن تعالى أن الإنفاق على الغير إنما يوجب الثواب العظيم المذكور في الآية إذا لم يتبعه بمن ولا أذى(8/443)
قال القفال رحمه الله : وقد يحتمل أن يكون هذا الشرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه ، وذلك هو أن ينفق على نفسه ويحضر الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ابتغاء لمرضاة الله تعالى ، ولا يمن به على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين ، مثل أن يقول : لو لم أحضر لما تم هذا الأمر ، ويقول لغيره : أنت ضعيف بطال لا منفعة منك في الجهاد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 40 ـ 41}
فائدة
قال القرطبى :
لما تقدّم في الآية التي قبلُ ذِكرُ الإنفاق في سبيل الله على العموم بَيَّن في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه مَنّا ولا أذًى ؛ لأن المنّ والأذى مبطلان لثواب الصدّقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا ، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابَه بإنفاقه على المنَفق عليه ، ولا يرجو منه شيئاً ولا ينظر من أحواله في حالٍ سوى أن يراعي استحقاقه ؛ قال الله تعالى : { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } [ الإنسان : 9 ].
ومتى أنفق ليريد من المنفَق عليه جزاء بوجهٍ من الوجوه فهذا لم يُرد وجهَ الله ؛ فهذا إذا أخلف ظنه فيه منّ بإنفاقه وآذى.
وكذلك من أنفق مضطراً دَافع غَرْم إمّا لمانْةٍ للمنفَق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله.
وإنما يُقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله ، كالذي حُكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابياً أتاه فقال :
يا عُمَر الخيرِ جُزَيت الجنّهْ . . .
أُكْسُ بُنَياتِّي وأمّهُنّه
وكُنْ لنا من الزمان جُنَّه . . .
أُقسم بالله لتفعلَنّهْ
قال عمر : إن لم أفعل يكون ماذا ؟! قال :
إذاً أبا حفصٍ لأذهَبَنّه . . .
قال : إذا ذهبت يكون ماذا ؟! قال :
تكون عن حالي لتُسْأَلنّهْ . . .
يوم تكون الأُعْطِيات هَنّهْ
ومَوْقِفُ المسئول بيْنَهُنّهْ . . .
إمّا إلى نارٍ وإمّا جَنّهْ(8/444)
فبكى عمر حتى اخْضَلّت لحيته ، ثم قال : يا غلام ، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لِشعْره! والله لا أملك غيره.
قال الماورديّ : وإذا كان العطاء على هذا الوجه خالياً من طلب جزاء وشُكر عُرْياً عن امتنان ونشرٍ كان ذلك أشرف للباذل وأهْنَأَ للقابل.
فأما المعطِي إذا التمس بعطائه الجزاء ، وطلب به الشكر والثناء ، كان صاحبَ سُمْعة ورِياء ، وفي هذين من الذمّ ما ينافِي السخاء.
وإن طلب الجزاء كان تاجراً مُربِحاً لا يستحق حمداً ولا مدحاً.
وقد قال ابن عباس في قوله تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] أي لا تُعطِي عطية تلتمس بها أفضل منها.
وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود ، وأن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم ، قال : ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأوّلين.
قال ابن عطية : وفي هذا القول نظر ؛ لأن التحكُّم فيه بادٍ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 307 ـ 308}
لطيفة
قال أبو السعود :
وإنما قُدم المن لكثرة وقوعِه ، وتوسيطُ كلمة { لا } للدَلالة على شمول النفي لإتباع كل واحدٍ منهما و{ ثُمَّ } لإظهار علوِّ رتبة المعطوف. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 258}
فائدة
قال أبو حيان :
{ لهم أجرهم عند ربهم }
عطف : بـ {ثم} ، التي تقتضي المهلة ، لأن من أنفق في سبيل الله ظاهراً لا يحصل منه غالباً المنّ والأذى ، بل إذا كانت بنية غير وجه الله تعالى ، لا يمنّ ولا يؤذي على الفور ، فذلك دخلت : ثم ، مراعاة للغالب.
وإن حكم المن والأذى المعتقبين للإنفاق ، والمقارنين له حكم المتأخرين.
وقال الزمخشري : ومعنى : ثم ، إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق ، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله : { ثم استقاموا } انتهى كلامه.(8/445)
وقد تكرر للزمخشري ادعاء هذا المعنى لـ {ثم} ، ولا أعلم له في ذلك سلفاً ، وقد تكلمنا قبل هذا معه في هذا المعنى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 319}
فصل
قال الفخر :
المن في اللغة على وجوه
أحدها : بمعنى الإنعام ، يقال : قد من الله على فلان ، إذا أنعم ، أو لفلان على منّة ، وأنشد ابن الأنباري :
فمنّي علينا بالسلام فإنما.. كلامك ياقوت ودر منظم
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة " يريد أكثر إنعاماً بماله ، وأيضاً الله تعالى يوصف بأنه منان أي منعم.
والوجه الثاني : في التفسير المن النقص من الحق والبخس له ، قال تعالى : {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع وغير ممنوع ، ومنه سمي الموت : منوناً لأنه ينقص الأعمار ، ويقطع الأعذار : ومن هذا الباب المنة المذمومة ، لأن ينقص النعمة ، ويكدرها ، والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة ، قال قائلهم :
زاد معروفك عندي عظما.. أنه عندي مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته.. وهو في العالم مشهور كثير
إذا عرفت هذا فنقول : المن هو إظهار الاصطناع إليهم ، والأذى شكايته منهم بسبب ما أعطاهم وإنما كان المن مذموماً لوجوه الأول : أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة غير معترف باليد العليا للمعطي ، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار ذلك الإنعام ، زاد ذلك في انكسار قلبه ، فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة ، وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه والثاني : إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريقه ذلك الثالث : أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله تعالى عليه ، وأن يعتقد أن لله عليه نعماً عظيمة حيث وفقه لهذا العمل ، وأن يخاف أنه هل قرن بهذا الانعام ما يخرجه عن قبول الله إياه ، ومتى كان الأمر كذلك امتنع أن يجعله منة على الغير(8/446)
الرابع : وهو السر الأصلي أنه إن علم أن ذلك الإعطاء إنما تيسر لأن الله تعالى هيأ له أسباب الاعطاء وأزال أسباب المنع ، ومتى كان الأمر كذلك كان المعطي هو الله في الحقيقة لا العبد ، فالعبد إذا كان في هذه الدرجة كان قلبه مستنيراً بنور الله تعالى وإذا لم يكن كذلك بل كان مشغولاً بالأسباب الجسمانية الظاهرة وكان محروماً عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقة فكان في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول وعن الآثار إلى المؤثر ، وأما الأذى فقد اختلفوا فيه ، منهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين وليس ذلك بالمن بل يجب أن يكون مختصاً بما تقدم ذكره وهو مثل أن يقول للفقير : أنت أبداً تجيئني بالإيلام وفرج الله عني منك وباعد ما بيني وبينك ، فبيّن سبحانه وتعالى أن من أنفق ماله ثم أنه لا يتبعه المن والأذى فله الأجر العظيم والثواب الجزيل.
فإن قيل : ظاهر اللفظ أنهما بمجموعهما يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الثاني لا يبطل الأجر.
قلنا : بل الشرط أن لا يوجد واحد منهما لأن قوله {لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذًى} يقتضي أن لا يقع منه لا هذا ولا ذاك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 41 ـ 42}
وقال القرطبى :
المَنُّ : ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها ؛ مثل أن يقول : قد أحسنت إليك ونَعْشْتُك وشبهه.
وقال بعضهم : المنّ : التحدّث بما أَعطى حتى يبلغ ذلك المعطَى فيؤذيه.(8/447)
والمنّ من الكبائر ، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره ، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ؛ وروى النسائيّ عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاقّ لوالديه والمرأة المترجِّلة تتشبّه بالرجال والديُّوث ، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاقّ لوالديه والمدمِن الخمر والمنّان بما أعطى " وفي بعض طرق مسلم : " المنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا مِنّة " والأذى : السب والتشكّي ، وهو أعمّ من المنّ ؛ لأن المنّ جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وُقُوعِه.
وقال ابن زيد : لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه.
وقالت له امرأة : يا أبا أُسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقاً فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهماً وجعبة.
فقال : لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فمن أنفق في سبيل الله ولم يُتبعه مَنّا ولا أذًى كقوله : ما أشدّ إلحاحَك! وخلّصنا الله منك! وأمثال هذا فقد تضمّن الله له بالأجر ، والأجر الجنة ، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل ، والحزن على ما سلف من دنياه ؛ لأنه يغتبط بآخرته فقال : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }.
وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للنفقة في سبيل الله تعالى.
وفيها دلالة لمن فضّل الغنيّ على الفقر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 308 ـ 309}
سؤال : فإن قيل : كيف مدحهم بترك المن ، ووصف نفسه بالمنان ؟ فالجواب : أنه يقال : منّ فلان على فلان : إذا أنعم عليه ، فهذا الممدوح ، قال الشاعر :
فمنِّي علينا بالسلام فإنما . . .
كلامك ياقوت ودر منظم
أراد بالمن : الإنعام.
وأما الوجه المذموم ، فهو أن يقال : منّ فلان على فلان : إذا استعظم ما أعطاه ، وافتخر بذلك ، قال الشاعر في ذلك :(8/448)
أنلت قليلاً ثم أسرعت منَّة . . .
فنيلك ممنون كذاك قليل
ذكر ذلك أبو بكر الأنباري. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 317}
وقال الخازن : المنان في صفة الله تعالى معناه المتفضل فمن الله إفضال على عباده وإحسانه إليهم فجميع ما هم فيه منة منه سبحانه وتعالى ومن العباد تعيير وتكدير فظهر الفرق بينهما. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 189}
وقال فى روح البيان :
واعلم أن الله تعالى نهى عباده أن يمنوا على أحد بالمعروف مع أنه تعالى قد من على عباده كما قال { بل الله يمن عليكم } وذلك لأن الله تعالى تام الملك والقدرة وملكه وقدرته ليس بغيره والعبد وإن كان فيه خصال الخير فتلك خصاله من الله ولم يكن ذلك بقوة العبد فالعبد ناقص ، والناقص لا يجوز له أن يمن على أحد أو يمدح نفسه ، والمن ينقص قدر النعمة ويكدرها لأن الفقير الآخذ منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطى فإذا أضاف المعطى إلى ذلك إظهار ذلك الإنعام زاد ذلك فى انكسار قلبه فيكون فى حكم المضرب به بعد أن نفعه وفى حكم المسيئ إليه بعد أن أحسن إليه. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 514}
لطيفة
قال ابن الجوزى :
ولقد حدثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت الرجل وعياله ، ثم يعتقهم جميعاً ، ولا يتعرف إليهم ولا يخبرهم من هو. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 317}
فصل
قال الفخر :
قالت المعتزلة : الآية دالة على أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها ، وذلك لأنه تعالى بيّن أن هذا الثواب إنما يبقى إذا لم يوجد المن والأذى ، لأنه لو ثبت مع فقدهما ومع وجودهما لم يكن لهذا الاشتراط فائدة.(8/449)
أجاب أصحابنا بأن المراد من الآية أن حصول المن والأذى يخرجان الإنفاق من أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً ، من حيث يدلان على أنه إنما أنفق لكي يمن ، ولم ينفق لطلب رضوان الله ، ولا على وجه القربة والعبادة ، فلا جرم بطل الأجر ، طعن القاضي في هذا الجواب فقال : إنه تعالى بيّن أن هذا الإنفاق قد صح ، ولذلك قال : {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ} وكلمة {ثُمَّ} للتراخي ، وما يكون متأخراً عن الإنفاق موجب للثواب ، لأن شرط المتأثر يجب أن يكون حاصلاً حال حصول المؤثر لا بعده.
أجاب أصحابنا عنه من وجوه
الأول : أن ذكر المن والأذى وإن كان متأخراً عن الإنفاق ، إلا أن هذا الذكر المتأخر يدل ظاهراً على أنه حين أنفق ما كان إنفاقه لوجه الله ، بل لأجل الترفع على الناس وطلب الرياء والسمعة ، ومتى كان الأمر كذلك كان إنفاقه غير موجب للثواب
والثاني : هب أن هذا الشرط متأخر ، ولكن لم يجوز أن يقال : إن تأثير المؤثر يتوقف على أن لا يوجد بعده ما يضاده على ما هو مذهب أصحاب الموافاة ، وتقريره معلوم في علم الكلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 42}
قوله تعالى { ما أنفقوا }
قال أبو حيان :
و : ما ، من { ما أنفقوا } موصول عائده محذوف ، أي : أنفقوه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : إنفاقهم ، وثم محذوف ، أي : منّاً على المنفق عليه ، ولا أذى له ، وبعد ما قاله بعضهم من أن ولا أذى من صفة المعطي ، وهو مستأنف ، وكأنه قال : الذين ينفقون ولا يمنون ولا يتأذون بالإنفاق ، وكذلك يبعد ما قاله بعضهم من أن قوله : { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } لا يراد به في الآخرة ، وأن المعنى : إن حق المنفق في سبيل الله أن يطيب به نفسه ، وأن لا يعقبه المن ، وأن لا يشفق من فقر يناله من بعد ، بل يثق بكفاية الله ولا يحزن إن ناله فقر. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 319}
فائدة
قال الفخر :(8/450)
الآية دلت أن المن والأذى من الكبائر ، حيث تخرج هذه الطاعة العظيمة بسبب كل واحد منهما عن أن تفيد ذلك الثواب الجزيل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 42}
قوله تعالى {لَهُمْ أَجْرُهُمْ}
قال الفخر :
أما قوله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن العمل يوجب الأجر على الله تعالى ، وأصحابنا يقولون : حصول الأجر بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل لأن العمل واجب على العبد وأداء الواجب لا يوجب الأجر.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على نفي الإحباط ، وذلك لأنها تدل على أن الأجر حاصل لهم على الإطلاق ، فوجب أن يكون الأجر حاصلاً لهم بعد فعل الكبائر ، وذلك يبطل القول بالإحباط.
المسألة الثالثة : أجمعت الأمة على أن قوله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} مشروط بأن لا يوجد منه الكفر ، وذلك يدل على أنه يجوز التكلم بالعام لإرادة الخاص ، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية ، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التمسك بالعمومات على القطع بالوعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 42}
سؤال :
فإن قلت : أي فرق بين قوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } وقوله فيما بعد : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } ؟
قلت : الموصول لم يضمن ههنا معنى الشرط. وضمنه ثمة. والفرق بينهما من جهة المعنى أنّ الفاء فيها دلالة على أنّ الإنفاق به استحق الأجر ، وطرحها عار عن تلك الدلالة. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 339}
وقال البيضاوى :
لعله لم يدخل الفاء فيه وقد تضمن ما أسند إليه معنى الشرط إيهاماً بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 566}(8/451)
قوله تعالى {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
قال الفخر :
أما قوله {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ففيه قولان الأول : أن إنفاقهم في سبيل الله لا يضيع ، بل ثوابه موفر عليهم يوم القيامة ، لا يخافون من أن لا يوجد ، ولا يحزنون بسبب أن لا يوجد ، وهو كقوله تعالى : {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [ طه : 112 ] والثاني : أن يكون المراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ألبتة ، كما قال : {وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ} [ النمل : 89 ] وقال : {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [ الأنبياء : 103 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 42 ـ 43}
وقال أبو السعود :
{ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في الدارين من لحوق مكروهٍ من المكاره { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لفوات مطلوبٍ من المطالب قلَّ أو جلَّ ، أي لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزن أصلاً بل يستمرون على النشاط والسرور ، كيف لا واستشعارُ الخوف والخشية استعظاماً لجلال الله وهيبته واستقصاراً للجِد والسعي في إقامة حقوقِ العبودية من خواصِّ الخاصةِ والمقرَّبين ، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبر في الجملة الثانية مضارعاً عالماً أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيدُ الدوام والاستمرار بحسب المقام. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 258}(8/452)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
{ الذين يُنْفِقُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله تعالى : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } ، ولم يضمَّن المبتدأ هنا معنى الشَّرط ، فلذلك لم تدخل الفاء في خبره ، لأنَّ القصد بهذه الجملة تفسير الجملة التي قبلها؛ لأنَّ الجملة قبلها أخرجت مخرج الشَّيء الثَّابت المفروغ منه ، وهو تشبيه نفقتهم بالحبَّة المذكورة ، فجاءت هذه الجملة كذلك ، والخبر فيها أُخرج مخرج الثَّابت المستقرِّ غير المحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع [ غيره ] ما قبله.
والثاني : أنَّ { الذين } خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ينفقون ، وفي قوله : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } على هذا وجهان :
أحدهما : أنَّها في محل نصبٍ على الحال.
والثاني : - وهو الأولى - أن تكون مستأنفةٌ ، لا محلَّ لها من الإعراب ، كأنها جواب سائل قال : هل لهم أجرٌ؟ وعطف بـ " ثمّ " جَرْياً على الأغلب؛ لأنَّ المتصدِّق لغير وجه الله لا يحصل منه المنُّ عقيب صدقته ، ولا يؤذي على الفور ، فجرى هذا على الغالب ، وإن كان حكم المنِّ والأذى الواقعين عقيب الصّدقة كذلك.
قال الزَّمخشريُّ : ومعنى " ثُمَّ " : إظهار التَّفاوت بين الإنفاق ، وترك المنِّ والأذى ، وأنَّ تركهما خبرٌ من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدُّخول فيه بقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] ، فجعلها للتَّراخي في الرُّتبة ، لا في الزَّمان ، وقد تكرَّر له ذلك غير مرَّةٍ.(8/453)
و " مَا " في قوله تعالى : { مَآ أَنْفَقُواُ } يجوز أن تكون موصولةً اسميّةً ، فالعائد محذوفٌ ، أي : ما أنفقوه ، وأن تكون مصدريةً ، فلا تحتاج إلى عائدٍ ، أي : لا يتبعون إنفاقهم. ولا بدَّ من حذفٍ بعد " مَناً " ، أي : مناً على المنفق عليه ، ولا أذى له ، فحذف للدّلالة عليه.
والمنُّ : الاعتداد بالإحسان ، وهو في الأصل : القطع ، ولذلك يطلق على النِّعمة؛ لأنَّ المنعم يقطع من ماله قطعةً للمنعم عليه. يقال : قد منَّ الله على فلان ، إذا أنعم عليه ، ولفلان عليَّ منَّةٌ ، أي : نعمة؛ وأنشد ابن الأنباريّ : [ الطويل ]
فَمُنِّي عَلَيْنَا بالسَّلاَمِ فَإِنَّمَا... كَلاَمُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمٌ
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَمَنَّ عَلَيْنَا في صُحْبَتِهِ ، وَلاَ ذَات يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ " يريد أكثر إنعاماً بماله ، وأيضاً فالله تعالى يوصف بأنَّه منَّانٌ ، أي : منعمٌ ، و" المنّ " أيضاً النَّقص من الحقّ. قال تبارك وتعالى : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } [ القلم : 3 ] أي : غير مقطوع وغير ممنوع؛ ومنه سمي الموت منوناص؛ لأنه ينقص الحياة ، ويقطعها ، ومن هذا الباب : المنَّةُ المذمومة؛ لأنَّها تنقص النّعمة ، وتكدّرها ، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنِّعمة قال قائلهم : [ الرمل ]
زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عِظَماً... أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حَقِيرْ
تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ... وَهْوَ في العَالَمِ مَشْهُودٌ كَثِيرْ
والمنُّ : الذي يوزن به ، ويقال في هذا : " مَنَا " مثل : عَصَا. وتقدَّم اشتقاق الأذى.(8/454)
و " مَنّاً " مفعولٌ ثانٍ ، و" لاَ أَذًى عطفٌ عليه ، وأبعد من جعل " وَلاَ أَذًى " مستأنفاً ، فجعله من صفات المتصدِّق ، كأنَّ قال : الذين ينفقون ، ولا يتأذَّون بالإِنفاق ، فيكون " أَذى " اسم لا ، وخبرها محذوفٌ ، أي : ولا أذًى حاصل لهم ، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النَّهي.
قال شهاب الدِّين : وهذا تكلُّفٌ ، وحقُّ هذا القائل أن يقرأ " وَلاَ أَذَى " بالألف غير منوَّنٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الفتح على مشهور مذهب النُّحاة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 382 ـ 383}(8/455)
لطيفة
قال فى روح البيان :
اعلم أن الناس على ثلاث طبقات.
الأولى الأقوياء وهم الذين أنفقوا جميع ما ملكوا وهؤلاء صدقوا فيما عاهدوا الله عليه من الحب كما فعل أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه.
والثانية المتوسطون وهم الذين لم يقدروا على إخلاء اليد عن المال دفعة ولكن أمسكوه لا للتنعم بل للإنفاق عند ظهور محتاج إليه وقنعوا فى حق أنفسهم بما يقويهم على العبادة
والثالثة الضعفاء وهم المقتصرون على أداء الزكاة الواجبة اللهم اجعلنا من المتجردين عن عيرك والقانعين بك عما سواك. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 515}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله . . . }.
قال ابن عرفة : أتى به غير معطوف لأنه في معنى التفسير للأول فعلى هذا يكون خبر مبتدإ مقدر ، أي هم الذين ينفقون أموالهم.
قوله تعالى : { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ . . . }.
عطفه بـ ( ثم ) إما لبعد ما بين المنزلتين أو للمهلة حقيقة ويكون فيه إشارة إلى أنهم يمنون بنفقة طال ( أمدها ) وداموا عليها ( فأحرى ) أن لا يَمُنُّوا بنفس الإنفاق.
قوله تعالى : { مَنّاً وَلاَ أَذىً . . . }.
قال ابن عرفة : قالوا الأذى هو الشكوى بذلك والسب عليه.
ابن عرفة : وتقدم لنا سؤال وهو أنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم بل العكس ، فالمنّ أعم من الأذى فإذا لم يمنّوا فأحرى أن لا يسبّوا عليها.
وأجيب بأن الإنسان قد يشكو بإعطائه النفقة لغيره ويذم معه ولا يمن عليه لأنه إذا رآه يستحيي منه ( فلا يمن عليه ).
فقال : المن على المعطي يكون بمحضره وفي غيبته.
قال : وإنما عادتهم يجيبون بأن سبب المن أخف من سبب الأذى ، فإنهم اعتبروا الفاعل ونحن نعتبر المفعول.
فنقول : سبب المن مجرد بذل المال للفقير فقط ، وأما الأذية ( والتشكي ) والسب فما يصدر إلا عن موجب وهو إذاية المعطي للفاعل ونحو ذلك.
فلا يلزم من نفي المنّ نفي الأذى.
قال : وقال هنا { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } وقال ( بعده ) { الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } فعطفه بالفاء.
وأجاب الزمخشري بأنّ الموصول لم يضمّن هنا معنى الشرط وضمنه هناك لأن الفاء تدل على أنّ الإنفاق به استحق الأجر.(8/456)
قال ابن عرفة : هذا الكلام لا يستقل بنفسه ، ولا يزال السؤال واردا ، فيقال : لأي شيء أريد الشرط هناك ولم يرد هنا ؟
قال : لكن عادتهم يجيبون بأنه لما قصد هناك الإخبار بأن مطلق الإنفاق في سبيل الله ( يلزمه ) الأجر قلّ أو كثر دخلت الفاء تحقيقا للارتباط ، ولما كان المراد هنا إنفاقا خاصا على وجه شبيه بحسنة موصوفة بهذه الصفة وأكدت خصوصية سلامته من المن والأذى كان ترتيب الأجر عليه كالمعلوم بالبديهة وكالمستفاد من اللفظ فلم يحتج إلى ما يحقق الارتباط.
قوله تعالى : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ . . . }.
أفادت الإضافة الاستحقاق أي أجرهم ( اللائق ) بهم فواحد يقل أجره وواحد يكثر وآخر في مادة التوسط بحسب ( عمله ) ونفقته. انتهى.
قوله تعالى : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ . . . }.
قال : الخوف يتعلق بالمستقبل فالمناسب فيه أن يكون الفعل المقتضي للتجدد ، والحزن يتعلق بالماضي فالمناسب ( أن يكون بالاسم ) المقتضي للثبوت والتحقيق. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 342}
تم الجزء الثامن من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع وأوله قوله تعالى :
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}(8/457)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء التاسع
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(9/3)
الجزء التاسع
من الآية {263} من سورة البقرة
وحتى الآية {277} من نفس السورة(9/4)
قوله تعالى : {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أفهم هذا وهي ما لا يقترن بالشرط من الإنفاق فتشوقت النفس إلى الوقوف على الحقيقة من أمره صرح به في قوله : {قول معروف} قال الحرالي : وهو ما لا يوجع قلب المتعرض بحسب حاله وحال القائل.
ولما كان السائل قد يلح ويغضب من الرد وإن كان بالمعروف من القول فيغضب المسؤول قال : {ومغفرة} للسائل إذا أغضب من رده {خير من صدقة} وهي الفعلة التي يبدو بها صدق الإيمان بالغيب من حيث إن الرزق غيب فالواثق منفق تصديقاً بالخلف إعلاماً بعظم فضله {يتبعها أذى} بمن أو غيره ،
لأنه حينئذ يكون جامعاً بين نفع وضر وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر {والله} أي والحال أن الملك الذي لا أعظم منه {غني} فهو لا يقبل ما لم يأذن فيه.
ولما رهب المتصدق بصفة الغني رغبة في الحلم عمن أغضبه بكفران الإحسان أو الإساءة في القول عند الرد بالجميل فقال : {حليم} أي لا يعاجل من عصاه بل يرزقه وينصره وهو يعصيه ويكفره. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 516 ـ 517}
قال الفخر :
أما القول المعروف ، فهو القول الذي تقبله القلوب ولا تنكره ، والمراد منه هاهنا أن يرد السائل بطريق جميل حسن ، وقال عطاء : عدة حسنة ، أما المغفرة ففيه وجوه
أحدها : أن الفقير إذا رد بغير مقصوده شق عليه ذلك ، فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان ، فأمر بالعفو عن بذاءة الفقير والصفح عن إساءته
وثانيها : أن يكون المراد ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل
وثالثها : أن يكون المراد من المغفرة أن يستر حاجة الفقير ولا يهتك ستره ، والمراد من القول المعروف رده بأحسن الطرق وبالمغفرة أن لا يهتك ستره بأن يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله
ورابعها : أن قوله {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} خطاب مع المسؤول بأن يرد السائل بأحسن الطرق ،(9/5)
وقوله {وَمَغْفِرَةٌ} خطاب مع السائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرد ، فربما لم يقدر على ذلك الشيء في تلك الحالة ، ثم بيّن تعالى أن فعل الرجل لهذين الأمرين خير له من صدقة يتبعها أذى ، وسبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى ، ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء ، فهناك جمع بين الإنفاع والإضرار ، وربما لم يف ثواب الإنفاع بعقاب الإضرار ،
وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار ، فكان هذا خيراً من الأول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 43}
وقال القرطبى :
والقول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله ، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء ؛ لأن ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها.
قال صلى الله عليه وسلم : " الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طَلِق " أخرجه مسلم.
فيتلقّى السائل بالبشر والترحيب ، ويقابله بالطلاقة والتقريب ؛ ليكون مشكوراً إن أعطى ومعذوراً إن منع.
وقد قال بعض الحكماء : الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره.
وحكى ابن لنكك أن أبا بكر بن دُرَيْد قصد بعض الوزراء في حاجة لم يقضها وظهر له منه ضجر فقال :
لا تدخلنّك ضَجْرةٌ من سائلٍ . . .
فَلخيرُ دهرِك أن تُرى مَسؤولا
لا تَجْبَهنْ بالردِّ وجهَ مُؤمِّلٍ . . .
فبقاءُ عِزِّك أن تُرى مأمُولا
تلقَى الكريمَ فتستدلّ ببِشْره . . .
وتَرى العُبُوس على اللّئيم دَليلا
واعلم بأنك عن قليل صائرٌ . . .
خبراً فكُنْ خَبراً يَروق جَميلاً
وروي من حديث عمر رضي الله عنه قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم رُدّوا عليه بوَقَار ولِين أو ببَذْلٍ يسير أو رَدّ جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جانّ ينظرون صنيعكم فيما خوّلكم الله تعالى ".
قلت : دليله حديث أبرص وأقرع وأعمى ، خرّجه مسلم وغيره.(9/6)
وذلك أن ملكاً تصوّر في صورة أبْرَصَ مرةً وأقْرَع أُخرى وأعْمى أُخرى امتحاناً للمسؤول.
وقال بِشْر بن الحارث : رأيت علياً في المنام فقلت : يا أمير المؤمنين! قل لي شيئاً ينفعني الله به ؛ قال : ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء رغبة في ثواب الله تعالى ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بموعود الله.
فقلت : يا أمير المؤمن زِدني ؛ فولَّى وهو يقول :
قد كنتَ مَيْتاً فصرتَ حيّا . . .
وعن قليل تصير مَيْتَا
فاخرب بدار الفناء بَيْتاً . . .
وابن بدار البقاء بيتا.
قوله تعالى : {وَمَغْفِرَةٌ} المغفرة هنا : الستر للخَلّة وسوء حالة المحتاج ؛ ومن هذا قول الأعرابيّ وقد سأل قوماً بكلام فصيح فقال له قائل : مِمّن الرجل ؟ فقال له : اللهم غَفْرا سُوءُ الاكتساب يمنع من الانتساب.
وقيل : المعنى تجاوزٌ عن السائل إذا ألحّ وأغلظ وجفَى خيرٌ من التصدّق عليه مع المنِّ والأذى ؛ قال معناه النقّاش.
وقال النحاس : هذا مشكل يبيّنه الإعراب.
"مَغْفِرَةٌ" رفع بالابتداء والخبر {خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ}.
والمعنى والله أعلم وفِعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ، وتقديره في العربية وفعل مغفِرةٍ.
ويجوز أن يكون مثل قولك : تفضُّلُ الله عليك أكْبَرُ من الصدقة التي تَمُنّ بها ، أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمُنّون بها. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 309 ـ 310}
وقال أبو حيان :
{قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} أي : ردّ جميل من المسؤول ، وعفو من السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول من إلحاح أو سب أو تعريض بسبب ، كما يوجد في كثير من المستعطين ، وقيل : معنى و: مغفرة ، أي : نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل.
وقيل : ومغفرة ، أي عفو من جهة السائل ، لأنه إذا رده ردّاً جميلاً عذره.(9/7)
وقيل : قول معروف ، هو الدعاء والتأسي والترجئة بما عند الله ، وقيل : الدعاء لأخيه بظهر الغيب ، وقيل : الأمر بالمعروف خير ثواباً عند الله من صدقة يتبعها أذى.
وقيل : التسبيحات والدعاء والثناء والحمد لله والمغفرة ، أي : الستر على نفسه والكف عن إظهار ما ارتكب من المآثم خير ، أي : أخف على البدن من صدقة يتبعها أذى.
وقيل : المغفرة الاقتصار على القول الحسن ، وقيل : المغفرة أن يسأل الله الغفران لتقصير في عطاء وسدّ خلة ، وقيل : المغفرة هنا ستر خلة المحتاج ، وسوء حاله.
قاله ابن جرير ، وقيل ، لأعرابي سأل بكلام فصيح ، ممن الرجل ؟ فقال اللهم غفراً سوء الاكتساب يمنع من الانتساب ، وقيل : أن يستر على السائل سؤاله وبذل وجهه له ولا يفضحه ، وقيل : معناه السلامة من المعصية ، وقيل : القول المعروف أن تحث غيرك على إعطائه.
وهذا كله على أن يكون الخطاب مع المسؤول لأن الخطاب في الآية قبل هذا ، وفي الآية بعد هذا ، إنما هو مع المتصدّق ، وقيل : الخطاب للسائل ، وهو حث له على إجمال الطلب ، أي يقول قولاً حسناً من تعريض بالسؤال أو إظهار للغنى حيث لا ضرورة ، ويكسب خير من مثال صدقة يتبعها أذى ، واشترك القول المعروف والمغفرة مع الصدقة التي يتبعها أذى في مطلق الخيرية ، وهو : النفع ، وإن اختلفت جهة النفع ، فنفع القول المعروف والمغفرة باقٍ ، ونفع تلك الصدقة فانٍ ، ويحتمل أن يكون الخيرية هنا من باب قولهم : شيء خير من لا شيء.
وقال الشاعر :
ومنعك للندى بجميل قولٍ . . .
أحب إليّ من بذل ومنَّه
وقال آخر فأجاد :
إن لم تكن ورق يوماً أجود بها . . .
للمعتفين فإني لينُ العودِ
لا يعدم السائلون الخير من خلقي . . .
إما نوالي وإما حسن مردود. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 319 ـ 320}
فوائد لغوية
قال أبو حيان :(9/8)
وارتفاع : قول ، على أنه مبتدأ ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفها ، ومغفرة معطوف على المبتدأ ، فهو مبتدأ ومسوغ جواز الابتداء به وصف محذوف أي : ومغفرة من المسؤول ، أو : من السائل.
أو : من الله ، على اختلاف الأقوال.
و : خير ، خبر عنهما.
وقال المهدوي وغيره : هما جملتان ، وخبر : قول ، محذوف ، التقدير : قول معروف أولى ومغفرة خير.
قال ابن عطية : وفي هذا ذهاب ترويق المعنى ، وإنما يكون المقدّر كالظاهر. انتهى.
وما قاله حسن ، وجوز أن يكون : قول معروف ، خبر مبتدأ محذوف تقديره : المأمور به قول معروف ، ولم يحتج إلى ذكر المن في قوله : يتبعها ، لأن الأذى يشمل المن وغيره كما قلنا. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 320}
لطيفة
قال فى روح البيان :
وإنما كان الرد الجميل خيرا من صدقة المان والمؤذى ؛ لأن القول الحسن وإن كان بالرد يفرح قلب السائل ويروح روحه ونفع الصدقة لجسده وسراية السرور لقلبه بالتبعية من تصور النفع فإذا قارن ما ينفع الجسد بما يؤذى الروح يكدر النفع حينئذ ولا ريب أن ما يروح الروح خير مما ينفع الجسد لأن الروحانية أوقع فى النفوس وأشرف
قال الشعبى من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته.
وبالغ السلف فى الصدقة والتحرز فيها عن الرياء فإنه غالب على النفس وهو مهلك ينقلب فى القلب إذا وضع الإنسان فى قبره فى صورة حية أى يؤلم إيلام الحية والبخل ينقلب فى صورة عقرب والمقصود فى كل إنفاق الخلاص من رذيلة البخل فإذا امتزج به الرياء كان كأنه جعل العقرب غذاء الحية فتخلص من العقرب ولكن زاد فى قوة الحية إذ كل صفة من الصفات المهلكة فى القلب إنما غذاؤها وقوتها فى إجابتها إلى مقتضاها.
ثم إن الصدقة لا تنحصر فى المال بل تجرى فى كل معروف فالكلمة الطيبة والشفاعة الحسنة والإعانة فى حاجة واحد وعيادة مريض وتشييع جنازة وتطييب قلب مسلم كل ذلك صدقة. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 515}
فإن قيل : لِمَ لم يعد ذكر المنّ فيقول : يتبعها منّ أو أذى ؟
أجيب : بأنّ الأذى يشمل المنّ وغيره ، كما تقرّر وإنما نصّ عليه فيما مرّ لكثرة وقوعه من المتصدّقين ، وعسر تحفظهم منه ، ولذلك قدّم على الأذى. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 278}(9/9)
قوله تعالى {والله غَنِىٌّ حَلِيمٌ}
قال الفخر :
{والله غَنِىٌّ} عن صدقة العباد فإنما أمركم بها ليثيبكم عليها {حَلِيمٌ} إذا لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته ، وهذا سخط منه ووعيد له. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 44}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ} أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غني عن صدقة العِباد ؛ وإنما أمر بها ليُثِيبهم ، وعن حلمه بأنه لا يعاجل بالعقوبة مَنْ مَنّ وأذى بصدقته. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 310}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {والله غني حليم} تذييل للتذكير بصفتين من صفات الله تعالى ليتخلّق بهما المؤمنون وهما : الغِنَى الراجع إليه الترفّع عن مقابلة العطية بما يبرد غليل شحّ نفس المعطي ، والحلمُ الراجع إليه العفو والصفح عن رعونة بعض العُفاة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 47}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن من الناس من قال : إن الآية واردة في التطوع ، لأن الواجب لا يحل منعه ، ولا رد السائل منه ، وقد يحتمل أن يراد به الواجب ، وقد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 44}
بحث نفيس للعلامة ابن عاشور فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}
تخلُّص من غرض التنويه بالإنفاق في سبيل الله إلى التنويه بضرب آخر من الإنفاق وهو الإنفاق على المحاويج من الناس ، وهو الصدقات.(9/10)
ولم يتقدم ذكر للصدقة إلاّ أنّها تخطر بالبال عند ذكر الإنفاق في سبيل الله ، فلما وصف الإنفاق في سبيل الله بصفة الإخلاص لله فيه بقوله : {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا} [ البقرة : 262 ] الآية انتقل بمناسبة ذلك إلى طرد ذلك الوصف في الإنفاق على المحتاجين ؛ فإنّ المنّ والأذى في الصدقة أكثر حُصولاً لكون الصدقة متعلّقة بأشخاص معيّنين ، بخلاف الإنفاق في سبيل الله فإن أكثر من تنالهم النفقة لا يعلمهم المنفِق.
فالمنّ على المتصدّق عليه هو تذكيره بالنعمة كما تقدم آنفاً.
ومن فقرات الزمخشري في "الكَلِم النَّوابغ" : "طَعْمُ الآلاء أحْلى من المنّ.
وهوَ أمَرُّ من الآلاء عند المنّ" الآلاء الأول النعم والآلاء الثاني شَجر مُر الورق ، والمنّ الأول شيء شِبْه العسل يقع كالنَّدَى على بعض شجر بادية سِينا وهو الذي في قوله تعالى : {وأنزلنا عليكم المن والسلوى} [ البقرة : 57 ] ، والمنّ الثاني تذكير المنَعم عليه بالنعمة.
والأذى الإساءة والضرّ القليل للمنعم عليه قال تعالى : {لن يضروكم إلا أذى} [ آل عمران : 111 ] ، والمراد به الأذى الصريح من المنعِم للمنعم عليه كالتطاول عليه بأنّه أعطاه ، أو أن يتكبّر عليه لأجل العطاء ، بله تعيِيره بالفقر ، وهو غير الأذى الذي يحصل عند المن.
وأشار أبو حامد الغزالي في كتاب الزكاة من "الإحياء" إلى أنّ المنّ له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته ، ثم تتفرّع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح.(9/11)
ومنبع الأذى أمران : كراهية المعطي إعطاءَ ماله وشدّةُ ذلك على نفسه ورؤيتُه أنّه خير من الفقير ، وكلاهما منشؤهُ الجهل ؛ فإنّ كراهية تسليم المال حمق لأنّ من بذل المال لطلب رضا الله والثواب فقد علم أنّ ما حصل له من بذل المال أشرف ممّا بذله ، وظنَه أنّه خير من الفقير جهل بِخطر الغنَى ، أي أنّ مراتب الناس بما تتفاوت به نفوسهم من التزكية لا بعوارض الغنى والفقر التي لا تنشأ عن درجات الكمال النفساني.
ولما حذّر الله المتصدّق من أن يؤذي المتصدّق عليه عُلِم أنّ التحذير من الإضرار به كشتمه وضربه حاصلٌ بفحوى الخطاب لأنّه أوْلى بالنهي.
أوْسع اللَّهُ تعالى هذا المقام بيَاناً وترغيباً وزجراً بأساليب مختلفة وتفنّنات بديعة فنّبهنا بذلك إلى شدّة عناية الإسلام بالإنفاق في وجوه البرّ والمعُونة.
وكيف لا تكون كذلك وقوام الأمة دوران أموالها بينها ، وإنّ من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعْي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص ، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كدّ لجمع المال وكسبه ، ومراعاةِ الإحسان للذي بطَّأ به جُهده ، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية.
ولقد كان مقدار الإصابة والخطأ فيه هو ميزان ارتقاء الأمم وتدهورها ، ولا تجد شريعة ظهرت ولا دعاة خير دعَوا إلاّ وهم يجعلون لتنويل أفراد الأمة حَظاً من الأموال التي بين أيدي أهل الثروة وموضعاً عظيماً من تشريعهم أو دعوتهم ، إلاّ أنّهم في ذلك متفاوتون بين مقارب ومقصِّر أو آمِل ومُدَبِّر ، غير أنّك لا تجد شريعة سدّدت السهم لهذا الغرض.
وعرفت كيف تفرق بين المستحبّ فيه والمفتَرض.(9/12)
ومثل هذه الشريعة المباركة ، فإنّها قد تصرّفت في نظام الثروة العامة تصرّفاً عجيباً أقامته على قاعدة توزيع الثروة بين أفراد الأمة ، وذلك بكفاية المحتاج من الأمة مؤونة حاجته ، على وجوه لا تحرم المكتسب للمال فائدة اكتسابه وانتفاعه به قبل كل أحد.
فأول ما ابتدأت به تأمين ثقة المكتسب بالأمن على ماله من أن ينتزعه منه مُنتزع إذ قال تعالى : {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [ النساء : 29 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع : " إن دماءَكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " سمع ذلك منه مائة ألف نفس أو يزيدون وتناقلوه في آفاق الإسلام حتى بلغ مبلغ التواتر ، فكان من قواعد التشريع العامة قاعدة حفظ الأموال لا يستطيع مسلم إبطالها.
وقد أتْبعت إعلان هذه الثقةِ بحفظ الأموال بتفاريع الأحكام المتعلّقة بالمعاملات والتوثيقات ، كمشروعية الرهن في السلف والتوثّق بالإشهاد كما تُصرّح به الآيات الآتية وما سوى ذلك من نصوص الشريعة تنصيصاً واستنباطاً.
ثم أشارت إلى أنّ من مقاصدها ألاّ تبقى الأموال متنقّلة في جهة واحدة أو عائلة أو قبيلة من الأمة بل المقصد دورانها بقوله تعالى في آية الفيء : {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَيْلا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم} [ الحشر : 7 ] ، فضمير يكون عائد إلى ما أفاء الله باعتبار كونه مالاً أي كيلا يكون المال دُولة.
والدُّولة ما يتداوله الناس من المال ، أي شرْعنا صرفه لمن سمّيناهم دون أن يكون لأهل الجيش حق فيه ، لينال الفقراءُ منه حظوظهم فيصبحوا أغنياء فلا يكون مُدالاً بين طائفة الأغنياء كما كانوا في الجاهلية يأخذ قادتهم المِرْبَاع ويأخذ الغزاة ثلاثة الأرباع فيبقى المال كله لطائفة خاصة.(9/13)
ثم عمدت إلى الانتزاع من هذا المال انتزاعاً منظّماً فجعلت منه انتزاعاً جبرياً بعضه في حياة صاحب المال وبعضه بعد موته.
فأما الذي في حياته فهو الصدقات الواجبة ، ومنها الزكاة ، وهي في غالب الأحوال عشر المملوكات أو نصف عشرها أو ربع عشرها.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم وجه تشريعها بقوله لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن " إن الله فرض عليهم زكاة تُؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم " وجعل توزيع ما يتحصّل من هذا المال لإقامة مصالح الناس وكفاية مؤن الضعفاء منهم ، فصاروا بذلك ذوي حق في أموال الأغنياء ، غير مهينين ولا مهددّين بالمنع والقساوة.
والتفت إلى الأغنياء فوعدهم على هذا العطاء بأفضل ما وُعد به المحسنون ، من تسميته قرضاً لله تعالى ، ومن توفير ثوابه ، كما جاءت به الآيات التي نحن بصدد تفسيرها.
ويلحق بهذا النوع أخذ الخمس من الغنيمة مع أنّها حق المحاربين ، فانتزع منهم ذلك وقال لهم : {واعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فإنّ للَّه خمسه وللرسول} إلى قوله {إن كنتم آمنتم بالله} [ الأنفال : 41 ] فحَرضهم على الرضا بذلك ، ولا شك أنّه انتزعه من أيدي الذين اكتسبوه بسيوفهم ورماحهم.
وكذلك يلحق به النفقات الواجبة غير نفقة الزوجة لأنّها غير منظور فيها إلى الانتزاع إذ هي في مقابلة تألُّف العائلة ، ولا نفقةِ الأولاد كذلك لأنّ الداعي إليها جبلِيّ.
أما نفقة غير البنين عند من يوجب نفقة القرابة فهي من قسم الانتزاع الواجب ، ومن الانتزاع الواجب الكفارات في حنث اليمين ، وفطر رمضان ، والظهار ، والإيلاء ، وجزاء الصيد.
فهذا توزيع بعض مال الحي في حياته.
وأما توزيع المال بعد وفاة صاحبه فذلك ببيان فرائض الإرث على وجه لا يقبل الزيادة والنقصان.
وقد كان العرب يعطون أموالهم لمن يحبّون من أجنبي أو قريب كما قدمنا بيانه في قوله : {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} ( 180 ) ، وكان بعض الأمم يجعل الإرث للأكبر.(9/14)
وجعل توزيع هذه الفرائض على وجه الرحمة بالناس أصحاب الأموال ، فلم تعط أموالهم إلاّ لأقرب الناس إليهم ، وكان توزيعه بحسب القرب كما هو معروف في مسائل الحجب من الفرائض ، وبحسب الأحوجية إلى المال ، كتفضيل الذكر على الأنثى لأنّه يعول غيره والأنثى يعولها غيرها.
والتفت في هذا الباب إلى أصحاب الأموال فترك لهم حقّ التصرّف في ثلث أموالهم يعينون من يأخذه بعد موتهم على شرط ألاّ يكون وارثاً ، حتى لا يتوسلوا بذلك إلى تنفيل وارث على غيره.
وجعلت الشريعة من الانتزاع انتزاعاً مندوباً إليه غير واجب ، وذلك أنواع المواساة بالصدقات والعطايا والهدايا والوصايا وإسلاف المعسر بدون مراباة وليس في الشريعة انتزاع أعيان المملوكات من الأصول فالانتزاع لا يعدو انتزاع الفوائد بالعدالة والمساواة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 43 ـ 47}
فائدة
قال السعدى فى معنى الآية(9/15)
{قول معروف} أي : تعرفه القلوب ولا تنكره ، ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه إدخال السرور على قلب المسلم ، ويدخل فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له {ومغفرة} لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه ، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي ، فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى ، لأن القول المعروف إحسان قولي ، والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة ، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد ، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمنّ أو غيره ، ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة ، وإنما كان المنّ بالصدقة مفسدا لها محرما ، لأن المنّة لله تعالى وحده ، والإحسان كله لله ، فالعبد لا يمنّ بنعمة الله وإحسانه وفضله وهو ليس منه ، وأيضا فإن المانّ مستعبِدٌ لمن يمنّ عليه ، والذّل والاستعباد لا ينبغي إلا لله ، والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته ، وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات ، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم ، {والله غني} عنها ، ومع هذا فهو {حليم} على من عصاه لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه ، ولكن رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين ، بل يمهلهم ويصرّف لهم الآيات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه ، فإذا علم تعالى أنه لا خير فيهم ولا تغني عنهم الآيات ولا تفيد بهم المثلات أنزل بهم عقابه وحرمهم جزيل ثوابه. أ هـ {تفسير السعدى صـ 113}
وقال ابن عجيبة :
يُفهم من الآية أن حسنَ الخلق ، ولينَ الجانب ، وخفض الجناح ، وكف الأذى ، وحمل الجفاء ، وشهود الصفاء ، من أفضل الأعمال وأزكى الأحوال وأحسن الخلال ، وفي الحديث : " إنَّ حُسْن الخُلق يعدل الصيام والقيام ".(9/16)
وفي قوله : {والله غني حليم} : تربية للسائل والمسؤول ، فتربية السائل : أن يستغني بالغنيِّ الكبير عن سؤال العبد الفقير ، ويكتفي بعلم الحال عن المقال ، وتربية المسؤول : أن يحلم عن جفوة السائل فيتلطف في الخطاب ، ويحسن الرد والجواب. قال في شرح الأسماء : والتخلق بهذا الاسم - يعني الحليم - بالصفح عن الجنايات ، والسمح فيما يقابلونه به من الإساءات ، بل يجازيهم بالإحسان ، تحقيقاً للحلم والغفران. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 223}
لطيفة
قال الثعالبى :
حدَّث [ ابن ] الجَوْزِيِّ في "صَفْوة الصَّفْوَة" بسنده إِلى حارثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الصحابيِّ - رضي اللَّه عنه - قال ، لَمَّا كُفَّ بصره ، جعل خيطاً في مُصَلاَّه إِلى بابِ حُجْرته ، ووضع عنده مِكْتَلاً فيه تَمْرٌ وغير ذلك ، فكان إِذا سأل المِسْكِين أخذ من ذلك التَّمْر ، ثم أخذ من ذلك الخَيْط ؛ حتى يأخذ إِلى باب الحُجْرة ، فيناوله المِسْكِين ، فكان أهله يقولُونَ : نَحْنُ نَكْفِيكَ ، فيقولُ : سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ مُنَاوَلَةَ المِسْكِينِ تَقِي مِيتَةَ السُّوءِ " انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 212}(9/17)
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما شرط لقبولها شرطاً ووهّى ما عري منها عنه أتبعه التصريح بالنهي عن إهماله والنص على محقه لها وإبطاله وضرب لذلك مثلاً وضرب للمثل مثلاً مبالغة في الزجر عن ذلك فقال : {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بذلك صدقوا إقراركم بأن {لا تبطلوا} قال الحرالي : فبين أن ما اشترطه في الأجر المطلق مبطل للإنفاق - انتهى {صدقاتكم بالمن والأذى} فربما وازى عقابهما ثواب الصدقة أو زاد فكان كالإبطال لأوله إلى أن لا ثواب.
قال الحرالي : فألحق عمل الإخلاص بآفة ما تعقبه بما بني على أصل الرياء - انتهى.
فقال : {كالذي ينفق ماله} لغير الله ،
إنما ينفقه {رئاء الناس} أي لقصد أن يروه.
قال الحرالي : هو الفعل المقصود به رؤية الخلق غفلة عن رؤية الحق وعماية عنه.
ولما شبه المانّ والمؤذي بالمرائي لأنه أسقط الناس وأدناهم همة وأسوؤهم نظراً وأعماهم قلباً فأولو الهمم العلية لا سيما العرب أشد شيء نفرة منه وأبعده عنه وكان لمن يرائي حالان ألحقه بأشدهما فقال : {ولا يؤمن بالله} أي الذي له صفة الكمال {واليوم الآخر} الذي يقع فيه الجزاء بعد نقد الأعمال جيدها من رديئها.
قال الحرالي : ولما ضرب مثلاً لنماء النفقة بالحرث ضرب مثلاً لإبطالها بخطأ الحارث في الحرث فقال : {فمثله} في إنفاقه مقارناً لما يفسده ،
ومثل نفقته {كمثل صفوان} وما زرع عليه ، (9/18)
وهو صيغة مبالغة من الصفا وهي الحجارة الملس الصلبة التي لا تقبل انصداعها بالنبات - انتهى.
{عليه تراب} فاغتر به بعض الجهلة فزرع عليه.
ولما كانت إزالة التراب عما وقع عليه عقب وقوعه أجدر ما زالت بحذافيره ولا سيما إن كان حجراً أملس قال إبلاغاً في إبطال الرياء للعمل : {فأصابه} أي عقب كون التراب عليه من غير مهمة بخلاف ما يأتي من الربوة فإنها صفة لازمة فلو تعقبها المطر لدام بدوامها فأفسدها {وابل} أي مطر كثير فأزال التراب عنه {فتركه صلداً} أي صخراً لا يقبل النبات بوجه بل يخيب من يأمله كما يقال أصله الزند إذا لم يور ،
فجعل قلب المؤذي المانّ بمنزلة الصفوان الذي أصابه وابل المطر ،
فأذهب عائد نفقته كما أذهب بذر الحارث على الصفوان وابل المطر الذي شأنه أن يصلح البذر - قاله الحرالي وفيه تصرف.
ولما بان بهذا بطلان العمل في المثل والممثول ترجمة بقوله : {لا يقدرون} أي الممثل لهم والممثل بهم {على شيء مما كسبوا} فالآية من الاحتباك ولما كان الزارع على مثل هذا عجباً في الضلال والغباوة وكان التقدير : فإن الله لا يقبل عمل المؤذين كما لا يقبل عمل المرائين ،
عطف عليه معلماً أنه يعمي البصراء عن أبين الأمور إذا أراد ومهما شاء فعل قوله : {والله} الذي له الحكمة كلها {لا يهدي} أي لوجه مصلحة.
ولما كان كل من المؤذي والمرائي قد غطى محاسن عمله بما جره من السوء قال : {القوم الكافرين} وفي ذكره ولهذه الجملة وحدها أشد ترهيب للمتصدق على هذا الوجه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 517 ـ 518}
فإن قيل : ظاهر هذا اللفظ أنّ مجموع المنّ والأذى يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الآخر ، لا يبطل الأجر
أجيب : بأنّ الشرط أن لا يوجد واحد منهما دون الآخر لأنّ قوله تعالى : {ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً} ولا أذى يقتضي أن لا يقع هذا ولا هذا أي : فتبطل لكل واحد منهما إبطالاً. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 278 ـ 279}
فصل
قال القرطبى :
عَبَّر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبْطال ، والمراد الصدقة التي يمُنُّ بها ويُؤْذِي ، لا غيرها.
والعقيدة أن السيئات لا تُبطل الحسنات ولا تُحبطها ؛ فالمنّ والأذى في صدقة لا يُبطل صدقةً غيرها.
قال جمهور العلماء في هذه الآية : إن الصدقة التي يعلم الله مِن صاحبها أنه يمنّ أو يؤذي بها فإنها لا تُقبل.(9/19)
وقيل : بل قد جعل الله للمَلك عليها أمارة فهو لا يكتبها ؛ وهذا حسن.
والعرب تقول لما يُمَنُّ به : يَدٌ سوداء.
ولما يُعطي عن غير مسألة : يَدٌ بيضاء.
ولما يُعطي عن مسألة : يَدٌ خضراء.
وقال بعض البلغاء : مَنْ مَنّ بمعروفه سقط شكره ، ومن أُعجب بعمله حَبَط أجره.
وقال بعض الشعراء :
وصاحب سلفتْ منه إليّ يَدٌ . . .
أبطا عليه مُكافاتي فَعَادانِي
لمّا تيقّن أن الدهر حاربني . . .
أبدَى النّدامة فيما كان أوْلانِي
وقال آخر :
أفسدتَ بالمنّ ما أسدَيْتَ من حَسَنٍ . . .
ليس الكريم إذا أسْدَى بمنّانِ
وقال أبو بكر الورّاق فأحسن :
أحسَنُ من كلِّ حَسَنْ . . .
في كل وقت وزَمَنْ
صنيعةٌ مَرْبُوبَةٌ . . .
خالية من المِنَنْ
وسمع ابن سيرين رجلاً يقول لرجل : فعلت إليك وفعلت! فقال له : اسكت فلا خير في المعروف إذا أُحْصِي.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر ثم تلا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاٌّذَى ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 311 ـ 312}
بحث
قال العلامة الفخر :
قال القاضي : إنه تعالى أكد النهي عن إبطال الصدقة بالمن والأذى وأزال كل شبهة للمرجئة بأن بيّن أن المراد أن المن والأذى يبطلان الصدقة ، ومعلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدمت ، فلا يصح أن تبطل فالمراد إبطال أجرها وثوابها ، لأن الأجر لم يحصل بعد وهو مستقبل فيصح إبطاله بما يأتيه من المن والأذى.(9/20)
واعلم أنه تعالى ذكر لكيفية إبطال أجر الصدقة بالمن والأذى مثلين ، فمثله أولاً : بمن ينفق ماله رئاء الناس ، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، لأن بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها المن والأذى ، ثم مثله ثانياً : بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار ، ثم أصابه المطر القوي ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما كان عليه غبار ولا تراب أصلاً ، فالكافر كالصفوان ، والتراب مثل ذلك الإنفاق والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر ، وكالمن والأذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق ، قال : فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان ، فكذا المن والأذى يوجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريح في القول بالاحباط والتفكير ، قال الجبائي : وكما دل هذا النص على صحة قولنا فالعقل دل عليه أيضاً ، وذلك لأن من أطاع وعصى ، فلو استحق ثواب طاعته وعقاب معصيته لوجب أن يستحق النقيضين ، لأن شرط الثواب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال ، وشرط العقاب أن يكون مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإذلال فلو لم تقع المحابطة لحصل استحقاق النقيضين وذلك محال ، ولأنه حين يعاقبه فقد منعه الإثابة ومنع الإثابة ظلم ، وهذا العقاب عدل ، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنه حقه ، وأن يكون ظلماً من حيث إنه منع الإثابة ، فيكون ظالماً بنفس الفعل الذي هو عادل فيه وذلك محال ، فصح بهذا قولنا في الإحباط والتفكير بهذا النص وبدلالة العقل ، هذا كلام المعتزلة.
وأما أصحابنا فإنهم قالوا : ليس المراد بقوله {لاَ تُبْطِلُواْ} النهي عن إزالة هذا الثواب بعد ثبوته بل المراد به أن يأتي بهذا العمل باطلاً ، وذلك لأنه إذا قصد به غير وجه الله تعالى فقد أتى به من الابتداء على نعت البطلان ، واحتج أصحابنا على بطلان قول المعتزلة بوجوه من الدلائل : (9/21)
أولها : أن النافي والطارىء إن لم يكن بينهما منافاة لم يلزم من طريان الطارىء زوال النافي ، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن اندفاع الطارىء أولى من زوال النافي ، بل ربما كان هذا أولى لأن الدفع أسهل من الرفع.
ثانيها : أن الطارىء لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي وهو محال لأن الماضي انقضى ولم يبق في الحال وإعدام المعدوم محال وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال لأن الموجود في الحال لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محال ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محال ، لأن الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال وإعدام ما لم يوجد بعد محال.
وثالثها : أن شرط طريان الطارىء زوال النافي فلو جعلنا زوال النافي معللاً بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال.
ورابعها : أن الطارىء إذا طرأ وأعدم الثواب السابق فالثواب السابق إما أن يعدم من هذا الطارىء شيئاً أو لا يعدم منه شيئاً ، والأول هو الموازنة وهو قول أبي هاشم وهو باطل ، وذلك لأن الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو حصل العدمان معاً اللذان هما معلولان لزم حصول الوجودين اللذين هما علتان فيلزم أن يكون كل واحد منهما موجوداً حال كون كل واحد منهما معدوماً وهو محال.
وأما الثاني : وهو قول أبي علي الجُبّائي فهو أيضاً باطل لأن العقاب الطارىء لما أزال الثواب السابق ، وذلك الثواب السابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشيء من هذا العقاب الطارىء ، فحينئذ لا يحصل له من العمل الذي أوجب الثواب السابق فائدة أصلاً لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب وذلك على مضادة النص الصريح في قوله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [ الزلزلة : 7 ] ولأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقة الطاعة ، ولم يظهر له منها أثر لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة.(9/22)
وخامسها : وهو أنكم تقولون : الصغيرة تحبط بعض أجزاء الثواب دون البعض ، وذلك محال من القول ، لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهية ، فالصغيرة الطارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكل في الماهية كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجح وهو محال ، فلم يبق إلا أن يقال بأن الصغيرة الطارئة تزيل كل تلك الاستحقاقات وهو باطل بالاتفاق ، أو لا نزيل شيئاً منها وهو المطلوب.
وسادسها : وهو أن عقاب الكبيرة إذا كان أكثر من ثواب العمل المتقدم ، فإما أن يقال بأن المؤثر في إبطال الثواب بعض أجزاء العقاب الطارىء أو كلها والأول : باطل لأن اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثرية دون البعض مع استواء كلها في الماهية ترجيح للممكن من غير مرجح وهو محال ، والقسم الثاني باطل ، لأنه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثواب جزآن من العقاب مع أن كل واحد من ذينك الجزأين مستقل بإيطال ذلك الثواب ، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال ، لأنه يستغني بكل واحد منهما فيكون غنياً عنهما معاً حال كونه محتاجاً إليهما معاً وهو محال.
وسابعها : وهو أنه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين لأن السيد إذا قال لعبده : احفظ المتاع لئلا يسرقه السارق ، ثم في ذلك الوقت جاء العدو وقصد قتل السيد ، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدو وقتله فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح والتعظيم حيث دفع القتل عن سيده ، ويوجب استحقاقه للذم حيث عرض ماله للسرقة ، وكل واحد من الاستحقاقين ثابت ، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى الترجيح أو إلى المهايأة ، فأما أن يحكموا بانتفاء أحد الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوع في بداهة العقول.(9/23)
وثامنها : أن الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المتقدم فهذا الطارىء إما أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق أو لا يكون ، والأول : محال لأن ذلك الفعل إنما يكون موجوداً في الزمان الماضي ، فلو كان لهذا الطارىء أثر في ذلك الفعل الماضي لكان هذا إيقاعاً للتأثير في الزمان الماضي وهو محال ، وإن لم يكن للطارىء أثر في اقتضاء ذلك الفعل السابق لذلك الاستحقاق وجب أن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وأن لا يزول ولا يقال لم لا يجوز أن يكون هذا الطارىء مانعاً من ظهور الأثر على ذلك السابق ، لأنا نقول : إذا كان هذا الطارىء لا يمكنه أن يعمل بجهة اقتضاء ذلك الفعل السابق أصلاً وألبتة من حيث إيقاع الأثر في الماضي محال ، واندفاع أثر هذا الطارىء ممكن في الجملة كان الماضي على هذا التقدير أقوى من هذا الحادث فكان الماضي بدفع هذا الحادث أولى من العكس.
وتاسعها : أن هؤلاء المعتزلة يقولون : إن شرب جرعة من الخمر يحبط ثواب الإيمان وطاعة سبعين سنة على سبيل الإخلاص ، وذلك محال.
لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب هذه الطاعات أكثر من عقاب هذه المعصية الواحدة ، والأعظم لا يحيط بالأقل ، قال الجبائي : إنه لا يمتنع أن تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كل طاعة ، لأن معصية الله تعظم على قدر كثرة نعمه وإحسانه ، كما أن استحقاق قيام الربانية وقد رباه وملكه وبلغه إلى النهاية العظيمة أعظم من قيامه بحقه لكثرة نعمه ، فإذا كانت نعم الله على عباده بحيث لا تضبط عظماً وكثرة لم يمتنع أن يستحق على المعصية الواحدة العقاب العظيم الذي يوافي على ثواب جملة الطاعات ، (9/24)
واعلم أن هذا العذر ضعيف لأن الملك إذا عظمت نعمه على عبده ثم إن ذلك العبد قام بحق عبوديته خمسين سنة ثم إنه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً ، فلو أحبط الملك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكل أحد يذمه وينسبه إلى ترك الإنصاف والقسوة ، ومعلوم أن جميع المعاصي بالنسبة إلى جلال الله تعالى أقل من كسر رأس القلم ، فظهر أن ما قالوه على خلاف قياس العقول.
وعاشرها : أن إيمان ساعة يهدم كفر سبعين سنة ، فالإيمان سبعين سنة كيف يهدم بفسق ساعة ، وهذا مما لا يقبله العقل والله أعلم ، فهذه جملة الدلائل العقلية على فساد القول بالمحابطة ، في تمسك المعتزلة بهذه الآية فنقول : قوله تعالى : {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} يحتمل أمرين أحدهما : لا تأتوا به باطلاً ، وذلك أن ينوي بالصدقة الرياء والسمعة ، فتكون هذه الصدقة حين وجدت حصلت باطلة ، وهذا التأويل لا يضرنا ألبتة.(9/25)
الوجه الثاني : أن يكون المراد بالإبطال أن يؤتي بها على وجه يوجب الثواب ، ثم بعد ذلك إذا اتبعت بالمن والأذى صار عقاب المن والأذى مزيلاً لثواب تلك الصدقة ، وعلى هذا الوجه ينفعهم التمسك بالآية ، فلم كان حمل اللفظ على هذا الوجه الثاني أولى من حمله على الوجه الأول واعلم أن الله تعالى ذكر لذلك مثلين أحدهما : يطابق الاحتمال الأول ، وهو قوله {كالذى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله} إذ من المعلوم أن المراد من كونه عمل هذا باطلاً أنه دخل في الوجود باطلاً ، لا أنه دخل صحيحاً ، ثم يزول ، لأن المانع من صحة هذا العمل هو الكفر ، والكفر مقارن له ، فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود ، فهذا المثل يشهد لما ذهبنا إليه من التأويل ، وأما المثل الثاني وهو الصفوان الذي وقع عليه غبار وتراب ثم أصابه وابل ، فهذا يشهد لتأويلهم ، لأنه تعالى جعل الوابل مزيلاً لذلك الغبار بعد وقوع الغبار على الصفوان فكذا هاهنا يجب أن يكون المن والأذى مزيلين للأجر والثواب بعد حصول استحقاق الأجر ، إلا أن لنا أن نقول : لا نسلم أن المشبه بوقوع الغبار على الصفوان حصول الأجر للكافر ، بل المشبه بذلك صدور هذا العمل الذي لولا كونه مقروناً بالنية الفاسدة لكان موجباً لحصول الأجر والثواب ، فالمشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو ذلك العمل الصادر منه ، وحمل الكلام على ما ذكرناه أولى ، لأن الغبار إذا وقع على الصفوان لم يكن ملتصقاً به ولا غائصاً فيه ألبتة ، بل كان ذلك الاتصال كالانفصال ، فهو في مرأى العين متصل ، وفي الحقيقة غير متصل ، فكذا الإنفاق المقرون بالمن والأذى ، يرى في الظاهر أنه عمل من أعمال البر ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فظهر أن استدلالهم بهذه الآية ضعيف ، وأما الحجة العقلية التي تمسكوا بها فقد بينا أنه لا منافاة في الجمع بين الاستحقاقين ، وأن مقتضى ذلك الجمع إما الترجيح وإما المهايأة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 44(9/26)
ـ 47}
وقال ابن عاشور :
الإبطال جعل الشيء باطلاً أي زائلاً غير نافع لما أُريدَ منه.
فمعنى بطلان العمل عدم ترتّب أثره الشرعي عليه سواء كان العمل واجباً أم كان متطوّعاً به ، فإن كان العمل واجباً فبطلانه عدم إِجزائه بحيث لا تبرأ ذمة المكلّف من تكليفه بذلك العمل وذلك إذا اختلّ ركن أو شرط من العمل.
وإن كان العمل متطوّعاً به رجع البطلان إلى عدم الثواب على العمل لمانع شرعي من اعتبار ثوابه وهو المراد هنا جمعاً بين أدلة الشريعة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 47}
فائدة
قال أبو حيان :
ولتعظيم قبح المن أعاد الله ذلك في معارض الكلام ، فأثنى على تاركه أولاً وفضل المنع على عطية يتبعها المن ثانياً.
وصرح بالنهي عنها ثالثاً ، وخص الصدقة بالنهي إذ كان المن فيها أعظم وأشنع. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 321}
فصل
قال الفخر :
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن على الله بسبب صدقتكم ، وبالأذى لذلك السائل ، وقال الباقون : بالمن على الفقير ، وبالأذى للفقير.
وقول ابن عباس رضي الله عنهما محتمل ، لأن الإنسان إذا أنفق متبجحاً بفعله ، ولم يسلك طريقة التواضع والانقطاع إلى الله ، والاعتراف بأن ذلك من فضله وتوفيقه وإحسانه فكان كالمان على الله تعالى وإن كان القول الثاني أظهر له. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 47}
قال الماوردى :
{لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى}
يريد إبطال الفضل دون الثواب.
ويحتمل وجهاً ثانياً : إبطال موقعها في نفس المُعْطَى. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 338}
قوله تعالى {كالذى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ الناس}
فصل
قال الفخر :
الكاف في قوله {كالذى} فيه قولان(9/27)
الأول : أنه متعلق بمحذوف والتقدير : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس ، فبيّن تعالى أن المن والأذى يبطلان الصدقة ، كما أن النفاق والرياء يبطلانها ، وتحقيق القول فيه أن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى ، ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى ، فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضاً إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما من على الفقير ولا آذاه ، فثبت اشتراك الصورتين في كون تلك الصدقة ما أتى بها لوجه الله تعالى ، وهذا يحقق ما قلنا إن المقصود من الإبطال الإتيان به باطلاً ، لا أن المقصود الإتيان به صحيحاً ، ثم إزالته وإحباطه بسبب المن والأذى.
والقول الثاني : أن يكون الكاف في محل النصب على الحال ، أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق ماله رئاء الناس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 47}
فائدة
قال أبو حيان :
وفي هذا المنافق قولان :
أحدهما : أنه المنافق ، ولم يذكر الزمخشري غيره ينفق للسمعة وليقال إنه سخي كريم ، هذه نيته ، لا ينفق لرضا الله.
وطلب ثواب الآخرة ، لأنه في الباطن لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
وقيل : المراد به الكافر المجاهر ، وذلك بإنفاقه لقول الناس : ما أكرمه وأفضله ولا يريد بإنفاقه إلاَّ الثناء عليه ، ورجح مكي القول الأول بأنه أضاف إليه الرياء ، وذلك من فعل المنافق الساتر لكفره ، وأما الكافر فليس عنده رياء لأنه مناصب للدّين مجاهر بكفره. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 321}
قوله تعالى {كمثل صفوان}
قال الخطيب الشربينى :
{كمثل صفوان} وهو الحجر الأملس {عليه} أي : استقرّ عليه {تراب} والتراب معروف وهو اسم جنس لا يثنى ولا يجمع. وقال المبرد : هو جمع واحده ترابة ،
وفائدة هذا الخلاف أنه لو قال لزوجته : أنت طالق عدد التراب أنه يقع عليه طلقة على الأوّل وهو الأصح وثلاث على الثاني. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 279}
فصل
قال الفخر : (9/28)
واعلم أن هذا مثل ضربة الله تعالى لعمل المان المؤذي ، ولعمل المنافق ، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً ، كما يرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب ، وأما المعتزلة فقالوا : إن المعنى أن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ، ثم إن المن والأذى أزالا ذلك الأجر ، كما يزيل الوابل التراب عن وجه الصفوان ، واعلم أن في كيفية هذا التشبيه وجهين الأول : ما ذكرنا أن العمل الظاهر كالتراب ، والمان والأذى والمنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل هذا على قولنا ، وأما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل.(9/29)
الوجه الثاني : في التشبيه ، قال القفال رحمه الله تعالى ، وفيه احتمال آخر ، وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة ، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذراً في أرض فهو يضاعف له وينمو حتى يحصده في وقته ، ويجده وقت حاجته ، والصفوان محل بذر المنافق ، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء ولا يكون فيه قبول للبذر ، والمعنى أن عمل المان والمؤذي والمنافق يشبه إذا طرح بذراً في صفوان صلد عليه غبار قليل ، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودعاً بذره خالياً لا شيء فيه ، ألا ترى أنه تعالى ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة ، والجنة ما يكون فيه أشجار ونخيل ، فمن أخلص لله تعالى كان كمن غرس بستاناً في ربوة من الأرض ، فهو يجني ثمر غراسه في أوجات الحاجة وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها متضاعفة زائدة ، وأما عمل المان والمؤذي والمنافق ، فهو كمن بذر في الصفوان الذي عليه تراب ، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئاً ، ومن الملحدة من طعن في التشبيه ، فقال : إن الوابل إذا أصاب الصفوان جعله طاهراً نقياً نظيفاً عن الغبار والتراب فكيف يجوز أن يشبه الله به عمل المنافق ، والجواب أن وجه التشبيه ما ذكرناه ، فلا يعتبر باختلافها فيما وراءه ، قال القاضي : وأيضاً فوقع التراب على الصفوان يفيد منافع من وجوه أحدها : أنه أصلح في الاستقرار عليه وثانيها : الانتفاع بها في التيمم وثالثها : الانتفاع به فيما يتصل بالنبات ، وهذا الوجه الذي ذكره القاضي حسن إلا أن الاعتماد على الأول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 47}(9/30)
فصل فى الرياء
قال العلامة الذهبى رحمه الله
الكبيرة السابعة والثلاثون : الرياء
قال الله تعالى مخبرا عن المنافقين :
{يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} وقال الله تعالى : {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراؤون * ويمنعون الماعون} وقال الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس} الآية وقال الله تعالى : {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}
أي لا يرائي بعمله و[ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد في سبيل الله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما فعلت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جريء وقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت ليقال هو عالم وقرأت ليقال هو قارىء ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ] رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم : [ من سمع سمع الله به ومن يرائي يراءى به ]
قال الخطابي معناه من عمل عملا على غير إخلاص إنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأنه يشهره ويفضحه فيبدو عليه ما كان يبطنه ويسره من ذلك والله أعلم(9/31)
و قال عليه الصلاة والسلام : [ اليسير من الرياء شرك ] وقال صلى الله عليه وسلم : [ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فقيل : وما هو يا رسول الله ؟ قال الرياء ] يقول الله تعالى يوم يجازي العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم بأعمالكم فانظروا هل تجدون عندهم جزاء وقيل في قول الله تعالى : {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} قيل : كانوا عملوا أعمالا كانوا يرونها في الدنيا حسنات بدت لهم يوم القيامة سيئات وكان بعض السلف إذا قرأ هذه الآية يقول : ويل لأهل الرياء وقيل : إن المرائي ينادى به يوم القيامة بأربعة أسماء : يا مرائي يا غادر يا فاجر يا خاسر اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك عندنا وقال الحسن : المرائي يريد أن يغلب قدر الله فيه هو رجل سوء يريد أن يقول الناس هو صالح فكيف يقولون وقد حل من ربه محل الإردياء ؟ فلا بد من قلوب المؤمنين أن تعرفه وقال قتادة : إذا راءى العبد يقول الله : انظروا إلى عبدي كيف يستهزىء بي وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظر إلى رجل وهو يطأطى رقبته فقال : يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب وقيل : إن أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده ويدعو فقال له أبو أمامة : أنت أنت لو كان هذا في بيتك ! وقال محمد بن مبارك الصوري : أظهر السمت في الليل فإنه أشرف من إظهاره بالنهار لأن السمت بالنهار للمخلوقين والسمت بالليل لرب العالمين وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : للمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده وينشط إذا كان في الناس ويزيد في العمل إذا أثني عليه وينقص إذا ذم به وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص أن يعاقبك الله منهما(9/32)
فنسأل الله المعونة والإخلاص في الأعمال والأقوال والحركات والسكنات إنه جواد كريم
موعظة : عباد الله ! إن أيامكم قلائل ومواعظكم قواتل فليخبر الأواخر الأوائل وليستيقظ الغافل قبل سير القوافل يا من يوقن أنه لا شك راحل وما له زاد ولا رواحل يا من لج في لجة الهوى متى ترتقي إلى الساحل ؟ هل انتبهت من رقاد شامل وحضرت المواعظ بقلب غير غافل وقمت في الليل قيام عاقل وكتبت بالدموع سطور الرسائل تخفي بها زفرات الندم والوسائل وبعثتها في سفينة دمع سائل لعلها ترسى على الساحل وا أسفاه لمغرور جهول غافل لقد أثقل بعد الكهولة بالذنب الكاهل وقد ضيع البطالة وبذل الجاهل وركن إلى ركوب الهوى ركبة مائل يبني البنيان ويشيد المعاقل وهو عن ذكر قبره متشاغل ويدعي بعد هذا أنه عاقل تالله لقد سبقه الأبطال إلى أعلى المنازل وهو يؤمل في بطالته فوز العامل وهيهات هيهات ما فاز باطل بطائل :
( أيها المعجب فخرا ... بمقاصير البيوت )
( إنما الدنيا محل ... لقيام وقنوت )
( فغدا تنزل بيتا ... ضيقا بعد النحوت )
( بين أقوام سكوت ... ناطقات في الصموت )
( فارض في الدنيا بثو ... بـ ومن العيش بقوت )
( واتخذ بيتا ضعيفا ... مثل بيت بيت العنكبوت )
( ثم قل : يا نفس هذا ... بيت مثواك فموتي ). أ هـ {الكبائر صـ 142}(9/33)
قوله تعالى : {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ}
سؤال : الضمير في قوله {لاَّ يَقْدِرُونَ} إلى ماذا يرجع ؟
فيه قولان
أحدهما : أنه عائد إلى معلوم غير مذكور ، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان ، لأنه زال ذلك التراب وذلك ما كان فيه ، فلم يبق لأحد قدرة على الانتفاع بذلك البذر ، وهذا يقوي الوجه الثاني في التشبيه الذي ذكره القفال رحمه الله تعالى ، وكذا المان والمؤذي والمنافق لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة
والثاني : أنه عائد إلى قوله {كالذى يُنفِقُ مَالَهُ} وخرج على هذا المعنى ، لأن قوله {كالذى يُنفِقُ مَالَهُ} إنما أشير به إلى الجنس ، والجنس في حكم العام ، قال القفال رحمه الله :
وفيه وجه ثالث ، وهو أن يكون ذلك مردوداً على قوله {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم ، فرجع عن الخطاب إلى الغائب ، كقوله تعالى : {حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وجرين بِهِمُ} [ يونس : 22 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 48 ـ 49}
سؤال : فإن قيل : كيف قال تعالى لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق ؟
أجيب : بأنه تعالى أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ولأن من والذي يتعاقبان فكأنه قيل كمن ينفق. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 279}
لطيفة
قال ابن عاشور :
وقوله : {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} أوقع موقعاً بديعاً من نظم الكلام تنهال به معانٍ كثيرة فهو بموقعه كان صالحاً لأن يكون حالاً من الذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون مندرجاً في الحالة المشبّهة ، وإجراء ضمير كسبوا ضمير جمع لتأويل الذي ينفق بالجماعة ، وصالحاً لأن يكون حالاً من مثل صفوان باعتبار أنّه مثل على نحو ما جوّز في قوله تعالى : {أوكصيب من السماء} [ البقرة : 19 ] إذ تقديره فيه كمثل ذوي صيّب فلذلك جاء ضميره بصيغة الجمع رعياً للمعنى وإن كان لفظ المعاد مفرداً ، وصالحاً لأن يجعل استئنافاً بيانياً لأنّ الكلام الذي قبله يثير سؤال سائل عن مغبة أمر المشبّه ، وصالحاً لأن يجعل تذييلاً وفذلكة لضرب المثل فهو عود عن بدء قوله : {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [ البقرة : 264 ] إلى آخر الكلام.(9/34)
وصالحاً لأن يجعل حالاً من صفوان أي لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا منه وحذف عائد الصلة لأنّه ضمير مجرور بما جرّ به اسم الموصول.
ومعنى {لا يقدرون} لا يستطيعون أن يسترجعوه ولا انتفعوا بثوابه فلم يبق لهم منه شيء.
ويجوز أن يكون المعنى لا يحسنون وضع شيء ممّا كسبوا موضعه ، فهم يبذلون ما لهم لغير فائدة تعود عليهم في آجلهم ، بدليل قوله : {الله لا يهدي القوم الكافرين}.
والمعنى فتركه صلداً لا يحصدون منه زرعاً كما في قوله : {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها} [ الكهف : 42 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 49 ـ 50}
{والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}
قال الفخر :
{والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} ومعناه على قولهم : سلب الإيمان ، وعلى قول المعتزلة : إنه تعالى يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسوء اختيارهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 49}
وقال أبو حيان :
{والله لا يهدي القوم الكافرين} يعني الموافقين على الكفر ، ولا يهديهم في كفرهم بل هو ضلال محض.
أو : لا يهديهم في أعمالهم وهم على الكفر ، وفي هذا ترجح لمن قال : إن ضرب المثل عائد على الكافر. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 322}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إنما يُحْمَلُ جميلُ المنة من الحق سبحانه ، فأمَّا من الخلْق فليس لأحد على غيره مِنَّةَ ؛ فإنَّ تحمل المنن من المخلوقين أعظم محنة ، وشهود المنة من الله أعظم نعمة ، قال قائلهم :
ليس إجلالُكَ الكبار بِذُلِّ... إنما الذُّلُّ أنْ تُجِلَّ الصِّغَارا
ويقال أفقرُ الخلْق مَنْ ظنَّ نفسَه موسِراً فيَبِين له إفلاسه ، كذلك أقل الخلْق قدراً من ظن أنه على شيءٍ فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسبه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 204}(9/35)
من لطائف ابن القيم فى الآية
قال رحمه الله :
تضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة وهذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في أول هذه الرسالة فلا حاجة إلى إعادته وقد يقال إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها إلا أنه ليس في الفظ ما يدل على
هذا التقييد والسياق يدل على إبطالها به مطلقا وقد يقال تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان فإن الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله ويجاب عن هذا بجوابين أحدهما أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل وهي حال المرائي والمان المؤذي في أن كل واحد منهما يحبط العمل الثاني أن الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل لأنه فعال من الرؤية التي صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيا وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا ومتراخيا وتراخيه أكثر من مقارنته وقوله كالذي ينفق إما أن يكون المعنى كإبطال الذي ينفق فيكون شبه الإبطال بالإبطال أو المعنى لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق وقوله فمثله أي مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته كمثل صفوان وهو الحجر الأملس وفيه قولان أحدهما أنه واحد(9/36)
والثاني جمع صفوة عليه تراب فأصابه وابل وهو المطر الشديد فتركه صلدا وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر بالحجر لشدته وصلاته وعدم الانتفاع به وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدا فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله وفيه معنى آخر وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه كما أن تحت التراب حجرا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه فلا ينبت ولا يخرج شيئا. أ هـ {طريق الهجرتين صـ 544 ـ 546}(9/37)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله : { كالذي } الكاف في محلِّ نصبٍ ، فقيل : نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : لا تبطلوها إبطالاً كإبطال الذي ينفق رئاء النَّاس. وقي : في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدر المقدَّر كما هو رأي سيبويه ، وقيل : حالٌ من فاعل " تُبْطِلُوا " ، أي : لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق ماله رياء النَّاس.
و { رِئَآءَ } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ تقديره : إنفاقاً رئاء النَّاس ، كذا ذكره مكي.
والثاني : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل رئاء النَّاس ، واستكمل شروط النَّصب.
الثالث : أنه في محلِّ حالٍ ، أي : ينفق مرائياً.
والمصدر هنا مضافٌ للمفعول ، وهو " النَّاس " ، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالاً ، والأصل : " رِئايا " فالهمزة الأولى عين الكلمة ، والثانية بدلٌ من ياءٍ هي لام الكلمة ، لأنها وقعت طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ. والمفاعلة في " راءَى " على بابها ، لأنَّ المرائي يري النَّاس أعمال؛ حتى يروه الثَّناء عليه ، والتَّعظيم له. وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم - : " رِيَاء " بإبدال الهمزة الأولى ياء ، وهو قياس الهمزة تخفيفاً؛ لأنَّها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ.
قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ } مبتدأٌ وخبرٌ ، ودخلت الفاء ، قال أبو البقاء : " لتربط الجُمْلَة بِمَا قَبْلَهَا " كما تقدَّم ، والهاء في " فَمَثَلُهُ " فيها قولان :
أظهرهما : أنها تعود على " الَّذي يُنْفِقُ رِئَاءَ النَّاسِ " ؛ لأنَّه أقرب مذكورٍ فيكون المعنى أنَّ الله شبّه المانَّ المؤذي بالمنافق ، ثم شبَّه المنافق بالحجر.
والثاني : أنها تعود على المانِّ المؤذي ، كأنه تعالى شبَّهه بشيئين : بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه ترابٌ ، فيكون قد عدل من خطاب إلى غيبة ، ومن جمع إلى إفراد.
والصَّفوان : حجرٌ كبيرٌ أملس ، وفيه لغتان :
(9/38)
أشهرهما سكون الفاء ، والثانية فتحها ، وبها قرأ ابن المسيّب والزُّهريُّ ، وهي شاذَّةٌ؛ لأنَّ " فَعَلان " إنَّما يكون في المصادر نحو : النَّزوان ، والغليان ، والصفات نحو : رجلٌ طغيان وتيس عدوان ، وأمَّا في الأسماء فقليلٌ جداً. واختلف في " صَفْوَان " فقيل : هو جمعٌ مفرده : صفا ، قال أبو البقاء : " وجَمْعُ " فَعَلَ " على " فَعْلاَن " قليلٌ ". وقيل : هو اسم جنس.
قال أبو البقاء : " وهو الأجود ، ولذلك عاد الضَّمير عليه مفرداً في قوله : عَلَيْه ".
وقيل : هو مفردٌ ، واحده " صُفيٌّ " قاله الكسائي ، وأنكره المبرَّد. قال : " لأنَّ صُفيّاً جمع صفا نحو : عصيّ في عصا ، وقُفِيّ في قَفَا ". ونقل عن الكسائي أيضاً أنه قال : " صَفْوان مفردٌ ، ويجمع على صِفوان بالكسر ". قال النَّحاس : " ويجوز أن يكون المكسور الصَّاد واحداً أيضاً ، وما قاله الكسائيُّ غير صحيح ، بل صفوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصفا : " وَرَل " وَوِرْلان ، وأخ وإخوان وكرى وكروان ".
و { عَلَيْهِ تُرَابٌ } : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ ، وخبرٍ ، وقعت صفةً لصفوان ، ويجوز أن يكون " عَلَيْه " وحده صفةً له ، و" تُرَابٌ " فاعلٌ به ، وهو أولى لما تقدَّم عند قوله { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ]. والتُّراب معروفٌ وهو اسم جنسٍ ، لا يثنَّى ، ولا يجمع.
وقال المبرِّد : وهو جمع واحدته " ترابة ". وذكر النَّحَّاس له خمسة عشر اسماً : ترابٌ وتَوْرَبٌ ، وتَوْرَابٌ ، وتَيْرَابٌ وإِثْلَب وأَثْلَب وَكَثْكَثٌ وَكِثْكِثٌ ودَقْعَمٌ وَدَقْعَاءُ ورَغام بفتح الراء ، ومنه : أرغم الله أنفه أي : ألصقه بالرَّغام وبَرى ، وقرى بالفتح مقصوراً [ كالعصا وكملح وعثير ] وزاد غيره تربة وصعيد.(9/39)
ويقال : ترب الرَّجل : افتقر. ومنه : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 16 ] كأنَّ جلده لصق به لفقره ، وأترب ، أي : استغنى ، كأنَّ الهمزة للسَّلب ، أو صار ماله كالتُّراب.
قوله : { فَأَصَابَهُ } عطفٌ على الفعل الذي تعلَّق به قوله : " عَلَيْهِ " ، أي : استقرَّ عليه ترابٌ ، فأصابه. والضَّمير يعود على الصَّفوان ، وقيل : على التُّراب. وأمَّا الضَّمير في " فَتَرَكَهُ " فعلى الصفوان فقط. وألف " أصَابَه " من واوٍ؛ لأنه من صاب يصوب.
قوله : { لاَّ يَقْدِرُونَ } في هذه الجملة قولان :
أحدهما : أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب.
والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من " الَّذِي " في قوله : { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ } ، وإنما جمع الضَّمير حملاً على المعنى ، لأنَّ المراد بالذي الجنس ، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرَّةً في قوله : " مَالَهُ " و" لاَ يُؤْمِنُ " ، " فمثلُه " وعلى معناه أخرى.
وصار هذا نظير قوله : { كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً } [ البقرة : 17 ] ثم قال : { بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ } [ البقرة : 17 ] ، وقد تقدَّم.
وزعم ابن عطيَّة أنَّ مهيع كلام العرب الحمل على اللَّفظ أولاً ، ثم المعنى ثانياً ، وأنَّ العكس قبيحٌ ، وتقدَّم الكلام معه في ذلك. وقيل : الضَّمير في " يَقْدِرُونَ " عائدٌ على المخاطبين بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم } ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وفيه بعدٌ.
وقيل : يعود على ما يفهم من السِّياق ، أي : لا يقدر المانُّون ، ولا المؤذون على شيءٍ من نفع صدقاتهم. وسمَّى الصّدقة كسباً.
(9/40)
قال أبو البقاء : " وَلا يَجُوزُ أن يَكُونَ " لاَ يَقْدِرُونَ " حالاً من " الَّذِي " ؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله : " فَمَثَلُه " وما بعده ". ولا يلزم ذلك؛ لأنَّ هذا الفصل فيه تأكيدٌ ، وهو كالاعتراض ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 387 ـ 390}. بتصرف.(9/41)
بحث نفيس لحجة الإسلام الغزالى فى المن والأذى يجدر ذكره هنا ، لما فيه من الفوائد لطالب الآخرة
قال رحمه الله :
الوظيفة الخامسة ـ يعنى من وظائف مريد طريق الآخرة بصدقته
أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى قال الله تعالى {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} واختلفوا في حقيقة المن والأذى فقيل المن أن يذكرها والأذى أن يظهرها وقال سفيان من من فسدت صدقته فقيل له كيف المن فقال أن يذكره ويتحدث به وقيل المن أن يستخدمه بالعطاء والأذى أن يعيره بالفقر وقيل المن أن يتكبر عليه لأجل عطائه والأذى أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة
وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صدقة منان {قال الحافظ العراقى فى تخريج أحاديث الإحياء : حديث لا يقبل الله صدقة منان هو كالذي قبله بحديث لم أجده. أ هـ}
وعندي أن المن له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح فأصله أن يرى نفسه محسنا إليه ومنعما عليه وحقه أن يرى الفقير محسنا إليه بقبول حق الله عز وجل منه الذي هو طهرته ونجاته من النار وأنه لو يقبله لبقي مرتهنا به فحقه أن يتقلد منه الفقير إذ جعل كفه نائبا عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل {{قال الحافظ العراقى فى تخريج أحاديث الإحياء : حديث إن الصدقة تقع بيد الله قبل أن تقع في يد السائل أخرجه الدار قطني في الأفراد من حديث ابن عباس وقال غريب من حديث عكرمة عنه ورواه البيهقي في الشعب بسند ضعيف. أ هـ} فليتحقق أنه مسلم إلى الله عز وجل حقه والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل
ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه لكان اعتقاد مؤدى الدين كون القابض تحت منته سفها وجهلا فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه(9/42)
أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه فهو ساع في حق نفسه فلم يمن به على غيره
ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها في فهم وجوب الزكاة أو أحدها لم ير نفسه محسنا إلا إلى نفسه إما ببذل ماله إظهارا لحب الله تعالى أو تطهيرا لنفسه عن رذيلة البخل أو شكرا على نعمة المال طلبا للمزيد
وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسنا إليه ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسنا إليه تفرع منه على ظاهره ما ذكر في معنى المن وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء والخدمة والتوقير والتعظيم والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس والمتابعة في الأمور فهذه كلها ثمرات المنة ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه
وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعيير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار وفنون الاستخفاف وباطنه وهو منبعه أمران أحدهما كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة
والثاني رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه وكلاهما منشؤه الجهل
أما كراهية تسليم المال فهو حمق لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يساوي ألفا فهو شديد الحمق
ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل والثواب في الدار الآخرة وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل أو شكرا لطلب المزيد وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها(9/43)
وأما الثاني فهو أيضا جهل لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم هم الأخسرون ورب الكعبة فقال أبو ذر من هم قال هم الأكثرون أموالا الحديث ثم كيف يستحقر الفقير وقد جعله الله تعالى متجرة له إذ يكتسب المال بجهدك ويستكثر منه ويجتهد في حفظه بمقدار الحاجة وقد ألزم أن يسلم إلى الفقير قدر حاجته ويكف عنه الفاضل الذي يضره لو سلم إليه فالغني مستخدم للسعي في رزق الفقير ويتميز عليه بتقليد المظالم والتزام المشاق وحراسة الفضلات إلى أن يموت فيأكله أعداؤه فإن مهما انتقلت الكراهية وتبدلت بالسرور والفرح بتوفيق الله تعالى له أداء الواجب وتفضيله الفقير حتى يخلصه عن عهدته بقبوله منه انتفى الأذى والتوبيخ وتقطيب الوجه وتبدل بالاستبشار والثناء وقبول المنة فهذا منشأ المن والأذى
فإن قلت فرؤيته نفسه في درجة المحسن أمر غامض فهل من علامة يمتحن بها قلبه فيعرف بها أنه لم ير نفسه محسنا فاعلم أن له علامة دقيقة واضحة وهو أن يقدر أن الفقير لو جنى عليه جناية أو مالا عدوا له عليه مثلا هل كان يزيد في استنكاره واستبعاده له على استنكاره قبل التصدق فإن زاد لم تخل صدقته عن شائبة المنة لأنه توقع بسببه ما لم يكن يتوقع قبل ذلك
فإن قلت فهذا أمر غامض ولا ينفك قلب أحد عنه فما دواؤه فاعلم أن له دواء باطنا ودواء ظاهرا أما الباطن فالمعرفة بالحقائق التي ذكرناها في فهم الوجوب وأن الفقير هو المحسن إليه في تطهيره بالقبول(9/44)
وأما الظاهر فالأعمال التي يتعاطاها متقلد المنة فإن الأفعال التي تصدر عن الأخلاق تصبغ القلب بالأخلاق كما سيأتي أسراره في الشطر الأخير من الكتاب ولهذا كان بعضهم يضع الصدقة بين يدي الفقير ويتمثل قائما بين يديه حتى يسأله قبولها حتى يكون هو في صورة السائلين وهو يستشعر مع ذلك كراهية لو رده وكان بعضهم يبسط كفه ليأخذ الفقير من كفه وتكون يد الفقير هي العليا
وكانت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما إذا أرسلتا معروفا إلى فقير قالتا للرسول احفظ ما يدعو به ثم كانتا تردان عليه مثل قوله وتقولان هذا بذاك حتى تخلص لنا صدقتنا فكانوا لا يتوقعون الدعاء لأنه شبه المكافأة وكانوا يقابلون الدعاء
بمثله وهكذا فعل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما وهكذا كان أرباب القلوب يداوون قلوبهم ولا دواء من حيث الظاهر إلا هذه الأعمال الدالة على التذلل والتواضع وقبول المنة ومن حيث الباطن المعارف التي ذكرناها هذا من حيث العمل وذلك من حيث العلم
ولا يعالج القلب إلا بمعجون العلم والعمل وهذه الشريطة من الزكوات تجري مجرى الخشوع من الصلاة وثبت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها. أ هـ {الإحياء حـ 1 صـ 216 ـ 218}(9/45)
قوله تعالى : {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما فرغ من مثل العاري عن الشرط ضرب للمقترن بالشرط من الإنفاق مثلاً منبهاً فيه على أن غيره ليس مبتغى به وجه الله فقال : {ومثل} قال الحرالي : عطفاً على {الذي ينفق ماله رئاء الناس} {ولا يؤمن بالله واليوم الآخر} عطف مقابلة وعلى {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} [ البقرة : 261 ] عطف مناسبة - انتهى.
{الذين ينفقون أموالهم} أي مثل نفقاتهم لغير علة دنياوية ولا شائبة نفسانية بل {ابتغاء مرضات الله} أي الذي له الجلال والإكرام فلذلك صلح كل الصلاح فعري عن المن والأذى وعيرهما من الشوائب الموجبة للخلل قال الحرالي : والمرضاة مفعلة لتكرر الرضى ودوامه - انتهى.
{وتثبيتاً من أنفسهم} بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم والصفح والصبر على جميع مشاق التكاليف فإن من راض نفسه بحملها على بذل المال الذي هو شقيق الروح وذلت له خاضعة وقل طمعها في اتباعه لشهواتها فسهل عليه حملها على سائر العبادات ،
ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طمعاً في اتباع الشهوات ولزوم الدناءات ،
فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قولهم : لين من عطفه وحرك من نشاطه {كمثل جنة} أي بستان ومثل صاحبها.
قال الحرالي : ولما كان حرث الدنيا حباً وثمراً جعل نفقات الأخرى كذلك حباً وتمراً.
فمن أنفق في السبيل جعل مثله كالحب ،
ومن أنفق ابتغاء لمرضاة الله جعل مثله كالجنة التي لها أصل ثابت تدور عليها الثمرات وهي ثابتة وتستغني من الماء بما لا يستغني به الحرث لأن الحرث مستجد في كل وقت ،(9/46)
كما أن الجهاد واقع عند الحاجة إليه والمنفق ابتغاء مرضاة الله ينفق في كل وجه دائم الإنفاق ،
فكان مثله مثل الجنة الدائمة ليتطابق المثلان بالممثولين ،
فعمت هذه النفقة جهات الإنفاق كلها في جميع سبل الخير - انتهى.
{بربوة} أي مكان عال ليس بجبل.
قال الحرالي : في إعلامه أن خير الجنات ما كان في الربوة لتنالها الشمس وتخترقها الرياح اللواقح ،
فأما ما كان من الجنان في الوهاد تجاوزتها الرياح اللواقح من فوقها فضعفت حياتها ،
لأن الرياح هي حياة النبات " الريح من نفس الرحمن " انتهى.
ثم وصفها بقوله : {أصابها وابل} أي مطر كثير {فأتت أكلها} أي أخرجته بإذن الله سبحانه وتعالى حتى صار في قوة المعطي {ضعفين} أي مثل ما كانت تخرجه لو أصابها دون الوابل - كذا قالوا : مثلين ،
والظاهر أن المراد أربعة أمثاله ،
لأن المراد بالضعف قدر الشيء ومثله معه فيكون الضعفان أربعة - والله سبحانه وتعالى أعلم ؛ والآية من الاحتباك ،
ذكر المنفق أولاً دال على حذف صاحب الجنة ثانياً ،
وذكر الجنة ثانياً دال على حذف النفقة أولاً.
ولما كان الوابل قد لا يوجد قال : {فإن لم يصبها وابل فطل} أي فيصيبها لعلوها طل ،
وهو الندى الذي ينزل في الضباب.
وقال الحرالي : الطل سن من أسنان المطر خفي لا يدركه الحس حتى يجتمع ،
فإن المطر ينزل خفياً عن الحس وهو الطل ،
ثم يبدو بلطافة وهو الطش ،
ثم يقوى وهو الرش ،
ثم يتزايد ويتصل وهو الهطل ،
ثم يكثر ويتقارب وهو الوابل ،
ثم يعظم سكبه وهو الجود ؛ فله أسنان مما لا يناله الحس للطافته إلى ما لا يحمله الحس كثرة - انتهى.
والمعنى أن أهل هذا الصنف لا يتطرق إلى أعمالهم فساد ،
غايتها أن يطرقها النقص باعتبار ضعف النيات ،
ولذلك كان التقدير تسبيباً عن ذلك : فالله بما تستحقون على نياتكم عليم ،
فعطف عليه قوله : {والله} أي المحيط علماً وقدرة {بما تعملون} أي بما ظهر منه {بصير} كما هو كذلك بما بطن ،
(9/47)
فاجتهدوا في إحسان الظاهر والباطن.
وقدم مثل العاري عن الشرط عليه لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 518 ـ 519}
قال الفخر :
اعلم أن الله تعالى لما ذكر مثل المنفق الذي يكون ماناً ومؤذياً ذكر مثل المنفق الذي لا يكون كذلك ، وهو هذه الآية ، وبيّن تعالى أن غرض هؤلاء المنفقين من هذا الإنفاق أمران أحدهما : طلب مرضاة الله تعالى ، والابتغاء افتعال من بغيت أي طلبت ، وسواء قولك : بغيت وابتغيت.
والغرض الثاني : هو تثبيت النفس ، وفيه وجوه أحدها : أنهم يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها ، ومن جملة ذلك ترك إتباعها بالمن والأذى ، وهذا قول القاضي وثانيها : وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد {وَتَثْبِيتًا مّنْ بَعْضُ أَنفُسِهِمْ}(9/48)
وثالثها : أن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية ، إلا إذا صارت مقهورة بالمجاهدة ، ومعشوقها أمران : الحياة العاجلة والمال ، فإذا كلفت بإنفاق المال فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه ، وإذا كلفت ببذل الروح فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه فلا جرم حصل بعض التثبيت ، فلهذا دخل فيه {مِنْ} التي هي التبعيض ، والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها ، وهو المراد من قوله {وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} [ الصف : 11 ] وهذا الوجه ذكره صاحب "الكشاف" ، وهو كلام حسن وتفسير لطيف ورابعها : وهو الذي خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع : أن ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله على ما قال : {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [ الرعد : 28 ] فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي ، إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض العبودية ، ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً} [ الإنسان : 9 ] ووصف إنفاق أبي بكر فقال : {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى ، وَلَسَوْفَ يرضى} [ الليل : 19 ، 20 ، 21 ] فإذا كان إنفاق العبد لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وطلب الحض.
فهناك اطمأن قلبه ، واستقرت نفسه ، ولم يحصل لنفسه منازعه مع قلبه ، ولهذا قال أولاً في هذا الإنفاق إنه لطلب مراضاة الله ، ثم أتبع ذلك بقوله {وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ} وخامسها : أنه ثبت في العلوم العقلية ، أن تكرير الأفعال سبب لحصول الملكات.(9/49)
إذا عرفت هذا فنقول : إن من يواظب على الإنفاق مرة بعد أخرى لابتغاء مرضاة الله حصل له من تلك المواظبة أمران أحدهما : حصول هذا المعنى والثاني : صيرورة هذا الابتغاء والطلب ملكة مستقرة في النفس ، حتى يصير القلب بحيث لو صدر عنه فعل على سبيل الغفلة والاتفاق رجع القلب في الحال إلى جناب القدس ، وذلك بسبب أن تلك العبادة صارت كالعادة والخلق للروح ، فإتيان العبد بالطاعة لله ، ولابتغاء مرضاة الله ، يفيد هذه الملكة المستقرة ، التي وقع التعبير عنها في القرآن بتثبيت النفس ، وهو المراد أيضاً بقوله {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ} وعند حصول هذا التثبيت تصير الروح في هذا العالم من جوهر الملائكة الروحانية والجواهر القدسية ، فصار العبد كما قاله بعض المحققين : غائباً حاضراً ، ظاعناً مقيماً وسادسها : قال الزجاج : المراد من التثبيت أنهم ينفقونها جازمين بأن الله تعالى لا يضيع عملهم ، ولا يخيب رجاؤهم ، لأنها مقرونة بالثواب والعقاب والنشور بخلاف المنافق ، فإنه إذا أنفق عد ذلك الإنفاق ضائعاً ، لأنه لا يؤمن بالثواب ، فهذا الجزم هو المراد بالتثبيت وسابعها : قال الحسن ومجاهد وعطاء : المراد أن المنفق يتثبت في إعطاء الصدقة فيضعها في أهل الصلاح والعفاف ، قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإذا كان لله أعطى ، وإن خالطه أمسك ، قال الواحدي : وإنما جاز أن يكون التثبيت ، بمعنى التثبيت ، لأنهم ثبتوا أنفسهم في طلب المستحق ، وصرف المال في وجهه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 49 ـ 50}
وقال ابن عاشور :
عطف مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله على مَثَل الذي ينفق ماله رئاء الناس ، لزيادة بيان ما بين المرتبتين مِن البَوْن وتأكيداً للثناء على المنفقين بإخلاص ، وتفنّناً في التمثيل.(9/50)
فإنّه قد مثَّله فيما سلف بحبَّة أنبتت سبع سنابل ، ومثّله فيما سلف تمثيلاً غير كثيرِ التركيب لتحصل السرعة بتخيّل مضاعفة الثواب ، فلما مَثَّل حال المنفق رِئاءً بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيُّل ؛ فإنّ الأمثال تبهج السامع كلّما كانت أكثر تركيباً وضمّنت الهيأة المشبّه بها أحوالاً حسنة تكسبها حُسناً ليسري ذلك التحسين إلى المشبَّه ، وهذا من جملة مقاصد التشبيه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 50}
فائدة
قال أبو حيان :
قال الزمخشري : فإن قلت : فما معنى التبعيض ؟
قلت : معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} انتهى.
والظاهر أن نفسه هي التي تثبته وتحمله على الإنفاق في سبيل الله ، ليس له محرك إلاَّ هي ، لما اعتقدته من الإيمان وجزيل الثواب ، فهي الباعثة له على ذلك ، والمثبتة له بحسن إيمانها وجليل اعتقادها. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 324}
فائدة لغوية
قال ابن عاشور :
والتثبيت تحقيق الشيء وترسيخه ، وهو تمثيل يجوز أن يكون لكبح النفس عن التشكّك والتردّد ، أي أنّهم يمنعون أنفسهم من التردّد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتْركون مجالاً لخواطر الشحّ ، وهذا من قولهم ثبت قدمه أي لم يتردّد ولم ينكص ، فإنّ إراضة النفس على فعل ما يشُق عليها لها أثر في رسوخ الأعمال حتى تعتاد الفضائل وتصير لها ديدناً.
وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأنّ المال ليس أمراً هيناً على النفس ، وتكون "من" على هذا الوجه للتبعيض ، لكنه تبعيض مجازي باعتبار الأحوال ، أي تثبيتاً لبعض أحوال النفس.(9/51)
وموقع ( من ) هذه في الكلام يدل على الاستنزال والاقتصاد في تعلّق الفعل ، بحَيْث لا يطلب تسلّط الفعل على جميع ذات المفعول بل يُكتفى ببعض المفعول ، والمقصود الترغيب في تحصيل الفعل والاستدراج إلى تحصيله ، وظاهر كلام "الكشاف" يقتضي أنّه جعل التبعيض فيها حقيقياً.
ويجوز أن يكون تثبيتاً تمثيلاً للتصديق أي تصديقاً لوعد الله وإخلاصاً في الدين ليخالف حال المنافقين ؛ فإنّ امتثال الأحكام الشاقة لا يكون إلاّ عن تصديق للآمر بها ، أي يدُلُّون على تثبيت من أنفسهم.
و ( مِنْ ) على هذا الوجه ابتدائية ، أي تصديقاً صادراً من أنفسهم.
ويجيء على الوجه الأول في تفسير التثبيت معنى أخلاقي جليل أشار إليه الفخر ، وهو ما تقرر في الحكمة الخُلُقية أن تكرّر الأفعال هو الذي يوجب حصول الملكة الفاضلة في النفس ، بحيث تنساق عقب حصولها إلى الكمالات باختيارها ، وبلا كلفة ولا ضجر.
فالإيمان يأمر بالصدقة وأفعال البر ، والذي يأتي تلك المأمورات يثبِّت نفسه بأخلاق الإيمان ، وعلى هذا الوجه تصير الآية تحْريضاً على تكرير الإنفاق.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 51 ـ 52}
قوله تعالى {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن المفسرين قالوا : البستان إذا كان في ربوة من الأرض كان أحسن وأكثر ريعاً.(9/52)
ولي فيه إشكال : وهو أن البستان إذا كان في مرتفع من الأرض كان فوق الماء ولا ترتفع إليه أنهار وتضربه الرياح كثيراً فلا يحسن ريعه ، وإذا كان في وهدة من الأرض انصبت مياه الأنهار ، ولا يصل إليه إثارة الرياح فلا يحسن أيضاً ريعه ، فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة ، فإذن ليس المراد من هذه الربوة ما ذكروه ، بل المراد منه كون الأرض طيناً حراً ، بحيث إذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما ، فإن الأرض متى كانت على هذه الصفة يكثر ريعها ، وتكمل الأشجار فيها ، وهذا التأويل الذي ذكرته متأكد بدليلين أحدهما : قوله تعالى : {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ} [ الحج : 5 ] والمراد من ربوها ما ذكرنا فكذا هاهنا والثاني : أنه تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول ، ثم كان المثل الأول هو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر ، ولا يربو ، ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه ، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو وتنمو ، فهذا ما خطر ببالي والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 50}
قوله تعالى : {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}
قال أبو حيان :
ومعنى : ضعفين : مِثْلا ما كانت تثمر بسبب الوابل ، وبكونه في ربوة ، لأن ريع الربا أكثر ، ومن السيل والبرد أبعد ، وقيل : ضعفي غيرها من الأرضين ، وقيل : أربعة أمثالها ، وهذا مبني على أن ضعف الشيء مثلاه.
وقال أبو مسلم : ثلاثة أمثالها ، قال تاج القراء.
وليس لهذا في العربية وجه ، وإيتاء الضعفين هو في حمل واحد.
وقال عكرمة ، وعطاء : معنى ضعفين أنها حملت في السنة مرتين.
ويحتمل عندي أن يكون قوله : ضعفين ، مما لا يزاد به شفع الواحد ، بل يكون من التشبيه الذي يقصد به التكثير.(9/53)
وكأنه قيل : فآتت أكلها ضعفين ، ضعفاً بعد ضعف أي : أضعافاً كثيرة ، وهذا أبلغ في التشبيه للنفقة بالجنة ، لأن الحسنة لا يكون لها ثواب حسنتين ، بل جاء تضاعف أضعافاً كثيرة ، وعشر أمثالها ، وسبع مائة وأزيد. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 325}
قوله تعالى : {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}
قال الفخر :
الطل : مطر صغير الفطر ، ثم في المعنى وجوه :
الأول : المعنى أن هذه الجنّة إن لم يصبها وابل فيصيبها مطر دون الوابل ، إلا أن ثمرتها باقية بحالها على التقديرين لا ينقص بسبب انتقاص المطر وذلك بسبب كرم المنبت الثاني : معنى الآية إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمراً دون ثمر الوابل ، فهي على جميع الأحوال لا تخلوا من أن تثمر ، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى لا يضيع كسبه قليلاً كان أو كثيراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 51}
وقال أبو حيان :
{فإن لم يصبها وابل فطل} قال ابن عيسى : فيه إضمار ، التقدير : فإن لم يكن يصيبها وابل كما قال الشاعر :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة . . .
أي : لم تكن تلدني ، والمعنى : إن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين ، وذلك أكرم الأرض وطيبها ، فلا تنقص ثمرتها بنقصان المطر.
وقيل : المعنى فإن لم يصبها وابل فيتضاعف ثمرها ، وأصابها طل فأخرجت دون ما تخرجه بالوابل ، فهي على كل حال لا تخلو من أن تثمر. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 325}
وقال أبو حيان :
ودعوى التقديم والتأخير في الآية ، على ما قاله بعضهم ، من أن المعنى أصابها وابل.
فإن لم يصبها وابل فطل . . .
فآتت أكلها ضعفين حتى يجعل إيتاؤها الأكل ضعفين على الحالين من الوابل والطل ، لا حاجة إليها.
والتقديم والتأخير من ضرورات الشعر ، فينزه القرآن عن ذلك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 325}
فائدة لغوية
قال أبو حيان : (9/54)
وقوله : فطل جواب للشرط ، فيحتاج إلى تقدير بحيث تصير جملة ، فقدره المبرد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، أي : فطل يصيبها ، وابتدىء بالنكرة لأنها جاءت في جواب الشرط.
وذكر بعضهم أن هذا من مسوّغات جواز الابتداء بالنكرة ، ومثله ما جاء في المثل : إن ذهب عير فعير في الرباط.
وقدره غير المبرد : خبر مبتدأ محذوف.
أي : فالذي يصيبها ، أو : فمصيبها طلٌ ، وقدره بعضهم فاعلاً ، أي فيصيبها طل ، وكل هذه التقادير سائغة.
والآخر يحتاج فيه إلى حذف الجملة الواقعة جواباً ، وإبقاء معمول لبعضها ، لأنه متى دخلت الفاء على المضارع فإنما هو على إضمار مبتدأ ، كقوله تعالى {ومن عاد فينتقم الله منه} أي فهو ينتقم ، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا أي : فهي ، أي : الجنة يصيبها طل ، وأما في التقديرين السابقين فلا يحتاج إلاَّ إلى حذف أحد جزئي الجملة ، ونظير ما في الآية قوله :
ألا إن لا تكن إبل فمعزى . . .
كأن قرون جلتها العصيّ.
أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 325 ـ 326}
فوائد ولطائف للعلامة ابن عاشور
قال رحمه الله :
ومُثِّل هذا الإنفاق بجنّة بربوة إلخ ، ووجه الشبه هو الهيأة الحاصلة من مجموع أشياء تكامل بها تضعيف المنفعة ، فالهيأة المشبّهة هي النفقة التي حفّ بها طلب رضي الله والتصديقُ بوعده فضوعفت أضعافاً كثيرة أو دونها في الكثرة ، والهيأة المشبّهة بها هي هيأة الجنّة الطيّبة المكان التي جاءها التهتَان فزكا ثمرُها وتزايد فأكملت الثمرة ، أو أصابها طلّ فكانت دون ذلك.
والجنّة مكان من الأرض ذو شجر كثير بحيث يجِنّ أي يستر الكائن فيه فاسمها مشتقّ من جنَّ إذا ستر ، وأكثر ما تطلق الجنّة في كلامهم على ذات الشجر المثمر المختَلف الأصناف ، فأما ما كان مغروساً نخيلاً بحتاً فإنّما يسمى حائطاً.(9/55)
والمشتهر في بلاد العرب من الشجر المثمر غير النخيل هو الكرم وثمره العنب أشهر الثمار في بلادهم بعد التمر ، فقد كان الغالبَ على بلاد اليمن والطائف.
ومن ثمارهم الرمّان ، فإن كان النخل معها قيل لها جنّة أيضاً كما في الآية التي بعد هذه.
ومما يدل على أنّ الجنّة لا يراد بها حائطُ النخل قوله تعالى في [ سورة الأنعام : 141 ] {وهوَ الذي أنشأ جناتتٍ معْروشات وغير معْروشات والنّخل والزرع} فعطف النخل على الجنّات ، وذكر العريش وهو مما يجعل للكرم ، هذا ما يستخلص من كلام علماء اللغة.
وقد حصل من تمثيل حال الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بحبّة ثم بجنّة جناس مصحَّف.
والربوة بضم الراء وفتحها مكان من الأرض مرتفع دون الجُبيل.
وقرأ جمهور العشرة بربوة بضم الراء وقرأه ابن عامر وعاصم بفتح الراء.
وتخصيص الجنة بأنّها في ربوة لأنّ أشجار الربى تكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً فكان لهذا القيد فائدتان إحداهما قوة وجه الشبه كما أفاده قول ضعفين} ، والثانية تحسين المشبّه به الراجع إلى تحسين المشبّه في تخيّل السامع.
والأكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف أيضاً ، وقد قيل إن كل فُعْل في كلام العرب فهو مخفف فُعُل كعُنْق وفُلْك وحُمْق ، وهو في الأصل ما يؤكل وشاع في ثمار الشجر قال تعالى : {بجناتهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ} [ سبإ : 16 ] وقال : {تؤتى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [ إبراهيم : 25 ] ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب "أُكْلها" بسكون الكاف ، وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف بضم الكاف.
وقوله : "ضِعفين" التثنية فيه لمجرد التكرير مثل لَبَّيْك أي آتت أكلها مضاعفاً على تفاوتها.
وقوله : {فإن لم يُصبها وابل فطل} ، أي فإن لم يصبها مطر غزير كفاها مطر قليل فآتت أكلها دون الضعفين.(9/56)
والمعنى أن الإنفاق لابتغاء مرضاة الله له ثواب عظيم ، وهو مع ذلك متفاوت على تفاوت مقدار الإخلاص في الابتغاء والتثبيت كما تتفاوت أحوال الجنات الزكية في مقدار زكائها ولكنها لا تخيب صاحبها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 52 ـ 53}
قال الآلوسى :
{فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي فيصيبها ، أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها ، والمراد أن خيرها لا يخلف على كل حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها والطل الرذاذ من المطر وهو اللين منه.
وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك ، فهناك تشبيه حال النفقة النامية لابتغاء مرضاة الله تعالى الزاكية عن الأدناس لأنها للتثبيت الناشىء عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال جنة نامية زاكية بسبب الربوة وأحد الأمرين الوابل ، والطل ، والجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم ، وهذا من التشبيه المركب العقلي ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل ؛ فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل تلك الجنة فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عند ربهم جل شأنه كذا قيل : وهو محتمل لأن يكون التشبيه حينئذٍ من المفرق ويحتمل أن يكون من المركب والكلام مساق للإرشاد إلى انتزاع وجه الشبه وطريق التركيب ، والفرق إذ ذاك بأن الحال للنفقة في الأول وللمنفق في الثاني.
والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثر منهم الأضعاف لأجورهم كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الإضعاف لأثمارها ، واختار بعضهم الأول ، وأبى آخرون الثاني فافهم. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 36}
وقال السعدى : (9/57)
{فإن لم يصبها وابل فطل} أي : مطر قليل يكفيها لطيب منبتها ، فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل على حسب حاله ، وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك ، الذي يريد مصلحتك حيث لا تريدها ، فيالله لو قدر وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لأسرعت إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد ، ولحصل الاقتتال عنده ، مع انقضاء هذه الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها ، وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة الإيمان ، دائم مستمر فيه أنواع المسرات والفرحات ، ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة ، والعزائم عن طلبه خامدة ، أترى ذلك زهدا في الآخرة ونعيمها ، أم ضعف إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه ؟! وإلا فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر الإيمان به بشاشة قلبه لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه ، وتوجهت همم عزائمه إليه ، وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات ، ولهذا قال تعالى : {والله بما تعملون بصير} فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل ، فيجازيه عليه أتم الجزاء. أ هـ {تفسير السعدى صـ 114}
فائدة
قال أبو حيان :
قال زيد بن أسلم : المضروب به المثل أرض مصر ، إن لم يصبها مطر زكت ، وإن أصابها مطر أضعفت.
قال الزمخشري : مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة ، فكذلك نفقتهم كثيرة ، كانت أو قليلة ، بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع ، زاكية عند الله ، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده.
انتهى كلامه.
وقال الماوردي قريباً من كلام الزمخشري ، قال : أراد بضرب هذا المثل أن كثير البر مثل زرع المطر ، كثير النفع ، وقليل البر مثل زرع الطل ، قليل النفع.
فلا يدع قليل البر إذا لم يفعل كثيره ، كما لا يدع زرع الطل إذا لم يقدر على زرع المطر.
انتهى كلامه.(9/58)
وقال ابن عطية : شبه نموّ نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفصيل والفلو ، بنموّ نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة ، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلداً.
وقال ابن الجوزي : معنى الآية أن صاحب هذه الجنة لا يخيب فإنها إن أصابها الطل حسنت ، وإن أصابها الوابل أضعفت ، فكذلك نفقة المؤمن المخلص. انتهى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 325}
قوله تعالى {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قال الفخر
المراد من البصير العليم ، أي هو تعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها ، والأمور الباعثة عليها ، وأنه تعالى مجاز بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 51}
وقال أبو حيان :
{والله بما تعملون بصير} قرأ الزهري ، بالياء ، فظاهره أن الضمير يعود على المنافقين ، ويحتمل أن يكون عاماً فلا يختص بالمنافقين ، بل يعود على الناس أجمعين.
وقرأ الجمهور بالتاء ، على الخطاب ، وفيه التفات.
والمعنى : أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من الأعمال والمقاصد من رياء وإخلاص ، وفيه وعد ووعيد. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 326}
وقال الآلوسى :
في الجملة ترغيب للأوّل ، وترهيب للثاني مع ما فيها من الإشارة إلى الحط على الأخير حيث قصد بعمله رؤية من لا تغني رؤيته شيئاً وترك وجه البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 37}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية(9/59)
هذه آيات كثيرة ذكرها الله تعالى على جهة ضرب المثل للمخلص والمنافق : لمن أنفق في سبيل الله ، ولمن أنفق ماله في الباطل ؛ فهؤلاء يحصل لهم الشرف والخلف ، وهؤلاء لا يحصل لهم في الحال إلا الردّ ، وفي المآل إلا التلف. وهؤلاء ظلَّ سعيهم مشكوراً ، وهؤلاء يدعون ثبوراً ويَصْلَوْنَ سعيراً. هؤلاء تزكو أعمالهم وتنمو أموالهم وتعلو عند الله أحوالهم وتكون الوصلة مآلهم ، وهؤلاء حَبِطَتْ أعمالهم وخسرت أحوالهم وختم بالسوء آمالهم ويضاعف عليهم وَبالهم.
ويقال مَثَلُ هؤلاء كالذي أنبت زرعاً فزكا أصله ونما فصله ، وعلا فَرْعُه وكثر نَفْعُه. ومَثَلُ هؤلاء كالذي خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاعت - على كبره - حيلته وتواترت من كل وجهٍ وفي كل وقت محنته... هل يستويان مثلاً ؟ هل يتقاربان شَبَها ؟ . أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 205 ـ 206}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
( قوله تعالى ) : {وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله . . .}.
تأوله المفسرون إمّا على الإضمار في الثاني أي كمثل غارس جنة بربوة أو على الإضمار في الأول أي ومثل إنفاق الذين ينفقون أموالهم.
قال ابن عرفة : والظاهر أن يكون التقدير ومثل مال الذين ينفقون أموالهم فالمال هو الذي يُشبه " جَنَّة بِرَبْوَةٍ " وَ " تَثْبِيتا مِنْ أَنفُسِهِمْ ".
قال ابن عطية : " ابْتِغَاءَ " مفعول من أجله فكيف عطف عليه " تثبيتا " مع أنّ التثبيت سبب في " ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ " ومتقدم عليه فهو علة فيه.
وأجيب بأنّه علة غائبة فذكره أبو حيان.
قوله تعالى : {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ . . .}.
قال المفسرون : الضعف هو المثل ، أي آتت أُكلها المعهود على مرتين أعني آتته وآتت مثله معه.
قال ابن عرفة : ووقع في ابن الحاجب ما نصه : ولو أوصى بضعف نصيب ابنه فلا نص.
فقيل مثله وقيل مثليه.
ابن عرفة : فعلى هذا الخلاف يكون المعنى فأتت أكلها أربع مرات وعلى القول الآخر ( يكون ) كما قال المفسرون.
قوله تعالى : {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ . . .}.
قال المفسرون : إن أصابها الوابل تؤتي أكلها مرتين وإن أصابها الطلّ فقط تؤتي أكلها مرة واحدة.
ابن عرفة : ولا يمتنع أن يراد أنها تؤتي أكلها مرتين سواء أصابها وابل أو طلّ ويكون ذلك مدحا فيها وتأكيدا في أوصاف حسنها. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 344}(9/60)
بحث نفيس للعلامة ابن القيم فى الآية
قال عليه الرحمة :
قوله تعالى {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير}
هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية إحداهما طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية وهذا حال أكثر المنفقين والآفة الثانية ضعف نفسه وتقاعسها وترددها هل يفعل أم لا
فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله(9/61)
والآفة الثانية تزول بالتثبيت فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل وهذا هو صدقها وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة وهي البستان الكثير الأشجار فهو مجتن بها أي مستتر ليس قاعا فارغا والجنة بربوة وهو المكان المرتفع فإنها أكمل من الجنة التي بالوهاد والحضيض لأنها إذا ارتفعت كانت بدرجة الأهوية والرياح وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها فكانت أنضج ثمرا وأطيبه وأحسنه وأكثره فإن الثمار تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الماء والشراب فقال تعالى {أصابها وابل} وهو المطر الشديد العظيم القدر فأدت ثمرتها وأعطت بركتها فأخرجت ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل فهذا حال السابقين المقربين {فإن لم يصبها وابل فطل} فهو دون الوابل فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها فتكتفي في إخراج بركتها بالطل وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة وهم درجات عند الله فأصحاب الوابل أعلاهم درجة وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وأصحاب الطل مقتصدوهم فمثل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة بالوابل والطل
وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاء ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم فهي زاكية عند الله نامية مضاعفة(9/62)
واختلف في الضعفين فقيل ضعفا الشيء مثلاه زائدا عليه وضعفه مثله وقيل ضعفه مثلاه وضعفاه ثلاثة أمثاله وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفا زاد مثلا والذي حمل هذا القائل ذلك فراره من استواء دلالة المفرد والتثنية فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه فإذا زاد إلى المثل صار مثلين وهما الضعف فلو قيل لها ضعفان لم يكن فرق بين المفرد والمثنى فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعاف ثلاثة أمثاله مضافة إلى الأصل ومثله وعليه يدل قوله تعالى {فآتت أكلها ضعفين} أي مثلين وقوله تعالى {يضاعف لها العذاب ضعفين} أي مثلين ولهذا قال في الحسنات {نؤتها أجرها مرتين}
وأما ما توهموه من استواء دلالة المفرد والتثنية فوهم منشؤه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل وليس كذلك ، بل المثل له اعتباران إن اعتبر وحده فهو ضعف وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان والله أعلم
واختلف في رافع قوله {فطل}
فقيل هو مبتدأ خبره محذوف أي وطله يكفيها وقيل خبر مبتدأه محذوف فالذي يرويها ويصيبها طل والضمير في أصابها إما أن يرجع إلى الجنة أو إلى الربوة وهما متلازمان. أ هـ {طريق الهجرتين صـ 546 ـ 548}(9/63)
بحث علمى فى الإعجاز العلمى للقرآن فى الآية الكريمة بقلم الأستاذ الدكتور / زغلول النجار ـ حفظه الله}
في تعبير القرآن الكريم بكلمة ربوة وهي الأرض الخصبة المرتفعة إشارة إلي ما كشفه العلم الحديث لأنه بارتفاعها تبعد عن المياه الجوفية ليغوص المجموع الجذري في التربة من غير ماء يضره , ويتضاعف عدد الشعيرات الماصة لأكبر كمية من الغذاء للسيقان والمجموع الخضري فيتضاعف المحصول , وللوابل من الأمطار فائدة فوق التغذية أنه يذيب بعض المواد التي لا تحتاج إليها النباتات , ويغسلها من التربة لأن وجودها مما يعطل نمو النباتات , كما يغسلها من الآفات .
ثم قال :
من الدلالات العلمية للآية الكريمة
من الأمور المشاهدة أن سطح الأرض ليس تام الاستواء , فهناك القمم السامقة للسلاسل الجبلية , وهناك السفوح الهابطة , لتلك السلاسل حتي تصل إلي السهول المنبسطة والممتدة إلي ما فوق مستوي سطح البحر بقليل .
وبين القمم السامقة والسهول المنبسطة نجد الروابي أو الربي ( جمع ربوة أو رابية ), والتلال جمع تل , والأكام ( جمع أكمة ) وهي النتوءات الأرضية المختلفة دون الربوة , ثم الهضاب ( جمع هضبة ) أو النجود ( جمع نجد ), ثم السهول ومن بعد السهول يأتي كل من المنخفضات الأرضية علي اليابسة , والمنخفضات البحرية ( المغمورة بماء البحار والمحيطات ),(9/64)
ويرجع السبب في تباين تضاريس سطح الأرض إلي اختلاف التركيب الكيميائي والمعدني للصخور المكونة لها , وبالتالي إلي اختلاف كثافة تلك الصخور , وذلك لأن كتل الغلاف الصخري للأرض تطفو فوق نطاق من الصخور شبه المنصهرة يعرف باسم نطاق الضعف الأرضي يحكمها في ذلك قانون الطفو : تماما كما تطفو جبال الجليد في ماء المحيطات .
ويصل ارتفاع أعلي نقطة علي سطح الأرض ( وهي قمة جبل إفرست في سلسلة جبال الهمالايا ) إلي 8848 مترا فوق مستوي سطح البحر , بينما يقدر منسوب أخفض نقطة علي اليابسة ( وهي حوض البحر الميت ) بحوالي الأربعمائة متر تحت مستوي سطح البحر , ويقدر متوسط منسوب سطح اليابسة بحوالي 840 مترا
فوق مستوي سطح البحر .
وفي المقابل يصل أكثر أغوار المحيطات عمقا ( وهو غور ماريانا في قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين ) إلي أكثر قليلا من (11) كيلو مترا , بينما يصل متوسط أعماق المحيطات إلي حوالي الأربعة كيلو مترات (3729 إلي 4500 متر ) تحت مستوي سطح البحر .
وهذا التباين في المناسيب وفر عددا هائلا من البيئات التي يتناسب كل منها مع أنواع محددة من صور الحياة , ومن ذلك أن أشجار الفاكهة والكستناء وأشجار الثمار بصفة عامة تجود في الهضاب والنجود والروابي دون الألف متر فوق مستوي سطح البحر , بينما يتوقف نمو الحبوب ودرنات البطاطس عند حوالي الألفي متر فوق مستوي سطح البحر (2160 مترا تقريبا ) ويصل الحد الأعلي لنمو الغابات إلي حوالي 2660 مترا فوق مستوي سطح البحر .
(9/65)
وتحديد بيئة الروابي للجنة المضروب بها المثل في الآية الكريمة التي نحن بصددها تحديد معجز لأن هذه البيئة هي أفضل البيئات المعروفة لنا لنمو أشجار الفاكهة ولنمو كل من أشجار الثمار الأخري كالزيتون واللوزيات والصنوبريات وغيرها وذلك لأن بيئة الروابي تتميز بلطف مناخها , ووفرة مائها , وزيادة فرص تعرضها لأشعة الشمس , ولأمطار السماء , ولرطوبة الجو , ولحركة الرياح , ولتجدد الهواء حولها , وكذلك فهي أنسب البيئات لنمو الأشجار بصفة عامة , ولنمو أشجار الثمار بصفة خاصة .
فالروابي من أشكال سطح الأرض المستوية والمرتفعة فوق مستوي سطح البحر ارتفاعا متوسطا يتراوح بين الثلاثمائة والستمائة متر . لأنها دون الجبل وفوق التل , وعلي ذلك فإن ماء المطر لايغرقها مهما انهمر بغزارة لاندفاعه بالجاذبية إلي المستويات الأقل في منسوبها من الربوة في المنطقة المحيطة بها وذلك بعد تشبع تربتها وصخورها بالقدر اللازم من الماء المرطب لها والمخزون فيها . وضبط هذا المخزون المائي يساعد النبات علي القيام بجميع أنشطته الحيوية بكفاءة دون إغراق أو جفاف , وذلك لأن الجفاف يقضي علي النبات , كما أن الإغراق بالماء , أو الزيادة في مخزون الصخور والتربة منه يؤدي إلي تعفن جذوره وتعطنها وتحللها مما يؤدي كذلك إلي القضاء عليه .(9/66)
وعند هطول المطر علي الربوة فإن كلا من تربتها وصخورها , والنباتات النامية عليها يأخذ كفايته من الماء بينما يفيض الزائد عن تلك الكفاية إلي المناسيب الأخفض حتي يصل إلي الأودية والسهول المحيطة بالربوة . ويساعد انضباط كمية المخزون المائي في تربة وصخور الربوة علي امتداد المجموع الجذري للنباتات بصفة عامة , وللأشجار منها بصفة خاصة إلي أبعاد أعمق في كل من التربة والصخور مما يضاعف من كمية العناصر والمركبات التي يتاح لجذور النبات الوصول إليها وامتصاصها مع عصارته الغذائية التي تستخلصها تلك الجذور من الأرض , كما يساعد علي زيادة تثبيت النباتات بالأرض ومقاومته لشدة هبوب الرياح , وغيرها من المتغيرات البيئية .
ومن مميزات بيئة الروابي أنها إذا نزلت بها الأمطار هاطلة تضاعف إنتاجها وإذا تضاءلت الرطوبة في الجو من حولها إلي الرذاذ أو الندي فقط فإنها تعطي ثمارها وافرة , لأن نباتات الربوة يمكنها الاستفادة بماء المطر مهما قل وبماء الندي الذي يتكثف من حولها بمعدلات أعلي من تكثفة في السهول أو في بطون الأودية المغلقة خاصة في المناطق الجافة .
وعلي ذلك فإن إثمار كل من أشجار الفاكهة , وغيرها من أشجار الثمار الأخري كالزيتون واللوزيات والصنوبريات يجود بشكل ملحوظ في الروابي المرتفعة فوق مستوي سطح البحر عنها في السهول المنبسطة والأودية المغلقة , وذلك لأنها إذا أصابها المطر الغزير افادها ولم يضرها لسرعة انحسار مائه عنها بعد ريها ريا كافيا فتتحسن وتثمر ثمرا مضاعفا وإن لم يصبها هذا الوابل من المطر الغزير فإن الرذاذ الخفيف أو الندي المتكثف حولها يمكن أن يوفيها حاجتها من الماء فتستمر في الحياة وتؤتي أكلها بإذن الله .(9/67)
هذا وقد شبهت الآية الكريمة المؤمنين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله , ابتغاء مرضاته , وابتغاء التثبيت من أنفسهم ( مهما تكن إمكاناتهم المادية ) بالجنة من الأشجار المثمرة النامية علي الربوة المرتفعة تحت ظروف بيئية طيبة وفرت لها كل أسباب النماء والعطاء فأثمرت وأعطت بسخاء شديد إذا نزل عليها ماء المطر , وبسخاء أيضا إذا قل عليها المطر , فعطاؤها لايتوقف ولا ينقطع تحت مختلف الظروف وكذلك المؤمنون الذين ينطلقون من منطلق الإيمان الجازم بأن الله ( تعالي ) هو الرزاق ذو القوة المتين فيبذلون في سبيله سواء كثرت إمكاناتهم أو قلت , وذلك طلبا لمرضاته , وتثبيتا من أنفسهم لأن من وسائل تربية النفس الإنسانية إخراج المال في سبيل الله , وفي ذلك يقول ربنا ( تبارك وتعالي ) :
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير
( البقرة : 265)
وفي هذه الآية الكريمة إشارة واضحة إلي تفضيل زراعة أشجار الثمار في أراضي الروابي بصفة عامة , وهي أراض مسطحة مرتفعة , دون الجبل , وفوق التل ( يتراوح ارتفاعها بين ثلاثمائة وستمائة من الأمتار فوق مستوي سطح البحر ), وهذه حقيقة علمية أثبتتها التجارب علي مدي عقود متتالية , وورودها في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة علي نبي أمي ( صلي الله عليه وسلم ) في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين وكانت تعيش في صحراء جرداء قاحلة , لاتعرف الجنات ولا تعرف الأشجار المثمرة غير نخيل التمر وبعض الأعناب إلا في أماكن محدودة جدا منها , ومن هنا يأتي هذا الوصف القرآني شاهدا للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله ( صلي الله عليه وسلم ).
ولكونه الرسالة الخاتمة فقد تعهد ربنا ( تبارك وتعالي ) بحفظه بنفس لغة وحيه ( اللغة
(9/68)
العربية ) فحفظه كلمة كلمة , وحرفا حرفا , من أية زيادة أو نقص , أو تبديل أو تغيير علي مدي يزيد علي الأربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله ( تعالي ) الأرض ومن عليها وذلك تحقيقا للوعد الإلهي الذي قال ( تعالي ) فيه :
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
( الحجر : 9)
فالحمد لله علي نعمة القرآن , والحمد لله علي نعمة الإسلام , والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله , والحمد لله في الآخرة والأولي والصلاة والسلام علي خاتم الأنبياء والمرسلين , وعلي آله وصحبه , ومن تبع هداه , ودعا بدعوته إلي يوم الدين. أ هـ {بحث فى الإعجاز العلمى للقرآن / بقلم الأستاذ الدكتور / زغلول النجار ـ حفظه الله}(9/69)
قوله تعالى : {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما قدم سبحانه وتعالى أن المن مبطل للصدقة ومثله بالرياء وضرب لهما مثلاً ورغب في الخالص وختم ذلك بما يصلح للترهيب من المن والرياء رجع إليهما دلالة على الاهتمام بهما فضرب لهما مثلاً أوضح من السالف وأشد في التنفير عنهما والبعد منهما فقال {أيود أحدكم}
وقال الحرالي : ولما تراجع خبر الإنفاقين ومقابلهما تراجعت أمثالها فضرب لمن ينفق مقابلاً لمن يبتغي مرضاة الله تعالى مثلاً بالجنة المخلفة ، انتهى.
فقال - منكراً على من يبطل عمله كأهل مثل الصفوان بعد كشف الحال بضرب هذه الأمثال : {أيود أحدكم} أي يحب حباً شديداً {أن تكون له جنة} أي حديقة تستر داخلها وعين هنا ما أبهمه في المثل الأول فقال : {من نخيل} جمع نخلة وهي الشجرة القائمة على ساق الحية من أعلاها أشبه الشجر بالآدمي ،
ثابت ورقها ،
مغذ مؤدم ثمرها ،
في كليتها نفعها حتى في خشبها طعام للآدمي بخلاف سائر الشجر ،
مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله {وأعناب} جمع عنب وهو شجر متكرم لا يختص ذهابة بجهة العلو اختصاص النخلة بل يتفرع علواً وسفلاً ويمنة ويسرة ،
مثله مثل المؤمن المتقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة - قاله الحرالي.
ولما كانت الجنان لا تقوم وتدومها إلا بالماء قال : {تجري من تحتها الأنهار} أي لكرم أرضها.
وقال الحرالي : وفي إشعاره تكلف ذلك فيها بخلاف الأولى التي هي بعل فإن الجائحة في السقي أشد على المالك منها في البعل لقلة الكلفة في البعل ولشدة الكلف في السقي - انتهى.(9/70)
ولما وصفها بكثرة الماء ذكر نتيجة ذلك فقال : {له فيها من كل الثمرات} أي مع النخل والعنب.
ولما ذكر كرمها ذكر شدة الحاجة إليها فقال : {وأصابه} أي والحال أنه أصابه {الكبر} فصار لا يقدر على اكتساب {وله ذرية ضعفاء} بالصغر كما ضعف هو بالكبر {فأصابها} أي الجنة مرة من المرات {إعصار} أي ريح شديدة جداً.
قال الحرالي : صيغة اشتداد بزيادة الهمزة والألف فيه من العصر وهو الشدة المخرجة لخبء الأشياء ،
والإعصار ريح شديدة في غيم يكون فيها حدة من برد الزمهرير ،
وهو أحد قسمي النار ،
نظيره من السعير السموم.
وقال الأصفهاني : ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود {فيه نار ،
فاحترقت} تلك الجنة وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال.
قال الحرالي : من الاحتراق وهو ذهاب روح الشيء وصورته ذهاباً وحياً بإصابة قاصف لطيف يشيع في كليته فيذهبه ويفنيه ؛ فجعل المثل الأول في الحب أي الذي على الصفوان لآفة من تحته.
وجعل المثل في الجنة بجائحة من فوقه كأنهما جهتا طرو العلل والآفات من جهة أصل أو فرع - انتهى.
فحال من رأى في أعماله أو آذى في صدقة ماله في يوم القيامة وأهواله كحال هذا في نفسه وعياله عند خيبة آماله ،
وروى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن عبيد بن عمير قال قال عمر رضي الله تعالى عنه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فيم ترون هذه الآية نزلت {أيود أحدكم} إلى أن قال : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : ضربت مثلاً لعمل ،
قال عمر رضي الله تعالى عنه : أيّ عمل ؟ قال ابن عباس : لعمل ،
قال عمر رضي الله تعالى عنه : لرجل غني يعمل بطاعة الله سبحانه وتعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله ".
(9/71)
ولما بين لهم هذا البيان الذي أبهت بلغاء الإنس والجان نبههم على تعظيمه لتبجيله وتكريمه بقوله مستأنفاً : {كذلك} أي مثل هذا البيان {يبين الله} أي الذي له الكمال كله {لكم الآيات} أي كلها {لعلكم تتفكرون} أي ليكون حالكم حال من يرجى أن يحمل نفسه على الفكر ،
ومن يكون كذلك ينتفع بفكره.
وقال الحرالي : فتبنون الأمور على تثبيت ،
لا خير في عبادة إلا بتفكر ،
كما أن الباني لا بد أن يفكر في بنائه ،
كما قال الحكيم : أول الفكرة آخر العمل وأول العمل آخر الفكرة ،
كذلك من حق أعمال الدين أن لا تقع إلا بفكرة في إصلاح أوائلها السابقة وأواخرها اللاحقة ،
فكانوا في ذلك صنفين بما يشعر به {لعلكم} مطابقين للمثل متفكر مضاعف حرثه وجنته وعامل بغير فكرة تستهويه أهواء نفسه فتلحقه الآفة في عمله في حرثه وجنته من سابقه أو لاحقه - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 519 ـ 521}(9/72)
قال الفخر :
اعلم أن هذا مثل آخر ذكره الله تعالى في حق من يتبع إنفاقه بالمن والأذى ، والمعنى أن يكون للإنسان جنّة في غاية الحسن والنهاية ، كثيرة النفع ، وكان الإنسان في غاية العجز عن الكسب وفي غاية شدة الحاجة ، وكما أن الإنسان كذلك فله ذرية أيضاً في غاية الحاجة ، وفي غاية العجز ، ولا شك أن كونه محتاجاً أو عاجزاً مظنة الشدة والمحنة ، وتعلق جمع من المحتاجين العاجزين به زيادة محنة على محنة ، فإذا أصبح الإنسان وشاهد تلك الجنة محرقة بالكلية ، فانظر كم يكون في قلبه من الغم والحسرة ، والمحنة والبلية تارة بسبب أنه ضاع مثل ذلك المملوك الشريف النفيس ، وثانياً : بسبب أنه بقي في الحاجة والشدة مع العجز عن الاكتساب واليأس عن أن يدفع إليه أحد شيئاً ، وثالثاً : بسبب تعلق غيره به ، ومطالبتهم إياه بوجوه النفقة ، فكذلك من أنفق لأجل الله ، كان ذلك نظيراً للجنة المذكورة وهو يوم القيامة ، كذلك الشخص العاجز الذي يكون كل اعتماده في وجوه الانتفاع على تلك الجنة ، وأما إذا أعقب إنفاقه بالمن أو بالأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنّة ، ويعقب الحسرة والحيرة والندامة فكذا هذا المال المؤذي إذا قدم يوم القيامة ، وكان في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بثواب عمله ، لم يجد هناك شيئاً فيبقى لا محالة في أعظم غم ، وفي أكمل حسرة وحيرة ، وهذا المثل في غاية الحسن ، ونهاية الكمال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 51 ـ 52}
وقال البيضاوى :
المعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة والأسف ، فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه ، وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت ، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثوراً. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 568}(9/73)
وقال القرطبى :
حكى الطبريّ عن السدي أن هذه الآية مَثَلٌ آخر لنفقة الرياء ، ورجح هو هذا القول.
قلت وروي عن ابن عباس أيضاً قال : هذا مثل ضَرَبَهُ الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها ، كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه فكبِر وأصاب الجنة إعصار أي ريح عاصف فيه نار فاحترقت ففقدها أحوج ما كان إليها.
وحُكي عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى : {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} الآية ، قال ؛ ثم ضرب في ذلك مثلاً فقال : {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الآية.
قال ابن عطية : وهذا أبين من الذي رجّح الطبريّ ، وليست هذه الآية بِمَثَلٍ آخر لنفقة الرياء ؛ هذا هو مقتضى سياق الكلام.
وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل عملاً وهو يحسب أنه يحسن صنعاً فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئاً.
قلت : قد روي عن ابن عباس أنها مَثَلٌ لمن عمل لغير الله من منافق وكافر على ما يأتي ، إلاَّ أن الذي ثبت في البخاريّ عنه خلاف هذا.
خرج البخاري عن عُبيد بن عُمير قال : قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت : {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ؛ فغضب عمر وقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم! فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ؛ قال : يابن أخي قل ولا تحقر نفسك ؛ قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعملٍ.
قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لعملِ رجل غنيِّ يعمل بطاعة الله ثم بعث الله عزّ وجلّ له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله.
في رواية : فإذا فنِي عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء ؛ فرضى ذلك عمر.
وروى ابن أبي مُليكة أن عمر تلا هذه الآية.(9/74)
وقال : هذا مَثلٌ ضُرب للإنسان يعمل عملاً صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء.
قال ابن عطية : فهذا نَظَرٌ يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها ؛ وبنحو ذلك قال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 318 ـ 319}
قال ابن كثير :
وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية ، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره ، فبدل الحسنات بالسيئات ، عياذًا بالله من ذلك ، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح ، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال ، فلم يحصل له منه شيء ، وخانه أحوجَ ما كان إليه ، ولهذا قال تعالى : {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} وهو الريح الشديد {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} أي : أحرق ثمارَها وأباد أشجارها ، فأيّ حال يكون حاله.
وقد روى ابن أبي حاتم ، من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس قال : ضرب الله له مثلا حسنًا ، وكل أمثاله حسن ، قال : {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يقول : ضيّعَه في شيبته {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق بستانه ، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه ، وكذلك الكافر يوم القيامة ، إذ ردّ إلى الله عز وجل ، ليس له خير فيُسْتَعْتَب ، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه ، ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه ، كما لم يُغْن عن هذا ولدُه ، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه ، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته.(9/75)
وهكذا ، روى الحاكم في مستدركه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : "اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري" {المستدرك (1/542) من طريق سعيد بن سليمان ، عن عيسى بن ميمون ، عن القاسم ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، مرفوعا ، وقال الحاكم : "هذا حديث حسن الإسناد والمتن غريب في الدعاء مستحب للمشايخ إلا أن عيسى بن ميمون لم يحتج به الشيخان" قال الذهبي : قلت : "عيسى متهم"}.
ولهذا قال تعالى : {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أي : تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني ، وتنزلونها على المراد منها ، كما قال تعالى : {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت : 43]. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 696}
فصل
قال الفخر :
الهمزة في {أَيَوَدُّ} استفهام لأجل الإنكار ، وإنما قال : {أَيَوَدُّ} ولم يقل أيريد لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبة التامة ومعلوم أن محبة كل أحد لعدم هذه الحالة محبة كاملة تامة فلما كان الحاصل هو مودة عدم هذه الحالة ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت فقال : {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} حصول مثل هذه الحالة تنبيهاً على الإنكار التام ، والنفرة البالغة إلى الحد الذي لا مرتبة فوقه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 52}
قوله تعالى {جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}
فوائد لغوية
قال صاحب مجمع البيان :
الجنة : البستان الكثير الشجر ، لأن الشجر يجنه بكثرته فيه. والنخيل : معروف. وقيل : إنه مأخوذ من نخل المنخل لاستخلاصه كاستخلاص اللباب بالنخل. والنخل : جمع نخلة ، وهي شجرة التمر ويذكر ويؤنث. قال الله سبحانه : (كأنهم أعجاز نخل خاوية) ، و(أعجاز نخل منقعر). والإنتخال : الإختيار. والتنخل : التخير. وأصل الباب : النخل للدقيق. والعنب : ثمر الكرم. ورجل عانب وعنب ، ورجل عناب : عظيم الأنف. أ هـ {مجمع البيان حـ 2 صـ 188}
وقال الخطيب الشربينى :
{من نخيل} جمع نخلة ، وهي الشجرة القائمة على ساق ، ثمرها من أعلاها في كلها نفع حتى في خشبها مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله {وأعناب} جمع عنب وهو شجر الكرم لا يختص ثمره بجهة العلو اختصاص النخلة ، بل يتفرّع علواً وسفلاً ويمنة ويسرة ، مثله كمثل المؤمن المتّقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 281}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن الله تعالى وصف هذه الجنة بصفات ثلاث :
الصفة الأول : كونها من نخيل وأعناب ، واعلم أن الجنة تكون محتوية على النخيل والأعناب ، ولا تكون الجنة من النخيل والأعناب إلا أن بسبب كثرة النخيل والأعناب ، صار كأن الجنة إنما تكون من النخيل والأعناب ، وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما أشرف الفواكه ولأنهما أحسن الفواكه مناظر حين تكون باقية على أشجارها.(9/76)
والصفة الثانية : قوله {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} ولا شك أن هذا سبب لزيادة الحسن في هذه الجنة.
الصفة الثالثة : قوله {لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات} ولا شك أن هذا يكون سبباً لكمال حال هذا البستان فهذه هي الصفات الثلاثة التي وصف الله تعالى هذه الجنة بها ، ولا شك أن هذه الجنة تكون في غاية الحسن ، لأنها مع هذه الصفات حسنة الرؤية والمنظر كثيرة النفع والريع ، ولا تمكن الزيادة في حسن الجنة على ذلك ، ثم إنه تعالى بعد ذلك شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة ، فقال : {وَأَصَابَهُ الكبر} وذلك لأنه إذا صار كبيراً ، وعجز عن الاكتساب كثرت جهات حاجاته في مطعمه ، وملبسه ، ومسكنه ، ومن يقوم بخدمته ، وتحصيل مصالحه ، فإذا تزايدت جهات الحاجات وتناقصت جهات الدخل والكسب ، إلا من تلك الجنة ، فحينئذ يكون في نهاية الاحتياج إلى تلك الجنة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 52}
فائدة
قال الماوردى :
{وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} لأن الكِبَر قد يُنسِي من سعى الشباب في كسبه ، فكان أضعف أملاً وأعظم حسرة.
{وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} لأنه على الضعفاء أحَنّ ، وإشفاقه عليهم أكثر. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 341}
قال الآلوسى :
{أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} وقرىء جنات {مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي كائنة من هذين الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن لا يكون فيها غيرهما ، والنخيل قيل : اسم جمع ، وقيل : جمع نخل وهو اسم جنس جمعي ، و( أعناب ) جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها ولعل ذلك لأن النخلة كلها منافع ونعمت العمات هي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها حين يأذن ربها ، وأعظم منافع الكرم ثمرته دون سائره. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 37}
فائدة
قال الفخر : (9/77)
فإن قيل : كيف عطف {وَأَصَابَهُ} على {أَيَوَدُّ} وكيف يجوز عطف الماضي على المستقبل.
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول : قال صاحب "الكشاف" {الواو} للحال لا للعطف ، ومعناه {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} حال ما أصابه الكبر ثم إنها تحرق.
والجواب الثاني : قال الفرّاء : وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا فحمل العطف على المعنى ، كأنه قيل : أيود أحدكم إن كان له جنّة وأصابه الكبر.
ثم إنه تعالى زاد في بيان احتياج ذلك الإنسان إلى تلك الجنّة فقال : {وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء} والمراد من ضعف الذرية : الضعف بسبب الصغر والطفولية ، فيصير المعنى أن ذلك الإنسان كان في غاية الضعف والحاجة إلى تلك الجنة بسبب الشيخوخة والكبر ، وله ذرية في غاية الضعف والحاجة بسبب الطفولية والصغر.
ثم قال تعالى : {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت} والاعصار ريح ترتفع وتستدير نحو السماء /كأنها عمود ، وهي التي يسميها الناس الزوبعة ، وهي ريح في غاية الشدة ومنه قول شاعر :
إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصارا.. والمقصود من هذا المثل بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والمحنة والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله ، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة ، إلا أنه لا يقصد بها وجه الله ، بل يقرن بها أموراً تخرجها عن كونها موجبة للثواب ، فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [ الزمر : 47 ] وقوله {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} [ الفرقان : 23 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 52 ـ 53}(9/78)
وقال الثعلبى :
وإنّما قال : {أَصَابَهُ} فردّ الماضي على المستقبل ؛ لأن العرب تلفظ توددت مرّة مع (لو) وهي الماضي فتقول : وددت لو ذهبتَ عنّا ،
ومرّة مع (أن) وهي للمستقبل فتقول : وددت أن تذهب عنّا ،
و(لو) و(أن) مضارعان في معنى الجزاء ،
ألا ترى أنّ العرب فيما جمعت بين (لو) و(أن) قال الله تعالى : {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} . الآية كما تجمع بين (ما) و(أن) وهما جحد.
قال الشاعر
ما أنْ رأيت ولا سمعت بمثله
كاليوم طالي أينق جرب
فلما جاز ذلك صلح أن يقال : فعل بتأويل يفعل ويفعل بتأويل فعل ،
وأن ينطق بـ (لو) عنها ما كان (أن) وب (أن) مكان (لو). أ هـ {الكشف والبيان حـ 2 صـ 265}
فوائد لغوية
الفرق بين الكبير والكثير أن الكثير مضمن بعدد ، وليس كذلك الكبير ، تقول : دار واحدة كبيرة ، ولا يجوز كثيرة.
الفرق بين المودة والمحبة أن المودة قد تكون بمعنى التمني نحو قولك : أود لو قدم زيد ، بمعنى أتمنى لو قدم. ولا يجوز أحب لو قدم. أ هـ {مجمع البيان حـ 2 صـ 188}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت} قال الحسن : "إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ" ريح فيها برد شديد.
الزجاج : الإعصار في اللغة الريح الشديدة التي تَهُبّ من الأرض إلى السماء كالعمود ، وهي التي يُقال لها : الزوبعة.
قال الجوهريّ : الزوبعة رئيس من رؤساء الجِن ؛ ومنه سُمِّيَ الإعصار زوبعة.
ويُقال : أُمّ زوبعة ، وهي ريح تُثير الغبار وترتفع إلى السماء كأنها عمود.
وقيل : الإعصار ريح تثير سحاباً ذا رعد وبرق.
المَهْدَوِيّ : قيل لها إعصار لأنها تلتفّ كالثوب إذا عُصر.
ابن عطية : وهذا ضعيف.
قلت : بل هو صحيح : لأنه المشاهد المحسوس ، فإنه يصعد عموداً مُلْتَفّاً.
وقيل ؛ إنما قيل للريح إعصار ؛ لأنه يعصر السحاب ، والسحاب مُعْصِرات إمّا لأنها حوامل فهي كالمعصر من النساء.
وإمّا لأنها تنعصر بالرياح.
وحكى ابن سِيَده : أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب.
ابن زيد : الإعصار ريح عاصف وسَموم شديدة ؛ وكذلك قال السديّ ؛ الإعصار الريح والنار السَّموم.
ابن عباس : ريح فيها سموم شديدة.
قال ابن عطية : ويكون ذلك في شدّة الحرّ ويكون في شدّة البرد ، وكل ذلك فَيْح جهنم ونفَسِها ؛ كما تضمن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا عن الصَّلاة فإن شدّة الحرّ من فَيْح جهنم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 319 ـ 320}(9/79)
قال الآلوسى :
وتذكير الضمير لاعتبار التذكير فيه وإنما سمي ذلك الهواء إعصاراً لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور ، وقيل : لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها ، والتنوين في النار للتعظيم وروي عن ابن عباس أن الإعصار الريح الشديدة مطلقاً وأن المراد من النار السموم وذكر سبحانه الإعصار ووصفه بما ذكر ، ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال فأصابها نار {فاحترقت} لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر ، والفعل المقرون بالفاء عطف على {أَصَابَهَا} وقيل : على محذوف معطوف عليه أي فأحرقها فاحترقت وهذا كما روي عن السدي تمثيل حال من ينفق ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إلى ذلك ووجده هباءاً منثوراً بحال من هذا شأنه. أ هـ {روح المعانى حـ 3 صـ 38}
لطيفة
قال الحسن :
هذا مثل قل والله من يعقله : شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه ، أفقر ما كان إلى جنته ، وأن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 326}
قوله تعالى {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
قال القرطبى :
يريد كي ترجعوا إلى عظمتي ورُبُوبِيتِّي ولا تتخذوا من دوني أولياء ، وقال ابن عباس أيضاً : تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 320}
وقال الماوردى :
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآْيَاتِ} يحتمل وجهين :
أحدهما : يوضح لكم الدلائل.
والثاني : يضرب لكم الأمثال.
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} يحتمل وجهين :
أحدهما : تعتبرون ، لأن المفكر معتبر.
والثاني : تهتدون ، لأن الهداية التَّفَكُّر. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 341}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ . . .}.
الهمزة للإنكار ، أي لا يودّ أحدكم أن تكون له جنّة هكذا! وهذا التشبيه لمن أبطل صدقته بالمن والأذى.(9/80)
( قوله تعالى ) : {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات . . .}.
وقد قال : {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ، يعني أنّ معظمها النخيل والأعناب وفيها من كل الثمرات.
قوله تعالى : {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ . . .}.
بيان لتمام الحاجة ( إلى ) ثمر الجنة أو هو احتراس لأن من بلغ الكبر يكفيه ذرية ينفقون عليه ولا يحتاج إلى أحد. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 345}(9/81)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { مِّن نَّخِيلٍ } في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة ، أي : كائنة من نخيل. و" نَخِيلٍ " فيه قولان :
أحدهما : أنه اسم جمع.
والثاني : أنه جمع " نَخْل " الذي هو اسم الجنسِ ، ونحوه : كلب وكَلِيب ، قال الراغب : " سُمِّي بذلك؛ لأنه منخولُ الأشجارِ ، وصَفِيُّها؛ لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ " وذكر له منافع وشبهاً من الآدميين.
والأعنابُ : جمع عِنَبَة ، ويقال : " عِنَباء " مثل " سِيرَاء " بالمدِّ ، فلا ينصرفُ. وحيثُ جاء في القرآن ذكرُ هذين ، فإنما يَنصُّ على النخلِ دون ثمرتها ، وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم؛ لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثَمرَتهُ دونَ باقيه.
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } هذه الجملة في محلِّها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة.
والثاني : أنها في محلِّ نصب ، وفيه أيضاً وجهان ، فقيل : على الحال من " جنَّة " ؛ لأنها قد وُصِفَتْ. وقيل : على أنها خبرُ [ تكون ] نقله مكيّ.
قوله : { لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات } جملة من مبتدإٍ ، وخبرٍ ، فالخبر قوله : " لَهُ " و" مِنْ " كُلِّ الثَّمَراتِ " هو المبتدأُ ، وذلك لا يستقيمُ على الظاهر ، إذ المبتدأُ لا يكونُ جارّاً ومجروراً؛ فلا بُدَّ من تأويله. واختلف في ذلك :
فقيل : المبتدأ في الحقيقة محذوفٌ ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامه ، تقديره : " له فيها رِزقٌ من كلِّ الثمراتِ ، أو فاكهةٌ مِنْ كلِّ الثمرات " فحُذف الموصوفُ ، وبقيت صفتُه؛ ومثله قول النَّابغة : [ الوافر ]
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ
(9/82)
أي : جملٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ ، وقوله تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي : وما مِنَّا أحدٌ إِلاَّ له مقامٌ.
وقيل : " مِنْ " زائدةٌ تقديره : له فيها كلُّ الثمرات ، وذلك عند الأخفش؛ لأنه لا يَشْتَرِطُ في زيادتها شيئاً.
وأمَّا الكُوفيُّون : فيشترطون التنكير ، والبصريون يَشْتَرطونه وعدم الإِيجاب ، وإذا قُلنا بالزيادة ، فالمرادُ بقوله : " كُلِّ الثَّمَرَاتِ " التكثيرُ لا العموم ، لأنَّ العُمومَ مُتعذِّرٌ.
قال أبو البقاء : ولا يجوزُ أَنْ تكونَ " مِنْ " زائدةً ، لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفشِ؛ لأنَّ المعنى يصيرُ : له فيها كُل الثمراتِ ، وليسَ الأمرُ على هذا ، إلاَّ أَنْ يُرادَ به هنا الكثرة لا الاستيعاب ، فيجوزُ عند الأخفش؛ لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ " مِنْ " في الواجب. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 401 }(9/83)
بحث نفيس للعلامة ابن القيم فى الآية
قال عليه الرحمة :
قوله تعالى {أيود أحدكم} أخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري وهو ! من النفي والنهي وألطف موقعا كما ترى غيرك يفعل فعلا قبيحا فتقول لا يفعل هذا عاقل لا يفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة وقال تعالى {أيود أحدكم} بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام كما تقول : أيفعل هذا أحد فيه خير وهو أبلغ في الإنكار من أن يقول أيودون
: وقوله {أيود}أبلغ في الإنكار من لو قيل أيريد ؛ لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها
وقوله تعالى {أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعا فإن منهما القوت والغذاء والدواء والشراب والفاكهة والحلو والحامض ويؤكلان رطبا ويابسا منافعهما كثيرة جدا وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما فرجحت طائفة النخيل ورجحت طائفة العنب وذكرت كل طائفة حججا لقولها فذكرناها في غير هذا الموضع وفصل الخطاب أن هذا يختلف باختلاف البلاد فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر فالأرض التي يكون فيها سلطان النخيل لا يكون العنب بها طائلا ولا كثيرا لأنه إنما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السبخة فينمو فيها ويكثر
وأما النخيل فنموه وكثرته في الأرض الحارة السبخة وهي لا تناسب العنب فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها والله أعلم(9/84)
والمقصود أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها فالجنة المشتملة عليهما من أفضل الجنان ومع هذا فالأنهار تجري تحت هذه الجنة وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها ومع ذلك فلم تعدم شيئا من أنواع الثمار المشتهاة بل فيها من كل الثمرات ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب وفيها من كل الثمرات ونظير هذا قوله تعالى {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما
بنخل وجعلنا بينهما زرعا} إلى قوله تعالى {وكان له ثمر}
وقد قيل إن الثمار هنا وفي آية البقرة 266 المراد بها المنافع والأموال والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها لقوله هنا {له فيها من كل الثمرات} ثم قال تعالى {فأصابها أي الجنة إعصار فيه نار فاحترقت} وفي {وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها} وما ذلك إلا ثمار الجنة
ثم قال تعالى {وأصابه الكبر}
هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته وتعلق قلبه بها من وجوه
أحدها أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها
الثاني أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه الثالث أن له ذرية فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته
الرابع أنهم ضعفاء فهم كل عليه لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم الخامس أن نفقتهم عليه لضعفهم وعجزهم وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة لخطرها في نفسها وشدة حاجته وذريته إليها فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار وهي الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيه نار مرت بتلك الجنة فأحرقتها وصيرتها رمادا
فصدق والله الحسن هذا مثل قل من يعقله من الناس ولهذا نبه سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعالى {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه.أ هـ {طريق الهجرتين صـ 548 ـ 550}(9/85)
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما رغب في الفعل وتخليصه عن الشوائب أتبعه المال المنفق منه فأمر بطيبه فقال : {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {أنفقوا} أي تصديقاً لإيمانكم {من طيبات ما كسبتم} وإنما قدم الفعل لأنه ألصق بالإنسان وتطييبه أعم نفعاً ،
ولما ذكر ما أباحه سبحانه وتعالى من أرباح التجارات ونحوها أتبعه ما أباحه من منافع النباتات ونحوها منبهاً بذلك على أن كل ما يتقلب العباد فيه من أنفسهم وغيرها نعمة منه أنشأها من الأرض التي أبدعها من العدم ترغيباً في الجود به وفي جعله خياراً حلالاً وترهيباً من الشح به وجعله ديناً أو حراماً فقال : {ومما أخرجنا} أي بعظمتنا {لكم} نعمة منا عليكم {من الأرض} قال الحرالي : قدم خطاب المكتسبين بأعمالهم كأنهم المهاجرون وعطف عليهم المنفقين من الحرث والزرع كأنهم الأنصار - انتهى.
ولما أمر بذلك أكد الأمر به بالنهي عن ضده فقال : {ولا تيمموا} أي لا تتكلفوا أن تقصدوا {الخبيث منه} أي خاصة {تنفقون} قال الحرالي : الخبيث صيغة مبالغة بزيادة الياء من الخبث وهو ما ينافر حس النفس : ظاهره وباطنه ،
في مقابله ما يرتاح إليه من الطيب الذي ينبسط إليه ظاهراً وباطناً ،
وقال : ففي إلاحته معنى حصر كأنهم لا ينفقون إلا منه ليتجاوز النهي من ينفق من طيبه وخبيثه على غير قصد اختصاص النفقة من الخبيث - انتهى.
ثم أوضح قباحة ذلك بقوله : {ولستم بآخذيه} أي إذا كان لكم على أحد حق فأعطاكموه {إلا أن تغمضوا} أي تسامحوا {فيه} بالحياء مع الكراهة.(9/86)
قال الحرالي : من الإغماض وهو الإغضاء عن العيب فيما يستعمل ،
أصله من الغمض وهي نومة تغشي الحس ثم تنقشع ،
وقال : ولما كان الآخذ هو الله سبحانه وتعالى ختم بقوله : {واعلموا} انتهى.
وعبر بالاسم الأعظم فقال : {أن الله} المستكمل لجميع صفات الكمال من الجلال والجمال {غني} يفضل على من أسلف خيراً رغبة فيما عنده وليست به حاجة تدعوه إلى أخذ الرديء ولا رغبكم في أصل الإنفاق لحاجة منه إلى شيء مما عندكم وإنما ذلك لطف منه بكم ليجري عليه الثواب والعقاب {حميد} يجازي المحسن أفضل الجزاء على أنه لم يزل محموداً ولا يزال عذب أو أثاب.
قال الحرالي : وهي صيغة مبالغة بزيادة ياء من الحمد الذي هو سواء أمر الله الذي لا تفاوت فيه من جهة إبدائه وافق الأنفس أو خالفها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 521 ـ 522}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}
إفضاء إلى المقصود وهو الأمرُ بالصدقات بعد أن قُدم بين يديه مواعظ وترغيبٌ وتحذير.
وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخِطاب.
فربما قدموا المطلوب ثم جاؤوا بما يكسبه قبولاً عند السامعين ، وربما قدموا ما يكسب القبولَ قبل المقصود كما هنا.
وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجُمل ، ونكتة ذلك أنّه قد شاع بين الناس الترغيب في الصدقة وتكرّر ذلك في نزول القرآن فصار غرضاً دينياً مشهوراً ، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 55}
قال الفخر :
اعلم أنه رغب في الإنفاق ، ثم بيّن أن الإنفاق على قسمين : منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يتبعه ذلك.
ثم إنه تعالى شرح ما يتعلق بكل واحد من هذين القسمين ، وضرب لكل واحد منهما مثلا يكشف عن المعنى ويوضح المقصود منه على أبلغ الوجوه.(9/87)
ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف ينبغي أن يكون فقال : {أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ} واختلفوا في أن قوله {أَنفَقُواْ} المراد منه ماذا فقال الحسن : المراد منه الزكاة المفروضة وقال قوم : المراد منه التطوع وقال ثالث : إنه يتناول الفرض والنفل ، حجة من قال المراد منه الزكاة المفروضة أن قوله {أَنفَقُواْ} أمر وظاهر الأمر للوجوب والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة ، حجة من قال المراد صدقة التطوع ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والحسن ومجاهد : أنهم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورديء أموالهم فأنزل الله هذه الآية ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : جاء رجل ذات يوم بعِذْق حَشَف فوضعه في الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بئس ما صنع صاحب هذا " فأنزل الله تعالى هذه الآية ، حجة من قال الفرض والنفل داخلان في هذه الآية أن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز ، وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل ، فوجب أن يكونا داخلين تحت الأمر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 53 ـ 54}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ} هذا خطاب لجميع أُمة محمد صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا ؛ فقال عليّ بن أبي طالب وعبيدة السلمانيّ وابن سيرين : هي الزكاة المفروضة ، نهى الناس عن إنفاق الرّدىء فيها بدل الجيّد.
قال ابن عطية : والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوّع ، ندبوا إلى ألاّ يتطوّعوا إلاَّ بمختار جيّد.(9/88)
والآية تعم الوجهين ، لكن صاحب الزكاة تعلّق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب ، وبأنه نهى عن الردىء وذلك مخصوص بالفرض ، وأما التطوّع فكما للمرء أن يتطوّع بالقليل فكذلك له أن يتطوّع بنازل في القدر ، ودرهمٌ خير من تمرة.
تمسك أصحاب النّدب بأن لفظة افْعَلْ صالح للنّدب صلاحيته للفرض ، والرّدىء منهيّ عنه في النفل كما هو منهيّ عنه في الفرض ، والله أحق من اختير له.
" وروى البراء : أن رجلاً علّق قُنْوَ حَشَفٍ ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "بئسما علّق" فنزلت الآية " ، خرّجه الترمذيّ وسيأتى بكماله.
والأمر على هذا القول على الندب ، ندبوا إلى ألاّ يتطوّعوا إلاَّ بجيّد مختار.
وجمهور المتأوّلين قالوا : معنى "مِنْ طَيِّبَاتِ" من جيد ومختار "مَا كَسَبْتُمْ".
وقال ابن زيد : من حلال "مَا كَسَبْتُمْ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 320 ـ 321}
فصل
قال الفخر :
ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان ، فيدخل فيه زكاة التجارة ، وزكاة الذهب والفضة ، وزكاة النَّعم ، لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب ، ويدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض ، على ما هو قول أبي حنيفة رحمه الله ، واستدلاله بهذه الآية ظاهر جداً ، إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم : " ليس في الخضراوات صدقة " وأيضاً مذهب أبي حنيفة أن إخراج الزكاة من كل ما أنبتته الأرض واجب قليلاً كان أو كثيراً وظاهر الآية يدل على قوله إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 54}
فصل في المراد بالطيب
قال الفخر :
اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين :
القول الأول : أنه الجيد من المال دون الرديء ، فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة ، وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء.(9/89)
والقول الثاني : وهو قول ابن مسعود ومجاهد : أن الطيب هو الحلال ، والخبيث هو الحرام حجة الأول وجوه :
الحجة الأولى : إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد.
الحجة الثانية : أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض ، والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض قال القفال رحمه الله : ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء ، فيكون المعنى : ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ، ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال ، أمن حلاله أو من حرامه.(9/90)
الحجة الثالثة : أن هذا القول متأيد بقوله تعالى : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تنفقوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [ آل عمران : 92 ] وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها ، لا الأشياء الخسيسة التي يجب على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته ، واحتج القاضي للقول الثاني فقال : أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال ، فإذا بطل الأول تعين الثاني ، وإنما قلنا إنه بطل الأول لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيد سواء كان حراماً أو حلالاً وذلك غير جائز والتزام التخصيص خلاف الأصل ، فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال ، ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب هاهنا ما يكون طيباً من كل الوجوه فيكون طيباً بمعنى الحلال ، ويكون طيباً بمعنى الجودة ، وليس لقائل أن يقول حمل اللفظ المشترك على مفهوميه لا يجوز لأنا نقول الحلال إنما سمي طيباً لأنه يستطيبه العقل والدين ، والجيد إنما يسمى طيباً لأنه يستطيبه الميل والشهوة ، فمعنى الاستطابة مفهوم واحد مشترك بين القسمين ، فكان اللفظ محمولاً عليه إذا أثبت أن المراد منه الجيد الحلال فنقول : الأموال الزكاتية إما أن تكون كلها شريفة أو كلها خسيسة أو تكون متوسطة أو تكون مختلطة ، فإن كان الكل شريفاً كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك ، وإن كان الكل خسيساً كان الزكاة أيضاً من ذلك الخسيس ولا يكون خلافاً للآية لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إن كان في المال جيد ورديء ، فحينئذ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك وأما إن كان المال مختلطاً فالواجب هو الوسط قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن " أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم " هذا كله إذا قلنا المراد من قوله {أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ}(9/91)
الزكاة الواجبة ، أما على القول الثاني وهو أن يكون المراد منه صدقة التطوع ، أو قلنا المراد منه الإنفاق الواجب والتطوع ، فنقول : إن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه ، كمن تقرب إلى السلطان الكبير بتحفة وهدية ، فإنه لا بد وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه وأشرفها ، فكذا هاهنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 54 ـ 55}
قال ابن عطية : قوله : {من طيبات} يحتمل أن لا يقصد به لا الحل ولا الجيد ، لكن يكون المعنى كأنه قال : أنفقوا مما كسبتم ، فهو حض على الإنفاق فقط ، ثم دخل ذكر الطيب تبييناً لصفة حسنه في المكسوب عاماً ، وتقريراً للنعمة.
كما تقول : أطعمت فلاناً من مشبع الخبز ، وسقيته من مروي الماء ، والطيب على هذه الجهة يعم الجودة ، والحل ، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال : ليس في مال المؤمن من خبيث. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 362}
وقال ابن عاشور :
المراد بالطيّبات خيار الأموال ، فيطلق الطيِّب على الأحسن في صنفه.
والكَسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد.
ويطلق الطيّب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غشّ ، وهو الطيّب عند الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم " من تصدق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيّباً تلقّاها الرحمن بيمينه " الحديث ، وفي الحديث الآخر : " إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً ".
ولم يذكر الطيّبات مع قوله : {ومما أخرجنا لكم من الأرض} اكتفاء عنه بتقدم ذكره في قسيمه ، ويظهر أنّ ذلك لم يقيّد بالطيّبات لأنّ قوله : {أخرجنا لكم} أشعر بأنّه مما اكتسبه المرء بعمله بالحرث والغرس ونحو ذلك ، لأنّ الأموال الخبيثة تحصل غالباً من ظُلم الناس أو التحيّل عليهم وغشّهم وذلك لا يتأتّى في الثمرات المستخرجة من الأرض غالباً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 56}
قال ابن كثير :(9/92)
قال ابن عباس : أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ، ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ المال ودَنيه -وهو خبيثه -فإن الله طَيْب لا يقبل إلا طيبًا ، ولهذا قال : {وَلا تَيَمَّمُوا} أي : تقصدوا {الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي : لو أعطيتموه ما أخذتموه ، إلا أن تتغاضوا فيه ، فالله أغنى عنه منكم ، فلا تجعلوا لله ما تكرهون.
وقيل : معناه : {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي : لا تعدلوا عن المال الحلال ، وتقصدوا إلى الحرام ، فتجعلوا نفقتكم منه.
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا أبان بن إسحاق ، عن الصباح بن محمد ، عن مُرّة الهَمْداني ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن أحبَّ ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم عَبْدٌّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه". قالوا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ . قال : "غَشَمُه وظلمه ، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه ، ولا يتصدقُ به فيقبل منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث". {المسند (1/387).} والصحيح القول الأول. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 698}
وقال فى روح البيان :
ذكر بعض الأفاضل أنه إنما فسر الطيب بالجيد دون الحلال لأن الحل استفيد من الأمر فإن الإنفاق من الحرام لا يؤمر به ولأن قوله تعالى بعده {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} والخبيث هو الردئ المستخبث يدل على أن المعنى أنفقوا مما يستطاب من أكسابكم. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 525}
فائدة
قال القرطبى :(9/93)
الكسب يكون بتعب بدن وهي الإجارة وسيأتى حكمها ، أو مقاولة في تجارة وهو البيع وسيأتى بيانه.
والميراث داخل في هذا ؛ لأن غير الوارث قد كسبه.
قال سهل بن عبد الله : وسئل ابن المبارك عن الرجل يريد أن يكتسب وينوي باكتسابه أن يصل به الرّحم وأن يجاهد ويعمل الخيرات ويدخلَ في آفات الكسب لهذا الشأن.
قال : إن كان معه قَوام من العيش بمقدار ما يكفّ نفسه عن الناس فتركُ هذا أفضل ؛ لأنه إذا طلب حلالاً وأنفق في حلال سئل عنه وعن كسبه وعن إنفاقه ؛ وترك ذلك زهد فإن الزهد في ترك الحلال. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 321}
فائدة
قال أبو حيان :
قال الراغب : تخصيص المكتسب دون الموروث لأن الإنسان بما يكتسبه أضن به مما يرثه ، فأذن الموروث معقول من فحواه. انتهى. وهو حسن. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 330}
سؤال : ما الفائدة في كلمة {مِنْ} في قوله {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرض} ؟ .
وجوابه : تقدير الآية : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، وأنفقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض ، إلا أن ذكر الطيبات لما حصل مرة واحدة حذف في المرة الثانية لدلالة المرة الأولى عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 55}
فائدة
قال القرطبى :
قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد : ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أولادكم من طيّب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئاً ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 321}
قوله تعالى : {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} يعني النبات والمعادن والرِّكاز ، وهذه أبواب ثلاثة تضمّنتها هذه الآية.
أما النبات فروى الدَّارَقُطْنِيَّ عن عائشة رضي الله عنها قالت : جرت السُّنّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس فيما دون خمسة أَوْسُق زكاة".(9/94)
والوَسْق ستون صاعاً ، فذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب.
وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة.
وقد احتج قوم لأبي حنيفة بقول الله تعالى : {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} وإن ذلك عمومٌ في قليل ما تُخرجه الأرض وكثيره وفي سائر الأصناف ، ورأوا ظاهر الأمر الوجوب.
وسيأتي بيان هذا في "الأنعام" مستوفىً.
وأما المعدِن فروى الأئمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " العجماء جرَحها جُبَار والبئر جُبَار والمعْدِن جُبَار وفي الرّكاز الخمس " قال علماؤنا : لما قال صلى الله عليه وسلم : " وفي الرّكاز الخُمُس " دلَّ على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد فصل بين المعادن والرّكاز بالواو الفاصلة ، ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جُبَار وفيه الخمس ، فلما قال "وفي الركاز الخمس" عُلم أن حكم الرِّكاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه ، والله أعلم.
والركاز أصله في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة والجواهر ، وهو عند سائر الفقهاء كذلك ؛ لأنهم يقولون في النَّدْرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تُنال بعمل ولا بَسْعي ولا نَصب ، فيها الخمسُ ؛ لأنها رِكاز. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 321 ـ 322}
فائدة
قال أبو حيان :
وفي قوله : أخرجنا لكم ، امتنان وتنبيه على الإحسان التام كقوله : {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} والمراد : من طيبات ما أخرجنا ، فحذف لدلالة ما قبله وما بعده عليه ، وكرر حرف الجر على سبيل التوكيد ، أو إشعاراً بتقدير عامل آخر ، حتى يكون الأمر مرتين.
وفي قوله : {ومما أخرجنا لكم من الأرض} دلالة على وجوب الزكاة فيما تخرجه الأرض من قليل وكثير من سائر الأصناف لعموم الآية ، إذ قلنا إن الأمر للوجوب ، وبين العلماء خلاف في مسائل كثيرة مما أخرجت الأرض تذكر في كتب الفقه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 330}(9/95)
قوله تعالى : {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن كثير وحده {وَلاَ تَيَمَّمُواْ} بتشديد التاء لأنه كان في الأصل تاءان تاء المخاطبة ، وتاء الفعل فأدغم إحداهما في الأخرى ، والباقون بفتح التاء مخففة وعلى هذا الخلاف في أخواتها ، وهي ثلاثة وعشرون موضعاً : لا تفرقوا ، توفاهم ، تعاونوا ، فتفرق بكم ، تلقف ، تولوا ، تنازعوا ، تربصون ، فإن تولوا ، لا تكلم ، تلقونه ، تبرجن ، تبدل ، تناصرون ، تجسسوا ، تنابزوا ، لتعارفوا ، تميز ، تخيرون ، تلهى ، تلظى ، تنزل الملائكة ، وهاهنا بحثان :
البحث الأول : قال أبو علي : هذا الإدغام غير جائز ، لأن المدغم يسكن وإذا سكن لزم أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به ، كما جلبت في أمثلة الماضي نحو : ادارأتم ، وارتبتم واطيرنا ، لكن أجمعوا على أن همزة الوصل لا تدخل على المضارع. (1)
البحث الثاني : اختلفوا في التاء المحذوفة على قراءة العامة ، فقال بعضهم : هي التاء الأولى وسيبويه لا يسقط إلا الثانية ، والفرّاء يقول : أيهما أسقطت جاز لنيابة الباقية عنها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 55 ـ 56}
كلام نفيس للعلامة أبى حيان فى هذا الموضع
قال رحمه الله :
قرأ البزي : ولا تيمموا ، بتشديد التاء ، أصله : تتيمموا ، فأدغم التاء في التاء ، وذلك في مواضع من القرآن ، وقد حصرتها في قصيدتي في القراآت المسماة ( عقدة اللآلىء ) وذلك في أبيات وهي :
تولوا بأنفال وهود هما معا . . .
ونور وفي المحنه بهم قد توصلا
تنزل في حجر وفي الشعرا معاً . . .
وفي القدر في الأحزاب لا أن تبدّلا
تبرجن مع تناصرون تنازعوا . . .
تكلم مع تيمموا قبلهن لا
تلقف أنى كان مع لتعارفوا . . .
وصاحبتيها فتفرّق حصلا
بعمران لا تفرقوا بالنساء أتى . . .
توفاهم تخيرون له انجلا
تلهى تلقونه تلظى تربصون . . .
زد لا تعارفوا تميز تكملا
______________
(1) القراءة للبزي عن ابن كثير وهى قراءة متواترة ومن ثم فلا وجه لهذا الاعتراض. والله أعلم.(9/96)
ثلاثين مع احدى وفي اللات خلفه . . .
تمنون مع ما بعد ظلتم تنزلا
وفي بدئه خفف ، وإن كان قبلها . . .
لدى الوصل حرف المدِّ مُدَّ وطَوِّلا
وروي عن أبي ربيعة ، عن البزي : تخفيف التاء كباقي القراء ، وهذه التاءات منها ما قبله متحرك ، نحو : {فتفرق بكم} {فإذا هي تلقف} ومنها ما قبله ساكن من حرف المد واللين نحو : {ولا تيمموا} ومنها ما قبله ساكن غير حرف مدّ ولين نحو : {فإن تولوا} {ناراً تلظى} {إذ تلقونه} {هل تربصون} قال صاحب ( الممتع ) : لا يجيز سيبويه إسكان هذه التاء في يتكلمون ونحوه ، لأنها إذا سكنت احتيج لها ألف وصل ، وألف الوصل لا تلحق الفعل المضارع ، فإذا اتصلت بما قبلها جاز ، لأنه لا يحتاج إلى همزة وصل.
إلاَّ أن مثل {إن تولوا} و{إذ تلقونه} لا يجوز عند البصريين على حال لما في ذلك من الجمع بين الساكنين ، وليس الساكن الأول حرف مدّ ولين. انتهى كلامه.
وقراءة البزي ثابتة تلقتها الأمة بالقبول ، وليس العلم محصوراً ولا مقصوراً على ما نقله وقاله البصريون ، فلا تنظر إلى قولهم : إن هذا لا يجوز.
وقرأ عبد الله : ولا تأمموا ، من : أممت ، أي : قصدت.
وقرأ ابن عباس ، والزهري ، ومسلم بن جندب : تيمموا.
وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله ولا تأمّوا ، من : أممت ، أي : قصدت ، والخبيث والطيب صفتان غالبتان لا يذكر معهما الموصوف إلاَّ قليلا ، ولذلك جاء : {والطيبون للطيبات} وجاء : {والخبيثون للخبيثات} وقال تعالى : {ويحرم عليهم الخبائث} وقال صلى الله عليه وسلم : " أعوذ بالله من الخبث والخبائث ". أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 330 ـ 331}
فائدة
قال ابن عاشور :(9/97)
الخبيث الشديد سُوءاً في صنفه فلذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر قال تعالى : {ويحرم عليهم الخبايث} [ الأعراف : 157 ] وهو الضدّ الأقصى للطيّب فلا يطلق على الرديء إلاّ على وجه المبالغة ، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ.
وجملة {منه تنفقون} حال ، والجار والمجرور معمولان للحال قدماً عليه للدلالة على الاختصاص ، أي لا تقصدوا الخبيث في حال إلاّ تنفقوا إلاّ منه ، لأنّ محل النهي أن يخرج الرجل صدقته من خصوص رديء ماله.
أما إخراجه من الجيدَ ومن الرديء فليس بمنهي لا سيما في الزكاة الواجبة لأنّه يخرج عن كل ما هو عنده من نوعه.
وفي حديث "الموطأ" في البيوع " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عاملاً على صدقات خيبر فأتاه بتَمْر جَنيب فقال له : أكُلُّ تَمْرِ خيبر هكذا قال : لا ، ولكنّي أبيع الصاعين من الجَمْع بصاع من جنيب.
فقال له : بع الجمع بالدّراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً " فدل على أنّ الصدقة تؤخذ من كل نصاب من نوعه ، ولكنّ المنهي عنه أن يخصّ الصدقة بالأصناف الرديئة.
وأما في الحيوان فيؤخذ الوسط لتعذّر التنويع غالباً إلاّ إذا أكثر عدده فلا إشكال في تقدير الظرف هنا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 56 ـ 57}
قوله تعالى : {مِنْهُ تُنفِقُونَ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {مِنْهُ تُنفِقُونَ}.(9/98)
فاعلم أن في كيفية نظم الآية وجهين الأول : أنه تم الكلام عند قوله {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} ثم ابتدأ ، فقال : {مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} فقوله {مِنْهُ تُنفِقُونَ} استفهام على سبيل الإنكار ، والمعنى : أمنه تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الاغماض والثاني : أن الكلام إنما يتم عند قوله {إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} ويكون الذي مضمراً ، والتقدير : ولا تيمموا الخبيث منه الذي تنفقونه ولستم بآخذيه إلا بالإغماض فيه ، ونظيره إضمار التي في قوله تعالى : {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا} [ البقرة : 256 ] والمعنى الوثقى التي لا انفصام لها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 56}
فائدة
قال ابن العربى :
فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ ؛ وَهِيَ مَعْرِفَةُ مَعْنَى الْخَبِيثِ ، فَإِنَّ جَمَاعَةً قَالُوا : إنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الْحَرَامُ ، وَزَلَّ فِيهِ صَاحِبُ الْعَيْنِ فَقَالَ : الْخَبِيثُ كُلُّ شَيْءٍ فَاسِدٍ ، وَأَخَذَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ الرَّجِيعِ خَبِيثًا.
وَقَالَ يَعْقُوبُ : الْخَبِيثُ : الْحَرَامُ ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلُّغَةِ بِالشَّرْعِ ، وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخَبِيثَ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ}.
الثَّانِي : مَا تُنْكِرُهُ النَّفْسُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 2 صـ 414}
فائدة أخرى
قال القرطبى :
دلّت الآية على أن المكاسب فيها طيب وخبيث.
وروى النسائي عن أبى أُمامة ابن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله تعالى فيها : {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال : هو الجُعْرُور وَلَوْن حُبَيْق ؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذا في الصدقة.
وروى الدّارَقُطْنِيّ " عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة فجاء رجل من هذا السُّحَّل بكبائس قال سفيان : يعني الشِّيص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَن جَاء بهذا" ؟! وكان لا يجىء أحد بشيء إلاَّ نُسب إلى الذي جاء به.
فنزلت : {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
قال : ونَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الجُعْرُور وَلَوْن الحُبَيق أن يؤخذا في الصدقة" " قال الزهريّ : لونين من تمر المدينة وأخرجه الترمذيّ من حديث البراء وصححه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 325 ـ 326}
قوله تعالى : {وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ}
فصل
قال الفخر :(9/99)
الإغماض في اللغة غض البصر ، وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض ، وهو الخفاء يقال : هذا الكلام غامض أي خفي الإدراك والغمض المتطامن الخفي من الأرض. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 56}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} أي لستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم من الناس إلاَّ أن تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم ، وتكرهونه ولا ترضونه.
أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم ؛ قال معناه البَرَاء بن عازِب وابن عابس والضحّاك.
وقال الحسن : معنى الآية : ولستم بآخذيه ولو وجدتموه في السوق يباع إلاَّ أن يهضم لكم من ثمنه.
ورُوي نحوه عن عليّ رضي الله عنه.
قال ابن عطية : وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة.
قال ابن العربيّ : لو كانت في الفرض لما قال : "وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ" لأن الردىء والمعِيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال ، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه ، وإنما يؤخذ مع عدم إغماض في النفل.
وقال البراء بن عازب أيضاً معناه : "وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ" لو أهدى لكم "إلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ" أي تستحي من المُهدِي فتقبل منه ما لا حاجة لك به ولا قَدْر له في نفسه.
قال ابن عطية : وهذا يشبه كون الآية في التطوّع.
وقال ابن زيد : ولستم بآخذي الحرام إلاَّ أن تُغمِضوا في مكروهه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 326}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {ولستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه} جملة حالية من ضمير تنفقون ويجوز أن يكون الكلام على ظاهره من الإخبار فتكون جملة الحال تعليلاً لنهيهم عن الإنفاق من المال الخبيث شرعاً بقياس الإنفاق منه على اكتسابه قياس مساواة أي كما تكرهون كسبه كذلك ينبغي أن تكرهوا إعطاءه.
وكأنّ كراهية كسبه كانت معلومة لديهم متقرّرة في نفوسهم ، ولذلك وقع القياس عليها.(9/100)
ويجوز أن يكون الكلام مستعملاً في النهي عن أخذ المال الخبيث ، فيكون الكلام منصرفاً إلى غرض ثانٍ وهو النهي عن أخذ المال الخبيث والمعنى لا تأخذوه ، وعلى كلا الوجهين هو مقتضٍ تحريم أخذ المال المعلومة حِرمته على من هو بيده ولا يُحلّه انتقاله إلى غيره. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 57}
فصل
قال الفخر :
في معنى الإغماض في هذه الآية وجوه الأول : أن المراد بالإغماض هاهنا المساهلة ، وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضاً ، فقوله {وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} يقول لو أهدى إليكم مثل هذه الأشياء لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض ، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم
والثاني : أن يحمل الإغماض على المتعدى كما تقول : أغمضت بصر الميت وغمضته والمعنى ولستم بآخذيه إلا إذا أغمضتم بصر البائع يعني أمرتموه بالإغماض والحط من الثمن. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 56}
قال أبو حيان :
والظاهر عموم نفي الأخذ بأي طريق أخذ الخبيث ، من أخذ حق ، أو هبة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 332}
وقال ابن عاشور :
الإغماض إطباق الجفن ويطلق مجازاً على لازم ذلك ، فيطلق تارة على الهناء والاستراحة لأنّ من لوازم الإغماض راحة النائم قال الأعشى :
عليكِ مثلُ الذي صَلِّيتِ فاغْتمضي
جَفْناً فإنّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعَا...
أراد فاهنئي.
ويطلق تارة على لازمه من عدم الرؤية فيدل على التسامح في الأمر المكروه كقول الطرماح :
لم يَفُتْنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وَللضّ
يْممِ رجالٌ يَرْضَوْن بالإغماض...
فإذا أرادوا المبالغة في التغافل عن المكروه الشديد قالوا أغمض عينه على قذى ؛ وذلك لأنّ إغماض الجفن مع وجود القذى في العين.
لقصد الراحة من تحرّك القذى ، قال عبد العزيز بن زُرَارة الكَلاَئي :
وأغْمَضْتُ الجُفُونَ على قَذَاها(9/101)
ولَمْ أسْمَعْ إلى قالٍ وقِيلِ...
والاستثناء في قوله : {إلا أن تغمضوا فيه} على الوجه الأول من جعل الكلام إخباراً ، هو تقييد للنفي.
وأما على الوجه الثاني من جعل النفي بمعنى النهي فهو من تأكيد الشيء بما يُشبه ضدّه أما لا تأخذوه إلاّ إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 57 ـ 58}
قوله تعالى {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
قال الفخر :
المعنى أنه غني عن صدقاتكم ، ومعنى حميد ، أي محمود على ما أنعم بالبيان وفيه وجه آخر ، وهو أن قوله {غَنِىٌّ} كالتهديد على إعطاء الأشياء الرديئة في الصدقات و{حَمِيدٌ} بمعنى حامد أي أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات وهو كقوله {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 56}
وقال القرطبى :
نبّه سبحانه وتعالى على صفة الغنى ، أي لا حاجة به إلى صدقاتكم ؛ فمن تقرّب وطلب مثوبةً فليفعل ذلك بما له قَدْرٌ وبَالٌ ، فإنما يقدّم لنفسه.
و "حَميدٌ" معناه محمود في كل حال. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 328}
وقال أبو حيان :
{واعلموا أن الله غني حميد} أي : غني عن صدقاتكم ، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم ، حميد أي : محمود على كل حال ، إذ هو مستحق للحمد.
وقال الحسن : يستحمد إلى خلقه ، أي : يعطيهم نعماً يستدعي بها حمدهم.
وقيل : مستحق للحمد على ما تعبدكم به. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 332}
وقال السمرقندى :
ويقال : حميد بمعنى محمود ويقال : حميد من أهل أن يحمد ويقال : حميد يقبل القليل ، ويعطي الجزيل. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 203}
وقال ابن كثير :(9/102)
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي : وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها ، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير ، كقوله : {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج : 37] وهو غني عن جميع خلقه ، وجميع خلقه فقراء إليه ، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه ، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب ، فليَعلمْ أن الله غني واسع العطاء ، كريم جواد ، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ولا ظلوم ، وهو الحميد ، أي : المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 699}
وقال أبو السعود :
{واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ} عن إنفاقكم وإنما يأمرُكم به لمنفعتكم. وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمِهم به توبيخٌ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذانٌ بأن ذلك من آثار الجهلِ بشأنه تعالى فإن إعطاءَ مثلِه إنما يكون عادةً عند اعتقادِ المعطي أن الآخذَ محتاجٌ إلى ما يعطيه بل مضطرٌ إليه (1) {حَمِيدٌ} مستحِقٌّ للحمد على نعمه العِظام وقيل : حامد بقبول الجيّد والإثابة عليه. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 261}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {واعلموا أن الله غني حميد} تذييل ، أي غني عن صدقاتكم التي لا تنفع الفقراء ، أو التي فيها استساغة الحرام.
__________________
(1) هذا الكلام فيه نظر فالخطاب مع الصحابة الكرام ـ رضى الله عنهم ـ وهم ما خالفوا نصا ولا وحيا لكن بعضهم أخرج الردىء من ماله معتقدا الجواز ، كما هى عادة النفس البشرية التى جبلت وفطرت على البخل والشح {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}(سورة الإسراء}
والله ـ عز وجل ـ لم يعنفهم فيما هو أكبر وأعظم من ذلك فعند فرار الأكثرية منهم فى غزوة أحد ما وبخهم ولا عنفهم ، بل كرمهم ورفع قدرهم وأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أب يعفو عنهم وأن يستغفر لهم وزاد من تكريمه لهم بأن أمر حبيبه ومصطفاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يشاورهم فى الأمر
فقال تعالى {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن غفور حليم}
وقال {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}. والله أعلم.(9/103)
حميد ، أي شاكر لمن تصدّق صدقة طيّبة.
وافتتحه باعلموا للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى : {واتقوا الله واعلوا أنكم ملاقوه} [ البقرة : 223 ] ، أو نُزِّل المخاطبون الذين نُهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلة من لا يعلم أن الله غني فأعطوا لوجههِ ما يقبله المحتاج بكل حال ولم يعلموا أنّه يحمد من يعطي لوجهه من طيّب الكسب.
والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه ، ولِلَّهِ الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلاّ خير ما يعطيه أحد للغَنِي عن المال.
والحميد من أمثلة المبالغة ، أي شديد الحَمد ؛ لأنه يثني على فاعلي الخيرات.
ويجوز أن يكون المراد أنّه محمود ، فيكون حَميد بمعنى مفعول ، أي فتخلَّقُوا بذلك لأنّ صفات الله تعالى كمالات ، فكونوا أغنياء القلوب عن الشحّ محمودين على صدقاتكم ، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشحّ ولا تشكرون عليها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 58}
فائدة
قال فى روح البيان
اعلم أن المتصدق كالزارع والزارع إذا كان له اعتقاد بحصول الثمرة يبالغ فى الزراعة وجودة البذر لتحققه أن جودة البذر مؤثرة فى جودة الثمرة وكثرتها فكذلك المتصدق إذا ازداد إيمانه بالله والبعث والثواب والعقاب يزيد فى الصدقة وجودتها لتحققه أن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما والعبد كما أعطى الله أحب ما عنده فإن الله يجازيه بأحب ما عنده كما قال تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ودلت الآية على جواز الكسب وأن أحسن وجوه التعيش هو التجارة والزراعة.
فعلى العاقل أن يواظب على الأذكار فى الليل والنهار ويتصدق على الفقراء والمساكين بخلوص النية واليقين فى كل حين
وجلس الإسكندر يوما مجلسا عاما فلم يسأل فيه حاجة فقال والله ما أعد هذا اليوم من ملكى قيل ولم أيها الملك ؟ قال لأنه لا توجد لذة الملك إلا بإسعاف الراغبين وإغاثة الملهوفين ومكافأة المحسنين. أ هـ
والدنيا مانعة عن الوصول فعليك بالإيثار وكمال الافتقار
أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 526} بتصرف يسير.
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
لينظرْ كلُّ واحدٍ ما الذي ينفقه لأجل نفسه ، وما الذي يخرجه بأمر ربه. والذي يخرج عليك من ديوانك : فما كان لحظِّك فنفائس ملكك ، وما كان لربك فخصائص مالك الذي لله ( فاللُّقْمَةُ لُقْمَتُه ) ، والذي لأجلك فأكثرها قيمة وأكملها نعمة.(9/104)
ثم أبصر كيف يستر عليك بل كيف يقبله منك بل أبصر كيف يعوضك عليه ، بل أبصر كيف يقلبه منك ، بل أبصر كيف يمدحك بل أبصر كيف ينسبه إليك ؛ الكلُّ منه فضلاً لكنه ينسبه إليك فعلاً ، ثم يُولِي عليك عطاءه ويسمي العطاء جزاءً ، يوسعك بتوفيقه بِرًّاً ، ثم يملأ العَالَم منك شكراً.أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 206}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ . . .}.
يحتمل المستلذات فيعمّ الحلال و( غيره ) إلا أن يريد المستلذّ بقيد كونه ( حلالا ) أو يقال بالعموم لأن الغاصب إذا زكّى مَا غَصَبَ ( يجزى ) عن ربّه ولكن ذلك بعد الوقوع ، وأما ابتداء ( فيؤمر ) بردّه إلى ربّه ، وقيل : الطيب الحلال هنا.
( وقوله ) : {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض}.
إشارة إلى الحقيقة وأن الكسب إنّما هو سبب ( لا مؤثر ) ، لأن ما أُخرج من الأرض يدخل في الكسب فهو عطف خاص على عام أو مقيد على مطلق.
قوله تعالى : {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ . . .}.
إما الحرام أو ما تكرهون على التأويلين في الطيب.
قال ابن عرفة : وعندي أن الإنسان إذا كانت عنده كسرة باردة وأخرى سخنة وهو يكره الباردة فتصدق بها يدخل في هذا.
قوله تعالى : {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
احتراس أن تتوهموا أن الصدقة بهذا يحصل بها نفع للآمر بل النفع لمخرجها فقط. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 346}(9/105)
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : { أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } : في مفعول " أَنْفِقُوا " قولان :
أحدهما : أنه المجرور بـ " مِنْ " ، و" مِنْ " للتبعيض ، أي : أنفقوا بعض ما رزقناكم.
والثاني : أنه محذوفٌ قامت صفته مقامه ، أي : شيئاً ممَّا رزقناكم ، وتقدَّم له نظائر.
و " ما " يجوز أن تكون موصولةً اسمية ، والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط ، أي : كسبتموه ، وأن تكون مصدريةً أي : من طيِّبات كسبكم ، وحينئذٍ لا بدَّ من تأويل هذا المصدر باسم المفعول ، أي : مكسوبكم ، ولهذا كان الوجه الأول أولى.
و { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا } عطفٌ على المجرور بـ " مِنْ " بإعادة الجار ، لأحد معنيين : إمَّا التأكيد ، وإمَّا للدلالة على عاملٍ آخر مقدرٍ ، أي : وأنفقوا ممَّا أخرجنا. ولا بدَّ من حذف مضافٍ ، أي : ومن طيبات ما أخرجنا. و" لكم " متعلِّقٌ بـ " أخرجنا " ، واللام للتعليل. و" مِنَ الأرض " متعلِّقٌ بـ " أخرجنا " ، و" مِنْ " لابتداء الغاية.
قوله : { مِنْهُ تُنْفِقُونَ } " منه " متعلِّقٌ بتنفقون ، وتنفقون فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل في " تَيَمَّموا " أي : لا تقصدوا الخبيث منفقين منه ، قالوا : وهي حالٌ مقدَّرة ، لأن الإنفاق منه يعق بعد القصد إليه ، قاله أبو البقاء وغيره.
والثاني : أنها حالٌ من الخبيث؛ لأن في الجملة ضميراً يعود إليه ، أي : لا تقصدوا منفقاً منه.
والثالث : أنه مستأنف منه ابتداء إخبار بذلك ، وتمَّ الكلام عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } ثم ابتدأ خبراً آخر ، فقال : تنفقون منه ، وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم ، كأن هذا عتابٌ للناس ، وتقريعٌ.
(9/106)
والتقدير : تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الإغماض ، فهو استفهامٌ على سبيل الإنكار. قال شهاب الدِّين : وهذا يردُّه المعنى.
قوله : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } هذه الجملة فيها قولان :
أحدهما : أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب ، وإليه ذهب أبو البقاء.
والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، ويظهر هذا ظهوراً قوياً عند من يرى أن الكلام قد تمَّ عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } وما بعده استئنافٌ ، كما تقدَّم.
والهاء في { بِآخِذِيهِ } تعود على " الخَبِيث " وفيها ، وفي نحوها من الضمائر المتصل باسم الفاعل؛ قولان مشهوران :
أحدهما : أنها في محلِّ جر ، وإن كان محلُّها منصوباً؛ لأنها مفعولٌ في المعنى.
والثاني : - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصبٍ ، وإنما حذف التنوين ، والنون في نحو : " ضَارِبُنْكَ " بثبوت التنوين ، وقد يستدلُّ لمذهبه بقوله : [ الطويل ]
هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ..........................
وقوله الآخر : [ الطويل ]
وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ...........................
فقد جمع بين النون النائبة عن التنوين ، وبين الضمير.
(9/107)
قوله : { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ } الأصل : إلاَّ بأن ، فحذف حرف الجرِّ مع " أنْ " فيجيء فيها القولان : أهي في محلِّ جرٍّ ، أم نصب؟ وهذه الباء تتعلَّق بقوله : { بِآخذيه }. وأجاز أبو البقاء - رحمه الله - أن تكون " أنْ " وما في حيِّزها في محلِّ نصب على الحال ، والعامل فيها " آخِذيه ". والمعنى : لَسْتُم بآخذِيه في حالٍ من الأحوال إلا في حال الإغماض ، وقد تقدَّم أنَّ سيبويه - رحمه الله - لا يجيز أن تقع " أَنْ " ، وما في حيِّزها موقع الحال. وقال الفراء : المعنى على الشرط والجزاء؛ لأنَّ معناه : إن أغمضتم أخذتم ، ولكن لمَّا وقعت " إلاَّ " على " أَنْ " ، فتحها ، ومثله ، { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } [ البقرة : 229 ] { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } [ البقرة : 237 ]. وهذا قول مردودٌ.
والجمهور على : " تُغْمِضُوا " بضمِّ التاء ، وكسر الميم مخففةً؛ من " أَغْمَض " ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه على حذف مفعوله ، تقديره : تغمضوا أبصاركم ، أو بصائركم.
والثاني : في معنى ما لا يتعدَّى ، والمعنى إلاَّ أن تغضوا ، من قولهم : " أَغْضَى عنه ".
وقرأ الزهريُّ : " تُغَمِّضُوا " بضم التاء ، وفتح الغين ، وكسر الميم مشددةً؛ ومعناها كالأولى. وروي عنه أيضاً : " تَغْمَضُوا " بفتح التاء ، وسكون الغين ، وفتح الميم؛ مضارع " غَمِضَ " بكسر الميم ، وهي لغةٌ في " أَغْمض " الرباعي ، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل وأفعل.
وروي عن اليزيديّ : " تَغْمُضُوا " بفتح التاء ، وسكون الغين ، وضمِّ الميم.
قال أبو البقاء - رحمه الله - : " وهو مِنْ : يَغْمُضُ ، كظرفُ يظرُفُ ، أي : خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه ".
وروي عن الحسن : " تُغَمَّضُوا " بضمِّ التاء ، وفتح الغين ، وفتح الميم مشددةً على ما لم يسمَّ فاعله.
(9/108)